التفکر في القرآن

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفکر في القرآن/ تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم، 1443ق = 1400ش.

مواصفات المظهر: 410ص.

فروست: التفكر في القرآن؛8.

شابك: 7-628-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية

محتويات: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع: تفاسير (سوره اعراف)

موضوع: تفاسير شيعه -- قرن 14

موضوع: Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

ترتيب الكونجرس: BP102/26

تصنيف ديوي: 297/ 18

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 8441086

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

التفکر في القرآن (سورة الحمد،البقرة ) المجلد 1

اشارة

ص: 2

التفكر في القرآن

الجزء الأول

المؤلف السيد جعفر الحسيني الشيرازي

دار العلوم

ص: 3

ص: 4

«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»

النحل: 44.

ص: 5

ص: 6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدين.

وبعد فقد كنت بدأت في مطالعة كتب التفاسير والتدبر في القرآن الكريم منذ فترة ليست بالقريبة، ثم فكرت بأن أدون بعض النقاط تذكرة لي ولأستفيد منها حين إلقاء المحاضرات، ثم تطورت الفكرة بأن أفضل بعض الشيء ليكون كتاباً حول آيات القرآن الكريم، علّه يستفيد منه البعض فأشارك في الثواب، وأكون من خدمَةِ القرآن الكريم، ولا أُسمي هذه الصفحات تفسيراً فإني أقر بعجزي عن ذلك، ولكنها بعض التأملات والتفکرات في بعض الآيات القرآنية .

وكان الشروع في التدوين في العام 1425 ه، ثم انقطعت لمدة أربع سنوات، حتى مَنّ اللَّه عليَّ بمواصلة في الكتابة، ولذا اختلف

ص: 7

قليلا أسلوب أول الكتاب مع وسطه وآخره بالإيجاز أولاً ، وبالتفصيل بعض الشيء ثانياً .

أسأل اللَّه أن يوفقني للإكمال، كما وفقني في الشروع، إنه وليّ ذلك وهو المستعان.

4 / شهر رمضان المبارك/ 1430ه

جعفر بن محمد الحسيني الشيرازي

ص: 8

سورة الحمد

ص: 9

ص: 10

سورة الحمد

الایات من 1-7

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)»«الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)»«الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)»«مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)»«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)»«اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)»«صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)»

1 - (بِسْمِ اللَّهِ) الابتداء في الكلام باللّه تعالى والاستعانة به، لأنه الخالق الرازق، وكل الأمور مرتبطة به.

(الرَّحْمَنِ) هو واسع الرحمة فتشمل رحمته الجميع في الدنيا.

(الرَّحِيمِ) هو كثير الرحمة لمن يستحقها فتختص هذه الرحمة بالمؤمنين.

فالابتداء والاستعانة به، توجب رحمته التي يتمكن بها الإنسان

من الانطلاق في الحياة والوصول إلى الهدف المنشود.

2 - (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فهو المستحق لكل أنواع الحمد حقيقة،لأنه تعالى يرجع إليه كلُّ كمال.

ص: 11

(رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فهو السيد والمربّي لجميع المخلوقات والعوالم كعالم الإنسان والحيوان والجن والملك وغيرهم، وبتربيته كملوا فاستحقوا الحمد.

3 - (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تأكيد لما سبق، وكذلك مقدمة للآية التالية، فإنه يرحم يوم الجزاء، أو تكملة للآية السابقة، فإنه يستحق الحمد لأنه يرحم.

4 - (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وحيث إنه منشأ الرحمة، فإنه يجازي الجميع في يوم الجزاء فلا يُعاقب إلّا الشقي الذي لم يستفد من النِّعم التي حباها إياه فيما يصلح شأنه، وحيث إنه منشأ الرحمة فقد يغفر الذنوب جميعاً إلّا الشرك.

5 - (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) حيث إنه رب العالمين وإليه الرجوع والجزاء فهو الذي له العبادة لا لغيره.

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأن كل الأمور إليه، ففي الأعمال نستعين به لا بغيره.

6 - (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي أرشدنا ودُلنا على الطريق الواضحة، حيث إنه مالك كل شيء، وجزاء الأعمال بيده، وهو منشأ الرحمة، فإنا نطمع في أن يُعلّمنا الطريق الصحيحة التي توصلنا إلى السعادة الأبدية.

7 - (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فإنه من رحمته جعل لنا

ص: 12

الأسوة والقدوة إذ تفضل عليهم واصطفاهم وعصمهم، ثم أمرنا باتباعهم فأرشدونا إلى الحق والصواب.

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الذين خالفوا عمداً فغضب عليهم.

(وَلَا الضَّالِّينَ) الذين ضلوا عن الطريق، وقد تكون مخالفتهم عن جهل وقصور.

-----------------------

بحوث:

الأول: الفرق بين الرحمن والرحيم، هو أن الرحمن: واسع الرحمة فتشمل رحمته المؤمن والكافر، فلذا جعلوا هذه الصفة في الدنيا، وأما الرحيم فهو صيغة مبالغة بمعنى كثير الرحمة، فتكون لمن يستحقها، فهي خاصة بالمؤمنين، لذا تكون لهم في الدنيا والآخرة، والرحمن صفة خاصة بالله تعالى فلا تطلق على غيره، وأما الرحيم فتطلق على غيره كقوله تعالى في وصف الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(1)

الثاني: الفرق بين الحمد والشكر والمدح، هو أن الحمد ضد الذم وهو الثناء على الجميل الاختياري، ويكون بالكلام فقط، وحتى في غير النَّعمة، فلذا يحمد الله تعالى على المصيبة أيضاً.

وأما الشكر فهو ضد الكفران، ويكون في النّعمة خاصة، سواء كان

بالكلام أم بالقلب.

ص: 13


1- سورة التوبة، الآية: 128.

وأما المدح فهو ضد الهجاء، ويكون بذكر كمالات الممدوح ، ويشمل حتى ما لا يكون بالاختيار، كما نقول مدحت اللؤلؤ والفرس، بذكر كمالاتها، وإنما قلنا إن الحمد بالكلام ولم نقل باللسان حتى يكون حمد الله لنفسه، على نحو الحقيقة لا المجاز .

الثالث: أنه لا يوجد تكرار في القرآن، بل قد يكون تشابه ظاهري في بعض الكلمات والآيات، ولكن كلُّ في موقعه، بحيث لو زحزح عن موقعه لاختلَّ نظام الآيات، كأبواب غرف الدار فلكل غرفة باب تشابه سائر الأبواب وليس أحدها تكرار للآخر، فقوله الرحمن الرحيم في الآية الأولى وفي الآية الثالثة، لغرضين مختلفين، فلعلّ الأولى لبيان عِلّة الابتداء باسم الله، والثانية لبيان عِلّة حمده تعالى أو كمقدمة لذكر أنه مالك یوم الجزاء، وسيأتي تفصيل بحث عدم التكرار لاحقاً في سورة البقرة في الآية 92، إن شاء الله .

الرابع: العالم هو مجموعة من المخلوقات التي تشترك في صفة أو زمان أو مكان، فلذا يطلق على عالم الإنسان، وكذلك على ذوي العقول، والجمادات والنباتات والحيوانات وغيرها.

الخامس: ذكر ملكيته تعالى ليوم الجزاء، مع أنه مالك سائر الأيام أيضاً، لأن ظهور تلك الملكية هو في يوم الجزاء، وأما في الدنيا فتوجد هنالك ملكيات اعتبارية، وقد ينكر الكفار ملكيته تعالى.

السادس: تُسمى سورة الحمد بأُم الكتاب أي أصله، ولعله لأن هذه السورة تجمع بين توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال وتوحيد العبادة، وبين النبوة والإمامة، وبين المعاد وبين الولاية والبراءة من أعداء الله، وبين أهم وظائف العباد.

ص: 14

فقوله تعالى: (رَبِّ الْعَلَمينَ) إشارة إلى توحيد الذات فلا رب غيره، و(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِکِ)إشارة إلى توحيد الصفات، و(إيَّاكَ نَعْبُدُ) إشارة إلى توحيد العبادة، وكذلك بيان وظيفة الإنسان في عبادته تعالى،(وَ إِیَّاکَ نَسْتَعِینُ) إشارة إلى توحيد الأفعال فنستعين به في كل أعمالنا ولا نستعين بغيره من الأصنام والأرباب المتفرقين، (اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) إشارة إلى القدوات من النبيين وأوصيائهم، كما قال تعالى: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (1) و(يَوْمِ أَلْدِّينِ) إشارة إلى المعاد، (غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ) ... إشارة إلى الطرق المنحرفة عن الجادة الصحيحة ولزوم التبري منهم - بالملازمة -.

السابع: الطريق إلى الله تعالى واحدة، قال تعالى: (اَلصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)

وقال تعالى: (هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)(2) ولذا قال سبحانه: («صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وبين الذين أنعم عليهم بقوله تعالی: ( أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) ... الخ ، فالأنبياء عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كلهم في طريق واحدة كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)(3) وإنما الشرائع متعددة، والاختلاف في بعض الأحكام الفرعية كما قال تعالى: (لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)(4)، فكما أن نسخ بعض أحكام الشريعة الإسلامية في زمن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لم يوجب تعدد الدين الإسلامي، كذلك نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة لا يوجب تعدده ، تأمل.

ص: 15


1- (1) سورة النساء، الآية: 69.
2- (2) سورة الانعام الآية 153.
3- (3) سورة آل عمران، الآية: 19.
4- (4) سورة آل عمران، الآية: 50.

الثامن: دعاء الذين هم على الصراط المستقيم ب(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، لاستمرار الهداية، فإن الإنسان مُعرَّض للانحراف في كل لحظة، وكذلك لزيادة الهداية كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)(1) فإن بصيرة المؤمنين وعملهم يختلفان ولذا اختلفت درجاتهم .

التاسع: من أظهر مصاديق الصراط المستقيم أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ولذا ورد في بعض الروايات تفسير الصراط المستقيم بأمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وبالإمام المفترض الطاعة (2)

ص: 16


1- (1) سورة محمد، الآية: 17.
2- (2) راجع تفسير البرهان، ج1، ص247 فما بعد.

سورة البقرة

ص: 17

ص: 18

سورة البقرة

الآیات من 1-5

(الم (1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ)

ا -(الم) تُقرأ: ألف لام ميم.

2 - و(ذَلِكَ الْكِتَابُ)، إشارة للبعيد للتعظيم، أو لأن الكتاب له سمّو لا تصل إليه العقول كثيراً، (لَا رَيْبَ فِيهِ) لا شك في أنه من الله تعالى، لعجز البشر عن الإتيان بمثله لفظاً ومعنىَّ.

ثم قسّم الله تعالى الناس في مقابل الدعوة إلى أقسام ثلاثة :مؤمن وكافر ومنافق .

القسم الأول من الناس

(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)لأنهم هم الذين ينتفعون به، أما غيرهم فلا

19

ص: 19

يزيدهم إلّا خساراً، وذلك لأن المتقين يحفظون أنفسهم من المغريات ويتحمّلون صعوبات الحق فينتفعون بهذا الكتاب ويهتدون به.

3 - 4 - ولهؤلاء المؤمنين صفات تميزهم عن غيرهم بعضها اعتقاد وبعضها عمل، وهي :

أ - (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يصدقون بما غاب عن الحواس كاللّه تعالى، فهم لا يرون ظاهر الحياة الدنيا فقط، بل يعلمون بأن وراء الظاهر حقائق معقولة، فيؤمنون بها.

ب - (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) شكراً للمنعم الذي خلقهم.

ج - (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) فلم يكلفوا بما لا طاقة لهم به، بل

أمروا بالإنفاق من بعض ما رزقهم الله .

د - (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) فيؤمنون بأنك رسول من قبل

الله تعالى، وأن القرآن منزل إليك من الله .

ه - (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب السماوية، فلا يفرقون بين أحد من رسله.

و - (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)حيث جزاء الأعمال.

وجمعت في هاتين الآيتين أركان الإيمان، وهي الإيمان باللّه والنبوة والمعاد، وأهم الأعمال وهي الصلاة والإنفاق .

ه - (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) هداية جاءت من ربهم، لأنهم كانوا محلاً قابلاً لتلك الهداية، بفكرهم وعملهم، (وَأُوْلَيِكَ هُمُ

ص: 20

اَلْمُفلِحون)لأن من يمشي في الطريق الصحيحة يفلح في الدنيا قبل الآخرة، والفلاح النجاح والفوز.

---------------------

بحوث:

الأول: الحروف المقطعة في القرآن، لعل المقصود بها التحدي، فالقرآن متشكّل من هذه الحروف التي ينطق بها الجميع ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثله، ولذا حينما تذكر الحروف المقطعة يذكر بعدها القرآن مباشرة - غالباً ، ويؤيده ما روي عن الإمام الحسن العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ «فقال الله تعالى (الم (1) ذَلِكَ اَلْكِتَبُ) أي يا محمد، هذا الكتاب الذي أنزلته إليك، هو الحروف المقطعة التي منها ألف ولام وميم وهو بلغتكم وحروف هجائكم(1)

وقيل إن الحروف المقطعة رمز بين اللّه ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وقيل غير ذلك .

الثاني: قوله تعالى: (لَا رَيْبَ فِيهِ) ليس إخباراً، لأن كثير من الناس ارتابوا فيه، كما قال تعالى: (وَإِن كُنْتُمْ فِي رَیبْ ِممَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدُنَا)(2)، بل المنفي كونه في مظنة الريب، لأنه من وضوح الدلالة بحيث لا ينبغي لمرتاب الوقوع فيه.

الثالث: كون القرآن هدى للمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون به، وكذلك لزيادة الهدى لهم، وإلا فإن القرآن أنزل للجميع، لكن غير المتقين بأعمالهم أصبحوا محلاً غير قابل للهداية، وبذلك تُفسَّر الآيات التي تدل بأن الهداية

ص: 21


1- (1) تفسير البرهان، ج1، ص209، عن التفسير المنسوب للإمام العسكري
2- (2) سورة البقرة، الآية: 23.

والإضلال من الله تعالى، كقوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ)(1) وقوله: (مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ)(2) فإن الإنسان بعمله يجعل نفسه محلاً قابلاً للهداية أو للضلال كما قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(3) ففسقه سبب عدم نزول هداية الله عليه.

الرابع: الإيمان هو التصديق أي المعرفة مع بناء الإنسان على الإذعان والاعتراف عملاً، والإيمان له مراتب ولذا قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) فأول مراتبه التشهد بالشهادتين ويقابله الكافر، ومن مراتبه الاعتقاد ويقابله المنافق، ومنها ما اشتمل على العمل ويقابله الفاسق، قال الله تعالى:

(وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)(4) وقال تعالى : (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) و قال تعالى: (أَفَمَن كَانَ مُؤمِنا کَمَن كَانَ فَاسِقَا)(5)فالإيمان الكامل اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان.

وسيأتي تفصيل هذا الأمر لاحقاً - إن شاء اللّه تعالی ..

الخامس: قوله تعالى: (بالْغَيْبِ) إما على أنه مفعول للإيمان أي يؤمنون بما غاب عن حواسهم، أو بمعنى إيمانهم في حال غيابهم أي أنهم ليسوا كالمنافقين، بل حتى في حال غيابهم الإيمان مستقراً فيهم كما في قوله تعالى:(لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ).(6)

ص: 22


1- سورة القصص، الآية: 56.
2- سورة الفرقان، الآية: 43.
3- سورة المنافقون، الآية: 6.
4- سورة النساء، الآية: 94.
5- سورة السجدة، الآية: 18.
6- سورة يوسف، الآية: 02.

السادس: أقام الصلاة، أي استمر في الصلاة وأدامها، فتفيد المواظبة على الصلاة بشكل مستمر، عكس المنافق الذي يصلي في الملا ويترك الصلاة في الخلاء، أو الإقامة في مقابل الاعوجاج كما في «أقام العود» أي أزال اعوجاجها وجعلها مستقيمة، فيكون المعنى حفظ الصلاة من وقوع الاعوجاج والزيغ فيها، بل أتي بها بشروطها وأجزائها وترك قواطعها وموانعها.

السابع: الرزق هو كل شيء يتمكن الإنسان من الاستفادة منه بلا منع، والمراد هنا هو كل ما أعطاهم الله تعالى سواء كان مادياً كالطعام والمال أم معنوياً كالعلم، كما أشير إليه في بعض الروايات، وفي قوله تعالى:(مِمَّا رَزَقْنَهُمْ) إشارة إلى أن الرزق كلّه من الله تعالى وليس من البشر - أولاً وبالذات - كما قال تعالى: («وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا )(1) فالله تعالی تفضل على العباد بأن رزقهم، ثم أمرهم بإنفاق بعضه - لا كله - امتحاناً لهم، وليعوضهم عنها برزق أكبر في الدنيا قبل الآخرة، ولذا سمي الإنفاق زكاة لأنها في الأصل النمو.

الثامن: اليقين هو العلم الذي تسكن إليه النفس، وكان مطابقاً للواقع، فالقطع الذي يخالف الواقع لا يسمى يقيناً بل هو جهل مرکب، والذي يشوبه الشك أو عدم الاطمئنان لا يكون يقيناً، وعن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ (الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قُسّم في الناس شيء أقل من اليقين).(2)

التاسع: ذكر الصلاة والزكاة بالخصوص مع كثرة العبادات العملية، لأنهما أساس العبادات البدنية والمالية، ولذا كانت الصلاة عمود الدين والناهية عن الفحشاء والمنكر، وكانت الزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق.

ص: 23


1- سورة هود، الآية: 6.
2- البحار، ج70، ص139.

القسم الثاني من الناس وإن الذين كفروا سواء عليهن ، أندرتهم أم كم ذرهم لا يؤيئون ) تم الله على قلوبهم وعلى اميه و أبصريم غ ه ولهم عذاب

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

6-(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)كفراً بعناد (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) أي لا ينتفعون بإنذارك، لأن المعاند لا علاج له فهو على باطله، سواء تمّ تحذيره أم لا.

7- (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) لأنه لا علاج له فيطبع اللّه على قلبه وسمعه بعلامة الانحراف، (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَوَةٌ) أي غطاء، فبعناده أغلق الباب على نفسه فلا يسمع ولا يبصر، وهذا الغطاء على السمع والبصر يمنعه من أن يعي الحق لأن القلب طريقه السمع والبصر عادة، (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) نتيجة لعنادهم وكفرهم.

---------------------

بحوث:

الأول: الكفر من الأمور التي يكون فيها الشدة والضعف، فللكفر مراتب، وأشد مراتبه إنكار الربوبية عن جحود قال تعالى: (وَجَحَدُواْ بِهَا

ص: 24

وَاسْتَیْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)(1)، ويليه الإنكار عن جهل أو استحسان قال تعالى: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(2)، ثم الكفر بالنِّعم قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(3)ثم ترك ما أمر الله تعالى ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).(4)

وهنالك قسم آخر يختلف عما مضى ويكون من الصفات الحسنة ، وهو البراءة من أعداء الله تعالى قال سبحانه: (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّغُوتِ) ، وقد يطلق على تبري بعض الكفار عن بعض قال تعالى: (ثُمَّ يَوْمَ اْلقِيَمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضِ)، وقد أشير إلى ذلك في بعض الروايات.(5)

الثاني: فائدة إنذار المعاند أحد أمرين:

(1) اختلاط المعاند بغيره فالتبليغ يكون عاماً.

(2) لإتمام الحجة قال تعالى :(أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)(6)

وقيل في معنى الإنذار : إنه التحذير مما يخاف منه من اتساع الزمان

للاحتراز منه، فإن لم يتسع الزمان فهو إشعار.

الثالث: ختم الله على قلب المعاند، قد يكون بمعناه الحقيقي بطريقة غيبية، كما ورد في بعض الأخبار من جعل علامة على قلبه يعرفها الملائكة

ص: 25


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة الجاثية، الآية: 24.
3- سورة إبراهيم، الآية: 7.
4- سورة البقرة، الآية: 85.
5- البرهان، ج1، ص297 عن الكافي.
6- سورة الأعراف، الآية: 172.

.

والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأميرالمؤمنین عَلَيْهِ السَّلاَمُ (1) وقد يكون بمعناه الحقيقي بطريقة طبيعية، بمعنى أن الله جعل من طبيعة الأعمال التي يرتكبها المعاند أنها تؤدي إلى إغلاق قلبه على الهداية كما قال تعالى:( بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ )(2) و قال:(كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(3) وقد يكون بمعناه المجازي تشبيهاً للمعاند بالكيس الذي ختم عليه فلا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء.

الرابع: تخصيص السمع والأبصار بالذكر، لأنهما عادة يكونان الطريق إلى الفهم، وإلا فإن سائر الحواس طريق إليه قليلا، وقوله تعالى: (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) قد يكون عطفاً على (قُلُوبِهِم) أي ختم على سمعهم، كما في قوله تعالى:( وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً )(4) وقد تكون الواو للاستئناف أي على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، والغشاوة الغطاء قال تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ... )(5)

والختم على القلوب والسمع، والغشاوة على الأبصار، من فعل الله ، نتيجة لعناد الكافر - بالمعنى الذي مر - ولذا قال تعالى :(وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ) وليس كما قيل من أن الختم من الله والغشاوة من الكافر.

ثم إن الختم والغشاوة في الدنيا ، تمنعهم من السعادة الدنيوية كالصُّم العمي الذين لا يتمتعون بكثير من النِّعم الدنيوية، وتوجب الشقاء في الآخرة، ولذا أتم الله تعالى الآية بقوله : (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

ص: 26


1- البرهان ج 1، ص 272.
2- سورة النساء، الآية: 100.
3- سورة غافر، الآية: 30.
4- سورة الأنفال، الآية: 22.
5- سورة الأنفال، الآية: 22.

القسم الثالث من الناس

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

8-(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ)هم منافقون، ومعنى النفاق أن (يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) والإيمان باليوم الآخر من لوازم تصدیق الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، فالمنافق باللفظ يؤمن بأركان الإيمان الثلاثة،(وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) حقيقة.

9- وغرضهم من إظهار الإيمان (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) حتى يكسبوا المنافع الدنيوية للإيمان ويدفعوا مضار الكفر، (وَ) لكن

ص: 27

في الحقيقة (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأن عملهم هذا يوجب خسران الدنيا والآخرة (وَمَا يَشْعُرُونَ) إذ لو أحسوا بأنهم يخدعون أنفسهم لم يقدموا على النفاق. 10 - (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)لأن النفاق مرض نفسي، (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضَّا) لأن استمرار نزول الآيات يزيد عنادهم وجحودهم وإنكارهم لتلك الآيات،(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) لأن ظاهرهم خلاف باطنهم فهو نوع من الكذب.

11۔(وَ)من صفات المنافقين أنهم (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بإثارة الفتن وإفشاء سر المؤمنين (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) إذ يتوهمون أن الإسلام هو إفساد، فهم بعملهم ووقوفهم أمام انتشاره يريدون دفع الفساد.

12 - (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) لأن عملهم تخریب، وهو أكثر ضررة من عمل الكفار (وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ).

13 - (وَ)وه من صفاتهم أنه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) إيماناً حقيقياً (كَمَا آمَنَ النَّاسُ) والقائل من لا يخافونهم و(قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) والسفه: قلة العقل، فإنهم يتخيلون أن المؤمنين قليلو العقل، (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) لأنهم على طريق الباطل وهو أشد أنواع قلة العقل (وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) .

14 - (وَ) من صفاتهم أنهم ذوو وجهين ولسانين فإنهم (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) أي أمثالهم من

ص: 28

المنافقين أو الكفار (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي موافقوكم على دينكم، (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) بالمؤمنين.

15 - ولكن نتيجة عملهم ستعود عليهم إذ (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي يعمل بهم عمل المستهزيء، فيجري عليهم أحكام المسلمين في الدنيا، ويعاقبهم أشد من عقاب الكفار (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) أي يتركهم وشأنهم، فلا يشرق على قلوبهم نور الإيمان، حتى يبقوا على هذه الحال (يَعْمَهُونَ) أي يتحيرون، والعمه: عمى القلب والبصيرة.

16 - (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) فأخذوا الضلال وأعطوا الهدى، (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) فلم يستفيدوا شيئا (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) بل خسروا حتى رأس المال.

-------------------

بحوث:

الأول: إن الله تعالى في هذه الآيات المباركات:

أولاً: يبيّن معنى النفاق، وأنه مرض، وأنه يتجذّر كلما مضى عليه زمان.

وثانياً : بيَّن صفات المنافقين، وأنهم مصابون بازدواجية في الشخصية، وأنهم مفسدون، وأنهم مصابون بعقدة العظمة فيتوهمون أنهم مصلحون وغيرهم سفهاء، وأنهم متملقون، وأنهم متلوّنون، فمع المؤمنين بشكل ومع أمثالهم بشكل آخر.

ص: 29

وثالثاً : يبيّن نتيجة عملهم بأن لهم عذاب أليماً، وأن الله يستهزيء بهم، وأنه يزيدهم في تحيرهم، وأنهم يخسرون كل شيء.

الثاني: المنافق هو الذي لم يعقد قلبه على الإيمان، أي لم يذعن به، وبعبارة أخرى قلبه يرفض الإيمان، حتى وإن كان يعلم علم اليقين صحته، فالذي يعلم بصدق الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ويتلفظ الشهادتين ويأتي بالعبادات إذا لم يعقد قلبه على الإيمان فهو منافق، فإن كثيرا من المنافقين كانوا يعلمون صدق الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)(1) لكنهم حسداً أو

المصلحة دنيوية أخرى لم يعقدوا قلبهم على لتصديق به.

والمنافق أسوأ من الكافر، لأنه خلط بالكفر تدلیساً وخداعاً واستهزاءً، ولذا قال تعالى: (هُمُ اَلْعَدُوُّ)(2) وقال سبحانه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)(3)

الثالث: (ُيَخدِعُونَ اللَّهَ) تعالى، أي يفعلون فعل المخادع، فيظهرون

ما لا يريدونه ويريدون ما لا يظهرونه.

ومحاولتهم لأن يخدعوا الله : إما لضعف عقيدتهم بالله وصفاته فيتوهمون أنه لا يعلم بما في النفوس، وإما لزعمهم أن الله لا يهمه ما في القلوب بل ينظر إلى ظاهر العمل، فيكون معنى يخادعون يريدون حصول النتيجة وهي الثواب وعدم العقاب كما يحصل المخادع على النتيجة، وإما المراد أنهم يريدون خداع الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمؤمنين فقط، ولكن اللّه تعالی ذکر نفسه تعظيماً لرسوله وللمؤمنين وتقوية لجانبهم.

ص: 30


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة المنافقون، الآية: 4.
3- سورة النساء، الآية:: 145.

الرابع: عاقبة الخداع تعود عليهم فيلحقهم الضرر، فهم يجري عليهم أحكام المؤمنين ويتحملون صعوبات الإيمان، ولا يشتركون مع المؤمنين في ثوابه، وفي كثير من الأحيان ينكشفون فيبتعد عنهم المؤمنون ولا يشركونهم في أسرارهم ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) .

الخامس عدم شعور المنافقين هو بسبب فقدانهم المقاييس الصحيحة، والشعور هو الإحساس بالشيء الدقيق واللطيف، وهو يحتاج إلى نظر واستدلال وتأمل، لكن من فقد المقياس لا يمكنه الإحساس فيتوهم أنه خادع في حين أنه منخدع فلذا قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).

السادس: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضُ) المرض هو الخروج عن حد الاعتدال،

وهؤلاء المنافقون قلوبهم فيها النفاق والشك، فهي خارجة عن فهي مريضة بمرض نفسي، كما أن الاعضاء قد تصاب بالمرض الجسمي . وهذا المرض النفسي - أي النفاق - قابل للعلاج، شأنه شأن أي مرض آخر، كما روي «ما خلق الله داءً إلا وجعل الله له دواءً»(1) ، ولكن ممارسته تؤصله وتجذره في النفس، كما أن المريض إذا لم يعالج مرضه وباشر ما يضّر الجسم، ازداد المرض وتجذر بحيث يصل إلى حدّ يمتنع

علاجه.

السابع: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) لعله بمعنى أنه كلّما نزل وحي جديد ازدادوا كفراً في قلوبهم بإنكار هذا الوحي، لأن قلوبهم ملتوية، فحتى لا يتسلط النور الرباني عليها زادوا في التواء قلوبهم، ولأن هذه الزيادة في

ص: 31


1- البحار: ج 59 ، ص 66 ، ج 10.

المرض لما كانت حين نزول الوحي نسبت إلى الله تعالى، أو كلما ازداد تقدم الإسلام ازدادوا حسداً وبغضاً .

الثامن: ﴿بِمَا كَانوا يَكْذِبُونَ) كذب المنافق بمعنى مخالفة ظاهره لباطنه، أما الكلام الذي ينطق به من الشهادتين ونحوهما فإنه صدق يطابق الواقع ولذا قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنٰفِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰفِقِينَ لَكَذِبُونَ)(1) فجاء بجملة معترضة وهي (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ، حتى لا تنصرف شهادة الله بكذبهم إلى ما قالوه وهو (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) ، بل لبيان أن ما قالوه وإن كان حقاً لكنه

خلاف ما أضمروه في قلوبهم، فهم كاذبون في إخبارهم عما في قلوبهم.

التاسع: إن المنافق ينكشف كثيراً ، لأن ما في قلب الإنسان يظهر على جوارحه غالباً كما قال تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (2) وروي أنه ما أضمر أحد شيئاً إلا وظهر في صفحات وجهه وفلتات لسانه» (3)، ولذا يضطر إلى تغطية نفاقه بأكاذيب أخرى، كما في قولهم ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) فإنهم أنكروا أنهم مفسدون وقالوا - مثلاً - إنا لا نعمل بالمعاصي ولا نمالئ الكفار، وهذا الكلام وأشباهه زيادة في نفاقهم، ويمكن أن يكون مرادهم أن ما يعملونه من إثارة الفتن إنما هو إصلاح، لزعمهم أن الإسلام فساد يجب القضاء عليه عبر الإثارة عليه لأن القضاء على الفساد إصلاح !!

العاشر: تعبير الله تعالى عنهم ب (إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ) وهذه الجملة مما

ص: 32


1- سورة المنافقون، الآية: 1.
2- سورة محمد، الآية: 30.
3- نهج البلاغة : ص 603 ، رقم الحكمة 26.

تفيد الحصر، لأن فسادهم أكثر من فساد الكفار، ولذا قال تعالى (هُمُ الْعَدُو) (1) على الحصر أيضاً، لأن العدو الباطن المتستر بلباس الصديق يمكنه الإيقاع والضرر أكثر مما يمكن للعدو الظاهر، والفساد في الكون إنما يكون من طرف الإنسان ولذا قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ ) (2) وذلك لأن الكون مبني على الاستقامة، وكل شيء سائر على خط واحد نحو هدفه الواحد، فالفساد في الكون لا يحدث من أي عنصر من عناصره، لأن الكون معصوم بكل جزئياته قال تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَالْأَرْضِ انْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَابِعِينَ) (3) فالفساد إنما يأتي من قبل الإنسان، وإذا حدث اصطدام فلا يمكن إزالته إلا عبر إنسان آخر منسجم مع الكون(4).

الحادي عشر: قولهم (كَمَا ءَامَنَ السُّفَهَاءُ) وتعبيرهم السفهاء عن المؤمنين، إما لأجل أن أكثر المؤمنين كانوا من الفقراء، والمنافقون كانوا عادة من الملأ من القوم، وإما لأجل أن يدفعوا عن أنفسهم الاعتراض بهذه ،الحجة، بأن المؤمنين هم سفهاء ونحن أصحاب عقول ولذا خالفناهم !!.

الثاني عشر: قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) أي قليلو العقل، وسبب ذلك أنهم يفعون فعلاً لا يشبه فعل المؤمنين ولا فعل الكفار،

فيضيعوا على أنفسهم الطريقتين، فيضيعوا من حيث ظنوا أنهم یحفظون.

الثالث عشر: قوله تعالى: (لَا يَشْعُرُونَ) ،تارة، وقوله: ﴿وَلَا يَعْلَمُونَ

ص: 33


1- سورة المنافقون، الآية: 4.
2- سورة الروم، الآية: 41 .
3- سورة فصلت الآية: 11
4- خواطري عن القرآن ج 1، ص 105.

تارة أخرى لفرق بين الموردين، ففي الأول حيث إن تشخيص أن المؤمنين على حق وأن المنافقين مفسدون يحتاج إلى اعمال نظر ودقة وهم لم يحسوا بذلك ولم يشعروا به، لذا قال تعالى: ﴿وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ)، وفي الثاني حيث إن السفه قلة العقل، وهو سبب لعدم العلم كثيراً فلذا قال :تعالى: ﴿وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ) لأن السفيه جاهل لا يعلم.

الرابع عشر: قولهم لسائر المنافقين أو للكفار (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ ﴾ دليل آخر على نفاقهم، لأنه لو كان الأمر بالعكس، بأن أظهروا الكفر تقية لم يزيدوا على إظهاره لأن من يستعمل التقية يكتفي بها بمقدار اضطراره كما قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالْإِيمَنِ ﴾ (1)

والفرق بين التقية والنفاق، أن النفاق هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر والتقية هي إظهار الكفر وإبطان الإيمان كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنُ مِنْ عَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَنَهُ)(2) .

انتاج ال

الخامس عشر: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِم)، بمعنى أنه يفعل بهم فعل المستهزىء، فيجري عليهم في الدنيا احكام المسلمين، ويعاقبهم في الآخرة عقاب الكافرين بل أشد كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلِ مِن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (3) وقال سبحانه: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)(4) وبعبارة أخرى يجازيهم على استهزائهم.

السادس عشر: قوله تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَنِهِمْ) امدادهم بمعنى منعه

ص: 34


1- سورة النحل، الآية: 106.
2- سورة غافر، الآية: 28
3- سورة الرعد، الآية: 23
4- سورة الجاثية، الآية: 33.

الطافه عنهم، تلك الألطاف التي توجب الهداية، فإنهم بسبب انحرافهم وتوغلهم في الكفر حرموا أنفسهم من رحمة الله تعالى - كما مرّ نظير ذلك في قوله تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)...

السابع عشر: قوله تعالى: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) الاشتراء هو الاستبدال، وإنما قال ذلك مع أنهم لم يكونوا مؤمنين أصلاً حتى يعطوا الإيمان ويأخذوا الضلال، لأن الإيمان من الفطرة، فهم أعطوا الإيمان الذي كان في فطرتهم وأخذوا بدله كفراً، أو لأنهم اختاروا الكفر فكان كالاستبدال، لأن الهدى كان في متناولهم فإذا تركوه كانوا كأنهم أبدلوه، أو لأن بعضهم كانوا قبل البعثة يؤمنون بالرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ويبشرون به وبعد البعثة كفروا كما قال تعالى: ﴿وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُوا بِهِ )(1)

الثامن عشر: قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَت تِجٰرَتُهُمْ) لأنهم أعطوا رأس مالهم وهو عمرهم وقدراتهم، فلم يجلبوا الربح وهو الثواب الدنيوي والأخروي فحسب، بل خسروا رأس المال أيضاً، ولذا أكمل سبحانه الآية بقوله: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) لأنه كثيراً من الأحيان التجارة لا تكون رابحة مع بقاء رأس المال بحيث يرجى ربحه في تجارة أخرى، لكن هؤلاء لم يربحوا وخسروا رأس المال وأصابهم عذاب الله تعالى.

ص: 35


1- سورة البقرة، الآية: 89

الآيات 17-20

(مَثَلُهُمْ كَمَن كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمٰتِ لَا يُبْصِرُونَ«17» صُمٌ بُكُمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ «18» أَوْ كَصَيْبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَبْعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطُ بِالكَفِرِينَ«19» يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَرِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ).

17 - لتوضيح حال المنافقين ذكر الله تعالى مثلين :

المثل الأول: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) أي اشعل ناراً، وكان ذلك في وقت مظلم، ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ) النار (مَا حَوْلَهُ) أي أطراف هذا المستوقد (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ أي أطفأ تلك النار، بإرسال ريح أو مطر أو بانتهاء الوقود (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَتِ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ ، فهؤلاء المنافقون بإسلامهم أناروا الدرب لأنفسهم، ولكن حيث إنه إسلام ظاهري فاستفادتهم كانت لفترة قليلة، وبعدها كان حالهم حال سائر

الكفار.

18 - هؤلاء المنافقون لعدم انتفاعهم بوسائل الفهم يكونون كالأخرس الذي لا يسمع ولا يرى(صُمٌّ) جمع أصم وهو الأطرش

ص: 36

بالولادة (بُكْمٌ)جمع أبكم وهو الأخرس بالولادة (عُمْىٌ) جمع أعمى، فكما أن هؤلاء لا يتعرفون على كثير من الحقائق المادية لفقدهم وسائلها (فَهُمْ) أي المنافقون كذلك، لفقدهم وسائل الهداية، فإنهم لا ينتفعون بما يسمعون ويرون ولا ينطقون بالحق و(لَا يُرْجَعُونَ) عن غيّهم، لإغلاقهم أبواب المعرفة على أنفسهم بإغلاقهم السمع والبصر والنطق .

19 - المثل الثاني: (أَوْ كَصَيِّب) أي مطر (مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَتٌ) ظلمة السحاب وظلمة المطر وظلمة تراكم السحب، فإن كل

واحد منها يحول بين الأرض ونور القمر أو النجوم، ﴿وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) يخافون منهما، فهؤلاء الذين ابتلوا بهذا المطر (يَجْعَلُونَ أَصَبْعَهُمْ فِي

ءَاذَانِهِم) لخوفهم (مِنَ الصَّوَاعِقِ) التي تقرع الأسماع ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ) لأن الصوت الشديد يوجب انخلاع القلب، (وَ) لكن جعل الأصابع في الآذان لا يفيدهم لأن (وَاللهُ مُحِيطُ) بعلمه وقدرته (بِالْكَفِرِينَ) .

20 - (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَرَهُمْ) أي يعميهم (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم ﴾ الطريق بنوره (مَشَوْا فِيهِ) أي في البرق والمراد مشوا مستفيدين من نور البرق، (وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) بأن توقف البرق (قَامُوا) أي وقفوا، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ بصوت الرعد من الصاعقة (وَأَبْصَرَهُمْ) بالبرق، فإن الصوت القوي والنور القوي قد يذهبان بالسمع والبصر، (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يمنع قدرته الوسائل الظاهرية كوضع الأصبع في الأذن أو تغميض العين.

ص: 37

فالإسلام كالمطر الذي فيه النفع وفيه بعض الصعوبات، وهؤلاء لم يستفيدوا منه إلا قليلاً، وهم في خوف من الأخطار والأضرار .

بحوث

الأول: سبب ذكر المَثَل هو تسهيل الفهم، وذلك لأن الأمثال في القرآن لتشبيه المعقول بالمحسوس، وذلك مما يسهل الفهم، لشدة أنس الناس بالمحسوسات، قال تعالى: ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ

يَتَذَكَّرُونَ )(1) وقال سبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَرُونَ)(2) فيكون التمثيل زيادةً في الكشف، كما في بيان العلماء الأشباه والنظائر في الفقه تقريباً للمسألة.

الثاني: المثل الأول (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) لعله تكملة للآية السابقة، فإن المنافقين اشتروا الضلالة بالهدى فهم كالمستوقد ناراً الذي يبدل بالنور ظلمه.

وحاصل المثل أنه شبهت حيرة المنافقين بما يكابد من طفئت ناره في ليلة مظلمة، فإن النفاق لا يؤثر لمدة طويلة بل لمدة قليلة، وبعدها يفتضح المنافقون في الدنيا وينالهم العقاب في الآخرة، وبعبارة أخرى : إن المنافقين بإسلامهم ظاهراً يعاملون معاملة المؤمنين في الدنيا، فيصاهرون المسلمين، ويوارثوهم، ويأمنون على أولادهم وأموالهم، لكنهم مفضوحون عند الناس، وحينما يموتون يعاملونه معاملة الكفار، كما أن من يُضيء ناراً يستضيء بها ويرى حوله، فلما تطفأ يعود إلى الخوف.

ص: 38


1- سورة إبراهيم، الآية: 25
2- سورة الحشر، الآية: 21

﴿

الثالث: (اسْتَوْقَدَ نَارًا) أي طلب الضياء بإشعال النار، فللوصول إلى النور أشعلوا ناراً، ومثلهم عكس مَثَل المؤمنين الذين يحصلون على النور من دون نار ومضارها ، وهو تشبيه بليغ، ولعل المراد أنهم بإظهار الاسلام نفاقاً جلبوا لأنفسهم ناراً تحرقهم من دون نور، لأن الله تعالى أذهب النور وأبقى النار، ولذا قال تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) ولم يقل بنارهم، وقيل: إن نار جهنم هي نار من دون نور في ظلمة، وهذا النور لعله حدث حينما نطقوا بالشهادتين لكن ذهب بنفاقهم ، وقيل هو نور الفطرة زال بالنفاق.

الرابع : فإنهم هُم لأنهم لم يحسنوا الإصغاء إلى أدلة الله تعالى قال تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُم مُعْرِضُونَ (1) ، وهم بكم لا يقولون الحق ولم يقروا بالله ورسوله، فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس)، وهم عُمى لا يُبصرون الحق فلا ينظرون إلى ملكوت السماوات والأرض.

الخامس: قوله تعالى: ﴿وَتَرَكَهُمْ ﴾ أي لم يُعِنْهم، ولم يلطف بهم، وخلّى بينهم وبين نفاقهم لأن الله تعالى لا يوصف بالترك، لأنها صفة مكانية والله تعالى منزه عن المكان بل هو خالقه.

قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَرُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾(2)فهؤلاء سواء مع الصم والبكم والعمي، في عدم انتفاعهم بجوارحهم، فالمراد إنه تعالى عَلم بأنهم لا يرجعون عن الكفر والضلالة، فمنعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم.

السادس: قوله تعالى: ﴿وَلَا يَرْجِعُونَ ﴾ أي عن ضلالتهم، وعدم الرجوع

ص: 39


1- سورة الأنفال، الآية: 23
2- سورة الحج، الآية: 46.

فرع أي حيث إنهم صموا وأبكموا وعموا لم يُرجَ فيهم الخير، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُسمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَوْا مُدْبِرِينَ)(1) وذلك تسجيلاً عليهم بطبع قلوبهم.

السابع: المثل الثاني (أَوْ كَصَيِّبٍ...) أي كما أن المطر الشديد فيه ظلمات، وفيه برق ينير الطريق، وفيه رعد يخوف السامعين، وفيه صواعق تحرق كذلك الإسلام فيه ظلمات للمنافقين، لأنه لو أمر بالجهاد فالمنافق في ظلمة حيرته فلا يمكنه قبول الجهاد لعدم اعتقاده ولا يمكنه التخلّف خوفاً من كشف أمره، وفيه رعد وهو تهديدات الإسلام لمن خالف والمنافق لا يريد سماع تلك التهديدات لئلا يظهر الخوف على وجهه فيتبيّن نفاقه، كما قال تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ثنَيْتُهُم بِمَا فِي قُلُوبهمْ قُلِ اسْتَهْزِرُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ) (2)، وفيه - أي الاسلام - برق ينير الدرب بتقدم المسلمين واكتسابهم للمغانم، وفيه صواعق وهي العقوبات التي يخاف المنافقون منها ، قال تعالى: ﴿لَن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا «60»مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا تُقِفُوا أُخِذُواْ وَقُتِلُوا تَقْتِيلاً) (3).

وقيل هو تشبيه بالقرآن، أي شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن، وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء، وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر وما في المطر من البرق بما فيه من البيان وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلاً والدعوة إلى الجهاد عاجلاً .

ص: 40


1- سورة النمل، الآية: 80.
2- سورة التوبة، الآية: 64 .
3- سورة الأحزاب، الآيتان: 60 - 61 .

وقيل هو تشبيه بالدنيا تجمع نفعاً ،وضراً، وكذلك نفاقهم فيه النفع الدنيوي من المناكحة والموارثة حقن الدم والضر الدنيوي بالفضح والأخروي بالعذاب.

الثامن: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ) جملة مستأنفة لأن المثل انتهى بقوله

تعالى: ﴿قَامُوا)، والمعنى كما أن الله تعالى يتمكن من إذهاب بصره- وسمعهم بالبرق والرعد وهي أسباب ظاهرية، كذلك يمكنه ذلك من دون سبب ظاهري، لأن الأمور كلها بيد الله تعالى، فهو الذي جعل شيئاً علة لشيء آخر، ويمكنه سلخ هذه العلية أو تبديلها أو فعل الشيء مباشرة من

دون واسطة.

التاسع: قوله: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الشيء له معنى واسع يساوي الوجود، ويصح إطلاقه على المعدم لبعض الاعتبارات فيشمل الموجود والمعدوم، ويصح إطلاقه على الله تعالى فعن الإمام الجواد عَلَیهِ اَلسَلَام سئل : «يجوز أن يقال لله شيء؟ قال : نعم يخرجه عن الحدين حد التعطيل وحدّ التشبيه»(1).

ومعنى قوله على كل شيء قدير : إنه قادر على المعدومات بأن يوجدها، وعلى الموجودات بأن يفنيها أو يتصرف فيها، وعلى مقدور غيره بأن يمنعه عنه أو يتصرف فيه كما يشاء(2)

العاشر: الفرق بين المثلين أن المثل الأول: حال للمنافق أي المنافق كالمستوقد ناراً، والثاني: حال الهداية بالاسلام أو القرآن التي تصيب المنافق، فلا ينتفع بها، كالمطر الذي لا ينتفع به مع أنه خلق رحمةً.

ص: 41


1- الكافي ج 1، ص 82.
2- بل هو قادر على الممتنعات - بمعنى عدم قصور قدرته - وإن لم يكن لها قابلية، فالنقص منها.

ص: 42

(فصل) أركان الإيمان

ص: 43

ص: 44

الآیتان 21-22

(يأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ«21» الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ. مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

وبعد أن أنهى الله تعالى تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق وبيان أوصاف كل واحد منهم بدأ بدعوة الناس إلى اتباع الصنف الأول وهم المتقون وبيان أركان الإيمان الثلاثة :

1 - التوحيد .

2 - النبوة .

3 - المعاد .

21

الركن الأول: التوحيد

21 - (يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) لا الأرباب المتفرقين، وأنعم عليكم ربكم بنعم جمة أولها أنه (ألَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بهذه العبادة.

ص: 45

22 - ومن نعمه أنه هو (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَشَا) أي كالفراش لراحتكم ، (وَ) من نعمه أنه جعل (وَالسَّمَاءَ بِنَاءَ) كالسقف تحمي الأرض من قذائف الفضاء ومن إشعاعات الشمس وغيرها، (وَ) من نعمه أنه (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ) أي من جهة العلو(مَاءَ) (فَأَخْرَجَ بِهِ) أي بسبب الماء (مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ) فهذا الرب هو الذي يجب أن يُعْبَد ، لا الأرباب المتفرقون العاجزون عن كل ذلك، ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا) أي شركاء (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعقلون بأنها لا تتمكن من كل ذلك، أو أنتم تعلمون أنها باطلة وأنه ليس لله شريك.

------------------------

بحوث

الأول: قوله: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ) التفات، فكأنه حدَّث تعالى عن الغائبين وقسمهم إلى ثلاثة أقسام التفت إلى المستمعين وغيّر الكلام من الغيبة إلى الخطاب، والالتفات أبلغ وأوقع في النفوس، وهذا خطاب عام يشمل المؤمنين حتى يستمروا في العبادة ويزيدوها، والكافرين حتى يتركوا عبادة

غیره ويعبدوه سبحانه.

الثاني: وصف الرب بقوله : (الَّذِى خَلَقَكُم) لأجل إخراج الأرباب المتفرقين لأن المشركين كانوا يعتقدون بأرباب بشرية أو الأصنام أو غيرها.. ولكنهم كانوا يعلمون أنها لم تخلقهم ولا غيرهم، فالوصف لتخصيص العبادة اللَّه تعالى، ولأجل تحفيزهم لعبادته تعالى، بذكر نعمه سبحانه وتعالى، وأولى تلك النّعم هي خلقهم وسائر النعم متفرعة عليه.

ص: 46

الثالث: ﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) لعله لأجل أن استدلالهم بعبادة الأصنام، أنهم وجدوا آباءهم يعبدونها وهم يقتدون بآثارهم، فأجابهم تعالى بأن آباءكم ومن كانوا قبلكم أيضاً مخلوقون لله تعالى، فكان عليهم أيضاً عبادته، ولا يصح اتباعكم لخطئهم وكذلك لأن النّعم لا تتم على الإنسان إلّا بالنّعم على الآباء.

الرابع: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الأظهر أن هذه العبارة علّة للأمر بالعبادة السياق الآية، ولأنه دعوة لهم ليكونوا من القسم الأول من الناس - وهم المتقون - الذين أشار إليهم بقوله في أول السورة: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) ، فعبادتهم الله تعالى يسوقهم إلى التقوى فيكونون من المتقين الذين يكون القرآن هدى لهم ، وقيل إنها علّة للخلق أي خلقكم لكي تتقوا كما في قوله :تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون)(1)

الخامس: (لَعَلَّكُمْ) لعلّ من الله تعالى واجب، إذ الترجي لا يعقل من الله تعالى، لأنه ناشيء عن الجهل، فإن من لا يعلم المستقبل يرجو الخير فيه، وأما من يعلم فلا معنى لرجائه، وعن الإمام العسكري علیه السلام لعل من الله واجب لأنه أكرم من أن يُعَنِّي عبده - أي يوقعه في المشقة - بلا منفعة، ويطمعه في فضله ثم يخيبه ألا تراه كيف قبح من عبد من عباد إذا قال لرجل «أخدمني لعلك تنتفع بي ولعلي أنفعك بها ثم يخيبه ولا ينفعه»(2).

وإنما جيء بلعلّ ترقيقاً للموعظة وتقريباً لها من قلب الموعوظ، أو لأجل أن لا يكون العبد آمناً بعمله بعد أن توهم ضمان الجنة بل ليبقى بين الخوف والرجاء ليزداد عملاً ،وتقوى وقيل إن لفظة «لعل» في كلام الله

ص: 47


1- سورة الذاريات الآية: 56 .
2- البرهان ج 1 ، ص 296 .

تعالى هي ترج للمخاطبين كما في قوله تعالى : (فَقُولَا لَهُ فَوْلًا لَّيْنَا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)(1) فكأنه قال تعالى : اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في هدايته.

السادس: إن القرآن الكريم حيث أنزل لهداية الناس، فإنه يختار أفضل الطرق تأثيراً في الناس، ومنها بيان علل الأحكام، فإن الإنسان إذا عرف فائدة الشيء كان أكثر تخفراً من جاهلها، وكذلك من عرف مضار شيء كان أشدّ امتناعاً ممن لا يعلمها، وحينما نراجع آيات التشريع نجد ذكر العلل ولو بالإشارة إليها كما في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) إلى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(2) وقال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَوَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)(3) وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ )(4) وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ الْبَيْتِ) إلى (لِيَشْهَدُوا مَنَفِعَ لَهُمْ)(5) ، وهكذا في هذه الآيات.

السابع: كون الأرض فراشاً لأن جميع وسائل الراحة متوفرة فيها كالفراش الذي يستريح عليه الإنسان وكون السماء بناءً لأنها كالسقف الذي

الإنسان من الحرّ والبرد والمطر والشمس ونحوها، فإن السماء يحمي تمنع قذائف الفضاء فتحرقها، وكذلك من الأشعة المضرة للشمس الأرض من

وكذلك الإشعاعات الأخرى، وغيرها.

الثامن ومن نعمه تعالى أنه جعل بين الأرض والسماء ملاءمة تامة

ص: 48


1- سورة طه، الآية: 44 .
2- سورة البقرة، الآية: 183.
3- سورة العنكبوت الآية: 45 .
4- سورة المائدة، الآية: 91
5- سورة الحج، الآية: 28.

بحيث إنه أنزل المطر من السماء إلى الأرض، فالسماء تسمح بارتفاع البخار بنسبة معينة لا يضيع معها في الفضاء بل يرجع إلى الأرض بشكل ماء. التاسع: مِنَ الثَّمَرَاتِ هذه من نعم الله تعالى أن جعل المطر ينبت به بعض الثمرات كالفواكه وغيرها - والبعض الآخر ينبت بسائر المياه من غير المطر، ولكن لما كان أغلب مياه الزرع من المطر خصصه بالذكر، وكذلك المناسبته مع ذكر الأرض والسماء، وهذا من آيات الله تعالى حيث إن الأرض واحدة والسماء واحدة والمطر واحد، ولكن مع ذلك تختلف الثمرات في مذاقها وألوانها وفوائدها وغير ذلك.

العاشر: حيث إن الخلق من الله والرزق منه فيجب اخلاص العبادة له، لأنّ من يزعمهم الكفار أنداداً وشركاء الله ليس لهم من الأمر شيء، بل هم مخلوقون مثلهم، وهذه الحقيقة يعرفها حتى المشرك ولذا اكمل سبحانه وتعالى الآية بقوله: ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي تعلمون أن هؤلاء الأنداد لا يقدرون على شيء، أو أن تعلمون بمعنى تعقلون، أي أنكم أصحاب عقول

تعلمون أن الأصنام أو من تعبدونهم من الناس إنما هم عباد أمثالكم.

ص: 49

الآیة 23

الركن الثاني: النبوة

(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ، وَادْعُواْ

شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ الله إن كُنتُمْ صَدِقِينَ ) .

23 - الركن الثاني من أركان الإيمان الاعتقاد بنبوة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأنه رسول الله وأن القرآن منزل من قبل الله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ

أيها المشركون (في رَيْبِ) أي شك (مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ) واحدة ولو بمقدار أصغر سورة كالكوثر (مِّن مِثْلِهِ) أي مثل القرآن الكريم، (وَ) يمكنكم الاستعانة بمن شئتم ف(وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُمْ) الذين يشهدون معكم أن القرآن مفترى (مِن دُونِ اللَّهِ) أي الشهداء ممن شئتم من الجن والإنس (إن كُنتُمْ صَدِقِينَ) في شككم، بأن لم تكونوا معاندين، فلذا تنفعكم هذه الحجة وهي عجزكم عن الإثبات بمثله، أما إذا لم تكونوا صادقين في شككم بل كان التكذيب عن عناد - بعد علمكم بأنه منزل من الله - فلا تنفعكم هذه الحجة لأن المعاند لا علاج له.

---------------------

ص: 50

بحوث

الأول: قوله: ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا) تأكيد بأن هذا القرآن من قبل الله تعالى ولذا لم يقل في ريب من القرآن ونزَّلنا من باب التفعيل وهو - على الأغلب - الإتيان به نجوماً، أي مفرقاً حسب الأزمان والمناسبات، وأما الإتيان به دفعة فهو الإنزال - عادة - من باب الإفعال قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْتَهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(1) أي دفعة واحدة، ولعل من أسباب ريب بعض المشركين هو التنزيل التدريجي وأن القرآن لو كان من عند الله فلماذا لا ينزل دفعة واحدة قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةً )(2) فيأتي الجواب بأنكم إن كنتم في ريب فأتوا بسورة واحدة من مثله .

الثاني: سبب المعاجز هو التأكيد على صدق مدعي النبوة، وذلك لأن النبوة منصب عظيم له تأثير على الناس أكثر من تأثير الحكومات، فلذا كثر المتنبئون الذين يدعون النبوة زوراً وبهتاناً، فللتفريق بينهم وبين الأنبياء خصّ الله تعالى أنبياءه بالمعاجز التي تُظهر صدقهم ، وليست المعاجز لتغيير سنن الكون أو إلجاء الناس إلى اتباع الأنبياء، ولذا نرى الأنبياء ساروا في الأسباب الطبيعية التي أودعها الله تعالى في الكون، فأفضلهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم اضطر للدفاع عن الإسلام بخوض أكثر من ثمانين غزوة وسرية، وقُتِل من أصحابه، وجرح هو في أحد، وتحمّل الأذى، وأرسل المبلغين وغير ذلك من الأسباب الطبيعية، نعم في موارد قليلة ولمصلحة إلهية كانت المعجزة لتغيير الأسباب الطبيعيّة، كفلق البحر لموسى علیه السلام وإرسال الملائكة في غزوة بدر ، وحتى في هذه الموارد هنالك احتمالات أخر.

ص: 51


1- سورة القدر، الآية: 1.
2- سورة الفرقان الآية: 32 .

الثالث : لماذا القرآن معجزة؟ وكيف؟ ولماذا يعجز البشر عن الإتيان بمثله ؟

الجواب إنَّ القرآن مزيج من عدة أمور، لا يمكن للإنسان أن يجمع

تلك العناصر، بل ولا واحدة منها فهو معجزة في مجالات متعددة وكلما مرّ على القرآن زمان اكتشف الناس نقاطاً جديدة من اعجازه فهو :

1 - إعجاز بلاغي، من حيث إنه أفضل الألفاظ لأحسن المعاني وما فيه من المحسنات البلاغية التي لا تجتمع في كتاب بدون أي نقص، مع أن أفصح الكتب والاشعار لا تخلو من نقص، وكذلك تناسب ألفاظه فهي متناسبة تماماً مع المعاني في جميعه، وكذلك كل القرآن له أوزان مناسبة - بدون أن يكون شعراً ..

2 - إعجاز تشريعي : فإن تشريعات القرآن فوق فإن تشريعات القرآن فوق جميع التشريعات ومهما شرّق الناس وغرّبوا وأتوا بتشريعات مختلفة، لم يتمكنوا من الإتيان بمثل تشريعات القرآن وكل فترة يتم تغيير كثير من التشريعات الوضعية، لتبين خطئها، وعدم انسجامها مع الطبيعة البشرية .

3 - إعجاز علمي، فعلى رغم تطور العلوم الطبيعية تطوراً مذهلاً، أن القرآن تناول كثيراً من مسائل الكون من السماء والأرض والجبال والأشجار والإنسان، لا نجد هنالك خطاً علمياً فيه، مع أن سائر الكتب تبيّن أن مؤلفيها تأثروا بالآراء العلمية في زمانهم فأودعوها في كتبهم، ثم بان خطؤهم، وكذلك بتطور العلم تمّ اكتشاف صحة ما في القرآن من

علوم طبيعية لم يكن يعرفها أفضل العلماء فكيف بالعرب الأميين.

4 - إعجاز تاريخي، فالقرآن أخبر عن أمور من التاريخ كانت مجهولة للجميع ، ثمَّ تبين صحتها كقوله تعالى عن فرعون : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ

ص: 52

لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ وَايَةً )(1) ولم يكن يعلم أحد أن جسم فرعون محفوظ بالمومياء تحت أطنان من الأحجار في الأهرامات، إلى أن اكتشفت جثته بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول هذه الآية.

وكذلك اعجاز بالإخبار عن المستقبل كقوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ«2» فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ«3» فِي بِضْعِ سِنِينَ)(2) وكان الأمر كما أخبر، وكما في الآية القادمة ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا) فأخبر بأنه لم يتمكن أحد من المعارضة رغم توفر الدواعي، وكان الأمر كما أخبر.

5 - الإعجاز بكونه غَضّاً جديداً، فلا يُخلقه الزمان، عكس سائر الكتب التي تفقد رونقها بمرور الزمن، وكلما تدبر فيه الإنسان اكتشف شيئاً جديداً .

6 - الإعجاز بعدم وجود التناقض فيه على رغم أنه نزل خلال ثلاثة وعشرين عاماً وفي ظروف مختلفة قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾(3)

وهنالك جهات أخرى مذكورة في مظانها، ومع تقدم البشرية في كل

حقبة وزمان يزاح الستار عن عناصر جديدة من عجائبه ومعجزاته.

الرابع: إن التحدي بإتيان مثل القرآن كان على مراحل:

1 - الإتيان بمثل القرآن أجمع قال تعالى : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ

عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(4)

ص: 53


1- سورة يونس الآية: 92
2- سورة الروم، الآيات: 2 - 4 .
3- سورة النساء، الآية: 82
4- سورة الإسراء، الآية: 88 53

2 - بعشر سور قال تعالى: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ، مُفتَرَیَتِ ﴾(1)

3 - سورة واحدة وقُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(2)وهذه المراحل الثلاث كانت بمكة.

4 - المرحلة الأخيرة وكانت بالمدينة هو جعل التحدي إلى آخر حدّ بإخبارهم أنهم لن يتمكنوا من ذلك أبداً قال تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا)(3).

الخامس: إن التحدي لا يقتصر على مجال التشريع بإتيان مثل القرآن بل هنالك تحد آخر في مجال التكوين قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُو)(4) ، وحتى وحتى الصناعات البشرية والاختراعات لا تقاس بالمخلوقات الإلهية، فإن غاية ما تمكّن البشر من الوصول إليه هو اكتشاف قوانين الله الكونية ومحاولة تطبيق الحياة عليها.

السادس :قوله (مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ أي استنصروا بمن شئتم من المخلوقات، فإنهم لو اجتمعوا جميعاً فلا يمكنهم الإتيان بمثله، أما الله تعالى فهو قادر على الإتيان بمثله، لأن الكلام كلامه وهو على كل شيء قدير، وقيل بأن (من) تتعلق بالشهداء أي أوتوا بشهداء غير الله، بمعنى: لا تقولوا شاهدنا الله لأن هذا الكلام لغة العاجز المنقطع عن إقامة البينة والمعنى الأول أظهر .

السابع: (شُهَدَاءَكُمْ) أي الذين يشهدون أن محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ليس بنبيِّ ،

ص: 54


1- سورة هود، الآية: 13.
2- سورة يونس الآية: 38
3- سورة البقرة الآية: 25.
4- سورة الحج، الآية: 73.

وأن القرآن ليس بمنزل، لأن المؤمن لا يتحدى لعلمه بأنه من الله تعالى أو المراد الذين يجالسونكم من نظرائكم، أو الذين يشهدون أن ما أتيتم به مثل القرآن والاحتمال الأول أحسن.

الثامن: قوله : (إن كُنتُمْ صَدِقِينَ) لزيادة التحدي لأن معناها إن لم تأتوا بمثله فأنتم كاذبون، و(إِن) لترتيب الجزاء فقط، للعلم بأنهم غير صادقين، والجزاء محذوف لكونه معلوماً مذكوراً مثله في الشرط السابق فالمعنى: إن كنتم صادقين فأتوا بسورة مثله .

ص: 55

الآیتان 24-25

الركن الثالث: المعاد

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ «24» وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)

24 - ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا) أي لم تتمكنوا من الإتيان بمثل القرآن (وَلَن تَفْعَلُوا) ذلك أبداً، وهذا زيادة في التحدي وإخبار ،مستقبلي (فَاتَّقُواْ النَّارَ) التي هي عاقبة تكذيبكم، أي فإن لم تفعلوا فقد قامت الحجة على صدق الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، فوجب عليكم اتباعه اتقاء للنار، فالعناء بتكذيبه سيُلقيكم في نار جهنم (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) أي الأصنام التي كنتم تزعمون بأنها شفعاءكم إلى الله (أُعِدَّتْ) تلك النار (لِلْكَفِرِينَ).

25 - وفي مقابل الكفار المؤمنون (وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا) بقلوبهم وألسنتهم (وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ) بجوارحهم (أَنَّ لَهُم) من النعيم ما لا يحصى ومنها

ص: 56

أ - (جَنَّتِ) أي بساتين كثيفة الشجر، (تَجْرِى مِن تَحْتِهَا) أي من

تحت أشجارها (الأَنْهَرُ) لأن البستان بلا نهر كتمثال بلا روح.

ب - (كُلَّمَا رُزِقُوا) أي المؤمنون (مِنْهَا) أي من الجنات (من ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ) في دار الدنيا، فليسوا كأصحاب الجحيم الذين لا يألفون طعامهم الذي هو من ضريع ﴿وَأتُواْ بِهِ)أي جيء لهم بذلك الثمر (مُّتَشَابِهَا) أي يشبه بعضه بعضاً في الجودة، فكلها من نوعية راقية، عكس أثمار الدنيا التي بعضها جيد وبعضها رديء.

ج - ﴿وَلَهُمْ فِيهَا) أي في الجنات (أَزْوَجُ مُطَهَّرَةٌ) طهرها الله من

القذارات المادية كالدماء، والمعنوية كالحسد.

د (وَهُمْ فِيهَا) أي المؤمنون في تلك الجنات (خَلِدُونَ) لأن النعمة لا تتم إلا ببقائها.

-----------------------

بحوث

الأول: قوله: ﴿وَلَن تَفْعَلُوا) فيه وجهان من الإعجاز.

1 - عجزهم عن الإتيان بمثله .

2 - إخبار عن المستقبل، وقد كان كما أخبر الله تعالى .

وقد حاول الكثيرون من غير المسلمين ذلك، ففشلوا فشلاً ذريعاً، مع وجود الداعي القوي لمعارضة الإسلام، فإنهم لم يألوا جهداً في محاربته بمختلف الوسائل من إثارة الفتن والحروب والحصار

ص: 57

الاقتصادي والتشكيك وغير ذلك، لكنهم لم يتمكنوا من الإتيان بمثله مع أنه لو كان من عند غير الله تعالى لكان معارضة الإسلام بقبول هذا

التحدي والإتيان بمثل القرآن أسهل عليهم من سائر الأمور.

الثاني: قوله: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ( إشارة إلى شدة الحرارة، فإن كل جسم يكتنز من الطاقة ما لو ظهرت لتحولت إلى حريق عظيم، وليس الانفجار النووي إلّا إظهاراً لتلك الطاقة ويمكن أن يكون إشارة إلى أن نار الآخرة تختلف عن نار الدنيا بأنها تنبع من نفس الإنسان والحجارة، فتكون أشد إيلاماً، ولذا قيل : بأن عذاب الآخرة ليس إلا نفس الأعمال التي يرتكبها المخالفون لأوامره ونواهيه، قال تعالى: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُم تَعْمَلُونَ)(1)، والأظهر أن المراد بالحجارة هي الأصنام التي كانوا يعبدونها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)(2) وذلك لزيادة تعذيبهم، فإن إحراقهم بالنار تعذيب جسدي، وإحراق أصنامهم تعذيب نفسي لهم. الثالث: قوله :(أُعِدَّتْ لِلْكَفِرِينَ) إشارة إلى أن هذه النار مخلوقة من قبل، ويدل عليه مختلف الروايات في أحاديث المعراج حيث رأى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ تلك النار وأهوالها، ولعل الفائدة في خلقها قبل يوم القيامة هو أن التهديد بالمتحقق أكثر تأثيراً مما سيتحقق، فلو لم تكن مخلوقة الآن كان يمكن لبعض العصاة الأمل بأن ذلك صرف تهديد قد لا ينفذ فيكون داعيهم على العصيان أقوى، ولكن حينما علموا بأنها موجودة كان الداعي إلى الإطاعة أقوى .

ص: 58


1- سورة النمل الآية: 90
2- سورة الأنبياء، الآية: 98

الرابع: قوله : (رُزِقْنَا مِن قَبْلُ) أي في دار الدنيا، بمعنى أن ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا ظاهراً، وإن كانت تختلف عنها في المذاق، وذلك لأن المماثلة في الشكل والاختلاف في الطعم تبيّن للإنسان مزية الجنة على الدنيا، لأنه يتمكن من القياس، كما لو أكل الإنسان الفاكهة الرديئة ثم أعطي فاكهة جيدة فإنه يحس بالفرق وبأفضلية الثانية، فكذلك شباهة ثمار الجنة بثمار الدنيا توجب علم الإنسان بعظم النّعمة عليه.

أو أن المعنى أن الثمار في الجنة يتبدل طعمها في كل مرة، فتفاح الجنة مثلاً له طعم كل مرّة يختلف عن المرّة السابقة، فكلما أكلوا من الثمار قالوا إنا أكلنا منه في المرة السابقة لكن بطعم مختلف، ويدل عليه قوله : (كُلَّمَا) أي في كل مرّة ، والداعي لقولهم (هذا الذي رزقنا من قبل) أكثر حينئذ من إشارتهم إلى فاكهة الدنيا، أو أن المراد أن هذا الذي بدله الله تعالى - قبلاً - إلى هذه النعمة، والمعنى الأول أظهر .

الخامس: ما هي حقيقة نعم الآخرة وعذابها؟

الجواب : إن حقيقتها مجهولة لنا فإنها تدرك ولا توصف إلّا إلماعاً ،وإشارة، كما أن نعيم الدنيا وآلامها لا يعرفهما الإنسان إلّا إذا أدركهما وأحسهما فكيف بما في الآخرة وهي فوق ما في الدنيا بدرجات، فتكون الأوصاف للإشارة إلى نعيم الآخرة وأنها شبيهة بنعيم الدنيا من حيث الشكل وتغايره في الحقيقة كما قال تعالى: (بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّرِبِينَ«46» لَا فِيهَا عَوْلُ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ )(1)، كما لو أردنا شرح اللذة الجنسية للطفل فتأتي له بمثال مما يعقله وإن كان يختلف عنها في الحقيقة لأنه لا يمكن أن يدرك تلك اللذة .

ص: 59


1- سورة الصافات، الآية: 46، 47 .

الآیتان 26-27

التمييز بين المؤمن وغيره

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ «26»الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ «27»).

لمّا بين اللّه تعالى أصناف الناس من مؤمن ومنافق وكافر، وذكر سبحانه أركان الإيمان بين بعض ما يتميّز به المؤمن عن غيره، واختار تعالى تمييزهم عند ذكر الأمثال، لمناسبة ذكر بعض الأمثال في الآيات السابقة.

26 - ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْى ) أي لا يترك حياءً (أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا) بمعنى أيّ مثل حتى إذا كان الشيء الممثل به من الأمور الصغار، (بَعُوضَةً) وهي صغار البق (فَمَا فَوْقَهَا) كالذباب والعنكبوت ، (فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾ أي المثل (الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ لأنهم تركوا العناد فتفتحت بصائرهم فيستوعبون الحقائق بسهولة، فيعلمون أن ذكر المثل لتقريب المطلب إلى الأذهان، ﴿وَأَمَّا

ص: 60

الَّذِينَ كَفَرُوا) فيظهر كفرهم، بتصرفهم وبقولهم عند ذكر المثل (فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً) ، أي بهذا المثل - على التمييز أو الحال ، فيتوهمون أن ذكر الأمثال بالأشياء الصغيرة غير مناسب لجلال الله تعالى فيزعمون أن ضرب المثل مضرّ وأنه سبب انشقاق الناس إلى قسمين (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيراً) ، لكن هذا التوهم ،باطل ، لأن المثل يوجب الهداية ، (وَ) أما من لا يهتدى فلخلل في نفسه إذ (وَمَا يُضِلُّ بِهِ﴾ أي بالمثل (إِلَّا الْفَاسِقِينَ) الذين خرجوا عن طاعة ربهم.

27 - ولهؤلاء الفاسقين صفات :

أ - منها أنهم (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ) حيث ركز التوحيد في فطرتهم (مِنْ بَعْدِ مِيشَقِهِ) أي تأكيد ذلك العهد.

ب - (وَ) منها أنهم ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ) فقد أمر تعالى بصلة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ و والمؤمنين، وكذلك بصلة الأرحام. ج - (وَ) منها أنهم (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)، ولكن نتيجة أعمالهم تعود عليهم( أُولَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ ) خسروا رأس مالهم وهو أعمارهم، فدنياهم نَصَب وضَنَك، وآخرتهم عذاب.

----------------------

بحوث

الأول: عدم استحياء الله تعالى، بمعنى أنه لا يترك ضرب المثل بالبعوضة كترك من يستحيي أن يُمَثَّل بها لحقارتها، وذلك لأن الحق فوق

ص: 61

الاعتبارات النفسانية، ولذلك قيل لا حياء في الدين، وقال تعالى: ﴿وَاللهُ يَسْتَحْيِ، مِنَ الْحَقِّ)(1)، ولأن الحياء إنما يكون من الأشياء القبيحة أو ما يستقبحه الناس وإن لم يكن قبيحاً في نفسه كقول أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ:

«ولقد رقعتها حتى استحييت من راقعها» (2) ، أو مما يستقبح ذكرها وإن لم تكن قبيحة في نفسها كحياء البكر حين الخطبة.

وليس في التمثيل بالأمور الصغيرة حياء لأنها ليست قبيحة ولا يستقبح ذكرها وقد جرى دأب العقلاء على ذلك .

الثاني: إن الله تعالى لا يوصف بالصفات الانفعالية النفسانية، لأنه عزّ وجل ليس محلاً للحوادث ولا تتغير ذاته تعالى بالانفعالات - كما هو واضح - والحياء من الصفات الانفعالية النفسانية، فحينما يقع الإنسان أمام القبيح أو ما يستقبح ذكره تنفعل نفسه ويستحيي، وكلما رأينا وصف الله تعالى بالصفات الانفعالية النفسانية فإنما هو مجاز ، بمعنى ترتيب آثار تلك الحالة، وليست بمعنى عروض تلك الحالة عليه، فقوله تعالى: ﴿غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم)(3) مثلاً بمعنی ترتیب آثار الغضب كالعذاب واللعن ونحوهما، وكذلك قوله: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ )(4) وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )(5) وقوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾(6) كل ذلك بمعنى ترتيب آثار الرضا والحب والنسيان ونحو ذلك.

ص: 62


1- سورة الأحزاب الآية: 53
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ج 1 ، ص 63 ، رقم 2084.
3- سورة الممتحنة، الآية: 13
4- سورة المائدة، الآية: 119
5- سورة التوبة، الآية: 4.
6- سورة التوبة، الآية: 67

الثالث: قوله: ﴿مَثَلاً مَّا) «ما» للإبهام، بمعنى «أيّ شيء كان»، كقولك (ايتني بكتاب ما) بمعنى أيّ كتاب كان و(بَعُوضَةً) ، بدل عن (مَاءَ . والبعوض هو صغار البق وإنما مثل به لأنه أصغر حيوان متعارف يراه ،الإنسان لأن الغرض من المثل هو تقريب المطلب إلى أذهان السامعين فيلزم أن يكون المثل معروفاً للناس حتى يتم المقصود.

﴿فَمَا فَوْقَهَا) أي ما هو أكبر من البعوضة كالذباب والعنكبوت ونحوهما وقدّ مثل بهما القرآن الكريم، وليس المراد من ﴿فَمَا فَوْقَهَا) ما هو أصغر منها ، لأنه لم يمثل في القرآن بما هو أصغر من البعوضة، ولأن الغرض يفوت بالتمثيل بالأصغر - عادة - لأن ذكر المثل لأجل تقريب المطلب إلى الذهن فيلزم أن يكون بالأشياء المتعارفة - كما ذكرنا قبل قليل ..

الرابع: المثال ينبغي أن يكون موافقاً للمقصود، فإذا أراد المتكلم بيان ضآلة شخص مثل له بمثال من المخلوقات الضعيفة، لبيان ضعف ذلك الشخص، وليس من البلاغة حينئذ التمثيل بالأشياء الجليلة، وكذلك في العكس يأتي بمثال جليل حينما يمثل لشيء جليل، ولذا كان الله تعالى المثل الأعلى قال تعالى : (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ)(1) فالنور من الأمور الجليلة فضربه الله تعالى مثلاً لنفسه.

الخامس: علم المؤمنين بأنه الحق من ربهم ليس فقط من باب تسليمهم الله تعالى وعلمهم بأن أقواله كلها حق، بل إضافة إلى ذلك فإن من يريد الوصول إلى الحق ويترك العناد فإن باب فهمه مفتوح فيفهم منطق الحق بأن ضرب المثل إنما هو لتقريب المطلب، وأنه تم اختيار المخلوقات

الضعيفة لمناسبة مقتضى الحال .

ص: 63


1- سورة النور، الآية: 35.

السادس: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) هذا من تتمة نقل كلام الكفار أي

يقول الكفار ما هو الغرض من ذكر مثال يسبب انشقاق الناس، فقسم لا يقبل وينحرف وقسم يهتدي، وقيل إنهم لما قالوا: (مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً) جاء الجواب: إن ذكر المثل لتمييز المؤمن من الكافر، كما في كل ابتلاء حيث إن الناس مختلطون قبله لا يمكن التمييز بينهم، فلما جاء البلاء تميز المؤمن عن غيره، والمعنى الأول أقرب للسياق.

السابع: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) جواب عن اشكالهم، بأن ذكر المثل فيه فائدة كبرى، ولكن الفساق يُضلون به، لأنهم لم يريدوا الاستنارة بالحق، والفسق هو الخروج عن الطاعة.

وهذا المقطع من الآية إشارة إلى اختيار الإنسان وعدم كونه مجبوراً في

أعماله، وتوضيح لما في آيات أُخرى من نسبة الإضلال إليه تعالى فإن ذلك بمعنى أنهم فعلوا فعلاً سبب ضلالهم فتركهم الله وشأنهم، وقد مرّ بعض الكلام في قوله تعالى : (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، وفي مجمع البيان(1) ذكر عدة معانٍ للإضلال:

1 - أنهم ضلوا عنده كما في قوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ) (2) أي ضلوا عند الأصنام، لأنه من الواضح أن الأصنام جمادات لا تقدر على عمل شيء، وإنما كانوا هم سبب ضلال أنفسهم، لكن لما كان الضلال عند الأصنام نسب إليها.

2 - التخلية بينهم وبين الفعل بعدم إيجاد مانع قسري بمنع

ص: 64


1- مجمع البيان ج 1 ، ص 136 - 137 بتصرف وتغيير.
2- سورة إبراهيم، الآية: 36 .

الألطاف، كما يقال لمن لا يصلح سيفه «أفسدت سيفك» أي تركته وشأنه حتى علاه الصدأ - مثلاً -.

3 - الإهلاك والعذاب كما في قوله : (أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ)(1) أي هلكنا وكقوله: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَلَهُمْ )(2) أي لا يهلكها بالإبطال والحبط .

4 - النسبة إلى الضلال كما في قوله: ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ)(3) أي حكم عليه بالضلال.

وقد ذكرنا في كتاب (شرح أصول الكافي) تفصيل معنى الضلال

والهداية، فراجع.

الثامن: ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَقِهِ) الميثاق هو تأكيد العهد وتشديده وهذا العهد الموثق قد يراد منه ما أودع في نظرة الإنسان من معرفته تعالى كما قال تعالى: ﴿ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)(4) وهذا عام لجميع الناس، أو المراد ما في الكتب السالفة كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)(5)

التاسع: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ) ، أمر الله بصلة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمؤمنين، ومن مصاديق الصلة : صلة الأرحام، وهذه الرابطة أودعها الله تعالى في فطرة الناس، ولذا عبر عنها بالقطع لأنها رابطة موصولة من حين ولادة الإنسان إلى حين قطعها .

ص: 65


1- سورة السجدة، الآية: 10.
2- سورة محمد، الآية: 4.
3- سورة الجاثية، الآية: 23.
4- سورة الأعراف الآية: 172
5- سورة آل عمران الآية: 187 .

العاشر: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ، الفساد كل معصية يتعدى ضررها إلى غیر فاعلها، ومن الواضح أن من لا يرعوي عن نقض ميثاق الله تعالى ويقطع صلته بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأرحامه، فإنه لا يمانع عن الفساد في الأرض.

وهذه الأمور الثلاثة : نقض الميثاق، قطع ما أمر الله بصلته، الفساد في الأرض من أبرز صفات الفسقين وهي مُرَتَّبةٌ، أي إنّ مخالفة الله تعالى تُؤدّي إلى مخالفة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمؤمنين والأرحام، وذلك مما يؤدي إلى الفساد في الأرض، ومن كان هذا فعله يتركه الله تعالى وشأنه، لأنه عند ذاك لا يرجى خيره.

ص: 66

الآيتان 28-29

الاحتجاج على الكفار

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «28»هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ «29»)

28 - ثم بيّن الله تعالى صحة طريقة المؤمنين، واحتج على الكفار ببطلان طريقتهم، وأنهم من غير حجة، فقال مستنكراً عليهم : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) (وَ) الحال أنكم ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا) أجزاء وعناصر من التراب متفرقة في الأرض بلا روح (فَأَحْيَكُمْ) بأن جمع تلك العناصر، فتحولت نباتاً أو حيواناً، ثم نطفة من صلب إلى رحم(ثُمَّ) بعد قضاء فترة على الأرض (يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ للحساب، أو للجزاء بعد الحساب. 29 - وكيف تكفرون به مع أنه (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) لتنتفعوا بها وبما فيها، (ثُمَّ) أكمل الله تعالى نعمة الأرض وما فيها بأن (اسْتَوَى) أي توجه بقدرته (إلَى السَّمَاءِ) التي كانت واحدة حين الخلق (فَسَوَّنَهُنَّ) بدون أي اعوجاج (سَبْعَ سَمَوَاتِ)، وسخر تلك السماوات لمنفعتكم الدينية بالاعتبار بها، والدنيوية بأن

ص: 67

جعل لكم فيها علامات وزينة وقوانين كالجاذبية، فارجعوا عن كفركم بعد علمكم بهذه الآيات الباهرات (وَ) لا تحاولوا أن تخدعوا الله إذ ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

---------------------

بحوث

الأول: ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتَا) كون الإنسان ميتاً قبل خلقه، يمكن أن يكون مجازاً، بمعنى أنه لم تكن له حياة حينما كان من العناصر الطبيعية في الأرض ، ثم يبدأ بالتحول إلى حين إفاضة الحياة عليه في الرحم كما في قوله تعالى: ﴿وَءَايَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ )(1) أي بلا حياة، ويمكن أن يكون المراد أنه كان ميتاً بالمعنى الحقيقي بعد عالم الذر، والمعنى الأول أنسب للاحتجاج.

الثاني: (فَأَحْيَكُمْ) ابتدأ بأصل كل النّعم، وهو الحياة، لأن كل النعم الأخرى تتفرع عليها، ثم فرّع عليها النعم التي في الأرض في قوله: (خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ) وهذه مضافاً إلى كونها من آيات الله، فإنها أيضاً من أعظم النّعم على الإنسان والحياة ونعم الأرض من الآيات الواضحة التي يعرفها كل أحد، فلذا صح الاحتجاج بها على الكفار .

وإلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُم) ينتهي الاحتجاج، ولتكميل المطلب وبيان المراحل اللاحقة أضاف تعالى: ﴿ثُمَّ يُحييكم) ... الخ.

الثالث (ثمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) المراد في ساحة المحشر، وسمي رجوعاً إليه، لأنه هنالك الحساب بيده تعالى فرجع الأمر كله إليه، كما يقال : رجع

ص: 68


1- سورة يس الآية: 33.

الأمر إلى الحاكم، حيث لا يمكن لأحد التدخل فيه، أو المراد الرجوع إلى حسابه أو إلى ثوابه وعقابه.

الرابع: (خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) تدل الآية الكريمة على أنّ كل ما في الأرض خُلق لأجل الإنسان، ولا تدلّ الآية على حلّية كل شيء، بل تدلّ على أن كل شيء خُلق لأجل الإنسان ولنفسه، وقد يكون ذلك النفع مباشرة مثل حلية الأكل أو التزين أو الركوب، قال تعالى: ﴿وَالخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً )(1) وقد يكون الانتفاع بالواسطة أو الوسائط، كما يقال إن بعض الحشرات تفيد قسماً من الأشجار التي ينتفع بها بعض الحيوانات التي يستفيد منها الإنسان.

الخامس: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) من ملاحظة مختلف آيات خلق مبسوطة السماوات والأرض، يُستفاد أن الله عزّ وجلَّ خلق الأرض غير مبسوم وسماء واحدة، ثم بسط الأرض ثم جعل السماء سبع سماوات، ولم تذكر في الآيات أن خلق السماء كان أولاً أم الأرض، نعم إن تقسيم السماء إلى سبع سماوات كان بعد خلق الأرض، قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ «11» فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «2»)(2)، كما أن القرآن يدل على أن دحو الأرض - أي بسطها - كان بعد خلق السماء وقبل تقسيمها إلى سبع قال تعالى: أمِ اَلْسَّمَاءُ بَنَهَا) إِلى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَٰهَا)(3) وقال تعالى: ﴿وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)

ص: 69


1- سورة النحل، الآية: 8.
2- سورة فصلت الآيتان: 11 - 12
3- سورة النازعات، الآيات: 27 - 30 .

إلى ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) إِلى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانُ) إِلى (فَقَضَهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾(1)

السادس: (اسْتَوَى) استوى إن استعملت مجردة عن حرف الجر كان معناها: صار مستوياً من غير اعوجاج ، و(استوى عليه) أي ركبه واستقر عليه كما في قوله : (لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِهِ )(2) ، و(اسْتَوَى إِلَى) أي توجه إليه بقدرته أو قصده قصداً مستوياً .

السابع (سَبْعَ سَمَوَاتٍ) لعل كل ما نراه من كواكب ونجوم هو من السماء الأولى، وأما سائر السماوات فلعلّ علم الفلك سيكشفها في المستقبل، لقوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِرِينَةٍ الكَوَكِبِ)(3) وقوله تعالى :(وزَيَّنَا السَّمَاةَ الدُّنْيا بِمَصَبِيحَ وَحِفْظاً)(4)وقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَبِيحَ وَجَعَلْنَها رُجُومًا)(5) ، ومن البعيد تفسير الكواكب والمصابيح

بالشهب، لأنه خلاف الظاهر، بل لا يتعارف إطلاق الكوكب على الشهاب وقوله تعالى: ﴿وَحِفْظًا) وقوله: ﴿رُجُومًا) إنما هو لأجل أن الشهب إنما هي أجزاء من الكواكب والنجوم، التي انفجرت وتحولت إلى أجزاء متناثرة في الفضاء، فإذا وصلت إلى الأرض منعها من الاختراق الجو المحيط، فلذا صح أن يقال إن الكواكب والنجوم هي زينة أولاً وأجزاءها المتطايرة هي شهب لرجم الشياطين، وأما قوله تعالى: ﴿سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا«15» وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)(6) فيكفي لصحة التعبير وجود الشمس والقمر

ص: 70


1- سورة فصلت الآيات: 9 - 12 .
2- سورة الزخرف، الآية: 13.
3- سورة الصافات، الآية: 6.
4- سورة فصلت الآية: 12
5- سورة الملك الآية 5.
6- سورة نوح، الآيتان: 15 - 16 .

في السماوات، حتى وإن لم يكن القمر والشمس في سائر السماوات، كما في قولنا زيد ملازم للمساجد مع أنه ملازم لأحدها ، وقيل في معنى السماوات السبع غير ذلك.

الثامن: (عَلِيمٌ) لما ذكر الله تعالى قدرته عبر بيان بعض مصاديقها من الإحياء والإماتة وخلق السماء والأرض، أكملها بوصف نفسه بالعلم، إذ بالقدرة والعلم يقع الفعل متقناً من غير اعوجاج ، مضافاً إلى تحذير الكفار من مغبة كفرهم، وإن الله لا يخدع مهما حاولوا (يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَدِعُهُمْ ﴾(1) أي مجازيهم على خداعهم، فهو كثير العلم لا يخفى عليه شيء.

ص: 71


1- سورة النساء، الآية: 142.

ص: 72

فصل الاحتجاج بخلقة آدم

ص: 73

ص: 74

الآيات 30-33

فصل احتجاج آخر على الكفار (خلقه آدم)

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ «30»

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ «31» قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ «32» قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «33»).

لما احتج الله تعالى على الكفار بما مرّ، أراد تكميل الاحتجاج بذكر قصة خلق الإنسان وما اكتنفها من أمور، فأتم آياته بخلق السماوات والأرض بخلق الإنسان وأنه جعل فيه القابلية العظيمة التي بها يفوق على الملائكة - إن استثمر تلك القابليات ، وأنه لم يجبره الله على الإيمان أو الكفر، وإنما خيّره، بعد أن أتم الحجة ،عليه، وأنّ له عدوّاً يصدّه عن الإيمان ويسوقه إلى الكفر، وأنه يمكن له الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة فقال :

30 - (وَ) اذكر ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ وَ

ص: 75

خَلِيفَةٌ) يخلف الله تعالى في تنفيذ مراده من الأمر والنهي مثلاً، أو يخلف الخلق السابق الذي سكن الأرض، (قَالُوا) أي الملائكة، سؤالاً لتوضيح الأمر عليهم (أتَجعَلُ فِيهَا) أي في الأرض (مَن يُفْسِدُ فِيهَا) بتجاوز الحد وإيصال الضرر إلى الغير (وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (وَ) حيث إن غرضك من خلقهم العبادة فنحن أحق بالاستخلاف، إذ إننا نعبد بأحسن وجه إذ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) أي ننزهك عن النقائص بأن نحمدك (وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي نطهر الأرض من الأرجاس، بلا رياء، (قَالَ) اللَّه تعالى في جوابهم (إنّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) من المصالح في استخلاف البشر ، وأن عبادتهم أفضل من عبادتكم، لأن عبادتكم بلا ،مانع، وأما عبادتهم فتعتريها موانع من الشهوات والنفس والهوى وشياطين الجن والإنس وغيرها من الموانع.

31 - ولأجل أن يتضح لهم بعض الحكمة في الاستخلاف بين الله تعالى لهم بعض ميزات آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، (وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ) أي علائم الأشياء وذلك يستلزم تعليمه المسميات (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي المسميات (عَلَى الْمَلَئِكَةِ فَقَالَ) تعالى لهم (أَنْبِتُوني) وأمرهم ليس على حقيقته لعلمه بعجزهم، وإنما لأجل تنبيههم كسؤال العالم من الجاهل لتنبيه بجهله (بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ) علائمها وخواصها (إن كُنتُمْ صَدِقِينَ) أي إن كان كلامكم - بأنكم أحق بالاستخلاف - مطابقاً للواقع.

32 - ﴿ قَالُوا سُبْحَنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا) فكل علمنا منك، ولم يكن منها أسماء الأشياء، وعدم تعليمك إيانا إنما هو لمصلحة

ص: 76

تعرفها إذ (إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ) تعلم كل شيء ونحن نجهل (الحَكِيمُ) فأعمالك كلها تصيب الواقع وحسب مقتضى الحكمة.

33 - وحيث أقروا بعدم علمهم أراد الله أن يبين فضل آدم فہ (قَالَ يَادَمُ أَنْبِتْهُم بِأَسْمَاهِم فَلَمَّا أَنْبَأَهُم) آدم (بِأَسْمَاهِم قَالَ) اللَّه تعالى: ﴿أَلَمْ أَقُل لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ) ما لا تعلمون، والذي لا تعلمونه هو (غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي ما غاب عن إدراككم، (وَ) كذلك (أعْلَمُ) ما حضركم سواء كان من (مَا تُبْدُونَ ﴾ أي تظهرونه (وَ) أعلم (مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) كحسد بعض من اختلط بكم كالشيطان، أو اعتقادكم بأنكم خير خلق الله.

---------------------

بحوث

الأول: يمكن أن يكون إخباره تعالى الملائكة بأنه (جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ) تسلية آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بعد إهباطه إلى الأرض، ليعلم أنه خُلق للأرض، وأن بقاءه في الجنة إنما كانت مرحلة مؤقتة لينتقل بعدها إلى الأرض، أو أن جنته كانت في الأرض نقل عنها بعد أكله الشجرة إلى بقعة أخرى منها

- كما في بعض الروايات(1).

ويمكن أن يكون الإخبار لإثارة حوار مع الملائكة، لكي يعلموا أن آدم أفضل منهم بالدليل المحسوس ،لهم ، فيكون لإظهار الحقائق، أو لإظهار كوامن النفوس أو لتعليم آداب الحوار، ليعلم صاحب القدرة

ص: 77


1- البرهان ،ج 1، ص 337 عن الكافي وعلل الشرائع

والمحق أن الله تعالى مع عظمته وقدرته وكونه الحق سمح بالسؤال وطلب الدليل، فأقام الدليل على أتم وجه ،وأقنعهم مع من فرض الأمر عليهم فرضاً ، قال تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)(1) ، وحتى في يوم القيامة لا يُدخل الله الكفار في النار إلا بعد السماح لهم بالمناقشة والإنكار ، ثم إقامة الحجة الداحضة التي تفحمهم، فحري بنا تعلم ذلك وفتح باب النقاش والحوار ومحاولة إقامة الأدلة المقنعة في كل الأمور والله المستعان.

الثاني: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ) الاستفهام حقيقي لاستيضاح السبب، بعد أن أذن الله تعالى لهم بالسؤال :بقوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، وليس الاستفهام للإنكار ، لأن الملائكة معصومون ويعلمون حكمته تعالى وعلمه وأنه لا يفعل شيئاً عبثاً، فلا يعترضون عليه، قال تعالى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )(2) ، وأما ما ورد من معصية بعض الملائكة وعقوبتهم فهو مجاز بمعنى ترك الأولى، كما في قوله: ﴿وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ)(3) وسيأتي توضيح ترك الأولى، وتفصيل عصمة الملائكة إن شاء الله تعالى.

الثالث: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا) علم الملائكة بأن من البشر من يُفسد ويسفك الدماء، قد يكون بتعليم الله لهم بأن أخبرهم بأن من الناس هذا شأنه فسألوا عن السبب وعن وجه المصلحة، أو على سبيل القياس بالخلق السابق، حيث رأوا الخلق السابق أفسد وسفك الدم، فسألوا هل هذا

ص: 78


1- سورة الأنعام، الآية: 149
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- سورة طه، الآية: 121

مثل ذاك؟ أو أنهم علموا أن الفساد والسفك من طبيعة عناصر التراب التي خلق الإنسان منها، والأول أقرب لما ذكرنا من عصمة الملائكة، فلا معنى للقياس، وكذلك ليس من طبيعة عناصر الأرض ذلك لأن الفساد لا ينشأ من العناصر الترابية في الإنسان وإنما من أمور أخرى كالهوى.

الرابع: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) لعلهم عرفوا أن الغرض من

خلق البشر هو العبادة كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾(1) فسألوا بأنه حيث كان الغرض العبادة فإننا نقوم بها بأتم وجه من دون إفساد وسفك لدماء فلماذا لم تجعلنا الخلفاء؟

(نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) : أي ننزهك عن النقائص عبر حمدنا لك، لأن مَنْ حَمِدَ الله فقد نزهه إذ الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري ومن يختار الجميل فهو منزه عن النقص، ومن لا يختار الجميل فإن ذلك لنقص فيه إما لعدم قدرته أو لخبثه، والله تعالى منزه عن كل ذلك.

(وَنُقَدِّسُ لَكَ) بمعنى نُطهر الأرض من الأدناس لأجلك، وقد ورد من الملائكة - قبل خلق آدم - جاؤوا إلى في بعض الروايات أن قسماً

الأرض وطردوا منها بني الجان الذين كانوا يفسدون فيها(2)

وكلامهم هذا ليس تزكية لأنفسهم، بل لبيان حقيقتهم لتكميل السؤال، كقول العبد لمولاه - وقد أخذ خادماً جديداً : إني اطيعك فلماذا تأتي بغيري؟

الخامس: ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ ) أي لا تعلمون بأن في استخلاف البشر

ص: 79


1- سورة الذاريات الآية: 56 .
2- البرهان ج1، ص313.

مصالح أهم من الفساد الواقع منهم، وأن استخلافهم أهم من استخدامكم أو أن المراد أن هنالك بشر أفضل منكم وقد خلقت الأرض لأجلهم وهم الأنبياء والأئمة عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، أو أن عبادة البشر خير من عبادتكم، أو أنكم لا تعلمون أن بعض من هو مختلط بكم كافر في باطنه كإبليس .

السادس: (الْأَسْمَاء) لعل المراد كل العلوم المختلفة والحوادث التي تقع في المستقبل وقد ورد عن الصادق أنه كان جالساً على بساط فقال:

وهذا البساط مما علمه(1) للإشارة إلى تعليمه كل شيء حتى الأمور الصغار، وقد ذكرت في الروايات مصاديق مختلفة - كلية أو جزئية - للأسماء كالأرضين والجبال والشعاب والأودية، وكذلك الأدوية والنبات والشجر (2)

ولعل وجه تعليمه كل العلوم - سوى إبراز فضله للملائكة - أن النبي يجب أن يكون أفضل أهل زمانه لئلا يلزم تقديم المفضول على الفاضل - القبيح عقلاً ، وكذلك المناسب لعظمته تعالى أن يختار خلفاء كاملين أو لأن الله كما اصطفاهم لإيصال تشريعاته كذلك ربط أمور الكون به- وهذا الربط يحتاج إلى علم كامل بالأمور المختلفة لإدارة شؤونها - بإذن الله تعالى ، كما أنه ربط الإماتة بعزرائيل والإحياء للحشر بإسرافيل وبعض التدبيرات بالمدبرات أمراً .

بهم

السابع: (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي مسميات الأسماء، وإنما جيء بضمير (هم) وهو لذوي العقول، لأن أشرف المسميات هم بعض البشر وكانوا ضمن ما

ص: 80


1- البرهان، ج 1، ص 320.
2- البرهان، ج 1، ص 320.

تم عرضه على الملائكة فتغليباً لجانبهم جيء بهذا الضمير، وفي بعض الروايات أنهم كانوا الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمة عَلَيْهِ السَّلاَمُ.(1)

وإنما عرضهم على الملائكة ليكون أبلغ في الاستدلال، فإذا كانوا

يجهلون ما يرون فما بالك بما غاب عنهم؟

الثامن: (إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ) ذكر في مجمع البيان وجوهاً:

1 - أنه خطر ببالهم أنهم إن كانوا الخليفة لم يحصل في الأرض فساد ولا سفك دم، فأخبرهم تعالى بأنهم لا يعلمون ما حضر فكيف بما غاب.

2 - أنه خطر ببالهم أنهم الأعلم.

3 - بمعنى إن كنت تعلم فأخبر»، لأنه إن كان جاهلاً لا يمكن أن

يَصْدُقُ في خبره(2).

ومرجع هذه الوجوه إلى تفسير الصدق بما طابق الواقع أي أن من

خطر ببالهم ليس مطابقاً للواقع.

التاسع: (سُبْحَنَكَ) أي ننزهك تنزيهاً، ولعل وجه الإتيان به لأجل

تنزيهه عن الاعتراض عليه فيما يقضي وإن كانوا لا يعلمون وجه الحكمة، بمعنى أن الله لما سألهم عن الأسماء مع علمه بأنهم لا يتمكنون من الجواب، علموا أن ذلك لم يكن لأجل غرض غير صحيح، لأنه نقص والله

تعالى منزه عن كل نقص بل كان السؤال لغرض صحيح وهو الإجابة عن

سؤالهم وبيان فضل آدم عليهم، تمهيداً لأمرهم بالسجود له.

ص: 81


1- البرهان، ج 1، ص 314 .
2- مجمع البيان ،ج 1، ص 154/153 بتصرف.

العاشر: ﴿قَالَ يَتَعَادَمُ) في الآية دلالة على شرف العلم، لأنه تعالى لما أراد بيان فضيلة آدم على الملائكة قاس علمهم بعلمه، وجعل المزية له لعلمه بما جهلوا قال تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )(1)

الحادي عشر: (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ) إلى (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ أي أن اللَّه

تعالى يعلم ما غاب عنهم وما شاهدوه سواء أخفوه أم أعلنوه، فالله عالم الغيب والشهادة، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض.

تكملة : قالو: إن العلم :قسمان: حصولي وهو انعكاس صورة الشيء في الذهن كعلمنا بكثير مما لم نشاهده، وحضوري وهو حضور الشيء لدى العالم، كالعلم بالصور الذهنية وعلم النفس بنفسها، ولاستحالة كون علم الله حصولياً للافتقار والحاجة إلى الصور والله غني عن كل شيء، قالوا بأن علم الله حضوري أي أن الأشياء حاضرة لديه.

وهذا الكلام محل تأمل لأن العلم من صفات الذات - وهي عين ذاته ، فعلمه سابق على كل معلوم فكيف يمكن في الأزل قبل الخلق حضور المخلوقات لديه ؟ فلذا اضطر بعض الفلاسفة إلى القول بقدم العالم وأنه معلول الله من الأزل واخترعوا اصطلاح القديم الذاتي والقديم الزماني، وقال بعضهم بأن الله لا يعلم الجزئيات وإنما علمه بالكليات فقط، وقال بعضهم بوعاء الدهر، بمعنى أن ما كان وما يكون وما هو كائن كله موجود في جميع الأزمان المعبر عنه بوعاء الدهر، وكل هذا باطل فإنه ما من شك بأن العالم غير قديم وأنه لم يكن ثمّ أوجده الله تعالى بضرورة الشرع والعقل، كما أنه لا معنى للقديم الزماني لأن المراد

ص: 82


1- سورة الزمر، الآية: 9.

إن كان قدم العالم فهو باطل، وإن كان المراد أنه وجد من حين خلق الزمان فهذا ليس بقديم وإطلاق القديم عليه لا يصح إلا مجازاً وكلامهم ليس على ضرب المجاز ، كما أن علمه يتعلق بالجزئيات كتعلقه بالكليات بضرورة العقل والشرع قال تعالى : لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ ) وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾(1) وإلّا بطل الثواب والعقاب على الأفعال لأنها جزئيات عادة، مضافاً إلى استلزامه قدم الكليات فرجع الإشكال المذكور، كما أن وعاء الدهر أيضاً ،باطل، ضرورة أن ما مضى وقته لحق بالعدم، وما لم يقع ليس بموجود، وإلا اجتمع النقيضان.

وكذلك لا يدفع الاشكال القول : بأن العلم بالعلة هو هو علم بالمعلول، لأن هذا الكلام في الحقيقة هو نفي حضور الأشياء في الأزل لديه.

وعليه فإن علم الله كما أنه ليس حصولياً كذلك ليس حضورياً، بل نحن نعتقد بأنه عالم مع جهلنا بكنه علمه وأنه من أي سنخ ،هو كما أننا نعلم بأنه موجود ولكننا نجهل كنه ذاته والذي يدل على ما ذكرنا أن صفاته الذاتية هي عين ذاته، وللكلام تفصيل ليس هذا موضعه .

الثاني عشر :(الحَكِيمُ) الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، ويلازمها

﴿ العلم الذي يمنع الجهل لأنه لا يمكن وضع الشيء في موضعه إلا بعد العلم به وبموضعه، علماً لا يشوبه جهل، وكذلك يلازم الحكمة الإصابة في الفعل، لأنه في صورة الخطأ لا يقع الشيء في موضعه.

ص: 83


1- سورة سبأ، الآية: 3 .

الآيات 34-39

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ «34» وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ «35» فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ «36» فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «37» قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ «38» وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ «39»)

34 - (وَ) اذكر ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَيكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) تعظيماً له بخضوعكم له ليتبين فضله أكثر ، (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) وكان من الجن مختلطاً مع الملائكة (أَبَى) أي امتنع، (وَاسْتَكْبَرَ) أي رفع نفسه إلى منزلة لا تستحقها، (وَكَانَ) أي صار بفعله هذا (مِنَ الْكَفِرِينَ) .

35 - ﴿وَقُلْنَا يَكَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) من جنان الدنيا، (وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا) أي واسعاً مرفهاً (حَيْثُ شِئْتُمَا) من أي مكان منها (وَلَا نَقْرَبَاءَ) بالأكل وَهَذِهِ الشَّجَرَةَ الحنطة نهياً إرشادياً، لا تحريمياً (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) لأنفسكما لأنكما تحرمان نفسكما من هذه الجنة،

ص: 84

كقول الطبيب: لا تأكل الحامض فتمرض وتحرم نفسك من الأطعمة اللذيذة، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.

36 - (فَأَزَلَهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا) أي حملهما على الزلة والابتعاد عن الجنة بسبب أنه حملهما على الأكل من الشجرة، (فَأَخْرَجَهُمَا) أي كانت نتيجة عمله أن أخرجا (مِمَّا كَانَا فِيهِ) من النعيم أو من الطاعة الله تعالى، (وَقلُنْاَ أهْبِطُوا) أي انتقلوا عن الجنة إلى مكان دونها، والخطاب لآدم وحواء والشيطان (بَعضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فالشيطان عدو لهما، وهما عدوّاه، (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَعُ) أي استمتاع (إِلَى حِينٍ) الأجل أو إلى يوم القيامة.

37 - ولمّا ندم آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ علی ،فعله تداركته رحمة الله (فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَتْ) توجب تلك الكلمات التوبة، وهي أسماء الخمسة أصحاب الكساء (فَتَابَ) الله (عَلَيْهِ) أي قبل توبته لما قال آدم تلك الكلمات (إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) كثير القبول للتوبة (الرَّحِيمُ) كثير الرحم، وقبوله للتوبة من رحمته عباده.

38 - ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا) لعلّ الخطاب لذرية آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث كانوا في صلبه (فَإِما يَأْتِيَنَكُم) أي إذا جاءكم، أصله «إن الشرطية وما التي دخلت لتصحيح لحوق نون التأكيد (مِنِّي هُدًى) عبر الرسل، (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من الأهوال المستقبلية (ولا هُمْ يَحْزَنُونَ ) على ما فاتهم في الماضي.

39 -(وَ) أما من لم يتبع الهدى، وهم (الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله

ص: 85

(وَكَذَّبُوا بِأَيَتِنَا ) كالرسل والكتب (أُولَيْكَ أَصْحَبُ النَّارِ) الملازمون لها (هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ) .

----------------------

بحوث

الأول السجود هو الخضوع بكيفية خاصة، وهي وضع الجبهة على الأرض ونحوها، وهو إذا كان للعبادة فهو خاص بالله تعالى لعدم جواز عبادة غيره مطلقاً، وإذا كان للتعظيم فقد كان جائزاً في بعض الشرائع السابقة كسجود إخوة يوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأبويه له، وكسجود الملائكة لآدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وهو في الحقيقة عبادة الله تعالى لكونه بأمره تعالى، وقد نسخ هذا الحكم في الإسلام ويمكن أن يكون سجودهم لله تعالى ولكن جعل آدم قبلة لهم كما جعلت الكعبة قبلة لنا في صلاتنا .

وقيل بأن سجود الملائكة لم يكن بالكيفية المعهودة، لأن الملائكة مجردات ولا معنى لهذه الكيفية في المجردات لأنها ليست مادية فكان سجودها بمعنى الخضوع بكيفية لا نعلمها .

وهذا الكلام غير صحيح لأن الملائكة أيضاً أجسام مادية لكنها لطيفة، بل لا مجرد سوى الله تعالى، فكل المخلوقات أجسام، ويدل على ذلك ما ورد من أن الله تعالى خلق الماء أولاً ثم خلق منه كل شيء (1) ، مضافاً إلى أن ادعاء أن الملائكة مجردات رجم بالغيب، لم يدل عليه دليل عقلي ولا نقلي .

ص: 86


1- للتفصيل راجع (فقه العقائد) للإمام الشيرازي

الثاني: إبليس لم يكن من الملائكة وإنما كان من الجن لقوله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)(1) وهو وهو كان مأموراً بالسجود لآدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ مع الملائكة قال تعالى : (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)(2)

ومخالفة إبليس نشأت من سوء اختياره لأن الله تعالى لا يريد الشر ولا يفعله ولا يرضاه قال تعالى: ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)(3) ، إذ لا يريد الشر إلا المحتاج أو الخبيث، والله تعالى منزه عن النقائص وهو الغني العدل.

سؤال: فلماذا خلق الله تعالى إبليس مع علمه بما يؤول إليه أمره؟

ولماذا سلطه على الإنسان ليوسوس في صدره ويصدّه عن السبيل؟ الجواب: إن كل ما خلقه الله تعالى خلقه خيراً لا شرَّ فيه، وإنما ينشأ الشر من سوء اختيار الإنس أو الجن والله تعالى خلق كل شيء سواهما لا اختيار له كالحيوانات، أو معصوماً عن المعاصي كالملائكة، ومن عظمته تعالى أن خلق خلقاً مختاراً لم يلجئه إلى ما أراده، وحباه بعقل يميّز به بين الحسن والقبيح، وأرسل له الرسل ليثيروا دفائن العقول ويرشدوه إلى الصواب وغرّز فيه فطرة سليمة، وهذا من أعظم آيات الله تعالى فلذا قال حينما خلق الإنسان: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَلِقِينَ)(4) فالإنسان أفضل من جميع الموجودات - إن عمل حسب إرادة الله تعالى - ولذا خلق تعالى له جميع ما في الأرض، كل هذه الفضيلة إنما هو بسبب أنه موجود مختار وكذلك الجن - وإن كانوا دون البشر - لكنهم أيضاً لاختيارهم كانوا مكلفين

ص: 87


1- سورة الكهف، الآية: 50.
2- سورة الأعراف الآية: 12
3- سورة الزمر، الآية: 7.
4- سورة المؤمنون، الآية: 14.

ومفضّلين على غيرهم، وإبليس من هؤلاء الجن الذي خلقه الله خيراً، لكنه تحوّل إلى شرّ بسوء اختياره.

مضافاً إلى أن عدم استجابة المؤمنين لإبليس مما يزيدهم درجة

ورفعة لم يمكنهم الوصول إليها لولا وسوسته ومقاومتهم لها .

فالإنسان يتكامل وينمو كلما قاوم الوساوس وروّض نفسه (لكن) نفسي أروضها بالتقوى، فلذا ترتفع درجة الإنسان كلما كانت الوساوس أشد والمقاومة أقوى كما في سائر المشاكل التي تعرض على الإنسان إذ :

«والأزمات نوع من حركة الحياة، بل هي الهيكل العظمي للحياة، لأنها تسرع عملية الحياة وتربي قدرة الإنسان على الاحتمال فلها رسالة أعلى من رسالة الرخاء، فتوقع الرخاء الدائم ناتج عن الجهل بطبيعة الحياة والرخاء إذا استمر لفترة فإنه يربي الإنسان الرخو الذي يخترق في أول تجربة ولا يصلح إلا للبطالة واللهو»(1)

سؤال: كيف وقع ما أراده إبليس من المعصية، ولم يقع ما أراده الله من

الطاعة ؟

الجواب: لله تعالى إرادتان : إرادة تكوينية لا يتخلف المراد بل يقع فوراً، قال تعالى: ﴿إِذَا أَرَدْنَهُ أَن نَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)(2)، وارادة تشريعية التي هي أوامره ونواهيه، ولم يجبر أحداً عليها، فإن أطاع العبد وقع ما أراده الله تعالى، وإن عصى لم يقع ، كل ذلك بمشيئته تعالى وإعطاء القدرة للعبد.(3)

ص: 88


1- خواطري عن القرآن، ج 1، ص 13.
2- سورة النحل، الآية: 40.
3- للتفصيل راجع الجزء الثاني من شرح أصول الكافي - للمؤلف

الثالث: ﴿وَاسْتَكْبَر)َ الاستكبار هو رفع النفس إلى منزلة لا تستحقها،

ويلازم هذا الم- هذا المعنى الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه، والاستكبار عن أحكام الله هو أساس سائر المعاصي، فإن ارتكاب المعاصي إنما ينشأ بسبب استصغارها ورؤية الإنسان نفسه فوق النهي، وكذلك في ترك الواجبات.

الرابع: (وَكَانَ مِنَ الكَفِرِينَ) كان بمعنى صار، أي وصار باستكباره من

الكافرين كقوله : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾(1)أي صرتم، أو بمعنى أنه كان من الكافرين قبل الأمر ولكن ظهر كفره حينما عصى أمر السجود، أو هو التفات وليس حكاية مثل من يحكي قصة ثم يقطعها بتوجيه خطاب إلى السامعين.

الخامس (الجَنَّةَ) هذه الجنة ليست جنة الآخرة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة، لأن تلك الجنة يخلد فيها من دخلها لقوله تعالى : (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(2) بل هي بل هي جنة من جنات الدنيا كما ورد عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (3) والظاهر أنها كانت في نفس هذه الأرض.

(3)

السادس: (حَيْثُ شِئْتُمَا) فكل شيء في هذه الجنة ومن أي مكان منها كان مباحاً، وإنما ذكر هذا المقطع حتى يكون أتمّ للحجة من منع الشجرة المنهيّة، فإن من أحِلَّ له كل شيء - وهي من الكثرة ما لا تحصى - وُمِنَع عن شيء واحد فإن خالف فقد انقطع عذره .

السابع: (وَلَا تَقْرَبَاً هَذِهِ الشَّجَرَةُ ) لم يكن الأكل من الشجرة حراماً لأن الأنبياء ،معصومون لا يرتكبون المحرمات - كبائرها وصغائرها -، ولا

ص: 89


1- سورة آل عمران الآية: 110.
2- سورة البقرة، الآية: 82.
3- البرهان ،ج 1، ص 337 عن الكافي وعلل الشرائع.

مكروهاً لأن المكروه قبيح - وإن لم يكن بحدِّ الحرمة - والأنبياء لا يفعلون القبيح.

بل كان النهي إرشادياً، كنهي الطبيب عن أكل الحامض لأنه يوجب

تشديد المرض مثلاً وليس نهيه للتحريم أو الكراهة، فالأكل من تلك الشجرة كان أثره الخروج من الجنّة فأرشد الله تعالى آدم لذلك .

وقيل : كان الأولى لآدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ الامتناع عن الأكل، لأن مقام النبوة يستدعي ترك بعض المحللات، فإن الأعمال تُقاس بفاعلها، فرُبّ فعل حسن من شخص لا يحبذ من آخر - وإن لم يكن محرماً ولا مكروهاً عليه - وهذا يُعبّر عنه بترك الأولى، وسمعت الوالد رحمه الله تعالى يستشكل على هذا الكلام وينزّه الأنبياء عَلَيْهِ السَّلاَمُ حتى عن ترك الأولى.

أما القول : بأنه كان قبل النبوة وتجويز المعصية الصغيرة على الأنبياء قبل النبوة !! فكلام باطل، لدلالة الدليل على عصمة الأنبياء مطلقاً - قبل النبوة وبعدها .

وكذلك القول : بأنه كان قبل التكليف !! فإنه تناقض إذ كيف ينهى عن

أكل الشجرة وهو غير مكلف؟

وكذلك القول : بأن النهي كان للامتحان فإن معنى ذلك أن آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ تجرأ على الحرام !! أي فعل ما توهمه حراماً !! ، والعصمة ملكة تمنع عن ارتكاب الحرام حتى إذا كان متوهماً - إن فرض إمكان ذلك في حق

الأنبياء -.

الثامن: (فَأَخْرَجَهُمَا) ، أي كانت نتيجة عمل إبليس أن اخرج الله تعالى

آدم وحواء من الجنة.

ص: 90

قيل : وهذا الإخراج لم يكن على وجه العقوبة، لأن الأنبياء لا تجوز عليهم القبائح، وإنما تغيرت المصلحة بتناول الشجرة، لأن الجنة كانت على سبيل التفضل فله تعالى المنع عنها تشديداً للامتحان، كما له أن

يفقر بعد غناء .

التاسع (كَلِمَتُ) الكلمات التي تلقاها آدم من الله تعالى هي سأله بحق محمد وعلي والحسن والحسين وفاطمة صلى الله عليهم كما في

الكافي(1).

وفي رواية أخرى عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ «سأله بحق محمد وعلي وفاطمة

والحسن والحسين إلّا تبت عليَّ، فتاب الله عليه»(2).

وفي رواية أخرى أنه قال: (لا إله إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين، لا إله إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم ).(3)

وروي غير ذلك، ولا منافاة بينها إذ لعل الكلمات كانت كل ذلك .

العاشر: (قُلْنَا) استعمال ضمير الجمع: إما للتعظيم لأن القائل الله وهو

أهل الكبرياء والعظمة.

ويمكن أن يقال إن الأفعال التي يفعلها الله بالواسطة استعملت في

ص: 91


1- الكافي ج 8، ص 305 عنه البرهان ج 1 ، ص 354 .
2- معاني الأخبار 125 عنه البرهان ج 1، ص 356.
3- الكافي ج 8 ص 304 ، عنه البرهان ج 1 ص 353.

القرآن الكريم بضمير الجمع، لأن الأمر من الله تعالى والتنفيذ من غيره، فصح نسبة الفعل إلى الله وإلى غيره مثل (إنَّا أَنزَلْنَهُ)(1) حيث كان المنفذ للأمر الملائكة، وأما إذا كان الفعل من دون واسطة فقد يؤتى بضمير المفرد مثل(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)(2) ومثله فيما يختص بالله تعالى مثل (إنّی أَنَا اللَّهُ)(3). ويجوز فيه ضمير الجمع تعظيماً.

الحادي عشر : (اهْبِطُوا) الأمر الأوّل لآدم وحواء والشيطان ويصح أن يقال إنه كان لآدم وحواء لجواز استعمال ضمير الجمع في الاثنين، وأما الأمر الثاني في (اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا) لعلّ الخطاب الذرية آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لقوله بعد ذلك . (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ) وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا)، وهذا التقسيم إنما يصح في ذرية آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

ويحتمل أن يكون الخطاب لآدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وحواء بعد قبول التوبة، حيث

بين تعالى أن قبول التوبة لا يلازم الرجوع إلى الجنة والأول أظهر .

الثاني عشر: (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) «الخوف» عن مكروه مستقبلي، و«الحزن» هو الهّم الشديد على ما فات في الماضي، وواضح أن المؤمن في القيامة يدخل الجنة فلا يخاف من الأهوال ولا يحزن على المشاكل التي تعرَّض لها في الدنيا، وكذلك المؤمن في الدنيا لا (خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) ، إذ الخوف الكامل إنما يكون عن مكروه لا يُعوّض والمكروه الذي يُصيب المؤمن في الدنيا يُعوّض، والمخاوف التي يراها المؤمن في الدنيا ليست مخاوف بالنسبة إلى ما يراه الكفار من العذاب .

ص: 92


1- سورة القدر، الآية: 1.
2- سورة البقرة، الآية: 186.
3- سورة القصص الآية: 30.

الثالث عشر: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) الكفر إن كان عن قصور لا يوجب

الدخول في النار، بل ورد في بعض الروايات أن الكفار القاصرين والمجانين من أبناء الكفار، وكذلك الصغار من أبنائهم، يمتحنون يوم القيامة، وأما إذا كان كفراً عن عناد، فذلك الذي يوجب الخلود في النار فلذا قال تعالى: ﴿كَفَرُوا وَكَذَّبُوا ).

الرابع عشر: لما كان الكلام من أول السورة حول تقسيم الناس إلى مؤمنين وغير مؤمنين وذكر أحوال كل صنف ثم الاحتجاج على الكفار ، ثم وصلنا إلى هذا المقطع الذي فيه بيان أوّل كفر بعد خلق الإنسان وأسبابه ودوافعه والتحذير منه، ختم الله تعالى المقطع، بذكر أصل التقسيم وما يترتب عليه من عقاب الكفار ونعيم المؤمنين

ص: 93

ص: 94

ص: 95

ص: 96

الآيات 40-46

(فصل) بنو إسرائيل نموذج آخر للمؤمنين والكفار

بعد الاحتجاج على الكفار بذكر خلق آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وما اكتنفه من أحداث ذكر الله تعالى مثالاً لأمة عرضها الكفر والإيمان، إذ بني إسرائيل حضارة كاملة نموذج للجنس البشري، حيث اجتمعت فيهم مختلف حالات الأمم ، إذ كانوا مضطهدين ثم أصبحوا ملوكاً، وكان فيهم الأنبياء والعلماء والأثرياء والمستكبرين وعبدة الطاغوت والمخالفين لأوامر الله تعالى والمسوخ وغير ذلك .

وفي هذه الآيات تذكر جذور الإيمان والكفر وعلائم المؤمنين

والكفار ونحو ذلك قال تعالى :

(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «40» وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ «41» وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «42» وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ «43» أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ «44» وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ «45» الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ «46»

ص: 97

40 - (يبَنِي إِسْرَاءِيلَ) أي عبد الله وهو يعقوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ (أَذْکُرُواْ) بالشكر والتعظيم والإطاعة (نِعمَتیَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) كل النعم، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِى) الذي أودعته في فطرتكم من الإيمان، أو ما أخذته من أسلافكم، ومنه الإيمان بمحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وهو حسن الثواب في الدنيا والآخرة، (وَإِيَّيَ فَأَرْهَبُونِ) فلا تخافوا من غير الله إذا وفيتم بالعهد.

41 - ﴿وَءَامِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ) وهو القرآن (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُم) إذ التوراة قد ذكرت النبيئ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والقرآن، فتم تصديقها بظهور النبي (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرِ بِهِ) أي بما أنزلت لأنهم كانوا مرجعاً للجهل فكفرهم يسبق كفر الجهال الذين يتبعونهم، (وَلَا تَشْتَرُوا) أي لا تستبدلوا (بِابْتِي ثَمَناً قَلِيلاً) وهي المصالح الدنيوية الزائلة، ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) فلا تحذروا وتتقوا غير الله لأن الله بيده النفع والضر.

42 - ﴿وَلَا تَلْبِسُوا) أي لا تخلطوا (الحَقِّ بِالْبَطِل) فتُلبسوا الباطل لباس ،الحق، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ كأوصاف الرسول محمد، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) بأن فعلكم هو باطل وأن الحق مع محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

43 - ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَوَةَ) لأنها تنهى عن المنكر وقد توجب هدايتكم (وَءَاتُوا الزَّكَوةَ) حتى يسهل عليكم الابتعاد عن المصالح الدنيوية، (وارْكَعُوا مَعَ الرَّكِعِينَ) لأنّ الجو العام يؤثر في الإنسان سواء في الخير أم الشر.

44 - (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) أي أعمال الخير، والاستفهام للإنكار

ص: 98

والتوبيخ، (وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) أي تتركون أنفسكم من البر كأنكم نسيتموها، (وَأَنتُمْ) لستم جهال بل (تَتْلُونَ الْكِتَب) فاللازم أن تكونوا أول العاملين به (أَفَلَا نَعْقِلُونَ) أنَّ عملكم هذا غير صحيح.

45 - ﴿وَ) إذا أردتم الإيمان بالرسول محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ - الذي قد يؤدي إلى فقدانكم بعض المنافع ووقوعكم في مصاعب - (فاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) لأنه الطريق إلى التقدم وتجاوز الصعاب، (وَالصَّلوة) لأنها توجب إقبال الله عليكم واطمئنان نفوسكم، (وَإِنَّهَا) أي الاستعانة بالصبر والصلاة لَكَبِيرَةُ ) أي شاقة وثقيلة (إلَّا عَلَى الْخَشِعِينَ) الذين يقبلون بقلوبهم إلى الله ويتذللون له.

46 - وهؤلاء الخاشعون هم (الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ أي يوقنون ﴿أَنَهُم مُلَقُواْ رَبِهِمْ) أي ملاقو حسابه (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ) أي إلى ثوابه (رَاجِعُونَ).

-------------------------

بحوث

الأول: (أذْكُرُوا نِعْمَتِي) أي اشكروا النِّعمة ولا تستهينوا بها، بل عظموها وأطيعوا الله الذي حباكم بها، والمقصود بالنّعمة هو كل النّعم لعدم ذكر المتعلّق، ومنها ما سيأتي في الآيات اللاحقة.

وتلك النّعم قسمان : قسم على أسلافهم كجعل الأنبياء فيهم وجعلهم ملوكاً - بعد أن كانوا عبيداً ، وقسم منها عليهم، كإدراكهم للرسول محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، ومن المعلوم أن النّعم على الآباء تعم حتى الأبناء - وعلى أقل تقدير الفخر بها -.

ص: 99

الثاني: (الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ليس تكراراً ، لأن كل النّعم من الله تعالى لكن قد تكون بعض النّعم بالواسطة - كالتصدق على الفقير - فيخفى على البعض أنها نعمة من الله عزَّ وجلَّ فينسبونها إلى غيره، ولكن نعم الله تعالى على بني إسرائيل كانت واضحة أنها من الله تعالى، لأنها لم تكن بواسطة - عادة - وهذا ما يستدعي شكر تلك النّعمة بدون أي التباس، كإنجائهم من آل فرعون، وقبول توبتهم بعد عبادتهم العجل، وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك.

الثالث: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِى) كل العهود، لأن حذف المتعلّق يفيد العموم، ومن أهم تلك العهود الإيمان بالرسول محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)(1). وقال سبحانه: ﴿النَّبِيَّ ألْأُمِيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ، مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَاَلْإنِجيلِ)(2) وقد ذكر القرآن الكريم العهود المختلفة التي أخذت منهم كما سيأتي - إن شاء الله - في الآيتين 83 و 84 من هذه السورة.

الرابع: (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي الوعود التي وعدها الله لهم إذا التزموا بعهودهم، ومنها ما ورد في قوله تعالى: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ)(3)، لكن أكثرهم نبذوا عهد الله وراء ظهورهم فاستحقوا الذلة في الدنيا وعذاب الخزي في الآخرة، قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثٰقَهُمْ لَعَنَّهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَةً )(4) و قال سبحانه: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلَهُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاهُو بِغَضَبٍ مِنَ اَللَّهِ)(5)

ص: 100


1- سورة آل عمران الآية: 187 .
2- سورة الأعراف الآية: 157
3- سورة المائدة، الآية: 12
4- سورة المائدة الآية: 13
5- سورة البقرة، الآية: 61.

الخامس: ﴿وَإِتَنىَ فَأَرْهَبُونِ) تقديم المفعول يفيد الحصر، أي ارهبوني ولا ترهبوا غيري، وهو تسكين لمن أراد الإيمان منهم، وتحذير لمن لم

يرده، حتى لا يعتذر لتركه العهود - ومنها الإيمان بالرسول محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بأنه يخاف الناس، فيأتيه الجواب بأن الله أحق أن تخشاه وترهبه، لأن الخوف من الناس إنما هو لإبعاد ضرر دنيوي منهم، وأما الخوف من الله فإنه يبعد الضرر الدنيوي ،والأخروي وكلنا يعلم ما حلّ باليهود الذين خالفوا النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فقد قتل بعضهم وأسر البعض واغتنمت أملاكهم وأراضيهم فخسروا الدنيا، فلو كانوا يؤمنون فبالإضافة إلى حفظ ما عندهم كانوا يحصلون على مغانم كثيرة أخرى، هذا فضلاً عن خسرانهم الآخرة وذلك هو الخسران المبين.

السادس: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) أي القرآن يصدق التوراة، فإن التوراة ذكرت أن محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ سيبعث، وذكرت أوصافه، فكانت بعثته تصديقاً لهذا الخبر، وليس المراد أن القرآن يصدق كل ما في التوراة التي هي بأيدينا لوضوح التحريف والحذف والزيادة فيها، قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ الله)(1) أو المراد أن القرآن يصدق التوراة الأصلية غير المحرفة.

السابع: (أَوَّلَ كَافِي بهِ) لعل المراد أنه كان ينبغي أن تكونوا أول المؤمنين بالقرآن وبالرسول محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، لعلكم ببشارة التوراة، ولانتظاركم بعثته بشوق قال تعالى: ﴿وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)(2) ، فلا تكونوا أول كافر به فيكون من باب المقابلة، لا الأول مطلقاً

ص: 101


1- سورة البقرة، الآية: 79
2- سورة البقرة، الآية: 89

فإن مشركي مكة كانوا أول الكافرين قبل اليهود، أو لأن العالم مرجع الجهال فيكون كفره أولاً وكفر الجاهل ثانياً لأنه تابع، أو لا تكونوا أول كافر من أهل الكتاب، ولعل الأول أفصح.

الثامن (ثَمَنًا قَلِيلاً) هي الرئاسة الزائلة، لأن كل المصالح الدنيوية إنما هي ثمن قليل لزوالها، ولتعرض المشتري للعذاب الدائم الذي ليس فوقه عذاب، وروي عن الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال : «كان حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وآخرون من اليهود لهم مأكلة على اليهود في كل سنة فكرهوا بطلانها بأمر النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فحرفوا لذلك آيات التوراة»(1) ولعل هذه المأكلة من مصاديق المصالح الدنيوية التي كان يخشون زوالها لو آمنوا .

التاسع: ﴿وَإِلَى فَاتَّقُونِ) التقوى من الوقاية، وهي حفظ النفس من الشهوات ونحوها، فيكون معنى الآية لا تغرنكم الدنيا والثمن القليل، بل احفظوا أنفسكم من عذاب الله الذي سيصيبكم لو اتبعتم الشهوات والمصالح الدنيوية، قال تعالى: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾(2) أي احفظوها من النار فيكون معنى (اتَّقُوا اللهَ )(3) احفظوا أنفسكم من عذابه وعقابه.

العاشر: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ) اللبس - بفتح اللام - هو التعمية كأنه ألبس الباطل لباس الحق ، وهذا ديدن أهل الضلال لأن الباطل الصريح لا يقبله أحد إلّا إذا خدعوا السذج والجهال بإظهاره بمظهر الحق، ومن أعمالهم كتابة أمور باطلة بأيديهم وزيادتها في التوراة حتى يظن الناس أنها حق من كلام الله تعالى وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «إنما بدء

ص: 102


1- مجمع البيان، ج 1، ص 168.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- سورة الأحزاب الآية: 70.

وقوع الفتن أهواء تُتَّبع، وأحكام تُبتدع، يُخالف فيها كتاب الله، ويتولى رجال رجالاً، على غير دين الله ، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، لكن يُؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضعت فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى»(1)

الحادي عشر: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) الفرق بينه وبين (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَطِل)، هو أن كتمان الحق إخفاءه حتى لا يظهر، ولبس الحق بالباطل هو إظهار الباطل على أنه حق، فينهاهم الله عن الأمرين.

وإن كان بينهما تلازم - عادة ..

الثاني عشر: ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ العالم الذي يكتم الحق ويظهر الباطل لا عذر له، وأما الجاهل فقد يُعذر إذا كان قاصراً بمعنى عدم تمكنه من الوصول إلى الحق قال تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةٌ وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا)(2) ، وأما الجاهل المقصّر الذي كان يمكنه أن يتعلم لكنه تهاون في ذلك فإنه والعالم غير العامل سواء، وقد ورد أنه يقال له : «هلا تعلمت»(3) .

الثالث عشر : ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَوةُ ) هذه أُمور ثلاثة توجب هداية الإنسان وابتعاده عن المصالح الدنيوية، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ومن لبس الحق بالباطل وكتمان الحق ﴿وَءَاتُوا الزَّكَوة)َ والزكاة تروّض النفس

ص: 103


1- نهج البلاغة الخطبة 50.
2- سورة النساء الآية: 98
3- الوسائل: ج 5 ، ص 371 .

على ترك التعلّق بالمال الزائل فإن من لا يمتنع عن دفعها يمتنع عن أكل المال بالباطل - عادة - فلا يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، وحيث إن الجو العام يؤثر في الإنسان فإن كان صالحاً رغبه إلى الصلاح فأمرهم الله تعالى بالاشتراك في صلوات الجماعة فقال (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) .

الرابع عشر (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِمِينَ ) قيل: إن صلاة اليهود لا ركوع فيها فيكون هذا الفصل ترغيباً لهم إلى الإسلام وإلى العبادة على الكيفية الإسلامية.

ويستفاد منه رجحان صلاة الجماعة عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ : «من صلى الخمس في جماعة فظنوا به خيراً»(1).

الخامس عشر : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) ، قيل : إن رؤساءهم كانوا يقولون لمن أسلم من أقربائهم أن اثبتوا على ما أنتم عليه، ولا يؤمنون هم(2) حفاظاً على منافعهم فقال لهم الله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِر) وهو الثبات على الإسلام، (وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) أي لا تسلمون، (وَأَنتُمْ نَتْلُونَ الْكِتَبَ) فتجدون اسم النبي وأوصافه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.(3).

وهذا بعيد لأنهم كانوا يحاربون الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بمختلف الوسائل والسبل، ومن المستبعد أن يدعوا أقرباءهم إلى البقاء على الإسلام ودراسة حالاتهم ونفسياتهم وملاحظة الآيات الواردة في شأنهم تدل على مرضهم النفسي ومحاولتهم للتخريب على الإسلام بمختلف الوسائل والسبل .

ص: 104


1- الوسائل ج 5 ، ص 371 .
2- مجمع البيان، ج 1، ص192.
3- المصدر النفسه

وقيل : كانوا يأمرون العرب بالإيمان بمحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إذا بُعث، فلما بُعث كفروا به.

وهذا أيضاً بعيد، لأنهم كانوا ينتظرون بعثة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وكانوا يمنون أنفسهم بأنه منهم، أنه ينصرهم فيكون الفتح لهم على العرب قال تعالى : (وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾(1) أي يطلبون الفتح بالرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

والأقرب أن المراد أمراً عاماً ، فإنهم كانوا يتلون التوراة على الناس ويصفون أعمال الخير والبر إلى العوام، لكنهم كانوا لا يعملون بذلك، فكانوا يكذبون ويأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ويكتنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، إذ سياق الآيات هو أمرهم بالفضائل التي كانوا يتركونها، ونهيهم عن الرذائل التي كانوا يقترفونها ومنها أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم .

السادس عشر: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةُ) أي إذا تركتم باطلكم فقد تصابون ببعض المشاكل، وهذا أمر طبيعي لكل من يغيّر دينه فإن نمط حياته تتغير، فقد يفقد بعض المكاسب، وقد يحاربه أقرباءه وأصدقاءه، فيقول تعالى ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) لأن الصبر مفتاح الفرج، يعود بالنفع على الصابر، إذ الدنيا لا تخلو من المشاكل والإنسان بين أمرين: إما أن تحطمه تلك المشاكل ، وإما أن يحطمها هو، والصبر هو الطريق الأمثل للتغلب عليها، وكذلك استعينوا بالصلاة لأن الصلاة الارتباط بين الله تعالى وبين العبد فتوجب اطمئنان القلب، حيث إن المصلي يعلم بأنه ارتبط بركن شديد التي كلّ الأمور بيده.

ص: 105


1- سورة البقرة، الآية: 89

وروي أنّ الصبر هو الصوم(1) ولعله ذكر مصداق للصبر، إذ في الصوم منع الإنسان نفسه من الشهوات والملذات، فتُروّض النفس على الصعاب ويتعلّم الصبر في مختلف الأمور.

وعن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كان عَلَيْهِ السَّلاَمُ إذا أهاله شيء فزع إلى الصلاة ثم تلا

هذه الآية: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةُ)(2)

السابع عشر: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ ) أي شاقة وثقيلة، والضمير راجع إلى الاستعانة أي إن الاستعانة بالصبر والصلاة ثقيلة إلّا على الخاشعين والاستعانة وإن لم تكن مذكورة، إلا أنها تعرف بدلالة الكلام في قوله :تعالى ﴿وَاسْتَعِينُوا) كما في قوله تعالى: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ)(3) الضمير راجع إلى الميت وهو غير مذكور في الكلام السابق إلّا أنه مستفاد من سياق الكلام حيث إنه حول الإرث (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ )(4) ... الخ.

(3)

وكون الصلاة شاقة وثقيلة على غير الخاشعين، لأنها وإن لم تستغرق وقتاً، إلّا أنّ لزوم أدائها في مختلف الأوقات وبشكل منظم وخاصة في أوقات يرغب الإنسان في النوم كصلاة الصبح أو انشغاله بأعمال أخرى كالظهرين والعشاءين، إضافة إلى وساوس الشيطان وصرفه الإنسان عنها ، كل ذلك وغيره يجعل الصلاة ثقيلة صعبة على الإنسان إلا الخاشعين.

الثامن عشر : (الخَشِعِينَ)، الخشوع هو التذلل في القلب ويظهر ذلك

ص: 106


1- البرهان، ج 1، ص 377 عن الكافي.
2- المصدر عن الكافي
3- سورة المائدة الآية: 11
4- سورة المائدة الآية: 11

على الصوت والطرف قال تعالى: ﴿خَشِعَةٌ أَبْصَرُهُ)(1) وقال سبحانه:

(وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ)(2) وروي عن الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «الخاشع الذليل في صلاته المقبل عليها »(3) ، وأما الخضوع فهو اللين والانقياد، فهو من فعل الجوارح قال تعالى: ﴿فَلَا تَخَضَعْنَ بِالْقَولِ)(4) أي لا يلينه، فالخاشعون لا تثقل عليهم الصلاة لعلمهم بعظمة الله وأنهم يرجعون إليه للحساب فيثابون على هذه الصلاة فهم راغبون إليها كل رغبة فمثلهم كمثل العامل الذي يعلم بأنه لو أتمَّ علمه يُعطى أجره مضاعفاً فإنه يكون نشطاً راغباً إلى العمل حتى لو كان شاقاً.

التاسع عشر : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) أي يوقنون، بمعنى يعلمون بأنهم يلاقون حساب الله تعالى فيوفيهم أجورهم ويحلهم دار الأمن بعد خوفهم، فلذا تحصل لهم حالة الذلة والخشوع الله تعالى.

والتعبير بالظن للمبالغة لأن أدنى مراتب الرجحان يوجب الخشوع فحتى من يظن بأن الصلاة - وهو عمل لا يستغرق وقتاً طويلاً - لها هذا الأجر جر العظيم فإنه يحصل له الخشوع فكيف بمن هو موقن ؟

العشرون: (مُلَقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ أي يلاقون حسابه ويرجعون إلى ثوابه والجميع - مؤمناً كان أم كافراً - يلاقي حساب الله تعالى ولذا قال تعالى عن المنافقين: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً في قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)(5)، ثم بعد

ص: 107


1- سورة القلم، الآية: 43.
2- سورة طه، الآية: 108.
3- البرهان، ج 1، ص378.
4- سورة الأحزاب الآية: 32.
5- سورة التوبة، الآية: 77

الحساب يكون الرجوع إلى ثواب الله أو عقابه قال تعالى: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)(1).

وليس في الآية دلالة على إمكان رؤية الله تعالى، لأن اللقاء ليس الرؤية ، إذ لو لم يره - كما لو كان أعمى - لكن تكلم معه فيقال: «لقيه»، وإذا رآه من بعيد ولم يتكلم معه لا يقال «القيه»، ولأن القائلين بالرؤية يقولون باختصاصها بالمؤمنين مع أن لقاء الله يشمل المنافقين كما في الآية السابقة (فَاعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)(2)، مضافاً إلى استحالة رؤية الله تعالى لأن الرؤية إنما هي اصطدام النور بالجسم ورجوعه إلى البصر فتحتاج إلى كون الشيء جسماً وأن يكون في مكان خاص مقابل الرائي والله تعالى ليس بجسم وهو غير محدود بمكان أو مقدار فكيف يمكن رؤيته؟ مضافاً إلى قوله تعالى : (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ)(3) وقوله سبحانه: ﴿قَالَ لَن تَرانِي) (4) وسيأتي تفصيل ذلك - إن شاء الله - بعد قليل في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)(5).

ص: 108


1- سورة البقرة، الآية: 156.
2- سورة التوبة، الآية: 77
3- سورة الأنعام، الآية: 103
4- سورة الأعراف الآية: 143
5- سورة البقرة، الآية: 55.

ص: 109

ص: 110

الآيتان 47-48

الأمر الأول: نعمة قيادة الأمم

لما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة الواجبات والمحرمات على بني إسرائيل، ذكر في الآيات التالية النعم التي أنعمها عليهم بالتفصيل حتى يكون أدعى لالتزامهم بالشرع فقال سبحانه :

(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ «47» وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ «48» ).

47 - (يبَنِي إِسْرَائِيلَ أَذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وهذا تمهيد للنعم التي ستذكر تباعاً، (وَ) أولى النعم وأهمها ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ) في زمان أنبيائكم كموسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فإن كل مؤمن في زمان نبيه أفضل من سائر العالمين.

48 - فراعوا هذه النعمة أحسن مراعاة ، ولا تعوّلوا على الأماني بأنكم في مأمن من العذاب ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا)، وهو يوم القيامة (لّاَ تَجْزِى) أي لا تقضي ولا تؤدي (نَفْسٌ عَن نَّفْسِ شَيْئًا) من الحقوق، فكل نفس بما كسبت رهينة (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا) أي من النفس ﴿شَفَعَةٌ) فإن

111

ص: 111

الشفاعة ليست اعتباطاً وإنما لها شروط خاصة، ﴿وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) أي فدية تعدله ﴿وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) بأن ينصرهم أحد من الله وعذابه.

----------------------

بحوث

الأول: (يبني إِسْراءِيلَ) ذكر هذا المقطع مع أنه سبق في الآية 40 ، لأن الأول كان تمهيداً لأمرهم ونهيهم، وهذا تمهيد لذكر النعم التي عليهم بالتفصيل وبيان نقاط قوتهم وضعفهم ، وقيل الأول للنعم عليهم والثاني للنعم على آبائهم، ويحتمل أن يكون للتأكيد فإن النّعم هي الأصل فيما يجب شكره فاحتيج إلى تأكيدها.

الثاني: (فَضَلْتُكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ ) هذه أولى النعم وأهمها وهي نعمة القيادة الروحية العالميّة، فإن الله اختارهم ليكونوا قادة العالم وارتضى أن يكونوا حملة دينه فبعث فيهم الأنبياء تترى، وهذا التفضيل خاص بالعالمين في زمان أنبيائهم .

ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِسْمَعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) (1) فإنه من الواضح أن التفضيل الشمولي لكل العالمين من الأولين والآخرين ينحصر في شخص واحد إذ لا يمكن أن يكون الأفضل إلّا شخص واحد، فدلّ ذلك على أن التفضيل إنما هو في زمانهم.

ثم إن التصدير بذكر النعم وميزات وفضائل المستمع، يكون له تأثير

نفسي بليغ في تأثير الموعظة التي تلحقها .

ص: 112


1- سورة الأنعام، الآية: 86.

الثالث: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا)... فإن اليهود كانوا يزعمون بأنهم شعب الله المختار فلا يعذبون فردعهم الله تعالى وحذرهم يوم الجزاء، فلا يمكن الفرار من عقوبة الله تعالى مهما فعلوا ولا يجري هنالك ما يجري في الدنيا من درء العقاب فإن الناس يدرؤون العقاب بأحد أمور أربعة عادة

1 - أن يؤدي شخص آخر الحقوق عن الإنسان.

2 - الشفاعة بأن يشفع أصحاب النفوذ، فلا يصدر الحكم ضد المجرم.

3 - أن يحكم عليه بدفع الفدية فيدفعها ويتخلص من سائر العقوبات.

4 - أن ينقذه أصحاب القوة من العقوبة.

وكل هذه الأمور يستحيل التعويل عليها لدرء عذاب الآخرة فهنالك :

1 - (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةُ )(1) وكل إنسان في فكر نفسه (يَوْمَ يَفِرُّ المَرءُ مِنْ أَخِيهِ«34» وَأَمِهِ، وَأَبِيهِ«35» وَصَحِيهِ وَبِيهِ)(2).

2 - لا شفاعة إلا لمن ارتضاه الله (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(3)

3 - ولا فدية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَا تُقُتِلَ مِنْهُمْ وَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).(4)

ص: 113


1- سورة المدثر الآية: 38.
2- سورة عبس، الآيات: 34 - 36 .
3- سورة الأنبياء، الآية: 28
4- سورة المائدة، الآية: 36 .

4 - ولا قوة فوق قوة الله عزّ وجل (لا يُنصَرُونَ)...

الرابع: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ) ..

الشفاعة طلب بعض الأولياء من الله عزّ وجل غفران ذنوب بعض العصاة أو رفع درجات بعض المؤمنين .

وطريقة القرآن الكريم هي إثبات الكمال الله تعالى وسلبه عن غيره ثم إثبات بعض الكمال لغيره بإذنه تعالى ليتبين أن ما لغيره من الكمال ليس بشكل استقلالي، وإنما هو بأمر الله ،وإذنه لكي لا يتوهم الناس أن غيره من الأولياء يشاركونه في الأمر.

مثلاً علم الغيب منحصر بالله تعالى ولكن قد يُطلع الله على غيبه من يشاء قال تعالى : (لَا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ)(1) وقال سبحانه: ﴿فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً«26» إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) (2)، ومثال آخر : الخلق، قال تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خٰلِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)(3) (خَلِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(4) وقال سبحانه عن لسان عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (أَنِّي أَخَلُقُ لَكُم مِّنَ الطِينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ)(5).

وهكذا في الشفاعة فإن الشفاعة خاصة بالله تعالى، وقد يأذن سبحانه لبعض الأولياء بالشفاعة ضمن ضوابط خاصة، والآيات تبين ذلك وهي على أصناف:

ص: 114


1- سورة النمل، الآية: 56
2- سورة الجن الآيتان 26 - 27 .
3- سورة فاطر، الآية: 3.
4- سورة الرعد، الآية: 16 .
5- سورة آل عمران الآية: 49

1 - إثباتها الله فقط قال سبحانه: (لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعُ)(1) (وقُل للَّهِ الشَّفَعَةُ جَمِيعًا)(2) (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ. مِن وَلِيْ وَلَا شَفِيعٍ )(3)

2 - إن الله يأذن لأوليائه بالشفاعة قال تعالى: ﴿وَمَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ)(4) (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)(5)

3- لا يشفع من لم يرتضه الله ، قال عز من قائل: ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَونَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنبِئونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)(6) (و وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )(7)

4- الشفاعة لها ضوابط، قال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَن أرْتَضی)(8) (لآ يَمْلِكُونَ الشَّفَعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)(9) (مَا سلكَكُمْ فِي سَقَرَ«42» قَالُوا لَوْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ«43» وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ «44» وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ«45» وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِیومِ أَلْدِينِ«46» حَتَّی أَتَنَا الْيَقِينُ «47» فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)(10)

5 - الشفاعة لا تنال بعض الناس قال سبحانه: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا

ص: 115


1- سورة الأنعام، الآية: 51
2- سورة الزمر، الآية: 44 .
3- سورة السجدة، الآية: 4.
4- سورة البقرة الآية: 255.
5- سورة طه، الآية: 109
6- سورة يونس الآية: 18
7- سورة الزخرف، الآية: 86
8- سورة الأنبياء، الآية: 28
9- سورة مريم، الآية: 87
10- سورة المدثر الآيات: 45 - 48 .

شَفَاعَةٌ )(1) ﴿ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَةٌ وَلَا شَفَعَةٌ ) (2) ﴿وَمَا مِن شَفِيعِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)(3)

يستفاد من ذلك كلّه أن الشفاعة حقيقة ثابتة، وهي مثل كل كمال خاصة بالله تعالى وقد يأذن الله تعالى لمن يشاء بالشفاعة، ولا يشاء الله تعالى الشفاعة إلا لمن استحقها فليست اعتباطاً .

وبعض هذه الشروط - التي وردت في الآيات السابقة - هي :

أ - أن يرضى الله عن المذنب والله لا يرضى عنه إلّا إذا تاب أو عمل صالحاً

ب - أن يكون له عهد عند الله، ولعل هذا العهد هو الإيمان والعمل الصالح .

ج- أن لا يكون ظالماً .

د - عدم الاستخفاف بالصلاة.

ه- - إطعام المسكين - ومنها الزكاة الواجبة -

و - عدم الخوض مع الخائضين .

ز - عدم التكذيب بيوم الدين.

وأما اليهود فإنهم فقدوا كل شروط الشفاعة، فلذا خاطبهم الله تعالى بقوله: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ).

ص: 116


1- سورة البقرة الآية: 48 .
2- سورة البقرة، الآية: 254.
3- سورة يونس الآية: 3.

الآيتان 49-50

الأمر الثاني ومن نعم الله تعالى على بني إسرائيل نعمة النجاة والحرية

﴿«وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ «49» وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ «50» ).

وبعد نعمة التفضيل والقيادة، تأتي النعمة الثانية وهي نعمة الحرية التي هي أهم من النعم الأخرى.

49 - (وَ) اذكروا نعمة نجاتكم من الاستعباد وجعلكم ملوكاً لأنفسكم ﴿وَإِذْ نَجَيْنَاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ) أي قومه وخواصه (يَسُومُونَكُمْ) أي يلقونكم ويولونكم (سُوءُ الْعَذَابِ) أي العذاب الشديد، وذلك العذاب أنهم (يُذَبِحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) أي يبقونهم أحياء للخدمة والاستمتاع، (وَفِي ذَلِكُم﴾ أي الذبح والاستحياء (بَلاَءٌ) وامتحان (مِن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) لصعوبة تحمّله.

50 - (وَ) اذكروا ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ) أي بسببكم ولأجلكم (الْبَحْرَ) أي جعلناه فرقة فرقة فكانت فواصل بين ماء البحر حتى صارت كالشوارع (فَأَنجَيْنَكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ) ) أي فرعون وآله

ص: 117

ولم يذكر فرعون تغليباً وإيجازاً (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) إلى غرقهم، فتكون النّعمة أتمّ عليكم لهلاك عدوكم ولشفاء غيظ صدوركم بمشاهدة غرقهم.

----------------------

بحوث

الأوّل: (يُذَبِحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) ، قيل : إنّ باب التفعيل هنا للتكثير فإن فرعون أمر بقتل الكثير من أبنائهم ، وقيل : إنما هو لبيان فظاعة الفعل فقد قتل قليلاً من أبنائهم - لعلهم اثنا عشر - وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَغَلَقَتِ الْأَبْوَابَ) مع أن الأبواب كانت سبعة - على ما قيل - وأغلقتها مرّة واحدة ولكن لبشاعة الفعلة جيء بباب التفعيل.

ولعل سبب القتل هو خوف فرعون من ازدياد نفوسهم لخصوبة نسلهم وتحولهم إلى أكثرية تُزيل - ولو بعد حين - ملك آل فرعون، كما يشعر به قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(1) وقيل: إن سببه رؤيا رآها عُبّرت بزوال ملكه على يد بني إسرائيل، فأراد استباق الحدث بقتلهم.

الثاني: ﴿بَلاءُ مِّن رَّبِّكُمْ) إنما كان البلاء من الله لعدم حيلولته بين فرعون وعمله وكان ذلك لأجل الامتحان، كما يقال أفسد الوالد ولده إذا لم يَحُلْ بينه وبين الفساد، وقد مرّ أنّ هذه الأفعال ونحوها تنسب إلى الله لا

ص: 118


1- سورة القصص الآية: 4 .

بمعنى الجبر وإنما بمعنى عدم منعه تكويناً عنها ، ويمكن أن يكون هذا البلاء عقوبة لهم لمّا خالفوا الأوامر الإلهية قبل موسى فعاقبهم الله بأن سلط

الفراعنة عليهم ثمّ لمّا تضرعوا إلى الله تعالى أنجاهم من آل فرعون ويمكن أن يكون الضمير في (ذَلِكُمْ) يرجع إلى الإنجاء، فيكون معنى البلاء النّعمة أي وفي إنجائكم من آل فرعون نعمة عظيمة من الله تعالى لأن البلاء يطلق على الشر والخير كما في قوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ).(1)

الثالث: ﴿فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) أي بسببكم ولأجل إنجائكم، وكانت هذه معجزة عظيمة بأن تفرّق ماء البحر وصار كالحيطان وظهرت اليابسة من قاع البحر.

وقال بعض المنبهرين بالغرب والمنهزمين نفسياً إن ذلك كان بالمد والجزر ولم يكن معجزة، وهذا قول من لا يؤمن بالغيب ويريد إنكار المعاجز ارضاء للماديين، مع أن الله تعالى يقول: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَرَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ )(2) مضافاً إلى أن المد لا يمكن أن يغرق جيشاً بأكمله لأنه تدريجي فيمكن الفرار منه، وكذلك إن البحر الأحمر مَدُّهُ ضعيف لأنه محصور من أكثر أطرافه باليابسة فلا يغرق في مده أحد عادة، وكذا بحيرات سيناء.

ثم إنه قد مرّ سابقاً أن المعجزات هي لإثبات صدق مدعي النبوة لا لتغيير الأسباب الظاهرية، إلّا في موارد نادرة وهذا من هذه الموارد النادرة فإن الله فرق البحر ليس لتصديق موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإنما لإنجائه وبني

ص: 119


1- سورة الأنبياء، الآية: 35.
2- سورة البقرة، الآية: 120

إسرائيل، ولعل السبب أن الله لا يريد إخلاء الأرض من الحجة ومن دين يرتضيه فإذا قصرت الأسباب الظاهرية عن حفظ دینه تدخلت الأسباب الغيبيّة ومنها هذه القصة، وكذلك إنزال الملائكة يوم بدر، وأما إذا لم تقصر الأسباب الظاهرية عن حفظ دينه فإن الأمور تسير بشكل طبيعي وإن كان فيها قتل الأنبياء والأوصياء.

ص: 120

الآيات 51-54

الأمر الثالث والرابع من نعم الله على بني إسرائيل نعمة الشريعة والتوبة

﴿«وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ «51» ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «52» وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «53» وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «54») .

51 - (وَ) اذكروا ﴿وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي جعلنا له موعداً لتلقي الكتاب ، (ثُمَّ) لما طال الأمد حيث زعمتم أن موسى مات (اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد ذهابه إلى الطور صنعت العجل، من الذهب ،وعبدتموه وَأَنتُم بفعلتكم هذه ظلِمُونَ

، لأنفسكم أي جلبتم الضرر على أنفسكم.

52 - (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي قبلنا توبتكم بعد عبادة العجل (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لأن العفو نعمة من الله تعالى تستوجب شكراً.

53 - (وَإِذْ) أي اذكروا نعمة أخرى كانت حين عبادتكم للعجل

ص: 121

فإن الله لطف بكم حتى في تلك الحالة وهي أنا (ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَالْفُرْقَانَ ) وهو التوراة (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

54 - ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ أي لمن عبد العجل منهم: ﴿يَقَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِإتخاذكُمُ الْعِجْلَ) إلهاً يُعبد، لأن في ذلك ضرر على أنفسكم لأنه يوجب الذلة في الدنيا والآخرة، ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِيكُمْ) أي خالقكم الذي تجب عليكم عبادته والرجوع إليه، لا العجل المصنوع بأيديكم، وهذه التوبة ليست بالندم فقط بل إضافة إلى الندم (فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) أي يقتل بعضكم بعضاً (ذَلِكُم)، أي القتل (خَيْرٌ لَكُمْ) لأنه يدفع عذاب الآخرة الدائم (عِندَ بَارِيكُمْ) أي إن هذا خير عند الله، لأنه يقبل به توبتكم ويعوضكم بالجنة الدائمة وإن كان الناس يتصورونه شرّاً، (فَ) لما امتثلتم الأمر وقتل بعضكم بعضاً (تَابَ) اللَّه (عَلَيْكُمُ) أي قبل توبتكم (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) فمن رحمته عليكم قبوله للتوبة مع أنه كان يمكنه عدم قبولها

-----------------------

بحوث

الأوّل: في هذه الآيات مزج الله تعالى بين نعمتين هما إنزال الكتاب للهداية وقبول التوبة، ولعلّ ذلك لأنهما حدثا في وقت واحد، أو لأن قبول التوبة للهداية، إذ بدون قبولها لم يكن الكتاب لينفعهم، فالتوبة كانت رجوعاً إلى الله تعالى وإلى شرعه وذلك الشرع ما تضمنه الكتاب الذي أنزل على موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

ص: 122

الثاني: (ثَلَاثِينَ لَيْلَةً) . الوقت المحدد لموسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان أربعين ليلة، لكن الله تعالى لأجل امتحان بني إسرائيل أخبرهم بالثلاثين وسكت عن العشرة الباقية، فلما انقضت الثلاثين زعموا أن موسى قد مات، فاستغل السامري ذلك وصنع العجل وتبعه على ذلك الكثير منهم، وسيأتي تفصيل ذلك - إن شاء الله - في قوله تعالى : ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَهَا بِعَشْرِ﴾ (1) ، فلما رجع موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالكتاب ورآهم على تلك الحالة غضب منهم وأسف على فعلتهم، فندموا على عبادتهم العجل، فتاب الله عليهم فكان الكتاب بعد ذلك هدى وموعظة لهم .

الثالث: (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم) تذكير لهم بأنكم انحرفتم انحرافاً كبيراً في الماضي بعبادة العجل ، لكن الله تعالى رحمكم ولما تبتم قبل توبتكم، والآن أيضاً طريق التوبة مفتوح أمامكم فآمنوا بالنبي محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يكفر الله تعالى عن ذنوبكم السابقة ويقبل توبتكم .

الرابع: (الْكِتَبَ والْفُرْقَانَ) أي التوراة فهي الجامع بين كونها كتاباً منزلاً من عند الله تعالى، وفرقاناً يميّز بين الحق والباطل، كما نقول رأيت العالم والعابد، ونقصد شخصاً واحداً جامعاً بين العلم والعبادة، فإن بعض المعجزات هي فرقان تفرق بين الحق والباطل لكنها ليست كتاباً كفلق البحر، لكن التوراة إضافة إلى كونها فرقاناً فهي كتاب في متناول الجميع.

الخامس (بَارِئِكُمْ) أي الخالق الذي أخرجكم من العدم إلى الوجود وإنما جيء بهذا الاسم دون سائر الأسماء والحسنى، لتقبيح فعلتهم حينما تركوا عبادة خالقهم الذي أوجدهم من العدم وبهذه الكيفية الدقيقة وهرعوا إلى عبادة العجل الذي لا يتمكن من صنع شيء وهو مَثَل في الغباء.

ص: 123


1- سورة الأعراف الآية: 142

ثم لما أمرهم بقتل أنفسهم قال : (خَيْرٌ لَكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ) فتكرر «البارىء» مرّة أُخرى لشدة مناسبة هذه الصفة للحكم وهو القتل أي أن الذي خلقكم هو الذي أمر بقتل بعضكم بعضاً.

السادس: ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)، قبول التوبة إنما كان بقتل بعضهم بعضاً، ولعلّ هذه التوبة العجيبة كانت بسبب أنهم أشربوا في قلوبهم حب عبادة الأصنام، فحينما عبروا البحر ورأوا قوماً يعبدون صنماً قالوا لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَهَا كَمَا لَهُمْ وَالِهَةٌ )(1) وحينما غاب موسى عبدوا العجل، فكان حب الأصنام متجذراً في قلوبهم حتى بعد رؤية الآيات الباهرات والمعاجز ،الظاهرات ولم يمكن اقتلاع هذا الحب بإظهار الندم وبالكلام فقط، فكان يخشى عليهم الرجوع إليه لو مات موسى، فإنه لما غاب أياماً عبدوا العجل فكيف إذا غاب عنهم دائماً بالموت !! فاحتاجوا إلى توبة من نوع آخر تكون صعقة نفسية مائلة أمامهم دائماً، ليقتلع حب الأصنام من قلوبهم نهائياً ، فكانت هذه التوبة بقتل بعضهم بعضاً .

السابع: (لَعَلَكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي قبلنا توبتكم عن عبادة العجل ورفعنا عنكم عذاب الآخرة الذي استحققتموه لأجل أن تشكروا الله تعالى على هذه النعمة، ويستفاد منها أن شكر النّعمة واجب، إذ قد مرّ أن «لعلّ» من الله تعالى ليس للترجي لاستلزام الترجي الجهل بالمستقبل المحال على الله تعالى العالم بكل الأمور، بل المقصود هو نتيجة الترجي.

ص: 124


1- سورة الأعراف الآية: 138.

الآيتان 55-56

الأمر الخامس ومن نعم الله على بني إسرائيل نعمة إحياء الأموات منهم

﴿«وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ «55» ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «56») .

55 - ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ) أي لا نصدقك أبداً (حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) عياناً، ولما كان هذا ظلماً كبيراً عوقبوا بالموت (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) وهى النار التى تنزل من اصطكاك السحب (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) إلى إصابتها لكم وهذا أشد في الألم لانخلاع القلب قبل الموت.

56 - (ثُمَّ) استجابة لدعاء موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ (بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعمة وترجعون عن عنادكم وغيّكم.

---------------------

بحوث

الأول: الفرق بين الإيمان) (به والإيمان) (له، أن الأول بمعنى الإذعان لوجوده، فالإيمان باليوم الآخر - مثلاً - بمعنى الاعتقاد بتحقق هذا اليوم وكذلك الإيمان بالله أي الاعتراف بوجوده تعالى، وأما الثاني فبمعنى

ص: 125

تصديق كلامه أي قبول كلامه الذي فاه به قال تعالى: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (1) أي يعتقد بوجود الله ويصدق كلام المؤمنين .

الثاني: (حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) في الآية دلالة على عدم إمكان رؤية الله تعالى - لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولذا عاقبهم بأن أماتهم بالصاعقة، ولو كانت الرؤية ممكنة لما كان في طلبهم غضاضة ولا مشكلة حتى يستحقوا عليه العقاب.

ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) (2) و معنی (أدركه البصر) الرؤية بالعين، وكذلك قوله تعالى لموسى (لَن تَرَينِي)(3) وكلمة «لن» لنفي التأبيد أي للأبد، فيكون المعنى يا موسى لن تراني للأبد لا في الدنيا ولا في الآخرة.

وأما قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَدٍ نَاضِرَةُ«22» إِلَى رَبِهّاَ ناظِرَةٌ) (4) فبمعنى إلى رحمة ربها ناظرة .

والله عزّ وجلَّ - في سورة النساء - يذكر أن هذا الطلب - في نفسه - ظلم : ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)(5)

وأما قول موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَئِنِي)(6) فإن طلبه كان استجابة لما طلبوا حيث روي أنهم قالوا: لن نؤمن لك حتى

ص: 126


1- سورة التوبة، الآية: 61 .
2- سورة الأنعام، الآية: 103
3- سورة الأعراف الآية: 143
4- سورة القيامة، الآيتان: 22 - 23 .
5- سورة النساء الآية: 153. (6)
6- سورة الأعراف الآية: 143

تسأله - أي الرؤية لك ، فقال موسى يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله إليه يا موسى سلني ما سألوك فلن أواخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾(1) وسيأتي تفصيل ذلك في سورة الأعراف - إن شاء الله تعالى .

الثالث: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) تقارنت الصاعقة من الزلزلة فكان الأمران سبب موتهم لقوله تعالى: ﴿وَأَخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاينا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ) (2)، ولعل الصاعقة أصابت الجبل فأحدثت ،زلزالاً ، فهم بالنظر إلى الصاعقة والزلزال الذي رافقها انخلعت قلوبهم فماتوا من جراء ذلك.

الرابع: (ثُمَّ بَعَثْنَكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) في الآية دليل على إمكان الرجعة، لأن هؤلاء بعد موتهم أحياهم الله تعالى استجابة لدعاء موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ولكي يتركوا عنادهم حينما يرون النّعمة عليهم فلا يوجد مانع من أن أن يحيي الله تعالى من يشاء من هذه الأمة بعد موتهم وقد دلّت الروايات المتواترة على وقوع ،الرجعة بل الرجعة من مصاديق قدرة الله عزّ وجل فإنه قادر على إحياء الأموات في الآخرة وفي الدنيا، كما أن عیسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ أحيى الأموات بإذن الله تعالى كما أنّ الله أحيى موجودات أخرى غير الإنسان - بعد موتها، كما في إحيائه البقرة - كما سيأتي في الآيات اللاحقة إن شاء الله تعالى -.

ص: 127


1- تفسير البرهان ج 4 ص 182 - 183 عن العيون والعلل.
2- سورة الأعراف الآية: 155

الآية 55

الأمر السادس

ومن نعم الله على بني إسرائيل النّعم المادية من الأكل والشرب والسكن و...)

أ - المأكل

(وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَلوَى كُلُوا مِن طَيِّبَتِ مَا رَزَقْتَنَكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

57 - (وَ) من نعم الله عليكم - يا بني إسرائيل - أن (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) أي جعلنا السحاب ظلاً لكم، يقيكم حرّ الشمس وبرد القمر، (وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ) وهو ماء حلو يقع على أوراق الأشجار صباحاً، أو مادة صمغية حلوة تخرج من الأشجار، (وَالسَّلْوَى) طير يعرف بالسماني، (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنٰكُمْ)، (وَ) لكنهم ظلموا وكفروا بهذه النعم أيضاً و(وَمَا ظَلَمُونَا)، لأن الله غني عن العباد، وظلم الظالم لا يقدح في سلطانه تعالى ﴿وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ حيث يمنعوها من رحمة الله تعالى بالعباد وكفران النعم.

----------------------

ص: 128

بحوث

الأول: لمّا عبر بنو إسرائيل البحر عتوا مرة أخرى عن أمر ربهم فغضب الله تعالى عليهم وابتدأهم بالتيه أربعين عاماً، حيث تاهوا في صحراء سيناء وهي صحراء شديدة الحرارة نهاراً وشديدة البرودة ليلاً وقليلة الماء والطعام، ثمَّ تابوا إلى الله تعالى فتاب عليهم وأنزل عليهم هذه النّعم .

والعقوبات الإلهية ليس لها جانب انتقام - لأنه تعالى غني عن ذلک وانتقامه بمعنى نتيجة الانتقام أي العقاب - بل في كثير من الأحيان يراد بالعقوبة الدنيوية تنبيه الإنسان وتربيته، فلذلك أريد من عقاب بني إسرائيل بالتيه تربيتهم وتعليمهم على الحياة الحرّة بعيداً عن العبودية، ليصلحوا لقيادة الأمم حين دخولهم الأرض المقدسة، وخاصة أن مدة التيه أربعون سنة، وهي تكفي لتبدل جيلين مما يسهل قيامهم بالمهمة المنوطة بهم .

الثاني: (الْغَمَامَ) السحاب وقيل هو السحاب الأبيض الذي لا يمنع نور الشمس ولكنه يمنع حرارته.

وفي التفسير المنسوب للإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ «يصيبكم حر الشمس وبرد القمر»(1) ولعل المراد ببرد القمر - بعد وضوح أنه ليس للقمر برد - هو البرد في الليل، لأن الصحارى من طبيعتها الحرارة في النهار والبرد في الليل والسحاب كما يمنع حرارة النهار كذلك يمنع برودة الليل، ولما نسب الحرّ إلى الشمس ناسب نسبة البرد إلى القمر مجازاً من باب المقابلة .

الثالث (الْمَنَّ) روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أن «من المنّ الكمأة»(2)

ص: 129


1- البرهان ج 1، ص 397.
2- البرهان ج 1، ص398.

ويمكن أن يقال : إن الماء الذي ينزل من السماء يوجب حدوث الكمأة، الماء الحلو على أوراق الأشجار وكذلك سبب المادة

كما أنه سبب الصمغية الحلوة التي تخرج من الأشجار، فيجوز أن تراد كل تلك المعاني من (اَلْمَنَّ) والله العالم.

ص: 130

الآيتان 58-59

ب - المسكن

﴿«وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ «58» فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ «59»)

58 - ﴿وَ) اذكروا ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) بيت المقدس أو أريحا وذلك بعد بقائكم في التيه لمدة أربعين سنة (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِعْتُمْ رَغَداً) أي أكلاً واسعاً مرفهاً، (وَ) أضيفوا المعنويات إلى الماديات بأن (ادْخُلُوا الْبَابَ) باب القرية (سُجَّداً) خاضعين الله تعالى (وَقُولُوا حِظَةٌ ) أي اللهم حط ذنوبنا، وحينئذٍ (تَغْفِرْ لَكُمْ خَطَیَكُمْ) ذنوبكم ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) إضافة إلى غفران خطاياهم نزيدهم نعماً أُخرى، والمحسنون هم الذين لم يرتكبوا الخطايا الأخرى.

59 - لكن كثيراً منهم عتوا عن أمر ربهم (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فبدل أن يقولوا حطة» قالوا كلمات أخرى فيها استهزاء (فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزَاً) عذاباً، قيل: الطاعون (مِنَ

ص: 131

السَّمَاءِ) جهة العلو لأن الهواء والغبار ينقلان المرض (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ أي بسبب خروجهم عن طاعة الله تعالى.

-----------------------

بحوث

الأول لما بقي بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة - قيل: توفي فيها موسى وهارون عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وانتهت مدة العقوبة أذن الله تعالى لهم بالخروج عن التيه ودخول فلسطين، ولما وصلوا إلى بيت المقدس أو أريحا أمروا بدخولها شاكرين لأنعم الله تعالى طالبين منه العفو والصفح عن ذنوبهم السابقة، لكن كثيراً منهم عتوا عن أمر ربهم، فاستهزؤوا بدل طلب العفو، فأنزل الله على الظالمين منهم المستهزئين بأمره تعالى عذاباً من السماء - قيل هو الطاعون - نتيجة لظلمهم وخروجهم عن طاعته وعدم اتعاظهم بالعقوبات السالفة .

الثاني: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا قيل) المقصود هو دخولهم القرية بالقهر والغلبة، فيكون ما فيها مغنماً لهم، فيتصرفون في الغنائم كما يشاؤون من دون عناء وتعب ولكن الأنسب لقوله تعالى: (ادْخُلُوا)، هو الدخول العادي من دون قتال، كدخول سائر الناس، وإنما كان الأكل رغداً لأن طعامهم في التيه كان المن والسلوى بشكل عام في حين أن المدينة تحتوي على مختلف ألوان الأطعمة مما يستلذ ويطاب.

الثالث: (حَيْثُ شِئْتُم) لعل ذكر هذه الجملة لأجل أن حرية الإنسان في اختيار مكان طعامه يوجب زيادة اللذة منه لأن الحالات النفسية للإنسان

ص: 132

تؤثر في تلذذه، فقد يعجبه مكان دون مكان آخر، مضافاً إلى الإحساس بحرية الاختيار مما يوجب اطمئنان النفس.

الرابع: ﴿سُجَداً) قيل المراد به دخولهم خاضعين الله تعالى، لأن أصل معنى السجود الخضوع، ولعل الأقرب هو السجود بالمعنى المصطلح من وضع الجبهة على الأرض شكراً الله تعالى على نعمة انتهاء التيه والوصول إلى الهدف المنشود بعد أربعين سنة، ولعل طلب السجود منهم حين دخولهم من الباب لأجل أن الإنسان بعد تحمل المشاق والصعوبات إذا وصل إلى هدفه المنشود قد ينسى الله عزَّ وجلَّ وتبطره النعمة وتعمي بصره، فطلب منهم استهلال النعمة بالسجود الله عزَّ وجل، ولكن مع ذلك نجد أن بعضهم نسي كل ذلك وأوجبت النعمة بطره إلى حد الاستهزاء بأمر الله تعالى.

الخامس: (حِطَّةٌ) أي قولوا اللهم حط ذنوبنا حطة، قيل : حطة في الأصل مفعول مطلق، فلما حذف الفعل لدلالة الكلام عليه، رفع حطة لكي يدل على الثبوت والاستمرار ، أي يكون طلب غفران الذنوب مستمراً في جميع الحالات، وقيل غير ذلك.

السادس: ﴿تَغْفِرْ لَكُمْ) من لطف الله تعالى على العباد أن فتح باب التوبة من الخطايا وسهلها، بحيث إن كلاماً واحداً يوجب غفران الذنوب، بشرط الندم على الفعل، بأن يتطابق اللسان مع القلب، وأداء الحقوق، وفتح باب التوبة هو لمنع المذنب عن الانغماس في ذنبه، إذ إن اليأس يوجب تمادي الإنسان في غيّه، في حين أن فتح باب التوبة يسبب رجوع الكثيرين.

السابع: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) من أسباب البلايا السماوية هو خروج

ص: 133

الإنسان عن طاعة الله تعالى، كما قال سبحانه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ )(1) ، فإنزال الطاعون - على ما قيل في معنى الرجز -كان بسب خروجهم عن طاعته عزّ وجل واستهزائهم بأمره تعالى.

ولا بأس بالإشارة إلى أن طاعة الله عزّ وجل تشمل تنفيذ أوامره ونواهيه في مختلف الأمور، ومنها ما يتعلق بالنظافة، فإن القذارة والتلوث مما لا يريده الله عزّ وجل، فلذا يحب الله ،المتطهرين، وشرّع الاجتناب عن النجاسات - وأكثرها قذارات - كما شرّع الغسل والوضوء وغيرهما، وغير ذلك، وإن التزام الإنسان بهذه الأوامر والنواهي، يوجب نظافة البيئة والبدن، ويقلل الأمراض وخاصة المعدية منها.

الثامن : الباب الذي كانت تحط عنده ذنوب بني إسرائيل كان باب القرية، وأما في أمة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فباب حطة هم أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كما روي عن الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال : نحن باب حطتكم (2) .

ص: 134


1- سورة الروم، الآية: 41.
2- البرهان، ج 1، ص 406 .

الآية 60

ج- المشرب

﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ «60»).

60 - (وَ) اذكروا ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) لما أصابهم العطش في التيه، (فَقُلْنَا أَضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَر) حتى نسقيهم بالإعجاز ليكون أربط على قلوبهم وأبلغ للحجة، فلما ضرب موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ الحجر (فَأَنفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنا) لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين خاصة ، وقد عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ من الأسباط (مَشْرَبَهُمْ) أي مكان شرَبَهُم، ويقال لهم : (كُلُواْ) من المنَّ والسلوى (وَاشْرَبُوا مِن رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العثو والعثي: التمادي في الغي وتجاوز الحد في الفساد.

------------------------

بحثان:

الأول: (اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) تعدد العيون قد يكون لأجل كثرتهم حيث

ص: 135

لا تكفيهم عين واحدة وحفظاً للنظم وعدم التدافع تم تخصيص كل عين من بسبط الأسباط، ويحتمل أن يكون لأجل العداوة بين تلكم الأسباط فلم يكن داع لحشرهم في عين واحدة قد يختلفون عليها فتبرز العداوة أو تشتد والحكيم كلما تمكن من إزالة مفجرات العداوة فعل ذلك، والإسلام كما يأمر الناس بالابتعاد عن العداوة والبغضاء كذلك يزيل أسباب تشديد العداوة أو أسباب ظهورها.

الثاني: ﴿مِن رِزْقِ اللَّهِ) الإنسان حينما يُغمر بالنعمة قد ينسى النصب الذي عاشه ،قبلها وكذلك قد ينسى الله تعالى ويصاب بالبطر، فيحتاج إلى من يذكره بأن هذه النّعمة من الله تعالى وأنه يجب عليه أن يخضع ويتواضع له تعالى، فلا يتمادى في غيه ويترك الفساد والإفساد.

ص: 136

ص: 137

ص: 138

الآية 61

(فصل) أسباب انحراف بني إسرائيل

أسباب انحراف بني إسرائيل(1)

المطلب الأول: الكفران بالنُّعم

﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ «61»).

61 - لما ذكر الله تعالى نعمه على بني إسرائيل وذكرهم بها، ذكر سبحانه كفرانهم بالنّعم، والعقاب الذي نالهم جراء ذلك ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ) حال كونكم في التيه (يَمُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدِ) المن والسلوى، فإنه يتكرر كل يوم لذا عبروا عنه بالطعام الواحد، (فَادْعُ لَنَا) أي لأجلنا (رَبَّكَ يُخْرِج) أي يظهر (لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا) النباتات التي لا ساق لها، ومرادهم أطايب البقول، ﴿وَقِثَّائِهَا)

ص: 139


1- يبدأ هذا الفصل من الآية 61 وينتهي بالآية 110 ، في هذا الفصل اثنا عشر مطلباً تجمع الأسباب وإن كان بعضها قد مرّ.

الخيار، (وَفُومِهَا) الحنطة وقيل الثوم، (وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) ، فإنهم كانوا مزارعين وفلاحين فحَنَّوا إلى ما كانوا عليه، (قَالَ) موسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَی بِالَّذِي هُوَ خَیرٌ) أي تجعلون الأدنى عوضاً عن الأفضل وهو المن والسلوى، الذي هو أسهل وألذ وأكثر فائدة إضافة إلى أنه اختيار الله تعالى.

ثم قال لهم موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إن الله استجاب دعاءكم ف(اهْبِطُوا مِصْرًا) أي انزلوا من التيه إلى مدينة في أطرافه (فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ) من البقل والقثاء وغيره.

(وَ) لأنهم لم يرضوا ما اختاره الله لهم فعاقبهم الله تعالى بأن (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلَّةُ ) فهم أذلاء أمام الناس، (وَالْمَسْكَنَةُ) أي الفقر فإنهم فقراء القلب والنفس، حتى الثري منهم مع ثروته فإنه لا تفارقه المسكنة (وَبَاءُو) رجعوا (بِغَضَبِ مِنَ اللَّهّ) فكان رجوعهم من النعمة إلى النقمة.

و﴿ذَلِكَ) الذي أصيبوا به من الذلة والمسكنة، والغضب من الله سبب (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (كَانُوا يَكْفُرُونَ بِايَتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي بغير جرم،(وَ) سبب ﴿ذَلِكَ) الكفر وقتل الأنبياء (بِمَا عَصَوا) أي خالفوا أوامر الله (وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ أي يتجاوزون حدود الله إلى نواهيه، فأدى ترك الأوامر وفعل النواهي إلى التجرؤ على الكفر والقتل، مما أورثهم الذلة والمسكنة وغضب الله تعالى.

-----------------------

بحوث:

الأول: ﴿طَعَامٍ وَاحِدٍ) المقصود به المنّ والسلوى المذكوران في

ص: 140

الآيات السابقة، وإنما عبر عنه بالواحد لأنه كان يتكرر كل يوم، وما يتكرر حتى لو كان متعدداً يقال له ،واحد، لأنه لا تبديل ولا يختلف. أو أن المراد نوع واحد من الطعام حتى وإن كان ذا لونين.

الثاني: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) ولم يقولوا ربنا، ولعلّ هذا أول مقدمات انحرافهم وطغيانهم على الله وعدم الاعتراف بربوبيته، أو لأنهم كانوا يعلمون أنه مستجاب الدعوة وأن الله يستجيب له، أو لعلمهم بأن موسى من تربية الله تعالى لالتزامه بأوامره ونواهيه دونهم.

الثالث: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَی بِالَّذِي هُوَ خَیرٌ) لعل أفضلية المن والسلوى على ما طلبوه من البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل لجهات:

أ - المنّ والسلوى اختيار الله تعالى ولا يختار الله إلا ما هو الأفضل مما فيه المصلحة، وكان من شقائهم أنهم رجحوا اختيارهم على اختيار الله وذلك يؤدي إلى الشقاء الأبدي كما في طلب ذلك القائل (اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقِّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ انْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(1).

ب - سهولة ما اختاره الله لهم وصعوبة ما اختاروه لأنه يحتاج إلى كدّ ونصب أو دفع مال .

جہ - المنّ والسلوى ألذ وأطيب مع عدم وجود أي ضرر فيه لأنهما طعام سماوي لا ينشأ منه ضرر أو مرض، عكس سائر الأطعمة التي قد توجب المرض أو لا تلائم جسم الإنسان.

ص: 141


1- سورة الأنفال، الآية: 32.

هہ- المن والسلوى لهما قيمة غذائية وتؤمنان كل ما يحتاجه جسم الإنسان - بسبب غيبي - عكس سائر الأطعمة التي قد تؤمن جانباً واحداً، ولذا احتاج الإنسان إلى مختلف الأطعمة التي تُلبي احتياج جسمه.

الرابع: (أهْبِطُوا مِصْراً) الهبوط قد يكون مادياً بمعنى أن التيه كان مرتفعاً والمصر كان في منخفض، أو معنوياً أي النزول من الدرجة العالية التي كان بموجبها يرزقهم الله المن والسلوى إلى المنزلة الدنيا، فتكون نسبة الهبوط إلى المصر من باب أن هبوطهم من الدرجات العليا كان في المصر فنسب إليه مجازاً.

الخامس: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلَةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي أحاطت بهم كما تحيط الخيمة على من فيها فيقال ضربت عليه قُبة، أو أن الذلة والمسكنة لصقت بهم كما يقال ضرب الطين بالجدار أي ألصق به، والمعنى واحد.

وهذا من معاجز القرآن، فاليهود في طول تاريخهم أذلاء في نفوسهم وأمام الناس، وحتى في العصر الحاضر حيث احتلوا فلسطين وشكّلوا دولتهم اللقيطة، فإنهم يعيشون الذل والاستجداء من الدول الكبرى والتذلل والتزلف لها، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ)(1)

وكذلك لاتفارق نفسياتهم المسكنة فإنهم رغم ثروتهم دائمو التشكي والجشع وعدم التنعم بالثروات مخافة الفقر، وكذلك دائمو التصاغر والتفاقر مخافة الجزية أو سائر الضرائب وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ :

«الغنى غنى النفس»(2) .

ص: 142


1- سورة آل عمران الآية 112
2- مجمع البيان ج 1، ص 139.

السادس: ﴿وَبَاءُ و بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ) أي رجعوا من النّعمة إلى النقمة أو أنهم رجعوا من عند موسى إلى النقمة بسلبهم النعمة.

وغضب الله بمعنى إنزال العقوبة على المغضوب عليهم، لأن غضبه ليس كغضب البشر، وذلك لأن غضب البشر هو انفعال خاص بسبب حدوث ما يكرهه ويترتب عليه بعض التغيرات الكيمياوية في جسم الإنسان، ويظهر عادة على صفحات الوجه ولأن الله تعالى ليس محلاً للحوادث - فذاته سبحانه لا تغيير فيها ولا تبديل ، كان معنى غضبه هو ترتيب آثار الغضب أي العقوبة - دنيوية كانت أم أخروية - فيكون الغضب من صفات الفعل لا من صفات الذات.

السابع: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللهِ) «ذلك» إما إشارة إلى الغضب أي سببه الكفر والقتل أو إشارة إلى كل ما سبق من الذلة والمسكنة والغضب فهي كانت نتيجة الكفر والقتل .

الثامن: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِكِنَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) قيل بغير (الحق) توضيحي، لأنهم أيضاً كانوا يعتقدون بأن قتلهم الأنبياء كان من غير جرم ولكن مع ذلك كانوا يقتلونهم، لأنهم لم يكونوا يطيقون إرشاد الأنبياء وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ونصحهم.

وهذا القتل قد يكون بالمباشرة، وقد يكون بالتسبيب .

وفي الكافي الشريف عن الصادق : والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم، ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها، فأخذوا عليها فقتلوا، فصار قتلاً واعتداءً ومعصية»(1).

ص: 143


1- البرهان ،ج 1 ، ص 408 نقلاً عن الكافي ج 2، ص 275 .

التاسع: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ «ذلك» إما تأكيد لہ «ذلك» الأولى، فيكون ذكر سبب ثان بعد السبب الأول، أو ذكر العام بعد الخاص وقدم الخاص وهو القتل والكفر لأهميته.

أو أنه بيان سبب السبب أي إن العصيان والاعتداء كانا سبب الكفر والقتل والكفر والقتل كانا سبب غضب الله عليهم وضربهم بالذلة والمسكنة .

ولعل الفرق بين العصيان والاعتداء - هنا ، هو أن العصيان مخالفة أوامر الله تعالى والاعتداء ارتكاب ما نهى عنه بتجاوز حدود الله وتعديها إلى المحرمات.

وفي البرهان عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

«ألا فلا تفعلوا كما فعلت بنو إسرائيل، ولا تسخطوا الله تعالى ولا تقترحوا على الله تعالى، وإذا ابتلي أحدكم في رزقه أو معيشته بما لا يحب فلا يحدس شيئاً يسأله لعل في ذلك حتفه وهلاكه، ولكن ليقل:

«اللهم بجاه محمد وآله الطيبين إن كان ما كرهته من أمري خيراً لي وأفضل في ديني فصَبرني عليه وقوّني على احتماله ونشطني على النهوض بثقل أعبائه، وإن كان خلاف ذلك خيراً فجُدْ عليّ به ورضني بقضائك على كل حال، فلك الحمد».

فإنك إذا قلت ذلك قدّر الله ويسر لك ما هو خير (1)

144

ص: 144


1- البرهان ج 1 ، ص 404 عن التفسير المنسوب للإمام العسكري ) .

الآية 62

(إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَرَى وَالصَّابِئينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)

62 - ولما ذكر الله سبحانه ما ابتلى به بنو إسرائيل من المخالفة وما نالهم من العذاب بيّن أن من يؤمن ويعمل الصالحات، يُجزى جزاءً حسناً - سواء كان من بني إسرائيل أو من غيرهم - كما أن من يخالف يعاقب على عمله فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا» أي أسلموا (وَالَّذِينَ هَادُوا) اليهود ، (وَالنَّصَرَى وَالصَّابِئینَ) دين خاص لعلهم في أصلهم أهل كتاب قبل التحريف، (مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ) حقيقة بأن لا يكون نفاقاً - من هؤلاء أو غيرهم ، ويدخل الإيمان بالنبي والوصي في الإيمان بالله تعالى ﴿وَ) آمن بہ ﴿ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) مما سيأتي عليهم في المستقبل في الدنيا، وفي القيامة لأنهم آمنون (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) لما أصابهم من المكاره لأنهم يعلمون أن الله يعوضهم عنها .

-----------------------

ص: 145

بحوث

الأول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا) لعل الغرض من هذه الآية بيان أن مجرد اتباع ملة - من غير اعتقاد ولا عمل - مما لا ينفع، ولا يترتب عليه الأثر المرجو من الأجر والأمن.

بل لا بدَّ من الإيمان الحقيقي والعمل الصالح.

فلذا لا ينفع إسلام المنافقين مع أنهم في الظاهر يُصنَّفون ضمن المؤمنين بالإسلام، بل هم في الدرك الأسفل من النار .

وكذلك لا ينفع بني إسرائيل مجرد نسبتهم إلى موسى ، لأنه ليس بأمانيهم فإن من يعمل سوءاً يجز به.

وهكذا سائر الملل والنحل .

الثاني: ﴿وَالصَّابِئِينَ) عن علي بن إبراهيم (رضوان الله عليه) إنهم قوم مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمون وهم قوم يعبدون الكواكب والنجوم(1).

ويحتمل أنهم أهل كتاب في الأصل قبل أن ينال دينهم التحريف أو أنهم انشقاق عن أهل الكتاب.

وهل من يتسمون بالصابئة الآن في جنوب العراق هم نفس هؤلاء الذين عناهم الله تعالى في القرآن الكريم؟

فيه غموض، وخاصة أنه ينقل أن بعض من في شمال العراق منهم ينفي صلتهم بهم والله أعلم بحقيقة الحال.

146

ص: 146


1- البرهان 408/11 عن تفسير القمي.

الثالث: ﴿وَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ) لم يقل سبحانه من آمن منهم، بل عمم الأمر وذلك لأن أي إنسان آمن بالله وباليوم الآخر وعمل صالحاً فإنه ينال جزاءه الحسن من الأجر والأمن، ولا يختص ذلك بمن أظهر الإسلام أو كان يهودياً أو نصرانياً أو صابئياً.

فلذا مع أن المبتدأ - وهو اسم إنّ - خاص - المسلم واليهودي والنصراني والصابئي ، ولكن الخبر عام، وهو جملة من آمن بالله . . .

الخ.

وإنما كان المبتدأ خاصاً لأن الكلام كان حول بني إسرائيل قوم موسى وذكر ما نالوه من العقاب بسبب عصيانهم واعتدائهم، ولشدة اختلاط هذه الملل أي المسلمين والنصارى والصابئة مع اليهود، حسن ذكر حكم يشتركون فيه حتى مع كون الحكم عاماً يشمل غيرهم أيضاً .

الرابع: ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا) يدخل ترك المعاصي في عنوان العمل بالصالحات لأن العامل بالمعاصي لا يكون عاملاً بالصالحات.

الخامس: (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) مرّ في بحوث الآية 38 الفرق بين الخوف والحزن، فإن الحزن لمكروه واصل والخوف لمكروه مرتقب، والمخاوف والأحزان التي يراها المؤمن الصالح في الدنيا هي ليست مخاوف بالنسبة إلى ما يراه الكفار من العذاب والنار .

السادس: يحتمل في الآية أنها تشير إلى من التزم بهذه الشرائع قبل نسخها، فاليهودي في زمن موسی قبل نسخ شريعته، والنصراني في زمن عيسى قبل ،نسخها والصابئي - إن قلنا إن دينهم قبل التحريف دين سماوي - قبل نسخ شريعته هؤلاء كلهم في الجنة إن كان إيمانهم إيماناً حقيقياً واستتبع العمل الصالح.

ص: 147

أما بعد نسخ هذه الشرائع فلا يعذر أحد في التمسك بها، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ )(1)

السابع: لماذا لم تذكر الآية الإيمان بالأنبياء مع أن الإيمان بهم من أصول الدين، ولولاه كان الشخص كافراً؟

لعل الجواب هو أن الإيمان بأنبيائهم داخل في العنوان أي في (الَّذِينَ آمَنُوا) (هَادُوا ) ... الخ، فلا يكون الإنسان مسلماً إلا إذا آمن برسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، ولا يكون الرجل من الذين هادوا إلّا إذا كان مؤمناً بموسى ، وهكذا، فدخل الإيمان بهم في المبتدأ (اسم إنّ).

الثامن : في مجمع البيان وفي هذه الآية دلالة على أن الإيمان هو التصديق والاعتقاد بالقلب، لأنه تعالى قال : (مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ) ثم عطف عليه بقوله: ﴿وَعَمِلَ صَلِحَا)(2)

ولعل ذلك درجة من درجات الإيمان، لأن الإيمان في القرآن يطلق على درجات مختلفة، فأقلها هو إظهار الإسلام كما في قوله تعالى : (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا)(3) وأعلاها هو الاعتقاد مع العمل، كما في قول الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان» (4) ، وما في هذه الآية هو الدرجة الوسطى أي الاعتقاد الحقيقي، وأما العمل فهو مذكور بعد هذا الإيمان في قوله تعالى :

(وَعَمِلَ صَالحا).

ص: 148


1- سورة آل عمران الآية: 85
2- مجمع البيان 244/1
3- سورة النساء، الآية: 136.
4- الخصال: ص 186 ، ح 341 ، وعيون الأخبار: ج1، ص39.

الآيتان 63-64

المطلب الثاني ومن أسباب انحراف بني إسرائيل (مخالفة الميثاق)

﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ«63» ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الخَاسِرِينَ ) .

63 - (وَ) اذكروا ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثاقَكُمْ) وهو العهد الشديد وذلك بالفطرة أو الدلائل الواضحة أو مباشرة بواسطة موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، كان ذلك لما رفضوا العمل بالتوراة لصعوبة وجدوها ،فهددناكم بأن (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي الجبل اقتلعه الله ورفعه فوقهم وهددهم بأنهم إن لم يقبلوا بما في التوراة ألقى بالجبل عليهم، فلما قبلتم العهد والميثاق قلنا لكم: (خُدُوا مَا ءَاتَيْنَكُم بِقُوَّةٍ)، أي، بجد وعزم، وقوة بالقلب والبدن (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) بأن تعملوا به ولا تتركوه (لَعَلَكُمْ تَتَّقُونَ) تحفظون أنفسكم من عذاب الله، أو من المخالفة الموجبة للعقاب.

64 - ولكنكم لم تفوا بالعهد (ثُمَّ تَوَلَّيْتُم) أي أعرضتم عن العمل بالأحكام (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) الميثاق، ﴿فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) بأن

ص: 149

أمهلكم لكي تتوبوا (وَرَحْمَتُهُ) بأن قبل توبتكم (لكُنتُم مِّنَ الخَاسِرِينَ) في الدنيا قبل الآخرة.

-----------------------

بحوث

الأول: (مِیثاَقَکُمْ) ظاهر السياق أن الميثاق الذي أخذ منهم كان مباشرة، وذلك بواسطة موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأن أخذ منهم العهد الشديد بالعمل بالتوراة فعاهدوا الله على ذلك .

ويحتمل - إضافة إلى الميثاق المباشر - الميثاق عبر ما أودعه الله في فطرتهم وفطرة غيرهم، وما أظهره الله لهم ولغيرهم من البراهين الساطعة والآيات الواضحة.

الثاني: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ) لما جاءهم موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالألواح، فرأوا ما فيه من الأحكام الشاقة امتنعوا عن قبولها، فقلع الله الجبل أو قطعة منه وجعله فوقهم وهددهم بأنهم إن لم يقبلوا الدين، أطبقه عليهم فيهلكوا، فلما رأوا ذلك قبلوا بالميثاق .

وهنا سؤال وهو : إنه لا إكراه في الدين فكيف أخذ الله تعالى منهم الميثاق تحت وطء التهديد؟ ولماذا كان هذا الميثاق ملزماً لهم مع أنهم أكرهوا عليه؟

ولعل الجواب : أنهم لما رفضوا العمل بما في الألواح، استحقوا الله العذاب والهلاك، فلما اقترب عليهم العذاب - بإطباق الجبل عليهم - أدركتهم رحمة الله تعالى فكشف عنهم العذاب شرط أخذ

ص: 150

الميثاق، كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) ، وليس ذلك إكراها، كما يتعارف الآن في المحاكم من تخفيف أو إلغاء عقوبة المجرم شرط تعهده والتزامه ببعض الأمور، فإذا وفى بالعهد لا يعاقب، وإن نقض العهد جرت عليه العقوبة بل قد تشدد عليه، ومثل ذلك الأحكام التعليقية في المحاكم .

الثالث: (الطُّورَ) والطور هو كل جبل، فإن كان عليه شجر مثمر سمي طور سنين، أو طور سيناء، كما روى ذلك الصدوق رضوان الله عليه في علل الشرائع عن ابن عباس (1).

ثم غلبت التسمية حتى انصرف (الطور) و (طور سيناء) و (طور سينين) إلى الجبل المعهود الذي عليه كان يناجي موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ الله تعالى .

ويمكن أن يكون الطور في هذه الآية جبل من الجبال - لا الجبل المعهود - كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَنَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَةٌ )(2) الرابع: (بِقُوَّةٍ) سئل الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ «عن قول الله : (خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَاكُم

بِقُوَّةٍ) أقوة في الأبدان أم قوة في القلوب ؟ قال : فيهما جميعاً»(3).

ولعل الوجه أن قوة القلب توجب قوة العمل أيضاً، فإن المحرّك الأساسي للإنسان فكره ،وتصوره فإن كان الفكر قوياً أوجب ذلك الاستقامة وتحمل البدن، وضعف الفكر يؤدي إلى ضعف العمل أيضاً .

الخامس: ﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) أي ما فيه من الثواب وفي تركه من العقاب.

ص: 151


1- البرهان 409/1 عن العلل .
2- سورة الأعراف الآية: 171
3- البرهان 409/1 - 410 عن العياشي، ومحاسن البرقي).

ففي تفسير العياشي واذكروا ما في تركه من العقوبة(1) وفي التفسير : المنسوب للإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ: اذكروا جزيل ثوابنا على قيامكم به وشديد عقابنا على إبائكم له(2)

السادس: (لَعَلَّكُمْ) كلّما ورد الترجي عن الله في القرآن، فلا بدَّ من حمله على غير المعنى المتعارف في الترجي.

وذلك لأن الترجي يستعمل فيما لا علم بالعاقبة فيرجو المتكلم أمراً متوقع الحدوث من دون تأكد لوقوعه، وبما أن الله عالم بكل شيء وبعواقب الأمور فلذا يلزم صرف كلمة لعل وأشباهها عن معناها المتعارف - وهو رجاء المتكلم - إلى رجاء المخاطب، أو محبوبية ذلك الأمر مجرداً عن رجائه.

وفي هذه الآية الكريمة تحمل (العل) : إما على رجاء المخاطبين من بني إسرائيل بأن يرجوا الاتقاء بسبب الأخذ والذكر، فيكون لعل بمعناها الحقيقي من الترجي، أو لبيان أن الله يحب الاتقاء، فتسلخ لعل من معناها الحقيقي إلى المعنى المجازي.

هو

السابع: ﴿فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لعل الفرق بين الفضل والرحمة - هنا - هو أن التوبة عمل صالح، وكل عمل صالح يحتاج إلى توفيق بأن يهيئ من الله تعالى، الأسباب الموجبة لذلك العمل الصالح ، فلذا صح نسبة كل خير إلى الله تعالى لأنه هيأ الأسباب الموصلة إلى الخير.

وبما أنه كان يمكن الله تعالى أن لا يقبل التوبة - كما لا يقبلها حين الاحتضار أو حين نزول العذاب - فلذا قبوله لتوبتهم كان برحمة منه .

ص: 152


1- البرهان 1 / 410 .
2- البرهان 12/1

فلولا ذلك الفضل بأن وفقهم للتوبة وتلك الرحمة بقبوله توبتهم لكانوا من الخاسرين .

وبما أن تهيئة أو عدم تهيئة الأسباب للتوبة، لا تسلب العصاة اختيارهم فهم على كل حال مختارون، فلا جبر عليهم.

وبما أن الله سبحانه حكيم ولا يعمل أمراً اعتباطاً، فإن توفيتهم للتوبة أو لغيرها لم يكن اعتباطاً، بل لعله كان مكافأة لهم على بعض أعمال الخير التي فعلوها.

وهكذا يقال في هداية الله للبعض وفي إضلاله للبعض الآخر، فإن الهداية جزاء لبعض أعمالهم الحسنة، كما أن الإضلال هو عقاب لبعض سيئاتهم، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ ﴾(1) وقد مرّ بعض البحث في ذلك .

الثامن: (الْخَسِرِينَ) الخسران هو فقد رأس المال أو بعضه. وبما أن رأس مال الإنسان هو عمره وقواه، فإذا صرفها في طاعة الله فإنه يربح بأن يُعوّض الجنة إضافة إلى الربح الدنيوي، ولكن إن صرفها في معصية الله فإنه يخسر عمره وقواه ويكتسب النار والعياذ بالله مضافاً إلى العقوبات الدنيوية، والعاصي بما أنه يستحق العقوبة فإنه خاسر - لا محالة - لولا أن تدركه رحمة الله بقبول توبته.

ص: 153


1- سورة الأنعام، الآية: 144.

الآيتان 65-66

المطلب الثالث من أسباب انحراف بني إسرائيل (التحايل على الأحكام)

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئینَ«65»

فَجَعَلْنَهَا نَكَلًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ«66»)

65 - ومن الموبقات التي حدثت في بني إسرائيل كان تحايلهم على الأحكام الشرعية ﴿وَلَقَدْ عَلِمتُمْ) أي عرفتم (الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ) أي جاوزوا حدود الله إلى نواهيه (فِي) يوم (السَّبْتِ) حيث حُرّم عليهم الصيد فيه، وإمعاناً في الامتحان كانت الأسماك تظهر في السبت وتختفي في سائر الأيام، فاحتالوا على التحريم، بأن حفروا أحواض وأوصلوها بالبحر بواسطة سواق، فلما كانت تكثر الأسماك في السبت وتدخل الأحواض عبر السواقي، كانوا يغلقون منافذها، ثم يأتون في يوم الأحد ويصطادون الأسماك المحبوسة في الأحواض من دون أي عناء، (ف) عقوبة لهم لتعديهم حدود الله (قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا) أي جعلناهم - وبسرعة - (قِرَدَةً خَاسِئينَ) أي مبعدين عن كل خير، مطرودين عن رحمة الله تعالى.

66 - (فَجَعَلْنَها) أي هذه المسخة (نَكَلاً) عقوبة (لِمَا بَيْنَ

ص: 154

يَدَيْهَا) أي يدي العقوبة وهي المعصية القريبة للعقوبة زماناً وهي الصيد (وَ) كذلك عقوبة ل- ﴿وَمَا خَلْفَهَا) لسائر المعاصي التي كان يرتكبها أصحاب السبت، ﴿وَمَوْعِظَةٌ ) أي تخويفاً (لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتقون الله ويخافونه، فإنهم لما شاهدوا المسخ أو سمعوا به، فإنهم يخافون الله ، فلا يرتكبون ما ارتكبه أصحاب السبت من المعاصي.

----------------------

بحوث

الأول: من الموبقات محاولة الفرار من الأحكام الشرعية، بالطرق غير الشرعية، بأن يرتكب الإنسان الحرام أو يترك الواجب بذرائع واهية، وأول من ارتكب ذلك إبليس لعنه الله، حيث ترك السجود لآدم بذريعة أفضليته وأنه لا يصح سجود الأفضل لغيره !!

نعم، إذا تغير الموضوع فبتبعه قد يتغير الحكم، لأن الحكم تابع للموضوع وفي الحديث نعمت الحيلة الفرار من الحرام إلى الحلال (1) كمن يفرّ من الزنى بالزواج، فإن الموضوع وهو (المرأة الأجنبية) تبدل بسبب الزواج إلى (الزوجة)، وهذا ما يعبر عنه في الكتب الفقهية بالحيل الشرعية، أي التخلص من الحرام إلى الحلال عبر تغيير الموضوع.

والمعتدون في السبت كان المحرم عليهم الصيد بأية طريقة كانت، حبس الأسماك الأسماك في الأحواض هو نوع صيد، فلذا كان عملهم تجاوز لحد الله تعالى وبالطريقة غير المشروعة .

الثاني: (قُلْنَا لَهُمْ) في مجمع البيان وهذا إخبار عن سرعة فعله،

ص: 155


1- الوسائل: ج 18 ، ص 176 ، ح 1، باب 6 .

ومسخه إياهم، لا أن هناك أمراً، ومعناه: وجعلناهم قردة، كقوله تعالى: (فَقَالَ لَهَا وَالْأَرْضِ ائتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَآبِعِينَ) (1) ولم يكن هنالك قول، وإنما أخبر عن تسهيل الفعل عليه وتكوينه بلا مشقة (2)

ويمكن أن يكون القول على معناه الحقيقي، بخلق ألفاظ (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئينَ) ، لأن الله مسبب الأسباب، فيمكن أن يجعل في هذه الألفاظ المخلوقة سبباً لمسخهم، كما أن الله عاقب أقواماً بأن جعل الماء سبباً لموتهم في الطوفان، أو جعل مطر الأحجار سبباً لهلاكهم.

الثالث: (نَكَالاً) النكل في اللغة المنع ، ومنه النكول في باب القضاء أي الامتناع عن الحلف ، وهذه العقوبة الشديدة بالمسخ ثم الهلاك، فيها ردع وزجر، أي منع الآخرين عن ارتكاب المعاصي، لأن من شاهد عقوبة عادة العاصي يمتنع عن أن يرتكب مثل ما ارتكبه .

وقد يفسر النكال بالعبرة، لأن من يعتبر بما فعله الآخر، فإنما يمنع نفسه عن اتباعه.

الرابع: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا) أي جعلت الأمة الممسوخة عبرة ورادعاً للأمم التي كانت تعاصرها، وكذلك جعلت عبرة ورادعاً للأمم اللاحقة التي يصلها خبر المسخ.

ويمكن أن يكون المراد أن جُعلت هذه المسخة عقوبة لأصحاب السبت لأجل ذنوبهم التي كانت بين يدي العقوبة أي الصيد والذنوب التي كانت خلف العقوبة، أي سائر المعاصي التي ارتكبوها قبل الصيد،

ص: 156


1- سورة فصلت الآية: 11
2- مجمع البيان: 0248/1

.

ولعل التعبير ب- (بَيْنَ يَدَيْهَا) و(خَلْفَهَا) لأجل أن الله تعالى لا يأخذ الإنسان بالمعاصي - عادة - إلّا بعد تراكمها وتجمعها، رحمة للعباد، وفتحاً لباب التوبة لهم، فعلى هذا يكون أصحاب السبت قد تجمعت عليهم معاص كثيرة إلى أن جاءت معصية الصيد في يوم السبت، فتراكم المعاصي سبب أن يأخذهم الله بجميع ذنوبهم السابقة واللاحقة، وهذا المعنى الثاني لعله أنسب لقوله تعالى: ﴿وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) إذ على المعنى الأول تكون هذه الجملة تكراراً للنكال أو من ذكر الخاص بعد العام، لكن على المعنى الثاني يكون النكال لأصحاب السبت والموعظة للمتقين الذين رأوهم أو سمعوا أخبارهم (لأن غير المتقين لم يتعظوا بهم).

ص: 157

الآيتات67 - 71

المطلب الرابع ومن أسباب انحراف بني إسرائيل (اللجاج والتمرد على الأحكام)

(«وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)»«قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)»«قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)»

«قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)»«قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)»

67 -(وَ) اذكروا (إذْ) قُتِل رجل من بني إسرائيل، ولم يعرف ،قاتله فأراد الله أن يبين لهم قدرته بأن يُحييه بضرب ذنب البقرة الميتة على ذلك الميت ليخبر عن قاتله ف-(فقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةٌ) أية بقرة كانت لا على التعيين، لكنهم لتمردهم قابلوا أمر الله بكلام خشن ف﴿ قَالُوا التَّخِذُنَا هُزُواً) فأي ربط بين معرفة القاتل وبين ذبح بقرة؟ ف(قال) موسى (أَعُوذُ بِاللَّهِ) والتجئ إليه من (أَن

ص: 158

أكُونَ مِنَ الْجاهِلينَ) قليلي العقل، لأن الاستهزاء بالغير في هكذا أمور من شأن الجهال.

68 - (قَالُوا ادْعُ لَنَا) أي لأجلنا (رَبَّكَ) ولم يقولوا ربَّنا وذلك زيادة في تمردهم (يُبيّن لَنَا مَا هِىَ) أي كم مضى من عمرها ؟ (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ) أي ليست كبيرة هرمة ﴿وَلَا بِكْرٌ) أي ليست صغيرة (عَوَانُ) متوسطة (بَيْنَ ذَلِكَ) أي بين الكبيرة والصغيرة ،(فَافَعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) ولا تؤخروا امتثال أمر الله بالأسئلة التافهة.

69 - (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَّهُ، يَقُولُ إنّها بَقَرَةٌ صَفْرَائُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا) أي شديدة الصفرة، صافية لا تميل إلى السواد ولا إلى البياض (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) لأن لونها جميل زاءٍ يجلو القلوب.

70 - (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا هِيَ )صفاتها التي تسبب حصر البقرة في واحدة معلومة وذلك (إِنَّ الْبَقَرَ) كثير، ولا ندري أية بقرة أُريدت منا فلذا (تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى البقرة المحددة، فلما قالوا إن شاء الله يسر الله الأمر عليهم بعد أن صعّبه بسبب تمردهم

71 - (قالَ) موسی (إنَّهُ) الله (يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ) أي ليست مما تعمل في الحرث فيذلها العمل، لأن كل مُكْرَه ذليل، فهي لا (تُثِيرُ الأَرْضَ) بتقليب التراب بواسطة المحراث، (وَلَا تَسْقِى الْحَرَّثَ) الأرض المزروعة، مُسَلَّمَةٌ من العيوب ﴿لا شِيَةَ فِيهَا)

ص: 159

أي ليس فيها لون يخالف لونها، بل كلّها صفراء من دون أن يخالطه لون آخر.

فلما اجتمعت تلك الصفات في بقرة معينة كانوا يعرفونها (قَالُوا الْانَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أي الأمر الواضح بعد الإجمال ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) بسبب غلاء سعرها، وقيل كان ثمنها ملء جلد ثور ذهباً، وعن الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة أجزأتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم »(1)

---------------------

بحوث

الأول: لعل سبب تمرد ولجاج بني إسرائيل هو ما قيل: من طول مدة عبوديتهم لفرعون، فكانوا يُذلونهم بأصناف الإذلال، فلما طال عليهم ذلك ومضى عليه أجيال متعاقبة، تطبعوا بطابع الذل، وصغار النفس، واللجاج والتمرد، وصارت لهم عقدة نفسيّة من الأمر والنهي، وكل من كان شأنه ذلك إذا وصل فجأة إلى النعيم والحرية المطلقة فإنه تتوق نفسه إلى ما تطبعت عليه من اللجاج والتمرد.

وقد بدت هذه السجيّة من أول لحظة افتكّوا من العبودية، حينما عبروا البحر، فطالبوا بإله كما لعباد الأوثان إله واستمر بهم الأمر رغم مشاهدتهم للآيات الباهرات ورغم العذاب الإلهي لهم كل مرّة .

الثاني: وردت في الروايات قصة صاحب البقرة:

ص: 160


1- البرهان 426/1 عن العيون وتفسير العياشي.

فعن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إن فتى من بني إسرائيل كان باراً بأبيه، وإنه اشترى بيعاً، فجاء إلى أبيه والأقاليد [أي المفاتيح لخزانة الأموال أو البضائع ] تحت رأسه، فكره أن يُوقظه، فترك ذلك البيع، فاستيقظ أبوه ، فأخبره، فقال له أحسنت خذ هذه البقرة فهي لك، عوضاً لما فاتك قال : فقال له رسول الله موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ : انظر إلى البر ما بلغ بأهله»(1).

وأما القتيل فورد في الرواية عن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ :

إن رجلاً من بني إسرائيل قتل قرابةً له، ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل، ثم جاء يطلب ،دمه فقالوا لموسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إن سبط آل فلان قتلوا فلاناً، فأخبرنا من قتله؟ فقال: ائتوني ببقرة .... [ إلى أن قال] فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال : لا أبيعها إلا بملء مسك [جلد ثور] ذهباً ، فجاؤوا إلى ،موسى وقالوا له ذلك فقال اشتروها ،فاشتروها، وجاؤوا بها، فأمر بذبحها ، ثم أمر أن يضربوا الميت بذَنَبها ، فلمّا فعلوا ذلك المقتول، وقال : يا رسول الله إن ابن عمي ،قتلني دون من يَدّعي عليه ،قتلي فعلموا بذلك قاتله.(2)

وروي : أن الله تعالى عوضهم ضعف ما دفعوه ثمناً للبقرة، وذلك لأنهم لما امتثلوا أمر الله بدفع ملء جلد ثور ذهباً ثمناً للبقرة، اشتكوا إلى موسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ

الفقر، فدلّهم على كنز فيه ضعف ما دفعوا (3).

ص: 161


1- البرهان 427/1 عن العيون، وتفسير العياشي.
2- المصدر نفسه.
3- تفصيل الرواية في البرهان 425/11 عن التفسير المنسوب للإمام الحسن العسکري عَلَيْهِم السَّلاَمُ

ولعل ذلك لكي يكون تشجيعاً لهم ولغيرهم على امتثال أوامر الله تعالى وخاصة في الأمور المالية، فإن الإنسان لو رأى سرعة التعويض بل ومضاعفة الجزاء فإنّه يتشجع على الطاعة.

ويظهر من الروايات الواردة في الواجبات المالية كالزكاة والخمس أو التي تستلزم صرف أموال كالحج أن الله تعالى يُعوّض الإنسان عما دفعه - وزيادة - في الدنيا سريعاً ، قبل الثواب الجزيل في الآخرة.

الثالث: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ) الاستعاذة بالله الالتجاء إليه من الشرور - نفسية كانت أم خارجيّة ، وذلك لأن الشر النفسي قد يُردي صاحبه، والشر الخارجي قد يضرّ المبتلى به أو يصرفه عن الخير، فعلى الإنسان أن يقي نفسه من الشرور، بالأسباب الطبيعية المتعارفة، مما دل عليها الشرع أو العقل، وفي الوقت نفسه عليه أن يلتجئ إلى الله ويلوذ به لكي يُعينه على عدم الوقوع في الشر، وعدم التضرر منه، وحيث إن الله تعالى هو مسبب الأسباب فلو عمل الإنسان بأوامره - ومنها التمسك بالعلل والأسباب الطبيعية - فإن الله يعينه لو استعاذ به.

قال تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي )(1). وقال سبحانه: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)(2) وقال عزّ :وجل (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ )(3).

وإنما استعاذ بالله من الجهل، ولم يقل لهم (إني لست من الجاهلين) لتأكيد أن الأمر بالذبح من الله تعالى لا منه، مضافاً إلى أن توقي الشرور

ص: 162


1- سورة يوسف، الآية 53.
2- سورة النحل، الآية: 98
3- سورة الناس، الآية: 6.

والسفاهات بحاجة إلى توفيق من الله سبحانه لأن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

الرابع: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) يدل هذا المقطع من الآية الكريمة على أن الاستهزاء بالناس صفة الجاهلين قليلي العقل .

لأن العاقل لا يستهزئ بالناس وخاصة من جاء لقضاء حاجة، أو حلّ مشكلة .

لأن الاستهزاء بالغير إما بسبب عقدة نفسية يريد المستهزئ أن يفرغها على الغير، أو بسبب ضعف حجته، فلما لم يتمكن من مقارعة الحجة بالحجة وَضَعُف أمام دليل الغير وبرهانه فإنه يريد جبر النقص بالاستهزاء ونحو ذلك .

أما العاقل فإنه لا تتحكم به بالانفعالات النفسانية، بل هو الذي يتحكم بها، كذلك إنه يقبل الحق ولو كان ذلك الحق ضده، قال تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ (1).

والجاهل هنا إما بمعنى غير العالم لأن العالم، الحقيقي يمنعه علمه السفاهات، أو بمعنى غير العاقل، وهذا المعنى أقرب إلى السياق .

الخامس: ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) لا يخفى أن للألوان تأثيرات نفسية خاصة، (وكذلك ما يشعره الإنسان بسائر حواسه)، فقد توجب انشراح النفس، أو انقباضها، أو غير ذلك من الآثار النفسية، ولذا فإنه كثيراً ما يُستشار خبراء علم النفس في اختيار الألوان سواء في البضائع التجارية أو في المستشفيات أو في الأبنية أو في غيرها.

ويظهر من هذه الآية أن اللون الأصفر للبقرة هو سبب دخول السرور

ص: 163


1- سورة النساء، الآية: 135.

في قلب من ينظر إليها ولا أقل من كون اللون الأصفر دخيلاً في دخول السرور في قلوب من ينظر إليها .

حيث إن للألوان تأثيراً ، فإنه قد ورد في الأحاديث استحباب أو كراهة اختيار بعض الألوان في الملبس والنعال وغيرهما.

فعن الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : من لبس نعلاً صفراء، لم يزل ينظر في سرور ما دامت عليه لأن الله عزّ وجل يقول: ﴿صَفْرَاهُ فَاقِعُ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (1)

وعن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ لما سئل : فما ألبس من النعال ؟ قال : عليك بالصفراء، فإن فيها ثلاث خصال: تجلو البصر، وتشد الذكر، وتنفي الهم وهي مع ذلك من لباس النبيين.(2)

قال السيد الوالد (رضوان الله عليه إما غيبي، وإما أن من آثاره الفرح والانبساط مما يوجب المضي في قضايا الجنس والاكتساب فيكون سبباً للمال والولد بل والعلم كما يأتي في رواية أخرى (3).

وعن الإمام الصادق عن أبيه عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إن علياً كان لا يلبس إلا البياض أكثر ما يلبس(4)

وعن الصادق قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البسوا البياض فإنه أطيب وأطهر(5).

ص: 164


1- الفقه ج 94 ، ص 272 عن فروع الكافي
2- المصدر عن الفروع والخصال
3- الفقه ج 94 ، ص 271 .
4- الفقه ج 94 ، ص 245 .
5- المصدر ج94، ص244.

وقال السيد الوالد (رحمة الله عليه) أما الخضرة فالظاهر أنه لا أساس بأنها كانت شعار العلويين، بل الظاهر أن شعارهم كان البياض وقد ألمحنا إلى ذلك في كتابنا الإمام الرضا يقود الحياة)(1).

السادس: (إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) .

روي عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لكنهم لما شدّدوا على أنفسهم شدّد الله عليهم، وأيم الله لو لم يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد» (2).

أي لما قالوا (وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) فإن الله تعالى أعانهم بالهداية، فلذا لم يسألوا بعد ذلك سؤالاً آخر بل قالوا : (الْانَ جِئتَ بِالْحَقِّ) ، مع أنه كان في إمكانهم إضافة أسئلة تافهة أخرى.

قال تعالى: ﴿وَلَا نَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا «23»إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّه)(3) لأن الله تعالى هو مسبب الأسباب، فإذا فعل الإنسان ما عليه، ثم التجأ إلى الله ليهيئ الأسباب الموصلة إلى المقصود، فإنه تعالى يُعينه، بفضله وكرمه

السابع: (قَالُوا الانَ جِئتَ بِالْحَقِّ).

موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ جاء بالحق من الأول، ولو كانوا من الأول يذبحون أية

بقرة، لكانوا قد امتثلوا الأمر وتحقق الغرض، لكنهم لعنادهم ولاتهامهم موسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ شدّدوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فلما قالوا : (إن شَاءَ اَللَّهُ) هداهم الله تعالى فلم يشدّدوا أكثر فتبين لهم الحق .

ص: 165


1- المصدر، ج 94 ، ص 264 .
2- مجمع البيان، 259/1.
3- سورة الكهف، الآيتان: 23، 24 .

ويمكن أن يكون الذي ساقهم إلى هذا القول، أنهم لم يجدوا سؤالاً آخر، فاضطروا إلى قبول الكلام لا عن قناعة بل لانقطاع حجتهم وعدم تمكنهم من الردّ، كما يحدث كثيراً في المناظرت والمحاججات، حيث إن أحد المتحاورين يُظهر قبوله لكلام الآخر ، لا بسبب قناعته به، بل بسبب انقطاعه عن الجواب، بحيث لم يحر جواباً إلا بالاعتراف بما يقوله محاوره .

ولعل المراد بالحق هنا الأمر الواضح أي جئت بالأمر الواضح بعد الإجمال، أو ما يستحقه المقام من التفصيل .

الثامن: ﴿وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) .

إما بسبب غلاء ثمن البقرة، وقيل إن سبب امتثالهم للأمر واستعدادهم لدفع الثمن الباهظ لم يكن بداع ديني، بل حملهم على ذلك طبعهم اللجوج واتهامهم موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فأرادوا اختبار موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فدفعوا الثمن وفيه تأمل.

وإما معناه أنهم بأسئلتهم التافهة وتمردهم كادوا لا يمتثلون أمر الله تعالى، كما في بعض مخالفاتهم الأخرى، لكن الله هداهم للطاعة بسبب قولهم (إن شَاءَ اللَّهُ).

التاسع: سؤال حول تشديد الحكم عليهم بعد كونه سهلاً؟ فقد يقال كيف نسخ الحكم الأول وهو ذبح أية بقرة، بحكم ثان وهو ذبح بقرة عوان بين الفارض والبكر، ثم نسخ هذا الحكم بحكم ثالث وهو ذبح بقرة عوان صفراء، ثم نسخ هذا بحكم رابع هو ذبح بقرة عوان صفراء غير ذلول إلى آخر الأوصاف؟

ص: 166

مع أنه لا نسخ إلا بعد العمل ولو لمرة واحدة - كما في آيات نجوى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ(1).

وليس هذا من قبيل التخصيص، وذلك لأنّ العام مراد من الأول، لكن لا يتبين المراد إلا بعد ورود ،الخاص وهنا كان الحكم في الأول غير مخصص بحيث إنهم لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم.

وللجواب عن هذا السؤال:

1 - قال السيد المرتضى رحمه الله : إن الحكم من الأول كان خاصاً بهذه البقرة وبجميع الأوصاف المذكورة، وإنما تأخر البيان عن وقت الخطاب ولا إشكال في ذلك(2).

لكن يظهر من سياق الآية وكذلك من الروايات - وبعضها صحاح (3) أن الأمر في البداية كان مطلقاً، لكنهم لما شدّدوا شدّد الله عليهم .

2 - إنه يمكن النسخ قبل العمل شرط حضور وقت العمل، كما ارتضى هذا المبنى الشيخ المفيد (رضوان الله عليه)(4)

فهنا لما أمروا بذبح بقرة مطلقة حان وقت العمل، فلما لم يذبحوا نسخ الذبح المطلق بذبح بقرة لها أوصاف خاصة.

3 - إنه لم يكن نسخ أصلاً، وذلك لأن الأمر كما يرتفع بالإطاعة فمن صلى الفريضة بعد دخول وقتها ارتفع عن ذمته الأمر بها وذلك بالامتثال ، كذلك يرتفع الأمر بالمعصية لو لم يبق الموضوع أو الوقت،

ص: 167


1- سورة المجادلة الآيتان 12 - 13.
2- مجمع البيان ج 1 ، ص 261 .
3- كالتي رواها الصدوق في العيون بأسناد معتبرة عن الرضا كما في البرهان جا ، ص 426 .
4- المعالم المطلب السابع في النسخ، ص 218 [ط: مؤسسة النشر الإسلامي]. 167

فإذا أمر المولى بإنقاذ الغريق وعصى العبد إلى أن مات غرقاً، فإن الأمر بالإنقاذ يسقط بسب العصيان لفوات الموضوع أي موت الغريق.

فهنا كان الأمر الأول ذبح آية بقرة، وهذا الأمر كان موقتاً بوقت خاص، وقد سقط الأمر بانتهاء وقته فكان الأمر بذبح بقرة ذات أوصاف خاصة أمراً جديداً وليس نسخاً .

وهذا الاحتمال أقرب وخاصة عند من لا يرى النسخ أصلاً .

العاشر: لعل التفصيل في هذه الآيات في قضية البقرة وجزئياتها - إضافة إلى الفوائد الجمة من الأمور المختلفة التي كانت تحيط بالقضية - هو بيان طبيعتهم اللجوجة، مما يتضح منه سبب مخالفاتهم الكثيرة، في مختلف القضايا الأخرى المذكورة في القرآن الكريم، وفي السنة المطهرة، أو التواريخ والتفصيل هنا في قصة البقرة يوصل الفكرة بشكل أوضح.

كذلك لعله لبيان أن من يشدّد على نفسه يشدد الله عليه، فكان التفصيل في القضية يوضح مسألة تشديدهم والتشديد عليهم، فتأمل .

وفي الميزان: (وزعموا أن ليس للإنسان أن يقبل قولاً إلا عن دليل، وهذا حق، لكنهم غلطوا في زعمهم أن كل حكم يجب العثور على دليله تفصيلاً ولا يكفي في ذلك الإجمال، ومن أجل ذلك طالبوا تفصيل أوصاف البقرة، لحكمهم أن نوع البقرة ليس فيه خاصة الإحياء، فإن كان ولا بد فهو فرد خاص منه يجب تعيينه بأوصاف كاملة البيان، ولذلك قالوا (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا هِىَ) وهذا تشديد منهم على أنفسهم من غير جهة، فشدّد الله عليهم)(1)

ص: 168


1- الميزان ج 1، ص 201 .

الآيات 72 - 74

﴿«وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)»«فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)»«ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)»

72 - (وَ) اذكروا ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) قام بالقتل بعضهم ولكن نسب إليهم على عادة العرب من نسبة العمل إلى الجميع وإن كان العامل البعض، (فَادَّارَءْتُمْ ﴾ أي تدافعتم بأن دفع كل واحد القتل عن نفسه (فِيهَا) في تلك النفس (وَاللهُ مُخْرِجٌ) ومظهر (مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) أي تكتمونه من أمر القاتل وسبب القتل.

73 - ثم أمرناكم (فَقُلْنَا) لكم (اضْرِبُوهُ) أي القتيل (بِبَعْضِهَا) . أي بذنبها، فلمّا فعلوا ذلك أحيى الله القتيل فقام وأخبر بقاتله، وأراهم الله ،قدرته بأنه سبب الحياة وليست الأسباب الظاهرية، وإلا فكيف ضرب ميت بميت يوجب الحياة؟ وكما أحيى الله القتيل في قصة البقرة (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى) ، (وَ) كما رأيتم قدرة الله وعلائمه في القصة كذلك (يُرِيكُمُ) الله (ءَایاتِهِ) في الآفاق وفي أنفسكم فكل يوم ترون علائم الله تعالى في مختلف الأمور (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي

ص: 169

لكي تستعملوا عقولكم ولا تعطلوها، فإن من لا يستعمل عقله فهو كمن لا عقل له.

74 - لكن أكثركم بقي غافلاً وعطل عقله ث(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم) فلم تؤثر فيها المواعظ، فجفّت عن الخير والرحمة (مِن بَعْدِ ذَلِكَ) المذكور من آيات الله تعالى، في إحياء القتيل وسائر الآيات الأخرى (فَهِىَ) أي قلوبكم (كَالْحِجَارَةٍ) في قسوتها (أو) أن تلك القلوب ﴿أَشَدُّ قَسْوَةً) من الحجارة، وكلمة (أَوْ) هنا لإبهام الأمر على السامع ابتداء، ليكون أكثر دلالة على الأشديّة لما يفصل في الحجر، وهذا تشبيه المعقول بالمحسوس وسبب أن قلوبكم أقسى من الحجارة لأن بعض الحجر فيه نفع - قليل أو كثير - وقلوبكم لا يرجى خيرها ﴿وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ) التفجر التفتح بالسعة والكثرة أي لحجر يتفجر (مِنْهُ الْأَنْهَارُ) أي تخرج المياه الكثيرة الجارية من جوف بعض الجبال والأحجار ، (وَإِنَّ مِنْهَا) أي من الحجارة (لَمَا يَشَقَّقُ) أي تحصل فيه فطور تَنزّ ماءً كبعض العيون، (وَإِنَّ مِنْهَا) أي من الحجارة ﴿لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) فإن لم يجر منها الماء ولكنها خاشعة، ولها خشية - تكوينية - بأن تسير حسب قوانين الله من الجاذبية وغيرها، ولكنكم تخالفون قوانين الله فالحجر خير منكم !!، ثم لا تتوهموا أن الله لا علم له بأموركم وأفاعيلكم ، بل ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فهو عالم بكم ويجازيكم من غير أن يظلمكم.

-----------------------

بحوث

الأول: التسلسل الزمني للقضية كان القتل ثم ذبح البقرة لكشف القاتل

ص: 170

لكن في الآيات الكريمات ذكر عكس التسلسل الزمني، ولعل ذلك لبعض

الجهات:

1 - إن الغرض الأصلي من ذكر القصة هو بيان لجاجتهم وتمردهم فلذا قدّم ما هو المقصود أولاً وبالذات وذكر قصة القتل لتمام القصة .

2 - إن ما ذكر من قصص بني إسرائيل هو لتعداد ما ارتكبوه من الجنايات تقريعاً لهم وتحذيراً للمسلمين من حذو أثرهم، وهذه القصة وإن كانت واحدة إلّا أنه أُريد منها تقريعين اثنين وتحذيرين، ففي البداية تقريعهم على لجاجهم، وثم تقريعهم على القتل والتدارؤ فيه، قال في الكشاف : وإنما قدمت قصة الأمر بذبح بقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب الغرض من تثنية التقريع ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية قصة برأسها، أن وصلت بالأولى، دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله : اضربوه ببعضها (1).

الثاني: ﴿فَادَّرَءٰتُمْ ) أصله تدارأتم» من درأ بمعنى دفع أي كل واحد حاول دفع التهمة عن نفسه وإلقاءها على الآخرين، وقد يكون فيه معنى الاختلاف.

وذلك لأن العادة أن الناس في المشاكل يحاولون إلقاء اللوم أو المشكلة على الآخرين، عكس الانتصارات حيث يحاول كل أن يظهر نفسه بمظهر المشارك، ولذا قيل للانتصار ألف أب، والهزيمة يتيمة».

والصحيح أن يُبرّئ الإنسان نفسه من التهم الباطلة، من دون إلقاء المسؤولية على الآخرين عملاً بالظنة والتهمة.

ص: 171


1- الكشاف ج 1 ، ص 154 .

الثالث: (وَاللهُ يُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) لأنه من سنن الله في الكون إظهار الحقائق - ولو بعد حين - في الدنيا قبل الآخرة قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرىَ اَللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾.(1)

ويستفاد من بعض الأحاديث أن البغي أسرع المحرمات عقوبة وكان القاتل يُكشف على كل حال لكن الله عجل في فضحه والانتقام منه وبهذه الكيفية انتصاراً لنبيه، وتأديباً لبني إسرائيل، وإظهاراً لقدرته، وإفهاماً للناس بالعقوبة العاجلة للقتل لأنهم ينسون سبب العقوبة - لو تأخرت -.

الرابع: قيل: إن أول ما شُرّع منع القاتل من الإرث كان في هذه القضية، وذلك لأن المال الكثير للمورّث قد يوجب طمع الوارث في قتله ليستولي على أملاكه، ولأن من طرق كشف القاتل هو كشف المستفيد من الجناية فمن أوائل الأسئلة التي يلقيها المحقق الجنائي هو من المستفيد؟ ويتم التدقيق والتحقيق عنه وقد يؤدي هذا السؤال ومحاولة الإجابة عنه إلى کشف خيوط الجريمة.

فإذا علم الوارث أنه في معرض التحقيق والاتهام - كونه مستفيداً من موت مورثه ، وأنه لو اكتشف القتل فإنه يمنع عن الإرث، فإنه يرتدع عن ارتكاب الجريمة في أحيان كثيرة .

الخامس: ﴿وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ) كان من الممكن أن يكون الأمر في كشف القتيل على المتعارف بأن يبحثوا عن البينات أو القرائن أو اللوث - وحسب الأحكام الظاهرية-.

ولكن الله أراد أن يريهم آياته وعجائب فعاله لتلين قلوبهم، فلذا جعل

ص: 172


1- سورة التوبة، الآية: 105.

اكتشاف القاتل عبر هذه الطريقة، وهي ضربه ببعض البقرة المذبوحة حتى يكون الإحياء أظهر وأكثر تأثيراً ، لأنهم كانوا ينتظرون الإحياء عبر هذه الطريقة غير المتعارفة .

السادس: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي جنّت من الخير والرحمة فلم تؤثر فيها المواعظ ، و(ذَلِكَ) قد يراد به إحياء القتيل في قصة البقرة ويمكن أن يراد به جميع الآيات التي شاهدوها - وما أكثرها -.

فيكون إشارة إلى بني إسرائيل في زمن موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وكذلك من كانوا في زمن رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، وإلى يوم القيامة، وليس معنى ذلك أن قلوبهم لم تكن قاسية قبل ذلك، بل لعل المراد أن المتوقع ممن يرى هذه الآيات الباهرات أن يخشع قلبه ،ويلين لكن هؤلاء للجاجهم وشقاوتهم لم تلن قلوبهم، بل استمرت على ما كانت عليه من القسوة.

السابع: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ) هذا من تشبيه المعقول بالمحسوس، وبيان أن الحجارة كما هي صلبة ويصعب التأثير عليها، كذلك هذه القلوب لا تتأثر بالمواعظ، فهؤلاء يمتنعون عن الإقرار بالحق لما قامت الحجة عليهم، وكذلك يمتنعون عن العمل بما علموا من الطاعات.

الثامن: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةٌ) بما أن الترديد مستحيل على الله تعالى، لأن منشأ الترديد هو الجهل وعدم العلم بأي الفردين، فلذا فإن «أو» هنا للإبهام، بمعنى أن المتكلم العالم لا يذكر الأمر بشكل واضح بل يذكره مبهماً، حتى يصل إلى غرضه، ثم بعد ذلك يتم تبيين ما أجمل، ولعل الغرض هنا هو الإلفات إلى شدة قساوة قلوبهم، ولإيصال الفكرة جاء الإبهام بين أمرين :هما (كَالْحِجَارَةِ) و(أَشَدُّ قَسْوَةٌ) ، ولذا لم يقل (أقسى)

ص: 173

بل قال (أَشَدُّ قَسْوَةٌ)، لأن المعنى وإن كان واحداً، لكن الإلفات في (أَشَدُّ قَسْوَةٌ) أكثر وذلك لتضمن الجملة على كلمة الشدة أيضاً.

ثم بعد حصول الالتفات إلى هذه القساوة بين الله تعالى أن قلوبهم أشد من الحجارة في قوله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ) .

التاسع: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ) التفصيل في أقسام الحجارة وتقسيمها إلى الأقسام الثلاثة، إنما يراد منه زيادة بيان قسوة قلوب هؤلاء فالغرض الأساسي من التفصيل في أقسام الحجر ليس لأجل الحجر نفسه، بل لبيان مزية الحجر على قلوبهم، وذلك لإيصال الفكرة - وهي قساوة قلوبهم - بشكل أجلى وأوضح بما لا لبس فيه.

العاشر: ﴿يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)

هبوط الحجر من خشية الله قد يراد به انقياده لإرادة الله سبحانه وتعالى

حيث إن الله قدر الجاذبية - تكويناً - فانقادت لهذه الإرادة الجمادات .

ويمكن أن يراد المعنى الحقيقي كما في قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)(1) وقوله سبحانه (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ انْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ)(2) وقوله عزّ وجل: ﴿وَإِن مِن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَدِهِ ) (3). بناء على حمل هذه الآيات على الظاهر من المعنى الحقيقي.

وعلى كل فالمعنى أن قلوبهم أشد قساوة من الحجر، لأن الحجر فيه خشية من الله وهؤلاء لا يخشونه تعالى .

ص: 174


1- سورة الحشر، الآية: 21
2- سورة فصلت الآية: 11
3- سورة الإسراء، الآية: 41 .

الخلاصة:

هنالك عدة دروس تستفاد من قصة ذبح البقرة قصة ذبح البقرة - كما في الكشاف (1) والمجمع(2) وغيرهما ومنها :

1 - محبوبية الذبح ، تقرباً إلى الله، واكتساباً للثواب.

2 - لزوم ترك التشديد، حتى لا يشدد الله سبحانه .

3 - لزوم المسارعة إلى امتثال أمر الله تعالى.

4 - نفع اليتيم بالتجارة.

5 - بركة برّ الوالدين .

6 - محبوبية الشفقة على الأولاد.

7 - اختيار الأنسب للتقرب إلى الله، كما في البقرة المذبوحة حيث كانت جميلة الظاهر سالمة من العيوب .

8 - إن الله هو سبب الأسباب فالحياة منه تعالى وأما الأسباب الأخرى فهي أمور ظاهرية، وعلى الإنسان أن يأخذ بها لكن مع علمه بأن الأمر بيد الله .

ص: 175


1- الكشاف، ج 1 ، ص 154 .
2- مجمع البيان، ج 1، ص 263 .

الآيات 75 - 77

المطلب الخامس ومن أسباب انحراف بني إسرائيل (تحريف كلام الله تعالى أو الجهل به)

(«أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)»«وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)»«أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)».)

75 - (أَفَتَطْمَعُونَ﴾ أيها المؤمنون، استفهام إنكاري بمعنى لا تطمعوا وأصل الطمع هو الأمل بما يظن نفعه (أَن يُؤْمِنُوا) هؤلاء اليهود (لَكُمْ) أي يصدقوكم ، فإن تعدية الإيمان باللام يفيد معنى التصديق ،والاستجابة، ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) وهم بعض كبارهم ولم ينسب العمل إلى كلهم لأن التحريف لا يتأتى إلا من البعض،

﴿يَسْمَعُونَ كَلَمَ اللهِ) التوراة وسائر الكتب السماوية (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) أي يغيرونه - معنىً أو لفظاً - تحريفاً ينسجم مع مصالحهم أو مصالح من أخذوا منهم الرشوة (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) أي فهموه ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ) بأنهم يحرفون، وهذا يشدد جريمتهم لأن من لا يفهم كلاماً

ص: 176

ويتصور المعنى خلاف المقصود أقل جرماً ممن فهم الكلام ثم حرّفه، فهؤلاء لا يرجى إيمانهم لأنهم مستعدون لكل شيء حتى لتحريف كلام الله، فيما لا ينسجم مع مصالحهم، فكيف يؤمنون لكم أيها المؤمنون؟

76 - ﴿وَ) حتى إذا أظهروا الإيمان فإنما هو نفاق منهم فإنهم ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا) بأن محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مذكور في كتبنا ، فيظهرون الإيمان ليطلعوا على أخبار المسلمين وأسرارهم أو لحفظ ،مصالحهم ، (وَ) لكن ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) أي التقوا في مكان خالٍ من الأغيار (قَالُوا) معاتبين من اعترف أمام المسلمين بوجود اسم محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم (أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي بما علمكم وأرشدكم إليه، (ليُحَاجُوكُم بِهِ). أي اعترافكم سبب لإعطاء الحجة بيد المسلمين (عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فإنهم كانوا يتصورون أن الله لا يعلم أسرارهم، فاعترافهم يوجب أن يذكر المسلمون ذلك أمام الله ، مما يوجب محاججتهم وانكشاف أمرهم أمام الله .

77 - (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ) إخفاء الأمر على المسلمين لا يوجب خفاءه على الله تعالى فإن (اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ) بينهم أو في قلوبهم (وَمَا يُعْلِنُونَ) فيحاسبهم عليهما جميعاً.

----------------------

بحوث

الأول: ﴿يُؤْمِنُوا لَكُمْ ﴾ الإيمان قد يتعدى بالباء فيقال «آمن به» ومعناه هو

ص: 177

الاعتقاد بشيء كالإيمان بالله وبالرسول، وقد يتعدى باللام فيقال آمن له» ومعناه هو الاستجابة للشخص وتصديقه كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(1) وهنا بمعنى أنكم تطمعون أن يصدقوكم ويستجيبوا لكم أي يؤمنوا كما آمنتم.

الثاني: ﴿فَرِيقٍ مِنْهُمْ) في الآيات السابقة واللاحقة نسب إلى جميعهم ما فعله بعضهم على الأسلوب البلاغي في نسبة عمل بعض القوم إليهم أجمع، لأن الطبع واحد والكل راض عن عمل البعض.

لكن هنا نسب الأمر إلى بعضهم فقال تعالى: ﴿فَرِيقٍ مِنْهُمْ)، ولعل ذلك بسب أن التحريف لا يمكن أن يقوم به إلا البعض من أحبارهم وكبرائهم ولا يتأتى من عامتهم وقد أشار سبحانه في الآية 78 أن فريقاً منهم أميون لا يعلمون الكتاب إلّا أماني، فالتحريف لا يتأتى منهم، وينحصر في البعض منهم، إضافة إلى أنه نوع بلاغة في الكلام مع جواز نسبته إلى كلّهم الرضاهم عنهم، ولذا نسب التحريف في آيات أخرى إليهم كلهم قال تعالى: (يُحرفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعه)(2).

الثالث: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ).

لعل وجه ذكر أنهم كانوا يسمعون ويفهمون ثم يحرفون، للدلالة على عمق جريمتهم في التحريف، فإنهم سمعوا وفهموا المقصود ومع ذلك قاموا بالتحريف، في حين أن من لم يسمع قد يعتذر أو يُعتذر له بأنه لم يكن يدري أو أن ما نقل له لم يكن صحيحاً ، فالمشكلة في الناقل لا فيه،

ص: 178


1- سورة البقرة، الآية: 61.
2- سورة المائدة الآية: 13

فأراد الله بيان أن هؤلاء كانوا مع علمهم وفهمهم بالمقصود يقومون بالتحريف، فلا يمكن الاعتذار لهم بأي وجه من الوجوه .

ويمكن أن يكون المراد هو أنهم كانوا يسمعون ثم يحرفون تحريفاً معنوياً أو في نقل الألفاظ، وأما التحريف في الكتابة فهو قسم آخر من أقسام التحريف ذكر في آيات لاحقة فيكون تقسيم إذاً إلى أقسام ثلاثة : فقسم يحرفون معنى أو لفظاً، وقسم أميون، وقسم ثالث يحرفون الكتابة، فتأمل.

الرابع: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) هو تغيير المعنى إلى خلاف المقصود، أو تغيير اللفظ ليتغير المعنى كجعل الحلال حراماً أو الحرام حلالاً .

وروي أنهم قالوا لبني إسرائيل : إن الله تعالى قال لنا هذا ، وأمرنا بما ذكرناه لكم ونهانا، وأتبع ذلك بأنكم إن صعب عليكم ما أمرتكم به فلا عليكم أن لا تفعلوه، وإن صعب عليكم ما عنه نهيتكم فلا عليكم أن ترتكبوه وتواقعوه، وهم يعلمون أنهم بقولهم كاذبون(1).

وسبب التحريف أنهم كانوا يرون كلاماً أو حكماً لا يرضون به، إما للمشقة في تطبيقه، أو لأنهم يريدون الإثراء أو الوجاهة على حساب الحق، فيجدون الحكم مانعاً ، أو يرتشون ممن لا يريد تطبيق ذلك الحكم فيغيرونه إرضاءً له، أو لغير تلك الأسباب.

وفي التوراة وقع التحريف في اللفظ أيضاً.

والتحريف اللفظي حدث لجميع الكتب السماوية الأخرى، سوى القرآن الكريم حيث حفظه الله تعالى من التغيير اللفظي، فما هو موجود الآن بين الدفتين هو ما نزل على رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بلا زيادة ولا نقصان .

ص: 179


1- البرهان ،ج 1، ص 439 ، عن التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

كما

خلافاً لما زعمه ابن تيمية حيث توهّم أن التوراة الحالية هي نزلت على موسى من دون تحريف(1) وكأنه لم يقرأ قوله تعالى :

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّه)(2) .

وأما تغيير المعنى، أو التأويل من غير دليل، فهذا ما أحدثه البعض في معاني الكتب السماوية وحتى أن بعض المسلمين فسّروا أو أوّلوا آيات من القرآن الكريم خلافاً لما أراده الله تعالى، وذلك بسب الجهل أو مراعاة لمصالحهم أو مصالح الحكام - والعياذ بالله -

ومن أنواع التحريف - بتغيير المعنى - البدع، وهي إدخال ما ليس من الدين في الدين فما ليس له أصل في الدين يكون اعتباره من الدين من التحريف المعنوي ويقال له البدعة، وكذا الزيادة والنقيصة فيما هو توقيفي كالصلاة والصوم.

وأما تطبيق الكليات على الجزئيات - حتى المُستجد منها - فإنه ليس من البدعة في شيء، بل هو امتثال لأوامر الله تعالى، فمثلاً صلة الرحم من الأحكام الشرعية الكلية، فيجب أو يستحب أن يصل الإنسان أرحامه ، وهذا حكم كلي يمكن تطبيقه بشكل جزئي، حتى بما لم يكن متعارفاً سابقاً كالاتصال بالهاتف مثلاً ، فهذا ليس من البدعة بل هو تطبيق الأمر شرعي كلي على مصداق جزئي جديد.

الخامس: ﴿قَالُوا ءَامَنَّا) .

أي آمنا بأن محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ موجود في كتبنا، ولم يكن غرضهم الإيمان

ص: 180


1- منهاج السنة : ج 1 ، ص 363 ، وج 2، ص 153 وص 563.
2- سورة البقرة، الآية: 79.

حقيقة، وإنما كان ذلك نفاقاً منهم ، صوناً لأنفسهم، أو لأجل أن يطلعوا على أسرار المسلمين حينما يدخلون في صفوفهم، ومن ثَمَّ يتربصون بهم الدوائر .

ولعل وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها أنه كان من دأب أسلافهم تحريف كلام الله ، فلمّا بعث الله رسوله محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وكان اسمه مذكوراً في التوراة الموجودة في أيديهم كما أشار إليه تعالى في قوله : (الرَّسُولَ النَّبِىَّ اَلأُمِىَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَالإنجيل )(1) ، حينذاك من كان يظهر منهم الإيمان، كان يخبر المسلمين بما في التوراة من وصف رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد شق ذلك على كبارهم فلذا حرّفوا هذه المقاطع من التوراة بحذفها إخفاء للحجة .

ويحتمل بأن قولهم (ءَامِنا) لا يراد به إظهارهم الإسلام نفاقاً ، بل هم مع بقائهم على كفرهم كانوا يقرؤون التوراة وفيها ذكر لرسول الله ، فالإيمان هنا بمعنى اعترافهم بما في التوراة من غير قبول للإسلام - ولو ظاهراً ، ويقرّب هذا الاحتمال عتاب بعضهم لهؤلاء مما ذكره الله

تعالى .

السادس: فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُوكُم)

فَتَحَ باب العلم بمعنى علّمه وأرشده إليه، فكانوا يتصورون بأنهم بإخفائهم ما في الكتاب من أوصاف النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يتمكنون من خداع الله سبحانه وتعالى، حيث كانوا يزعمون بأن الله لا يعلم أسرارهم وما يُسرّون، فلذا اعتبروا اعترافهم أمام المسلمين سيكون سبباً لانكشاف

ص: 181


1- سورة الأعراف الآية: 157

أمرهم أمام الله سبحانه، حيث سيشهد المسلمون عليهم أمام الله تعالى بأنهم أقروا واعترفوا بورود ذكر للنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مما سيوجب مؤاخذتهم .

وهؤلاء لجهلهم بالله تعالى كانوا يتصورون بأن الله كالناس فلذا نسبوا إلى الله ،الفقر وغلّ اليد والجهل وغيرها من صفات النقص تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .

في حين أن من أعمل عقله، علم يقيناً بأن الله لا كالأشياء، فهو علم بلا نهاية ولا يخفى عليه شيء في السماء ولا في الأرض.

والغريب أن بعض من يدعي الإسلام حذا حذو اليهود، فقالوا بجهل الله بالجزئيات، لأنهم بأوهامهم توهموا ذات الله ، ثم فسروا علمه وسائر صفاته بما ينسجم مع ما توهموه .

مع أن الإنسان يستحيل أن يفهم ذات الله تعالى، ولذا ورد في الروايات النهي عن التفكر في ذات الله، لأن المخلوق المحدود يستحيل أن يحيط بغير المحدود اللامتناهي.

ولأن صفات الله الذاتية عين ذاته تعالى، وليست أمراً زائداً على الذات، فكما يستحيل معرفة كنه ذاته كذلك يستحيل معرفة كنه صفاته .

بلى العقل يدرك أن الله موجود وأن له صفات كمال، وهو منزه عن النقائص، لكنه لا يمكنه أن يدرك كنه ذاته وصفاته تعالى .

بل الإنسان لا يمكنه أن يدرك كنه وحقيقة الممكنات، مثلاً الإنسان يعجز عن فهم كنه وحقيقة الوجود، مع أن الوجود من أوضح الأشياء، وهكذا سائر الأمور الواضحة التي يعتقد بها الإنسان ويراها فإنه يعجز

ص: 182

عن فهم حقيقتها وكنهها ، فإذا كان هذا حد فهم الإنسان في الممكنات الواضحة، فإنه أعجز من فهم كنه ذات الله تعالى وصفاته .

والمتحصل : أن الله تعالى عالم بكل شيء كلياً كان أم جزئياً، علنياً أم سريا، ظاهراً أم مضمراً .

وكما أن سنخ ذاته يختلف اختلافاً تاماً ذات الممكنات ، كذلك علمه وسائر صفاته تختلف اختلافاً تاماً عن علم الممكنات، لأن علمه عين ذاته .

وعن الإمام موسى بن جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال :

«علم الله لا يوصف منه بأين ولا يوصف العلم من الله بكيف، ولا

يفرد العلم من الله ولا يباين الله منه وليس بين الله علمه حد»(1) وبين ومن أرجع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية فقال : إن معنى أنه عالم قادر مريد أنه ليس بجاهل وليس بعاجز وليس بمكره وهكذا سائر الصفات لعلّه أراد هذا المعنى، أي أن علمه يختلف عن علمنا بشكل تام، ولا يمكن لنا أن نفهم معنى علمه.

ولذا قال صاحب الفصول بالاشتراك اللفظي (2)، أي للعلم معنيان أحدهما علم الممكنات وهذا النوع ،نفهمه والآخر علم الله تعالى ولا يمكن لنا فهمه.

وإن كان الأصح أنه لا اشتراك لفظي، بل هناك معنى واحد : للعالم ولغيره من الصفات ولكن مع نوع من التأويل في إطلاق هذه الصفات عليه .

ص: 183


1- من فقه الزهراء ج 2، ص 214 عن البحار ج 4 ، ص 86.
2- الفصول / بحث المشتق

وذلك لأن العرف وأهل اللغة لا يلتفتون إلى هذه البحوث الدقيقة، فيطلقون هذه الأوصاف عليه سبحانه بنفس المعنى الذي يطلقونها على غيره ولكن لما كانت اللغة قاصرة عن بيان كنه الذات والصفات لاستحالة إدراك المحدود الممكن للواجب غير المحدود، فإن ألفاظ الصفات في القرآن الكريم جرت عليه ولكن بضرب من التأويل، فتأمل(1).

السابع: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ ) فالله يعلم سرّهم وجهرهم، فسِرُّهم حين يتناجون مع شياطينهم، وجهرهم حين ينافقون مع المسلمين.

وكذلك دحض حجتهم أمام الله تعالى لا فرق فيه بين أن يُظهروا بعض الحقائق أمام المسلمين أو لا يظهروها .

كما أن الحجة عليهم لا تختص بما يخفونه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم بل لا حجة لهم أمام الله تعالى في كثير من أعمالهم الأخرى من القتل ونقض الميثاق والتحريف وغيرها، وروي أنهم قدروا بجهلهم أنهم إن لم يخبروهم بتلك الآيات لم يكن له حجة عليهم حجة في غيرها (2).

ص: 184


1- قال المحقق العراقي في نهاية الأفكار ج 1 ، ص 152 بأن عقول الممكنات طراً لما كانت قاصرة عن الإحاطة بذات الواحد الأحد ولم تدرك منه سبحانه إلا بقدر قابليتها واستعدادها، فلا جرم إذا كان همّ عقول الممكن جهة دون جهة وقصر النظر على علمه أو قدرته أو حياته أو إرادته سبحانه، يصير مدركه لا محالة محدوداً في نظره بحيث ينتزع من حد ما أدركه حيثية الذات تارة والعلم أخرى وحيثية الإرادة والقدرة ثالثة وهكذا من دون أن تكون تلك الحيثيات الانتزاعية الناشئة من قصور النظر راجعة إليه.
2- البرهان ج 1 ، ص 444 عن التفسير المنسوب للإمام العسكري

الآيتان 78 - 79

(«وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)»«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ «79»).

78 - (وَ) هنالك قسم ثاني (مِنْهُمْ) أي اليهود، وهم العوام - الذين لا يقرأون ولا يكتبون، فلا يتمكنون من العلم بحقائق الكتاب فهم (أُمِیُّونَ) نسبة إلى الأم، أي لم يتعلموا القراءة والكتابة، وهم (لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) لأنهم لم يقرؤوه (إلَّا أَمَانِيَ) استثناء منقطع أي ليس لهم إلا أمان بالنجاة في الآخرة، ولا يعلمون بتحقق تلك الأماني ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) أي ليس لهم إلا الظن بالنجاة ولا علم لهم به.

79 - ولأنّ جهل الأميين كان بسبب تحريف علمائهم (فَوَيْلٌ) أي الهلاك والعذاب (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِهِمْ) فليس هو كتاب منزل، وإنما هو ما كتبه علماؤهم لمصالحهم ، (ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا) الذي كتبوه هو منزّل (مِنْ عِندِ اللَّه)، وهؤلاء هم القسم الثالث من اليهود، وسبب هذا الافتراء هو (لِيَشْتَرُوا بِهِ) أي بما كتبوه (ثَمَناً قَلِيلاً) من الرئاسة على العوام، أو مصالح دنيوية مالية ونحوها، وهذا الويل لأمرين: ﴿فَوَيْلٌ لَهُم

ص: 185

مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) لأنهم ارتكبوا أشد المحرمات المهلكات ﴿وَوَيْلٌ لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ لأن ثمن الحرام حرام شديد.

------------------------

بحوث

الأول: كما مرّ، لعل هذه الآيات من الآية 75 إلى الآية 79 تشير إلى حالاتهم مع التحريف، ففريق منهم يحرّف المعنى أو يحرف في كلامه : حينما ينقل كلام الله ويؤيده ما مرّ من الرواية الدالة على أنهم لما نقلوا التوراة أضافوا هذا القول: «بأنكم إن صعب عليكم ما أمرتكم به فلا عليكم أن لا تفعلوه... الخ.

وفريق آخر منهم : هم الأميون الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، فلا علم لهم بالتوراة إلا ما سمعوه من علمائهم المحرّفين، وهؤلاء يظنون بأنهم ناجون ولا علم لهم بذلك.

وقسم ثالث منهم مَنْ يحرفون تحريفاً كتبياً، أي يضيفون إلى الكتاب ما ليس فيه.

ولعل ذكر الأميين في الوسط مراعاة للتسلسل الزمني، بسبب أن التحريف كان في البداية تحريفاً في المعنى أو في النقل فقط، فاتبع الأميون المحرفون بالمعنى واللفظ ، ثم احتاج هؤلاء المحرفون إلى تغيير الكتابة أيضاً .

أو لأنهم لما حرفوا المعنى رأوا استجابة من عوامهم فتشجعوا على تحريف الكتابة أيضاً .

ص: 186

أو أن الآية الأخيرة لبيان العذاب للمحرفين، فبعد أن ذكر الله تعالى أنهم قسمان بين محرّف وأمي، بعد محرّف وأمي، بعد ذلك بيَّن سبحانه العذاب الذي يلحق

المحرفين .

الثاني: (أُمِیُّونَ)

الأمي منسوب إلى الأم ويراد به الذي لا يكتب ولا يقرأ ، فكأنّه تربّى في ظل أمه لا المعلّم، أو كأنه بقي كما ولدته أمه.

ومعنى الأمي في مختلف آيات القرآن هو هذا .

وسيأتي - إن شاء الله - أن إطلاق الأمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ اَلْأُمِّیَ)(1) ، أيضاً بهذا المعنى لأن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ - وإن كان بالإعجاز يعلم جميع الأمور ومنها القراءة والكتابة ، لكنه لم يتعلمهما عند بشر، وكذلك لم يستعمل القراءة أو الكتابة طيلة حياته، وذلك لإكمال الحجة ولكي لا يرتاب المبطلون قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ، مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)(2)

فيكون معنى الأمي فيه هو الذي لم يتعلم الكتابة ولا القراءة عند بشر، وهذا لا ينافي معرفته بهما بالإعجاز أي بتعليم من الله تعالى.

وسيأتي - إن شاء الله - بيان ما روي من أن نسبة الأمي إلى الرسول نسبة إلى أم القرى وهي مكة، وكذلك ما روي من قراءته أو كتابته، وأنه حتى لو فُرض صحة هذه الروايات ودفع التعارض بينها، فإنها لا تنافي

ص: 187


1- سورة الأعراف الآية: 157.
2- سورة العنكبوت الآية: 48 .

ما ذكرناه، لأن تلك الروايات تشير إلى الإعجاز لا إلى التعلّم عند بشر، كما أنها تشير إلى وقائع في المدينة المنورة أي بعد البعثة بسنوات طوال مما لا يتنافى مع دحض ارتياب المبطلين، فانتظر .

الثالث: (إلّا أمانِيَّ) جمع أُمنية، وهذا استثناء منقطع ، أي لأنهم أميون فإنهم لا علم لهم بالكتاب، ولا بما ورد فيه من أوصاف النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، وإنما هم إمعات يسمعون إلى ما يقوله أحبارهم وكبراءهم .

فهؤلاء بما سمعوه، يظنون النجاة في الآخرة وهذه أمنيتهم ولكن

لأنهم لا يطمئنون إليهم، فإنهم يمنّون النفس بالنجاة من غير اطمئنان لمعرفتهم بحالات الأحبار وعدم ورعهم.

وكل من علم بعدم ورع عالم وكذبه ،ومصلحيته، فإنه لا يجوز له أن يقلّده، وهو ليس بمعذور في ذلك، لأنه جاهل مقصر، ولا فرق بين من يعلم بالبطلان وبين الجاهل المقصر .

وعن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه سئل عن ذلك :

فقال رجل للصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : فإذا كان هؤلاء القوم لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم، لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم، وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماءهم، فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم، لم يجز لعوامنا القبول من علمائهم؟ إلى أن قال:

فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشا، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات و المصانعات وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به

ص: 188

أديانهم ، وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم بأنهم يقارفون المحرمات .

واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل مثل ما يفعلونه فهو فاسق، لا يجوز أن يُصدِّق على الله تعالى ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله .

فلذلك ذمّهم لما قلدوا من قد عرفوا ، ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤديه إليهم عمّن لم يشاهدوه، ووجب عليهم النظر بأنفسهم، في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لا تظهر لهم.

وكذلك عوام أمتنا، إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه - وإن كان لإصلاح أمره مستحقاً - ، وبالترفرف بالبر والإحسان على من تعصبوا له - وإن كان للإذلال والإهانة مستحقاً ، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم .

فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا في بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم فإنه من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة، فلا تقبلوا منهم عنا شيئا ولا كرامة لهم.(1)

ص: 189


1- البرهان ، ج 1، ص 446 - 447 عن التفسير المنسوب للإمام الحسن العسکري

الرابع: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).

ننقل مضمون كلام الشيخ الأعظم الأنصاري الله في الرسائل، مع بعض الإضافات من كلام السيد الوالده في كتاب الوصائل إلى الرسائل)(1)والكلام تارة في الظن بأصول الدين، وتارة في العلم الناشيء من التقليد.

1 - إن مسائل أصول الدين وهي التي لا يجب فيها - أولاً وبالذات - إلا الاعتقاد باطناً والتدين ظاهراً ولا يجوز فيها التقليد على قسمين:

القسم الأول: ما لا يجب تحصيل العلم بها، لكن إذا اتفق حصول العلم، وجب الاعتقاد والتدين به كبعض تفاصيل المعارف مثل أحوال البرزخ وخصوصيات الجنة والنار.

فلا يلزم العلم بها، ولكن لو علم بها وجب عليه الاعتقاد بها، تصديقاً لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمة عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ.

القسم الثاني: ما يجب تحصيل العلم بها كأصول الدين.

فمن هو قادر على تحصيل العلم فلا يجوز أن يكتفي بالظن فمن ظن بنبوة نبينا محمد أو بإمامة أحد الأئمة فإنه لا يجوز له الاقتصار على ذلك الظن بل يجب عليه زيادة النظر لتحصيل العلم .

والدليل على ذلك جميع الآيات والأخبار الدالة على وجوب الإيمان والعلم والتفقه والمعرفة والتصديق والإقرار والشهادة والتدين وعدم الرخصة في الجهل والشك ومتابعة الظن.

ص: 190


1- كتاب الرسائل / باب الانسداد التنبيه الخامس، وكتاب الوصائل ج 6، ص 43 - 137.

وحكم هذا الظان أنه ليس بمؤمن، وذلك للأخبار المفسرة للإيمان بالإقرار والشهادة والتدين والمعرفة الظاهرة في العلم .

2 - في التقليد في أصول الدين:

لا إشكال في عدم جواز التقليد الموجب للظن في أصول الدين وذلك للآيات والروايات الناهية عن اتباع الظن فيها، كقوله تعالى : (إن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)(1) وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)(2) وغيرها من الآيات.

وأما التقليد الموجب للعلم بالحق، كبعض عوام المؤمنين فهل يجوز اتباعه أم لا؟

الأقوى - عند الشيخ الأعظم الله - كفاية الجزم الحاصل من التقليد الموصل إلى الحق لعدم الدليل على اعتبار الزائد على المعرفة والتصديق والاعتقاد .

والإشكال : بأنه كيف يمكن إثبات العقاب في المقلّد في الباطل، وعدم استحقاق العقاب للمقلد في الحق، مع فرض كونهما متساويين في سعيهما من جميع الجهات سوى ما كان خارجاً عن ،وسعهما بأن كان أحدهما مولوداً في أهل الباطل، والآخر مولوداً في أهل الحق؟

جوابه :

أما الذي قلّد في الحق، فعدم استحقاقه للعقاب، واستحقاقه الجنة لأنه سلك الطريق الموصل إلى الجنة .

ص: 191


1- سورة الأنعام، الآية: 166.
2- سورة يونس الآية: 36.

وأما الذي قلّد في الباطل :

فإن كان معذوراً في جهله - كالجاهل القاصر - فإنه يمتحن في الآخرة كما دل عليه النص وقول العلماء.

وإن لم يكن معذوراً في جهله، فلا مانع عقلاً ولا شرعاً من عقابه، فحالهما حال نفرين قلّد أحدهما من دله على الطريق، والثاني من دلّه على خلاف الطريق، فإن الأول سيصل دون الثاني.

انتهى ما اخترناه من الرسائل والوصائل - بالمضمون ..

الخامس: في المقدار الواجب من المعرفة :

قال الشيخ الأعظم الأنصاري رَحِمَهُ اللّه :

1 - يكفي في معرفة الرب :

التصديق بكونه موجوداً ، وواجب الوجود لذاته، والتصديق بصفاته الثبوتية، ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث، وأنه لا يصدر منه القبيح فعلاً أو تركاً .

2 - يكفي في معرفة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ:

معرفة شخصه بالنسب المعروف المختص به والتصديق بنبوته وصدقه .

ومعرفة ما عدا النبوة واجبة بالاستقلال على من هو متمكن منه بحسب الاستعداد وعدم الموانع.

والجهل بمراتب سفراء الله جل ذكره مع تيسر العلم بها، تقصير في حقهم، وتفريط في حبهم، ونقص يجب بحكم العقل رفعه، بل من أعظم النقائص .

ص: 192

3 - ويكفي في معرفة الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ:

معرفتهم بنسبهم المعروف، والتصديق بأنهم أئمة يهدون بالحق

ويجب الانقياد إليهم والأخذ منهم .

4 - ويكفي في التصديق بما جاء به النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ:

التصديق بما علم مجيئه متواتراً من المعاد الجسماني، وعدم إنكار الضروريات إذا علم بأنها من الدين.

وبالجملة يكفي في الإيمان : الاعتقاد بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزه عن النقائص، وبنبوة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وبإمامة الأئمة عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، والبراءة من أعدائهم، والاعتقاد بالمعاد الجسماني الذي لا ينفك عن الاعتقادات السابقة .

والمراد بمعرفة هذه الأمور : ركوزها في اعتقاد المكلف بحيث إذا سألته عن شيء مما ذكر أجاب بما هو الحق فيه، وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواص.(1)

السادس: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ﴾ الويل أصله بمعنى الهلاك والعذاب، ثم استعمل في كل من وقع في الهلكة أو في المشكلات، فإنه يقال له أو يقولها للتحسر والتفجع والتوجع.

قال سبحانه: ﴿قَالَ يَوَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ)(2)

وقال تعالى: ﴿قَالَتْ يَاوَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ (3).

ص: 193


1- نقل باختصار وبالمضمون مع تقديم وتأخير، الرسائل، باب الانسداد، التنبيه الخامس.
2- سورة المائدة الآية: 31.
3- سورة هود، الآية: 72

وروي أن الويل واد في جهنم(1) وهو مصداق من مصاديق المعنى العام وهو الهلاك والعذاب.

والفاء في ﴿فَوَيْلٌ) للتفريع، أي إن وقوع الأميين في المخالفة والأماني غير الحقيقية، كان بسبب تحريفات علمائهم، فإذن الويل والهلاك لهؤلاء الأحبار المحرفين، لأنهم سبب الضلال، فهم ضالون مضلّون .

ويمكن أن تكون تفريعاً للتقسيم - كما مر - حيث قسمت الآيات هؤلاء إلى أقسام، فمنهم يسمعون ويحرفون المعنى، ومنهم جهلة أميون، ومنهم يحرفون الكتابة، وعادة تحريف الكتابة يكون عبر اللاحقين وتحريف المعنى عبر السابقين.

ويؤيده ما روي من تحريف الأحبار المعاصرين الرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ التوراة بتغييرهم : ما ذكر فيها من صفات الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، إلى صفات لا تنطبق عليه، ليُموّهوا على العوام وعلى المشركين، كما سيأتي في البحث اللاحق .

السابع (بِأَيْدِيهِمْ).

إشارة إلى التحريف، لأنه لو قال كتب الكتاب لا يفهم منه التحريف إلا بالقرائن، لأنه كثيراً ما يكتب الكتاب كما هو كما في الخطاطين الذين يخطون رسم القرآن مثلاً ، أما مع إضافة كلمة (بِأَيْدِیهِمْ) فيفهم معنى: من عندهم، أي يكتب الكتاب من عند نفسه لا كما نزل.

وفي التفسير إن أوصاف النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ و كانت مذكورة في التوراة، فلمّا أراد أحبارهم تعمية الأمر على الأمتين، غيّروا تلك الأوصاف.

ص: 194


1- مجمع البيان ج 1، ص 278 الوسائل ج 6، ص 76 - 87.

وروي أنه :

قال الله عزّ وجلَّ : [هذا] لقوم من هؤلاء اليهود كتبوا صفةً زعموا أنها صفة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، ، وهي خلاف صفته ، وقالوا للمستضعفين منهم : هذه صفة النبي المبعوث في آخر الزمان إنه طويل عظيم البدن والبطن أصهب الشعر، ومحمد خلافه، وهو يجيء بعد هذا الزمان بخمسمائة سنة)(1).

وروي أنهم عمدوا إلى التوراة وحرفوا صفة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، ليوقعوا الشك بذلك للمستضعفين من اليهود وهو المروي عن أبي جعفر

الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ :(2)

الثامن: (لِيَشْتَرُوا بِهِ)

أي ليحصلوا بهذا التحريف أغراضاً دنيوية من مال ورئاسة، لأنهم توهموا أن اعترافهم بالرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يسبب زوال الرئاسة والمال الذي كانوا يأكلونه من العوام ، وهم قد غلطوا في زعمهم هذا، لأن الله تعالى فتح كنوز العالم على من أسلموا فصاروا سادة بعد أن كانوا عبيداً أو كالعبيد وكما قالت فاطمة الزهراء سلام الله عليها : (وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ونهزة ،الطامع وقبسة العجلان، وموطئ ،الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القِد، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد)(3) .

ص: 195


1- البرهان ج 1 ، ص 448 - 449 - عن التفسير المنسوب للإمام العسكري عَلَيْهِم السَّلاَمُ
2- مجمع البيان، ج 1، ص279.
3- مقطع من خطبتها في المسجد ( من فقه الزهراء) ج 3، ص 79 - 110 .

وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (1).

بل تحقق العكس فإن هؤلاء اليهود الذين حرفوا الكتاب حفظاً المصالحهم الدنيوية، قد خسروا تلك المصالح أيضاً، مضافاً إلى خسارتهم الأخروية واكتسابهم للعذاب الدائم .

التاسع: ﴿ثَمَناً قَلِيلاً) :

والثمن قليل لأن كل ما كان بدلاً عن الآخرة فهو قليل قال تعالى : (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ «196» مَتَاعُ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَئهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ)(2).

وقال سبحانه: ﴿فَمَا مَتَاعُ الحَيٰوةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)(3).

وكذلك كانت دنياهم قليلة أيضاً، فما كانوا يريدون من رئاسة تحولت إلى لعنة دنيوية وذكر سيئ، وكذلك إلى فقدهم المال والأملاك حينما أوقدوا حروباً ضد المسلمين ونقضوا العهود، فخسروا أرواحهم وأراضيهم وأموالهم وسبيت ذراريهم.

العاشر: ﴿فَوَيْلٌ لَهُم مِّمَّا كَتَبَتْ).

في هذه الآية تكرر الويل ثلاث مرات، ولعله لأنهم يعاقبون ثلاث مرات.

وبيان ذلك : أنه يستفاد من الآيات والروايات بأنّه في الآخرة تحضر

ص: 196


1- سورة المنافقون، الآية: 8
2- سورة آل عمران، الآيتان: 196 - 197.
3- سورة التوبة، الآية: 38.

الأعمال التي عملها الإنسان في حياته الدنيا، ويعبر عنه بتجسيم الأعمال، كما في قوله تعالى: ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُوا حَاضِراً) (1) ، وقوله سبحانه: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ

لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدا بَعِیداً).(2)

وعليه فهؤلاء المحرّفون يعاقبون لأنهم قاموا بعملية التزوير ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) ، ثم عملهم وهو التحريف أيضاً يحضر ويتحول إلى عذاب ﴿فَوَيْلٌ لَهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ)، وكذلك الأموال ونحوها التي حصلوا عليها جراء عملية التحريف أيضاً تحضر متحولة إلى عذاب ﴿وَوَيْلٌ لَهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ ، فلذا لهم الويل ثلاث مرات .

ص: 197


1- سورة الكهف، الآية؛ 49 .
2- سورة آل عمران الآية: 30.

الآيات 80 - 82

المطلب السادس ومن أسباب انحراف بني إسرائيل (توهم عدم العقاب)

(«وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)»«بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)»«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ «82»).

80 - (وَ) جمع منهم (وا لَنْ تَمَسَّنَا) أي لن تصيبنا (النَّارُ) في الآخرة (إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) قليلة، فلا نتعجل المكروه في الدنيا للعذاب الذي بقدر أيام ذنوبنا، وقيل توهموا أن العذاب سبعة أيام، (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم (اتَّخَذْتُمْ) أي هل اتخذتم (عِندَ اللَّهِ) من طرفه (عَهْداً) على ذلك، وإذا كان الأمر كذلك بأن وعدكم الله (فَلَن يُخلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ)؟ (أَمْ) أنتم تكذبون و(تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ؟ فقولكم من غير دليل ولا برهان.

81 - (بَلَى) إنه لا يوجد هنالك عهد من الله تعالى بل بالعكس هنالك وعيد بالعذاب الدائم، فإن (مَن كَسَبَ سَيِّئَةً) أي عمل عملاً

ص: 198

سيئاً (وَأَحَاطَتْ بِهِ) أي استولت عليه واحتوته (خَطِيئَتُه) وذلك بكثرة الذنوب، بحيث لم يبق له منفذ إلى الخير (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) يصحبونها ويلازمونها (هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ ﴾ .

82 - (وَ) في المقابل (اَلَّذِينَ ءَامَنُوا) بقلوبهم وألسنتهم » ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَتِ أَوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ، فالجنة لا تكون بالتمني بل بالإيمان والعمل الصالح، كما أنه يخلد في النار من أحاطت به خطيئته.

----------------------

بحوث

الأول: ﴿لَن تَمَسَّنَا» بمعنى لن تصيبنا والمس هو اللمس، مع فارق أن في (اللمس) أخذ الإحساس أيضاً، في حين أن (المس ) أعم سواء كان بإحساس أم بدونه، فيطلق حتى في الحالات النفسية والأمور المعنوية والأمور غير الظاهرة كقوله تعالى (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآء)(1) ، والبأساء عادة في الحالات النفسية، وكقوله سبحانه: ﴿مَسَنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) (2) ، وقوله عزَّ وجل: (عَلَى أَن مَّسَنِىَ الْكِبَرُ(3).

(3)

وأما اللمس فلا يطلق إلّا على ما يكون من المحسوسات الظاهرة

كقوله تعالى: ﴿كَتَباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ﴾(4)

ص: 199


1- سورة البقرة، الآية: 214
2- سورة يوسف، الآية: 88
3- سورة الحجر الآية: 54
4- سورة الأنعام، الآية: 7

وكأنهم كانوا يتوهمون أنهم حتى إذا دخلوا النار فإنهم لا يحسون آلامها كالمشلول الذي لا يحس حرارة النار التي يمسها، بسب فقدان أو انقطاع الموصلات العصبية، فتأمل.

الثاني: ﴿فَلَن يُخلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) الخُلف بمعنى النقض الفعلي للعهد، أي إن كنتم قد أخذتم عهداً فلن يخلف الله عهده، وذلك لأن الله لا يخلف الميعاد .

وبحكم العقل لا يجوز للحكيم أن يُخلف الميعاد، لأن الخُلف إنما هو لنسيانه أو عجزه أو خبثه وتعالى الله عن ذلك، لأن تلك صفات النقص، والله مبرأ منها.

نعم لا مانع عقلاً أن لا يُنفّذ الحكيم تهديده ووعيده، فيجوز أن يعفو عمن خالف وعصى لحكمة أو رحمة .

فلذا قالوا الوفاء بالوعد واجب، وأما تنفيذ الوعيد فإنه غير لازم.

الثالث: (اتَّخَذَتُم)

أي هل اتخذتم، يمكن أن يكون الاستفهام إنكارياً، أي للإنكار عليهم في زعمهم بأنهم لا يعذبون إلّا أياماً معدودة، فيقال لهم : بأن زعمكم باطل لعدم وجود عهد من الله على ذلك، بل بالعكس فهنالك وعيد بالعذاب الدائم ، وعلى هذا المعنى تكون كلمة (أم) في قوله : (أَمْ تَقُولُونَ ﴾ منقطعة بمعنى (بَل) فيكون المعنى استنكار أن يكون هنالك عهد من الله إليهم، بل زعمهم تَقَوُّلٌ على الله من غير علم .

ويمكن أن يكون الاستفهام في (اتَّخَذْتُمُ) تقريرياً وعليه تكون (أَمْ) للمعادلة، فيكون المعنى أخذ الإقرار منهم على أخذ أمرين : فهل هنالك

ص: 200

وعد أم هو تقول ؟ ويكون أخذ هذا الإقرار تمهيداً لإثبات أنه تقوّل وأن هنالك خلوداً في النار، كما في الآية الآتية: (بَلَى مَن كَسَبَ) الآية.

الرابع: (تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).

لعله إشارة إلى بطلان زعمهم، فيكون معنى (مَا لَا تَعْلَمُونَ) هو : ما تعلمون بطلانه وقد يعبّر عن (العلم بالعدم) ب- (عدم العلم)، كما في قوله سبحانه: ﴿أَمْ تُنَبئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ﴾ أي بما يعلم عدمه في الأرض.

ويمكن أن يكون (مَا لَا تَعْلَمُونَ) في الآية بمعناه الحقيقي، فيكون المعنى أنهم كانوا يقولون بأن عذابهم قليل تخرصاً وزعماً من غير برهان ودليل فلم يكونوا يعلمون ذلك، بل كانت أمانيهم ناشئة عن ظنون لا تغني ولا تسمن.

الخامس: (بَلَى).

كلمة بلى تستعمل للإثبات بعد النفي، فيكون المعنى أن النار : ستمَسَّكم أبداً، لأنهم نفوا عن أنفسهم النار إلا أياماً معدودة، فردّهم الله تعالى : بأنهم خالدون في النار.

السادس: (كَسَبَ سَيِّئَةً)

تشبيه لعمل السيئة بالكسب، فكما أن الكاسب يعطي شيئاً ويأخذ شيئاً آخر في مقابله كذلك عامل السيئات يعطي من قدرته وإمكاناته ويأخذ مقابلها السيئة، فمن عمل عملاً سيئاً فكأنّه كسبه .

ولعل الإتيان (بالسيئة) مفرد نكرة للإشارة إلى أن السيئة الواحدة أيضاً يمكن أن تخلّد الإنسان في نار جهنم، فلا يتوهم متوهم : أن الخلود

ص: 201

في نار جهنم خاص بمن يعمل جميع السيئات أو الكثير منها، بل إن بعض السيئات، تكفي الواحدة منها في أن تجعله مستحقاً للخلود في جهنم .

فالشرك مثلاً سبب للخلود فيها، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ)(1)

وهذا إخبار لا يمكن أن يتخلف وإلا كان كذباً وتعالى الله عن ذلک.

نعم في بعض الموارد الأخرى وعيد بالخلود في النار ومعناه استحقاق المذنب للخلود، ولكن يمكن أن يشمله عفو الله تعالى لأنه لا مانع من عدم تنفيذ التهديد - رحمة أو حكمة ..

قال تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِداً فِيهَا)(2).

وقال سبحانه : - في المُرابي -: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأَوَلَيكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(3)

وقال عزّ وجلَّ: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)(4) .

وفي هذه الموارد ونحوها أمر خلوده في النار أو عفوه منوط بمشيئة

ص: 202


1- سورة النساء، الآية: 48 .
2- سورة النساء الآية: 93
3- سورة البقرة الآية 275.
4- سورة النساء الآية: 14.

الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿وَقَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمُ عَلِيمٌ)(1)

وعلى ما بيّناه فإنّه مصداق (للسيئة) في قوله تعالى : (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً)، فالسيئة تشمل الشرك وغيره من الكبائر الموعود عليها الخلود في النار ، مع فرق أن الشرك لا يغفر فالخلود حتمي، وفي غير الشرك خلوده أو عدم خلوده في النار منوط بمشيئة الله، إن شاء خلّده فيها وإن شاء عفا عنه.

السابع : ﴿وَأَحَاطَتْ بهِ).

أي احتوته من جميع الجهات واستولت عليه، فلا منفذ للخير فيه وذلك كالذي في الدخان فإنه لا يرى ولا يتنفس ولا يلمس إلا الدخان.

فالذي يرتكب السيئة بدون أن تحيط تلك السيئة به فإنه قد تكفّر وتغفر له بأن يوفق للتوبة أو تمحى كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(2) ، أو غير ذلك من أسباب الغفران.

ويستفاد من الآية أن الجاهل القاصر - المعذور في جهله - لا يخلّد في النار لأن ما يرتكبه من السيئات لا تحيط به بل قد لا تعتبر خطيئة وذلك لجهله - المعذور فيه -

بل دل العقل والنقل أن الجاهل القاصر لا يستحق العقاب قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّاً مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُن أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجُرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَلَهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيرًا«97» إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِجَالِ وَالنِسَآءِ وَالوِلْدَانِ لاَ

ص: 203


1- سورة الأنعام، الآية: 128
2- سورة هود، الآية: 114.

يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا«98» فَأُولَئكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُو عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُواً غَفُوراً).(1)

وفي الروايات إن الله يمتحن في يوم القيامة الجاهل القاصر، فإن نجح في الامتحان لا يعذب وإلّا أدخله نار جهنم، ولعل كلمة عَسَى في الآية إشارة إلى ذلك، والله العالم.

الثامن: (خَطِيئَتُهُ).

الخطيئة نفس (السَّيِّئَةِ) المذكورة قبل كلمات حيث قال سبحانه: (مَن كَسَبَ سَيْئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) ، وتغيير التعبير لمراعاة الجهات البلاغية.

ولعله يراد (بِالسَّيِّئَةِ) - هنا - الذنب الصغير المعبر عنه بالصغيرة، و (بالخطيئة) عندما تتحول نفس الصغيرة إلى ذنب به يستحق صاحبه الخلود في النار، قال سبحانه: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) ، فيكون المعنى - على هذا - إن السيئة الواحدة لا توجب الخلود في النار إلّا إذا أحاطت بصاحبها واستولت عليه، بحيث لم نترك له منفداً للخير. فتأمل.

التاسع: (فِيهَا خَالِدُونَ).

أما الخلود في الجنة فذلك مما لا إشكال فيه لأن أصل الثواب تفضل من الله تعالى واستمراره تفضل آخر .

ولكن كيف نفهم الخلود في النار مع أن الله تعالى يقول: ﴿وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)(2) وقال سبحانه: ﴿جَزَاءً وِفَاقاً)(3) .

ص: 204


1- سورة النساء، الآيات: 97 - 99.
2- سورة النساء، الآية: 31.
3- سورة النبأ، الآية: 26.

والجواب :

أولاً: الخلود في النار هو نتيجة الاعتقاد أو العمل، فإن بعض الأعمال مدتها قليلة لكن توجب مشكلة دائمة، فالقتل مثلاً عملية قد لا تستغرق إلا ثوانٍ، ولكن نتيجتها وهي الموت أمدها طويل جداً، وكذلك الذي يصاب بحادث قد يبتلى بعاهة دائمة مع أن زمان الحادث كان قليلاً ونتيجته كانت دائمة .

وثانياً: والخلود أيضاً نتيجة النية، كما ورد عن أبي هاشم قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الخلود في الجنة والنار قال : إنما خُلّد أهل النار في النار ، لأن نياتهم كانت في الدنيا لو خُلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً، وإنما خلّد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا لو بقوا أن يطيعوا الله أبداً ما بقوا فالنيات تخلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)(1) قال على نيته)(2).

أما ما توهم ابن العربي وأضرابه من أن أهل النار فمالهم إلى النعيم ولكن في النار ، إذ لا بدَّ لصورة النار بعد انتهاء مدة العذاب أن تكون برداً وسلاماً على من فيهم) (3) .

فهو مخالف للعقل والنقل قال الله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعَنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ«161» خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ

عَنْهُمُ الْعَذَابُ)(4).

ص: 205


1- سورة الإسراء، الآية: 48
2- فقه العقائد ص 131 - 132 عن علل الشرائع ص 523 .
3- قاله في الفص اليونسي، كما نقله فقه العقائد ص127.
4- سورة البقرة، الآيتان: 161 - 162 .

وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ

بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ)(1) .

وقال عزّ وجلَّ: (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ).(2)

ص: 206


1- سورة النساء، الآية: 56 .
2- سورة المائدة الآية: 37.

الآية 83

المطلب السابع (من أسباب انحراف بني إسرائيل) (مخالفة أحكام الله)

(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ «83»).

83 - (وَ) اذكر يا رسول الله ، واذكروا يا بني إسرائيل ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِیثَاقَ) أي العهد المؤكد الشديد (بَنِي إِسْرَائِيلَ) بواسطة أنبيائهم، وكان الميثاق في الواجبات وترك المحرمات، أما في الواجبات :

(1) (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) أي حصر العبادة في الله تعالى.

(2) ﴿وَ) أن تحسنوا (وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَاناً)، (وَ) كذلك تحسنوا ب- ﴿وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينِ) ولعل الترتيب مراعاة للأولوية ففي الإحسان يقدم الأبوان ثم القربى ثم اليتامى ثم المساكين .

(3) ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) أي قولاً ذا حُسن بمعنى «قولاً حَسَناً». (4) (5) ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ) أي الصلوات الخمس، أو حسب الكيفية التي كانت في شريعتهم ﴿وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ) زكاة المال، أو الأعم من المال وغيره كالجاه والعلم ،ونحوها، فإن لكل شيء زكاة.

ص: 207

(ثُمَّ) الحاضرون منكم وقت الخطاب وأسلافكم (تَوَلَّيْتُم) أي رفضتم الميثاق (إِلَّا قَلِيلاً مِنكُمْ) وهم القلة ممن ثبتوا على الإيمان والعهد من أسلافكم ، والقليل منكم ممن آمن برسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وكان رفضكم للميثاق (وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) عن أوامر الله .

-----------------------

بحوث

الأول: ﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَ)

الميثاق المأخوذ كان بواسطة أنبيائهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ ، كما في قضية رفع الطور حيث أخذ ميثاقهم بواسطة موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ليعملوا بالتوراة ويأخذوا ما فيها بقوة، وغيرها من الموارد.

ويمكن أن يشمل الميثاق ما أودعه الله تعالى في فطرتهم كما في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا).(1)

الثاني: (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) .

هذا إخبار يراد به الإنشاء أي أمرهم بعبادة الله، ونهيهم عن عبادة غيره، وهو أبلغ من صريح النهي، لإيهامه المسارعة إلى قبول النهي فكأنهم انتهوا عما نُهُوا عنه فصار خبراً يخبر عنه .

والعبادة - هنا - هي الخضوع بقصد التأليه، وهو مخصوص بالله

تعالى ولا يجوز لغيره لأن الألوهية خاصة به.

ص: 208


1- سورة الأعراف الآية: 172.

وأصل العبادة هي الخضوع لشخص أو شيء.

وإن لم يكن الخضوع بقصد التأليه، فقد يجوز لغيره سبحانه وتعالى، فالسجود مثلاً - وهو أقصى درجة الخضوع - وجب على الملائكة لآدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وطرد إبليس من رحمة الله لعدم سجوده لآدم، وكذلك جاز السجود ليوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ لأنه لم يكن خضوعاً للتأليه بل خضوعاً للاحترام وقد نسخ هذا في الشريعة الإسلامية.

وقد يكون معنى العبادة هو الإطاعة وهذه الإطاعة واجبة لله تعالى، ولمن أمر الله إطاعته، ولا تجوز إطاعة من يُضِلُّ عن سبيل الله تعالى.

وفي القرآن الكريم : يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)(1) ، وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِى ءَادَمَ أَن لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ (2) والمعنى هنا النهي عن إطاعة الشيطان وآذر لم يأله الشيطان بل كان يطيعه فيتبعه.

و من هذا المعنى كلمة (العبد) فإن إطلاقها على بعض الناس إنما هو بمعنى المطيع، المملوك مطيع لمولاه فقيل له (عبد)، قال تعالى: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ)(3) ، وقال سبحانه: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيْمَى مِنكُمْ والصَّلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)(4)

وبهذا المعنى - أي الإطاعة - أقرَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ اسم (عبد المطلب) على بعض أصحابه ومنهم عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد

المطلب، مع أن (المطلب) اسم بشر وهو (المطلب بن هاشم)

ص: 209


1- سورة مريم، الآية: 44.
2- سورة يس الآية: 60.
3- سورة النحل، الآية: 75.
4- سورة النور، الآية: 32.

وقد ورد اسمه في صحاح العامة.(1)

وإذا جاز (عبد المطلب) فقد جاز (عبد الحسين) - مثلاً لأنه ما من شك بأن الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أفضل من المطلب.

ومن سخافة العقول أن بعض العامة لا يجوزون التسمية بعبد الحسين لأنهم يعتبرونه شركاً ، لكنهم يجوزون عبد المطلب استثناء (2) ! !

وكأنّ الشرك أمر قد يجوز بصفة استثنائية ! !

الثالث: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).

قال في مجمع البيان: وفي هذه الآية دلالة على ترتيب الحقوق فبدأ الله سبحانه بحقه، وقدّمه على كل حق، لأنه الخالق المنعم بأصول النّعم ، ثم ثنّى بحق الوالدين وخصهما بالمزية لكونهما سبباً للوجود وإنعامهما بالتربية ثم ذكر ذوي القربى لأنهم أقرب إلى المكلّف من غيرهم، ثم ذكر حق اليتامى لضعفهم، والفقراء لفقرهم.(3)

وفي بعض الروايات تأويل الوالدين برسول الله صلى الله عليه وسلم والإمام

علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ لعالمي لأنهما أبوا هذه الأمة، وذوي القربى بالأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ، واليتامى بمن ينقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه، والمساكين بالذين ضعفت قواهم عن محاججة أعداء الله، فالإحسان للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمة عَلَيْهِ السَّلاَمُ اشكرهم ومعرفة حقهم ورعاية حقوقهم والإحسان إلى المنقطع عن إمامه هو هدايته وإرشاده وتعليمه شريعتهم وإخراجه من ظلمة جهله إلى نور العلم والإحسان إلى ضعفاء الحجة

ص: 210


1- مثلاً: صحيح مسلم، الزكاة، ترك استعمال آل النبي على الصدقة، الحديث رقم 1784.
2- وهذا من فتاوى ابن باز في موقع فتاواه على الانترنت.
3- مجمع البيان، ج 1، ص 287.

هو تقويتهم بفقههم وتعليمهم حتى تُزال مسكنتهم، ثم يسلّطهم على الأعداء الظاهرين من النواصب وعلى الأعداء الباطنين إبليس ومردته حتى يهزموهم عن دين الله ويذودوهم عن أولياء الله(1).

الرابع: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَاً).

بمعنى قولوا للناس قولاً حسناً، فوضع المصدر موضع الصفة للمبالغة، كما يقال (زيدعدل) أي عادل - مبالغةً -.

أو بحذف المضاف، أي قولاً ذا حُسن.

والقول الحَسَن يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل، وردّ الاعتداء بالكلام وغير ذلك، لأنه كلام مطلق . كما أنه يشمل غير القول أيضاً - من الأفعال - وذلك لتعميم القول، ولبعض الروايات وسيأتي بعضها .

وكذلك يشمل المؤمن وغير المؤمن وحتى الكافر، وعن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : وقولوا للناس كلهم حسناً - مؤمنهم ومخالفهم ، أما المؤمنون فيبسط لهم وجهه وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان، فإن يئس من ذلك يكف شرورهم عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين.(2)

وعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ في قول الله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) ، قال: قولوا لناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم(3).

ص: 211


1- ملخص بعض الروايات راجع البرهان ج 1، ص 457 - 459 .
2- البرهان ج 1 ، ص 460 . عن التفسير المنسوب للإمام العسكري
3- الكافي ج 2، ص 132 ، عنه في البرهان ج 1، ص 454.

وعنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله عزّ وجلَّ يُبغض اللعّان السبّاب الطعان على المؤمنين الفاحش المتفحش السائل الملحف، ويحب الحيي الحليم العفيف المتعفف»(1)

في الحديث الأول (أن يقال فيكم)، والثاني (أن يقال لكم)، والفرق هو ما يقال عن الشخص في غيابه وما يقال للشخص في وجهه وبحضوره.

والقول الحسن هو الأصل، وقد يستثنى من ذلك بعض الموارد وذلك فيما لو جرّد الكافر أو الناصب سيفه وجاهر بالعداء، فيجب ردّ اعتدائه ولو استدعى قتاله - وحسب الموازين الشرعية ، فعن سدير قال :

قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ : أطعم سائلاً لا أعرفه مسلماً ؟ فقال : نعم، أعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة للحق إن الله عزّ وجل يقول : ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَاً)، ولا تعط من نصب لشيء من الحق، أو دعا إلى شيء من الباطل.(2)

ولعل ذلك حتى لا يكون تقوية له في باطله الذي يدعو له، أو ليكون رادعاً له عن الدعوة إلى الباطل والنصب.

وذلك كقوله سبحانه: ﴿وَلَا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم )(3)

ص: 212


1- أمالي الصدوق، ص 210 عنه البرهان ج 1، ص 455.
2- الكافي ج 2، ص 132 عنه في البرهان ج 1، ص 454.
3- سورة العنكبوت الآية: 46

وأما ما رواه الكليني رضوان الله عليه، بإسناده عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) ، قال نزلت هذه الآية في أهل الذمة ثم نسخها قوله عزّ وجل: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْاخِرِ) الخ(1).

فلعل المراد بالنسخ هنا هو التخصيص، لا النسخ الاصطلاحي، أو يقال بأن الحكم إذا أريد منه العام - بالإرادة الجدية - ثم بعد فترة من العمل استثني مورداً وشرّع له حكم آخر، فإن هذا من النسخ أيضاً، لأن النسخ هو انتهاء أمد الحكم والمورد كان له حكم ثم انتهى أمده وشرع له حكم ،آخر، وهنا كان يلزم القول الحسن حتى على المعتدي، فنسخ ذلك الحكم بالقتال أو دفع الجزية صاغرين.

الخامس: (وَأَقِيمُوا الصَّلَوةُ)...

صلاتهم وزكاتهم كانت تختلف في تفاصيلها عمّا شرّع في الإسلام فكانت بكيفية أخرى .

ومن المعلوم أن الدين من آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلى النبي الخاتم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ هو دين واحد كما قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَهُ)(2)، وقال سبحانه:

﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾(3). وقال عزّ من قائل : (مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّاً وَ لاَ نَصرَانِياً وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُسلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (4)، فالاعتقادات ،واحدة، ولكن كانت تختلف الشرائع - وهي في الأعمال ،

ص: 213


1- الكافي ج 5 ، ص 11 عنه في البرهان ج 1 ، ص 455 .
2- سورة آل عمران الآية: 19
3- سورة آل عمران الآية: 85
4- سورة آل عمران الآية: 67 .

ومع أن أصول الأعمال واحدة في كل تلك الشرائع، لكن الاختلاف في الجزئيات وفي الكيفيات، وخاصة في العبادات.

وكلّ ما ثبت نسخه من الشرائع السابقة فعلينا اتباع الحكم الجديد وما لم يثبت نسخه فإن حكمه باق وعليه فإن حكم كان في الشرائع السابقة يجب علينا اتباعه إلّا فيما ثبت نسخه

وقد يستدل لذلك بقوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ)(1) وكذلك باستصحاب الشرائع السابقة - بناء على

جريانه ..

فالدين قد كمل يوم الغدير بقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً).(2)

(2)

وكمال الدين كان بتثبيت قسم من أحكام الشرائع السابقة، وبنسخ بعضها ، فمن الأحكام الباقية : الصلاة والصوم والحج والزكاة وحرمة شرب الخمر ونحوها .

ومن الأحكام المنسوخة : صوم الوصال وصوم الصمت ونحوهما .

السادس: (تَوَلَّيتُم).

أي أعرضتم عن أحكام الله ونقضتم الميثاق، وتوليتم مأخوذ من ولى الدبر إذا أعرض عن الشيء، فيكون قوله تعالى: ﴿وَأَنتُم مُعْرِضُونَ﴾ تأكيداً، لإفادته نفس معنى (توليتم)، وحسن هذا التوكيد لأن

ص: 214


1- سورة البقرة، الآية: 136.
2- سورة المائدة، الآية: 3.

جملة (وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) حال، وهي بلفظ آخر، كما في قوله تعالى: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً)(1) فالضاحك حال، والفعل وهو التبسم بنفس المعنى ولكن بلفظ آخر تأكيداً.

أو المعنى ثم توليتم وأنتم من عادتكم الإعراض، فيكون التولي هنا ناتج عن طبعهم في الإعراض، ومصداق من مصاديق إعراضهم.

ص: 215


1- سورة النمل الآية: 19.

الآيات 84 - 86

(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ 86).

84 -(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) العهد الشديد الأكيد، وهو (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) أي لا يريق بعضكم دم البعض، وهو إخبار بقصد الإنشاء بمعنى لا تسفكوا ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) أي لا يُخْرج بعضكم بعضاً، (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أي اعترفتم بلزوم الوفاء بهذا الميثاق (وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ بهذا الإقرار ولا تنكرونه، وتشهدون بإقرار أسلافكم به، وكذلك أقررتم على أنفسكم وشهدتم على غيركم.

85 - (ثُمَّ أَنتُمْ) بعد ذلك الميثاق (هَؤُلَاءِ) الناقضون له الناكثون

ص: 216

للعهد، حيث (تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) أي تقتلون من هو منكم نسباً وديناً، فكأنكم قتلتم أنفسكم ، ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا) أي جماعة مِنكُم مِّن دیگرهم حال كونكم (تَظْهَرُونَ عَلَيْهِم) أي يُعاون بعضكم بعضاً ضد أولئك الفريق (بِاَلإِثْمِ) القبيح المستحق به اللوم (وَالْعُدْوَانِ) مجاوزة الحد بالإفراط في ظلمهم.

(و) لكنكم في الوقت نفسه تناقضون أنفسكم، إذ هؤلاء الذين تقتلونهم وتخرجونهم (وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى) أي إذا أسرهم غيركم واحتاجوا إلى الفدية لإطلاق سراحهم - فكأنّهم جاؤوكم مستغيثين - (تُفَادُوهُمْ﴾ أي تدفعون الفدية، (وَهُوَ) أي الإخراج (مُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ)، وقوله تعالى: ﴿إِخْرَاجُهُمْ) لتوضيح ضمير «هو» تأكيداً حتى لا يتوهم رجوعه إلى الفداء، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ) وهو وجوب الفداء (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو حرمة القتل والإخراج، فما هذا التناقض؟ ، ثم احكموا أنتم بأنفسكم (فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ منكُمْ) ؟ ولا يكون مصيره (إلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا) كالتعبير من الغير، والجزية صاغرين، وقتل وأسر بعضكم بيد المسلمين، وإجلاء البعض الآخر منكم ، (وَ) هذا العذاب الدنيوي لا يكفّر عن ذنوبهم، بل ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِ الْعَذَابِ) لأن العصيان شديد .

86 - وسبب ذلك العذاب أن (أُولَئِكَ) هم (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَوْةَ الدُّنْيَا) الزائلة (بِالآخِرَةِ) أي بدلاً عن نعيم الآخرة، ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) لأن ذلك العذاب ما اشتروه بأنفسهم، ﴿وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) لأن حلفاءهم والشياطين يتبرؤون منهم.

ص: 217

بحوث

الأول: روي عن ابن عباس أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج ، فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج، وكانت قريظة الأوس، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها، فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا أسراها تصديقاً لما في التوراة(1) «فقيل لهم كيف تقاتلوهم ثم تفدوهم»؟ فيقولون: أمرنا أن نفديهم ونهينا عن قتالهم، ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا (2).

وقد قال الله سبحانه عنهم : ﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)(3) ، فهم شديدو الاختلاف فيما بينهم، وقال تعالى: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(4)

وهذا أمر طبيعي لأنه لمّا كان كلّ همّهم الدنيا، وتجميع الثروات، ولم يكن لأمر الآخرة في حياتهم شأن فحين تعارض المصالح الدنيوية تتحول صدورهم إلى محل للعداوة والبغضاء ويظهر ذلك حين البأس.

وأما ما يرى من اتحادهم فهو في الظاهر، قال تعالى :(تَحْسَبَهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ ).(5)

الثاني: لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ).

فإن ما يجري على أهل الدين ،الواحد وكذلك القرابة الواحدة، فهو

ص: 218


1- مجمع البيان ج 1 ، ص 385
2- الجوهر الثمين، ج 1، ص 118 .
3- سورة الحشر، الآية: 14 .
4- سورة المائدة، الآية: 64 .
5- سورة الحشر الآية؛ 14.

جارٍ على الآخرين أيضاً - خيراً كان أم شراً ، فسفك دم أحدهم إنما هو سفك لدمائهم، ولذا قال تعالى: ﴿دِمَاءَكُمْ).

وفي الإسلام شُرعت قوانين تعمّ القرابة وأهل الملة.

فمثلاً في قتل الخطأ توزع الدية على العاقلة، وهم أقرباء الجاني من طرف الأب، مع أنهم ليسوا ،قتلة لكن بما أن القاتل قريبهم فكأن الكل ساهم في قتل الخطأ هذا مضافاً إلى أنه نوع من التضامن الاجتماعي.

وكذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مثل المؤمن في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتکی بعضه تداعی سائره بالسهر والحمى».(1) فأهل الملة الواحدة ما يجري لأحدهم كأنه جار على كلهم .

الثالث: (أَنفُسَكُمْ) اعتبر الغير هنا نفس الإنسان، وذلك لاتصال أحدهما بالآخر بالنسب أو الدين فكأنّ أحدهما نفس الآخر، ويمكن أن يكون المراد أن من يفعل عملاً بالنسبة للآخر فكأنّما سنَّ ذلك العمل فقد يجري عليه في المستقبل، فالذي يُخرِج أو يقتل الآخر فقد شرّع للآخرين قتله أو إخراجه، ولذا ورد (من حفر بئراً لأخيه وقع فيها)، وقال سبحانه:

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَفًا خَافُوا عَلَيْهِمْ)(2) فالذي لا يُراعي أيتام الغير قد لا تُراعي أيتامه من بعده.

الرابع: ﴿أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ).

أخذ الميثاق كان بموافقتهم ورضاهم - وقد مر نظير ذلك والإنسان قد ينكر العهد فيحتاج إلى إشهاد عليه، كما في الآخرة حيث

ص: 219


1- البحار : ج 58 ص 150 .
2- سورة النساء، الآية: 9

يقوم الأشهاد وتشهد الأعضاء، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَدُ)(1) وقال سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يعْمَلُونَ«20» وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا).(2)

وهؤلاء لم يكونوا ينكرون ذلك العهد، ولذا أقروا على أنفسهم وشهدوا على بني جلدتهم، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أي على أنفسكم وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ على أقرانكم وبني دينكم.

الخامس: ﴿تَظْاهَرُونَ عَلَيْهِم).

أي يعاون بعضكم بعضاً في القبيح ومجاوزة الحد بالإفراط في الظلم.

ومن المحرمات التعاون على الإثم، وكذلك إعانة الظالم في ظلمه ففي حرمة إعانة الظالم في ظلمه، قال عزّ وجل : (وَقَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَ فَلَنْ أَكُون ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)(3) وقال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(4).

قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ : من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج

عن الإسلام. (5)

وقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين الظلمة؟ أين أعوان لي الظلمة؟ أين أشباه الظلمة حتى من برى لهم قلماً أو لاق لهم دواة، فيجتمعون في تابوت من حديد، ثم يرمى بهم في جهنم.(6)

ص: 220


1- سورة غافر، الآية: 51
2- سورة فصلت، الآيتان: 20 - 21.
3- سورة القصص الآية: 17
4- سورة هود، الآية: 113
5- مجموعة ورام عنه : إيصال الطالب ج 3، ص271.
6- المصدر السابق.

وفي حرمة التعاون على الإثم قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَان .(1)

ومن التعاون على الإثم المحرّم تظاهرهما على الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، كما ورد في سورة التحريم، حيث قال تعالى : (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (2) حيث تعاونتا فيما يؤذي رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

السادس: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) دلت الآية على أن من المحرمات إخراج الناس من بلدانهم وأماكنهم، وهو ما يعبر عنه الآن بالتسفير والتبعيد.

ومن يفعل ذلك فإنما يتبع فسقة اليهود، حيث كان عملهم هذا كفر ببعض الكتاب كما قال تعالى عنه : ﴿وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، وكذلك هو اتباع المشركين حيث أخرجوا رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمسلمين من ديارهم في مكة المكرمة. كما أن ذلك من أماني المنافقين، قال تعالى: ﴿وَصَدُّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرُ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ)(3) ، وقال سبحانه: ﴿ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ) (4)، وقال عز من قائل:

(يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ).

والمؤمنون الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، فإن الله تعالى يكافئهم أحسن جزاء المحسنين قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن

ص: 221


1- سورة المائدة، الآية: 2 .
2- سورة التحريم، الآية: 4.
3- سورة البقرة الآية: 217
4- سورة الممتحنة، الآية: 1.

دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ

تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّه).(1)

وجزاء من يُخرج المؤمنين من ديارهم شديد في الآخرة، وكذلك لعملهم أثر وضعي وعقوبة شديدة دنيوية .

منها : جواز قتالهم قال تعالى: (أذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اَللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ«39» الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ)(2)

ومنها : عدم جواز توليهم قال تعالى:(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).(3)

ومنها جواز إخراجهم ووجوبه في بعض الصور قال تعالى:(وَاخْرِجُوهُم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).

ومنها هلاكهم قال تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذَا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا«76» سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا)(4) ، أي لو أخرجوك لا يبقون بعدك إلا قليلاً، لأن هذه سنة الله في الحياة، إلى غير ذلك.

السابع: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).

والمراد من الإيمان - هنا - العمل طبق الحكم الشرعي، فهنا كانوا

ص: 222


1- سورة آل عمران الآية: 195.
2- سورة الحج، الآيتان: 39 - 40 .
3- سورة الممتحنه الآية: 9.
4- سورة الإسراء، الآيتان: 76 - 77 .

يعملون بالفداء الواجب، فكان هذا إيمان ببعض الكتاب أي تطبيق الحكم، فإن الإيمان يستعمل بمعان متعددة، وقد يكون تداخل في بعض الأقسام، ومن المعاني:

1 - الإيمان مقابل الكفر ، كقوله تعالى: (مَنْ ءَامَن بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ

الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحَاً)(1).

2 - الإيمان مقابل النفاق، قال سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ«8» يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا)(2)، وقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ للإمام علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق».(3)

3 - الإيمان مقابل الإسلام، فيكون مرتبة فوق الإسلام قال تعالى : (قالَتِ الأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ )(4)

4 - التصديق باللسان قال سبحانه (إنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَآلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾(5) وقد مرّ توضيحها وأن المراد هو الذين آمنوا بألسنتهم.

5 - التصديق بالقلب، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُ بِالْإِيمَانِ﴾(6) ، وقال سبحانه: ﴿وَلَم تُؤْمِن قُلُوبُهُم).(7)

ص: 223


1- سورة البقرة، الآية: 62.
2- سورة البقرة الآيتان 8 ،9.
3- رواه من العامة مسلم في صحيحه.
4- سورة الحجرات، الآية: 14 .
5- سورة البقرة، الآية: 62.
6- سورة النحل، الآية: 106
7- سورة المائدة، الآية: 41.

6 - الدرجة العليا من التصديق والعمل، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(1) ، وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).(2)

وهنالك الكثير من الروايات التي تفصل في درجات الإيمان وتبين المعاني المختلفة له، وقد روى بعضها ثقة الإسلام الكليني رضوان الله عليه في كتاب الكافي الشريف - كتاب الإيمان والكفر ، ومنها : ما عن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثم بعث الله محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وهو بمكة عشر سنين، فلم یمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ رسول الله إلا أدخله الله الجنة بإقراره وهو إيمان التصديق.(3)

كما أن للكفر معان أيضاً :

فقد يكون كفر في العقيدة ويشمل ذلك المنافقين أيضاً، قال سبحانه : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةُ)(4) ، وقال تعالى عن المنافقين: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانكُمْ).(5)

و قد يكون كفر في العمل، أي يعمل عمل الكفار مع كون العقيدة سليمة قال تعالى: ﴿وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌ

ص: 224


1- سورة النساء الآية 65 .
2- سورة الأنفال الآيات 2 - 4 .
3- الكافي كتاب الإيمان والكفر ج 2، ص 55.
4- سورة المائدة الآية: 73.
5- سورة التوبة، الآية: 66 .

حَمِيدٌ) (1) ، وقال سبحانه: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةٌ مُطْمَئِنَةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ )(2)، وهذا ما يعبر عنه بالكفر العملي، أي يعمل الإنسان عمل الكفار ، لا أن ذلك العمل يخرجه من الإسلام إلى الكفر.

وفي الكافي عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ ؛ قال : «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه : فمنها كفر الجحود والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله وكفر البراءة، وكفر النعم، فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية، وهو قول من يقول : لا رب ولا جنة ولا نار إلى أن قال وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده»(3)

وفي هذه الآية الكريمة: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) يراد من الإيمان والكفر هو التطبيق العملي، فهؤلاء كانوا يطبقون حكماً من أحكام الله وهو الفداء، ويخالفون حكماً آخر وهو حرمة الإخراج والقتل ولأن هذا العمل هو عمل الكفار، لأنه يعمل حسب ما يراه من مصلحة، لا حسب أوامر الله، فلذا عبر عن عملهم بأنه

إيمان ببعض وكفر ببعض .

وليس معنى ذلك إمكان اجتماع الكفر والإيمان في العقيدة، لأن من أنكر أصلاً من أصول الدين فهو كافر، حتى لو قبل جميع ما سوى ذلك،

ص: 225


1- سورة لقمان الآية: 12.
2- سورة النحل، الآية: 112
3- الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب وجوه الكفر ج 2، ص392.

وأما من اعترف بجميع أصول الدين فهو مؤمن - بالمعنى الأول للإيمان - حتى لو خالف بعض أوامر الله ونواهيه وكان من العصاة، أو كان جاهلاً بما سوى أصول الدين.

ولذا لا توجد واسطة بين الإيمان والكفر في أصول الدين، ويمكن أن يكون واسطة بين الإيمان والكفر في العمل ويعبر عنه بالضلال، فمن أنكر أصلاً من أصول الدين فهو كافر، ومن أنكر بعض العقائد اليقينية من غير أصول الدين، أو أنكر بعض فروع الدين المسلمة، أو عصى بترك الأوامر وفعل المناهي، فإنه يكون ضالاً.

قال الشيخ الأنصاري رحمه الله في أحد وجهين: «ودلالة الأخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والإيمان، وقد أطلق عليه في الأخبار الضلال، لكن أكثر الأخبار الدالة على الواسطة مختصة بالإيمان بالمعنى الأخص فيدل على أن من المسلمين من ليس بمؤمن ولا كافر لا على ثبوت الواسطة بين الإسلام والكفر نعم، بعضها قد يظهر منه ذلك.(1)

وفي مجمع البيان: ومما يسأل في هذه الآية : أن ظاهرها يقتضي صحة اجتماع الإيمان والكفر وذلك مناف للصحيح من المذهب؟ والقول فيه أنهم أظهروا التصديق ببعض الكتاب والإنكار للبعض دون بعض وهذا يدل على أنهم لا ينفعهم الإيمان بالبعض مع الكفر بالبعض الآخر»(2)

ص: 226


1- الرسائل، باب الانسداد التنبيه الخامس الوسائل ج 1، ص 93 - 97 .
2- مجمع البيان ج 1، ص 387.

الثامن: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ ).

الردّ يستعمل عادة ويراد به الرجوع إلى الشيء الذي كان فيه، وردّهم يوم القيامة قد يكون إشارة إلى أنهم في الدنيا كانوا في عذاب، وفي الآخرة أيضاً يعذبون فكأنهم رُدّوا وأرجعوا إلى العذاب، ويمكن أن يكون إشارة إلى رجوعهم إلى أصولهم، فهم من النار وإلى النار، كما تشير إليه أخبار الطينة، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «إن الله عزّ وجلَّ خلق المؤمن من طينة الجنة وخلق الكافر من طينة (النار.(1)

وعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال : وخلق عدونا من سجين و وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه ثم تلا هذه الآية: ﴿كَلَآ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَارِ لَفِي سِجِينِ«7» وما أدرَئكَ مَا سِجِینٌ«8» كِتَابُ مَرْقُومٌ«9» وَیلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).(2)

وورد مضمون هذه الأخبار في كتب العامة أيضاً،(3) وتوضيحها أن الله تعالى قبل خلقهم عَلِم بكفرهم فخلقهم من طينة سجين، كما أنه قبل خلق المؤمنين علم بإيمانهم فخلقهم من طينة عليين وما دونها، ولعل وجه

ص: 227


1- الكافي كتاب الإيمان والكفر باب طينة المؤمن والكافر حديث 2، ج 2، ص 25 .
2- سورة الانفطار، الآيات 7 - 10
3- ففي مسند البزاز ج8، ص 46 عن النبي صلى الله عليه وآله] وسلم إن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم قبض من طينته قبضة بيمينه وقبضة بيده الأخرى فقال للذي بيمينه هؤلاء للجنة ولا أبالي وقال للذي بيده الأخرى: هؤلاء للنار ولا أبالي ثم ردهم في صلب آدم». وفي مختصر تاريخ دمشق ج 1 ، ص 36 : أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق قال حدث علي بن نصر البصري بسنده إلى علي بن الحسين عن أبيه رفعه قال: «إن الله عز وجل خق عليين وخلق طينتنا منها وخلق طينة محبينا منها، وخلق سجين وخلق طينة مبغضينا منها، فأرواح محبينا تتوق إلى ما خلقت منه وأرواح مبغضينا تتوق إلى ما خلقت منه». وكذلك صحيح ابن حبان ج 2، ص 50 ومسند أحمد بن حنبل ج 5 ، ص 68.

ذلك أن الجنة لا تتناسب إلا مع طينة عليين ونحوها، والنار لا تتناسب إلا مع طينة سجين، فخلق من سيختار الإيمان من سجين يكون سبباً لدخول طينة سجين إلى الجنة وهذا خلاف الحكمة، وكذلك خلق من سيختار الكفر من غير سجين يكون سبباً لدخول غير سجين في النار وهذا أيضاً خلاف الحكمة.

التاسع: (يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِ الْعَذَابِ).

دلت الآية على أنه قد يجمع عذاب الدنيا وعذاب الآخرة على بعض الناس، لاستحقاقهم العقوبتين .

وعذاب الدنيا قد يكون بطريقة تكوينية، بأن أراد الله عذابهم تكويناً بتهيئة أسبابه، وقد يكون عذاباً تشريعياً، بأن يشرّع عقوبة بعض الجرائم، وهذه العقوبة الدنيوية قد تكون تطهيراً للمجرم إذا تاب وكان مؤمناً ، فلا يعاقب في الآخرة لذلك الذنب، فإن الله أكرم من أن يجمع بين عقوبة الدنيا والآخرة على المؤمن - كما في بعض الأحاديث-.

ص: 228

الآيتان 87 - 88

المطلب الثامن ومن أسباب انحراف بني إسرائيل (تكذيب الرُّسل)

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ 88)

87 - ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) التوراة (وَقَفَّيْنَا) أي أتبعنا ، وأرسلنا بعضهم خلف بعض (مِن بَعْدِهِ، بِالرُّسُلِ) وكانوا مأمورين بالعمل بالتوراة والعمل على شريعة موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثم بعد ذلك نسخنا شريعة موسى (وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) الإنجيل كما في قوله تعالى: (وآتيناه الإنجيل) (1) ، أو المعاجز كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، (وَأَيَّدَنَاهُ) قويناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) روح طاهرة، أي جبرائیل عَلَيْهِ السَّلاَمُ: حيث قوي عيسى به من قبل ولادته حين تمثل لأمه، إلى حين رفعه إلى السماء، لكنكم أيها اليهود لم تخضعوا لأمر الله بل اتبعتم أهواءكم (أ) الهمزة للتوبيخ والاستنكار (أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ

ص: 229


1- سورة الحديد، الآية: 27 .

رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) على الحق فخالفتم ذلك الرسول بشتى الطرق ﴿فَفَرِيقًا كَذَبْتُمْ) كعيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ومحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ

وفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ أي قتلتموهم كيحيى وزكريا.

88-(وَ) قد كانوا يعتذرون عن عملهم بأن ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) أي على قلوبنا غطاء فلا نفهم ما تقول، وليس الأمر كما زعموا (بَل لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم عن الخير وقبول الهداية، وكان هذا الطرد (بِكُفْرِهِمْ) أي بسب ،كفرهم، فلمّا كفروا طردهم الله من رحمته وأبعدهم عن الخير والهداية، ﴿فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ) مبالغة في القلة أي لا يؤمن منهم إلا القليل. كما قال تعالى: ﴿وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِم فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا)(1)

-------------------------

بحوث

الأوّل: ﴿وَقَفَيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ)

الرُّسل من بعد موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ كانوا مأمورين حسب شريعة موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ

إلى أن بعث الله عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فنسخ شريعة موسى وجاء بشريعة جديدة، ولعيسى أوصياء على فترة من الرسل إلى أن بعث الله محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بشریعة ناسخة لما قبلها وهو خاتم الأنبياء.

ولعلّ سبب كثرة الرسل في بني إسرائيل هو احتياجهم واحتياج

ص: 230


1- سورة النساء، الآية: 46 .

البشرية - في مراحل تطورها - إلى كثرة من يكون حلقة وصل بين السماء والأرض، وهم الأنبياء والرسل ولبناء أمة مرضيّة مفضلة على العالمين

كما قال تعالى: ﴿وَأَنِي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)(1) ، ولتكون مثلاً يضرب بها في اللاحقين - في إيجابياتها وسلبياتها - ولعل ما مرّ به بنو إسرائيل من مراحل مختلفة في حياتهم في حياتهم هي أمور تمرّ بها جميع الأمم الأخرى في مراحلها المختلفة، فأرسل الله مختلف الرسل في كل تلك المراحل ليقوموا الأعمال ويرشدوا إلى الصواب فيكونون قدوة لكل من يمرّ بتلك المراحل، وليعتبر الناس بما جرى على بني إسرائيل، ويشاهدوا نقاط القوة فيتبعونها حينما يمرون بنفس تلك الظروف، ويشاهدون نقاط الضعف وما آلوا إليه من مشاكل فيجتنبوها.

ولأن المثل يكون أسهل وأقرب للفهم والقبول إذا كان في أُمة واحدة، فلذا خص الله بني إسرائيل بذلك فأرسل لهم الرسل تترى، ومن ثم جعلهم عبرة ومثلاً .

ولما وصل التطور إلى مرحلة احتاج انتقالها إلى مرحلة أسمى من المرحلة السابقة، أرسل الله عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ بشريعة تناسب مرحلة التطور، كبرزخ بین تلك المرحلة وبين المرحلة النهائية التي بدأت ببعثة رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ

الثاني: (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ).

ذكر اسم عيسى في القرآن في خمسة وعشرين موضعاً وكذلك ورد في أماكن مختلفة بلقبه المسيح، أكثرها أتبع بنسبه إلى أمه (مريم عَلَيْهِا السَّلاَمُ) ولعل ذلك لنفي كونه ابناً لله كما زعمت النصارى (وَقَالَتِ النَّصَارَى

ص: 231


1- سورة البقرة الآية؛ 47 .

الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)(1) وكذلك لنفي بهتان اليهود عن

مريم عَلَيْهِا السَّلاَمُ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيمًا)(2)

الثالث: (الْبَيِّنَاتِ).

البينات الدلائل الواضحة التي لا مجال لإنكارها إلا بالتكبر عن الحق، وهي معاجز عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وإخبارهم بما يأكلون في بيوتهم، وكل ذلك بإذن الله تعالى، ولذا قال تعالى: ﴿وَءَاتَيْنَا) أي أعطيناه من لدنا .

والبينات تشمل الإنجيل أيضاً لأن فيه الدلائل الواضحة على صدق عیسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ كما قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيْنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَختَلِفُونَ فِيهِ).(3)

الرابع: ﴿وَأَيَّدَناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).

أي قويناه بجبرائيل عَلَيْهِ السَّلاَم

وفي مجمع البيان وإذا قيل لِمَ خصّ عيسى عَلَيْهِ السَّلاَم من الأنبياء بأنه مؤيد بجبرائيل، وكل نبي مؤيد به؟

فالقول فيه : إنه إنما خُصّ بذلك، لثبوت اختصاصه به من صغره إلى كبره فكان يس- يسير معه حيث سار، ولما هَمّ اليهود بقتله لم يفارقه حتى صعد به إلى السماء، وكان تمثل لمريم عند حملها به وبشرها به ونفخ فيها (4)

ص: 232


1- سورة التوبة، الآية: 30 .
2- سورة النساء، الآية: 156 .
3- سورة الزخرف، الآية: 63.
4- مجمع البيان ج 1، ص392.

وروح القدس بمعنى الروح الطاهرة عن الآثام من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كما يقال حاتم الجود.

وهو جبرائيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ لقوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) (1) وقوله سبحانه: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِ).(2)

ولعل ذلك من علل عداوة اليهود الجبرائيل حيث أيد الله تعالى عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ به، وأنزل القرآن على رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ به.

الخامس: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ).

:أي: و فَرِيقاً قتلتم ونسب القتل إليهم لأن هؤلاء رضوا بما فعله أسلافهم فكأنّ القتل مستمر فيهم، أو لأن القتل من طبعهم فإن تهيأت لهم الظروف لقتل أي رسول لفعلوا ذلك، كما روي أن امرأة منهم أهدت رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ طعاماً مسموماً لتقتله(3) ، ولعل ذلك سبب المجيء بصيغة المضارع في تقتلون أو مراعاة للفاصل في الآيات التي انتهت بالنون.

وبما أن ما جرى على بني إسرائيل يجري على أمة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لأن الأمم تشترك في نقاط القوة والضعف وقد روت العامة ذلك أيضاً (4) ، لذا فإن المستكبرين في هذه الأمة كذبوا فريقاً من آل محمد وقتلوا فريقاً آخر، وفي تفسير العياشي، عن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «ذلك مَثَل موسى

ص: 233


1- سورة الشعراء، الآيتان: 193 ، 194.
2- سورة النحل، الآية: 102
3- بحار الأنوار: ج 17، ص 232 .
4- البخاري، أحاديث الأنبياء، ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم الحديث 3197 ونصه «أن النبي صلى الله عليه وآله] وسلم قال: لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا حجر ضب لسلكتموه، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟».

والرسل من بعده وعيسى صلوات الله عليهم، ضرب مَثَلاً لأمة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فقال الله لهم : فإن جاءكم محمد بما لا تهوى أنفسكم بموالاة علي استكبرتم، ففريقاً من آل محمد كذبتم وفريقاً تقتلون فذلك تفسيرها في

الباطن (1) أي أن ذلك من التأويل.

السادس: (غُلْفُ).

جمع أغلف أي على قلوبنا غطاء فلا نفهم ما تقول . وقيل : إن غُلف مخفف (غُلُف) بضمتين جمع ،غلاف أي إن قلوبنا أوعية للعلوم فلا نحتاج إلى ما تقول أو لا نجد أثر لما تقول في علومنا فكأنه أكاذيب.

وعلى الأول يكون هذا نظير قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا

تدعُونَآ إِلَيْهِ وَفِي ءَاذَانِنَا وَقَرٌ).(2)

وعلى الثاني يكون من عُجبهم بما عندهم وتكبرهم عن قبول الحق إذا جاء من غيرهم .

السابع: (بَل لَعَنَهُمُ اللَّهُ).

اللعن هو الطرد والإبعاد، ولعن الله هو طردهم وإبعادهم عن رحمته وخيره.

وقد ورد اللعن في أربعين موضعاً من القرآن الكريم، فلزم القول بأن اللعن ثقافة قرآنية، فإن ما ورد في آية واحدة هو ثقافة قرآنية، فما بالك بما ورد في أربعين موضعاً .

بل اللعن سنة الله تعالى التي لا يبدلها سبحانه وتعالى، ففي القرآن

ص: 234


1- عنه البرهان ج 1 ، ص 466 وقريب منه ما في الكافي.
2- سورة فصلت الآية 5.

الكريم : (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِلُوا تَقتِيلًا«61» سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا).(1)

فلعن هؤلاء وقتلهم سنة إلهية غير قابلة للتبديل نفياً مؤبداً .

وإن دعاة إلغاء اللعن من برنامج المسلمين، إنما هم يدعون إلى إلغاء هذه الآيات الكريمة من القرآن ظناً منهم أن اللعن أمر قبيح مخالف للعقل والمنطق فهؤلاء يؤمنون ببعض الكتاب لكنهم ينكرون بعضه!! عصمنا الله من الزلل ومن الانهزامية والتأثر بالتهريج والأراجيف التي يثيرها أعداء الإسلام وأعداء أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

وللّعن فوائد كثيرة، منها : إيجاد حصانة فكرية ونفسية ضد الملعون، وإيجاد شعور باطني بلزوم الابتعاد عنه وعدم التأثر به فأعداء الله تعالى قد يكون لهم بريق أو إعلام مضلل وتهريج مما يتأثر به الإنسان، فلعنهم يوجب تركيز البراءة منهم وعدم التأثر ببريقهم الزائف، إضافة إلى أن الله تعالى يحفظ المؤمنين بلعنهم أعداءه من

التأثر بهم.

وهنا باختصار نشير إلى الملعونين في القرآن، وإلى الأعمال الموجبة للعن في القرآن وإلى اللاعنين في القرآن الكريم.

القسم الأول الملعونون في القرآن

وهم طوائف، فمنهم من لعنوا بأسمائهم، ومنهم من لعنوا بقبائلهم وأقوامهم، ومنهم من لعنوا بأفعالهم.

ص: 235


1- سورة الأحزاب الآيتان: 61-62.

فمن لعنوا بأسمائهم:

1 - إبليس، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)(1) ، وقال سبحانه: ﴿إِلَّا شَيْطَاناً مَّرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ)(2)

2 - فرعون، قال تعالى: ﴿وَأُتَّبِعُوا فِي هَذِهِ، لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ)(3) وقال سبحانه: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعَنَةً)(4)، ويدخل في الآيتين قوم فرعون وجنوده.

ومن الذين لعنوا بأقوامهم وقبائلهم:

1 - عاد، قال تعالى: ﴿وَأَتَّبِعُواْ فِي هَذِهِ، لَعْنَةً)(5)

2 - بنو أمية، قال سبحانه: ﴿ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ ﴾(6)

3 - أصحاب السبت، قال تعالى: (كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ)(7)

4 - اليهود، قال سبحانه: ﴿لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ)(8)، وقال سبحانه (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنْهُمُ اللَّهُ).(9)

لأن أصحاب السبت كانوا طائفة من اليهود، ولأن اليهود هم قوم من بني إسرائيل، لذا أدخلناهم في هذا الصنف.

5 - قوم فرعون وجنوده وقد مرّ ذكرهم عند ذكر لعن فرعون .

ص: 236


1- سورة ص، الآية: 78
2- سورة النساء، الآيتان: 117 ، 118.
3- سورة هود الآية 99 .
4- سورة القصص، الآية: 42 .
5- سورة هود، الآية: 60.
6- سورة الإسراء، الآية: 60
7- سورة النساء، الآية: 47.
8- سورة البقرة، الآية: 88
9- سورة النساء، الآية: 52.

ومن الذين لُعنوا بأفعالهم:

1 - الكفار ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ)(1) ، وقال سبحانه (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَفِرِينَ ).

2 - المشركون، قال تعالى: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ)(2).

3- المنافقون، لعنوا في الآية السابقة أيضاً، وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(3).

4 - القاتل، قال تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (4).

القسم الثاني الأعمال الموجبة للّعن

إضافة إلى ما مرّ من الكفر والشرك والنفاق والقتل، فقد ذكر القرآن الكريم بعض الأعمال التي يستحق فاعلها اللعن ومنها :

1 - الإيمان بالجبت والطاغوت واعتبار الكفار أهدى من المؤمنين قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلًا «51» أُوْلَبِكَ الَّذِينَ لَعَنْهُمُ اللَّهُ).(5)

ص: 237


1- سورة النساء، الآية: 46 .
2- سورة الفتح، الآية: 6.
3- سورة آل عمران الآية: 87
4- سورة النساء، الآية: 93
5- سورة النساء، الآيتان: 51 - 52 .

2 - القول الباطل في الله ، قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ

أَيْدِيهِمْ وَلمِنُوا بِمَا قَالُوا(1).

3 - سوء الظن بالله تعالى: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّآنِينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ).(2)

4 - إيذاء الله ورسوله، قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لعنهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة).(3)

5 - كتمان البينات والهدى، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَبِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ).(4)

6 - مخالفة أحكام الله تعالى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْراءِيلَ) إلى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُواْ يَعْتَدُونَ)(5).

7 - قذف المحصنات، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(6)

8 - الظلم قال تعالى: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(7)

9 - نقض الميثاق، ذكر في الآية التالية، وغيرها.

10 - الفساد في الأرض ذكر في الآية التالية، وغيرها.

ص: 238


1- سورة المائدة، الآية: 64 .
2- سورة الفتح، الآية 6.
3- سورة الأحزاب الآية: 57 .
4- سورة البقرة الآية 159
5- سورة المائدة، الآية: 78
6- سورة النور، الآية: 23
7- سورة هود، الآية: 18.

12 - قطع الأرحام قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أَوَلَئِكَ لَهُمُ اللَعْنَةُ و لَهُم سُوءُ الدَّارِ).(1)

13 - الإرجاف وإخافة المؤمنين قال تعالى: ﴿لَئِن لَّمْ يَنَتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) إلى أن قال: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا).(2)

14 - الكذب، قال سبحانه: (فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَذِابِينَ).(3)

القسم الثالث اللاعنون في القرآن

فالله تعالى هو الذي يطردهم من رحمته إلى العذاب والخزي وأما غيره فإنهم يدعون الله تعالى ليطرد هؤلاء من رحمته.

فاللعن من الله هو الطرد، واللعن من الناس هو الدعاء عليهم .

وأما اللاعنون فمنهم: الأنبياء كقوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)(4)

ومنهم: الملائكة قال تعالى : (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(5)

ص: 239


1- سورة الرعد، الآية: 25 .
2- سورة الأحزاب، الآيتان: 60 - 61.
3- سورة آل عمران الآية: 61
4- سورة المائدة الآية: 78
5- سورة آل عمران الآية: 87

ومنهم الناس أجمعون، كما في الآية السابقة.

ومنهم طرفا المباهلة قال تعالى: ﴿فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَذِابِينَ﴾(1) فرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ شرّع لهم لعن الكاذبين وهم النصارى، كما شُرِّع للنصارى لعن الكاذبين الذين هم أنفسهم، ولذا خافوا ولم يباهلوا ورضوا بالجزية .

ومنهم : طرف اللعان في رمي الرجل زوجته : ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ

عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).(2)

هذا كله في اللعن بلفظه الوارد في القرآن، وقد ورد في القرآن معنى اللعن بألفاظ أخرى كالرجيم وغضب الله، والعذاب، ونحوها، لأن اللعن الطرد من رحمة الله تعالى وهذه مصاديق للطرد منها ، والعياذ بالله .

كما يلزم تحري الدقة والالتزام باللوازم الشرعية، فلا لعن إلا لأعداء الله وأعداء أوليائه ومن لعنهم الله تعالى ورسوله وأهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

وكذلك ينبغي مراعاة سائر أحكام الشرع من : التقية، والمداراة، ونحوهما، وحسب الضوابط الشرعية التي يكون تشخيصها - حكماً وموضوعاً - لدى أهل الاختصاص في الشرع، وهم الفقهاء العدول.

الثامن: (بِكُفرِهِمْ).

أي لم يكن لعنهم اعتباطاً لأن الله عادل حكيم، بل كان بسببهم، فإنهم كفروا فاستوجبوا اللعن، وفي هذه الآية ردّ على المجبرة الذين يزعمون أن الإنسان مجبور في أفعاله - مؤمناً كان أو كافراً- ، لأن هؤلاء

ص: 240


1- سورة آل عمران الآية: 61 .
2- سورة النور، الآية: 7 .

اليهود حيث قالوا : (قُلُوبُنَا غُلْفٌ)، فإن قولهم هو نفس قول هؤلاء المجبرة: من أن على القلوب ما يمنع الإيمان ويحول بينها وبين الإيمان، فكذَّبهم الله تعالى في ذلك بأن لعنهم وذمهم، ولو كان اليهود صادقين لما استحقوا

اللعن، ولكان الله تعالى قد كلفهم ما لا يطيقونه )(1) ، فقلوبهم كقلوب غيرهم خلقت على الفطرة لها قابلية الإيمان وقبول الحق، كما روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»(2).

ص: 241


1- مجمع البيان ج 1 ، ص 395 - 396 - بتصرف -.
2- التبيان في تفسير القرآن: ج8، ص237.

الآيتان 89 - 90

(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ «89» بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ «90») .

89 - بعد أن ذكر الله تعالى مثالين من تكذيبهم الرسل أتبعه بمثال ثالث وهو تكذيبهم لرسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فقال: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ) أي اليهود (كِتَابُ) هو القرآن (مِنْ عِندِ اللَّهِ) أي من الله، والقرآن (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) من الكتب السماوية كالتوراة، لأنها أخبرت بأمر مستقبلي وهو بعثة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بنزول القرآن عليه تحقق هذا الإخبار، ولأن القرآن يصدّق التوراة غير المحرفة لأن كليهما من عند الله .

﴿وَ) هؤلاء اليهود (كانُوا مِن قَبْلُ) البعثة على علم ببعثة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ونزول القرآن عليه ولذا كانوا ينتظرون الرسول وكتابه وكانوا (يَسْتَفْتِحُونَ﴾ أي يطلبون الفتح والغلبة بواسطة الرسول والقرآن (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أعدائهم من مشركي العرب، ﴿فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا) بصفاته ومزاياه، وعلموا انطباق تلك الأوصاف على رسول الله

ص: 242

محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، وعلى القرآن (كَفَرُواْ بِهِ)، وهذا أوجب طردهم من رحمة الله (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).

90 - (بِئَسَمَا) أي بئس الشيء الذي (اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ) أَي باعوا أنفسهم وحصلوا مقابله على العذاب الدائم، وتمت عملية الاشتراء والبيع عبر (أَن يَكْفُرُوا) أي كفرهم (بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) على محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (بَغياً) أي كفرهم لأجل الحسد وطلب ما ليس لهم حيث كانوا يتوقعون أن يكون النبي منهم لا من نسل اسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وسبب بغيهم وحسدهم هو (أَن يُنَزِلَ اللَّهُ) الكتاب (مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) لا على من يشاؤون، لأن الله يتصرف بحكمته لا بأهواء الناس، (فَبَآءُو) أي رجعوا من هذه المعاملة (بِغَضَبٍ) من الله عليهم (عَلَى غَضَبٍ) إضافة إلى غضبه السابق عليهم بكثرة معاصيهم ومخالفتهم أوامر الله والأنبياء عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ ، (والكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) أي مذل وخلاصة معاملتهم كان بيع أنفسهم بكفرهم و بيع أنفسهم بكفرهم وشراء غضب الله وعذابه، وسبب هذا العمل هو الحسد.

------------------

بحوث

الأول : (مُصَدِّقٌ) .

ذكر الله تعالى في هذه الآية دليلين يوجبان الإقرار بصحة القرآن ونبوة رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، بحيث يلزمهم بالإيمان بهما، وتتم الحجة عليهم :

ص: 243

1 - إن القرآن تصديق للتوراة فإذا صحت التوراة صح القرآن أيضاً - لما سيأتي- ، فما داموا قبلوا التوراة وأقروا بصحتها فيلزمهم الإقرار بالقرآن والإيمان بمحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ للتلازم بينهما

2 - إنهم كانوا يعلمون ببعثة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ونزول الكتاب عليه من قبل، وكانوا يجهرون بذلك أمام المشركين ولم يكن هذا مجرد تمنيات، بل قائم على أسس صحيحة من إخبار الأنبياء السابقين وكتبهم، فلما بعث فإنه كان الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ علمهم السابق يكفيهم في الإيمان به.

الثاني: ﴿لَمَا مَعَهُمْ)

وتصديق القرآن لما معهم - من كتب كالتوراة - لجهات عدة منها :

1 - لأن تلك الكتب منزلة من الله تعالى فكل واحد منها يصدق الآخر ولا اختلاف بينها عكس كتب البشر، حتى أن الكتاب الواحد المؤلف واحد قد يكون فيه اختلاف قال سبحانه: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).(1)

ولذا كان التصديق بجميع الأنبياء والكتب السماوية لازماً، إذ هو تصديق بالله تعالى وتكذيب أحدهم وأحدها تكذيب له سبحانه، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ)(2) ، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضِ)(3)، وقال عز من قائل:

ص: 244


1- سورة النساء، الآية: 82.
2- سورة النساء، الآية: 152.
3- سورة النساء، الآية: 150.

وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَةِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ)(1) ، وقال تعالى: ﴿یَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنزَلَ مِن قَبْلُ)(2)

فقوله تعالى : (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ)، هو كالنتيجة لقوله : (كِتَابٌ مِنْ عِندِ

اللَّهِ) أي نتيجة كونه من عند الله هو تصديقه لما معهم.

2 - النبوءة إذا لم تتحقق يتبيّن كذب قائلها وكذب الكتاب الذي جاءت فيه والكتب السماوية السابقة كالتوراة، أخبرت ببعثة رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فلما بعث رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ونزل القرآن تبين صدق التوراة والكتب السماوية التي بشرت بهما.

3 - إن هذا التصديق هو دليل حقانية الرسول محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وصدقه، وذلك لأن طالبي الدنيا والرئاسة إذا عارضهم أحد أو مجموعة وشكّلوا خطراً، فإنهم يستعملون جميع الأساليب غير المشروعة لقمع أولئك المعارضين، ومن جملتها التنقيص منهم والنيل من مقدساتهم وتكذيبها .

ولما كان اليهود من أشد أعداء الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وكانوا يحاربونه من مختلف الجهات - عسكرياً واقتصادياً ودينياً وغيرها ، وكان الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يدافع عن نفسه والدين بردّ كيدهم وإفشال مؤامراتهم، فمقتضى الحال في طالبي الرئاسة كان يقتضي إنكار مقدساتهم، لكننا نجد القرآن الكريم مليء بتبجيل مقدسات اليهود - من الأنبياء والكتب- ، بل

ص: 245


1- سورة البقرة، الآية: 285
2- سورة النساء، الآية: 136.

حتى تنزيه أنبيائهم من بعض النقائص التي توهموها فيهم، فكان هذا دليلاً على أن محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رسول من الله وليس طالب رئاسة .

الثالث: (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا).

الاستفتاح هو طلب الفتح، وطلبهم للفتح قد يكون عبر :

1 - الانتظار والصبر على الأذى الذي كانوا يتحملونه من الكفار، إلى أن يُبعث الرسول فينقذهم من ظلمهم .

2 - توعد أهل الأصنام بأن رسولاً سيُبعث فيكسر أصنامهم، ففي الكافي عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : كان قوم بین محمد وعيسى صلوات الله عليهما، كانوا يتوعدون أهل الأصنام وبالنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ويقولون ليخرجن نبي، وليكسرنّ أصنامكم، وليفعلن بكم ما يفعلن، فلما خرج رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كفروا به»(1) .

3 - دعاء الله بحق الرسول ليهيئ لهم أسباب النصر، فكانوا يسألون الله الفتح والظفر بحق النبي المبعوث .

فإن الله تعالى تفضّل على بعض عباده المؤمنين، بأن جعل لهم حقوقاً عليه - وذلك من أعظم حقوقه عليهم -.

كما قال سبحانه: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(2) ، وقال تعالى:

(كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا تُنج الْمُؤْمِنِينَ )(3) .

كما أن التوسل بالرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مما اتفقت على جوازه كلمة 3

ص: 246


1- البرهان ج 1 ، ص 475 عن الكافي الشريف.
2- سورة الروم، الآية: 47.
3- سورة يونس الآية: 103

المسلمين، لقوله تعالى: ﴿أَوَلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾(1) . ودلت عليه الأحاديث الصحيحة .

وأما شأن النزول، ففي الكافي الشريف عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : كانت اليهود تجد في كتبها أن مُهاجَر محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ما بين غير وأحد(2)، فخرجوا يطلبون الموضع . فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه وقال لهم أمُرُّ بكم ما بين غير وأحد؟ فقالوا له : إذا مررت بهما فآذنا بهما ، فلما توسط بهم أرض المدينة قال لهم ذاك عَير وهذا أحد، فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا قد أصبنا بغيتنا ...،فلما كثروا [أي الأوسر والخزرج] كانوا يتناولون أموال اليهود وكانت اليهود تقول لهم : أما لو قد بعث محمد لنُخرِ جنّكم من ديارنا وأموالنا . فلما بعث الله محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود(3) .

وتأويل الآية بني أمية حيث كفروا بعلي عَلَيْهِ السَّلاَمُ كما عن الإمام الباقرعلى ما رواه العياشي. (4)

الرابع: ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ.

دلت الآية على أن لعنهم ليس لأجل نسبهم أو أصلهم، بل إنها لأجل أفعالهم، فاللعنة تبعتهم لكفرهم.

فالأرجح جعل اللام في «الكافرين» للجنس، أي اللعنة تشمل كل الكافرين، فشمولها لليهود لكونهم مصداقاً للكافرين، حيث لم يكن .

ص: 247


1- سورة الإسراء، الآية: 57
2- هما جبلان في أطراف المدينة المنورة.
3- البرهان ج 1 ، ص 473 - 474 عن الكافي الشريف ومثله.
4- عن تفسير العياشي، البرهان ج 1، ص 475.

محركهم الحق بل العصبية، فلذا كفروا برسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لما تبين لهم أنه ليس من بني إسرائيل، بل من ولد اسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

الخامس: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ).

حاصل الآية هو تشبيه كفرهم بمعاملة بيع خاسرة :

البائع فيه : هؤلاء اليهود.

المثمن: أنفسهم .

الثمن : قليل من الدنيا .

وسيلة البيع : الكفر بما أنزل الله .

سبب المعاملة : الحسد وطلب ما ليس لهم .

النتيجة : خسارة الدنيا والآخرة، بغضب الله عليهم وعذابهم المهين. ووجه التشبيه ما ذكره الوالد رضوان الله عليه في كتاب تقريب القرآن إلى الأذهان):

(فكأنَّ الكفر والإسلام سلعتان فمن اختار أحدهما باع نفسه بذلك الشيء، إذ يصرف نفسه في سبيل ذلك، فإذا باع نفسه مقابل الإسلام كان نعم ما اشترى به نفسه وإذا باع نفسه مقابل الكفر كان بئسما اشترى به نفسه، واشترى هنا بمعنى البيع) (1).

وقد وردت آيات عدة في القرآن فيها هذا التشبيه :

فحول المؤمنين قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ .

ص: 248


1- تقريب القرآن إلى الأذهان ج1، ص 154.

وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةُ ) (1) ، وقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ

ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) (2)

كما ورد هذا التشبيه بلفظ البيع، قال سبحانه: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ) (3).

السادس: (بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ).

الظاهر (أنزل) و (نزّل) و (نزل به) بمعنى واحد، لأن (نَزَل) لازم وطرق تعديته: إما بحرف الجر أو باب الإفعال أو باب التفعيل .

وفي قوله تعالى: ﴿يَكْفُرُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللهُ) حيث استعمل كلا البابين - الإفعال والتفعيل - دلالة على عدم الفرق في المعنى اللغوي بينهما.

نعم نزول القرآن دفعة على قلب الرسول مرّة، وبالتدريج مرة أخرى دلت عليه الروايات من غير تغيير في المعنى اللغوي.

ويمكن أن يكون المعنى أن يكفروا بالقرآن بغياً لأجل أن يبعث الله محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فيكون معنى (أَن يُنَزِلَ اللَّهُ) أي أن يختار الله للنبوة من يشاء.

السابع: (وأَن يُنَزِلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) .

دلت الآية على أن النبوة فضل من الله سبحانه وتعالى، فليس لأحد حق على الله تعالى، إلا بما يتفضل الله عليه بأن يشرع له حقاً - تكويناً أم 1

ص: 249


1- سورة التوبة، الآية: 111.
2- سورة البقرة، الآية: 208
3- سورة التوبة، الآية: 111

تشريعاً ، أو يتفضل الله على أحد بأن يجعل له حقاً عليه كما مرّ في البحث الثالث .

والسؤال: لماذا فضّل الله البعض ولم يفضّل البعض الآخر؟ وقد يتساءل البعض: أليس ذلك من الظلم؟ فلو كان الله يجعل الكفار والعصاة معصومين لكانوا في مصاف الأنبياء والأوصياء؟

والجواب على ذلك من وجوه :

1 - إن الله تفضل على جميع المخلوقات بأن خلقها، وغمر الإنسان - بنعمه الظاهرة والباطنة كل ذلك تفضل منه وما دام الأمر تفضلاً فلا مانع ، عقلاً من التفاوت في درجات التفضّل كمن يساعد الفقراء بمقادير متفاوتة من غير حق لهم عليه ، فلا يحق لمن أخذ الأقل أن يعترض.

2 - إن نظام الكون خلق على التفاضل في كل شيء، وهذا من الحكمة في الخلق والجمال فيه ولولا ذلك لزم خلق جميع الموجودات على نمط واحد وشكل ،واحد مما كان يؤدي إلى اختلال النظام.

فالجمادات بعضها أرفع من بعض والنبات أفضل من الجماد والنباتات فيها تفاضل، والحيوان أفضل منها وبين الحيوانات تفاضل ، والإنسان أفضل منها ، والناس بعضهم أرفع من بعض، وأعضاء الإنسان بعضها أشرف من بعض ،وهكذا، فلو ألغي نظام التفاضل لانتفت الحكمة من خلق هذا العالم .

أما ما يقال من أن الماهيات لها سعة خاصة فالله يفيض الوجود على كل ماهية حسب سعتها وقابليتها، ففيه تأمل من جهات متعددة، لأن الماهية قبل إفاضة الوجود عليها معدومة والعدم لا شيء ولا يحكم عليه

ص: 250

بشيء وليس له سعة أو قابلية ولا أي شيء آخر، وأما ما يقال من أن العدم الخاص له حظ من الوجود، فكلام متناقض متهافت لأن الوجود والعدم نقيضان لا يمكن أن يجتمعا .

والتفاضل قد يكون تكوينياً أو تشريعياً أو في الثواب والآيات الدالة على التفاضل في هذا العالم كثيرة منها :

1 - التفاضل في النباتات، قال سبحانه: ﴿وَنُفَضِلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي

الْأُكُلِ) (1).

2 - التفاضل في الجنس ، قال تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)(2).

3- التفاضل في المنصب الإلهي، قال عز من قائل : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)(3).

4 - التفاضل في القابليات قال سبحانه: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيَّاً ) (4) أي يُسخَّر بعضهم للأعمال للبعض الآخر.

5 - التفاضل بين المخلوقات، قال تعالى: ﴿وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (5) أي بني آدم فضلوا على كثير من المخلوقات.

6 - التفاضل بين الأمم، قال تعالى: ﴿وَأَنِي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾(6)..

ص: 251


1- سورة الرعد، الآية: 4.
2- سورة النساء، الآية: 34 .
3- سورة البقرة الآية: 253
4- سورة الزخرف، الآية: 32.
5- سورة الإسراء، الآية: 70.
6- سورة البقرة، الآية: 47 .

7 - التفاضل في الرزق، قال سبحانه: ہوَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي

الرِّزْقِ) (1).

8 - التفاضل في الثواب، قال تعالى: ﴿يَرْفَعَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) .

ولذا يغلط من ينكر مقامات الأنبياء والأئمة عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ استناداً إلى فهمه القاصر من قوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (2) فإن هذه الآية ليست لإثبات التساوي في الفضيلة والمقامات الإلهية، بل لإثبات التشابه في التركيب الجسدي قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ﴾ (3) وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ ليَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (4) .

كل ذلك للدلالة على أنه من هذا الجنس البشري، لأن الله أرسل الرسل ليُقتدى بهم وليكونوا أسوة، ولا يمكن الاقتداء بهم إلا إذا كانوا من جنس المرسل إليهم، قال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ (5).

الثامن: (عَلَى مَن يَشَاءُ) .

ما يشاؤه الله تعالى ليس اعتباطاً لأن الله تعالى حكيم، والحكمة وضع الشيء في مواضعها قال سبحانه: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)..

ص: 252


1- سورة النحل، الآية: 71.
2- سورة الكهف، الآية: 110.
3- سورة الأنبياء، الآية: 8.
4- سورة الفرقان الآية: 20.
5- سورة الأنعام، الآية: 9.

التاسع: ﴿بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ).

المراد هو تضاعف الغضب عليهم، فمن مصاديقه الغضب عليهم لما عبدوا العجل وخالفوا موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ولما كذبوا بعيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ولما كذبوا رسول الله محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، وكذلك مسخهم، وكذا وقتلهم بسيوف المسلمين.

ولعل المراد به الغضب عليهم في هذه الدنيا وأما الآخرة فالعذاب المهين لهم، فيكون (بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) إشارة إلى الذل والمسكنة ونحوها مما أصيبوا به هنا و(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) إشارة إلى عذابهم الأخروي.

قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَا لَهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي

الْحَيَوَةِ الدُّنْيَا)(1)..

ص: 253


1- سورة الأعراف الآية: 152.

الآيات 91 - 93

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «91» وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ «92» وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «93»).

91 - وأما حجتهم على عدم اتباع الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فهو دليل باطل وهم يكذبون فيه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ) على محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا) فالمهم عندهم ما كان يرتبط بهم، لا بما أنزل الله (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُ) أي ما أنزل من بعد التوراة كالإنجيل والقرآن (وَ) الحال أن ما بعد التوراة ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُم) من التوراة، لكنهم كاذبون في ادعائهم بإيمانهم بالتوراة، لأنهم يخالفونها .

وهنا ثلاثة أدلة على كذبهم فأولاً (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن

ص: 254

قَبْلُ) نزول الإنجيل والقرآن _(إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) بالتوراة المحرَّمة للقتل، فما بالك بقتل أنبياء الله تعالى.

92 - والدليل الثاني على كذبهم : ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِنَاتِ) الآيات الواضحات (ثُمَّ أَخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي عبدتموه (مِن بَعْدِهِ) أي من بعد ذهاب موسى للطور (وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) لأنفسكم، وكان عملكم عن تعمد ،وقصد، فلا عذر لكم، فإذا خالفتم موسى والتوراة في أهم الأمور وهي عبادة الله إلى عبادة العجل فهل أنتم مؤمنون بها؟

93 - والدليل الثالث على كذبهم هو مخالفتهم للميثاق وعصيانهم (وَ) اذكروا ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) العهد الشديد (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي الجبل أو قطعة منهم، فعاهدتم وقلنا لكم (خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) بشدة وذلك بالعمل المستمر بما في الميثاق (وَاسْمَعُوا) أوامر الله تعالى سماع انقياد وطاعة، (قَالُوا) بألسنتهم أو بلسان حالهم (سَمِعْنَا) قولك (وَعَصَيْنَا) أمرك، (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ) أي امتلأت قلوبهم وتداخل فيها (الْعِجْلَ) أي حب العجل و عبادته، وكان سبب ذلك (بِكُفْرِهِمْ) الكامن في نفوسهم.

فكل ذلك دليل على كذبهم بأنهم يؤمنون بالتوراة، بل هم لا يؤمنون إلا بمصالحهم (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ) المزعوم بالتوراة، حيث زعمتم أنها تأمركم بالكفر بمحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ (إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) بها، لكن الأمر ليس كذلك بل أنتم لا تؤمنون حتى بالتوراة.

-----------------------

ص: 255

بحوث:

الأول: (بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا).

يدل على أن إيمانهم بالتوراة لم يكن إيماناً حقيقياً، بل لأنه كان مرتبطاً بهم وأنزل عليهم، ولولا ذلك لما كانوا يؤمنون به، ولأن هدفهم كان ذلك فإن المحور عندهم كان أنفسهم، فلذا كلما تعارضت التوراة مع مصالحهم وأهوائهم خالفوها وجعلوها وراء ظهرهم.

وهذا من العصبية البغيضة، التي تسوق الإنسان إلى خلاف الحق والحقيقة إرضاءً لغروره وهوى نفسه.

وقد ابتلى بهذا الداء بعض الأعراب، حيث لم يكن إيمانهم برسول الله إلا لأنه من العرب لا لأنه مبعوث من قبل الله تعالى قال: («وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ «198» فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ «199» كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ «200» لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ «201»).(1)

الثاني: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُم).

القرآن الكريم هو الحق المطلق. وحتى لا يتوهم أن كون القرآن حقاً معناه أن التوراة غير المحرفة باطل، جاء بقوله تعالى : (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ﴾ ، فكون القرآن حقاً لا ينافي كون التوراة الأصلية حقاً أيضاً، لأن القرآن يصدق التوراة، فكون القرآن الحق يلازم أيضاً كون التوراة حقاً، لأن الحق يصدق الحق ولا يمكن أن يصدّق الحق باطلاً.

مضافاً إلى بيان أن من مصلحتهم أيضاً القبول بالقرآن والإيمان

ص: 256


1- سورة الشعراء، الآيات: 198 - 201.

بمحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لأن القرآن يصدّق كتابهم ولا يكذبه ويصدق بمقدساتهم من الأنبياء والكتب .

ولكنهم قوم جاهلون كاذبون فلا الحق يتبعوه ولا مصالحهم الصحيحة يفهمون، وإنما يتوهمون مصالح خسرتهم الدنيا والآخرة.

الثالث: (تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ) .

نسب فعل أسلافهم إليهم - كما مرّ - لرضاهم بفعلهم ولأن طبعهم نفس طبع أسلافهم، ولمحاولتهم قتل رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وقد دسوا له السُم.

وهذا دليل على كفرهم بالتوراة، لأن التوراة تحرم القتل صراحة في الوصايا العشر، وقتل الأنبياء أشد من قتل غيرهم، لأن في قتلهم مخالفة لأحكام الله، إضافة إلى أن النبي مبعوث من قبل الله فقتله تكذيب لله ومعاندة له وهتك الحرماته تعالى .

وقوله (مِن قَبْلُ) لعله إشارة إلى أن مخالفتهم للتوراة أمر مرتبط : بطبعهم، مع أن أنبياء الله المقتولين كانوا منهم - أي من بني إسرائيل - ومع ذلك قتلوهم، فمخالفتهم لرسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ليس بدعاً في اسلوبهم، بل هو استمرار لأسلوبهم الطاغي المصلحي .

الرابع: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) .

قد يتوهم متوهم أن هذا تكرار لما سبق في الآية الواحدة والخمسين، وكذلك ما سيأتي في سورة النساء والأعراف وطه ولكن بالتأمل في القرآن نجد أنه لا يوجد تكرار إطلاقاً، وما توهم فيه التكرار إنما هو لأجل التشابه، وهو غير التكرار.

ص: 257

مثلاً في الدار توجد أبواب مختلفة وقد تكون كلها بلون واحد وكيفية واحدة، ومع ذلك لا يقال إن الباب الثانية تكرار للأولى بل يقال إنها تشبيه الأولى في الشكل وتخالفها في المهمة، فالأولى حرز للغرفة الأولى، والثانية حرز لغرفة ثانية مثلاً، وكذلك البنات المستعملة في البناء بعضها يشبه بعضاً ولكن تختلف في المهمة، فكل واحدة مكملة للأخرى من غير أن تكون تكراراً لها.

والدليل الواحد قد يكون دليلاً لعدة أمور ، فإذا استدل به على أمر ثم استدل به على أمر آخر فإنه لا يكون من التكرار في شيء، فقصة العجل التي مرت في الآية الواحدة والخمسين كانت في سياق أسباب انحرافهم وكفرانهم بالنّعم، وهنا لإثبات كذبهم في مدعاهم.

وإن قلنا بوجود التكرار فذلك لوجوه : قال الوالد رحمه الله :

ولا يخفى أن تكرار هذه القصص :

1 - للتركيز في الأذهان.

2 - ولأن العرب كانوا يعرفون بعضها إجمالاً لأن هؤلاء سكنوا في جزيرة العرب وحواليها .

3 - ولأن أهل الكتاب كانوا يصدقون بها .

4 - وقد جاءت القصة في كل مرّة بمزايا لم تذكر في مرة أخرى.

5 - ولأن التكرار أدعى للتحدي إذ يظهر عجز العرب عن الإتيان بمثلها أكثر فأكثر، إلى غير ذلك (1) . .

ص: 258


1- تبيين القرآن ص 412.

الخامس: (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) .

الإشراب دخول الشيء واختلاطه بحيث يصعب فصله، كما يتداخل

الصبغ في الثوب، وكما يتداخل الماء مع الخشب ونحوه .

و«أُشرب في قلوبهم» كناية عن اختلاط حب العجل في قلوبهم ونفوذه إلى أعماقهم بحيث يصعب انفكاكهم عنه .

ولعل سبب ذلك أن عقولهم كانت قاصرة عن معرفة الله سبحانه وتعالى بسبب سوء اختيارهم كما قال سبحانه: (بِكُفْرِهِمْ) ، فكانوا لا يعتقدون بإله غير قابل للرؤية كعبدة الأصنام وكالمجسمة من منتحلي الإسلام، فإنهم لقصور عقولهم وفكرهم لا يمكنهم أن يتصوروا كمالاً فوق الماديات وفوق صورة الإنسان، فتوهموا أن صورة الله كصورة آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لزعمهم أن لا كمال فوق صورة الإنسان كما ورد أن (النملة لو تصورت ربها تصورت له قرنين كقرنيها (1).

فهؤلاء - من بني إسرائيل - كانت تتوق نفوسهم إلى إله يناسب عقولهم القاصرة، فلذا لما عبروا البحر ورأوا قوماً يعبدون أصناماً (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَآ إِلَاهَا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ ) (2) فلما زجرهم موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ انتظروا فقده فلذا عبدوا العجل بعد غياب موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وحتى حينما أحرق موسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ العجل ونسفه في اليم نسفاً، كان بعضهم يُلقي بنفسه في الماء وما به إليه من حاجة، فيتعرض بذلك لرماد العجل فيشربه حباً في العجل وعبادته (3) . .

ص: 259


1- تبيين القرآن ص 412.
2- سورة الأعراف الآية: 147.
3- كما روى هذا المعنى العياشي عن الإمام الباقر عنه البرهان ج1، ص 483.

وهذه الصفة برزت في حبهم للماديات وقلة اعتقادهم بالغيبيات و سبب ذلك هو كفرهم وعدم إيمانهم بالغيب وبصدق الأنبياء، رغم ما شاهدوه من الآيات الواضحات، ورغم النّعم الكثيرة التي أنعمها الله عليهم .

ويمكن أن يكون إشراب قلوبهم بالعجل وكفرهم، بسبب أن البشرية في تلك المرحلة كانت تمر بفترة الطفولة فكان الكل يعبد الأصنام إلا القليل، وكانت المعارف الإلهية صعبة القبول لتلك العقول البدائية، وكان حال بني إسرائيل أفضل من غيرهم - رغم مشاكلهم - فلذا فضلهم الله على العالمين، أي الناس المعاصرين لهم، فتأمل.

ولعل هذه النظرة المادية للأمور هي التي أوجبت حبهم الكثير للمال

واكتنازه إلى يومنا هذا ، فكأنّ المال تحول إلى إله لهم في كل الأمور.

السادس: (بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانَكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .

يعني إن كان إيمانكم بالتوراة يأمركم بهذه المخالفات، فبئس الإيمان

هذا، لأنه ليس إيماناً حقيقياً، بل هو مجرد لقلقة لسان مع المخالفةالعملية .

وفي ذلك بيان كذبهم بأنهم يؤمنون بالتوراة، بل هم يؤمنون بمصالحهم وما تمليه عليهم أهواءهم.

ويمكن أن يراد التهكّم بهم، كما في (أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَتْرُكَ مَا

يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا) (1) .7

ص: 260


1- سورة هود، الآية: 87

الآيتان 94 - 95

المطلب التاسع ومن أسباب انحراف بني إسرائيل (العصبية والعنصرية)

(قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ«94» وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّالِمِينَ«95»).

94 - ومن أسباب انحرافهم : زعمهم بأنهم شعب الله المختار، وأن الجنة لهم، فردّهم الله (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) أَي الجنة ونعيمها (عِندَ اللَّهِ) أي بحكمه وإذنه تعالى ﴿خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ) فلا يدخلها منهم أحد ، (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) حتى تصلوا إلى مرادكم من النعيم وترتاحوا من مشاكل الدنيا (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) في ادعائكم بأنكم أولياء الله وأن الجنة لكم خاصة(1).

(وَ) لكنهم كاذبون في ادعائهم ف- (وَلَن يَتَمَنَّوْهُ) الموت (أَبَداً) ما عاشوا، وعدم التمني (ب-ِ) سبب (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي مخالفتهم لأحكام الله وأنبيائه، قدموا ذلك العمل إلى الآخرة فيكرهون لقاءه أبداً،

ص: 261


1- كما نقله عنهم القرآن (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا) (البقرة: (111)، وقال عنهم (نَحْنُ أَبْنَاوُا اللَّهِ وَأَحِبَاؤُهُ) (المائدة: 18).

لكن لا ينفعهم عدم التمني، لأن الموت سيأتيهم بغتة (وَ) سيحاكمون ويجازون على أعمالهم إذ (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فلا يخفى شيء من ظلمهم، وهذا تهديد لهم.

95 - (وَ) لأنهم يعلمون أن أعمالهم باطلة، وأن مصيرهم إلى النار، فلذا (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ) أي حياة طويلة أو يراد تحقير هذه الحياة لذا نكرها، (وَ) حتى أحرص (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) الذين لا يعتقدون بالآخرة فهم حريصون على حياتهم، وهؤلاء اليهود أحرص منهم لعلمهم بما يؤول إليه أمرهم في الآخرة من العذاب، ولذا ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ أي كل واحد منهم (لَوْ) للتمني (یُعَمَّرُ) يطول عمره (أَلْفَ سَنَةٍ) ، ولا يفيده هذا العمر الطويل إذ ﴿وَمَا هُوَ ) أي ليس طول العمر (بمُزَحْزِحِهِ) أي مبعَّده عن (الْعَذَابِ) وقوله (أَن يُعَمَّرَ) بدل «هو» لتوضيحه ، (وَ) ذلك لأن الله يجازيهم على أعمالهم إذ (اللَّهَ بَصِيرً)ا عالم (بِمَا يَعْمَلُونَ ) .

------------------------

بحوث

الأول: (لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ ) .

قيل : إن ذكر الآخرة ورد مرّة واحدة في التوراة المحرفة الموجودة الآن، وإن اليهود اليوم يؤولونها بالذكر الحسن، لا بالبعث والنشور يوم القيامة ! !

ص: 262

لكن دل القرآن الكريم على أن أسلافهم من معاصري الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كانوا يعتقدون بالآخرة، وأنها خاصة بهم لأنهم شعب الله المختار - حسب زعمهم ، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَآ أَيَاماً مَعْدُودَةً) (1)، وقال سبحانه: ﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَرَی) (2). وسيأتي بعض الكلام في الآية 110.

الثاني: (خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ).

هذا النوع من التفكير العنصري هو من أهم أسباب انحراف اليهود وعدم قبولهم للحق ، فأنْ يتصور الإنسان بأن كونه من مجموعة خاصة هي كل السبب في فلاحه ونجاحه ذلك ما يحدوه إلى ترك العمل والمخالفة، ونتيجة لذلك يَضل ويُضل، بل الملاك العمل، قال سبحانه :

(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (3).

وقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ : «الناس سواء كأسنان المشط» (4)

وقال : « . . . لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى»(5) .

وكذلك وقع في هذا المطب بعض المسلمين حيث زعموا عدالة جمیع

الصحابة مع قطع النظر عن أعمالهم . .

ص: 263


1- سورة البقرة، الآية: 80.
2- سورة البقرة، الآية: 111
3- سورة الحجرات، الآية: 13
4- البحار ج 75 ، ص 351 ، ح 108 ، باب 23 . وفي الفقيه: ح 5798) هكذا الناس كأسنان المشط سواء).
5- معدن الجواهر للكراجكي : ص 7 ، ومستدرك الوسائل: ج 13، ص 89، ح13598.

ومع تصريح رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بوجود منافقين في أصحابه وأن ثمانية منهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط (1) .

وأن أكثرهم في النار فلا يخلص منهم إلا القليل مثل همل النعم (2)، ومع أنه جعل ميزاناً لمعرفة المنافقين فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لعلي عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «ولا يبغضك إلا منافق» (3).

وقبل ذلك الآيات القرآنية الواردة في ذم المنافقين قال تعالى :(وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ (4) ، ونزلت في الوليد قوله تعالى: (إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَاءٍ فَتَبَيَّنُوا) (5) ، وعن ثعلبة قال سبحانه: ﴿فَاعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾(6) .7

ص: 264


1- رواه مسلم، صفات المنافقين وأحكامهم باب الحديث رقم 4983، ونصه «قال النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلم: في أصحابي اثنا عشر منافقاً فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخيّاط.
2- رواه البخاري، الرقاق، في الحوض الحديث رقم 6099 ، ونصّه «عن النبي صلى الله عليه [وآله وسلم قال: بينا أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم، قلت أين؟ قال إلى النار والله قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى هم إذاً زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال هلم، قلت أين؟ قال إلى النار والله قلت ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم». وفي الحديث رقم 6097 عن أبي هريرة أنه كان يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه [وآله وسلم قال: يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلؤون عن الحوض، فأقول يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى».
3- رواه مسلم، الإيمان الدليل على أن حب الأنصار وعلي .... الحديث رقم 113 ونص الحديث قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلّى الله عليه وآله] وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق وأخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة ج 4 ص 298 .
4- سورة التوبة، الآية: 101.
5- سورة الحجرات، الآية 6.
6- سورة التوبة، الآية: 77

ومع أن القرآن الكريم يدلنا على أن حال الصحابة كحال غيرهم من الناس، وكحال أصحاب الأنبياء السالفين كموسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فقسم منهم آمنوا وعملوا الصالحات ولم يغيروا ولم يبدلوا، وقسم آخر نافقوا من الأول وقسم ثالث انقلبوا على أعقابهم وغيروا وبدلوا .

كما أن العامة في صحاحهم رووا ذلك عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الصحابة أنفسهم(1).

الثالث: ﴿فَتَمَنَّوُا المَوْتَ) فيها تفسيران:

1 - ورد في تفسيرها أن المراد بها المباهلة نظير المباهلة مع نصارى نجران فعن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب فإن كنتم - يا معشر اليهود - كما تزعمون فتمنوا الموت للكاذبين منكم ومن مخالفيكم إن كنتم صادقين بأنكم أنتم المحقون المجاب دعاؤكم على مخالفيكم فقولوا اللهم أمت الكاذب منا ومن مخالفينا ليستريح منه مخالفينا ليستريح منه الصادقون» (2)

ومما يدل على هذا المعنى (أي المباهلة) ما روي عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار» (3)، وكذلك قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ : «لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه فمات مكانه» (4).

2 - والتفسير الآخر هو أن يكون التمني بمعناه الحقيقي أي الرغبة قلباً في الشيء ورجاء الوصول إليه . .

ص: 265


1- مرّ تخريج بعض الأحاديث من صحاحهم.
2- البرهان ج 1 ، ص 485 .
3- مجمع البيان ج 1، ص 413 .
4- البرهان ج 1 ، ص 485 .

فيكون ذلك إخباراً عن الغيب وعن أمر مستقبلي، حيث إن اليهود بعد هذه الآية وإلى الآن لم يتمن أحد منهم الموت، وذلك آية من آيات صدق الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، كذا قيل (1) .

ويمكن أن لا يكون ذلك إخبار غيبي، بل أمر ظاهر يعرفه كل من عاشر اليهود وعرف طباعهم وشدة حبهم للدنيا ، فيكون الاحتجاج عليهم بما لا مجال لهم لإنكاره .

الثالث: (إن كُنتُمْ صَادِقِينَ) .

لأن من يدري أنه أولياء الله ومصيره إلى رضوانه ،والجنة، فإنه لا يهاب الموت .

وقيل : إن في التوراة (إن أولياء الله يتمنون الموت ولا يرهبونه) (2).

كما روي أن علياً عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان يطوف بين الصَّفّين بصفين في غلاله، فقال له ابنه الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ما هذا بزي المحاربين ! فقال : «يا بُني لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط «الموت» (3) .

ويروى: أن حبيب بن مظاهر ضحك يوم الطف، فقيل له في له في ذلك،

فقال : وأي موضع أحق بالسرور من هذا الموضع ؟ والله ما هو إلا أن

يقبل علينا هؤلاء القوم بسيوفهم فنعانق الحور العين (4).

قد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ) حيث إنهم

تمنوا الاستشهاد في غزوة بدر حيث لم يقتلوا هنالك . .

ص: 266


1- الکشاف ج1، ص168 قال (من المعجزات لأنه اخبار بالغیب، و کان کما اخبر به
2- الجوهر الثمين ج 1، ص 125 .
3- جوامع الجامع ج 1، ص 130.
4- المصدر السابق.

فلا بأس بأن يتمنى الإنسان المؤمن الموت، إذا كان سببه الشوق إلى لقاء الله تعالى .

وفي مجمع البيان: (وأما ما روي عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال : «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، فإنه نهي عن تمني الموت لأنه يدل على الجزع والمأمور به الصبر وتفويض الأمر إليه تعالى، ولأنا لا نأمن من وقوع التقصير فيما أمرنا به ونرجو في البقاء التلافي) (1) .

الرابع: ﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) .

فإن كان معنى التمني : المباهلة، فالمعنى واضح فإنهم لم يباهلوا أبداً لعلمهم بمصيرهم.

وإن كان المعنى هو التمني القلبي :

1 - فلأنّ من يتمنى شيئاً قلباً فإنه يظهر ذلك على لسانه وعمله، لأن من يحب شيئاً لا بدَّ وأن يطلبه أو يبيّنه على لسانه، أو يظهر على وجهه أو أعماله كما روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال : «ما أضمر أحد شيئاً إلا وظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه» (2).

2 - ولأنهم لو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بلسانهم، حرصا منهم على تكذيب الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في إخباره بأنهم (وَلَن يَتَمَنَّوْهُ)، وحيث لم يظهروه على لسانهم تبيّن أنهم لم يتمنوه في قلوبهم وهذا دليل شدة للحياة وكرههم للموت ، بحيث إنهم لا يصرحون - حتى كذباً - بحبهم للموت، ولعلهم بأنه لا أحد يصدّقهم في كذبة حبهم الموت، لما ظهر ويظهر من شدة تمسكهم بالحياة وحبهم لها . .

ص: 267


1- مجمع البيان ج 1، ص 412 .
2- نهج البلاغة : ص 603 ، رقم الحكمة 36 .

الخامس : (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ)

الحرص هو شدة طلب الشيء، وحسنه أو قبحه يكون باعتبار المتعلق، فإن كان متعلقه محبوباً كان هذا الحرص لا بأس به، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (1) .

وإن كان متعلّقه مبغوضاً كان الحرص مذموماً، كما في هذه الآية، ولذا جعل (حياة) نكرة تحقيراً لها، فهم يطلبون أمراً حقيراً، فلذا كان حرصهم مذموماً، وإن كان تنكير حياة للدلالة على حياة خاصة - وهي الحياة الطويلة - فكذلك هذا الحرص مذموم، لأنه من طول الأمل المذموم حيث يعتقد أو يود البقاء مدة متمادية فيهيئ لنفسه لوازم هذه المدة ثم لا يلتفت إلى الآخرة حتى يأتيه الموت بغتة.

السادس: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا).

فيه توبيخ عظيم لهم، حيث صاروا أسوأ حالاً من المشركين فإن المشرك حيث لا يعتقد بالآخرة ويزعم أن الموت هو نهاية كل شيء كما نقل عنهم تعالى (إنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(2) فهذا حريص جداً على الحياة، وهؤلاء اليهود أكثر حرصاً من المشركين وما ذلك إلا لعلمهم بما سيؤول إليه مصيرهم من النار والعذاب مضافاً إلى إشراب قلوبهم بالدنيا وما يتعلق بها.

و (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) عام يشمل جميع المشركين، كمشركي مكة والمشركين من اليهود الذين زعموا أن عزيراً ابن الله والمشركين من .

ص: 268


1- سورة التوبة، الآية: 128
2- سورة المؤمنون، الآية: 37.

المجوس حيث زعموا أن للكون إلهين وما ورد من تفسيرهم بالمجوس فإنما هو من باب ذكر المصداق لا الحصر.

السابع: (ألْفَ سَنَةٍ)

ذكر (الألف) للمبالغة في الكثرة، فيشمل ما يتمنوه من الخلود وعدم

الموت أبداً .

و (الألف) آخر كلمة تدل على عدد، ولو أرادوا الدلالة على عدد أكثر

لدلوا عليه بالتركيب كما يقال عشرة آلاف) و (مائة ألف) و (ألف ألف). ولعل قوله تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) (1) ، ولم

يقل (تسعمائة وخمسين) ليتبين طول المدة بشكل أوضح.

وقبل العصر الحاضر حيث كثرت الأشياء وظهر (المليون) فإن أكثر الناس كانوا يستعملون (ألف) حينما يريدون المبالغة في الشيء أو للدلالة على كثرته . وكان المجوس يتفاءل بعضهم لبعض بقولهم : (عش ألف نوروز وألف مهرجان ونوروز أول الربيع، ومهرجان أول الخريف. وهذا ما هو متداول إلى يومنا هذا حيث يقال : ألف عام مثل هذه الأعوام .

الثامن: ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ) .

أي عالم بالمبصرات، فإنّ الرؤية - التي هي انعكاس الضوء من الشيء على العين ومن ثَمَّ إدراكه عياناً بالبصر - هي من لوازم الأجسام، والله تعالى منزّه عن الجسم، وعن دخول ضوء فيه، وقد ذكرنا بعض التفصيل في شرح أصول الكافي فراجع. .

ص: 269


1- سورة العنكبوت الآية: 14 .

الآيات 97 - 99

المطلب العاشر ومن أسباب الانحراف في بني إسرائيل (عداوة أولياء الله)

(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ «97» مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ «98»وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ «99»)

97 - (قُلْ) يا رسول الله (مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) ، فغير منصف ولا تابع للحق، لأن جبرئيل عبد مأمور لله تعالى ﴿فَإِنَّهُ) أي جبرئيل (نَزَلَهُ) أي القرآن (عَلَى قَلْبِكَ) أي عليك بحيث تعيه وتحفظه (بإِذْنِ اللَّهِ) وأمره تعالى ولا ذنب لجبريل في ذلك فإنه ينفذ أمر الله، ثم إن ما جاء به جبرئيل لا يستدعي عداوته حيث كان (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب السماوية السابقة ومنها التوراة، فإذا جاء بما يصدق توراتهم كان عليهم تصديقه لا عداوته، ثم إن ما جاء به جبرئيل (هُدَى) هداية من الضلال (وَبُشْرَى) أي يبشرهم بمستقبل زاهر في الدنيا والآخرة، والعاقل لا يعادي من جاء بالهداية والبشارة،

ص: 270

وقوله تعالى: (لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنهم هم المستفيدون من الهداية والبشارة، وفيه تعريض بأن اليهود ليسوا بمؤمنين ولذا يعادون جبرئيل.

98 - ثم بيّن الله تعالى بأن هؤلاء ليسوا أعداء لجبرئيل فحسب، بل هم أعداء لله واوليائه وما أنزله (مَن كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) بالمخالفة والعناد، والإتيان بما يكرهه الله، أو بعداوة أولياء الله (وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِیل) ذكر الخاص بعد العام، وخصهما بالتسمية لأنهما مورد البحث مع هؤلاء اليهود، حيث قال أحدهم: جبرئيل عدونا فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنا بك، ودلت الآية بأنه لا فرق بينهما (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي يجازيهم بأفعالهم ويفعل بهم فعل المعادي من الإهانة والعذاب.

99 - ثم بيّن الله تعالى أنه لا معنى لتكذيبهم بالقرآن، حتى وإن كانوا يعادون جبرائيل ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءَايَاتِ بَيِّنَاتِ) أي علائم

واضحة على صدقك فيجب عليهم الإيمان بك ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ) أي بتلك العلائم الواضحة (إِلَّا الْفَاسِقُونَ) أي المارقون الخارجون عن طريق الرشاد، وفي الآية دلالة على شدة كفرهم.

---------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ).

قيل : معنى جبريل (عبد الله)(1) على لغتهم .

ص: 271


1- الجوهر الثمين ج 1، ص 126 .

وسبب عداوتهم له من وجوه :

1 - إنهم لما أعيتهم الحجة، ونقض رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حججهم، اضطروا إلى هذا الكلام حتى يحفظوا أتباعهم من عوام اليهود، وليكون لهم العذر أمام الآخرين، حيث إن الحالات النفسية والعداوات الشخصية تؤثر في عامة الناس فقد تعمي بصائرهم عن قبول الحق وهذا وتر حساس يلعب به من أعيته الحجة أو أراد تهييج الناس على جهة معينة، فإنه ببيان العداوات يجيشهم فيما يريد أو لا أقل يمنعهم من اتباع الحق .

وقد يؤيد هذا: ما روي أن جماعة من يهود فدك لما قدم النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ المدينة سألوه عن أشياء فلما أجابهم الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بما لم يتمكنوا من ،دفعه قال ابن صوريا : خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك، واتبعتك، أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك ؟ قال : فقال جبرئيل ، قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك) (1) .

ولذا نشاهد فرعون لما أراد أن يهيج الناس على موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ حاول استغلال هذه النقطة، قال تعالى: ﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَامُوسَى«49» قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فلما شعر فرعون بأنه مغلوب (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) أراد جرّ موسى إلى بيان أنهم في النار، حتى يقول فرعون للناس انظروا إنه يقول إن آباءكم في النار، لكن موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ لم يعطه .

ص: 272


1- مجمع البيان عن ابن عباس ،ج 1 ، ص 420 ، وقريب منه ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري البرهان ج 1 ، ص 495 .

المجال ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَاب لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى) فقطع على فرعون ما أراده ثم كمل موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ احتجاجه (1).

2 - لأنهم تصوروا أن جبرئيل - من نفسه - منع من قتل بخت نصر لما كان غلاماً مسكيناً، وقد فعل بخت نصر باليهود ما فعل من تخريب وأسر وقتل إلى غير ذلك، مع أن جبرئيل لم يفعل ذلك إلا امتثالاً لأمر الله تعالى وتطبيقاً لحكمه.

فقد روي : قل يا محمد من كان عدواً لجبرئيل من اليهود لدفعه عن بخت نصر أن يقتله دانيال من غير ذنب كان جناه بخت نصر حتى بلغ كتاب الله في اليهود أجله، وحلّ بهم ما جرى في سابق علمه) (2)

وقال ابن صوريا من أحبار فدك : ذاك عدونا، ولو كان غيره لآمنا بك، وقد عادانا مراراً، أشدّها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر، فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلام مسكين، فدفع عنه جبرئيل، وقال إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه، وإن لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه) (3)

3 - ولعله لأنه كان ينزل بما يخالف أهواءهم اليهود، كما في تمثله المريم عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ ونفخه فيها ليولد عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وكذلك تنفيذه أمر الله تعالى بإنزال العذاب عليهم ، وأهم سبب لعداوتهم أنهم كانوا يطمعون أن تكون النبوة فيهم فلما بعث الله تعالى محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اشتدت عداوتهم لجبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ لأنه الذي نزل بالو. لأنه الذي نزل بالوحي عليه بأمر الله..

ص: 273


1- سورة طه الآيات: 49 - 056
2- البرهان ج 1، ص 490 عن التفسير المنسوب للإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الإمام الحسن المجتبى .
3- الكشاف ج 1 ، ص 169 .

الثاني: قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ).

ذكر الله تعالى في هذه الآية أربعة أوجه لبطلان عداوتهم لجبرئيل :

1 - إن جبرئيل لم يعمل شيئاً من تلقاء نفسه بل كان بأمر الله تعالى فلو كانوا حقاً مؤمنين لوالوا جبرئيل، حيث إن المؤمن يوالي من يمتثل أوامر الله تعالى ولا يعاديه .

لكنهم لم يكونوا منصفين ولا للحق ،متبعين، فلذا عادوا جبرئيل جزافاً من غير ذنب ارتكبه .

2 - إن ما جاء به جبرئيل يصدّق كتابهم فكان الحري بهم موالاته لا معاداته.

3 - إن ما جاء به جبرئيل كتاب هداية يجب أن يشكروه عليه، لأنّ في العمل به خروج من الظلمات إلى النور، وحياة خالية عن الضنك .

4 - إن ما جاء به جبرئيل فيه بشرى للمؤمنين بالنعيم الأبدي والمستقبل الزاهر، فإن كانوا مؤمنين حقاً لزم عليهم محبته لا عداوته .

ولكن هؤلاء اليهود لم يكونوا يريدون هذه الأمور، بل كانوا يريدون ما تمليه عليهم أهواءهم، كما أنهم ما كانوا يريدون التصديق بالتوراة الحقيقية بل بما حرفوه منها، كما قال تعالى: ﴿يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِنُ لَكُم كَثِيرًا مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتابّ) (1) ، كذلك ما كانوا يريدون الهداية والبشارة للمؤمنين حسداً من عند أنفسهم ، بل كانوا يريدون الآخرة خالصة لهم والدين خاصاً بهم .

والضمير في نَزَّلَهُ يرجع إلى القرآن، وهو غير مذكور في الآيات .

ص: 274


1- سورة المائدة، الآية: 15.

السابقة، ولكن صح رجوع الضمير إلى غير المذكور لدلالة سياق الكلام عليه، كما في قوله تعالى: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ﴾ (1) رجع الضمير إلى الميت وهو غير مذكور فيما سبق، لدلالة الكلام عن الإرث عليه، مضافاً إلى أن في إضماره مع عدم ذكره تفخيماً لشأنه، فالقرآن لجلالة شأنه ورفعة قدره يدل على نفسه من غير حاجة إلى ذكره.

الثالث: قوله تعالى: ﴿عَلَى قَلْبِكَ.)

ولم يقل (على قلبي) مع أنه حكاية لكلام رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حيث قال تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ)، وذلك لأن في الحكاية يجوز الالتزام باللفظ ، ويجوز الالتزام بالمعنى، فيجوز عبارة (قال زيد إنه مؤمن) و (قال زيد إني مؤمن)، وفي الخطاب قد الخطاب قد يحسن الإلفات من الغائب إلى المخاطب والعكس لجهات بلاغية، وهنا لعله للإشارة إلى أن الله هو الذي أنزله على قلب رسوله، لا أن ذلك صرف ادعاء من الرسول، فكأنه تغير الكلام من كونه مقول الرسول إلى كونه مقول الله

تعالى.

والمراد بالتنزيل على قلبه : هو التنزيل عليه، وباعتبار أن القلب - بمعناه المجازي - محل للفهم والحفظ لذا عبرت الآيات بنزوله على قلبه كما في قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ«193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين) (2)

ولعل في ذلك بيان لمقام رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، فهو ليس مجرد مبلغ، بل .

ص: 275


1- سورة النساء، الآية: 11
2- سورة الشعراء، الآيتان: 193 - 194.

هو المحل القابل - بإرادة الله - للقرآن الكريم فهماً وحفظاً ومن ثَمَّ بياناً وتفسيراً كما قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (1) .

والقلب قد يستعمل مجازاً بمعنى العقل والفهم كما في قوله تعالى :

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْب) (2) أي عقل يتفكر به.

الرابع: قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ الله)

أي بأمر الله تعالى أو بتيسيره وتسهيله. وهنا يراد به الإذن التشريعي والتكويني معاً.

وقد ورد الإذن في القرآن الكريم بالمعنيين أو بأحدهما .

1 - الإذن التشريعي : بمعنى تجويز ذلك العمل، كما في قوله تعالى :

(أذِنَ لِلَّذِينَ يُقْاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (3).

2 - الإذن التكويني: بمعنى تقدير قوانين في نظام العالم بحيث من سار في تلك القوانين وصل إلى النتيجة كما في قوله سبحانه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمَعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) (4) حيث إن القانون التكويني أن من لم يراع الأساليب الحربية فإنه يصاب بالقتل والجرح ونحوهما، وأن الله تعالى خلق جسم الإنسان بكيفية يؤثر فيها الحديد والآلات الحربية.

3 - الإذن التشريعي والتكويني معاً كما في قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ﴾ (5) ، حيث رفع الله تعالى أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ تكويناً وكذلك تشريعاً .

ص: 276


1- سورة النحل، الآية: 44.
2- سورة ق الآية: 37
3- سورة الحج، الآية: 39.
4- سورة آل عمران الآية: 166 .
5- سورة النور، الآية: 36 .

بجعل الخلافة والولاية فيهم، وكما في قوله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (1) حيث إن الفئة القليلة - التي تعمل بالقوانين والنظم الحربية ويعينها الله غيبياً - هي الغالبة، كما في غزوة بدر حيث انتصر المسلمون وكان المشركون ثلاثة أضعافهم، لأن المسلمين أخذوا بالوسائل التكوينية ونصرهم الله غيبياً بالملائكة.

الخامس قوله تعالى: (َمَن كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ)....

الآية وإن كانت عامة فتشمل كل أعداء الله وملائكته ورسله، لكن المقصود بها هنا هؤلاء اليهود، وفي الآية دلالة على أن هؤلاء ليسوا فقط أعداء لجبرائيل بل هم أعداء الله حيث يخالفونه ويعاندونه ويأتون بما يبغضه، وكذلك هم أعداء رسل الله وملائكته لأن رسل الله يبينون سبيل الرشاد، وهؤلاء أهواؤهم ومصالحهم تُسبب عداءهم للحق ولمن جاء به وهم رسل الله تعالى ولذا كانوا يقتلون أنبياء الله تعالى رغم كون أولئك الأنبياء من قومهم وكذلك يعادون ملائكة الله المنفذة لأوامر الله تعالى التي تتعارض مع مصالحهم .

وإنما خص جبريل وميكال بالذكر مع أنهم من الملائكة، لأفضليتهما على سائر الملائكة، ولأن حديث اليهود مع رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ دار حول هذين الملكين، حيث زعموا أن جبرائيل عدوهم وميكائيل وليهم فبين الله تعالى بأنه لا فرق في العداوة، لأن من عادى جبرائيل فقد عادی ميكائيل أيضاً، لأن كليهما ينفذان أمر الله تعالى .

السادس: قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) . .

ص: 277


1- سورة آل عمران الآية: 49.

لم يقل (فإنه) حتى لا يتوهم رجوع الضمير إلى جبرائيل .

وعداوة الله لهم بمعنى أنه يفعل بهم فعل المعادي من الإهانة ،والعذاب فيجازيهم بأفعالهم معاقباً لهم، إذ لا يعقل فيه تعالى العداوة بمعناها المتعارف بين البشر، إذ هي نتيجة انفعالات نفسية تجاه شخص أو شيء وطلب الإضرار ،به ولأن الله ليس محلاً للحوادث فلا بدَّ من حمل عداوته لهم على معنى نتيجة العداوة

ولعل قوله : (للكافرين) ولم يقل لهم) لوجوه :

1 - للدلالة على أن عداوته لليهود بسبب كفرهم وليست عداوة

لأشخاصهم .

2 - لإبقاء باب التوبة مفتوحاً ،أمامهم، فلا يكون توهم أن الله إذا عاداهم فلا مجال لإيمانهم ، فالآية دلت أن العداوة للكافرين، فإذا آمنوا فقد تغير الموضوع فتنتفي العداوة .

قيل : إنّ الله لا يمكن أن يعادي من يعلم بإيمانه مستقبلاً، فلا يغضب على كافر أو فاسق يعلم بأنه سيتوب، ولا يرضى عن مؤمن يعلم بأنه سیرتد.

لكنا قد بيّنا أن غضبه ورضاه وعداوته ولايته بمعنى أثر ونتيجة هذه الأمور - لأنه ليس محلاً للحوادث - فالكافر الذي سيؤمن والفاسق الذي سيتوب فإن الله تعالى حين كفره وفسقه يغضب عليه - بمعنى ترتب أثر الغضب ، وحينما يؤمن أو يتوب فإنه تعالى يرضى عنه بمعنى ترتيب أثر الرضا، وهكذا في العداوة والولاية، فتأمل.

3 - للدلالة على أن عداوة الملائكة والرسل سبب للكفر، كما أن عداوة الله سبب له، لأن عداء أحدهم يرجع في الحقيقة إلى تكذيب الله

ص: 278

تعالى ،وعدائه، فمن يعلم بأن جبرئيل ملك وكذلك من يعلم بأن هذا الشخص رسول من قبل الله تعالى ثم يعاديه فإنه تكذيب لله تعالى .

ولذا وجب عدم التفريق بين أحد من الرسل، وكذلك وجب عدم الله ورسله ومن صفات الكافرين أنهم يريدون التفريق بين التفريق بين الرسل أو بين الله الله ورسله .

قال سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَةِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ) (1)، وقال تعالى: ﴿«إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا «150» أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا «151» وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا «152») (2).

السابع: قوله تعالى: ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) .

الفسق هو الخروج عن الطاعة فهنا معناها ترك أمر الله تعالى فهؤلاء خرجوا عن طريق الهدى والرشاد وعن الحق بكفرهم بآيات الله .تعالى

ويمكن أن يكون المراد خروجهم عن دين موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، لأنّ من دينه التصديق بمحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وقد كان مكتوباً عندهم في التوراة وكانوا يعلمون بذلك، لذا كانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما بعث الله محمداً كان عليهم الإيمان به فكفرهم به مخالفة للتوراة ولموسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وبذلك خرجوا عن دين موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ

بفعلتهم هذه . .

ص: 279


1- سورة البقرة، الآية: 285
2- سورة النساء، الآيات: 150 - 152.

الآيتان 100 - 101

المطلب الحادي عشر ومن أسباب الانحراف في بني إسرائيل (ترك أوامر الله واتباع الشیاطن)

(«أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ «100» وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ «101»)

100 - (أ) كفروا بالله (وَ) خالفوا أوامره ف-( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا) يجب الوفاء به كعهودهم مع رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بأن لا يعينوا عليه أحداً، وكالعهود التي أخذها الأنبياء منهم بالتصديق بمحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ(نَبَذَهُ) أي طرحه ونقضه (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ، والفريق الآخر كعبد الله بن سلام وفى بالعهد فآمن لكن هؤلاء أقليّة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) من الفريق الأول، لذا الأكثر (لَا يُؤْمِنُونَ) بالعهود، فلذا أنكروا رسالة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ونقضوا عهودهم معه فأعانوا قريشاً عليه يوم الخندق .

101 - (وَ) لأنهم لم يريدوا الوفاء بالعهود، وصل بهم الأمر إلى تركهم التوراة ف- ﴿وَلَمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ) وتنطبق عليه

ص: 280

تماماً الأوصاف الواردة في التوراة فالرسول (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) حيث تحققت به البشارة وثبت صدق التوراة، لكنهم بدل التصديق به (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وهم أحبارهم العلماء، تركوا العمل وطرحوا (كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) كالذي يرمي ما لا يحتاج إليه وراء ظهره استغناء عنه، (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أي من دون أن يهتموا بما في كتاب الله تعالى كأنهم جهال به والمعنى أنهم علموا لكنهم عاندوا وأنكروا.

----------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى: (نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ).

من الأمور مور التي تجذرت في نفوس اليهود هو نقضهم للمعاهدات كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا ، سبب ذلك من وجوه :

1 - إنهم يتصورون أنهم شعب الله المختار، وأن الناس كالبهائم لا حرمة لهم ولا منزلة، ونتيجة ذلك يريدون أن يكون الكل تحت هيمنتهم وحسب رغباتهم، ولكنهم بما أنهم أقلية ومحكومون غالباً فلذا قد يقبلون بالمعاهدات مع الغير لا لاعتقادهم بما في المعاهدة وإنما لحفظ مصالحهم حصراً، فلذا كلّما وجدوا مندوحة وفرجة للتخلي عن العهود نقضوها، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ)(1)

ص: 281


1- سورة الأنفال، الآية: 56 .

2 - لأن النظرة المادية نفذت إلى عقولهم وأشربت بها قلوبهم، فإنهم لا يعتقدون بالآخرة أو لا يعتقدون بأنهم يعذبون فيها إلا أياماً معدودة، فلذا لا رادع لهم من نقض العهد وارتكاب سائر المحرمات، ولذا عقبه تعالى بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾.

كما أن هذه الطريقة من التفكير سببت قصر نظرهم وعدم رؤيتهم لعواقب الأمور ، ولو قرأنا تاريخهم وحلّلنا تصرفاتهم، لرأيناها لا تعدو تفكيرهم بالمصلحة الآنيّة وغفلتهم عن المصالح الاستراتيجية، ولذا هم أذلاء أينما كانوا والناس تتنفر منهم، وإذا هم استقووا بحبل من الناس لاجتماع مصالح بعض الناس مع مصالحهم فإنه سرعان ما ينفك هذا العقد ويتخلى عنهم الناس فمن ذلك تأسيسهم لدويلتهم اللقيطة في أرض فلسطين وهذا من أكبر أخطائهم، لأنه لا ضمان لاستمرار مصلحة الغرب معهم إلى ما لا نهاية، كما لا يقين باستمرار ضعف المسلمين إلى الأبد، وأيّ وقت انتهت مصلحة الغرب معهم، أو استعاد المسلمون قوتهم، فإنهم ودولتهم سيتحولون إلى خبر كان.

ولو كانوا يعقلون أو يفكرون بنظرة طويلة الأمد لشكّلوا دولتهم في مكان آخر.

ولعل قوله : (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لأن الناقضين ابتداء هم مجموعة كالأحبار والملأ من القوم، ثم يتبعهم الباقون من عامة الناس.

الثاني: قوله تعالى: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) .

في الآية وجوه منها :

1 - لما قال تعالى : (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ، وحتى لا يتوهم أن الفريق

ص: 282

الآخر - غير الناقض - أكثر أو متساوي عدداً معه، قال تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ، فضمير (هم) يرجع إلى المعاهدين، أي المعاهدون أكثرهم لا يؤمنون، ففيه دلالة على أن بعضهم الأقل يُؤمن وهذا البعض لا ينقض العهد، وهم من أسلموا كعبد الله بن سلام

2 - إنه إخبار مستقبلي بأن الفريق الناقض للعهد لا يؤمن أكثرهم في المستقبل - أيضاً - فضمير (هم) يرجع إلى فريق أي هذا الفريق الناقض للعهد سيبقى أكثرهم على الكفر ، وهذا المعنى مروي عن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ(1)

فتكون الآية من المعاجز، حيث أخبرت عن أمر مستقبلي وقد تحقق

هذا الإخبار وثبت صدقه عياناً .

3 - بيان لنوع ،كفرهم ففريق منهم كفره بنقضه للعهد والأكثر كفره

بالجحود وعدم الإيمان .

4 - بيان لكون منشأ نقضهم للعهود هو عدم الإيمان فلأنّ الأكثر كانوا غير مؤمنين لذا كانوا ينقضون العهود، وأما البعض القليل من

ناقضي العهد فإن نقضهم كان بسبب الجهل

الثالث: قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ)

صفة للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الأيام الرسول يصدق ما في التوراة، وتصديقه لها لأجل أن التوراة بشّرت به وذكرت ،أوصافه فلما انطبقت تلك الأوصاف بأجمعها على رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ثبت صدق ما في التوراة قال

ص: 283


1- البرهان ،ج 1، ص 496 عن التفسير المنسوب للإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ

تعالى: ﴿ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِيَ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ)(1)

أما ما مرّ في تصديق التوراة في الآية التاسعة والثمانين، والآية الواحدة و التسعين فإن التصديق كان صفة للقرآن الكريم، فهناك ذكر أن القرآن یصدق التوراة وهنا يذكر أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يصدق التوراة.

وقد مرّ بعض الكلام في محتملات التصديق فراجع.

الرابع: قوله تعالى: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ).

يراد به أحبارهم العلماء، لأن هذه الآية ذكرت كالتمهيد للآية اللاحقة، وهي اتباعهم لما تتلوه الشياطين وذلك صفة لأحبارهم، والحاصل أن هؤلاء بدل أن يتبعوا الرسول الذي بشرت به التوراة نبذوا التوراة وراء ظهورهم واتبعوا الشياطين وعملوا السحر ونحوه مما سيأتي.

الخامس: قوله تعالى: (كِتَابَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ) .

الظاهر أن المراد من كتاب الله التوراة أي بدل أن يعملوا بالتوراة ويؤمنوا بمحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حيث بشّرت به التوراة ويتبعوه، بدل ذلك اتبعوا الشياطين الذين أغوتهم .

ويمكن أن يكون المراد من (كِتَابَ اللَّهِ) القرآن، فالمعنى أنهم بدل اتباع القرآن الذي فيه هدايتهم ونفعهم دنيا وآخرة، بدل ذلك اتبعوا الشياطين، وذلك مما يضرهم في الدنيا، ويسبّب بأن لا يكون لهم في الآخرة خلاق ونصيب..

ص: 284


1- سورة الأعراف الآية: 157.

السادس: قوله تعالى: ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).

ترك كتاب الله بترك أوامره ومخالفة ،نواهيه، كالذي يرمي ما لا يحتاج

إليه وراء ظهره لاستغنائه عنه، أو ليدل على أنه مستغنى عنه ولا يلتفت

إليه .

وفي المجمع عن سفيان بن عيينة (أدرجوه [ أي التوراة ] في الحرير والديباج وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه (1) . فالمعنى أنهم في الظاهر احترموا كتاب الله - أي التوراة - ولكنهم عملاً رموه وراء ظهورهم لما تركوا العمل به.

وهذا فعل الكثير من المسلمين في الحال الحاضرة، حيث يحترمون القرآن في الظاهر، فيطبعونه أفخر الطبعات ويذهبونه ويخطونه في اللوحات الثمينة وبالفنون التشكيلية ،ونحوها وكل ذلك حق ولازم لكن شرط أن يكون مقدمة للعمل، ومع الأسف فإن العمل بالقرآن قليل وهذا ما قاله الله تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْءَانَ مَهجُورًا)(2) ونتيجة ذلك صعوبة العيش في الدنيا والعذاب في الآخرة ،قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى «124» قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَ قَدْ كُنتُ بَصِيرًا«125» له قَالَ كَذَلِكَ أَتَتكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَها وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنَسَى) (3) ، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) (4). .

ص: 285


1- مجمع البيان: ج 1، ص 426 .
2- سورة الفرقان الآية: 30.
3- سورة طه، الآيات: 124 - 126 .
4- سورة السجدة، الآية: 22.

الآيتان 102 - 103

(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ «102»وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ «103» )

102 - (وَ) هؤلاء اليهود بدل أن يتبعوا كتاب الله ويؤمنوا برسوله (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا) أي ما قرأته - كذباً وافتراء - (الشَّيَاطِينِ) كفار الجن الذين كانوا (عَلَى) عهد (مُلْكِ سُلَيْمَانَ) فإن هؤلاء الشياطين كانوا مسخّرين لسليمان عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فلما مات كتبوا السحر وألقوه تحت ،کرسیه، ثم أشاعوا أن عظمة سليمان وملكه كان بسبب استعماله للسحر الموجود في هذه الكتب، ترغيباً للناس في السحر فانخدع البعض لكن المؤمنين لم ينخدعوا ، لأن ذلك كان افتراء على سليمان ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) باستعمال السحر، بل كان عبداً نبياً آتاه

ص: 286

الله الملك (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) وكان كفرهم بأنهم (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ) بشكل عام، (وَ) كذلك الشياطين يعلمون - بشكل خاص - ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) اللذين أنزلهما الله تعالى لإبطال السحر ، قيل : حتى يتبيّن فرقه عن المعجزة فلا يختلط الأمر فى أذهان الناس لكي يعرفوا الأنبياء ولا يخلطوهم بالسحرة فتتم الحجة، وقد نزل الملكان (بِبَابِلَ) في العراق حيث كانت مركزاً للحضارة العالمية ذلك الوقت وشاع فيها السحر (هَارُوتَ وَمَارُوتَ) اسم للملكين .

﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ) إبطال السحر ، الذي يسبقه تعريفهم بالسحر، كما في قول الطبيب هذا سُمّ وذاك دواؤه (حَتَّى يَقُولآ) الملكان (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي اختبار وامتحان كما يقال لطلاب الطب إن دراستكم للعلاج لا للإضرار، فأنتم تُخْتَبرون بعلمكم هل كسبتموه لتنفعوا الناس أم لأغراض أخرى، فكان الملكان ينصحان كل أحد جاء ليتعلم منهما ويقولان له: ﴿فَلَا تَكْفُر) باستعمال السحر، ولكن الأشقياء خالفوا النصح (فَيَتَعَلَّمُونَ) الناس بشكل عام أو هؤلاء اليهود (مِنْهُمَا) من الملكين (مَا) أي سحراً (يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي ما يوجب العداوة والبغضاء بين الزوجين تكون نتيجته انفصالهما .

(وَ) لكن السحرة ليسوا بخارجين عن قدرة الله ومن التجأ إلى الله واستعاذ به لا يؤثر فيه السحر ف- (مَا هُم) أي ليس السحرة (بِضَآرِّينَ بِهِ) بسحرهم (مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي بعلمه وإذنه التكويني، حيث إنه تعالى جعل هذا الأثر لسحر لأنه مسبب الأسباب ثم لم يمنع بالجبر من تأثير عملهم حتى يكمل الامتحان في دار الدنيا فهؤلاء العصاة ليسوا

ص: 287

بخارجين عن قدرة الله كما أن المسحورين تحت قدرته فعليهم الاستعاذة به.

(وَيَتَعَلَّمُونَ) هؤلاء اليهود الكافرون بالكتاب (مَا يَضُرُّهُمْ) في آخرتهم ودنياهم ﴿وَلَا يَنفَعُهُمْ) ولذا فالسحرة من أشقى الناس (ولا يفلح الساحر حيث أتى) (وَ) هؤلاء معاندون جداً فيتبعون السحر مع أنهم ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُوا) إما بعقولهم، وإما بما بلغهم من موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وقصته مع سحرة فرعون (لَمَنِ اشْتَرَاهُ) أي اشترى السحر بدلاً عن دينه (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ) أي نصيب، وهم مع علمهم بذلك اتبعوا السحر (وَ) لكنهم (وَلَبِئسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ) أي باعوا أنفسهم بعذاب الله (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي يعملون بعلمهم، لأن الذي لا يعمل بعلمه هو والجاهل سواء.

103 - (وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي أهل الكتاب بدل ذلك (ءَامَنُوا) بالله ورسوله (وَاتَّقُوا) بترك المعاصي ومنها نبذ الكتاب واتباع الشياطين (لَمَثُوبَةٌ) جزاءهم بالثواب (مِنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ) من كفرهم هم و سحرهم (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) .

------------------------

بحوث

الأول قوله تعالى: (مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ).

التلاوة بمعنى القراءة وجذرها لغة من (تلا) بمعنى جاء بعده»، فلأنَّ القراءة تكون بعد وجود القارىء، أو لأنها تخلفه، فلذا سميت

ص: 288

تلاوة، ومعنى كذبهم يستفاد من سياق الآية، أو من تضمين التلاوة معنى التقوّل، قال في المغني: ويحتمل أن «تتلو» مُضَمَّن معنى تتقول، فيكون بمنزلة (وَلَوْ تَقَولَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ) (1) ، فيكون المعنى حينئذ واتبعوا ما تكذبه الشياطين على ملك سليمان بأنه نتيجة السحر، في حين أن الصحيح أن ملكه كان بإرادة ربانية.

والشياطين مضافاً إلى قراءتهم السحر في ذلك الزمان فإنهم خلفوه لمن يأتي بعد .

والشياطين هم فسقة الجن، وكبيرهم إبليس .

والأغلب في القرآن، استعمال لفظة الشيطان» في قبال بني آدم حيث إن الشيطنة فيها معنى التخبيث ومحاولة الإضلال، واستعمال لفظة «إبليس في قبال الله تعالى لما فيها من معنى الإبلاس أي اليأس والقنوط .

وقد سخر الله الشياطين لسليمان، فكان يستعملهم في الأعمال الشاقة وبعضهم كانوا محبوسين حتى لا يفسدوا ويُفسدوا قال تعالى: ﴿وَمن الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لًهُمْ حَافِظِين)(2) وقال سبحانه: (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَآءِ وَغَوَاصِ «37» وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ)(3) وقال عز من قائل: ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ«12» يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَحَارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفَانِ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِیَاتٍ أَعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(4)..

ص: 289


1- مغني اللبيب، لابن هشام، ج 1، ص 191 والآية في سورة الحاقة، الآية: 44.
2- سورة الأنبياء، الآية: 82.
3- سورة ص، الآيتان: 37 - 38.
4- سورة سبأ، الآيتان 12 - 13.

فلما مات سليمان خرجوا من العذاب المهين، وفكت قيودهم، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيِّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ)(1).

وبانطلاقهم مرة ثانية بدأوا بشيطنتهم وتخبيثهم ومحالة إضلال الناس، بدأوه بنشر السحر .

الثاني: قوله تعالى: ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ).

أي على عهد ملك سليمان، فإن كان (تتلو على) يتضمن معنى «تتقوّل»

كما مرّ عن ابن هشام فيكون المعنى ما تكذبه الشياطين على عهد سليمان أي ما نسبوه إليه كذباً وافتراء بأن ملكه كان نتيجة السحر، وإن كان (تتلو) بمعنى القراءة) فيكون المراد القراءة بعد وفاة سليمان عَلَيْهِ السَّلاَمُ مباشرة، لأن الشياطين قبل وفاته كانوا محفوظين أي ممنوعين من الإفساد وكذلك كان قسم منهم مقرنين في الأصفاد، ومن كان يخرج عن طاعة سليمان يذاق من عذاب السعير كما مرّ في الآيات السابقة، ولكن لما توفي سليمان وعلموا بوفاته بعد حين رُفع المنع عنهم - ابتلاء للناس -.

فمن أول إضلال فعلوه، ما في الحديث الشريف عن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ «فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب، ثم طواه وكتب على ظهره : هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم، ومن أراد كذا وكذا فليفعل كذا وكذا، ثم دفنه تحت السرير ثم استثاره لهم فقرأه، فقال الكافرون ما كان سليمان يغلبنا إلا بهذا، وقال المؤمنون بل هو عبد الله ونبيه»(2) . .

ص: 290


1- سورة سبأ، الآية: 14.
2- البرهان ،ج 1 ، ص 504 - 505 عن تفسير القمي وعن تفسير العياشي.

وكان من فعل الشياطين أنهم يسترقون السمع من الملأ الأعلى حينما يصعدون إلى السماء - قبل منعهم لما ولد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - ثم يضيفون إليها أكاذيب من عندهم ويعلموها الكهنة وهؤلاء كانوا ينشرونها بين الناس، قال تعالى في سورة الجن : إنهم قالوا بعد منعهم عن استراق السمع : (وَأَنَا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِع الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) (1) ، وقال سبحانه: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ«221» تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَاکٍ أَثِيمٍ «222» يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَذِبُونَ)(2) .

الثالث: قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا).

دلت الآية على كفر الشياطين بسبب السحر، وأن سليمان عَلَيْهِ السَّلاَمُ لم يكفر لأنه لم يستعمل السحر .

وفي نهج البلاغة : (والساحر كالكافر ، والكافر في النار ) (3) .

وفي الحديث عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «من تعلم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً فقد كفر ، وكان آخر عهده بربه» (4) .

والكفر هنا يراد به الكفر العملي، أي عمله عمل الكفار ، لأنه - كما مرّ - فإن الكفر قد يكون في الاعتقاد كمنكر التوحيد أو النبوة أو المعاد وقد يكون كفراً عملياً من دون أن يخرج عن الملة، وفي التقريب : لا يخفى أن الكفر على نوعين : كفر في العقيدة وكفر في العمل، فالكفر في العقيدة هو إنكار أصول الدين والكفر في العمل هو ترك واجب أو فعل .

ص: 291


1- سورة الجن الآية: 9
2- سورة الشعراء، الآيات: 221 - 223
3- نهج البلاغة الخطبة 79
4- وسائل الشيعة ج 17 ، ص 148 الباب 25 من أبواب ما يكتسب به الحديث 7 .

[محرّم]، ولذا شاع استعمال الكفر في ترك الأوامر وفعل النواهي، كقوله تعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (1) في قصة الحج، وقوله: ﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (2) في باب الشكر ، وقول النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ «كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة» وعد منها النمام ونحوه) (3).

الرابع: قوله تعالى: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ) .

نذكر ما يتعلق بالسحر في عدة بحوث :

1-في معنى السحر

اختلف أهل اللغة اختلافاً شديداً في تعريف السحر، وعرفه الفقهاء بتعاريف مختلفة (4).

وأحسن تلك التعاريف وأقربها إلى ما يتبادر من كلمة السحر عند أهل اللسان هو ما في التقريب والسحر أمور غير طبيعية، تأتي بعلاج خفي، ومنه التصرف في العين وفي النفس وفي العقل ، فيوجب عداوة بين الناس ومرضاً وما أشبه) (5).

وما قال العلامة في القواعد والتحرير: (إنه كلام يتكلم به أو يكتبه أو رقية، أو يعمل شيئاً، يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة) (6) .

ص: 292


1- سورة آل عمران الآية: 98
2- سورة إبراهيم، الآية: 8.
3- تقريب القرآن ج 1، ص 161 .
4- راجع المكاسب المحرمة للشيخ الأعظم رحمة الله عليه ج 1، ص 258 - 265.
5- تقريب القرآن ج 1 ، ص 161 - 162 .
6- مكاسب الشيخ الأعظم، المكاسب المحرمة ج 1 ، ص 259 عن القواعد ج 1 ص 121 والتحرير ج 1 ، ص 161.

وليس من السحر ما إذا كان السبب واضحاً، أو لم يكن تصرفاً في البدن أو العقل أو القلب، أو كان بطريقة مباشرة .

كأن يسقيه دواءً، أو يضربه على رأسه أو إيجاد الحب والبغض عبر

الكذب والنميمة ونحوها، فكل ذلك ليس من السحر .

2-سبب انتشار السحر

إن الجهل أهم سبب لانتشار السحر والتجاء الناس إليه، ولذا ينتشر في المجتمعات البدائية والمتخلفة، ويقل في المجتمعات المتحضرة.

فإن من الجهل أن يتصور الإنسان أن للساحر قوى خارقة غيبيّة يمكن بواسطتها حل المشاكل .

وإن من الجهل أن يرى الإنسان حل مشاكله بيد إنسان آخر هو أكثر

مشاكل وشقاوة منه.

وإن من الجهل أن يترك الإنسان الأسباب الطبيعية التي جعلها الله تعالى لحل المشاكل والأزمات، ويلتجئ إلى الخرافات والأمور غير الطبيعية التي لا تنفع وهو يرى عدم نفعها لكنه يبقى مصراً عليها .

3-تأثير السحر

لا شك في تأثير السحر على الناس ولكنه قد يكون مضراً عليهم

وقد يكون مجرد تمويه وتأثير على أبصارهم فحسب.

1 - فمن التمويه على العين ما أشار إليه تعالى حيث قال: ﴿فَلَمَّآ

ص: 293

اَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُ و بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)(1)، حيث إنه

لخفة الحركات وخفاء السبب فإن العين لا يمكنها أن تُجاري ما يقع في الخارج، فيتخيل الإنسان شيئاً ليس له واقع على أنه حقيقة، قال تعالى: (فَإذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِیُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَهَا تَسْعَى)(2)، حيث إنهم وضعوا فيها الزئبق، فلما ارتفعت درجة الحرارة بارتفاع الشمس تحرك الزئبق - لأنه ينبسط في الحرارة وينقبض في البرودة - وبأثر تحركه تحركت الجبال والعصي، ولخفاء السبب خُيّل إلى فرعون أنها تتحرك، في حين أن المتحرك كان في الحقيقة الزئبق لا الحبال والعصي.

2 - ومن الضرر على البدن أو العقل ما أشار إليه سبحانه في قوله : ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) (3) ، وهن الساحرات اللاتي ينفخن عند السحر في العُقَد التي يعقدونها في الخيط، ولو كان السحر مجرد تخيل لم يكن معنى للشر هنا، وكذلك قوله تعالى هنا: ﴿وَمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) حيث أثبت تعالى أن هؤلاء يفرقون بين المرء وزوجه بإلقاء الحب والبغض ثم إن قوله تعالى: (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أثبت أن هنالك ضرراً لكن لا يكون إلا بعد أن يأذن الله تعالى، فإذا ليس هو مجرد تخيل.

وفي الاحتجاج عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث سأله الزنديق عن مسائل كثيرة منها ما ذكره بقوله : أخبرني عن السحر أصله؟ وكيف يقدر الساحر على ما يُوصف من عجائبه وما يفعل؟ .

ص: 294


1- سورة الأعراف الآية: 116.
2- سورة طه، الآية: 66.
3- سورة الفلق، الآية: 4.

قال أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «إن السحر من وجوه شتى منها بمنزلة الطب كما صنع الأطباء لكل داء دواء، فكذلك علم السحر، احتالوا لكل صحة آفة، ولكل عافية عاهة، ولكل معنى حيلة، ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخارق وخفة ونوع منه ما يأخذه أولياء الشياطين منهم».

قال : فمن أين علم الشياطين السحر ؟

قال: من حيث علم الأطباء الطب بعضه بتجربة، وبعضه بعلاج (1).

وفي الحديث السابق إن الزنديق قال : أفيقدر الساحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة كلب أو حمار أو غير ذلك؟

قال [الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ ] هو أعجز من ذلك وأضعف من أن يغير خلق الله إن من أبطل ما ركبه الله تعالى وصوّر غيره فهو شريك الله في خلقه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، لو قدر الساحر على ما ذكرت لدفع عن نفسه الهرم والآفة والأمراض، ولنفى البياض عن رأسه والفقر عن ساحته» (2).

4-علة تأثير السحر

وفي التقريب «إنما شاء الله أن يختبر عباده، كما أنه حین یخلق العنب ويعطي القدرة للبشر فيعصروه خمراً، لا يخرج الأمر من يده سبحانه، بل إنما ذلك للابتلاء والامتحان» (3) .

ص: 295


1- الاحتجاج ج 2، ص 81 نقله عنه الشيخ الأعظم في المكاسب المحرمة ج 1، ص 264 .
2- المصدر نفسه.
3- تقريب القرآن ج 1 ، ص 163 . 295

وفي التقريب أيضاً : فإن شيئاً لا يؤثر في شيء إطلاقاً إلا بإذن الله، ومعنى إذنه أنه يُخلّي بين المؤثر ،والمتأثر ، ولو لم يُخَلّ كان عالم الجبر وبطل الامتحان والاختيار) (1)

5-علة تحريم السحر

لتحريم السحر أسباب، ولعل منها :

1 - إن الساحر يوهم الناس بأن له قدرات خارقة من نفسه، وذلك يؤدي إلى الشرك بالله، حيث يزعم الإنسان أن هنالك مؤثراً من غير إذن

الله تعالى.

وفي الحديث الشريف عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ : «لأن السحر والشرك مقرونان» (2)، وفي (عيون أخبار الرضا) عن الإمام الحسن العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «فلا تكفر باستعمال السحر وطلب الإضرار به، ودعاء الناس إلى أن يعتقدوا أنك به تحيي وتميت وتفعل ما لا يقدر عليه إلا الله عزَّ وجل فإن ذلك كفر » (3).

2 - الجهل والخرافة، وقد ذكرنا أن الجهل هو أهم أسباب انتشار السحر وإقبال الناس إليه وبما أن الإسلام دين العلم ويكافح الجهل فإنه يحرّم ما ينتج الجهل أو ينتجه الجهل .

3 - إضرار الناس فإن السحر يكثر ضرّه لا ينفع، ويكون ضرره على

ص: 296


1- المصدر السابق نفسه.
2- وسائل الشيعة ج 17 ، ص 146 ، ط آل البيت الباب 25 من أبواب ما يكتسب به الحديث 2. (3) وسائل الشيعة ج 17، ص 147 .

دين الناس وعلى دنياهم، وما كان شأنه كذلك كان حري مكافحته ولذا حرمه الشرع المقدس وفي العيون عن الإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ «ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، لأنهم إذا تعلموا ذلك السحر ليسحروا به ويضروا به، فقد تعلموا ما يضرهم في دينهم ولا ينفعهم فيه».

ومن ذلك محاولة اختلاق أعداء لمن يراجعهم، وخاصة من أقربائه، وممن يكتشفون أنه يسيء الظن بهم، وذلك بغية إبقائه على جهله، بتحريك القوى الغضبية في داخله ولذا تكثر العداوات بعد مراجعة السحرة، ومن هنا كانت النميمة من أهم وسائل السحرة، ولكثرة ممارستهم لها عُدّت النميمة - مجازاً - من السحر فعن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «وإن من أكبر السحر النميمة يفرق بها بين المتحابين ويجلب العداوة على المتصافين، ويسفك بها الدماء، ويهدم بها الدور، ويكشف بها المستور والنمّام شر من وطئ الأرض بقدمه» (1) وليس المراد أن النميمة سحر بالمعنى الحقيقي، بل لما كانت من أهم وسائل السحرة لذا عُدّت من السحر مجازاً .

4 - أكل أموال الناس بالباطل حيث يشاهد كثيراً أن السحرة يستغلون مشاكل الناس وجهلهم، فيبتزونهم أموالهم ، وقد يأخذون أموالاً طائلة يحلّوا المشكلة، وهم يسوّفون ويأخذون مالاً بعد مال، فإن انحلت المشكلة لأسباب أخرى عزى الساحر الحلَّ إلى نفسه، وإن بقيت تحجج بمختلف الحجج واختلق أسباباً أخرى قد توجب عداوات أخرى وهكذا وهلم جرا . .

ص: 297


1- الاحتجاج، ج 2، ص 81 كما نقله الشيخ الأعظم في المكاسب المحرمة ج 1، ص 265 .

6-عقوبة الساحر

قال تعالى: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى )(1) وقال سبحانه: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (2) .

وللأضرار الكبيرة التي تلحق المجتمع من السحر وقد ذكرنا بعضها، فإن الشرع قد جعل عقوبة شديدة ردعاً عن ارتكاب السحر .

فساحر المسلمين عقوبته القتل، إلّا أن يتوب.

أما الساحر الكافر الذي لا يكون محل رجوع المسلمين فإنه لا يقتل، وإن ترتب على عمله ضرر لزم تأديبه بالتعزير .

قال الوالد رحمه الله في موسوعة الفقه : الساحر الذي مهنته السحر، حدّه القتل إن كان مسلماً، والتأديب إن كان كافراً، بلا إشكال ولا خلاف في الأول، لما رواه الكليني عن السكوني عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال : قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ : ساحر المسلمين يقتل وساحر الكفار لا يقتل قيل يا رسول الله ولم لا يقتل ساحر الكفار ؟ قال : لأن الكفر أعظم من السحر، ولأن السحر والشرك مقرونان(3) ورواه الصدوق أيضاً (4) .

والظاهر أن المراد بالعلة، أن السحر حيث جاز في مذهب الكفار -

ص: 298


1- سورة طه، الآية: 69.
2- سورة يونس الآية: 77
3- وسائل الشيعة ج ؛ 28 ، ص 365 . عن الكافي.
4- المصدر عن من لا يحضره الفقيه.

لأنهما مقرونان - وحيث إن الكفار لا يقتلون بكفرهم للذمة أو نحوها، فلا قتل للساحر». (1)

وعن أمير المؤمنين من يعلم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً فقد كفر، وكان آخر عهده بربه، وحَدّه أن يقتل، إلّا أن يتوب»(2).

وفي الفقه ولو أضرّ الساحر المسحور، ضمن، سواء كان ضرراً في النفس أو في المال ولو لم يكن لضرره تقدير كما لو عقد الرجل عن حليلته، كان تقديره بيد الحاكم (3).

7-

روت العامة في بعض كتبهم أن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ،سُحر، حتى أنه كان يخيل إليه أنه فعل في حين أنه لم يكن قد فعل (4) وهذه المرويات تتعارض مع القرآن الكريم، ومن يعتقد بها فهو ظالم بنصه، قال تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا) (5) ، وقال سبحانه: ﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ﴾ (6) بل هذا زعم الكفار حول بعض الأنبياء السابقين، قال تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَمُوسَى مَسْحُورًا )(7).

ص: 299


1- موسوعة الفقه ج 87 ص 407
2- وسائل الشيعة ج 17، ص 148 .
3- الفقه ج 87، ص 409 .
4- عن عائشة قالت: (سحر النبي صلى الله عليه وآله] وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد الأعصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله] وسلم يخيّل إليه أنه يفعل الشيء، وما فعله) رواه البخاري، الطب، السحر، الحديث رقم 5321.
5- سورة الإسراء، الآية: 47 .
6- سورة الفرقان الآية: 8.
7- سورة الإسراء، الآية: 101.

والعجب أن يتركوا هذه الآيات المحكمات، ويتمسكوا بموضوعات، صوناً لأصحاب تلك الكتب أو رواتها، ولكنهم لا يفكرون في تنزيه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ من هذه الأباطيل، بل لما بنوا لأنفسهم باطلاً، وهو صحة بعض تلك الكتب من الجلد إلى الجلد، صدّقوا كل ما فيها حتى لو تعارض مع القرآن الكريم أو كان فيه تنقيص من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والعياذ بالله .

الخامس: قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) ونذكر ما يتعلق بهذين الملكين في عدة مسائل :

«الأولى»

قيل في سبب إرسالهما : إن السحر لما شاع بين تلك الأقوام، وظن الناس أن الساحر يمكنه أن يأتي بكل ما أراد من خوارق العادات ونحوها ، تعسر على الناس التمييز بين السحر والمعجزة.

فلذا أنزل الله الملكين هاروت وماروت لكي يُعلّما الناس إبطال السحر، حتى يعلم الناس أن كل سحر يمكن إبطاله، وأن ما أتت به الأنبياء من المعاجز لا يمكن نقضه، ولا الإتيان بمثله فيتيقنوا صدقهم وأن ما جاؤوا به ليس من العلوم البشرية بل هي موهبة ربانية (1).

ويدل على ذلك محاولة المشركين ربط المعاجز بالسحر، حيث كانوا يشيعون بأنها سحر، ولكن محاولاتهم كانت فاشلة، للتمييز الذي حصل بين السحر والمعجزة، مما عرفه عامة الناس فمن محاولاتهم ما أشار إليه تعالى: (كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونُ) (2).

ص: 300


1- مواهب الرحمن ص 489 - 490 - بتصرف
2- سورة الذاريات الآية: 52.

ولما شاع ،السحر، كثر اتهام الأنبياء بذلك، فقال الكافرون عن موسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ

: (وَقَالُوا مَهمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا)(1) و عن عیسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَآ إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (2) ، وعن رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ : ﴿وَإِن يَرَوْا ءَايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌ ﴾ (3) وعن القرآن الكريم : ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلَّا سِحْرٌ يُوْثَرُ«24» إِنْ هَذَآ إِلَّا قَولُ الْبَشَرِ)(4).

ولكن محاولة ربطهم معاجز الأنبياء بالسحر باءت بالفشل.

وذلك لأن البشرية عرفت إبطال السحر، وكذلك حقيقة السحر، فلما كانوا يشاهدون المعاجز كانوا يعرفون بأنها ليست بسحر، نعم المعاندون كانوا يقولون بذلك لما كانت الحجة تنقصهم، لكنه لم يكن له ذاك التأثير، قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَآ إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (5) ، حيث إن اللمس أنفى للشك من الرؤية، ولا يحتمل فيه السحر، ولكنهم معاندون لا يريدون قبول الحق بأية صورة.

ولتمييز السحر عن المعجزة، عرف سحرة فرعون أن ما جاء به موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ليس بسحر، فآمنوا مع أنهم كانوا أعرف الناس بالسحر، حتى عنهم بالسحّار العليم ، قال تعالى: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشرِينَ«111» يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) (6).2

ص: 301


1- سورة الأعراف الآية: 132
2- سورة المائدة، الآية: 110.
3- سورة القمر، الآية: 2.
4- سورة المدثر، الآيتان 24 - 25.
5- سورة الأنعام، الآية: 8.
6- سورة الشعراء ، الآيتان: 111 - 112

«الثانية» تعليم الملكين السحر

أما أنهما لماذا علما السحر، فلأنَّ من يريد تعليم إبطال شيء، يبين ذلك الشيء أولاً، ثم يبيّن علاجه ثانياً، كما في قول الطبيب هذا سُم، وهذا دواؤه، وإذا أحدهم جاء وتعلّم من الطبيب ثم قتل الناس بالسم فالذنب ليس ذنب الطبيب.

ولذا نشاهد حينما يستعمل أحدهم ما تعلمه في الجامعات بشكل سيئ، فإنه لا تُلام الجامعة، بل يُلام هو ويعاقب لسوء فعلته.

وفي عيون أخبار الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال : «كان بعد نوح عَلَيْهِ السَّلاَمُ قد كثر السحرة المموهون، فبعث الله عزّ وجلَّ ملكين إلى نبي ذلك الزمان : بذكر ما يسحر به السحرة، وذكر ما يبطل به سحرهم ویرد به ،کیدهم فتلقاه النبي عن الملكين وأداه إلى عباد الله بأمر الله عزّ وجل، وأمرهم أن يقفوا به على السحر وأن يبطلوه، ونهاهم أن يسحروا الناس، وهذا كما يدل على السم ما هو، وعلى ما يدفع به غائلة السم، ثم يقال لمتعلّم ذلك : هذا السم فمن رأيته سُمَّ فادفع غائلته بكذا ، وإياك أن تقتل بالسم أحداً ، ثم قال ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ) وهو أن ذلك النبي أمر الملكين أن يظهرا للناس بصورة بشرين و يعلماهم ما علمهما الله تعالى من ذلك ويعظاهم، فقال الله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ) ذلك السحر وإبطاله (حَتَّى يَقُولَا) للمتعلم (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) وامتحان للعباد ليطيعوا الله فيما يتعلمون من هذا ويبطلوا به كيد السحرة، ولا يسحروهم ، ﴿فَلَا تَكْفُر) باستعمال هذا السحر وطلب الإضرار» الحديث (1) .

ص: 302


1- عيون أخبار الرضا ج 1 ، ص 266 ، وعنه مختصراً وسائل الشيعة ج 17، ص 147 الباب 25 من أبواب ما يكتسب به.

وفي العيون أيضاً عن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليحترزوا به سحر السحرة ويبطلوا کیدهم (1).

ويشبه هذا ما يكتبه العلماء في رد الشبهات، حيث يذكرون الشبهة أولاً ثم يكتبون الجواب عنها، ولعل من في قلبه مرض يأخذ الشبهة ويترك الجواب ثم ينشرها بين الناس كما نقله الوالد رحمه الله عن شخص قال رأيت في لبنان كتاباً ذكر فيه إشكالات على الإسلام بحيث يصعب على العوام الإجابة عليها ولدى التحقيق تبين أنه أخذها عن الكتب التي ألفها العلامة البلاغي للدفاع عن الإسلام، حيث أخذ هذا الشخص الشبهات ولم يذكر الأجوبة تحريفاً للحقائق وتدليساً على العوام.

«الثالثة»

وردت روايات موضوعة على أن الملكين سجدا لصنم وشربا الخمر وفعلا غير ذلك من الموبقات وأنهما أرادا فعل الفاحشة بامرأة تسمى الزهرة فطمسها الله كوكباً، وروى السيوطي من الدر المنثور فيما يقرب من هذا المعنى أكثر من عشرين رواية موضوعة، صرحوا بصحة بعضها على مبانيهم(2).

وروي أنه قيل للإمام الحسن العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ «فإن عندنا قوماً يزعمون أن هاروت وماروت ملكان اختارتهما الملائكة لما كثر عصيان بني آدم وأنزلهما الله تعالى مع ثالث لهما إلى الدنيا وأنهما افتتنا بالزهرة، وأرادا

ص: 303


1- العيون ج 1، ص 271 وعنه وسائل الشيعة ج 17 ص 147 - 148. (2) نقله عنه الميزان ج 1، ص 239.

الزنى بها، وشربا ،الخمر، وقتلا النفس المحترمة، وأن الله يعذبهما ببابل، وأن السحرة منهما يتعلمون السحر وأن الله تعالى مسخ تلك المرأة هذا الكوكب الذي هو الزهرة».

فقال الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «معاذ الله من ذلك، إن الملائكة معصومون من الخطأ محفوظون من الكفر والقبائح، بألطاف الله تعالى»(1).

وعن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ «وما كان الله ليمسخ أعداءه أنواراً مضيئة، ثم يبقيهما ما بقيت السماوات والأرض، وإن المسوخ لم تبق أكثر من ثلاثة أيام حتى تموت (2).

وقال تعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَسِّ«15» الْجَوَارِ الكُنَّسِ)(3) و هي النجوم

والكواكب ، وما كان الله تعالى ليقسم بأعدائه .

ولكثرة الموضوعات والأكاذيب ولتمييز الغث من السمين فقد جعل الله تعالى ميزاناً يفرق بين الحق والباطل وهو كتاب الله تعالى أولاً وأهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ ثانياً كما ذكره رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين حيث قال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ : «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» (4) .

ولأنه كثر الكذب على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وعلى أئمة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ فإن .

ص: 304


1- البرهان ج 1 ، ص 501 عن التفسير المنسوب للإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ .
2- البرهان ج 1 ، ص 503 عن عيون أخبار الرضا 1، ص3
3- سورة التكوير، الآيتان: 15 - 16 .
4- وسائل الشيعة ج 27 ص 34 ومن مصادر الحديث: الكافي، والخصال، والإرشاد، وسنن الترمذي، ومسند أحمد، ومسند أبي يعلى، ومستدرك الحاكم، والمعجم الكبير للطبراني وغيرها.

ما نسب إليهم من قول يجب عرضه على القرآن الكريم فما وافق الكتاب أُخذ به، وما خالفه يترك، قال تعالى: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) (1) ، وقال سبحانه: ﴿وَيُحِقُ اللَّهُ الْحَقِّ بِكَلِمَاتِهِ، وَلَمْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ (2) ، وقال عز من قائل: ﴿وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)(3) ، وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال : «إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(4) . وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه خطب بمنى فقال: «أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله» (5). وعن الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال: «انظروا أمرنا وما جاءكم عنا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً ،فردوه ، وإن اشتبه عليكم الأمر فقفوا عنده، وردّوه إلينا ، حتى نشرح لكم من ذلک ما شرح لنا»(6)

بعد ذلك كله :

فإن القرآن الكريم دَلّ على عصمة الملائكة وإطاعتهم الله تعالى وعدم

مخالفته أبداً، ووجوب الإيمان بهم، وكفر من كفر بهم :

1 - فحول عصمتهم قال تعالى : (... بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ «26» لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (7) ، وقال سبحانه: ﴿وَلَهُ مَن فِي .

ص: 305


1- سورة الأنفال الآية: 7.
2- سورة يونس الآية: 82.
3- سورة الشورى، الآية: 24 .
4- وسائل الشيعة ج 27 ، ص 110 عن الكافي والمحاسن وأمالي الصدوق.
5- وسائل الشيعة، ج 27 ، ص 111 ، عن الكافي والمحاسن.
6- وسائل الشيعة، ج 27 ، ص 120 عن أمالي الطوسي. (7) سورة الأنبياء، الآيتان: 26 - 27 .

السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ. وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ«19» يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) ، وقال تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (1).

2 - كما أن الإيمان بالملائكة واجب وعداوتهم كفر، ولو كان فيهم عصاة لما وجب الإيمان بهم، ولا كفر من يعاديهم قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (2). وقال سبحانه: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائیلَ فَإنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) (3).

3 - كما أن الآيات تدل على أن الملائكة يطيعون الله دائماً وهم في خشية منه وخوف. فإضافة إلى الآيات الدالة على إطاعتهم الله تعالى بأجمعهم في أمره بالسجود لآدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، قال تعالى: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) (4) وقال سبحانه: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾(5).

4 - في الآخرة مكانهم حول العرش، قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائكَةَ حَآفِينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (6) .

وأما إبليس فإنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن قال تعالى : (إِلَّآ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ (7)..

ص: 306


1- سورة النحل، الآية 50
2- سورة البقرة، الآية: 285
3- سورة البقرة، الآية: 98
4- سورة الرعد، الآية: 13.
5- سورة الشورى، الآية: 5.
6- سورة الزمر، الآية: 75
7- سورة الكهف، الآية: 50.

«الرابعة»:

قال في مجمع البيان: (وفي هذه الآية دلالة على أن الأفعال تختلف باختلاف المقاصد، ولذلك كان تعلّم السحر لإزالة الشبهة والتحرز منه واجتنابه إيماناً ، ولتصديقه واستعماله كفراً) (1).

أقول : وليس في الآية دلالة على أن إبطال السحر كان بسحر مثله . والأقرب أن إبطال السحر الجائز إنما هو بغير السحر من الأعمال الجائزة، كالحلّ بالقرآن والذكر والتعويذ ونحوها قال تعالى: (مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ)(2) ، وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (3)، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ«1» مِن شَرِّ مَا خَلَقَ«2» وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ«3» وَمِن شَرِ النَّفَاثَاتِ فِي اَلعُقَدِ)(4).

وفي الحديث «دخل عيسى بن شفقي على أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ وكان ساحراً يأتيه الناس ويأخذ على ذلك الأجر، فقال له : جعلت فداك أنا رجل كانت صناعتي السحر وكنت آخذ عليه الأجر، وكان معاشي، وقد حججت منه ومَنّ الله عليّ بلقائك، وقد تبت إلى الله عزّ وجلَّ، فهل لي في شيء من ذلك مخرج ؟ فقال له أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ : حلّ ولا تعقد» (5).

ص: 307


1- مجمع البيان ج 1 ، ص 445 .
2- سورة يونس، الآية: 81
3- سورة طه، الآية: 69.
4- سورة الفلق، الآيات: 1 - 4.
5- وسائل الشيعة ج 17، ص 146 ، أبواب ما يكتسب به الباب 25 عن الكافي، والتهذيب، ومن لا يحضره الفقيه وغيرها.

قال صاحب الوسائل : خصه بعض علمائنا بالحل بغير السحر كالقرآن والذكر والتعويذ ونحوها، وهو حسن، إذ لا تصريح بجواز الحل بالسحر (1).

السادس قوله تعالى: ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) .

أي يتعلمون سحراً يوجب العداوة والبغضاء بين الزوجين مما يؤول إلى الفراق بينهما، فإن الملكين كانا يقولان كذا مفرق، وكذا مبطل للسحر المفرق، لكن هؤلاء كانوا يعملون بالسحر لا يمبطل السحر .

والتفريق بين الزوجين عن طريقين :

1 - بسبب تأثير السحر الذي عملوه فإنه يوجب البغض .

2 - بسبب النميمة بين الزوجين حيث يراجعون السحرة، والساحر - لكي يبتزّ أو لأجل الأهواء الشيطانية - يتكلم بكلام من النميمة يسبب البغضاء بينهما مما يؤدي إلى الفراق .

ولذا عدّت النميمة في بعض الروايات من السحر - مجازاً - كما مرّ .

ولعل ذكر التفريق بالخصوص - مع أن أفعال السحرة وأضرارهم متعددة- ، بسب أن أهم أعمالهم هو هذا ، وأكثر مراجعة الناس لهم بسبب ما يعانوه من مشاكل اجتماعية وخاصة في الحياة الزوجية .

والشرع المقدس حلّ المشاكل من الجذر وبيّن وظائف كل من الزوجين وما ينبغي أن يفعل كل منهما ، بحيث لو عمل بها الناس تخلصوا .

ص: 308


1- المصدر، والمسألة محل خلاف بين الفقهاء، وتفصيله في كتاب المكاسب المحرمة للشيخ الأعظم الأنصاري ج 1، ص 269 - 273.

من جميع المشاكل لكن الكثير من الناس يُعرض عن الشرع ويلتجئ إلى السحرة وذلك يزيده ،رهقاً، ويستفاد من الآية أن التفريق بين الزوجين من أشد المحرمات، وعلى الناس الصلح بينهما قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهِآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)(1)

السابع قوله تعالى: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الإذن هنا بمعنى الإذن التكويني، أي إن الله تعالى يخلي بين المؤثر والمتأثر، فإنه تعالى شاءت قدرته أولاً بجعل هذا التأثير، وثم لم يمنع بالجبر عن التأثير.

ولو شاء أن يمنعهم لمنعهم بالجبر والقهر، لكن لو فعل ذلك كان عالم الجبر وبطل الامتحان والاختبار - كما مرّ-.

وبهذا يجاب عن إشكال أنه كيف لم يمنع من الظلم والمساوىء التي يرتكبها البشر ، ولم يمنع من إضلال الشيطان وأعوانه؟ فإنه سبحانه لو منع من الظلم والشر بالمنع التكويني بحيث يعجز الناس عن ارتكابهما ، فإنه لم يبق مجال للاختبار والامتحان قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)(2) ، وإن شاء الله سنذكر تفصيل ذلك في مظانه .

وهذا المقطع لإفادة أن الناس تحت إرادة الله وقبضته سواء أطاعوا أم عصوا ، حتى لا يزعم لا يزعم العاصي أنه خرج عن سلطة الله تعالى .

كما فيه إشارة إلى أن من التجأ إلى الله تعالى واستعاذ به من شرّ 5

ص: 309


1- سورة النساء، الآية: 35 .
2- سورة الأنبياء، الآية: 35

السحرة، فإن الله سيبطل سحرهم كما قال تعالى : (قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) (1) وقال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ «1» مِن شَرِّ مَا خَلَقَ«2» وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ«3» وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) (2) .

الثامن: قوله تعالى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ).

الضرر وعدم النفع، أخروي ودنيوي أيضاً.

أما في الآخرة ،فواضح كما ذكره تعالى في هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ). وأما في الدنيا، فإنا نشاهد أن السحرة - عادة - هم من أتعس الناس وأفقرهم .

وفي الآية دلالة على مبغوضية ما يضر ولا ينفع، وقال تعالى: (يَدْعُوا لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ) (3). وكذلك ما ضره أكثر من نفعه قال سبحانه: ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا) (4).

والضمير في (فَيَتَعَلَّمُونَ) يرجع إلى اليهود التاركين للكتاب والمتبعين لما تتلو الشياطين، فهؤلاء بدل أن يتبعوا الكتاب الذي فيه نفعهم الدنيوي والأخروي، اتبعوا السحر الذي يضرهم ولا ينفعهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، ويمكن رجوع الضمير إلى الناس الذين تعلموا من الملكين أولاً وإلى هؤلاء اليهود المتبعين لهم ثانياً .

التاسع: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ) . 9

ص: 310


1- سورة يونس الآية: 81
2- سورة الفلق، الآيات 1 - 4 .
3- سورة الحج، الآية: 13.
4- سورة البقرة، الآية: 219

أي هؤلاء اليهود الذين نبذوا كتاب الله واتبعوا سحر الشياطين وما تعلموه من الملكين، هؤلاء يعلمون أن من باع الإيمان واشترى بدله السحر، فإنه لا نصيب له في الآخرة.

وأما قوله تعالى: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون)مما يدل على عدم علمهم، مع أنه تعالى قال قبله بقليل: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا) ففيه وجوه منها:

1 - أن العالم غير العامل بعلمه كالجاهل ، فمعنى (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ): لو كانوا يعملون بعلمهم .

2 - متعلق العلم والجهل أمران مختلفان :

أما متعلق العلم : فهو عدم نصيب في الآخرة .

وأما متعلق الجهل : فهو أنها بئست المعاملة، حيث إن هؤلاء مع علمهم بأنهم لا نصيب لهم في الآخرة كانوا يزعمون أن ربح الدنيا والتمتع بها خير من ثواب الآخرة وأحسن من عذابها فهؤلاء كانوا يجهلون أنها بئست المعاملة، لأن الدنيا قليل لا يبقى والآخرة كثير لا يفنى.

ولذا أكد الله تعالى عدم علمهم في الآية التالية حيث قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ففي هذه الآية بيّن الله تعالى جهلهم بأن المثوبة خير، وفي الآية السابقة بيّن سبحانه جهلهم بأن معاملتهم شرّ.

ص: 311

المطلب الثاني عشرومن أسباب الانحراف في بني إسرائيل (الرذائل) (الأخلاقية)

الآيتان 104 - 105

(«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ «104» مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «105»)

اولاً:

104 - ومن سيئاتهم شتمهم لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حيث استغلوا اشتراك استعمال كلمة «راعنا» بين الشتم على لغتهم بمعنى «اسمع لا سمعت» وبين معنى النظر والانتظار في لغة العرب فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا) للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ (رَاعِنَا) من المراعاة والانتظار، وذلك لأن اليهود يستغلون كلامكم لشتم الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ،(و) لكن (وَقُولُوا انظُرْنَا) بعين رحيمة أو انتظرنا ، (وَاسْمَعُوا) سماع طاعة ، (ولِلْكَافِرِينَ) الشاتمين للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وكذلك

ص: 312

المخالفين لهذا الأمر (عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مؤلم في الدنيا حيث كتب عليهم الجلاء والأسر والقتل ونحوها، وفي الآخرة خالدون في النار.

ثانياً:

105 - ومن سيئاتهم: عدم تحملهم لرؤية فضل الله على غيرهم حسداً (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) وهم اليهود حيث كانوا يكذبون بأنهم يحبون الخير للمؤمنين، وهذه الرذيلة ليست خاصة بهم بل يشاركهم فيها غيرهم، لذا قال تعالى: ﴿وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ، هؤلاء لا يحبون (أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم) أيها المؤمنون (مِّن خَيْرٍ) أي نوع من أنواع الخير - مادياً كان أم معنوياً كالوحي - (مِن رَّبِّكُمْ) ، (و) لكن (اللَّهِ) لا يعمل حسب أهوائهم، بل (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ)، كالنبوة (مَن یَشَآءُ) حسب المصلحة، ولذلك أنزل عليهم التوراة من قبل مع وجود أقوام كثيرة تعاصرهم، وأنزل القرآن على محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الآن، (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فليست النبوة خاصة باليهود أو بني إسرائيل بل الله يختار حسب المصلحة كما قال سبحانه: (وإن من أمّة إلّا خلا فيها

نذير) وقال سبحانه: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).

--------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى: ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ).

هذا الخطاب يراد به المسلمون فقط وقد ورد في القرآن في ثمانية

ص: 313

وثمانين مورداً، والحكم فيها وإن كان عاماً للجميع - لاشتراك الكل في التكليف ، لكن الخطاب خُصص بالمؤمنين تشريفاً لهم أو لأنهم المنتفعون بهذه الآيات المباركات حيث يحاولون تطبيق ما جاء فيها من أمر أو نهي، أما غير المؤمنين فلا يهمهم تنفيذ أوامر الله تعالى.

وقيل كل آية فيها ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا فهي مدنية، وذلك لأن جمیع موارد استعمالها، جاءت لبيان حكم شرعي من أمر أو نهي، والموارد القليلة التي جاءت للإخبار فإنما يراد به الأمر أو النهي أيضاً، كقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(1) وهذا خبر يراد به النهي عن الارتداد، وكذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾ (2) ، يراد يراد من هذا الخبر النهي عن إطاعتهم.

وأما الخطابات التي صدرت ب- (یَا أَيُّهَا النَّاسُ) - وتبلغ عشرين مورداً - فهي عادة دعوة إلى أصول الدين كالدعوة إلى عبادة الله، كقوله :سبحانه ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ)(3)، وبطلان عبادة غيره كقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً) (4) ، والدعوة إلى اتباع الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كقوله سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (5) ، والتخويف من يوم القيامة كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ 8

ص: 314


1- سورة المائدة، الآية: 54.
2- سورة آل عمران الآية: 100.
3- سورة البقرة، الآية: 21
4- سورة الحج، الآية: 73
5- سورة الأعراف الآية: 158

الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ) (1) ، والتذكير بنعم كقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالْأَرْضِ) (2) ، وهذه الآيات المصدرة ب- (يَأَيُّهَا النَّاسُ) يُبين فيها وجه الاستدلال على أصول الدين أيضاً، فهي دعوة إلى الإيمان، وبعد الإيمان ينتفع الإنسان بالأحكام الشرعية.

وأما الخطابات التي صدرت ب- (يأَيُّهَا النَّبِيُّ ) أو (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) - وتبلغ خمسة عشر مورداً - فهي :

إما لتسلية الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَرِعُونَ فِي الْكُفْرِ) (3) ، وكقوله سبحانه: ﴿وَيَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (4) . وكقوله سبحانه: ﴿يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَهدًا وَمُبَشِّرًا) (5)

وإما في قضية خاصة بالنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (6) ، وكقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّها النَّبِيُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْن أُمَتِّعْكُنَّ وأسَرِحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (7) .

وإما في أمور التبليغ كقوله سبحانه: (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلغ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ .

ص: 315


1- سورة الحج، الآية: 252.
2- سورة فاطر، الآية 3.
3- سورة المائدة الآية: 41 .
4- سورة الأنفال: الآية: 64.
5- سورة الأحزاب الآية: 45.
6- سورة التحريم، الآية: 1.
7- سورة الأحزاب الآية: 28.

مِن رَّبِّكَ ﴾ (1)، وكقوله تعالى: ﴿حَرِضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) (2)، وكقوله

سبحانه: ﴿قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَى) (3) .

وإما في طريقة التعامل مع الكفار والمنافقين، كقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) (4) ، وكقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَغَلُظَ عَلَيْهِمْ)(5) .

وإما فيما يتعلق بشؤون النساء كما في ست من الآيات، ولعله لبيان أهمية أحكامهن ولزوم مراعاتهن وعدم الاستخفاف بتلك الأحكام، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)(6) ، وكقوله سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الَّتِي ءَاتَيتَ أُجُورَهُنَ) (7) وكقوله تعالى:

(يا أَیُّهاَ اَلنَّبِىُّ إذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبايِعْنَكَ) (8).

الثاني: قوله تعالى: (لَا تَقُولُواْ رَاعِنَا).

عن الإمام موسى بن جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ «وكانت هذه اللفظة (رَاعِنَا) من ألفاظ المسلمين يخاطبون به رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، يقولون: «راعنا»، أي ارع أحوالنا ، واسمع منا كما نسمع منك، وكان في لغة اليهود معناها «اسمع لا سمعت»، فلما سمع اليهود المسلمين يخاطبون بها رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ2

ص: 316


1- سورة المائدة، الآية: 67 .
2- سورة الأنفال، الآية: 65.
3- سورة الأنفال، الآية: 70.
4- سورة الأحزاب، الآية: 1.
5- سورة التحريم، الآية: 9
6- سورة الطلاق، الآية: 1.
7- سورة الأحزاب الآية 50
8- سورة الممتحنة، الآية: 12

يقولون راعنا ويخاطبون بها، فقالوا كنا نشتم محمداً إلى الآن سرّاً، فتعالوا الآن نشتمه جهراً» (1)

ذمهم الله تعالى على فعلتهم في هذه الآية، وفي سورة النساء قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأَسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنَاً فِي الدِّينَ) (2) ، فكان غرضهم من استعمال هذه الكلمة هو التواء ألسنتهم بالسب والطعن في الرسول والدين من دون أن يكون عليهم مأخذ في الظاهر.

ويستفاد من الآية أنه يلزم سد جميع الثغرات على أعداء الدين فالأمور المباحة التي ليست من أحكام الدين إن كانت ذريعة للطعن في الدين، يلزم الانتقال منها إلى البديل الصحيح، لسد الذرائع وعدم تعريض الدين للطعن والاستهزاء، نعم لو كان استهزاؤهم وطعنهم في واجب أو مستحب أو ما هو من الدين مطلقاً، فلا ينبغي الاهتمام باستهزائهم وسخريتهم لأن الله تعالى قد كفى رسوله والمؤمنين شرهم قال تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءينَ) (3) .

الثالث: قوله تعالى: ﴿وَاسْمَعُوا) .

لعل سبب قولهم (انظُرْنَا) كان عدم سماعهم لكلام الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لانشغال قلبهم بالتفكير في أمور أخرى، أو لتكلم بعضهم مع البعض الآخر، فلذا أرشدهم الله تعالى بأنه يجب عليهم سماع كلام الرسول سماع فهم ،وطاعة فإن من يريد تنفيذ أمر تتوق نفسه إلى سماعها ينشغل قلبه بشيء ولا يشغل سمعه لسماع شيء آخر، فيفهمه ويعيه بسر بسرعة . 5

ص: 317


1- البرهان ج 1 ، ص 506 عن التفسير المنسوب للإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ
2- سورة النساء، الآية: 46 .
3- سورة الحجر، الآية: 95

ويجوز أن يكون المراد أن لا تكونوا كاليهود الذين قالوا سمعنا وعصينا، فسماعهم لكلام الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لم يكن سماع طاعة بل إما للاستهزاء أو لغرض الجدال بالباطل ونحوهما من الأغراض الباطلة.

الرابع: قوله تعالى: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

يستفاد من الآية أن الاستهزاء بالرسول صلى الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وسبه من موجبات الكفر والخروج عن الدين قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلتَهُمْ لَيَقُولُنَ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَءايَاتهِ، وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْهَزّءُونَ«65» لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجرِمِينَ) (1)

وذلك لأن الاستهزاء والسب يكشف عن عدم تصديقه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، ولا يعقل أن يستهزئ به من يصدّق برسالته ويتيقن بها .

وفي الفقه للوالد رضوان الله عليه :

(إن الأنظمة الإسلامية الصحيحة عقيدة وشريعة الموجبة لرفاه البشرية، متوقفة على شخصية الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ واحترامه عند الناس، فإهانته معناها تحطيم أساس رفاه ،البشر، وهي أسوأ من قتل إنسان، إذ قتله تحطيم لسعادة الفرد، بينما إهانة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ شروع في تحطيم سعادة كل البشر ) (2) .

وفي الفقه أيضاً :

(لا إشكال في حرمة الاستهزاء بالله والرسول وآيات الله سبحانه، .

ص: 318


1- سورة التوبة، الآيتان: 65 - 66.
2- الفقه ج 87، ص 386 .

والأئمة الطاهرين والمعاد، وسائر أصول الدين، كما يحرم الاستهزاء بالأحكام الشرعية، وبعض ذلك على حد الكفر، وبعضه من المحرمات القطعية) (1).

الخامس : قوله تعالى: ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)...

هذا كالدليل لما قبله فإنهم كانوا يشتمون الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ،بسبب حسدهم لما رأوا فضل الله على غيرهم.

والظاهر يكشف عن الباطن كثيراً ، وهذا من نعم الله تعالى على الناس أن جعل لهم طريقاً إلى معرفة باطن الأشخاص، حيث إن كثيراً من الأمور الهامة تتوقف على هذه، ولولا هذه العلائم لما أمكن - غالباً - الوصول إليه وشتمهم للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ علامة على حسدهم وبغيهم، وذلك مما يسقط اعتبار كلامهم ويفضحهم كيما لا يتأثر بهم أحد وتتم الحجة على الجميع، والحمد للَّه رب العالمين.

السادس: قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ، مَن يَشَاءُ).

الرحمة عامة لكل أنواعها وأهم مصاديقها : النبوة، وهذا رد للكفار من أهل الكتاب حيث كانوا يريدون النبوة لهم لا للعرب ورد للمشركين حيث ما كانوا يطيقون نبوة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الجاهلية والعصبية القبلية التي كانت تتحكم بهم .

ومشيئة اختصاص النبوة ليس عبثاً وإنما لحكمة، قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ (2) وذلك لأن الرسالة تحتاج إلى موضع قابل لائق، ولما .

ص: 319


1- الفقه، ج 93، ص392.
2- سورة الأنعام، الآية: 124.

لم يكونوا الموضع اللائق بسوء ،أفعالهم، وكان محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، المحل القابل لها جعل الله الرسالة فيه دون غيره .

وقد مرّ أن الله تعالى جعل الدنيا دار التفاضل في الأشياء والأشخاص لكمال حكمته، فراجع.

وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «31» أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «32»﴾ (1) .

حيث زعموا أن الرسالة لا تليق إلا بمن له مال وجاه، فردّهم الله تعالى بأنه ليس لهم وضع النبوة حيث شاؤوا ، بل الأمر لله، وهو لم يوكّل لهم تدبير ما هو أقل من النبوة وهو أمور الرزق، فكيف يفوض أمر الرسالة الى تقديراتهم، والرسالة من أعظم الأمور؟

وروي أنهم لأجل ذلك - أي عدم ودهم نزول الخير عليكم - يمنعون أهل دينهم من أن يحاجوك مخافة أن تبهرهم حجتك، وتفحمهم ، معجزتك فيؤمن بك ،عوامهم، أو يضطربون على رؤسائهم، فلذلك يصدون من يريد لقاءك - يا محمد - ليعرف :أمرك : بأنه لطيف خلاق ساحر ،اللسان لا تراه ولا يراك خير لك، وأسلم لدينك ودنياك، فهم بمثل هذا يصدون العوام عنك) (2) .

وهذا بمعنى قوله تعالى: جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (3). .

ص: 320


1- سورة الزخرف، الآيتان: 31 - 32.
2- البرهان ج 1 ، ص 508 عن التفسير المنسوب للإمام العسكري
3- سورة نوح، الآية: 7.

الآيتان 106 - 107

(ومَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «106» أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍ وَلَا نَصِيرٍ).

106 - لأن اليهود والمشركين ما كانوا يحبون تنزيل الخير على المسلمين، فلذا كانوا يتحججون بمختلف الاستدلالات لإبطال نبوة رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، ومن شبهاتهم : أنه كيف تنسخ التوراة؟ فإنها إن كانت صالحة لم يجز نسخها وإن لم تكن صالحة كيف أمر الله موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ باتباعها ؟ وكذلك كيف تتغير الأحكام التي يجيء بها محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ؟ فالجواب: (مَا نَنسَخ) النسخ: التبديل (مِنْ ءَايَةٍ) علامة من علائم الله، سواء أكانت الكتب السابقة أم الأحكام الشرعية أم في التكوينيات، (أَوْ نُنسِهَا) النسيان بمعنى تركها حتى ينساها الناس كما حدث بالنسبة إلى بعض الكتب السماوية السابقة حيث لم تذكر حتى نسيت، (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) لأجل مصلحة اقتضت ذلك، كما في اختلاف شرائط الزمان والمكان، كما في القبلة حيث كانت بيت المقدس فنسخ الحكم بجعل الكعبة قبلة حتى لا يكون لليهود حجة على المسلمين، أو لتسهيل الأمر على المكلفين

ص: 321

كقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم) ، وكونها خيراً منها إما في الثواب، وإما في المصلحة أو لجهات أُخرى.

وعدم النسخ إما لعدم القدرة أو لعدم وجود المثل أو الأصلح، وقد ثبت وجود المثل والأصلح، كما أن الله قادر ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجز عن النسخ.

107 - ودليل قدرة الله على النسخ أنه قادر على التكوينيات فكيف يعجز عن التشريعات؟ ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) فيتصرف كما يشاء في التكوين وفي التشريع، فهو الذي يعلم بالمصالح الواقعية من مختلف الجهات ويلطف بكم حينما يُبينها لكم، (وَ مَا لَكُم مِّن دُونِ﴾ أي غير (اللَّهِ مِن وَلِيٍ) يلي أموركم ويرشدكم إلى مصالحكم ﴿وَلَا نَصِيرٍ) ينصركم بالحجة البالغة على أعدائكم المجادلين في دينكم.

----------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى: (مَا نَنسَخ) .

ونذكر حول النسخ جهات، منها :

الجهة الأولى

النسخ هو التبديل كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَكَانَ وَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (1).

ص: 322


1- سورة النحل، الآية: 101

ولذا قيل في معناه - لغة - : إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه، كقولهم : نسخت الشمس الظل، أي أذهبته وحلّت محلّه، كما في قوله تعالى : (فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكُمُ اللهُ ءَايَتِهِ) (1) أي يبطل الله مؤامرات الشيطان.

والنسخ في التشريع : هو إظهار انتهاء أمد الحكم وانقضاء أجله، كما نُسخت آية ﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجَوَاكُمْ صَدَقَةً) بآية (أَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ) (2). حيث إن الحكم بوجوب الصدقة كان محدوداً بوقت معين، ولكن لمصلحة لم يُبيّن أنه محدود، لما انتهى وقت الحكم لتحقق المصلحة المرجوة منه، تم بيان انتهاء ثم أمد الحكم.

والنسخ في التكوينيات : هو إذهاب آية تكوينية والإتيان بآية أخرى مكانها، كما في موت نبي ونصب نبي آخر أو وصي مكانه.

الجهة الثانية

لعل حكمة النسخ هو :

1 - الامتحان، كما في أمر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بذبح اسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

2 - أو التدرج في الأحكام تسهيلاً من الله على العباد، كأن يجعل المنسوخ مقدمة للناسخ .

3 - أو للتمهيد لقبوله، فيما لو كان الحكم المنسوخ أصعب، كما

ص: 323


1- سورة الحج، الآية: 52 .
2- سورة المجادلة، الآيتان: 12 - 13.

روي في إيجاب صوم ثلاثة أشهر ثم نسخه شهرين، أو إيجاب خمسين صلاة كل يوم ثم نسخها بسبع عشرة ركعة (1) .

أو لجهات أخرى.

الجهة الثالثة

لا نسخ في العقائد فإنها حقائق غير قابلة للتبديل كالتوحيد - مثلاً - ، كما أنه لا نسخ في الأحكام العقلية القطعية - لأن العقل حجة الله الباطنة - كما لا نسخ في أصول بعض الأحكام كأصل العبادة، وإنما النسخ في بعض الأحكام.

ولذا لا تعدد في الأديان، بل هو دين واحد قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّين عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ) (2)، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (3).

ولذا لا يصح القول بأن الأديان الإلهية متعددة، بل الصحيح هو وحدة الأديان وتعدد الشرائع .

الجهة الرابعة

علة بقاء الآيات المنسوخة في القرآن بعد تبديل حكمها هو اشتمالها على فوائد ومصالح جمة، وقد يكون الغرض هو إيصال فكرة معينة، فعِلم الناس بالنسخ كفيل بعلمهم بتلك الفكرة.

ص: 324


1- وسائل الشيعة ج 4 ص 13.
2- سورة آل عمران الآية: 19
3- سورة النحل، الآية: 123

كما في آيات النجوى، حيث إن الغرض لعله :

1 - بيان أن الناس يبادرون في الأمور التي فيها وجاهة لهم، لكن حينما يصل الأمر إلى البذل فإنهم يحجمون !

والتناجي مع الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وهو النبي والحاكم كان يتخذه البعض ذريعة لبيان أهميتهم، فلذا حاولوا كسب الوجاهة عبر ذلك، فأراد الله بيان عدم صدقهم.

2 - مضافاً إلى إعطاء قاعدة عامة وهي كشف الصادق من غيره، بواسطة تكليف ليس بصالحهم ظاهراً .

3 - مضافاً إلى بيان فضيلة للإمام علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث إنه الوحيد الذي عمل بالآية المنسوخة قبل نسخها فتصدق وناجى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ (1).

4 - مضافاً إلى الجهات البلاغية وفهم الآيات الناسخة، إذ لعل فهمها يتوقف على فهم الآية المنسوخة .

ولغير ذلك من جهات .

الجهة الخامسة

لا يمكن نسخ آيات القرآن الكريم، إلا بآيات أخرى من القرآن وذلك لقوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنهَآ أَوْ مِثْلِهَا) ومن المعلوم أن السنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله، بل القرآن خير منها.

ص: 325


1- مجمع البيان ج 9، ص 619 . وقال ابن عمر: وكان لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه ثلاث، لو كانت لي واحدة منهن لكانت أحب إلي من حمر النعم تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى. وقال أمير المؤمنين صلوات الرحمن عليه : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي... الحديث.

وقال الطبرسي رَحمَةُ اللَّهُ : ( إن القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة المقطوع عليها ومعنى (خَيْرٌ مِّنَها) أي أصلح لنا منها في ديننا وأنفع لنا بأن نستحق به مزيد الثواب) الخ (1).

ومرجع كلامه إلى أن الحكم الناسخ في السنة خير من الحكم المنسوخ في القرآن وذلك لأن مرجع السنة إلى أمر الله تعالى ووحيه .

ولكن الضمير في قوله: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ) راجع إلى الآية لا إلى حكم الآية فقط، فيكون المعنى حينئذ أن الحديث خير من الآية، وذلك لا يصح البتة، فتأمل.

الجهة السادسة

كون الآية الناسخة خير من الآية المنسوخة أو مثلها، هو اشتمال الناسخ على مصلحة المنسوخ أو الزيادة عليه .

وإنما نسخ مع المماثلة لفقد المنسوخ تلك المصلحة، كما في طبع الأوراق النقدية الجديدة مع تماثلها في القيمة للأوراق النقدية القديمة لاهتراء الأوراق أو لتغيير صورة أو نحوها .

وكذلك كونها خيراً منها كما في الدراسات العالية فإنها خير من الدراسات الابتدائية، وذلك لتبدل الزمان ولارتقاء مستوى الدارس فحين درس الابتدائية كان فيها المصلحة والآن المصلحة في الدراسات العليا التي هي خير من الابتدائية .

ومن أمثلته في القرآن الكريم القبلة حيث كانت بيت المقدس، ثم

نسخ ذلك وتحولت القبلة إلى الكعبة وذلك لأنتهاء مصلحة التوجه إلى

ص: 326


1- مجمع البيان، ج 1 ، ص 458 .

بيت المقدس، وهي ما أشارت إليه الآية الشريفة ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) (1) ، وكذلك (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)(2) ، ومن المصلحة التي اقتضت جعل القبلة التوجه إلى الكعبة ما قاله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (3) .

الجهة السابعة

كما يوجد النسخ في التشريع، كذلك يوجد النسخ في التكوينيات ولكن بمعناه اللغوي فمنه

1 - موت إمام وقيام إمام آخر مقامه من النسخ (4) ، ويمكن أن يكون منه وفاة نبي وقيام نبي أو وصي آخر ،مقامه، لأن السنة الإلهية تقتضي الموت بعد أمد معلوم، وعدم الخلود لأي إنسان - طال بقاؤه أم قصر -، وأن يخلف الناس أناس آخرون قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلدٌ أَفَإِيْن مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ) (5) . وقال سبحانه: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (6).

2 - ومنه البداء، وهو إظهار أمر لا يتحقق لعدم تحقق شرطه، فيذكر الأمر ويخفى شرطه - لمصلحة ، قال الله تعالى : (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (7).

ص: 327


1- سورة البقرة، الآية: 143
2- سورة البقرة، الآية: 150.
3- سورة البقرة، الآية: 143
4- البرهان ج 1 ، ص 512 عن تفسير العياشي.
5- سورة الأنبياء، الآية: 34.
6- سورة الملك، الآية: 2.
7- سورة الرعد: الآية: 39

وعن الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ «الناسخ ما حوّل، وما ينسأها مثل الغيب الذي لم يكن بعد كقوله: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) ، قال : فيفعل ما يشاء ويحوّل ما يشاء، مثل قوم يونس إذ بدا له فرحمهم ومثل قوله: ﴿فَنَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ) ، قال أدركهم برحمته» (1).

3 - ومنه التخصص - أي خروج الآية الثانية عن موضوع الآية الأولى، نظير الاستثناء المنقطع - كقول أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : {ونسخ قوله تعالى: ﴿وَإِن مِنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِیًا) وقولُه: (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ«102» لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (2)}.

ويحتمل التخصيص - أي خروج الآية الثانية عن حكم الآية الأولى مع الدخول في موضوعها - ففي آلاء الرحمن (3) مع أنه لو كان القضاء الحتم تحت اختياره تعالى من كل جهة - حدوثاً وبقاء ، يصح التخصيص بالنسبة إليه أيضاً وإنما أظهره بصورة التعميم والحتم لمصالح في ذلك انتهى .

مجمع

الجهة الثامنة

دلت الآية على أن القرآن ،محدث، وهو غير الله تعالى - كما في مجمع

البيان (4) .

ص: 328


1- البرهان ،ج 1 ، ص ،511 ، وسورة الذاريات، الآية: 54. 1،
2- تفسير النعماني، الميزان ج 1 ، ص 255، آلاء الرحمن ج 1 ، ص 525 والآيتان: سورة مريم الآية: 71 ، وسورة الأنبياء، الآية: 101.
3- ج 1 ، ص 526 .
4- مجمع البيان ج 1 ، ص 458.

أولاً: لأن الله قديم، ولا يعقل نسخ القديم، لأن القديم ضروري الوجوب، وما كان ضروري الوجود استحال العدم عليه.

ثانياً: الله تعالى لا مثل له قال سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ)(1) ،والآية المنسوخة لها مثل بل قد يكون ذلك المثل خيراً منها.

ثالثاً: أثبتت الآية قدرة الله على الناسخ والمنسوخ، والقدرة تتعلق بالفعل، ولا يكون الفعل إلا محدثاً ، وذات الله ليست فعلاً ولا محدثة.

وفي النسخ بحوث أُخرى لم نذكرها حتى لا نخرج عن موضوع الكتاب.

الثاني: قوله تعالى: ﴿مِنْ آيَةٍ)...

«الآية) في اللغة العلامة، والكتب السماوية علائم تدل على الله تعالی.

والآية غير مختصة بالقرآن بل تشمل الكتب السماوية السابقة أيضاً قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبِّكُمْ) (2) .

والمعاجز من آيات الله تعالى ولذا تم التعبير في القرآن الكريم عن المعجزات بالآيات، بل لم ترد كلمة (المعجزة» بهذا المعنى في القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً ﴾ (3) سمي كلام الله تعالى بالآيات لأنه معجزة لا يمكن الإتيان بمثله.

وشأن نزول هذه الآية هو إشكال اليهود على القرآن بأنه كيف ينسخ .

ص: 329


1- سورة الشورى، الآية: 42 .
2- سورة الزمر، الآية: 71.
3- سورة الأعراف الآية: 73.

التوراة؟ والجواب هو أن نسخ التوراة ممكن، فالآية في قوله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ)شملت التوراة.

الثالث: قوله تعالى: (أَوْ نُنسِهَا).

من النسيان، والمعنى تركها وعدم ذكرها حتى تُنسى، فترفع رسمها وكتابتها وتبلى عن القلوب حفظها .

وهذا مختص بالكتب السماوية السابقة، فبعضها تركت حتى لم تبق كتابتها ولم يبق حافظ لها .

وقيل بنسخ التلاوة في بعض آيات القرآن بمعنى أن الله أنزل آيات في القرآن ثم رفعها من المصحف فحذفت منه ! !

واستدلوا ببعض المرويات التي زعموا أنها من نسخ التلاوة كما رووا أن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» (1)

وهذا القول غير صحيح بل هو قول بتحريف القرآن !!

أولاً: لأن بعض الآيات التي زعموا نسخ تلاوتها مذكورة في الكتب فهي غير منسيّة، مع أن شرط نسخ التلاوة هو الإنساء كما قال تعالى: (أو نُنسِهَا)، فعدم نسيانها وذكرها في الكتب دليل على أنها ليست من الآيات المنسوخة بل هي زعم تحريف في القرآن الكريم.

ثانياً: لقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى«6» إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ) (2) ، دلت الآية ﴿ على أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لا ینسی ما أقرأه الله تعالى قوله : (أَوْ نُنسِها) دال 7

ص: 330


1- رواه ابن ماجه في سننه، الحدود، الرجم، الحديث رقم 2543 ، وقريب منه في البخاري ومسلم وغيرها.
2- سورة الأعلى، الآيتان 6- 7

على نسيان الجميع لها، وأما الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) ليس بمعنى وقوع النسيان فعلاً، لأن ذلك غير مختص بالرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فكل إنسان لا ينسى ما قرأه إلا إذا شاء الله، بل المعنى أن عدم نسيانه لا يخرجه عن قدرة الله تعالى فالله تعالى أقرأه فلا ينسى ولكن مع بقائه تحت قدرة الله تعالى، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) (1) ، أي إن الله قادر على إخراجهم من الجنة، وهذا للتنبيه على قدرته تعالى مع أنه سبحانه لا يخرج أهل الجنة منها أصلاً، وكذلك الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَا شَآءَ اللَّهُ) لمنع الغلو فيه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وبيان أن المقامات التي أعطاها الله تعالى لرسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لا تسبب عدم حاجته إلى الله، بل هو محتاج إلى الله تعالى دائماً .

والحاصل أن قوله : (أَوْ نُنسِهَا) خاص بالكتب السماوية السابقة ولا يجري في القرآن.

بلى لما رأى بعض العامة الروايات الدالة على تحريف القرآن في صحاحهم، ولم يمكنهم ردّها كما لم يتمكنوا من القول بتحريف القرآن، اضطروا إلى ابتداع اصطلاح نسخ التلاوة للخروج عن هذه العويصة .

مع أن بعض مروياتهم تأبى عن الحمل على نسخ التلاوة مثل ما رووه عائشة أنها قالت كان ما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس ،معلومات وتوفي رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وهن فيما يقرأ من القرآن) (2). .

ص: 331


1- سورة هود، الآية: 108
2- رواه مسلم ،الرضاع، التحريم بخمس رضعات، الحديث رقم 2634 . ج 4 ص 167.

أو حديثها الآخر في أكل الداجن آيات الرضاعة التي ضاعت بسبب ذلك الأكل لانشغالهم بموت رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ (1).

ومن المعلوم أن لا نسخ بعد وفاة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فلا محمل لهذه المرويات إلا التحريف !!

مع بداهة بطلان التحريف وأن القرآن الذي بأيدينا هو كما نزل على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، وسنتعرض لبحث نفي التحريف عن القرآن لاحقاً إن شاء الله تعالى.

مضافاً إلى اشتراط الإتيان بالمثل لقوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) وبعض مروياتهم تدل على عدم التعويض، مثل ما روي عن زر بن حبيش أن أبياً قال له: كم تقرؤون الأحزاب؟ قال: بضعاً وسبعين آية، قال قد قرأتها ونحن مع رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أطول من سورة البقرة (2).

الرابع: قوله تعالى: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَآ).

كون الآية الناسخة خيراً من المنسوخة إما لأنها أسهل فهي خير لكم في التسهيل، كما في قوله تعالى : (الْائَنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ) (3) ، وإما لأنها خير منها في المصلحة لانتهاء مصلحة المنسوخ، وانحصار المصلحة في الناسخ وإما خير منها في الثواب، وإما الناسخ في الوقت الثاني خير من المنسوخ في الوقت الأول ، فالقرآن في زمن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وإلى الأبد، خير من التوراة في زمن موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، أو لجهات أخرى. .

ص: 332


1- رواه ابن ماجه النكاح، رضاع الكبير الحديث رقم 1934 . وابن حزم في المحلّى ج 1 ) ص 235 - 236.
2- مجمع البيان ج 1 ، ص 457 رواه عن أبي علي في كتاب الحجة.
3- سورة الأنفال، الآية: 66 .

وأما كونها مثلها ، فهو المثلية في السهولة، أو الثواب كالصلاة باتجاه الكعبة مثل الصلاة باتجاه بيت المقدس، أو غير ذلك.

الخامس: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ)...

استفهام تقرير وتثبيت أي قد علمت وهذا النوع من الاستفهام أوقع وأقوى من مجرد الإخبار .

والفاعل في تعلم النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ خطاباً تشريفياً، أو ليتعلم منه سائر الناس كقوله تعالى: ﴿یا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَقْتُمُ النِّسَاءَ)(1).

وهذا تعليل لقدرته تعالى على النسخ، فالذي بيده التكوين لا يعجز عن التشريع وضعاً ورفعاً بالنسخ أو بغيره، فإن النسخ إما لعدم وجود المثل أو الأفضل، وإما لعدم القدرة، وقد ثبت وجود المثل والخير، كما أن الله قادر على كل شيء .

وقيل : إن الإتيان بقوله: ﴿أَلَمْ تَعلَم) للدلالة على قدرته تعالى حدوثاً وبقاءً، فهو قادر على الإيجاد فقال تعالى: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ)، وقادر على التصرف فقال تعالى: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍ وَلَا نَصِيرٍ).

والأولى ما ذكرناه من إثبات قدرته على النسخ تشريعاً، ثم الاستدلال على قدرته التشريعية بقدرته التكوينية.

السادس: قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ)... الآية.

«الولي» من يقوم بالأمر الذي يتولاه ..

ص: 333


1- سورة الطلاق، الآية: 1.

والمعنى أن الله يلي أمركم ،وينصركم، ولذا شرّع النسخ ، فإن الوليّ يراعي مصلحة المُوَلّى عليه، وينصره، وفي الجوهر الثمين (والفرق بينهما أن الولي قد يضعف عن النصرة، والنصير قد يكون أجنبياً) (1) بمعنى ليس بولي، لكن الله تعالى هو الولي وهو النصير فلا المخلوقات خارجة عن ولايته ولا هو ضعيف، والحاصل أن تشريع النسخ كان بسبب ولايته ونصرته. .

ص: 334


1- الجوهر الثمين ج 1 ص 134 .

الآية 108

(أم تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).

108 - وحيث إن التشريع بيد الله - ومنه النسخ، فاللازم على الجميع الخضوع لأحكامه وقبولها ولكن أكثر اليهود تعنتوا، كما ، فعلوا ذلك مع نبيهم موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ (أَم) أي بل (تُرِيدُونَ) أيها اليهود والمشركون (أَن تَسْئَلُواْ) سؤال تعنت - لا سؤال استفهام - ﴿رَسُولَكُمْ) محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فإنه أرسل إليكم - سواء اعترفتم أم أنكرتم - (كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ) فقد طلب آل فرعون الآيات ثم لم يؤمنوا بها عتواً واستكباراً، وكذلك فعل بنو إسرائيل حيث طلبوا رؤية الله جهرة وعناداً للحق، ولكن استكباركم يرجع ضرره إليكم (وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالْإِيمَانِ) بأن ترك الإيمان واختار الكفر وعاند فيه بكثرة الأسئلة التعنتية بعد وضوح الحق (فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ) أي وسطه، أو بمعنى خرج عن حد الاعتدال.

----------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى: (لَمْ تُريدُونَ) .

ص: 335

التعليق على الإرادة - مع أن القبيح هو الفعل - لأجل أنها سبب الفعل، لأن نفسية الإنسان وطريقة تفكيره هما المحرّكان الأساسيان لحركة الناس.

وإذا قبحت الإرادة، فإن الفعل المراد يكون قبيحاً بطريق أولى قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ (1) ، وقال سبحانه: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا)(2).

الثاني: قوله تعالى: (أَنْ تَسْئَلُوا).

السؤال إذا كان للاستفهام ولمعرفة الحق فهو مطلوب مأمور به، قال تعالى: ﴿فَسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (3). وقد أجاب القرآن عن مجموعة من أسئلتهم للتعلم وصدرها بقوله: ﴿يَسْئَلُونَكَ) كقوله تعالى:

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ) (4) .

وأما إذا كان السؤال للتعنت، أو كان فيه الضرر كان مذموماً مثل قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(5) فقد كانوا يكثرون السؤال عما يوجب حزنهم، مثل مكان أجدادهم الكفرة، فكان الجواب بأنهم في النار، وكان ذلك يوجب غمهم وحزنهم.

الثالث قوله تعالى ﴿رَسُولَكُمْ)

لعل إضافة الرسول إليهم - مع عدم اعترافهم برسالته - لأجل : .

ص: 336


1- سورة هود، الآية: 15.
2- سورة القصص، الآية: 83.
3- سورة الأنبياء، الآية: 7.
4- سورة البقرة، الآية: 189
5- سورة المائدة، الآية: 101.

1 - أن لا يتوهم أحد أنه أرسل إلى العرب خاصة، فلا يلزم اليهود الإيمان به كبعض الأنبياء الذين أرسلوا إلى جمع من الناس قال تعالى :

(وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ (1).

2 - وكي لا يتوهم أحد بأن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ خاص بمن آمن به کما يقال : عيسى نبي النصارى ومحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ نبي المسلمين! بل هو رسول الجميع حتى لمن أنكره قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (2) .

الرابع: قوله تعالى: (كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ).

قال تعالى: ﴿يَسْئَلُكَ أَهْلُ الكِتَاب أَن تُنَزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ (3).

التعنت والاستكبار حالة جارية في بعض النفوس، فتشابهت إلى حدّ

كبيرة معاناة الأنبياء عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ ، ولذا أكثر القرآن من ذكر قصص الأمم السالفة فقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) (4).

ومع أنا غير مسؤولين عن أفعالهم وأعمالهم كما قال سبحانه: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (5) ، ولكن علينا الاعتبار بهم.

نعم البعض حينما يريد إخفاء حقائق التاريخ، وخاصة ما جرى بعد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لكي لا يفتح الناس عقولهم وقلوبهم لمعرفة شأن أهل .

ص: 337


1- سورة الصافات، الآية: 147.
2- سورة الأعراف الآية: 158
3- سورة الأعراف الآية: 153.
4- سورة يوسف، الآية: 111.
5- سورة البقرة، الآية: 141 .

البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ ، وأعدائهم ، أو لأجل التهرب من الأسئلة المحرجة التي لا يجد جواباً لها، فإنه يستدل بهذه الآية مع أن معناها لو كان ما يزعم - من لزوم إخفاء حقائق التاريخ - لكان القرآن متناقضاً !! حيث ذكر قصص الأمم السابقة، وأكثر من ذكر المنافقين في عهد الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، بل قبل هذه الآية ذكر جمع من الأنبياء ثم إكمال ذكرهم بتكرار هذه الآية مرتين !!

الخامس: قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ) .

التبديل هنا هو ترك الثقة بالآيات البينات المنزلة واقتراح غيرها لأجل التعنت فقط، وهؤلاء وإن كانوا قد قصدوا العناد ولكن الآية عامة، فكل من كفر بدلاً من الإيمان فقد ضل - سو من الإيمان فقد ضل - سواء كان قاصداً لذلك أم لم يكن قاصداً - نعم المعاند أسوأ حالاً من الجاهل، والمقصر من القاصر،

والمستكبر من المستضعف.

ص: 338

الآيتان 109 - 110

ثالثاً (من رذائل بني إسرائيل الأخلاقية) الحسد

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «109» وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «110»).

109 - (وَدَّ) التمني المتضمن للحب (كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) لا كلهم، فقد آمن القليل منهم، (لَوْ يَرُدُّونَكُم) أي أن يرجعوكم (مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَارًا)، وهذا التمني (حَسَدًا) أي لأجل حسدهم منكم ، وهذا التمني لم يكن لأجل تدينهم بل (مِنْ عِندِ أَنفُسِهِم) أي سوء سريرتهم (مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) وأن محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مبعوث من الله وليكن موقفكم منهم هو ﴿فَاعْفُواْ) بعدم مؤاخذتهم، (وَاصْفَحُوا) بعدم عتابهم، (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) التكويني بهدايتهم أو إبادتهم، أو أمره التشريعي بتشريع قتالهم

ص: 339

وإجلائهم وأخذ الجزية منهم، (إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلذا يدعو إلى دينه بما هو أليق فتارة بالصفح وأخرى بالعقاب.

110 - (و) لمّا كان موقف أهل الكتاب هذا ، ف- (أَقِيمُوا الصَّلوَةَ) لتقوية أنفسكم بربطها بالقوة غير المتناهية، ﴿وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ) للتكافل الاجتماعي تقوية للفقراء كي لا تسبب الحاجة تأثرهم بالكفار (و) اعلموا أن صلاتكم وزكاتكم يرجع نفعها إليكم ، فإن ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ) أيّاً كان هذا الخير (تَجِدُوهُ) أي تجدوا ثوابه، أو تجدوا نفس العمل (عِندِ اللَّهِ) فلا يضيع عملكم (إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).عالم.

----------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ)...

«الود» هو إظهار الحب والمراد هنا هو التمني الذي يظهر على أعمالهم، وذلك بإثارة الشبهات ليشك المسلمون في دينهم، أو بالمؤامرات التي تزلزل ضعاف الإيمان، نظير قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالَاً شدِيدًا)(1) .

الثاني: قوله تعالى: ﴿حَسَدًا).

«الحسد» هو تمني زوال النعمة عمّن يستحقها - ولو لم يردها لنفسه -. ولعل الآية الشريفة تشير إلى أن سبب عدم قبولهم للإسلام ثم 1

ص: 340


1- سورة الأحزاب الآية: 11

مكائدهم على المسلمين هو الحسد الكامن في نفوسهم مع علمهم

بالحق .

وقد ظهر هذا الحسد في أعمالهم ابتداءً من إثارة الشبهات وانتهاءً إلى إثارة الحروب، قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَلَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِةِ) (1).

ثم إن منشأ حسدهم هو إرادتهم، كل خير لهم لا لغيرهم، وخاصة النبوة كما مرّ في قوله تعالى: ﴿مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب وَلَا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ) (2).

الثالث: قوله تعالى: (مِنْ عِندِ أَنفُسِهِم).

«من» إما يتعلق ب- «حسداً» أي الحسد ناشئ من أنفسهم، فيكون تأكيداً، وإما يتعلق ب- «ودّ» أي ودّهم لرجوعكم كفاراً لم يكن لأجل الحق بل بسبب سوء سرائرهم وفساد باطنهم .

الرابع: قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).

هذا التبين إما لأجل انطباق الصفات التي كانوا يجدونها في التوراة على محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - وهذا كان يعلمه علماؤهم وإن كانوا يخفونه عن العوام -، وإما لأجل رؤيتهم المعجزات الباهرات من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، قال تعالى : (الَّذِي

يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاتهِ وَالإنجِيلِ)(3).

الخامس : قوله تعالى: ﴿فَاعْفُواْ). 7

ص: 341


1- سورة النساء، الآية: 54.
2- سورة البقرة الآية: 105
3- سورة الأعراف الآية: 157

«العفو عدم المؤاخذة، بإسقاط ما يستحقه الغير من العقوبة .

دلت الآية بأن المسلمين كانوا يتمكنون من الانتقام من اليهود، إذ لا معنی لأمر العاجز بالعفو، ولعل سبب العفو هو تحبيب قلوبهم إلى الإسلام، فإنهم حين يشاهدون سماحة المسلمين وعدم رد الإساءة إلّا بالإحسان لعلهم يرجعون إلى رشدهم .

أو لعدم المصلحة في الانتقام في بداية الأمر حتى تشتدّ شوكة المسلمين فيتمكنون من المؤاخذة بأقل الأضرار .

أو لإتمام الحجة، فإن الانتقام منهم قبل ظهور سوء سريرتهم وانكشاف مؤامراتهم لعله كان يسبب تصور البعض بأن الانتقام منهم لم يكن إلا بسبب معتقداتهم مع أن الإسلام :شرع: ﴿لَاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(1).

أو لإعطائهم فرصة أخرى، فإن الله لا يأخذ المخالفين بأول مخالفة، بل يؤخرهم علهم يتوبون، لطفاً ورحمة منه، أو لغير ذلك.

السادس: قوله تعالى: ﴿وَأَصْفَحُوا).

«الصفح» هو ترك التوبيح وعدم العتاب، وإزالة أثر عدم الارتياح من صفحة الوجه، وأصله بمعنى ظاهر الجلد ومنه صفحة الوجه، ،والمصافحة والصفحة، وتصفح الكتاب.

والصفح هو فوق العفو، فإن الإنسان كثيراً ما يعفو عمن ظلمه لكنه يهجره أو يظهر على وجهه أثر ما في نفسه من الإعراض وتغير اللون ونحوهما، وقد يعاتب فيظهر على لسانه، وذلك قد يكون مانعاً على .

ص: 342


1- سورة البقرة، الآية: 256 .

صفاء النفوس ونسيان الأخطاء، ولكن الصفح مقرب للقلوب قال تعالى :

(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)(1).

وبالطبع فإن العفو والصفح لا يسبب غفران ذنبهم، فإن غفران الذنب بحاجة إلى تنازل صاحب الحق عن حقه الأخروي وتوبة المذنب، فإن مجرد تنازل صاحب الحق عن حقه الدنيوي بعدم المطالبة به، لا يعني تنازله عن حقه الأخروي ولذا ضم الغفران إلى العفو والصفح في قوله تعالى: ﴿وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمُ).

السابع: قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمرِهِ).

أمر الله قد يكون تكوينياً، بأن يهدي بعضهم إلى الإيمان أو يبيدهم أو يذلهم، وقد يكون تشريعياً بالإذن في القتال أو الإجلاء أو أخذ الجزية منهم .

وفي الآية دلالة إلى أن العفو والصفح ليس بشكل مطلق بل إنما شرع لمصلحة، فإذا تبدلت المصلحة جاز أو وجب أخذهم بذنوبهم .

قال تعالى: ﴿أَذِنَ لِلَّذِينَ يُقْاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (2) ، وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَئِكن

يَؤَخِّرُهُمْ)...(3).

الثامن: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

لعل الوجه في تكميل الآية ببيان قدرة الله تعالى على كل شيء هو : .

ص: 343


1- سورة الشورى، الآية: 40 .
2- سورة الحج، الآية: 39.
3- سورة النحل، الآية: 61.

1 - إنه تعالى يدعو إلى دينه بما هو أحسن بالحكمة، فتارة يأمر بالعفو والصفح، وأخرى بالمُؤاخذة بأشكال مختلفة - من القتل والجلاء والجزية ونحوها - لأنه قادر على كل شيء، ومنه التشريع بالمصلحة.

2 - أو لأن أمره بالعفو والصفح ليس لأجل العجز بل لأجل المصلحة.

3 - أو بمعنى أن عليكم الصبر فإن الله قادر على أن يجعلكم أقوياء بحيث تتمكنون من مقابلتهم بالمثل بأقل الخسائر أو لغير ذلك .

التاسع: قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَوٰةَ) .

لما أمر الله تعالى بالعفو والصفح، أمر المسلمين بالصلاة والزكاة لتجاوز آثار تخريب أهل الكتاب وللغلبة عليهم.

فأما الصلاة فإنها توجب توثيق عرى الإيمان وتربط الإنسان بالقوة غير المتناهية، حيث إنها تسبب اطمئنان القلب فلا يتأثر بالشبهات، وتُعين الإنسان على الصبر وتحمل الأذى، كما قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةُ).

وأما الزكاة: فإنها ترفع حاجة الفقراء، كي لا يبقى منفذ يدخل منه أهل الكتاب باستغلال فقرهم ليدعوهم إلى الكفر أو لتحويلهم عناصر تخريب في المجتمع الإسلامي.

وأيضاً فإن الإنسان عليه أن يواصل طريقه ويعمل حسب البرنامج المرسوم ،له فعليكم بعد العفو عنهم ، الاستمرار في برنامجكم العبادي والاجتماعي فإن في ذلك تقوية للقلب وتجاوز آثار التخريب.

ص: 344

العاشر: قوله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم)...

بعد ذكر الصلاة والزكاة، تم التعميم بكل أعمال الخير، وأنها مذخورة عند الله تعالى.

والعلم بذلك يوجب سكون النفس واطمئنانها وعدم تأثرها بالمشككين.

وفي الآية إشارة إلى أن أعمال الخير إنما هي إرسال الإنسان زاداً لنفسه قبل قدومه إلى الآخر ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم) .

كما أن فيها إشارة إلى تجسيد الأعمال حيث قال تعالى: ﴿تَجِدُوهُ﴾ أي تجدوا نفس العمل كما قال تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً) (1) ، وقال سبحانه: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) (2) .

ومن الواضح أن ذلك من باب المقتضي أي بشرط بقاء الإنسان على الإيمان والعمل الصالح إلى حين موته أما إذا كفر فإن عمله يحبط قال تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (3)، وكذلك بعض الذنوب تبطل الأعمال، قال سبحانه: ﴿وَلَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنْ وَالْأَذَى) (4)..

ص: 345


1- سورة الكهف، الآية: 49.
2- سورة آل عمران الآية: 30.
3- سورة الزمر، الآية: 65.
4- سورة البقرة، الآية: 246 .

ص: 346

فصل مشتركات اليهود والنصارى والمشركين في أسباب الانحراف

ص: 347

ص: 348

الآيتان 110 - 111

فصل مشتركات اليهود والنصارى والمشركين في أسباب الانحراف

من هنا - فما بعد - يتم ذكر أُمور من أسباب الانحراف، اشترك مع اليهود غيرهم فيها كالنصارى والمشركين، ولعل التكميل بهذا التعميم للإشارة إلى اشتراك الجميع في أسباب الانحراف فالأمر ليس منحصراً في بني إسرائيل وإنما ذكروا كمثال فزعموا أن الحق منحصر فيهم، ثم منعهز عبادة الله ، ثم انحرافهم في التوحيد، ثم انحرافهم في النبوة.

الأمر الأول

(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «110» وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ «111»).

110 - ﴿وَقَالُوا) أي اليهود والنصارى ، فقالت اليهود: ﴿لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا) أي يهودياً، وهود جمع هائد بمعنى التائب الراجع إلى الحق، (أَوْ نَصَارَى) أي قالت النصارى لا يدخل الجنة

ص: 349

غيرهم (تِلْكَ أَمَانِیُّهُمْ﴾ جمع أُمنية بمعنى الرغبة ، وجمعها - مع أنها أمنية واحدة - تأكيداً، (قل) يا رسول الله (هَاتُوا) أي أحضروا (برْهَانَكُمْ) على عدم دخول غيركم الجنة، والأمر تعجيزي لعدم تمكنهم من إتيان البرهان (إن كُنتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم.

111 - ثم أبطل الله تعالى قولهم (بَلَى) دخول الجنة له شرطان من توفر ذلك فيه دخلها وإن لم يكن منكم، وهما: (مَنْ أَسْلَمَ) أي أخلص ﴿وَجْهَهُ لِلَّهِ) كناية عن انقياده وهذا يرتبط بالمعتقد، ﴿وَهُوَ مُحسِنُ) في عمله، ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ أي في الآخرة ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من مكروه مستقبلي كالعذاب (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) من مكروه ،فعلي، أو عند الموت، فإن خوف المؤمن وحزنه يعتبر لا شيء مقابل حزن وخوف الكافر.

واشتملت الآية على البرهان للمدعى - وهي عدم انحصار الجنة بهم ، وذلك لأنه بعد ثبوت وجود الجنة يحكم العقل بأن الذي يستحقها هو المؤمن المحسن.

----------------------

بحوث:

الأول: قوله تعالى: ﴿لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ)....

قد مرّ في توضيح الآية 94 أنّ اليهود والنصارى - حالياً - لا يعتقدون ،بالآخرة، ويزعمون أن الموت نهاية الإنسان، ولم تذكر الآخرة في الإنجيل المحرف الحالي أصلاً، وقد ذكرت في التوراة المحرّف مرة

ص: 350

واحدة - على ما قيل - ويهود اليوم يقولون إن المراد منها الذكر الحسن لا الثواب والعقاب!!

فقول يهود و نصارى ذلك اليوم بأنه: (لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ

هُودًا أَوْ نَصَارَى) يحتمل أموراً، منها:

1 - إن بعض مذاهبهم التي كانت سائدة في صدر البعثة كان فيها الاعتقاد بالآخرة.

2 - أو هو تعليق ،فرضي، أي إن كانت هنالك جنة فهي خاصة بنا .

3 - أو لعلمهم بصدق الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كانوا يعلمون بوجود الآخرة، لكنهم لتعنتهم ما كانوا يؤمنون ولكن كانوا يتمنون أن تكون لهم خالصة دون غيرهم.

الثاني: قوله تعالى: (هُودًا أَوْ نَصَارَى).

في الآية إيجاز بديع، وإنما ذكرهما معاً لوضوح أن اليهود أعداء للنصارى فلا يريدون الجنة لهم، وكذلك النصارى أعداء اليهود فلا يقولون بأن الجنة لهم .

و«هود» جمع هائد أي التائب الراجع إلى الحق، مشتق من «هاد يهود هوداً»، كقوله: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ) (1) ، ولعل هذا الفعل هو هذا الفعل هو اشتقاق من اسمهم حيث إنهم ينسبون إلى «يهوذا» أحد أبناء يعقوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

ونصاری جمع نصران مثل سكران و سكارى، ولعله مشتق من کلمة «ناصرة» المدينة التي سكنها عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ لفترة . .

ص: 351


1- سورة الأعراف الآية: 156.

ومن هذه الآية الكريمة ، ألحقت النصارى باليهود في الأساليب الباطلة التي اشتركوا فيها مع اليهود.

الثالث: قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أَمَانِیُهُمْ).

أي تلك رغبتهم، وهي رغبة كاذبة لعدم استنادها إلى دليل بل البرهان ضد رغبتهم .

ثم إن الإتيان بالجمع في «أمانيهم» مع أن الأمنية واحدة هي انحصار الجنة بهم، يحتمل وجوهاً منها :

1 - إن جمع ما حقه الإفراد يفيد تأكيداً ، أي إن هذه الأمنية كانت قوية جداً في نفوسهم أخذت منهم كل مأخذ، فلذا جاءت الأمنية بصيغة الجمع لبيان تأكدها في قلوبهم قيل : إن الجمع يفيد - بوضعه - الزيادة في الآحاد ، فنقل إلى تأكيد الواحد وإبانة زيادته على نظرائه، نقلاً مجازياً بديعاً (1) .

2 - الجمع باعتبار أمنية كل واحد واحد من اليهود والنصارى، فهي مجموعة أمانٍ متعددة بتعدد نفوسهم، وإن كان مؤداها واحداً.

3 - إن أمنية اليهود تختلف عن أمنية النصارى، فكل منهما يريد الجنة خالصة له، ويجوز جمع المثنى إذا اضيف إلى ضمير التثنية أو الجمع كما في قوله تعالى: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (2) فجمع اليد مع أنها مثنى.

4 - أو أن هنالك أمان متعددة بإضافة أصحاب سائر الملل والنحل الفاسدة إلى اليهود والنصارى، فتأمل. .

ص: 352


1- حاشية الكشاف ج 1، ص 177.
2- سورة المائدة، الآية: 38.

الرابع: قوله تعالى: (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)...

دلت الآية على لزوم اتباع الدليل والبرهان في أصول الدين وكل ما لا دليل عليه فهو باطل، لأن الحق الصحيح له البرهان دائماً ، وأما أصحاب الملل الفاسدة فكلامهم لا يعدو المغالطة والسفسطة .

وأما في غير أصول الدين فلا يصح اتباع ما لم يقم عليه دليل - مع احتمال صحته لخفاء الدليل - كما أنه في أحكام الشرع لا يجوز إلا الأخذ عن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل بيته عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ ، وكل ما لم يخرج من بيوتهم فهو باطل - حتى وإن طابق الواقع - لأن الأخذ منهم جزء من موضوع الأحكام الشرعية، نظير القطع الموضوعي، ولبحث هذا الأمر مجال آخر .

و«البرهان» هو الدليل الصحيح الذي يقصد قائله الاستدلال به.

الخامس قوله تعالى (بَلَى).

(بلى) تستعمل في جواب الاستفهام، أو في إثبات ما نُفي، وهؤلاء نفوا دخول غيرهم الجنة، فكان الجواب هو إثبات دخول غيرهم.

أو أنها جواب سؤال مقدر ، وهو «أليس يدخلها أحد» أو «هل يدخلها غيرهم»؟

السادس: قوله : (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ)....

(أَسْلَمَ وَجْهَهُ) كناية عن الخضوع والانقياد، وهذا يرتبط بالاعتقاد، ومعناه الإيمان بالله تعالى، كما أن قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ) يرتبط بالعمل الصالح.

والمعنى أن الجنة ليست بالأماني الباطلة لليهود والنصارى - ولا أماني غيرهم - تلك الأماني التي لا برهان عليها ، بل البرهان يدل على أن الجنة

ص: 353

ترتبط بالإيمان والعمل الصالح، فمن يريد أجراً من شخص لا يعتقد به ولا يعمل في سبيله فإن أمنيته باطلة، أما أن تعرف المنعم عليك وتؤمن به

وتطيعه فيما يأمرك من الأعمال الصالحة فإنك تستحق أجراً منه .

ثم إن قوله : (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) يراد به أسلم نفسه، وإنما خص الوجه بالذكر لأنها أشرف الجوارح، وإذا أسلمها فقد أسلم نفسه البتة.

والحاصل أن اليهود والنصارى قبل نسخ شريعتهم وكذلك المسلمون يستحقون الجنة بالإيمان والعمل الصالح لا بغيرهما ، كما مرت الإشارة إليه في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (1) .

السابع: قوله تعالى: (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)

الخوف هو من مكروه مستقبلي، والحزن من مكروه فعلي ولذا قالوا : «الخوف من المتوقع والحزن من الواقع».

إن قلت : نشاهد كثيراً خوف المؤمنين وحزنهم؟

والجواب : إن خوف وحزن المؤمن كالعدم إن قيس بخوف وحزن

الكافر.

أو يقال إن المراد الخوف والحزن في الآخرة، فأهل الجنة لا يخافون من المستقبل ولا يحزنون على حاضرهم، ولذا قيل المراد بالخوف هو من العذاب وبالحزن عند الموت . .

ص: 354


1- سورة البقرة، الآية: 62.

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

113 -(و) نتيجة زعمهم انحصار الحق فيهم ، فقد (قَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ) يعتد به من الدين فكل قولهم باطل (وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ) (و) الحال أنهم من أهل العلم (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) وفيه ما يأمرهم بخلاف ما يقولون، ويعلمون بصحة بعض ما قالته الطائفة الأخرى، (كَذَلِكَ) أي مثل هذا القول (قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) كالمشركين (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) حيث أنكروا كل الشرائع - ومنها الإسلام، وهذا توبيخ لأهل الكتاب حيث صاروا العنادهم كالجهلة، وإبطال لقول من زعم أن عدم قبول أهل الكتاب للإسلام دليل على عدم صحته، (فاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) جميعاً ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ) حيث لا تبقى شبهة لأحد في حكمه ويضطر الجميع إلى قبوله - حتى المعاند - (فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين.

ص: 355

----------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ)

الآية مضافاً إلى تأكيدها على أن هؤلاء لأنانيتهم وعنادهم يريدون حصر الحق فيهم أيضاً جواب شبهة وهي أن الإسلام لو كان حقاً لاعترف به اليهود والنصارى - وهم أهل كتاب !!

والجواب هو أن مجرد تلاوة الكتاب لا توجب صحة إنكارهم، وذلك لأن اليهود ينكرون على النصارى وكذلك العكس وكل واحد منهما أهل كتاب، فلو كان إنكارهم معتبراً لبطلا معاً .

إذاً فإن إنكارهم للإسلام لا اعتبار به .

وسب إنكار كل طائفة ما عليه الطائفة الأخرى، هو العناد واللجاج والمعاند لا اعتبار لكلامه، لأنه ينبذ الحق وراء ظهره - حتى وإن علم به .

وفي الآية دلالة على لزوم الإنصاف وقبول الحق الذي تقول به الطوائف الأخرى، لا لأنه قولها، بل لأجل أنه حق، وأن لا يدع الإنسان نفسه تنساق وراء الأنانية والكبر، قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُو)(1).

الثاني: قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَاب).

المراد نوع الكتاب ويمكن توضيحه بوجوه :

1 - أي يعلمون أن كلا منهما على شيء من الحق، فالنصارى يعتقدون بموسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ويصدقون بالتوراة ، إذاً فاليهود على شيء من الحق،

ص: 356


1- سورة المائدة، الآية: 8.

كذلك اليهود يعلمون بهذا التصديق والاعتقاد، إذاً فالنصارى على شيء من الحق .

2 - وكذلك من آمن بكتاب من كتب الله تعالى عليه أن يؤمن بسائر الكتب، لأن كل واحد منها يصدق ،الآخريات، فإن المُرسل واحد ولذا قال تعالى: (ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(1).

3 - هم أهل العلم وأهل العلم يجب أن لا ينابذ بعضهم بعضاً، بل إن أرادوا الجدال عليهم أن يكون بالتي هي أحسن، ومقارعة الحجة بالحجة، لا بالتهريج والتسقيط والتسفيه ونحوها.

4 - في الكتاب ما يأمرهم بخلاف ما يقولون .

الثالث: قوله تعالى: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

أي كقول اليهود والنصارى بعضهم ضد بعض، قال المشركون حول المسلمين، أو قالوا حول كل أهل الكتاب بل الآية عامة تشمل حتى الملحدين الذين قالوا مثل ذلك لأهل كل دين .

والحاصل أن الآية دلّت على إبطال زعم بعض المشركين بأن الإسلام لو كان حقاً لاعترف به أهل الكتاب وإن عدم اعترافهم لا قيمة له لأن منشأه اللجاج والعناد ولذلك ينكر بعضهم على بعض، فاليهود ينكرون على النصارى دينهم وكذلك العكس . .

ص: 357


1- سورة البقرة الآية 285.

كما أن في الآية توبيخ كلا الطائفتين، وأنهم بعنادهم صاروا كالجهال من غير فرق، وهذا شأن العناد واللجاج، ويخسر بسببه العالم ويتحول إلى جاهل .

الرابع: قوله تعالى: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

أي يحكم بين اليهود والنصارى والجهال بل وغيرهم والله سبحانه قد حكم بينهم في الدنيا بإقامة البينات والحجج، ولكن لا يقبلها هؤلاء ولهم مجال لإنكارهم - ولو من باب العناد ، لكن في الآخرة يكون الفصل بحيث لا تبقى شبهة عند أحد، فالجميع يعرف هناك الحق من الباطل، ويرى الكل عياناً من يدخل الجنة ومن يدخل النار ، فهنالك يعلم اليهود أن عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ حق، والانجيل غير المحرف حق، وتعاليم المسيح حق، كما أن النصارى يعلمون أن بعض ما يقوله اليهود حق، والجميع يشاهد أن الإسلام حق وأن من ابتغى غيره خاسر لا محالة.

ص: 358

الآيتان 114 - 115

الأمر الثاني من أسباب الانحراف محاربة العبادة وأماكنها

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ «114» وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ «115»).

114 - ﴿وَمَنْ) أي شخص (أَظْلَمُ) أكثر ظلماً (مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ) كالمسجد الحرام وبيت المقدس من (أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَسَعَى فِي خَرابِهَا) خراباً للبنيان أو خرابها معنوياً بمنع المصلين عنها لثلا تعمر بطاعة الله، (أُولَئِكَ) المانعون (مَا كَانَ لَهُمُ) أي لم يشرّع لهم (أَن يَدْخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَ) من عقاب الله لا مستهترين مخرّبين، ولكنهم لم يمتثلوا أوامر الله تعالى فلذا يعاقبهم (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْىٌ) أي ذلة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

115 - (و) إن منعوا ذكر الله في المساجد فإن ذلك لا يؤثر على عبادة المؤمنين، لأنه (وَاللَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي كل الجهات

ص: 359

(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا) وجوهكم بمعنى أي مكان توجهتم إليه لذكر الله (فَثَمَّ) أي في ذلك الجانب (وَجْهُ اللَّهِ) أي طريق للوصول إليه، بمعنى إحاطة

علمه وقدرته بكل مكان، فأينما توجه الإنسان فقد توجه إلى الله تعالى ويدل على ذلك: (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعُ) علماً وقدرة، فلذا لا تَحدّه جهة من الجهات (عَلِيمٌ) بعبادتكم فلا ينحصر علمه بكم لو عبدتم في المساجد ، بل في أي مكان وأية جهة توجهتم إليه فإنه عالم بكم.

-----------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ)

أعظم الذنوب وأشدها هو الاستكبار على الله تعالى، ومحاربته

ومصاديق الاستكبار متعددة ولذا كان مرتكب أي منها هو أظلم الناس .

فلذا وردت لفظة (أَظْلَمُ) لعدة من الكبائر كالافتراء على الله، أو تكذيب آياته أو الإعراض عنها ، أو كتمان الشهادة على صحة النبوة، كذلك هذه الآية منع ذكر الله في المساجد وتخريبها، فكل ذلك يرجع إلى الاستكبار على الله تعالى ومحاربته. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ) (1) . وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا)(2).

ص: 360


1- سورة البقرة، الآية: 140.
2- سورة الكهف، الآية: 57

الثاني: قوله تعالى: ﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ) .

فسرت المساجد بأنها بيت المقدس أو المسجد الحرام، - وإنما جاء بصيغة الجمع لسعة المسجدين ولصحة السجود في أي موضع منهما -، أو معنى المساجد مكة المكرمة أو كل الأرض - لأن التراب محل السجود-.

وكل ذلك من باب التفسير بالمصداق أو بيان لشأن النزول، ومن المعلوم أن شأن النزول لا يخصص العموم ولا يقيد الإطلاق، وكما يقال «خصوصية المورد لا تخصيص الوارد».

الثالث: قوله تعالى: (أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ).

إما بدل عن «مساجد» أي ومن أظلم ممن منع ذكر اسم الله في المساجد.

وإما مفعول ثان ل- «منع» بحذف حرف الجر أي منع المساجد من

الذكر، فيكون المراد من المساجد روّادها .

وإما مفعول لأجله بتقدير كراهية»، أي منع المساجد كراهية ذكر

اسم الله، والأول أقرب.

ومنع ذكر اسمه تعالى قد يكون بتعطيل المسجد، وقد يكون بذكر

أسماء الأنداد والأصنام - بل ولعله يشمل حتى ذكر الظالمين -.

ويؤيد ذلك أن المشركين لم يمنعوا ذكر اسم الله بشكل مطلق، بل

منعوا التوحيد وإلا فهم كانوا يذكرونه تعالى مقترناً بأصنامهم.

والوجه في ذلك أن الشرك ليس ذكراً لله تعالى أصلاً بل يضاد ذكره،

فتأمل.

ص: 361

الرابع: قوله تعالى: (مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفينَ).

1 - الأظهر أن معنى الآية : هو أن الله تعالى لم يشرع على الناس تخريب المساجد ومنع ذكره فيها، بل شرّع دخول المسجد بالخضوع والخشوع والخوف منه تعالى، فالمعنى أولئك لم يحق لهم إلا الدخول الخوف منه ،تعالی نظیر قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ)(1) ، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَان لِمُؤمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَاً)(2).

2 - وقيل : هو أمر تكويني فالذي يمنع ذكر الله في المساجد لعلمه

بقبح عمله خائف من عقابه تعالى، أو بمعنى أن نتيجة عملهم هو الخوف

من العقوبة فكل من هدم المساجد أو عطلها يصاب في الدنيا بخوف وهو أثر وضعي لهذا الذنب، فإن الذنوب لها أثران تكليفي كالجلد في الزنى، ووضعي وهو آثار الذنب كقسوة القلب وقطع الرزق وتعجيل الموت ونحوها مما هي مذكورة في الروايات .

3 - وقيل : هو إخبار مستقبلي، تحقق حين فتح مكة حيث مُنع المشركون من دخول المسجد الحرام كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)(3) فلم يكونوا يدخلونه إلا خائفين من الطرد أو انكشاف الأمر ، وكذلك اليهود والنصارى لمّا منعوا من دخول بيت المقدس بعد الفتح !!

الخامس: قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)..

ص: 362


1- سورة التوبة، الآية: 17 .
2- سورة النساء، الآية: 92
3- سورة التوبة، الآية: 28.

أي الأرض كلها، فإن كل مكان هو مشرق لمكان ومغرب لمكان آخر ولذا قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) (1)، وحيث كانت الأرض كلها الله تعالى فلا يتصور المانعون المخربون بأنهم بمنع المساجد وتهديمها يتمكنون من منع ذكر الله تعالى، فإن الأماكن كلها لله

تعالى، وذكره يشرّع في كل مكان، فالمشركون منعوا الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ والمسلمين من المسجد الحرام، لكن تحولت الهجرة إلى مفصل تاريخي هام في تاريخ الحضارة الإنسانية وعلت كلمة الله تعالى ودخل الناس في دين الله أفواجاً .

كما أن فيه تسلية للمسلمين بأن التوجه إليه لا ينحصر في بعض الأمكنة فلئن منعوا منها فإن الأرض كلها تتحول إلى مسجد لهم .

السادس: قوله تعالى (فَثَمَّ).

«ثُمَّ» يشار بها للبعيد، سواء كان بعيداً مكاناً، أم بعيداً عن العقول والأوهام - حتى وإن كان أقرب من حبل الوريد ، فعن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (من تعاطى ثُمَّ فقد هلك) (2) أي من تفكر في ذات الله انحرف، بل اللازم التفكر في آثار عظمته لأن الإنسان يتضاءل أمام مخلوقاته العظيمة، فإذا نظر إليها وعلم بأنها مخلوقاته فإنه سيعلم بأن الله أعظم منها لأنه خالقها (3).

السابع: قوله: ﴿وَجْهُ اللَّهِ).

يستعمل الوجه بمعنى طريق الوصول إلى الشيء باعتبار أن الوجه .

ص: 363


1- سورة المعارج، الآية: 40.
2- أصول الكافي، باب النهي عن الكلام في الكيفية / الحديث العاشر.
3- للتفصيل راجع شرحنا على أصول الكافي.

طريق لمعرفة الأشخاص، ولذا فسره البعض هنا بالقبلة أي أينما توجهتم فهنالك القبلة .

وفي مجمع البيان «والوجه : هو مستقبل كل شيء، ووجه الإنسان : مُحيّاه، ويقال وجه الكلام تشبيهاً بوجه الإنسان لأنه أول ما يبدو منه ويعرف به، ويقال هذا وجه الرأي : أي الذي يبدو منه ويعرف به، والوجه من كل شيء: أول ما يبدو فيظهر بظهوره ما بعده، وقد استعملت العرب لفظة وجه الشيء وهم يريدون نفسه إلا أنهم ذكروه باللفظ الأشرف والأنبه ودلوا عليه ،به كما قال سبحانه: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ) أي إلا هو ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) أي ربك» (1) .

وفي الآية دلالة على أن الله تعالى ليس في مكان معين، كما زعمت

المجسمة بأنه في جهة خاصة من السماء. كما دلت على إحاطة علمه وقدرته بكل الأماكن.

الثامن: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

(وَاسِعٌ) بمعنى :

1 - أن ذاته لا تُحَدّ بمكان، فإذا أمر بالتوجه إلى مكان معين كالكعبة، فليس ذلك لأنه محدود بها بل الحكمة اقتضت ذلك .

2 - وبمعنى أن علمه وقدرته وسعتا كل الأماكن وكل الأشخاص، فالكافر المانع لا يمكنه الفرار من حكومته تعالى، ولا المؤمن الممنوع يخفى عليه

3 - وبمعنى: أن رحمته شملت عباده المؤمنين، فشرع لهم التوجه إليه من أي مكان وإلى أية جهة فهو يريد التوسعة على عباده واليسر بهم . 7

ص: 364


1- مجمع البيان، ج 1، ص 471 ، والآيتان سورة القصص: 88 والرحمن: 27

4 - وبمعنى الغني، أي هو لا يحتاج إلى عبادتكم بل المحتاج أنتم.

(عَلِيمٌ﴾ أي يعلم بأحوالكم فلا يحصر الأمر بمكان العبادة بل يمكنكم عبادته في كل مكان، كما أنه يعلم بالمصالح ولذا أمر بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فلا معنى لإشكال اليهود على تحويل القبلة فإن الذي جعل بيت المقدس قبلة لمصلحة هو الذي حولها المصلحة أُخرى .

التاسع: ذكروا مجموعة من الأحكام الشرعية المرتبطة بهذه الآية الشريفة - وإن كانت دلالتها على بعضها هي بالإخبار كما أن بعضها محل خلاف.

منها : يجوز للمتطوع الصلاة على راحلته في السفر ولو خلاف اتجاه

الكعبة .

منها : أن المتحير في القبلة يصلي بأي اتجاه، وإن تبين عدم توجهه

إلى القبلة فإنه لا يعيد النافلة أما الفريضة فإن كان في الوقت أعادها .

ومنها : عدم جواز دخول الكفار إلى المساجد بمعنى منعهم منها ووجوب إخراجهم .

ص: 365

الآيتان 116 - 117

الأمر الثالث الشرك

(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانتُونَ«116» بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن

فَيَكُونُ)

116 - ﴿وَقَالُوا) اليهود والنصارى (أتَّخَذَ اللَّهُ) جعل لنفسه (وَلَدًا) فقالت اليهود: عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله وشاركهم في هذا الزعم المشركون حيث زعموا أن الملائكة بنات الله ،(سُبْحَانَهُ) هو منزه عن هو منزه عن ذلك (بَل) هو غير محتاج إلى ذلك إذ (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) كلهم ملكه و (كُلٌّ لَهُ قَانتُونَ) أي خاضعون.

117 - والولادة من غير أب أو ظهور بعض المعاجز من هؤلاء ليس دليلاً على كونهم أبناء الله، لأن اللَّه (بَدِيعُ) مبدع وخالق من غير مثال (السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) فكما خلقها من غير مثال كذلك خلق هؤلاء، (إذَا قَضَى) وأراد (أَمْراً) شيئاً (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) أي بمجرد إرادته يوجد الشيء بلا حاجة إلى مقدمات.

ص: 366

--------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا).

«الاتخاذ» من الأخذ وضُمِّن معنى الجعل، ولعل فيه إشارة إلى أن أصل هذا الزعم كان لإرادتهم تشريف هؤلاء فزعموا التبني، ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا) (1) أي لا يليق به، وقال سبحانه : (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ «4»)(2) ثم تطوّر هذا الزعم عندهم إلى حد زعم الولادة الحقيقية، قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ«151» وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (3) . والآيات التي تتحدث عن نفي الولد عنه تعالى تصدت للرد على كلا الزعمين - زعم التبني وزعم الولادة الحقيقية.

ومنشأ زعمهم لذلك أمور :

1 - كانوا يتصورون أن الولد كمال لهم، وكذلك كثرة الأولاد، قال تعالى: ﴿وَتَكَاثُرُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوَلَدِ) (4) . فزعموا أن ما هو كمال لهم فهو كمال لله تعالى !!

2 - أرادوا تشريفهم، ولم يجدوا - بزعمهم - تشريفاً أفضل من التبني، بادعاء أنهم أبناء الله، قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ (5) . ثم تطور الأمر إلى ادعاء النسب الحقيقي.

ص: 367


1- سورة مريم، الآية: 92
2- سورة الزمر الآية 4.
3- سورة الصافات، الآيتان: 151 - 152.
4- سورة الحديد، الآية: 20
5- سورة المائدة، الآية: 18

3- عدم إدراكهم لبعض الحقائق ومن طبيعة الناس إذا لم يتمكنوا من فهم حقيقة أو تحليلها بطريقة صحيحة، اختلاق تصورات وخیالات باطلة، قال تعالى: ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتِ بِغَيْرِ عِلمٍ) (1) فلما شاهدوا ولادة عیسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ من غير أب، وكذلك شاهدوا المعجزات ولم يتمكنوا من إدراك إمكان ذلك بإذن الله تعالى، لذلك ادعوا أنهم آلهة أو أبناء الله .

4 - من طبيعة الناس الغلو في الصالحين خاصة الماضين منهم، ولعله لذلك أكثر القرآن الكريم من ذكر قصص ترك الأولى الصادر عن الأنبياء، وكذلك التأكيد على أن ما صدر منهم من معجزات كانت بإذن الله وعلى نفي العلم والقدرة الذاتية عنهم بل هما إعطاء من الله تعالى لهم وأنه قادر على سلبها منهم لو أراد.

الثاني: قوله تعالى: (سُبْحَانَهُ).

«سبحان» مصدر، وهنا هو مفعول مطلق أي أسبّحه تسبيحاً حذف

الفعل وأضيف المصدر إلى ضمير المفعول.

وهو بمعنى التنزيه عما لا يليق قيل : وضُمّن معنى التعظيم أيضاً،

فيكون تنزيهاً مقترناً بالتعظيم.

وهو رد لتصورهم أن اتخاذ الولد كمال له تعالى، بل هو نقص ولذا عنه الله تعالى لأنه لا يشبه مخلوقاته وليس كمثله شيء.

الثالث: قوله تعالى: ﴿بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ).

وهذا دليل على عدم اتخاذه الولد لأن الولد بالنسب يستحيل في حقه تعالى، لأنه انفصال جزء من الأب وتحوله إلى ابن، وهو تعالى لا .

ص: 368


1- سورة الأنعام، الآية: 100.

جزء له ولا معنى لانفصال شيء منه، ولا شيء يشابهه ويشاكله، وقد دلت الأدلة العقلية أنه لا سنخية بينه وبين موجود آخر، مع أنه من الواضح وجود السنخية بين الوالد والولد .

وأما الولد بالتبني، فإنه إما لحاجة الوالد، أو لحاجة الولد :

والله تعالى هو الغني المطلق، وفي آية أخرى: ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِّىُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (1) .

والإنسان يحتاج إلى الولد عاطفياً أو لرغبته في البقاء والأبناء امتداد للآباء، أو لرغبته في بقاء اسمه بعد موته أو ليستعين بأبنائه، ولغير ذلك، والله تعالى الغني المطلق والمخلوقات كلها ملكه وتحت تصرفه، فلا يحتاج تعالى إلى الولد من أية جهة من الجهات.

كما أن عیسی عَلَيْهِ السَّلاَمُ وعزيراً والملائكة، يكفيهم فخراً وعزاً أنهم عبيد الله تعالى فلا يحتاجون إلى أن يتبناهم. نعم يحتاجون إلى أن يكونوا أولياء الله تعالى لذا فإن الله تعالى يتخذهم أولياء لحاجتهم لا لحاجته كما أنه خلقهم لحاجتهم لا لاحتياجه قال تعالى : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا) (2) وقال سبحانه: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (3) والمعنى إن الله يحبهم كما يحبه الخليل خليله.

الرابع: قوله تعالى: (كُلٌ لَّهُ قَانِتُونَ).

القنوت هو ،الخضوع ومن مصاديق الخضوع: الدعاء والإطاعة .

ص: 369


1- سورة يونس الآية: 68.
2- سورة البقرة، الآية: 257 .
3- سورة النساء، الآية: 125.

والاعتراف بالعبودية، وحتى المنكر له تعالى خاضع له تكويناً فهو في ملكه وسلطانه وتحت إرادته .

وفي هذا تأكيد على أنه تعالى غني وما سواه محتاج إليه، فهم لا جانسونه، فلا معنى لاتخاذ الولد - حيث إن الولد يجانس أباه في الذات وفي الصفات ..

الخامس: قوله تعالى: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ).

(بديع) صفة مشبهة تدل على الاستمرار ومعناها المبدع والإبداع : هو صنع الشيء من غير سبق مثال، فقد خلق الله تعالى الأشياء بلا مادة سابقة ولا بآلة (1) .

وهذا أيضاً دليل على عدم اتخاذ الولد فهو تعالى أبدع الأشياء كلها، فكل الأشياء - بما فيها من زعموهم أولاداً - مخلوقات له ومن الواضح عدم مجانسة المخلوق مع الخالق فلا يعقل انتساب ولد إليه (2) .

السابع: قوله تعالى: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا).

القضاء» له معنيان :

المعنى الأول: الانتهاء والفراغ كقوله: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) (3)،

وقوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ)(4). .

ص: 370


1- قد ذكرنا في شرح أصول الكافي الفرق - الاعتباري - بين الخلق والإنشاء والاختراع والإبداع. وأن صنع المخلوقات يكون بقدرة أعطاها الله إياهم، وبمواد مخلوقة وإنما فيه تغيير للصورة، فراجع.
2- للتفصيل راجع شرحنا على الكافي.
3- سورة القصص، الآية: 29
4- سورة النساء، الآية: 103.

المعنى الثاني: الحكم، سواء كان تكوينياً كقوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَات ) (1) . أم كان تشريعياً كقوله سبحانه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا

إيَّاهُ)(2).

وما ذكروه من المعاني المختلفة - أنهاها في مجمع البيان إلى عشرة معانٍ(3) - فإنما هي مصاديق أو لوازم هذين المعنيين، بل لعل المعنى الأول يرجع إلى المعنى الثاني باعتبار أن الحكم يلازمه الفراغ والانتهاء.

والحكم التكويني هو الإرادة - أي الفعل والخلق - ولذا ورد في آية

أخرى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (4) .

ثم إن هنا أمرين :

الأمر الأول: الإرادة من الله هي الفعل وليست الإرادة من صفات الذات لأنها لو كانت كذلك لزم قدم العالم، ووجود كل الأشياء معاً وفي ظرف واحد لاستحالة تخلف إرادته تعالى عن مراده، بل الإرادة من صفات الفعل بمعنى خلقه للأشياء، وقد ورد ذلك في متواتر الروايات ومنشأ إرادته هو علمه وقدرته واختياره، لأن ذاته تعالى منشأ صفات الفعل وقد ذكرنا تفصيل ذلك في شرحنا على أصول الكافي.

الأمر الثاني: في القضاء والقدر.

أما القدر : فإن الله خلق كل شيء بمقدار، أي لكل شيء قابلية 2

ص: 371


1- سورة فصلت الآية: 12
2- سورة الإسراء، الآية: 23
3- مجمع البيان ج 1، ص 488 - 490 .
4- سورة يس الآية: 82

وجودية خاصة إذا انتهت تلك القابلية انتهى ذلك الشيء، قال تعالى :

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (1) أي بمقدار وميزان.

وأما القضاء: فإنه إضافة إلى مقدار قابلية كل شيء، فإن هنالك مجموعة من الأحكام التكوينية، وهي تجري بلا تغيير وتحويل فقضاء الله بمعنى حكمه التكويني.

مثلاً من يموت غرقاً فإنه يموت بقضاء الله وقدره، بمعنى أن قدر وقابلية جسم الإنسان لعدم التنفس محدودة بدقائق معدودة، وأن الله تعالى قد حكم تكويناً بموت من لم يتنفس تلك المدة المعلومة، فكان موته غرقا بقدر وقضاء(2).

ولذا روي أن أمير المؤمنين تنحى من جدار يريد أن ينقض فقيل له :

أتفرّ من قضاء الله ؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ :

«أفرّ من قضاء الله إلى قدره» (3). أي أفر من الحكم التكويني وهو الموت أو الجرح لمن سقط عليه الجدار ، إلى القدر الذي منحه سبحانه وتعالى لجسمي حيث له قابلية الاستمرار في الحياة.

الثامن: قوله تعالى: ﴿أَمَراَ).

الأمر هنا بمعنى الشيء كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (4). .

ص: 372


1- سورة القمر، الآية: 49.
2- للتفصيل راجع (خواطري عن القرآن ج 1، ص 342.
3- شرح أصول الكافي للمازندراني: ج 8، ص 8 ، ورواه الصدوق في الاعتقادات.
4- سورة النحل، الآية: 40.

الله

و«الشيء» يساوي الموجود فكل موجود هو شيء، ولذا روي «إن

شيء لا كالأشياء» (1).

وصح إطلاق «الأمر» و «الشيء» على المعدوم، باعتبار الإيجاد فيما

بعد أو باعتبار العلم به قبل خلقه.

التاسع: قوله تعالى: (كُن فَيَكُونُ).

في الكشاف (أي أحدث فيحدث، وهذا مجاز في الكلام وتمثيل ولا قول ثَمَّ .... وإنما المعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف كما أن المأمور

المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء) (2) .

فمعنى (يَقُولَ لَهُ كُن) أي يكوّنه ويخلقه، وإنما عبّر عن التكوين بهذا

المثل لأجل أنه أسهل للفهم.

أقول : ويمكن حمله على المعنى الحقيقي، حيث إن الله تعالى خلق الكون بالتدريج وجعل أسباباً ، ولعل هذه الكلمة من الأسباب. فإن المخلوق في كل مرحلة يحتاج إلى إفاضة الوجود عليه، فكما أن الله تعالى عِلّة الإحداث فإنه علّة البقاء، فالموجود في كل مرحلة يحتاج إلى قوله تعالى: (كُن)، فالله أراد أن تكون نطفة فكانت ثم أراد أن تكون علقة فكانت ثم أراد أن تكون مضغة فكانت ، وهكذا ، قال تعالى: ﴿يَسْئَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (3) أي يطلب من الله تعالى كل شيء 9

ص: 373


1- أصول الكافي، باب إطلاق القول بأنه شيء، ج 1، ص 117.
2- الكشاف، ج 1، ص 181 .
3- سورة الرحمن الآية 29

-ذوي العقول وغيرهم - لاحتياج الكل إليه كل يوم الله تعالى في شأن من

احياء وإماتة وإيجاد وإعدام وهكذا.

ثم إن قوله تعالى : (كُن فَيَكُونُ) دل على بطلان زعمهم أن الله ولداً، وذلك من وجوه:

1 - لما رأوا ولادة عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ من غير أب، وكذلك خلق الملائكة من غير تناسل، فقد زعموا أن الله أبوه وأبوهم !!

فيقول تعالى : إن خلقهم من غير أب إنما هو لقدرته تعالى على كل شيء، فأراد خلقهم كذلك فكانوا كما أراد قال تعالى: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتَرُونَ «34» مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ (1).

2 - لما رأوا المعجزات منهم، فشاهدوا إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أو موت عزير مائة عام ثم حياته، فتصوروا أن ذلك لا يمكن

إلّا إذا كانوا أبناء الله .

فيردهم الله تعالى بأنه قدير على أن يأذن لبعض عباده الصالحين فعل

بعض المعجزات.

3- إن من شأنه الخلق بكلمة واحدة أو بالإرادة، فهو مغاير بالذات عن سائر الموجودات فلا يمكن أن يكونوا أبناء له .

وبعبارة أخرى - كما قيل - من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها. .

ص: 374


1- سورة مريم، الآيتان: 34 - 35 .

الآيتان 118- 119

الأمر الرابع رفضهم للرسالة

(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ«118» إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيمِ).

118 - (و) من مشتركات اليهود والنصارى والمشركين هو رفضهم للرسالة، وتحججهم بالحجج الواهية، ومنها : ﴿قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) الحكمة في أفعال الله (لَوْلَا) أي هلا (يُكَلِّمُنَا اللهُ) مباشرة بلا إرسال رسول، (أَوْ تَأْتِينَا ءَايَةٌ) حسب رغبتنا، عناداً، مع أنه قد أتتهم آيات فكذبوها، (كَذَلِكَ) أي كقولهم هذا (قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم) لأنبيائهم كما قالوا لموسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ : أرنا الله جهرة» (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) تأكيد وبيان ک- «كذلك» (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) فتشابه أقوالهم لتشابه قلوبهم في العناد والاستكبار، ولأن الآيات ترسل لأجل إقامة الحجة ففي الآيات السابقة الكفاية (قَدْ بَيَّنَّا) أوضحنا (الأَياتِ) لكنها لا تنفع المعاندين بل النفع (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يطلبون اليقين، وليسوا معاندين حتى يكون طلبهم تعنتَّيا.

ص: 375

119 - وقد قمت يا رسول الله بمهمتك إذ (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بشِيرًا) للمؤمنين برحمة الله (وَنَذِيرًا) للمخالفين عقاب الله تعالى فقد أديت ما عليك (و) لا مسؤولية لك عن كفرهم وعنادهم ف- ﴿وَلَا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) فهؤلاء المعاندون اختاروا ما يوصلهم إلى النار وحسابهم على الله.

------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) .

أمّا المشركون فهم جهلة وأمّا علماء أهل الكتاب فكان عدم علمهم باعتبار عدم عملهم بما في الكتاب، والعالم غير العامل هو والجاهل سواء.

أو بمعنى عدم علمهم بموازين الوحي والرسالة وجهلهم بالحكمة التي اقتضت اختيار بعض الناس لحمل الرسالة، كما قال تعالى : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (1) ، وقال سبحانه: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ویَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخيَرَةُ) (2).

وقيل : إن المراد من (لَا يَعْلَمُونَ) المشركون، بنوع من الالتفات من أهل الكتاب إلى المشركين، ثم عمّم الله تعالى الكلام إلى اليهود والنصارى بقوله: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم). كما أن قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ

ص: 376


1- سورة الأنعام، الآية: 124
2- سورة القصص الآية: 68.

لَيْسَتِ النَّصَارَى) .... كان الخطاب متوجهاً إلى أهل الكتاب ثم عمّمه بقوله:

(كذلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) .

الثاني: قوله تعالى: ﴿لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ).

أي لماذا لا يكلمنا الله تعالى مباشرة من غير توسيطك رسولاً إلينا، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) (1) . أو بمعنى أن يكلمنا الله فيشهد مباشرة بأنه رسول من قبله.

وقولهم (أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ) إما بمعنى أن تكون لنا معاجز كما للأنبياء معاجز. أو بمعنى تأتينا معجزة حسب اقتراحنا .

وإنما لم يستجب الله تعالى لطلبهم لأجل أمور منها :

1 - إنه تعالى لا يريد سوى إقامة الحجة وإتمامها عليهم، وقد تمت الحجة بالآيات المختلفة التي تكفي لكل باحث عن الحق، وأما المعاند فإنه يمكنه إنكار كل آية يراها بل ينسبها إلى السحر ونحوه، فالاستجابة لطلبهم لغو لا يصدر عن الحكيم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ«96» وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرُوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (2).

وقال سبحانه: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا ۚ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) (3)..

ص: 377


1- سورة الأنعام، الآية: 124
2- سورة يونس، الآيتان: 96، 97
3- سورة الأنعام، الآية: 25.

2 - إن بعض اقتراحاتهم كانت طلباً للمحال مثل طلب رؤية الله جهرة، ومثل (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا)(1).

3 - وبعضها لا تناسب شخصية الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مثل (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَیْتٌ

مِن زُخْرُفٍ) (2).

4 - وبعضها كانت خلاف التدبير في الكون وخلاف المصلحة قال تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ

أَتَیناهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) (3) .

والحاصل إن المعجزة ليست لعبة للمشركين حتى يطلبوا ما شاؤوا متى شاؤوا ، بل لإقامة الحجة عليهم، وقد أُقيمت بالبينات السابقة، فلو لم يكونوا معاندين لآمنوا بها، وفيها الكفاية.

الثالث: قوله تعالى: ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم).

الطبيعة البشرية ،واحدة فلذا كانت الأساليب متقاربة، فالعناد ينشأ

من الجهل وفساد الباطن، لذا كانت أقوال المعاندين متشابهة، متشابهة، وقلوبهم مشتركة في العمى والضلال، وكأنَّ قوله: ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) كالعلة لتشابه أقوالهم.

كما أن فيه إشارة إلى أن مجرد تشابه الكلام قد لا يكون دليلاً على ،العناد، بل قد يكون طلب الجاهل المستفهم كطلب المعاند، فيكون الفرق في القلوب وأما المعاندون فإن قلوبهم متشابهة في العمى والفساد. .

ص: 378


1- سورة الإسراء، الآية: 92
2- سورة الإسراء، الآية: 93
3- سورة المؤمنون، الآية: 71.

الرابع: قوله تعالى: ﴿لَقَوْمِ يُوقِنُونَ) .

«اليقين» هو القطع المطابق للواقع، وهو أخص من العلم، فاليقين لقوة موجباته لا يزول بالتشكيك أبداً بخلاف العلم حيث بعض مصاديقه

يمكن إزالتها بالتشكيك - وقد مرّ بعض الكلام في ذلك ..

والآيات التي أنزلها الله تعالى هي عامة للجميع فقوله تعالى:

(لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) لأجل جهات، منها:

1 - لأنهم المستفيدون، أما غيرهم فلا يستفيد من تلك الآيات .

2 - المراد من (يُوقِنُونَ ﴾ هم الذين يطلبون اليقين، فالمعنى بينا الآيات للباحثين عن الحق، أما المعاندون فلا علاج لهم حتى يروا العذاب الأليم.

3 - أو يكون المراد الجميع - حتى المعاند - لأن تلك الآيات توجب

يقين الكل كما قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُواً)(1).

الخامس: قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ).

فيه تسلية لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، بأنك رسولنا - سواء قبلوا أم رفضوا -، ولا يتضرر الحق بإنكار المعاندين، بل هم المتضررون .

وأيضاً فيه دلالة على أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قد أدى ما عليه، فقد كان مكلفاً بإيصال الرسالة بالبشارة والإنذار، وقد فعل، وليس من تكليفه قبولهم أو رفضهم قال تعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَعُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (2) ، وقال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)(3)..

ص: 379


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة الرعد الآية: 40 .
3- سورة البقرة الآية: 272 .

السادس: قوله تعالى: (بِالْحَقِّ).

تأكيد، لأن إرساله تعالى لا يكون إلا بالحق، والمعنى أرسلناك متلبساً بالحق، أو «الباء)) بمعنى «على» أي أرسلناك على الحق، أو بمعنى (مع) أي مع الحق، كالقرآن والمعاجز الأخرى، والشرائع، والآداب ونحوها .

وكل ما يتعلق بالرسالة فهو حق، فالإرسال - أصل البعثة - حق والرسول حق وما أرسل به - من قرآن وغيره - حق، والمُرسِل - وهو الله - حق .

ولا يضر الحق إنكار المنكرين وعناد المعاندين وخلاف المخالفين. السابع: قوله تعالى: ﴿وَلَا تُسئَلُ عَنْ أَصْحَاب الجَحِيمِ).

بيان أن الرسول لم يخفق في مهمته، بل أداها بأحسن وجه، ورفضهم أو قبولهم لم تكن ضمن مهمته .

ثم فيه تسلية للنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بأن لا ينزعج من عنادهم، فإن مصيرهم إلى الجحيم، فيعابون على إنكارهم، وصاحب الحق إذا علم بعقوبة المخالف يستقر قلبه مطمئناً، قال تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ (1) كما أن فيه دلالة على عدم إجبار أحد على قبول الحق، فكل من رفض الحق فإنما رفضه باختياره، ودخوله في الجحيم كان بسبب نفسه .

و(الجَحِيمِ) هي النار إذا شب وقودها . .

ص: 380


1- سورة فاطر، الآية: 8.

الآية-120

(وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)

120 - (و) ما دمت يا رسول الله على حق فلا تتوقع رضى أصحاب الملل الباطلة، لأنه (وَلَن تَرْضَى) أبداً (عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَصَارىٰ) حتى وإن أظهروا ذلك أو وعدوك به، (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَتَهُمْ) أي طريقتهم، إذ أصحاب الهوى يخشون الحق وأهله، لأنه يفضحهم فلذا لا يمكن أن يرضوا عنك إلا إذا صرت باطلاً مثلهم (قُلْ) لا يهمني ،رضاكم بل المهم اتباعي الحق (إنَّ هُدَى اللَّهِ) الذي نزل عليك (هُوَ الهُدَى) ولا هدى غيره، وأما ما يدعو إليه اليهود والنصارى فهو الهوى، فعليك أن ترفضه (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِى جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بأن ما عندك الهدى وما عندهم الهوى (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍ) يحفظك من عقابه (وَلَا نَصِيرٍ) ينصرك عليه.

---------------------

بحوث

الأول: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ).

ص: 381

سبب عدم رضاهم

1 - إما لزعمهم أنهم أبناء الله وأحباءه، فلا يمكنهم اتباع غيرهم.

2 - أو لأنهم كانوا أقوياء وأصحاب ثروة والقوي يرفض الضعيف - عادة ..

3 - أو لأن أصحاب الديانات والمذاهب يحاولون استمالة الآخرين نحوهم لكن لا يقبلونهم إلا إذا تبعوهم وصاروا مثلهم وهذا مشاهد عياناً، وما سوى ذلك مجرد ادعاءات زائفة، وخاصة نظرتهم إلى دين مثل الإسلام الذي يتحول إليه كثير من أتباع الديانات الأخرى.

4 - أو لشعورهم بأن الإسلام خطر على مصالحهم فلذا لا يرتاحون إليه بل كلما تمكنوا أوقدوا ناراً للحرب ضده.

5 - أو لحسدهم ولغير ذلك .

الثاني: قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم).

«الملّة» الطريقة والدين، وأصله بمعنى الثبوت، ومنه الإملاء أي إثبات الحق ونحوه بالكتابة وإنما سمي الدين بالملة لأن الطريقة ثابت نسبتها إلى صاحبها، كما يقال ملّة رسول الله أي الطريقة الثابتة عنه .

وفي الآية دلالة على استحالة إرضائهم إلا باتباع طريقتهم فمن يحاولون الآن إرضاء الشرق والغرب فإنما محاولتهم كسراب بقيعة.

كما يشاهد أن البعض يريد الجمع بين التدين وبين السير في ركب الحضارة الغربية، وهو محاولة الجمع بين النقيضين، ولا يمكن ذلك إلا بالتنازل عن المبادىء الإسلامية واتباع ،ملتهم وليس للأمر حد يقف

ص: 382

عليه بل يبدأ من الأمور الصغيرة ولا ينتهي إلا بالتخلي عن الإسلام كاملاً.

الثالث: قوله: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى).

بينت الآية الكريمة جهات متعددة منها :

1 - تعليل عدم رضاهم عنك، وذلك لأن ما عندك هو الهدى وما عندهم هو الأهواء.

2 - ودلالة على حصر الهدى بما نزل من عند الله تعالى فإن الألف واللام في «الهدى تدل على الاستغراق أي هدى الله هو كل الهدى لا هدى غيره .

وعليه فإن المعارف والأحكام وكل ما يرتبط بالدين يلزم أن تكون مستندة إلى الله تعالى إما ببيانه أو بتشريعه أو بإمضائه، وما سواها باطل الأهواء، كما روي أن الصادق أن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال : كل ما لم يخرج من هذا البيت «باطل» (1) ، أي من أمور الدين .

وأما الاجتهاد فهو في فهم النص وتطبيق الكليات على الجزئيات وأما الاجتهاد في مقابل النص، كالقياس والاستحسان ونحوهما، فهو تشريع يضاد التشريع الإلهي .

أما القياس فلأن علل أكثر الأحكام مجهولة لنا، فتعدية حكم من موضوع إلى موضوع آخر قياساً لا وجه له، بل هو مقابل النص الدال على البراءة أو الاحتياط أو نحوهما .

وأما الاستحسان فلأنّ ذوق الناس ليس ملاكاً للحكم، بل ملاكه .

ص: 383


1- بحار الأنوار: ج 2، ص 94 .

الإرادة الإلهية - التي تتعارض غالباً مع الأذواق والأهواء - فلا معنى

للاستحسان.

الرابع: قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم)....

الجملة الشرطية لا يتوقف صدقها على وقوع طرفيها - الشرط والجزاء، بل هي للدلالة على ارتباط الجزاء بالشرط على نحو القضية الحقيقية. فقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِیهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (1) ، صدق،حتى مع علمنا باستحالة الشرط - تعدد الآلهة ، واستحالة الجزاء - فساد السماوات والأرض ، وإنما كانت الآية صدقاً لأن الفساد نتيجة تعدد الآلهة على نحو القضية الحقيقية.

ونحن نعلم بأن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لم يتبع أهواءهم ونعلم بأن الله تعالى

وليه ونصيره ومع ذلك صدقت الآية ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَ هُم)...

ولعل الغرض من هذا النوع من الخطاب في القرآن هو أن لا يستثني أحد نفسه من أحكام الشرع، فمهما بلغ الناس فإنهم لا يصلون إلى درجة النبي الأعظم امام محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في المنزلة والقرب إلى الله تعالى، وله في القرآن نظائر كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (2) وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ«44» لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ«45») الآية (3).

وروي أن القرآن نزل على طريقة إياك أعني واسمعي يا جارة) (4) .

أي الغرض منه الأمة، لكن بنحو توجيه الخطاب إلى النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ .

كما في هذا النوع من الخطاب، دلالة على أن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عبدللّه .

ص: 384


1- سورة الأنبياء، الآية: 22
2- سورة الزمر، الآية: 65.
3- سورة الحاقة، الآيتان: 44، 45.
4- البحار ج 17، ص 47 .

تعالى ويعمل على مقتضى إرادته سبحانه، وفي ذلك سدّ لأبواب الغلو والتأليه .

و«الهوى» هو ميل النفس، وعادة تستعمل هذه المادة في الميل إلى

الأمور الباطلة، وأصلها بمعنى السقوط كقوله : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) (1)ومن اتبع الشهوات ومال إلى الباطل فقد سقط إلى حضيض الرذيلة.

وقليلاً ما تستعمل في الميل إلى غير الباطل كقوله تعالى: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إلَيْهِمْ) (2).

ولعل السبب أن ميل النفس غالباً إلى الباطل، وقليلاً ما يتطابق مع الحق، لذا كان على الإنسان الحذر من هواه، وجعل الحق مقياساً - طابق ميوله أم خالف -. .

ص: 385


1- سورة النجم الآية 1.
2- سورة إبراهيم، الآية: 37 .

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ«121» يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ«122» وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ«123»﴾ .

121 - ولا يحزنك عدم رضاهم عنك وعدم اتباعهم إياك فإن (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) - نوع الكتاب - كالتوراة والإنجيل حال كونهم (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) أي يتبعونه اتباعاً حقاً، بالقراءة والفهم والعمل (أُولَٰئِكَ) فقط لا غيرهم (يُؤْمِنُونَ بِهِ) كاملاً، فيصدقونك ويتابعونك وهم يكفونك ، (و) أما غيرهم، وهم (وَمن يَكْفُرْ بِهِ) بالكتاب بعدم تصديقه وبعدم العمل به (فَأَوَلَائِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ) في الدنيا والآخرة.

122 - وحيث ذكرت سلبيات كثيرة في بني إسرائيل، يتم تذكيرهم أن تلك لأعمالهم السيئة، وإلا فإن الله يريد خيرهم وصلاحهم وحباهم بنعم كثيرة (يَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤتِ أحداً من العالمين (1) ﴿وَأَنِي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) الذين كانوا في زمانكم، فإن المؤمن أفضل من غيره. .

ص: 386


1- سورة المائدة، الآية: 20.

123 - ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا) فلا يتحمل أحد عقاب الآخر، بل كل نفس بما كسبت رهينة، ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ) أي فدية تعادله لفكاكه من النار، وكذلك لا عمل هناك بل حساب فقط (وَلَا تَنفَعُها شَفَاعَةٌ) فإن الله لا يأذن في شفاعة الكافر ﴿وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) من عذاب الله، فلا الأنداد ولا الأصنام ولا المستكبرين يتمكنون من نصرتكم، إذاً فعليكم بالإيمان والعمل الصالح، وحينئذ يتقبل الله منكم ويأذن الله في الشفاعة لكم وهو تعالى ينصركم.

----------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى: (الَّذِينَ ءَاتَيْناهُمُ الكِتَابَ) .

بعد أن بين الله تعالى أن أصحاب الملل الفاسدة لا يرضون عنك حتى تتبع ملتهم ذكر أن التبليغ يؤتي ثماره في البعض منهم، فلا يذهب إرشادك إياهم سدىّ، كما أن فيه تسلية للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بأن بعضهم يتبعه وهذا يكفيه قال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (1) .

والكتاب المراد نوع الكتاب السماوي، فإن الله أنزلها لهداية جميع الناس.

ومن مصاديق الذين آتاهم الله الكتاب : بنو إسرائيل قال تعالى :

(وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِي إِسْرَءِيلَ الْكِتَابَ)(2).

ص: 387


1- سورة الأنفال، الآية: 64.
2- سورة الجاثية، الآية: 16.

وأظهر المصاديق : آل محمد «عليه وعليهم الصلاة والسلام قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (1) وبه ورد الخبر الصحيح (2).

الثاني: قوله تعالى: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) .

«التلاوة» الاتباع قال تعالى: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ، وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾(3) ، والاتباع يبدأ من القول وإلى العمل وغيرهما، فقوله: ﴿حَقَ تِلَاوَتِهِ﴾ أي الاتباع الصحيح والكامل وهو يكون بقراءته والتدبر فيه والعمل به وعدم تحريفه.

فعن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال : يرتلون آياته ويتفقهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه ويأتمرون بأوامره وينتهون ،بنواهيه ما هو - والله - حفظ آياته ودرس حروفه وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه قال الله تعالى: ﴿كِتَابُ أَنزَلْناهُ إلَيْكَ مُبَاركٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ)(4).

والحاصل أن يتعاملوا مع القرآن كما أراد الله تعالى، وأما سوى ذلك فلا يريده الله تعالى بل روي: (رب تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه) (5) .

فاليهود كانوا يتلون التوراة ولكن مع التحريف وكتمان الحقائق كإخفاء أوصاف الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. .

ص: 388


1- سورة فاطر، الآية: 32.
2- البرهان ج 1 ، ص 531 ، عن الكافي.
3- سورة هود، الآية: 17
4- البرهان ج 1 ، ص 531 عن إرشاد القلوب والآية سورة ص، الآية: 29
5- بحار الأنوار: ج 89، ص 184.

والخوارج قرأوا القرآن ولكن بلا إدراك وفهم فلم يتجاوز تراقيهم كما قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ . (1)

و(يَتْلُونَهُ) ،حال، أي الذين آتيناهم الكتاب - حال كونهم يتلونه حق

تلاوته - أولئك يؤمنون .

ويمكن أن يكون خبراً ولكن فيه معنى الشرط، فالمعنى: الذين آتيناهم الكتاب إن تلوه حق تلاوته فأولئك يؤمنون .

الثالث: قوله تعالى: ﴿أَوَلَيْكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ .

تعريض بأهل الكتاب بأنهم لا يؤمنون بالكتاب، ولا يتلونه حق تلاوته بل يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وما إيمانهم بذلك البعض إلا لتطابقه مع مصالحهم، فهم في الحقيقة اتبعوا مصالحهم ولم يتبعوا الكتاب - لا المقدار الذي آمنوا به ولا الذي كفروا به ..

وضمير «به» يرجع إلى الكتاب أي من يتلو الكتاب حق تلاوته يؤمن

بالكتاب كله ومن ضمن ما في الكتاب الإيمان برسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وبكتابه القرآن، وبالإسلام قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيِّ الْأُمیَ الَّذِى يَجِدُونَهُ، مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ) (2)

الرابع: قوله تعالى: ﴿يَابَنِي إِسْرَاءِيلَ) .

بهذا المقطع ينتهي بحث نقاط القوة ونقاط الضعف في بني إسرائيل.

وتكررت هذه المقاطع في هذا البحث ثلاث مرات، مرة في بداية

ص: 389


1- البحار ج 33، ص 334 : (قال رسول الله : قوم يخرجون من المشرق يقرأون القرآن : لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية . . . . .
2- سورة الأعراف الآية: 157

البحث في الآية الواحدة ،والأربعين وأخرى في الآية السابعة والأربعين، وثالثة هنا الآية المائة والثانية والعشرين .

أما الأولى الآية) (40 ففي بداية الحديث عن بني إسرائيل وكان بالشروع في دعوتهم إلى الإسلام.

وأما الثانية (الآية (47 ففي بداية الحديث عن تاريخهم ونقاط قطوتهم وضعفهم .

وأما الثالثة (122) فهي في ختام الحديث عن تاريخهم .

وفي كلها تذكير لهم بنعم الله عليهم ، ولعل الغرض هو أن الإسلام لا يعاديهم كأشخاص بل يريد لهم الخير والصلاح ولا ينكر إيجابياتهم، وإنما معاداتهم لأفعالهم السيئة، فإن تركوها فلا مشكلة معهم، بل زادوا فضلاً إلى ما فضلهم به الله تعالى .

لا بأس بتكرار ما ذكرناه سابقاً وهو من أدلة حقانية الإسلام، فإنه يعترف بالمقدسات الصحيحة لليهود والنصارى وعدم إنكارها، مع أن طلاب الملك والرئاسة إذا حاربهم جمع من الناس حاولوا التشويه عليهم والتعمية حتى على نقاط قوتهم وعلى تاريخهم المجيد، اليهود رغم سوء أعمالهم ومؤامراتهم على الإسلام ومحاولتهم قتل الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ونقضهم للعهد وخوضهم عدة حروب ضد المسلمين وإثارتهم للشبهات، فإن القرآن يعترف بأنبيائهم ومقدساتهم ونعم الله على بني إسرائيل، وذلك مما يستدل به على صدق الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأن القرآن كتاب أنزله الله تعالى .

الخامس: قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا)....

في الجرائم الدنيوية يمكن للإنسان التخلص منها بطرق منها :

ص: 390

1 - خطأ القضاء أو الرشوة، فيعاقب البريء بذنب المذنب، كما قد

تنفع الكفالة أحياناً .

2 - الغرامة المالية أو عمل يكفّر عن الجريمة.

3 - الوساطة من ذوي النفوذ .

4 - قوة تدافع عن المجرم كالسلطة العليا أو العسكر ونحوه .

وبالنسبة إلى الكفار لا تنفع كل هذه الأمور في الآخرة، فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى ولا فدية أو عمل يكفر عن الذنب، ولا شفاعة للكافر لأنها خاصة بالمؤمنين الذين ارتضاهم الله تعالى قال: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى (1) ، ولا أحد ينصر من أمر الله ، قال سبحانه: مَا لَكُمْ لَا نَنَا صَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) (2) لأن الملك منحصر بالله تعالى (لِمَن المُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (3) وقد مرّ بعض الكلام في الآيتين (47 - 48). ثم إن الشفاعة تأخرت عن العدل في الآية 48 ، وهنا العكس، فهنالك قال تعالى: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) وهنا قال :سبحانه: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ .

قال الفقيه السبزواري . والوجه في ذلك أن مورد الأولى في مقام تحلية النفس بالفضائل النفسانية أولاً ثم أمر الغير بها، ومورد الثانية إنكارهم النبوة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لا اله إلا باتباعه لهم ) (4) فتأمل .

ثم هنالك عدم قبول الشفاعة وهنا عدم نفعها . .

ص: 391


1- سورة الأنبياء، الآية: 28.
2- سورة الصافات، الآيتان: 25 - 26 .
3- سورة غافر، الآية: 16 .
4- مواهب الرحمن، ج 1، ص 581 .

وهناك عدم أخذ العدل وهنا عدم قبوله وهذا مما يدل على عدم التكرار وإن تشابه الظاهر، وقد مرّ البحث حول عدم وجود تكرار في القرآن .

وبهذه الآية ينتهي هذا الفصل وبه ينتهي قسم من موضوع سورة البقرة، حيث ذكرنا أن السورة ابتدأت بتصنيف الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق ثم ذكرت الخليقة والهبوط إلى الأرض، ثم ذكرت نموذجاً جمع فيه الأصناف الثلاثة وهم بنو إسرائيل، مما يرتبط بالجانب الاعتقادي ثم - في الآيات اللاحقة - تنتقل السورة إلى بحث الجوانب العملية في حياة الإنسان - فإن الحضارة تبنى على أمرين : الفكر والعمل - وفي الجوانب العملية ذكر تفاصيل أهم الأحكام الشرعية.

أسأل الله تعالى أن يوفقني للتفكر في تلك الآيات وأن يتقبل هذا الجهد المتواضع إنه سميع مجيب.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت ،مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .

سبحان ربِّك ربِّ العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

وكان الفراغ منه عصر يوم الثلاثاء رابع شهر رمضان المبارك عام 1430 في بلدة قم المقدسة.

ص: 392

الفهرس

سورة الحمد

سورة البقرة

396

المقدمة ...7

سورة الحمد

الآيات من 1 - 7 ... 11

سورة البقره

الآيات من 1 - 5 ... 19

القسم الأول من الناس ... 19

القسم الثاني من الناس ... 24

الآيتان 6 - 7 ... 24

القسم الثالث من الناس ... 27

الآيات 8 - 16 ... 27

الآيات 17 - 20 ... 36

(فصل) أركان الإيمان ... 43

الآيتان 21 - 22 ... 27

الركن الأول: التوحيد ... 45

الركن الثاني: النبوة ... 50

الآية 23 ... 27

الركن الثالث : المعاد ... 56

الآيتان 24 - 25 ... 27

ص: 396

التمييز بين المؤمن وغيره ... 60

الآيتان 26 - 27 ... 60

الاحتجاج على الكفار ... 67

الآيتان 28 - 29 ... 67

فصل الاحتجاج بخلقة آدم ... 73

فصل احتجاج آخر على الكفار خلقه (آدم) ... 75

الآيات 30 - 33 ... 75

الآيات 34 - 39 ...84

(فصل) بنو إسرائيل نموذج آخر للمؤمنين والكفار ... 97

الآيات 40 - 46 ... 75

فصل النّعم على بني إسرائيل ... 109

الأمر الأول: نعمة قيادة الأمم ... 111

الآيتان 47 - 48 ... 111

الأمر الثاني ومن نعم الله تعالى على بني إسرائيل نعمة النجاة والحرية ... 117

الآيتان 49 - 50 ... 111

الأمر الثالث والرابع من نعم الله على بني إسرائيل نعمة الشريعة والتوبة ... 121

الآيات 51 - 54 ... 121

الأمر الخامس ومن نعم الله على بني إسرائيل نعمة إحياء الأموات منهم ... 125

الآيتان 55 -56 ... 125

الأمر السادس ومن نعم الله على بني إسرائيل النعم المادية (من الأكل والشرب والسكن و...) ...128

أ-المأكل ... 128

الآية 57 ... 128

ب - المسكن ... 131

الآيتان 58 - 59 ... 131

ص: 397

ج- - المشرب ...135

الآية 60 ... 135

(فصل) أسباب انحراف بني إسرائيل ...139

الآية 61 ... 75

المطلب الأول: الكفران بالنّعم ... 139

الآية 61 ... 139

الآية 62 ... 145

المطلب الثاني ومن أسباب انحراف بني إسرائيل (مخالفة الميثاق) ... 149

الآيتان 63 - 64 ... 75

المطلب الثالث من أسباب انحراف بني إسرائيل (التحايل على الأحكام) ... 154

الآيتان 65 - 66 ... 154

المطلب الرابع ومن أسباب انحراف بني إسرائيل اللجاج) والتمرد على الأحكام ... 158

الآيات 67 - 71 ... 158

المطلب الخامس ومن أسباب انحراف بني إسرائيل (تحريف كلام الله تعالى أو الجهل به ... 176

الآيات 75 - 77 ... 176

الآيتان 78 - 79 ... 185

المطلب السادس ومن أسباب انحراف بني إسرائيل (توهم عدم العقاب) ... 198

الآيات 80 - 82 ... 198

المطلب السابع من أسباب انحراف بني إسرائيل) (مخالفة أحكام الله ) ... 207

الآية 83 ... 207

الآيات 84 - 86 ... 216

المطلب الثامن ومن أسباب انحراف بني إسرائيل تكذيب الرُّسل) ... 229

الآيتان 87 - 88 ... 75

ص: 398

القسم الأول الملعونون في القرآن ... 235

القسم الثاني الأعمال الموجبة للعن ... 237

القسم الثالث اللاعنون في القرآن ... 239

الآيتان 89 - 90 ... 242

الآيات 91 - 93 ... 254

المطلب التاسع ومن أسباب انحراف بني إسرائيل (العصبية والعنصرية) ... 261

الآيات 94 - 96 ... 261

المطلب العاشر ومن أسباب الانحراف في بني إسرائيل (عداوة أولياء الله) ... 270

الآيات 97 - 99 ... 270

المطلب الحادي عشر ومن أسباب الانحراف في بني إسرائيل (ترك أوامر الله واتباع الشياطين ) ... 280

الآيتان 100 - 101 ... 280

الآيتان 102 - 103 ... 286

(1) في معنى السحر ... 292

(2) سبب انتشار السحر ... 293

(3) تأثير السحر ... 293

(4) علة تأثير السحر ... 295

(5) علة تحريم السحر ... 296

(6) عقوبة الساحر ... 298

(7) ...299

الأولى ... 300

(الثانية) تعليم الملكين السحر ... 302

(الثالثة) ...303

(الرابعة) ... 307

المطلب الثاني عشر ومن أسباب الانحراف في بني إسرائيل الرذائل الأخلاقية ... 312

ص: 399

الآيتان 104 - 105 ... 312

أولاً ... 312

ثانياً ... 313

الآيتان 106 - 107 ... 321

الجهة الأولى ... 322

الجهة الثانية ... 323

الجهة الثالثة ... 324

الجهة الرابعة ... 324

الجهة الخامسة ... 325

الجهة السادسة ... 326

الجهة السابعة ... 327

الجهة الثامنة ... 328

الآية 108 ... 335

ثالثاً من رذائل بني إسرائيل الأخلاقية الحسد ... 339

الآيتان 109 - 110 ... 339

فصل مشتركات اليهود والنصارى والمشركين في أسباب الانحراف ... 347

الأمر الأول ... 349

الآيتان 110 - 111 ... 349

الآية 113 ... 355

الأمر الثاني من أسباب الانحراف محاربة العبادة وأماكنها ... 359

الآيتان 114 - 115 ... 359

الأمر الثالث الشرك ... 366

الآيتان 116 - 117

الأمر الرابع رفضهم للرسالة ... 375

الآيتان 118 - 119 ... 375

الآية 120 ... 381

الآيات 121 - 123 ... 75

من المصادر ... 393

ص: 400

من المصادر

تبيين القرآن، للإمام الشيرازي ط4 ، عام 1429ه- ، دار العلوم.

تقريب القرآن، للإمام الشيرازي ، ط 1 ، عام 1424ه- ، دار العلوم.

مواهب الرحمن السيد عبد الأعلى السبزواري، ط2، عام 1429ه-، انتشارات دار التفسير

خواطري عن القرآن السيد حسن الشيرازي، ط1، 1414ه-، دار العلوم.

البرهان السيد هاشم البحراني، ط 1 ، 1419ه-، مؤسسة البعثة .

الجوهر الثمين السيد عبد الله ،شبر ،طا ، 1407ه-، مكتبة الألفين.

مجمع البيان الشيخ الفضل الطبرسي، ط 1 ، 1426ه-، دار الأسوة

الميزان السيد محمد حسين الطباطبائي، ط2، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم .

الكشاف، الزمخشري، ط 14073ه-، دار الكتاب العربي.

ص: 393

جوامع الجامع الشيخ الفضل ،الطبرسي، 3، 1428ه-، مؤسسة النشر الإسلامي.

مرآة العقول الشيخ محمد باقر المجلسي، ط4، 1379ه-، دار الكتب الاسلامية.

موسوعة الفقه السيد محمد الشيرازي ط6 ، 1407ه-، دار العلوم.

التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري 1426ه-، مؤسسة قائد الغر المحجلين .

تفسير القمي علي بن إبراهيم القمي، ط 1 ، 1428ه-، انتشارات ذوي القربى .

علل الشرائع الشيخ الصدوق، ط 1 ، 1385ه-، المكتبة الحيدرية في النجف

الكافي، المحدث محمد بن يعقوب الكليني، طه ، عام 1425ه-، دار الأسوة.

من فقه الزهراء، السيد محمد الشيرازي ط1، 1429ه-، دار العلوم.

بحار الأنوار، المحدث الشيخ محمد باقر المجلسي، ط3 1403ه- ، دار إحياء التراث العربي.

وسائل الشيعة المحدث الحسن بن الحر العاملي، ط1، 1413ه-، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث .

ص: 394

الوصائل في الرسائل السيد محمد الشيرازي، ط2 ، 1421ه-، مؤسسة عاشوراء.

الرسائل الشيخ مرتضى الأنصاري، ط9 ، 1425ه-، مجمع الفكر الإسلامي.

مغني اللبيب ابن هشام.

نهج البلاغة جمع الشريف الرضي.

المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري ، ط9 ، 1425ه-، مجمع الفكر الإسلامي.

الوافي الفيض الكاشاني .

الاحتجاج، الطبرسي.

الأمالي، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي .

التبيان الشيخ محمد بن الحسن الطوسي .

التهذيب، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي.

من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق .

مجموعة ورام الشيخ ورام بن فارس .

ص: 395

التفکر في القرآن (سورة البقرة) المجلد 2

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفکر في القرآن (سورة البقرة) المجلد 2 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم، 1443ق = 1400ش.

مواصفات المظهر: 410ص.

فروست: التفكر في القرآن؛8.

شابك: 7-628-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية

محتويات: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع: تفاسير (سوره اعراف)

موضوع: تفاسير شيعه -- قرن 14

موضوع: Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

ترتيب الكونجرس: BP102/26

تصنيف ديوي: 297/ 18

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 8441086

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

ص: 2

التفكر في القرآن

الجزء الثاني

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

دار العلوم

ص: 3

ص: 4

«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»

النحل: 44.

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .

ص: 7

ص: 8

البقرة

فصل الإسلام امتداد لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ

ص: 9

ص: 10

فصل

الإسلام امتداد الإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ

هذا الفصل يتكون من (الآیات 126 - 191) من سورة البقرة، وهي تتحدث عن نبي الله إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وهو يصب في الاتجاه العام لهذه السورة، ببيان أن الإسلام هو الامتداد الواقعي لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، حيث إن أسس الإسلام منه، وإن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هو استجابة الله تعالى لدعائه، وإن المسجد الحرام هو بناؤه، وإن العرب - الذين جعل الله النبوة في أحدهم - إنما هم ذرية إبراهيم علي ، وإن الإسلام هو ملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وإن اليهودية والنصرانية كانت بعده، وإن الأنبياء كلهم من الله تعالى فيلزم التصديق بهم جميعاً .

والحاصل أن الإسلام هو دين الله وملة إبراهيم ووصية الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

وإن الإمامة حين انصرفت عن اليهود فإنما كان لظلمهم.

ص: 11

ثم إن هنا نقاطاً :

1- إن البحث وإن انتقل إلى قسم آخر، ولّكن فيه مراعاة للترتيب بشكل لطيف، ففي الآيات السابقة ذكر الله تعالى: التوحيد، والنبوة ، وهنا يذكر الإمامة.

2 - إن من أساليب الإقناع هو التكلم في الأمور المعاصرة ثم الانتقال إلى ذكر الأمور التاريخية، وخاصة الاستشهاد بمقاطع يتفق عليها المتجادلون.

3 - إن الترتيب التاريخي هو آدم ثم إبراهيم ثم بنو إسرائيل، ولكن تأخر ذكر إبراهيم، لعله لترغيب اليهود والنصارى في الإيمان بالنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبيان أن المسلمين و بني إسرائيل يلتقيان في إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، إذ إن آیات بني إسرائيل مليئة بتقريعهم وبيان سلبياتهم، فكان التذكير بأصولهم - التي يشتركون فيها مع المسلمين - نوع من تطييب خواطرهم وتحبيب الإسلام إليهم.

ثم إن هذا الفصل يتكون من أقسام أربعة :

1- أركان الأمة - وهي أربعة: الإمامة، الكعبة، الأتباع، العمل الخالص -.

2. استمرارية الأمة.

3- الوصية ومخالفتها .

4 - دحض حججهم .

ص: 12

القسم الأول أركان الأمة

وفيه أربعة أركان:

الركن الأول: الإمامة

الآية 124

اشارة

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ».

124 - (وَ) اذكر يا رسول الله (وَإِذِ ابْتَلَى) أي اختبر (إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) فالله الذي ربّي إبراهيم قد امتحنه (بِكَلِمَاتٍ) بتكاليف شاق، کالأمر بذبح إسماعيل لتظهر حقيقة إبراهيم، (فَأَتَمَّهُنَّ) فلما نجح إبراهيم (قَالَ) الله له (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) يقتدون بك، (قَاَل) إبراهيم سروراً بها: (وَ) هل تجعل (مِنْ ذُرِّيَّتِي) أئمة؟ لأن إسماعيل أيضاً اجتاز الامتحان فقد قال (يا أبتِ افعل ما تُؤمَر) (1) وكذلك آخرون من الذرية (قَالَ) الله : (لَا يَنَالُ) أي لا يصل

ص: 13


1- سورة الصافات، الآية: 102.

(عَهْدِي) أي الإمامة فهي عهد من الله (الظَّالِمِينَ) فلا يستحقها من ارتكب ظلم لنفسه أو للناس، وأعظم أنواع الظلم هو الشرك فلا ينالها مشرك، ولا من سجد لصنم ولو لفترة من حياته، كما أن اليهود المعاصرين للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لم ينالوها لظلمهم، ونالت الإمامة الرسول وأهل بيته لعصمتهم من الظلم.

----------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (وَإِذِ ابْتَلَى) .

مادة «بلو» تشتمل على معنى الظهور، قال تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (1)، يقال: الثوب البالي، أي قديم خَلِق، كأنه لقدمه وتمزق بعض أماكنه يظهر منه جسم الإنسان - مثلاً -، أو لظهور حقیقته ونوعيته لما یُبلی.

وإنما سمي الاختبار بلاءَ لظهور حقيقة الإنسان به، ويكون - عادة - في التكليف الشاق والنازلة المريرة، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (2)، وقد يكون البلاء بالنعم كقوله تعالى : (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) (3) لأن بعض الناس يصبر على المشاكل ولكنه قد يبطر عند النعم.

والاختبار من الله تعالى لا يكون بمعناه الحقيقي، لأن ذلك مستلزم

ص: 14


1- سورة الطارق، الآية: 9.
2- سورة البقرة، الآية: 155.
3- سورة الأعراف، الآية: 168.

اللجهل، وهو يستحيل على الله سبحانه وتعالى، فيكون اختباره إنما هو بتمكين العبد من اختيار أحد الأمرين: إمّا ما يريده الله تعالى، أو ما يشتهيه العبد، وبهذا تبطل شبهة الجبر .

والاختبار لطف من الله تعالى، لمحو الذنوب، أو لرفع الدرجات، أو للرجوع عن المعاصي والتوبة منها، ولذا كان بلاء حسنا كما قال تعالى:(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا) (1)، فقد قال سبحانه (لَعَلَّهُمْ یَرجِعُونَ) (2)، وقال سبحانه «إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ »«وَلَا يَسْتَثْنُونَ »«فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ »«فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ » إلي قوله تعالی «فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ »إلي قوله «قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ» (3).

وقد يكون البلاء نتيجة إرادة الله تعالى الانتقام من الفاسقين لتتم الحجة، قال تعالى عن أصحاب السبت (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (4)

والامتحان يكون في الأعمال دون الأقوال - لسهولة الكذب في الأقوال دون الأعمال ..

بل في أحيان كثيرة يكون الامتحان لأجل إظهار صدق أو كذب الأقوال، قال تعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (5).

ص: 15


1- سورة الأنفال، الآية: 17.
2- سورة الأعراف، الآية: 198.
3- سورة القلم، الآيات: 17 - 29.
4- سورة الأعراف، الآية: 193.
5- سورة العنكبوت، الآية: 2.

الثاني : قوله تعالى (إِبراهيمَ رَبُهُ).

لعل تقديم إبراهيم لأجل مراعاة رجوع الضمير ، ولأجل أنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ محور الكلام في هذا القسم، وفي العادة يقدم المحور على غيره، فلذا في الإسناد يلاحظ غرض المتكلم، مثلاً المبتدأ هو محور الكلام دون الخبر - عادة -.

ولعلّ اختیار کلمة «الرب» دون سائر أسماء الله تعالى لأجل الدلالة على التربية وأن الامتحان لأجل تربيته ونموه.

وقد مّر سابقاً أن مادة الرب وإن كانت تختلف عن مادة التربية فالأولى: (رب ب) والثانية : (رب ي) إلِّا أن المعنى واحد - كما عن الراغب في مفرداته- (1).

الثالث : قوله تعالى (بِكَلِمَاتٍ).

الكلمة» هي الشيء الملقي، فقد تكون لفظة لأن المتكلم يلقي بالألفاظ، وقد يكون إيجاداً للشيء كالمسيح عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث أوجده الله تعالى، قال سبحانه ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)(2).

وجذر الكلمة - على ما قيل - هو بمعنى الأثر الظاهر فقد يكون ظاهراً للسمع کالأ لفاظ، وقد يكون ظاهراً للعين كالجرح الذي يسمى كلماً .

والكلمات التي امتحن بها إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ هي أوامر شاقة كلف بها، وأكبرها أمره بذبح ابنه إسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وقد قال الله تعالی عنه (إِنَّ هَذَا).

ص: 16


1- راجع المفردات: ص 339.
2- سورة آل عمران، الآية: 45.

لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) (1)، وتشمل الكلمات، إلقاءه في النار، والهجرة ، والاعتراف بالخمسة الطيبة - أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ (2)، وغيرها.

ثم إنه يلزم تطابق النتيجة والسبب، فكلما كان الاختبار أصعب كان الجزاء أهم، وقد يحتاج إلى عدة اختبارات لعدم كفاية الاختبار الواحد، ولعله لذلك قال تعالى (بِكَلِمَاتٍ)، ولعل آخرها كان أهمها - وهو الأمر بالذبح - ولذا عبر عنه بالبلاء المبين.

وقد جمع الصدوق رضوان الله عليه - في الخصال - الامتحانات والمراحل التي مر بها إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ فبلغت أكثر من عشرين أمرا مستدلاً في كل واحد منها بالآيات والأخبار، منها: اليقين، المعرفة، الشجاعة ، الحلم، السخاء، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دفع السيئة بالحسنة، التوكل، الحلم، الانتماء إلى الصالحين، المحنة في النفس وفي الأهل وفي الولد، الصبر، استقصار النفس في الطاعة، جمع أشراط الطاعة، الوصية بالدين لمن بعده ، ... وغير ذلك مما ذكره رضوان الله عليه (3).

الرابع : قوله تعالى (فَأَتَمَّهُنَّ) .

أي أدّاهن بغير تفريط، كما قال تعالى (وَ إِبراهيمَ أَلَّذِي وَ) (4)، بمعنى أنه قام بمقتضى العبودية وأطاع ما أمر به إطاعة كاملة غير منقوصة . .

ص: 17


1- سورة الصافات، الآية: 106.
2- كما روي عن الإمام الصادق علية في الخمسة الطيبة، البرهان ج 1، ص 533 عن الخصال للصدوق.
3- البرهان ج 1، ص 534 عن الخصال
4- سورة النجم، الآية: 37.

قال تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (1).

ويمكن أن يكون فاعل «أتمهن» هو الله تعالى، أي الله أتم الكلمات، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً) (2)، أي بلغت الغاية في الأحكام والأحكام، فيكون المعنى: إن الله أتم تلك الكلمات على إبراهيم. وفي الخصال عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، وهو أنه قال : يا رب، أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا ثبت علي، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم.

فقلت له : يابن رسول الله فما يعني عزَّ وجلَّ بقوله 0فَأَتَمَّهُنَّ) قال : يعني فأتمهن إلى القائم عَلَيْهِ السَّلاَمُ اثني عشر إماماً» (3).

الخامس : قوله تعالى : (إنّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إمَاماً)

«الجعل» قد يكون تكوينياً كقوله تعالى («هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضيآءً وَ القَمَرَ نُوراً) (4) ، وقد يكون تشريعية كقوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْها) (5) ، وقد يكونان معاً كقوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَهُمْ أَئِمَةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (6) ومن ذلك هذه الآية فقد جعله الله إماماً تكوينيّاً، كما أمر الناس بالاقتداء به فهو إمام تشريعيّاً أيضاً .

ص: 18


1- سورة الصافات، الآيات: 103 - 105 .
2- سورة الأنعام، الآية: 115.
3- البرهان ،ج 1، ص 523 ، عن الخصال ص 304.
4- سورة يونس الآية: 67.
5- سورة البقرة، الآية: 143
6- سورة الأنبياء، الآية: 73

وقوله تعالى (لِلنَّاسِ) دليل على أن إمامته كانت عامة للجميع - سواء من كانوا في عصره أم من في العصور اللاحقة - لأن الناس كالجمع المحلى باللام يفيد العموم.

و«الإمام»: هو من يقتدي به الناس، وهو على وزن الآلة كإزار لما يؤتزر به فالإمام من يُؤتم به .

السادس : قوله تعالى: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِی ).

أي اجعل من ذريتي وهذا دعاء من إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لذريته، وفيه تضمين معنى الاستفهام فهو دعاء على طريقة الاستفهام وهو من أعلى مراتب الأدب في السؤال . كقولك : هل تتفضل علينا بكذا .

والذرية بمعنى النسل، سواء كان من الأبناء أم من البنات، ولذا كان عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ من ذرية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كما قال تعالى ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ، دَاوُرد

وَسُلَيْمَنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَرُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا ويحيى وَعِيسَى وَإِلْیَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحينَ ) (1) .

ثم إن طلب إبراهيم الإمامة لذريته :

1 - قد يكون لجهة أن الإنسان يرغب في أن تكون ذريته مؤمنة بل فيها العظماء تُكمّل المسيرة التي بدأها .

ولذا أكثر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ من الدعاء ،لذريته، قال (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ) (2) ، وقال (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَوةِ وَمِن ذُرِّيَّتِی) (3)، كما أن المؤمنين أيضاً يدعون لذريتهم، قال تعالى ﴿هُنَالِكَ .

ص: 19


1- سورة الأنعام، الآيتان: 84 - 85.
2- سورة البقرة، الآية: 128
3- سورة إبراهيم، الآية: 40.

دَعَا زَكَرِيَّا رَبِّةٌ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً ) (1) ، ﴿وَإنِّي أُعِيذُهَا بِك وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمٍ) (2)، (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتی)

(3)

وللصدوق رضوان الله علیه کلام ،لطیف حاصله أنه كما دعا إبراهيم لذريته بأن يجعل الله الإمامة فيهم، كذلك رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم - واتباعاً لملة إبراهيم وعدم الرغبة عنها - دعا الله ليجعل الإمامة في ذريته، فجعلها الله في الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ (4) .

السابع : قوله تعالى (لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ).

«العهد» هو الميثاق والمعاهدة، وفيه دلالة على أن الإمامة عهد من الله تعالى. والنيل الوصول، أي لا يصل هذا العهد إلى الظالمين. والظلم قد يكون للنفس كقوله تعالى ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) (5) ، وقد يكون ظلم الغير - ويقال له الجور أيضاً - كقوله تعالى ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يظْلِمُونَ النَّاسَ) (6) .

ومن أجلى مصاديق الظلم هو الشرك، كقوله (إِنَّ الشَّرْكَ لَظُلَمٌ عَظِیمٌ) (7).

وفي الآية تعريض على اليهود بأنهم ظالمون لذا نزع الله الإمامة منهم وجعلها في بني إسماعيل، كما فيها حث على عدم الظلم . .

ص: 20


1- سورة آل عمران الآية: 38
2- سورة آل عمران الآية: 36 .
3- سورة الأحقاف، الآية: 15
4- البرهان ،ج 1 ، ص 539 عن الخصال.
5- سورة فاطر، الآية: 32
6- سورة الشورى، الآية: 42 .
7- سورة لقمان الآية: 13.

وفيها دلالة على بطلان إمامة أئمة الجور وعدم جواز إطاعتهم .

الثامن : في هذه الآية بحوث مختلفة حول مسألة الإمامة وقد تضافرت الأخبار في مداليلها والاستشهاد بها، نوجزها في عدة أمور :

الأمر الأول

1 - زعم البعض أن قوله (إماماً) يراد به النبوة، وهو زعم باطل يخالف سياق هذه الآية وسائر آيات القرآن فإن نبوة إبراهيم كانت قبل أن يرزقه الله ذرية، حتى بلغ الكبر وهو يائس من الذرية كما قال تعالی «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)»«إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)»«قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)»«قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)» (1).

فإذا كان معنى قوله (إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) هو النبوة لم يكن معنى لطلبه جعل الإمامة في ذريته حيث كان يائساً عن حصول ذرية له .

كما لا معنى للقول بأن (جَاعِلُكَ) إخبار عن الماضي، وذلك لأن الجعل كان بعد اجتياز إبراهيم الابتلاء بالكلمات، وكلها كانت بعد نبوته، وخاصة ذبح إسماعيل، مضافاً إلى أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يصح عمله ولفظ جاعلك عمل في إماماً»، مما يدل على أن (جاعل) في الحال أو المستقبل .

إذا كان الله تعالى قد جعل إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ نبياً قبل أن يجعله إماماً، وذلك يدل على أن الإمامة أهم من النبوة.

ص: 21


1- سورة الحجر، الآيات: 51 - 54 . 21

قال الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (قد كان إبراهيم نبياً وليس بإمام، حتى قال الله له (إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتي) ، فقال الله : (لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّلِمِينَ﴾ ، من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً ) (1) .

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ عبداً قبل أن يتخذه نبيّاً، وإن الله اتخذه نبيّاً قبل أن يتخذه رسولاً، وإن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإن الله اتخذه خليلاً قبل أن يتخذه

إماماً ، فلما جمع له الأشياء قال (إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) ، قال : فمن عظمها في عين إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ (قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّلِمِينَ) قال : لا يكون السفيه إمام التقى) .

الأمر الثاني

الإمامة تعيين من الله تعالى ولا شأن للناس فيها، ولذا عبر الله تعالى عنها ب-«عهدي»، وكل عهد من الله يلزم على الناس اتباعه وليس لهم فيه الخيرة، كما قال تعالى ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ مَا كَانَ لَهُمُ

الْخِيَرَةُ) (2).

ومن آيات العهد قوله تعالى ﴿أَلَمْ أَعْهَد إِلَيْكُمْ يَابَنِى ءَادَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ﴾ (3) . وقوله سبحانه (لَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ) (4) . وقال تعالى ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا) (5) . وكلها تدل على عدم الخيرة للناس في عهود الله تعالى .

ص: 22


1- البرهان ج 1 ، ص 539 عن الكافي ج 1، ص 133.
2- سورة القصص، الآية: 68.
3- سورة يس الآية: 60.
4- سورة النحل، الآية 95
5- سورة الأحزاب الآية 15

والملفت في الأمر أن الضمير في عهدي ضمير المتكلم وحده وفي ذلك دلالة على أن عهد الإمامة هو بشكل مباشر من الله تعالى.

والأمور المرتبطة بالله تعالى قد يريدها بواسطة كإنزال القرآن بواسطة جبرئيل، وقد يريدها من غير واسطة كخلق آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ فقال تعالى (لِمَا خَلَقَتُ بِيَديَّ) (1).

والأمور المرتبطة بالله مباشرة وإن صح فيها استعمال ضمير المتكلم الغير تعظيماً وتفخيماً، إلا أن استعمال ضمير المتكلم وحده يكشف عن زيادة خصوصية وعناية كقوله تعالى ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ (2) فقد تكرر ضمير المتكلم وحده سبع مرات لبيان زيادة خصوصية في الدعاء.

وهنا قال تعالى (عَهْدِى) ولم يقل عهدنا، مما يكشف عن أن الإمامة عهد مرتبط بالله تعالى مباشرة من غير واسطة أصلاً، ولذا قال الله تعالى عن يوم الغدير (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (3) ولم يقل أكملنا وأتممنا ورضينا !!

وفي الآية إشعار بأن تعيين الأئمة كان سابقاً، لذا عبر عنه «عهدي»، كما أن العهد - عادة - يكون بين طرفين : إملاء من طرف وقبول من الطرف الآخر، كما قال تعالى ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِى ءَادَمَ أَن لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ) (4) ، فلعل قوله عهدي إشارة إلى أخذ الميثاق من الناس في .

ص: 23


1- سورة ص، الآية: 75
2- سورة البقرة، الآية: 186.
3- سورة المائدة، الآية: 3.
4- سورة يس الآية: 60.

عالم الذر بالإقرار بالأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ كما يظهر من مستفيض الروايات، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ « وأخذ الميثاق على أولي العزم أنني ربكم، ومحمداً رسولي ، وعليا أمير المؤمنين وأوصياءه من بعده ولاة أمري» الحديث (1).

الأمر الثالث

وفي هذه الآية دلالة على لزوم عصمة الإمام وذلك من جهات :

1 - إنها منصب فوق النبوة - كما مرّ - فالإمام أولى بالعصمة .

2 - إن غير المعصوم يمكن أن يرتكب المعاصي فيكون إما ظالماً لنفسه أو ظالماً لغيره، فلا يصلح للإمامة.

3 - إن سياق الآية يدل على أن الإمامة مهمة جدّاً بحيث احتاج إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ الاجتياز امتحانات صعبة لينالها، لذا فإن هذا المنصب لا يناسب الظالم ولو تاب عن ظلمه، فمن عبد الصنم حيناً من الدهر وارتكب الفواحش الأخرى حتى إذا آمن فإنه لا يكون جديراً بهذا المنصب الخطير الهام .

قال المحقق الخراساني : فإن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الإمامة والخلافة وعظم خطرها ورفعة محلها ، وإن لها خصوصية من بين المناصب الإلهية، ومن المعلوم أن المناسب لذلك هو أن لا يكون المتقمص بها متلبساً بالظلم أصلاً) (2).

سؤال : عابد الوثن إن تاب وآمن فلا يكون ظالماً حينئذ فيصح أن يناله العهد؟

ص: 24


1- البرهان ج 4 ، ص 219 ، عن الكافي ج 2، ص 6 .
2- كفاية الأصول ص 69 ، ط 1 ، عام 1412ه- مؤسسة النشر الإسلامي. 24

والجواب هو أنه في حال ظلمه يصح الإخبار عنه بأنه لا ينال الإمامة، والآية مطلقة أي لم تقيد بأنه لا ينالها في حال ظلمه بل دلت على أنه لا ينالها بشكل مطلق وفي الأوقات كلها (1) .

وبعبارة أخرى هذا إخبار بشكل عام وليس بإنشاء، فتأمل.

الأمر الرابع

لا يشترط في الإمامة التصدي الظاهري للحكم والسلطة، فقد يكون إماماً منصوباً من قبل الله تعالى ولكن يُسلب حقه فلا يتمكن من الحكم بين الناس، كما أن إبراهيم لم يعهد منه أنه تسلط على الناس

وحكمهم.

ص: 25


1- هذا الجواب ذكره في مجمع البيان بعبارات أخرى ج1، ص512 فراجع. 25
الركن الثاني: الكعبة

الآية 125

اشارة

(وَإذ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهْرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) ).

125 - وكما جعلنا إبراهيم إماماً ، كذلك جعلنا ما بناه مرجعاً للناس ، (وَ) اذكر ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) الكعبة (مَثَابَةً لِلنَّاسِ) أي محلاً الرجوعهم للحج (وَأَمْنَا) أي موضع أمان وملجأ ومعاذاً للإنسان والحيوانات والنباتات فلا يجوز إيذاء أحد فيه ولا يُصاد فيه ولا يقلع نباته (وَ) قلنا (وَاتَّخِذُوا) أيها الحجاج (مِن) حول (مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلَّى) أي موضع للصلاة فإنه من أهم أعمال الحج وفيه تذكير بباني البيت، (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ) أي أمرناهما فالعهد هنا بمعنى الأمر (أن طَهِّرَا) طهارة معنوية بمنع الشرك، ونظافة بمنع الأقذار (بَيْتيَ) إضافة تشريفية (لِلطَّائِفِينَ) الذين يدورون حول الكعبة وَالْعَاكِفِينَ المعتكفين أي الذين يقومون بعبادة الاعتكاف (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) جمع راكع وساجد بمعنى المصلين.

-------------------------------

ص: 26

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ)

كما يحتاج الناس إلى القدوة والأسوة ليقتدوا به، كذلك هم بحاجة إلى أماكن خاصة ترتبط بدينهم تكون مجمعاً لهم، وأفعال خاصة تكون عبادة لهم .

1 - وقد جعل الله تعالى القدوات قال سبحانه (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (1) وقال تعالى ﴿وَلَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) . وقال عز من قائل ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِةٌ ) (3).

2 - كما أنه جعل المشاعر، قال سبحانه ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) . وقال سبحانه (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ) (4) ، وكما جعل مشاعر مركزية تجمع الكل، كذلك جعل أماكن العبادة في مختلف

الأماكن.

3 - كذلك جعل مناسك وعبادات خاصة، قال سبحانه ﴿وَلِكُلِ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكا) (5).

وذلك لأن التفاف الناس حول دين واستمرارهم فيه يتوقف على هذه الأمور الثلاثة، وفي هذه الآيات بين الله تعالى أنه جعل إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ إماماً .

ص: 27


1- سورة الممتحنة، الآية: 4.
2- سورة الأحزاب الآية: 21
3- سورة الأنعام، الآية: 90
4- سورة البقرة، الآية: 158.
5- سورة الحج، الآية: 34 .

وجعل الكعبة مثاباً ومرجعاً وجعل الصلاة والطواف ونحوها عبادة، وبيّن أن الإسلام هو امتداد لإبراهيم وملته وحافظ لآثاره ولذكره.

ثم إن ذلك كله يكون كالمقدمة لجعل الكعبة قبلة كما سيأتي في قوله تعالى ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَهِمُ ) (1) ... الآيات، فإن ما كان مثاباً وأمناً وطاهراً وفيه أثر إبراهيم . . . أحق بأن يجعل قبلة.

الثاني : قوله تعالى (اَلْبَيْتَ).

و«البيت» هو اسم للمكان الذي يأوي إليه الإنسان ويبيت فيه، ولكن غلب إطلاقه على الكعبة، قال تعالى (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ﴾ (2) وقال (رَبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْنِكَ الْمُحَرَّمِ ﴾ (3) ، وقد يطلق البيت على المسجد الحرام لاشتماله على الكعبة والألف واللام في (البيت) عوض عن المضاف إليه أي «بيتي».

وإضافة البيت إلى الله تعالى إضافة تشريفية، أي المكان الذي شرّفه بانتسابه إليه، مثل قوله تعالى ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) (4) . وإلا فجميع الأرض ملك الله ومخلوق له .

ومن تشريفه للبيت أن جعل فيه حجرين من الجنة، أي الحجر الأسود وحجر الركن - كما وردت بذلك الأخبار (5) 8

ص: 28


1- سورة البقرة، الآية: 142
2- سورة المائدة، الآية: 97
3- سورة إبراهيم، الآية: 37 .
4- سورة ص، الآية: 72
5- تفسير العياشي: ج 1، ص 64 . 28

ثم خص البيت بأحكام تشريعية وهي أيضاً من تشريفه له كالمثابة والأمن ونحوهما .

الثالث : قوله تعالى (مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنَا).

(المثابة): بمعنى الرجوع والمراد المحل الذي يرجع إليه الناس، ولعله ضُمّن معنى الملجأ والمعاذ.

والرجوع هو بلحاظ المجموع لا بلحاظ كل فرد فرد، فمن حيث المجموع الناس يرجعون إليه .

وجعل البيت مرجعاً ، قد يكون جعلاً تشريعيّاً وذلك بوجوب الحج ، واستحباب العمرة وزيارة المسجد الحرام والصلاة فيه وغيرها من العبادات، وقد يكون جعلاً تكوينيّاً باشتياق الناس الرجوع إلى مكة حتى وإن كانوا قد أدوا مناسكهم كما قال تعالى (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إلَيْهِمْ ) (1).

وقوله تعالى (وَأَمَنَا).

أي جعلنا البيت موضع أمن، وذلك بأحكام تشريعية، فلا يحل القتال فيه إلَّا ،دفاعاً، قال تعالى ﴿وَلَا نُقَتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَتِلُوكُمْ فِیهِ) (2) ، ومن التجأ إليه لا يجري عليه الحد حتى يخرج منه، ولا يحل صيده، ولا يجوز اقتلاع شجره .

فالكل من البشر والصيد والنبات آمن فيه .

ص: 29


1- سورة إبراهيم، الآية: 37.
2- سورة البقرة، الآية: 191

وسيأتي بعد قليل الفرق بين قوله (وَأَمْنا) في هذه الآية، وقوله (ءَامناً) في الآية اللاحقة .

الخامس : قوله تعالى ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ).

«المقام)) اسم مكان ومقام إبراهيم هو الحجر الذي كان يقف عليه حين بناء الكعبة وفيه أثر قدمي إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

وفي اتخاذ مقام إبراهيم مصلى أمور :

1 - تذكير بإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ باني البيت، وتخليد لذكراه، كما دأب الناس في كتابة اسم باني الأمكنة المهمة عرفاناً منهم بالجميل .

2 - وليتخذه الناس أسوة .

3 - وفيه دحض للشبهات الواهية بأن آثار الصالحين فيها شرك وإبعاد للناس عن الله !! ، وقد أزال الوهابيون الكثير من آثار الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بهذا الزعم !

مع أن آثار الصالحين تقرب الناس إلى الله تعالى وتذكرهم بتضحيات أُولئك في سبيل الله، فأن تصلي خلف حجر فيه أثر رجل نبي ليس من الشرك بل من التوحيد وأن تلمس حجراً أسود وتقبله ليس من الشرك بل هو محض التوحيد، وإذا كان أثر رجل إبراهيم له هذه المكانة وهذه القداسة، فإن آثار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أهم وأقدس .

4 - ولعل في المقام فيوضات خاصة لا توجد في سائر بقاع المسجد .

ص: 30

ه - ثم إن فيه فرزاً بين الطائفين والمصلين، حتى لا تعيق صلاتهم طواف أُولئك، وذلك من حسن النظم.

ثم إن تخصيص ذكر الصلاة من بين سائر مناسك الحج، إنما هو لأجل أهمية الصلاة حيث إنها تجمع في أفعالها وشرائطها وموانعها جميع العبادات، وتجمع أركان الإسلام، أو لأن سائر المناسك يؤتى بها خارج المسجد الحرام سوى الصلاة والطواف، وصلاة الطواف إنما تكون بعد الطواف فإقامة صلاة الطواف تستلزم الطواف قبل إقامتها فتأمل .

السادس : قوله تعالى ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَعِيلَ ).

حيث إن الله تعالى الأمر ، وإبراهيم المأمور، وإسماعيل منفذ الأمر، فلذلك صح نسبة التطهير إلى الله وإلى إبراهيم وإلى إسماعيل، ولذا قال تعالى ﴿وَإِذْ بَوَأَنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بيْتِيَ لِلطَّابِفِينَ وَالْقَابِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود) (1)

كما تنسب الوفاة تارة إلى الله (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ) (2) وتارة إلى ملك الموت (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ) (3) وأخرى إلى الرسل (تَوَفَّتَهُ رُسُلُنَا) (4) ، لأن الله الأمر، وملك الموت المأمور، والرسل أعوان

الملك.

السابع: قوله تعالى (أن طَهْرَا بَيْتي) . .

ص: 31


1- سورة الحج، الآية: 26 .
2- سورة الزمر، الآية: 42 .
3- سورة السجدة، الآية: 11
4- سورة الأنعام الآية: 61.

(أن) ،مفسرة، توضّح العهد، أو بتقدير حرف الجر أي عهدنا إليهما بأن طهرا.

والتطهير قد يكون معنويّاً، وذلك بعدم نصب الأصنام لأنها أرجاس قال تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) (1) ، وكذلك بإبعاد المشركين قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (2) ، ، وكذلك عدم دخول الجنب والحائض ونحوهما فيه .

وقد يكون التطهير ماديّاً، وذلك بتنظيف المسجد الحرام من الأوساخ والقذارات .

وقد يكون تطهيراً أخلاقياً، بمعنى منع الأعمال غير اللائقة فيه كالتصفيق والصفير ، قال تعالى ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةٌ) (3).

وعدم إدخال الأوساخ إلى البيت يلازم تطهيره، ولذا روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال (فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلا وهو طاهر قد غسل عرقه والأذى، وتطهر ) (4) .

وإذا عهد الله إلى إبراهيم ذلك، فهو عهد إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والمسلمين أجمع قال تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) (5) ، وقال سبحانه (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) (6) .

ص: 32


1- سورة الحج، الآية: 30.
2- سورة التوبة، الآية: 28.
3- سورة الأنفال، الآية: 35
4- البرهان ج 1 ، ص 548 عن الكافي والتهذيب وعلل الشرائع وتفسير العياشي.
5- سورة النحل، الآية: 123
6- سورة آل عمران الآية: 95

الثامن : قوله تعالى (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) .

المراد أن البيت جعل للعبادة، ولذا إذا تزاحمت أُمور أخرى مع العبادة قدمت العبادة وأفتى بعض الفقهاء بجواز نزع ملكية الناس - مع تعويضهم - لو ضاق المسجد الحرام وأرادوا توسعته .

وروي أيضاً أن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه يوسع البيت إلى الحد الذي جعله إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ (1).

كما قال الفقهاء بأنه إذا حصل تزاحم في عموم المسجد بين الصلاة وغيرها من العبادات ،والأعمال فإن الصلاة تقدّم، وأما في المسجد الحرام فالطواف والصلاة كلاهما مقدّم على سائر العبادات.

والمشاهد المشرفة لأنها جعلت للزيارة فتقدم الزيارة على سائر أعمال البر كالدرس والخطابة ونحوها - إن حصل تزاحم بينها ..

ثم إن الظاهر - بمناسبة الحكم والموضوع - أن معنى الطائفين هو الدائرون حول الكعبة، ومعنى العاكفين هو المعتكفون فيها، ومن البعيد تفسيرهما بالزائرين والمقيمين - حتى وإن صح ذلك لغة واستعمالاً.

وأهم العبادات التي تؤتى في المسجد الحرام: الطواف والاعتكاف والصلاة لذا خصها الله تعالى بالذكر .

ص: 33


1- بحار الأنوار: ج 52 ، ص 332 .
الركن الثالث: الاتباع

الآية 126

اشارة

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِیمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءَامَنَا وَارْزُقٌ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعَهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) .

126 - وبما أن المكان لا يَعمُر إلَّا بأناس يسكنوه، لذا دعا إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لهم ،(وَ) اذكر (إذْ قَالَ إِبْرَاهِیم) داعياً : يا ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا) المكان (بَلَداً) فقد كان المكان وادياً غير ذي زرع ولا أهل (ءَامِنَا) أي آمناً أهله ، (وَارْزُقٌ أَهْلَهُ) ، سكانه، فإن الذي يجعل الناس يسكنون مكاناً هو الأمن والرزق (مِنَ الثَّمَرَاتِ) كلها ، فواكه وغيرها من نتاج الأرض، بل ومحبة الناس، وقوله : (مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم) بدل أهله، أي ارزق المؤمنين من أهله (بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخَرِ) والإيمان بالأنبياء يدخل في الإيمان بالآخرة، إذ لا طريق للإيمان بالآخرة إلَّا بتصديق الأنبياء، (قَالَ) الله مستجيباً دعاء إبراهيم وزيادة: ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا) أى أمتعه متاعاً أو زماناً قليلاً، فارزقه أيضاً لكن بما أن لكم الحياة الدنيا سريعة الزوال فهو تمتع قليل (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) أي ادفعه من غير أن يتمكن من الامتناع (إِلَى عَذَابِ النَّارِ) أي عذاب ينشأ من

ص: 34

النار، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس المآل والمرجع ذلك العذاب، فليس رزقه وتمتعه إلا لكرامة البيت.

-------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ؛ (اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءَامِنَا).

دعاء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ هنا ليجعل الله تعالى ذلك الوادي الذي لم يكن فيه زرع بلداً آمناً ، يختلف عن ما قاله تعالى في الآية السابقة ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) ، فإن ذاك كان حول الكعبة وهذا حول مكة، فالبيت أمن بجعله تعالى ابتداءً، والبلد آمن باستجابته دعاء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

أو أن ذاك كان استجابة لهذا، أي قوله (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنَا) كان استجابة لدعاء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءَامِنَا)، وإنما تقدم ذاك لمراعاة الترتيب أي الإمامة ثم البيت ثم أهل البلد.

ثم لما صارت مكة بلداً بنزول قبيلة جرهم فيه - كما يظهر من الروايات (1) - دعا إبراهيم مرة أخرى فقال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً) (2).

- وإن كان يمكن اتحاد الدعاءين، لأن البلد هو البقعة من الأرض عامرة أم ميتة .

ثم إن الله تعالى أراد بيان كثرة بركة إبراهيم وعظيم فضله على أهل مكة وغيرهم وذلك لترغيبهم في اتباع ملة إبراهيم . .

ص: 35


1- البرهان ج 1 ، ص 553، عن تفسير القمي.
2- سورة إبراهيم، الآية: 35.

فإن الإنسان مجبول على حب من أحسن إليه وعلى اتباع طريقة سلفه المحسن إليه، فلذا نقل القرآن الكريم جملة من أدعية إبرا أدعية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بحق ذريته، وبحق مكان سكنهم مكة المكرمة .

ثم إن هذه الأدعية كلها مستجابة، إذ إن مجرد نقلها في القرآن من غير رد هو دليل على القبول والاستجابة.

وهكذا كل قول أو فعل نقله القرآن ولم يرفضه، فإن مجرد النقل دليل مشروعية وصحة ذلك القول أو العمل، لأن نقل ما لم يصح مع عدم ردّه لغو بل إغراء بالجهل، وقد تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً .

الثاني : ﴿وَارْزُقُ أَهْلَهُ).

«الرزق» إن كان من الله كان حلالاً ،قطعاً لأنه خير الرازقين ولا معنى لأن يرزق شيئاً وقد حرمه، وإن كان من الإنسان كان فيه الحلال أو الحرام قال تعالى ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِبُونَ) (1)، وقد يحوّل الإنسان

رزق الله إلى كفر كما قال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كَفْرًا﴾ (2) .

الثالث : قوله تعالى (الثَّمَرَاتِ).

«الثمرة» تطلق على الفاكهة - عادة ، ثم أطلقت على كل ما تنتجه الأرض، بل على كل نتيجة إذا كانت إيجابية قال تعالى ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ) (3) ، وقال سبحانه (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ (4) والنحل عادة تأكل من الورود لا الفواكه . .

ص: 36


1- سورة الواقعة، الآية: 82
2- سورة إبراهيم، الآية: 28.
3- سورة النحل، الآية: 67.
4- سورة النحل، الآية: 69.

والمراد من الدعاء هو توفر كل شيء من حاجاتهم، فإن مكة كانت جرداء من كل شيء، فبهذا الدعاء جلب الله إليها كل الثمرات، قال سبحانه (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَمًا ءَامِنَا يُجبیٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيءٍ و رِزْقًا مِّن لَدُنَا) (1) .

وعن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (أنه قال إنما هي ثمرات القلوب أي حببهم إلى الناس ليثوبوا إليهم ) (2) وهذا من تأويل الآية.

ثم إن رزق أهل مكة من كل الثمرات لا ينافي رزق أهالي بعض البلدان الأخرى من الثمرات أيضاً، لأن دعاء إبراهيم لم يكن بحصر الثمرات بمكة بل لما كانت مكة ليس فيها مقومات بلد يجبى إليه الثمرات، لأنها في وسط واد غير ذي زرع، ولا ماء فيها إلَّا زمزم وهو مالح ولا سائر مقومات البلدان الأخرى، فلذا كان دعاؤه لها، وقد استجاب الله دعاءه .

ولعلّ استمرار رزق أهلها من الثمرات من ذلك اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها خاص بمكة .

الرابع: (مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرُ).

الظاهر أن دعاء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان عاماً للكل كما يظهر من قوله تعالى (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْنِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُفَهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (3) فقوله (مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم). . . - وهو بدل بعض من الكل - لبيان أن الغرض من الدعاء هم المؤمنون . .

ص: 37


1- سورة القصص، الآية: 57 .
2- مجمع البيان ج 1 ، ص 524 عن تفسير القمي.
3- سورة إبراهيم، الآية: 37 .

وقيل: (وقد عمّم إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ودعاءه لرزق أهل هذا البلد لبيان أن الرزق العام الربوبي لا يختص بالمؤمنين وإنما خصهم تعظيماً لشأن المؤمنين، فكأنهم المقصودون المستقلون لرزق الثمرات، فجمع عَلَيْهِ السَّلاَمُ بين

غاية رزق الثمرات و [بين] ما يدور عليه النظام في ارتزاق الجميع) (1).

وأما على ما يراه كثير من المفسرين بأن دعاءه كان خاصاً بالمؤمنين وأن قوله (مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم) . هو بدل بعض من كل لبيان اختصاص الدعاء بالمؤمنين فلعلّ هذا التخصيص إما لأن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ تبرأ من الكفار حتى من قريبه آذر قال تعالى ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ: أَنَّهُ، عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَراَ مِنْهُ) (2) فلم يكن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ يدعو لمن تبرأ منهم.

وإما لأنه لما علم أن بعض ذريته ظالم حيث (قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِی قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ﴾ ، دعا للمؤمنين منهم تأدباً أو خشية من أن لا يستجيب الله دعاءه في غير المؤمنين ولكن الله تعالى بين له الفرق بين الإمامة ،والرزق، فإن الإمامة استرعاء يختص بمن ينصح للمرعي وأبعد الناس عن النصيحة الظالم، بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة (3).

ثم إنه مع التخصيص، فإن تقديم (أهله) ثم إتيان بدل البعض من الكل، لأجل أن المحور في هذه الآية هم أهل مكة، والغرض هو بيان المحور الثالث من الأسس الثلاثة - الإمامة والبيت والأهل - فكان ذكر الأهل هو الأساس وأن الدعاء لبعضهم هو أمر ضمني. فتأمل . .

ص: 38


1- مواهب الرحمن ج 2، ص 34 .
2- سورة التوبة، الآية: 114.
3- راجع الكشاف: ج 1 ، ص 186 .

الخامس : قوله تعالى ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً).

شرط وجزاء أي إذا كفر أحد فأمتعه أو مبتدأ وخبر أي سأرزق المؤمن والذي كفر أمتعه أو الفاء عاطفة فالمعنى أرزق من كفر فأمتعه بذلك الرزق .

والتذاذ الكافر واستمتاعه بالحياة الدنيا إنما هو أيام قلائل قال تعالى ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ) (1) ، كما أن كل ما يتمتع به من الدنيا قليل إذا قيست بنعم الآخرة التي يُحرم منها وإذا قورنت بعذاب النار الذي يلقى فيه ، قال تعالى ﴿فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (2).

السادس : قوله تعالى (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) .

في هذا بيان أنّ إمتاع الكافر ليس لأجل كرامته على الله بل لأجل كرامة البلد أو بمعنى أن استجابة الدعاء في رزق المؤمنين من الثمرات يستلزم رزق الكافر منها أيضاً لأنه جرت سنة الله تعالى في تعميم الرزق على الجميع وذلك ليتم الامتحان حيث إنه لو منع الكافر من الرزق لأمن الجميع بلا استثناء ولبطل الامتحان.

وقوله (أَضْطَرُّهُ) من «الاضطرار» وهو عدم التمكن من الامتناع مما لا رغبة فيه مع كون نوع ذلك العمل مقدوراً ، أي مع إمكان الامتناع في غير صورة الاضطرار، فلا يقال لمن لونه أسود إنه مضطر إلى السواد، أما من كان في مخمصة - مثلاً - ولم يجد بداً من أكل الميتة يقال إنه اضطر .

ص: 39


1- سورة يونس الآية: 45.
2- سورة التوبة، الآية: 38.

كما قال تعالى (فَمَنِ اضْطُرَ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِاثْمٍ) (1) فإنه وإن لم يتمكن من الامتناع في حال المخمصة، لكن أصل أكل لحم الميتة مقدور له في الحالات الطبيعية، ولذا كان حراماً .

وفي الآية إشارة إلى أن دخول الكافر إلى النار إنما هو بسوء ولا ختياره الكفر، وإلا فقد كان يتمكن من دفع ذلك العذاب عن نفسه، أما وقد مات كافراً فإنه يلقى في النار كالمضطر الذي لا يملك الامتناع

مما اضطر إليه . .

ص: 40


1- سورة المائدة، الآية: 3 .
الركن الرابع العمل الخالص

الآيات 127-129

وإذ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «127» رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ«128» رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «129»).

127 - (وَ) اذكر يا رسول الله (وَإِذْ يَرْفَعُ) - وهو حكاية حال ماضية - (إِبْرَاهِمُ الْقَوَاعِدَ) جمع قاعدة وهي الأساسات (مِنَ الْبَيْتِ) الكعبة، فقد كانت تلك القواعد موجودة وإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بنى الكعبة عليها ، (و) كان يعاونه ﴿وَإِسْمَاعِيلُ) بإعطائه الأحجار، وكانا حين البناء يقولان : (رَبَّنَا نَقَبَّلْ مِنَّا) أي جازنا رضاك وثوابك، فلم تقصر نيتنا ولا عملنا (إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ) لدعائنا (العَلِيمُ) بنياتنا الخالصة لوجهك الكريم .

128 - (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا) في المستقبل كما جعلتنا في الماضي وذلك باستمرار توفيقك وألطافك (مُسْلِمَيْنِ) أي خاضعين مذعنين

ص: 41

(لَكَ) ، (وَ) إجعل ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَا) ، بعضهم (أُمَّةً) مجموعة (مُسْلِمَةً لَكَ)، (وَأَرِنَا) علمنا عياناً ومشاهدة (مَنَاسِكَنَا) أي أماكن عبادتنا كعرفات والمشعر ومنى (وَتُبْ) أي اعطف باللطف والرحمة (عَلَيْنَا) ف (إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ) أي كثير العطف بقبول التوبة (الرَّحِيمُ) بعبادك فتستجيب أدعيتهم .

129 - ﴿رَبَّنَا وَابْعَث) أرسل (فِيهِم) في الذرية (رَسُولًا مِنْهُمْ) لا من غيرهم لينالهم الشرف وليكون أكثر تأثيراً ، ولم يكن في ذرية إسماعيل رسول إلا محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فلذا لم يقل رُسُل، (يَتْلُوا) هذا الرسول (عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ) أي الدلائل والبراهين الدالة على الله تعالى (وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ) أي القرآن (وَ) يعلمهم ﴿وَالْحِكْمَةَ) أي التشريعات والآداب ونحوها وكل ذلك موجود في السنة المطهرة، (وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي يطهرهم من المفاسد في القلب والعمل ف(إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ) أي القادر على استجابة الدعاء (الحَكِيمُ) فتستجيب بحكمة، فلا بد للاهتداء من الإصغاء إلى البراهين وتعلّم الكتاب والسنة، ولا يكفي العلم بل لا بد من أن تكون النفس طاهرة، وكذا العمل .

-------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِیمُ الْقَوَاعِدَ).

يستفاد من الروايات (1) أن أساسات البيت كانت موجودة قبل .

ص: 42


1- مجمع البيان: ج 1 ، ص 526 .

إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بنتها الملائكة أو آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، والمعنى يبنى حائط على القواعد، فبارتفاع الحائط كأنّ القواعد ارتفعت، وهو من لطيف المجاز.

أما احتمال أن معنى القواعد هو كل صف من الأحجار حيث إنها أساس لما يعلوها في الصفوف الأخرى، فخلاف للظاهر.

وقوله (الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) رفع لشأن تلك القواعد حيث أبهمها أولاً ثم بينها ب- (من البيانية) .

الثاني : قوله تعالى ﴿وَإِسْمَاعِيلُ).

تأخير ذكر إسماعيل عن (الْقَوَاعِدَ) للدلالة على أن باني البيت كان إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وأما إسماعيل فدوره كان في الإعانة فقط وذلك بإعطاء الأحجار - كما يظهر من الروايات (1) - وأما في قوله (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَاعِيلَ) فاقترن ذكرهما معاً لأن تلك المهمة أنيطت إليهما معاً ،أما في بناء البيت فقد كانت المهمة مهمة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وذكر إسماعيل هنا كالمقدمة لبيان أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم من ذريته لا من ذرية إسحاق .

الثالث : قوله تعالى ﴿رَبَّنَا تَقَبَّل مِنا) .

أي يبنيان البيت حال كونهما قائلين (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنّا ) .

ونادى إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ (الرب) في جميع أدعيته، دون سائر أسامي الله تعالى، وذلك لأن الرب يتضمن معنى التربية، وهذه الأدعية إنما هي دعاء لإفاضة كمالات على المُنْعَم عليه فكان الأنسب تصديرها بالرب، كما .

ص: 43


1- بحار الأنوار: ج 12، ص 99.

أن غالب الأسامي لا يمكن أو لا يحسن إضافتها إلى المتكلم الداعي خلافاً للرب حيث يحسن فيه ربي» و«ربنا»، ولا يخفى لطف هذه الإضافة في مقام الدعاء .

الرابع : قوله تعالى (تَقَبَّلْ مِنَا) .

القبول بمعنى الجزاء بالرضا والثواب فقد يكون العمل صحيحاً غير مقبول كصلاة غير المتقي فإنها صحيحة بمعنى أداء التكليف وعدم العقوبة على الترك، ولكنها غير مقبولة لقوله تعالى (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ

الْمُتَّقِينَ) (1).

وفي هذا الدعاء إشارة إلى أن الإنسان لا بد أن يعترف بقصوره، فمهما عمل فإن عمله لا قيمة له إذا لم يتقبله الله تعالى.

ولم يذكرا متعلق القبول - وهو رفع القواعد - إما لوضوحه وعدم الحاجة إلى ذكره أو لتصغير ذلك العمل أمام عظمة الله تعالى - كذا قيل-.

وفي هذا الدعاء دلالة على أن رفع قواعد البيت كان لاتخاذه مسجداً لا مسكناً، كما يدل على استحباب الدعاء عقيب العبادة ولذا كثرت الأدعية المأثورة التي يدعى بها تعقيباً للعبادات وخاصة الصلاة، ولعلّه لأجل إحاطة العبادة بهالة من القدسية أو لكي لا ينقطع العبد عنها فجأة.

الخامس : قوله تعالى (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

(السَّمِيعُ) بمعنى العالم بالمسموعات والمراد أنك تعلم بدعائنا ، 7

ص: 44


1- سورة المائدة الآية: 27

و (ألْعَلیمُ) أي تعلم عملنا في رفع القواعد كما تعلم نيتنا وأنها خالصة لوجهك الكريم.

وقوله (إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) كالعلة للقبول، حيث إن الله وعد الثواب للذين عملوا الصالحات ،مخلصين، فلأنك تسمع دعاءنا وتعلم بعملنا ونياتنا فلذا نطمع في قبولك منا .

السادس : قوله تعالى ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) .

هذا إما دعاء للثبات على الإسلام، فالمعنى اجعلنا مسلمين في المستقبل كما جعلتنا كذلك في الماضي، نظير قوله تعالى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (1) ، وإما دعاء للزيادة في الإسلام.

والجعل هنا تكويني، ويكون ذلك بالتوفيق والألطاف من الله إلى العبد، ولا يكون هذا الجعل اعتباطاً، بل لأجل إيجاد العبد القابلية لنفسه لينال هذه الفيوضات، وقد مرّ بعض البحث حول الهداية والضلال وكيفية

كونهما من الله تعالى .

وقوله (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) من الإسلام بمعنى الخضوع والإذعان والانقياد كقوله تعالى ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (2).

ولا يمكن ذلك إلَّا بالإخلاص وتسليم الأمور إلى الله تعالى في الاعتقاد والقول والعمل .

كما أن له مراتب فأعلى درجاته الرضا المطلق بما يقدّره الله تعالى، وأدنى درجاته تشهد الشهادتين وبينهما درجات كثيرة .

ص: 45


1- سورة الحمد، الآية: 6.
2- سورة البقرة الآية: 112

السابع : قوله تعالى ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ) .

إنما دعا إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لذريته لأن أبناء الأنبياء إذا صلحوا صلح غيرهم، أو لأنهم أحق بالإصلاح وأحق بالشفاعة، قال تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) (1) وقال تعالى: ﴿ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾(2).

ثم إن ((من)) في قوله (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا ) للتبعيض، وإنما دعا لبعضهم لا لجميعهم لأنه علم أن بعضهم ظالم حينما قال له الله تعالى ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ) (3).

وفي بعض الروايات أن المراد بهذه الأدعية أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ في قوله (مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (4)(5) وقوله (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ﴾ (6) . ولعله تفسير بأبرز المصاديق، لأن محمداً وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) أفضل أهل البلد وخير ذرية إبراهيم وإسماعيل علیها السلام ، ولعل إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لما ابتلاه الله ،بكلمات وكانت تلك الكلمات الخمسة الطيبة - كما مرّ - رغب أن يكونوا في ذريته لذا قال (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ) وكما ذكرنا فإن تسليم الوجه الله تعالى له مراتب وتسليم أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ أعلاها، والمناسب في مقام الدعاء هو طلب الأفضل. .

ص: 46


1- سورة الأنفال، الآية 75.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- سورة البقرة، الآية: 126
4- عن الإمام السجاد : إيانا عنى بذلك وأولياءه وشيعة وصيه البرهان ج 1 ، ص 556 عن تفسير العياشي ج 1، ص 59 .
5- سورة البقرة، الآية: 126
6- عن الإمام الصادق : أمة محمد بنو هاشم (خاصة ثم استدل بهذه الآية وغيرها ،البرهان ج 1 ، ص 557 عن تفسير العياشي ج 1 ، ص 60.

ثم إن اختصاص هذا الدعاء بأهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ لا ينافي وجود مسلمين من غيرهم، كما أن اختصاص الدعاء بالذرية لا ينافي وجود مسلمين من غير الذرية .

وأما قوله تعالى (أُمَّةً) فلا ينافي كونهم مجموعة قليلة، لأن الأمة) الجماعة وإنما سُميت أمة لأنها تُقصد ، ومن «أمّ» إذا قصد، فلذا تطلق على الجماعة القليلة كقوله ﴿وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ) (1) فالذين كانوا في السفينة لم يتعدوا الثمانين ومع ذلك صاروا أمماً، وكذلك صح إطلاقها على الواحد إذا أتى بأمر عظيم كأنه عمل مجموعة كقوله تعالى إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً (2).

الثامن: قوله تعالى ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا).

(رأى) بمعنى الإبصار بالعين وبمعنى العلم والآية تضمنت المعنيين أي عرفنا وبصرنا بمناسكنا، وقد دلّت روايات كثيرة على أن جبرئيل كان مع إبراهيم في جميع في جميع أعماله وأطواره (3).

ثم إن الرؤية لم تستعمل في عبادة سوى الحج، ولعل ذلك لأن تحديد الأماكن يصعب من غير رؤية عكس سائر العبادات، حيث يمكن إتقانها بالسماع أو القراءة .

و«المناسك جمع منسك بمعنى العبادة أو مكانها أو الشريعة، قال تعالى ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ) (4)، ولعل أصل الكلمة .

ص: 47


1- سورة هود، الآية: 48 .
2- سورة النحل، الآية: 120
3- مواهب الرحمن: ج 2، ص 47 .
4- سورة الحج، الآية: 67.

بمعنى تقديم ذبيحة قرباناً لله تعالى، ولذا يقال للهدي النسيكة، وجمعها نُسُك ، قال تعالى ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكِ) (1) ، وتقديم القرابين شرعت من لدن آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال تعالى ﴿وَإِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِلَ مِنْ أَحَدِهِمَا) (2) . . . وكان في كل الشرائع، وإنما سمي الحج بالمناسك لتضمنه الذبح أو النحر .

وقد شاع استعمال الكلمة في الحج حتى أنه تنصرف الكلمة إليه إن لم تقترن بقرينة صارفة .

التاسع : قوله تعالى ﴿وَتُبْ عَلَينا).

التوبة بمعنى الرجوع، ولذا صح نسبتها إلى الله تعالى وإلى العبد فالعبد يرجع إلى الله بالطاعة، قال تعالى ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارُ لِمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (3) فيتعدى ب- «إلى» كقوله (فَتُوبُوا إِلَى بَارِيكُمْ) (4) ،كما أن الله يرجع إلى العبد باللطف والرحمة ويتعدى ب- «علی»، كقوله تعالى (تُم تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

ثم إن التوبة :

1 - قد تكون من ذنب كقوله (فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْه) (5) .

2 - وقد تكون من ذنب الأتباع من غير أن يكون التائب مذنباً، كما 9

ص: 48


1- سورة البقرة، الآية: 196.
2- سورة المائدة، الآية: 27
3- سورة طه، الآية: 82
4- سورة البقرة الآية: 54
5- سورة المائدة، الآية: 39

تعارف اعتذار قادة الدول من فعل أسلافهم تجاه الأمم الأخرى، وكما يعتذر الأب من خطايا ابنه، وقال تعالى (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (1) حيث إن طلب رؤية الله كان ذنباً من قوم موسى ، وإنما موسى نقل طلبهم إليه تعالى فتوبته عن ذنب قومه ثم شفاعته لهم بإقالة ذنبهم وإحيائهم مرة أخرى.

3 - وقد تكون عن ترك الأولى، كالالتفات إلى غيره تعالى فإنه مباح ولكن الأفضل تركه فيكون قبول هذه التوبة هو ارتقاء للدرجات كقوله تعالى ﴿فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَةٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) (2) ، وقد مرّ أن الأنبياء معصومون من الذنوب وكان أكل آدم من الشجرة تركاً للأولى.

4 - وقد تكون عن الخطأ من غير أن يكون خطيئة ، كقوله (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةٌ مِنَ الله) (3) وذلك في قتل الخطأ.

5 - وقد تكون لزيادة الرحمة واللطف وترقية للدرجات من غير أن يكون ذنب أو خطأ أو ترك للأولى كقوله تعالى ﴿لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة﴾ (4).

6 - وقد يكون لشعور الإنسان بعدم التمكن من أداء حق الله تعالى كمريض يعتذر ممن عادوه لعدم تمكنه من القيام بوظائف الضيافة أو الاحترام اللائق .

ص: 49


1- سورة الأعراف الآية: 143.
2- سورة البقرة، الآية: 37.
3- سورة النساء، الآية: 92
4- سورة التوبة، الآية: 117

7 - وقد تكون للتعليم، وذلك في كثير من أدعية المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ لكي يخاطب الناس الله تعالى بتلك الأدعية .

ودعاء إبراهيم وإسماعيل علیها السلام (وتُبْ عَلَيْنا) بمعنى الرجوع باللطف والرحمة، أو المراد الذرية أي على ذريتنا أو قالاه للاقتداء والتعليم أو لغير ذلك .

العاشر : قوله تعالى ﴿إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) .

«التواب» صيغة مبالغة، وصيغ المبالغة أو الأفعال الدالة على التكثير، قد تدل على كثرة الفعل، وقد تدل على شناعة الفعل ولو لم يكن كثيراً ، قال تعالى ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (1) بمعنى ليس بظالم وإنما

جيء بصيغة المبالغة للدلالة على شناعة الظلم .

فالتواب بمعنى كثير القبول للتوبة، وبمعنى القابل للتوبة من عظائم الأمور.

ثم إن تكميل الآية بقوله (الرَّحِيمُ) للدلالة على أن هذا الرجوع إنما هو رجوع للرحمة لا للعذاب فهو تأكيد للمفهوم المتضمن في معنى التوبة .

الثاني عشر : قوله تعالى ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ).

في الآية تصريح بأن محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم رسول من الله تعالى وهو دعاء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لذا روي عنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أنه قال (أنا دعوة إبراهيم) (2) لأنه لم يكن في ذرية إسماعيل نبي غير محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم..

ص: 50


1- سورة فصلت الآية: 29
2- البرهان ج 1 ، ص 557 عن تفسير القمي.

وفي هذا تحريض اليهود والنصارى والمشركين للإيمان برسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم .

والدعاء ليكون الرسول منهم - أي من نفس الذرية لا من غيرها - لينالهم الشرف، ولأن التأثير أكبر إذا كان النبي من نفس القوم أو لعلمهم بأنهم سوف لن يؤمنوا برسول من غيرهم كما قال تعالى ﴿وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ «198» فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (1).

ثم إن من الفضائل أن يرغب الإنسان في الخيرات لذريته، قال تعالى (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَجِنَا وَذُرِّيَّدِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (2) وقال سبحانه ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ (3).

الثالث عشر : قوله تعالى ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ).

سعادة الإنسان تتوقف على طهارة نفسه وعمله، وذلك يتوقف على علمه بالله وبالأحكام والآداب وبوضع الأشياء في مواضعها، وقد جمعت هذه الآية كل ذلك .

1 - فقوله (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ) أي الدلائل والبراهين التي ترشد إلى الله تعالى، والإيمان بالله هو مقدمة للسعادات .

2 - وقوله (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) أي القرآن، فإن القرآن فيه حياة .

ص: 51


1- سورة الشعراء، الآية: 198.
2- سورة الفرقان الآية: 74.
3- سورة آل عمران الآية: 36.

الإنسان والمجتمع قال سبحانه ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنان) (1) .

3 - وقوله (وَالحِكْمَةَ) أي وضع الأشياء في مواضعها فإن مجرد العلم بالأشياء لا يكفي إذا لم يضعها الإنسان في مواضعها الصحيحة، وتعليم الحكمة أقوال الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وأفعاله كلها، ولذا فسروا «الحكمة» بالسنة المطهرة، مع العلم بأن السنة الصحيحة لا توجد إلا عند أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ولذا جعلهم الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم عللاً للقرآن في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين، ولم يجعل السنة عدلاً - وإن حاول بعض الوضاعين تبديل لفظ «وعترتي» إلى «وسنتي» -، لما ذكرناه من أن السنة الصحيحة لا توجد إلا عند أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

4 - وقوله (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهر قلوبهم، فإن العلم بالبراهين وبالكتاب والحكمة لا يكفي إذا لم يعمل الإنسان بعلمه، بل قد ينسلخ الإنسان منها ، كما قال تعالى ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي وَءَتَيْنَهُ وَايَنَيْنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (2) ، بل يحتاج إلى طهارة في الباطن بقلب سليم حتى يعمل بعلمه .

ثم إن من طرق التزكية : قلع جذور المفاسد الاجتماعية والرذائل الخلقية .

الرابع عشر : قوله تعالى (إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .

من آداب الدعاء الثناء على الله تعالى وبيان الحاجة إليه وإظهار 5

ص: 52


1- سورة الإسراء، الآية: 82
2- سورة الأعراف الآية: 175

العجز، ومن البلاغة اختيار الصفات التي تناسب موضوع الدعاء، وهكذا في سائر الأمور يلزم اختيار الصفة المناسبة، ولذا قيل إن رجلاً قرأ على أعرابي آية السرقة وتممها بقوله : والله غفور رحيم، فقال الأعرابي أخطأت وذلك لأن ذكر الرحمة والغفران لا يناسب الحكم الشديد بقطع يد السارق، ولذا لم تبدأ سورة البراءة بالبسملة لتضمّنها (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ وذلك لأن السورة تبدأ بقوله (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ .

الآيات .

وفي هذه الآية فإن استجابة الدعاء هو لقدرة الله تعالى ولحكمته فلذا أتم الدعاء بقوله (إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فهو تعالى قادر على إرسال من شاء من الرسل وهو حكيم في جعل ذلك الرسول في ذرية من شاء، ثم إن (العزة) لا تكون إلا بقلة الشيء وكثرة الاحتياج إليه، والله واحد وهو الغني عن الكل، والكل محتاج إليه، فكان هو (العزيز) المطلق، وكل عزة ترجع إليه قال تعالى (أيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (1) ، وقال سبحانه ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ (2).8

ص: 53


1- سورة النساء، الآية: 139
2- سورة المنافقون، الآية: 8

الآيتان 130-131

اشارة

(ومَن يَرْغَبُ عَن مِلَةِ إِبْرَاهِیمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ «130» إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمُ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .

130 - وإذا كان هذا شأن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهذا شأن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وهو دعوة إبراهيم، فلا بد من اتباعهما، ولا يخالفهما إلّا السفيه، (وَمَن) - استفهام إنكاري - أي لا (يَرْغَبُ) يميل وينحرف (عَن مِلَّةِ) طريقة (إِبْرَاهِیمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) أي أذل نفسه بقلة عقله، (وَلَقَدْ) أي والحال أنه يجب اتباع ملة إبراهيم لأنه جمع خير الدارين، حيث (أصْطَفَيْنَاهُ) أي اخترناه (فِي الدُّنْيَا) ولم يكن اختياراً عبثاً بل لخلوصه من الشوائب أجمع ، (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أَي يصلح للجنة والمقامات العالية، أو يكون مع الصالحين.

131 - وعلّة اصطفائه أنه أطاع الله (إذْ) أي الاصطفاء في الوقت الذي (قَالَ لَهُ رَبُّهُ) بأن ألقى في روعه تكويناً ثم أمره تشريعاً : (أَسْلِم) أي اخضع وانقاد، (قَالَ) إبراهيم فوراً (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)

------------------------

ص: 54

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿وَمَن يَرْغَبُ).

مادة «الرغبة» بمعنى الميل، فإن تعدت ب-«في» أو «إلى» كانت بمعنى الميل إلى الشيء بالحب والارتباط به.

و«رغب فيه» يستعمل في الأفعال أو الأشياء، ورغب إليه» في الأفراد كقوله تعالى ﴿إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) (1).

وإن تعدت ب- (عن) كانت بمعنى الإعراض عن الشيء أو الانحراف عنه.

وإنما كانت الرغبة من الألفاظ الأضداد وتمييزها بحرف الجر، لأنها تتضمن كلا الطرفين المرغوب فيه و المرغوب عنه أحدهما تصريحاً والآخر تلويحاً، كقوله تعالى عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رغبُونَ (2)، وقال سبحانه قَالَ أَرَاغِبُ أَنتَ عَنْ وَالِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ (3) أي راغبون إلى الله عن غيره، وراغب عن الآلهة إلى الله الواحد .

الثاني : ﴿إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَه .

«السفه قلة العقل والعقل هو القوة الباطنية التي يدرك بها الإنسان الأمور فيدفع الأضرار عن نفسه ويجلب إليها المنافع، فمن يترك العقيدة الحقة والعمل الصالح، فإنه يخسر الدنيا والآخرة فيكشف ذلك عن قلة عقله .

ص: 55


1- سورة التوبة، الآية: 59
2- سورة القلم، الآية: 32.
3- سورة مريم، الآية: 46

وفي الحديث العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به (الجنان) (1) .

و«السفه من السجايا، لذا كان من الأفعال اللازمة، فتعديته هنا لتضمينه معنى التفعيل أي سفّه نفسه بأن جعلها سفيهة، أو لتضمينه معنى الإضلال والإذلال والاستخفاف والامتهان والإهلاك، وكلها بسبب

السفه.

وقيل سفُه - بضم الفاء - من أفعال السجايا فهو لازم، وسفه - بكسرها - بمعنى التفعيل أي جعلها سفيهة، وقيل غير ذلك .

الثالث : قوله تعالى ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا) .

هذا كالدليل على لزوم اتباع ملة إبراهيم، ويدل أيضاً على سفاهة الراغب عنها، لأن الله لا يصطفي أحداً إلا إذا جمع بين طهارة الباطن وحسن العمل، فيكون جديراً بالاتباع لا المخالفة، والرغبة عن الطريق الصحيح إلى غيره هو من قلة العقل .

و«الاصطفاء» من «الصفو» وهو عدم وجود كدر وشوب في شيء، أي لم يختلط به شيء، واستعمل في صفاء الباطن بمعنى خلوصه عما لا يليق.

وبما أن الله تعالى لا يختار للرسالة وللإمامة إلا من خلص باطنه من جمیع العلائق الأخرى فلذا سمى هذا الاختيار بالاصطفاء.

كما أن الدين هو اختيار الله تعالى فلذا كل ما يرتبط به ليس فيه شائبة .

ص: 56


1- أُصول الكافي، كتاب العقل والجهل: ح3.

بل هو الحق الصراح، قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ) (1) أي اختاره لأنه الحق، وسيأتي الكلام حول هذه الآية قريباً .

ثم إن اصطفاء الله تعالى تكويني، أي الله تعالى خلق ذاتهم أسمى وأرفع من بقية الذوات .

وذلك لأن الله تعالى خلق مختلف أصناف المخلوقات، وفضل بعضها على بعض ولولا التفضيل لفقد الخلق معناه وللزم خلق كل الأشياء بشكل واحد وهو خلاف الحكمة، فالنبات مفضل على الجماد والحيوان مفضل على النبات والإنسان مفضل على الحيوان بل في كل نوع البعض منه أفضل من البعض الآخر. وقد مرّ الكلام في التفضيل في الآية 90 فراجع.

ثم لا يحق لأحد الاعتراض على الله تعالى بأنه لماذا لم يخلقني من طينة الأنبياء ولم يفضلني كما فضلهم، وقد أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة حيث قال (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (2) وقال ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختارُ مَا كَانَ هُمُ الْخيَرَةُ) (3).

وحاصل الجواب أن لا مخلوق له حق على الله تعالى بل الله تفضّل عليه ورحمه ،بخلقه فأصل خلقه فضل من الله ، ثم غمره بالنعم وهذا فضل آخر من الله فلا حق له لكي يعترض على تفضيل بعضهم عليه ، أن الله لم يفضل اعتباطاً وإنما لحكمة فلا يعترض التراب بأنه لماذا لم8.

ص: 57


1- سورة البقرة، الآية: 132
2- سورة الأنعام، الآية: 124.
3- سورة القصص الآية: 68.

أخلق ذهباً - مثلاً - ولا يعترض عامة الناس لماذا لم نخلق معصومين أنبياء أو أئمة ، هذا في الجانب التكويني.

ثم إن الله يختبر من اصطفاهم ليظهر صفاء طينتهم للناس عامة وأيضاً لرفع درجاتهم ومقاماتهم، فإن ذاتهم وإن كانت أرفع لكن بالاختبار تزداد ،رفعة كالذهب وهو في المعدن ثم يوضع في بوتقة الصائغ وتمسه النار فيظهر صفاؤه ويزداد جمالاً وقيمة.

الرابع : قوله تعالى ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) .

تكرر هذا المقطع في ثلاث آيات هنا وفي سورة النحل : 122

وفي سورة العنكبوت : 27.

وإنما خص ذلك بالآخرة مع أن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ من الصالحين في الدنيا أيضاً لأن المعنى هو :

1 - أنه يصلح للمقامات العالية، كقوله تعالى ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (1) أي يصلح حالهم في الآخرة، فلئن وقعوا في مشاكل كثيرة لكن حالهم يكون على أحسن حال في الآخرة، وإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ابتلي بمشاكل كبيرة في حياته ومرّ بمراحل صعبة من الاختبار مما نغصت عليه عيشه فلذا استحق أن يكون في الآخرة ذا حال حسنة .

2 - أو بمعنى إصلاح عمله، وذلك بقبوله ، كقوله تعالى (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَلَكُمْ) (2).

3 - أو بمعنى الإظهار بمظهر الصلاح، كقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ 1

ص: 58


1- سورة محمد، الآية 5.
2- سورة الأحزاب الآية: 71

عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ (1) أي لا يظهرها بمظهر الصلاح حتى وإن حاولوا ذلك، وإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ رفضه قومه فاضطر إلى الهجرة عنهم حيث اعتبروه ظالماً قال تعالى (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِتَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (2) فظهوره بمظهر الصلاح الكامل لا يكون في الدنيا وإنما في الآخرة.

4 - وقيل إن المعنى أنه في الآخرة مع الصالحين كما في قوله رَبِّ هَبْ لِي حُكَمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾(3) .

ومعنى ذلك أن الصالحين هنا يراد بهم مجموعة خاصة فدعا إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ أن يلحق بهم في الآخرة، وإلا فهو كان يعلم بأنه من الصالحين - بمعناه العام ، بل كان يعلم بأنه إمام للصالحين بهذا المعنى وفوقهم بدرجات فلا يكون هذا الدعاء في قوله تعالى ﴿وَالْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (4) إِلَّا دعاءً للالتحاق بمجموعة خاصة من الصالحين ، واستجاب الله له ذلك في الآخرة لا في الدنيا، ولعل أولئك هم محمد وآل محمد (عليه وعليهم الصلاة والسلام) لأنه علم بفضلهم كما مرّ في تفسير قوله تعالى ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِیم رَبُّهُ بِكَلِمَات) (5) وإحدى معاني «الكلمات» هم الخمسة الطبية.

والحاصل أن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان خيرة الله وصفوته في الدنيا ومشهود له الصلاح في الآخرة، فهو حري بالاتباع ولا أحد أولى منه بالرغبة فيه، فالرغبة عنه سفه وجهل .

ص: 59


1- سورة يونس الآية: 81
2- سورة الأنبياء، الآية: 59
3- سورة الشعراء، الآية: 83
4- سورة يوسف، الآية: 101.
5- سورة البقرة، الآية: 124

الخامس : قوله تعالى ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ).

قوله «إذ» تتعلق بقوله (أَصْطَفَيْنَاهُ) أي اخترناه حينما قلنا له أسلم .

وقد مرّ أن معنى الإسلام هو الإذعان والانقياد وهذا القول تكويني وتشريعي :

أما التكويني فهو ما ذكرناه في الاصطفاء ومعناه أن الله خلقه من طينة أرفع فجعل التسليم في ذاته كما في قوله تعالى ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَابِعِينَ) (1) . فالقول كان بالتكوين وإطاعتهما بمعنى خضوعهما تكويناً لإرادة الله تعالى.

وأما التشريعي فهو أمر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالإسلام وأخذ الميثاق منه بتبليغه، كما قال تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثاقًا غَلِيظًا) (2)، كما أمر الله رسوله محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالإسلام قال تعالى (وَأُمِرْتُ أَنْ أَسْلِمَ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ ) (3).

ويحتمل أن يكون قوله (إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِم) إشارة إلى انقياده وإطاعته أمر الله بذبح إسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ كما قال تعالى ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَهُ لِلْجَبينِ«103» وَنَدَيْنٰهُ أَن يَاإبرَاهِيمُ«104» قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءیَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (4) فلعل الاصطفاء هو الجزاء الذي حصل عليه لتسليمه بأمر الله تعالى . .

ص: 60


1- سورة فصلت الآية: 11
2- سورة الأحزاب الآية: 7.
3- سورة غافر، الآية: 66.
4- سورة الصافات، الآيات، 103 - 105.

السادس : روي عن السجاد والباقر والصادق والعسكري عَلَيْهِم السَّلاَمُ أنهم قالوا (ما أحد على ملة إبراهيم إلا نحن وشيعتنا وسائر الناس منها براء)(1).

وهذا معنى حديث الثقلين حيث قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي) (2) فعدم اتباع أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ضلال، وهذا هو معنى قولهم «وسائر الناس منها براء»، والقرآن وأهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ لن يتفرقا كما قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ( علي مع القرآن والقرآن مع علي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ) (3). فالتمسك بأحدهما تمسك بالآخر، فاتباع أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ اتباع لملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهذا معنى قولهم «ما أحد على ملة إبراهيم إلَّا نحن وشيعتنا». .

ص: 61


1- الجوهر الثمين ج 1 ، ص 147 .
2- البحار ج 23، ص 7 ، ورواه من العامة مسلم : ج 4 ، ص 1873 ، وأحمد بن حنبل في مسنده ج 4 ، ص 366 .
3- الاحتجاج : ج 1، ص 216 و 297 ، وواه من العامة الحاكم في مستدركه : ج 3، ص 124 .
القسم الثاني: استمرارية الأمة

الآيتان 132-133

(وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)»

«أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)».

132 - ثم إن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ اهتم بأمر الدين وأراد استمراره (وَوَصَّى بِهَا) بالملة التي منها الإسلام لرب العالمين (إِبْرَاهِیم بَنِيهِ) أبناءه، قيل كانوا أربعة أو أكثر (وَ) كذلك وصى بها (وَيَعْقُوبُ) بنيه الاثني عشر فلا يصح زعم أنهما أوصيا باليهودية، وكانت الوصية حال كون إبراهيم ويعقوب قائلين : ﴿يَا بَنِيَّ ) أبنائي ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) أي اختاركم لحمله حيث أرسل فيكم الرسل وجعل بعضكم أنبياء، ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) أي استمروا على الإسلام حتى إذا جاءكم الموت مُتُّم مسلمين، فإن الإنسان لا يعلم

متى يموت فعليه بالإسلام حتى إذا جاءه الموت بغتة مات مسلماً .

133 - (أَمْ كُنتُمْ) بمعنى بل كنتم (شُهَدَاءَ) حاضرين، فقد حضرتم وشهدتم حيث إن أسلافكم كانوا حاضرين وقد نقلت الوصية

ص: 62

في كتبكم فنسب فعل الأسلاف إليكم لعلمكم به، ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أي اقترب أجله في ساعة الاحتضار (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِى) استفهام تقريري بغرض الإرشاد والتثبيت وجعلها كلمة باقية في عقبه (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) فإن إسماعيل كان عمّ يعقوب، ويطلق الأب على العمل ﴿وَإِسْحَاقَ) هذا في الاعتقاد، وأما في العمل (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) منقادون خاضعون .

-------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (وَوَصَّی بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ).

في الآية رد على زعم اليهود بأن إبراهيم أو يعقوب أوصيا باليهودية كما سيأتي في قوله تعالى (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَرَى) (1) ، وقال سبحانه (يَأَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِماً) (2).

ثم إن تخصيص الأبناء بالذكر مع أن الدعوة عامة، لأجل أن الوصية تكون عادة للأقرباء، فكان تبليغ إبراهيم عاماً لكن وصيته كانت خاصة، .

ص: 63


1- سورة البقرة، الآية: 140.
2- سورة آل عمران الآيات: 65 - 67.

وذلك لكي يهتموا بها أكثر، ولذا اعتاد الناس إيصاء أهم الأمور إلى أقربائهم .

2 - أو لأن الإشفاق عليهم أكثر، وقبولهم للوصية أقرب، وحملهم لها أجدر .

و(بَنِیهِ) بمعنى أبنائه والمعروف منهم إسماعيل وإسحاق علیهما السلام ،

فهل كان لإبراهيم أبناء آخرون؟

قيل إن أبناءه أربعة أو أكثر.

ويمكن أن يكون المراد ذريته، فالوصية لهم جميعاً - أبناءً وأحفاداً - كما في قوله تعالى ﴿وَرَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِنَا وَأَجْنُبْنِي وَبَنِى أَن نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) (1) وقال تعالى ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا) (2) ولم يكونا إِلَّا الحسن والحسين علیهما السلام وهما حفيدان لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم.

والأبناء يشمل البنات أيضاً، وأطلق عليهن ذلك تغليباً .

الثاني : قوله تعالى ﴿وَيَعْقُوبُ)

لعل تخصيص يعقوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالذكر مع أن إسماعيل وإسحاق عَلَيْهِم السَّلاَمُ أوصيا بذلك أيضاً، لجهة أن يعقوب هو إسرائيل الذي ينتسب إليه اليهود وأبناؤه الاثنا عشر هم الأسباط، وكل طائفة من بني إسرائيل تنتسب إلى أحدهم، فكان ذكر يعقوب أوقع في نفوسهم وأتمّ للحجة . .

ص: 64


1- سورة إبراهيم، الآية: 35
2- سورة آل عمران الآية: 61 .

ثم إن تأخير يعقوب لجهة أن أصل الوصية كانت من إبراهيم، وكان يعقوب استمراراً لها .

الثالث : قوله تعالى (إنَّ اللَّهَ اصْطَفٰى لَكُمُ الذِينَ).

بما أن الدين هو عام لكل البشرية، فاصطفاء الدين لأبناء إبراهيم ويعقوب :

1 - إما من باب أن الصفو صفة الدين، ويصح تضمين صفة المفعول في الفعل الذي ينسب إلى الفاعل . مثلاً يقال : يستحب تدوير الوجه في الوضوء ومعنى تدوير الوجه هو غسلها ، ولكن بما أن غسل الوجه يتضمن إمرار اليد على الوجه وهو كالدائرة، فلذا استعمل التدوير بدلاً عن الغسل، وهذا من البلاغة في الكلام .

فمعنى (اصْطَفٰى لَكُمُ الذِينَ) هو أعطاكم الدين الذي هو صفو لا شائبة فيه .

2 - أو بمعنى اختاركم لحمله ففيكم الأنبياء والأوصياء والأئمة وغيرهم .

3 - أو بمعنى أنه أرسل فيكم رسلاً خلافاً للقبائل الأخرى التي لم يرسل فيها رسولاً بل أمرهم باتباع رسل من غيرهم.

الرابع : قوله تعالى ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) .

في الآية إشارة إلى قبول توبة غير المسلم، فليس المهم ماضيه في الشرك ،والعصيان فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، بل المهم حسن العاقبة

ص: 65

بالموت على الإسلام، كما أن فيها إشارة إلى لزوم الاستمرار على الإسلام لأن الإنسان لا يعلم متى يأتيه الموت.

والنهي في الحقيقة يرجع إلى كونهم على غير الإسلام، ولكن أدخل النهي على الموت - مع أنه غير اختياري ولا يصح النهي إلا عن المقدور - للدلالة على أن موت غير المسلم لا خير فيه، فكما أن النهي يتعلق بما لا خير فيه كذلك الموت على غير الإسلام لا خير فيه .

الخامس : قوله تعالى (أَمْ أَكُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) .

قيل : «أم» منقطعة تتضمن معنى (بل) مع همزة الاستفهام الإنكاري فيكون المعنى لم تكونوا حضوراً حين الوصية، فلا تدعوا على يعقوب باطلاً وأنه أوصى باليهودية .

والأقرب أن (أم) للإضراب المجرد عن الاستفهام كقوله تعالى (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) (1) أي بل جعلوا له فيكون معنى الآية أن هؤلاء اليهود كانوا شهوداً حين الوصية، وذلك لصحة نسبة فعل أسلافهم إليهم كقوله تعالى ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ ) (2). ومن هذا القبيل مجموعة من الآيات التي مرت في أوائل سورة البقرة، ولما كان اليهود المعاصرون للنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يعلمون بهذه الوصية لكنهم كانوا يخفونها صحت نسبة الحضور حين الوصية إليهم، كما سيأتي في قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كتَمَ شَهادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ) (3)..

ص: 66


1- سورة الرعد، الآية: 16 .
2- سورة البقرة، الآية: 91
3- سورة البقرة، الآية: 140.

وقيل إن وصية يعقوب كانت في التوراة ولا زال بعض مقاطعها موجود في التوراة الحالي.

السادس: قوله تعالى ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِى).

استفهام تقريري والغرض منه الإرشاد وأخذ الإقرار فإن هذه الطريقة أبلغ في الحجة، فتارة يكون مجرد إنشاء وأمر يمكن للشخص التملص منها، وتارة يكون بطريقة أخذ الميثاق، فلا تبقى له حجة .

و(من) تستعمل لذوي العقول وما لغيرهم، - عادة - وقد تستعمل إحداهما مكان الأخرى - قليلاً -.

وإذا أريد السؤال عمَّا يحتمل الأمرين استعملت : «ما»، وحيث إن الكثير يعبدون الأوثان ونحوها فإن السؤال عن المعبود جيء بلفظ «ما» ، فهل تعبدون الله أم تعبدون الجمادات؟

السابع : قوله تعالى ﴿وَإِلٰهَ ءَابَاءِكَ إبْرَاهِیمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَاقَ) .

الأب يطلق على العم أيضاً، وإسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ لم يكن أباهم بل كان ذلك قالوا (ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ)

... حيث إن العم - وكذلك الجد - بمنزلة الأب، قال تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَازَرَ) (1) أي لعمه .

ثم إن تقديم إسماعيل على إسحاق لأنه الأكبر، قيل: ولأنه الأفضل.

ويمكن إطلاق (ءَابَائِكَ) عليهم من باب التغليب، حيث لا يشترط .

ص: 67


1- سورة الأنعام، الآية: 74.

في التغليب الأكثرية أو الأفضلية، بل يرتبط بخصوصيات الاستعمال أو عادات الناس أو ما يرتبط بالكلام والأوزان ونحوها، وقد يكون للأكثرية أو الأفضلية دخل في التغليب أحياناً لا دائماً .

الثامن : قوله تعالى ﴿إِلَهَا وَاحِدًا).

الواحد في الله بمعنى ما لا ثاني له كما أن الأحد بمعنى ما لا جزء له .

فليس الواحد في صفات الله بمعنى الواحد العددي، لأن الواحد العددي يمكن أن يكون له ثان وثالث ،وهكذا، كما أنه لا جزء له لأن المركب يحتاج إلى أجزائه، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في شرح أصول

الكافي.

وإنما قالوا (إِلٰهَا وَاحِداً) لبيان اعتقادهم بالتوحيد - وهو أهم دعوة الأنبياء كما فيه دفع إيهام تعدد الآلهة لأنهم قالوا قبل ذلك (نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ) ... وهذا وإن كان واضحاً لكن لارتباطه بأصل العقيدة

حسن بيانه تأكيداً .

ص: 68

الآية 134

اشارة

(تِلْكَ أُمَةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ «134»)

134 - إن صلاح هؤلاء الآباء - إبراهيم وبنيه - كان مفيداً لهم، ولا يفيد غيرهم إلا باتباعهم ، ف (تِلْكَ أُمَّةٌ) جماعة (قَدْ خَلَتْ) مضت (لَهَا مَا كَسَبَتْ) من الأعمال الصالحة، فلا يعطى ثوابها لغيرها، (وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ) من الأعمال، (وَلَا تُسْئَلُونَ﴾ أي لا تحاسبون (عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ، إذاً فلا يكفي الاعتماد في النجاة على صلاح الآباء ومنزلتهم عند الله تعالى .

---------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) .

هذه الآية كالنتيجة للآيات السابقة وبيان أن المناط على الإيمان والعمل، فلا يكفي الاعتماد على صلاح الآباء حتى وإن كانوا من

ص: 69

الأنبياء، فهذا ابن نوح أهلكه الله وأخرجه من أهل أبيه لأنه لم يكن ذا عمل صالح قال تعالى ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلُ غَيْرُ صَالِحٍ) (1) .

والأنبياء لا يغنون أقرباءهم الكفار شيئاً ، فهذه امرأة نوح وامرأة لوط كما قال تعالى (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (2)، ولعل تخصيص سورة المسد لأبي لهب وامرأته للدلالة على أن النسب لا يفيد مع الكفر .

بلى إذا آمن الإنسان وعمل عملاً صالحاً، فلعله يحتاج إلى الشفاعة لقصور أو تقصير صدر منه، وقد مرّ البحث في الشفاعة.

و(الأمة) بمعنى الجماعة، وأصله بمعنى القصد لأن الجماعة تُقصد، كما مرّ .

وخلت من الخلو وأصله بمعنى الانفراد، لأن الأموات انفردوا عن الحاضر أو انفردوا عن سائر الناس في قبورهم.

الثاني : قوله تعالى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم )

«الكسب» هو العمل الذي يقصد فاعله جلب نفع أو دفع ضرر عن نفسه فهو يرتبط بالجوارح ، وقد ينسب إلى القلب باعتبار العمل الذي القصد كقوله تعالى ﴿وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (3). وذلك ينشأ من لأن الحلف كان عن قصد ثم خالفوا الحلف في العمل .

ثم إن العمل قد يكون ضاراً في الواقع ولكن يتوهم الفاعل أنه نافع كقوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ) (4)..

ص: 70


1- سورة هود، الآية: 46 .
2- سورة التحريم الآية: 10.
3- سورة البقرة الآية 225
4- سورة الأنعام، الآية: 120.

ثم إن النفع إن كان حقيقيّاً يتعدى الكسب باللام وإن كان مضرّاً واقعاً يتعدى ب-«على» قال تعالى ﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ)، وقال سبحانه (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (1) .

وحيث إن المقام هنا، مقام الدعوة والإرشاد، وبيان صلاح الآباء والتحريض على اتباعهم، كان الأنسب هو بيان ثواب الإيمان ونفعه .

ولذا قال تعالى (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ) أي أعمالهم الصالحة لهم وأعمالكم الصالحة لكم .

الثالث : قوله تعالى ﴿وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

أي لا تحاسبون على فعلهم بل لا يُوَجّه إليكم مجرد السؤال عن أفعالهم، لأنهم لم يكونوا ضمن تكليفكم ومهمتكم .

ثم إنه لم يقل : ولا يُسألون عن فعلكم، لوضوح أن الأنبياء لا يحاسبون على أفعال أممهم كقوله تعالى (قُل لَّا تُسْئَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (2).

بلى يُسألون عن تأدية الرسالة إتماماً للحجة أو لتبرئتهم عن جرائم أممهم ، قال تعالى ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَ الْمُرْسَلِينَ) (3) أي سؤالهم عن فعلهم وهو تأدية الرسالة، وقال تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْیَم ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِيَ إِلٰهَيْنِ مِن دُونِ الله) (4) فهنا سؤال عن فعل يرتبط به وأنه هل قال هذا القول أم لم يقله، والغرض هو تبرئته من ذلك..

ص: 71


1- سورة البقرة، الآية: 286 .
2- سورة سبأ، الآية: 25.
3- سورة الأعراف الآية: 6.
4- سورة المائدة، الآية: 116 .
القسم الثالث الوصية ومخالفتها

الآيتان 135-136

«وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136).

135 - ﴿وَ) لكن الكثير خالف الوصية ف- (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) إذ قالت اليهود كونوا يهوداً، وقالت النصارى كونوا نصارى (تَهْتَدُوا) إلى الحق، (قُل بَل) نتبع (مِلَّةَ إِبْرَاهیمَ) التي هي التوحيد، فإنه كان (حَنِيفًا) مائلاً من الباطل إلى الحق، (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بخلاف اليهود والنصارى حيث أشركوا .

136 - ثم إن رفضنا لليهودية والنصرانية إنما هو لانحراف لحقها، وإلا فموسى وعيسى عَلَيْهِم السَّلاَمُ وسائر الأنبياء كلهم كانوا على طريقة واحدة، فلذا (قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ) موحدين، (وَ) آمنا ب- (وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا) وهو القرآن ﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) وهم ذرية يعقوب وكان فيهم الأنبياء، والذي أُنزل إلى هؤلاء هو صحف إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وأصول الدين وفروعه والأخلاق

ص: 72

ونحوها، فإنها نزلت على إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأُمِر هو وأبناؤه وأحفاده بالعمل بها وتبليغها، (وَ) قولوا أيضاً آمنا ب- (مَا أُوتِىَ مُوسَى) التوراة ﴿وَعِيسَى) الإنجيل، خصصا بالذكر لأن المقام هو في محاجة أهل الكتاب ، (وَ) آمنا ب- ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّون) أجمع ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُم) فكلهم من قبل الله تعالى وكلهم بلغوا ما أمرهم الله تعالى ،به (وَنَحْنُ لَهُ) اللهُ (مُسْلِمُونَ) ،منقادون، فلا نرفض نبيّاً لعداوة من ينتحل دينه أو ينتسب إليه .

--------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا).

المعنى قل بل نتبع ملة إبراهيم أو بل أهل ،ملته أو بل نكون أهل ملة.

وفي الآية نفي كون الاهتداء في اتباع اليهودية أو النصرانية، وذلك لما لحقهما من التحريف، وإلا فشريعة موسى وعيسى عَلَيْهِم السَّلاَمُ إنما هي إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأمر الله الناس في وقتهما ،باتباعهما، كما مرّ في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصٰرَىٰ وَالطابِئينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ (1).

وقال سبحانه (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَات فِيهَا هُدَى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا)(2)..

ص: 73


1- سورة البقرة، الآية: 62.
2- سورة المائدة الآية: 44 .

والحنيف من (الحنف) وهو الميل من الباطل إلى الحق، وعكسه

(الجنف) كما قال تعالى ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُوصٍ جَنَفَا) (1).

وفي كلمة (حنيف) إشعار بأن الطبع البشري هو في اتجاه الباطل لقوة الشهوات والأهواء، ولذا كان الإيمان هو ميل منه إلى الحق، كما قال تعالى ﴿وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) (2) .

أو لأنه كان من قوم كفار فانحاز إلى الحق رغم مخالفتهم إياه أجمع وما لاقاه من المشاكل، فاستقام على الحق.

ثم إن نسبة الملة إلى إبراهيم مع أن الأنبياء الذين تقدموه كانوا على نفس الطريقة من آدم إلى نوح عليهما السلام لأجل :

1 - اعتراف كل من اليهود والنصارى والمشركين بإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ فكانت نسبة الملة إليه أوقع في النفوس وأكثر تأثيراً وأتمّ للحجة .

2 - أو لانقراض أُمم الأنبياء السابقين وعدم ثبوت تاريخ أنبيائهم، فكان إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ مؤسساً مجدداً لطريقة التوحيد وما لازمها .

3 - أو لأن طريقة إبراهيم كانت أول شريعة متكاملة في العقيدة والأحكام والأخلاق نظراً للتطور البشري وتدريجية نزول الدين

وكل الشرائع التي جاءت بعد إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ اشتركت في أصول ما جاء به إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإنما اختلفت في بعض التفاصيل نظراً للتدريجية ولتغير الظروف، إلى أن أكمل الله دينه من كل الجهات ببعثة خاتم الأنبياء

ص: 74


1- سورة البقرة، الآية: 182
2- سورة الأحزاب الآية: 72.

محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فأنزل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً) (1).

كما أن في الآية دلالة على أن الاهتداء هو في اتباع ملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وأن اليهود والنصارى ليسوا مهتدين، وأنهم ليسوا على ملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأنهم قد اختلط الشرك بعقيدتهم خلافاً لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

الثاني : قوله تعالى ﴿قُولُوا ءَامَنَا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا).

كان الأمر متوجّهاً إلى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) ثم توجه الأمر إلى جميع المؤمنين (قُولُوا ءَامَنَا) .... ، لأن الآية السابقة كانت في احتجاج بين الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبين بعض أهل الكتاب، فكان ذاك جواب الرسول إليهم (2) ، ثم أمر الله جميع المؤمنين بإظهار عقيدتهم في الله والأنبياء.

أو لأن الرسول مبلّغ فلذا خاطبه الله (قُل بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِیمَ)، والمؤمنين مكلفون فلذا أمرهم ب- ﴿ قُولُوا ءَامَنَّا)...

أو إفراد الضمير في (قُل) حتى لا يتوهم أن الأمر توجّه إلى اليهود والنصارى المذكورين في أول الآية ﴿وَقَالُوا كُونُوا)...

أو تبديل الخطاب من المفرد في ﴿قُلْ) إلى الجمع في (قُلُواْ) هو نوع بلاغة وتفنن في الكلام.

ثم إن المقام لما كان مقام الاحتجاج، تضمن جواب المؤمنين: ما يعتقدون به كاملاً مع الإشارة إلى الدليل والحجة..

ص: 75


1- سورة المائدة، الآية: 3 .
2- في مجمع البيان ج 1، ص 549 ؛ قيل إن ابن صوريا قال لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله هذه الآية.

فما دمنا آمنا بالله تعالى فاللازم أن نؤمن بكل ما جاء من عنده ،سبحانه وليست اليهودية ولا النصرانية المحرّفتان مما نزل من عند الله ، ولا هما يتطابقان مع الفطرة، ولا إبراهيم وأبناؤه وأحفاده كانوا على اليهودية والنصرانية المحرّفتين، وهذا مما يعلمه كبار أهل الكتاب لكنهم يكتمونه، هذا حاصل الاحتجاج الذي يُبيّن في الآيات : (136 - 140). الثالث: قوله تعالى ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ).

هؤلاء لم يكن لهم شريعة وكتاب غير شريعة وكتاب إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وإنما كانوا مبلغين ومطبقين لتلك الشريعة فلذا جعلوا مع إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ في مقطع واحد، وإنما ذكروا مع إبراهيم لأجل تفنيد ادعاءات اليهود والنصارى بالنسبة إليهم .

أما موسى وعيسى علیهما السلام و رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فقد كان لكل واحد منهم كتاب لذا ذكروا في ﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا)، (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى).

والذي أنزل على إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ هو الصحف كما قال تعالى ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى «18» صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (1).

و«الأسباط» جمع (سبط) يُراد بهم أولاد يعقوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الاثنا عشر ونسلهم، والأسباط في ذرية إسحاق كالقبائل في ذرية إسماعيل، قال تعالى ﴿وَقَطَعْنَهُمُ اثْنَى عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمَّاً) (2) فكل قبيلة من بني إسرائيل سبط لانتهاء نسبها إلى أحد أولاد يعقوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وأصل معنى السبط هو الحفيد لأنهم كانوا أحفاد إسحاق عَلَيْهِ السَّلاَمُ.0

ص: 76


1- سورة الأعلى، الآيتان: 18 - 19.
2- سورة الأعراف الآية: 160

ولم يكونوا كلهم أنبياء لأن أولاد يعقوب العشرة ارتكبوا ذنباً فظيعاً بما فعلوه بيوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، والأنبياء معصومون من الذنوب - صغيرها وكبيرها - في كل حياتهم، وقد مر بعض الكلام في العصمة في قصة آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

والكتب السماوية أنزلت إلى الأمم أي لأجلهم ولهدايتهم، فلا دلالة فيه على نبوة أبناء يعقوب كلهم، وأما قوله تعالى ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) (1) ، فالمراد بالأسباط أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا من ذرية يعقوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ وليس المراد أولاد يعقوب الاثني عشر بالذات .

الرابع: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

بما أن المرسل واحد وهو الله، فكل الأنبياء على طريقة واحدة فإنكار أحدهم إنما هو إنكار على الله تعالى - وقد مرّ بعض الكلام فيه _.

وفي التقريب : فإن دين الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ كلهم يتلخص في أصول وفروع وأخلاق .

فالأصول: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، فإن كل نبي يُصدِّق من سبقه، سبقه، ويُبشِّر بمن يلحقه كما أن الإمامة بمعنى الوصاية، فإن كل نبي كان له أوصياء.

والفروع الصلاة والصوم والزكاة وما أشبه من العبادات، وأحكام : المعاملات - بالمعنى الأعم ، وكل الأديان كانت مشتركة فيها مع .

ص: 77


1- سورة النساء، الآية: 163.

تفاوت يسير حسب اقتضاء الزمان والأمة، فمثلاً كان صوم الصمت في بعض الأمم وليس في الإسلام، وهكذا.

والأخلاق: الصدق والأمانة والوفاء والحياء وما أشبه وكلها فطريات نفسية كانت الأنبياء تأمر بها وتنهى عن أضدادها (1) . .

ص: 78


1- تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 ، ص 185.

الآيتان 137-138

اشارة

«فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)»«صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)».

137 - هذا هو الاهتداء، ﴿فَإِنْ آمَنُوا) اليهود والنصارى (بِمِثْلِ مَا ءَامَنتُم بِهِ﴾ أي بمثل إيمانكم بالله وما أنزل على النبيين أجمع وانقادوا (فَقَدِ أهْتَدَوا) إلى الحق ، فليست الهداية مجرد انتحال اليهودية والنصرانية، ﴿وَإِن تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن مثل إيمانكم (فَإنّما هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي مخالفة ومعاندة للحق وذلك كفر وليس اهتداء، ولا تحزن من شقاقهم فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ) أي سيكون الله كافياً لك منهم بمعنى يمنعك أذاهم ويسدّ حاجتك ويوصلك لغايتك .

(وَ) إنما يكفيك لأنه (هُوَ السَّمِيعُ) يسمع ما تدعو ويسم ، ويسمع ما ينطقون (العَلِيمُ) بنيتك الخالصة ويعلم ما يضمرون من الحسد والغِلّ ونحوهما .

138 - قولوا أيها المؤمنون: (صِبْغَةَ اللَّهِ) ، وهذا دليل على أن إيمان المسلمين هو الهداية لأنه الحالة التي يريدها الله، والمعنى قولوا لقد صبغنا الله بصبغة ،الإيمان، (وَمَن) - استفهام إنكاري - أي

ص: 79

هل يوجد (أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) ؟! هذا الإيمان من حيث الاعتقاد وأمّا من حيث العمل فقولوا : ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَبدُونَ) فالباطن مصبوغ بصبغة الله فظهر على العمل وهو عبادته تعالى .

--------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ) .

1 - «ما» في قوله (مَآ ءَامَنتُم بِهِ) مصدرية، فالمعنى إن آمنوا بمثل إيمانكم، أي وآمنوا كما تؤمنون أنتم فماثل فعلهم فعلكم .

2 - ويمكن جعل ((ما)) موصولة، فالمعنى فإن آمنوا بمثل الذي آمنتم به، فتكون مثل هنا للتبكيت، أي إن وجدتم إيماناً آخر مثل هذا الإيمان الذي نحن عليه فآمنوا به، وإلا فاعلموا أنكم في ضلال، إذ لا مثل لما آمن به المسلمون ولا دين كالإسلام.

والغرض من هذا الأسلوب هو إلزام الخصم وسد باب الاحتجاج عليه، إذ فيه استدلال على عدم وجود مثل لهذا الإيمان، كما يقال: «هذا الرأي هو الصواب فإن وجدتم أصوب منه فاعملوا به، يُراد أنه لا يوجد مثل هذا الرأي (1) .

3 - ويمكن جعل مثل بمعنى الذات والنفس، أي فإن آمنوا بذات .

ص: 80


1- مضمون ما ورد في الكشاف ج 1، ص 195.

ما آمنتم به ونفسه كما في قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ) (1) ، أي ليس كذاته تعالى شيء.

الثاني : قوله تعالى ﴿فَقَدِ اهْتَدَوا) .

هذا رد لقولهم (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصٰرَىٰ تَهْتَدُوا ) (2) ، فإن الهداية ليست بمجرد ادعاء اتباع دين ،مُحرّف، بل الهداية في اتباع الحق الذي بيّنه الله تعالى، ولذا كان أتباع موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأتباع عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ مهتدین، لأنهم آمنوا بالله وآمنوا بجميع ما أنزله تعالى، وصدقوا بالأنبياء أجمع، وآمنوا بمحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لمّا بشّر الأنبياء به، قال تعالى ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحَمدُ) (3).

وفي الآية دلالة على انحراف اليهود والنصارى المعاصرين للنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم عن الحق ، لعدم اتباعهم الإيمان الذي جاء به أنبياؤهم.

وأما بنو إسرائيل في زمن موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأنصار عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ في زمنه، من آمن منهم بهذا الإيمان الصحيح فقد كانوا مهتدين، وقد مرّ البحث في في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصٰرَىٰ وَالصَاّبِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (4).

الثالث : قوله تعالى ﴿وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ)..

ص: 81


1- سورة الشورى، الآية : 11 .
2- سورة البقرة الآية: 135
3- سورة الصف، الآية: 6.
4- سورة البقرة، الآية: 62.

فإن إعراضهم عن هذا الإيمان لا يكون إلا عن لجاج وعناد حيث تمت الحجة.

فقد تبين لزوم اتباع ملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهم يعترفون بها ، ويعترفون أنه لم يكن مشركاً ، إذا فشركهم بالله بقولهم عزير ابن الله أو المسيح ابن الله أو اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله ، لا يمت إلى إبراهيم وملته بصلة .

وصورة البرهان - كما عن بعض -:

1 - الإيمان بالأنبياء سبب الهداية.

2 - واليهود إن آمنوا بهم فقد اهتدوا

3 - لكنهم لم يؤمنوا بهم .

4 - فالنتيجة : أنهم لم يهتدوا .

وفي هذه الآيات تدرج في الاستدلال.

فأولاً : ذكر ما يقرّ به الخصم - وهو ملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ _.

وثانياً : بيان أنهم يخالفون لوازم كلامهم فيخالفون ملة إبراهيم ويشركون .

وثالثاً : بيان الحق وهو الإيمان بالله وبكل ما جاء من الله تعالى .

ورابعاً : بيان عنادهم وشقاقهم .

وخامساً : ذكر نتيجة عملهم وأن الله سيكفي رسوله من شرهم ويعاقبهم .

و«الشقاق» من الشق لأن كلّاً من المتخالفين في جانب يخالف

ص: 82

جانب الآخر، ومعنى الشقاق مخالفة الحق ومعاندته ومناوأته، وعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إنه الكفر) (1) لأن عدم الإيمان بما أنزل على الأنبياء هو كفر.

الله

الرابع : قوله تعالى (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ).

«الكفاية» هي بلوغ الغاية ويلازم المعنى : سدّ الحاجة ومنع الأذى، فإن الإنسان إذا وصل إلى ما يريد ولم يتمكن الآخرون من أذاه فقد وصل إلى غايته، قال تعالى ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونّهِ) (2)، وقال تعالى ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِينَ) (3)، وقال (وَكَفَى بِاللَّهِ وكيلاً ) (4) ، وقال (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (5) ، وقال (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) (6) .

وفي هذه الآية تسكين لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، ووعد بالحفظ وبالنصر، فإن قوة اليهود والنصارى المادية والعسكرية والدول التي كانت وراء النصارى كانت مرعبة للكثيرين، لكن الله يحق الحق بكلماته وينصر رسله، وعلى هذا جرت سنة الله تعالى .

ثم إن هذه الكفاية تكوينية وتشريعية .

أما التكوينية : فبردّ كيدهم وإجلائهم واغتنام أملاكهم، والنصر .

ص: 83


1- أصول الكافي: ج 4، ص 126 .
2- سورة الزمر، الآية: 36
3- سورة الحجر، الآية: 95
4- سورة الأحزاب الآية: 46.
5- سورة الفرقان الآية: 31
6- سورة النساء، الآية: 45 ، وغيرها من الآيات.

عليهم في الغزوات وهذه الآية من دلائل نبوة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم حيث تحقق ما أخبر به .

والجدير بالذكر أن هذه الكفاية مستمرة إلى يومنا هذا، فكلّما أرادوا النيل من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ردّ الله كيدهم إلى نحرهم .

وأما التشريعية : فبتشريع أحكام قتالهم وأحكام أهل الذمة - مذكور في الفقه _.

الخامس : قوله تعالى ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) .

في هذا المقطع وعد للرسول وللمؤمنين، ووعيد لليهود والنصارى .

فيا رسول الله إن الله يسمع ما تدعو إليه ويعلم بنيتك من إرادة إظهار الحق وتبليغ رسالات ،الله ، فلذا لا يتركك وشأنك، بل قوله (وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) كالعلة لقوله (فَسَيَكْفِيكَهُمُ).

كما أنه يسمع كلام أهل الكتاب ومحاججتهم ويعلم نيتهم في الشقاق وما يضمرون من الحسد والغل .

السادس : قوله تعالى (صِبْغَةَ اللَّهّ).

1 - «الصبغة»: الكيفية والحالة التي تكون للصبغ، مثل «جلس جلسة العبد» أي جلس بتلك الكيفية.

وهو مفعول مطلق لبيان النوع، والمعنى «قُولُوا اصطبغنا صبغة الله» و هو عطف على قوله تعالى (قُولُوا ءَامَنَا بِاللَّهِ)... وكالعلة له ، وكالعلة له أي إيماننا بالله وما أنزل إلى الأنبياء وإسلامنا له تعالى لأجل أننا اصطبغنا بصبغة الله تعالى وعبدناه.

ص: 84

2 - النصارى يُعمِّدون أبناءهم ومن يريد الدخول في دينهم بالماء، ويقولون إنهم بالتعميد تكتمل نصرانيتهم، فكأنهم صبغوا بهذا الماء، وقيل : كان بعضهم يعمدون بالماء الأصفر .

فالآية جاءت للمشاكلة والمعنى لا خير في هذا الاصطباغ بل الخير كل الخير - في الاصطباغ بصبغة الله تعالى، فليس المهم الصبغ الظاهري بل المهم الاصطباغ المعنوي :

وبعبارة أُخرى : كما للأجسام صبغ ظاهر للعين، كذلك للبواطن صبغ ظاهر لأهل البصائر والمشاكلة هي استعمال لفظ يرتبط بأحد الشيئين للشيء الآخر حين مقابلتهما ، كقوله (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) (1).

3 - «صبغة الله» هي الفطرة أو العقل أو الهداية أو التطهير.

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ «الصبغة هي الإسلام» (2) وعنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ «صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق» (3).

وكلها تفسير بالمصداق أو باللازم، فإن الصبغة هي ما أودعه الله تعالى في كل إنسان ومنها العقل والفطرة، وميثاق عالم الذر ، ولازمها الهداية والتطهير من الأدناس وقبول الإسلام، ولما كانت النتيجة المرجوّة من الصبغة هي الإيمان كان الإسلام والولاية ذروة الصبغة وجامعين المصاديقها ومقدماتها ولوازمها . .

ص: 85


1- سورة المائدة، الآية: 116.
2- البرهان ،ج 2، ص 7 - 8 عن الكافي ومعاني الأخبار.
3- البرهان ج 2، ص 7 عن الكافي.

السابع : قوله تعالى ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابدُونَ) .

هذا آخر مراحل الإيمان فإن الآيات تضمنت مراحل الإيمان الثلاث :

1 - الاعتقاد في قوله (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

2 - القول في قوله (قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ) ... وإنما قدم في الذكر لأنه كان في مقام الاحتجاج والمحاججة ردّاً لزعمهم الاهتداء في اليهودية والنصرانية ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصٰرَىٰ تَهْتَدُوا)(1).

3 - العمل في قوله (وَنَحْنُ لَهُ عَابدُونَ).

وعن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ (الإيمان) اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان)(2).

ويمكن أن يكون (وَنَحْنُ لَهُ عَابدُونَ) علة لقوله (صِبْغَةَ اللَّهِ) أي أننا ﴾ اصطبغنا بصبغة الله لأنا نعبده فنطيعه فيما يقول، أو هو نتيجة له أي من يصطبغ فقد أطاع وعبد .

والحاصل: أنا عبدناه فاصطبغنا ،بصبغته، ولكنكم لم تعبدوه فلذا اصطبغتم بصبغة أخرى، فلذا ضللتم لأنه لا توجد صبغة أحسن من صبغته تعالى.

ص: 86


1- سورة البقرة الآية: 135.
2- عيون أخبار الرضا 1226:1.
القسم الرابع دحض حججهم

الآيات 139-141

اشارة

«قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141).

139 - (قُلْ) لليهود والنصارى الذين احتجوا بالله أوّلاً وبأنبيائه ثانياً. أما الأولى : (أَتُحَآجُّونَنَا) تجادلوننا (فِي اللَّهِ) بأنكم أبناء الله وأودّاؤه فتزعمون أن النبوة يجب أن تكون فيكم لا في ولد إسماعيل !! ﴿وَ) لكن هذه الحجة داحضة لأن اللَّه (هُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُم) فنشترك جميعاً في أنّا عباده فيصيب برحمته من يشاء منا أو منكم (وَ) كلنا سيجازى بعمله ف- (لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) فلا فرق بيننا وبينكم فمن أين زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه؟

﴿وَ) إنما المِلاك في القرب إلى الله تعالى هو الإخلاص، وهذا ما تفتقدونه ، ولكن (نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) في العقيدة والعمل .

140 - (أَمْ) تحتجون علينا ثانياً بأنبياء الله ف- (تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِیمَ)

ص: 87

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصٰرَىٰ) فأنتم على طريقة الأنبياء !!

(قُلْ) في دحض حجتهم الثانية: ﴿ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ) بدين إبراهيم وأبنائه وأحفاده (أَمِ اللَّهُ) حيث بين الله بأنه كان حنيفاً، (وَ) أنتم تعلمون ذلك لكنكم تخفونه ف- (مَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ) أخفى (شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ) أي شهادة ناشئة من الله ، لأنه تعالى بين ذلك في كتبه السماوية وأنتم تعلمون بها (وَ) سيجازيكم على كتمانكم وكفركم إذ (مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الأعمال السيئة .

141 - ولنفرض أن هؤلاء الأنبياء كانوا يهوداً أم نصارى فليس لكم حجة إذ الله ينسخ ما يشاء ويأتي بغيرها ف- (تِلْكَ) إبراهيم وأبناؤه وأحفاده (أُمَةٌ) جماعة (قَدْ خَلَتْ) مضت (لَهَا مَا كَسَبَتْ) من الأعمال الصالحة حيث كانوا على دين الحق في زمانهم (وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ) من الأعمال إن اتبعتم الحق فلكم أجركم وإلا فلا (وَ لَا تُسْتَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).

-----------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى : (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ).

«المحاججة» إقامة الحجة في الجدال - سواء كان صواباً أم لا - قال تعالى ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَهَا إِبْرَاهِيمَ) (1) ، وقال سبحانه ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ .

ص: 88


1- سورة الأنعام، الآية: 83.

في اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَنَّهُمْ دَاحِضَةُ عِندَ رَبِّهِمْ) (1) ، أي يحاجون في دينه وتوحيده بعد أن استجاب الناس له ودخلوا في الدين حجتهم داحضة أي باطلة.

فقد قالت اليهود لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا، لأنا أولى من ولد اسماعيل، فنحن أبناء الله وأحباؤه وديننا أقدم، وكتبنا أسبق، فلو كان محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم منا لآمنا به، لكنه ليس بنبي لأنه ليس منا !!

والهمزة في (أَتُحَاجُّونَنَا) للإنكار عليهم .

وقوله (فِي اللَّهِ) إما بمعنى المحاجة في ذات الله بأن اعتبروا أن الله لهم دون غيرهم حيث إنهم أبناء الله وأحباؤه وسائر الناس بهائم !! ، وإما بمعنى المحاجة في تفضيل الله لهم على غيرهم، وإما بمعنى المحاجة في دين الله بأنه لماذا نسخت اليهودية أو النصرانية، وأنه لماذا اختار الله النبي من العرب وأمثال هذه الحجج الداحضة.

الثاني : قوله تعالى ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ)

وهو جواب عن حجتهم، وهو أن الله أعلم بتدبير خلقه. قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (2) وقال سبحانه ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (3) ، وأننا جميعاً نشترك في أننا عباده فيصيب برحمته من يشاء منا أو منكم، فكما فضل بني إسرائيل على غيرهم فقال (وَأَنِي فَضَلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (4) وقال (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ.

ص: 89


1- سورة الشورى، الآية: 16.
2- سورة الأنعام، الآية: 124
3- سورة القصص، الآية: 68.
4- سورة البقرة، الآية: 47 .

جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) (1) ، فبعد عبوديتهم لفرعون وآله جعلهم ) الله ملوكاً أي أحراراً يملكون أمر نفسهم كما جعل بعضهم أنبياء، فكما لم يحق لأحد الاعتراض على تفضيل بني إسرائيل في ذلك الزمان، كذلك لا يحق لأحد الاعتراض على اختيار نبي من ولد إسماعيل من العرب، لأنه تعالى رب الجميع ويحكم حسب ما يشاء طبقاً للمصالح التي يعلمها.

الثالث : قوله تعالى ﴿وَلَنَآ أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ).

أي كلنا سنجازى على أعمالنا فلا نسب بين الله وبين الناس فكلهم عبيده ، ولا يحب الله تعالى أحداً إلَّا إذا عمل صالحاً، ولا يبغض أحداً إلَّا إذا ساء عمله، إذاً فلا فرق بيننا وبينكم لا من جهة المبدأ ولا من جهة المعاد، فيكون اختيار النبي منا أو منكم لمصالح يعلمها الله .

الرابع: قوله تعالى ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ).

فيه ردّ على زعمهم بأنهم أحق بأن تكون النبوّة فيهم، حيث قالوا نحن أهل كتاب والعرب عبدة ،أوثان وفيه تعريض بأنهم مشركون إذ إن سبب الكرامة هو الإخلاص لله تعالى والمسلمون أخلصوا الله تعالى فلذا كرّمهم، وأنتم إن لم تخلصوا الله فلا يفيدكم كون أسلافكم صلحاء وأنكم أهل كتاب .

وأيضاً المهم هو عمل كل شخص لا عمل الآخرين، فلئن كان العرب عبدة ،أوثان، فهذا لا يضر من آمن منهم، كما لا يضر المؤمنين من أهل الكتاب كون بعض أسلافهم عبدة العجل، فكل إنسان يجازي بعمله، وهذا ما سيؤكده قوله تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) .... الآية . .

ص: 90


1- سورة المائدة، الآية: 20.

ثم إن في بعض التفاسير تقرير طريقة الاستدلال بطرق متعددة منها :

1 - استدلال على أن الرسالة ليست خاصة بهم والجميع لأن الرب للجميع، يجازى بعمله، والأولوية لنا لأنا أخلصنا وأنتم أشركتم .

- استدلالهم إما بأفضلية إلههم، ولا يصح، لأن الرب واحد وإما لأن لهم مزية اختصاص، وأيضاً لا يصح، لأن المزية بالعمل لا بشيء آخر، وإما بإخلاص العمل، وهذا ما يفتقدونه ويوجد في المسلمين.

الخامس : قوله تعالى (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِم) ... الآية

بيان لدحض استدلالهم الآخر، وهو محاججتهم في أنبياء الله وأنهم كانوا على طريقتهم .

وبطلان استدلالهم واضح قال تعالى «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)»

«هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) (1).

والحاصل أن الثابت لدى الجميع أن إبراهيم كان سابقاً على اليهودية والنصرانية، وكذلك إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا سابقين عليهما ، فلا يمكنهم نسبة هؤلاء الأنبياء ،إليهما، واليهود والنصارى لا يعلمون دين إبراهيم فكيف يحاججون به بل الله تعالى بيّن أنه كان على الحنيفية .

ص: 91


1- سورة آل عمران، الآيات: 65 - 68.

وفي قوله تعالى (ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) وقوله (فَلِمَ تُحَآجُونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) دلالة على أن أهل الكتاب لم يكونوا يعرفون دين إبراهيم ، وإنما الله تعالى في القرآن بيّن أنه كان موحداً ولم يكن من المشركين وعبّر عن ذلك بأنّه كان حنيفاً، وصدق هذا المدعى من جهتين :

1 - أنه إخبار من الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم مع ثبوت صدقه بإظهار المعجزة على يديه .

2 - أن الحنيفية هي مطابقة للعقل والفطرة، وبعد ثبوت نبوة إبراهيم بإقرار اليهود والنصارى وتصديق الإسلام، فإنه لا يعقل كون إبراهيم إلاّ حنيفاً مسلماً غير مشرك، حيث إن طريقة الأنبياء هي متطابقة مع العقل والفطرة.

السادس : قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِن اللَّهِ) «عنده» و «من اللَّه» متعلقان بالشهادة، أي كتم الشهادة التي عنده تلك الشهادة، ومنشأ الشهادة هو الله تعالى.

والمعنى: أن الله بشر برسوله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في التوراة والإنجيل كما قال (الَّذِي يَجِدُونَهُ، مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنِجيلِ) (1) ، فاليهود والنصارى كانوا يعلمون بأنه الحق، ومع ذلك كانوا يغالطون ويحاججون ويكتمون الشهادة التي تحملوها كما قال تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (2)..

ص: 92


1- سورة الأعراف الآية: 157
2- سورة آل عمران الآية: 187.

وقد مرّ معنى «أظلم في توضيح الآية 114 من هذه السورة في قوله ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَجِدَ اللهِ) ... الآية، وقد ذكرنا أنها ترجع إلى التعدي على حقوق الله تعالى، أو أنها نسبيّة.

السابع : قوله تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ... الآية .

هذا تكميل لدحض حجتهم بأن إبراهيم وأبناءه وأحفاده كانوا هوداً أو نصارى، وحاصل هذا الدحض هو أنه لنفرض أنهم كانوا كما تزعمون، فليس لكم فيه حجة، لأنه تنسخ الشرائع من غير أن يكون نقصاً في الأنبياء السابقين فيقال للنصارى ألا تعتقدون أن شريعة عيسى نسخت شريعة موسى؟ فما المانع في نسخ شريعة عيسى بالإسلام، وهكذا يقال لليهود، فلو فرض أن إبراهيم وأبناءه وأحفاده كانوا على اليهودية أو النصرانية ، فلا يفيدكم ذلك شيئاً، كما لا يفيدكم يهودية أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ لأن طريقتكم تختلف مع شريعة موسى وعيسى علیها السلام .

ويمكن أن يقال (1) : إن تكرار هذه الآية هنا وفي الآية 134 هو :

1 - لأجل التأكيد للزجر عن الاتكال على فضل الآباء والفخر بهم

2 - أو الخطاب فيما سبق لهم، وهنا لنا .

3 - أو الأمة في الآية الأولى هم الأنبياء، وهنا أسلاف أهل الكتاب . .

ص: 93


1- هكذا ذكر في الجوهر الثمين - بتصرف - ج 1، ص 153.

ص: 94

فصل مقومات الأمة الإسلامية

ص: 95

ص: 96

فصل مقومات الأمة الإسلامية

هذا القسم من سورة البقرة الآيات 142 - 177 تتحدث عن مقومات الأمة الإسلامية، بعد أن بدأت السورة بتصنيف الناس ثم بيان أصل الخليقة ثم ذكر بني إسرائيل كنموذج للحضارة الإنسانية - بنقاط ضعفها وقوتها - ثم ذكر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأنه مؤسس الإسلام، هنا يبدأ الكلام حول المقومات التي يجب أن تكون عليه الأمة ومن الإسلامية، وهي القبلة والأعمال الصالحة، والتوحيد، ومعوقاته من الشيطان واتباع الآباء المشركين والحلال والحرام، ثم خاتمة تتضمن بأن القرآن وأحكامه حق وإن كتم أهل الكتاب ذلك.

ثم إن هذا الفصل يبدأ بطريقة ترتبط بالآيات السابقة فيكون كالمكمل لها .

ص: 97

ص: 98

المقوّم الأول: القبلة

إن القبلة لها أهمية قصوى وهي التي تشكل المقوم الأول للأمة الإسلامية، ولذلك ربط الإسلام بها بعض أهم الأحكام التي ترتبط بحياة الإنسان يوميّاً :

فمن الواجبات الصلاة والطواف والذبح والاحتضار، والدفن . . . .

ومن المحرمات : التخلي باتجاهها ...

وهناك مستحبات ومكروهات مذكورة في الكتب الفقهية .

ولأجل ذلك ضمّن الله تعالى في الآيات السابقة أهمية الكعبة، وأنها مثابة للناس وأمناً وأنها بناء إبراهيم ، وأن الله أمره بتطهيرها، (راجع الآيات 125 - 127، كل ذلك كالمقدمة لتشريع التوجّه إلى الكعبة واتخاذها قبلة.

وفي دون غيرها - قبلة، ولأجل هذه العلل كانت القبلة هي المقوم الأول هذه الآيات المباركات يبيّن الله تعالى علل اختيار الكعبة من مقومات الأمة الإسلامية المذكورة في هذه الآيات.

وتسلسل الآيات (142 - 151) هو :

ص: 99

أولاً:

1 - بيان أن أصل الحكم بيد الله فلا اعتراض عليه في حكمه (قُل لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) .

2 - وأن حكم القبلة ليس حكماً منفصلاً عن سائر الأحكام، بل هو ضمن مجموعة أحكام يكمل بعضها بعضاً (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، وذلك للوصول إلى المقصود النهائي لهذا الدين الجديد (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)....

3 - ثم بيان علة اختيار القبلة السابقة أولاً، وعدم تشريع حكم التوجّه إلى الكعبة منذ البداية (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا ...).

4 - بيان حرص الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم على المؤمنين وعلى دين الله وأن الله تعالى يريد رضا الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كما أن الرسول ينطلق من رضاه سبحانه وتعالى كل ذلك لبيان عظيم حقه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم على المسلمين (فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا).

5 - حكم القبلة في الحضر (فَوَلِّ وَجْهَكَ....)

6 - إن أهل الكتاب يعلمون أنه الحق ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب ...).

7 - حكم القبلة في السفر (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ...)

وثانياً :

بيان حكمة تشريع التوجه إلى الكعبة .

1 - العلة الأولى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةُ).

2 - العلة الثانية: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ).

3 - العلة الثالثة : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

ص: 100

الآيتان 142-143

«سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)».

142 - (سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ) قليلو العقل (مِنَ النَّاسِ) اليهود والمنافقين والمشركين، والإشكال منشؤه سفاهتهم، وليس لأجل خلل في الحكم ، (مَا وَلَاهُمْ) صرفهم (عَن قِبْلَهِمُ) في الصلاة (الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) وهي بيت المقدس. حيث كانت قبلة للمسلمين في مكة وعِدّة أشهر في المدينة، ولم يظهر ذلك في مكة لأن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان يصلي إلى بيت المقدس وكان يجعل الكعبة أمامه، لكن ظهر في المدينة لأن الكعبة في الجنوب وبيت المقدس في شمالها ، (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم : (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) فكل الأرض وجهاتها ملك الله فلا فرق بين بقعة وأُخرى إلا إذا شرفها الله، فله تعالى اختيار جهة القبلة، فإنه (يَهْدِى مَن يَشَآءُ) هداية تشريعية للجهة

ص: 101

التي يتوجه إليها (إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم) فأمره ليس اعتباطاً وإنما لأن المأمور به هو طريقة حسب المصلحة ولا انحراف فيها .

143 - ﴿وَ) كما أنعمنا عليكم بالهداية إلى صراط مستقيم (كَذَلِكَ جَعَلْتَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) معتدلين فلا إفراط ولا تفريط، أو واسطة بين الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبين سائر الناس، والأمة الوسط يجب أن يكون لها قبلة مستقلة حتى لا تتهم بالذيلية (لِنَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ) تشهدون على صحة أو سقم أعمالهم، لأن المعتدل أو الواسطة بين الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبين الناس يكون ميزاناً فيتمكن من الشهادة على المنحرف (وَ) ل- (يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) لأنه أعدل الجميع، فهو يشهد عليكم وأنتم تشهدون على سائر الناس، وهناك علة أخرى لتحويل القبلة وهي : ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا) بيت المقدس (إلَّا لِنَعْلَمَ) ليتحقق ما علمناه أزلاً - ليحصل التمييز وتتم الحجة - (مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) يرتد أو يبقى على كفره، فإن العرب ما كانوا يريدون قبلة غير الكعبة فامتحنهم الله بجعلها مؤقتاً على طرف بيت المقدس، وكذا التغيير إلى الكعبة ما كان يروق لليهود وللمنافقين ونحوهم ، (وَإن) - مخففة من إنَّ - (كَانَت) القبلة التي كنت عليها (لَكَبِيرَةً) ثقيلة وصعبة (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أَي انتفعوا بهداية الله ، (وَ) أما الصلوات التي صليتموها باتجاه بيت المقدس ف- (مَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) فإنها مقبولة وكذلك اعتقادكم بأنها قبلة فإن ذلك كان طبقاً لإرادته تعالى، وهكذا كل حكم منسوخ

ص: 102

(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ) والرأفة - شدة الرحمة - (رَحِيمٌ) والمؤمنون أولى من غيرهم بالرأفة والرحمة فكيف يضيع إيمانهم؟

----------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) .

أخبر الله تعالى قبل تغيير القبلة عن إشكالهم على هذا التحويل، ولعل ذلك الجهات منها :

1 - إن العلم بالإشكال قبل وقوعه يكون لتهيؤ المؤمنين وتوطيناً لنفوسهم واستعداداً للرد فيكون أبعد عن مفاجئتهم واضطرابهم، وهكذا توقع كل مشكلة تساهم في التهيؤ لها ومن ثم لا يكون وقعها شديداً .

2 - وكذلك يكون أقطع لحجة الخصم ، وعادة يحاول الخصوم إرباك الآخر بعرض إشكال غير متوقع له حتى لا يجد مجالاً للجواب، مضافاً إلى أنّه لو علم بأن الآخر يعلم بإشكاله ومتهيأ للجواب عنه لفقد دافعه للإشكال بعد يأسه عن التأثير، ولذا من الوسائل الهامة لكسر الغزو الثقافي والفكري هو فضح خطط المستكبرين ودفع شبهاتهم سلفاً.

والسفه قلة العقل، وكل من لا يتبع الشرع فإنه لا عقل له كما مرّ في قوله تعالى ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) (1) ، وفي الحديث (العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به (الجنان) (2) . .

ص: 103


1- سورة البقرة، الآية: 130.
2- أصول الكافي، كتاب العقل والجهل: ح3.

وقوله (مِنَ النَّاسِ) للتعميم، فإن الإشكال لم يكن منحصراً في اليهود وإلّا كان يقال: من أهل الكتاب بل اليهود والمنافقون والكفار ، فإن هؤلاء كانوا يفتشون عن أية نقطة ضد الإسلام، مضافاً إلى أن اليهود كانوا يرون أن المسلمين انصرفوا عن قبلة أهل الكتاب - بيت المقدس فقدوا أمراً كانوا يحتجون ويتبجحون به.

وعن الإمام العسكرية عَلَيْهِ السَّلاَمُ جاء قوم من اليهود إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فقالوا : يا محمد هذه القبلة - بيت المقدس - قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركتها الآن أفحقاً كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل فإن ما يخالف الحق فهو باطل، أو كان باطلاً فقد كنت عليه طول هذه المدة ! فما يأمَنّا أن يكون الآن على باطل؟

فقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : بل ذلك كان حقاً، وهذا حق، يقول الله تعالى: ﴿قُل لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ إذا عرف صلاحكم - يا أيها العباد - في استقبال المشرق أمركم به، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به، ، فلا تنكروا تدبير الله في عباده وقصده إلى مصالحكم ...(1) الحديث.

الثاني : قوله تعالى (مَا وَلَاهُمْ مَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)

«ولَّاه» إن تعدى ب- «عن» أو «من» كان بمعنى الانصراف عن الشيء كقوله (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا) (2) ، وإن تعدى بنفسه أو ب-«إلى» كان بمعنى 8.

ص: 104


1- البرهان ،ج 2، ص 10 - 11 عن التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري
2- سورة الكهف، الآية: 18.

التوجّه إلى الشيء كقوله تعالى ﴿فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) (1) وكقوله تعالى ﴿فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُنذِرِينَ) (2)، وقد يستغنى عن حرف الجر لوجود ما يدل على المعنى كقوله تعالى (ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدبِرين) (3).

وقد كانت القبلة - والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في مكة - باتجاه بيت المقدس ولكنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان يجعل الكعبة بينهما ، فعن الإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ إن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و لما كان بمكة أمره أن يتوجّه نحو بيت المقدس في صلاته، ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن، وإذا لم يكن استقبال بيت المقدس كيف كان فكان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يفعل ذلك طوال مقامه بها ثلاث عشرة سنة . . . » (4) .

ويبدو أن المشركين ما كانوا يعلمون أن قبلته إلى بيت المقدس، أو ما كان يصعب عليهم ذلك ما دام قد وسط الكعبة .

ومنشأ الاعتراض، إمّا من إرادة الإشكال على المسلمين بأية كيفية كانت وأحسن الأوقات بزعمهم هو حين نزول حكم جديد أو حين نسخ حكم سابق، وهذا من العصبية والجهل، وإما لأجل زعم اليهود أن لبيت المقدس خصوصية ذاتية لا توجد في سائر البقاع وهذا الزعم باطل وقد ردّه الله تعالى بقوله (قُل لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب).

الثالث : قوله تعالى (قُل لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب ).ي

ص: 105


1- سورة البقرة، الآية: 150.
2- سورة الأحقاف، الآية: 29
3- سورة التوبة، الآية: 25
4- البرهان ج 2، ص 10 عن التفسير المنسوب للإمام العسكري

شروع في جواب الشبهة وهو في بيان أن التشريع بيد الله فلا اعتراض عليه .

وحاصله أنّ الأماكن كلها الله تعالى فيمكنه أن يأمر بالتوجه إلى أي طرف أراد، فعلمه بأن صلاحكم في استقبال جهة يستلزم أن يأمركم بالتوجّه إليها وعلمه بتغير المصلحة يوجب نسخ الحكم السابق، فكان الحكم الذي فيه المصلحة الواقعية هو التوجّه إلى بيت المقدس، لذا أمركم به، ثم تغيرت المصلحة فصار الحكم التوجه إلى المسجد الحرام.

ولعل في الآية إشعاراً بأن التوجّه إلى بيت المقدس ليس فيه مصلحة ذاتية، إذ لو كان كذلك لأمر الله بالتوجّه إليه دائماً من غير اهتمام بالأقاويل، فإن الله يأمر بما فيه المصلحة دائماً وأبداً، ولكن بما أن مصلحة التوجّه إليه كانت ،جعليّة، فلذا تتغير تلك المصلحة حسب تغير الظروف والاعتبارات .

الرابع : قوله تعالى ﴿يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .

الهداية هنا بمعنى «الهداية التشريعية» وهو بيان الحكم الذي فيه الهدى للناس.

والهداية في القرآن قد تكون بمعناها التشريعي، وقد تستعمل بالمعنى التكويني بسبب الإنسان نفسه أو بإرادة مباشرة من الله .

فمن الأول: قوله تعالى ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الهُدیٰ) (1)، وكقوله سبحانه ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (2). .

ص: 106


1- سورة فصلت الآية: 17
2- سورة الشورى، الآية: 52 .

ومن الثاني : قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَناً) (1) وكقوله سبحانه (وَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ (2).

و من الثالث : قوله تعالى (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (3) ، ومن وكقوله سبحانه (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) (4) لأن الأنبياء خلقوا مهديين ومن طينة أعلى - كما مرّت الإشارة إليه ..

و (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) : الطريقة التي فيها الحكمة، وقد تتغير المصالح فيكون من الحكمة نسخ الحكم السابق .

لا يقال : ذلك يستلزم تغيّر الصراط المستقيم .

فإنّه يقال : (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) لا تغير فيه لأنه الطريق الذي فيه الحكمة، وإنما التغير في المتعلّق مثلاً يُنهى المريض عن شيء ثم بعد شفائه يؤمر به ففي كلا الحالين كان هذا الإنسان على الأسلوب الصحيح المستقيم، ولكن الحالات تغيرت وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم: یا عباد الله أنتم كالمرضى والله رب العالمين كالطبيب، فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب ويدبره ،به لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه ألا فسلّموا الله أمره تكونوا من الفائزين (5).

الخامس : قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطَاءَ) . .

ص: 107


1- سورة العنكبوت: 69.
2- سورة التغابن الآية: 11
3- سورة الأنعام، الآية: 161.
4- سورة الأنعام، الآية: 84.
5- البرهان ج 2، ص 10 عن تفسير الإمام العسكري .

هذا بيان بأن القبلة إنما هي ضمن مجموعة متكاملة من الأحكام حيث إن المسلمين لهم دور القيادة فينبغي أن تتوفر فيهم جميع شروطها، ومن تلك الشروط الاستقلالية في التشريعات، حتى لا يتهموا باتباع الآخرين، فيشعر الناس بالاستغناء عنهم بالرجوع إلى الدين الذي منشأ هو التشريع، فإن الرجوع إلى الأصل خير من الرجوع إلى الفرع .

نعم هناك أحكام مشتركة بين كل الشرائع أو أمور مرتبطة بالحياة الشخصية أو بالنظم الاجتماعية من غير أن تكون سمة لشريعة، فقد يشترك فيها المسلمون مع غيرهم لأن تلك التشريعات كانت حسب المصلحة المستمرة ..

ولكن في القبلة ونحوها مما هو علامة بارزة للإسلام - من غير مصلحة ذاتية في جهة معينة - فإنه لا يمكن أن يكون تابعاً لشريعة أخرى أصلاً، وبما أن بيت المقدس كان مركزاً لأنبياء بني إسرائيل وقبلة لليهود فكان يمكنهم ادعاء اتباع الإسلام لهم في ذلك، فكان ذلك من أسباب تغيير القبلة.

وقوله (كَذلِكَ) أي كما هداكم إلى الصراط المستقيم كذلك جعل لكم القيادة بجعلكم أمة وسطاً ، أو كما أن الشرق والغرب بيد الله كذلك اختياركم للوسطية، فيكون إشارة إلى أن التشريع بيد الله كما أن الكون ،بيده أو عطف على مقدّر أي كما أن مكة هي وسط الأرض كذلك المسلمون الأمة الوسط بين الأمم .

وقوله (أمَةً وَسَطًا)، الأمة - كما مر - الجماعة من الناس، أي جعلناكم جماعة متوسطة، فلا إفراط في شريعتكم ولا تفريط، فكل

ص: 108

الأمور مبتنية على الموازين الصحيحة، فللروح نصيبها وللجسد نصيبه، وللدنيا حصتها وللآخرة حصتها .

وفي الأحاديث - كما سيأتي - بيان أن الأمة الوسط هم الأئمة عَلَيْهِ السَّلاَمُ فإنهم الواسطة بين الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبين سائر الناس - وهذا ما يستشعر من حديث الثقلين أيضاً ..

وهذا إما من باب تأويل الآية الكريمة وإمّا لبيان أبرز المصاديق وتفسير الآيات بالمصاديق البارزة له نظائر كثيرة في الأحاديث الشريفة، وإما لجهة أن شهادتهم متكاملة من كل الجهات - لعرض الأعمال عليهم أما غيرهم فشهادته بالظاهر أو من بعض الجهات - كما سيأتي بعد قليل -.

ثم إن هنالك آيتين تفسران معنى الوسطية فقد قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(1).

فالعبادة وفعل الخير وسهولة الدين وحمل رايته - بالتبليغ والجهاد ، والامتداد التاريخي كلها سببت كون الأمة الإسلامية أُمة وسطاً وصار لها القابلية لتكون شاهدة على سائر الناس.

السادس : قوله تعالى (لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ) .

1 - الشهادة هي الحضور، كقوله تعالى ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ 8

ص: 109


1- سورة الحج، الآيتان: 77 - 78

فَلْيَصُمّهُ) (1) ، والشاهد لحضوره الواقعة ورؤيته أو سماعه لما حدث فإنه يعلم بما جرى فيتحمل الشهادة ثم يتمكن من أدائها في المحكمة أو في غيرها.

2 - والشهيد هو الشاهد ولم يستعمل في القرآن إلَّا بهذا المعنى، ثم إن هذه اللفظة كثر استعمالها في المقتول في سبيل الله حتى صارت حقيقة شرعية أو متشرعية بحيث إذا أطلقت انصرفت إلى المقتول في سبيل الله ، ولا يبعد أن يكون استعمالها في الروايات بهذا المعنى إلا إذا كانت هناك قرائن دالة على إرادة المعنى الأصلي.

3 - ثم إن الشهادة قد تكون شهادة تحمّل - أي حضور الواقعة والعلم بها - وقد تكون شهادة أداء بمعنى بيان ما علمه الإنسان في محكمة أو نحوها .

فمن الأول : ما حكاه الله تعالى عن عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَآ أَمَرْتَنِي بِدِه أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبِّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدُ) (2) .

ومن الثاني: قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (3).

4 - ثم إن الشهادة التامة لا تمكن إلا مع الاطلاع على الأعمال وعلى القلوب، إذ كيف يمكن الشهادة على رجل بأنه صلّى في بيته أم لم .

ص: 110


1- سورة البقرة، الآية: 185
2- سورة المائدة، الآية: 117.
3- سورة هود، الآية: 18.

يصلَّ، وإن صلاته كانت خالصة أم شابها شرك أو رياء !! مثلاً ، ففي الآية دلالة على أن الله تعالى يطلع بعض عباده على كل هذه التفاصيل، وتكون الروايات الدالة على عرض الأعمال على الأئمة عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأن الله يخبرهم عن السرائر والنوايا متوافقة مع هذه الآية الكريمة، وهذا العرض والاطلاع يكون في الدنيا كما قال تعالى ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (1) ، وأداء الشهادة سيكون في الآخرة، قال سبحانه (وَجاءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِ) (2).

فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال : نحن الأمة الوسط، ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه، وحُججه في أرضه» (3) وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : نحن الشهداء على الناس بما عندنا من الحلال والحرام وبما ضيعوا منه» (4) .

5 - وعن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها بحضرة جميع الأمم الماضية!! كلّا ، لم يَعْنِ الله مثل هذا من خلقه، يعني يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وهم الأمة الوسطى، وهم خير أمة أخرجت للناس (5) . .

ص: 111


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- سورة الزمر، الآية: 69.
3- البرهان ،ج 2، ص 13 - 14 عن الكافي وقريب منه عن بصائر الدرجات وتفسير العياشي وعن الصادق أيضاً.
4- البرهان ج 2، ص 14 عن بصائر الدرجات والعياشي.
5- البرهان ج 2، ص 15 عن تفسير العياشي.

وبهذا يكون الجواب عن التساؤل بأن الله ذم الكثير من الأمة مع رؤيتنا عياناً فسق البعض وعدم قبول شهادته حتى في حزمة بقل!! فكيف يشهدون على سائر الأمم؟

وحاصل الجواب أن المراد من كان مستجمعاً لصفات الشهادة والتي أشارت إليه الآيتان 77 - 78 في سورة الحج ، ولا يخلو كل عصر من هؤلاء أو أحدهم، وأبرزهم المتمكنون من الشهادة الكاملة التامة وهم الأئمة عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

فالشهادة تكون في الأمة الإسلامية من غير لزوم أن يتصف الكل بها، كما في تفضيل بني إسرائيل على العالمين في زمانهم، حيث إن المعنى ليس هو تفضيل كل واحد واحد مع العلم بوجود مثل قارون والسامري فيهم، بل إن المراد أن التفضيل فيهم من غير أن يكون الكل أفضل .

6 - ثم إنه ورد في مستفيض الروايات بأن حساب الخلق إلى الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ في يوم القيامة وحساب الأئمة إلى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم . وقد ذكر المجلسي الأول رضوان الله علیه احتمالات متعددة في شرح هذه الروايات، ومنها أن الله يحاسب الخلق بحضورهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ ، ولعله استفاد هذا الاحتمال من قوله تعالى (لِنَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، وإن كان الأصح هو أنهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ هم الذين يحاسبون بإذن الله تعالى

السابع : قوله تعالى ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)

الشهادة قد تكون بصالح المشهود له وقد تكون بضرره، وتوجد في القيامة كلا الشهادتين - كما يظهر من الأخبار - ولكن في الاستعمالات

ص: 112

القرآنية تعدّت الشهادة ب- «على» دون اللام، ولعل ذلك لترغيب الناس إلى الطاعات وإلى اجتناب المعاصي وعدم توهم إمكان التملص عن مسؤولية

الأعمال، فالأعضاء تشهد والملائكة يشهدون والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ يشهدون، والله يشهد وكفى بالله شهيداً ، أو لأجل أن الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود عليه ولذا جيء بكلمة الاستعلاء كما في قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدُ) (1) ، وقوله (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ) (2) - كذا في الكشاف (3) -.

و كما أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و شه يدل على الأمة كذلك لكل أمة شهيد كما قال تعالى ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّتِة بِشَهِيدٍ وَجِتْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)(4) ، فسائر الأمم يشهد عليهم شهداء منهم مضافاً إلى شهادة الأمة المسلمة.

الثامن: قوله تعالى ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) الآية .

1 - علم الله تعالى عين ذاته، فهو أزلي أبدي لا تغير فيه ولا تبديل فهو يعلم أزلاً المؤمن من الفاسق والشقي من السعيد وأهل الجنة من أهل النار ، ولكن من الظلم العقاب من غير صدور مخالفة، فلذا كان الاختبار.

2 - ثم إن العلم ليس سبباً للفعل مثلاً إنّا نعلم بطلوع الشمس يوم غد - علماً قطعيّاً لا تغير فيه - وعلمنا هذا ليس سبباً لطلوعها، وهكذا كثير من معلوماتنا، وعلم الله تعالى بالمطيع والعاصي ليس سبباً لإطاعتهم أو عصيانهم بل أفعالهم باختيارهم. .

ص: 113


1- سورة البروج، الآية: 9.
2- سورة المائدة، الآية: 7.
3- الكشاف، ج 1، ص728 .
4- سورة النساء، الآية: 41.

3 - وبما أنّ علم الله تعالى من صفات الذات، أي الصفات التي ذاته، فلا يتغيّر هذا العلم باختلاف المعلوم وتغيّره، لأن طرق التغيّر على ذات الله تعالى محال بل علمه قبل الإيجاد نفس علمه بعد الإيجاد، بخلاف علمنا بالمقطوعات فإنّا نعلم بطلوع الشمس غداً، وبعد طلوعها نعلم بأنها طلعت فتغير علمنا حيث كان بأنها ستطلع ثم صار بأنها طلعت ولكن الله تعالى خارج عن الزمان بل هو خالقه، فلذا لا تغيّر في علمه قبل وجود الشيء وبعد وجوده ، وإن كانت الكيفية مجهولة لنا، كما أن كيفية علمه أيضاً غير معلومة لنا، وقد مرّ الإشكال على قولهم بأن علمه ،حضوري، وقد ذكرنا بحوثاً حول علمه تعالى في شرح أصول الكافي فراجع .

ثمّ إن قوله تعالى (لِنَعْلَمَ) يراد به ليتحقق ما علمناه أزلاً، وبعبارة أُخرى ليقع ما علمناه أو يكون المراد لنميز بين تابعي الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبين المنقلبين على الأعقاب، وإنما جيء بلفظ العلم بدلاً عن التمييز، لأن التمييز يكون بالعلم فلذا جاء بدله ، أو المراد ليعلم أولياؤنا .

التاسع : قوله تعالى (مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) .

«العقب» هو آخر القدم والإنسان المتقهقر يضع عقبه على الأرض حين رجوعه، ولذا شُبّه به المرتد فإنه رجوع إلى الوراء بعد التقدم بالإيمان وكذا الباقي على الكفر فإنه يرجع عن فطرته الأصلية كما قال تعالى (قَدْ كَانَتْ ءَايَاتی تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُم تَنكِصُونَ ) (1) .

وسبب الانقلاب على الأعقاب هو ضعف الإيمان أو إضمار الكفر ، ويظهر في مواقع عدة : .

ص: 114


1- سورة المؤمنون، الآية: 66.

منها في الشبهات الفكرية كما في هذه الآية حيث تغيرت القبلة .

ومنها : في الهزائم العسكرية كغزوة أحد قال تعالى ﴿وَمَا مُحَمَّدُ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْمُ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (1) .

ومنها في الأزمات قال تعالى ﴿يَأَايُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (2) . حيث قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى دينكم السابق تنجوا من المشاكل.

وضرر الانقلاب على الأعقاب يرجع إلى المنقلب، قال تعالى ﴿وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى الله الشَّكِرِينَ (3)، وقال سبحانه لا تَحْزَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِنَّا لَا تُنصَرُونَ قَدْ كَانَتْ عَايَتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ تَنكِصُونَ ) (3) .

العاشر : قوله تعالى ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ).

الله سبحانه وتعالى هدى الجميع بالهداية العامة، وذلك بالفطرة وبإرسال الرسل والتمهيد للإيمان قال تعالى ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (4) ، وقال سبحانه ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (5) ، وهذه هي الهداية العامة، ومن استجاب لهذه الهداية العامة يهديه الله تعالى بهداية خاصة، قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(6) ، ومن رفض .

ص: 115


1- سورة آل عمران الآية: 144.
2- سورة آل عمران الآية: 149. (3) سورة آل عمران الآية: 144.
3- سورة المؤمنون، الآيتين: 65 - 66 .
4- سورة البلد، الآية: 10.
5- سورة فصلت الآية: 17
6- سورة العنكبوت الآية: 69.

الهداية العامة منع الله عنه الهداية الخاصة، قال تعالى ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (1) ، وقال سبحانه (وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(2).

والمهتدي بالهداية الخاصة يكون مسلماً أمره إلى الله تعالى وموطناً نفسه على قبول كل ما صدر عنه تعالى فلذا لا يكون أي حكم ثقيلاً عليه، ولذا قال تعالى ﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» و«إن» مخففة من الثقلية واللام في «لكبيرة» فارقة للتمييز بين المخففة والنافية .

الحادي عشر : قوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَکُم)

جواب على التساؤل حول الصلوات الماضية التي صليت باتجاه بيت المقدس، وكذلك حال من مضى من الأموات حيث لم يصلوا باتجاه الكعبة، فإن تلك الصلوات كانت بأمر من الله تعالى فلا تذهب سدى بل ثوابها باق.

وقوله (إيمَانَكُمْ) أي صلواتكم الماضية، فسمى الصلاة إيماناً - كما في الرواية(3) - لأن الصلاة عمود الدين ولا يتم الإيمان إلا بها، وكذا لا يضيع الإيمان بالقبلة المنسوخة قبل نسخها، حيث إن الاعتقاد بأوامر الله تعالى فيه الثواب، كما أن الثبات على الإيمان بقبول الناسخ والمنسوخ كله يُثاب عليه الإنسان، وفي الآية تقدير لهم لثباتهم على الإيمان ووعد لهم في الجزاء على إيمانهم الكامل كما فيها إشعار بأن بقاءكم على القبلة السابقة مضيعة للإيمان.

ص: 116


1- سورة البقرة، الآية: 258
2- سورة المائدة، الآية: 108
3- البرهان، ج 2، ص 17.

الثاني عشر : قوله تعالى (إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمُ).

«الرأفة» هي شدة الرحمة وتستعمل عادة فيما كان سببها العطف والشفقة في حين أن الرحمة قد لا يكون منشؤها ذلك، فقد يرحم الإنسان قاتل أبيه ويعفو عنه مع امتلاء قلبه غيظاً عليه، كما أن «الرأفة)) تستعمل كثيراً في إيصال النفع، والرحمة» في دفع الضرر، كذا تستعمل «الرأفة في المبتلى خاصة والرحمة في الأعم من المبتلى وغيره.

ص: 117

الآيتان 144-145

«قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ »

144

144 - (قَد) للتحقيق ﴿نَرَى تَقَلُّبَ) تردّد (وَجْهِكَ فِي) جهة (السَّمَاءِ) تطلعاً للوحي، حيث كان يعلم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بأن القبلة ستتغير فكان منتظراً (فَلَنُوَلِيَنَّكَ) أي نأمرك بأن تتوجه إلى الكعبة، (قِبْلَةً تَرْضَاهَا) تحبّها وتتشوق إليها لوجود المصلحة فيها ، (فَوَلِّ) وَجّه (وَجْهَكَ شَطْرَ) أي باتجاه وتلقاء (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) حيث توجد فيه الكعبة التي هي القبلة، فالمسجد لكونه محيطاً بالكعبة يتوجّه العبيد إليه، لأن التوجّه إليه توجّهاً إليها ، (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ) في أي مكان من بقاع الأرض ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَةٌ) فالقبلة ليست خاصة بالرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أو بأهل المدينة، ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) علماء اليهود والنصارى (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي التوجه إلى المسجد

ص: 118

الحرام (الحَقُّ مِن رَّبِهِمْ) لعلمهم بنبوة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ورأوا في كتبهم ذو قبلتين ولكنهم يكتمون ذلك، (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) کاعتراضهم على القبلة الجديدة، فيجازيهم على أعمالهم .

145 - ﴿وَ) حيث إنهم يعلمون أنه الحق ولكنهم ينكرونه فهم معاندون ف(لئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) المعاندين منهم (بِکُلِ ءَايَةٍ) حجة ودليل على صدقك وأن القبلة الجديدة بأمر من الله (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) لأن المعاند لا يفيد معه أي دليل، ﴿وَمَا أَنتَ بِتَابع قِبْلَتَهُمْ) لأن الله أمرك بالقبلة الجديدة وهذا لقطع أطماعهم بالرجوع إلى قبلتهم وبيان أن التوجّه إلى الكعبة لا نسخ فيه (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعِ قِبْلَةَ بَعْضٍ) فاليهود قبلتهم الصخرة في بيت المقدس والنصارى قبلتهم المشرق، وذلك لأن كل طائفة ترى بطلان الأخرى، فهم بباطلهم متمسكون، فأنتم أيها المسلمون أحق بالتمسك بحقكم ولأجل أن ييأس أهل الكتاب من رجوع المسلمين عن الكعبة قال تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم) في الرجوع إلى القبلة السابقة (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بالوحي بالتوجه إلى الكعبة (إِنَّكَ إِذَا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وفي هذا تعظيم للحق، وتحريض على اقتفائه، وتحذير من متابعة أهل الكتاب وهواهم.

---------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) .

قد هنا إما بمعنى التحقيق كقوله تعالى ﴿قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ

ص: 119

عَلَيْهِ (1) ، وإما بمعنى التكثير أي ربّما نرى، وذلك تكثير للرؤية (2) ، و«التقلب» التردّد والتوجّه إلى الشيء، وسُمّي القلب قلباً لكثرة تحركه أو لكثرة تغيّر الرأي فيه واستعمل التقلب هنا حيث أكثر الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم النظر

إلى السماء حيث إنها مكان نزول الوحي عليه .

وفي تفسير القمي عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال : تحولت القبلة إلى الكعبة بعدما صلّى النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، ثم وجهه الله إلى الكعبة، وذلك أن اليهود كانوا يعيّرون على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، يقولون له : أنت تابع لنا، تصلّي إلى قبلتنا فاغتم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم من ذلك غمّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من الله في ذلك أمراً ، ولما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر، كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين، فنزل عليه جبرئيل، وأخذ بعضده وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وكان قد صلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعيتن إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء ﴿مَا وَلَاهُمْ عَن قِبْلَتِهم التي كَانُوا عَلَيْهَا).

وفي بعض الأخبار أن صلاته إليه في المدينة كانت ستة عشر شهراً وفي بعضها سبعة عشر شهراً .

وقيل إن ذلك كان في رجب وقيل في النصف من شعبان.

قوله تعالى (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ﴾ . التقلب هو التردد، حيث كان .

ص: 120


1- سورة النور، الآية: 64 .
2- للتفصيل في معنى (قد)، راجع مغني اللبيب ج 1، ص231.

رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ينظر إلى أقطار السماء وذلك تطلعاً للوحي وانتظاراً لتغيير القبلة، ولعل ذلك لأنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان يعلم أن القبلة ستتغير إلى اتجاه الكعبة (1) ، فكان منتظراً زمان تشريع التغيير وكان في كتب أهل الكتاب ، أنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يصلي إلى القبلتين (2) ، ولكنه لم يتكلّم بشيء وذلك تأدباً أمام الله تعالى وانتظاراً لأمره، لأنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لم يكن يقترح شيئاً على الله تعالى، بل كان مُسلّماً أمره إليه سبحانه في كل صغيرة وكبيرة، فعن الإمام زين العابدين أنه قال : إن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لا يقترح على ربّه عزّ وجل ولا يراجعه في شيء يأمره به (3).

وروي أن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في يوم النهروان كان ينظر إلى السماء تارة وإلى الأرض أخرى كأنّه ينتظر أمراً ، وكان يقول: «ما كذبت ولا كُذبت حيث إنه أخبر أصحابه بأن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أخبره بمقتل ذي الثدية فكان ينتظر تحقق ما أُخبر به (4).

ولعل هذا التقلب كان دعاءً من الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بلسان الحال فإن ذلك أقرب إلى أدب العبودية - كما قيل _.

قوله تعالى (في السَّمَاءِ) تقلب وجهه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في السماء - مع أن الله -تعالى محيط بالمكان وليس في المكان - لأجل أن الوحي كان ينزل من السماء، حيث إن جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ يتلقى الأمر وهو في السماء ثم ينزل به إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في الأرض.

الثاني : قوله تعالى (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةٌ تَرْضَهَا). .

ص: 121


1- مجمع البيان، ج 1، ص 577 .
2- الجوهر الثمين ج 1 ، ص 157 .
3- وسائل الشيعة، ج 4، ص 16 - 17 .
4- بحار الأنوار: ج 33، ص 404 .

ليس في الآية دلالة على أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان ساخطاً على القبلة السابقة ، لأنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان راض بكل أمر نزل من الله سبحانه وتعالى، بل المعنى هو زيادة الرضا، كقوله تعالى ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرَضَى﴾ (1) فإن الرضا - ككل الصفات النفسية - له درجات .

وأيضاً فقد كان الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يحب أن ينتشر دين الله تعالى وأن لا تكون حجة على هذا الدين ولا يريد تعيير اليهود لدين الله، وكان يعلم بأن الله سبحانه وتعالى يريد ذلك ويحبه فلما علم أن رضا الله في ذلك فلذلك كان يرضى بالقبلة الجديدة لأنها من رضاه سبحانه، وقيل: لأنها قبلة أبيه، وأدعى لاتباع العرب إياه وأبعد لشبهات اليهود ولمخالفتهم والحاصل أن رضا الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لم يكن بسبب الهوى بل لأجل مصلحة دین الله مع علمه برضاه تعالى بذلك.

قوله تعالى (فَلَنُوَلْيَنَّكَ). أي نأمرك بأن تتوجه إليها، وفي المفردات (توّلى» إذا عُدّي بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع منه ، يقال : وليت سمعي كذا، وولّيت عيني كذا، ووليت وجهي كذا : أقبلت عليه ... وإذا عُدّي ب- (عن) لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الإعراض وترك قربه (2) .

الثالث : قوله تعالى ﴿فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).

في البداية تمّ أمر الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و بأن يتوجه إلى القبلة ثم أمر الجميع بذلك، وتخصيصه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالذكر أولاً ، تشريف له وبيان أن الله تعالى استجاب دعاء الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ..

ص: 122


1- سورة الضحى، الآية: 5.
2- مفردات الراغب ص 886.

فإنّه سبحانه قد يريد أمراً ولكنه يجعل أحد أوليائه طريقاً إلى أمره لبيان منزلته، وليجعل له حقاً على سائر الناس، كما جعل الإمامة في ذرية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ استجابة لدعائه عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث قال (وَمِن ذُرِّيَّتِي).

قوله تعالى (وَجْهَكَ). المراد به مقاديم البدن، وإنما ذكر الوجه لأنه أشرف المقاديم وبه يتوجّه الإنسان إلى الآخرين، ولعل فيه إشعاراً بلزوم حضور القلب والتأدب في العبادة بعدم الالتفات يميناً وشمالاً.

قوله تعالى (شَطْرَ) للشطر معنيان: أحدهما: الجزء من الشيء، والآخر : قصد الشيء وجهته عن بُعد، وكلا المعنيين ممكن في الآية، لأن القبلة هي الكعبة وهي جزء من المسجد الحرام، وكذا البعيد عن يتوجّه إلى جهة المسجد الحرام، لأنه إذا توجّه إلى المسجد فقد توجّه إلى الكعبة، حيث إن المسجد محيط بها .

ولعل الآية تضمنت علة ترجيح الكعبة على بيت المقدس :

1 - حيث إنها في المسجد والقبلة السابقة إما بيت المقدس وهي مدينة أو أن القبلة كانت الصخرة وهي خارج المسجد والكعبة هي داخل المسجد فكانت أشرف، مضافاً إلى أن الكعبة بناء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ والصخرة هي تل طبيعي كسائر الصخور لا خصوصية لها .

2 - وإن المسجد شرفه الله بأن جعله (حراماً)، يحرم القتال فيه ويحرم صيده وقلع نباته ولا يُتعرّض لمن التجأ إليه حتى وإن كان ظالماً ، ولا توجد هذه الخصوصية في بيت المقدس، فكانت الكعبة أولى.

الرابع: قوله تعالى ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِم).

ص: 123

علمهم بأنه حق من جهات :

1 - لوجوده في كتبهم وأنه يصلّي إلى القبلتين (1) ، فكان تغيير القبلة آية اخرى على صدق الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم حيث انطبقت عليه هذه البشارة أيضاً ، ولذلك قال تعالى ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ)... مع أن المشركين أيضاً كانوا يعلمون بذلك، لكن تخصيص أهل الكتاب بالذكر لأجل وجوده في كتبهم ولأنهم كانوا المعيرين والمحتجين .

2 - لعلمهم بصدق رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لما وجدوه مكتوباً في كتبهم ولمشاهدتهم الآيات المعجزات، ولكنهم لم يؤمنوا به وحسداً ورغبة في حطام الدنيا . ويؤيد هذا قوله تعالى في الآية (الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) (2) فكانوا يعلمون أنه رسول من الله تعالى، فلا محالة يكون تحويله للقبلة ليس من قبل نفسه وإنما بأمر من الله تعالى.

3 - ولعلهم كانوا يعلمون تاريخ الكعبة وبأن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بانيها ولم يكن بناؤها في صحراء جرداء خالية عن السكان اعتباطاً بل بأمر من الله تعالى، ولغرض صحيح - وليس إلَّا لتكون قبلة -

ولا يخفى أن هذا الأسلوب من الكلام فيه تبكيت(3) للخصم وتقوية للحجة، حيث يقال للمنكر المعاند : (إنك تعلم بصحة ما نقول) - مثلاً -، وهو أسلوب نفسي مؤثر، إذ يجعل الخصم يتلجلج في احتجاجه - حتى وإن كان معانداً - فيظهر ذلك لسائر الناس، ويقوى احتجاج المحق ولزيادة تبكيتهم قال تعالى (الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) ولم يقل (ربك) أو (ربي) أو .

ص: 124


1- الجوهر الثمين ص 157 .
2- سورة البقرة، الآية: 146
3- التبكيت هو الغلبة بالحجة.

(الرب)، فالرب الذي آتاهم الكتاب هو الذي أمر رسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالتوجه إلى الكعبة .

الخامس : قوله تعالى ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) .

الغفلة : هو ترك الشيء إما للجهل به وإما تركه عمداً لعدم الاعتناء ،به والمقصود أن الله تعالى لا يجهل أعمالكم وأنه لا يترككم من غير جزاء، بل هو عالم بأفعالكم وسيجازيكم عليها .

وهذا وعيد لهم حيث عارضوا الحق مع علمهم به كي لا يتصوروا أنهم محفوظون عن عذابه سبحانه وتعالى، وفي هذا تسكين لخاطر الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والمؤمنين، بأن هؤلاء اليهود سيجازون بمعارضته للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم .

السادس : قوله تعالى (بِكُلِّ ءَايَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).

الآية - كما مرّ - هي البرهان الواضح سواء كان حجة بالقول أم بالمعاجز الأخرى والمراد أهل العناد من أهل الكتاب، فإن المعاند هو الذي يعلم الحق ولكن يجحده ويأبى أن يقبله، فهذا لا تنفع معه أية حجة، لأن الحجة إنما يؤتى بها لإقناع الجاهل وإراءة الحق له، فإذا كان مستيقنا في نفسه فلا فائدة للاحتجاج معه - اللهم إلا إذا كان لإتمام الحجة بمعنى عدم فسح مجال له لادّعاء الجهل مستقبلاً - قال تعالى (الْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَارٍ عَيْدٍ) (1) ، وقال (كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لايَاتِنَا عَنيداً) (2) .

ومنشأ العناد هو بعض الرذائل النفسية كالكبر والحسد وحب .

ص: 125


1- سورة ق الآية: 24 .
2- سورة المدثر الآية: 16 .

الحطام الدنيوي مع خوف زواله لو ترك العناد وفي الآية بيان أن تغيير القبلة لم يكن سبباً لمخالفتهم للإسلام، فحتى لو بقيت القبلة باتجاه بيت المقدس ما كانوا ليؤمنوا بل كان ذلك يزيدهم عتوّاً عبر طعنهم بالإسلام وتعييرهم ،المسلمين فالسبب لمخالفتهم هو أمر آخر وهو عنادهم واستكبارهم عن آيات الله تعالى .

وفي هذا بيان للمسلمين بأن لا يهتموا بمعارضة أهل الكتاب لتشريعات الإسلام، وأن لا يحابوهم كسباً لرضاهم، فإنهم لا يرضون بأقل من اتباع ملتهم كما قال (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَتَهُمْ) (1) ، وفي الآية أيضاً قطع لأطماع أهل الكتاب بمداهنة المسلمين لهم، قيل : إنهم قالوا : لو ثبت على ديننا رجونا أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، غرضهم خداع الرسول والمسلمين ليرجعوا إلى القبلة الأولى. ولذا قال تعالى ﴿وَمَا أَنتَ بِتَابِع قِبْلَتَهُمْ) ، فلا نسخ لحكم التوجه إلى الكعبة، والمبطل إذا كان طامعاً فى المؤمن فإنه يكثف محاولاته من مختلف الاتجاهات مما قد يتسبب في إزعاج المؤمنين أو يؤثر في بعض ضعاف النفوس، ولكنه إذا يأس من تأثيره في المؤمنين فقد يترك محاولاته فيرتاح المؤمن من وساوسه ومؤامراته قال تعالى ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ (2) فقد فرّع الله تعالى عدم الخشية من الكفار على يأسهم .

وقوله (قِبلَتَكَ) و (قِبلَتِهُم) تأكيد على تمايز القبلتين فالكعبة لیست قبلتهم بل قبلتك يا رسول الله وبيت المقدس ليست قبلتك من الآن بل قبلتهم فقط . .

ص: 126


1- سورة البقرة الآية: 120
2- سورة المائدة، الآية: 3.

السابع : قوله تعالى ﴿وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) .

جيء بهذه الجملة المعترضة لبيان أنه لا يمكن كسب رضا أهل الكتاب أصلاً حتى لو بقيت القبلة باتجاه بيت المقدس.

وذلك للتناقض بين أهل الكتاب أنفسهم، فالنصارى لا يقبلون قبلة اليهود بل يتوجّهون إلى المشرق واليهود يرفضون قبلة النصارى ويتوجّهون إلى بيت المقدس، فكيف يمكن إرضاء جميع أهل الكتاب - على تناقضهم ؟

كما أن في الآية إشعاراً بإمكان جعل الكعبة قبلة، حيث لا توجد قبلة موحدة، فإن أهل الكتاب قبلتهم متعددة، فلا إشكال في جعل قبلة أخرى للمسلمين .

وأيضاً تقوية لنفسية المسلمين حيث يقال إن أهل الكتاب - على باطلهم - كل فرقة منهم متمسكة بقبلتها ولا تتبع قبلة الطائفة الأخرى، فأنتم أيها المسلمون أجدر بالتمسك بقبلتكم وهي الحق من ربكم.

الثامن: قوله تعالى ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم ...).

الجملة الشرطية صادقة حتى مع عدم تحقق الشرط والجزاء، كقوله ال (إِن كَانَ لِلرَّحْمٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ (1) فهذه جملة شرطية صادقة مع أن الشرط لم يتحقق حيث لا ولد للرحمن تعالى وكذا الجزاء لم يتحقق حيث إن الرسول لم يعبد غير الله تعالى وذلك لأن الجملة الشرطية هي لصرف ارتباط الشرط والجزاء، ففي هذه الآية الجملة حق مع أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و لم يتبع أهواءهم، ولم يكن من الظالمين.

ص: 127


1- سورة الزخرف، الآية: 81

والغرض من هكذا جملة شرطية أمور منها :

1 - تحذير للمسلمين لكي لا يتبعوا أهواء أهل الكتاب، فإن القرآن نزل على طريقة (إياك أعني واسمعي يا جارة) كما في الأحاديث (1) ، أي يوجه الخطاب للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم مع أن المقصود غيره، والقصد هو بيان شناعة الأمر، ولكي لا يتصور أحد أنه مستثنى فإن جميع المسلمين يقرون بأن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أفضل منهم ومع ذلك لم يستثن فلا مجال لتوهم استثناء بعض الأشخاص.

2 - لأجل أن ييأس أهل الكتاب عن رجوع المسلمين عن الكعبة كما ذكرنا قبل قليل ..

3- بيان أن الاستمرار على الحكم المنسوخ إنما هو من الأهواء، فقبلتهم بالهوى لا بالحق بعد نسخها، وأن القبلة الجديدة إنما هي بوحي من الله تعالى لا بالهوى، لذا قال (مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).

4 - وللدلالة على أن اتباع أهوائهم من الظلم والتابع يكون من الظالمين، فليس ذلك من المداراة في شيء بل هو مداهنة بالباطل ، قيل : هذا تأكيد للوعيد، وتعظيم للحق، وتحريض على اقتفائه، وتحذير من متابعة الهوى واستعظام لصدور الذنب من الأنبياء. .

ص: 128


1- أصول الكافي: ج 2، ص 631 ، والبحار ج 89، ص 382.

الآيات 146-148

«الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)».

146 - كما يعرف أهل الكتاب أن التوجّه إلى الكعبة حق من الله ، كذلك (الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) علماء اليهود والنصارى (يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وأنه رسول من الله (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ) ، لأن أوصافه المذكورة في كتبهم كانت دقيقة توجب اليقين بانطباقها عليه ، ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) الحق المبين في الكتب السابقة، وفريق آخر عوام أميون لا يعرفون الكتاب إلّا أماني وفريق ثالث - وهم أقل القليل - آمنوا به ولم يكتموا الحق، وأما الكاتمون فليس كتمانهم عن جهل بل يكتمون (وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنه الحق، وما ذلك إلا لعنادهم حسداً وتكبراً، فليس عذر هؤلاء الجهل حتى يرجى زواله .

147 - ولكن لا تهتم بكتمانهم الحق إذ (الْحَقُّ) الذي يكتمونه ومِن رَّبِّكَ وهؤلاء الكاتمون لا يتمكنون من فعل شيء أمام إرادة الله

ص: 129

تعالى بل يضرون أنفسهم ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي الذين يكثرون الجدال مع هؤلاء، إذ ليس عذرهم الجهل حتى يرجى زواله بالجدال، بل هم معاندون فلا علاج لهم .

148 - (وَ) لا ضير في كون الكعبة قبلة إذ (لِكُلِّ) من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم وجَهَهُ أي ما يُتوجه إليه - وهو القبلة - (هُوَ) أي الله تعالى (مُولِّیها) أي أمرهم بالتوجه إليها، ولكن حين نسخ أية قبلة يلزم على الجميع التوجّه إلى القبلة الجديدة فوراً (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) بأن تبادروا إلى القبلة الجديدة فإنها «السَّبَق» أي الجائزة التي يأخذها السابق ولا يتوهم أحد بأنه لا يُجازى إذا خالف أو أطاع أمر الله في القبلة الجديدة، فإنه (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًاً) في يوم القيامة حيث الجزاء الأوفى، وكذا في الدنيا لمن استبق الخيرات، ولا تتعجبوا من الإتيان بكم جميعاً إذ (إنَّ اللَّهَ عَلَى کُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجز عن جمعكم.

---------------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم).

المعرفة - كما مرّ - هو العلم بالشيء عبر أوصافه، فإذا رأى الشيء علم بأنه نفس الموصوف حينما يرى تتطابقه مع الوصف، ولذا كانت معرفة الله عن طريق العلم بصفاته، وكلما كان هذا العلم أكثر كانت المعرفة أقوى، وكذا معرفة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

ص: 130

وأهل الكتاب كانوا قد قرؤوا تفصيل أوصافه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في كتبهم كما قال تعالى (الَّذِى يَجِدُونَهُ، مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنِجيلِ) (1) .

وهذه الآية بيان لدليل آخر على صحة تحويل القبلة ففي الآية (144) ذكر علم الذين أوتوا الكتاب بأن القبلة الجديدة حق لذكرها في كتبهم _كما مرّ_ ، وفي هذه الآية ذكر دليل آخر، وهو أنهم يعرفون رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم معرفة قطعية وأنه رسول من الله فلذا يكون كل تشريع أتى به إنما أتى من الله تعالى فهو الحق .

وقيل يَعْرِفُونَهُ أي هذا الحكم أو القرآن أو العلم - الذي هو الوحي من السماء المذكور في الآية السابقة ، لكن كل ذلك خلاف الظاهر وخلاف سياق الآيات المباركة .

ثم إن قوله (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) للدلالة على عدم خطئهم في أمر الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فكما لا يشتبه الأب في أبنائه كذلك هؤلاء كانوا يعلمون علم اليقين بصحة نبوة محمد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم .

الثاني : قوله تعالى (الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) .

بعد أن بيّن الله تعالى كتمان الذين أوتوا الكتاب أراد أن يقوي قلوب المؤمنين، وأن كتمان أولئك لا يضر بهم ولا بدينهم، وذلك لأن ما عليه المسلمون هو الحق الذي نزل من عند الله تعالى وهل يضر الحق كتمان الكاتمين؟ وهل يتمكن الكاتمون من غلبة إرادة الله تعالى؟ كلا، فما دام الأمر من الله وأنه الحق فيلزم على المؤمنين إبعاد الشك والريب عن قلوبهم وعدم المراء والمجادلة بالباطل.

ص: 131


1- سورة الأعراف الآية: 157

قوله (الْحَقُّ) يراد به نوع الحق، أي كل حق إنما هو من الله تعالى، لأنه تعالى هو الحق المطلق كما قال ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) (1).

وكل حق فإنما هو يرجع إليه تعالى سواء كان في التكوين كما قال (خَلَقَ السَمَاواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) (2) ، أم في التشريع كما قال (إِنَّا أَنزَلْنَا ، الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) (3).

وكلّ ما للناس من حق فهو منه تعالى فيكون النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والقرآن والقبلة من مصاديق الحق الذي هو من جانب الله تعالى وقد مرّ أن كل كمال فهو الله تعالى ومن الله سبحانه قال (أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (4).

الثالث قوله تعالى ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) .

مادة (م ري) تكون بمعنى التردد ولذا كانت (المرية) بم الشك، والمراء) المحاجة والجدال فيما فيه مرية.

وذلك لأن كثرة الشبهات والتهجمات وكذلك الجدال بالباطل، قد توجب الشك في النفس، قال تعالى ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبِّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (5) ، وفي التبيين (6) (وَإِن) مخففة من الثقيلة (كَاُدواْ) قارب الكفار (ليفتِنُونَكَ) يضلوك (عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) من الشرائع والعقائد - وهذا كناية عن شدة كيدهم - (لِتَفْتَرَى عَلَيْنَا غَيْرَهُ) غير الذي .

ص: 132


1- سورة الحج، الآية: 62 .
2- سورة الزمر، الآية: 5.
3- سورة الزمر، الآية: 41 .
4- سورة فاطر، الآية: 15 .
5- سورة الإسراء، الآية: 75
6- تبيين القرآن: ص 301.

أوحينا إليك، ﴿وَإِذَا) لو اتبعت مرادهم (لا تَخَذُوكَ خَيلاً) وليّاً لهم، ﴿وَلَوْلَآ أَن ثَبَّتْنَاكَ) على الحق بالعصمة (لَقَدْ كِدتَّ) قربت ﴿تَرْكَنُ) تميل (إِلَيهِمْ) إلى الكفار (شَيْئًا) ركوناً (قَلِيلاً)، لكن العصمة منعت عن ذلك .

قيل : (الْمُمْتَرِينَ﴾ أي الشاكين في أن الحق من ربك، وقيل: الشاكين في كتمانهم الحق ، وقيل : تحقيق الأمر بحيث لا يشك فيه أي أن الحق من الوضوح بحيث لا يشك فيه أي عاقل .

وهذا إرشاد للأمة بلسان الخطاب إلى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، باعتباره رسولاً إلى هذه الأمة، كما يخاطب كبير قوم بأمر يراد به قومه، وقد مرّ أن هذه الخطابات من قبيل إياك أعني واسمعي يا جارة).

الرابع: قوله تعالى ﴿وَلكُلِ وِجْهَةُ هُوَ مُولياً) .

في معنى هذه الآية وجوه :

1 - لكل قوم قبلة، كما أن لكل قوم شريعة، فلا مشكلة في أن تكون للمسلمين قبلة خاصة بهم، كما قال تعالى ، كما قال تعالى (لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَآءَ اللَّهَ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلٰكِن ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (1)، وكما يشاهد فإن هناك تطابقاً بين الآيتين.

2 - لكل طائفة من المسلمين - في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها - جهة يتوجهون إليها، وكلّها تنتهي إلى الكعبة المشّرفة.

3 - ولعله إشارة إلى الهداية ،والضلال فإن الله هدى فريقاً فقبلوا

ص: 133


1- سورة المائدة، الآية : 48 .

الحق - ومنه التوجّه إلى الكعبة ، وأضلّ فريقاً آخر فجحدوا الحق واستمروا في التوجّه إلى القبلة المنسوخة، فوجه الله كل فرقة إلى جهة وقد مرّ أن كون الهداية والإضلال من الله تعالى لا ينافي الاختيار، فقد هدى مَن كان قابلاً للهداية بحسن اختياره وأضلَّ مَن لم يكن قابلاً لها لسوء اختياره.

ولعلّ الغرض من هذه الآية - كما قيل - هو أن يكف المسلمون من المجادلة مع أهل الكتاب المعاندين في أمر القبلة، بل يتوجهوا إلى العمل، فإن الجدال المعاند هدر للوقت وللطاقات وبالعمل يدحض الإنسان المبطل وحججه فالجدال إنما هو لإحقاق الحق، لا للمراء، ولذا كان قوله (وَلِكُلِّ وِجْهَهٌ هُوَ مُوَلِیهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) بعد قوله تعالى ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

و (الوجهة) هي ما يتوجّه إليه، فتكون القبلة من مصاديق الوجهة .

و (هُوَ مُوَلِیهَا) الأظهر أن ضمير «هو» يرجع إلى الله تعالى، وقيل: الضمير يرجع إلى (لِکُلٍّ) أي لكل شخص جهةٌ، ذلك الشخص يولّي نفسه تجاهها.

الخامس : قوله تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)

(الاستباق) هو المبادرة إلى الشيء لأخذ (السَّبَق) وهو الجائزة التي تعطى للسابق .

و(الْخَيْرَاتِ) كل حسن ذاتاً أو عرضاً ويجمعه : كل أمر فيه رضا الله تعالى، فمن مصاديقه التوجّه إلى الكعبة في الصلاة - وهو مورد هذه الآيات ، ومن مصاديقه الولاية كما عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (1) ، ومن المصاديق .

ص: 134


1- البرهان ج 2، ص 22 عن الكافي ج 8، ص 313 - 487 .

الطاعات، ومنها الثواب - دنيويّاً كان أم أخرويّاً - لأن هذه الأمور كلها من الخيرات وهي السَبَق والجائزة التي يأخذها العبد المطيع بمبادرته .

وحاصل معنى الآية: هو دعوة المسلمين إلى عدم الانصياع إلى تشكيكات أهل الكتاب، وأن يبادروا إلى قبول أمر الله تعالى ويتركوا الحكم المنسوخ.

السادس : قوله تعالى (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً).

هذا كالجزاء للاستباق إلى الخيرات كما أنه وعيد لأهل الكتاب على مخالفتهم أمر الله تعالى فيقول إنكم إن استبقتم إلى الخيرات وأطعتم الله تعالى فإنه لا تذهب أعمالكم سدى، بل هناك يوم تجازون فيه على عمالكم، فيجمعكم الله تعالى في يوم القيامة ولا تتمكنون من الفرار من ،عدله فإن الله على كل شيء قدير، ومن قدرته هو جمعكم للجزاء.

ثم إن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة:

أما في الدنيا : فقد استفاضت الروايات في أن الآية في أصحاب الإمام المهدي عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث يجمعهم الله تعالى في ليلة واحدة في مكة مع تفرقهم في الأمصار (1) ، منها ما عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال : (يعني أصحاب القائم عَلَيْهِ السَّلاَمُ مائة والبضعة عشر رجلاً قال هم والله الأمة المعدودة، قال : يجتمعون والله في ساعة واحدة قزَعاً كقزع الخريف) - يعني قطعاً كقطع السحاب المتفرقة - وهذا تفسير بالمصداق أو تأويل للآية الكريمة، ولعلها تشمل من يُحييه الله تعالى في الرجعة . .

ص: 135


1- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص 20 - 31.

وأما في الآخرة فالجمع في المحشر ليجازي المطيع بحسن عمله والعاصي بسوء عمله .

وقيل : المعنى: أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام (1) ، وهذا خلاف الظاهر . .

ص: 136


1- الكشاف ج 1، ص 157 .

الآيتان 149-150

اشارة

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150))

149 - (وَمِنْ حَيْثُ) من أي بلد (خَرَجْتَ) للسفر ﴿فَوَلِ وَجْهَكَ )توجّه بها (شَطْرَ) جهة (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) في الصلاة، (وَإِنَّهُ) أي اعلم أنّ هذا التشريع (للْحَقُ) الثابت الذي لا ينسخ (مِن رَّبِّكَ) فأطيعوه لأنه عالم بكم وسيجازيكم على أعمالكم (وَمَا اللهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

150 - وبعد ذكر حكم الحضر والسفر أراد الله تعالى بيان علة هذا التشريع فذكر الحكم مرة أخرى ثم بيّن العلة ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ) في برّ أو بحر أو جوّ، في سفر أو حضر (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) شطر المسجد الحرام، وعلة هذا التشريع :

أ - (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) أي المشركين أو الأعم منهم ومن أهل

ص: 137

الكتاب (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) فيقول المشركون كيف يدعي ملة إبراهيم وهو يخالف قبلته، فبتغيير القبلة تدحض حججهم (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فإنهم ،معاندون والمعاند لا ينصاع إلى الحق أبداً ويستمر في لجاجه وعناده وتشكيكه، ولكنكم أيها المسلمون لا تهتموا (فَلَا تَخْشَوْهُمْ) أي لا تخافوهم فإن عنادهم لا ينطلي على الناس فحجتهم داحضة (وَاخْشَوْنِي) باتباع أوامري فإن الخشية إنما هي من الحكيم القادر لا من المبطل العاجز .

ب - (وَلأُتِمَّ) أكمل (نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) فإن كل حكم من أحكام الله نعمة على العباد وفي طريقهم إلى الكمال، والقبلة - وهي من أهم التشريعات - هي في طريق إكمال النعمة.

ج_(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لأن تشريف الإنسان بشيء يقربه إلى ذلك الشيء ويحببه إليه فيكون من أسباب هدايته.

---------------------------------

بحوث

الأول : ذكر حكم التوجه إلى الكعبة ثلاث مرات في قوله (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ، وقوله ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَاءِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ

ص: 138

شَطْرَهُ)، وليس ذلك من التكرار وإنما الغرض يختلف في كل آية عن الأخرى، ف:

1 - الأولى : لأصل تشريع الحكم في الحضر، والثانية : بيان الحكم في السفر والثالثة جامعة بين الآيتين لبيان علة هذا التشريع.

2 - الأولى : في مقابل أهل الكتاب وأنهم يعلمون أنه الحق، وأنهم إذا أنكروا وكتموا فليس الله بغافل عنهم وسيجازيهم، والثانية: بيان للمسلمين وأنه الحق وأن الله سيجازيهم لو أطاعوا، والثالثة في مقابل المشركين وأنهم لا حجة لهم وإذا أرادوا المؤمرات بعد دحض حجتهم فلا خشية منهم .

3 - الأولى : لتعظيم الرسول وبيان أهمية مرضاته، فإذا كان الله يطلب رضاه فعلى الناس كسب رضاه والثانية : لبيان سنة الله في أن يولي أهل كل ملة وجهة يتميزون بها والثالثة لدفع حجج المخالفين.

وهذا نظير تكرار المبتدأ لتعدد الخبر كما يقال زيد عادل زيد عالم زيد مجتهد، وكتكرار الأمر لتعدد علته كما يقال : أطع الرسول لأنها إطاعة الله، وأطع الرسول لأنه لا يقول إلا الحق ، وأطع الرسول لعظيم حقه عليك . . . . وهكذا .

4 - ولأهمية أمر القبلة وصعوبة قبول النفوس تغييرها فكان من الجدير ،التأكيد، ففي البداية يُؤمر الرسول بأن يتوجّه إلى الكعبة ثم يعمم الحكم للجميع ، وذلك يُسهل الأمر على الأتباع ، ثم تخصيص كل طائفة بمقطع.

فلأهل الكتاب المقطع الأول (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ

ص: 139

فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» مع بيان أنهم يعلمون أنه الحق .

وللرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وللمسلمين مقطع (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، ولذا قال تعالى ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ، فاستعمل ضمير المخاطب في ﴿رَبِكَ) في حين استعمل في الآية الأولى ضميراً يرجع إلى أهل الكتاب ﴿رَبِّهِمْ).

ومقطع ثالث للناس - بما يشمل المشركين والمنافقين - ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَاءِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

الثاني : قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةُ).

الناس هنا عام يشمل حتى المشركين والمنافقين، وقيل:

1 - المشركون يقولون : بأن محمداً كيف يدعي ملة إبراهيم وهو يخالف قبلته؟

2 - اليهود يقولون : النبي الموصوف في التوراة قبلته الكعبة، ومحمد قبلته بيت المقدس فليس هو ذاك ! !

3 - والمنصفون منهم يقولون ما له لا يتحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في التوراة، كما أن فيها أنه ذو قبلتين!!

وحيث وصل الأمر إلى احتجاج هؤلاء، انتهت مصلحة الحكم بالتوجّه إلى بيت المقدس، لأن أهم قوة للإسلام هو حجته، ولن يجعل

ص: 140

الله للكافرين على المسلمين سبيلاً في حجة ولا في تشريع، فلذا اقتضت المصلحة نسخ القبلة السابقة وتشريع التوجّه إلى الكعبة المشرفة، قال تعالى (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (1).

الثالث : قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).

أي المعاندون، فإن المعاند لا يجادل لأجل قبول الحق، بل جداله للتعنت ولإطفاء نور الحق فهو يجادل على كل حال، فاليهود لما كانت القبلة باتجاه بيت المقدس كانوا يحتجون على المسلمين بأنهم ذيليين ويعيرونهم بذلك، فلما تغيرت إلى الكعبة قالوا : ما تحوّل إلى الكعبة إلَّا ميلاً إلى دين قومه وحبّاً لبلده.

والمشركون كانوا يحتجون بأنه يخالف قبلة إبراهيم ويدعي ملته ، ثم قالوا . رجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم (2).

والمعاند يجادل بالباطل دائماً كما قال سبحانه ﴿وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقِّ وَاتَّخَذُوا ءَايَتِي وَمَا أُنذِرُوا هُرُواً) (3).

والاستثناء فى (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) :

1 - وإما متصل، إذا كان معنى (الحجة) الجدال، فالمعنى لئلا يجادلكم الناس إلَّا الظالمين فإنهم يجادلونكم على كل حال .

2 - وإما متصل والاستثناء للمبالغة في نفي حجة إذ لا حجة للظالم (4)..

ص: 141


1- سورة الأنعام، الآية: 149
2- الجوهر الثمين ج 1 ، ص 161 .
3- سورة الكهف، الآية: 56.
4- الجوهر الثمين، ج 1، ص 161 .

قال في مجمع البيان: إن كان على المؤمنين حجة فللظالم في احتجاجه وليس للظالم حجة، فإذاً ليس عليهم حجة (1) .

3 - وفي تفسير القمي: يعني : ولا الذين ظلموا منهم، و(إلا) في موضع (ولا) ، وليست هي استثناء(2) .

وفي مغني اللبيب في معاني (إلا) : أن تكون عاطفة بمنزلة الواو، في التشريك في اللفظ والمعنى، ذكره الأخفش والفراء وأبو عبيدة وجعلوا منه قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ (3).

الرابع : قوله تعالى ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَأَخْشَوْنِي) .

(الخشية) هي الخوف المقترن بالتعظيم وفي المفردات: الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه (4) .

والمقصود بيان لزوم عدم الخوف من الظالمين الذين يجادلون بالباطل وذلك لأنهم ضعاف في الحجة وضعاف أمام الله تعالى، فإنهم لا يكذبونكم بل يكذبون الله تعالى في أحكامه وسيجازيهم على فعلتهم قال

تعالى ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْخِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) (5).

ومنشأ الخشية منهم :

1 - الخوف من حجتهم، ولكن بعد وضوح بطلانها لا سبب للخوف منهم.2

ص: 142


1- مجمع البيان ج 1 ، ص 589.
2- البرهان ج 2، ص 31 .
3- المغني ج 1، ص 101 .
4- المفردات، ص 283.
5- سورة غافر، الآية 5. 142

2 - الخوف من طعنهم واستهزائهم، ولكن بعد قوة حجة المسلمين لا خوف من الاستهزاء والطعن، بل هو علامة ضعفهم ودحض حجتهم.

3 - الخوف من مؤامراتهم العسكرية، فإنه يخشى ممن تدحض حجته وهو معاند حيث سيعوض عن هزيمته الفكرية بالمؤمرات ونحو ذلك، فتأمل.

ولكن الإنسان إذا علم أن الله أراد منه شيئاً فعليه أن يُعظم الله تعالى ويخاف مغبة مخالفته فلا يحاول المداهنة لكسب رضا المبطلين قال تعالى ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (1).

الخامس : قوله تعالى ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ).

(التمام): انتهاء الشيء وكماله بحيث لا يحتاج إلى شيء خارج عنه .

و(النعمة) : الحالة الحسنة - في الإنسان فقط ..

والتشريعات الإلهية جاءت بالتدريج، فكان كل تشريع خطوة نحو إكمال الدين - الذي هو أعظم النعم على الإنسان ، فكانت القبلة من أهم الخطوات نحو هذا الهدف.

فإن نعم الله تعالى كثيرة لا تحصى، فرزق الله الناس نعماً مادية لكي يتخذوها طريقاً إلى كمالهم المعنوي، قال تعالى ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانَاً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بأسَكُم كَذَالِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ 1

ص: 143


1- سورة الأنعام، الآية: 121

تُسْلِمُونَ ﴾ (1) ، فالنعم المادية تامة على الإنسان من غير نقص، وإنما أتمها الله ليفكر الإنسان فيسلم، فينال السعادة الأبدية.

ثم في التشريع جاءت الأحكام - وهي من أعظم نعم الله - تدريجاً وكل حكم طريق إلى إكمال النعمة، ومن جملتها أحكام الطهارة - من الوضوء والغسل والتيمم - فقال تعالى ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ, عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (2) ، فأيضاً كان الغرض من تشريع الطهارات هو إتمام النعمة، وأكمل التشريعات أجمع وتوجها بنصب الإمام علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوم الغدير على رؤوس الأشهاد، فقال تعالى ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا ) (3) ، ولم يقل لأتمّ النعمة، وذلك لأن الغرض تحقق وقد تمت النعمة يومئذ، وإن رفض الناس ذلك فهذا من شقائهم كما قال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كَفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ «28» جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) (4).

إذن فقوله (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بيان لأن نعم الله تعالى المادية والمعنوية استمرت على المسلمين، وكان من أهمها : تشريع الكعبة قبلة وهذا التشريع هو نعمة كبرى كما استلزم نعماً أخرى كقطع تعيير أهل الكتاب والمشركين والمنافقين، وكإرجاع المسلمين إلى بناء جدهم - وهو من النعم على المسلمين حيث إن من النعم على الإنسان إحياء ذكرى سلفه ، وكتمييز المسلمين عن أهل الكتاب وكتضعيف أعداء الإسلام بإضافة حجة جديدة في ،قبالهم وغير ذلك .

ص: 144


1- سورة النحل، الآية: 81
2- سورة المائدة، الآية: 6.
3- سورة المائدة، الآية: 3.
4- سورة إبراهيم، الآيتان: 28 - 29

السادس: قوله تعالى ( وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

قد مرّ أن (لعل) من الله لا يقصد منها الترجي الحقيقي، لأن منشأه الجهل بالمستقبل، وهذا يستحيل على الله تعالى، بل المقصود بیان محبوبية الهداية وأن تغيير القبلة هو من أسبابها، وذلك لأن الإنسان يحب من يُشرفه ويميل قليلاً إليه، فإن كان سيّده أطاعه في أوامره لحبه له ولميله إليه وكذا المسلمون حينما يعلمون بتشريف الله لهم وأنه خصهم بقبلة - هي بناء جدهم - ودافع عنهم بقطع حجج خصومهم ودفع تعييرهم، فإن ذلك قد يوجب تقربهم إلى الهداية بإطاعته تعالى فيما يأمر وينهى.

ص: 145

المقوّم الثاني من مقومات الأمة الإسلامية الرسالة - القيادة -

بعد الانتهاء من المقوم الأول - وهو القبلة - يبدأ الحديث عن مقوم آخر من مقومات الأمة الإسلامية - وهو نعمة الرسالة وقيادة النبي محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لهذه الأمة ، فإنه لا يمكن تكوّن أمة إلَّا ولها رمز يكوّنها فتتقوّم الأمة به وتتأسى به، ويكون المحور لانطلاقها وحركتها، ولذا كلّما حاول أعداء الإسلام النيل منه أثاروا الشبهات حول شخصية الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فالمشركون كانوا يتهمونه بالجنون والشعر والكهانة وتلفيق أساطير الأولين ... إلخ، وكذلك في العصر الحاضر يكثر المستشرقون من محاولة إيجاد ثغرة في شخصية الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، وقد وجدوا الإسرائيليات التي أدخلت في بعض الكتب، وكذلك الأكاذيب التي لفقها الأمويون والمنافقون فرصةً للنيل من شخصه المبارك، ولكن محاولاتهم تبوء بالفشل، وذلك لأن القرآن الكريم لم يترك شبهة إلَّا أجاب عنها، كما تصطدم تلك الروايات المكذوبة بالقرآن وبالمقطوع من سيرة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، وقد بيّن الأئمة من أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ والعلماء من أتباعهم الصحيح من سيرته، كما أن القرآن شاهد صدق على علوّه وارتفاعه.

ص: 146

ثم إن تأخر ذكر هذا المقوّم - مع أنه أهم من القبلة - لاقتضاء سياق الكلام ذلك، ولأنه بعد الاحتجاج في الفرع - وهو القبلة - يثبت الأصل وهو الرسول الذي جاء بهذه القبلة بأمر من الله تعالى .

ص: 147

الآيتان 151-152

اشارة

«كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)».

151 - وقد مننا عليكم بالقبلة الجديدة (كَمَا) مننا عليكم قبل ذلك إذ (أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً) هو محمد بن عبد الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (مِنکُم) لامن اليهود أو غيرهم، ولهذا الرسول صفات :

أ - (يَتْلُوا) أي يقرأ (عَلَيْكُمْ ءَاياتِنَا) النازلة في القرآن .

ب - (وَيُزَكِيكُمْ) أي يطهركم من أرجاس الجاهلية، طهارة في العقيدة، وفي الأخلاق وفي العمل، وعن القذارات المادية .

ج- ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ9 أي القرآن والتعليم نعمة أخرى غير القراءة، بل بمعنى الفهم والتركيز والتثبيت .

د - (وَ) يعلمكم (الحِكْمَةَ) أي وضع الأشياء في مواضعها ،ومن مصاديقها الشريعة .

ه_-(وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) مما ليس بمذكور في ظاهر الكتاب والحكمة، وذلك كقصص الأنبياء وأحوال الأمم السابقة

ص: 148

وأخبار السماء والأرض والمعاد ونحو ذلك، كل ذلك في طريق هدايتكم ولإزالة جهلكم، وكذلك فنون السياسة والاقتصاد والجهاد ونحو ذلك.

152 - وحيث ذكرتكم بهذه النعم (فَاذْكُرُونِی) أي لا تغفلوا عني بأن أكون في ذكركم دائماً مما ينتج الخشية والطاعة (أَذكُركُم) أي أزيدكم نعماً في الدنيا والآخرة ، (وَاشْكُرُوا لي) أي أقروا بإحساني إليكم ، (وَلَا تَكْفُرُونِ) وكفراً اعتقادياً أو كفراً بالعصيان وجحد النعم .

-------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ).

الرسالة عامة لجميع الناس في جميع الأقطار، كما قال تعالى ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (1) ، ولكن شرف الله العرب بأن جعل هذا الرسول منهم وفي منطقتهم ولم يجعله من قوم آخرين، ولا جعله في بني إسرائيل - مع كثرة الأنبياء والرسل فيهم ، وهذا شرف عظيم إن راعوا حقه وشكروا الله لأجله، فالقبلة في بلدكم والرسول منكم فاذكروا الله واشكروه ولا تكفروا به.

ولم يكن هذا الاختيار اعتباطياً بل لحكمة ومصلحة، ولعل منها : استجابة لدعاء إبراهيم وتعويض عمّا لاقاه من الظلمة مما اضطره إلى .

ص: 149


1- سورة الأعراف الآية: 158.

الهجرة وإسكان ذريته في أقسى المناطق من حيث الحرارة والماء والكلأ ، والله سبحانه شكور ، شكر لإبراهيم جهده فجعل خاتم الأنبياء من ذريته .

ومنها : أن العرب في ذلك الوقت كانوا خير جماعة لحمل راية هذا الدين، حيث كانوا بعيدين عن الحضارات الكبرى، فكان تغيير نفوسهم وتعليمهم الدين الجديد أسهل مما لو كان في منطقة فيها حضارة عريقة، مضافاً إلى أن هذا الدين كان بحاجة إلى الدفاع عنه أمام القوى الكبرى في العالم وكان العرب - لصعوبة مناطقهم وكثرة الغارات بينهم - كلهم يجيدون القتال وفنونه وقد تطبعت نفوسهم على الصعوبات وقساوة الصحراء والحذر الدائم، فكانوا خير جماعة يمكنها الدفاع عن هذا الدين الوليد ونشره، مضافاً إلى صعوبة غزو مناطقهم من قبل القوى الكبرى - لقلة الماء والكلأ والثروات ..

ومنها : ثراء لغتهم وقوتها، فكانت أنسب لغة لنزول خاتم الكتب السماوية بها، وخاصة إذا لاحظنا أن أحد أهم جوانب إعجاز القرآن هو فصاحته وبلاغته، مع قصور سائر اللغات عن ذلك، والله العالم.

وقوله (مِنكُم) إنما هو تحريض لهم للإيمان به حيث إنه منهم وسبب لشرفكم كما قال ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (1) وقال (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ(198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)(2).

الثاني : قوله تعالى (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا).

أول مرحلة من مراحل التربية هو السماع، فلذا أهم معجزة 6

ص: 150


1- سورة الزخرف، الآية: 44.
2- سورة الشعراء، الآية: 96

للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هو القرآن الكريم، والسماع هو مقدمة للفهم والعمل، ولذا قال تعالى (وَإِذَا قُرِىءً الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (1) .

المرحلة الثانية : صفاء النفس لتكون محلاً قابلاً للعلم والمعرفة وهي التزكية - التي يراد بها نمو النفس وتربيتها تربية تجعلها لا ترفض العلم الذي تتلقاه .

المرحلة الثالثة : التعلّم المستند إلى الأصول الصحيحة - المستقاة

من الوحي - فإن العلم إذا دخل في قلب سليم، أثر أثره، واستتبع العمل كما قال تعالى ﴿إِنَّمَا يَخشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَوُا)(2).

المرحلة الرابعة : إشراق المعرفة الإلهية على القلب، فإن العلم ليس بكثرة التعليم، وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه - كما في الحديث الشريف (3).

وقد تكفلت هذه الآية لبيان هذه المراحل الأربع: ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا)، (وَیُزَكيكُمْ)، (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ، وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

ثم إن تلاوة الآيات إذا لم تستتبع صفاء النفس، فذلك من شقاء الإنسان بسوء اختياره لعناده، قال تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَیَتَخِذَهَا هُرُواً أَوَلَائِكَ لَهَمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ«6» وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايْاتُنَا وَلَى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعَهَا كَانَ فِي أُذُنَيهِ وَقْراً بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (4)..

ص: 151


1- سورة الأعراف الآية: 204.
2- سورة فاطر، الآية: 28.
3- بحار الأنوار: ج 67 ، ص 140 .
4- سورة لقمان الآيتان 6 - 7 .

وفي المقابل غير المعاند الذي وطن نفسه على قبول الحق قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ ،زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (1).

والحاصل هنا فريقان كما قال وَأَنْ أَتْلُوا الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَآ مِنَ الْمُنذِرِينَ) (2).

الثالث : قوله تعالى ﴿وَيُزَكِّيهِمْ) .

(التزكية) من مادة (زك ي) بمعنى الطهارة - وأصل المادة من النموّ ، ويراد منها تربية النفس لأنها توجب كمال الإنسان وارتفاعه إلى الدرجات العليا في الدنيا والآخرة.

ثم إن التزكية تكون :

1 - للنفس وذلك بتطهيرها من الرذائل الخُلقية، وأعظمها الاستكبار على الله تعالى الذي يكون مانعاً عن قبول الهداية.

2 - وتكون للعقيدة بتطهيرها من أدران المعتقدات الفاسدة التي هي المعوّق الأساس لنمو الإنسان وتكامله .

3 - وتكون للأعمال بتطهيرها من الموبقات والفحشاء والمنكر .

4 - وتكون للبدن بتشريع الوضوء والغسل والنظافة ونحو ذلك .

الرابع : قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).

(الكتاب): القرآن، و(الحكمة)، وضع الأشياء في مواضعها، ومنها الشريعة، وقد مرّ الكلام حولهما في الآية 129.

ص: 152


1- سورة الأنفال، الآية: 2.
2- سورة النمل الآية: 92

والتعليم غير التلاوة، وإنما التلاوة هي مقدمة للتعليم، ولعل المراد هو بيان معاني الآيات وتفسيرها وتأويلها وحقائقها كما قال تعالى ﴿وَأَنزَلْنَآ إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِلَ إِلَيْهِمْ) (1) ، فإن الله تعالى كما أنزل القرآن على النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كذلك أنزل عليه بيانه - من التفسير والتأويل . . . - قال تعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْنَهُ فَاتَّبِعْ قُرْوَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (2).

ولذا قد يعبّر عن التفسير الذي بينه الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالتنزيل، كما وردت روايات متعددة بهذا التعبير، وما ذلك إلا لأن بيان القرآن نزل على الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كما نزلت عليه ألفاظه .

ثم إن التزكية تقدمت على التلاوة في هذه الآية، والعكس في الآية 129 حيث قال (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) ، ولعل ذلك لأجل أن التزكية لها مراتب فبمرتبة منها تستعد النفس للتعلّم، وبالعلم تزداد التزكية، نظير من يكون متواضعاً فيقبل التعلّم ثم يزداد تواضعاً بما تعلّمه .

وقيل : قدّمه على التعليم باعتبار القصد، وأخره في دعوة إبراهيم باعتبار الفعل(3).

ولعل المراد أن النفس الزكية تقبل التعلّم فإذا تعلمت ظهرت الآثار على الجوارح فزكت الأعمال.

الخامس : قوله تعالى ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) .

ص: 153


1- سورة النحل، الآية: 44.
2- سورة القيامة، الآيتان: 18 - 19.
3- الجوهر الثمين ج 1، ص 162 .

يظهر من تكرار ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ) أن (تعليم الكتاب والحكمة) يختلف عن (تعليم ما لم تكونوا تعلمون)، ولعل :

1 - العلم الأول هو الاطلاع على المعلومات - بمعنى حضور صورها في الذهن والثاني هو إشراق نور المعرفة، فكم من عالم غير عامل بعلمه وذلك لأن علمه جمع معلومات لا معرفة حقيقية، كما قال عالى (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَاراً) (1) .

2 - أو هو تأكيد لأهمية ،العلم ولبيان أن ما في الكتاب والحكمة لم یكن الناس يعلمونه فقد فتح الوحي باب هذه العلوم على البشرية ولولاه لاستمروا في ضلالهم المبين .

3 - أو المقصود أمور أخرى ليست في ظاهر الكتاب ولا هي من الشريعة، كالقصص المفيدة من أحوال الأنبياء والأمم السالفة، وتفاصيل المعاد، والملائكة وأمور الاقتصاد والسياسة ونحو ذلك مما يفيد الناس

في دينهم ودنياهم .

4 - أو هو ذكر العام بعد الخاص حتى لا يتوهم حصر تعليم الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم إياهم في الكتاب والحكمة فقط .

السادس: قوله تعالى (فَاذكُرُونِي أذكُركُمْ).

(الذكر ) هو الحفظ والحضور، ويضاده النسيان والمعنى تذكر الله تعالى دائماً في القلب وعدم الغفلة عنه تعالى، أي يكون لله حضور مستمر في قلوبكم ثم إن هذا الحضور يظهر على اللسان فيلهج الإنسان .

ص: 154


1- سورة الجمعة، الآية: 5 .

بذكره تعالى، وعلى الأعمال فيطيعه فيما أمره وينتهي عما نهاه، قال تعالى ﴿وَاذكُر رَبِّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)(1).

وكم هناك فرق بين المسلمين حيث يأمرهم الله بأن يذكروه تعالى، وبين بني إسرائيل حيث يأمرهم بذكر نعمه تعالى ﴿يَابَنِي إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَى الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ (2)، ولعل ذلك لأجل وجود مجموعة - ولو قليلة - في المسلمين ممن يمكن أن يتذكروا الله دائماً في كل أحوالهم .

ومن مصاديق الذكر باللسان تسبيح فاطمة الزهراء علیها السلام - كما ورد في بعض الروايات (3) - ، ومن الواضح أن ما في الرواية تفسير بالمصداق .

ولا يخفى أن هناك تأثيراً وتأثراً بين النفس وبين الأعمال، فكم من عمل يوجب سمو النفس أو سقوطها، ورب نفس دعت صاحبها إلى الفلاح أو عدمه، ولذا كثرت الآيات والروايات التي تأمر الناس بالدعاء والأذكار والأوراد، فإنها من مصاديق الذكر كما توجب حضوراً الله تعالى في قلب الناس .

وللحديث عن الذكر موطن آخر يطلب من مظانه.

والحاصل أن كل ما حصل من المعرفة والتذكر والتوجّه إليه تعالى، فهو ذكر الله سبحانه فإن الذكر هو المعرفة ثم تذكرها عند طرو الغفلة - كذا قيل -. .

ص: 155


1- سورة الأعراف الآية: 205.
2- سورة البقرة، الآية: 40.
3- البرهان ج 2، ص 32 .

وقوله تعالى (أَذْكُرْكُمْ) ، معناه ذكرتكم سابقاً فغمرتكم بالنعمة - ومنها إرسال الرسول منكم ، (فَاذكُرُونِي) لحاجتكم إلى ذكري لكي ترتقوا إلى الدرجات العليا، (أَذْكُرْكُمْ) بزيادة النعمة عليكم، كما قال (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ، وفي الحديث : «من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله نفسه» (1).

السابع : قوله تعالى ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) .

(الشكر): هو الإقرار بالإحسان، سواء كان باللفظ أم بالعمل - كما مر ، والمعنى اشكروا لي هذه النعم، فحذف المفعول، وقد يقال (اشكروني) من دون حرف جر وذلك لإقامة المنعم مقام النعمة والأفصح مع حرف الجر.

والشكر هو نتيجة الذكر، ولذا جاء متأخراً عنه، فإن الإنسان إذا كان متذكراً لله تعالى دائماً ، فإنه يكون متذكراً لنعمه التي لا تحصى، فيقر بها باللسان وبالعمل فيظهر تلك النعم ويحمد الله عليها .

وقوله (وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ . لمّا بيّن الله تعالى الشكر - وهو الجانب الإيجابي - نهى عن الكفران - وهو الجانب السلبي - لأن كفران النعمة بجحدها أو كتمانها أو عدم الاكتراث بها من أرذل الرذائل النفسية التي يدركها العقل والكفر في الاعتقاد من أسوأ أنواع كفران النعمة وذلك بجحد أو إنكار منعمها . .

ص: 156


1- عدة الداعي : ج 1، ص 162.
المقوم الثالث من مقومات الأمة الإسلامية الجهاد - تحمل المشاق -

أن تكون الأمة وسطاً وشاهدة على سائر الأمم، وأن يكون لها قيادة خاصة وجامع خاص، سيعرضها وبلا شك إلى صعوبات جمة، منها رفض بعض القوى لها، ومحاربتها - فكرياً وعملياً - وذلك حسداً أو تكبراً أو لجهات أخرى، ولذا كُذَّب جميع الرسل واستهزئ بهم، ولم يتمكنوا من القيام بمهامهم إلا بجهد كبير، قال تعالى ﴿يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (1) ، وقال (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِکَ)(2)، وقال (وَكَأَیِن مِن نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِيُّونَ كَثِيرُ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اَسْتَكَانُواْ )(3).

هذا مضافاً إلى جهات أخرى كالابتلاء، وصقل شخصية الأمة، وبروز القيادات الصالحة - الذين تظهر جواهرهم في الصعوبات - ليتميزوا عن النفعيين ونحوهم .

كما أن هناك أحكاماً شاقة - نفسيّاً أو جسدياً - كالسعي، وعليهم

ص: 157


1- سورة يس الآية: 30.
2- سورة الأنعام، الآية: 34
3- سورة آل عمران الآية: 146.

إطاعة الله في تلك الأحكام وامتثالها، فقال تعالى ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)(1).

وفي المقابل سيواجهون بمن يحاول كتمان الحقائق، وهذا مما يزيد في صعوبة عمل المؤمنين، ويرهقهم نفسيّاً في محاولة إظهار تلك الحقائق، فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَأَهْدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيِّنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) (2).

وكذلك سيواجهون بكفار لا يرتضون دينهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعَنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) (3) ثم يبشر الله المؤمنين بأن هؤلاء - الكاتمين والكفار - ملعونون مطرودون من رحمة الله فلا يحزن المسلمون من أعمال هؤلاء لأن مصيرهم العذاب. .

ص: 158


1- سورة البقرة، الآية: 158
2- سورة البقرة، الآية 159
3- سورة البقرة، الآيتان: 161 - 162 .

الآيات153-157

اشارة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)»

153 - ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا) حيث علمتم بالصعوبات في إرسال رسول منكم وفي تحويل القبلة ، ف(اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) في كل الأمور - ومن مصاديقه الصوم - فإنه يقوي عزيمتكم (وَالصَّلَوةِ) فإنه إيواء إلى ركن شديد والقدرة المطلقة التي لا غالب لها ف(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَاّبِرِينَ) معيّة نصرة وتأييد وتوفيق .

154 - ﴿وَ) إن القيادة والإرشاد فيه صعوبات يلزم تحملها للوصول إلى الهدف، فإذا بلغت المشاق ذروتها وفقدتم بعض مصالحكم فلا تتوهموا عدم التعويض بل الله يعوّض أحسن الجزاء، وأهم أمر يحتاج إلى صبر والتجاء إلى الله هو فقدان الأعزة ف(لاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي الطريق الذي يوصل إليه تعالى : (أَمْوَاتٌ بَلْ) هم (أحْيَآءٌ) حياة واقعية أفضل من حياة الدنيا، فإنهم

ص: 159

عند ربهم يرزقون فرحين (وَلٰكِن لَّا تَشْعُرُون) بحياتهم تلك، لأن الإنسان محبوس في هذا العالم فلا يشعر بالعوالم التي هي أرقى من ،عالمه، فإذا مات رأى حقائق العالم الآخر .

154 - ثم اعلموا أن بعض المصائب هي اختبار لكم من الله ، فإضافة إلى صعوبات القيادة يلزم مرور الناس باختبارات إلهية لتسموا أرواحهم وليميز الخبيث من الطيب، (وَلَنَبْلُوَنَّكُم) : من الامتحان (بِشَيءٍ) قليل، وإنما كان قليلاً لكونه يسيراً ولا يبلغ أشده (مِنَ الْخَوْفِ) وهو اختبار نفسي، (وَالْجُوعِ) وهو اختبار جسمي، (وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ) وهو اختبار مادي، (وَالْأَنفُسِ) وهو اختبار اجتماعي، (وَالثَّمَرَاتِ) وهو اختبار في الخيرات الطبيعية التي تفيد الإنسان (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) بشارة بكل خير، ومن أهم مصاديقها البشارة بالجنة والمغفرة .

155 - والصابرون هم (الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ) ، وهي كل ما يؤذي المؤمن (قَالُوا) باللسان انطلاقاً من قلب مطمئن : ﴿إِنَّا لِلَّهِ) فما دامه قدّر هذه المصيبة ففيها رضانا لأنه مالكنا، (وَإِنَّا إِلَيْهِ) إلى ثوابه وقربه (رَاجِعُون) له فهو يجبر المصيبة .

156 - (أَوَلٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ) أي عطف وتوجه لهم بالبركة والإحسان (وَرَحْمَةٌ) بغفران ذنوبهم وهدايتهم، وهم يقبلون هذه الهداية، ولذا قال تعالى ﴿وَأَوَلٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ حيث أصابوا طريق الحق الذي أراهم الله تعالى.

-------------------------------

ص: 160

بحوث

الأول : قوله تعالى (أَسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ).

مرّ هذا المقطع في الآية 45 ، وكان ذلك أمراً لبني إسرائيل، وهذه الآية أمر للمسلمين، وكان مصب تلك الآية في مدح الصلاة فقال تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوٰةُ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (1) وهذه الآية في سياق مدح الصبر والصابرين، لأن المقام هنا حول ملاقاة الأهوال والجهاد والمشاكل فكان التركيز على الصبر.

وإنما خص هاتين الصفتين - الصبر والصلاة - بالذكر، لأنهما أهم مقومين لمن يريد حمل الرسالة والتبليغ والإرشاد حيث يواجه الصعوبات الجمة، لا يمكنه التغلب عليها إلا بهاتين.

فالصبر : هو عدم الانهيار أمام الصعوبات والمغريات، ولذا قيل: إن كل فضيلة لا بد أن يكون الصبر جزءاً منها أو من مقدماتها، كما أن كل رذيلة لا بد أن يكون عدم الصبر من مقوماتها أو مقدماتها، لأن الفضائل هي

الحد الوسط بين الإفراط والتفريط . فالشجاعة يقابلها الإفراط وهو التهوّر، والتفريط وهو الجبن والبقاء على الحد الوسط صعب جداً لميل النفس غالباً إلى أحد طرفي النقيض منها .

كما أن الله خلق العالم بالتدريج وأجرى الأمور بالتدريج، فلا يمكن الوصول إلى المعالي دفعة وبالطفرة، بل لا بد من المرور بمقدمات كثيرة، وكلّما كان الأمر أجل كانت المقدمات أكثر وأصعب، فلكي تصبح عالماً أو طبيباً أو خبيراً لا بد لك من سنوات طوال من الدراسة .

ص: 161


1- سورة البقرة، الآية: 45.

وترك الرغبات في النوم واللهو ونحو ذلك، ولكي تصنع أمة قادرة على حمل مشعل الهداية لا بد من تحمل تهذيب النفس وترك كثير من الملذات ودفع المؤامرات، ولذا نشاهد الأنبياء - وهم عباد الله المصطفون - وأتباعهم تحملوا أشد المشاق لتبليغ دين الله تعالى قال سبحانه (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَتهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاهُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قريب) (1) ، ورسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كم تحمل من كم تحمل من المشاق في سبيل نشر الإسلام حتى خاطبه الله تعالى ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ) (2).

كما أن مقادير الله تعالى تجري سواء صبر الإنسان أم جزع، لكنه إن صبر كان مرتاح البال غير منهار حافظاً قواه النفسية والبدنية ليقوم بالمهام، مضافاً إلى تأييد الله تعالى وثوابه، وإن جزع كان قلقاً نفسياً، مشتّت ،البال منهار القوى غير سليم الفكر والعمل، مما يخرجه عن القابلية لحمل المهام الصعبة .

وفي الحديث عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : على أنك إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت محمود، وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مذموم (3).

ثم إنه ورد في بعض الأحاديث تفسير الصبر بالصوم (4) ، وهو تفسير بالمصداق حيث إنه صبر عن الملذات وفيه ترويض النفس عليه، وليس يخصص عموم الآية - كما مرّ نظيره مراراً .. .

ص: 162


1- سورة البقرة، الآية: 214.
2- سورة هود، الآية: 112
3- البرهان ج 2 ص 38 ، عن الكافي ج 3، ص 261 .
4- البرهان ج 2، ص 34 ، عن تفسير العياشي.

الثاني : قوله تعالى (وَالصَّلَوٰةِ) الصلاة هي أبرز مظاهر العبودية لله تعالى وهي تمثل الجانب الإيجابي في الإنسان، كما أن الصبر - وهو كف النفس وحبسها - يمثل الجانب السلبي، ولذا قدم الصبر على الصلاة إذ لا أثر للصلاة من غير صبر كما قال تعالى ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَوٰةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ) (1).

كما أن الصبر في واقعه أمر نفسي والصلاة أمر عملي - وإن كان روحها الإخلاص ..

والإنسان إذا ارتبطت روحه بالقدرة اللامتناهية والذي كل الأمور بيده فإنه يشعر باطمئنان فلا يتزعزع عند المدلهمات، كما أن الله ينصره بإراءته طريق الصواب ويهيّئ له أسباب النصر والغلبة كما يجازيه بأفضل الجزاء، والإنسان إذا علم بأن جهوده لا تذهب سدى بل سيعوض أفضل الجزاء ينشط في العمل ويقوم بالمهمة الموكلة إليه بأحسن قيام.

الثالث : قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَاّبِرِينَ).

(مع): بمعنى مصاحبة شيئين سواء كانت مصاحبة مكانية كقولنا معي ،زيد أم مصاحبة تقديرية - يراد بها القيام بالشيء - مثل : (معي وهي في كل استعمالتها بهذا المعنى وأما الأمور الأخرى فإنها تستفاد

من القرائن المكتنفة بالكلام.

وكون الله تعالى مع شيء يراد به قيمومته على ذلك الشيء وهذا الاستعمال على نحوين:

1 - القيمومة بمعنى الإحاطة علماً وقدرة كقوله تعالى ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ .

ص: 163


1- سورة النساء، الآية: 142.

النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحيطاً) (1) ، وقال (مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا ومَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) (2).

2 - القيمومة بمعنى النصر والمعونة والتوفيق كقوله ﴿قَالَ لَا تَخَافَاً إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ) (3) .

وقد حاول العامة الاستدلال ب- ( معنا) في آية الغار، مع أن الآية تدل على اختصاص الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالسكينة والتأييد، في حين أن السكينة تنزل على المؤمنين، وكلّما نزلت على الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و فإنها نزلت على المؤمنين أيضاً كقوله (ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (4) ، باستثناء آية الغار حيث نزلت على الرسول وحده وسيأتي - إن شاء الله تعالى - تفصيل ذلك .

وفي هذه الآية قال تعالى ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وقرينة السياق تدل على أنها معية النصرة والتأييد للصابرين.

الرابع : (أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاةٌ) .

شأن نزول الآية وإن كان شهداء بدر - على ما قيل (5)، ولكن لا تخصص الآيات بمورد نزولها، فأكثر الآيات لها شأن نزول، وذلك لحكمة تدريجية نزول القرآن نجوماً، ولكي يكون أوقع في النفوس .

ص: 164


1- سورة النساء، الآية: 108.
2- سورة المجادلة، الآية: 7.
3- سورة طه، الآية: 46.
4- سورة التوبة، الآية: 26 .
5- مجمع البيان ج 1 ، ص 599 .

لا ستعدادها للقبول في الحالات التي يتلمسون فيها حاجتهم لذلك الحكم أو تلك القضية المذكورة في الآية، ولتثبيت قلب الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كما قال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَلْنٰهُ تَرتيلاً) (1) وفي التبيين: أي إنما أنزلناه شيئاً بعد شيء للإرشاد في مختلف المناسبات مثلاً آيات بدر إنما نزلت في تلك الغزوة، وآيات حنين إنما نزلت في تلك الحرب، وآيات الصيام في وقت تشريعه وهكذا (2).

ولكنها آيات تشير إلى مفاهيم عامة - على الأغلب ، كما هو شأن قصص القرآن كما قال تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ) (3) ، وقال وَكُلًّا نَقُصُ عَلَيْكَ مِنْ أَنبآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) (4) وقال (فَأَقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (5) .

والميت : هو الذي لا تأثير له في الحياة ولا امتداد، وهؤلاء الشهداء ليسوا كذلك بل هم أحياء بحياة واقعية برزخية، وهم في قرب الله تعالى قرباً معنوياً - لا مكانيّاً إذ هو تعالى خالق المكان وليس في شيء من المكان إذ لا يعقل إحاطة المكان المخلوق بالخالق جلّ وعلا.

كما أن هؤلاء أحياء في الدنيا بتأثيراتهم - ولو المستقبلية - نظير ما .

ص: 165


1- سورة الفرقان الآية: 32
2- تبيين القرآن، ص 374.
3- سورة يوسف، الآية: 111.
4- سورة هود، الآية: 120
5- سورة الأعراف الآية: 176.

قاله أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : هلك خزان الأموال - وهم أحياء ، والعلماء : - باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة (1) .

كذلك لهؤلاء الذكر الجميل ونظيره قوله (وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) (2).

والحياة في هذه الآية مطلقة فتشمل كل ما ذكر، وأما قوله تعالى (بَلْ أَحيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (3) فالظرف (عِندَ رَبِّهِمْ) متعلق ب- (يُرْزَقُونَ) أي رزقهم عند ربهم وليس المقصود حياتهم عند ربهم كي يشكل على الحياة بمعني الامتداد أو بمعنى الذكر الجميل.

حول برزخ

ثم اعلم أن هذه الآية، وكذلك آيات أخرى، دلت على نوع حياة للإنسان بعد موته وقبل النشور في يوم القيامة، يعبّر عنها بالحياة البرزخية، لأنهم في برزخ بين الدنيا والآخرة كما قال تعالى ﴿وَمِن وَرَائِهِم برْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (4) .

وهناك ناس متنعمون في البرزخ كما في هؤلاء الشهداء، وناس معذبون كما قال تعالى ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (5) ، وقسم ثالث لا يسألون في القبر بل يتركون ويلهى عنهم، كما ورد في بعض الروايات، ففي الكافي بأسناد معتبرة عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «لا يسأل

ص: 166


1- نهج البلاغة، الحكمة رقم 147 .
2- سورة الشعراء، الآية: 84
3- سورة آل عمران الآية: 169.
4- سورة المؤمنون، الآية: 100.
5- سورة غافر، الآيتان: 45 - 46

في القبر إلَّا من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، والآخرون يلهون عنهم (1) . وقال العلامة المجلسي في بيان معناها : إنه لا يسأل عن المستضعفين المتوسطين بين الإيمان والكفر (2).

قال الشيخ المفيد - رحمه الله - في أجوبة المسائل السروية (3) سئل : ما قوله أدام الله تأييده في عذاب القبر وكيفيته؟ وهل ترد الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا ؟ وهل يكون العذاب في القبر أم يكون بين النفختين؟

الجواب : الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل، وقد ورد أئمة الهدی عَلَيْهِم السَّلاَمُ أنهم قالوا : ليس يعذب في القبر كل ميت، وإنما يعذب من جملتهم من محض الكفر محضاً، ولا ينعم كل ماض لسبيله، وإنما ينعم منهم من محض الإيمان محضاً ، فأما سوى هذين الصنفين فإنه يلهى عنهم، وكذلك روى أنه لا يسأل في قبره إلّا هذان الصنفان خاصة، فعلى ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه .

فأما عذاب الكافر في قبره ونعيم المؤمن فيه، فإن الخبر أيضاً قد ورد بأن الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنة من جناته ينعمه فيها إلى يوم الساعة، فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي بلي في التراب وتمزّق ، ثم أعاده إليه وحشره إلى الموقف، وأمر به إلى جنة الخلد فلا يزال منعماً ببقاء الله عزّ وجل، غير أن جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا، بل تعدّل طباعه، وتحسن صورته، فلا يهرم مع تعديل ،الطباع ولا يمسه نصب في الجنة ولا لغوب، والكافر ،

ص: 167


1- البحار ج 6 ، ص 260 عن الكافي ج 3، ص 64.
2- المصدر نفسه.
3- عنه في البحار ج 6 ، ص 272 . 6،

يجعل في قالب كقالبه في الدنيا، في محل عذاب يعاقب بها حتى الساعة، ثم ينشىء جسده الذي فارقه في القبر ويعاد إليه، ثم يعذب به في الآخرة عذاب الأبد، ويركب أيضاً جسده تركيباً لا يفنى معه . . . . انتهى .

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه عليك في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا » (1).

الخامس : قوله تعالى ﴿وَلٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ) .

(الشعور) هو ابتداء العلم بالشيء من جهة المشاعر - وهي الحواس ، ولذا لا ينسب الشعور إلى الله تعالى لأنّه سبحانه منزه عن الحواس، بل هو العالم بكل شيء بذاته بلا حاجة إلى آلة العلم .

والمعنى لا تدركون هذه الحياة بحواسكم لأنها حياة في عالم أرفع من عالمكم فتعجز حواسكم عن إدراكه كيف وقد تعجز حواسكم عن إدراك بعض المحسوسات - التي قد يحسها بعض الحيوانات - كما ثبت في العلم الحديث قصور سمع الإنسان عن سماع الأمواج الصوتية - وهي ذبذبات مقياسها يسمى «سيبل» - إذا زادت أو نقصت عن مقدار معين، وكذا سائر الحواس، فكيف يمكن لهذه الحواس إدراك العالم الآخر الذي هو أرفع وأشرف من هذا العالم بلى إذا انتقل الإنسان إلى ذلك العالم شاهد وسمع ما لا يمكنه مشاهدته وسمعه في هذا العالم قال تعالى (فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(2) أي قوي حاد . .

ص: 168


1- مجمع البيان ج 1 ، ص 601 عن التهذيب ج 1، ص 466 .
2- سورة ق الآية: 22 .

وخاطب رسول الله قتلى المشركين في بدر فاعترض بعض أصحابه فقال كيف تُكلّمهم وهم أموات، فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) (1) . هذا مضافاً إلى بطلان الامتحان لو أحس الإنسان على تلك الحياة الأخرى، فما من أحد إلا ويؤمن لو شاهدها، كما قال تعالى عن فرعون (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلَّا الَّذِى ءَآمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إسْرَاءِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (2).

السادس: قوله تعالى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابرينَ).

أخبرهم قبل وقوعه ليوظنوا أنفسهم به ويأخذوا حذرهم .

وقد مرّ بعض الكلام حول بلاء الله تعالى لخلقه، وقلنا إن الابتلاء هو الاختبار، لتظهر حقيقة الأشخاص، ولصقل شخصية المؤمن لترتقي إلى الدرجات العليا، ولرفع الدرجات، أو لحبط السيئات، ولأن عقاب العصاة من غير ذنب اقترفوه ،ظلم فالمعنی نختبركم ليظهر ما علمناه أزلاً، ولنرفع درجات المؤمن لما يصبر في الاختبار، ولكي يكون عقاب الكافر عن استحقاق.

وهذا الامتحان وإن كان صعباً إلا أن الله تعالى خلق الإنسان قادراً على تحمله وتجاوزه بسلام - إن هو أعمل عقله - ولم يجعل لقوى الشر والعصيان سلطة على الناس بل جعل كيدهم ضعيفاً، كما قال سبحانه (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (3) ، وقال سبحانه ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ

ص: 169


1- رواه من العامة البخاري - في الصحيح عندهم - باب قتل أبي جهل، ج 5 ص 97.
2- سورة يونس الآية: 90
3- سورة النساء، الآية: 76.

الأمْرُ إنَ اللَّهَ وعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدَتُكُمْ فَأَخْلَفتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ) (1) ، بلى من أطاع الشيطان فإنه يستولى عليه، قال سبحانه (َإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ«99» إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ) (2).

ثم جمعت هذه الآية مختلف أنواع الابتلاءات، فالخوف في النفس، والجوع في البدن، ونقص الأموال في الاقتصاد والأنفس في الاجتماع والثمرات في الخيرات الطبيعية.

والترتيب باعتبار الأهمية، لأن أهم شيء عند الإنسان هي نفسه يخاف عليها، ثم ما يرتبط بها، ومن أهمها تلبية حاجاته الجسدية - التي أهم مظاهرها الجوع والشبع ، ثم ما يملكه وهو أمواله، ثم تناسله واستمراره عبر الذرية كما قال (وَتَكَاثُرُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ (3) ، وقال (الهٰكُمُ التَّكَاثُرُ) (4) وأخيراً سائر خيرات الأرض.

والحاصل في المرتبة الأولى بقاء الإنسان وتلبية حاجاته لذا كان البلاء بالخوف والجوع ، ثم اختباره في أمواله، ثم في نقصان ذريته، ثم اختباره في نقصان خيرات الأرض.

ولم يذكر العطش : لتوفر الماء غالباً، وقلة فقدانه المستمر إذ إما يجد الماء بعد قليل أو يموت عطشاً بلا فاصلة مضافاً إلى أن المقصود هو .

ص: 170


1- سورة إبراهيم، الآية: 22
2- سورة النحل، الآيتان: 99 - 100 .
3- سورة الحديد، الآية: 20
4- سورة التكاثر الآية: 1.

ذكر مثال للحاجة الجسمية، وقد ذكر الجوع فلا حاجة لضرب مثال آخر فتأمل.

وقوله (بِشَىءِ ...) ، ظاهر الكلمة أنه قليل، أي بشيء قليل من الجوع ... إلخ، وذلك لأنه لا يمتد بل فترته ليست طويلة، أو لأنه لا يبلغ أقصى درجاته، أو لكونه قليلاً بالنسبة إلى الأكثر منه، أو لأنه ليس شيئاً يذكر في مقابل الجزاء الذي يناله المؤمن الصابر .

وقوله (وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ) ، مطلق يشمل النقص كل خسارة للأموال سواء كانت في الحرب، أم نهب الأعداء، أم مطلق الضيق الاقتصادي الناشيء عن حبس الأمطار وجفاف الآبار ونحو ذلك.

وقوله (وَالثَّمَرَاتِ) ، أيضاً مطلق فيشمل كل أنواع الثمرات، ولا بد بتقييدها بغير الأموال حتى لا يكون تكراراً لقوله (وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ)، والأظهر أن المراد بها خيرات الأرض العامة، وقيل : المراد بها ثمرات الأشجار - وهي أفضل ما تحمله الشجرة ، وقيل : الحصاد في غير أوانه - خشية استفادة الأعداء الغازين منه كما في غزوة الخندق ، وقيل : لأجل انشغالهم عن الزراعة بالحرب ومقدماتها .

ثم إن الآية لها عموم تشمل كل زمان ومن مصاديقها ما قبل ظهور

الإمام القائم - عجل الله تعالى فرجه الشريف - كما في الأحاديث (1).

السابع: قوله تعالى ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).

لما ذكر الله تعالى الابتلاءات التي سيواجهونها، أراد أن يُعلّمهم كيفية مواجهتها ويُقوّي قلوبهم. .

ص: 171


1- راجعها في تفسير البرهان ج 2، ص 35 - 37 .

فأولاً: يبشرهم بالثواب ولكن لم يحدد نوعية هذا الثواب لأن له مراتب كثيرة - دنيوية وأخروية ، ومن أهمها البشارة بالمغفرة والجنة ورضوان منه تعالى .

ولم يقل (بشّرهم) لبيان أن البشارة للصابرين فقط دون غيرهم الذين ينزل عليهم البلاء وهم غير محمودين ولما فيه من تكرار لفظ الصابرين والأولى في الآية 153 - تفخيماً لأمرهم وأيضاً لرعاية فاصل الآيات أو لغير ذلك .

وثانياً : يعلمهم كيفية الصبر الجميل، وذلك عن طريق الالتجاء إلى الله تعالى والإذعان بأنّ كل شيء منه - وهو لا يريد الشر لعباده - وأنه سيجازي على الأعمال.

وثالثاً : بيان سبب الصبر - وهو كون الجميع الله وقد استرجع ملكه - .

ورابعاً : بيان الجزاء العام (أولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأٌوْلٰئِك هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .

الثامن: قوله تعالى (أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةُ).

(المصيبة): هي المشقة الداخلة على النفس لما يلحقها من مضرة -كما في المجمع (1)-، وروي: كل شيء يؤذي المؤمن فهو مصيبة (2).

وهذه المصيبة قد تكون من الله، وقد تكون من الناس.

فإن كانت منه تعالى - كتقديره الموت - فإنه تعالى يجبرها بفضله .

ص: 172


1- مجمع البيان ج 1 ، ص 605 .
2- الجوهر الثمين ج 1، ص 165 .

وكرمه، بل لم يقدّرها إلا لمصلحة الإنسان نفسه، لأن الله خير محض ولا يفعل إلَّا الخير، وأما الشر فمنشؤه سوء اختيار الإنسان نفسه أو هو نتيجة عمله، وبعض المصائب وإن كانت تؤذي الإنسان إلَّا أنها خير

ولمصلحته .

وإن كانت المصيبة من الناس بالظلم، فإن الله سينصف من الظالم .

التاسع : قوله تعالى ﴿قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) .

في المصائب الكبيرة يكشف قول الإنسان عن قلبه وعمّا يدور في خلده فالذي يصاب بها إن كان مؤمناً فاه بما فيه الله رضا، وإن جزع يفوه بما لا يُرضي الله من القول، فليس المراد من هذه الآية مجرد ترديد هذه الكلمة على اللسان بل المراد أن يكون هذا القول مظهراً عن ضمير مطمئن بقضاء الله وراضياً عنه.

قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : (إنَّا لِلَّهِ) : إقرار على أنفسنا بالملك، (وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ : إقرار على أنفسنا بالهلاك (1).

وإذا علم الإنسان - علم اليقين - بأنّه ملك الله ، وأقر له بالعبودية مع علمه بكمال حكمة الرب وعدله ورحمته فإنه سيرضى بكل قضاء ء مُرّ ولذا ورد في الحديث : الرضا بمكروه القضاء من أرفع درجات اليقين (2).

وكذا إذا علم بأنه سيرجع إلى حساب الله وأن الله وعد بالجزاء والتعويض والانتصاف من الظالمين فإنه لا محالة ستهون عليه المصائب، وقد قال الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في يوم عاشوراء: «هوّن ما نزل .

ص: 173


1- البرهان ج 2، ص 38 عن خصائص الأئمة، وكذا في نهج البلاغة.
2- بحار الأنوار: ج 75 ، ص 135.

بي أنه بعين الله» (1). فاتضح أن الرجوع إلى الله بمعنى الرجوع إلى حسابه وثوابه ونحو ذلك، لا السفسطة التي زعمها بعض أتباع وحدة الوجود من بطلان الكثرات وزوال الحدود واندكاك كل شيء في ذاته، وكان أحدهم يقول : ليس في جبتي سوى الله !! تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً .

العاشر: قوله تعالى (أُولَيكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولٰئِك هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

(الصلاة) هي العطف والالتفات إلى الشيء، وهي من الله بمعنى التوجّه بالبركة والإحسان، وذلك لطف منه تعالى لعبيده، وإنما جاء بلفظ الجمع (صلوات) لأنها أنواع كثيرة، وهذا العطف ليس لحاجته تعالى فإنه الغني المطلق، بل لحاجتهم ولكي يرحمهم ، كما أنه خلقهم ليرحمهم كما قال ﴿إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (2) ، وقال ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (3) ولأن لطفه مقدمة لرحمته لهم لذا قدّم (صلوات) على (رحمة).

ويمكن أن نقول إن (صلوات) هو نفعهم و (رحمة) هو دفع الضرر عنهم، كما مرّ من الفرق بين الرحمة والرأفة حيث إن الرأفة بإيصال نفع والرحمة بدفع ضرر . فتأمل.

أو نقول هذه الصلوات أيضاً من رحمته، فيكون الفرق بتعدد الرحمة فرحمة أوجبت رحمة أُخرى، ولذا روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ في قوله .

ص: 174


1- بحار الأنوار، ج 45، ص 46 .
2- سورة هود، الآية: 119
3- سورة فاطر، الآية: 15.

تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (1) ، إنه قال : الصلاة من الله عزّ وجلَّ رحمة، ومن الملائكة تزكية، ومن الناس دعاء (2).

ولما كانت الصلوات والرحمة هي هداية من الله تعالى، وقبول هذه الهداية هو الاهتداء، لذا فصل قوله (وَأَوْلٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) عن صلوات ورحمة فتحصل أن الله يهدي هؤلاء بصلواته ورحمته، وهؤلاء هم محل قابل للهداية لذلك يقبلونها فيهتدون، وبعبارة أخرى الاهتداء هو نتيجة العطف والرحمة ولذا فصله في الكلام - كذا قيل - .

ص: 175


1- سورة الأحزاب الآية 56.
2- معاني الأخبار ص 368.

الآية158

(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ «158»)

158 - وكما ستواجهون بصعوبات مادية ونفسية ولكم جزاء بالصبر عليها، كذلك ستواجهون بتشريعات إلهية قد تكون فيها صعوبة، فإن صبرتم عليها وامتثلتموها فلكم جزاء عظيم، ومنها فريضة السعي في الحج والعمرة ف- (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) جبلان في طرف المسجد الحرام (مِن شَعَائِرِ) أي علائم (اللَّهِ) تدلان عليه تعالى ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) أي قصد البيت للحج أو العمرة (فَلَا جُنَاحَ) لا حرج ولا إثم (عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أي يسعى بينهما ، (وَ) إن الله سيجازيه على سعيه فإن (مَن تَطَوَّعَ) أي أتى بالطاعة - ومنها السعي - (فَإِنَّ اللَّهَ) يجازيه، لأنه تعالى (شَاكِرٌ) أي يجازي على الطاعة (عَلِيمٌ) بمن فعله لا تخفى عليه خافية فكيف تخفى عليه طاعة من قصد رضاه؟

--------------------------------

بحوث

الأول : إن ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها هو:

ص: 176

1 - إن الله ذكر في الآيات السابقة لزوم تحمل الصعاب والمشقات النفسية والجسمية والمالية ونحوها مما يصيب الإنسان فينال بصبره صلوات الله ورحمته ويكون مهتدياً ، فناسب ذكر بعض الصعوبات التي تنشأ من التشريعات الإلهية وأن هذه يلزم الصبر عليها أيضاً .

فهناك صعوبات تكوينية، وصعوبات أخرى تشريعية وذكر تعالى السعي كمثال لأنه تشريع يجتمع فيه المشقة الجسمية والنفسية - كما سيأتي توضيحه بعد قليل .

2 - إن الله تعالى ذكر الطواف وصلاة الطواف في آية سابقة (هي الآية (125 فكان ذكر السعي أنسب لتكملة بيان فرائض الحج، ولكي لا يكون تكراراً - كذا قيل ..

3 - إن في هذا المثال - أي السعي - دحض لتوهمات الكفار كما كان في آيات القبلة دحض لحججهم، فناسب السياق .

4 - لما بین الله نعمته على المؤمنين - بالصلوات والرحمة والاهتداء وهي نعم معنوية أراد بيان نعمة من نعمه في المشاعر حيث أنعم الله على المؤمنين بأن جعل الجبلين من شعائره ليتقرب الناس إليه تعالى بالسعي بينهما، ومع أن الكون كله له لكنه خصص بعض الأماكن لتكون شعيرة له - ليعبده الناس فيها ، ولما كان المشركون حولوا هذه الشعيرة إلى كفران لنعمه بالشرك ونصب الأصنام، أراد تعالى بيان أن شعيرته لا تفقد قيمتها بفعل المبطلين، كما لم تفقد الكعبة أهميتها بنصب الأصنام فيها، بل على المؤمنين عبادته فيها لتزول آثار الشرك وكفران النعمة .

وكان من قصة الجبلين - الصفا والمروة (1): .

ص: 177


1- راجع تفسير البرهان ج2، ص 43.

بین

إن قريشاً كانت وضعت أصنامها بین الصفا والمروة، وكانوا يتمسحون بها إذا سعوا ، فلما كان من أمر رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ما كان في غزوة الحديبية، وصدّوه عن البيت وشرطوا له أن يُخلوا له البيت في عام قابل حتى يقضي عمرته ثلاثة أيام، ثم يخرج عنها، فلما كانت عمرة القضاء في سنة سبع من الهجرة، دخل مكة، وقال لقريش ارفعوا أصنامكم من الصفا والمروة حتى أسعى فرفعوها فسعى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بين الصفا والمروة ورفعت الأصنام، وبقي رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لم يطف، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم من الطواف رَدَّت قريش الأصنام بين الصفا والمروة، فجاء الرجل الذي لم يسع إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فقال : قد ردّت قريش الأصنام ولم أسع؟ فأنزل الله تعالى ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمُ ) الآية .

الثاني: قوله تعالى : (مِن شَعَائِرِ اللَّهِ) .

الشعائر جمع شعيرة، وأصلها من الشّعار - وهو الثوب الملتصق بشعر البدن - ثم استعمل في كل شيء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشيء ويدل عليه، ويكون علامة له .

وكون شيء من شعائر الله تعالى يحتاج إلى تشريع من الله سبحانه إما بتشريع خاص أو بتشريع عام، وإذا لم يكن تشريع من الله فنُسِب إليه تعالى كان من الافتراء عليه تعالى (قُلْ ءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أم عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (1) .

والشعائر على أقسام : .

ص: 178


1- سورة يونس، الآية: 59.

1 - ما يتعبد فيه لله، فالصفا والمروة ومشاعر الحج والمساجد ونحوها كلها من شعائر الله تعالى لأنها أماكن يعبد الله فيها بإذنه، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) (1).

2 - ما يتعبد به الله - أي العبادات - فالصلاة والصوم والحج ونحوها كلها شعائر الله لأنها عبادة له تعالى بأمره.

3 - ما تقع العبادة عليه كالبعير الذي يساق للنحر في الحج قال

تعالى ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْناهَا لَكُم مِّن شَعَائِرَ اللَّهِ) (2)

ثم بيان أن الصفا والمروة من شعائر الله، مع أن كل معالم الحج هي من شعائره تعالى لأجل أن المسلمين ما كانوا يعلمون أنها من أعمال الحج، بل كانوا يتصورون أنه شيء يعمله المشركون تعظيماً للأصنام (3)، كما أن المشركين ما كانوا يعلمون أنه من نسك إبراهيم ، فلذا جاء هذا البيان تأكيداً على أن تحريف المشركين لا يضر بأصل الشعيرة الإلهية، بل يلزم تطهير تلك الشعائر من أعمالهم وأصنامهم، وكذا كل عبادة أو نسك أو أمر ،خير أمر الله تعالى به ثم حوّله المبطلون إلى ما يريدونه من باطل يلزم إرجاعه إلى نصابه الذي أمر الله به لا تركه .

،

الثالث : قوله تعالى ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) .

(الجناح) بمعنى الإثم والحرج من مادة (ج ن ح) التي تعني في جذرها اللغوي الميل والعدوان (4) ، وكلمة لا جناح تعطي معنى الجواز -

شَعَائِرَ اللَّهِ9

ص: 179


1- سورة المائدة، الآية: 2 .
2- سورة الحج، الآية: 36.
3- عن الإمام الصادق : إن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون الجوهر الثمين: ج 1 ، ص 166 .
4- مقاييس اللغة 209

بالمعنى الأعم ، وإنما استعملت هذه الكلمة في السعي - مع أنه واجب ويبطل الحج بتركه عمداً - لأجل دفع توهم الحظر، حيث إن المسلمين كانوا يتصورون أنه من عمل المشركين وأنه تعظيم للأصنام - كما مرّ - فرفع الجناح بعد توهم الحرمة يدل على الجواز - بمعناه الأعم مما يشمل الوجوب أيضاً - ولا يدل على خصوص الإباحة بمعنى جواز الترك أو الفعل، نظير قول الطبيب لمن شُفي من مرضه : لا بأس عليك في الصيام، فقوله هذا لرفع المنع لا لإثبات جواز الترك.

فأصل جواز السعي دل عليه القرآن وخصوص الوجوب دلت عليه الضرورة والسنة المتواترة والإجماع .

كما أن الآية دلت على كون السعي من أجزاء الحج، لأن العبادات توقيفية من الشريعة لا يجوز الزيادة ولا النقيصة فيها ، فإذا جاز فعل شيء في العبادة - أي في ذاتها لا فيما كان خارجاً عنها - دل ذلك على كونه جزءاً منها .

وأما حكمة تشريع السعي - إضافة إلى العلة العامة في أصل الحج ومناسكه - أنه مذلة للجبارين، فعن الإمام الصادق أنه قال : «ما من بقعة أحب إلى الله عز وجل من المسعى لأنه يذل فيها كل جبار » (1) .

الرابع : قوله تعالى ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا).

التطوّع هو فعل الطاعة ولا دلالة للكلمة على الاستحباب نعم تعارف عند المتشرعة أن تطلق كلمة (التطوع) على فعل النافلة، ولا تحمل ألفاظ القرآن على الاصطلاحات المتأخرة، قال في المفردات : .

ص: 180


1- وسائل الشيعة ج 13، ص 467.

والتطوع - في الأصل - تكلّف الطاعة وهو في التعارف : التبرع بما لا يلزم كالتنفل (1).

وفي هذا المقطع دلالة على أن السعي خير - لا كما توهموه من أنه من فعل المشركين ، وأنه طاعة الله تعالى وأن إطاعة الله تعالى أفضل لهم من اتباعهم لأوهامهم.

وقد استعملت كلمة (تطوع) هنا، وفي الصوم (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَن كان مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (2) ، وهو من باب (التفعّل)، ومن معانيه التكلّف مثل تش- وتحلّم أي أظهر من نفسه الشجاعة والحلم بكلفة(3)، ولعل استعمال هذه تشجع أما الكلمة بدل أطاع) - مثلاً - فيه دلالة على صعوبة الأمرين عليهم، السعي ففيه المشقة والهرولة ومذلة الجبارين، مضافاً إلى توهم مجاراة المشركين، والمشقة في الصوم واضحة.

الخامس : قوله تعالى ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)

أي يثيب على الطاعة، وليس لأحد فضل على الله تعالى لكي يستحق شكراً منه منه، وإنما هو تفضل آخر منه تعالى حيث تفضل بالنعم وأمر بالشكر، فلمّا شُكر تفضل مرة أخرى بأن جازى بأحسن الجزاء، وفي مجمع البيان: وإنما ذكر لفظ الشاكر تلطفاً بعباده، ومظاهرة في الإحسان والإنعام إليهم، كما قال ومَن ذَا الَّذِى يُقرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَعِفَهُ لَهُم .

ص: 181


1- المفردات ص 530.
2- سورة البقرة، الآية: 184.
3- راجع شرح النظام ص 149 في معاني باب (التفعّل).

أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْضُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (1)، والله سبحانه لا يستقرض عن عوز ولكنه ذكر هذا اللفظ على طريق التلطف أي يعامل عباده معاملة المستقرض - من حيث إن العبد ينفق في حال غناه، فيأخذ أضعاف ذلك في حال فقره وحاجته ، وكذلك لما كان يعامل عباده معاملة الشاكرين - من حيث إنه يوجب الثناء له والثواب - سمى نفسه شاكراً (2).

ثم إنه تعالى أضاف لفظ (عَلِيمٌ) للدلالة على أنه لا تخفى عليه خافية فيجازي جميع من تطوع خيراً، وليس كالناس حيث يخفى عليهم أحياناً إنعام الغير فلا يشكرونه - جهلاً به أو بإنعامه - . .

ص: 182


1- سورة البقرة، الآية: 245
2- مجمع البيان ج 1، ص 612 .

الآيات 159-162

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ «162»)

159 - كما يُواجه المسلمون بالمشركين الذين يحاربونهم عسكرياً ويقتلون منهم ، كذلك يُواجهون بمن يحاربهم فكرياً، وأول طرق الحرب الفكري هو كتمان الحقائق ولذا يُسلّي الله المؤمنين بما ينتظر أولئك الكاتمين من العذاب (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ) أي العلائم الواضحة كالأدلة الدالة على كون الإسلام ورسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم حق (وَ) يكتمون ما أنزلنا من (الْهُدَىٰ) أي ما يهدي إلى الحق كأحكام الشرع، فالبينات في الأصول والهدى في الفروع (مِن بَعْدِ مَا بَيْنَاهُ لِلنَّاسِ) أي أنزلناه بالوحي لينتشر عن طرقه الطبيعية في الناس ومن وسائل وصوله للناس هم هؤلاء العلماء، لكن كتمانهم يسبب عدم وصوله إلى بعض الناس (أُولَئِكَ) الكاتمون (يَلْعَنُهُمُ اللهُ ) يطردهم من رحمته (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم

ص: 183

والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من اللاعنين، وهذا لعن في الدنيا، وسيكون لهم لعن عام في الآخرة إذا لم يتوبوا .

160 - ﴿إِلَّا الَّذِينَ) رجعوا عن غيّهم فإن الله سيرجعهم إلى رحمته ولكن بشروط ثلاثة :

أ - أن يكونوا قد (تَابُوا) أي ندموا على كتمانهم.

ب - (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم بعد التوبة، فالتزموا بالشرع في أعمالهم القادمة .

ج_-(وَبَيَّنُواْ) للناس الحق حتى يزول أثر كتمانهم السابق على التوبة فيصل الحق إلى الناس فالإصلاح لما يأتي والبيان لما سبق.

وحينئذ فيتفضل الله عليهم بقبول توبتهم (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) وذلك بإرجاع الرحمة واللطف عليهم (وَأَنَا التَّوَّابُ) كثير القبول للتوبة فلا أرُدّ تائباً، ولكن ذلك لا بسبب استحقاقهم بل بفضل من الله لأنه هو (الرَّحِيمُ)

161 - أما إذا لم يتب هؤلاء الكاتمون - وكذا سائر الكفار المعاندين فإن لهم أشد العقوبة، ف- (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعناد، ومنهم الكاتمون، ولم يتوبوا ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارُ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعَنَةُ اللَّهِ) بابعادهم عن رحمته إلى نقمته ، (وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وهذه لعنة في الآخرة

162 - (خَالِدِينَ فِيهَا) في اللعنة، ومن كان خالداً في اللعنة فلا

ص: 184

يستحق الرحمة لذا (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أي لا يمهلون للتوبة فإنها تنقطع عند الموت، أو بمعنى لا ينظر الله إليهم بنظرة رحيمة .

-----------------------------

بحوث

الأول قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَأَهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيْنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ اللَّاعِنُونَ).

(الكتمان) هو إخفاء الأمر الذي يحتاج إلى البيان، وإلا فالسكوت عن الأمر الواضح للجميع لا يُسمى كتماناً - إلّا بعناية -، وأسوأ أنواع الكتمان أن يحمّل الإنسان أمراً لكنه يستره عمن حُمّل إليه، ولذا كان تكليف العلماء بالتبليغ أشد من تكليف غيرهم، قال تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ، فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (1).

وهذا الكتمان تجنّ على عامة الناس لأنه سبب حرمان الكثير من الحق، إذ هذا الكتمان هو من أهم أسباب الاختلاف عن الحق، كما قال تعالى ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيَا بَيْنَهُم) (2) وحيث كان الكتمان جناية عامة لذا استوجب الكاتم لعن الناس أجمعين، لأنه من 3

ص: 185


1- سورة آل عمران الآية: 187
2- سورة البقرة، الآية: 213

أسباب ضلال الضالين ومن أسباب وقوع المهتدين في مختلف الصعوبات .

نعم إذا كان الكتمان لا يوجب ضرراً على الدين وكان لحفظ النفس - مثلاً - كان جائزاً ، كما قال تعالى ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) (1) ، فكتمانه إيمانه لم يتسبب في كتمان أمر الله تعالى إذ كان مبيّناً لآل فرعون عن طريق موسى وهارون علیهما السلام ، بل كان لحفظ نفسه مع تحين الفرص للدفاع عن الدين و عن موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ولذا لو كان أصل الدين في خطر لم يكن مجال للتقية أبداً .

الثاني : قوله تعالى (مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ).

الأظهر أن (البينات) هي دلائل التوحيد والنبوة وسائر أُصول الدين و (الهدى) هي أحكام الشرع في فروع الدين ولذا كانت معاجز الأنبياء بينات لأنها تدل على نبوتهم وصدقهم فيما يقولون .

وقيل : البينات علوم الشرع والهدى أدلة العقل، وقيل: البينات العلائم الدالة على محمد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، والهدى الأمر باتباعه، إذ قد يكون نبي ولا يجب اتباعه بل يجب اتباع غيره من الرسل، وقيل: البينات العلائم عليه والهدى أحكامه .

ثم إن أبرز المصاديق رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ، ولذا وردت روايات في تفسيرها في علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ (2)، وهو تفسير بالمصداق - كما مر نظيره مراراً -. .

ص: 186


1- سورة غافر، الآية: 28.
2- راجع تفسير البرهان ج2، ص 45 .

الثالث : قوله (مِنْ بَعْدِ مَا بَيْنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ) .

أي بعد إنزاله بالوحي على الأنبياء وبعد تشريعه، وأما قبل التشريع فلا مشكلة في السكوت عنه ، كمن كان يعلم بأنه ستشرع أحكام مستقبلاً ولكنه ينتظر زمان تشريعها .

كما دلت الآية على أن البيان لعامة الناس إنما يكون عن الطرق المعهودة وهي اصطفاء رسول ليبلغ ما أنزل إليه ثم يبلغ الحاضر الغائب، والعالمُ الجاهلَ، ليصل إلى جميع الناس، فإذا لم يُبلِّغ الحاضرُ وكتم العالم فإنه سوف لا يعلم كثير من الناس بذلك الحق ويبقوا في ضلالهم، وهذه جريمة عظيمة بحق البشرية جمعاء.

و(الكِتابِ) هو نوع الكتب السماوية، فاللام للجنس، ومن مصاديقه التوراة والإنجيل المذكور فيهما أوصاف النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، قال تعالى (الَّذِى يَجدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنِجيلِ) (1) .

ومن مصاديق الكتاب القرآن والكتمان فيه يكون عن طريق صرف معانيه التي أرادها الله تعالى إلى غيرها كالتفسير بالرأي أو كتمان المراد من بعض آياته، ويكثر هذا النوع من الكتمان في الآيات النازلة في أهل البيت ، ولذا ورد عن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ في تفسير (مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَأَهْدَىٰ﴾ الآية: (يعني بذلك نحن والله المستعان وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى في علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ (2)، وكما مرّ فإنه تفسير بالمصداق . .

ص: 187


1- سورة الأعراف الآية: 157.
2- راجع تفسير البرهان ج 2، ص 45 عن تفسير العياشي.

الرابع : قوله تعالى (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

قد مرّ في الآية 88 من سورة البقرة شيء من البحث في اللعن، وقد تكرّر اللّعن هنا ،مرتين مرّة لعنهم في الدنيا وهو ما تشير إليه هذه الآية، ولذا قال (يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) وهم طائفة من الناس، وفي بعض الروايات ) إنهم الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ (1) ، ومرّة أخرى لعنهم في الآخرة وهو ما تشير إليه الآية 161 و 162 وهو لعن عام (لَعَنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأن الكل - حتى أتباعهم - سيلعنونهم في القيامة .

ولعنهم في الدنيا : هو بالتضييق عليهم، وإضلالهم، وعدم هدايتهم، والإملاء لهم ليزدادوا إثماً، ويجمعه سلب التوفيق عنهم، ولعنهم في الآخرة هو أشد العذاب الذي يصلونه وبئس المهاد.

ثم إن اللعن من الله هو الطرد من الرحمة واللعن من الناس والملائكة هو الدعاء عليهم ليطردهم الله من رحمته .

ولا يخفى كفاية لعن الله لهم، ولكن الله تعالى أراد إثابة اللاعنين بلعن هؤلاء الكاتمين كما أراد بيان شناعة جريمة الكاتمين وأيضاً إيجاد حصانة نفسية ضد الملعونين إذا كان اللاعنون من عامة الناس وأيضاً بيان عدم غفرانهم، لأن الله قد يرحم المذنب فيغفر له، ولكنه لا يغفر لمن يلعنه الملائكة والأنبياء والأئمة والمؤمنين، لأن استجابة دعائهم أولى وقد وعد تعالى باستجابة الدعاء، فيكون هذا كالبيان لسبب عدم غفرانهم إذا لم يتوبوا .

الخامس : قوله تعالى ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُوا)..

ص: 188


1- البرهان ،ج 2، ص 46 عن تفسير العياشي.

لعظم الجرم لا بد في غفرانه من مراحل ثلاث تكفلت الآية الكريمة

ببيانها، ويمكن تفسير الآية بنحوين :

النحو الأول : إن المراحل الثلاث هي:

الندم على الفعل، فقال (الَّذِينَ تَابُوا).

2 - إصلاح الضمير ، فقال (وَأَصْلَحُوا) وذلك ليكون الندم لأجل مخالفته أمر الله لا لأجل أمر دنيوي كتزلزل المكانة الاجتماعية أو سوء السمعة أو الخوف من سلطان قاهر ونحو ذلك، فالندم لأجل هذه الأمور لا قيمة له، بل يجب أن يكون ندماً على ما فرّط في جنب الله تعالى .

3 - البيان للناس فقال: ﴿وَبَيَّنُوا) ، لكي يرجع إلى الحق من ضل بسبب هذا الكتمان وكذلك ليهتدي سائر الناس، ولتقوى شوكة المؤمنين وعبرت الآية عن الأمر الأول - وهو الندم - بالتوبة، لأنها بمعنى الرجوع إليه تعالى، ولا رجوع إلَّا بالندم على التفريط، وعن الأمر الثاني بإصلاح ما فسد من عقائدهم ونياتهم وضمائرهم، وعن الأمر الثالث بالبيان فإنهم ببيان توبتهم وإظهارها أو ببيان الحق للعامة يكونون قد أرجعوا من ضلّ وهدوا آخرين إلى الحق.

النحو الثاني: أن تكون المراحل الثلاث :

1 - (الَذَّينَ تَابُوا) أي الندم المقرون بالاعتراف بالتقصير الَّذِينَ والاعتذار منه فلا توبة مع عدم الندم ولا مع عدم الاعتراف ولا مع عدم الاعتذار فمن ندم على جرمه واعترف به لكنه لم يعتذر فلا توبة له، ولذا جعل الاستغفار من مراحل ،التوبة فلا توبة من غير استغفار وهذا هو المتبادر من كلمة التوبة لدى المتشرعة.

ص: 189

2 - ﴿وَأَصْلَحُوا) أي أصلحوا في أعمالهم القادمة، أي بعد التوبة التزموا بجادة الشرع واستمروا عليها .

3 - ﴿وَبَيَّنُوا) يرتبط بأعمالهم الماضية، أي أزالوا أثر تلك الأعمال الفاسدة ببيان الحق وهداية من أضلوهم.

قوله تعالى ﴿وَبَيَّنُوا) أي بينوا الآيات والأدلة الدالة على حقيّة الشرع، وكذا بينوا أحكام الشرع، وفي الحديث : إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللَّه» (1).

السادس : قوله تعالى ﴿فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

التوبة من الله هي إرجاعه ألطافه إليهم بعد قطع رحمته عنهم .

ولا يخفى أن المجرم الذي يعلم الله تعالى بأنه يتوب ويموت على الإيمان فإن الله لا يبغضه أبداً - لعلمه بصلاح مآله - وإنما يبغض عمله حين ارتكابه المعاصي وكذا المؤمن الذي يعلم الله تعالى بارتداده وموته على الكفر فإن الله لا يحبه أبداً - لعلمه بماله ، وإنما يحب الصالح، وفي الحديث عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «إن الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه، فمن خلقه سعيداً لم يبغض عمله، وإن عمل شرّاً أبغض عمله ولم يبغضه وإن كان شقيّاً لم يحبّه أبداً، وإن عمل صالحاً أحب عمله، وأبغضه لما يصير إليه فإذا أحب الله شيئاً لم يبغضه أبداً، وإذا أبغض شيئاً لم يحبه أبداً (2) . والمراد علم الله بشقائه أو سعادته، فراجع شرح أصول الكافي. .

ص: 190


1- أصول الكافي ج 1، 71 .
2- أصول الكافي ج 1 ، ص 173 .

ثم إن قبول التوبة لطف من الله تعالى على عباده، مع عدم المحذور من معاقبته حتى لو ندم ولذا نرى العقلاء لا يتركون عقاب المجرمين بمجرد ندمهم واعترافهم واعتذارهم، بل حتى في أحكام الشرع قد لا تسقط العقوبة بالتوبة سواء العقوبة الدنيوية كالمحارب إذا تاب بعد ، المقدرة عليه، أما قبل المقدرة عليه فتسقط قال تعالى ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) (1) ، أم العقوبة الأخروية كالذي يتوب عند معاينة الموت، قال تعالى ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الئٰنَ) (2).

و (تَوَّابٌ) صيغة مبالغة بمعنى أنه لا يردّ تائباً - أيّاً كان جرمه - ثم إنّ هذه اللعنة العامة من الناس أجمعين إنّما هي في الآخرة، لوضوح أن الأكثر لا يلعن في الدنيا، ولكي لا يكون تكراراً في الآيتين فهي نظير قوله تعالى ﴿وَأَتبعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَة) (3).

في الآخرة الكل يلعن الكافرين حتى أتباعهم ويلعن بعضهم بعضاً، قال تعالى (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أَخْتَهَا ) (4) ، وقال (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بعضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا) (5).

وأما الخلود في النار فقد مرّ الكلام في أسبابه في الآية (81) فراجع.

ثم إن هنا أموراً ثلاثة اللعن عدم تخفيف العذاب عدم الإنظار ،وكل واحدة منها تشير إلى جانب من عقوبة هؤلاء.

ص: 191


1- سورة المائدة، الآية: 34.
2- سورة النساء الآية: 18.
3- سورة هود، الآية: 60.
4- سورة الأعراف الآية: 38.
5- سورة العنكبوت الآية 25.

1 - فاللعن : بمعنى الطرد عن الرحمة وإلى الأبد.

2 - وعدم تخفيف العذاب : بمعنى كونه شديداً على وتيرة واحدة من غير تقليله لا كمّاً ولا كيفاً، كما قال (وَنَادَوْا يَامَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) (1) ، وقال ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفَ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ) (2).

3 - وعدم الإنظار : بمعنى عدم أمهالهم لكي يعتذروا أو ليتوبوا ، كما قال تعالى ﴿وَلَا يُؤذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (3) وقال (بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) (4) ، وعدم إمهالهم إنما هو لكذبهم في اعتذارهم قال تعالى ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) (5).

ويجوز أن يكون (يُنظَرُونَ﴾ من الثلاثي المجرد المبني للمجهول فالمعنى لا ينظرهم الله برحمته وكذلك المؤمنون، قال تعالى ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ اَرْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نوراً) (6).7

ص: 192


1- سورة الزخرف، الآية: 77
2- سورة غافر، الآية: 49
3- سورة المرسلات الآية: 36 .
4- سورة الأنبياء، الآية: 40.
5- سورة الأنعام، الآيتان: 27 - 28 .
6- سورة الحديد، الآية: 57

الآيتان 163-164

«وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

لما كان الكلام حول ابتلاء المؤمنين بالكفار الكاتمين ما أنزله الله، ثم بيان عقوبة هؤلاء في الآخرة، ناسب التأكيد على التوحيد وقدرة الله تعالى وآياته فقال تعالى :

163 - وَإِلَهُكُمْ الذي يستحق العبادة يا أيها الناس (إِلَهٌ وَاحِدٌ) وأما الهوى والشيطان والأصنام ونحوها فليست إلهاً حقيقياً بل آلهة باطلة، والله (لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) وهذا كالدليل على استحقاقه للعبادة، فإنه برحمته خلقكم وأنعم عليكم فلذا عليكم عبادته .

164 - (إِنَّ) الله آيات كثيرة، فعليكم إعمال عقولكم للاعتبار بها، ومنها :

ص: 193

أ - آياته الدالة على قدرته (في خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) والخلق دال على وجود خالق قادر كما أن وجودكم متقوّم بهما .

ب - و آياته الدالة على تدبيره في (اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أَي تعاقبهما، وهذا يكشف عن كونه تعالى مدبراً لأن أمور المخلوقات متوقفة على هذا التعاقب.

ج - (وَ) آياته الدالة على رحمته في (الْفُلْكِ) أي السفن (الَّتِي تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) من التجارات والسفر، وهذا يدل على رحمته تعالى حيث جعل قوانين في الطبيعة تخدمكم .

ه- (وَ) آياته الدالة على حكمته في (مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ) «من» بيانية حيث لم ينزل دفعة فيهلك كل شيء، بل نزل بالتدريج وأفاد بالتدريج (فَأَحْيَا بِهِ) بماء المطر (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) موتها بالقفر وحياتها بالنبات والعمران ﴿وَبَثَّ) أي نشر وفرّق بسبب هذا الماء (مِن كُلِّ دَآبَّةٍ) ما يتحرك على وجه الأرض من الحيوانات والإنسان فإن حياته بالماء.

و - ﴿وَ) آياته الدالة على إحاطة علمه بكل مكان مثل آياته في (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) أي تحريكها بصرفها من مكان إلى آخر (وَ) تصريفها سبب لتصريف (السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ) سخره الله ليمطر حيث شاء تعالى والسحاب (بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) فلا هو منخفض بحيث لا يذهب إلى أماكن أخرى ولا هو يرتفع بحيث يضيع في الجو.

وهذه كلها كما تدل على وجوده فإنها تدل على كل صفاته، فإن فيها (لآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يستعملون عقولهم بالتدبر.

------------------------------

ص: 194

بحوث

الأول : دأب القرآن الكريم هو التأكيد على التوحيد وعلى صفاته تعالى كلّما ذكر ما يناسبهما، ثم الرجوع إلى أصل الموضوع، وذلك لأهمية أمر التوحيد وابتناء كل الدين عليه كذلك هنالك تأكيد كبير على المعاد، فلا تخلو صفحة من القرآن الكريم عن ذكر المعاد إجمالاً أو تفصيلاً، وحيث كان سياق الكلام في الآيات السابقة (159 - 162) حول مصير الكاتمين والكفار كان من المناسب التأكيد على ما يذكر بالله تعالى وبصفاته الآيتان) 163 - 164) ، كما أن فيها التعليل لكثير مما ورد في الآيات السابقة، كالإمامة وبناء البيت والقبلة واللعن والتوبة .. إلخ - كذا قيل ، ثم بعد ذلك يتم الرجوع إلى أصل الموضوع أي ما يرتبط بالمعاد في الآيات التالية (165 - 167) وبها ينتهي فصل مقومات الأمة الإسلامية .

وبعبارة موجزة : لما ذكر الله تعالى الكفر وما يرتبط به، أتبعه بذكر التوحيد وما يذكّر به، ثم ذكر مصير تاركي التوحيد إلى الشرك واتباع المبطلين .

الثاني: قوله تعالى (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ).

الإله - كما مرّ - مشتق من (أَلَهَ) بمعنى (عَبَد) - كما في الروايات - وهناك أقوال أنهاها العلامة المجلسي في مرآة العقول إلى تسعة أقوال(1)، وقد نقلناها في (شرح أصول الكافي)، لكن المعتمد ما في الأحاديث،.

ص: 195


1- مرآة العقول، ج 1، ص 304.

فالمعنى ومعبودكم معبود ،واحد ثم في الآية جهات من التأكيد على وحدانيته تعالى .

1 - قوله إِلَهُكُم) بإضافة الإله إلى ضمير جمع المخاطب - أي إله جميع الناس ، للدلالة على أنه تعالى هو الإله الحقيقي، أما ما اتخذتموه من آلهة فهي باطلة ليست لها ألوهية إلا في زعمكم الباطل.

2 - قوله (إِلَهُ) قيل : وكرر لفظ (الإله) لإفادة أن استحقاق العبادة والمعبودية إنما هو في : الوحدة في الألوهية، فاستحقاق العبادة متقوم بها ، فلو قال إلهكم (واحد لما أفاد هذا المعنى، فتأمل.

3 - قوله (لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ) وهذا لتأكيد الوحدانية، ودفع لتوهم أن في الوجود إلهاً آخر لغيرنا، كما زعمت الثنوية بإلهين - إله للخير وإله للشر - ، فإلههم يفترق عن إله الشرور، أو من يعبد صنماً واحداً يعتبره إلهه، ويعتبر إله الآخرين أصناماً أخرى - مثلاً ، فجاء قوله تعالى (لَا إِلَهَ إِلَّا هُو) لنفي هذه المزاعم وأشباهها .

4 - قوله (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) وذكره لجهات .

منها : لحصر الإله الواحد في الله تعالى، لأنّ الآلهة المزعومة حتى إذا كانت واحداً فإنها إما عاجز لا يصدر منه شيء كالأصنام، أو هو منشأ الشر كالشيطان والهوى وفرعون والعجل ونحوها ، قال (وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ، ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) (1) .

ومنها : أن (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) كالتعليل لحصر العبادة في الله تعالى فهو الذي أنعم على عباده بايجادهم ثم غمرهم بنعمه التي إن عدوها لم .

ص: 196


1- سورة طه، الآية: 97 .

يتمكنوا من إحصائها، وفي الجوهر الثمين هو المولى لجميع النعم أصولها وفروعها - وما سواه إما نِعَم أو منعم عليه، فلا مستحق للعبادة غيره

الثالث : قوله تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) الآية .

الآية الكريمة أمرت بإعمال العقل الذي يشاهد بالبداهة آيات الله العظيمة في الكون بما فيها من الحكمة والتدبير والرحمة والعلم وغيرها، مما يدلّ على وحدانية الخالق، إذ هذه الأمور العظام لا يمكن صدورها الآلهة العاجزة كالأصنام والآلهة البشرية، كما أن تناسق هذه الآيات بعضها مع بعض في ظل نظام موحد وبديع يدل على وحدة الخالق، إذ لو كان متعدداً لكان لكل واحد شأن مما يؤدي إلى اضطراب الأمر والاختلاف، قال تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (1) . وقال (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه إِذا لَذَهَبَ كُل إِلَهِ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (2) ، وسيأتي - بإذن الله تعالى - التفصيل في هذا الدليل .

فهذه الآية تدل على نظم كامل تام و تلاؤم بين السماء والأرض وقوانين ،الطبيعة مع عدم خلل ولا خطأ في أي قانون منها، ولذا قيل : إن الكون معصوم بمجمله - بمعنى عدم الخطأ فيه - فكل قوانينه تعالى تشريعية أو تكوينية حق ثابت لا مرية فيه .

وقد ذكر الله تعالى هنا خمساً من آياته التي يشاهدها كل عاقل ،1

ص: 197


1- سورة الأنبياء، الآية: 22.
2- سورة المؤمنون، الآية: 91

ولكن يأمر الله في الاعتبار بها لكي يستعمل عقله في دلالتها على خالق مستجمع لصفات الكمال .

ولا يخفى أن وجود الله تعالى أمر بديهي أودع الاعتقاد به في فطرة كل إنسان، ولذا لم يذكر القرآن الكريم الأدلة على وجوده سوى الإلفات إلى الفطرة، قال تعالى (أفِي اللَّهِ شَكٌ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) (1) ، والأدلة المذكورة في القرآن - ومنها برهان النظم - إنما هي أدلة على وحدانيته وتوحده في الربوبية - واحد في ذاته وواحد في تدبيره -.

وكذلك هذه الآية الكريمة فيها التذكير بآيات تدل على وحدته وصفاته العليا فهي للدلالة على تلاؤم هذه العلامات مما يدلّ على خالق واحد.

فقوله (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) للدلالة على قدرته التامة حيث أوجد أعظم المخلوقات.

وقوله (وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ) للدلالة على تدبيره تعالى لأمر الكون بأحسن وجه ونظام.

وقوله (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) للدلالة على رحمته فإن الله تعالى أودع في هذا الكون قوانين لم تجعل إلَّا لنفع الناس، ومن أوضح أمثلتها السفن، فإن ميعان البحر وطوفان الخشب عليه - وكذا الحديد إذا صنع بقوانين هندسية خاصة ، كل تلك قوانين طبيعية جعلها الله لخدمة الإنسان، وكلّما اكتشف العلم قانوناً زادنا بصيرة بهذا الأمر، وليس دور الإنسان إلَّا اكتشاف تلك القوانين وتطبيق الحياة عليها لتتسع دائرة الانتفاع بالطبيعة . .

ص: 198


1- سورة إبراهيم، الآية: 10.

ثم قوله ﴿وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ) للدلالة على حكمته تعالى وأن تلك القوانين جعلت بطريقة يكون بها استمرار حياة الإنسان، فالرياح والسحاب والمطر كلها السبب الرئيس لحياة الإنسان والحيوان إذ لولاها لكانت جميع الأرض جرداء قاحلة غير صالحة للحياة - إذ قوام الحياة الحيوانية والنباتية بالماء الصالح للشرب والزراعة وعامة تلك المياه إنما هي مياه الأمطار، وحتى المياه الجوفية فإنها نتيجة تسرب مياه الأمطار إلى أعماق الأرض.

ثم إن الترتيب في هذه الآيات لوحظ فيه مناسبة الآية السابقة بالآية اللاحقة، فذكر أولاً خلق السماء والأرض لأن سائر الآيات متفرعة عليها ، ثم تعاقب الليل والنهار لأنها كانت بعد خلق السماء والأرض مباشرة ولتقوم الحياة بهذا التعاقب، ثم ذكر البحر لأن أكثر الأرض بحر، يقول اعتبروا بالبَرِّ والبحر، وحيث إنه لا يمكن مشاهدة آيات الله في البحر إلَّا بركوب السفن والدخول إلى لججه ، لذا ذكر (الفلك) بالخصوص - مع أنه من صنع الإنسان ، ثم لما كان المطر ماء - كما أن البحر ماء - جاء ذكر المطر بعد البحر مباشرة مراعاة للبلاغة في الكلام، وتأخر ذكر السحاب مع متقدم زماناً على المطر، وجاء ذكر فوائد المطر - وهي حياة الأرض بالنبات والحيوان - للتذكير بعظم نعمة إنزال الماء من السماء، وبعد ذلك تم ذكر الرياح والسحاب التي يكون المطر في كل مكان بسببهما ، فالرياح تسوق السحاب إلى البلد الميت فيحييه الله تعالى بالأمطار .

الرابع: ذكر بعض المفسرين أن قوله (فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) هو استدلال على وجوده تعالى، وقد ذكرنا أن الآية في صدد بيان الآيات الدالة على وحدانيته وصفاته لا لإثبات أصل وجوده ، ولكن لا بأس بذكر

دليل من أدلة وجوده تعالى - وللتفصيل راجع شرح أصول الكافي- :

ص: 199

إنه ما من شك في وجود شيء قديم لا خالق له ولا بدء له بضرورة العقل، فإن القول بوجود العالم بالصدفة هو تسخيف للعقل الحاكم باستحالة وجود شيء كان معدوماً بالصدفة ومن غير علة.

وهذا القديم إما الله تعالى - كما هو الحق وجهرت به الرسل - وهذا هو المطلوب.

وإما المادة حيث يزعم الماديون الجدد أن المادة قديمة لا أول لها وذلك لأن هؤلاء لما علموا بسخافة القول بحدوثها (صدفة)، اضطروا إلى القول بقدمها-

فيقال لهم إن الانتظام في أمر هذا العالم والدقة غير المتناهية في كل شيء يكشف عن مدبر عالم ،قدير لبداهة العقول باستحالة صدور هذه الأمور الدقيقة من المادة العادمة للحياة وللعلم والقدرة هذا مضافاً إلى التغيّر ينا في القدم - فراجع شرح أصول الكافي -

ثم إن هذه الآيات تذكّر بوجوده وصفاته، لا أنها تعرّفه إذ هو الغنيّ عن تعريف ،مخلوقاته بل ذاته تدل على ذاته، وفي الدعاء (يا من دلّ ذاته على ذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته) (1) ، وكما يقال : لا بد أن يكون المعرِّف أجلى من المعرَّف)، وأي شيء أظهر من وجوده تعالى؟ نعم هناك حُجب من أنفسنا كالأعمى الذي لا يبصر نور الشمس لا لنقص في نورها بل لكون العمى حجاباً للأعمى - لا للشمس ، وهذه الحجب يمكن إزالتها عبر التدبر والتفكر في آياته تعالى - كما في الأحاديث الشريفة (2). .

ص: 200


1- بحار الأنوار، ج 95 ، ص 379 .
2- الأمالي، ص 148 .

الآيات 165-167

اشارة

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)»

165 - في الآية السابقة ذكرت آيات لقوم يعقلون ومع ذلك فهناك معاندون لا يستعملون عقولهم (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ) أَي يجعل لنفسه (أَندَادًا) أمثالاً - في العبادة والطاعة - (مِن دُونِ اللَّهِ) فلا يطيع الله بل يطيع هؤلاء (يُحِبُّونَهُمْ) أي يحبون أولئك الأنداد کَحُبَّ اللَّهِ) أي كما يحبون الله ، ولكن كلا الحُبين زائف لأن منطلقه المصالح الشخصية، أو بمعنى يحبونهم بدلاً عن حب الله، (وَ) لكن (وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) حيث إن منطلق حبهم هو المتعالية لا شيء آخر . ﴿وَلَوْ) «لو» للتمني أي ليت (يَرَى) رؤية في هذه الدنيا ، أي يعلم - علم اليقين - (الَّذِينَ ظَلَمُوا) باتخاذ الأنداد وحبهم لهم ، (إِذْ) بمعنى الوقت - و«إذ» مفعول يرى - والمعنى

ص: 201

ليت هؤلاء يرون القيامة التي هي الوقت الذي (يَرَوْنَ الْعَذَابَ) ، فيرون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، فلا قوة للأنداد، وأن القوة . . . » بدل عن «العذاب» ﴿وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ).

166 - ونتيجة رؤيتهم للعذاب (إذْ تَبَرَّأَ) في ذلك اليوم (الَّذِينَ أتَّبِعُوا) وهم الأنداد المتبوعون (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ) وهم التابعون ﴿وَرَأَوْا) جميعهم - تابعاً ومتبوعاً - (العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) فلا سبب ينقذهم من العذاب، كما لا تنفعهم الأسباب الدنيوية من الرئاسة والمال والقرابة وأشباهها .

167 - (وَ) لما يشاهد التابعون كيف أضلّهم رؤساؤهم المتبوعون ثم في وقت الشدة تبرؤوا منهم، حينئذٍ (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ) - للتمني - (أَنَّ لَنَا كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا (فَنَتَبَراً مِنْهُم) في الدنيا ،(كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا) في الآخرة، (كَذٰلِكَ) أي كما يتبرأ بعضهم من بعض ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ وهي الاتباع في الأفعال وسائر أعمالهم حال كونها (حَسَرَاتٍ) الحسرة: شدة الندامة، وذلك لأن الأتباع لم ينتفعوا بأعمالهم ولم يساعدهم المتبوعون (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)

-------------------------------

بحوث

الأول: (الند) هو الذي يُناد في الأمر أي يأتي برأي غير رأي صاحبه - كما في المقاييس (1) . ولذا فسّره بعضهم بالشريك المضاد، إذ .

ص: 202


1- معجم مقاييس اللغة، لابن فارس ص 962 .

لا مضادة إلَّا في اختلاف الرأي، وهذه قرينة على أن المراد بالأنداد في الآية الرؤساء المضلّون، كما يستفاد ذلك من الآية التالية حيث يقول تعالى (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتَّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) الآية .

ومن هنا يظهر أن اتخاذهم أنداداً ليس بمعنى عبادتهم، بل بمعنى طاعتهم، فالمعنى أن بعض الناس يتخذون لأنفسهم رؤساء يختلف رأيهم عن حكم الله فيتبعونهم ويطيعونهم .

وقوله (مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا) في هذه الآية، وقوله في آيات أخرى (لِلَّهِ أَندَادًا)، إنما هو لأجل أن الفعل هو لأجل أن الفعل هو «الاتخاذ والاتخاذ ليس الله بل لأنفسهم فكانت هذه الآية ﴿يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا) أي يتخذ لنفسه، وأما في تلك الآيات فالفعل هو «الجعل» وجعلهم إنما هو الله وليس لأنفسهم قال تعالى ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (1) ، وقال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لَيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ) (2).

الثاني: قوله تعالى (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ).

(الحب) : حالة نفسانية خاصة توجب انشداد المحب إلى المحبوب وهي حالة تغاير سائر الحالات النفسانية، وتفسيره بالإرادة غير صحيح، فإن الإرادة حالة نفسانية أخرى .

وهؤلاء يحبون الله بفطرتهم، ولكنهم يحبون الأنداد المصالحهم وشهواتهم، والنتيجة هو أنهم يعظمون هؤلاء الأنداد كما يعظمون الله

ص: 203


1- سورة البقرة، الآية: 22.
2- سورة إبراهيم، الآية: 30.

تعالى، وحيث إنهم مع مصالحهم فيدورون ما دارت، فلذا في الدنيا - حيث المصالح - يحبونهم فيتبعوننهم، وفي الآخرة - حيث العذاب - يبغضونهم فيتبرؤون منهم، وفي ذلك دلالة على أن منطلق ذلك دلالة على أن منطلق حبهم للأنداد لم يكن الواقع وإنما المصلحة، وهذا الحب يتبدل بتبدل النفع إلى الضرر.

ويمكن أن يكون المعنى يحبونهم كالحب الواجب الله - بإطاعته - فيكون المراد يطيعونهم بدلاً عن إطاعة الله - كذا قيل ..

ومنشأ الحب أحد أمور ثلاثة :

1 - الشهوات - وهي حوائج الجسم ، قال تعالى ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِن النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِن الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَتَابِ﴾ (1) ، فالإنسان يحتاج إلى هذه الأشياء فيحبها، وإذا استفاد منها بالمقدار المشروع فلا بأس به لأنه متاع الحياة حيث تقوم بها، والدين ينظم هذه الشهوات بطريقة سليمة تناسب جسم الإنسان ولا تضر بروحه .

2 - القوة العاقلة - وهي حوائج النفس - كالحب الفطري للمظلوم واليتيم والمضطهد فإن منطلق الحب ليست حاجة الجسم، بل المنطلق هو الخير وإرشاد العقل إليه، قال تعالى (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )(2).

ص: 204


1- سورة آل عمران الآية: 14.
2- سورة الحشر، الآية: 9.

3 - المعرفة والعلم، وذلك مثل حب المؤمنين الله تعالى ومنطلقه معرفتهم بالله تعالى، وكحبهم لأولياء الله تعالى، وذلك لمعرفتهم بارتباطهم به عزّ وجلَّ وأمره بحبهم، قال تعالى (فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمِ یُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(1).

ثم إن المحبة من الله ليست بمعناها في الناس، لأن الحب انفعال نفساني والله تعالى منزّه عن ذلك، بل الحب منه بمعنى ترتيب أثر الحب من التوفيق والهداية والعزة والثواب ونحوها فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات.

ثم إن محبة أولياء الله تعالى متصلة بحبه سبحانه، لأنها بأمره فمن أحب شخصاً امتثالاً لأمر الله بحبّه، فقد أحب الله تعالى فلا يكون حبّاً من دون الله، بل هو حب بإذن الله سبحانه وتعالى، بل لا يمكن حب الله إلا عبر إطاعة أوليائه، قال تعالى (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله) (2).

الثالث : قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).

إنما جيء بهذه الجملة في وسط الآية التي تتكلم عن أحوال الكفار لأجل الدلالة على أن منطلق حب الكفار الله ليس الواقع الذي تقتضيه فطرتهم بل حب مصلحي، عكس المؤمنين الذين يحبونه تعالى لمعرفتهم بعظمته ونعمته فيطيعونه إطاعة ،تامة كما قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى

ص: 205


1- سورة المائدة الآية: 54 .
2- سورة آل عمران الآية: 31.

طلب الثواب، فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله عز وجلّ حبّاً له، فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة (1) ، وقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك (2).

ثم إنّ أشدّية حب الذين آمنوا الله من وجوه :

1 - لأن منطلقه العلم والمعرفة - لكماله ولإنعامه شكراً له ، ومنطلق أولئك في محبة الأنداد هو المصلحة والجهل.

2 - لأن حبهم ثابت - في الدنيا والآخرة - لأنه عن إخلاص، أما محبة الأنداد فهي تدور مدار المصلحة وفي الدنيا فقط.

3 - لأن حبهم في كل الظروف - في الشدة والرخاء ، أما أولئك فالمحبة في ظرف الرخاء وأما في الشدة فيتبرأ بعضهم من بعض .

4 - إنهم يطيعونه في السر والعلن وأولئك يطيعون الأنداد في العلن فقط .

والحاصل - كما قيل : حب المؤمنين لله المعرفة والكمال لذا كان ثابتاً، وحب الأنداد حب مادي لأمر مادي، لذا

كان عرضيّاً زائلاً .

الرابع: قوله (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) الآية .

(لَوْ) هنا للتمني، أي ليت يرى هؤلاء - بعيون قلوبهم - رؤية في

ص: 206


1- أصول الكافي، ج 2، ص 127.
2- بحار الأنوار، ج 67 ، ص 186 .

هذه الدنيا كما في قوله (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ «5» لَتَرَوُنَ الْجَحِيمَ﴾ (1) أي سترون بعيون قلوبكم الجحيم المعدة لمن ألهته دنياه.

ولا يمكن جعل (لو) هنا بمعنى الشرط المطلق وجعل (ترون) بمعنى الرؤية في يوم القيامة، إذ (لو) حرف امتناع لامتناع ورؤية العذاب في الآخرة واقع لا محالة فليس ممتنعاً .

ومفعول (يرى) هو (إذ) لأنها اسم ظرف بمعنى الوقت، أي ولو يرى الظالمون وقت العذاب - وهو القيامة - وقوله (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ) بدل عن (إذ) ، فتكون في مرتبة مفعول ( يرى).

فحاصل المعنى : ليت الظالمين يعلمون - علم اليقين - بالعذاب الأخروي وبأن القوة لله جميعاً لا لأندادهم وبأن الله شديد العذاب .

ولا يخفى أن (لو) التي بمعنى التمني، هي أيضاً حرف شرط يحتاج إلى الجزاء، والجزاء هنا محذوف لدلالة سياق الكلام عليه - وهو الآية التالية -، فالجزاء هو التَبرّؤوا من الأنداد في هذه الدنيا لا أن يقولوا في الآخرة: (ليتنا كنا نتبرأ من الأنداد في الدنيا حتى لا نبتلى بهذا العذاب الشديد).

وقوله (شَدِيدُ الْعَذَابِ) ليس تكراراً لقوله (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) ، بل المعنى أنهم وقت العذاب يشاهدون أن القوة منحصرة في الله وأن عذابه شديد فالأول للزمان - أي زمان العذاب ، والثاني للفعل - أي نزول العذاب الشديد عليهم -.

الخامس : قوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتَّبِعُوا) الآية . .

ص: 207


1- التكاثر، الآيتان: 5 - 6.

هؤلاء كانوا يحبون الأنداد لكن كيف سيجازيهم هؤلاء؟ لا يجاوزون حبهم إلا بالتبرؤ منهم، كما أن الله سيجازيهم بالعذاب، وهذا الترتيب من بلاغة القرآن ودقة ترتيبه فسبحان الذي أنزل الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وقدم التبرؤ على العذاب - في اللفظ - لأنهم كانوا يتوقعون النفع من أندادهم فيكون تبرؤهم منهم أشد وقعاً على قلوبهم، أو لأن التبرؤ يسبق العذاب .

وتخاصم الأتباع من المتبوعين يستمر وهم في القيامة وهم في النار، قال تعالى (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفٰوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ) (1) وقال ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُالضُّعَفٰوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ) (2) ، وقال تعالى ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (3).

وقوله (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) ، أي السبب الذي ينجون به من العذاب غير موجود في الآخرة، فإن الأسباب من الرئاسة والمال والقرابة والقوة كلها تزول في الآخرة، ولا سبب إلَّا طاعة الله تعالى، فتلك الأسباب كانت في الدنيا لكنها انقطعت في الآخرة.

وقوله (وَتَقَطَّعَتْ) - باب التفعل - للدلالة على المبالغة في القطع فلا أمل في بقاء شيء منها، أو المعنى أسباب المودة بين التابع والمتبوع - وهي المصلحة - تنقطع، فتتحول إلى عداوة.

السادس : قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ) الآية . .

ص: 208


1- سورة إبراهيم، الآية: 21
2- سورة غافر، الآية: 47 .
3- سورة ص، الآية: 64.

يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليتبرؤوا من أندادهم، إذ لا فائدة للتبرؤ في الآخرة بل هو مزيد عذاب عليهم فيتألمون نفسيّاً من ذلك كما يتألمون جسديّاً بأنواع العذاب، وإنما المفيد هو التبرؤ في الدنيا واتباع الحق .

ثم إن الغرض من هذا الإخبار المستقبلي هذا الإخبار المستقبلي، هو تحذير الناس من اتباع الأنداد، وتنبيهم بأن اتباعهم إن كان لأجل المنفعة، فإنهم لا يغنون من عذاب الله، بل حتى إنهم غير مستعدين لتحمل المسؤولية في الإضلال ولا يعتذرون ممن أضلوهم، فلا منفعة في متابعتهم أصلاً فليحذروا الآن كي لا يندموا حين لا ينفع الندم.

السابع : قوله تعالى ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) .

لعل الآية تدل على تجسم الأعمال، فأعمالهم تحضر فيشاهدونها وهم يتحسرون لماذا أضاعوا الفرصة، فإن هذا العمل كان يمكن أن يكون في طاعة الله ليكون رضواناً وجناناً.

أو هذه الإراءة لمزيد عذابهم، حيث يضاف إلى عذابهم الجسمي عذاب نفسي ،بحسرات ولعل الجمع للدلالة على أن كل عمل يستتبع ،حسرة، فكلما رأى عملاً تحسّر، ثم العذاب الجسدي الخالد ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

فصارت مراحل العذاب ثلاثاً - عذابان نفسيان، وآخر بدني - 1 - تمني التبرؤ، 2 - الحسرات، 3 - الخلود في النار .

الثامن في جملة من الأحاديث الشريفة، بيان لمصاديق مما ذكر في الآية (1) : .

ص: 209


1- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص 49 - 52 .

منها : الأنداد، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ في قوله تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِ اللَّهِ) ، قال : هم أولياء فلان وفلان اتخذوهم أئمة دون الإمام الذي جعله الله للناس إماماً .

ومنها: في قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ، عن الإمام الصادق والإمام الباقر عَلَيْهِم السَّلاَمُ قالا : هم آل محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم.

ومنها في قوله تعالى (كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ) عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلاً، ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله، أو في معصية الله فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره، فزاده حسرة وقد كان المال ،له وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله .

ومنها : في قوله (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ :

أعداء علي هم المخلّدون في النار أبد الآبدين ودهر الداهرين.

ص: 210

المقوم الرابع من مقومات الأمة الإسلامية الأحكام - الحلال الحرام -

بعد أن ذكرت ثلاثة من مقومات الأمة - القبلة، القيادة، تحمل المشاق ، يأتي الدور لذكر المقوم الرابع وهو الأحكام - من حلال وحرام ، فإنه لا تقوم قائمة أمة إلا بوجود قوانين تنظم حياتها وتشكل هويتها وثقافتها، وتتطرق الآيات (168) - (177) إلى أهم تلك الأحكام - واجبة أم محرمة ، وابتدأ الكلام بما يتعلق بالأكل، لأنّه أول حاجة للإنسان يريد تلبيتها وهي حاجة مستمرة منذ البداية إلى الوفاة وفي جميع الظروف، فيبين الحلال عن الحرام في المأكولات، مع بيان مصارف إنفاق المال والتذكير بجملة من الواجبات كالصلاة والزكاة والعهد والصبر ونحو ذلك . كما يبين جملة المحرمات كالسوء والفحشاء والافتراء وكتمان الحق، وترجيح المصالح المادية، كما تبين الآيات أن سبب الانحراف في الحياة إما اتباع الشيطان أو تقليد الآباء - من غير إعمال للعقل ولا هداية من الله - وأن اتباع الشيطان إما في العمل أو في العقيدة، كما تذكر ضمن هذه الآيات بعض مسائل التوحيد والمعاد - كدأب القرآن في التذكير بهما مستمراً -.

ص: 211

18

الآيتان 168-171

اشارة

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)».

168 - إن الذي أوجب اتخاذ الأنداد هو انحراف الحياة، فلذا يلزم بيان الحياة الصحيحة والمخاطر التي تحيق بها، فخاطب الله تعالى الناس جميعاً - حيث إن رحمته عامة - بقوله : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) «من» للتبعيض لأن القابل للأكل بعض ما في الأرض (حَلَالًا) لا منع فيه (طَيّبًا) لا خبث فيه، وخلاف ذلك إما من الشيطان أو من التقليد الأعمى : ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) التي يسلكها أو المؤدية إليه (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) يظهر العداوة جهراً .

169 - وإنما ننهاكم عن اتباع خطواته لأنه ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم) أي يدعوكم إلى أمرين، ففي جانب العمل : (بِالسُّوءِ) العمل السيئ الذي يدرك العقل سوءه ،كالظلم، (وَالْفَحْشَآءِ) العمل المتجاوز لحد

ص: 212

الشرع كشرب الخمر، (وَ) في جانب العقيدة والكلام يأمركم (أَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).

170 - وأما التقليد الأعمى الذي يصد عن الأكل الحلال الطيب فقال تعالى عنه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) للكفار الذين يأكلون الحرام أو يحرمون الحلال : (اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ) من الأحكام (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا) أي وجدنا - في العقيدة والعمل - (عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري، أي يتبعون آباءهم حتى لو (كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يعْقِلُونَ شَيْئًا) لا يستعملون عقولهم فخالفوا أوامر العقل (وَلَاَ يَهْتَدُونَ) لأحكام الشرع عبر اتباع الأنبياء.

171 - ﴿وَ) لكن هؤلاء الكفار - التابعين لخطوات الشيطان والمقلدين لآبائهم الذين كانوا لا يعقلون ولا يهتدون - لا ينفعهم الإرشاد، ف- (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) المعاندين منهم، مثلهم مع من يريد هدايتهم (كَمَثَلِ) البهائم مع رعاتها، حيث إن الراعي (الَّذِى يَنْعِقُ) يصبح (بِمَآ) أي بالحيوان الذي (لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءَ) من قريب (وَنِدَاءً) من بعيد، فكما لا يفهم الحيوان معنى كلام الراعي كذلك هؤلاء لا يفهمون الوعظ والإرشاد، فهم ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمىٌ) الجمع أصم وأبكم وأعمى، أي منافذ بصيرتهم مغلقة ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).

-----------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ) .

إنما عمَّم الخطاب في هذه الآية لبيان عموم رحمته تعالى للجميع،

ص: 213

كما أن فيه دعوة للإيمان، وهي دعوة عامة، ثم في الآية 172 يخصص الخطاب للمؤمنين بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) الآية، لأنهم المنتفعون من هذا الخطاب، حيث إن الآية التي سبقتها بينت أن الكفار صم بكم عمي، ولأنه مقدمة لبيان المحرمات من الميتة والدم .... التي لا يلتزم بتركها إلا المؤمنون .

الثاني : قوله تعالى (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيْبًا)

إن أول محرّك للإنسان لكي يكد ويعمل ويبحث هو حاجته إلى سدّ الجوع، بل حياة الإنسان متوقفة على الطعام - منذ الولادة وحتى الوفاة ، ولذا حين إرادة التكلم عن تنظيم حياة الناس العملية لا بد من الابتداء بهذا الأمر وبموارده، وحيث إن نظم الآيات اقتضى الانتقال إلى التكلم في الحلال والحرام ابتدأ بأحكام الطعام.

قوله (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) أي بعض ما فيها، حيث إن بعض ما في الأرض غير صالح للأكل بل جُعِل لغرض آخر ، ومما في الأرض يشمل : النبات والحيوان وبعض المعادن - كالملح ، بل يشمل الماء أيضاً فيكون إدخاله في المأكولات من باب التغليب.

و(الحلال) هو المباح الذي لا منع فيه، وقوله حَلَلا حال من (ما) في مِمَّا فِي الْأَرْضِ ) أي كلوا مما في الأرض حال كونه حلالاً ، لا منع فيه، وهذا يدل على أصالة الإباحة الشرعية، فقد أحل الشارع الأكل مما في الأرض من غير تقييد إلا بما حرمه - وهو أقل القليل - ونظيره قوله تعالى (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأنعام إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) (1) . .

ص: 214


1- سورة المائدة، الآية: 1.

و (الطيب) هو الذي لا خبث فيه وأصل الكلمة ) ي ب تدل على الملاءمة للطبع ، بمعنى الخالص من الشوائب التي تنغص الطعام، وكل ما كان ملائماً للطبع فهو مستلذ عكس الخبيث، وحيث إن الناس لا يدركون إلا ظاهر الأشياء ولا يعرفون حقائقها فقد يختلط الأمر عليهم فيستطيبون الخبيث كالخمرة، أو العكس فقد يستخبثون الطيب، نظير الطعام المسموم فإن الجائع الذي لا يعلم بأنه مسموم يستلذ من أكله، ومن يعلم فإنه يستخبثه ولا يستلذ منه أصلاً مهما تضوّر من الجوع، بل ينفر طبعه منه بحيث لو أطمعه كرهاً لرفضته نفسه وتقيأ لإخراجه.

وحيث إن الله تعالى هو العالم بحقائق الأشياء فقد أحلّ الطيبات الواقعية - حتى وإن استخبثها الناس ، وحرّم الخبائث الواقعية وإن استطابها الناس، قال تعالى ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ) (1).

فليس الملاك في الطيب والخبيث ذوق عامة الناس، ولذا فإن عامتهم - إلَّا من عصم الله - يأكلون الخنزير ويشربون الخمر مستلذين بهما مع أنهما أم الخبائث، ويستقذرون بول الإبل - مثلاً - وهو من المحللات.

ثم إن منشأ الخبث الواقعي هو تسبيب ذلك الأكل الانحراف في العقل أو الخُلُق أو الصحة، فالخمر تزيل العقل - الذي هو سبب تفضيل الإنسان على الحيوان ، ولحم الخنزير يزيل الغيرة على العِرض - والغيرة من أهم صفات الإنسان ، مضافاً إلى أضرارهما على الجسم والروح . .

ص: 215


1- سورة الأعراف الآية: 157.

ثم إن الجمع بين الوصفين (حَلَالًا طَيِّباً) للدلالة على أن كل حلال يكون طيباً، وكل طيب فهو حلال .

الثالث: قوله تعالى ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان).

هذا هو السبب الأول للضلال والابتعاد عن أحكام الله تعالى و (خطوات جمع خطوة - وهي الفاصلة بين القدمين حين المشي ، واستعملت (خطوات) في القرآن للشيطان فقط، لكثرتها وكثرة طرقها، عكس الصراط المستقيم الذي هو واحد .

قيل : لعل ذلك لعدم الثبوت في مسالك الشيطان كالخطوات التي تزول خطوة وتأتي خطوة أخرى عكس أحكام الله تعالى التي هي الحق الثابت الذي لا تغيير فيه ولا تبديل .

واتباع خطوات الشيطان إما باتباعه في أفعاله كالاستكبار على الله تعالى، أو بسلوك الطريق الموصلة إليه كالزنا ويجمعهما الابتعاد عن الصراط المستقيم الذي هو واحد واتباع طرق الشيطان - التي هي لا تعدّ ولا تُحصى - قال تعالى ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) (1).

وقوله تعالى ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) ، عداوة الشيطان للإنسان واضحة، حيث إنه أخرج آدم وحواء من الجنة بوسوسته، ثم أقسم أن يحتنك ذريتهما هذا من جهة إخبار الشرع، كما أن الإنسان يشاهد بوجدانه أنه إن اتبع الوساوس التي تعرض قلبه فإنه سيتضرر كثيراً، وسبب .

ص: 216


1- سورة الأنعام، الآية: 153.

هذه الوساوس - أيّاً كان - عدوّ له إذ الصديق لا يُغري صديقه إلى ما يضره .

الرابع: قوله تعالى ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) .

بيان لجهة عداوته وكالعلة للنهي عن اتباع خطواته، فإن خطوات الشيطان يجمعها أمران :

1 - المخالفة العملية وهي السوء والفحشاء.

و(السوء) هو العمل القبيح الذي يوجب الهمّ والغَمّ كما يقال : ساءه أمر: أي أغمّه.

و(الفحشاء) من الفحش، وهو تجاوز الحد، وإرداف الفحشاء بالسوء لأجل أن السوء فيما يدل العقل على قبحه والفحشاء فيما يدل الشرع على قبحه، أو هو ذكر الخاص بعد العام لأن كل فحشاء سوء، وليس كل سوء فحشاء.

وإنما يدعو الشيطان للسوء والفحشاء لأنه لا يريد خير الإنسان ويريد أن يغوي بني آدم كما غوى هو وأمره بهما بمعنى دعوته إليهما وتزيين المعصية إلى بني آدم فإن الدعوة المجردة إلى القبيح لا أثر لها لأن كل إنسان بفطرته يبتعد عنه، ولكن إذا زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً فإنه حينئذ يمكن أن يرتكب ذلك العمل.

ومن مهام المبلغين هو بيان قبح المعاصي، وهذا دأب القرآن الكريم حيث يرجع الإنسان إلى عقله وفطرته ليزول أثر تزيين الشيطان، كما یتم بيان ما يجهله الإنسان من القبائح ليرتدع عنها بعد علمه بقبحها .

ص: 217

2 - المخالفة الاعتقادية وهي نسبة الباطل إلى الله تعالى ليجد الإنسان مبرراً لما يعتقد من أباطيل ويعمل من سيئات، ولذا كان الأمر الثاني للشيطان (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ ، وهذا المقطع عام يشمل التقوّل على الله في التشريعات، وكذا في الاعتقادات كاتخاذ الأنداد قال تعالى ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابآءَنَا وَالله أَمَرَنَا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (1).

وفي التقريب (2) : (مَا لَا تَعْلَمُونَ) من العقائد والأحكام وعدم العلم هنا أعمّ من العلم بالعدم، كما قال سبحانه أَمْ تُنَبِئُونَهُ بِمَا لا یَعْلَمُ) (3) .

والمعنى أن الإنسان قد يعلم ببطلان النسبة ولكنه مع ذلك يتقوّل، فعلمه لم ينفعه فهو كالجاهل الذي لا يعلم فلذا كان (مَا لَا تَعْلَمُونَ) يشمل الجاهل والعالم المتقوّل .

ودلت الآية على تحريم التشريع - ومنه البدعة : وهو إدخال شيء مما لم يشرعه الله تعالى في الدين وقد ذكرت في الروايات نماذج من التشريع المحرّم (4) كالنذر في المعصية مثل قتل الأبناء أو قطيعة الرحم، أو كالتعليق في العقود الإيقاعات مثل الحلف بالطلاق والعتاق ونحو ذلك، فهذه وأمثالها مصاديق من خطوات الشيطان، وقد مرّ بعض الكلام حول البدعة . .

ص: 218


1- سورة الأعراف الآية: 28
2- تقريب القرآن ج 1، ص 207.
3- سورة الرعد، الآية: 34.
4- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص 53.

ثم إن التقوّل على الله هو بنسبة شيء إلى الله باطلاً، أما مجرد الامتناع عن بعض المحللات - من غير نسبة الامتناع إلى الله - فليس من التقول عليه تعالى كمن لا يأكل بعض الأطعمة المحلّلة أو يترك أمراً محللاً لسبب خاص به نظیر قوله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ» (1) ، وكقوله (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلَّاً لِبَنِي إِسْرَآءِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ (2).

الخامس : قوله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ) الآية .

هذا هو السبب الثاني للضلال والابتعاد عن أحكام الله تعالى وهو التقليد الأعمى، وقد مرّ الكلام حول التقليد وأنواعه في تفسير الآية 78 فراجع .

قيل : إنه عدل عن خطابهم إلى بيان ضلالتهم، كأنه التفت إلى العقلاء، وقال انظروا إلى هؤلاء ماذا يقولون، تحذيراً للعقلاء عن اتباع طريقتهم ، لأنهم جعلوا آباءهم أمام الله تعالى وعدلاً له، بل رجحوهم عليه سبحانه وتعالى فكان ذمهم إنما هو من جهة اتباع الآباء على كل حال حتى لو كانوا على باطل، ولذا قال : أَوَلَوْ أي حتى لو كان الآباء في ضلال.

ثم إن الغرض لما كان الهداية فإن الله لم يقل بشكل مباشر إن أولئك الآباء لم يكونوا يعقلون ولا يهتدون بل بينه بشكل غير مباشر لإبطال تقليدهم لا لمذمة الآباء الأموات، إذ لا فائدة من مذمتهم المباشرة سوى 3.

ص: 219


1- سورة التحريم، الآية 1.
2- سورة آل عمران الآية: 93.

إبعاد الأبناء عن الاهتداء، والطريقة غير المباشرة هو بيان أن فعل الآباء ليس مقياساً للحق لأنهم قد يفعلون ما يخالف العقل والهداية، بل لا بد من جعل المقياس اتباع ما أنزل الله الذي هو الهداية المطلقة .

وبعبارة أخرى - كما في مجمع البيان - : إذا ظهر أنهم لم يعلموا شيئاً مما لزمهم معرفته، فهل كنتم تتبعونهم أم لا ؟ ومن الواضح عدم لزوم اتباعهم فتبيّن أن الواجب اتباع الدليل دون هؤلاء (1).

والحاصل أنه لا يصح اتباع أحد إلا مع العلم بعقله وباتباعه الشرع، ولذا لزم اتباع رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إذ يأمر باتباعه العقل والشرع، كما قال تعالى ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحببكُمُ اللهُ) (2) ، وكذا لزوم اتباع من يهدي إلى الحق كما قال تعالى (أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَن لَا يَهدَى إِلا أَن یُهْدَى) (3) .

السادس: قوله تعالى ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلا دُعَآهً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمّىٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) .

(والمَثَل) هو تشبيه شيء - يراد بيانه - بأمر مأنوس للمخاطبين، وذلك لتقريب ذلك الشيء إلى الذهن .

والكل يعرف أن (البهائم إذا زجرها صاحبها فإنها تسمع الصوت ولا تدري ما يريد، وكذلك الكفار إذا قرأت عليهم القرآن وعرضت عليهم الإيمان لا يعلمون مثل البهائم) - كما قاله القمي في تفسيره (4) ، فهؤلاء .

ص: 220


1- مجمع البيان، ج 1، ص 648 - بتصرف ..
2- سورة آل عمران الآية: 31
3- سورة يونس الآية: 35.
4- راجع البرهان ج2، ص 55 .

الكفار قد أغلقت منافذ العقل عندهم، لأن طريق التعقل هو السمع والبصر والسؤال، وحيث هؤلاء لا يستفيدون من سمعهم ولا بصرهم ولا لسانهم فقد أغلقوا أبواب الفهم على أنفسهم فهم لا يعقلون) . وهذا المثل يتضمن (المُمَثَل) : وهو الرسول مع الكفار ، والمُمَثَل به) : وهو الراعي مع البهائم، فتم تشبيه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالراعي، والكفار بالبهائم، وحيث إن الغرض هو بيان حال هؤلاء وأنهم كالبهائم وأنهم صم بكم عمي وأنهم لا يعقلون - لا حال الرسول - لذا ذكر في (المُمَثَّل ) الكفار فقط دون ذكر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فقال ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي مثلهم مع رسولهم أو مع دعوته .

ويمكن تفسير الآية بشكل آخر - كما ذكرناه في شرح أصول الكافي - وهو تشبيه الكفار في دعائهم الأصنام بالراعي الذي يصيح على دوابه فهي لا تفهم شيئاً من كلامه سوى أنها أنها تسمع نعيقاً، والكفار الذين يدعون

الأصنام أسوأ منه لأنهم يدعون ما لا يسمعهم حتى بمقدار النعيق فتأمّل.

ص: 221

الآیتان 172-173

اشارة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)»

بعد بيان عموم حلية أكل الطيبات خصّ الله تعالى المؤمنين بخطاب ،الحليّة، انصرافاً ممن لا يصغي إلى النصح إلى من يمتثل، حيث إن المؤمنين هم المنتفعون بهذا الخطاب وجعله كالمقدمة لبيان المحرمات فقال تعالى :

172 - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ لأنّكم الغرض من خلقها، وأمّا الكفار فيستفيدون منها عَرَضاً، (وَأَشْكُرُوا لِلَّهِ) نعمةَ الرزق ونعمة التحليل (إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) لأن المقتضي للعبادة هو سبب للشكر أيضاً .

173 - وإذا حرم الله عليكم شيئاً فإنّما حرّمه لأنه خبيث ، (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) تحريماً بالأكل (الْمَيْتَةَ وهي ما لم تُذكَّ بالطريقة الشرعية سواء ماتت حتف أنفها أو بطريقة أُخرى ، (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ) - الإهلال رفع الصوت أول الذبح - (بِهِ لِغَيْرِ

ص: 222

الله) والمراد ذكر الأصنام عند الذبح ، (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى أكل هذه المحرمات، ولم يكن اضطراره بسوء ،فعله بل كان (غَيْرَ بَاغٍ) من البغي وهو الظلم المتجاوز للحد كالخارج على الإمام العدل أو طالب صيد اللهو، أو المسافر لأجل ظلم الغير (وَلَا عَادٍ) من التعدي، كقاطع الطريق والسارق والغاصب، فهؤلاء اضطرارهم بسوء اختيارهم فلا يحلّ لهم أكل هذه المحرمات إذا اضطروا إليها ، أما إذا لم يكن باغياً ولا عادياً (فَلَا إثمَ) لا حرج (عَلَيْهِ)، وكان یمكن بقاء الحرمة حتى في صورة الاضطرار، لكن الله أجاز، حيث (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

-----------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾.

كما مرّ ليس هذا تكراراً للآية ،168 ، فإن ذاك كان خطاباً عاماً للجميع لبيان عموم رحمته تعالى وللتحذير عن اتباع خطوات الشيطان وأما هذه الآية فالغرض :

1 - بيان أن المنتفع من الخطاب إنّما هم المؤمنون فقط، فتَم تشريفهم بتخصيص خطاب ثانٍ .

2 - وأيضاً هذه الآية كالمقدمة لبيان المحرمات، فتم ذكر من الله

ص: 223

على المؤمنين إذ أحلّ لهم الطيبات، فتكون المحرمات من الخبائث - التي لا بد من اجتنابها ، ففي تعريفها للمؤمنين منة أخرى عليهم.

3 - وأيضاً لأمرهم بالشكر ، وتذكيرهم أن العبادة لا تتمّ إلَّا به.

ثم إن الكفار مكلفون بفروع الشرع كتكليفهم بالأصول، فكما أمرهم الله بالتوحيد كذلك يأمرهم بالصلاة والصوم والزكاة وسائر فروع الدين وعدم صحة هذه الأعمال منهم في حال الكفر لا ينافي وجوبها عليهم،لأنهم قادرون على الإتيان بها صحيحة بدخولهم في الإسلام، وإذا كان السبب مقدوراً فالمسبب مقدور أيضاً، وكما يقال : الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، وقد ذكرنا شطراً من الكلام حول هذا الموضوع في شرح أصول الكافي فراجع.

الثاني : قوله تعالى ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)

بيان أن سبب الشكر هو سبب للعبادة، فكما أنكم تعبدونه لأنه المنعم عليكم بإيجادكم، كذلك يلزمكم شكره لأنه أنعم عليكم بنعم أخرى استوجبت استمرار حياتكم ، ومن أهمها أنه رزقكم الطيبات التي بها قوام وجودكم.

ويستفاد من الشرط : أن من لم يشكر الله تعالى على نعمه فإنه لا يعبده في الحقيقة، لأن قوام العبادة بالشكر، فإنها أرفع درجات شكر المنعم - عقلاً ، أو أن الشكر أهم مقدمة للعبادة فلا تتم عبادة إلا عبر الشكر، وقد مرّ أن العبادة هي أقصى درجات الخضوع وبقصد التأليه ومن المعلوم أن عرفان الجميل بالقلب وإجراءه على اللسان والعمل طبقاً

ص: 224

لإرادة الإله - وهي الشكر في القلب واللسان والجوارح - كل ذلك ملازم للعبادة .

الثالث : قوله تعالى ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) الآية .

المراد تحريم الأكل لا سائر الانتفاعات فإن التحريم للأفعال، فإذا تعلق بالأعيان الخارجية فيكون المراد تحريم الفعل المقصود من تلك الذات، مثلاً قوله تعالى ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ) (1) أراد تحريم نكاحهن ، وقال (وَأَحَلَ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبوا) (2) أي حرّم إجراء معاملة الربا، وقال (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (3) أي من حرم التزين بها أو لبسها .

وحيث إن الانتفاع المقصود من الميتة والدم ... هو الأكل، فالتحريم يتعلق به لا بسائر الانتفاعات، وتحريمها يحتاج إلى دليل آخر كعدم جواز لبس جلد الميتة في الصلاة ونحو ذلك .

و(الْمَيِّتَةَ) في اللغة كل حيوان خرجت روحه، وفي اصطلاح المتشرعة هو كل حيوان مات بغير تذكية شرعيّة، فلو لم تستوف الذبيحة شروط التحليل - كإسلام الذابح والقبلة والتسمية . . . إلخ - كانت من الميتة، وذكاة كل شيء بحسبه مما بَيْنَهُ الشرع، فذكاة الإبل النحر، وذكاة السمك أخذه من الماء حيّاً، وذكاة الشاة فري الأوداج الأربعة وهكذا .

(وَالدَّمَ) يراد به الدم المسفوح قال تعالى ﴿إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ.

ص: 225


1- سورة النساء، الآية: 23.
2- سورة البقرة الآية: 275
3- سورة الأعراف الآية: 32.

دَمًا مَّسْفُوحًا) (1) ، وذلك لدلالة السنة الشريفة على أن الدم المتبقي في الذبيحة ليس بحرام، وكذلك لا يخلو لحم عن اختلاط شيء من الدم فيه، فتحليل اللحم يستلزم تحليل ما يتخلله من الدم أيضاً .

وقوله (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) : الإهلال هو أول الشيء، وأصله من ظهور القمر في أول الشهر، ويقال أهل بالحج حيث يرفع صوته في أول أعمال الحج وهو الإحرام واستهل الصبي أي صرخ عند الولادة، وكان المشركون يرفعون صوتهم بأسماء آلهتهم عند الذبح فصار ابتداء أمر الذبح أسماء الأصنام، وهذا مما حرّمه الله تعالى، فحرّم أكل لحم هذه الذبيحة .

وخصص (لحم الخنزير) بالذكر مع أن المحرّم هو كل أجزائه، لأن المقصود بالأكل عادة هو اللحم .

وقوله ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ) يفيد الحصر، وهذا الحصر:

1 - إما حقيقي بمعنى أن المحرمات حين نزول الآية كانت منحصرة هذه المذكورات وهذا لا ينافي تحريم أشياء أخرى بعد ذلك.

2 - أو هو حصر إضافي بالنسبة إلى ما حرموه على أنفسهم، قال تعالى «ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)»

«وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي .

ص: 226


1- سورة الأنعام، الآية: 145.

الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)»«قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)» (1) .

وكانوا يتبعون آباءهم حتى في التحليل والتحريم للحيوانات فجاء قوله (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) مقابل قولهم، فيكون حصراً إضافياً .

3 - أو ﴿إِنَّمَا) ليست لحصر الحرام في هذه المذكورات - بمعنى أن الحرام فقط هذه المذكورات ، بل لحصرها في الحرام أي إنما الميتة حرام فقط وليس لها حكم آخر وكذا الدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله لا حكم لها سوى الحرمة، فيكون من باب القلب - أي تبديل مكان (المحصور) و(المحصور فيه).

الرابع : قوله (فَمَنِ اضْطُرَّ).

(الاضطرار) هو الحاجة الماسة بحيث لو ترك لأصابه ضرر، والمضطر مختار في فعله يمكنه الفعل أو الترك لكن الله سبحانه - رأفة ورحمة - رفع بعض الأحكام في حالات الاضطرار.

فتبيّن الفرق بين (الاضطرار) و(الإكراه ) و (الإلجاء)، إذ الإكراه هو أن يتوعد الغير بإلحاق ضرر إن لم يفعل والإلجاء هو سلب الاختيار، فلو بقي في صحراء لم يجد طعاماً إلَّا الميتة بحيث يموت لو لم يأكل منها ، فإنه مضطر إليه مع تمكنه من عدم الأكل حتى الموت، أما لو هدده 5

ص: 227


1- سورة الأنعام، الآيات: 143 - 145

ظالم بأنه إن لم يأكل منها فإنه سيقتله، فهذا مُكرَه - مع تمكنه من الامتناع حتى القتل ، ولكن لو شُدّت يداه ورجلاه وفتح فمه قسراً وزج بالميتة في فمه فهذا إلجاء حيث لم يقدر على الامتناع أصلاً .

وأكل هذه المحرمات كما يجوز للمضطر كذلك يجوز للمكرَه والمُلجَأ، ولكن بما أن الإكراه والإلجاء مصاديق نادرة جداً، عكس الاضطرار حيث تكثر مصاديقه، لذا خُصص في الآية بالذكر، ويمكن تعميم معنى الاضطرار للمكره والمُلجأ أيضاً .

وللاضطرار صور متعددة وإن كان أجلى المصاديق الجائع في المخمصة.

الخامس : قوله (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ).

هذا قيد للاضطرار، أي اضطراراً من غير بغي ولا عدوان، فالتحليل إنما هو إذا لم يكن اضطراره بسبب فعل الحرام، أما لو فعل حراماً أوجب اضطراره فإن حرمة الأكل باقية ويستحق العقاب على أكله، إذ رفع الحرمة عن المضطر إنما هي مِنّة من الله على العباد والباغي أو العادي لا يستحق هذه الرحمة بسوء اختياره ببغيه وعدوانه فيبقى حكم الحرمة والعقاب عليه .

سؤال : المضطر غير مختار فكيف يحرم الأكل عليه ويعاقب عليه . الجواب : أولاً : إن الاضطرار لا يرفع الاختيار بل هو يتمكن من الامتناع حتى الموت.

وثانياً : لو فرض أنه غير مختار في حال الاختيار، لكن اضطراره کان بسوء اختياره وما بالاختيار لا ينافي الاختيار، كمن يلقي بنفسه من

ص: 228

شاهق، فإنه في حال السقوط لا يتمكن من منع ارتطام جسمه بالأرض فهو سيرتطم بها قهراً ومن غير اختيار ، لكن مقدمة العمل وهو الإلقاء من الشاهق كان بسوء ،اختياره وحيث إن المقدمة كانت اختيارية فارتطامه بالأرض أيضاً اختياري

و(الباغي) من البغي وهو الظلم المتجاوز عن الحد، و(العادي) من العدوان وهو ظلم الغير في حقه، أي التعدي على الغير.

وفي الروايات بيان لبعض أبرز مصاديق الباغي والعادي :(1).

فمن البغي الخروج على الإمام المفترض الطاعة، والظالم الخارج لظلم الناس، فهؤلاء إن وقعوا في مخمصة في طريق بغيهم فلا ترخيص لهم في أكل هذه المحرمات إذ لا يستحقون الرحمة أصلاً لعظيم جرمهم .

ومن الباغي : طالب الصيد للهو، فإنه من المحرمات، ولعله بسبب قتل مخلوقات من حاجة، نعم من يشتغل بالصيد لأجل الاسترزاق بها بأكلها أو بيعها فلا جناح عليه.

ومن العادي : قاطع الطريق حيث يتعدى على المسافرين والقوافل، وكذا السارق والغاصب.

ويمكن جعل (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) قيداً للأكل، فيكون معنى الباغي : أن لا يكون طالباً للذة في أكله بل يأكل لسد جوعه ومعنى العادي : أن لا يتجاوز الحد في الأكل فيمتلىء من الحرام، بل يأكل بمقدار دفع الاضطرار وهو ما يسد رمقه..

ص: 229


1- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص 56 - 57 .

السابع : قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

الغفران إنما يكون عن ذنب، فهذا تعليل لأصل تحليل الأكل للمضطر، فإن الله تعالى لغفرانه ورحمته قد أباح ذلك مع أن مناط التحريم موجود حتى في صورة الاضطرار، كما أن الله يقدر على تشديد الأحكام على الناس لكثرة ظلمهم ،وجورهم، كما حدث في الأمم السابقة قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهَمْ﴾ (1) ، وقال تعالى ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ) (2) .

وقيل : إن المعنى إن الله غفور للعاصي فكيف بالمضطر !!

وقيل : إن بعض الناس يتجاوز الحد المسموح به في حال الاضطرار فاحتاجوا إلى الغفران.

وقيل : المقصود هو نتيجة الغفران - أي عدم المؤاخذة ، فالمعنى كما لا يؤاخذ العصاة بسبب ستره لذنوبهم، كذلك لا يؤاخذ المضطر بسبب رخصته له . .

ص: 230


1- سورة النساء، الآية: 160 .
2- سورة النحل، الآية: 61.

الآيات 174-176

اشارة

«إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)»«أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)»«ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)»

174 - وحيث تبين الحلال عن الحرام واتضح أن التقوّل على الله إنما هو من خطوات الشيطان، ف- (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ يخفون (مَا أَنزَلَ اللّهُ) من أحكام الحلال والحرام وكذا في المعتقدات، وإنما يكتمون لئلا يفتضحوا في تحليلهم وتحريمهم بهواهم، و(مِنَ الْكِتَابِ) «من» للتبعيض، فإنهم يكتمون من الكتاب ما يتعارض مع مصالحهم، (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) أي يستبدلون بالكتاب (ثَمَنًا قَلِيلًا) من حطام الدنيا الزائلة، لكن هذا الحطام يكون وبالاً عليهم ف(أولَائِكَ) الكاتمون (مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ أي لا يجرون إليها (إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) كلاماً حسناً، بل يوبخهم ثم يتركهم في العذاب (وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي لا يطهرهم من الذنوب بالغفران، أو لا يُثني عليهم (وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يؤلمهم .

ص: 231

175 -(أُولَئِكَ ) الكاتمون (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) في الدنيا، (وَ) اشتروا (الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ) في الآخرة ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجب أو إنكار ، أي كيف يعملون عملاً يوجب دخولهم في النار، حيث لا مفرّ منه فلا بد لهم من الصبر عليه . 176 - (ذَلِكَ) العذاب والنار (بِأَنَّ) أي بسبب أن (اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) لكن هؤلاء رفضوه ومنعوا وصول نوره إلى كثير من الناس بتكذيبهم له، ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) فكتموا بعضه وأظهروا ،بعضه، كما أنهم اختلفوا في القرآن بين قائل بأنه سحر أو كهانة أو أساطير ونحو ذلك، فهؤلاء (فِي شِقَاقِ) أي الحق في شق وجهة وهؤلاء في شق وجهة تقابله (بَعِیدٍ) عن الحق بعداً شاسعاً .

----------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ...) الآية.

لمّا بین الله تعالى أنه أحلّ الطيبات وحرّم الخبائث، وأن الشيطان له خطوات حدّر تعالى عن اتباعها، بعد ذلك بيّن أن هناك ناساً هم شياطين الإنس يتبعون الشيطان، بل هم من أوليائه وأدواته، وبين أن من أخبث خطوات الشيطان هو كتمان الحق، لأنه يمنع وصول نور الحق إلى أكثر الناس فيحرمهم من فضل الله تعالى ورحمته فلذا لزم التحذير من هؤلاء وبيان حقيقة الكتمان والمصير السيئ الذي ينتظر الكاتمين، فهم يحلّون الحرام ويحرمون الحلال ثم ينسبونه إلى الله - زوراً وافتراء - مع إخفائهم الحلال والحرام ،الحقيقيين كيلا يفتضحوا ولتحفظ مصالحهم من حطام

ص: 232

الدنيا، قال تعالى «كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)»«فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)» (1).

وإن أهم وسيلة للطغاة ولطالبي حطام الدنيا هو كتمان العلم وعدم إظهاره، بل اختلاق أكاذيب بدلاً عنه وهذا ما قامت عليه الدول الظالمة والمذاهب الزائفة، فهم يضطهدون أهل العلم ويستخفون بهم، ويقربون وعاظ السلاطين ويحتفون بهم.

وقوله (مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ) سياق الآيات في الحلال والحرام من الأطعمة ولكن الآية عامة، فإن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، ولذا فسرها بعضهم بالبشارة بنبوة رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في التوراة حيث كتمها الأحبار، كما أن (الكتاب) يشمل جمیع الکتب السماوية سواء التوراة أم القرآن فإن الكتب التي نزلت على الرسل إنما هي من عند الله الواحد الأحد لا فرق بينها إلّا في المرحلة، فالقرآن مهيمن على سائر الكتب لأنه مكمل لها وخاتمها، وأما تلك الكتب فكانت في سبيل الهداية لأزمنه خاصة، كما في كتب المدرسة الابتدائية والثانوية والجامعة.

وقوله (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا)، أي بدلاً من العمل بالكتاب وإظهاره ليعمل به الناس عمدوا إلى كتمانه ليحافظوا على مصالحهم من أموال تُغدق عليهم ورئاسة على عوامهم، وهذا ثمن قليل جداً مقابل تركهم الهداية واكتسابهم للعذاب الأبدي. .

ص: 233


1- سورة آل عمران الآيتان: 93 - 94 .

الثانى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).

أي لا يجرّون إلى أنفسهم إلَّا العذاب، والمصالح التي يريدها هؤلاء كلها مصالح دنيوية - من رئاسة وادّخار الذهب والفضة ومساكن مجلّلة وأطعمة فاخرة ونحوها - وحيث إنّ مظهر الماديات هو الأكل ولذا قال تعالى ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ).

وأكلهم للنار في الحال وفي المآل :

أما في الحال: فإن حقيقة هذا المال الحرام هو نار ولكن لا يشعرون بها لوجود الحجب كالمشلول الذي لا يشعر باحتراق يده وهي في النار ويستمر في أعماله الطبيعية، قال تعالى ﴿وَإِنَ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (1) ، وقال (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (2) وسياق الآية يؤيد كون أكل النار إنما هو في الدنيا وذلك لقوله بعد ذلك ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، ومن الواضح أن العذاب الأليم إنما هو في الآخرة، فلو كان أكل النار في البطن في الآخرة أيضاً لكان تكراراً .

وأما في المآل : فإن عملهم هذا يحضر يوم القيامة ويتحوّل إلى نار يغلي في بطونهم، قال تعالى ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُوا حَاضِراً) (3) ، وقال (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيداً ) (4) . .

ص: 234


1- سورة التوبة، الآية: 49.
2- سورة النساء، الآية: 10.
3- سورة الكهف، الآية: 49
4- سورة آل عمران الآية: 30.

وهذا ما يع- يعبر عنه بتجسم الأعمال، ومعناه هو تحوّل ذلك العمل نفسه إلى عذاب كاستحالة الخشب رماداً، والنطفة إنساناً، والعنب خمراً .

قال الشيخ البهائي العاملي رحمه الله : فالأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة تظهر صوراً نورانية مستحسنة موجبة لصاحبها كمال السرور والابتهاج والأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة تظهر صوراً ظلمانية مستقبحة توجب غاية الحزن والتألم كما قاله جماعة من المفسرين عند قوله تعالى ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيداً) (1) ، ويرشد إليه قوله تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْنَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ«6» فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ«7» وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (2) .

وقوله تعالى (في بُطُونِهِمْ) ، في التقريب : ولعل ذكر (فِي بُطُونِهِمْ) للاحتراز عن الأكل في بطن الغير، فإن العرب تقول شبع فلان في بطنه : إذا أكله بنفسه، وتقول شبع فلان في بطن غيره : إذا أكله مَن يتعلق به (3) ، فالمعنى أنهم يعذبون بعملهم لا ،غيرهم كما قال تعالى ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا ، تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا) (4) ، أو للدلالة على الاستمرار ، وقيل : للدلالة على الامتلاء كقوله (فَإِنَّهُمْ لَاكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِمُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (5) ، فتأمل. .

ص: 235


1- سورة آل عمران الآية: 30.
2- سورة الزلزال الآيات: 6 - 8. نقله عنه في بحار الأنوار ج 71 ص 292 ، وراجع مناهج البيان ج 2، ص82 - 83.
3- تقريب القرآن ج 1، ص210.
4- سورة البقرة، الآية: 48 .
5- سورة الصافات، الآية: 66.

ولعله لبيان خسة عملهم حيث لم يكن عن قلب سليم وعقل كامل بل كان لأجل البطن - وهي بيت كل داء - فكان جزاؤهم امتلاء بطنهم من النار، كما قال تعالى، أو للدلالة على أن عذاب الآخرة ليس خارجياً فقط يصيب الجلود بل يضاف إليه عذاب داخلي كما قال تعالى (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ( (1).

الثالث : قوله تعالى ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

معنى (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) هو عدم اللطف بهم ونسيانهم ليذوقوا » وبال ،أمرهم، قال تعالى ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) (2) ، وقال ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنَسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَاهُ (3) ، أو المعنى : لا يكلمهم كلاماً حسناً بل كلام بإهانة وإذلال كقوله ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ (4) ، وكقوله (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِى الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ (5) وغيرها .

وقوله (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) بمعنى لا يمدحهم كما يمدح المؤمنين في الآخرة فهو من التزكية بمعنى الثناء .

أو بمعنى لا يطهرهم من الذنوب أي لا يغفرها لهم.

أو بمعنى لا يقبل أعمالهم، لأن العمل المقبول إنما هو من المتقين كما قال تعالى ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (6) ، أما هؤلاء فحتى أعمالهم 7.

ص: 236


1- سورة الحج، الآية: 20.
2- سورة التوبة، الآية: 67.
3- سورة الجاثية، الآية: 34.
4- سورة الأنعام، الآية: 30.
5- سورة القصص الآية: 62.
6- سورة المائدة، الآية: 27.

الحسنة تكون هباءً منثوراً، قال تعالى ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُم)(1) ، وقال وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءٌ مَّنثُورًا (2)

امتلأ

أو بمعنى أن الله لا يهديهم إلى الحق فلا يوفقهم إليه، لأنَّ البطن إذا

من الحرام فإنه يقسو فلا يتزكى صاحبه .

فعذابهم في الآخرة مضاعف فأولاً : لا يكلمهم الله برحمته، وثانياً : لا يغفر لهم ذنوبهم فيبقون على رجسهم من غير تزكية وثالثاً يخلدون في أنواع من العذاب .

الرابع : قوله تعالى ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ).

صيغة تعجب، و(مَا) استفهامية، ومن الواضع استحالة التعجب على الله تعالى لأن التعجب يكون من الشيء الذي لا يُعرف سببه ، ولذا قالوا إذا عرف السبب بطل العجب فمنشأ التعجب هو الجهل، وهذا مستحيل على الله تعالى فالمراد بيان أن هذا العمل مما يتعجب منه العقلاء، أو طلب تعجب الناس من فعل هؤلاء الحمقى بفعلهم الذي يوجب لهم سبب خلودهم في النار ، ممّا يضطرون إلى المكوث فيها أبد الآبدين ولا طريق لهم إلَّا الصبر على العذاب فإن الجزع غير مفيد لهم، قال تعالى (قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) (3) فمعنى (ما أصبرهم) هو اضطرارهم إلى أن يبقوا في العذاب كالصابر الذي تجري عليه المصيبة من غير تمكنه من دفعها .

وهناك عدة روايات تفسر ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) ومرجعها إلى 1

ص: 237


1- سورة الكهف، الآية 105
2- سورة الفرقان الآية: 23
3- سورة إبراهيم، الآية: 21

معنى واحد ففي بعضها إقامة السبب مقام المسبب وفي بعضها ذكر اللازم، ففي الجوهر الثمين :

1 - أي ما أجرأهم على عمل يوجب عليهم عذاب النار .

2 - أو ما أصبرهم على فعل يعلمون أنه يصيرهم إلى النار .

3- أو ما أجرأهم على النار .

4 - أو ما أعملهم بأعمال أهل النار ، والكل مروي (1).

فقد ذكر الصبر على النار وأريد ،سببه أي تعجبوا من أعمالهم التي تكون سبباً لدخولهم إلى النار مع عدم تمكنهم من دفعه واضطرارهم إلى الصبر عليه .

وفي المناهج : التعبير عن السبب بذكر المسبب - مع تصريح المقام بذكر السبب أيضاً ، واشتمال الكلام على توبيخ المرتكب وإظهار التعجب من حماقته، من أجمل الكلام وأبلغه ، ومآل الروايات ومفادها إلى أمر واحد (2).

الخامس : قوله تعالى ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) الآية .

هذه الآية لبيان سبب هذا العذاب الشديد على أولئك الكاتمين حيث إن الله مَنْ على الناس بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ومع ذلك بقي أكثر الناس على الضلال، وسبب ذلك هؤلاء الذين يريدون منع رحمة الله تعالى على الناس، ولولا الكاتمون لاهتدى أكثر الناس إلى الحق والصواب ففازوا بسعادة الدارين . .

ص: 238


1- الجوهر الثمين ج 1، ص 177 وراجع الروايات في البرهان ،ج 2، ص 58 عن الكافي وتفسير العياشي ومجمع البيان.
2- مناهج البيان ج 2، ص 85.

وقوله (َنَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) ولم يقل «اختلفوا فيه»، يدل على فرق الكتابين فالأول هو التوراة الذي فيها بشارة بالنبي محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ولكن هؤلاء حرفوها فكتموا البشارة عن الناس والثاني هو القرآن الذي فيه بيان الحلال والحرام مع بيان العقائد السليمة، فهؤلاء بكتمانهم ما في التوراة أوجبوا الاختلاف في القرآن .

أو المراد جنس الكتاب وإنما كرر لفظه لتفخيمه وتعظيم شأنه.

وقوله (اَخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) . قيل : الاختلاف في التوراة بكتمان بعضها مما يتعارض مع مصالحهم وإظهار بعضها مما لا يتعارض معها، أو اختلافهم في القرآن في أنه سحر أو كهانة أو أساطير أو شعر ونحو ذلك، أو بيان أن كتمان اليهود إنما هو بسبب اختلاف المشركين في القرآن، ولولا اختلافهم لما تجرّأ الأحبار على الكتمان.

والأظهر حمل الآية على العموم، أي أن ذلك العذاب بسبب أنهم كتموا الحق مع وضوحه ووضوح أنه نازل من قبل الله تعالى ووضوح أنه الحق ، فلذا الذين أعرضوا عن الكتاب هم في ضلال كبير، فهم في جهة بعيدة كل البعد عن الجهة التي فيها المؤمنون .

ص: 239

الآية 177

اشارة

«لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)»

177 - لمّا بيّن الله تعالى لزوم متابعة أحكامه، وحذر من اتباع خطوات الشيطان ونهى عن كتمان الحقائق، بعد ذلك بيّن أن البِرّ في العقيدة السليمة، والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، فقال تعالى:(لَيْسَ الْبِرَّ) أي التوسع من الخير والإحسان، هو (أَن تُوَلُّوا) توجّهوا (وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) كأن تتبعوا قبلة اليهود والنصارى، فلا خير في ذلك، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ) كل البرّ في أُمور ثلاثة ، وهي ليست أموراً نظرية غير قابلة للتطبيق، بل هي تتمثل في أشخاص، ف- :

أولاً : في العقيدة (مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ) المبدأ الخالق المفيض لكل الخيرات، (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) المعاد للجزاء، (وَالْمَلَائِكَةِ) وسائط

ص: 240

الوحي والتدبير، (وَالْكِتَابِ) ما أنزله الله ليكون دستوراً للناس، (وَالنَّبِیِّينَ) الذين يبلغونكم ما أنزله الله ويبينونه لكم .

ثانياً: في الأعمال : ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) أي حب الله ، فيتصدق ابتغاء وجهه تعالى ﴿ذَوِي الْقُرْبَى) أقرباءه لأن الأقربين أولى بالمعروف،(وَالْیَتَامَى) المحتاجين منهم، واليتيم الصغير الذي مات أبوه، (وَالْمَسَاكِينَ) أي من لا يجد نفقة لنفسه وأهله، (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي الذي نفذت نفقته في السفر، (وَالسَّآئِلِينَ) أي من ألجأهم الفقر لطلب الصدقة أو الطعام، (وَفِي الرِقَابِ) العبيد لأجل عتقهم، ومن المصاديق إعانة المكاتب ﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةَ) شيّدها - بأن صلّى وأمر غيره بها - (وَءَاتَى الزَّكَاةَ).

ثالثاً: في الأخلاق : ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِم) العقود والمواعيد (إذَا عَاهَدُوا) الناس عليها ، (وَالصَّابِرِينَ) - النصب على المدح أي أعني أو أمدح الصابرين - وصبرهم في المواطن كلها مثل : (الْبَأْسَآءِ) وهي شدة الفقر، (والضَّرَّآء) وهي الأضرار التي تصيبهم

كالمرض والموت ، (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي الحرب، فإذا صبر فإذا صبر الإنسان في هذه المواطن فيكون في غيرها أصبر ، (وَأُولَئِكَ) الذين جمعوا بين الأمور الثلاثة بتفاصيلها : الإيمان والعمل والأخلاق، فهؤلاء هم الَّذِينَ صَدَقُوا في اتباع الحق وطلب البر، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ اتقوا النار بفعل البرّ وأجلى مصاديق من اجتمعت فيه هذه الصفات هم الأنبياء والأئمة علیهم السلام.

------------------------------------

ص: 241

بحوث

الأول: قوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِب) الآية.

الظاهر أن الآية الكريمة في مقام بيان الفرق بين المؤمنين وبين الكفار المنافقين الذين اتخذوا من تحويل القبلة وسيلة للتشكيك في رسول الله محمد ، فتبيّن الآية أن هؤلاء الكفار أو المنافقين لا خير فيهم أينما توجّهوا - إلى مشرق أم مغرب - بل لو صلّى المنافق باتجاه الكعبة فإن صلاته غير مقبولة ولا خير فيها، وتخصيص المشرق والمغرب) بالذكر إنما هو من باب المثال، ولأن فيه ردّاً على مزاعم ال-ي-ه-ود والنصارى من أن التوجّه إلى قبلتهم هي البرّ، فأكثروا اللغط في أمر تحويل قبلة المسلمين إلى الكعبة المشرقة فهؤلاء ليسوا من البِرّ في شيء، وإنما البِرِّ - كل البرِّ - في المؤمن المتصف بالصفات المذكورة. كما أن في الآية إشارة إلى لزوم الاهتمام بالأمور الهامة وترك المجادلة مع المعاندين في الأمور الفرعية، إذ لو ثبت الأصل لثبت الفرع تبعاً، ومع عدم ثبوت الأصل لا فائدة مرجوة من المجادلة في الفروع، كما أن الآية تبين حال المنافقين والكفار حيث يتركون المهام ويجادلون في الفروع عصبية وعناداً .

و (البر) هو التوسع في الخير، ومن مصاديقه العطف والإحسان، ولا

شك أن كل برّ يكون مرضياً - إن جيء به بشروطه -.

الثاني : قوله تعالى ﴿وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ) الآية.

هذا المقطع إلى نهاية الآية، دعوة إلى الأمور التي يكون بها الإنسان باراً مرضياً لله تعالى، ومن الواضح أن هذه الأعمال يمكن تحقيقها في

ص: 242

الخارج فليست أموراً مثالية غير قابلة للتطبيق، ولا الدعوة إليها من الطوبائية غير العملية، فلذا لم يقابل العمل بالعمل - أي التولي بالإيمان . . . - بل قابل العمل بالعامل وهو المؤمن المستجمع للصفات المذكورة، مما يدل على واقعية هذه الصفات وإمكان تحققها في الخارج.

فلا حاجة إلى تقدير «ذو)) أي ( ولكن ذو البر من آمن ...)، أو تقدير (عمل) أي (ولكن البر عمل من آمن ...) ، ولا إلى تفسير البرّ ب- (البار) كي يكون للمبالغة كقولهم زيد (عدل) أي عادل، بل المعنى إن البرّ متحدّ

مع المؤمن ومتقوّم به ، فهذا المؤمن هو مثال للبِرّ.

ثم إن الآية بيّنت ما يتقوم به البرّ الحقيقي وهو ثلاثة أمور فأولاً :

الإيمان - وهو ما يرتبط بالمعتقد - ولا بد من الإيمان بخمسة أمور حيث إنها متلازمة لا انفكاك بينها، ذكرت في الآية مترتبة حسب ترتيبها في الوجود:

1 - الإيمان بالله، فهو أصل كل شيء.

2 - الإيمان باليوم الآخر ، إذ لولا اليوم الآخر لم يمكن الأمر باتباع الرسل، إذ الجميع يكون سواء بل المتعدي على الحقوق يكون الرابح ولكن مع الإيمان باليوم الآخر يعرف الجميع بأن الجزاء ينتظرهم فلذا يمكن دعوتهم إلى اتباع ما فيه سعادتهم والاجتناب عما فيه شقاؤهم .

3 - الإيمان بالملائكة، لأن الله أنزل الوحي والكتاب عن طريق الملائكة، كما أنه تعالى جعل منهم من يدبر أمر العالم - بإذنه تعالى - كما قال (فَالْمُدَبِرَاتِ أَمْرَاً) (1)..

ص: 243


1- سورة النازعات الآية: 5.

4 - الإيمان بالكتاب، لأنه الدستور الإلهي الذي تنزل به الملائكة، وهو الذي يوجب قيام الناس بالحق والقسط .

5 - الإيمان بالأنبياء، لأنهم الواسطة بين الله وبين الناس، وخاتمهم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم محمد حيث عرفناهم عن طريقه كما لا يمكن معرفة الحقائق التي بينوها إلا عن طريقه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وذلك للتحريف في كتبهم وإلصاق الخرافات بهم والأباطيل من قبل المبطلين .

قال تعالى «وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (1).

وقد مرّ الكلام في تفصيل ذلك في الآية 136 فراجع.

وقوله تعالى ﴿وَالْكِتَابِ) يراد به القرآن أو نوع الكتاب، أي جميع الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء، قيل : إنما أتى به مفرداً للدلالة على عدم الفرق بين الكتب السماوية فكلها تدعو إلى شيء واحد، والاختلاف إنما هو في نسخ بعض الأحكام.

الثالث : قوله تعالى ﴿وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ الآية .

هذا المقطع يبين المقوم الثاني للبرّ، وهو الأعمال الصالحة وذُكر في هذه الآية أهمها وهي العبادة والإنفاق، لأن العمل الصالح إما أن يكون بين العبد وربه - فهو العبادة ، وإما أن يكون بين الناس - فهو الإنفاق ..

وقد ذكر الإنفاق مرتين، ﴿وَءَاتَى الْمَالَ ...) و(وَءَاتَى الزَّكَوةَ ...) ولعله لأن الأول في المستحب والثاني في الواجب، ومن المعلوم أن الإنفاق..

ص: 244


1- سورة البقرة، الآية: 285.

المستحب أصعب على النفس من الإنفاق الواجب، فإن المؤمنين يعملون بالواجبات حتى وإن كانت صعبة خوفاً من النار، لكن أكثرهم يتركون المستحبات الصعبة حتى وإن عظم ثوابها، لأن الخوف أقوى تحفيزاً من الرجاء، وقد يتركون المستحبات لبعض الدواعي النفسانية لكنهم لا يتركون الواجبات لتلك الدواعي .

وقيل : ﴿وَءَاتَی الْمَالَ ...) لأجل بيان مصرف الإنفاق، أي يصرفون المال في المصارف الصحيحة لا الباطلة و(وَءَاتَى الزَّكَاةَ) لأجل بيان أصل التزامهم بحكم الشرع، وخاصة أن الزكاة تدفع جملة واحدة إلى الحاكم الشرعي - عادة - ليوزعها على مستحقيها فلا ارتباط بين الدافع وبين المستحقين عكس الصدقة المستحبة التي يدفعها صاحب المال مباشرة إلى المستحقين فكان اللازم بيان مصرفها لهم.

وقوله (عَلَى حُبّهِ) الظاهر أن الضمير في (حُبِّهِ) يرجع إلى الله ،تعالى أي إنفاقه إنما هو لوجه الله تعالى لا حبّاً للجاه ولا طلباً للرئاسة على المغدق عليهم ولا غير ذلك من الدواعي النفسانية كما قال تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِينَاً وَيَتِيماً وَأَسِيرًا «8» إنّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا) (1).

وقيل : على حب المال أي رغم حاجته إلى المال لكنه يؤثر هؤلاء على نفسه قربة إلى الله، أو حب الإيتاء أي آتى المال رغبة في التصدق به قربة إلى الله لا كرهاً .

وهذان وإن كانا من درجات الإيمان أيضاً، لكن الإيتاء لأجل حب 9

ص: 245


1- سورة الإنسان الآية: 9

الله من أعلى درجات الإيمان فهو الأنسب لهذه الآية التي تبيّن الفرد المؤمن الكامل في الإيمان .

ثم إن المذكورين - ذوي القربى، واليتامى . . . - إنما هم من باب بيان أظهر مصاديق المحتاجين، وحيث إن إيتاء المال إنما كان لأجل حب الله تعالى فيعمّ كل شدة ترد على المؤمنين، فتشمل إيتاء المال لغير المذكورين من سائر المحتاجين، وكذا المشاريع الخيرية التي يحتاج إليها المؤمنون فإنها من الإنفاق في سبيل الله ولأجل حبّه تعالى .

وقوله (ذَوِي الْقُرْبَى) أي ،أقرباء المنفق، فإن الأقربون أولى بالمعروف وفي الحديث لا صدقة وذو رحم محتاج»(1)، قال تعالى «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»(2) ، بل من المحبّذ الوصية للأقرباء ليصل من خيره إليهم قال سبحانه «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» (3).

وروى أن ذوي القربى هم قرابة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (4) وهذا من باب بيان أحد المصاديق للآية .

وقوله (وَالْمَسَاكِينِ)، المسكين هو من أسكنه الفقر، فقد يُسكنه عن الناس حياة وعفة عن السؤال، وقد يُسكنه إلى الناس لحاجته إليهم، والمسكين أسوأ حالاً من الفقير لأن الفقير من يجد شيئاً لكنه غير كافٍ .

ص: 246


1- بحار الأنوار: ج 93 ، ص 147 .
2- سورة البقرة، الآية: 215
3- سورة البقرة، الآية: 180.
4- البرهان ج 2، ص 59 .

له والمسكين من لا يجد ما ينفقه على نفسه وأهله، قالوا : إن لفظ المسكين والفقير إذا اجتمعا افتقرا وإذا افترقا اجتمعا)، أي إذا ذُكرا معاً فلكل واحد منهما معنى وأما إذا ذكر أحدهما دون الآخر فقد أريد الصنفان معاً.

وقوله (وَ السَّآئِلِينَ﴾ أي من الجأهم الفقر للسؤال فهم الطالبون للصدقة أو المستطعمون. ويمكن تعميم لفظ السائلين ليشمل الطالبين للدين أو النسيئة وكذا الطالبين لمشاريع الخير - لكنه خلاف الظاهر .

وقوله (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو المسافر الذي نفذت نفقته حتى وإن كان في بلده، لكنه لا طريق له إلى أمواله، وإنما سمي ابن السبيل لعدم معرفة أبيه ، وعشيرته، كما يقال لقاطع الطريق (ابن الطريق).

وقوله (وَ فِي الرِّقَابِ) : الرقبة أصل العنق واستعملت في العبيد لأن زمام أمرهم بيد الموالي كأنه طوق عنقهم سلسلة بيد مواليهم، والمراد شراء العبيد وعتقهم فإنه من أفضل القربات ومن مصاديقه معاونة المكاتبين - كما في بعض الأخبار (1)

الرابع : قوله تعالى ﴿وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) الآية .

هذا المقطع يبيّن المقوّم الثالث للبرّ، وهو الأخلاق الفاضلة ولا يمكن التحلي بالأخلاق الفاضلة إلَّا بملازمة أمرين هما أصل لجميع الفضائل :

1 - حسن التعامل مع الناس ومن أظهر مصاديقه الوفاء بالعهود المبرمة معهم سواء في معاملة أو في وعد إذ المجتمع الإنساني يتوقف .

ص: 247


1- البرهان ،ج 2، ص 59. عن التهذيب.

على العهود المبرمة ومراعاتها، ولولا مراعاتها لانفرط عقد المجتمع ولكثرت المشاكل فيه

2 - الصبر، فإن النفس تجرّ الإنسان - غالباً - إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط، فلزوم الطريقة الوسطى من أصعب الأمور وخاصة في أوقات الشدة كالفقر والمرض والحرب .

والأخلاق هي الصورة الباطنية للإنسان، فإن كانت هذه الصورة من الفضائل فالأخلاق حسنة، وإلا كانت سيئة.

ومكوّنات هذه الصورة ثلاثة أمور:

1 - القوة الشهوية - وهي التي تريد جر النفع إلى الإنسان ..

2 - القوة الغضبية - ومهمتها دفع الأضرار عنه -.

3 - القوة المدبّرة - ومن مهامها إدارة القوتين مع إدارة الروح والبدن - وقد يقال لها القوة العاقلة .

والحد الوسط في هذه القوى يشكل الأخلاق الفاضلة، مثلاً حب من القوة الشهوية، فالإفراط فيها تعدي حدود الشرع، والتفريط هو الرهبانية المذمومة، والاعتدال هو الاستنان بالسُّنة بالزواج.

النساء

وكذا الدفاع عن النفس قد يكون بلا حكمة فهو التهور، وقد يكون أقل من اللازم أو لا يكون فهو الجبن، وقد يكون مع الحكمة فهو الشجاعة.

وعدم الإفراط والتفريط بحاجة إلى صبر كبير خاصة في الأزمات.

وقوله (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَهَدُوا) ، قيل : يشمل الوفاء بالعهود مع الله تعالى، لكن الظاهر بقرينة (إِذَا عَاهَدُوا) هو العهود الاجتماعية

ص: 248

كالعقود والوعود ونحوها، وأما العهود مع الله تعالى فهي أوامره التي يجازي عليها وقد ذكرت في صدر الآية في قوله (مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر .....)

وقوله (وَالصَّابِرِينَ) إنما نُصب على المدح أي امدح الصابرين، وفي الكشاف واخرج والصابرين منصوباً على الاختصاص والمدح وإظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال (1).

وفي التقريب : والصابرين» عطف على من آمن على طريق القطع ، بتقدير المدح، كما قال ابن مالك :

واقطع أو اتبع إن يكن معيّنا *** بدونها أو بعضها أقطع معلنا

وارفع أو انصب إن قطعت مضمرا *** مبتدأ أو ناصباً لن يظهرا

فإن عادة العربي أن يتفنن بالقطع - رفعاً ونصباً - إذا طالت الصفات، تقليلاً للكلل، وتنشيطاً للذهن بالتلوّن في الكلام (2) .

وقوله (الْبَأْسَآءِ) : أي البؤس - وهو الشدة - والمراد به الفقر .

وقوله (وَالضَّرَّآءِ) : أي ما يضرّ كالخوف والجوع والعطش والمرض والموت.

وقوله (الْبَأسِ) أي الحرب .

الخامس : قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) .

أي الذين استجمعوا الصفات المذكورة هؤلاء صدقوا في طلب البر، .

ص: 249


1- الكشاف ج 1 ، ص 168 .
2- تقريب القرآن ج 1، ص213.

لا المنافقون والكافرون الذين يتوهمون أنّ البرّ في التولي قبل المشرق والمغرب انطلاقاً من سوء سريرتهم وطلباً للتشكيك.

كما أن المستجمعين للصفات المذكورة هم الذين يتجنبون الأباطيل فيتقون الكفر والعصيان لا أولئك المشككون .

ومن الواضح أن من حسن إيمانه وحسن من حسن إيمانه وحسن عمله وحسنت أخلاقه فإنه يكون باطنه حسناً، فيطابق قوله ،فعله وسرّه علانيته، لعدم وجود نقص فيه ليتخالف ظاهره مع باطنه .

وهذا المقطع ضم الجانب الإيجابي - بالصدق ، والجانب السلبي - بالاتقاء من الكفر والرذائل والأباطيل ..

وروي أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين ، لأن هذه الصفات لا توجد إلا فيه وفي ذريته الطيبين قال في مجمع البيان واستدل أصحابنا على أن المعني بها أمير المؤمنين ، لأنه لا خلاف بين الأمة أنه كان جامعاً لهذه الخصال، فهو مراد بها قطعاً، ولا قطع على كون غیره جامعاً لها، ولهذا قال الزجاج والفراء : إنها مخصوصة بالأنبياء المعصومين، لأن هذه الأشياء لا يؤديها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الأنبياء (1)..

ص: 250


1- مجمع البيان، ج 1، ص 673.

فصل في أحكام الموت

ص: 251

ص: 252

فصل في أحكام الموت

بعد بیان مقومات الأمة الإسلامية يبدأ قسم آخر في السورة المباركة بذكر مجموعة من فروع الدين مع مراعاة التسلسل في الآيات الكريمة، فحيث إنه تعالى حيث ذكر البِرّ عقبه ببعض الأحكام التي يجب على أهل البر الالتزام بها .

وبعبارة أخرى : لا يمكن البرّ إلَّا بالإيمان وبالتمسك بالشرائع، ثم بيّن بعض أهم تلك الشرائع، وحيث تعرضت الآيات السابقة لمقوّم الحياة الجسدية - من أكل الطيبات واجتناب الخبائث - بدأ هذا الفصل بذكر الحياة الاجتماعية، وذلك عن طريق تشريع القصاص، ثم عقبه بذكر الوصية التي فيها حياة للموصي أيضاً !

ص: 253

ص: 254

الآيتان 178-179

اشارة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)»«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)».

178 - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خاطبهم لأنهم المنتفعون بهذا الخطاب، ولعدم تشريعه على أهل الذمة، (كُتِبَ) أي شُرّع - لأن الشرائع تكتب - (عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) وهو أخذ الجاني بجنايته في جسمه مع مراعاة المماثلة بين الجناية والعقوبة (فِي الْقَتْلَى) عمداً مع لزوم التكافؤ بين القاتل والمقتول ف- (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) أي بدلاً منه (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى).

(فَمَنْ) أي القاتل الذي (عُفِى لَهُ) أي تُرك قصاصه واستبدل بالدية (مِنْ أَخِيهِ) وهو ولي المقتول، سمي أخاً للقاتل استعطافاً (شَیءٌ) أي حقٌّ - أيّاً كان - و «شيء» نائب فاعل في «له» (فَاتبَاعُ) أي فعلى العافي اتباع القاتل (بِالْمَعْرُوفِ) أي يطالب بالدية أو ما تبقى منها بالمعروف، فلا يشدد على القاتل بل ينتظر ميسوره إن كان عاجزاً (وَ) على الجاني المعفو عنه (وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ) إلى أخيه وهو ولي

ص: 255

المقتول (بِإِحْسَانِ) من غير مماطلة إن كان قادراً ، فيحسن كما أحسن إليه ولي الدم بالعفو عنه .

(ذَلِكَ) جميع ما تقدم - التماثل في العقوبة، والتكافؤ بين الجاني والمجني عليه والقصاص والعفو، والاتباع بمعروف والأداء بإحسان - (تَخفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ) حيث كان يمكنه تشريع حكم أصعب، أو هو تخفيف عما كان عليه المشركون وغيرهم من البطش ونحوه .

(فَمَنِ) عفا فقد سقط حقه في القصاص، وإن (أعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) العفو على الجاني بأن قتله أو مثل به ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يقتص منه في الدنيا ويعذب في الآخرة.

179 - وتشريع حكم القصاص إنما هو لمصلحتكم (وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) عظيمة، لأنه من أسس قيام مجتمع سليم، كما أن تشريعه رادع قوي عن ارتكاب القتل (يَأُولِي الْأَلْبَاب) أصحاب العقول الذين يبتعدون عن سيطرة القوى الغضبية وعن الأوهام الباطلة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الله حينما تعرفون حكمته، أو تتقون إراقة الدماء حرصاً على الحياة وخوفاً من القصاص.

-----------------------------------

بحوث

الأول : 1 - هذه الآية الكريمة في صدد بيان أن القصاص إنما هو مع

ص: 256

تماثل الجاني والمجني عليه، فهي لبيان حدود المقتص منه، وفي سورة المائدة آية أخرى تتكفل لبيان حدود نفس القصاص قال تعالى ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْن بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بالأَنفَ والأَذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ وَالْجُرُوحَ قِصَاصُ) (1) ، فكل من الآيتين لبيان أمر مرتبط بالقصاص اقتضى السياق ذكره، فحيث إن السياق في هذه الآية اقتضى ذكر الموت وما يتعلق به تَمّ ذكر القصاص في القتلى دون القصاص في الأعضاء والجروح، وفي تلك الآية كان السياق في عدم حكم اليهود بأحكام التوراة وإخفائها ، فلذا تم بيان أصل الحكم .

وما ورد من نسخ هذه الآية لتلك الآية(2) يراد به النسخ بمعناه اللغوي - أي التخصيص ، فإن (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) عام وقد خُصص بقوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى) .

2 - و(الْقِصَاصُ) من (ق ص ص) بمعنى اقتفاء الأثر، فهذه العقوبة تتلو الجناية وتتبعها فيفعل بالقاتل مثل ما فعل بالمقتول، أما البطش من غير حق بالإسراف في القتل فهو من البغي وليس قصاصاً إذ لم يكن متابعة للجناية بل الزيادة والإسراف عليها .

ومن ذلك يظهر أن تفسيرهم للقصاص بالمساواة إنما هو تفسير باللازم .

3 - ومن المعلوم أن هذه الآية تتطرق إلى حكم قتل العمد وأما قتل الخطأ فلا قصاص فيه، إذ القصاص للعقوبة، ولا معنى للعقوبة في .

ص: 257


1- سورة المائدة الآية: 45 .
2- الوسائل ج 30 ، ص 86 عن تفسير النعماني.

الخطأ، نعم يلزم التعويض فلذا وجبت الدية، ولذا لا يعاقب القانون من أخطأ عن قصور ولكن يلزمه بالضمانات - لأنّها أحكام وضعية . فالعقوبة إنما هي في الأعمال القصدية العمدية، أما الضمانات فهي تعويض فلذا تلزم على كل حال، قال تعالى ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَا فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَن يَصَدَّقُوا) (1) .

الثاني: الآية تدل على لزوم التماثل بين القاتل والمقتول (الحُرُّ بِالحُرِّ) (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) (وَالأُنثَى بِالأُنثَى) ، وهذه الثلاثة الأمثلة لبيان الإطار العام لهذا الحكم، وهنا صورتان أخريان:

1 - كون المقتول أعلى من القاتل، كما لو قتل عبد حرّاً عمداً، فهنا مفهوم الأولوية يدل على لزوم القصاص فإذاً يقتل المماثل بالمماثل، فقتل الأدون بالأعلى بطريق أولى.

2 - كون القاتل أعلى من المقتول، وهذه الآية ساكتة عن حكمه فلا بد من مراجعة سائر الأدلة، وهي أيضاً تدل على ما دلت عليه هذه الآية من لزوم التماثل، فإن أمكن ولو بدفع مال ثبت حكم القصاص وإلّا كانت عقوبة أخرى.

فلو قتلت امرأة رجلاً ، فالتماثل هو أن يُدفع لذوي القاتل نصف ديته ثمّ يقتصون منه، فتحقق التماثل بين المرأة ونصف الدية) وبين (الرجل)، وهكذا لو قتل اثنان رجلاً واحداً فهنا التماثل بأن يدفع لذوي كل واحد من القاتلين نصف الدية ويقتص منهما فهنا التماثل بين رجلين) وبين رجل مع دية).

ص: 258


1- سورة النساء، الآية: 92

أما لو قتل حرّ عبداً أو مسلم ذميّاً، فلا تماثل أصلاً، فلا يجري القصاص بل تكون سائر العقوبات المذكورة مفصلة في الكتب الفقهية .

ثم إن مرادنا من (الأعلى) ليس الأعلى في الإنسانية، بل الجميع من الحر والعبد والرجل والأنثى متساوون في الإنسانية، وإنما أكرمهم عند الله أتقاهم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (1) ، بل هذا الحكم لاعتبارات لوحظت لذوي المقتول - ولا يرتبط بالمقتول أصلاً لعدم استفادته لا من القصاص ولا من الدية ولا من العفو - فهو ليس بدلاً عن المقتول حتى يستشكل في تساوي المقتولين مع القاتلين في الإنسانية، بل القصاص أو الدية تعويض لذوي المقتول تعويضاً نفسياً أو ماديّاً فلوحظ فيه اعتبارات اجتماعية واقتصادية، ولعلنا سنتعرض لذكرها لاحقاً - إن شاء الله تعالى -.

الثالث : قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ).

الكتابة هنا بمعنى الحكم من الله تعالى فإذا كان في التكوين فمعناها القضاء الحتم كقوله تعالى ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةُ) (2) ، وقال (كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (3).

وإن كان في أفعال الناس فمعناه تشريع هذا الحكم فيشمل الحكم التكليفي والوضعي، كما يشمل الواجب ،وغيره فمن الواجب قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) (4) وقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ.

ص: 259


1- سورة الحجرات، الآية: 13
2- سورة الأنعام، الآية: 54
3- سورة المجادلة، الآية: 21
4- سورة البقرة، الآية: 183.

لَكُمْ)(1) ، ومن غير الواجب قوله (وَرَهْبَانِيَةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ (2) ، ومن الحكم الوضعي قوله ، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) ، حيث لا يجب القصاص بل يجوز أخذ الدية أو العفو لكنه حكم شرعه الله تعالى نتيجة للقتل.

والحاصل أن الكتابة في الأحكام إنما هو بمعنى التشريع، وأما الوجوب في بعض الموارد فإنما هو يستفاد من سياق الكلام أو غيره.

الرابع : قوله تعالى ﴿فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ) الآية .

بعد أن شرع الله تعالى القصاص بيّن أن هذا الحكم إنما هو جعل حق لولي المقتول فيمكنه التنازل عن حقه والانتقال إلى الدية فيجوز أن يأخذ الدية أو قسماً منها .

وذلك لأن الحكمة اقتضت تشريع حكم القصاص لكن لا بنحو الإلزام بل بنحو الجواز بحيث يجوز لولي المقتول الاقتصاص من القاتل ولكن في الوقت نفسه لوحظت جوانب أخرى يجوز معها لولي المقتول أخذ الدية.

منها : فسح المجال أمام المجتمع للتراحم والتعاطف.

ومنها : إيجاد بدل اقتصادي لذوي المقتول عمّا فقدوه من عمل المقتول وخاصة إذا كانوا فقراء وكان موردهم الاقتصادي منحصراً فيه .

وجذر «العفو) من (ع) ف (و) بمعنى الترك، كما يقال عفت الدار أي تركت حتى درست والعفو عن المعصية هو ترك العقاب عليها ومحوها .

ص: 260


1- سورة البقرة، الآية: 216.
2- سورة الحديد، الآية: 27

(وشَيْءٌ) بمعنى بعض من الحق فولي المقتول يترك بعض حقه كالقصاص أو يترك شيئاً من الدية فالمعنى فالقاتل الذي عُفي له شيء، فلم يقتص منه أو لم يؤخذ منه بعض من الدية . . . إلخ .

وقوله (مِنْ أَخِيهِ) يعني ولي المقتول، ولعل هذا التعبير لأجل أن يعطف ولي الدم على القاتل بالعفو، وللدلالة على أن القاتل لا يخرج بالقتل عن الملّة، بل ارتكب ذنباً من أعظم الذنوب وعسى الله أن يتوب عليه قال تعالى (إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) (1) .

وقوله (فَاتِبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ) أي فيجب على ولي الدم طلب الدية بالمعروف، و(المعروف) هو التصرف الذي لا ينكره الناس بل يعرفونه بالحسن - شرط أن لا يتعارض مع الشرع ، والمعروف في طلب الدية أن لا يشدّد عليه بالتضييق وكما قال تعالى ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (2).

قوله (وَأَدَاءِ إِلَيْهِ بِإِحْسَانِ) أي ويجب على القاتل أن يؤدي الدية إلى ولي المقتول بإحسان من غير مماطلة، فكما أحسن الولي إليه بعدم الاقتصاص منه كذا عليه أن يقابل الإحسان بأن لا يرهق الولي بالمماطلة والتأخير .

الخامس : قوله تعالى ﴿ذَلِكَ تَخفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) .

أي الأحكام المذكور كلها تخفيف من الله حيث كان يمكن التشديد عليكم، كما تمّ التشديد على الأمم السابقة كما قال: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ)0.

ص: 261


1- سورة النساء، الآية: 48 .
2- سورة البقرة، الآية: 280.

هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُم) (1) ، وقد مرّ بعض الكلام في آيات ذبح البقرة.

كما أن المشركين وأهل الكتاب كانوا في شدة من عاداتهم وأحكامهم حيث كان يقتل بالواحد الكثير ، أو لم يكن في تشريعاتهم العفو أو الدية، فكان تشديداً عليهم فرفع الله تعالى تلك الأغلال التي كانت عليهم بتشريع حكم فيه تخفيف عليهم .

ففي مجمع البيان: نزلت هذه الآية في حيين من العرب لأحدهما طول على الآخر، وكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور، وأقسموا لنقتلنّ بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك (2).

وكان نظير ذلك بين اليهود، ففي تفسير القمي : وكتبوا بينهم كتاباً : على أنه أي رجل من اليهود من النضير» قتل رجلاً من بني قريظة» أن يُحتَّى ويُحمم - والتحنية أن يقعد الرجل على جمل ويولي وجهه إلى ذنب الجمل ويلطخ وجهه بالحمأة - ويدفع نصف الدية، وأيما رجل من بني قريظة قتل رجلاً من بني النضير أن يدفع إليه دية كاملة ويقتل به(3).

وقوله (وَرَحْمَةً) كالعلة للتخفيف أي هذا التشريع - وكذا سائر التشريعات - إنما هو رحمة من الله بكم، وإلا فهو الغني عنكم، قال سبحانه (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) (4) ، وقال سبحانه (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ.

ص: 262


1- سورة النساء، الآية: 160 .
2- مجمع البيان ج 1 ، ص 675 - التبيان ج 2، ص 02
3- تفسير القمي ص 9.
4- سورة الأنعام، الآية: 133.

عَنکُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) (1) فإن الإنسان حيث إنه ضعيف ولا يتحمل الأحكام الشاقة لذا شرع الله الأحكام السهلة له .

السادس : قوله تعالى ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

(بَعْدِ ذَلِكَ) أي بعد العفو بأن يعفو ولي الدم ثم يقتل القاتل أو يُمثل به، إذ بعد العفو سقط حقه في القصاص ولا رجعة فيه، فإن قتله فقد ظلم فيجوز لأوليائه الاقتصاص منه، كما يستحق عذاب النار لتعديه حكم الشرع، أو المعنى أن يتجرأ القاتل فيقتل مرة أخرى، أو بعد ذلك أي بعد تشريع هذا الحكم إن قتل ولي المقتول غير القاتل، بأن أسرف في القتل وقتل مجموعة أو لم يراع المثلية ونحو ذلك، قال تعالى ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ، سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا) (2) وفي التبيين : فلا يسرف الولي في القتل بأن يجاوز الحد بالمثلية أو قتل غير القاتل - ممن يُسمى مؤامراً - أو نحو ذلك إنه - أي الولي - كان منصوراً من الله بإعطائه حق القصاص )(3) . وعن الإمام الصادق : وأي نصرة أعظم من أن يدفع القاتل إلى ولي المقتول فيقتله، ولا تبعة تلزمه من قتله في دين ولا دنيا (4).

السابع: قوله تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .

دلت الآية أن تشريع حكم القصاص ليس لشفاء قلوب أولياء .

ص: 263


1- سورة النساء، الآية: 28.
2- سورة الإسراء، الآية: 33
3- التبيين ص 297.
4- الكافي، الفروع، ج 7، ص 371.

المقتول فحسب بل فيه مراعاة للحق العام إذ القتل هو هتك لحرمة المجتمع أيضاً، ولذا قال تعالى ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (1) ، فكان القصاص حياة للجميع ، ولذا قال تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ والمعنى أن في تشريع حكم القصاص حياة عظيمة لكم، وهذا لا ينافي تشريع حكم العفو أيضاً، لأن وجود هذا القانون هو سبب لانتظام الحياة - سواء اقتص الولي بعد ذلك أم عفا - فإن بعض القوانين نفس تشريعها سبب لكي يراعي الكثيرون حرمتها أو يخافوا منها فيرتدعون عن ارتكاب الجريمة، نظير العقوبات المشدّدة في الزنى من الرجم أو الجلد، فإن نفس هذا التشريع - مع صعوبة تحقق شروطه من شهادة أربعة عدول ورؤيتهم كالميل في المكحلة ونحو ذلك - رادع للكثيرين عن الإقتراب من الزنى وكذا قاصد القتل إن علم أنه يمكن أن يقتل قصاصاً فإنه كثيراً ما يرتدع عن الجريمة.

وفي الجوهر الثمين (حياة) قيل هو إيجاز حوى الفصاحة والبلاغة :

1 - بجعل القصاص - وهو ضد الحياة - ظرفاً لها .

2 - وتعريفه وتنكيرها، لإفادة أن في هذا الجنس من الحكم حياة عظيمة، إذ العلم بالاقتصاص يردع القاتل عن القتل، فيكون سبب حياة نفسه .

3 - ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل والجماعة بالواحد، فتثور الفتن بسببهم ، فإذا اقتص من القاتل يسلم الباقون فيصير سبباً لحياتهم (2)..

ص: 264


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- الجوهر الثمين ج 1، ص 182 .

وقوله تعالى (يَاأُولِي الْأَلْبَابِ) . (اللب) هو العقل الخالص، أي من خلص عقله من الشوائب - سواء تسويلات الشيطان أو الشبهات أو الهوى ونحو ذلك - يدرك أهمية القصاص وأن في تشريعه حياة عظيمة للمجتمع البشري.

وقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). أي حينما تدركون حكمة هذا الحكم تلتفتون إلى عظمة الخالق الذي شرّع لكم هذه التشريعات العظيمة، فتتقونه في كل أموركم ولا تخالفون له أمراً أو نهياً، إذ كلها في مصلحتكم وفي سبيل سعادتكم، أو بمعنى لعلكم تتقون إراقة الدماء، أي تجتنبونها، حرصاً على الحياة .

ص: 265

الآيات 180-182

اشارة

«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)».

وكما في القصاص حياة، كذلك في الوصية حياة للميت بالذكر الجميل وبالثواب .

180 - ف- (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) شُرع تشريعاً - بنحو الاستحباب - ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) قرب منه بمرض أو هرم (إِن تَرَكَ خَيْرًا) مالاً (الْوَصِيَّةُ) نائب فاعل كتب ، أي شُرّع أن توصوا (لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) زيادة على مقدار الإرث فهم أولى الناس بالوصية، ويجوز الوصية للغرباء، (بِالْمَعْروفِ) بما لا يوجب الشحناء بين الورثة، ولا يكون زائداً عن الثَّلث، ولا يضر بالوارث ولا يفضّل الغني على الفقير ونحو ذلك، (حَقًّا) أي هذه الكتابة أو هذه الوصية هي حق (عَلَى الْمُتَّقِينَ) لأنهم هم المتوقع منهم العمل لكسب مرضاة الله ومن القربات الوصية بالمعروف.

181 - ثم إن كانت هذه الوصية على حق (فَمَنْ بَدَّلَهُ) بدل

ص: 266

الإيصاء - سواء كان وصيّاً أم وليّاً أم شاهداً أم وارثاً أم غيرهم - (بَعْدَمَا سَمِعَهُ) أي علم بالوصية ﴿فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ) إثم التبديل (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِلُونَهُ) لا على الموصي، ولا على الذي يأكل المال جهلاً (إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) للوصية (عَلِيمٌ) بما يفعله الوصي، فلذا يكتب الإثم على المبدل دون غيره .

182 - وإن كانت الوصية على باطل فلا إثم في إرجاعها إلى الحق (فَمَنْ خَافَ) أي علم (مِن مُوصٍ جَنَفاً أي ميلاً من الحق إلى الباطل كأن يجعل المال كله إلى بعض الورثة أو يُخطئ في الحق (أو إِثْماً) كأن يوصي إلى الحرام ويتعمد إلى الباطل (فَأَصْلَحَ بَينَهُمْ) أي بين الورثة أو الموصى لهم، وذلك بإجرائهم على منهج الشرع (فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ) حيث إن عمله رجوع من الباطل إلى الحق إنَّ الله غَفُورُ للموصي الذي أوصى خلاف الحق (رَحِيمٌ) بعبادة حيث أمر بالإصلاح بينهم .

--------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) .

الكتابة بمعنى التشريع والتشريع قد يكون بنحو الوجوب وقد يكون بنحو الجواز، كما مرّ في آية القصاص (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي القَتْلَى) فإنه شرع تخييراً بينه وبين العفو .

ص: 267

والوصية في الأموال مندوبة بالأصالة، وقد تجب بالعارض كما لو كان مديوناً وخاف تضييع حق الدائن.

وقيل : إن الوصية كانت واجبة ثم نسخت بآية المواريث.

وفيه تأمل، إذ النسخ إنما يكون مع عدم إمكان الجمع بين حكمي الآيتين كوجوب الصدقة وعدم وجوبها عند النجوى، وأما إذا لم يكن منافاة بينهما فلا معنى للنسخ ، بل آية المواريث دلت على أن الإرث يكون بعد الوصية، فتلك الآية أكدّت ما في هذه الآية. قال تعالى «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» إلی قوله تعالی «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ»(1)، و قال سبحانه «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ»(2)

وأما ما روي من أنها منسوخة نسختها آية الفرائض (3) فالمراد النسخ اللغوي، لا الاصطلاحي - الذي هو تبديل حكم بآخر - فالمراد أن آية الإرث أثبتت لزوم تقسيم المال بين الورثة حتى لو لم تكن هناك وصية لهم، فالحاصل أنه لم يكن تشريع للإرث بل كان عن طريق الوصية فقط، ثم شرع الإرث - بآية المواريث - وذلك بتقسيم المال بين الورثة طبقاً لنصيب كل واحد منهم حتى لو لم تكن وصية، فتأمل .

ويمكن أن يقال إن الوصية - في البداية - كانت واجبة للأبوين وللاقرباء لتقسم التركة بينهم حسب الوصية، ثم جاءت آية الإرث، فنسخت الوجوب في الوصية، وعينت نصيب كل وارث فرضاً من الله .

ص: 268


1- سورة النساء، الآية: 11.
2- سورة النساء، الآية: 12.
3- البرهان ج 2، ص 66 ، عن تفسير العياشي.

تعالى يجري سواء كانت وصية أم لم تكن بل الوصية ترجع إلى الثلث والباقي للورثة حسب الأنصباء.

وقوله (حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أشرف على الموت - فهو مجاز بالمشارفة ، وحضوره بأن تلوح أماراته كالمرض الشديد أو الهرم أو الطوارىء كالحرب ونحوه .

الثاني: قوله تعالى (إن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) .

«الخير» هو كل ما فيه النفع، سواء كان مالاً أم غيره، وحيث إن الوصية عادة تكون بالأموال والترك لا يناسب إلا المال، فلذا تفسير الخير» بالمال .

نعم قد تكون وصايا أخلاقية فهي وعظ وإرشاد في الحقيقة كالوصية بتقوى الله أو الرفق بالأيتام - مثلاً -، وقد تكون وصايا فيما لا يملك كالوصية بأن يقرأ أبناؤه القرآن على قبره مثلاً فهو في الحقيقة رجاء لإيصال الثواب إليه .

نعم قد تكون وصية غير مالية وواجبة التنفيذ إذا كان في حق من حقوق الميت كالوصية بالدفن في مكان معين أو بأن يصلي عليه شخص خاص - يعينه ، والتفصيل موكول إلى الفقه.

وقوله (لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) أي وصية زيادة على الإرث وعلى القول بالنسخ فالمعنى يجب الوصية لهؤلاء، ثم جاءت آية الإرث لتعطيهم الحق في الميراث حتى لو لم يكن وصية .

الثالث : قوله تعالى (بِالْمَعْرُوفِ).

ص: 269

مرّ أن المعروف هو ما لا ينكره العقلاء، وكان مطابقاً للشرع بأن لا يكون فيه جور أو حيف، ومن تطبيقات المعروف :

1 - أن لا يوجب الشحناء الشحناء بين الورثة أو بينهم وبين الموصى لهم، بل بما يوجب الألفة بينهم مع عدم شعور أي منهم بالغَبَن .

2 - أن لا يكون زائداً على الثلث - كما دلت عليه الروايات - وما زاد على الثلث ردّ إلى الورثة إلا أن يتنازلوا عن حقهم

3 - أن لا يكون فيه تفضيل للغني على الفقير .

4 - أن لا يضرّ الوارث، كما لو كانت التركة قليلة وقد روي أن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ نهى مولّى له عن الوصية وكان ماله قليلاً بمقدار سبعمائة درهم، ولعله كان له وارث محتاج (1) .

5 - أن لا تكون الوصية قليلة جداً من وارث ثري، كأن يوصي بإعطاء قرص خبز لفقير مع كونه مالكاً لثروة هائلة، فالمعروف يقتضي أن يوصي بأكثر من ذلك .

6 - أن يكون الموصى له ممن يحسن الوصية له.

7 - أن لا تكون الوصية في أمور تافهة.

والحاصل أن المعروف هو مراعاة الموصى له والموصى به ،والوارث ونحو ذلك، وتشخيص المعروف موكول إلى عرف المتشرعة .

الرابع: قوله (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

أي كتب عليكم الوصية حال كونها حقاً على المتقين، أو مفعول .

ص: 270


1- راجع الجوهر الثمين ج 1، ص 182.

مطلق لفعل محذوف أي أحق حقاً بمعنى أن هذا التشريع هو حق، وعلى المتقين مراعاته .

وقوله (عَلَى الْمُتَّقِينَ) - مع أن الوصية محبذة من كل أحد - لأن المتقين هم المتوقع منهم أن يفعلوا الخير وأن يطلبوا مرضاة الله فهم في حياتهم يعملون بما يرضي الله، وحين وفاتهم يوصون أيضاً بالمعروف الذي فيه رضا الله تعالى .

أو بمعنى أن مراعاة الوصية حق على المتقين، أي يجب عليهم مراعاتها ثم يفرّع عليه (فَمَنُ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، حيث إنّ الوصية غير واجبة على الموصي لكن مراعاتها واجبة على الجميع سواء الوصي أم الورثة أم غيرهم .

أو لأن المتقين حيث كانوا أهل الوفاء فلذا شرفهم الله تعالى بأن جعلها حقاً عليهم - كذا قيل -.

الخامس قوله تعالى ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ یُبَدِلُونَهُ) .

وحيث تكثر الخيانة في الوصية - لموت الموصي ولعدم اطلاع الموصى له ولاستيلاء الورثة على التركة عادة ولغير ذلك - لذا احتاج الأمر إلى التحذير من التغيير في الوصية بعدم تنفيذها أو التصرف فيها زيادة ونقيصة أو صرفها عن الوجهة التي وصى بها الموصي ونحو ذلك .

وفي التقريب : إن كثيراً من الناس لا يوصون، خوفاً من أن يلحقهم إثم التبديل من بعدهم، لأنهم بوصيتهم أعانوا من بدل، ومهدوا الطريق له، كما رأيت ذلك متعارفاً في كلام كثير من الناس، حيث يقولون: من أوصى ألقى ورثته في المعصية، فيكف بعضهم عن الوصية، فأشار

ص: 271

سبحانه إلى كون هذا الحكم غلطاً ، فإن الموصي فعل خيراً، وإنما المغيّر هو الذي يتحمل الإثم (1).

وإنما قال (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) ولم يقل (عليه) لجهات :

1 - للتعميم، حتى يشمل كل من يعلم بالتبديل ولو في المستقبل فإن الإثم ليس خاصاً بالمبدل الأول، بل استمرار التبديل فيه إثم التبديل أيضاً .

2 - وللدلالة على أنه لا إثم على الذي يأكل المال جهلاً - بالإرث أو بالشراء ونحوهما - إذ الغالب أن يبدل الجيل الأول، فتتصرف سائر الأجيال بلا علم .

3- ولا إثم على الموصي، فإنه نال ثواب الوصية، ولا يتحمل وزر المبدّل.

السادس : قوله تعالى ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمَاً) الآية .

لما ذكر الله تعالى حكم التبديل من الحق إلى الباطل وأن المبدّل عليه الإثم بيّن في هذه الآية أنه لا إثم لو كان تبديلاً من باطل إلى حق، لأن الوصية إنما شرعت لأنها حق كما قال (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ، أما إذا كانت باطلاً فلا تشريع لها بل يجب ردّها إلى الحق، لأن اللازم الدوران حول الحق، لا حول الباطل.

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إذا أوصى الرجل بوصية، فلا يحلّ للوصي أن يغيّر وصية يوصاها، بل يمضيها على ما أوصي، إلَّا أن يوصي .

ص: 272


1- تقريب القرآن ج 1 ، ص 216 .

بغير ما أمر الله، فيعصي في الوصية ويظلم، فالموصى إليه جائز له أن يرده إلى الحق (1)

وقوله (خَافَ مِن مُوصٍ)، قد يكون الخوف منه في حال حياته، بأن اطلع الوصي أو الوارث أو غيرهما على الوصية فرأى فيها ظلماً وحيفاً، فهنا يحاول أن يصلح بين الموصي وبين الورثة أو الموصى لهم ، كما نشاهد كثيراً من اختلاف الأبناء مع آبائهم - وهم أحياء - في الوصايا التي يكتبونها، وحينئذٍ درءاً للاختلاف لا بأس بمحاولة الصلح بينهم بإقناع الموصي بتغيير وصيته .

وقد يكون الخوف بعد موت الموصي، فهنا لا بد من حمل (الخوف) على معنى الاطمئنان أي إذا اطمأنَّ الوصي ببطلان الوصية فحينئذ عليه أن يصلح بين الورثة أو بينهم وبين الموصى لهم، وذلك عن طريق إرجاع كل منهم إلى الشرع وعن طريق إقناع بعضهم بالتنازل للبعض الآخر . ويكون سبب التعبير بالخوف باعتبار الاختلاف، أي خاف من حدوث اختلاف بس- بسبب هذه الوصية فنسب الفعل المتعلق بالمسبب - وهو الاختلاف - ، إلى السبب - وهو الوصية ..

قوله (جَنَفًا) الجَنَف هو الميل من الحق إلى الباطل، وأما الحنف فهو العكس ولذا كان إبراهيم حنيفاً ، وجذر الكلمتين هو أن الجنف - بالمعجمة - هو ميلان القدم إلى الخارج، والحنف - بالمهملة - هو

ميلانها إلى الداخل فشُبّه بهما الداخل في الدين والخارج عنه .

والفرق بين الجنف والإثم : .

ص: 273


1- البرهان ،ج 2، ص 71 عن تفسير القمي.

هو أن الجنف) هو الخطأ غير المقصود و (الإثم) هو على جهة العمد، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : والجنف هو الميل إلى بعض ورثته دون بعض والإثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران واتخاذ المسكر» (1) ولعله من التفسير بالمصداق، فمنشأ الميلان إلى بعض الورثة دون بعض هو في التشخيص - غالباً - وعلى كل حال يرد إلى الثلث فقط .

وعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : الجنف أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري أنه يجوز (2).

وعن الإمام الصادق في قوله جَنَا أَوْ إِثْمَام : أنه بمعنى إذا اعتدى في الوصية وزاد على الثلث (3)..

ص: 274


1- البرهان ج 2، ص 71 عن تفسير القمي.
2- مجمع البيان ج 1 ، ص 686 .
3- المصدر ص 687.

فصل في أحكام الصوم

ص: 275

ص: 276

الآيتان 183-184

اشارة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .

بعد الانتهاء من بيان أحكام الموت - من القصاص والوصية - يبدأ هذا الفصل ببيان تشريع آخر من أهم التشريعات وهو الصوم - حيث كف النفس عن بعض الملذات والحاجات ، وإنما أردفها بأحكام الموت، لأن الموت فقدان لأصل الحياة والصوم منع النفس موقتاً عن بعض أهم مقومات الحياة، فقال تعالى :

183 -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب عام لجميع من أظهر الإسلام، والصوم واجب على الجميع، ولكن خص الخطاب بالمؤمنين لأنهم المنتفعون بهذا الخطاب، كما لا يصح إلا منهم (كُتِبَ) أي شُرّع (عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) وهو إمساك عن الأكل والشرب و الجماع ونحوها بكيفية مخصوصة، (كَمَا كُتِبَ) أصل

ص: 277

وجوبه وإن اختلفت في الكيفية (عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) في الشرائع السابقة وعلى الأنبياء الماضين (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي تحصل لكم التقوى بترك المعاصي، أو تحافظون على أنفسكم من النار .

184 - يجب الصوم (أَيَامًا مَّعْدُودَاتٍ) أي في أيام قليلة قابلة للعد - وهي شهر رمضان كما سيُبيّن في الآية اللاحقة - ثم إن الناس على أصناف ثلاثة :

الصنف الأول: الحاضر القادر فهو الذي كتب عليه الصوم في الأيام المعدودة من شهر رمضان.

الصنف الثاني : المريض والمسافر (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا) بمرض يضره الصوم أو يوجب عسره (أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ) أي يجب عليه أن يصوم بعدد تلك الأيام (مَنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) بعد شهر رمضان .

الصنف الثالث: العاجز - كالهرم، وذو العطاش - (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي الصوم فيه مشقة عظيمة عليهم لأنه منتهى طاقتهم ﴿فَدِيَةٌ) أي بدل عن الصوم، وهي (طَعَامُ مِسْكِينٍ) واحد عن كل يوم .

(فَمَن) أي أيُّ شخص من هؤلاء (تَطَوَّعَ خَيْرًا) أي أتى بالطاعة المفروضة عليه - من صيام أو قضاء أو فدية - ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) لأن نفع طاعة الله إلى المطيع، أما الله فهو الغني عن عباده، ﴿وَأَن تَصُومُوا) أي وصيامكم (خَيْرٌ لَكُمْ) لما فيه من الفوائد الكثيرة (إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أما الجاهل فيرى الجانب السلبي فقط - من - من منعه عن

ص: 278

ملذاته - أما العالم فيرى فوائده، وإن لم يكتشفها فإنه على يقين بأن تشريعها ليس لغواً وعبثاً ولا هو يقصد الإضرار، بل فيه المنافع الدنيوية والأخروية .

-----------------------------------

بحوث

الأول: إن الصوم - لما فيه من المنع عن الحاجات والملذات - فهو خلاف ما تريد النفس، لذا احتاج إلى تخفيف وقع الصدمة على النفوس بالتمهيد له وتحبيبه إلى القلوب، فبعد بيان أصل الوجوب بشكل مجمل، مهدت عدة مقدمات :

فأولاً : تمَّ بيان أنه كان مفروضاً على الذين من قبلكم، فإذا ليس هو تشريع جديد بل استمرار لتشريعات سابقة، وإن تمكن أولئك من أداء هذا التكليف، فأنتم أيضاً قادرون عليه، فقال سبحانه (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ).

وثانياً : بيان فائدته قبل بيان تفاصيله في قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وثالثاً : بيان سهولته وقلة مدته فقال (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) .

ورابعاً : بيان الرخصة في تركه في مواطن صعوبته وهي السفر والمرض، وبيان سقوطه إلى بدله على العاجز فقال (فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا...) الآية.

وإضافة قيد (منكم) تأكيد على أن نفس من وجب عليهم هم نفسهم من يسقط عنهم في هذه الحالات، فليس فيه صعوبة بل فيه يسر وسهولة.

بعد ذلك كله تمَّ بيان تفاصيل الوجوب، مع بيان مزايا الصوم ومزايا

ص: 279

شهر الصوم وتأكيد أنه غير واجب على المريض والمسافر، وأنه لا عسر في هذا التشريع بل فيه يسر - لما فيه من الفوائد ..

ثم إن الآيتين تضمنتا ثلاث فوائد للصوم متدرجة :

1 - (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تزداد فيكم ملكة التقوى، أو تحافظون على أنفسكم من النار .

2 - (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ) أي أن إطاعة الله تعالى خير لكم الانسياق وراء ملذات الأكل والشرب ونحوها

3 - ﴿وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم) لما فيه من الفوائد الكثيرة وسيأتي قريباً شرح هذه المقاطع الثلاثة .

الثاني : قوله تعالى (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ).

أصل الصوم كان مفروضاً على الأنبياء صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وعلى بعض الأمم ، لكن تفاصيله كانت تختلف عن تفاصيل الصوم في هذه الأمة - كما أن الصلاة والزكاة كانتا مفروضتين لكن بشكل آخر ، وهذا من الطبيعي، حيث اختلاف الشرائع في تفاصيل بعض الأحكام مع اتفاقها على الأصول.

ويستفاد من الروايات عدة أمور :

1 - شأن التشريع : فعن الإمام الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال : جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فسأله أعلمهم عن مسائل - فكان فيما سأله أنه قال له - لأي شيء فرض الله الصوم على أمتك بالنهار ثلاثين يوماً وفرض الله على الأمم أكثر من ذلك ؟ فقال النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : إن آدم لما أكل من

ص: 280

الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوماً، ففرض الله على ذريته ثلاثين يوماً الجوع والعطش (1).

2 - إن صوم شهر رمضان لم يكن في الأمم السابقة، وإنما كان فريضة على الأنبياء صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وعلى هذه الأمة المرحومة، فعن الإمام الصادق : إنما فرض الله عزّ وجل صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضّل الله به هذه الأمة، وجعل صيامه فرضاً على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وعلى أمته .

3 - كيفية الصوم وما يجب الإمساك عنه ومدته تختلف فيه الأمم وما عليه المسلمون اتباعاً للقرآن والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وبعض الأمور الأخرى من طلوع الفجر إلى الليل .

وأما ما عليه الأمم الأخرى بصوم الوصال - صوم يوم وليلة أو صوم يومين متتابعين مع الليلة المتوسطة ، أو الإمساك عن بعض المآكل والمشارب دون بعض، أو الإمساك عن الأكل والشرب في كل الليالي (2) ، كل ذلك لا يعرف له أصل من الأنبياء بل هي بدع ابتدعوها، ولو فرض أن بعضها كانت من الأنبياء فهي منسوخة بعد الإسلام.

وكذا نسخ الإسلام صوم الصمت - أو الصمت حين الصوم - الذي كان في بعض الشرائع السابقة قال تعالى ﴿فَقُولِی إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَن أُكَلِمَ الْيَوْمَ إِنسِيَّاً) (3)..

ص: 281


1- الوسائل ج 10، ص 241 ، وراجع البرهان ج2، ص72.
2- ذكر في مواهب الرحمن ج 3، ص 23 - 26 بعض تفاصيل صيامهم.
3- سورة مريم، الآية: 26.

الثالث : قوله تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .

مرّ سابقاً أن الترجي الحقيقي يستحيل على الله تعالى، لأن الرجاء إنما هو مع الجهل بما يؤول إليه الأمر ، فلذا لا بد من تأويله مثل :

1 - أن الغرض هو بيان أن الله يحب التقوى فعليكم الاتقاء لتنالوا رضاه.

2 - أو رجاء المكلَّف، فإنه يرجو أن ينال التقوى بالصوم.

3 - أو سلخ (لعل) عن معنى الترجي بدلالتها على التلازم الواقعي، فإن الصوم الصحيح المقبول علة للتقوى، فيكون الإتيان بلعلّ للدلالة على أن التقوى أمر اختياري يمكن تركها، ويمكن الوصول إليها عبر الطاعات كالصوم .

وقوله (تَتَّقُونَ﴾ إما بالمعنى المطلق للتقوى، أي الصوم يوجب ملكة التقوى في النفوس، إذ حينما يشعر الصائم بالجوع والعطش والضعف يتذكر الله تعالى فتصفو روحه وتبتعد عن الشرور، أو بمعنى لعلكم تتقون النار لأن الصوم جنة من النار) (1) كما في الحديث الشريف، فهو كفارة للذنوب - كما سيأتي -.

أو بمعنى أن الصائم حيث يكف نفسه عن أقوى الشهوات - في الطعام والشراب والمباشرة - فإنه أردع لنفسه عن سائر المحرمات.

ومرجع هذه الثلاثة إلى أمر واحد وهو تقوية الإيمان مما يوجب ترك المحرمات والالتزام بالطاعات مما يتسبب في الوقاية من النار . .

ص: 282


1- بحار الأنوار، ج 96 ، ص 256 .

الرابع: قوله تعالى (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ).

في هذا التعبير تسلية للصائم، وبيان أن الصوم لأيام قليلة، وحتى لو تضايق الصائم فإنها أيام تنقضي بسرعة.

وقوله (أَيَّامًا) ظرف ل- (الصيام) أي الصيام في أيام معدودة، أو مفعول لفعل مقدر ، أي صوموا أياماً معدودة.

وقوله (مَعْدُودَاتٍ) بمعنى قليلة، لأن القليل يُحسب، وأما الكثير فهو غير قابل للعد - عادة ..

وتلك الأيام تسعة وعشرون يوماً أو ثلاثون يوماً، وأما ما روي من أن شهر رمضان لا ينقص عن ثلاثين يوماً أبداً فهو مُعرض عنه ومعارض بما هو أقوى منه سنداً وأشهر رواية (1) . وقد ألف الشيخ المفيد رضوان الله عليه رسالته العددية وذكر فيها أسماء نيف وأربعين فقيهاً من أصحاب الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ رووا أن شهر رمضان كسائر الشهور يكون تسعة وعشرين يوماً تارة وثلاثين يوماً أخرى، وقال عنهم هم فقهاء أصحاب أبي جعفر محمد بن علي وأبي عبد الله جعفر بن محمد، وأبي الحسن موسى بن جعفر، وأبي الحسن علي بن موسى، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي الحسن علي بن محمد، وأبي محمد الحسن بن علي، صلوات الله عليهم، والأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذم واحد منهم، وهم أصحاب الأصول المعروفة، والمصنفات المشهورة، وكلهم قد أجمعوا .

ص: 283


1- راجع الروايات في الوسائل ج 10، ص 262 - 274 .

نقلاً وعملاً على أن شهر رمضان يكون تسعة وعشرين يوماً، نقلوا ذلك عن أئمة الهدى عَلَيْهِم السَّلاَمُ، وعرّفوه في عقيدتهم ، واعتمدوه في ديانتهم (1).

والحاصل أن الأخبار الدالة على أن شهر رمضان كسائر الشهور - قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين - أخبار متواترة قد عمل بها الأصحاب، وهي مع ذلك متوافقة مع ظاهر القرآن الكريم - الدال على أن العمل بالأهلة لا بالعدد .

الخامس : قوله تعالى (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرِ ).

هذا بيان للقسم الثاني، وهم من طرأ عليهم مانع المرض أو السفر،فإنه يجوز لهم الإفطار والقضاء بعد شهر رمضان.

والمانع أمران :

1 - المرض، ومن الواضح أن أهل اللسان - الذين نزل القرآن بلغتهم - يفهمون من هذه الكلمة في هذا السياق : المرض المانع عن الصوم أي الذي يكون معه الصوم مضرّاً أو عسراً، لا كل المرض، وقد نقلوا أن البعض أفطر لوجع الإصبع !! وهذا إما من سوء الفهم أو من قلة الورع.

عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله قال سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار كما يجب عليه في السفر في قوله (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) ؟ قال : هو مؤتمن عليه، مفوّض إليه، فإن وجد ضعفاً فليفطر، وإن وجد قوة فليصم ، كان المرض على ما كان (2) . .

ص: 284


1- مصنفات الشيخ المفيد 9: 25.
2- البرهان ج 2، ص 75 وراجع الروايات الأخرى في الوسائل ج 10 ص 174 فما بعد.

2 - السفر - بشروطه المذكورة في الفقه - ، والإفطار عزيمة، أي لا يجوز صوم المسافر وإن صام بطل صومه وعليه القضاء، وذلك لقوله تعالى ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرً) أي القضاء واجب مطلقاً من غير تقييده فسواء صام في السفر أم لم يصم فعليه عدة من أيام أخر، مضافاً إلى تواتر الأخبار عن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من النهي عن الصوم في السفر وتسمية الصائمين فيه بالعصاة (1) .

ثم إن الإفطار في السفر هدية من الله تعالى إلى الأمة، وهو من التيسير عليهم، حيث يشق الصوم في السفر عادة لما يصيب المسافر من العطش والتعب ونحوهما .

وفروع المسألة كثيرة، تطلب من الكتب الفقهية .

السادس : قوله تعالى ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ).

هذا بيان للقسم الثالث من الناس وهم من يعجزون عن الصوم لهرم أو عُطاش ونحوهما، فقد رُفع عنهم الصوم إلى بدله وهو إطعام مسكين عن كل يوم .

وقوله (يُطِيقُونَهُ) أي يتمكنون منه بمشقة شديدة، وهذا من منة الله على هذه الأمة حيث رفع حكم الوجوب عمّن يشق عليه مشقة شديدة، مع أنه كان يجوز عقلاً إلزامهم بهذا التكليف، وذلك لقدرتهم عليه إذ القدرة قد تكون عقلية وهذه شرط في التكليف، فيقبح تكليف العاجز - الذي لا يتمكن .. وقد تكون قدرة عرفية - بمعنى عدم المشقة الشديدة - فهذه ليست شرطاً عقليّاً للتكليف فلا قبح في تكليفه، لكن الله تعالى ومنة على .

ص: 285


1- البرهان ج 2، ص 74.

المسلمين شرّع القدرة العرفية كشرط للتكاليف، فكان يمكن أمر الشيخ الهرم بالصيام - حتى وإن أدّى إلى موته - إذ هو قادر عقلاً على الإمساك، لكن أسقط الله الصيام عنه منة ورحمة، وقد لا يُرفع التكليف لمصلحة أهم كما في الجهاد حيث يجب - على من استجمع شروطه - حتى وإن كان فيه مشقة وحرج عظيمان وأدى إلى قتله، ففي الجهاد لم تشترط القدرة العرفية بل يكفي في وجوبه القدرة العقلية والحاصل أنّ (يُطِيقُونَهُ) بمعنى صرف تمام الطاقة في التكليف مما يلازم المشقة الشديدة.

وقوله (فِدْيَةٌ) من (ف د ي) بمعنى البدل والعوض، فبدلاً الصوم شُرّع عليهم إطعام مسكين عن كل يوم، وفي الروايات تحديد هذا الطعام ب- (مد) وهو ما يعادل (750) غراماً، من أي شيء يكون طعاماً، كالحنطة فإنها من أوسط الطعام.

و(المسكين) يراد به مطلق ،الفقير وقد مرّ أن لفظي (الفقير والمسكين) إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا .

السابع : قوله تعالى (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) .

الظاهر أن هذا بيان لعلة ثانية لتشريع الصوم، بعد قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ - الذي كان علة أولى، وحاصله أن إطاعة الله تعالى هي خير

لكم ، إذ الطاعة هي طريق إلى الرُّقي والكمال والفلاح ، قال تعالى (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (1) ، وقال (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (2) ، وقال (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ 1.

ص: 286


1- سورة النور، الآية: 52 .
2- سورة الأحزاب الآية: 71.

تُرْحَمُونَ ) (1) ، وغيرها ويمكن أن يرجع التطوع إلى الأمرين - الصوم والفدية - بأن يراد من (خَيْرًا) كلاهما .

وقد مرّ أن (تَطَوَّعَ) هو فعل الطاعة ولا دلالة للكلمة على الاستحباب فراجع الآية 158.

وقالت العامة التطوع هو الصوم في السفر - مخيراً بينه وبين الإفطار - لكن ذلك خلاف السياق للفاصل بين هذه الجملة وبين (عَلَى سَفَرٍ)، ولتخصيصه بالمسافر دون المريض مع أنهما في جملة واحدة هذا مضافاً إلى تعارضه مع المتواتر من روايات أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ، مع تعارض روايات العامة واضطرابها في صوم المسافر كروايتهم ليس من البر الصوم في السفر) (2) و (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر) (3) وأن رسول الله بلغه أن أُناساً صاموا في السفر فقال (أولئك العصاة)(4).

الثامن : قوله تعالى ﴿وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

وهذا بيان للعلة الثالثة لتشريع الصوم، وهو أن فيه فوائد جمة للصائم دينية واجتماعية ونفسية وجسمية وغيرها ، فعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتساباً، إلَّا أوجب الله له سبع خصال، أولها :

يذوب الحرام في جسده، والثانية : يقرب من رحمة الله والثالثة يكون قد كفر خطيئة أبيه آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، والرابعة : يُهوّن عليه سكرات الموت .

ص: 287


1- سورة آل عمران الآية: 132.
2- رواه البخاري، ج 7، ص 256.
3- رواه ابن ماجه ، ج 5 ص 348 ، والنسائي، ج 7، ص 470 .
4- رواه مسلم، ج 5 ، ص 436 .

والخامسة : أمان من الجوع والعطش يوم القيامة، والسادسة : يعطيه الله براءة من النار ، والسابعة : يطعمه الله من ثمرات الجنة (1) .

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك أن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير، لأن كلّما أراد شيئاً قدر عليه فأراد الله أن يسوي بين خلقه، وأن يذيق الغني مس الجوع والألم، ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع (2).

وعن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنما أمروا بالصوم لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش، فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً على ما أصابه من الجوع والعطش، فيستوجب الثواب، مع ما فيه من الإمساك عن الشهوات وليكون ذلك واعظاً لهم في العاجل، ورايضاً لهم على أداء ما كلّفهم، ودليلاً لهم في الآجل، وليعرفوا شدة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا فيؤدوا إليهم ما افترض الله لهم في أموالهم (3)..

ص: 288


1- أمالي الصدوق ج 1، ص 161 وعنه في البرهان ج 2، ص 72 .
2- الوسائل ج 10، ص8.
3- وسائل الشيعة ج 10 ص 9 عن علل الشرائع وعيون الأخبار.

الآية 185

اشارة

«شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)».

185 - الأيام المعدودة هي (شَهْرُ رَمَضَانَ) وهو شهر عظيم يستوجب شكر الله فيه بالصوم فهو الشهر (اَلَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ) فأي نعمة أعظم من الهداية فلا بد من شكرها حال كون القرآن (هُدًى لِلنَّاسِ) أنزل لهدايتهم أجمع ، (وَ) ليس غامضاً بل حال كونه (بَيِّنَاتِ) دلائل واضحة (مِنَ الْهُدَى) كدلائل التوحيد، (وَالْفُرْقَانِ) الفارق بين الحق والباطل كالحلال والحرام، (فَمَن شَهِدَ) أي حضر ولم يكن مسافراً (مِنكُمُ الشَّهْرَ) أي في الشهر (فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ) بعدد ما أفطر يقضي (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَّ) وإنما شُرّع الإفطار للمريض والمسافر إذ (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) السهولة ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الصعوبة، (وَ) إنما فرض القضاء (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) شهراً كاملاً

ص: 289

(وَ)حيث قد تبيّن أن القرآن نزل في شهر رمضان فالصوم فيه (لِتُكَبِرُوا اللَّهَ) وتعظموه بالصوم (عَلَى مَا هَدَائُكُمْ) ومن مصاديق التكبير هو التكبيرات في ليلة العيد ويومه، (وَلَعَلَكُمْ) بصومكم (تَشْكُرُون) الله على نعمة الهداية.

--------------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ).

(رمضان) من الرمض، وهو شدة وقوع الشمس على الرمل وغيره، قيل إن العرب لما أرادوا تسمية الشهور سمّوها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافقت رمضان أيام رمض الحر (1).

ثم أقرّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هذه التسمية ولم يغيّرها - مع أنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كثيراً من الأسماء ، إذ تطابقت التسمية مع واقع هذا الشهر، فعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : سُمي بذلك لأنه يرمض الذنوب (2) ، ولأن رمضان من أسماء الله تعالى - على ما روي (3) - فيكون معنى شهر رمضان شهر الله تعالى ،كما ورد هذا في أحاديث كثيرة ومنها ما رُوي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أنه قال : شعبان ،شهري، وشهر رمضان شهر الله عزّ وجل(4).

وقوله (شَهْرُ رَمَضانَ) - بالرفع - إما خبر لمبتدأ محذوف يستفاد من

ص: 290


1- راجع مجمع البيان ج 2، ص 17.
2- البحار ج 55 ، ص 341 عن مجمع البيان.
3- راجع البحار ج 93 ص 376 - 377 ، والبرهان ج 2، ص 79 عن الكافي.
4- البحار، ج 93، ص 356 .

الكلام، أي الأيام المعدودات شهر رمضان، أو مبتدأ وخبره (الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ) ، أو مبتدأ و(الَّذِى)... صفة والخبر ﴿فَمَن شَهِدَ مِنْكُمْ...) ، وقيل غير ذلك .

ثم اعلم أنه وردت روايات متعددة على أن أول السنة هو شهر ،رمضان فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ورأس السنة شهر رمضان (1) . وعنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ : فغرة الشهور شهر الله عز وجل وهو شهر رمضان (2).

وعنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ليلة القدر هي أول السنة وهي آخرها (3).

قال العلامة المجلسي رضوان الله عليه: «غرّه الشهور» أي أولها، قال في النهاية غرّة كل شيء ،أوله، وقد ورد في الأخبار أن أول السنة شهر رمضان؛ أو المراد بها أفضلها وأكملها، كما قال في النهاية كل شيء ترفع قيمته فهو غُرّة ... والأول أظهر .

والمشهور بين العرب أن أول سنتهم المحرّم، وهذه الأمور تختلف بالاعتبارات، فيمكن أن يكون أول السنة الشرعية شهر رمضان - ولهذا ابتدأ الشيخ به في المصباحين ، وأول السنة العرفية المحرّم، وأول سنة التقديرات ليلة القدر وأول سنة جواز الأكل والشرب شهر شوال، كما روى الصدوق في العلل بإسناده إلى الفضل بن شاذان في علة صلاة العيد، لأنه أول يوم من السنة يحلّ فيه الأكل والشرب، لأن أول شهور السنة عند أهل الحق شهر رمضان وقال في علة اختصاص شهر رمضان بالصوم وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيها يفرق كل أمر .

ص: 291


1- التهذيب ج 1، ص 446 .
2- راجع البحار ج 55 ، ص 376 عن الكافي والتهذيب.
3- الكافي ج 4، ص 160.

حكيم وهو رأس السنة، ويقدّر فيها ما يكون في السنة من خير أو شر، أو مضرة أو منفعة، أو رزق أو أجل ، ولذلك سميت ليلة القدر (1).

ونقل في البحار عن السيد ابن طاوس كلاماً محصله : إن الروايات مختلفة في أن أول السنة المحرّم أو شهر رمضان، ولعل شهر الصيام أول العام في عبادات الإسلام والمحرّم أول السنة في غير ذلك من التواريخ ومهام الأنام . .. الخ (2)

.

الثاني : قوله تعالى ( الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْانُ) .

الغرض هو بيان عظمة هذا الشهر، حيث نزل القرآن وهو لهداية البشرية فيه فلا بد من شكر هذه النعمة العظيمة وذلك بالصوم.

وقد مرّ في الآية (90) أن (أنزل ) و (نزّل) و (نزل به بمعنى واحد وقول بعضهم إن الإنزال) هو النزول دفعة واحدة، و(التنزيل) هو بالتدريج لا شاهد عليه لا ، من اللغة ولا من الاستعمال القرآني، بل استعمل كلا البابين لكلا المعنيين فعن لسان العرب) وتنزّله، وأنزله ونزّله بمعنى قال سيبويه : وكان أبو عمرو يفرّق بين نزّلت وأنزلت ولم يذكر وجه الفرق ... إلخ (3) وكذا في القرآن استعمل كلا البابين في كلا المعنيين في موارد كثيرة جداً فراجع المعجم المفهرس مادة (نزل).

ومن أمثلته في النزول الدفعي : قال تعالى «قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)» (4) وقال : (وَلَوْ أَنزَلْنَا 5

ص: 292


1- بحار الأنوار ج 55 ، ص 376 - 377 .
2- راجع تفصيل كلامه في الإقبال ص 4 ، وعنه في البحار ج 55 ، ص 377 - 378.
3- لسان العرب ج 11، ص 656 ، عنه مناهج البيان ج 2، ص 119 .
4- سورة الإسراء، الآية: 95

مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ) (1) فإن نزول الملك ليس تدريجياً ولكنه دفعي ومع ذلك استعمل فيه التنزيل في الآية الأولى، والإنزال في الآية الثانية .

وفي النزول التدريجي : قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ (2) ، وقال : ﴿وَنَزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ، جَنَّاتِ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (3).

نعم دلت الروايات على أن للقرآن نزولين، تدريجي وبالجملة.

أما نزوله جملة واحدة فهو نزوله إلى البيت المعمور أولاً، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم نزل في طول عشرين سنة ... وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان (4).

وأما الإشكال بأنَّه ما هي الحكمة في نزوله إلى البيت المعمور ؟!! ، فهو إشكال ،ضعيف، فإنَّا نجهل حكمة أكثر أفعال الله تعالى، وجهلنا لا يكون مبرراً لرد الروايات، بل لعل من الحكمة هو تعظيم أمر القرآن وتفخيم شأنه أو لغير ذلك ثم نزوله جملة واحدة على قلب النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في ليلة القدر، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : أعطاه الله القرآن في شهر رمضان، وكان لا يبلغه إلَّا في وقت استحقاق الخطاب، ولا يؤديه إلا في وقت أمر أو نهي ، فهبط جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالوحي فبلغ ما يؤمر به، وقوله (لاَ تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (5)..

ص: 293


1- سورة الأنعام، الآية: 8.
2- سورة البقرة، الآية: 22.
3- سورة ق الآية: 9.
4- البرهان ج 2، ص 78 .
5- البحار ج 89، ص38 . والآية في سورة القيامة، الآية: 18.

وأما الإشكال في فائدة نزوله على قلب الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم مع عدم كونه مأموراً بتبليغه في بداية البعثة ، فهو أضعف من الإشكال السابق، إذ عدم معرفتنا بالفائدة غير ضائر كما أنه لعل الحكمة من ذلك هو كمال الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالعلم والمعرفة بالإلهية.

وقيل معنى (الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ) هو ابتداء نزول القرآن فيه، فيكون المبعث في شهر رمضان.

ولا يصح هذا لاتفاق الإمامية على أن البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب و به وردت روایات مستفيضة، منها ما عن الإمام الصادق : لا تدع صيام يوم سبعة وعشرين من رجب، فإنه اليوم الذي نزلت فيه النبوة على محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (1).

فتحصل أن أول البعثة كانت في شهر رجب ونزلت فيه آيات من القرآن، ثم في شهر رمضان في ليلة القدر نزل القرآن كله على قلب رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، وكان قبل ذلك قد نزل كله إلى البيت المعمور ، ثم نزل نجوماً وبالمناسبات مرّة أخرى ليبلغه الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم إلى الناس، قال تعالى «وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)» (2). ، وقال سبحانه وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا

لَوْلَا نُزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةَ وَاحِدَةُ كَذَلِكَ لِنُثَبِتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرتيلاً ) (3).

الثالث : قوله تعالى ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).

ليس في الآية تكرار للهدى، بل المراد أمران : 2

ص: 294


1- البحار ج 18، ص 189 عن الكافي.
2- سورة الإسراء، الآية: 106.
3- سورة الفرقان الآية: 32

1 - إن الغرض من إنزال القرآن هو هداية الناس، فلذا قال تعالى (هُدًى لِلنَّاسِ).

2 - إن هذا القرآن ليس أمراً غامضاً بل هدايته واضحة، وهو فارق بين الحق والباطل بوضوح فإن من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى الهداية، وفارق إذا التبس الحق بالباطل، ولذا قال تعالى ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) ، وهذا نظير قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ يَسَرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (1) ، وذلك لأن القرآن شامخ علي قال تعالى ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌ حَكِيمُ) (2) ولكن الله تعالى يسره بأن جعل ظاهره قابلاً للفهم لأهل ،اللسان، وهذا أيضاً من معاجز ،القرآن قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ظاهره أنيق وباطنه عميق (3) وقال تعالى ﴿وَقُرْءَانِ مُّبِينٍ) (4) وقال تعالى (إِنَّا أَنزَلْناهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (5) ، وقال (قُرءَاناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (6) .

وقيل : (هُدًى لِلنَّاسِ) من الضلالة، و(وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى) بيان الحلال والحرام وقيل : الأول العلم بالتكليف، والثاني إخبار الأنبياء ونحوه (7). وفي الجوهر الثمين : أنزل وهو هداية للناس بإعجازه، وآيات واضحة مما يهدي إلى الحق ويفرّق بينه وبين الباطل (8).

وقوله (بَيِّنَاتِ) البيّنة : الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة - .

ص: 295


1- سورة القمر، الآية: 17 .
2- سورة الزخرف، الآية: 4.
3- شرح نهج البلاغة، ج 1، ص288.
4- سورة الحجر، الآية: 1.
5- سورة يوسف، الآية: 2.
6- سورة الزمر، الآية: 28
7- نقله مجمع البيان ج 2، ص 21 - بتصرف .
8- الجوهر الثمين ج1، ص187.

كما في المفردات (1) - ، ولذا قيل هي الدلالة الواضحة الكافية عقلاً لإتمام الحجة.

وقوله (وَالْفُرْقَانِ) مادة (ف ر ق) تدل على تمييز بين شيئين، وسُمي

القرآن فرقاناً :

1 - لأنه فَرَقَ به بين الحق والباطل.

2 - كما أنه فرق بين الحلال والحرام ببيان كلّ منهما .

3- كما أنه نزل متفرقاً وبالتدريج.

وهذه المعاني الثلاثة كلها ترجع إلى معنى واحد، إذ القرآن كله فرقان وكلمة الفصل بين الحق والباطل، ولكن حيث اشتمل على آيات متشابهة كما قال تعالى: ﴿وَأُخَرُ مُتَشَبِهَاتٌ) (2) فقد يخفى الأمر على غير الراسخين في العلم ، فلهؤلاء يكون الفرقان الآيات المحكمة، ولذا روي عن الإمام الصادق القرآن جملة الكتاب والفرقان : هو المحكم الواجب العمل به (3)، وفي الصحيفة السجادية : وفرقاناً فرقت به بين حلالك وحرامك (4) ، وسئل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : لم سمي الفرقان فرقاناً ؟

فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : لأنه متفرق الآيات والسور في غير الألواح وغيره من الصحف والتوراة والإنجيل والزبور نزلت كلّها في الألواح والورق (5) .

وهذه الثلاثة - المحكم والفرق بين الحلال والحرام، ونزوله نجوماً كلها ترجع إلى أنه الفارق بين الحق والباطل، وذلك عبر الآيات .

ص: 296


1- المفردات ص 157 .
2- سورة آل عمران الآية: 7.
3- البرهان ،ج 2، ص 79 عن الكافي.
4- الصحيفة السجادية الدعاء الثاني والأربعون
5- العلل ص 470 وعنه من مناهج البيان ج 2، ص 115 .

المحكمات عن طريق بيان الحلال والحرام، وتدريجية نزوله لتثبيت الفؤاد وتيسير قبوله وفهمه والعمل به.

الرابع: قوله تعالى (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهَرَ فَلْيَصُمْدُ).

أي من كان حاضراً ولم يكن مسافراً ، إذ المسافر غائب وليس بحاضر ، و(الشَّهْرَ) ظرف ، فالمعنى فمن حضر في الشهر - سواء حضر كله أم بعضه ، وقوله (فَلْيَصُمّةُ) أي يجب عليه صوم الشهر، وهذا مجاز كقولهم (صائم ليله، قائم نهاره، لأن الصيام والقيام يكونان في الليل والنهار فلذا نسب الفعل إليهما، وكذا الصوم يكون في الشهر لذا كان الشهر مفعولاً به وقيل : الضمير منصوب بالظرف توسعاً أي (ليصم فيه).

وحيث إن الآية في صدد بيان حكم الحاضر وحكم المسافر، فليس لها دلالة على حرمة السفر في الشهر، نعم يكره السفر لغرض غير عقلاني، أما لغرض عقلاني كالحج والعمرة وإعانة المؤمن أو حفظ مال ونحو ذلك فلا بأس به، ويحرم إذا كان بغرض المعصية فلا إفطار ولا تقصير فيه عقوبة، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : فليس للرجل إذا دخل شهر رمضان أن يخرج إلا في حج أو عمرة أو مال يخاف تلفه أو أخ يخاف هلاكه، وليس له أن يخرج في إتلاف مال أخيه، فإذا مضت ليلة ثلاث وعشرين فليخرج حيث يشاء (1) . وفي حديث آخر عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ : يقيم أفضل، إلَّا أن يكون له حاجة لا بد له من الخروج فيها أو يتخوف على ماله (2) .

ولعل ذلك لأن لشهر رمضان فضيلة لا تدرك في غيره، فلا يعادل ثواب القضاء ثواب صيامه، كما أن الصيام فيه تمهيد لإدراك ليلة القدر .

ص: 297


1- وسائل الشيعة ج 10، ص 183.
2- الوسائل ج 10، ص181.

فيكون قد أمضى ثلاثة وعشرين يوماً في طاعة الله وبذلك يستحق تقديراً حسناً يتفضل الله به عليه في ليلة القدر فإذا انقضت ليلة القدر وقد قدّر الله فيها ما قدر يمكنه السفر والإفطار. فتأمل.

الخامس : قوله تعالى ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَامٍ أُخَرَ) .

هذا ليس تكراراً لما في الآية السابقة، وذلك لاختلاف الغرض في الآيتين:

ففي الآية السابقة كان الغرض هو بيان حكم أقسام الناس - من المريض والمسافر وغيرهما ، وفي هذه الآية الغرض هو بيان علة رفع الصوم عن المريض والمسافر .

وقيل : الأول : للإخبار عن التشريع تمهيداً لقبول النفوس له، والثاني إنشاؤه . وهذا خلاف الظاهر، بل الأول للإنشاء أيضاً، ولكن الإنشاءين بغرضين مختلفين ، وقد مرّ بحث عدم التكرار في القرآن في الآية 92 فراجع.

السادس قوله تعالى ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

هذا علة تشريع الإفطار للمسافر والمريض، وهو أمر عام وترخيص الإفطار لهما من المصاديق، فإن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم قال : بعثت بالشريعة السهلة السمحة - كما في الرواية (1) - وقال تعالى ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ .

ص: 298


1- فروع الكافي، ج 5 ، ص 494 .

وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (1) ، وقال سبحانه (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2)، وإرادة الله اليُسر تكويني وتشريعي.

أما التكويني فهو أنه تعالى وفّر للإنسان كل مستلزمات الحياة المطمئنة - من المواد الأولية والألفة الاجتماعية وغيرهما - قال تعالى (هُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (3) فالأرض مذلّلة ومسخرة لمنافع الناس، وقال تعالى ﴿وَجَعَلَ بيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (4).

وأما اليُسر التشريعي، فكل أحكام الإسلام جعلت لمصلحة الناس ليعيشوا أحسن حياة، ملاحظة الحالات الطارئة الفردية فلذا شرعت الأحكام الثانوية الرافعة للتكاليف الأولية كقانون (لا ضرر ولا حرج ونحوهما ، فكل حكم أوجب ضرراً شخصياً يرفع، كما مر في إباحة أكل الميتة ونحوها للمضطر .

فالحاصل أن أصل التشريع يراعى فيه الحالة العامة النوعية، مع إعطاء مجال للحالات الطارئة الفردية برفع تلك الأحكام.

وللمسألة تفصيل تطلب من كتب الأصول والفقه .

وقد أطلق اليسر والعسر على سببهما ، فما كان سبباً لليسر يُسر، وما كان سبباً للعسر عُسر، ولذا أُوّل اليسر في بعض الروايات بالإمام علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ، والعسر بأعدائه (5) لأنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ القرآن الناطق المطبق للإسلام ففي .

ص: 299


1- سورة الأعراف الآية: 157
2- سورة الحج، الآية: 78.
3- سورة الملك الآية: 15.
4- سورة الروم، الآية: 21
5- البرهان ج 2 ، ص 84 عن مناقب ابن شهر آشوب، وتفسير العياشي.

اتباعه اليُسر ، عکس ،أعدائه، وهذا من التأويل، أو بيان للمصداق ببيان سبب اليسر أو العسر.

ثم إن قوله (وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) تأكيد لقوله (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ) لأنه إذا أراد اليسر فهو لا يريد العسر قطعاً وإنما اقتضى التأكيد.

السابع : قوله تعالى ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ).

هذا علّة لتشريع القضاء، أي إنما يلزم عدة من أيام أخر، لأن اللازم على كل مسلم صيام شهر كامل في كل سنة، إذ للصوم فوائد لا يدركها إلَّا من أكمل ،العدة فإن لم يتمكن في الشهر ففي غيره .

ولعلّ البعض تسوّل له نفسه بإمراضها أو الإفطار في مرض لا يضر به الصوم، أو يسافر فراراً من الصوم، فإن تشريع القضاء يمنع من ذلك كلّه ، فيعلم أن عليه أن يصوم على كل حال في شهر رمضان أو في غيره، فيكون هذا أدعى له للالتزام بصيامه، لأن الصيام في شهر رمضان - حيث الجو العام الإمساك - أسهل من الصيام في غيره، لما في الجو العام من التأثير إيجاباً وسلباً .

الثامن: قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ).

هذا علة لأصل تشريع الصوم، أي حيث نزل القرآن في شهر رمضان لهدايتكم وتضمن الهدى والفرقان فإن الصوم فيه تعظيم الله تعالى في نفوسكم، لأن الإنسان يعايش الجوع والعطش ونحوهما وسائر الأجواء الرمضانية لمدة شهر كامل امتثالاً لأمر الله تعالى، فهذا مما يعظم الله في نفسه حيث إنه ممتثل لأمر الله طيلة شهر كامل عكس سائر العبادات التي هي لأوقات محدودة، فالصلاة يعايشها الإنسان لدقائق ثم ينصرف إلى

ص: 300

أعماله ويغفل عنها ، وفائدة الصلاة وإن كانت أعظم من فائدة الصوم، إلاّ أن مدة تعظيم الله في الصوم أطول فتأمل.

وفي عدة من الروايات تأويل التكبير بتكبيرات ليلة العيد ويومه ، فعن سعيد النقاش قال : قال لي أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ : أما إن في ليلة الفطر تكبيراً، ولكنه ،مسنون :قال قلت وأين هو ؟ قال في ليلة الفطر : في المغرب والعشاء الآخرة، وفي صلاة الفجر، وفي صلاة العيد، ثم يقطع . قال : قلت : كيف أقول؟ قال : تقول: «الله أكبر، الله أكبر ، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا ، وهو قول الله عزّ وجل (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) يعني الصيام (وَلِتُكَبِرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) (1) .

ولعل ذلك بيان لأحد مصاديق تكبير الله تعالى، فالصوم هو تعظيم الله تعالى ولا بد أن ينتهي بإظهار تكبيره باللسان في ليلة العيد ويومه، فتأمل.

وفي المحاسن: «التكبير التعظيم والهداية الولاية» (2) . ولعل ذلك لأن طريق الهداية منحصر في الولاية فمن لا ولاية له لا هداية له، بل من علائم النفاق بغض الإمام أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وقد مرّ بعض الكلام .

التاسع : قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

عِلة أخرى لوجوب الصوم فإنه سبب لأن يشكر الإنسان خالقه على هدايته بإنزال الكتاب، فالصوم نعمة من الله تستحق الشكر لما في الصوم من صلاح الدين والدنيا، فهو يذكر الإنسان بعظيم نعمه، فإذا شعر .

ص: 301


1- البرهان ،ج 2، ص 84 - 85 عن الكافي ج 4، ص 166 .
2- المصدر عن المحاسن ص 142 .

بالجوع والعطش ومنعه عن جميع ملذاته تذكر الله الواهب للنعم التي تلبي حوائجه، وقد يغفل الإنسان في الحالات العادية عن النعم فلا يؤدي حقها بالشكر، وفي الحديث : الصحة والأمان نعمتان مجهولتان لا يعرفهما إلّا من فقدهما (1). فلا يعرف قيمة الأمان إلَّا الخائف غير الآمن، ولا يعرف قيمة الصحة إلا المريض، ولا يعرف نعمة الطعام والشراب إلَّا الجائع العطشان، وكذا سائر النعم، فهذا الإمساك الموقت - المعبر عنه بالصوم - سبب لشكر أنعم الله تعالى.

ثم إن قوله (لِتُكَبِرُوا اللَّهَ) بدون لعل، وقوله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) مع لعلّ، لأجل أن نفس الصوم بحد ذاته تعظيم الله تعالى، فالتكبير متحقق بالصوم فلا معنى ل- ( لعلّ)، بخلاف الشكر، فإن الصوم سبب للشكر، فقد لا يتحقق وقد يتحقق، فلذا قال تعالى ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .

:وقيل (لِتُكَبِرُواْ) علة لتعليم كيفية القضاء - أي لتعظموه بالثناء عليه على هدايتكم إلى العلم بكيفية العمل أو على الذي هداكم إليه و(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة اليسر وإسقاط الصوم، ففيه لف ونشر، أو الكل معطوف على علة مقدرة ، مثل : ليسهل عليكم ولتكملوا ...(2)..

ص: 302


1- مسند الرضا، ص 120 .
2- راجع الجوهر الثمين ج 1، ص188.

الآية -186

اشارة

(وَ إذا سأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).

186 - وحيث علمتم أن الله يريد هدايتكم فادعوه، ولذا قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ) يا رسول اللّه (عِبَادِي) المؤمنين (عَنّيِ)

فقالوا: هل قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ (ف_) قل لهم : إنّي قَرِيبٌ﴾ منهم أحيط به- علماً وقدرة، فلذا (أُجِيبُ دَعْوَةَ) أي دعاء (الدَّاعِ) الذي يدعوني (إذَا دَعَانِ) و«إذا» ظرف أي أجيبه في نفس وقت الدعاء بلا فاصل وحيث علموا شدة لطف الله بهم (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي فليجيبوني إذا دعوتهم للطاعة والعبادة كما أجيبهم حين دعائهم، (وَلْيُؤْمِنُواْ بِى) لأنهم بفطرتهم يعلمون أن لا غير الله، وكذا عليهم أن يصدقوا بقدرته على الإجابة (لَعَلَّهُمْ) بدعائهم واستجابتهم وإيمانهم (يَرْشُدُونَ ) أي يهتدون إلى طريق الرشد - وهو العمل عن اعتقاد صحیح -.

---------------------------------

بحوث

الأول : لما ذكر الله تعالى أحكام شهر رمضان، وبيّن أنه شهر أُنزل

ص: 303

فيه القرآن لهداية الناس - بما تضمنه من بينات من الهدى والفرقان ، وبيّن أنه تعالى يريد اليسر بعباده لا العسر وأنه يريد شكرهم، بعد كل ذلك خص هذه الآية بالدعاء لأنه من أقوى وسائل الهداية، إذ كل هداية منه تعالى كما قال (إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ) (1) فلا ينفع من أضلّه الله - لا شهر رمضان ولا القرآن - قال سبحانه ﴿وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (2) ، إذاً لا بدّ في الانتفاع بهما من أن يهدي الله تعالى الإنسان، وهو تعالى لا يهدي إلا من كان محلّاً قابلاً للهداية - كما مرّ تفصيل ذلك - وهذا يتطلب جهداً من الإنسان نفسه، ومن أقوى وسائله الدعاء الذي هو مخ العبادة، حيث إن حقيقة الدعاء هي الخضوع الله تعالى مع الانقطاع عما سواه.

وفي التقريب : إن من عادة القرآن الحكيم أن يُخلل الأحكام نفحة موجهة نحو الله تعالى ليرتبط الحكم بالخالق وليشع في النفس النشاط والعزيمة، أتت آية استجابة الدعاء هنا، بعد طول من بيان الأحكام، ثم يأتي بعدة آيات تربط بالأحكام ثانية بالإضافة إلى أن استجابة الدعاء تناسب شهر رمضان فإنه شهر دعاء وضرا اعة (3).

وروي أنهم سألوا رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية .

كما أن الآية أخبرت عن الإجابة، مع بيان سببها، إذ :

1 - الداعي هو من عباد الله - بالمعنى الذي سنذكره ، وهذا موجب لقربه إليه تعالى . .

ص: 304


1- سورة القصص، الآية: 56 .
2- سورة الإسراء، الآية: 82
3- تقريب القرآن ج 1، ص220.

2 - إن قرب الله - بمعنى إحاطته علماً وقدرة - هي سبب الإجابة بشكل تام وكامل بحيث إنه عالم بدعائهم قادر على إجابتهم فلذا يستجيب لهم (1).

الثاني: قوله تعالى ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ).

هذه الآية هي الآية الوحيدة في القرآن مصدّرة بقوله ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ). بصيغة الإنشاء مع كون الفعل ماضياً، عكس سائر آيات السؤال التي هي إخبار عن سؤالهم مع بيان جواب الاستفهام كقوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ﴾ (2) ، ولعل ذلك لأن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم واسطة الفيض الإلهي، قال تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَر لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (3) وقال (قَالُوا يَأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئينَ ) (4) .

كما تتضمن الآية بيان لزوم أن تكون معرفة الله تعالى عن طريق الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فهم يسألون الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم عن الله - ذاته أو صفاته - والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يجيبهم بما بما علمه الله تعالى فمن أخذ علوم الدين عن غير طريق الوحي - في العقائد والأحكام - فقد ضل وأضلّ، وفي الحديث : كل ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل (5) .

الثالث : قوله تعالى (عِبَادِى).

لكلمة (العبد) جموع كثيرة منها «العباد» و «العبيد»، ويستعمل العباد - .

ص: 305


1- راجع الميزان ج 2، ص 33.
2- سورة البقرة، الآية: 189
3- سورة النساء، الآية: 64.
4- سورة يوسف، الآية: 97
5- بصائر الدرجات، ح 21 .

غالباً - في المطيعين وفي غيرهم قليلاً، عكس العبيد حيث يستعمل في العصاة - غالباً - ، قال تعالى ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (1)، و قال (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(2).

و ذلك لأن (العبد) يطلق على أنواع (3) :

1 - العبد بالذات والمالك بالذات هو الله تعالى لأنه أوجد الخلق ،قال تعالى (إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّآ ءَاتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا)(4).

2 - الرقيق، هو الذي يباع ويشترى قال تعالى (عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) (5) .

3 - المطيع لسيده وهو المطيع الله تعالى المخلص له قال تعالى (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِرُونَهَا تَفْجِيراً)(6).

4 - التابع للدنيا وأعراضها فهو عبد لها متخذاً هواه إلهه .

والسياق في هذه الآية يدل على أن المراد بقوله (عبادي) هم المطيعون الله سبحانه، فهؤلاء إذا سألوك عني فقل لهم إني قريب إليهم أجيب دعوتهم .

الرابع : قوله تعالى ﴿عَنٍّي)..

ص: 306


1- سورة الفرقان الآية: 63.
2- سورة الحج، الآية: 10.
3- راجع مفردات الراغب ص 542.
4- سورة مريم، الآية: 93
5- سورة النحل، الآية 75
6- سورة الإنسان الآية: 6.

مطلق، يدل على أن السؤال قد يكون عن الله نفسه - بمعنى أنهم يريدون معرفته ، وقد يكون سؤالاً عن النسبة بينهم وبينه تعالى .

فإن كان السؤال عن الله ، فالجواب أنه سبحانه قريب إلى عباده فيعرفونه بفطرتهم وبعقلهم .

وإن كان السؤال عن النسبة ، فالجواب أنها هيمنته عليهم وإحاطته بهم بعلمه وقدرته ولذا يجيب الداعي إذا دعاه.

ثم إن الآية تضمنت ضمير المتكلم (لوحده) سبع مرات (عبادي) (عني) (فإني) ( أُجيب) (دعان) (لي) (بي)، وفي ذلك زيادة لطف منه تعالى لعباده، حيث تحبب إليهم بأقصى درجة، ووصف نفسه بالقرب إليهم ، وأنه يقضي حاجتهم فوراً، وأن ذلك طريق إلى رشدهم مما فيه مصلحتهم.

الخامس : قوله تعالى ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ)

من الواضح أن القرب هنا ليس بمعنى القرب المكاني، إذ هو تعالى خالق المكان فيستحيل إحاطة المكان به كما أنه الغني فلا يحتاج إلى المكان.

بل المراد: إحاطة - علماً وقدرةً - بهم ، قال تعالى ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا) (1) ، وقال سبحانه (وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُحِيطٌ) (2) ، كما أنه قريب بعباده هؤلاء قرباً معنوياً، بمعنى أنه يرحمهم ويلطف بهم - الرحمة

الخاصة واللطف المخصوص _. .

ص: 307


1- سورة الطلاق، الآية: 12
2- سورة البروج، الآية: 20.

وقيل : هو تمثيل لحاله في سرعة الإجابة لمن دعاه بحال من قرب مكانه (1) ، فكما أن القريب مكاناً يغيث من استغاث به فوراً، كذلك الله تعالى فإنه يجيب دعوة الداعي فور دعائه .

السادس: قوله تعالى (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ).

الإجابة من (ج و ب) بمعنى مراجعة الكلام (2). والمقصود هو التوجّه إلى الداعي وعدم إهماله، وهذا تقرير للقرب، أي قربه بحيث إنه يجيب الداعي فوراً، كما أن فيه وعداً للداعي بالإجابة - عاجلاً أو آجلاً - إما بما سأل وإما بما هو خير منه له بحسب المصلحة (3).

ثم إن التوجّه إلى الداعي وعدم إهمال كلامه :

1 - قد يكون عن طريق قضاء حاجته بإيصاله إلى المطلوب، وذلك فيما إذا اجتمعت شروط الاستجابة، وكان فيها المصلحة للعبد .

2 - وقد يكون عن طريق إعطائه أفضل مما طلب كفقير يطلب درهماً فيعطى بيتاً، وذلك فيما إذا لم يكن في قضاء الحاجة مصلحة للعبد - في دنياه أو آخرته - بحيث لو انكشفت له الحقيقة ما كان يدعو بذلك الدعاء، وكثيراً ما نرغب في شيء ثم يتبيّن لنا ضرره الكبير بحيث نتمنى أننا لو لم نکن قد حصلنا عليه أو نشكر الله على عدم تحقق رغبتنا ، فرحمته تعالى على عباده تقتضي أن يبدلهم خيراً مما طلبوا، قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه - عاجلاً أو آجلاً ، أو .

ص: 308


1- الجوامع ج 1 ، ص 185.
2- مقاييس اللغة ص 212
3- راجع الجوهر الثمين ج 1، ص188 - 189.

صرف عنك ما هو خير لك، فلرُبّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته (1).

وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ما من مسلم دعا الله سبحانه بدعوة ليس فيها قطيعة ،رحم ولا إثم، إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث : إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يؤخر له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله (2).

ثم إن استجابة الدعاء بمعنى تقدير قضاء الحاجة أو الأفضل منها، وهذا يكون فور الدعاء، ولكن التأخير قد يكون في المقدَّر لا في التقدير، نظير من يسأل مالاً فيعطى فوراً صكّاً بتاريخ لاحق، فإنه قد استجاب فوراً ولكن التنفيذ متأخر، قال تعالى ﴿«وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)»«قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)»(3)، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : كان بين قول الله عز وجل (قَدْ أُجِيبَت دَعْوَتُكُمَا) وبين أخذ فرعون أربعون عاماً (4) فكان استجابة الدعاء فوراً بتقدير أخذهم، وكان المقدّر بعد أربعين عاماً ، فانتبه .

ثم إن للدعاء شروط وآداب مذكورة في الآيات والروايات بالتفصيل)(5) ، ونلخصها في عبارات موجزة : .

ص: 309


1- نهج البلاغة.
2- مجمع البيان ج 2، ص 27 .
3- سورة يونس الآية: 88 - 89
4- البرهان ج 5 ، ص 60 - 61 عن الكافي والاختصاص وتفسير العياشي.
5- راجع الروايات في البحار ج 90 من الصفحة 304 إلى نهاية الجزء، وكذا بداية الجزء 91.
من شرائط الدعاء

1 - الإخلاص في الدعاء ، قال تعالى (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (1).

فمن تعلق قلبه بغيره تعالى فلا يتوقع الاستجابة، وهذا لا ينافي التمسك بالأسباب، بل لو تمسك بها مع علمه بأنها أمور جعلها الله تعالى بحكمته وأن الأمر كله بيد الله فقد أخلص له تعالى وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر (2).

والإخلاص يستلزم حسن الظن بالله تعالى بأن يعلم بأنه قادر على الإستجابة فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : فأقبل بقلبك، وظنّ حاجتك بالباب (3) ، فإن القنوط من رحمته معصية كبيرة ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (4) وقال تعالى ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّآلُّونَ) (5).

ومن الإخلاص له تعالى: دعاؤه تعالى في الرخاء والشدة، لا في الشدة فقط والصبر إن استبطأ الإجابة والإلحاح على الله تعالى واليقين بأن تأخير الإجابة إنما هي لمصلحة سأل البزنطي الإمام الرضاء عَلَيْهِ السَّلاَمُ : جعلت فداك إني قد سألت الله حاجة منذ كذا كذا سنة، وقد دخل قلبي من إبطائها شيء !! فقال : يا أحمد إياك والشيطان أن يكون له عليك سبيل حتى يُقَنِّطك، إن أبا جعفر صلوات الله عليه كان يقول: «إن المؤمن يسأل الله عز وجل حاجة ، فيُؤخّر عنه تعجيل إجابتها حبّاً لصوته

ص: 310


1- سورة غافر، الآية: 14.
2- نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 337
3- البحار ج 90 ص 305 عن عدة الداعي.
4- سورة يوسف، الآية: 87.
5- سورة الحجر، الآية: 56 .

واستماع ،نحيبه، ثم قال : والله ما أخر الله عزّ وجل عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدنيا ، خير لهم مما عُجّل لهم فيها، وأي شيء الدنيا !! إن أبا جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان يقول : ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشدة، ليس إذا أعطي فتر، فلا تَمِل من الدعاء، فإنه من الله عزّ وجل بمكان وعليك بالصبر ... إن صاحب النعمة في الدنيا إذا سأل فأعطي، سأل غير الذي سأل، وصغُرت النعمة في عينه، فلا يشبع من شيء، وإن كثرت النعم كان المسلم من ذلك على خطر للحقوق التي تجب عليه، وما يخاف من الفتنة فيها . . . الحديث (1).

والدعاء سرّاً - حيث إنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء - محبوب، فعن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ دعوة العبد سراً، دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية (2) .

2 - إطاعة الله فيما أمره وترك معاصيه وفي دعاء كميل : اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء (3) ، ومن ذلك أداء حقوق الناس، وطيب المكسب، والعمل الصالح، وصلة الرحم ... إلخ، روي : أن الله أوحى إلى عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ : قل لظلمة بني إسرائيل : لا تدعوني والسحت تحت أقدامكم ، والأصنام في بيوتكم ، فإني آليت أن أجيب من دعاني، وإن إجابتي إيّاهم لعناً عليهم حتى يتفرقوا (4) ، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : من أطاع الله فيما أمره، ثم دعاه من جهة الدعاء، أجابه(5). .

ص: 311


1- البرهان ج 2، ص 86 - 87 عن الكافي ج 2، ص 354 .
2- أصول الكامي، ج 2، ص 656 .
3- مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
4- عدة الداعي ص؟؟؟
5- البرهان ج 2، ص 87 - 88 عن تفسير العياشي.

3 - أن يطلب أمراً مرغوباً فيه أو مباحاً - واقعاً ، فإذا دعا في . معصية كقطع رحم ، أو طلب محالاً، أو ما لا مصلحة للدين فيه، فلا يتوقعنّ الإجابة .

،بلی، قد يعوضه الله تعالى إذا كان بحسن نية من غير التفات بأنه طلب معصية أو مضرة - كما مرّ .

من آداب الدعاء

ثم إن للدعاء آداباً - وهي جهة الدعاء كما في الخبر - وتجمع هذه الآداب :

1 - تعظيم الله وتوقيره والإقرار بالعبودية له، والتذلّل إليه .

ومن ذلك الدعاء بعد الوضوء والصلاة - متما ركوعها وسجودها ،، وبعد الثناء على الله تعالى كما هو أهله، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : من توضأ فأحسن وضوءه، ثم صلى ركعتين فأتمّ ركوعهما وسجودهما ، ثم سلّم وأثنى على الله عزّ وجل وعلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، ثم سأل حاجته فقد طلب الخير من مظانه ، ، ومن طلب الخير من مظانه لم يخب(1).

وبعد ذكر أسمائه الحسنى التي أمر بالدعاء بها، قال سبحانه ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنٰى فَادْعُوهُ بِهَا) (2) ، وأفضل ذلك الدعاء بالمأثور عن الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ -فإنه أفضل الدعاء حيث يجمع بين صحة المعنى ورقة اللفظ وبالكيفية التي يحبها الله تعالى .

وبعد الانقطاع إليه تعالى - حيث انكسر القلب وجرت الدمعة - فعن

ص: 312


1- البحار ج 90 ص 314 - 315 عن مكارم الأخلاق.
2- سورة الأعراف الآية: 180

الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إذا اقشعر جلدك ودمعت عينك فدونك دونك، فقد قصد قصدك (1) ، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إنَّ الله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه (2).

وبعد ذكر نعم الله تعالى وشكره سبحانه عليها، وكذا بعد الإقرار بالذنوب والاستعاذة منها والاستغفار منها، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : تبدأ فتحمد الله وتذكر نعمه عندك ، ثم تشكره ، ثم تصلي على النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ثم تذكر ذنوبك فتُقِرّ بها ، ثم تستعيذ منها ، فهذا جهة الدعاء (3).

لأن هذه كلها - وغيرها مما هو مذكور في الروايات - مزيد تذلل العبد المؤمن إلى الله تعالى فيكون مزيداً في درجاته وقربه إليه تعالى ولذا ورد استحباب رفع اليد عند الدعاء - كالسائل المتكفف - فإنه مزيد تذلل إليه تعالى فعن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن قول الله عزّ وجل (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَنَضَرَّعُونَ﴾ (4) قال : الاستكانة: هي الخضوع والتضرع رفع اليدين والتضرع بهما (5).

فإن الدعاء من أعظم العبادة، فهو مطلوب بذاته - مع قطع النظر عن إجابته أو احتمالها ، فالدعاء لبيان حالة الافتقار والتذلل إلى الله تعالى وعن الإمام الصادق : ادع ولا تقل إن الأمر قد فرغ منه، إن عند الله منزلة لا تنال إلَّا بمسألة (6)..

ص: 313


1- الخصال، ص 90.
2- أصول الكافي، ج 2، ص 342 .
3- البرهان، ج 2، ص 88 عن الكافي.
4- سورة المؤمنون، الآية: 76.
5- أصول الكافي، ج 2، ص 661 .
6- تفسير نور الثقلين، ج 2، ص29.

وهذا ما يُفسر كثرة دعاء الأنبياء والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ، ولذا قد يتأخر وقت استجابة الدعاء لأن الله يحب استمرار عبده في عبادته بالدعاء وعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إنّ المؤمن يسأل الله عزّ وجل حاجة، فيؤخر عنه تعجيل إجابتها، حبّاً لصوته واستماع نحيبه (1) وإنما يحبها الله لحبه لعبده حيث إن العبادة كمال للعبد .

2 - الصلاة على النبي وآله :

فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : لا يزال الدعاء محجوباً عن السماء حتى يصلى على محمد و آل محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (2) ، وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إذا كانت لك إلى الله سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، ثم سل حاجتك، فإن الله أكرم من أن يُسأل حاجتين يقضي إحداهما ويمنع عن الأخرى (3) .

ولعل السر في ذلك هو أن رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هو واسطة الفيض التي جعلها الله تعالى بين الناس وبينه ولعظيم حقه عليهم حيث أنقذهم من الجهالة والضلالة، فلا بد من أداء حقه وتوسيطه لقضاء الحوائج - بإذن الله تعالى - قال تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ (4).

3 - زيادة الدعاء في الأوقات المخصوصة والأماكن المعينة، فإن الله .

ص: 314


1- البرهان ،ج 2، ص 86 عن الكافي.
2- البحار ج 90 ، ص 312 عن دعوات الراوندي.
3- نهج البلاغة ، قصار الحكمة، رقم 361
4- سورة التوبة، الآية: 59.

تعالى خص أزماناً بخصوصية كشهر رمضان وليلة القدر، وليلة الجمعة ووقت السحر ونحوها، كما أنه خص أماكن يحب أن يدعى فيها كالمساجد والمزارات ونحوها، وأفضلها المسجد الحرام ومسجد النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وعند قبور الأئمة خاصة عند قبر الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وفي الحديث الشريف : وإجابة الدعاء تحت قبته (1) . وفي حديث آخر : إن الله بقاعاً يحب أن يدعى فيها (2).

4 - النظافة والتزين عند الدعاء، قال تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (3) ، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ما رفعت كفّ إلى الله أحب من كفّ فيها عقيق (4)، وذلك لأن الله وذلك لأن الله يحب طهارة المؤمنين ونظافتهم وزينتهم قال تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (5) ، ولما في ذلك من تأثير نفسي على الإنسان نفسه وعلى سائر المؤمنين.

5 - دفع صدقة ، لما للصدقة من تأثيرات في تغيير القضاء وكذلك هي استعطاف الله تعالى، فإن تصدق العبد لمحتاج مثله فالله أولى بأن يتصدق على عبده ويقضي حاجته وفي الحديث الصدقة تدفع البلاء المبرم فداووا مرضاكم بالصدقة (6) ، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان أبي إذا طلب حاجة، طلبها عند الزوال، فإذا أراد ذلك قدّم شيئاً فتصدق به وشم من طيب، وراح إلى المسجد، ودعا في حاجته بما شاء الله (7)..

ص: 315


1- وسائل الشيعة، ج 14، ص 537 .
2- مستدرك الوسائل، ج 10، ص 347.
3- سورة البقرة، الآية: 222
4- وسائل الشيعة : ج 5 ، ص 87.
5- سورة الأعراف الآية: 31
6- بحار الأنوار، ج 109 ، ص 184 .
7- أصول الكافي، ج 2، ص 658 .

السابع : قوله تعالى ﴿إِذَا دَعَانِ).

في تقريب القرآن ولعل في هذا القيد إفادة أن الإجابة وقت الدعوة مباشرة، فإن (إذا) ظرف، ويفيد تكرار كلمة (دعا) لتتركز في الذهن تركيزاً (1) . وأيضاً للدلالة على أن إجابة الدعوة إنما هي إذا كان داعياً الله تعالى لا لغيره فإذا دعا الداعي غيره سبحانه فلا وعد للإجابة وكذا للدلالة على أنه لو كان الداعي داعياً بحسب الحقيقة والواقع، بأن ينطلق الدعاء من قلبه مخلصاً له تعالى متوجّهاً ومنقطعاً إليه، أما إذا كان مجرد لقلقة لسان فليس من الدعاء في الحقيقة.

الثامن: قوله تعالى (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) .

أي من يجيب الدعاء هو الذي يستحق أن يستجيب الإنسان له إذا دعاه للطاعة ،والعبادة لا الأصنام والآلهة المتفرقة التي لا يتمكنون من الاستجابة بشيء، قال تعالى ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) (2) ، بل سيخذلونهم في أحلك الظروف عند عذاب الله تعالى قال (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾ (3) بل هنالك بدلاً من الاستجابة سيتبرّؤون منهم ، قال سبحانه (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ«13» إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكُم وَيَوْمَ الْقِيِّامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) (4)..

ص: 316


1- تقريب القرآن ج 1، ص 220.
2- سورة الأحقاف الآية 5
3- سورة القصص الآية: 64.
4- سورة فاطر، الآيتان: 13 - 14 .

التاسع : قوله تعالى ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي).

أي حيث علموا قدرته واستجابته فليؤمنوا بالله تعالى - بذاته وصفاته - والمؤمنون ليثبتوا على الإيمان به وبصفاته، التي منها التصديق بقدرته على الإجابة فما عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ في معناها : وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه (1) ، هو بيان لمصداق الإيمان به تعالى - وهو المصداق المناسب لهذه الآية لذا تمّ ذكره بالخصوص -

العاشر : قوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) .

(الرشد) هو علم عن اعتقاد صحيح - فيلازمه إصابة الحق والإهتداء به ، عكس (الغي) الذي هو جهل عن اعتقاد فاسد (2) ، ويطلق الرشد على الكمال في العقل، وقد يطلق على استواء الجسم.

والمعنى أن من استجاب الله بالطاعة والعبادة، وآمن بالله بذاته وصفاته ومنها قدرته تعالى على استجابة الدعاء، فهذا الشخص قد اهتدى، وأصاب طريق الحق - بما فيه رشده وصلاحه ..

نسأل الله أن يهدينا لدعائه ويوفقنا للإخلاص فيه، وأن يستجيب دعاءنا بحق محمد وآله الطاهرين. .

ص: 317


1- التبيان ،ج 2، ص 131 ، البرهان ج 2، ص88.
2- مفردات الراغب، ص 620.

الآية 187

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

بعد أن بيّنت الآيات السابقة وجوب الصوم، وزمانه، وأصناف الناس بالنسبة إليه، وارتباطه بالدعاء تبين هذه الآية بعض أهم أحكام الصوم، فقال تعالى :

187 - (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) الليلة التي تصومون في غدها (الرَّفَثُ) كناية عن الجماع (إلَى نِسَآئِكُمْ) ، وإنما أبيح ذلك لصعوبة الصبر عليهن ف- ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ) باختلاطكم بهن (وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) ، وقبل هذا التشريع كان الرفث محرماً طيلة الشهر .. فلذا كان يعصي بعضهم ، فقد (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ) وباستمرار (تَختَانُونَ) - من الخيانة - (أَنفُسَكُمْ) ، لأن العاصي غير مؤد للأمانة، فهو يخون نفسه بإنقاصها حظها من الآخرة، (فَتَابَ) الله (عَلَيْكُمْ) بغفران هذا

ص: 318

الذنب (وَعَفَا عَنكُمْ) أي عفا عن هذا الحكم بنسخه، (فَالْآنَ) بعد هذا التحليل (باشِرُوهُنَّ) - جوازاً - إن لم تكونوا معتكفين، (وَابْتَغُواْ) بهذه المباشرة (مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي ما قدره من الذرية (وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا) طوال الليل، حيث كان الحكم السابق عدم جوازهما بعد النوم ليلاً ، (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) وهو نور النهار - لأن الفجر الصادق أول ما يظهر يكون ممتداً فى أفق الشرق كالخيط الأبيض- (مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدٍ) وهو الظلام الملاصق للنور، وهذا الخيط الأبيض إنما هو (مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ) (وَ) أما إذا كنتم معتكفين ف- (لَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ) الأحكام المذكورة كلها (حُدُودَ اللَّهِ) أي الحد الذي عينه ومنع من تعديه (فَلَا تَقْرَبُوها) بالمخالفة، أي لا تخترقوها، (كَذَلِكَ) مثل هذا البيان الواضح في أحكام الصوم (يُبَیِنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ) فإن هذه الأحكام دلائل عليه تعالى وعلى حكمته وعلمه (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المعاصي، حيث يرون آياته فتخشع قلوبهم.

-------------------------------

بحوث

الأول من ملاحظة مجمل الروايات يظهر أن الصوم في بداية تشريعه كان الإمساك عن الجماع طيلة الشهر، وعن الأكل والشرب طيلة النهار وفي الليل بعد النوم ، فمعنى قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ، وقوله و فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْةٌ ) هو هذا بما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الصوم - في الآيتين -.

319

ص: 319

فلا يتوهم «أن الإمساك عن المباشرة طيلة الشهر وعن الأكل ليلاً بعد النوم ليس بدلالة القرآن وإنما هو بدلالة السنة» وذلك لأنهما مدلول الصوم، ولكن البيان كان من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فكلامه كان بياناً للآية ،وليس تشريعاً منفصلاً عنها - كي يلحق بسنة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم.

ثم إن هذين الحكمين نُسخا بهذه الآية الشريفة، حيث أباح الله تعالى المباشرة في ليالي الشهر لغير العاكفين وأباح الأكل والشرب طوال الليل - للنائم ولغيره - .

ولعل الحكمة في التشريع أولاً ثم نسخه هو تمهيد النفوس لقبوله لأن الإنسان لو علم بتسهيل ما كان صعباً كان أدعى له للامتثال والإطاعة كما أنه بيان لفضل الله تعالى، وأيضاً بيان عملي لسهولة الشريعة وسماحها، وأيضاً بيان لخيانة البعض وضعف نفوسهم ليكون سبباً لتهذيبهم للنفس ولعلهم يتقون .

ففي تفسير القمي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّاً في شهر رمضان فأنزل الله عزّ وجل (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ) الآية ، فأحل الله تبارك وتعالى النكاح بالليل في شهر رمضان(1).

وفي الكافي عن الإمام الباقر أو الإمام الصادق عَلَيْهِم السَّلاَمُ : نزلت في خوات بن جبير الأنصاري، وكان مع النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في الخندق وهو صائم، فأمسى وهو على تلك الحال، وكانوا قبل أن تنزل هذه الآية إذا نام أحدهم حُرّم عليه الطعام والشراب، فجاء خوّات إلى أهله حين أمسوا، فقال : هل عندكم طعام؟، فقالوا : لا ، لا تَنم حتى تصلح لك طعاماً ،فاتکأ فنام، فقالوا له: قد فعلت؟ قال نعم، فبات على تلك الحال،.

ص: 320


1- البرهان ج 2، ص92.

فأصبح ، ثم غدا إلى الخندق، فجعل يُغشى عليه، فمر به رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فلمّا رأى الذي ،به أخبره كيف كان أمره فأنزل الله عزّ وجل فيه الآية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (1).

الثاني: قوله تعالى (الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ) .

(الرَّفَثُ) هو القول الفاحش الذي يكون من لوازم الجماع عادة ويكون بصوت خفي، ولذا كُني به عن الجماع، ففي لسان العرب: الرفث : كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة (2) ، وفي المقاييس : كل كلام يُستحيا من إظهاره (3).

ولا يخفى أنّه من أدب القرآن الكريم عدم ذكر الألفاظ الصريحة الموضوعة لما يستقبح ذكره ، بل يُكني عنها بلوازمها، فالرفث والمباشرة كما في هذه الآية، والملامسة (أَو لَامَستُمُ النِّسَاءَ) (4) والمس (مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ)(5) ، والاقتراب ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ) (6) ، والإتيان ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئتُم)(7) ،و التغشي ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ) (8) ، والإفضاء (وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) (9) ، كلها كنايات، وكذا السوأة والعورة والفرج والغائط ونحوها، وهذا من أرقى أسلوب مراعاة الأدب مع إفهام .

ص: 321


1- البرهان ،ج 2، ص 90 عن الكافي.
2- لسان العرب ج 2، ص 153.
3- مقاييس اللغة ص 394 .
4- سورة النساء، الآية: 43 .
5- سورة البقرة، الآية: 237
6- سورة البقرة الآية: 222
7- سورة البقرة الآية: 223
8- سورة الأعراف الآية: 189
9- سورة النساء، الآية: 21.

المقصود كاملاً ، مع استعمال كل كناية فيما يناسبه سياق الكلام فالرفث -وهو الفحش من القول حين المباشرة وقبلها - استعمل هنا لتقبيح ما ارتكبوه ولذا سماه تعالى اختيانا - من الخيانة - فناسب اللفظ المعنى، كذلك في الحج تقبح المباشرة جداً كما قال (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَج) (1).

الثالث : قوله تعالى ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) .

أصل (اللبس) من الاختلاط (2) ، وهذا كالتعليل لإباحة حلية الرفث إليهن في الليل، لأن اختلاط الزوجين شديد والمخدع ،واحد فلذا يقل صبرهم وصبرهن عن المباشرة بالإمساك طيلة شهر كامل فلذا أباحه تعالى في الليل رحمة وفضلاً وذلك تسهيلاً على الأمة وخاصة الشبان .

هذا مضافاً إلى جمال التشبيه باللباس لأن :

1 - اللباس يستر السوأة وكذا عيوب الجسم، كذلك الزوجان يستر كل واحد منهما الآخر، ويمنعه عن الفجور - لقضاء الوطر بالحلال ، كما يغطي على عيوبه فلا يبرزها، كذلك التقوى تستر العيوب النفسية والخُلقية والعملية، ولذا شبهت باللباس قال تعالى ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) (3).

2 - إن اللباس جمال للإنسان، كما أنه محرم عليه فيلاصق سوأته، كذا الزوجين كل منهما جمال للآخر ومحرم عليه .

3 - عدم استغناء الإنسان عن اللباس في الغالب، كذلك الزواج. وفي هذا التعبير دلالة على أن كلّاً من الزوجين مكمل للآخر وأن .

ص: 322


1- سورة البقرة، الآية: 197.
2- راجع مقاييس اللغة مادة لبس ص 912.
3- سورة الأعراف الآية: 26.

(1)

الزواج ليست مجرد معاملة بتبديل البضع بالمهر، وليس مجرد التذاذ وقضاء الوطر ، بل الزواج في القرآن يعتبر من أرقى العلاقات الإنسانية، قال تعالى ﴿وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (2) وقال (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ (3) وقال ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (4) ، وقال وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (5) وفي هذه الآية ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) وقال (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (6) .

فالزواج:

أ - سَكَن، أي سكون النفس واطمئنانها .

ب - ومودة ورحمة، لا ظلم وقهر وغلبة .

ج- - وأن المرأة من نفس الرجل ومكملة له والتكميل يوجب الاستقرار.

د - وأن العلاقة يلزم أن تكون معاشرة بالمعروف مع حفظ حقوقهن، وغير ذلك .

بلى، لما كان كل جمع يحتاج إلى مدير وإلا دبّت الفوضى وكثر النزاع جعل الله الرجال قوامين على النساء، وذلك لإدارة شؤون الحياة الأسرية، ومع ذلك أمرهم بمراعاة حقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف ولعلنا سنتعرض لموضوع الزواج في الإسلام، فيما بعد. .

ص: 323


1- سورة الزمر، الآية: 6.
2- سورة الروم، الآية: 21.
3- سورة الزمر الآية: 6.
4- سورة النساء الآية: 19
5- سورة البقرة، الآية: 228
6- سورة الفرقان الآية: 74 .

الرابع : قوله تعالى (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ).

(الاختيان) من الخيانة - كالاكتساب من الكسب ، وهي في الأصل بمعنى منع الحق(1) ، ويقابلها أداء الأمانة، وحيث إن النفس أمانة بيد صاحبها ، فعليه عدم بخسها حقها وعدم إنقاصها حظها، ومن المعلوم أن المعاصي تبعد الإنسان عن قربه تعالى وتوجب خسارته، فكانت من أعظم الخيانات، والإنسان يلزم أن يكون ناصحاً لنفسه مريداً لخيرها مبعداً لها عن الشر.

ويحتمل أن يكو المراد من (أَنفُسَكُمْ) زوجاتكم، فالمعنى علم الله أنكم كنتم تخونون زوجاتكم بدعائهن إلى المباشرة أو إكراههن عليها، مع أن وظيفتكم هو إصلاحهن قال تعالى (قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (2) لأن من معاني باب الافتعال : المعاناة في تأثير الشيء والمبالغة والاحتيال فيه نحو اكتسب (3)، وكذا قوله تعالى ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) (4) ، حيث سرقا من مسلم شيئاً، فمعنى (أَنفُسَهُم) مسلمين مثلهم، فتأمل.

الخامس : قوله تعالى ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ).

(تاب) أي غفر عصيانكم بمباشرتهن ليلاً، و (عفا) أي رخص لكم وأزال التشديد عنكم ، أو (تاب) بمعنى غفرانه، و(عفا) بمعنى محو أثر الذنب، وذلك بعدم لزوم القضاء - مثلاً - ، أو هما يشيران إلى معنى واحد، وقد ذكرا معاً تأكيداً وبياناً لقبح معصيتهم. .

ص: 324


1- انظر مجمع البيان ،ج 2، ص 29 ، ومقاييس اللغة ص222.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- راجع شرح النظام ص 151 منشورات دار الحجة للثقافة 1428ه-.
4- سورة النساء، الآية: 107.

لطفه

وقد مرّ أن التوبة بمعنى الرجوع ، ، فتوبة الله على عبده بمعنى إرجاعه ورحمته عليه، وهذا المعنى يلازم العفو الذي هو بمعنى محو الأثر، فلازم رجوع الله على عبده هو عدم مؤاخذته على ذنبه فالتوبة والعفو وإن كانا متلازمين لكن يختلف معناهما ولذا ذكرا معاً .

ثم لا يخفى أن القوم كانوا حديثي عهد بالشرك، والكثير منهم كانوا قد تعودوا على القبائح، والإيمان لم يكن مستمكناً في نفوسهم، ولذا اقتضت الحكمة التدريج في الأحكام مع بعض التسهيل للمخالفين، ولذا كان الله تعالى إذا خالفوا - في بداية الأمر - يعفو عنهم جميعاً ، تحبيباً للإسلام في قلوبهم وتربية لهم، وبياناً لفضل الله ورحمته عليهم.

فعفا عنهم تركهم لمواقعهم في جبل الرماة في يوم أحد فقال تعالى (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (1).

وعفا عنهم فرارهم من الزحف فقال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) (2).

وعفا عنهم الصيد حال الإحرام فقال (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) (3).

وعفا عنهم خيانتهم أنفسهم في الرفث في هذه الآية .

السادس: قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ).5

ص: 325


1- سورة آل عمران الآية: 152.
2- سورة آل عمران الآية: 155.
3- سورة المائدة، الآية: 95

(الآن) بعد نسخ الحكم السابق، يجوز لكم مباشرة أزواجكم ليلة الصیام، والأمر بعد المنع يدل على الجواز كقوله تعالى ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَأصْطَادُوأ) (1).

ثم لعل الغرض من قوله ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) مع أن مدلوله نفس مدلول قوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ)، هو :

1 - إن التحليل ليس مجرد تشريع حكم فقط ، بل هو نسخ لما مضى .

2 - إن ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) جعل مقدمة لقوله (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ ، ف(أُحِلَّ) لبيان أصل الحلية، و(باشِرُوهُنَّ) لبيان علة هذا

التشريع، وهو طلب الولد .

فإن اللذائد المباحة لم تجعل لمجرد الالتذاذ، بل الغرض منها شيء آخر، وجعلت اللذة طريقاً إليه، فالوطء جُعل للنسل وجعلت الشهوة فيه طريقاً ، إذ لولا اللذة لعزف أكثر الناس عن الزواج لكثرة المسؤوليات والالتزامات في الزواج، وعزوفهم يسبب انقطاع النسل قال تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (2) والأظهر أن المزين هو الله تعالى وذلك لحكمة بقاء النسل وتطور الحياة، إذ لولا حب النساء لما تناسلوا، ولولا حب المال ما عملوا، ولولا حب الأنعام ما اهتموا بتربيتها، ولولا حب الزراعة لم يتقوتوا، نعم الله يريد منا أن لا نغفل عن الآخرة، فنتخذ متاع الحياة الدنيا وسيلة للتعالي والرقي..

ص: 326


1- سورة المائدة، الآية: 2 ، أي يجوز لكم الصيد.
2- سورة آل عمران الآية: 14.

السابع : قوله تعالى ﴿كَتَبَ اللهُ لَكُمْ).

أي قدره إليكم، كقوله (قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) (1) فإن الله شاء أن يكون خلقه للناس عن طريق الآباء والأمهات مع

إعطائهم القدرة وعدم جبرهم .

وقد مرّ أن الكتابة من الله قد تكون في التكوين وقد تكون في التشريع وقد تكون فيهما ، وطلب الولد عن طريق المباشرة كتابة تشريعية بجواز الوطء نكاحاً، وكتابة تكوينية بخلق الولد منها قال تعالى ﴿«أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ «58» أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ «59»﴾ (2).

وفي التبيين: هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الجماع لأجل الولد لا لأجل الشهوة فقط (3) ، وقيل : يدل على مرجوحية العزل والوطء من غير موضع الولادة وقيل : اطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال الذي بيّنه ، في كتابه فإنه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه (4).

والأظهر أن الحكم عام أي اطلبوا ما كتب الله لكم سواء باللذة المحللة أو بطلب الولد .

الثامن: قوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ).

أي يجوز لكم الأكل والشرب طوال الليل، خلافاً للحكم المنسوخ - حيث حُرِّما بعد النوم ليلاً .. .

ص: 327


1- سورة التوبة، الآية: 51
2- سورة الواقعة، الآيتان: 58 - 59 .
3- تبيين القرآن ج 1 ، ص 40 .
4- مجمع البيان ج 2، ص 33.

وفي هذا المقطع بيان لوقت شروع الصوم وهو الفجر الصادق، إذ عندما يعمّ الظلام في السحر ينفلق ضوء كذنب الذئب طولياً ثم يزول بسرعة، ولذا سُمّي كاذباً إذ لا دلالة له على النهار ثم بعد ذلك ينبلج نور في الأفق كالخيط الممتد في كل الأفق الشرقي، وهو علامة النهار فكان صادقاً، ويستمر النور في الارتفاع حتى يزيل الظلمة كاملاً ، وهذا النور في بداية أمره يُرى كالخيط، لذا شبه به، ويقاربه الظلام فوقه وتحته .

وإنما سمي الظلام خيطاً - مع أنه منتشر، إما للمقابلة، فكما سُمّي النور خيطاً كذلك سمي الظلام - للمقابلة بينهما الظلام - للمقابلة بينهما ، أو لأن الرائي لما يرى خيطاً أبيض يتوهم خيطاً أسود، أو لأن السواد كله حالك شديد سوى السواد الملاصق للخيط الأبيض فيتراءى خيط أبيض وخيط أسود - قليل السواد ، والباقي سواد حالك، فتأمل.

وفي الآية دلالة على عدم لزوم انتشار البياض بل يكفي خيط منه كما تدل على لزوم تبيّن هذا الخيط الأبيض، فلا يكفي رؤيته بالناظور أو التلسكوب ونحوهما.

وقوله (مِنَ الْفَجْرِ) بيانية، أي الخيط الأبيض لا يراد به معناه الحقيقي بل استعارة يراد بها الفجر، كي لا يتوهم أن المراد التمييز بين الأشياء كمن يضع خيطاً أسود وآخر أبيض لا يميز بينهما في ظلام الليل إلا حين ينبلج الصبح وينتشر ضياؤه، ولا يكون ذلك إلا بعد الفجر بمدة.

سؤال : لماذا لم يكتف بقوله (كلوا واشربوا حتى الفجر؟).

الجواب: الفجر فجران صادق ،وكاذب، فأراد بقوله (الخَيطُ الْأَبْيَضُ) . . . . بيان الفجر الصادق، كما أنه قد يتوهم لزوم انتشار الفجر فجاء قوله (الْخَيْطُ) للدلالة على كفاية انبلاجه - في أول ظهوره -.

ص: 328

ويستفاد من الآية أن بين الطلوعين - طلوع الفجر والشمس - إنما هو من النهار لا من الليل .

التاسع : قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِيَامَ إلىَ الَّيلِ).

هذا تحديد لآخر الصوم فإن الصوم يستمر في كل النهار ، ولذا كان الإمساك في آخره إتماماً للصوم فإن التمام) هو تحقق الجزء الأخير، عكس الكمال حيث هو اجتماع الأبعاض، ففي معجم فروق اللغة : (كمال) : اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به ... التمام اسم للجزء والبعض الذي يتم به الموصوف بأنه تام، ولهذا قال أصحاب النظم : القافية تمام البيت ولا يقال كمال البيت ويقولون : البيت بكماله أي باجتماعه، والبيت بتمامه أي بقافيته ويقال : هذا تمام حقك للبعض الذي يتم به الحق ولا يقال : كمال حقك (1).

وقال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (2)، لأن أجزاء الدين اجتمعت كلها في ذلك اليوم، وأما النعم فكانت متدرجة إلى أن أتمها الله تعالى بالولاية.

ثم إن الليل هو زوال الحمرة المشرقية وهو ما دلت عليه جملة من الروايات (3) وعليه مشهور الإمامية فإن مجرد استتار القرص مع بقاء شعاعه، و ومع بقاء الحمرة المشرقية لا يسمى ليلاً في العرف بل يلحقونه بالنهار، وأما الروايات الدالة على كفاية استتار القرص محمولة على التقية - على المشهور -. .

ص: 329


1- معجم فروق اللغة ص 458 .
2- سورة المائدة، الآية: 3 .
3- راجعها في الوسائل ج 4، ص 172 - 183.

العاشر : قوله تعالى ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

الاعتكاف في اللغة: ملازمة الشيء تعظيماً له (1) ، وكثر استعماله في اللبث بقصد العبادة، قال تعالى (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) (2).

وفي الاستعمال الشرعي هو لبث في المساجد للعبادة بكيفية ،مخصوصة وهي أن يبقى ثلاثة أيام - على أقل تقدير - في المسجد ولا يخرج منه ليلاً أو نهاراً إلا لضرورة، ويكون صائماً نهاراً .

وكان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يعتكف في العشر الأواخر من شهر رمضان في المسجد، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : كانت بدر في شهر رمضان، فلم يعتكف رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فلما أن كان من ،قابل اعتكف رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم عشرين: عشراً لعامه ،وعشراً قضاءً لما فاته (3) ، وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم :

اعتكاف عشر من شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين (4).

وللاعتكاف شروط وأحكام مذكورة في الكتب الفقهية.

ولعل تحريم الرفث في ليالي الاعتكاف لأجل تعظيم العبادة إذ الاعتكاف إنما هو في الأيام بلياليها، فيلزم أن تكون الليالي أيضاً خالصة الله بعيدة عن الشهوات مع أن المعتكف يقضي ليله في المسجد فلا أهله ليعسر عليه ترك المباشرة، مضافاً إلى أن شرط الاعتكاف اللبث في المسجد فلا تمكن المباشرة إلَّا بالخروج منه وهذا اختلاط بينه وبين نقض للعكوف . .

ص: 330


1- انظر مفردات الراغب ص 579 .
2- سورة الشعراء، الآية: 71.
3- الوسائل ج 10، ص 533 .
4- الوسائل ج 10 ، ص 534 .

الحادي عشر : قوله تعالى ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

(الحد) في الأصل المنع ، وحدود الدار مانعة عن دخول الغير فيها، فشبهت أحكام الله تعالى بالحدود، لأن من عمل بها دخل في حيطة المؤمنين ومن تعداها خرج عن ربقتهم، ولذا فسروا حدوده تعالى بحرماته ومناهيه .

وقوله (فَلَا تَقْرَبُوهَا) مبالغة في النهي عن الاقتحام، كقوله تعالى (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ) (1) وقوله (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) (2) وذلك لأن من يقترب إلى شيء لعله يقتحمه أو تزل قدمه فيسقط فيه، والزبية - وهي حفيرة تحفر للذئب والأسد فيصادان فيها - لها حمى، فكل من اقترب لعله تزل قدمه فيفترس وفي الحديث من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه(3) ، وروي أنه قضى أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في أربعة اطلعوا في زبية الأسد، فخَرّ أحدهم فاستمسك بالثاني واستمسك الثاني بالثالث واستمسك الثالث بالرابع، حتى أسقط بعضهم بعضاً على الأسد، فقتلهم الأسد . . . . ) الحديث (4).

وقوله (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ قد مرّ الكلام في أشباه هذه الجملة، فإما يراد اتقاء المعاصي بتركها ، أو يراد التقوى بشكل عام، فراجع.

وفي مجمع البيان وفي هذا دلالة على أن الله تعالى أراد التقوى من.

ص: 331


1- سورة الأنعام، الآية: 153.
2- سورة الإسراء، الآية: 32
3- الوسائل ج29، ص 237 .
4- الوسائل ج 29، ص237 .

جميع الناس (1) ،والمجبرة لما خلطوا بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية توهموا أن من مات على كفر لم يرد الله تقواه أصلاً، مع أن الصحيح أنه تعالى أرادها منه تشريعاً ولم يجبره عليها تكويناً، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك، وللتفصيل راجع شرحنا على أصول الكافي. .

ص: 332


1- مجمع البيان ج 2، ص 35 .

الآية 188

(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وحيث أباح الله للصائم الأكل والشرب ليلاً، بيّن أن هذا الأكل يلزم أن يكون بحق لا باطل، فذكر القاعدة العامة فقال تعالى : 188 - ﴿وَلَا تَأْكُلُوا) كناية عن مطلق التصرف (أَمْوَالَكُم﴾ أي لا يأكل بعضكم أموال بعض (بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) أي بالوجه الذي لا يَحلّ كالغصب والقمار وعدم تسديد الدين والاستدانة مع العلم بعدم التمكن من الأداء.

(وَتُدْلُوا) أي ولا تُدلوا (بِهَآ) بالأموال، أي لا ترفعوا القضية الباطلة أو لا تدفعوا الرشوة (إلَى الحُكَّامِ) القضاة، وغرضكم من رفع القضية أو الرشوة (لِتَأْكُلُوا) بهذا التحاكم (فَرِيقًا) قسماً (مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ) أي بالفعل الموجب للإثم، فتأكلوا قسماً من

بِالْإِثْمِ الأموال وترشون القضاة بقسم آخر (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) بأنكم مبطلون .

----------------------------------

بحوث

الأول : لمّا بين الله تعالى جملة من أحكام الصوم - وكان فيها إعطاء

ص: 333

الفدية، والإمساك عن الأكل نهاراً ، وجوازه ليلاً، أراد الله تعالى بيان شرط الأكل، وأنه يلزم أن لا يكون باطلاً .

وبعبارة أخرى بين زمان حلية الأكل وحرمته، ثم بين نوع الأكل من حيث الحل والحرمة فيلزم أن لا يكون الأكل بالباطل.

فهنا ثلاثة أمور :

1 - نوع المأكول، وهو أن يكون طيباً لا خبيثاً وقد مر ذكر بعضه في الآيات 168 ، 172 ، 173 .

2 - زمان الأكل، وهو جميع الأوقات سوى النهار للصائم.

3 - كيفية الأكل، وهو الأكل بالحق لا بالباطل.

والقاعدة العامة هي أن لا يكون أكلاً بالباطل، وهذا ما يدركه كل عاقل بفطرته، وجاءت هذه الآية وغيرها لتأكيد هذا الأمر الفطري ولبيان حدود الحق والباطل ولبيان بعض المصاديق .

ففي هذه الآية تم بيان أحد المصاديق وهو أكل أموال الناس بالإثم، وبيان أن من طرقه الإدلاء إلى الحكام.

وفي قوله تعالى (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّآ أَن تَكُون تجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ) (1) يتم بيان أن الأكل بالحق يكون عن طريق التجارة التي فيها تراض بين الطرفين وقال (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (2) ، وقال (إلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً.

ص: 334


1- سورة النساء، الآية: 29
2- سورة البقرة: 275.

(حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) (1) ، فهذه الآيات تدل على القاعدة العامة في الأكل بحق عن الأكل بباطل وهي حلية كل بيع وكل تجارة إذا كان فيها تراض بين المتعاملين مع بيان مصداق من مصاديق الأكل بالباطل وهو الربا - لكثرة ابتلاء المجتمع به ، مع إيجاد ضمانات لعدم وقوع التنازع عبر الكتابة أو الاستشهاد بشهود والنهي عن أحد أبرز مُضيعات الحقوق وهو الارتشاء من الحكّام .

الثاني: قوله تعالى ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم).

(الأَكل) كناية عن مطلق الحيازة والتصرف، وذلك لأن غريزة الأكل هي أول الدواعي للإنسان لكي يحوز على الأموال، ثم بعد ذلك تبرز فيه الدواعي الأخرى كالمأوى والمنكح والتفاخر ونحو ذلك، ولذا كُني عن الحيازة بالأكل في اللغة العربية وغيرها من اللغات، قال تعالى ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوٰاْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) (2) وقال (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمَّاً) (3) ، وقال (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً) (4).

وقوله (أَمْوَالَكُم) إضافة الأموال إلى ضمير جمع المخاطب، للدلالة على أن هذه الأموال إنما جعلت لمنفعة الجميع، ولكن الحكمة اقتضت أن تكون بحيازة المالك ليتصرف بها حسب المصلحة، ولولا التملك للزم الفوضى وكذلك فساد الأموال، وعدم الرغبة في التجارة والربح ونحو ذلك . .

ص: 335


1- سورة البقرة، الآية: 282
2- سورة آل عمران الآية: 130.
3- سورة الفجر الآية .19
4- سورة النساء، الآية: 10.

فلذا أقر الإسلام الملكية الفردية مع جعل ضوابط لكي لا تفسد الأموال وليعم نفعها للجميع، وذلك عن طريق :

1 - تحليل البيع والتجارة، فكل تجارة عقلانية قد أمضاها الشارع - إلا فيما ضيّق أو وسّع لمصلحة يعلمها ويغفل عنها الناس أو يتغافلون عنها -

2 - تحريم ما فيه فساد الأموال مثل :

أ - الربا لأنه استغلال لحاجة الناس وتكديس للثروات من غير وجه حق، قال تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوٰا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسَ) إلى قوله (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِبَوٰاْ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (1) ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان المضار الشديدة للربا على المجتمع.

ب - الإسراف والتبذير، لما فيهما من هدر الثروات والطاقات من غير وجه حق، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (2) ، وقال ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا «26» إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (3).

ج- - الارتشاء، لما فيه من ضرر كبير ومفسدة عظيمة بإظهار الحق باطلاً والعكس، قال تعالى ﴿وَتُدْلُوا بِهَآ إِلَى الْحُكَامِ) .

د - الغصب كأكل مال اليتيم لقصوره عن الدفاع عن ماله وكعضل النساء لأكل مهورهن لضعفهن عن الدفاع عن حقهن وسهولة ظلمهن، قال تعالى ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ) (4)..

ص: 336


1- سورة البقرة، الآيتان: 275 - 276 .
2- سورة الفرقان الآية: 67 .
3- سورة الإسراء، الآيتان: 26 - 27 .
4- سورة النساء، الآية: 19.

ه_ - فرض الضرائب الباطلة، سواء من منشأ ديني قال تعالى ﴿«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ (1) ، أم بسبب دنيوي كفرض ضرائب سوى ما شرعه الله تعالى من الزكاة والخمس والجزية والخراج .

و - المقامرة، لأنها استيلاء على أموال الغير من غير جهد وتعب وتعويض ، بل عن طريق اللهو واللعب أو الخداع وغير ذلك.

3 - تشريع الإنفاق بطريقة تفيد الفقير ولا تضر بالغني سواء الإنفاق الواجب أم المستحب، قال تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهُمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ«24» لِلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ) (2) ، وقال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِها) (3)، وقال (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (4) ، وقال وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) (5).

ولا يخفى أن المقدار الواجب من الإنفاق لا يتعدى العُشر في الزكاة - وفي بعض الصور أقل بكثير ، ولا يتعدى الخُمس في أرباح المكاسب ونحوها من الغنيمة، والتفصيل في الكتب الفقهية، وأما المقدار المستحب فينبغي أن يكون ضمن الضوابط العقلانية بلا إفراط وتفريط حفظاً للمال وإعانة للمحتاجين قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (6) . .

ص: 337


1- سورة التوبة، الآية: 34.
2- سورة المعارج، الآيتان: 24 - 25 .
3- سورة التوبة، الآية: 103
4- سورة الأنفال، الآية: 41
5- سورة الأنعام، الآية: 141
6- سورة الفرقان الآية: 67 .

4 - المنع عمّا يكدّس الأموال، وذلك عبر تشريعات اقتصادية تمنع عن الطبقية، قال تعالى (كَیْ لَا يَكُونَ دُولَةَ بَيْنَ الْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ) (1).

كمنع الاحتكار والغش والتدليس والربا، مع إطلاق حرية التجارة، واستخراج المعادن وحيازة المباحات وإحياء الموات - مع

تنظيمها بحيث لا يكون تعدّ على حق الآخرين ولا استنزاف لها ،

فلا رأسمالية مطلقة - كما في الغرب ، ولا اشتراكية - كما في الشيوعية - وللتفصيل راجع كتاب الفقه الاقتصاد للوالد رضوان الله عليه.

،

وقوله (يَتْنَكُمْ) ،ظرف، إذ الأكلون للحرام يتآمرون بينهم في الخفاء حتى يبرروا أكلهم - كذا في التقريب (2).

الثالث : قوله تعالى (بِالْبَاطِلِ) .

(الباطل) ما لا ثبوت ولا واقع ،له ويضاده الحق وهو الثابت وقيل : الباطل ما تعلق بالشيء خلاف ما هو عليه خبراً كان أو اعتقاداً أو ظناً أو تخيلاً (3).

والأكل بالباطل، بمعنى الأكل بالوجه الذي لا يحلّ، بأن يكون الله قد حرّمه، أما إذا كان حلالاً فليس أكلاً بالباطل بل هو أكل بحق .

وقد ذكرت الروايات عدة مصاديق للأكل بالباطل، من غير تحديد المفهوم الآية في هذه المصاديق، وقد مرّ أنه قد يُوضّح المفهوم بذكر .

ص: 338


1- سورة الحشر، الآية: 7 .
2- تقريب القرآن، ج 1، ص223.
3- مجمع البيان، ج 2، ص 35.

مصداق كمن يسأل عن معنى العالم فنشير إلى زيد حيث يتضح للسائل المعنى مع إمعان النظر في المصداق.

ومن مصاديق الأكل بالباطل - المذكورة في الروايات :

أ - القمار، فعن الإمام الصادق - في تفسير الآية : كانت قريش تقامر الرجلَ بأهله وماله فنهاهم الله عزّ وجل عن

ذلك (1) .

ب - عدم تسديد الدين، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في تفسير الآية لا خير في لا من يحب جمع المال من حلال يكفّ به وجهه ويقضي به دینه ويصل به رحمه (2).

ج_ - الاستقراض مع نية عدم الوفاء أو مع العلم بعد التمكن من الأداء فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ولا يأكل أموال الناس إلَّا وعنده ما يؤدي إليهم حقوقهم، إن الله عز وجل يقول (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ)، ولا يستقرض على ظهره إلا وعنده الوفاء - ولو طاف على أبواب الناس فردوه باللقمة واللقمتين والتمرة والتمرتين - إلّا أن يكون له ولي يقضي عنه (3).

ولذا أشكل الفقهاء في صحة غسل من اغتسل في حمام بالأجرة مع نيته عدم إعطاء أجرة الحمامي (4).

ثم إن الأكل بالباطل، لا فرق فيه بين كون نفس الأكل باطلاً أو كون الطريق إلى الأكل باطلاً ، فمن الثاني : .

ص: 339


1- البرهان ،ج 2، ص 94 - 95 عن الكافي وتفسير العياشي.
2- الكافي ج 5 ص 107 .
3- البرهان ج 2، ص 96 عن الكافي.
4- راجع العروة الوثقى كتاب الطهارة، فصل في كيفية الغسل وأحكامه، المسألة 16، راجع الفقه ج 10، ص188 .

1 - الحلف زوراً وكذباً ، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إنه يعني بالباطل : اليمين الكاذبة، تقطع بها الأموال (1).

2 - الترافع إلى حكام الجور، فإنهم الطاغوت، وقد نهى الله تعالى عن التحاكم إليه، قال تعالى ﴿«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (2)، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، إنه لو كان لك على رجل : حق، فدعوته إلى حكام أهل العدل، فأبى عليك إلَّا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور، ليقضوا ،له لكان ممن حاكم إلى الطاغوت.

ثم إنه لو انحصر استنقاذ الحقوق في الترافع إلى حكام الجور، أو رفع أحد المتخاصمين الدعوى إليهم، وكان الثاني صاحب الحق فاستدعي إلى المحكمة، فإنه يجوز استنقاذ الحق المعلوم عن طريقهم وذلك للاضطرار إلى ذلك، أما لو حكموا بصالحه وهو لا يعلم بأن الحق معه فلا يجوز له التصرف فيه إلَّا بعد مراجعة حاكم الشرع، وقد ذكرنا شطراً من الكلام حول هذا الموضوع في شرح أصول الكافي ذيل مقبولة عمر بن حنظلة فراجع.

الرابع : قوله تعالى (وَتُدْلُوا بِهَآ إلَى الحُكَّامِ).

(وَتُدْلُوا) من الإدلاء بمعنى الإلقاء والإفضاء، والمراد الترافع إليهم، وأصله من إلقاء الدلو في البئر .

و(الْحُكَامِ) هم القضاة، وهم على قسمين : .

ص: 340


1- مجمع البيان ج 2، ص 37 ، وعنه في البرهان ج2، ص 97.
2- سورة النساء، الآية: 60.

1 - حكام الجور، فيكون الإدلاء إليهم عبر الترافع إليهم ليحكموا بالباطل، أو بدفع رشوة إليهم ليحكموا بصالح المبطل، وهؤلاء لا يجوز الترافع إليهم ، لأنهم طاغوت نهى الله عن التحاكم إليه - كما مرّ في المبحث السابق ..

2 - حكام العدل، وهؤلاء يجوز للمُحِقِّ الترافع إليهم، وأما المبطل - الذي يعلم ببطلان دعواه - فلا يجوز له الترافع .

وحيث إن حكام العدل يحكمون حسب الظواهر - بالإيمان والبينات - فقد لا تكون الظواهر بصالح المُحق، كأن لا يكون ذي اليد، أو لا يكون له ،شهود، وقد تكون الظواهر بصالح المبطل ، كأن يكون له شهود زور - لا يعلم القاضي بكذبهم - أو تكون له يد أو قاعدة كالاستصحاب، ونحو ذلك، فهنا حاكم العدل مكلف بالعمل بالظواهر، ولكن المبطل الذي صار الحكم بصالحه وهو يعلم بأنه لا حق له، لا يجوز له التصرف، ويجب عليه إرجاع الحق إلى صاحبه، فحكم الحاكم من باب الطريقية لا الموضوعية، فلا يوجب حلّية الحرام - على من يعلم أنه حرام -.

وظاهر سياق الآية أن المراد من (الحُكَّامِ) هنا هم حكام الجور، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في تفسيرها - : إن الله عزّ وجل قد علم أن في الأمة حكاماً يجورون، أما إنه لم يعن حكّام أهل العدل، ولكنه عنى حكام أهل الجور (1).

الخامس : قوله تعالى (لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) . .

ص: 341


1- البرهان ج 2، ص 94 - 95 عن الكافي وتفسير العياشي، وأما ما ورد من أن الحكام القضاة فهو محمول على أنه قضية خارجية، إذ القضاة كانوا أهل جور على الأعم الأغلب.

(لِتَأكُلُواْ) علة للإدلاء، أي الترافع أو إعطاء الرشوة يُقصد بهما أكل أموال الناس.

و(فَرِيقًا) أي قِسماً من الأموال تأكلوها بالإثم، والقسم الآخر تدفعونها رشوة، كدأب أهل الباطل حيث يشاركون الحكام في الأكل بالباطل، ليحكموا بصالحهم، فإن حكّام الجور إنما يخالفون الحق لأجل مصالحهم وأهوائهم، فإذا لم يكن مصلحة ولا هوى في باطل أعرضوا عنه بل قد يحكمون بالعدل حينئذٍ بمقتضى فطرتهم، ولذا يحاول المبطلون إيجاد مصلحة لهؤلاء الحكام ليعرضوا عن الحق إلى الباطل، وغالباً تكون تلك المصلحة مادية بإعطاء رشوة، وقد تكون المصلحة أمراً آخر، كبقاء المنصب أو ترقيته - له أو لمن يحبه - ولذا يحكمون حسب رغبة السلاطين عادة أو انتصاراً لمذهب ،باطل كأن يكون أحد الخصمين على مذهب القاضي أو انسياق وراء شهوة كأن يكون أحد المترافعين امرأة جميلة فيميل إليها لجمالها ، أو ترجيح لقرابة كما لو كان أحدهما قريباً أو صديقاً للقاضي، ونحو ذلك .

وقوله (بِألْإِثْمِ) أي بالفعل الموجب للإثم والعصيان، كالحلف كاذباً أو بشهادة الزور، لأن قضاة الجور يحفظون ظواهر المحكمة، فحتى مع استلامهم للرشوة وإرادتهم للحكم بالباطل يهيئون الأجواء الظاهرية، فيطلبون من المبطل الشهود - وهم شهود زور - أو الحلف كاذباً فيما احتاج إلى اليمين.

والإثم بمعنى العصيان ، وأصله التأخير والبطء، لأن ذا الإثم بطيء عن الخير متأخر عنه (1) ، ويتعارف استعماله في الذنب العظيم. .

ص: 342


1- مقاييس اللغة ص 45 .

السادس: قوله تعالى ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) .

أي تعلمون بأنكم مبطلون، أو أن أكلكم وإرشاءكم باطل وإثم، فإن ارتكاب الذنب مع العلم به أقبح وعقوبته أشد، فالجاهل المقصر غير معذور ويستحق العقاب ويقال له: أفلا تعلّمت(1)، ولكن ذنب العالم العاصي أقبح عقلاً واستحقاقه للعقاب أكثر ، وفي الحديث: يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد (2) .

وعن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في تفسير الآية : هو أن يعلم الرجل أنه - ،ظالم، فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه - ذلك الذي يُحكَمَ له به - إذ قد علم أنه ظالم (3)..

ص: 343


1- بحار الأنوار، ج 2، ص29.
2- أصول الكافي، ج 1، ص 37.
3- البرهان ج 2، ص 95 عن التهذيب، وقريب منه ما عن تفسير العياشي.

الآية 189

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)».

وحيث كان الصوم في شهر ،رمضان فلا بد من طريق لإحرازه، فجعل الله تعالى الهلال علامة للشهر - سواء شهر رمضان أو غيره ، فقال تعالى :

189 - (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الْأَهِلَّةِ) جمع هلال، وسؤالهم عن فائدة الهلال أو عن سبب اختلاف حالاته - بالزيادة والنقصان - ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ) جمع ميقات من الوقت (لِلنَّاسِ) في شؤونهم كمواعيدهم في المعاملات والديون، كما (وَ) أنها مواقيت للأمور الدينية ك-(الحَجِّ) والصوم والفطر والعِدّة ونحوها .

(وَ) هذه الأوقات المجعولة للأحكام الشرعية لا يجوز التعدي عنها بإتيانها في غير أوقاتها - كالنسيء الذي كان من فعل الجاهلية ، فعليكم بإتيانها في أوقاتها إذ (لَّيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا) أي من غير جهتها المقررة - فإن ذلك بدعة - (وَلٰكِنَّ الْبِرَّ) أولاً : بالابتعاد عن المحرمات، فهو (مَنِ اتَّقَىٰ) ما حرّم اللَّه. وثانياً : اتباعكم للشرع

ص: 344

﴿وَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) وذلك عن طريق أخذ الأحكام عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وأوصيائه وَاتَّقُوا الله باتباع شرعه وعدم البدعة في دينه

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( تظفرون بالهداية وبالنعيم الأبدي.

--------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَن الأَهِلَّةِ).

(الْأَهِلَةِ) جمع هلال، وقد مرّ الكلام حول أصل الكلمة في الآية 173.

وسؤالهم إما عن الحكمة في ظهور القمر في بداية كل شهر ثم اختفائه في آخره ليظهر من جديد، ولذا كان السؤال عن (الْأَهِلَّةِ) وهو جمع، فيكون سؤالاً عن الفائدة في ظهور الهلال كل شهر .

وإما سؤال عن سبب اختلاف أحوال الهلال - بالزيادة والنقصان - فيكون سؤالاً فلكيّاً .

فعلى الأول يكون الجواب مطابقاً للسؤال ببيان الحكمة والفائدة وعلى الثاني، يكون الجواب إعراضاً عن السؤال ببيان الفائدة، أي كان سؤالهم عن الأحوال الفلكية مع قصور فهمهم عن إدراك أمور الفلك مضافاً إلى أن مهمة القرآن هي الهداية لا بيان العلوم الطبيعية، فإن القرآن حت على اكتشاف حقائق الكون وترك التفاصيل إلى الناس ليكتشفوا القوانين الطبيعية وأسبابها ويستفيدوا منها لأمورهم المعاشية، وما ذكر من الأمور الطبيعية في القرآن فإنما ذكر لغرض الهداية بإلفات الناس إلى

ص: 345

الحكمة

آيات عظمة الله تعالى، فلذا أعرض القرآن عن إجابتهم فلكيّاً وبيّن لهم من الأهلة، ليتبين لهم رحمة الله تعالى بهم، وأيضاً لتشريع اعتبار الهلال في إثبات الشهور مع بيان ربط أمور الناس الدينية والدنيوية بحركة القمر، قال تعالى ﴿«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) (1) وقال سبحانه (وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَضَلْتَهُ تَفْصِيلاً) (2).

وقيل : السؤال من تلقين اليهود الذين كانوا في مقام تعجيز المسلمين فقدموا هذا السؤال الفلكي (3)، فجاء الجواب بما تقتضيه الحكمة - من كون الجواب مفهوماً ومفيداً ، نظير ما ورد من سؤال أحد الخوارج عن عدد شعره لما قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «سلوني قبل أن تفقدوني»، فأعرض عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الجواب - لعدم الفائدة فيه بل للضرر فيه لإمكان التشكيك فيه مع إثارة اللغط - بأن قال له : إن على كل من شعر رأسك ملكاً يلعنك» (4) .

الثاني : قوله تعالى ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج) .

(المواقيت) جمع ميقات وهو يطلق على الزمان المعين، وقد يطلق على المكان المعين كمواقيت الحج - توسعاً لتلازم هذه الأماكن المعينة مع الأوقات المخصوصة -..

ص: 346


1- سورة يونس الآية 5.
2- سورة الإسراء، الآية: 12
3- راجع مواهب الرحمن ج 3، ص 116.
4- بحار الأنوار، ج 40، ص 192.

وحاصل الجواب أن الأهلة جعلت لحفظ مصالح الناس - في دينهم ودنياهم .

فمن أمورهم الدنيوية : مواعيد معاملاتهم وديونهم، ومختلف برامجهم، إذ أفعال الإنسان كلها ،زمانيات فلذا احتاجوا إلى تحديد تلك الأفعال درءاً للفوضى والاختلاف .

وكذا الأمور الدينية ربطها الله تعالى بحركة القمر دون الشمس، فإن حركة القمر أوضح من حركة الشمس، فالزمان القمري واضح للكل - حتی أجهل الناس - وذلك لاختلاف سماكة القمر في كل ليلة عكس الزمان الشمسي الذي لا يظهر إلَّا ببطء وفي فصول السنة فقط.

كما أن الزمان القمري غير قابل للاختلاف - إلا لليلة واحدة وقد يعبّر عنها بالفلتة - عكس الزمان الشمسي الذي يكون بالاعتبارات، ولذا اختلفت النصارى في ميلاد المسيح بل في عامة الأشهر لما يقارب العشرين يوماً (1) ، مضافاً إلى عدم معلومية ضابطة حركة الشمس، بل خفيت على علماء الفلك لفترة طويلة، وحتى الآن لا يتمكن الناس من ضبط التقويم الشمسي إلا عبر التقاويم والإعلام، بل حتى جسم الإنسان يرتبط بالأشهر القمرية دون الشمسية كما قالوا في أيام عادة النساء. ر.

ص: 347


1- وذلك لأن السنة الشمسية فيها كسر - لتنطبق السنة على الشهور، لذا احتاجوا إلى ضم هذه الكسور وإضافة يوم إلى السنة كل أربع سنوات، ثم تبيّن أن هناك كسراً آخر بحاجة إلى إضافة يوم كل مائة سنة، ولذا أضاف النصارى الغربيون عام 1582م. أكثر من 15 يوماً إلى تقويمهم، ثم أضافوا يوماً كل مائة سنة، ولكن بقي النصارى الشرقيون على تقويمهم السابق، ولو كان الإسلام يربط العبادات بالأشهر الشمسية لكان الاختلاف بين المسلمين أكثر بكثير، لعله كان يبلغ شهوراً، وذلك لكثرة أهواء الحكام الظلمة مع استخدامهم لوعاظ السلاطين، فالاختلاف في يوم واحد أهون بكثير من الاختلاف في أشهر.

ثم إن الإسلام ربط عامة عباداته بالأمور الكونية، وذلك ربطاً لحياة الناس بالدين، فأوقات الصلاة مرتبطة بالليل والنهار في أوقات واضحة، والصوم والحج يرتبطان بحركة القمر، بل حتى الأمور الكونية التي ليست لها أوقات معينة كالزلزلة أو لها أوقات متباعدة يجهلها أكثر الناس كالكسوف والخسوف، صارت وقتاً لعبادة مخصوصة - وهي صلاة الآيات - وذلك لربط الناس بالدين في كل أحوالهم.

نعم أجاز بعض الفقهاء اعتبار السنة الشمسية في الزكاة لارتباط الزراعة وإنجاب الأنعام بالفصول الشمسية دون الأشهر القمرية(1).

ثم إن تخصيص الحج بالذكر، دون سائر شعائر الإسلام المرتبطة بالهلال كالصوم والعيدين - مع أن سياق الآيات إنما هو حول الصوم - لأجل ذكر شهر رمضان وهو شهر الصوم في الآيات السابقة، فلم يكن داع للتكرار، وأما العيدان فالفطر يرتبط بالصوم وبنهاية شهر رمضان، والأضحى يرتبط بالحج، وأيضاً لعله ليكون مقدمة للآيات اللاحقة التي تشرّع أحكام الحج ، ولكي لا يحتاج إلى ذكر الهلال مرة أخرى فيها، فتكون هذه الآية قد بيّنت هلال شهر رمضان - ابتداءه وانتهاءه - وهلال الحج مضافاً إلى التوقيت لعامة الأمور، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ في قوله عزّ وجل (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) قال: لصومهم وفطرهم و حجهم (2)، وسُئل الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الأهلة؟ فقال : هي الشهور، فإذا رأيت الهلال فَصُم ، وإذا رأيته فأفطر (3) . .

ص: 348


1- راجع الفقه كتاب الزكاة ج 30، ص 207.
2- البرهان ،ج 2، ص 97 عن التهذيب.
3- المصدر عن تفسير العياشي.

وأما سائر الأحكام المرتبطة بالشهور فهي أمور خاصة أو في حالات معينة، كعِدة الطلاق والوفاة، والقتال في الأشهر الحرم، وأيام الحيض والطهر ، فتدخل في عموم قوله (هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ) ، مع بيانها في آيات أخر .

الثالث : قوله تعالى ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا).

الأظهر أن هذا المقطع هو لبيان حكم عام يرتبط بصدر الآية، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في تفسير الآية - قال : يعني أن يأتي الأمور عن وجهها في أي الأمور كان (1) .

فإن الله تعالى عين أوقاتاً للعبادات وسائر الأمور الدينية، فيلزم على الناس عبادة الله تعالى في الوقت الذي عيّنه، فتغيير تلك الأوقات إلى غيرها هو تعد على أحكام الشرع وبدعة في الدين، كما كان يفعله الجاهليون حيث كانوا يغيّرون الأشهر الحرم ليتطابق الحج مع الربيع وليكون الكفّ عن القتال في أوقات التجارة والزراعة، وقد قال الله عنه (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا) (2) ، ولما كان ذلك بالأهواء، نهاهم الله تعالى عنه، الله تعالى عنه ، وأمرهم بعدم التغيير في الأوقات التي يعينها وفي كل أحكامه، فإن ذلك تشريعاً محرماً وبدعة .

وقد مرّ أن البدعة إدخال ما ليس من الدين في الدين وحيث إن العبادات توقيفية فكل تغيير فيها بدعة، ومن ذلك تغيير أوقاتها، وأما لو أمر الشارع بشيء بطريقة عامة، فإن تطبيق ذلك الكلي على الجزئيات - ولو المستجدّة منها - جائز وليس من البدعة بل امتثال لأمره تعالى .

ص: 349


1- البرهان ج 2، ص 104 عن تفسير العياشي، وقريب منه في المحاسن
2- سورة التوبة، الآية: 37

وقد روي في شأن نزولها أن أهل الجاهلية إذا أحرموا لم يكونوا يدخلون بيوتهم من الأبواب بل كانوا ينقبون الأرض ويدخلون من النقب وكانوا يتدينون بذلك - أي يعتبرونه من الدين (1) ، ومن الواضح أن هذا من مصاديق الآية مع بقاء الآية على عمومها.

وفي ارتباط شأن النزول بصدر الآية وجوه - مرجعها إلى واحد -.

1 - إن أفعال الله كلّها على الحكمة فلا عبث في فعله - ومنها تقدير الأهلة ، وأما أفعالكم فانظروا عدم الحكمة في كثير منها كالتنقيب ودخول البيوت من ظهورها وقت الإحرام فإنه عمل لغو، فلا هو من العقل ولا من الشرع (2) ، فاعلموا أن أفعال الله كلها بحكمة سواء علمتم بوجه الحكمة أم جهلتموه، قال تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ) (3) وقال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (4) .

2 - تلميح بأن السؤال عما لا يهمكم من الأهلة، مثل إتيان البيوت من ظهورها، وكالأكل من القفا (5) ، إذ لا بد من كون السؤال عما فيه الفائدة دينية أم دنيوية - من غير ضرر في السؤال أو عبث - فإذا كان في الجواب الضرر أو العبث فلا يحسن السؤال، قال تعالى ﴿يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ (6) ، فسؤالهم عن مكان آبائهم المشركين .

ص: 350


1- راجع الرواية في التبيان ج 2، ص 142 ، وفي البرهان ج 2، ص 104.
2- راجع الكشاف ج 2، ص 180 .
3- سورة آل عمران الآية: 191.
4- سورة المؤمنون، الآية: 115.
5- تقريب القرآن ج 1، ص 225.
6- سورة المائدة، الآية: 101.

كان مضراً بهم، إذ الجواب هو أنهم في جهنم ، وهذا كان يسوؤهم، ولذا قد يبدل الجواب بأمر مفيد لهم وإن لم يكن متطابقاً مع السؤال، كقوله «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبیلِ) (1) فليس المهم نوعية ما يُنفق، بل المهم أن يكون خيراً في مصرف صحيح وهو الوالدان والأقربون . . . إلخ .

3 - إن أموركم مقدرة بأوقات فلتكن أفعالكم جارية على الاستقامة باتباع ما أمر الله به، والانتهاء عما نهى عنه، لأن اتباع ما أمر به خير من اتباع ما لم يؤمر به (2) .

4 - عليكم السؤال عن أحكامه لتعملوا بها لا عن قضايا لا ترتبط بكم ولا نفع لكم من السؤال عنها، فإن السؤال مظنة الشك(3)، أي السؤال قد يكون تعنتاً وليس لمعرفة الحق، أما لو كان لمعرفة الحق فإن التفكر في الكون - ومنه الأهلة - ومعرفة أسراره وحقائقه أمر مرغوب فيه، قال تعالى ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) (4) ، وفي نهج البلاغة : اسأل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً .

قيل : إن سكان الحرم كانوا يُسمَّون بالحُمس - جمع أحمس من الحماسة بمعنى الشدة - وذلك لتشددهم في دينهم، والأحمس هو الذي يهب نفسه أو يهبه أهله للآلهة، فينصرف لشؤونها وخدمتها، وهو نوع من الرهبنة (5). .

ص: 351


1- سورة البقرة، الآية: 215
2- راجع مجمع البيان ج2، ص 42 .
3- راجع مجمع البيان ج2، ص 42 .
4- سورة آل عمران الآية: 191.
5- راجع مجمع البيان ،ج 2، ص 41 ، مواهب الرحمن ج 3، ص 124 .

وقيل : وكانت للحُمس صفات خاصة وطقوس معيّنة، فيمتنعون عن أكل الطعام الذي يحملونه معهم إلى الحرم ، ولو كانوا حُرماً لا يدخلون بيتاً من شعر، ولا يستظلون إلا في بيوت من جلد، وكانوا يتحرّجون من المرور في ظلّ أو الوقوف تحت سقف وهم حُرُم ، ولذلك صاروا يدخلون البيوت من أظهرها - لئلا يُظلّهم ظلّها ، أو يقفون تحتها، وقد حرم الإسلام هذه العادة، فنزلت فيهم الآية المباركة ، وكانوا يطوفون حول البيت وهم عراة، ويصفقون حين ،الطواف، كما ورد في الآية الشريفة ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلَّا مُكآءَ وَتَصْدِيَةً) (1).

الرابع : قوله تعالى ﴿وَلٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى).

(مَنِ اتَّقَىٰ) اسم ذات، وحمله على (البَرِ) وهو مصدر للدلالة على المبالغة، كقولهم (زيد عَدلٌ) ، وقد مرّ البحث حوله في الآية 177 ، والآية تدل على أن البر يحتاج إلى أمرين :

1 - اتقاء المحرمات - بتركها ، وهذا ما بيّن في ﴿وَلٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ أتَّقَىٰ).

2 - العمل بالواجبات على الوجه الذي أراده الله، وهذا ما تكفّله المقطع اللاحق (وَأَتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).

ففي البداية يلزم تطهير القلب والعمل، ثم العمل بالطاعات، قال تعالی (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَیٰ) (2)؛ فقدم النفي على الإثبات إذ لا يمكن الإيمان بالله إلَّا بعد.

ص: 352


1- مواهب الرحمن ج 3، ص 125 ، والآية في سورة الأنفال: الآية: 35.
2- سورة البقرة، الآية: 256.

الكفر بالأنداد ولا يمكن الالتزام بالطاعات إلَّا بعد التقوى، فلا يقبل عمل إلا من المتقي، قال (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (1).

الخامس : قوله تعالى (وَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).

دلت الآية أن إتيان البيوت من ظهورها ليس من البر بل يلزم إتيانها من الأبواب.

وزعم بعض أن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان قد أقرّ الإتيان من الظهور حال الإحرام، حتى نسخها قوله (وَأتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، وهذا واضح البطلان، إذ الأحكام المنسوخة هي من البر وهي من آيات الله، لكن تم تبديلها بخير منها أو مثلها، كما قال سبحانه (مَا نَنسَحْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا) (2) ، فالأحكام المنسوخة لا قبح عقلي فيها، وحاش لله أن يشرع حكماً قبيحاً ثم ينسخه، فلذا لم يكن تشريع أصلاً للشرك ولا للقتل لا للفحشاء ولا سائر المنكرات العقلية، وقد مرّ أن تدريجية الأحكام ليست بمعنى تشريع القبائح العقلية، بل بمعنى السكوت عن بعض الأحكام لمصلحة التدرج في بيانها .

فتحصل أن الإتيان من الظهور ليس من البر أصلاً فلا يمكن تشريعه أو إقراره ثم نسخه، لأن المنسوخات من أعمال البر، لكن لمصلحة تبدّل الحكم إلى أفضل منه أو مثله .

ثم إن قوله (وَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) حكم عام، وقد مرّ قول الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «أن يأتي بالأمر من وجهه - أي الأمور كان -،» وحيث .

ص: 353


1- سورة المائدة، الآية: 27
2- سورة البقرة، الآية: 106.

إن الطريق الصحيح إلى الله تعالى إنما يكون عن طريق الأنبياء وأوصيائهم ، فهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ الباب إلى الله تعالى والطريق إليه، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : الأوصياء هم أبواب الله عزّ وجلّ التي يُؤتى منها ، ولولاهم ما عُرف الله عزّ وجل، وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه (1)، وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : نحن البيوت التي أمر الله نحن البيوت التي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها نحن باب الله وبيوته التي يؤتى منها، فمن بايعنا وأقر بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها (2) .

السادس: قوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

الفرق بين قوله (وَلٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ) ، وقوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ) هو أن (مَنِ اتَّقَى) يراد منه من اتقى ال-م-ح-رمات كما عن الإمام

الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (3)، و((اتَّقُوا اللّهَ) هو اتقاء غضب الله تعالى وعذابه، فاختلف الغرض من الاتقاءين، فلا تكرار، نظير أن يقال لا ترتكبوا المعاصي وخافوا الله تعالى.

وقوله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وعد بالفلاح - وهو الظفر بالمقصود من الهداية والجنة - لمن اتقى الله وأتى البيوت من أبوابها واتقى المعاصي. .

ص: 354


1- البرهان ،ج 2، ص 103، عن الكافي.
2- المصدر عن الاحتجاج.
3- الجوهر الثمين ج1، ص193.

فصل في أحكام الجهاد

ص: 355

ص: 356

فصل في أحكام الجهاد

بعد أن أنهى الله تعالى ذكر أحكام الصوم، ابتدأ بأحكام الجهاد، لأن الصوم جهاد مع النفس بمنعها مشتهياتها وملاذها وهو الجهاد الأكبر، وأما جهاد الأعداء فهو الجهاد الأصغر.

ويتم في هذا الفصل بيان أن الجهاد إنما هو للدفاع عن النفس، وأن المجاهدين ينبغي أن لا يعتدوا في قتالهم بل يلتزموا بالشرع في حدود القتال وأنّه قد يكون بديل للقتل وهو الإخراج، مع بيان الحكمة في تشريع الجهاد - وهو درء الفتنة ، وبيان حرمة المسجد الحرام وحرمة الشهر الحرام فلا قتال فيهما إلا إذا كان لرد اعتداء الكفار، وأن القتال - وإن استوجب صرف نفقات - لكنه أفضل من التقاعس عن المعتدين فإن فيه الهلاك، ومن المعلوم أنه يلزم حفظ النفس ولو بصرف الأموال.

ص: 357

ص: 358

الآيات 190-192

«وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)».

190 - (وَقاتَلُوا) جهاداً (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لا للسيطرة والانتقام بل لإعلاء كلمة الله تعالى ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) وهم الذين تعدوا عليكم بالقتال فدافعوا عن أنفسكم، ﴿وَلَا تَعْتَدُواْ) إذ قتالكم للدفاع فلا تتجاوزوا الحدود المشروعة (إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) لا يريد الخير إليهم والاعتداء إما بتجاوز الحد في القتل كقتل الأطفال والنساء، أو في كيفية القتل كالمثلة، أو بغير القتل كإحراق الدور وقطع الأشجار.

191 - وحيث شُرعت المقاتلة بينت تفاصيلها فأولاً : قتلهم (وَاقْتُلُوهُمْ) أي اقتلوا الذين يقاتلونكم (حَيْثُ) في أي مكان

(ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي وجدتموهم وتغلبتم عليهم، وثانياً (وَأَخْرِجُوهُم) بالإبعاد (مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي من مكة، مقابلة بالمثل لأنهم طردوكم منها، ولأنها دار توحيد فلا يقربها المشركون، وهذا الجزاء لهم

ص: 359

لأنهم فعلوا ما هو أشد، إذ (وَالْفِتْنَةُ) التي أثاروها ضد الإسلام - كإيذاء المسلمين وإلقاء الشبهات وتجريد السلاح للقضاء على

الدين، ونحو ذلك - (أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي من قتلكم إياهم.

(وَ) هناك حدود للمقاتلة - مكانية وزمانية ، أما المكان ف- (لَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي الحرم وهو (بريد في بريد)، ومكة في طرف الحرم، وذلك لحرمة الحرم وجعل الله إياه حرماً آمناً ، فلا تقاتلوهم فيه (حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ أي عند المسجد الحرام، وحيث لم يحفظوا حرمة الحرم وابتدؤوكم بالقتال جاز لكم مقاتلتهم وقتلهم، عقاباً لهم على هتكهم حرمة الحرم (فَإن قَاتَلُوكُمْ) في الحرم (فَاقْتُلُوهُمْ كَذٰلِكَ) أي تشريع مقاتلتهم عند المسجد الحرام (جَزَآءُ الكَافِرِينَ)

192 - ﴿فَإِنِ انتَهَوَا) أي تركوا مقاتلتكم عند المسجد الحرام (فَ)- لا تقاتلوهم، حيث (إنَ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فلم يشرع قتلهم

حينئذٍ.

--------------------------------------

بحوث

الأول : سياق هذه الآيات (190 - 192) واحد، فلا ناسخ ومنسوخ فيها، وفيها تشريع للجهاد مع بيان حدوده:

1 - بيان أصل التشريع بجواز القتال في سبيل الله لا في سبيل السيطرة والنهب ... إلخ ، وحيث كان في سبيل الله فلا بد من تحديده بالحدود التي جعلها الله سبحانه وتعالى، (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.

ص: 360

2 - إذا كان دفاعاً عن النفس والدين (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم)، أما إذا لم يقاتلوا فلم يُشرع قتالهم كأهل الكتاب إذا دفعوا الجزية، والمعاهدين الذين التزموا بالعهود، أما الجهاد الابتدائي فسيأتي الكلام عنه.

3- عدم تجاوز الحد المقرر شرعاً ، فلا يجوز قتل الأطفال والنساء والشيوخ، ولا المثلة بالقتلى ﴿وَلَا تَعْتَدُواْ).

4 - مكان القتال غير محدد بل في أي مكان كان يمكن مقاتلتهم (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ).

ولكن في الحرم المكي لا يجوز القتال احتراماً له ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إِلَّا إذا ابتدؤوا بالقتال فيه .

5 - زمان القتال يكون في غير الأشهر الحرم - رجب، ذي القعدة، ذي الحجة، المحرّم - إلَّا إذا بدؤوا بالقتال فيها فيجوز مقاتلتهم ردّاً لكيدهم («الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (1).

6 - النفقات الحربية يجب تكفّلها بالتي هي أحسن ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (2).

الثاني : قوله تعالى ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .

(سَبِيلِ اللَّهِ) طريقه ودينه أي القتال يجب أن يكون بغرض إعلاء كلمة الله تعالى ودفاعاً عن دينه، وحتى الدفاع عن النفس إذا كان بأمر الله تعالى فهو في سبيل الله، أما إذا كان من غير أمره فهو حرام، ولذا لم .

ص: 361


1- سورة البقرة، الآية: 194.
2- سورة البقرة الآية: 195.

يشرع للمسلمين في مكة بل أمروا بالكف عن المشركين وإن استوجب ذلك قتلهم - كياسر وسمية - قال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا الزَّكَوٰةَ) (1) ، أي قيل لهم في مكة لا تقاتلوا، حتى أذن الله لهم في بدر قال سبحانه (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقْاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرُ﴾ (2) ، وبعد تشريع الجهاد فإن له شروطاً، مع ملاحظة الأهم

والمهم، ولذا صالح رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم المشركين في الحديبية ولم يقاتلهم مع أن هذا الصلح كان بمعنى بقاء مكة بأيديهم وبقاء الأصنام في مقر التوحيد مكة وفي الكعبة ، بل كان من بنود الصلح هو السماح للمسلمين بالعمرة في العام القادم بأن يخلي المشركون مكة ثلاثة أيام للمسلمين فجاء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم إلى مكة في عمرة القضاء، وطاف بالبيت مع وجود الأصنام فيه إلَّا أنه سعى بعد أن أزاحوا الأصنام عن الصفا والمروة وبعد ذلك أرجعوها عليها ورسول الله لما يغادر مكة (3) .

كل ذلك لأن مصلحة الإسلام كانت تقتضي التريث وعدم الجهاد وذلك لفتح مكة بطريقة أسهل لتسمح بانتشار الإسلام وتحفظ حرمة المسجد الحرام والحرم بتقليل القتلى وصوناً لدماء مسلمي مكة المختلطين بالكفار مع تمكن المسلمين في الحديبية من الغلبة على المشركين وفتح مكة لكن بثمن باهظ قال تعالى ﴿«وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ .

ص: 362


1- سورة النساء، الآية: 77
2- سورة الحج، الآية: 39
3- راجع البرهان ج 2، ص 42 - 43 عن الكافي وتفسير القمي والعياشي.

مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا» (1) ، وفي التبيين: (وإنما أمر الله بالصلح معهم، لأنه تعالى أراد فتحها بدون إراقة دم ،وبدون جهد، . . . إنه إنه خرج جمع من الكفار المحاربة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فأرسل النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم جماعة من أصحابه فهزموهم ، وعلموا أنه لا طاقة لهم بالمسلمين» (2).

وهذا ما يفسّر هدنة الإمام الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ مع معاوية، وكذا عدم قيام أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالسيف يوم السقيفة وبعدها قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ : وطفقت أرتئي بین أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء . . . فرأيت أن الصبر على هاتين أحجى (3).

الثالث : قوله تعالى (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ).

هذا القيد لبيان موضوع القتال، وأنه خاص بمن يقاتلكم وأما من ألقى سلاحه وسكن إلى محله فلا داعي إلى قتله.

ثم إن القتال غير القتل فإن القتال هو المبارزة واصطفاف الطرفين فقد يكون معه قتل، وقد لا يكون فيه قتل أصلاً، كما أن القتل قد يكون قتال وقد لا يكون فبينهما عموم من وجه، وهذه الآية كما تشمل القتال فيما لو هجم الكفار على المسلمين، كذلك تشمل الجهاد.

ص: 363


1- سورة الفتح، الآيات: 22 - 25 .
2- تبيين القرآن ص 526 - 527 .
3- نهج البلاغة: الخطبة 3.

الابتدائي، لأن المسلمين إذا دخلوا أرضاً للدعوة فلم يقاتلهم الكفار فلا سبيل عليهم فتدخل البلاد إلى الإسلام من غير قتال، كإسلام أهل اليمن والبحرين حيث دخلوا في الإسلام طوعاً، وأما إذا صدّهم الكفار فحينئذٍ يكون الكفار مقاتلين فتنطبق عليهم (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ).

فليست هذه الآية منسوخة بقوله (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَةً) (1) ، بل الآيتان متطابقتان من حيث المفهوم، فإن

المشركين جميعهم يقاتلون المسلمين لذا جاز للمسلمين قتالهم .

ثم إن قتالهم ليس بمعنى إكراههم على قبول الإسلام، لقوله تعالى ﴿لَاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (2) ، بل لتكون الدعوة إلى الإسلام من غير محذور وليتمكن من يريد الإسلام من إظهاره بلا صدّ قال تعالى ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ

نصيرا) (3) .

ثم إن الكفار على أقسام :

1 - الكافر الحربي، وهو الذي يقاتل المسلمين، فيجب قتاله.

2 - الكافر الذمي، وهم أهل الكتاب الواقعون في سيطرة المسلمين ويدفعون ضريبة مالية مقابل حمايتهم - وهي الجزية ..

وأما غير أهل الكتاب من سائر الكفار الواقعين تحت سيطرة .

ص: 364


1- سورة التوبة، الآية: 36 .
2- سورة البقرة، الآية: 256.
3- سورة النساء الآية: 75.

المسلمين، كالصابئة والهندوس فحكمهم كحكم أهل الكتاب في احترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وذلك لسيرة أمير المؤمنين مع الصابئة والمجوس حيث لم يقاتلهم ولم يجبرهم على قبول الإسلام، وكذلك سيرة المسلمين في احترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم ومن المقطوع به اتصال هذه السيرة بزمان المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ مع عدم ردعهم عن ذلك، وأما قوله تعالى ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (1) ، فليس حصراً للجزية في أهل الكتاب، إذ لا مفهوم للقب (2) فتأمل .

3 - الكافر المعاهد وهم الكفار الخارجون عن سيطرة المسلمين مع توقيع معاهدة بينهم وبين المسلمين، وهؤلاء يجب احترام المعاهدة معهم والالتزام بها وببنودها ما داموا ملتزمين بها .

4 - سائر الكفار، وهم من لا ذمة ولا معاهدة معهم مع عدم وجود قتال بينهم وبين المسلمين والأصح أن هؤلاء قسم آخر من أقسام الكفار ولا يلحقون بالكافر الحربي، بل تشملهم الأدلة العامة، فدماؤهم محقونة وأعراضهم مصونة، وأموالهم محترمة.

الرابع : قوله تعالى ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

العدوان: هو مجاوزة الحدّ ، فإن الإسلام وإن شرّع القتل والمقاتلة لمصلحة حفظ الدين والنظام والدفاع، لكن جعل ضوابط صارمة، لكي ب

ص: 365


1- سورة التوبة، الآية: 29
2- المشهور هو إلحاقهم بالكافر الحربي وتخييرهم بين الإسلام والقتل فقط، وما ذكرناه هو الأقرب

لا يخرج الجهاد عن حالته الإنسانية، فإن غالب الناس حينما تسيطر عليهم قوتها الغضبية يتصرفون تصرفاً حيوانيّاً جنونيّاً، وخاصة في القتال حيث يتضررون من الطرف المقاتل حيث قتل منهم أو جرحهم أو تجاوز الحدود المعقولة في ممارسته، وجاء الإسلام لإيجاد الاعتدال في تصرف الإنسان، وفي حالة الجهاد عدم الاعتداء وتجاوز الحد هو المطلوب، إما في أصل القتل أو في كيفيته أو بغير القتل.

ومن مصاديق الاعتداء قتل العجزة وإهلاك الحرث، والمثلة بالقتلى وبالأحياء كما يتعارف في الظالمين حيث ينكلون بالمهزومين بقطع أطرافهم وسمل عيونهم ونحو ذلك، وكذا قتال من نهي عن قتاله كالمعاهد.

وقيل : منه المفاجأة في القتال بدون الدعوة إلى الإسلام، ومنه إحراق الدور وقطع الأشجار وتسميم المياه ونحو ذلك .

ثم بيّن الله تعالى علة عدم جواز الاعتداء بقوله (إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وذلك لأن الجهاد شرّع في سبيل الله، والاعتداء ظلم والله لا ﴾ يأمر بالظلم، فمن كان في طريق الدعوة إلى الله - وهو تعالى يأمر بالعدل ، فاعتداؤه أقبح .

و (عدم الحب) منه تعالى بمعنى الأثر، أي لا يريد الخير لهم، أو لا يجازيهم كما يجازي من يلتزمون بأحكامه، إذ إن الله سبحانه ليس محلّاً للانفعالات الجسمانية والنفسية، فحبه وبغضه بمعنى ترتيب أثرهما.

الخامس : قوله تعالى ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ).

مرّ أن القتال غير القتل فالآية السابقة كانت لتشريع الجهاد، وهذه

ص: 366

الآية تبتدئ بجواز قتلهم، ثم بيان أن قتلهم ليس له مكان محدد، فأينما وجدتموهم فاقتلوهم، وذلك لأن هؤلاء لهم جمع يلتحقون به، فإذا تركتموهم ليهربوا التحقوا بجمعهم وكرّوا مرّة أخرى لقتالكم، أما لو كانت هزيمتهم نهائية ولا مادة لهم ليجتمعوا إليها فلا يتعقب من فرّ منهم، ولذا أمر أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ بعدم التجهيز على جرحى وقعة الجمل وعدم تعقب المهزومين منهم، كما قال تعالى (فَإِنِ انتَهَواْ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) .

و(الثقف) الظفر بالشيء، والحذق في إدراك الشيء ودفعه والغلبة فیه (1). ولعلّه لأن المقاتل يحاول الاستتار والخديعة والحيلة للهرب فالظفر به بحاجة إلى حذاقة .

السادس: قوله تعالى ﴿وَأَخْرِجُوهُم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).

أي أخرجوهم من مكة مكة، وفي الآية بيان لعلة إخراجهم، فهو مقابلة لهم بالمثل، هذا مضافاً إلى أن الله وضع البيت للتوحيد فلا مجال لبقاء المشركين فيه، قال سبحانه ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَةَ مُبَارَكاً﴾ (2) و قال (إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هٰذَا) (3)، وهذا هو السبب الواقعي لإخراجهم من مكة، ولعله لما كانت المقابلة بالمثل أقرب إلى فهم الناس وأعذر عندهم للمسلمين، لذا علل بها فقال (مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).

السابع : قوله تعالى ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)..

ص: 367


1- راجع مقاييس اللغة ص 169 ومفردات الراغب 173 والكشاف ج 1، ص 181.
2- سورة آل عمران الآية: 96
3- سورة التوبة، الآية: 28.

هذا كالتعليل لجواز قتلهم، أي هم فعلوا ما هو أشد، فيكون جزاؤهم بالقتل متناسب مع فعلهم ، حيث إنهم أثاروا الفتنة ضد المسلمين ،بإيذاهم وإلقاء الشبهات في دينهم، ثم إخراجهم من بلدهم وصدهم عن ، المسجد الحرام، ثم بشن الحروب عليهم، كما قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ (1) أي بلوا المؤمنين بالأذى عليهم، كل ذلك أعمال سيئة استوجبت تشريع قتلهم، مع أن قتلهم أخف من هذا الجرائم التي ارتكبوها، ولذا سيكون لهم عذاب أخروي متناسب مع فعالهم قال تعالى (جَزَاءً وِفَاقًا) (2) ، وذلك لقصور الجزاء الدنيوي عن أفعالهم .

وفي التقريب : ﴿أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) إذ القتل يوجب ذهاب الدنيا، والفتنة ذهاب للدين (3).

نعم إذا كان الجزاء الدنيوي متساوياً مع الجريمة فلا عقاب في الآخرة وذلك في المؤمن الذي فعل ما يستوجب الحد فأجري عليه الحد. وفي الحديث : الله أكرم من أن يثني عليه عقاباً في الآخرة (4) .

ونظير هذه الآية قوله تعالى(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (5) .

و (الفتنة) الاختبار، وأصله من وضع الذهب في النار ليعلم جودته، 7

ص: 368


1- سورة البروج، الآية: 10.
2- سورة النبأ، الآية: 26
3- تقريب القرآن ج 1، ص 226 .
4- بحار الأنوار: ج 16 ص 176 .
5- سورة البقرة، الآية: 217

ويطلق على ما يلازم الاختبار أيضاً، ولذا نسبت الفتنة تارة إلى الله تعالى كقوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِى مَن تَشَاءُ) (1)، وتارة بأمره تعالى كما قال (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) (2) ، وتارة من الناس بغية الإضلال، كقوله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (3).

ثم إن أداة الاختبار قد تكون نعم الله تعالى ، كما قال ﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوَلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (4) ، وقد تكون المعاجز كقوله (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) (5) ، وقد تكون أوامره وإخباراته قال تعالى ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُءّيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ) (6)، وقد يكون إيذاء المضلّين كقوله (فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ (7) ، وغير ذلك.

والسبب أن الناس مختلفون ونقاط ضعفهم مختلفة فاحتاجوا إلى الاختبار بمختلف الأمور، لكي تظهر حقائقهم، ولترميم نقاط ضعفهم وصقل نفوسهم لتخرج الشوائب كالذهب الذي يوضع في النار فيخلص من الشوائب، فكان الامتحان نعمة من الله تعالى على الناس، ولكن ككل نعمة يحولها المبطلون إلى خسارة لهم بسوء اختيارهم .

وعلى الإنسان أن يلتجيء إلى الله سبحانه بالطاعات والدعاء في كل .

ص: 369


1- سورة الأعراف الآية: 155.
2- سورة البقرة، الآية: 102
3- سورة آل عمران الآية: 7.
4- سورة التغابن الآية: 15
5- سورة القمر، الآية: 27
6- سورة الإسراء، الآية: 60.
7- سورة العنكبوت الآية: 10.

أحواله حتى إذا جاء الامتحان أخذ الله بيده، وأما من ابتعد عن فإنه سبحانه يتركه في وقت الامتحان فلا ينصره مما يؤدي إلى سقوطه في الفتنة .

والفتنة في هذه الآية لها معنى عام وما ذكره بعض المفسرين إنما هو بيان لبعض مصاديقها، فقيل هي الشرك أي شركهم بالله في الحرم أعظم من قتلكم إياهم، أو هي إيذاء المؤمنين أو هي إلقاء الشبهات أو هي عذاب الآخرة .

والحاصل أن مصيرهم في الدنيا ،القتل وعذابهم في الآخرة أشد من قتلهم في الدنيا كما قال تعالى (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ«12» يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «13» ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ، تَسْتَعْجِلُونَ﴾ (1).

الثامن: قوله تعالى ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .

المراد الحرم المكي وهو بريد في بريد - والبريد أربعة فراسخ أي حدود 24 كيلومتراً، ومكة المشرفة تقع في طرف الحرم، وبعض نقاط الحل أقرب إلى الكعبة من بعض نقاطها الأخرى.

وإنما قال (عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) لأجل بيان أن حرمة الحرم إنما هو لأجل هذا المسجد، وهذا الحرم إنما وضع حريماً للمسجد وللكعبة.

وهذا التشريع لبيان احترام المسجد الحرام، فلذا لم يسوّغ القتال فيه، ولا قتل صيده ولا قلع نباته .

قال تعالى ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا) (2) ، ولعل الغرض هو التفاتهم الدائم لفضل الله عليهم ليحافظوا على قدسية بيته، وليتوجّهوا إلى عبادته .

ص: 370


1- سورة الذاريات، الآيات: 12 - 14 .
2- سورة آل عمران الآية: 97 .

،تعالى كما قال سبحانه (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هٰذَا الْبَيْتِ «3» الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفِ) (1) وقال (أَولَمْ يروا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (2).

التاسع : قوله تعالى (فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذٰلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ) .

أي إذا انتهكوا حرمة الحرم وقاتلوكم فيه فيشرع لكم قتالهم ومن ثم قتلهم، وذلك صوناً لحرمة الحرم، ولأن جريمتهم بهتكه عظيمة تستوجب عقاباً فوريّاً، المعنى فإن قاتلوكم فقاتلوهم فاقتلوهم، لكن تم الإيجاز للدلالة على الفور.

وهكذا كل من فعل جريمة في الحرم فيعاقب، لكن إذا ارتكبها خارج الحرم ثم التجأ إليه فلا يُحدّ فيه صوناً للحرمة حيث لم ينتهك هو الحرمة بل راعاها لذا التجأ إلى الحرم، بل يضيق عليه في المأكل والمشرب ونحوهما حتى يخرج من الحرم فيجرى عليه الحد. كما في الحديث (3).

وقوله (كَذٰلِكَ) أي قتلهم في الحرم جزاؤهم لانتهاكهم حرمة الحرم .

العاشر : قوله تعالى فَإنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

الظاهر أن الانتهاء هنا بمعنى الكف عن القتال في الحرم ، وقوله في الآية التالية (فَإنِ انتَهَوا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) بمعنى الانتهاء عن الشرك، لدلالة السياق، فلا تكرار في الآيتين . .

ص: 371


1- سورة قريش، الآيتان: 3 - 4 .
2- سورة العنكبوت الآية: 67 .
3- الكافي ج 4 ، ص 227 ، عنه البرهان ج2، ص 107.

فقوله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ كالعلة للكف عن قتلهم في الحرم فإن رحمته سبقت غضبه ورحمته وسعت كل شيء، فلذا شملت هؤلاء ، المشركين بعدم تشريع قتلهم عند الحرم .

وقيل : إنه وضع السبب مكان المسبب أي إن انتهوا فلا تقتلوهم لأن الله غفور رحيم فلم يشرع قتلهم (1) ، فليس معنى (غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أنه يغفر للمشريكن ويرحمهم، بل المعنى لاتصاف الله بهاتين الصفتين فإنه لم يشرع قتلهم حينئذ .

أو المعنى فإن الله غفور لكم أيها المسلمون رحيم بكم، فلذا لا محذور في الكف عنهم .

أو بمعنى إن ترك قتلهم لعله يوجب اهتداءهم وذلك سبب لغفرانهم ورحمهم.-

ص: 372


1- الميزان ج 2، ص 63 - بتصرف -

الآيات 193-195

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

193 - ثم بيّن الله سبب تشريع قتالهم فقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي افتتان كالشرك ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ) أي الطريقة في الحياة (لِلَّهِ) خالصاً (فَإنِ انتَهَوْا) عن شركهم بأن آمنوا (فَلَا عُدْوَانَ) عليهم، فلا عقاب على عدوانهم السابق لأن الإسلام يَجُبّ ما قبله، بل لا عقاب (إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) الذين لم ينتهوا عن تركهم وتعدّيهم .

194 - ومن مصاديق الظالمين : الذين ينتهكون حرمة الأشهر الحرم فهؤلاء جزاؤهم : (الشَّهْرُ الحَرَّامُ) يُقاتلون فيه (بِالشَّهْرِ الْحرَامِ) أي مقابل انتهاكهم لحرمة الشهر الحرام وإنما شرع مقاتلتهم إذ (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) أي يجري فيها القصاص - وهي أن يصنع بهم ما صنعوا بالمسلمين ، وحيث تبين أن في الحرمات قصاص (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) أي عاقبوه على اعتدائه (بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ

ص: 373

عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) فلا تتجاوزوا العقوبة المفروضة بل التزموا بحد الشرع (وَاعْلَمُوا) أنكم منصورون إذ (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فهو قادر على ردّ اعتداء المعتدين وإزالة أثر اعتدائهم، فالتزامكم بالشريعة وعدم تعدي الحدود يوجب نصرة الله لكم في مقابل المعتدين.

195 - ﴿وَ) كما يجب الجهاد بالنفس كذلك يجب الجهاد بالمال، ف- (أَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وجوه البر ومن أعظمها الجهاد، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَهْلُكَةِ) بترك الإنفاق، إذ يوجب سيطرة الأعداء عليكم فيسلبونكم قوتكم ومالكم وأنفسكم، (وَأَحْسَنُوا) أي لتكن أفعالكم على الوجه الحسن، ومن أعظم مصاديقه الإنفاق في حال الحرب مع القصد في صرف الأموال ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المقتصدين في أموالهم .

---------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) .

بعد أن بيّن الله في الآية 190 أصل وجوب الجهاد، يبين في هذه الآية عِلّة هذا التشريع، وهو أمران:

1 - لإنهاء الفتنة، فإن دينين متصادمين لا يجتمعان في مكان(1) و من أبرز مصاديق الفتنة الشرك، كما في الرواية (2) . .

ص: 374


1- انظر التبيين ص 41 .
2- البرهان ج 1 ، ص 105 .

2 - لتكون الطريقة الصحيحة في الحياة هي وهي دين الله الحاكمة، وهي تعالى، نعم لو خضع أهل الذمة لهذه الطريقة وقبلوا بأن يكونوا محكومين بلا إثارة قلاقل مع مراعاة سائر شروط الذمة فإنه يسمح لهم في البقاء على دينهم، قال تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (1).

سؤال: كيف نجمع بين حرية المعتقد والذي أقره الإسلام في قوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (2) وبين القتال ليكون الدين الله وحده خالصاً؟

والجواب : أولاً : لا يكره أحد على تغيير معتقده، ولكن قد تكون بعض المبادىء هدّامة تنخر قوى المجتمع وتثير الاضطرابات مع تحين الفرصة للاستيلاء على السلطة، فالعقل يحكم بلزوم محاربتها وكسر شوكتها ومنع التبشير بها ولذا منع الفكر النازي والفاشي في دول الغرب واعتبرت هذه الأحزاب محظورة مع أنها أحزاب فكرية في الأساس.

وثانياً : كون (الدِّينُ لِلَّهِ) بمعنى سيطرة الطريقة الإلٰهية على مجاري الأمور وحينئذٍ فيعيش الكل تحت كنفها بحرية كاملة، ولو ترك الأمر للأديان الآخرى لتسيطر فإنها حيث لم تكن تعمل بطريقة سليمة فإنها تضطهد الناس وتجبرهم على تغيير معتقداتهم وخاصة عداء المشركين للمسلمين، فتركهم ليسيطروا أو ليحوكوا المؤامرات للوصول إلى السلطة

ص: 375


1- سورة التوبة، الآية: 29
2- سورة البقرة، الآية: 256

أمر مخالف للعقل بداهة، فلا بد من معالجة الأمر بإخضاع الجميع تحت سلطة دین الله مع اعطاء الحرية لأهل الذمة في برنامجهم، ومعتقداتهم - ضمن ضوابط الذمة ..

والتاريخ خير شاهد على عيش أهل الذمة بأمان في كنف المسلمين، بل كان اليهود يفرون من مناطق النصارى ويلتجئون إلى بلاد الإسلام، مع اضطهاد الأديان الأخرى للمسلمين أي اضطهاد إلى حد إجبارهم في تغيير دينهم كما حدث لمسلمي الأندلس .

نعم كان هنالك في التاريخ حكام من المسلمين تعاملوا مع المذاهب الإسلامية الأخرى بقسوة إلى حد الإبادة ولكن هذا لا يرتبط بالإسلام بل تصرف أولئك الظلمة كان انتهاكاً لأحكام الإسلام.

الثاني : قوله تعالى ﴿فَإِنِ انتَهَوا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

أي فإن انتهوا عن شركهم بأن آمنوا فلا تجوز معاقبتهم على أفعالهم السابقة إذ الإسلام يَجُبُّ ما قبله قال تعالى ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَتُ الْأَوَّلِينَ﴾ (1)، بلى من استمر في اعتدائه فهو ظالم فيجب أن يعاقب .

وهذا الظالم قد يكون ممن أسلم ولكنه انتهك حرمة الحرم كأن قتل أحداً فيه أو ارتكب ما يوجب الحدّ ، وهذا يلزم معاقبته - كما مرّ - فالاستثناء متصل، وقد يكون من الكفار الذين استمروا في قتالهم في الحرم، فالاستثناء منقطع .

ص: 376


1- سورة الأنفال، الآية: 38

وفي التأويل : إن الظالمين هم ذرية قتلة الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ الراضين بفعل آبائهم فهؤلاء يقتلون بسيف القائم عجل الله فرجه الشريف(1)

ولعل المراد من (الذرية والنسل) : هو الامتداد الفكري لأولئك. وقتلهم إنما هو لأن الرضا بقتل الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ من أكبر الموبقات التي تظهر على الأعمال والأفعال بإثارة القلاقل والفتن والمحاربة، كما نشاهد هذا الأمر في خوارج هذا العصر، حيث يظهر نصبهم لأهل البيت بالتفجير والتفخيخ وقتل النساء والأطفال وتربية القتلة فكرياً ومعونتهم مالياً وسياسياً ... إلخ .

الثالث : قوله تعالى (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ).

الآية في صدد تطبيق حكم كلي على هذا المورد، وهو تشريع مقابلة الاعتداء بمثله، فلذا شُرّع القصاص في الحرمات، ومنها القصاص في الشهر الحرام.

والمعنى أنه لا يجوز قتالهم في الأشهر الحرم، لأن الله جعل لهذه الأشهر - رجب ذي القعدة ذي الحجة المحرم - حرمة منذ اليوم الذي خلق فيه السماوات والأرض، ولكن قد يريد الكفار استغلال التزام المسلمين بهذا التشريع فيميلون عليهم ميلة واحدة، ولذا شرع الله جواز ردّ اعتدائهم بالمثل، إذ تشريع حرمة هذه الأشهر إنما هو لمصلحة الدين ولا مصلحة في تحمّل الظلم وعدم رد المعتدي .

هذا مضافاً إلى أن حرمة هذه الأشهر تحفظ بمعاقبة المتعدي فيها ، .

ص: 377


1- راجع الروايات في البرهان ج 2، ص 105 - 106 عن كامل الزيارات وتفسير العياشي وعلل الشرائع.

فإن في عقابه صوناً لهذه الحرمة وفي تركه إغراء لسائر الجهال بهتكه وهو نقض للغرض -.

ومعنى (الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ) أي شهركم مقابل شهرهم، فإن صانوا حرمة شهركم فصونوا حرمة شهرهم، وإن انتهكوا فردوا اعتداءهم .

وقوله (وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) علة لمقابلة شهركم بشهرهم، أي كل حرمة يجري فيها القصاص، وهذا نظير قوله تعالى ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) (1).

وحيث إن العلة عامة لكل حرمة، لذا جمعها في قوله (وَالحُرُمَاتُ)، قيل هي حرمة الشهر وحرمة الحرم، وحرمة الإحرام، بل كل حرمة يجري فيها العقاب لو انتهكت.

و (الحرمة) هي ما يجب حفظها ويحرم هتكها.

و (القصاص) هو اتباع أثر الجناية - كما مرّ - فيكون العقاب كالجناية لا أقل ولا أكثر.

الرابع: قوله تعالى ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ).

هذا العلة العامة لتشريع القصاص وتقابل الحرمات.

وقوله (فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ) أي جازوه بمثل فعله، وهو في الحقيقة ليس اعتداءً بل الجزاء يختلف في ذاته عن الجناية، إذ هي ظلم، وهو عدل ولكن لما كانت المجازاة مثل الجناية في الشكل والظاهر لذا أطلق عليها الاعتداء، وهذا من أساليب البلاغة في الكلام، ويسمى (المجانسة) .

ص: 378


1- سورة المائدة، الآية: 45 .

و(المشاكلة). نظير قوله تعالى (وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (1) مع أن الجزاء حسنة لكن أطلق عليه السيئة لتماثله مع الجناية ظاهراً .

ويمكن أن يقال إن الفعل له اقتضاء القبح، لكن يتغيّر قبحه لما يطرأ عليه عنوان الجزاء، فلذا أطلق الاسم باعتبار الاقتضاء، فلهتك الحرمات والقتل ونحوها اقتضاء القبح، لكن يمنع هذا المقتضي عنوان الجزاء بل يحوله إلى عنوان حسن ، فتأمل.

الخامس: قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

لما كان القتال مظنة لسيطرة القوى الغضبية على الإنسان لذا احتاج إلى التأكيد على لزوم مراعاة الله تعالى وأحكامه، فلا يتجاوز عن الحد حين رد الاعتداء .

مع وعد من الله بأنه ينصر من نصره فلا يتأسف المؤمن من عدم تمکنه من الانتقام زيادة على الحد المشروع، ولا يتوهم أن الالتزام بالشرع يفوّت عليه مصالحه، بل على العكس من ذلك، فإن الله ينصر المتقين، وهل يتمكن المعتدون من فعل شيء أمام إرادة الله تعالى .

وقد مرّ أن (مَعَ) بمعنى المصاحبة المطلقة، وهي من الله تعالى بمعنى العلم والقدرة، وأما المدح أو الذم فلا بد من استفادته من القرائن، وهنا يراد المعية بالنصرة والتأييد - لسياق الآيات ..

السادس: قوله تعالى ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

هذا حكم عام بحسن الإنفاق وحيث إن الجهاد من أبرز مصاديق الإنفاق، أكمل الله آيات الجهاد بالحث على الإنفاق، وذلك لتلازم الجهاد بالنفس مع الجهاد بالمال غالباً، إذ لا تمكن المقاتلة من غير .

ص: 379


1- سورة الشورى، الآية: 40 .

عتاد، ولذا قدّم الجهاد بالمال على الجهاد في النفس - كلّما ذكر الجهادان معاً - قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوَلٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (1).

والإنفاق) هو إخراج المال عن الملك - بنقله إلى الغير أو إتلافه بالأكل ونحوه - سواء كان بغرض صحيح أم لا، ولذا قيده تعالى بأن يكون إنفاقاً في سبيل الله تعالى.

السابع : قوله تعالى ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُم إلَى التَّهلُكَةِ).

هذا أيضاً قاعدة عامة والجهاد بالمال من مصاديقها .

أي لا تلقوا أنفسكم بأفعالكم إلى التهلكة فالأيدي بمعنى الأفعال عبر عنها بذلك لأن غالب أفعال الناس بأيديهم، أو (أيدي) بمعنى الأنفس، والباء للتأكيد أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة، أو أيدي) بمعنى قدراتكم أي لا تبطلوا قوتكم بترك الإنفاق أو بالإسراف في الإنفاق، فإن البخل تعطيل للقوة المالية وتجميدها، والإسراف تبديد لهذه القوة، قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوَاماً) (2).

وتطبيق الآية على الجهاد هو أن ترك الإنفاق للجهاد يسبب ضعف المسلمين بضعف عتادهم أو قلة محاربيهم، وهذا مما يوجب غلبة الأعداء وسيطرتهم ، وهم يتعاملون مع المسلمين بالقهر والغلبة والقتل، فترككم للإنفاق موجب لهلاككم، بل واغتنام الكفار لأموالكم.

و (التهلكة) بمعنى الهلاك، وهو كما يكون في الدنيا بالقتل وسلب .

ص: 380


1- سورة الحجرات، الآية: 15
2- سورة الفرقان الآية: 67 .

الأموال والتشرد، كذلك يكون في الآخرة بعذاب الله تعالى لمخالفة أوامره، قال تعالى ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى«124» قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنيَ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا «125» قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ ءَايَتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنَسَىٰ) (1) ، وقال سبحانه ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (2) ، وقال ﴿وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (3)

الثامن: قوله تعالى ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .

هذا أيضاً ،قاعدة عامة، ومن المصاديق الإحسان في الإنفاق، بل الإحسان في حالة الحرب مع المقاتلين، كعدم قطع الماء عنهم كما فعل أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في صفين ومع الأسرى عبر إطعامهم وإروائهم ونحو ذلك .

و(الإحسان) قد يكون بإيصال النفع إلى الغير، وقد يكون بإحسان الأعمال كصرف الأموال بالقصد بلا إسراف ولا تقتير، فقتل المعتدين ليس إحساناً إليهم ولكنه إحسان للبشرية كما أنه عمل حسن لما فيه من دفع الظلم .

ثم إن آيات الجهاد بدأت بعدم الاعتداء وأن الله لا يحبهم (وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ، وانتهت بالإحسان وأن الله

يحبهم (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) . .

ص: 381


1- سورة طه، الآيات: 124 - 126
2- سورة الأحقاف الآية 35
3- سورة الأنعام، الآية: 26.

ص: 382

فصل في أحكام الحج

ص: 383

ص: 384

فصل في أحكام الحج

وحيث بينت أحكام الجهاد، وذُكر فيها حرمة المسجد الحرام، كما أن شأن نزولها كان في صد المسلمين عن المسجد الحرام في الحديبية، كما أن من الإحسان صرف المال في الحج، ناسب الانتقال إلى أحكام الحج ، ويبدأ بحكم الصد عن الحج، لمناسبة سياق الآيات السابقة، ثم بيان أحكام الحج من التمتع والهدي وبدله ، وزمان الحج، وبعض محرمات الإحرام، وبعض أهم أعمال الحج من الوقوف في عرفات والمشعر والمبيت بمنى وتضمنت الأحكام الحث على التقوى والذكر والاستغفار والدعاء ونحو ذلك.

ص: 385

ص: 386

الآية 196

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

196 - ﴿وَأَتِمُّوا الحَجَ وَالْعُمْرَةَ) أي الإتيان بهما بشرائطهما وأجزائهما (لِلَّهِ) أي بقصد القربة إليه تعالى، وهذا تشريع لأصل الحج، (فَإِنْ أَحْصِرْتُمْ) بعد الإحرام بمرض يمنعكم عن أدائهما (ف) عليكم (مَا استَيْسَرَ) أي ما سهل عليكم (مِنَ الهَدْيِ) الأنعام - وهي الإبل والبقر والغنم - وسُمي هدياً لأنه يُهدى إلى الحرم، ترسلون هذا الهدي إلى مكة أو منى، ثم بين الله تعالى أن الإحلال من الحج والعمرة يكون بعد النحر فقال: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُم) للإحلال من الإحرام (حَتَّى يَبْلُغَ الهَدىُ مَحِلَّهُ) مكانه المعين - وهو منى يوم النحر في الحج، ومكة في العمرة ، (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا) يحتاج إلى الحلق للمداواة (أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ) تؤذيه هوام الرأس كالقمل، واحتاج إلى الحلق قبل بلوغ الهدي محله (ف) يجوز له الحلق، ولكن عليه (فِدْيَةٌ) أي بدل حلقه

ص: 387

(مِن) - بيانية - (صِيَامٍ) ثلاثة أيام، (أَوْ صَدَقَةٍ) بإطعام ستة مساكين، (أوْ نُسُكٍ) ذبيحة مخيراً بينها ، (فَإِذَآ أَمِنتُمْ) وكنتم في حال سعة وأمن ، بأن لم يصدّكم عدو - كما صدوا الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في الحديبية - (فَمَنَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةٍ) أي بسبب إتيانه بالعمرة حيث يباح عليه محرمات الإحرام (إِلَى الْحَجِّ) أي إلى حين إحرامه بالحج فتحرم تلك المحرمات مرّة أخرى (فَ) يجب على هذا المتمتع (مَا اسْتَيْسَرَ) وسهل عليه (مِنَ الْهُدَى فَمَن لَّمْ يَجِدْ) الهدي لفقره (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) متوالية واجبة عليه، (في) أيام (الحَج) في شهر ذي الحجة والأفضل السابع إلى التاسع من ذي الحجة فإن فاته فبعد أيام التشريق إلى نهاية ذي الحجة (وَسَبْعَةٍ) متوالية

(إِذَا رَجَعْتُمْ) ، إلى أهلكم (تِلْكَ) الأيام التي يصومها بدل الهدي (عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) من جهة الفضيلة أي تعادل الأضحية ثواباً وفضيلة .

(ذلِكَ) أي حج التمتع واجب (لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وذلك بغيابهم عنه وبعدهم منه، وأما من وأما من كان من أهل مكة وأطرافها فلم يشرع له التمتع بل عليه الإفراد أو القِران.

(وَ) حيث إن تشريع التمتع كان صعباً عليهم جدّاً لعدم إلفهم به في الجاهلية لذا حدّرهم الله من مخالفته فقال : (اتَّقُوا اللَّهَ) بالحفاظ على أوامره (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لمن خالف.

-----------------------------

بحوث

الأول : هذه الآية الشريفة تبيّن عدة أحكام تتعلق بالحج والعمرة :

1 - فرض الحج والعمرة ولزوم أدائهما ،تامين، وذلك عن طريق إتيان

ص: 388

جميع الواجبات والأركان وترك المحرمات والالتزام بالشروط فقال (وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).

2 - بيان حكم المحصور - أي المريض الذي لم يتمكن من مواصلة السير إلى الحج بعد إحرامه - فقال (فَإِنْ أَحْصِرْتُم).

3 - بيان حكم الإحلال من الإحرام فقال ﴿وَلَا تَحلِقُوا...)، وقد يكون في الآية إشارة إلى حج القران .

4 - بيان حكم من يضطر إلى ارتكاب بعض محرمات الإحرام فقال (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا ...)

5 - بيان حكم المصدود - وهو الذي منعه العدو - وهذا يستفاد من مفهوم قوله (فَإِذَآ أَمِنتُم).

وقيل : (فَإن أُحْصِرْتُمْ) كما يشمل المحصور المريض كذلك يشمل المصدود بالعدو.

6 - تشريع حج التمتع لمن لم يكن من أهل مكة وأطرافها، قال (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ....).

7 - حكم أهل مكة وأطرافها - ويستفاد من المفهوم - وهو عدم جواز التمتع والقِران بل عليهم حج الإفراد.

الثاني : قوله تعالى (وأَتِمُّواْ اَلْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ).

قد مرّ أن التمام هو الإتيان بالجزء الأخير من المركب، وأما الكمال فهو مجموع الأجزاء، فمعنى الآية أدوا الحج والعمرة بكل الأجزاء والشروط وترك المحرمات، إذ لا إتمام لو خالف فيها . وفي الحديث عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : يعني بتمامهما أدائهما، واتقاء ما يتقي المحرم

ص: 389

فيهما (1) فقوله (أدائهما) : يعني الإتيان بالأجزاء والشرائط وقوله (واتقاء ...) هو ترك محرمات الإحرام.

ومن أهم شروط العبادات - ومنها الحج - أن تكون بطريقة صحيحة مشروعة، فلا بد من تعلمها عن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وأوصيائه الذين يُبينون كلام رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم .

كما أن قبول العمل بل وصحته متوقف على ولايتهم ولذا ورد في الأحاديث أن تمام الحج زيارتهم، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إذا حج أحدكم فليختم بزيارتنا فإن ذلك من تمام الحج (2) وعنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ : تمام الحج لقاء الإمام (3) ، وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ألموا برسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم إذا خرجتم إلى بيت الله الحرام، فإن تركه جفاء، وبذلك أمرتم، وألموا بالقبور التي ألزمكم الله حقها وزيارتها واطلبوا الرزق عندها .

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : تمامهما : اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج ، وفي خبر آخر : من تمام الحج والعمرة : أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير (4).

وفي قوله تعالى (لِلَّهِ) ردّ على المشركين الذين كانوا يحجون مشركين أصنامهم مع الله، فأمر الله سبحانه أن يكون الحج والعمرة خالصاً لله تعالى بل ولا برياء أو سمعة أو بغرض آخر كأن يكون حجه للتجارة أو السياحة ونحو ذلك .

والآية تدل على جملة من الأحكام : .

ص: 390


1- البرهان ،ج 2، ص 110 عن الكافي ج 4 ، ص 264 .
2- الوسائل ج 14 ، ص 324 عن العلل والعيون
3- الوسائل ج 14 ، ص 324 و 325 عن الكافي والعلل والعيون.
4- الجوهر الثمين ج 1، ص198.

منها : أن العمرة واجبة كالحج، فإن أتى بالتمتع فقد أدّى التكليفين وإلا وجبت عليه عمرة مفردة مستقلة وكذا من لا يتمكن من الحج ويتمكن من العمرة فيجب عليه شد الرحال إليها وذلك لقوله (أَتِمُّواْ) وهو أمر دال على الوجوب، وقد مرّ أن الإتمام هو الأداء.

ومنها : عدم جواز قطع الحج والعمرة، حتى إذا كانا مندوبين، فمن أحرم ندباً وجب عليه الإكمال.

وفي تقديم لفظ الحج على العمرة دلالة على أهمية الحج، مع دخول عمرة التمتع في الحج فكانت جزءاً منه .

ثم اعلم أن الحج على ثلاثة أقسام أشارت إليها الآية، نذكرها مختصراً :

1 - حج التمتع ، وهو أن يُحرم من الميقات بنية العمرة، ويأتي بعمرة التمتع ، ثم يقصر ويُحِلّ وتحل له محرمات الإحرام إلى الحج، فيحرم بالحج من مكة ويؤدي المناسك ومنها الهدي وهذا وظيفة البعيد عن مكة .

2 - حج القران، وهو أن يصطحب معه الأضاحي ويجعل عليها علامة - كشق سنامها أو تعليق شيء في رقبتها - وهذا يبقى على إحرامه إلى أن يؤدي مناسك الحج، وينحر الهدي الذي اصطحبه معه.

3 - حج الإفراد وهو أن يُحرم بقصد الحج لا عمرة التمتع، من غير اصطحاب للهدي، وهذا وظيفة أهل مكة ،وأطرافها، وكذا يجوز للبعيد في غير حجة الإسلام.

ويجب على من أتى بحج الإفراد أن يأتي بعمرة مفردة أيضاً، لأنها واجبة بالاستقلال.

ص: 391

والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية .

فقوله (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ...) لعلّه إشارة إلى حج القرآن وقوله (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ...) بيان لحج التمتع ومفهوم قوله (ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُن أَهْلُه ....) لعله إشارة إلى حج الإفراد.

الثالث : قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَحْصِرْتُمْ) .

(الحصر) لغة هو الحبس والمنع ويلازمهما : التضييق وقد يستعمل فيما كان بس- بسبب داخلي كالمرض ونظيره قوله تعالى (أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ (1) ، أو خارجي كالعدو، كقوله ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ) (2) وقيل بالفرق بين الحصر والإحصار (3).

وسياق الآية وكذا الروايات تدل على أن المراد بقوله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) هو الإحصار بالمرض لا بالعدو، وذلك لأن الممنوع بالعدو ينحر ساقه من هدي في مكان الصد كما فعل رسول الله حين صُدّ حيث نحر في الحديبية (4) وهذه الآية تدل على وجوب إرسال الهدي إلى محله - وهو مكة أو منى - والانتظار إلى وصوله إلى المحل ثم الإحلال.

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ :المحصور غير المصدود، وقال: المحصور هو المريض، والمصدود هو الذي يرده المشركون، كما ردّوا رسول الله وإنه ليس من مرض (5)..

ص: 392


1- سورة النساء، الآية: 90.
2- سورة التوبة، الآية 5.
3- للتفصيل انظر مفردات الراغب ص 238 ، ومقاييس اللغة ص 249.
4- راجع مجمع البيان، ج 2، ص 58 .
5- البرهان ،ج 2، ص 112 عن التهذيب.

نعم روي في تفسير (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) : فإن منعكم خوف أو عدو أو مرض أو هلاك بوجه من الوجوه، فامتنعتم لذلك(1) .

الرابع: قوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي تقربوا بما استيسر، أو فعليكم ما ،استيسر أو فاهدوا ما استيسر .

و(اسْتَيْسَرَ) من اليُسر وهو بمعنى السهولة ضد العسر، قيل يَسُر واستيسر وتيسر بمعنى واحد وقيل بالفرق بينهما لأن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني فالمجرد بمعنى صار سهلاً و(استيسر) بمعنى طلب الأسهل، و (تيسر) بمعنى ما أمكن فلا يطلق على الأقل مع التمكن من الأكثر.

وكأنه نظر إلى أن من معاني باب التفعّل : التكلّف، وهو لا يصح إلَّا في الأصعب، وأن باب الاستفعال بمعنى طلب الشيء مطلقاً فيصح في الأسهل فتأمل.

و(الْهَدْيِ) حددته الروايات في الإبل والبقر والغنم ويلحق بها الجاموس والمعز، فلا يجوز غيرها .

و(الْهَدْىِ) للجمع مفرده هَدْيَة، كتمر وتمرة، وسُمّى هدياً لأنه يُهدى إلى الحرم أو لأنه يساق إلى الحرم، من الهَدِيّة أو الهداية.

الخامس : قوله تعالى ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدَىُ مَحِلَّهُ).

حلق الرأس كناية عن الإحلال فالمعنى لا يجوز لكم الإحلال عن الإحرام حتى يصل الهدي إلى مكانه المقرر له . .

ص: 393


1- التبيان ج 2، ص 155 ومجمع البيان ج2، ص 57 .

وهذا المقطع هو حكم عام للمحصور وغيره - كما دلت عليه الروايات - أما المحصور بمرض فإن كان حاجّاً فيجب عليه الانتظار إلى يوم النحر حيث تنحر الأضاحي بمنى، وإن كان معتمراً، فيضرب موعداً بينه وبين من يرسل الهدي معهم ثم يُحل في ذلك اليوم، ولا بأس عليه إن اختلفوا في الميعاد.

وأما غير المحصور فهو القارن أي الذي ساق معه الأضاحي حين الإحرام، فهذا يلزمه البقاء على الإحرام إلى يوم العيد، ويُحل عن الإحرام بعد نحر الأضاحي.

وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أهل بالحج وساق مائة بَدَنة(1) .... ولم يكن يستطيع أن يُحِلّ من أجل الهدي الذي كان معه، إن الله عزّ وجل يقول: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهُدَىُ مَحِلَّهُ) ، ... فأقبل عليٌّ: عَلَيْهِ السَّلاَمُ من اليمن حتى وافى الحج. . . فقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : يا علي بأي شيء أهللت؟ فقال : أهللت بما أهل به النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فقال : لا تُحل أنت فأشركه في الهدي وجعل له سبعاً وثلاثين، ونحر رسول الله ثلاثاً وستين ... الحديث (2).

كما أن الآية دلت على أن للهدي مكاناً خاصاً، فلا يجوز نحره في غيره، ودلت السنة على أن محلّه للحاج منى، وللمعتمر مكة.

وأما المصدود - الذي صدّه العدو - فمحل الهدي هو مكان الصد ،والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية . .

ص: 394


1- أي بعير.
2- البرهان ،ج 2، ص 113 - 114 عن الكافي ج 4 ، ص 248 .

السادس : قوله تعالى (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذَى....).

هذا أيضاً حكم عام لكل محرم، وهو ما إذا اضطر إلى ارتكاب أحد محرمات الإحرام، فقد أجيز له مع دفع بدل، وفي الآية ذكر حكم خصوص الحلق، ولعله لأنه شعار الإحلال عن الإحرام، وهو ظاهر لعامة الناس، وأما سائر محرماته فهي أمور غير بينة للعموم بين ما لا يطلع عليها أحد كالرفث وبين ما يطلع عليه القليل كالجدال، وأما فدية سائر محرمات الإحرام فقد بينتها السنة المطهرة .

وقوله (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا) تفريع على قوله (وَأَتِمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ومن الواضح أن المرض خاص بما كان يحتاج في مداواته إلى الحلق.

وقوله (أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ) أي بغير المرض كأن تؤذيه هوام الرأس كالقمل، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال : مرّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم على كعب بن عُجرة والقمل يتناثر من رأسه وهو محرم، فقال له : أتؤذيك هوامك؟ فقال : نعم فأنزل الله هذه الآية ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُکٍ)، فأمره رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أن يحلق رأسه، وجعل الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين مدان لكل ،مسکین ، والنسك : شاة (1).

وهذا أيضاً من تسهيل الشريعة على الناس، مع أن هذا النوع من المرض والأذى يمكن تحمّله ولكن الله تعالى سهل الأمر برفع الحكم إلى بدل ولم يحصر البدل في شيء واحد بل جعل المكلّف مخيّراً، وإحدى خصال التخيير هو الصوم الذي يمكن للفقراء أيضاً . .

ص: 395


1- البرهان ،ج 2، ص 117 - 118 عن تفسير العياشي.

السابع : قوله تعالى ﴿فَإِذَا أَمِنتُم فَمَن تَمَنَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) .

أي فإذا أمنتم من العدو والمرض بأن زال المانع وكنتم في حال سعة وأمن فتمتعوا .

وقوله (فَمَن تَمَتَّعَ...) إخبار يقصد به الإنشاء والجملة الخبرية أدلّ على الوجوب من صيغة الأمر - كما قرَّر في أصول الفقه والباء في (بِالْعُمْرَةِ) للسببية، أي تمتع بسبب إتيانه بالعمرة، فإن المُحرم إذا دخل مكة كان يبقى على إحرامه إلى أدائه مناسك الحج والحلق في منى ولكن شرع الله تعالى للآفاقي - البعيد عن مكة - أن يأتي بعمرة ثم يُحِلّ من إحرامه ويستمتع بالطيب والنساء وسائر محرمات الإحرام إلى أن يُحرِم مرة أخرى للحج.

فقوله (تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ) أي بسبب إتيانه بالعمرة يتمتع، (إِلَى الْحَجِّ) أي إلى حين إحرامه للحج، أما من دخل مكة بإحرام حج الإفراد أو القران فلا تمتع له بل يبقى على الإحرام إلى يوم النحر .

وهذا تسهيل من الله تعالى للآفاقي الذي يقطع مسافة طويلة وهو في حالة الإحرام ممتنعاً عن ،محرماته وخاصة أن أشهر الحج ثلاثة فقد يدخل مكة في أوائل شوال، فبقاؤه محرماً تصعيب عليه، فأراد تعالى التخفيف عنه بأن شرّع له العمرة أولاً ، فإذا أحلّ منها أباح له الاستمتاع بمحرمات الإحرام ليستريح من تعب السفر، بل ليكون حين إحرامه إلى الحج بحيث لا تتوق نفسه إلى الملذات وخاصة النساء - لقرب عهده بها ، فيتفرغ للعبادة والتوجه إلى الله تعالى من غير ضغط شهوة أو تشتت بال بل هو رحمة لضعاف الإيمان لكي لا يختانون أنفسهم في حال الإحرام عكس أهل مكة فإن وظيفتهم الإفراد أو القران ويتمكنون

ص: 396

من الإحرام للحج في يوم عرفة، فهم يستمتعون بما أباح الله لهم إلى يوم الحج .

هذا مضافاً إلى أن في إحلال المسافرين منفعة لأهل مكة حيث يسهل للحجاج البيع والشراء بلا تقييد لحركتهم بالإحرام ومحرماته.

والتمتع شُرّع في أواخر حياة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَمحيث حج رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بأصحابه وكان قد ساق معه مائة بَدنَة لينحرها في منى وجعل سبعاً وثلاثين منها للإمام علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ (1).

-ولعل سوقه هذا العدد ليطعم بها أهل مكة ولتحبيب قلوبهم أو لتعظيم أمر الحج أو لأنها من شعائر الله فأراد الرسول إظهار هذه الشعيرة، وخاصة أن البدن يجعل عليها علامة - لتُعرف .. فلما نزلت آية التمتع بالعمرة إلى الحج أمر رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم الناس بالإحلال إلا من ساق الهدي فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن آبائه عَلَيْهِم السَّلاَمُ قال : لما فرغ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم من سعيه بين الصفا والمروة، أتاه جبرئيل عَلَيْهِم السَّلاَمُ عند فراغه من السعي - وهو على المروة ، فقال : إن الله يأمرك أن تأمر الناس أن يُحلّوا إلا من ساق الهدي، فأقبل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم على الناس بوجهه، فقال: يا أيها الناس هذا جبرئيل - وأشار بيده إلى خلفه - يأمرني عن الله عزّ وجل أن آمر الناس أن يُحِلُّوا إلّا من ساق الهدي فأمرهم بما أمر الله به، فقام إليه رجل (2) وقال : يا رسول الله نخرج إلى منى ورؤوسنا تقطر من النساء؟

ص: 397


1- راجع الحديث مفصلاً في البرهان ج 2، ص 114 عن الكافي، وقد نقلنا بعض فقراته قريباً.
2- صرحت مصادر العامة بأن هذا الرجل كان عمر بن الخطاب، وقد منع عن عمرة التمتع في ،خلافته وقال متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما، متعة الحج ومتعة النساء.

وقال آخرون : يأمُرُ بالشيء ويصنع هو غيره !! فقال : يا أيها الناس، لو استقبلت من أمري ما استدبرت صنعت كما يصنع الناس، ولكني سقت الهدي، فلا يُحِلّ لمن ساق الهدي، حتى يبلغ الهدي محله، فقصر الناس وأحلّوا وجعلوها عُمرة . . . الحديث (1).

وقوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) جزاء لقوله (فَمَن تَمَتَّعَ...) أي كل من أتى بحج التمتع فعليه الهدي عكس حج الإفراد الذي لا هدي فيه وذكر خصوص الهدي من مناسك حج التمتع إما لكونه تشريعاً جديداً لم يألفوه لتعودهم على حج الإفراد والقران فقط - فاحتاجوا إلى ذكره بالخصوص، وإما لبيان أن حكمة هذا التشريع هو مقابل السماح لهم بالتمتع بين الحج والعمرة، وإما لبيان أهمية الهدي في حج التمتع ، بل تسمية أعمال الحج (بالمناسك) لاشتماله على (النسيكة) وهي الذبيحة - كما مرّ -.

ولعل تشريع حج التمتع للبعيد عن مكة هو لاشتماله على الذبيحة أيضاً - مضافاً إلى التسهيل وقد مرّت الإشارة إليه - ، وذلك ليتبين عظمة الحج ولينتفع الناس نفعاً مباشراً من الحج بالأكل من لحوم الأضاحي، وخاصة أهل مكة الذين قد يتضايقون من الحجيج وليس لكلهم نفع مباشر من الحجاج إذ بعضهم فقراء، فلينتفعوا بالأضاحي، مضافاً إلى رمزية تقديم القربان على العبودية والطاعة.

الثامن: قوله تعالى ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ...).

عدم وجدان الهدي هو أن يكون فقيراً لا يملك ثمن الهدي، أما لو كان يملك ثمنه ولم يجد هدياً، ففي الحديث : يخلّف الثمن عند بعض .

ص: 398


1- البرهان ،ج 2، ص 119 - 120 عن التهذيب ج 5 ، ص 33 .

أهل مكة ويأمر من يشتري له ويذبح عنه وهو يجزي عنه، فإذا مضى ذو الحجة أخر ذلك إلى قابل من ذي الحجة (1).

ويجب الصوم في ذي الحجة فقط، وأفضل الأوقات يوم السابع والثامن والتاسع، وبعدها في الفضل يوم النفرة ويومان بعدها - أي الثالث عشر إلى الخامس عشر - وهي الأيام البيض، فإن نفر في اليوم الثاني عشر جاز له ابتداء الصوم منه ..

وقوله (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) أي إلى أهلكم ، فإذا بدا له الإقامة في انتظر وصول أهل بلاده إليها، فإن ظن أنهم قد وصلوا فليصم السبعة أيام كما في الأحاديث (2) - ولعل بدليلة الصوم هو الشعارية الهدي بحيث احتاج إلى كون بدله أمراً ظاهراً ومتوالياً، فلذا شرع ثلاثة أيام منه في الحج لكي يشعر الحج بأهمية الهدي وكذا إشعار الجميع بالأهمية، فلذا شُرع سبعة أيام حين الرجوع إلى الأهل لاستمرار أثر الحج وحكمه حتى حين الرجوع .

التاسع : قوله تعالى (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَهٌ).

إنه لا يخفى على الكل أن ثلاثة وسبعة تساوي عشرة فذكره في القرآن - وهو أبلغ كلام وأبعده عن اللغو - يكون بغرض الإشارة إلى وفاء الأيام العشرة بفضل وثواب الهدي ف- ( الكاملة) ليست بمعنى (التامة).

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ الكامل : كمالها كمال الأضحية، سواء أتيت بها أو أتيت بالأضحية تمامها كمال الأضحية (3)..

ص: 399


1- الوسائل ج 14 ، ص 176 . وللتفصيل راجع موسوعة الفقه ج 44 ، ص 304.
2- راجعها في الوسائل ج 14 ، ص 190.
3- البرهان ،ج 2، ص 124 عن التهذيب.

أي إذا أتممت العشرة أيام فقد نلت فضيلة الأضحية وثوابها، فهذه العشرة ليست ناقصة ثواباً ، بل هي كاملة ثواباً .

العاشر : قوله تعالى ﴿ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، أي (ذَلِكَ) التمتع إنما هو تكليف البعيد عن المسجد الحرام. و(الحاضر) هنا بمعنى القريب كقوله (الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي قريبة منه، فمعنى الآية أن حج التمتع وظيفة من لم يكن سكنه قريباً إلى المسجد الحرام.

وقد تم تحديد القُرب في الروايات بثمانية وأربعين ميلاً، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : يعني أهل مكة ليس عليهم ،متعة كل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً - ذات عرق وعسفان - كما يدور حول مكة فهو ممن دخل في هذه الآية، وكل من كل أهله وراء ذلك فعليهم المتعة(1)، فهي تعادل ستة وتسعين كيلومتراً. ففي الفقه : حيث إن الكيلومتر نصف الميل، والميل ثُلث الفرسخ ، تكون ذات عرق على سبعة وأربعين ميلاً من مکة المكرمة (2) .

وعلى هذا عمل المشهور ورواياته أصح سنداً، فلا بد من حمل الروايات المعارضة على ما لا يتنافى مع هذا التحديد، والتفصيل يطلب من الفقه (3).

الحادي عشر : قوله تعالى ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .

مر أن هذا تأكيد وشدة وعيد لعدم قبول نفوسهم لحج التمتع، وفي .

ص: 400


1- الوسائل ج 11، ص 259 .
2- موسوعة الفقه ج 41، ص 57
3- راجع موسوعة الفقه ج 41، ص 58 فما بعد.

قوله (أَعلَمُوا) قال في المواهب : لأنه مع العلم يكون الإنسان أشد احترازاً عن الوقوع فيما يوجب العقاب والعذاب، ولأن العالم لا يخالف أمر الله تعالى - لأن علمه يمنعه ، ويرجى مع العلم استصلاح الحال فيكون الإعلام بالعلم بشدة العقاب لطفاً في التقوى، للعالم به (1). .

ص: 401


1- مواهب الرحمن ج 3، ص198.

ص: 402

الفهرس

403

فصل: الإسلام امتداد لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ...9

القسم الأول: أركان الأمة... 13

الركن الأول الإمامة... 13

الآية 124... 13

الأمر الأول... 21

الأمر الثاني... 22

الأمر الثالث... 24

الأمر الرابع... 25

الركن الثاني: الكعبة... 26

الآية 125... 26

الركن الثالث: الاتباع... 34

الآية 126... 34

الركن الرابع: العمل الخالص... 41

الآيات 127 - 129... 41

ص: 403

الآيتان 130 - 131... 54

القسم الثاني: استمرارية الأمة ...62

الآيتان 132 - 133 ...61

الآية 134 ...69

القسم الثالث: الوصية ومخالفتها ...72

الآيتان 135 - 136 ...72

الآيتان 137 - 138 ...79

القسم الرابع: دحض حججهم..87

الآيات 139 - 141.. .87

فصل مقومات الأمة الإسلامية.95

المقوّم الأول: القبلة... 99

الآيتان 142 - 143... 101

الآيتان 144 - 145...118

الآيات 146 - 148 ...129

الآيتان 149 - 150... 137

المقوّم الثاني من مقومات الأمة الإسلامية الرسالة - القيادة -... 146

الآيتان 151 - 152 .148

المقوّم الثالث من مقومات الأمة الإسلامية الجهاد - تحمل المشاق -... 157

الآيات 152 - 156 ...159

حول البرزخ ...166

ص: 404

الآية 158 ...176

الآيات 159 - 162 ...183

الآيتان 163 - 164 ...193

الآيات 165 - 167 ...201

المقوم الرابع من مقومات الأمة الإسلامية الأحكام - الحلال الحرام - ...211

الآيات 168 - 171 ...212

الآيتان 172 - 173 ...222

الآيات 174 - 176 ...231

الآية 177 ...240

فصل في أحكام الموت ...251

الآيتان 178 - 179 ...255

الآيات 180 - 182 ...266

فصل في أحكام الصوم الآيتان 183 - 184 ...275

الآية 185 ...289

الآية 186 ... 303

من شرائط الدعاء ...310

من آداب الدعاء ...312

الآية 187 ... 318

الآية 188 ...333

ص: 405

الآية 189 ...344

فصل في أحكام الجهاد ...355

الآيات 190 - 192 ...359

الآيات 193 - 195 ...373

فصل في أحكام الحج...383

الآية 196 ...387

ص: 406

التفکر في القرآن (سورة البقرة) المجلد 3

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفکر في القرآن (سورة البقرة) المجلد 3/ تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم، 1443ق = 1400ش.

مواصفات المظهر: 410ص.

فروست: التفكر في القرآن؛8.

شابك: 7-628-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية

محتويات: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع: تفاسير (سوره اعراف)

موضوع: تفاسير شيعه -- قرن 14

موضوع: Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

ترتيب الكونجرس: BP102/26

تصنيف ديوي: 297/ 18

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 8441086

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

ص: 2

التفكر في القرآن الجزء الثالث

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

دار العلوم

ص: 3

ص: 4

«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ »

النحل : 44.

ص: 5

ص: 6

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة اللَّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .

ص: 7

ص: 8

الآيات 197 - 199

«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ »«لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ »«ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »

197 - وقت الحج« أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ » وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، فلا يمكن تأخيرها بالنسيء كما كان يفعل الجاهليون، «فَمَنْ فَرَضَ »على نفسه وفيهن أي في الأشهر، «الْحَجَّ » والمعنى أنه أحرم لكي يؤدي الحج، فعليه الالتزام بتروك الإحرام «فَلَا رَفَثَ » إلى النساء بمباشرتهن، «وَلَا فُسُوقَ » أي خروج عن طاعة اللَّه بالكذب والسباب والمفاخرة على الوجه المحرم، «وَلَا جِدَالَ » أي قول «لا والله» و «بلى والله» «فِي الْحَجِّ» أي في حالة الإحرام، وحجكم وترككم لمحرماته من الخير «وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ» أيّاً كان هذا الخير «يَعْلَمْهُ اللَّهُ »فيجازيكم عليه، «وَتَزَوَّدُوا »في الحج لآخرتكم بالاستغفار وسائر الأعمال الصالحة، وبترك القبائح كعدم

ص: 9

حمل النفقة مما يؤدي إلى الاستعطاء من الناس «فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ »للآخرة «التَّقْوَى» بعمل الخير وترك الشر «وَاتَّقُونِ »، خافوا عقابي « يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ».

198 - وحيث لا منافاة بين الحج وبين الكسب، فإنَّ اللَّه أمر بالتجارة أيضاً ف«لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ »إثم وحرج « أَنْ تَبْتَغُوا »اي تطلبوا « فَضْلًا »أي رزقا بالتجارة والاسترباح « مِنْ رَبِّكُمْ » فقد أمركم اللَّه بطلبه وهو رازقكم . وعليكم الوقوف بعرفات « فَإِذَا أَفَضْتُمْ »أي خرجتم جموعاً بأن دفعتم أنفسكم بكثرة كفيض الماء «مِنْ عَرَفَاتٍ فَ»توجهوا نحو المشعر و«اذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ » وهو مزدلفة فإنَّ له حُرمة عند الله، «وَاذْكُرُوهُ »اذكروا اللَّه ذكرا شديداً «كَمَا هَدَاكُمْ »أي بإزاء هدايته لكم أو بالكيفية التي علمكم - لا كذكر المشركين - «وَإِنْ » مخففة من «إنَّ» أي وإنكم «كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ» قبل هدايته « لَمِنَ الضَّالِّينَ »عن دينه ولا تعرفون الرشاد .

199 -« ثُمَّ »بعد المشعر « أَفِيضُوا »إلى منى « مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ » أي بطريقة إبراهيم ومن تبعه، وهو أن تكون الإفاضة من عرفات مروراً بالمشعر، لا من حيث أفاضت قريش من المشعر إلى منى من غير توقف في عرفات، و« وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ »من ذنوبكم «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»

بحوث

الأول: قوله تعالى «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ »

ص: 10

ذكرت كلمة الحج في هذه الآية ثلاث مرات من غير إرجاع ضمير في الثاني والثالث، وذلك لاختلاف المقصود، فالأول: يراد به وقت الحج ، والثاني : أفعال الحج، والثالث : حالة المُحرِم، فالمعنى وقت الحج معلوم، ومن ألزم نفسه بأفعال الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في حال الإحرام .

ومعنى الآية : زمان الحج معلوم مؤقّت، فلا تغيير فيه كما كان يفعل الجاهليون بالنسيء، وقد قال تعالى عنه «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا»(1)، كما أن زمانه معلوم لدى الناس فهو مما سنه إبراهيم علیه السلام وكان يعرفه أهل الجاهلية، وأقرّه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم.

الثاني : قوله تعالى: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ»

الفرض قد يكون بمعنى «التشريع»، وهو خاص باللَّه تعالى، فإنَّه يشرّع الأحكام، وقد يكون بمعنى «التكليف» وهو يتعلق بالمكلَّفين، فيقال هذا فرض زيد وذاك فرض عمرو أي تكليفه، فمعنى «فمن فرض» أي من ألزم نفسه بالحج، وذلك عن طريق الإحرام، فإنَّ من يُحرم فقد ألزم نفسه بالحج وعليه إكمال المناسك .

والإحرام هو أول أعمال الحج، ولذا كان تفسير (فرض) بالشروع تفسيراً باللازم، وينعقد الإحرام بالتلبية للمتمتع والمفرد، وأما القارن فبها أو بالإشعار أو بالتقليد(2) كما في الروايات(3) .

ص: 11


1- سورة التوبة، الآية: 37.
2- الإشعار هو شق سنام البعير وتلطيخه بالدم، والتقليد هو تعليق شيء على رقبة البعير للدلالة على أنه هدي.
3- راجع: البرهان ج2، ص129 عن الكافي.

الثالث : قوله تعالى :« فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ»

هذا نفي يراد به النهي، وهو أبلغ في المنع، كأنّ المكلّف التزم بالحكم فيقع الإخبار بأنه لم تقع هذه الأمور.

ومحرمات الإحرام أقسام:

1۔ منها ما هي محرمة على الكل - كالفسوق -، فذكره بالخصوص من بين سائر المحرمات لتعارفه في الحج ولكونه أقبح من الحاج.

2- ومنها ما هي محرّمة لحرمة الحرم فلا تجوز حتى للمُحِلّ، كصيد الحرم وقلع نباته.

3- ومنها ما هي محرّمة على المُحرِم فقط - في الحِلّ كان أم في الحرم - کالرفث.

ومحرماته تبلغ أربعة وعشرين، ذكرت الآية ثلاثة منها، والباقي تكفّلت به آیات أخرى كقوله«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ »(1)، أو السنة المطهرة .

وذكر هذه الثلاثة بالخصوص في هذه الآية، لكثرة الابتلاء بالرفث الشدة الرغبة إليه أكثر من سائر محرمات الإحرام، كما أن الفسوق والجدال أمور اجتماعية مظاهرها واضحة عكس سائر المحرمات التي هي أمور فرديّة، مضافاً إلى تعارف التفاخر على الوجه الحرام في الحج بين العرب، وهو مما يكثر فيه الكذب والمنازعة.

و(الرفث) قد مرّ أنه الملامسة أو ما يفضي إليها بقول أو إشارة .

ص: 12


1- سورة المائدة، الآية: 95.

و(الفسوق) هو الخروج عن طاعة الله، وفُسِّر في الروايات بالكذب والسباب والمفاخرة .

و(الجدال) فُسِّر في الروايات بقول (لا والله) و(بلى والله))(1)، أي اليمين - صادقاً كان أم كاذباً - إذ ذلك لا يناسب الحج وإن كان صدقاً قال سبحانه : «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ » (2)

والظاهر أن الروايات تُعيِّن المراد من الرفث والفسوق والجدال، وليست لبيان المصداق، لأنها تُحَدِّد المراد وتنفي غيره، وهذا ما فهمه الفقهاء منها(3).

الرابع : قوله تعالى : «وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ» .

لما نهى اللَّه تعالى عن الرفث والفسوق والجدال - وهي شرّ في الحج -، عقّبه بالحثّ على الخير، ترغيباً لهم لفعل الخير، مع بيان أن منعهم عن بعض الأمور إنما هو لعدم كونها خيراً .

وفي التقريب : ولعلّ ذكره هنا لكثرة احتياج الحجاج بعضهم إلى بعض في مختلف الشؤون، فأريد التنبيه بأن كل خير يصدر من الإنسان إنما هو بعلم اللَّه فيجازيه على ذلك(4) .

والمقصود في الآية بيان الجزاء، أي يعلمه اللَّه فيجازيكم عليه، إذ الإنسان العالم بالخير يجازي صاحب الخير - ولو بالمدح أو الحبّ - فكيف باللَّه تعالى وهو الخير المطلق والقادر المطلق الذي لا تنقص

ص: 13


1- راجع الفقه ج42 ص401 - 402.
2- سورة البقرة، الآية: 224.
3- راجع الفقه ج42، ص397 - 407.
4- تقريب القرآن: ج1، ص232.

خزائنه شيئاً من كثرة العطاء ولا يعجزه شيء، فإن علمه بفعل الخير يستتبع جزاءه عليه حتماً - تفضلاً منه ورحمة - .

الخامس : قوله تعالى: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ».

إنَّ أحق شيء بالاستكثار منه هو التقوى فإنَّه النافع للدنيا والآخرة، فيخاطبهم تعالى بأنكم في سفركم إلى الحج اصطحبتم معكم ما تحتاجونه في الطريق وفي مكة، فأنتم أحوج إلى الزاد للآخرة، لأنها مقرّكم، وخير الزاد إليها هو التقوى .

وقيل : إن بعض الناس لم يكونوا يأخذون الزاد للحج بادِّعاء أنهم ضيوف الله، فكانوا يضطرون إلى الاستعطاء في الطريق، فأمروا بأخذ مؤونة الطريق، فإنَّها قرينة التقوى، دون الاستعطاء الذي فيه منقصة وذلَّة، ويكون حراماً أحياناً(1)، فالمعنى تزودوا للآخرة، ومن التزود أخذ نفقة السفر إذ تركه يؤدي إلى خلاف التقوى - من الذلِّ والاستعطاء ونحو ذلك -.

السادس :لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ».

لما قال سبحانه «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى » لعلّه يتوهَّم متوهِّم أنه لا يجوز التزود للدنيا، فأتبعه اللَّه سبحانه بقوله «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ...» فإنَّه لا تنافيَ بين الحج وبين طلب الرزق، فليس كصلاة الجمعة التي لا تجتمع مع البيع، قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

ص: 14


1- عن التقريب ج1، ص232 - بتصرف -، وراجع مجمع البيان ج2، ص67.

تَعْلَمُونَ » «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »(1)

وذلك لأن اللَّه سبحانه شَرّع العبادات بطريقة لا تتنافى مع حياة الناس، بل هي بصالح معيشتهم، وذلك لطفٌ منه ورحمة ، فإذا كان وقت العبادة قصيراً فلا ضير في ترك العمل والانشغال بها، فهنا لأجل التزاحم أُمِرُوا بترك العمل والتوجه إلى العبادة كصلاة الجمعة التي لا تستغرق وقتاً، وهي في الأسبوع مرّة، ووقتها هو وقت خلود الناس إلى الراحة - عادة -، ولا يمكن الجمع بينها وبين التجارة.

أما إذا لم يكن تعارض بين العبادة والتجارة، كالصوم والحج، فلا مانع من الجمع بينهما بل لعلّه يكون مطلوباً. وسيأتي في الآيات اللاحقة قوله تعالى : «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ».

بل التكاليف الشرعية بشكل عام لا تزاحم الحياة اليومية للناس، ولذا يحاول بعض الناس إيجاد تصادم - قسراً - بین الالتزام بالفرائض وبين حياة الناس، وليس منع الحجاب في المدارس في بعض الدول إلَّا محاولة لذلك لكي ينسلخ الناس من الإسلام لمّا يرونه متصادما مع طلب أبنائهم للعلم.

ونُقِلَ أن بعض الدول الاستعمارية أجبرت المزارعين على زراعة العنب أكثر من مقدار الحاجة إلى الأكل وصنعوا معامل للخمور لتشتري ذلك العنب، فربطوا حياة أولئك المزارعين بالخمر، لتنعدم فيهم غيرة الإسلام لمّا ترتبط معيشتهم بواحد من أكبر المحرمات.

ص: 15


1- سورة الجمعة، الآيتان: 9- 10.

ثم إنَّ الحج فيه نفقات كثيرة، ورفع الجناح عن طلب الرزق فيه يرغب الناس فيه، ويرفع عن كاهلهم تلك النفقات، وفيه خدمة للحجاج لأنهم يجتمعون من مختلف البلدان فيتبادلون ما يحتاجون، كما فيه مصلحة لأهل بلدانهم لمّا يجلب الحجاج معهم بعض ما يحتاجون .

وقوله «فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» ظاهر في طلب الرزق وبهذا المعنى وردت بعض الروايات)(1). وروي أنه (أن تطلبوا مغفرة من ربكم)(2) ولعلّه تأويل الآية .

أقول: ويمكن أن يكون إشارة إلى الوقوف بعرفات، أي ليس عليكم جناح أن تقفوا بعرفات طالبين من اللَّه المغفرة، وذلك لأن قريشاً وأهل الحرم لم يكونوا يقفون بها ترفعاً - كما سيأتي -، فرفع عنهم الجناح وهذا لا ينافي وجوب الوقوف فيها ، لأنه نظير قوله «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا » فتأمل .

السابع : قوله تعالى: « فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ».

فاض الماء: بمعنى سال بسهولة، وأفاض إناءه : إذا ملأه حتى (3)، فمعنى « أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ » إذا دفعوا أنفسهم بكثرة كجريان السيل، لأن الحجاج يندفعون بمجرد حلول الليل من عرفات کالسیل سائرين نحو المشعر .

و(عرفات) علم للمكان المعروف، وروي عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم : إنَّ العصر

ص: 16


1- البرهان ج2، ص136 عن تفسير العياشي.
2- مجمع البيان: ج2، ص71، التبیان ج2، ص168.
3- راجع مقاييس اللغة ص803، والمفردات ص648.

هي الساعة التي عصی آدم ربه، ففرض اللَّه على أمتي الوقوف والتضرع والدعاء في أحب المواضع إليه، وتكفل لهم بالجنة، والساعة التي ينصرف بها الناس هي الساعة التي تلقى فيها آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنَّه هو التواب الرحيم(1) وفي فضائل يوم عرفة وأرض عرفات روايات كثيرة . و(المشعر الحرام) هو المزدلفة، سُمي مشعراً لأنه معلم للحج كالشعائر - جمع شعيرة - فإنَّها أعلام الحج وأعماله(2)، و(الحرام) لأنّ له خرمة يجب أن تحفظ .

وعن الإمام الصادق عليه السلام : لأن جبرئيل أتى إبراهيم يوم التروية، فقال يا إبراهيم ارتو من الماء لك ولأهلك - ولم يكن بين مكة وعرفات ماء -، ثم مضى به إلى الموقف، فقال له: اعترف واعرف مناسكك، فلذلك سميت عرفة، ثم قال له : ازدلف إلى المشعر، فلذلك سميت المزدلفة(3)، أي اقترب .

الثامن : قوله تعالى : «وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ »

تكرر في هذه الآيات الأمر بذكر اللَّه تعالى، «فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ »، و «وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ »، و« فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا »، و«وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ »، وذلك لأهمية ذكر اللَّه في كل هذه المشاعر والأيام، ولأن لكل مشعر مغفرة وثواب خاصاً به، ولأنها عبادة يشترط فيها القربة، ولكثرة الغفلة عن ذكره تعالى للانشغال بأمور أخرى .

ص: 17


1- الوسائل ج13، ص 550 أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، الباب 19.
2- راجع مقاييس اللغة ص507، ومفردات الراغب ص456.
3- الوسائل ج13، ص 552، وروي غير ذلك ولا منافاة إذ لعلّ سبب التسمية متعدد.

وفي الآيات تعليم لكيفية ذكره :

1- كما علمكم من الذكر لا بالطرق المبتدعة، حسب إحدى معاني قوله : «كَمَا هَدَاكُمْ » .

2- أن يكون من صميم القلب لا مجرد لقلقة لسان، قال : «كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ».

3- باستغفاره تعالى، قال : «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ» .

4 - طلب الدنيا والآخرة منه، قال : «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ».

5- عن طريق التقوى، وتعدد الأمر بها كقوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ »«وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ »،«خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ».

6- التحذير من الآخرة، كقوله «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ » «سَرِيعُ الْحِسَابِ» «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ » .

7- التذكير بنعمه وفضله، كقوله «وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّين»، «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم»، و«أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا».

وقوله : «كَمَا هَدَاكُمْ » إما بمعني بإزاء هدایتكم، أي هو تفضل عليكم بأن هداكم للإيمان بعد أن كنتم أهل ضلال، فاذكروه لكي تستمر هذه الهداية ، فإنَّ استمرار فضل اللَّه إنما يكون إذا كان المحل قابلا لذلك الفضل، فإذا فقد الإنسان - بسوء اختياره وفعله - القابلية، فإنَّ اللَّه يتركه وشأنه فيضل، وقد مرّ تفصيل ذلك سابقا .

وإما بمعنى اذكروه بالكيفية التي علمكم الله، لا بطريقة أهل الشرك ،

ص: 18

فإنَّكم قبل تعليمه إياكم كنتم ضالين تذكرونه مشرکین به، فهداكم سبحانه إلى ذكره الصحيح .

التاسع : قوله تعالى: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاس»

أي بعد المشعر أفيضوا إلى منى، من المكان الذي يفيض منه الناس لا بطريقة قريش وأهل الحرم .

وذلك لأن قريشاً لم يكونوا يقفون في عرفات بل كانوا يقفون في المشعر رأساً، وكانوا يمنعون الناس من الوقوف معهم ترفعاً وتكبراً، ولما كانوا يشاهدون طلائع الناس قادمة من عرفات، كانوا ينصرفون من المشعر إلى منى لئلا يختلط بهم الناس .

فأمر اللَّه المسلمين بأن يذهبوا إلى منى بطريقة الناس، لا بطريقة قريش، فمعنى الآية ثم أفيضوا إلى منى من حيث أفاض الناس أي من عرفات مروراً بالمشعر، لا من حيث تفيض قريش أي من المشعر رأساً .

وبما ذكرناه يتضح أنه لا تنافي بين الروايات المفسرة - بأنه إفاضة من عرفات -، وبين ظاهر الآية الكريمة - من أنه إفاضة إلى منى بلا حاجة إلى التكلف: بأن كلا الإفاضتين من عرفات، لكن الأولى لتشريع الحكم، والثانية لإبطال بدعة قريش .

بل الأصح هو أن هذه الآية للإفاضة إلى منى فهي تبيّن منتهى الإفاضة (وهي منى)، والروايات تبيّن مبتدأ الإفاضة (وهي عرفات مروراً بالمشعر).

فعن الإمام الصادق علیه السلام : إنَّ أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام، ويقف الناس بعرفة، ولا يفيضون حتى يطلع عليهم أهل عرفة،

ص: 19

وكان رجل يكنى أبا سيّار وكان له حمار فاره، وكان يسبق أهل عرفة، فإذا طلع عليهم، قالوا : هذا أبو سيار، ثم أفاضوا، فأمرهم اللَّه أن يقفوا بعرفة وأن يفيضوا منه(1) .

وفي حديث آخر عنه علیه السلام : كانت قريش تفيض من مزدلفة في الجاهلية، يقولون: نحن أولى بالبيت من الناس، فأمرهم اللَّه أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفه(2).

فانه من الواضح أن إفاضة قريش من المزدلفة كانت إلى منى، وإفاضة الناس إلى منى كان من عرفات مروراً بالمشعر، فأمر اللَّه المسلمين بأن يفعلوا كما يفعل الناس لا كما تفعل قريش .

وذلك لأن فعل قريش كان بدعة بسبب تكبرهم، وأما ما يفعله الناس فهو من سنة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق علیهم السلام وأتباعهم، فعن الإمام الصادق علیه السلام : إنَّ إبراهيم أخرج إسماعيل إلى الموقف فأفاضا منه، ثم إنَّ الناس كانوا يفيضون منه، حتى إذا كثرت قريش، قالوا : لا نفيض من حيث أفاض الناس وكانت قريش تفيض من المزدلفة، ومنعوا الناس أن يفيضوا معهمإلَّا من عرفات، فلمّا بعث اللَّه محمداً صلی اللَّه علیه وآله وسلم أمره أن يفيض من حيث أفاض الناس، وعنى بذلك إبراهيم وإسماعيل علیهما السلام (3).

ص: 20


1- البرهان ج2، ص138 عن تفسير العياشي.
2- الوسائل ج13، ص 554.
3- البرهان ج2، ص138 عن تفسير العياشي .

الآيات 200 - 203

«فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)»«وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)»«أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)»«وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)»

200 - «فَإِذَا قَضَيْتُمْ» أي أديتم« مَنَاسِكَكُمْ »أعمال الحج - وهي رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق أو التقصير، وطواف الزيارة، وركعتاه، والسعي، وطواف النساء، وركعتاه «فَاذْكُرُوا اللَّهَ »شكراً على النعمة والهداية والتوفيق لقضاء المناسك «كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ » حيث إنَّ الناس لا يغفلون عن آبائهم غالباً و«أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا»من ذكر الآباء، أي زيادة عليه في الكمّ والكيف، حيث إنه تعالی أحقُّ بالتعظيم، وفي هذا إبطال لعادةٍ جاهليةٍ بالتفاخر بالآباء في منى بعد الحج .

ولكن ذکرکم اللَّه يلزم أن يكون بالكيفية التي أمركم بها، لأن

ص: 21

الناس في ذكره قسمان: «فَمِنَ النَّاسِ مَنْ » يطلب عَرَض الدنيا ولا غرض له في الآخرة - لعدم اعتقاده بها أو لغفلته - فهو «يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا »أي أعطنا ما نتمتع به حسناً كان أم سيئاً «وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ »أي نصيب، فلا يطلب ثواب الآخرة لا بقولٍ ولا بعملٍ، ولا نصيب له فيها لعدم استحقاقه لها.

201 - «وَ»القسم الثاني «مِنْهُمْ »من الناس، «مَن »يطلب خير الدارين ف « يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً»جنس الحسنة الشامل لكل أنواعها، کالسعة والمعاش وحسن الخلق والزوجة الصالحة ونحوها، فطلبه خاص بما فيه الحُسن، لا كل ما يُستمتع به ولو لم يحسن، «وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً » کرضوان اللَّه والجنة ونعيمها «وَقِنَا »- من الوقاية أي الحفظ - «عَذَابَ النَّارِ » .

202 - «أُولَئِكَ »الطالبون للحسنة في الدنيا والآخرة «لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا »أي من جنس ما كسبوا، فيتفضل عليهم بالدنيا والآخرة «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ »فيجزي كلا القسمين بسرعة.

203 - «وَاذْكُرُوا اللَّهَ »في منى حيث يجب المبيت فيها «فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ» قليلة وهي ثلاثة أيام. أيام التشريق : الحادي عشر من ذي الحجة ويومان بعده، «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ » فنفر من بعد زوال اليوم الثاني عشر «فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» أي رجع مغفورة له، «وَمَنْ تَأَخَّرَ »بأن بقي إلى اليوم الثالث عشر« فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» يرجع أیضاً مغفوراً له، وهذا الغفران « لِمَنِ اتَّقَى »بترك الكبائر ومحرمات

ص: 22

الإحرام، ومن مصادیق الآية أن من لم يحفظ نفسه من الصيد والنساء فلا يجوز له التعجل في يومين .

«وَاتَّقُوا اللَّهَ»في كل أموركم وأوقاتكم، فليس التقوى خاصة بالحج «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ »فيجازيكم على أعمالكم، وقد شاهدتم الحشر الأصغر في الحج، فاعلموا أن هناك حشرة أكبر يوم القيامة .

بحوث

الأول : قوله تعالى : «فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ » .

القضاء هو الحكم، وفصل الأمر، وإتقانه، وإنفاذه(1)، ويلازمه الفراغ عن الشيء - سواء كان تكوينياً كقوله «فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ »»(2)ام تشريعياً كقوله «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ »(3)، والمراد هنا هو الانتهاء من العمل، وقد مرّ تفصيله .

والمناسك جمع منسك، وهو مصدر ميمي، بمعنى أفعال الحج، وأصل النسك العبادة والقربان بذبيحة، ثم أطلق على كل أعمال الحج بمناسبة تضمنه على الهدي(4).

ص: 23


1- انظر مقاييس اللغة ص 891، والمفردات ص 976.
2- سورة فصلت، الآية: 12.
3- سورة الإسراء، الآية: 23.
4- انظر مقاييس اللغة ص987، والمفردات ص802.

ومناسك الحج بعد الإفاضة إلى مني، هي: رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير - وبه تحلّ كل محرمات الإحرام سوى الطيب والنساء -، ثم الذهاب إلى مكة وأداء أعمالها - ويمكنه أداء تلك الأعمال في كل شهر ذي الحجة لأنه من أشهر الحج - وهي طواف الزيارة، وركعتاه خلف مقام إبراهيم - وبه يحلّ الطيب -، ثم السعي بين الصفا والمروة، ثم طواف النساء، وركعتاه - وبه تحل النساء -.

الثاني : قوله تعالى: «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا »

1- بعد الفراغ من العبادة قد ينشغل الإنسان بأموره فينسى اللَّه تعالى، ولذا احتاج إلى التنبيه بأنه يلزم أن يكون ذكر اللَّه تعالی بصورة دائمة وأن لا تلهيه أعماله عن ذكر اللَّه .

فقال تعالى: «فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ »(1)، وقال : « وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا »(2)، ومن صفات المنافقين أنهم «وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)» »(3).

2 - ولأن أهل الجاهلية إذا فرغوا من الحج كانوا يذكرون مفاخر آبائهم في مني(4)، فنُهوا عن ذلك، وأمروا بذكر اللَّه تعالى، فإنَّ المكان هو مكان عبادة، فلا بد من ترك هذه العادة السيئة فيه وخاصة ما يختلط

ص: 24


1- سورة النساء، الآية: 103.
2- سورة آل عمران، الآية: 41.
3- سورة النساء، الآية: 162.
4- البرهان ج 2، ص 139 - 141 عن الكافي والعياشي.

بها من كذب وشحناء ونحو ذلك، مع تبديل ذلك بالأحسن. فإنَّ من خصوصيات الإسلام أنه أبطل كل عادة سيئة، وبدّل العادات الحسنة إلى أحسن منها، و إنَّ كانت ميراث الأنبياء هَذَّبها بأن نهی عن كل شائبة تعلقت بها.

مثلا بدّل قولهم (باسمك اللّهُمَّ )إلى أحسن منه وهو (بسم اللَّه الرحمن الرحيم)، وبدّل قولهم في النكاح (بالرفاء والبنين) إلى (على الخير والبركة)، لأن الدعاء بالبنين والرفاء - وهو الانسجام بين الزوجين - حسن، ولكن الدعاء بالخير والبركة أحسن، وفي الحديث: (لما زوج رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم فاطمة علیها السلام قالوا : بالرفاء والبنين، فقال رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم ، لا بل قولوا على الخير والبركة)(1)، ولعلّ ذلك لإبطال تشاؤمهم من البنات أیضاً . وهكذا في سائر الأمور.

ولمّا كان الحج ميراث النبي إبراهيم علیه السلام ولكن شَوّهه أهل الجاهلية بالشرك والتكبر والمفاخرة ونحو ذلك، شَذّبه الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم من كل تلك العوالق والشوائب حتى عاد نقيّاً كما أراده اللَّه تعالی.

3- وحيث إنَّ الناس يذكرون آباءهم بصورة مستمرة، وذكرهم لهم ليس مجرد لقلقة لسان، بل ينشأ من صميم القلب مع تعظيمهم ووصفهم بالصفات اللائقة وبيان مآثرهم، لذا طُلب منهم أن يكون ذكرهم اللَّه تعالی کذكرهم آباءهم، بأن يكون ذكراً حقيقياً وبصورة مستمرة، كما قال تعالى :«الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ »(2)، وقال: «وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ »(3).

ص: 25


1- الكافي ج 5، ص568.
2- سورة الأنفال، الآية: 2.
3- سورة الرعد، الآية: 28.

وقال : «رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ »»(1)، وقد مرّ أن الذكر بمعنى عدم النسيان، فهو عمل قلبي في الأساس لكنه يظهر على الجوارح وخاصة اللسان.

وقوله «أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا » ، من (الشَّدّ) وهو يدلُّ على القوة في الشيء (2)وشدّ فلان واشتدّ: إذا أسرع (3).فالمعنى ليكون ذکرکم اللَّه أقوى من ذکرکم آباءكم أو أسرع منه بمعنى تقديمه عليه، وهذه الأشدّیّة قد تكون في الكمّ وقد تكون في الكيف -.

لأن اللَّه سبحانه هو الأحق بالتعظيم من الآباء، فإن كان لهم إفضال على الإنسان بحيث يجب شكره كما قال :«أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ »(4)، فإنَّ فضل اللَّه على الإنسان لا يُعَدُّ ولا يحصى، بل فضل الآباء يرجع إلى فضل اللَّه تعالى، فهي نعم اللَّه عليهم ورثها الأبناء أو ورثوا سمعتها .

ولعلّه إشارة إلى الإخلاص في ذكر اللَّه تعالى، فإنَّ ذكر الإنسان الآبائه يشوبه حبه لذاته فهو يريد الرفعة على الآخرين عن طريق ذکر آبائه ، أما ذكر اللَّه فيلزم أن يكون خالصاً .

وقوله «أَوْ»هي للتخيير - كما هو الظاهر -، وقيل هي للإضراب بمعنی بل، كما في قوله «وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُورا»(5).

الثالث : قوله تعالى« فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا »الآیة

ص: 26


1- سورة النور، الآية: 37.
2- مقاييس اللغة ص 501.
3- المفردات: ص447.
4- سورة لقمان، الآية: 14.
5- سورة الإنسان، الآية: 24، انظر مغني اللبيب ج 1، ص 91.

من هذا المقطع یبیّن اللَّه تعالى كيفية ذكره، وأن الناس في ذكره صنفان فصنف يطلب بذكره عرض الدنيا - سواء كان حسناً أم سيئاً ۔، والآخر يطلب بالذكر خير الدارین.

والغرض هو توجيه الناس ليكونوا من الصنف الثاني.

وأما الصنف الأول : فيقول «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا» ، ولم يقيّده بالحسنة لأنه يريد زخرف الحياة الدنيا من أية طريقة حصلت، وهو وإن كان يتصوّره حسنة، لكن لا حسن فيما استتبع عذاباً .

وقوله «وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ »إما بمعنى أن لا نصيب للآخرة في دعائه، فلا يدعو للآخرة لعدم اعتقاده بها، كأهل الجاهلية كانوا يحجّون ويدعون اللَّه مشرکین به مع اعتقادهم بأن الموت هو النهاية، أو لغفلته عن الآخرة وعدم الاهتمام بها، وإما بمعنى أن هذا الصنف لا نصيب له في الآخرة، لأنه لا يستحقها، وذلك لعدم طلبه لها الا بالدعاء ولا بالعمل.

قال تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ »(1)، وقال سبحانه «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ »(2)

الرابع : قوله تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً » الآیة.

ص: 27


1- سورة الشورى، الآية: 20.
2- سورة الأحقاف، الآية: 20.

هؤلاء يعلمون أن الدنيا فيها الحسن والسَّيِّئُ، فهم يطلبون الحسن منه فقط، وكل ما أوجب رفع الدرجات فهو حسنة حتى وإن كان صعباً، فالشهادة في سبيله تعالی سوإن كان فيها فقد للحياة وهي من دعاء الصالحين، كما كتب أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر: (وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة)(1).

وفي الروایات ذکر مصادیق للحسنة في الدنيا والآخرة، فعن الإمام الصادق علیه السلام : (رضوان اللَّه والجنة في الآخرة، والسعة في المعيشة وحسن الخلق في الدنيا)(2). وهذه كلمة جامعة لأن أهم ما في الآخرة هو رضوانه تعالى، ثم الجنة ونعيمها، قال تعالى «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ». وأهم ما في الدنيا من الجهة المادية : السعة في المعاش، ومن الجهة المعنوية : الأخلاق الحسنة - منه ومن أهله وأصحابه -

وقوله « وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ».

أي بالعفو والمغفرة احفظنا من عذاب النار، وذلك لأن بعض الناس يدخلون الجنة بعد أن يعذّبوا ببعض ذنوبهم، فقد آتاه اللَّه حسنة في الآخرة ولكنه تعالى لم يقِهِ عذاب النار.

ثم إنه تعالی ذکر حسنة الدنيا ولم يذكر سيئتها بالتعوذ منها :

1- إما لأجل أن كل مكروه يصيب المؤمن في الدنيا يزيد في درجاته في الآخرة فهو ليس سيئة حقيقة بل هو حسنة في واقعه لهذا المؤمن.

2- وإما لأجل أن إِيتاء الحسنة تتضمن دفع السيئة سواء في الدنيا أم في الآخرة فيكون قوله « وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » تأكيداً لأهمية الوقاية منه.

ص: 28


1- نهج البلاغة، الكتاب: 53.
2- البرهان ج2، ص162 عن العياشي، وقريب منه ما في الكافي.

3- وإما لأجل أن « عَذَابَ النَّارِ »عام للسيئة في الدنيا والآخرة لأن سيئات الدنيا - وهي المعاصي - تؤدي إلى النار .

4 - أو إنّ«عَذَابَ النَّارِ »يشمل مصائب الدنيا أیضاً - توسعاًو مجازاً - كما يظهر مما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام : (وعذاب النار المرأة السوء)(1) وهو بيان لمصداق السيئة في الدنيا، فتأمل.

الخامس : قوله تعالى : «أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ».

الظاهر أن«أُولَئِكَ» إشارة إلى الصنف الثاني، وهم طالبو الحسنة في الدنيا وفي الآخرة، لأن الصنف الأول حدّد اللَّه مصيرهم بقوله « وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ » ، فتحديد مصير الصنف الثاني يكون في قوله «أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا » .

وقوله :«نَصِيبٌ» أي في الدنيا والآخرة فلهم ثواب الدنيا وثواب الآخرة .

وقوله :« مِمَّا كَسَبُوا» .

1. «من» قد تكون تبعيضية، أي لهم نصيب من بعض ما كسبوا وهو ما أَرسلوه للآخرة، أما ما لم يرسلوه للآخرة كأكلهم وشربهم فهو نصيبهم للدنيا لا ثواب فيه في الآخرة. قال تعالى «فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ »(2)، أما الكافر فلا نصيب له أصلاً بل عمله كان للدنيا وثوابه فيها فقط كما قال تعالى «وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا »(3).

ص: 29


1- تفسير الصافي ج 1، ص237.
2- سورة آل عمران، الآية: 148.
3- سورة آل عمران، الآية: 145.

وقيل : «كَسَبُوا» بمعنی دَعَوا، لأن الدعاء من الأعمال أیضاً فهو کسب، أي لهم نصيب من بعض دعائهم مما فيه المصلحة والاستحقاق أي يستجيب اللَّه دعاءهم الذي فيه المصلحة.

2 - وقد تكون «من» ابتدائية، أي لهم نصيب ناشیء من عملهم، وذلك بجزائهم حسن الجزاء، أو أن العمل يتجسم في الآخرة فلهم نصيب من جنس عملهم.

3- وقد تكون «من» للتعليل، أي لهم نصيب من أجل ما كسبوا، نظير قوله «مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا »(1)، أي بسببها .

السادس: قوله «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ».

الغرض هو حثّ الناس على العمل ليكونوا من الصنف الثاني، وذلك بيان أن القيامة قريبة، فلا يظن الإنسان بُعدها فلا يعمل لها.

و(الحساب) إما بمعنى العدّ، فالمعنى أن اللَّه يتمكن من عدّكم فلا يتوهم أحد عدم تمكنه من الإحاطة بحوائج هذا الحشد الكبير من الحجاج، ورؤية أعمالهم، وعن أمير المؤمنين علیه السلام قال : (إنه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة)(2).

أو بمعنى إنه سريع الجزاء، فمن يتمكن من جزاء الخلق بسرعة لا يعجز عن سماع حوائجهم، قال تعالى« وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ »(3)، «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا »(4)

ص: 30


1- سورة نوح، الآية: 25.
2- التبيان ج 2، ص 17، ومجمع البيان: ج2، ص78.
3- سورة النحل، الآية: 77.
4- سورة النازعات، الآية: 46.

أو (الحساب) بمعنى الكفاية، قال في المقاييس : تقول شيء حساب أي كافي، ويقال أحسبت فلاناً إذا أعطيته ما يرضيه(1)، فالمعنى فاللَّه سريع في كفايتهم أي قضاء حوائجهم، فتأمل .

السابع : قوله تعالى« وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ »

الأيام المعدودات هي أيام التشريق - وهي 11 و12 و13 من ذي الحجة - التي فيها المبيت بمنى .

وذكره تعالى بالقلب، وباللسان، وبالعمل .

وذكره بالعمل هو برمي الجمرات الثلاث لأنها امتثال لأمره وبراءة من عدوِّه، وكذا بسائر الأعمال الصالحة. وقد مرّ أن الذكر هو بمعنى عدم النسيان فامتثال أمره ذكرٌ له .

ومن مصاديق ذكره باللسان هو التكبيرات في يوم العيد إلى زوال اليوم الثاني عشر لمن كان بمنى، ولغير الحجاج إلى فجر اليوم الثاني عشر بأن يقول : ( اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا الله، و اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، ولله الحمد، اللَّه أكبر على ما هدانا، اللَّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام)(2) .

الثامن : قوله تعالى «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ »

1 - أي نَفَر إلى مكة في ثاني اليومين - وهو اليوم الثاني عشر - بعد الزوال، فقد رجع مغفوراً له، لأنه قد أتمّ الحج، وفي الحديث عن الإمام زين العابدين علیه السلام : (الحاج مغفور له، وموجوب له الجنة، ومستأنف

ص: 31


1- المقاييس ص244، وانظر المفردات: ص234.
2- البرهان ج2، ص143 عن الكافي.

العمل، ومحفوظ في أهله وماله)(1)، وكذا من بقي إلى اليوم الثالث - وهو اليوم الثالث عشر - فإنَّه يرمي بعد طلوع الشمس ثم ينفر إلى مكة، فهو يرجع أيضاً مغفوراً له . فالآية بصدد بيان غفران الذنب للمتقدم والمتأخر، وبالملازمة يستفاد جواز التقديم والتأخير .

2 - ويحتمل أن يكون «فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ » بمعنى عدم المانع، وفيه رد على أهل الجاهلية فإنَّ بعضهم كان يتأثم بالتعجيل وبعضهم كان يتأثم بالتأخير، فبيّن اللَّه جواز كليهما .

3 - ويحتمل أن يكون لبيان الفارق بين من اتقى الصيد والنساء وبين من لم يتق، فالمتقي مخير، وغير المتقي يلزمه المبيت في الليلة الثالثة عشرة أيضاً.

4 - وفي التأويل: أن التعجيل هو الموت، أي من مات في الحج مات مغفوراً له، وكذا من تأخر بشرط أن يتقي، فعن الإمام الصادق عليه السلام : ومنهم من غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه ، وقيل له أحسن فيما بقي من عمرك، وذلك قول اللَّه عزَّوجلَّ «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ »يعني من مات قبل أن يمضي فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى الكبائر(2).

التاسع : قوله تعالى «لِمَنِ اتَّقَى» .

أي هذه التوسعة بجواز التقديم والتأخير إنما هو لأجل المتقين حيث إن اللَّه يحبهم فوسع على الناس لأجلهم .

ص: 32


1- الوسائل ج11، ص9 عن الكافي.
2- الوسائل ج13، ص547 عن الكافي.

أو عدم الإثم للمُتَّقِين، فمن حج متَّقياً للذنوب ، مغفوراً له، أما رجع من حج وارتكب في الحج الذنوب فإنَّ اللَّه قد ينتقم منه، كما قال « وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ » (1)

وقد بيَّنت الروايات بعض مصاديق ومن اتقى، كاتقاء الكبائر،

والكبر، ومحرمات الإحرام - كالرفث والفسوق والجدال والصيد (2).

وعن الإمام الصادق عليه السلام - في تفسير الآية - : أنتم و اللَّه هم، إن رسول اللہ صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: لا يثبت على ولاية عليإلَّا المتقون(3) .

ومن الأحكام الفقهية : أن من لم يتق الصيد أو النساء في إحرامه يجب عليه المبيت في الليلة الثالثة عشرة، وبه روايات متعددة، وأما من لم يثق سائر محرمات الإحرام فيستحب له مبيتها أي الليلة 13 -(4).

العاشر : قوله تعالى :«وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ».

«تُحْشَرُونَ» هو الجمع، فالمعنى اتقوه تعالى لأنكم تجتمعون إلى حکمه وجزائه يوم القيامة . وكلمة الحشر تناسب الحج، لأنه يُذَكِّر بالآخرة، حيث اجتماع الناس من كل حدب وصوب، وبملبس موحَّد، في بقعة واحدة، متوجهين إلى اللَّه ملبِّين دعوته .

ص: 33


1- سورة المائدة، الآية: 95.
2- راجع الروايات في تفسير البرهان: ج2، ص 144 - 147.
3- البرهان ج2، ص148 عن تفسير العياشي
4- راجع الفقه ج46، ص 50 - 54.

الآيات 206 - 207

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)»«وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)»«وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)»«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)»

فقال في الصنف الأول :

204 - «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ » منافق مراء، فهو « مَنْ يُعْجِبُكَ » أي يروق لك «قَوْلُهُ »لأنه يظهر الإسلام، والنبي صلی اللَّه علیه وآله وسلم كان يفرح بإسلام الناس، وهذا الإعجاب إنما هو « فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » أما في الآخرة فلا، لظهور باطنه هناك، «وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ»، لكي ينطلي الأمر عليك «وَ »لكن « وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ » أي أشد الأعداء.

«وَ» لكن أفعال هذا المنافق تفضحه، ف«إِذَا تَوَلَّى» أي انصرف عنك « سَعَى» أسرع في الأرض ليفسد فيها بالظلم وسوء السريرة ، «وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ » الزراعة «وَالنَّسْلَ »الذرية، «وَ» فعل هذا

ص: 34

المنافق مبغوض إذ «اللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ » فهو تعالى يريد الصلاح، ولا يريد الشر ولا يأمر به .

206 - «وَ» يظهر نفاق هذا الشخص في رفضه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ف«إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ » واترك سوء صنيعك « أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ »أي القوة الظاهرية التي له وذلك بالحمية الجاهلية والأنفة التي اكتسبها « بِالْإِثْمِ ». «فَ-»هذا الشخص «فَحَسْبُهُ» تكفيه «جَهَنَّمُ» عقوبة لعمله «وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ»المقر الذي سيستقر فيه .

207 - ثم ذكر اللَّه تعالى علامة الصنف الثاني فقال :

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي أي يبيع «نَفْسَهُ » عبر قيامه بأمر اللَّه تعالى فيتحمل المخاطر «ابْتِغَاءَ » أي طلباً «مَرْضَاتِ اللَّهِ » فهذا عمله دل على صدق قوله وسلامة قلبه، « وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» حيث جعل فيهم أمثال هذا الشخص، أو أن اللَّه سيجازيه أحسن الجزاء، نزلت في الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام حينما فدى بنفسه رسول اللہ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ليلة المبيت .

بحوث

الأول : ارتباط هذه الآيات بآيات الحج، هو أن اللَّه تعالى قسّم الداعين في الحج إلى صنفين : مريد الدنيا فقط، ومريد الحسنة في الدارين، ثم بيّن علائم وأوصاف كل من الصنفين في هذه الآيات ،

ص: 35

والغرض هو التحذير من أفعال المنافقين لكيلا يدخل الإنسان في طالبي الدنيا فقط، والتشويق إلى أفعال المؤمنين ليدخل الإنسان في طالبي حسنة الدنيا والآخرة .

الثاني: قوله تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » .

الآية عامة لكل منافق مُرَاءٍ وإن كان شأن نزولها خاصّاً ، فإنَّ المنافق المرائي، يتكلم بكلام حلو معسول، كما قال تعالى «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ »(1)، لكن حيث لا يضمر ما يقول فإنَّه يظهر نفاقه في لحن كلامه وفي عمله، قال تعالى «وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)»«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)»(2) .

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : ما أضمر أحد شيئاًإلَّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه (3).

وقوله « يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ »أي تُسَرّ بكلامه لحسنه، فإنَّ رسول اللہ صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يفرح بإسلام الناس، والمنافق حيث يُظهر الإسلام فإنَّ قوله - وهو الشهادتين - جميل، فقوله مستحسن، نظير إعجاب المؤمن بكلمة الحكمة وإن كان قائلها كافراً أو منافقاً، وعن أمير المؤمنين علیه السلام : الحكمة ضالَّة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق(4)، فالإعجاب بقوله لا ينافي العلم بنفاقه

ص: 36


1- سورة المنافقون، الآية: 4.
2- سورة محمد، الآيتان: 30 - 31.
3- نهج البلاغة، الحكمة رقم 26.
4- نهج البلاغة، الحكمة رقم 80.

وقوله «فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » متعلق ب- « يُعْجِبُكَ »أي هذا الإعجاب إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فلا إعجاب بقوله، لأن كلام أهل النار غير مستحسن .

أو لأن الرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان مكلّفاً بقبول إسلام كل أحد - حتى مع علمه بنفاقه - كما أمر اللَّه تعالى« وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا »(1)، لاختلاط المنافق بغيره في البيوت والقرابات، ولرجاء دخول الإيمان في قلوبهم ولو بعد حين كما قال «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)»(2)، ولأمل إيمان ذريتهم ، كما أنهم قد يكونون عوناً للدين - ولو لأجل مصالحهم كالغنائم - ولغير من الأسباب، فلذا كان الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم يعجب بإسلامهم، لكن كل هذه الأسباب تنقطع في الآخرة فلا مورد للإعجاب بهم وبأقوالهم هناك .

وقيل في الحياة الدنيام متعلق ب«قوله » أي قوله في الأمور الدنيوية، فإنَّه حيث لا همّ له إلَّا الدنيا، فلعلّ له أقوال لطيفة تتعلق بالقضايا الدنيوية كالزراعة وفنون الحرب ونحو ذلك، فتأمل .

الثالث : قوله تعالى «وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ».

حيث إنه يتصور أن لا أحد يطلع على نفاقه، فإنَّه يُشهد اللَّه تعالى على قلبه، تغطية لنفاقه، مع أنَّ هذا استخفاف به تعالى، كأنه جعله أهون

ص: 37


1- سورة النساء، الآية: 94.
2- سورة الحجرات، الآية: 14.

الناظرين، كما قال «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ »(1) .

وأما في الحياة الآخرة فلا يتمكن من هذا الاستشهاد إذ هناك «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِر»(2) ، وتشهد عليه أعضاؤه فلا كتمان لما في قلبه إطلاقاً .

وقوله «وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ» : (اللدّ) هو شدة الخصومة، و(الخصام) إما جمع خَصم، أي أشد الأعداء، وإما مصدر باب المفاعلة أي الأشد خصومة، والمعنى إنه يكذب في كلامه وفي إشهاده اللَّه تعالى على ما في قلبه، لأن قلبه منطو على بغض شديد للرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم أو الإسلام أو المسلمين .

وفي الآية تحذير بعدم الاغترار بالأقوال، فلا يحكم على حُسن شخص بمجرد لطافة كلامه، بل لا بد من تصديق فعله لقوله، وإلّا فالجبابرة كلامهم قد يكون شبيهاً بكلام المصلحين، ونقلوا أن الحجاج إذا صعد المنبر تكلّم كلام الأنبياء - بوعظ وإرشاد - وإذا نزل منه فعل أفعال الجبابرة، وحكى اللَّه عن فرعون قوله « مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ »(3)، وكلامه شبيه بكلام مؤمن آل فرعون «وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ »(4)، لكن الفارق هو القصد والعمل، فقاله فرعون بقصد الإضلال وظهر ذلك في عمله، عكس مؤمن آل فرعون فكان قصده هدايتهم إلى نبي موسی علیه السلام ولذا كانت سائر أقواله وأعماله متطابقة مع واقعه .

الرابع : قوله تعالى«وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ»، الآية .

ص: 38


1- سورة النساء، الآية: 108.
2- سورة الطارق، الآية: 9.
3- سورة غافر، الآية: 29.
4- سورة غافر، الآية: 38.

أي إذا انصرف عنك فإنَّه يسرع ليعمل عمل الجبارين بظلمه وسوء سريرته، وفي قوله « سَعَى» دلالة على سرعة انكشاف أمر هؤلاء المنافقين، لأن ما في قلبهم يسوقهم إلى الفساد فوراً، فهو بمجرد أن ينصرف عن الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم ينسى كلامه بالشهادتين أو سائر كلماته اللطيفة ، فيظهر بمظاهر الجبارين .

وقوله «لِيُفْسِدَ فِيهَا» يمكن تصوير إفساده بثلاثة أنواع وقد تتداخل

1 - إفساد معيشة الناس - الاقتصادية والاجتماعية - كقوله «قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً »(1).

2 - ارتكاب الذنوب، قال تعالى « وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ »(2).

3 - الفساد في الدين، بمحاربته أو محاولة تحريفه، قال تعالى

«وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ »(3).

ومن مصاديقه القوانين والدساتير التي تخالف الشرع، قال سبحانه «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُون»، «ُ الظَّالِمُون»«الْفَاسِقُونَ »(4) واللام في «لِيُفْسِدَ»إما لام العاقبة أي عاقبة هؤلاء هو الفساد في الأرض، وأما لام العِلّة أي سعيه هو بغرض الإفساد .

الخامس : قوله تعالى «وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ».

ص: 39


1- سورة النمل، الآية: 34.
2- سورة الأعراف، الآية: 142.
3- سورة يونس، الآية: 40.
4- سورة المائدة، الآيات: 44 - 45 - 47.

وإهلاكهما إما عن طريق إتلافهما مباشرة بحرق الزرع وقتل الأبناء - مثلاً -، أو بطريقة غير مباشرة حيث إن إثارة الفوضى والاضطرابات وسوء الحكم يوجبان خراب الزراعات لاشتغال أهلها بأمور أخرى، أو للخوف من الذهاب إليها لفقدان الأمن، وكذا فناء النسل بسبب الزواج أو مقتل الشباب .

وقد يستدل بالآية على عدم جواز إفناء الغابات مما يوجب التصحُّر، وعدم جواز قتل الحيوانات من غير حاجة، وقيل: بوجوب حفظ نسل الحيوانات المعرضة للانقراض بعدم السماح باصطيادها وبإيجاد محميّات لها .

أقول : إن صَدَقَ الفساد على التصحُّر وانقراض الأنواع فيكون داخلاً تحت عموم النهي عن الفساد، وإلّا فصدق إهلاك الحرث والنسل عليهما خلاف الظاهر، إذ الحرث ظاهر في الزراعة لا في مطلق النباتات ، والنسل ظاهر في الإنسان لا مطلق الحيوان، فتأمل .

السادس : قوله تعالى «وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ».

بيان لحرمة الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل، وذلك ببيان القاعدة العامة وهي حرمة كل فساد لأن الألف واللام في (الفساد) للجنس، وهو يفيد العموم .

ومعنى« لَا يُحِبُّ »هو لا يرتضي هذا العمل ويبغضه، وهذا التعبير ظاهر في الحرمة، وقال تعالى: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا »(1).

ص: 40


1- سورة الأعراف، الآية: 56.

ثم إن الفساد قد يكون في التكوين، وقد يكون في التشريع، وكلاهما مبغوض للّه تعالى .

فلا فساد في التكوين، وما يرى من تَحَلُّل الأشياء بعد وصولها إلى أقصى درجة لها، كفساد الفواكه والنباتات وفناء الأجسام ونحو ذلك فليس فساد على الحقيقة، بل هو مقتضى كمال الكون وتجديد طاقاته وتبديلها ، نعم لو نظر إلى الشيء مجرداً عن سائر الجهات قد يتراءى بأنه فساد، لكن ضمن منظومة متكاملة من العلل والمعلولات ليس بفساد حقيقة. وكذا موتُ الناس و تَحَلُّل أجسادهم ليس فساداً بالحقيقة بل هو إصلاح لأمر الكون .

وأما التشريع فقد شرّع اللَّه أفضل القوانين مما فيه صلاح الإنسان وفي الحديث : (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)(1). وكل فساد في التكوين أم في التشريع فإنَّما هو بفعل الإنسان. قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ » (2).

السابع : قوله تعالى :«وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ ... »الآية . وهذا أيضاً من علائم المرائي المنافق الذي لا يريدإلَّا الدنيا، فهو مفسد، ولا يسمع كلام الناصحين . فإنَّ من صفات المؤمنين هو الاستماع إلى النصح، وقبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذا يستفيدون من مواعظ الأنبياء وإرشاداتهم .

ص: 41


1- من لا يحضره الفقيه ج4، ص 334.
2- سورة الروم، الآية: 41.

أما غير المؤمنين فهم لا يحبون الناصحين ويتضايقون منهم، قال تعالى: «فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ »(1). بل قد يعاندونهم ويلجّون في باطلهم، لأنهم تنتابهم الحمية الجاهلية والأنفة الباطلة، فلكي يظُهروا قوتهم وعدم اكتراثهم بالناصح يعمدون إلى مخالفته جهراً .

فقوله « أَخَذَتْهُ » ، أي ألزمته، وقوله «الْعِزَّةُ» أي القوة التي يراها في نفسه، وقوله « بِالْإِثْمِ» أي العزة التي اكتسبها عن طريق الإثم، فهي عزة ظاهرية لا واقع لها، لأن القوة الحقيقية للَّه لا لمن خالفه، قال تعالى « وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)» (2)، وقال «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا »(3)

وقيل الباء في « بِالْإِثْمِ» للتعدية، فالمعنى أن هذه العزة الظاهرية التي له تأخذه إلى ارتكاب الإثم، والإصرار فيه، والحاصل أن هذا الشخص يرى نفسه عزيزاً ذا أنفة وحمية، فليس هو مستعداً لسماع النصائح بل يلجّ ويعاند فيفعل الإثم الذي أمر باتقائه .

«فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ »أي هذا الشخص جزاؤه جهنم، فهي تكفيه عقوبة لعمله، ولإرغام أنفه لتكبره عن الحق وترفعه عن اتّقا اللَّه تعالى، و(المهاد): الوطاء، وهو ما يُهَيَّؤُ للاستراحة عليه، جيء به هنا تهكماً بهذا المتكبر، فلئن أفسد هذا في الأرض فلقد هيا لنفسه مقعداً في نار جهنّم .

ص: 42


1- سورة الأعراف، الآية: 79.
2- سورة المنافقون، الآية: 8.
3- سورة فاطر، الآية: 10.

الثامن : قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ »

لأن اللَّه تعالى يرؤف بالعباد، فإذا كان هناك ناس مفسدون فإنَّه يجعل مقابلهم رجالاً مصلحين، امتحاناً للناس، ولكن لا يبطل الدين، قال تعالى «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا »(1) وقال سبحانه «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ »(2)، ولذا فالحجة مستمرة من لدن آدم وإلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها فلا تخلو الأرض من حُجَّة، كما لا تخلو من الشيطان الرجيم وأتباعه شياطين الإنس والجن.

وقد تواترت الروايات في أن هذه الآية نزلت في الإمام علیٍّ علیه السلام حينما بات ليلة الهجرة في فراش النبي صلى اللَّه علیه وآله وسلم ففدى بنفسه رسول اللَّه صلى اللَّه علیه وآله وسلم(3).

وقد زعم ابن تيمية أن هذا ليس فضيلة لعلي بن أبي طالب علیه السلام (4)لأن الشيعة تزعم بأنه كان يعلم بعدم مقتله في تلك الليلة!!

فأما على مذهبهم فإنَّه علیه السلام لم يكن يعلم ببقائه حيّاً ففداؤه رسول اللہ صلى اللَّه علیه وآله وسلم بنفسه هو من أعظم الفضائل، وإن كان علمه بإخبار الرسول فالفضيلة أعظم حيث شدة يقينه وإيمانه بصدقه صلى اللَّه علیه وآله وسلم.

ص: 43


1- سورة فاطر، الآية: 32.
2- سورة الأنعام، الآية: 112.
3- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص 150 – 155، ورواه من العامة الحاكم في المستدرك ج3، ص5 الحديث رقم 4264، وأحمد بن حنبل في المسند ج5، ص 300، الحديث رقم 3251، والنسائي في الخصائص ص63 والقرطبي في تفسيره ج3، ص21، وغيرهم.
4- راجع منهاج السنة ج، ص.

وأما على مذهبنا ، فإنَّ علم الإمام علیه السلام لا ينافي البداء، وقد قال علیه السلام : (لولا آية في كتاب اللَّه لأخبرتكم بما كان وما يكون وما هو كائن)(1)، مضافاً إلى أن الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم علّم الإمام العلوم قبيل وفاته قال علیه السلام (علّمني رسول اللہ صلى اللَّه علیه وآله وسلم ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب)(2).

وهذا شأن نزول الآية، وهذا لا ينافي عموم الآية لكل من يقتدي بالإمام أمير المؤمنين علیه السلام، فعن أمير المؤمنين علیه السلام: هم خيار أصحاب رسول اللہ صلى اللَّه علیه وآله وسلم عذّبهم أهل مكة ليفتنوهم عن دينهم(3) . وعنه علیه السلام: الرجل يقتل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4).

فالآية - كما في الجوهر الثمين - عامة وإن نزلت خاصة .

وقوله «يَشْرِي نَفْسَهُ» أي يبيع نفسه، وذلك عن طريق القيام بأوامر اللَّه تعالى، والثمن هو كسب مرضاة اللَّه تعالى .

التاسع : قوله «وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ » .

مرّ أن الرأفة هي شدة الرحمة بالمؤمنين، ولعلّ الغرض من ذكر هذا المقطع :

1 - إن اللَّه رؤوف بهذا الشخص الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاته تعالى، فيجازيه أحسن الجزاء، عكس الصنف السابق، حيث يجازيه اللَّه جهنم وبئس المهاد.

ص: 44


1- راجع بحار الأنوار ج 4، ص97.
2- الكافي ج1، ص296.
3- الجوهر الثمين ج1، ص209.
4- المصدر السابق نفسه.

2 - إن هذا البيع فيه أخطار جمَّة، لكن اللَّه تعالى سيجنب هذا الشخص هذه الأخطار رأفة به، ولذا أنقذ الإمام علياً علیه السلام في تلك الليلة - قبل أن يعرفوه وبعد معرفتهم به -.

3 - إن وجود هذا الشخص هو رأفة بالعباد حيث يواصل طريق الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم ويقاتل على التأويل كما قاتل رسول اللہ صلى اللَّه علیه وآله وسلم علی التنزيل(1) ويفقأ عين الفتنة(2) ويمنع من تحريف الدين، قال تعالى « فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ »(3).

ص: 45


1- بصائر الدرجات ص330.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 93.
3- سورة الأنعام، الآية: 89.

الآیات208-210

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)»«فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)»«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)»

لمّا بیّن اللَّه تعالى أن الناس في دعائهم في الحج على صنفين ، وأن لكلا الصنفين علامة، وجّه الخطاب لجميع المسلمين، وأمرهم بالانقياد له تعالى ليدخلوا في الصنف الأول، وحذّرهم من اتباع الشيطان فإنَّ ذلك سيؤدّي بهم إلى عذاب الله، حيث لا تنفع التوبة ولا الندم، فقال تعالى :

208 - « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » أظهروا الإيمان بألسنتهم « ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ» استسلموا لأمر اللَّه تعالى بالانقياد والطاعة حتى يظهر الإيمان في أعمالكم ويتحقق ذلك باتباع النبي صلى اللَّه علیه وآله وسلم وأهل بيته علیهم السلام ، «كَافَّةً » جميعكم بلا استثناء « وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ » بمخالفة أوامر اللَّه تعالى، لأنه يخرجكم من السلم، « إِنَّهُ » فإنَّه الشيطان « لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» مظهر لعداوتكم لأمره إياكم بما فيه ضرركم .

ص: 46

209 -«فَإِنْ زَلَلْتُمْ »من الزَّلَّة بمعنى العثرة أي انحرفتم عن الطريق الصحيح واتبعتم خطوات الشيطان «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ» الآيات الواضحة « فَاعْلَمُوا »أنكم غير معجزين، فستنالون عقابكم، إذ «أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يعجز عن الانتقام منكم، وحكيمه حيث لم يمنعكم بالقهر عن ارتكاب المعاصي، فهو بحكمته خلقكم مختارين وهداكم النجدين .

210 - هؤلاء العصاة أهل الزلل«هَلْ يَنْظُرُونَ »أي ينتظرون «إِلَّا أَنْ » تقوم القيامة!! ، والاستفهام للإنكار عليهم بعدم اعتبارهم بالآيات التي جاءتهم ففي ذلك اليوم «يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ » أي أمره تعالى بعذابهم وفي ظلله جمع ظُلَّة ما يظلّهم ويحيط بهم «فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ» السحاب الأبيض فينزل منه العذاب « وَ» تأتيهم «الْمَلَائِكَةُ » الموكلون بعذابهم وغير العذاب .«وَ» في ذلك الوقت، قد «قُضِيَ الْأَمْرُ » فلا مجال للتوبة«وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» فيجازي الجميع، فلا مجال للفرار من حكومته وعقوبته .

بحوث

الأول: قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ .

قد مرّ أن القرآن يخاطب المسلمين ب-« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » ويخاطب اليهود والنصارى ب-« أَهْلَ الْكِتَابِ » ، ويخاطب عامة الناس

ص: 47

ب-«يَا أَيُّهَا النَّاس» ، فالمراد من « الَّذِينَ آمَنُوا » هم من أظهروا الشهادتين - عن حقيقة، أم عن نفاق، أم بلا تجذّر في القلب -.

فلذا قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ » . الآية(1). والإيمان باللسان أول مراتب الإيمان - وهذه المرتبة قد تجتمع مع النفاق - وبتهذيب النفس وبالعمل يرتقي الإنسان إلى سائر مراتب الإيمان .

ومادة (س ل م) بمعنى التعرّي من الآفات الظاهرة والباطنة(2). فالمراد ب- «السِّلْمِ » : الإيمان المنزَّه عن كل ريب وشائبة، ويكون ذلك بالانقياد التام اللَّه سبحانه وتعالى، ولا يحصل ذلكإلَّا بإطاعته وإطاعة رسوله والدخول في ولاية العترة الطاهرة، وفي الأحاديث تفسير السلم بولاية الإمام عليه السلام والأئمة علیهم السلام (3)، وذلك لأن كمال الدين بولايتهم، وبدونها لا تسليم لأمر اللَّه تعالى بل عصيان عليه، وولاية غيرهم اتباع لخطوات الشيطان حيث هي مخالفة لأمره تعالى . وقوله تعالى « وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبين» ، قد مرّ بيان المعنى في الآية 168.

الثاني : قوله تعالى « كَافَّةً»

« كَافَّةً»خاص بذوي العقول، فلا يقال (الأمور كافَّة)، بل يقال (الناس كافَّة)، قال ابن هشام في المغني : وتجويز الزمخشري الوجهين «ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً»، وَهمٌ، لأن كافة يختص بمن يعقل، ووهمه في قوله تعالى « وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاس» ، إذ قدَّر «كافة» نعتاً لمصدر محذوف - أي إرسالة كافة - أشدَّ، لأنه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل

ص: 48


1- سورة النساء، الآية: 136.
2- مفردات الراغب ص421.
3- راجع الروايات في البرهان ج2، ص156 - 158 عن الكافي وغيره.

إخراجه عما التزم فيه من الحالية، ووهمه في خطبة المفصل إذ قال : «محيط بكافة الأبواب» أشدّ وأشدّ، لإخراجه إياه عن النصب البتّة(1).

فمعنى الآية : ادخلوا جميعكم أيها المؤمنون في السلم، وأما عموم

السلم فيستفاد من (الألف واللام) حيث إنها للجنس. فتأمل .

الثالث : قوله تعالى :«فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ »الآية .

(الزلة) العثرة باسترسال الرجل من غير قصد، والمراد ارتكاب المعصية بعدم الدخول في السلم وباتباع خطوات الشيطان، قال تعالى «وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ » (2)أي منحرفون عنه، فقد شُبّه العاصي بمن ينحرف عن الطريق بزلّة رجله، فإنَّ الانقياد لله تعالى هو الصراط المستقيم، قال تعالى «قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ »(3)وقال «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ »(4)ثم إن الآية تدل على أن الزلة التي تكون بعد قيام الحجة هي التي يأخذ اللَّه الإنسان بها أخذ عزيز مقتدر حكيم. وأما إن كانت قبل قيام الحجة وكان صاحبها قاصراً فهو من المستضعفين الذين عسى اللَّه أن يعفو عنهم.

أو بمعنى أن الزلة بعد قيام البينة أشد منها قبل مجيئها، وفي الحديث : (يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد)(5) .

ص: 49


1- مغني اللبيب، الباب الخامس، ج2، ص733.
2- سورة المؤمنون، الآية: 74.
3- سورة الحجر، الآية: 41.
4- سورة الحمد، الآية: 6.
5- الكافي ج1، ص47.

و« الْبَيِّنَاتُ »جمع بينة وهي الحجة الواضحة، والمراد إما الأدلة على أن الإسلام هو الحق وأن محمداً صلی الله علیه وآله وسلم رسول اللّه، أو الأدلة الواضحة على الأحكام بأن علمتم بإيجاب شيء وتحريم آخر - وهذا أقرب إلى سياق الآية لأنها خطاب للذين آمنوا - .

وقوله «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » إشارة إلى أنه لا يتصور العاصي بأنه قد تغلب على إرادة اللَّه تعالى، بل العزّة للّه جميعاً، وإنما المعصية بعمله، فقد قضى بأن يخلق الإنسان مختاراً قادراً، وهذا من حكمته في الخلق، إذ مع الجبر يبطل الامتحان، ومعه لا معنى للتكليف ولا للثواب ولا للعقاب، إذن هو تعالى عزيز غالب على أمره قادر على كل شيء، حكيم في قضائه تخيير الناس، حكيم في عقابه فلا يعاقبإلَّا بحق، وإذا عفا فلا يعفوإلَّا بفضل مع اقتضاء الحكمة للعفو .

الرابع : قوله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ »

المعنى هل هؤلاء ينتظرون القيامة حتى يتوبوا إلى اللَّه من ذنوبهم، ويدخلوا في السلم ويتركوا اتباع خطوات الشيطان؟

و« يَنْظُرُونَ»من: (ن ظ ر) وهو في الأصل بمعنى طلب إدراك الشيء سواء كان عبر البصر كقوله «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ »(1)، أم الفكر كقوله «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ »(2)، أم بالانتظار - فقد يُدرك الشيء بانتظاره والصبر له - كقوله «ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً »(3).

فالمعنى هنا هل ينتظرون حلول القيامة لكي يؤمنوا؟

ص: 50


1- سورة الصافات، الآية: 88.
2- سورة الإسراء، الآية: 48.
3- سورة يس، الآية: 49

وقوله «إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ »تفسيره في قوله تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ »(1).کما قال : «أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ »(2). تفسيره بالعذاب كقوله : «فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ »(3). وقال سبحانه «فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ »(4)فليس المعنى هو ما توهمه بعض المجسمة من مجيء اللّه، فإنَّه تعالی ليس بجسم، والانتقال من صفات الأجسام، إذ الحركة وجود في مكان ثاني بعد الوجود في مكان أول، و اللَّه تعالى منزَّه عن المكان، إذ المكان مخلوق ولا يعقل إحاطة المخلوق بالخالق، كما أن الانتقال يستلزم خلق الشيء من المكان الأول، و اللَّه تعالی محیط بكل شيء علماً ًوقدرةً، وإن شئت التفصيل فراجع شرحنا على أصول الكافي.

أو المأتي به محذوف، مثلاً يأتيهم اللَّه بأمره وعذابه، كما قال «فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ»(5)، وإنما حذف لدلالة قوله «عَزِيزٌ حَكِيمٌ » عليه، ولمّا في هذا النوع من التعبير من تفخيم الأمر والتوعيد الأكيد - كذا قيل -

وأمر اللَّه كما يكون في القيامة بأتمِّ صورة وأجلاها، كذلك قد يكون في الدنيا، بنزول العذاب الدنيوي، كقوله تعالى «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ

ص: 51


1- سورة النحل، الآية: 33.
2- سورة النحل، الآية: 1.
3- سورة النحل، الآية:29.
4- سورة الأعراف، الآية: 5.
5- سورة البقرة، الآية: 109.

التَّنُّورُ »(1)، قال سبحانه«وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ »(2)، وقال « فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ »(3)، ومن هذا يتضح معنی الروايات التي وردت في تفسير أو تأويل هذه الآية بظهور الإمام المهدي علیه السلام ، فعن الإمام الباقر عليه السلام - في القائم عجل اللَّه تعالی فرجه الشريف -: كأني بقائم أهل بيتي قد علا نجمه، فإذا علا نجمه نشر راية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم، فإذا نشرها انحطت عليه ملائكة بدر، وقال أبو جعفر عليه السلام : إنه نازل في قباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة على الفاروق، فهذا حين ينزل، وأما « قُضِيَ الْأَمْرُ » فهو الوسم على الخرطوم يوم يوسم الكافر(4).

وفي الآية تفسير آخر: وهو أن الكفار إذا لم يؤمنوا مع هذه الحجج الظاهرة، فكأنهم بانتظار إتيان اللَّه حتى يؤمنوا، ولو أتي اللَّه أهلكهم وقضي الأمر، فإنَّ أهل الكتاب والكفار کانوا يزعمون أن اللَّه يأتي في الغمام ومعه الملائكة، فالآية تشير إلى أساطير أهل الكتاب تهکُّماً، ثم تهدد بأنه عند قضاء الأمر وقيام القيامة، فلا مجال بعد للتكليف)(5).

الخامس: قوله« فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ».

الظلل : جمع ظُلّة، وهي ما أظلّت من الشمس فلا يصل نورها إلى ذلك المكان.

ص: 52


1- سورة هود، الآية: 40
2- سورة هود، الآية: 58.
3- سورة البقرة، الآية: 109.
4- البرهان ج 2، ص 191 عن تفسير العياشي، وفي الرسم على الخرطوم راجع شرحنا على أصول الكافي.
5- راجع التبيين ص 43، والتقريب ج 1، ص238.

وهذا من الأمور الجلائل في القيامة، حين يكثر التهويل، فينزل العذاب من الغمام - وهو السحاب الأبيض - .

قيل: إن السحاب الأبيض هو مظنة المطر والرحمة فإتيان العذاب منه أشد في الإيلام(1).

ولعلّ التعبير بالظلل، لأنها حاجز عن وصول رحمة اللَّه تعالى إلى هؤلاء الكفار والمنافقين، نظير قوله تعالى «وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ »(2)، وقال «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ »(3).

السادس : قوله تعالی «وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ » .

أي حين إتيان أمر اللَّه وإتيان الملائكة هنالك قد قضي الأمر، فلا مجال للتوبة ولا للرجوع إلى الدنيا للعمل الصالح، كما قال تعالى «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا »(4).وقال تعالی « وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ »(5).

وقال : «فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ »(6).

وقوله: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» بمعنی منتهی كل أمر إليه، فيجازي الكل بما يستحقون ويتفضَّل على المؤمنين بالثواب.

ص: 53


1- قريب منه في الكاشف ج 1، ص 196.
2- سورة لقمان، الآية: 32.
3- سورة الزمر، الآية: 16.
4- سورة النساء، الآية: 18.
5- سورة الأنعام، الآية: 8.
6- سورة غافر، الآية: 78.

الآيتان 211 - 212

«سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)»

«زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)»

ثم بيّن اللَّه تعالى أن سنّته في عقاب أهل الزلل عامة حيث جرت في الأمم السابقة فقال تعالى:

211 -«سَلْ» یا رسول اللَّه سؤالاً لتوبيخهم وتقريعهم ولظهور الحقائق للناس، « بَنِي إِسْرَائِيلَ »علماءهم«كَمْ آتَيْنَاهُمْ » عبر أنبيائهم« مِنْ آيَةٍ »معجزة وحجة« بَيِّنَةٍ »ظاهرة، فمنهم من آمن ، ومنهم من جحد، ومنهم من أقرَّ، ومنهم من بَدّل «وَ »قد شاهدوا كيف عذبنا المبدِّلين، لأن «مَنْ يُبَدِّلْ »بالكتمان أو التحريف «نِعْمَةَ اللَّهِ» وآياته تعالى من أجلّ نِعَمه، «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ »أي بعدما وصلت إليه وتمكن من معرفتها، «فَ-» ليهيئ نفسه لعذاب اللَّه إذ «إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» .

212۔ وسبب تبديل النعمة والزلل هو أنه «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» والمزيِّن هو الشيطان وأولياؤه « الْحَيَاةُ الدُّنْيَا »فهم يعملون لأجلها

ص: 54

فقط،«وَ»حيث إنهم غافلون عن الآخرة ف«يَسْخَرُونَ »يستهزئون «مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لأن المؤمنين منصرفون عن الحياة الدنيا ويعملون للآخرة، فيتصور الكفار أن هؤلاء سفهاء، «وَ» لكن لا يضرّ المؤمنين استهزاؤهم لأن «الَّذِينَ اتَّقَوْا» المعاصي حيث لم يتمكن الشيطان من تزيين محرمات الحياة الدنيا لهؤلاء«فَوْقَهُمْ » فوق الكفار في الرتبة والكرامة والمنزلة في الجنة «يَوْمَ الْقِيَامَةِ » في حين أن الكفار في ذلّ وهوان في سجين من نار جهنم،«وَ»المؤمنون لهم الآخرة خالصة، وهم يشاركون الكفار في الدنيا لأن الرزق ليس بالكفر حتى يحرم منه أهل الآخرة، إذ «اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

بحوث

الأول : قوله تعالى «سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» .

السائل إما الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم فيكون سؤاله لتقريعهم وتوبيخهم والإنكار عليهم، وإما الناس فالمعنی سل أيها السامع - مثلاً - وذلك بغرض التوبيخ أو بغرض الاستعلام كقوله «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ »(1).

والمقصود بيان أن سنة اللَّه تعالی جرت في عقاب المخالفين الأوامره، فلا تستبعدوا ما ذكرته الآية السابقة «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » .

ص: 55


1- سورة يونس،الآیة: 94.

كما أن في الآية تهديداً لبني إسرائيل بأن اللَّه قد أتمَّ الحجة عليهم حيث ذكر الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم في كتبهم ومع ذلك عاندوا، فليعلموا بأن اللَّه تعالى كما أخذ أسلافهم بمخالفتهم كذلك سيأخذهم بعنادهم وإنكارهم للرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم، وقد أخذهم اللَّه في الدنيا قبل الآخرة بالجلاء والقتل والسبي واغتنام أراضيهم وأموالهم.

الثاني : قوله تعالى كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ .

«كَمْ» إما استفهامية للتقرير، وإما خبرية دالَّة على الكثرة .

«آتَيْنَاهُمْ» بمعني أعطينا أنبياءهم، وكذا آتيناهم جميعاً المعاجز على يد أنبيائهم فكلهم عبروا البحر ولكن بمعجزة على يد موسی علیه السلام - مثلاً -، وبمعنى ذكرها في التوراة فهم يعرفونها .

و« آيَةٍ بَيِّنَةٍ »تشمل المعاجز وتشمل الدلائل على نبوة محمد صلی اللَّه علیه وآله وسلم المذكورة في التوراة كما قال« الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ »الآیة(1).

الثالث : قوله تعالی «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ»

عن الإمام الصادق علیه السلام قال : فمنهم من آمن، ومنهم من جحد، ومنهم من أقر، ومنهم من بدّل «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ...»(2). ولعلّ المراد أن بني إسرائيل كانوا أصنافاً أمام آيات الله، فمن حيث القلب: قسم آمن وقسم کفر بالجحود، ومن حيث العمل : قسم أقرَّ - لساناً وعملاً -، وقسم بدّل تلك الآيات بالتحريف.

ص: 56


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- البرهان ج 2، ص 191، عن الكافي.

ثم بیّن اللَّه حكم المبدِّلين فقط، لأن سياق الآيات حول الذين يَزِلّون من الذين آمنوا (راجع الآية 109) فناسب بیان عقاب نظرائهم في الأمم السابقة - وهم المبدّلون - كما أنه يعرف مصير سائر الأقسام من سياق الكلام ومضامين الآيات.

و(التبديل) يكون بطرق مختلفة . إما بعدم الإيمان بها فيبدلها كفراً فيكون نظير قوله تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا »(1). وإما بمعنی تحريفها نظير قوله تعالى «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ »(2).

ثم إن قوله «وَمَنْ يُبَدِّلْ ...»بيان لسنة عامة من سنن اللَّه تعالى - والتي انطبقت على المبدّلين من بني إسرائيل وتنطبق على أهل الزلل المسلمين - وهي أن نعم اللَّه تعالى التي أنعم بها على الناس يجب إبقاؤها على ما أراده اللَّه منها، وأما من يُخرجها عن المقصود منها فإنَّ اللَّه يعاقبه أشد العقاب، قال تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)»«ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)»(3).

«نِعْمَةَ اللَّهِ»عامة لجميع أنعُمه تعالى، ومنها: دلائله التي هي سبب للهداية ، وتبديلها قد يكون عن طريق تحريفها أو تأويلها لتكون سبباً للضلال، وهذا من أشد الجرائم بتبديل الهداية إلى الضلال، قال تعالى «وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ

ص: 57


1- سورة إبراهيم، الآية: 28.
2- سورة البقرة الآية: 59.
3- سورة الأنفال، الآيتان: 52 - 53.

آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)»«وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)»(1). وقال سبحانه «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا »(2).

الرابع : قوله تعالى : « مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ ».

مجيء الآية، بمعنى أنها وصلته فلم يعمل بمقتضاها، أو تمكن من معرفتها لكنه لم يحاول المعرفة، كالذي يضع أصابعه في أذنيه كما قال «وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)»(3)، أو عرفها ولكنه كتمها كقوله تعالى «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)»(4)، أو عرفها «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)»(5)، أو حرّفها - في معانيها أو ألفاظها - للتدليس على العامة كقوله تعالى «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ »(6).

الخامس: قوله تعالى «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا »

هذا الدليل لما ذُكر من اتباع خطوات الشيطان، والزلل بعد مجيء البينات، وتبدیل نعمة اللَّه بعد مجيئها .

ص: 58


1- سورة التوبة، الآيتان: 126 - 120.
2- سورة الإسراء، الآية: 82.
3- سورة نوح، الآية: 7.
4- سورة البقرة، الآية: 146.
5- سورة النحل، الآية: 83.
6- سورة البقرة، الآية: 75.

وحاصله أن هنالك عاملين يتسببان في اتباع الباطل وترك الحق الصراح المطابق للعقل والفطرة :

1- تزيين الحياة الدنيا ، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام قال : فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام اللَّه سبحانه يقول : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » بلى و اللَّه لقد سمعوها، وَوَعوها، ولكنهم حَلِيت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها(1).

2- عدم الاستماع إلى الناصحين، بل تحقيرهم والاستهزاء بهم كقوله «فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ »(2)، وقوله «وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ »(3) .

ثم إن التزيين إن كان في المخلوقات فهو من اللَّه تعالى، وإن كان في الأعمال الفاسدة فهو من الشيطان.

أولا : تزيين اللَّه تعالى: إن اللَّه تعالى خلق الدنيا جميلة كما قال تعالى « مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ » (4)وقال أمير المؤمنين عليه السلام : إن الدنيا دار صدق لمن صَدَقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غني لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتَّعظ بها ، مسجد أحباء اللَّه ، ومصلّی ملائكة اللَّه ، ومهبط وحي اللَّه ، ومتجر أولياء اللَّه ، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، فمثّلت لهم ببلائها البلاء، وشوّقتهم بسرورها إلى السرور(5).

ص: 59


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 3، والآية في سورة القصص الآية: 83.
2- سورة الأعراف، الآية: 79.
3- سورة الحجر، الآية: 11.
4- سورة الملك، الآية: 3. سورة الملك، الآية: 3.
5- نهج البلاغة، الحكمة رقم 131.

فكل ما في الأرض من زينة فهو من اللَّه تعالى كما قال تعالى «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » (1)وقال سبحانه «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا »(2).

والغرض هو امتحان الناس، فخلق اللَّه المشتهيات في الدنيا وجعل الشهوات في الناس، إذ التكليف لا يتم إلَّا بذلك، فإنَّه إذا دعي إلى شيء تنفر نفسه منه أو زُجر عن شيء تشتهيه نفسه فقد تمّ الامتحان.

كما أن استمرار الحياة يتوقف على هذه الشهوات، فلولا شهوة النساء لانقطع النسل، ولولا شهوة المال لانقطع العمران وهكذا.

ثانياً: تزيين الشيطان : إن الشيطان - وكذا النفس الأمارة بالسوء، والهوى -: يزيّن للإنسان الأعمال الفاسدة ، فتسوق الإنسان إلى الباطل التصرفه عن الحق، فهؤلاء يعملون لأجل الدنيا فقط ويغفلون عن الآخرة ، قال تعالى و« وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »(3)، وقال «وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ »(4).

والحاصل إن تزيين المخلوقات من اللَّه تعالى، وتزيين أعمال السوء من الشيطان والنفس والهوى.

السادس : قوله تعالى «وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ».

أي يستهزئون منهم، إما لأنهم يزعمون أن المؤمنين يعملون لشيء مجهول، أو لزهدهم في الدنيا ، أو لفقرهم ونحو ذلك .

ص: 60


1- سورة الكهف، الآية: 7.
2- سورة الكهف، الآية: 46.
3- سورة الأنعام: 43.
4- سورة الأنعام، الآية: 137.

ومنشأ الاستهزاء التكبر والاستعلاء قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ»الآية(1).

وحيث إن سبب الاستهزاء هو التكبر لذا بيّن اللَّه تعالى أن العلوَّ الحقيقيَّ هو للمؤمنين فقال «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». فهنالك يتبيّن أن المؤمنين عملوا للسعادة الأبدية لا لشيء مجهول، وأن زهدهم في الدنيا كان رغبة في ثواب الآخرة الذي ليس له نهاية، وأن الفقر ليس سبباً للحقارة، بل سبب الحقارة هو مخالفة أوامر اللَّه تعالى ونواهيه، فالمؤمن الفقير عزیز بطاعة اللَّه وبالجنة، والكافر الثريُّ ذلیل بعصيان اللَّه وبالنار.

فلذا لا يواجه المؤمنون في الدنيا الاستهزاءإلَّا بالمرور كراماً أو بطيب الكلام، قال تعالى«وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا » (2)وقال سبحانه« وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا »(3) بل هم يأسفون على هؤلاء الكفار كيف اختاروا الشقاء.

أما في الآخرة فإنَّ أهل الجنة يسخرون من أهل النار قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)»«وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ »الی قوله «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ »(4)، وليس ذلك إلَّا جزاءً وفاقاً، فليس استهزاء المؤمنين بهم في الآخرة من منطلقٍ نفسيٍّ حقير ، فإنَّ أهل الجنة منزهون عن كل الرذائل، بل هو جزاء لفعل الكفار ولذا كانت تتمة الآيات وهل ب الكفار ما كانوا يفعلونه.

ص: 61


1- سورة الحجرات، الآية: 11.
2- سورة الفرقان، الآية: 72.
3- سورة الفرقان، الآية: 63.
4- سورة المطففين، الآيات: 29 - 34.

السابع : قوله تعالى«وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».

عبر عن الذين آمنوا ب«وَالَّذِينَ اتَّقَوْا»لبيان أن علؤهم إنما هو بالتقوى، وإلّا فالمنافقون أيضأ آمنوا بألسنتهم، ولكن حيث لا تقوى لهم فإنَّهم في الدرك الأسفل من النار.

و« فَوْقَهُمْ » في المكان حيث إنهم في عليين، والكفار في سجين ، وفي الرتبة والمنزلة فهم في كرامة وأولئك في صغار وذلّ.

وقوله «يَوْمَ الْقِيَامَةِ »حيث تظهر مرتبة المتقين والكفار على حقيقتها .

أما في الدنيا فإنَّ المتقين أيضاً فوق الكفار في المنزلة والكرامة ، ولكن لا ظهور لذلك عند كثير من الناس لأنهم «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ »(1). بل الأمر مختلط كثيراً لعدم العلم بالنوايا والسرائر، بل لأن المناط عند الأكثر هو الأمور المادية فحسب من سلطة أو ثروة ونحو ذلك، كما أن غير المتقين كثيراً ما يظلمون المتقين بالقهر والغلبة، أما في الآخرة فكل شخص يظهر على حقيقته ولا عِزّ إلَّا لأولياء اللَّه تعالی.

الثامن : قوله تعالى« وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ » .

لعلّ المقصود هو دحض سبب استهزاء الكفار من المؤمنين، فإنَّ الكفار منشأ استهزائهم عادة الماديات فيرون أنهم فوق المؤمنين، لكن كما يرزق اللَّه الكفار في الدنيا كذلك يرزق المؤمنين فيها، وكما هناك فقراء مؤمنون كذلك يوجد في الكفار كثير من الفقراء، بل بعض المؤمنين أكثر ثراء وسلطة ومكنة من كثير من الكفار، مع أن الآخرة خالصة

ص: 62


1- سورة الروم، الآية: 7.

للمؤمنين كما قال تعالى«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ »(1).

و«بِغَيْرِ حِسَابٍ »إما كناية عن الكثرة، بحيث لا يمكن حسابه ، أو بمعنى أنه ليس الرزق - في الدنيا والآخرة - مقابل الأعمال بل هو بفضل منه تعالى. أو بمعنى أنه لا يؤاخذه أحد على رزقه فهو «لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ »(2)، وقيل غير ذلك، والأول أقرب.

ص: 63


1- سورة الأعراف، الآية: 32.
2- سورة الأنبياء، الآية: 23.

الآية 213

«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)»

213 - ثم إن اللَّه سبحانه بیّن أنه لولا لطفه تعالى بإرسال الرسل الكانوا جميعاً في ضلال، كما كانوا على ضلال في بعض الفترات«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ »بين آدم ونوح علیهما السلام «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً » مجتمعة على الضلال، وذلك لأن الوصي الحجة خرج من عندهم خوفاً وتقية، فبقوا بلا هداية فضلّوا، وهؤلاء مع اجتماعهم على الضلال كانوا مختلفين في أمورهم «فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ » لمن آمن وأصلح «وَمُنْذِرِينَ » لمن كفر أو عصي «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ»ليكون المرجع في العقائد والأحكام وغيرهما ولتستمر الهداية بعد الأنبياء، « بِالْحَقِّ»أي أنزل الكتاب مع الحق الذي فيه أو هذا الإنزال كان حقاً لا عبثاً ، وكان الغاية من البعث والإنزال هو «لِيَحْكُمَ » اللَّه تعالی بواسطة الأنبياء والكتاب «بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا »، لطفاً منه تعالى للناس الهدايتهم، وهؤلاء وإن كانوا مجتمعين على الضلال لكنهم كانوا

ص: 64

مختلفين فيما بينهم، لكن الكتاب لم يرفع الاختلاف، لا لنقص فيه ، بل بسبب أن طائفة من الناس كذّبوه، بل والذين آمنوا به ظاهراً اختلفوا في الكتاب في حقائقه ومعانيه «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ »في الكتاب أو الحق «إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ »أي الذين نزل عليهم الكتاب « مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ» الدلائل الشاهدة على صدق الكتاب، والدلائل على مراداته، وإنما اختلفوا «بَغْيًا بَيْنَهُمْ» أي لوجود بعض الظالمين فيهم حسداً أو مصلحة «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا»إيماناً حقيقياً فلم يكونوا طلاب رئاسة أو مال، فحيث كانت لهم القابلية للهداية بحسن اختيارهم فإنَّ اللَّه هداهم «لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ »بأن عرفوا مراده تعالی وعملوا به ، وكانت تلك الهداية «بِإِذْنِهِ» أي بلطفه ورحمته ، «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ » ممن كانت له القابلية«إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ »موصل إلى النجاة.

بحوث

الأول : لعلّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة . وخاصة آیات الحج -، هو أن اللَّه سبحانه أرسل الأنبياء لبيان الحق بحيث إذا اتبعه الناس انحل الخلاف وصار الوئام، والحج هو من ضمن التشريعات التي توحِّد الناس وترفع الاختلافات من بينهم، فلو التزم المسلمون بروح الحج وأدَّوه على حسب ما فرض اللَّه تعالى عليهم فإنَّه يدعوهم إلى الالتفاف حول الحق ونبذ الباطل.

ص: 65

ثم إن الغرض من الآية هو بيان إحدى أهم سُنن اللَّه تعالى، حيث إنه سبحانه أراد هداية الناس لأنه لم يخلقهم عبثاً ، بل خلقهم ليرحمهم «إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ » (1)ولأن الطريق إلى الرحمة التامة هو العبادة كما قال : «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ »(2) ولا يمكن للإنسان بعقله أو فطرته الوصول إلى تفاصيل العبادات، لأجل ذلك كلّه بعث اللَّه الأنبياء ليبينوا للناس الحقائق التي توصلهم إلى الكمال بحيث تكون لهم القابلية للوصول إلى رحمة اللَّه تعالى الخاصة التي لأجلها خلق اللَّه تعالی الخلق.

فلا يصح القول بأنه لولا اختلاف الناس لما أرسل اللَّه الرسل بل تركهم وشأنهم، بحيث تنتج المقولة الباطلة بأنه لو تمكنّا من رفع الاختلاف بالقوانين الوضعية ونحوها لانتفت الحاجة إلى الأنبياء والكتاب!! وذلك لأن إرسالهم وإنزال الكتاب هو بغرض الهداية إلى الحق، وليس من حق في المعتقدات والعبادات إلَّا ما أنزله اللَّه عبر أنبيائه وكتبه، كما لا يوجد حق في المعاملات ونحوها إلَّا ما أقرّ الشرع وأمضاه.

وأما الاجتهاد فهو إنما يكون في فهم النص وتطبيقه على المصادیق، ولا اجتهاد في مقابل النص، لأن النص هو الحق وليس وراءه إلَّا الباطل، قال سبحانه :«فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ »(3).

الثاني: إن هذه الأمة كانت قبل نوح، فعن الإمام الصادق علیه السلام في تفسير هذه الآية ، قال : كان ذلك قبل نوح، فقيل: فعلى هدًى كانوا؟

ص: 66


1- سورة هود، الآية: 119.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- سورة يونس، الآية: 32.

قال : بل كانوا ضُلّالاً ، وذلك أنَّه لما انقرض آدم عليه السلام وصالح ذريته ، بقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين اللَّه الذي كان عليه آدم عليه السلام وصالح ذريته، وذلك أن قابيل توعده بالقتل، كما قتل أخاه هابيل فسار فيهم بالتقية والكتمان، فازدادوا كل يوم ضلالةً حتى لم يبق على الأرض معهم إلَّا من هو سلف، ولحق الوصي بجزيرة في البحر يعبد اللَّه تبارك وتعالی أن يبعث الرسل - إلى أن قال : لم يكونوا على هدًى، كانوا على فطرة اللَّه التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق اللَّه ، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أما تسمع، يقول إبراهيم: « لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ »(1)أي ناسية للميثاق (2).

فعامة الناس كانوا على ضلال ولم يكن لهم إلَّا الفطرة، وهي وحدها لا تفي بالهداية، وأما حجة اللَّه فكان في واحد أو في جماعة قليلة غیر معتد بها .

سوال: ورد في بعض الأحاديث أن الناس في تلك الفترة لم يكونوا مهتدين ولا ضُلّالًا، مع أن أكثر الأحاديث دلت على كونهم على ضَلال (3)؟

والجواب: لعلّ مراد الروايات الدالة على عدم الضلال هو كونهم على الفطرة، متمسكين بما دلت عليه من الحق، وأما فيما سوى ذلك مما لا تناله الفطرة فإنَّهم كانوا على ضلال لم يكونوا مهتدين لعدم وجودرسل بينهم.

وبعبارة أخرى إن الضلال هنا نسبیٌّ، فبالنسبة إلى ما دلت عليه

ص: 67


1- سورة الأنعام، الآية: 77
2- البرهان: ج 2، ص193 - 196.
3- راجع البرهان ج 2، ص 192 - 196.

فطرتهم كانوا على الحق ملتزمين بها، وفيما لم تدل عليه فطرتهم كانوا ضالين عن الحق غير مهتدين، وفي مجمع البيان: فالمعنى أنَّهم كانوا متعبدين بما في عقولهم غير مهتدين إلى نبوة ولا شريعة، ثم بعث اللَّه النبيين بالشرائع لمّا علم أن مصالحهم فيها(1).

الثالث : قوله تعالى« فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ».

والمعنى أن اللَّه سبحانه وتعالى أنشأ تقديراً ببعث الأنبياء، لعلمه سبحانه بأن ذلك أصلح لشؤون الناس ليخرجوا من الضلال ويهتدوا .

وظاهر الآية - بمعونة الروايات - أن الحجة كانت مستمرة من بعد آدم عليه السلام وفي كل تلك الفترة بين وصي ونبي لكنهم لم يكونوا مأمورین بالتبليغ، فلما قدر اللَّه تعالى هداية الناس بعث الأنبياء، فكأنَّهم علیهم السلام كانوا ساکنین غیر متحركين بأمر اللَّه تعالى فقدّر سبحانه تحريكهم، ولذلك جاء بكلمة (البعث) التي تستعمل عادة في إيقاظ النائم وتحريك الساكن دون الإرسال) حيث إن مفهومه أعمّ.

وقد تواترت الروايات بأن الأرض لا تخلو من حجة من يوم أهبط اللَّه تعالی آدم عليه السلام إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، إما ظاهر مشهور أو خائف مغمور، ولولا الحجة لساخت الأرض بأهلها ، لأن اللَّه تعالی ربط بهم نظام التكوين والتشريع، وقد ذكرنا بعض التفصيل في كتاب الحجة من شرح أصول الكافي فراجع.

ثم إن الأنبياء على طبقات : فمنهم نبي غير مرسل، وبعضهم مرسل غير إمام، والقليل منهم مرسل إمام، كإبراهيم عليه السلام كان إماماً على

ص: 68


1- المجمع ج2، ص100.

لوط عليه السلام ، - وكلاهما نبي مرسل -، ومعنى الإمام أنَّه غير تابع لنبي آخر، وغير الإمام هو من كان تابعاً لنبي آخر وقد مرّ شرح قوله تعالى «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ »(1).

وأما وصف الأنبياء بالمبشرين والمنذرین، فلأجل أن إلزام الناس باتباعهم لا يكون إلّا عبر التبشير والإنذار، ولولا ذلك لم يكن للناس داع الاتباعهم، فإنَّ محرك عامة الناس المصلحة أو الخوف، وأما عبادة اللَّه لكونه أهلاً للعبادة فتلك درجة السابقين - وهم أقلّ القليل -

الرابع : قوله تعالى : «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ».

إنه لا يكفي وجود المصلح بل لا بد من وجود نظام تام كامل إضافة إلى من يبني ذلك النظام ويطبقه ، فلذا أرسل اللَّه الأنبياء هداةً ومصلحين، وأرسل معهم النظام الكامل وجعل ذلك النظام في كتاب ليكون المرجع .

ولا يخفى أن الوحي نزل - عادة - بشكل ألفاظ، وأما التدوين والكتابة فهي فعل الناس وبأمر من الأنبياء، ولذا نزلت ألفاظ القرآن، ولم تنزل كتابته ، بل أمر الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم بأن يكتب القرآن في أوراق أو ألواح وتجعل في المسجد عند المنبر ليستنسخ منها المسلمون(2)، كما أمر رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم الإمام علياً عليه السلام الي بجمع القرآن - بألفاظه وتفسيره وتأويله - في كتاب ليكون المرجع(3) فحفظ الناس رسم القرآن ولكنهم رفضوا تفسيره وتأويله عليه السلام .

ص: 69


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- راجع الكافي ج 5، ص 121.
3- البحار ج 38، ص303، الاحتجاج ج1، ص103.

ثم إن المسلمين اتفقوا على هذا الرسم المشهور بالرسم العثماني، وذلك لكيلا تختلف أشكال الكتابات ولسد الذرائع لمن يريد التحريف.

ولا يخفى أن طريقة الكتابة هي اصطلاح، والاصطلاح يرجع إلى من اصطلحه، ولذا قالوا لا مشاحَّة في الاصطلاح، فلا يمكن التخطئة فيه، ولذا فلا إشكال في هذا الرسم المعروف في المصاحف، مع كون بعض الكلمات على خلاف الرسم الشائع في طريقة كتابة اللغة العربية ، لأن الرسم الشائع اصطلاح، والرسم العثماني اصطلاح آخر وحتى في الكلمة الواحدة فإنَّها قد تكتب بطريقتين.

والآن بعض اللغات الحية - الإنجليزية - لا توجد قواعد لكتابتها، بل كما يتعلم المتعلّم ألفاظها فعليه أن يحفظ كتابتها أیضاً ، لأن الاصطلاح في كل كلمة يختلف عن الأخرى . فتأمل.

ثم إن المراد من( الكتاب) هو جنس الكتاب، وليس المراد كتاباً خاصاً، بل نزل الكتاب على بعض الأنبياء، وكان سائر الأنبياء يعملون على طبق ذلك الكتاب إلى أن كان ينسخ وينزل اللَّه كتاباً جديداً.

وفي بعض الروايات أن الكتب التي نزلت على الأنبياء مائة وأربعة کتب، نزلت مائة منها على آدم وإدريس ونوح وإبراهيم مضافاً إلى التوراة والزبور والإنجيل والقرآن(1).

الخامس : قوله تعالى «بِالْحَقِّ ».

1- إما بمعنى أن الكتاب نزل مع الحق، فهو بيان للحق، حيث إن أكثر مسائل المبدأ والمعاد وكيفية الطاعة والعبادة لا يمكن للإنسان

ص: 70


1- الاختصاص للمفيد ص 296.

الوصول إليها عبر عقله وفكره، والطريق للوصول إليها منحصر في الوحي.

نعم العقل يكتشف بعض الكليات وبشكل ضبابي، كمعرفته بأصل وجود اللَّه تعالى وأنَّه ذا كمالات ومنزه عن النقائص وبأنَّه لا بدّ من إرسال الرسل مع معاجز تثبت صدقهم، وأنَّه لا بد من شكر المنعم، وأما التفاصيل فلا طريق لأغلبها إلّا الوحي، ولذا انحرف الذين تركوا الوحي والتجؤوا إلى عقولهم الناقصة، فتوهموا بأذهانهم شيئاً زعموا أنَّه الخالق مع أنَّه مصنوع مخلوق لأذهانهم .

ثم إن تفاصيل المبدأ والمعاد ذكرها القرآن الكريم وبيَّنها الرسول العظیم صلى اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة المعصومون علیهم السلام

وغالب المتكلمين والفلاسفة كانوا بين إفراط وتفريط، فإمّا تركوا الآيات والروايات وأولوها حسب عقولهم القاصرة، وإمّا تركوا بيان الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام ورفضوا كل أنحاء التأويل، وسيأتي بإذن اللَّه

تعالى تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ »(1)

2 - وإما «بِالْحَقِّ ». بمعنى أن إنزال الكتاب كان حقاً، ولم يكن لغواً

وفي التقريب : «بِالْحَقِّ » قيد توضيحي لأن كل ما أنزله من اللَّه سبحانه فهو بالحق، وإنّما أكّد لمقابلته لسائر الكتب التي ترسلها الرؤساء ففيها الحق وفيها الباطل(2) .

ص: 71


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- التقريب: ج1، ص 240. بتصرف.

السادس : قوله تعالى«لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ »

أي ليحكم اللَّه تعالى بواسطة ذلك النبي أو الكتاب، ثم إن حكمه تعالى قد يكون في التشريع وذلك ببيان الأحكام التي تنظم حياة الناس العباديةوالاجتماعية والاقتصادية . . . . إلخ - ،وقد يكون في العقيدة ، ببيان ما هو الحق في الخالق وصفاته ونحو ذلك، وقد يكون في الأخبار ببيان القصص الحق وتمييزها عن الأساطير والخرافات، وما إلى ذلك .

ثم إن اختلاف الناس لا ينافي وحدة الأمة، وذلك لأنَّهم كانوا مجتمعاً واحداً متفقاً على الضلال لكن كيفية ضلالهم مختلف، كما تقول(الكفر كلّه ملة واحدة) حيث إنهم مجتمعون على رفض الحق، كاتفاق اليهود والنصارى في ضلالهم حول عيسى علیه السلام مع اختلافهم في أن النصارى انتهجوا الغلوَّ فيه، واليهود كذّبوه، صلوات اللَّه عليه. وقيل : إنهم كانوا متفقين في نمط الحياة ولكنهم اختلفوا في الكليات منالعقائد ونحوها

وقيل : في الجملة حذف، أي كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث اللَّه النبيين لرفع ذلك الاختلاف .

السابع : قوله تعالى « وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ».

والمعنى أن الأنبياء حينما جاؤوا بالكتاب، اختلف الناس في ذلك الكتاب فبعضهم صدّقه وبعض كذّبه كما قال تعالى «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا »(1)، وأما المكذبون فلم يكن تكذيبهم لضعف حجة الكتاب بل لظلمهم وبغيهم .

ص: 72


1- سورة الفرقان، الآية: 5.

وكذلك الذين آمنوا بالكتاب ظاهراً اختلفوا في مرادات الكتاب وحقائقه، وسبب هذا الاختلاف ليس لأجل قصور الكتاب وعدم وضوحه، بل لأجل تحكّم الأهواء في الكثيرين ففسروا بآرائهم وحسب أهوائهم. ولو إنهم اتبعوا ما أمر اللَّه تعالى لم يبق أي مجال للاختلاف .

ولفهم القرآن الكريم جعل اللَّه تعالى منهجاً واضحاً جلياً كما قال «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ»، فالمحكم واضح الدلالة وظاهره حجة، والمتشابه يرجع في تأويله إلى الراسخين في العلم - وهم الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام - وباتباع هذه المنهجية لا يبقى أيّ اختلاف يذكر، لكنهم أقاموا رسم الكتاب وحرفوا معانيه، ولم يأخذوا من العترة بل عارضوهم وخالفوهم، فضَلّوا بذلك ضلالاً مبيناً .

الثامن : قوله تعالى « فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ »

قد مرّ مراراً أن الهداية وكل كمال إنما هو من اللَّه تعالى، وكذلك ترتيب النتائج على الأسباب إنما هو بإرادة اللَّه تعالى ومشيئته . ولكن اللَّه سبحانه لا يرتب النتائج اعتباطاً، وإنما جعل أسباباً وحث الناس على أسباب الخير، وحذرهم عن أسباب السوء، فمن اختار أسباب الهداية يوفقه اللَّه تعالى لتلك الهداية، ومن لم يختر تلك الأسباب يضلّه اللَّه تعالى، فالذين آمنوا إيماناً حقيقياً لم يكونوا طلاب رئاسة ولا مال، بل كانوا يريدون وجه اللَّه سبحانه فلذلك يجدهم اللَّه تعالى أهلاً لها فيهديهم إلى الحق، وذلك«بِإِذْنِهِ » أي حسب مشيئته ولطفه بهم .

ثم إن قوله: «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » إما بمعنى

ص: 73

الإيصال للمطلوب، بأن يأخذ اللَّه سبحانه بيده ويوصله إلى الهداية، وهذا ليس بواجب بالنسبة إلى الجميع - كما ذكرنا - ولذا قال سبحانه «يهدى من يشاء

وإما بمعنى إراءة الطريق، وذلك عبر إرسال الرسل وإنزال الكتب، ولذا في الفترة بين آدم ونوح لم يبعثهم، وبعد ذلك شاء تعالى إراءة الطريق للآخرين فأرسل الرسل وأنزل الكتب، وكذلك في الفترة بين عیسی علیه السلام وبين رسول اللَّه محمد صلی اللَّه علیه وآله وسلم ثم اكتفاء بالشريعة السابقة مع عدم إرسال رسول .

سؤال: وهل يعاقب أهل الفترة على ذنوبهم؟

الجواب : إنه لا محذور في معاقبة من خالف الفطرة والعقل، وذلك لأن العقل حجة اللَّه الباطنة - وكذا الفطرة لأنَّها على الأظهر مرتبة من مراتب العقل وأما ما لا يدل عليه العقل ولا الفطرة، فلا عقاب على مخالفته إن لم يكن قد وصلهم الشرع ولم يعلموا بالأنبياء والرسل، لأن عقابهم على ذلك ظلم، وهكذا المستضعفون من الرجال والنساء والولدان عسى اللَّه أن يتوب عليهم .

وفي بعض الأحاديث إن اللَّه تعالى يمتحن هؤلاء القاصرين في يوم القيامة، فمن نجح في الامتحان لم يعذَّب ونالته رحمة اللَّه تعالى، ومن عصی فإنَّه يدخل في نار جهنم (1).

ص: 74


1- راجع البحار ج69، ص158.

الآيات 214 - 219

«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)»«يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)»«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)»

ثم إن اللَّه تعالى یبیّن أن هذا الاختلاف والبغي أورث المؤمنين مصاعب جمّة، فعليهم أن يتحملوها وأن يعملوا جادّين لتجاوزها ، لكي يصلوا إلى السعادة في الدنيا والآخرة، فخلال هذه الآيات الثلاث بيان أن الطريق صعب جدّاً، ففي الآية الأولى بيان لشدة المشاكل وفي الآية الثانية والثالثة بيان للزوم الكدّ والعمل - بالإنفاق والجهاد ، مع بيان لزوم تقوية الأواصر الاجتماعية لتكون الجبهة الداخلية منسجمة متحدة

214 - ثم إن اللَّه يسلِّي المؤمنين الذين وقعوا في متاعب هذا الاختلاف فيقول لهم «أَمْ حَسِبْتُمْ » أي هل ظننتم «أَنْ تَدْخُلُوا».

ص: 75

الْجَنَّةَ »اعتباطاً وبلا مشقة؟ «وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ » أي من غير أن تبتلوا بالصعوبات التي ابتلي بها المؤمنون من قبلكم فصاروا مَثَلاً لكل من يتبع الأنبياء؟، فأولئك «مَسَّتْهُمُ »أي أصابتهم «الْبَأْسَاءُ » الشدة في العيش كالفقر، و«وَالضَّرَّاءُ »من الضرر، وذلك كالمرض، «وَزُلْزِلُوا » أي أصيبوا بالاضطرابات الشديدة، وقد بلغت هذه المصائب الغاية بحيث تطلعوا إلى الخلاص منها «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ» فهؤلاء لم يبدلوا ولم يغيروا بانهيارهم أمام المشاكل، بل توجهوا إلى اللَّه بالدعاء لينصرهم، فاستجاب اللَّه دعاءهم ونصرهم « أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ » لأن كل ما هو آت يكون قريباً، وكلّما مضى زمان صار أقرب .

215 وكما هناك امتحان في الشدة بالبأساء والضراء ونحوهما ، كذلك هناك امتحان في الرخاء وخاصة في المال، فلذا المؤمنون يوطّنون أنفسهم على الإنفاق، ولكي يكون إنفاقهم في محله توجهوابالسؤال «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ »وهو سؤال عن نوعية المُنفِق ؟ «قُلْ »في الجواب «مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ » «من خير» بيان «ما»، أي المهم أن يكون المُنفَق خيراً يرغب فيه، ثم يلزم أن يجعل هذا الخير في موضعه فلذا بیّن تعالى المصرف بقوله: «فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» وهذه أفضل المصارف، بدءاً من هم، فالوالدان أولى بالبر من غيرهم لعظيم حقهم ولما في ذلك من تقوية الأواصر الأسرية، وبعدها الأقربون للسبب نفسه حيث

ص: 76

إن الأقربين أولى بالمعروف، ثم اليتامى لضعفهم، والمساكين لحاجتهم، وابن السبيل لانقطاعه .

ثم يلزم أن يكون هذا الإنفاق على وجه الخير لا بالمنِّ والأذى ولذا عقّبه بقوله « وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ »فيجازيكم عليه .

216 - وأما الأمر الثالث الصعب فهو القتال، لأن أهل البغي يعارضون أهل الحق بأن يبدأوهم بقتال أو يقفون حجر عثرة أمامهم بما لا يمكن إزاحته إلّا بقتالهم ، ولذا «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ » الجهاد «وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ » مكروه لطبعكم لمشقته «وَ» لكن قد يكون الخير فيما تكرهه النفوس ف«عَسَى» ربّما وأحياناً «أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ » لما فيه من الفوائد، والقتال كذلك فإنَّه سبب العزة والسعادة، «وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» لما فيه من المضارّ، وترك الجهاد كذلك تحبونه للراحة ولكن عدم الجهاد سبب لزوال العزة والذل والعذاب، « وَاللَّهُ يَعْلَمُ » بما يصلحكم عما يفسدكم حينما يأمركم بما تكرهون «وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ »

بحوث

الأول : لما بیّن اللَّه تعالى أن الكتاب يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأن هناك ناساً يبغون فيختلفون في الكتاب نفسه، بعد هذا البيان أراد سبحانه تسلية المؤمنين بأن الرقي إلى المعالي - وأعلاها الجنة -

ص: 77

لا يكون اعتباطاً بل لا بد من تحمل المشاق والصعوبات، وإنكم تدخلون الجنة عبر تحملكم لتلك المصاعب التي تواجهونها بسبب بغي المبطلين .

حيث إن اللَّه سبحانه خلق الإنسان مختاراً وبيّن له طريق الحق وحذره عن طريق الباطل، ولو كان سبحانه يمنع الإنسان تكويناً عن ارتكاب المخالفات لبطل الاختيار، ولم يكن معنى للثواب والعقاب، فالاختيار يلازم قدرة الإنسان على ما يريده من خير أو شر، ولو كان الخير مطابقاً دائماً لشهوات الإنسان ورغباته وكان في الباطل الصعوبات لبطل الامتحان أيضاً، إذ حينذاك كان عامة الناس يختارون الخير ويتركون الشر، فلذا اقتضت الحكمة أن تكون هناك صعوبة في عمل الخير مع وجود نفس لها شهوات، لكي يرقى الإنسان إلى الكمال بتحمله الصعاب وبتحكمه في النفس والهوى، وهذه سنة اللَّه تعالى في الكون أجمع، فكل تقدم - حتى المادي منه - بحاجة إلى تعب وكد ونصب، وحيث إن أهم الكمالات هي نيل الجنة، لذلك كان الطريق إليها أصعب، وكلما كانت الصعوبات أشد كانت الدرجة أرقى .

ومع ذلك فإنَّ اللَّه سبحانه بیّن للناس سبيل الحق، ورغّب فيه عبر بيان فوائده وعبر بيان الأمثال، فلئن تمكن ناس من الماضين من الفوز في الامتحان ونيل الدرجات العلى، فلا قصور على اللحوق بهم والاقتداء بآثارهم، فإنَّ سماع أخبار الصالحين يرغب في أحوالهم .

الثاني : قوله تعالى «وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ».

المعنى ولحدِّ الآن لم تأتكم الصعوبات والمشقات التي ابتلي بها السابقون فصاروا مثلاً، وقد مرّ أن المَثَل يقرب الفكرة إلى الأذهان، ومن

ص: 78

مصاديقه التشبيه بقوم ماضين ليعتبر الإنسان وليقتنع بالفكرة التي يراد إيصالها عبر ذلك التشبيه

وقيل : المثل هنا بمعنى النظير، أي ولم يأتكم لحد الآن نظير ما أتيالسابقون، ولا يخفى أن هذا المعنى قريب من سابقه .

وقوله «وَلَمَّا يَأْتِكُمْ»يدل على توقع نزول المشاكل، لأن «لمّا» تدل على نفي ما يتوقع حصوله قريباً، ولعلّ من مصاديق تلك الصعوبات الهجرة من مكة، وغزوة أحد والخندق، فقد قيل كل ذلك في شأن نزول هذه الآية(1)، ولكن كما مرّ فإنَّ شأن النزول لا يخصص مفهوم الآيات عادة بل أكثرها آيات تدل على بصيرة عامة ونزولها بمناسبة إنما كان لحكمة التدريج ولتكون أوقع في النفوس أو أظهر من حيث المعنى أو أسهل للحفظ والاتعاظ أو لغير ذلك .

الثالث : قوله تعالى «مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ».

« مَسَّتْهُمُ»استئناف وهو بيان للمثل، ولعلّ في الكلمة إشعار بأن أمد المشاكل قصير - حتى لو طالت المدة على الناس -، وكأنَّه شيء عارض، لأن ما يلمسه الإنسان لا يتحول إلى جزء ملازم له بل يفارقه بعد . أمد قصير، وفي خطبة المتقين (صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة)(2)، فالدنيا بمتاعها وصعوباتها قليلة جدّاً .

والفرق بين « الْبَأْسَاءُ»و«الضَّرَّاءُ »و«زُلْزِلُوا » هو أن « الْبَأْسَاءُ»تتعلق بالشدة في أمور المعاش كالفقر، وضدها النعماء، و«الضَّرَّاءُ »

ص: 79


1- راجع مجمع البيان ج2، ص106.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم 193.

تتعلق بالمصائب الجسدية كالمرض والجوع، وضدها السرّاء، و(الزلزال) يرتبط باضطرابات الحياة كالهجرة والسجن والتخويف، وقيل غير ذلك .

والحاصل أن أولئك ابتلوا بمختلف صنوف المصاعب جسدية كانت أم نفسية أم اجتماعية، فنالوا الجنة بصمودهم وعدم انهيارهم أمام الصعوبات، ولا يمكنكم أن تنالوا ما نالوه من الجنة إلّا أن تستقيموا وتصبروا كما فعلوا، فإنَّه ليس من الحكمة التساوي بين العامل وبين غير العامل، قال تعالى«لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ »(1) . وقال سبحانه « لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا »(2).

الرابع : «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ »

جملة و«حَتَّى ... »متعلقة بكل ما سبق أي مستهم وزلزلوا، والمعنى أن المشاكل كانت كبيرة جداً بحيث كثر التطلع إلى نهايتها، وفي الآية مدح لهم حيث إنهم حين بلوغ المشاكل غايتها لم ينهاروا ولم يبدلوا ولم يغيروا بل بقوا ثابتين في إيمانهم وعملهم، منتظرين إنجاز الوعد، فإنَّ اللَّه سبحانه وعد المؤمنين بالنصر كما قال «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ »(3) وغيرها من الآيات، فقولهم «مَتَى نَصْرُ اللَّهِ » ليس جزعاً بل انتظاراً لإنجاز الوعد، وذلك فضيلة تسجّل لهم، أو هو دعاء من الرسول والمؤمنين لتعجيل الوعد فإنَّهم يعلمون بأن اللَّه سبحانه يستجيب الدعاء وقد يغيّر المقادير بالدعاء، وليس في ذلك ما ينافي الرضا بالقضاء والتسليم لأمر اللَّه

ص: 80


1- سورة النساء، الآية: 95.
2- سورة الحديد، الآية: 10.
3- سورة محمد، الآية: 7.

تعالى، بل هم مع رضاهم بما قدّره وتسليمهم بما أراده يدعونه تعالی امتثالاً لأمره تعالى بالدعاء حيث يقول « ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ »(1). وقال سبحانه «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ »(2)، وقال تعالى «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ »(3).

وقيل(4): إن «مَتَى نَصْرُ اللَّهِ »كلام المؤمنين، «أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ » هو كلام الرسول، ثم دمج الطلب والجواب اختصارة، نظير قوله تعالى «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ »(5)، أي لتسكنوا بالليل ولتبتغوا من فضله بالنهار.

الخامس: قوله تعالى «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ » الآية، الظاهر أن سؤالهم عن الوصف - أي نوع المُنفِق - فهل هو كالزكاة في أعيان خاصة - مثلا -؟.. فأصل الإنفاق معلوم حثت عليه مختلف الآيات، فهو لا يحتاج إلى السؤال عنه، ومعنى (ما) الاستفهامية هو السؤال عن حقيقة الشيء أو أوصافه، ولا يخفى أن الظاهر - بقرينة الجواب - هو عن التطوع المستحب لا عن الإنفاق الواجب کالزكاة والنفقة الواجبة للأرحام ونحوهما، ويؤيده ما روي في شأن نزول الآية أن عمرو بن الجموح کان شيخاً كبيراً ذا مال كثير، فقال : يا رسول اللَّه بماذا أتصدّق وعلى من أتصدق؟ فأنزل اللَّه هذه الآية(6).

ثم لا يخفى أن السؤال عن الإنفاق تکرر مرّتين في هذه الآيات فقال

ص: 81


1- سورة غافر، الآية: 60.
2- سورة القمر، الآية: 10.
3- سورة الأعراف، الآية: 56.
4- راجع مجمع البيان ج 2، ص109.
5- سورة القصص، الآية: 73.
6- مجمع البيان ج2، ص107.

في هذه الآية «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ » ، ثم في الآية 219 في قوله « وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ »(1)، قيل: في الآية 215 أجاب تعالی بمورد الإنفاق ومصرفه مع إشارة إلى لزوم كون المُنفَق خيراً، ثم لما لم يكن في هذه الآية تصريح بالمسؤول عنه صريحاً فقيل في الآية 219 العفو.

والظاهر أن السؤال واحد لكن أعيد مرّتين، مرّة لبيان المصرف، وأخرى لبيان المُنفَق، لأجل شدة ارتباط مسألة الإنفاق بالسياق في كلا الموردين، فحسن تفريق الجواب في موضعين مع ما يستلزمه من إعادة السؤال.

السادس: قوله تعالى قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ » الآية .

«مِنْ خَيْرٍ »بيان ل-«مَا أَنْفَقْتُمْ »، وهذا هو الجواب عن السؤال. وقد يطلق (الخير) ويراد به المال كقوله تعالى « إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ » (2)والمقصود أن يكون المنقق هو ما يرغب فيه لا من سقط المتاع، كما قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ »(3) أي لا تقصدوا إنفاق الذي تكرهه النفس، والحال أنكم غير مستعدين الأخذه لأنفسكم لرداءته إلّا إذا تساهلتهم كأنكم أغمضتم عيونكم كيلا تروه لرداءته ، وقال سبحانه «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ »(4).

ص: 82


1- سورة البقرة، الآية: 219.
2- سورة البقرة الآية: 180.
3- سورة البقرة الآية: 297.
4- سورة آل عمران، الآية: 92.

ثم إن عدم تعیین مصادیق الخير إنما هو لكثرتها وتنوعها بل ولتجدد المصاديق في الأزمنة المختلفة والأمكنة المتباعدة وكذلك لاختلاف حاجات المستحقين.

السابع : قوله تعالى«وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ » .

هذه التكملة للدلالة على أن إنفاق الخير يجب أن يكون على نحو الخير بأن لا يكون فيه مَنّ ولا أذى، قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ» (1)فكما أن عدم الإخلاص في أول العمل سبب لبطلانه ، كذلك العمل الصحيح قد يبطل بعد انتهائه بالمنِّ والأذى.

والحاصل أن الآية تضمنت:

1- المال المُنفَق ، بأن يكون خيراً يرغب فيه .

2 - المُنفق عليه ، كالوالدين والأقربين... إلخ.

3- نفس الإنفاق، بأن يكون فعلاً خيراً، وذلك بأن يكون لوجه اللَّه من غير مَنٍّ ولا أذى.

الثامن : قوله تعالى«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ » .

قد مرّ أن الكتابة في القرآن بمعنى الثبوت، فقد يكون تشريعاً بالفرض كالصلاة والصوم، كقوله و«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ »(2)، وقد يكون تشريعاً من غير فرض، كقوله «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ

ص: 83


1- سورة البقرة، الآية: 264.
2- سورة البقرة، الآية: 183.

خَيْرًا الْوَصِيَّةُ »(1)، وقد يكون تكويناً بمعنى القضاء المحتوم، كقوله«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي »(2). والحاصل أن الكتابة إما تشريعية سواء كانت فرضاً أم لا، وإما تكوينية بمعنى القضاء المحتوم، وتشخيص المورد يرتبط بالقرائن أو بالأدلة الأخرى.

وإنما كتب القتال لأجل رد التعدي كما قال : «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ »(3)، أو لأجل نجاة المستضعفين من المستكبرين، أو الأجل إعلاء كلمة اللَّه ونشر العدل ودفع الظلم، قال تعالى «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ »(4).

وقيل : لم يذكر الأمر في (كتب)، لأنَّه في مورد الكره، فلم يناسب إظهار الآمر صوناً له من الهتك، ولذا لا تنسب الأفعال التي فيها مظنة النقص إلى اللَّه - حتى إذا كانت بحكمة - كما في قوله «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا »(5) فإنَّ مادة (ع ي ب )لا يناسب نسبتها إلى اللَّه تعالى وإن كان ذلك العمل بخرق السفينة بأمر من اللَّه لما فيه من المصلحة، ولذا نسب الخضر علیه السلام إرادة العيب إلى نفسه لأنَّه كان المباشر لتنفيذ الأمر.

التاسع : قوله تعالى «وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ».

أي تكرهه النفوس بطبعها وذلك لما في الجهاد من المشقة وخوف

ص: 84


1- سورة البقرة، الآية: 180.
2- سورة المجادلة، الآية: 21.
3- سورة البقرة، الآية: 190.
4- سورة النساء، الآية: 75.
5- سورة الكهف، الآية: 79.

القتل أو الضرر البالغ، ولكن مع ذلك قد يريده الإنسان لإيمانه أو لعلمه بما فيه من المصلحة، كالمريض الذي يشرب الأدوية المرّة فإنَّ نفسه تعافها ولكنه يرغب إليها لعلمه بأن فيها العلاج.

وبعبارة أخرى، إن كراهة المؤمنين للقتال إنما هي كراهة طباع لا كراهة سخط، فهذا النوع من الكره يجتمع مع الرضا بالفعل. نعم غالب الناس - حيث لم يستحكم فيهم الإيمان - فإنَّهم قد يكرهون ما أُمروا به سخطاً، ولعلّ هذه الآية حكاية عن الغالب، وإلا فإنَّ النفس إذا روّضت فقد ينعكس الأمر عليها .

أو يقال: إن القتال بذاته مكروه للجميع - لما فيه من الضرر وإزهاق الأرواح - ولكن حينما أمر به اللَّه لمصلحة لم يكرهه أولياؤه بل يتبدل الكره فيهم إلى الرضا، وفي الحديث (الرضا بمكروه القضاء من أعلى درجات اليقين)(1).

ثم إن (کُره) إما مصدر فوصف القتال به للمبالغة، وإما بمعنی المكروه كالخُبز بمعنى المخبوز، وإما بمعنى الإكراه مجازاً، كأنَّهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له(2).

العاشر : قوله تعالى « وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ » الآية .

وقد مرّ أن الترجي مستحيل في حقه تعالى، ولذا تكون كلمات الترجي ونحوها في القرآن بلحاظ حال المخاطب، أو أنَّها تنسلخ عن معناها فتكون لأجل بيان أن متعلقها محبوب له تعالى، أو تكون عسی

ص: 85


1- البحار ج18، ص 102.
2- راجع الكشاف، ج1، ص197.

- هنا - للتبعيض بمعنى ربّما وأحياناً، وذلك لأن ما تكرهه النفوس قد يكون بصالحها وقد يكون بضررها.

والجهاد من أصعب الأمور لمشقته ولخوف الضرر فيه . ولكنه طريق العزة فإنَّه يوجب دفع شر الأعداء وسيادة الأولياء وسعادتهم، ففيه إحدى الحسنيين: إما النصر والفوز بالسيادة والغنيمة، وإما الشهادة . في

حين أن النكول عن الجهاد يوجب تسلط الأعداء والذل والهوان والفقر وحرمان الأجر بل قد يؤدي إلى زوال الدين عن المناطق التي سيطروا عليها.

ص: 86

الآيتان 217 - 218

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)»«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)»

217 - وحيث إن الآيات السابقة كانت حول الحج وفوائده والصعوبات التي تواجه المؤمنين، فلذا خُتمت الآيات بذكر أمور ترتبط بالقتال والصدّ عن الدين، وعن الحج، وهتك حرمة المسجد الحرام، ونحو ذلك «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ »جنس الشهر حيث إن الأشهر الحُرم أربعة، أو كان السؤال عن خصوص شهر رجب، والسؤال عن «قِتَالٍ فِيهِ »في الشهر الحرام؟ «قُلْ » يا رسول اللَّه «قِتَالٌ فِيهِ»في الشهر الحرام ذنب « كَبِيرٌ » في نفسه، ولكن هناك أفعال أسوأ منه منها : «وَصَدٌّ » أي منع «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»وهو دخول الناس في الإسلام، « وَكُفْرٌ بِهِ» باللَّه تعالى، «وَ» صدّ

ص: 87

عن «الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ »بمنع الحجاج والمعتمرين، أو وكفر بالمسجد الحرام بعدم احترامه، «وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ » من المسجد الحرام، فإنَّ كل واحد من هذه الأعمال «أَكْبَرُ » ذنبا «عِنْدَ اللَّهِ »من القتال في الشهر الحرام. فمن يفعل الأسوأ عمداً لا يحق له الاعتراض على من خالف خطأً، وذلك حيث إن بعض المسلمين أَغاروا على قافلة من المشركين في غرّة شهر رجب وهم يزعمون أنَّه آخر جمادى الثانية ، فقتلوا رجلاً وأسروا آخرین وغنموا القافلة ، فاعترض المشركون على انتهاك حرمة شهر رجب فيقال لهم :

«وَالْفِتْنَةُ »التي أنتم مقيمون عليها بالشرك وبالصد عن سبيل اللَّه وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه «أَكْبَرُ » جرماً «مِنَ الْقَتْلِ »الذي صدر عن مسلم في شهر رجب .

ثم إن خطأ ذلك المسلم يمكن جبره بدفع دية المقتول وإطلاق الأسرى وإرجاع الغنائم، لكن هؤلاء الكفار مستمرون في جرائمهم «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا » صرفكم عن دینکم کي ترجعوا كفارة، فعليكم أن لا تضعفُوا أمامهم، «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ »، فلم يتب، «فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ»أي فسدت وبطلت « أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا »فيحرم من منافع الإسلام، «وَفِي الْآخِرَةِ»فيحرم من الثواب، بل يجازى النكال « وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ» ملازمون لها « هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ».

218 - وأما الذين لم يرتدّوا وعملوا بالطاعات فهم يستحقون الجنة «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ

ص: 88

اللَّهِ»حتى وإن أخطأوا، « وَاللَّهُ غَفُورٌ » لذنوبهم لا يعاقبهم عليها،«رَحِيمٌ» بهم يعزّهم في الدنيا ويدخلهم الجنة في الآخرة.

بحوث

الأول: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ »

1- شأن النزول ما روي أن سرية من المسلمين أغارت على قافلة من قریش وقتلوا أحدهم وغنموا تلك القافلة وساقوها إلى المدينة، وكان ذلك في أول يوم من رجب من الأشهر الحُرُم، وعن بعض التفاسير أنَّهم لم يعلموا أن ذلك اليوم من رجب أم من جمادی الثانية .

فكتبت قريش إلى رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم: إنك استحللت الشهر الحرام وسفكت فيه الدم، وكثر القول في هذا، وجاء أصحاب رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم: فقالوا يا رسول اللَّه أیَحِلّ القتل في الشهر الحرام، فأنزل اللَّه الآية(1). ومن ذلك يظهر أن السائلين في «يَسْأَلُونَكَ » که هم المسلمون، ولكن سبب سؤالهم كان ما اعترضته قريش.

2- ثم إن السؤال والجواب في صدر الآية سؤال كلّي عن حكم القتال في الشهر الحرام، ولعلّ المسلمین احتملوا نسخه أو كان غرضهم كيفية الجواب عن اعتراض قریش، فبيّن اللَّه تعالى أن حكم الشهر الحرام بحرمة القتال فيه باقٍ، كما أن هنالك محرمات أشدّ من القتال في الشهر

ص: 89


1- راجع تفصيل الرواية في البرهان ج 2، ص199 من تفسير القمي، وكذا مجمع البيان ج 2، ص112.

الحرام كالصدِّ عن سبيل اللَّه وعن المسجد الحرام والكفر به تعالی وإبعاد أهل المسجد الحرام عنه -.

ثم بعد السؤال والجواب الكلّيِّ يأتي دور بیان المصداق - وهو ما فعلته تلك السرية - ويتمّ بيان أنَّه لا يحق لقريش أن تعترض على القتال في الشهر الحرام مع أنَّها أتت بما هو أعظم منه جرماً فقال تعالى« وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ»، فليست الآية في مقام تبرير ما فعله أولئك المسلمون كي يقال إنه لا يصح تبرير جريمة بالنقض بجريمة أكبر منها ، بل الآية في مقام ردّ اعتراض قریش.

3- واعلم أنَّه يمكن أن يكون الغرض من الآية بيان أن القتال في الشهر الحرام هو محرم بذاته، ولكن قد ترتفع حرمته لأمر أهمّ، فلو اضطر المسلمون للقتال في الشهر الحرام دفاعاً عن الدين وعن المسلمين فإنَّه ترتفع حرمة القتال فيكون معنى « وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ»هو بيان ذلك، حيث إن أفعال المشركين هي فتنة في الدين وذلك أسوأ من مقاتلتهم وقتلهم.

أو يقال إن ما فعلته قريش ذنوب متعمدة، في حين أن ما فعلته السرية كان خطأً، حيث لم يثبت عندهم أنَّه رجب فمقتضى إكمال العدة والاستصحاب هو كون ذلك اليوم من جمادی الثانية فما ارتكبوه كانوا معذورين فيه.

4-ثم إن تقديم «الشَّهْرِ الْحَرَامِ » على «قِتَالٌ فِيهِ »مع أن سؤالهم هو عن القتال فيه، لأجل أن المحور هو «الشَّهْرِ الْحَرَامِ » وحرمة القتال تابع لحرمة الشهر، فتأمل.

5- ثم إن التعبير ب-«الشَّهْرِ الْحَرَامِ » مع أن الأشهر الحرم هي أربعة

ص: 90

لأجل أن المراد نوع الشهر لا خصوص شهر واحد، أو أن مورد السؤال كان عن خصوص شهر رجب لخصوصية تلك الواقعة .

الثاني : قوله تعالى «وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ »

1- إما عطف على «سَبِيلِ اللَّهِ »فالمعني وصدّ عن المسجد الحرام ولا إشكال في توسط المعطوف عليه أي «سَبِيلِ اللَّهِ »بين عاطف ومعطوف آخر - أي (صدّ) و(كفر به) -، وذلك لأن الغرض هو البدء بالأهم فالأهم، فأكبر ذنوبهم صدهم عن سبيل اللَّه حيث إنهم صاروا أئمة الكفر، ثم كفرهم نفسه، ثم صدهم عن المسجد الحرام، ثم طرد أهله.

2- وأما عطف على الضمير في «وَكُفْرٌ بِهِ وَ»، أي وكفر بالمسجد الحرام، ولعلّ معنى الكفر به هو عدم احترامه وعدم أداء الشكر العملي بکفران نعمته، بجعله محلاًّ للأصنام وابتداع البدع فيه، ولا إشكال في عطف الظاهر على الضمير من غير تكرار حرف الجر، فإنَّه وإن لم يجزه غالب النحاة، لكنه ورد في الكلام الفصيح، فقد كثر في أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام قوله (صلى اللَّه عليه وآله) من غیر تکرار (على).

وقيل «الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ » عطف على «الشَّهْرِ الْحَرَامِ » لكن السياق لا يناسب هذا العطف.

الثالث : قوله تعالى «وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ »

فإنَّ تحريف العقائد أسوأ من الأضرار البدنية، كما أن حفظ المبادىء أهم من تلك الأضرار، ولذلك يضحي الناس من أجل مبادئهم ولو أدى ذلك إلى قتلهم، وذلك لأن المبادىء هي التي تنظم حياة الإنسان وتسوقه إلى الكمال وتخرجه عن دائرة الحيوانية، فلذا كان قتال

ص: 91

المؤمنين إنما هو في سبيل اللَّه تعالى لأنَّه غاية الغاية، وأما غيرهم فقد يقاتلون لأجل مبادیء يرشد إليها العقل، كصون العرض وردّ المعتدي، وقد يقاتلون لأهداف باطلة زعماً منهم أنَّها غایات سامية أو لتوهمهم أنَّها مصلحة لهم.

وعلى كل حال فإنَّ القتل يفسد دنيا المقتول، وأما الفتنة فإنَّها تورث خسارة الدنيا والآخرة.

الرابع : قوله تعالى «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ ...»الآية .

هذا دليل آخر على جواز قتالهم في الشهر الحرام، وهو أن الكفار لا يراعون حرمته، فإذا وجدوا من المسلمين غِرّة أغاروا عليهم من غير مراعاة لحرمته، كما قال تعالى «الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ »(1)، وذلك لأن أولئك الكفار لا مباديء لهم بل تحركهم مصالحهم ولذا فلا يراعون حرمة، قال سبحانه «لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً »(2)

فالمعنى أن هؤلاء مستمرون في مقاتلة المؤمنين على كل حال، وقوله «إِنِ اسْتَطَاعُوا » قيد لقوله «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ »فالمعنى أنَّهم مستمرون في قتالكم في كل وقت إن تمكنوا من ذلك القتال، لأنَّهم أعداء الدينكم فلا يألون جهداً في تخريب هذا الدين وصرف الناس جميعاً عنه وهذا هدفهم الأساس، ولا يمنعهم عنه مانع لا من حرمة ولا مبدأ ، سوی عدم قدرتهم، فإنَّ لم يتعرضوا عليكم أحياناً فليس لحفظهم العهود والمبادىء بل لعجزهم.

ص: 92


1- سورة البقرة، الآية: 194.
2- سورة التوبة، الآية: 10.

ثم إن اللَّه تعالى يحذّر المسلمين من الضعف والانهيار أمام أولئك الكفار، فقد تدور الدوائر «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ »(1)، كما حدث في غزوة أُحُد، وفي حال الهزيمة قد يرغب البعض في النجاة، إما بالفرار وإما بالرضوخ إلى الكفّار كما أراد بعض المهزومين من المسلمين في أُحُد أخذ الأمان من الكفار والارتداد عن الدين فالآية في صدد بيان حالة عامة، وهو أنَّه في حال الهزيمة قد يرجح الناس العافية ولو على حساب الدين، فيبيّن اللَّه سبحانه أن هذه عافية كاذبة فيها ضرر الدنيا والآخرة.

وهذا ما ابتلي به بعض المسلمين في العصر الحاضر، حيث إن هزيمتهم العسكرية والسياسية أمام المستعمرين، بل وتأخرهم اقتصاديّاً وصناعيّاً وعلميّاً عنهم، أدّى بهم إلى هزيمة نفسية ودينية، وخاصة أن المستکبرین استعملوا أدوات الغزو الفكري والثقافي، باستعمال القوة الناعمة أحياناً والخشنة أحياناً أخرى.

مع ما ابتلي به المسلمون من حكم مستبدين يعيشون في الأرض فساداً ويمنعون أَية نهضة أو تقدم ثم هل المنهزمون نفسيّاً التابعون لركب الحضارة الغربية وصلوا إلى مبتغاهم من التطور والتقدم؟ كلّا بل كانوا هم زيادة في المشكلة وإيغال في التأخر، وهذا ما أوعده اللَّه تعالى بقولهَ« أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ » .

ص: 93


1- سورة آل عمران، الآية: 140.

بحث حول الحبط

الخامس: قوله تعالى« حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ».

(الحبط) هو البطلان، والمعنى أن المرتد أعماله باطلة فليس لها الآثار الدنيوية الحسنة ، ولا يُجازي عليها بالجنة ، قال تعالى «وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)»(1).

1. ثم اعلم أن الثواب تفضل من اللَّه تعالى وليس باستحقاق من أحد، فإنَّ اللَّه سبحانه أنعم على الإنسان بأن خلقه، ثم غمره بالنعم « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا »(2)، وجميع طاعات الإنسان وعباداته لا تفي بمكافأة نعمة من هذه النعم، بل إنّ أمر اللَّه تعالى الناس بالعبادة وتعليمهم طريقتها هي نعمة أُخرى تضاف إلى تلك النعم ونفعها عائد للإنسان نفسه ، فلا معنى للقول بأن الإنسان بعبادته وطاعته يستحق شیئاً على اللَّه تعالی.

نعم إنه تعالى من رحمته وحكمته أكرم الإنسان بنعمة كبرى أخرى وهي أنَّه وعده بالثواب إن أطاع، وذلك الثواب تفضُّل منه تعالی.

وبمراجعة الآيات يتضح أن الوعد إنما هو لمن آمن وعمل صالحاً ومات على ذلك، وأما من ارتدَّ فإنَّ أعماله الصالحة السابقة لا وعد بمنح الثواب عليها .

فتبيّن أن حبط عمل المرتد ليس بمعنى أنَّه كان يستحق ثواباً عليها فأبطلها بكفره، بل لم يكن لعمله ثواب أصلاً من البداية لعدم وعده بالثواب بل إخباره بعدم الثواب.

ص: 94


1- سورة الفرقان، الآية: 23.
2- سورة إبراهيم، الآية: 34.

ولذا استعملت كلمة (الحبط) في القرآن في أعمال الكفار مع وضوح عدم الثواب عليها، قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)»«أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ » (1). «أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ »(2)

2-ويمكن أن يقال إن بعض الأعمال بذاتها لها القابلية لأن تكون صحيحة وأن ينال الإنسان بها رضاه سبحانه، لكن بشرط أن لا تبتلی بالمبطلات العملية أو القصدية ، وهذه الأعمال لم يَعِد اللَّه سبحانه وتعالى الثواب عليها إلّا إذا جاء بها الإنسان على الوجه الصحيح، فهو سبحانه الرحمته ورأفته بعباده جعل لتلك الأعمال القابلية لكن الإنسان بسوء اختياره أبطلها، قال سبحانه «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ »(3).

3- ثم إن اللَّه سبحانه وعد الثواب على العمل الذي يؤتى بوجهه الصحيح بقصد التقرب إليه ، فإذا كان الداعي غير ذلك فلا يستحق الفاعل ثواباً أصلاً.

فإنَّ الدواعي للأعمال الحسنة إما شهوات النفس كالرياء وحب السمعة ونحوها فهذا عمله مذموم لسوء نيته، وإما دواعي عقلية بلا ارتباط لها باللَّه تعالی كمن يترك بعض القبائح حفظاً لمنزلته الاجتماعية، وهذا عمله محمود لاتباعه الداعي العقلي، لكن حيث لم يأت بالعمل لوجه اللَّه فلا وعد بثوابه .

ص: 95


1- سورة آل عمران، الآيتان: 21 - 22.
2- سورة الكهف، الآية: 105.
3- سورة إبراهيم، الآية: 28.

4 - ومن ذلك يتضح أن الملحد الذي يساعد الفقراء ويصل الأرحام ويفعل بعض أعمال البرِّ، لا ترتبط أعماله باللَّه سبحانه وتعالى لينال ثوابه، وهكذا بعض الكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم أو خدماتهم، فهؤلاء عملهم محبط في الدنيا والآخرة، نعم قد تحصل لهم السمعة الطيبة والذكر الحسن وهذا ثوابهم في الدنيا كما قال تعالى «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)»«أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »(1)، فليس للعمل التأثير المرجوّ منه لا في الدنيا ولا في الآخرة، حيث إنّ هناك آثاراً وضعية للأعمال ترتبط بالإيمان فلا تترتب على العمل الذي لم يؤت به بقصد وجه اللَّه تعالی.

5- وأما المؤمن الذي يعمل عملاً صالحاً ثم يأتي بعده بالمعاصي، فإنَّ تلك الأعمال الحسنة لا تحبط، فللأعمال الصالحة آثارها وللمعاصي آثارها من غير أن يحصل حبط لأيٍّ منهما، نعم لو تاب وأصلح فإنَّه قد يكفّر اللَّه عن سيئاته بل قد يبدّل سيئاته حسنات، كما قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ »(2)، وقال « إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ »(3)، وقال سبحانه «إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا »(4).

السادس: قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...»الآية .

ص: 96


1- سورة هود، الآيتان: 10 - 19.
2- سورة التحريم، الآية: 8.
3- سورة هود، الآية: 114.
4- سورة الفرقان، الآية: 70.

هذه الآية تكملة لموضوع الآية السابقة، وتسلية للمؤمنين بأنَّهم إن أخطأوا في انتهاك حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه فإنَّ أعمالهم السابقة تبقى على حُسنها وعلى ثوابها، وورد في شأن نزولها أن السرية التي أغارت في رجب زاعمة أنَّه آخر جمادى الثانية، ظن قوم أنَّهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر، فأنزل اللَّه الآية فيهم بالوعد(1).

فحاصل معنى الآية أن المؤمنين العاملين بالصالحات لا تحبط أعمالهم حتى وإن ارتكبوا الذنوب، بل أولئك يطمعون في غفرانها .

وأما تخصيص الهجرة والجهاد بالذكر: فلأجل خصوصية القصة مع كون الحكم عامّاً - فإنَّ خصوصية المورد لا تخصص الوارد -، أو لأجل أنّ الهجرة والجهاد في سبيله تعالى من أصعب الطاعات، أو لارتباطها بالقتال المذكور في الآية السابقة.

السابع : قوله تعالى «أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ».

الرجاء هو الظن بوقوع الخير مع عدم العلم به، ولذا كان الأمل بالخير رجاءً، ولا يكون الرجاء إلّا عن سبب يدعو إليه، فحب ما يعلم عدم تحققه يكون تمنِّياً لا رجاءً .

فالإنسان المؤمن العامل بالصالحات قد هيّأ وسأل المغفرة، فلذا كان راجياً، أما غير العامل فلا رجاء له بل قد يكون له تَمَنٍّ باطل، قال سبحانه: «لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ »(2)، كما أن المؤمن الصالح لا يعلم ببقائه إلى النهاية على إيمانه

ص: 97


1- مجمع البيان: ج2، ص119.
2- سورة النساء، الآية: 123.

وصلاح عمله، فلا ضمانة له من الارتداد أو اختيار السيئات على الحسنات في مستقبل أمره، لذا يكون بين الخوف والرجاء.

فتحصَّل : أن الرجاء لا يكون إلّا مع صحة المعتقد والعمل، وهذا الرجاء يكون محفزاً للحذر وللاستمرار في تهذيب النفس، ولذا قيل: بأن الرجاء من مقدمات الإرادة وأنَّه يتعلّق بما هو متوقع الحصول بعد تمهید جميع أسبابه الاختيارية، فإنَّ اليائس لا يحرّك ساكناً، ولذا كان القنوط من رحمته تعالى من أكبر الكبائر لأنَّها داعية إلى ترك الحسنات والاشتغال بالسيئات، قال تعالى « إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ »(1).

ثم إن من مصادیق رجاء رحمته هو توقع غفران الذنوب التي ارتكبوها أو عدم المؤاخذة فيما أخطؤوا، وبذلك تنطبق الآية على ما رووه من شأن نزولها كما سبق.

ص: 98


1- سورة يوسف، الآية: 87.

فصل في جملة من الأحوال الشخصية

اشارة

ص: 99

ص: 100

فصل في جملة من الأحوال الشخصية

هذا القسم من سورة البقرة (الآيات 219 - 260) تتضمن مجموعة من الأحكام الشرعية التي ترتبط بالحياة العامة وعلاقة الناس بعضهم بالبعض، وذلك يرتبط بالإطار العام للسورة، حيث بدأت السورة بتقسيم الناس إلى أصناف ثلاثة - مؤمن وكافر ومنافق - ثم حثَّت الناس على اتباع الصنف الأول، مصحوبة ببعض الأمثلة، ثم اختيار نموذج بني إسرائيل وبيان نقاط قوتهم وضعفهم وبيان نتائج أعمالهم، لتأخذ الفكرة حيّز التأثير بإقناع الناس بمؤداها عبر ذكر نموذج حيّ ، وبعد ذلك الانتقال إلى مقومات الأمة الإسلامية، من قيادة صالحة متمثلة في النبي صلى اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام ، ثم العقيدة السليمة والقبلة والواجبات والمحرمات، وبعد ذكر جملة من العبادات كالصوم والحج والجهاد ينتقل الكلام إلى مجموعة من الأحكام الاجتماعية .

فتبدأ الآيات بالتحذير عما يوجب خَلَلًا في النظام الاجتماعي ويورث الضغائن والعداوات من الخمر والقمار وسوء معاشرة الأيتام، ثم بعد ذلك تذكر جملة من الأحكام المرتبطة بالحالة

ص: 101

الزوجية من النكاح والطلاق والعدَّة وبعض الأمور المرتبطة بالأسرة، ثم يختتم هذا القسم (الآيات 243 - 260) ببيان أن استقرار المجتمع بحاجة إلى تضحية بالمال والنفس مع ذكر قصة طالوت، ثم التذكير باللَّه سبحانه وتعالى وقدرته، كدأب القرآن الكريم في ربط كل شيء باللَّه جلّ جلاله، هذا إجمال ما في هذه الآيات المباركات، وأما التفصيل فهو كالتالي :

ص: 102

الآيتان 219 - 220

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)»«فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)»

219 – 220 -«يَسْأَلُونَكَ عَنِ » حكم «الْخَمْرِ» وهو كلُّ شراب مسكر« وَالْمَيْسِرِ » كلِّ أنواع القمار، «قُلْ» في جوابهم: « فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ»فهما مفتاح كل شرّ ويؤديان إلى ارتكاب سائر المحرمات وترك الواجبات، « وَ» فيهما «مَنَافِعُ لِلنَّاسِ » اقتصادية بالتجارة، وشهوية باللذة والطرب واللهو، وحيث إن هذه المنافع لا تقارن بالمضارّ فقال تعالى :«وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا »لما يوجبانه الفساد في العقل والجسم والمال، إضافة إلى عذاب الآخرة، وكل ما كان إثمه أكبر من نفعه لم يكن فيه خير أصلاً، لأن كل الشرور والمفاسد لها نفع لفاعلها، كالسرقة التي ينتفع بها السارق، وكالقتل الذي قد يكون فيه منافع للقاتل، فلذا على العاقل أن لا ينفق أمواله على الخمر والميسر بل عليه أن ينفقها فيما فيه الخير «وَ»لذا

ص: 103

حين «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ » في جوابهم : أنفقوا«الْعَفْوَ » بلا إسراف ولا تقتير بما لا يكون مضراً - لا كالخمر والميسر حيث إن الإنفاق فيهما مضرّ-

وكما بیّن اللَّه لكم هذه الأحكام«كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ »الحجج في الأحكام «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ » فتؤثرون ما ينفعكم فيهما ولا تقدمون على ما فيه الإثم الكبير.

«وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى»عن كيفية معاشرتهم وكيفية التصرف في أموالهم؟ « قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ » في جميع شؤونهم من مراعاتهم وحسن تربيتهم وحفظ أموالهم، وهذا الإصلاح «خَيْرٌ »من مجانبتهم فإنَّ في ذلك ضياعهم وتلف أموالهم، «وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ» تعاشروهم « فَإِخْوَانُكُمْ » فتعاملوا معهم كما تتعاملون مع إخوانكم، ثم عليكم أن تكون المخالطة بغرض الإصلاح «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ »فلا تخفى عليه نيّاتكم ولا أعمالكم،«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ » أي لأمركم بما فيه مشقة عليكم تجاه الأيتام كأن يأمركم بالدِّقة الكثيرة في أموالهم واعتزالها في كل شيء لكنه سبحانه أمركم بمرعاة أموالهم بالمعروف وأن تتعاملوا معهم كما تتعاملون مع إخوتكم لا أكثر، «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ »قادر على كل حكم وقادر على الانتقام من المفسد «حَكِيمٌ » لذا كان حكمه بما فيه المصلحة من غير إيقاعكم في المشقة .

ص: 104

بحوث

الأول: في الآيتين مزج أربعة أسئلة : 1 - الخمر والميسر . 2 - الإنفاق . 3 - اليتامى، قيل : السبب هو أن هذه الأسئلة سُئلت في وقت واحد، وفيه تأمل مضافاً إلى عدم وجود دليل على هذا الادِّعاء .

فلعلّ السبب أن هذه الأمور هي من أهم مداخل الشيطان للإفساد:

1 - فالخمر مُزيلة للعقل، ومن المعلوم أن شرف الإنسان وامتيازه عن الحيوان بالعقل فقط، وإلا فالتركيبة الجسدية متقاربة، والعقل هو الذي يسوق الإنسان إلى الخير وإلى النظام الاجتماعي السليم، فكان من براعة الاستهلال تصدير بحث النظام الاجتماعي بالعقل وذلك بالنهي عمّا يزيله .

2 - وأما الميسر فهو يوجب الخمول، وأكل المال بالباطل عبر تحصيل الربح من غير كدّ ولا استحقاق، كما فيه زوال ثروة الخاسر وابتلائه بالمشاكل الاقتصادية والأسرية من غير استحقاق أيضاً وإنما اعتباطاً، والدين القويم يمنع من العبث وخاصة في الأموال وما يرتبط بها من الحياة الاجتماعية، قال تعالى «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى »(1) ، وقال

سبحانه «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ »(2).

3 - وأما الإنفاق فإنَّ قوام المجتمع على الصرف الصحيح للأموال بلا إسراف ولا إقتار، فعدم الإنفاق يوجب انهيار قسم كبير من المجتمع ، كما أن الإسراف يوجب هدر الثروات وفي المآل يؤدي إلى الفقر وما يستتبعه من مشاكل .

ص: 105


1- سورة النجم، الآية: 39.
2- سورة البقرة، الآية: 188.

4 - وأما الأيتام فلضعفهم وعدم وجود أب يرعاهم، فإنَّهم عرضة لسوء التربية، وكذلك أموالهم التي ورثوها عرضة للتلف والسرقة، ومن المعلوم أن عدم رعايتهم سبب لسوء تربيتهم ووقوعهم فريسة أصحاب الأهواء فيكون سبباً لنمو جيل من المجرمين لولا رعايتهم وفي ذلك أكبر الضرر على الاجتماع .

فتحصل أن المجتمع السليم يتوقف على منع كل ما يفسد العقل كالخمر أو يفسد الأموال كالقمار، كما يتوقف على حُسن الإنفاق، وكذلك على رعاية وتربية من لا راعيَ له كالأيتام .

الثاني : قوله تعالى يسئلونك عن الخمري إذا كان السؤال عن الأعيان، فإنَّ المراد هو السؤال على الفعل المقصود من ذلك العين، وهكذا لو تعلّق الحكم بالأعيان من غير سؤال فالخمر يقصد منها شربها، والميسر يقصد منه لعبه، وهكذا في قوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ...»(1) الآية، أي نكاحها، وقوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ...»(2) أي أكلها أو شربها .

ثم لا يخفى أن الخمر كانت محرمة في كل الشرائع، من آدم علیه السلام إلى الإسلام، ولم يكن هناك تحليل للخمر، لأنَّها أم الخبائث مع عدم الحاجة إليها، فيدل على حرمتها العقل قبل الشرع، وأما التدرّج في الآيات، فلم يكن إلّا تدرجاً في إبلاغ الحكم، وأما قبل نزول تلك الآيات فكان سكوت عن حكم الخمر لا تحليل الخمر- كما زعمه بعض -

ص: 106


1- سورة النساء، الآية: 23.
2- سورة المائدة، الآية: 3.

فآيات التحريم لم تنسخ الحِلِّية، بل تلك الآيات بيّنت للناس التشريع ، وقبل ذلك لم يكونوا مؤاخذين على شربها لا أن الشرب كان حلالاً، بمعنى أن الشارع لم يصدر حكماً بتحليلها .

وهذا نظير الاعتقادات ، قال تعالى «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا »(1)، فليس معنى الآية أن الشرك كان جائزاً وأن اللَّه شرّعه لأولئك، بل قبل إرسال الرسل لم يكن الناس مؤاخذين ومعاقبين على تركهم الشريعة .

ولذا فأصل البراءة ليس تشريع حكم بل هو تعذير، بمعنى كونهم معذورين على ذلك، وبعبارة أخرى إن فعلية الحكم وتنجّزه توقف على نزول آيات التحريم، وأما في مرحلة الاقتضاء والإنشاء فكان الخمر محرّماً، فاتضح أن التدريج إنما هو في الإبلاغ لهم .

ويستفاد من مجموعة من الروايات أن اللَّه سبحانه أنزل عدة آيات وبالتدريج لينبّه الناس على ضرر الخمر وخبثها وتحريمها .

1 - فنزلت في مكة قوله تعالى «وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا »(2)، وفي ذلك تلميح بأن الخمر ليس من الرزق الحسن، للمقابلة .

2 - قوله تعالى«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى »(3)، وفيها بيان خبثها بحيث يجب تنزيه الصلاة والمسجد عنها، وحيث إن الصلاة في الأوقات الخمسة وهي متقاربة - مع وجوب مراعاتها ومراعاة وقتها .

ص: 107


1- سورة الإسراء، الآية: 15.
2- سورة النحل، الآية: 67.
3- سورة النساء، الآية: 43.

اقتضى ذلك الاجتناب عن شرب الخمر في الأوقات جميعاً لكيلا يكون سكران حين إقامتها .

3 - هذه الآية « فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ »، وفيها تصريح بالتحريم في الأوقات أجمع، لوضوح لزوم اجتناب الإثم، وقد نزلت آيات سابقة على هذه الآية في تحريم الإثم، قال تعالى «وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ »(1). وقال سبحانه «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ »(2)

4 - قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)»«إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ »(3). ولا يخفى أن التقريع الشديد في هذه الآية لأجل أن الآيات السابقة بينت التحريم بوضوح ولكن جملة من الناس استمروا في شربها، ولذا استدعى تقريعهم بهذه الشدة وكذلك منعاً لمن تسول له نفسه في المستقبل لتأويل الآيات كما تشتهيه نفسه .

وأما حكمة التدريج فقد روي : أن اللَّه عزَّوجلَّ إذا أراد أن يفترض فريضة أنزلها شيئاً بعد شيء حتى يوطن الناس أنفسهم عليها ويسكنوا إلى أمر اللَّه عزَّوجلَّ ونهيه فيها، وكان ذلك من فعل اللَّه عزَّوجلَّ على وجه التدبير فيهم أصوب وأقرب لهم إلى الأخف بها وأقل لنفارهم عنها(4).

ص: 108


1- سورة الأنعام، الآية: 120.
2- سورة الأعراف، الآية: 33.
3- سورة المائدة، الآيتان: 90 - 91.
4- البرهان: ج2، ص170 عن الكافي.

ثم لا يخفى أن التدريج إنما كان في بداية الأمر حيث إن اللَّه سبحانه أراد إكمال الدين وإتمام النعمة بهذا الدين الحنيف، فبدأ بأصل هو التوحيد، وختم بأصل هو الإمامة، وبينهما شرَّع الأحكام وكل ما يرتبط بسعادة الإنسان، وبعد إكمال الدين واستقرار أركانه فلا معنى للتدرج في الأحكام، بل يلزم الالتزام بكل أحكام الشرع جملة واحدة في كل الأمور، فلا معنى للقول بأنَّه لو قامت الحكومة الإسلامية فإنَّ عليها تطبيق أحكام الإسلام تدريجياً لكي لا تحدث اضطرابات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بل اللازم تطبيق كل أحكام الشرع منذ البداية، نعم يلزم التمهيد لذلك، بمعنى بمعنى أن الذين يريدون تطبيق الشرع ويعارضون الظَّلَمة والحكومات الاستعمارية عليهم أن يهيّئوا نظاماً متكاملاً متطابقاً مع الشرع في كل الأمور عبر الاستفادة من الخبراء في الشرع وسائر الخبراء في الأمور الإدارية والقانونية والاقتصادية وغيرها ، حتى إذا ما وصلوا إلى الحكم يطبقون ذلك النظام، لا أن يشتغلوا بالمعارضة فقط حتى إذا وصلوا إلى الحكم تحيّروا في كيفية تطبيق أحكام الإسلام ثم يرجعون إلى الأحكام السابقة مع إلباسها لباس الدين ظاهراً، أو التمسك بالأدلة الواهية كالقياس والمصالح المرسلة ونحو ذلك، فتنتج حركتهم تبديل ظالم بآخر، وهذا ما ابتلي به الكثير من الحركات الإسلامية، حيث إنهم حينما وصلوا إلى الحكم أبقوا على الأحكام الجائرة .

نعم قد يكون هناك عناوين ثانوية ولحالات اضطرارية، - كما لو تترس الكفار بالمسلمين -، لكن ذلك في الحالات الاستثنائية وضمن الضوابط الشرعية في الأحكام الثانوية، لا أن تجعل هذه الاستثناءات الأصل كما يحدث كثيراً، و اللَّه المستعان .

ص: 109

الثالث : قوله تعالى « وَالْمَيْسِرُ» .

هوكل أنواع القمار، وهو مصدر ميمي من اليُسر لأن فيه أخذ مال الغير ميسراً - أي بسهولة ومن غير كدٍّ وتعبٍ ومعاوضة -، أو هو سلب يساره - أي ثروته - وإفقاره، ومن الواضح أن القمار فيه أكل مال الغير بالباطل، وابتناؤه على الصدفة أو الخداع، وفي ذلك فساد للأموال، وابتلاء الخاسر بمشاكل جمَّة قد تؤدي به إلى انهيار أسرته ودخوله السجن إن عجز عن تسديد ما ضمنه، بل قد يؤدي إلى جرائم من القتل والسرقة ونحوها .

في حين أن امتلاك المال يلزم أن يبتني على الحق بسعي الإنسان فيه، قال تعالى «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى »(1)، أو بهبة وصلة مما يزيد من أواصر المجتمع مع مراعاة الحكمة فيه، ولذا يحجر على السفيه حيث إن تصرفاته ليست بحكمة وفيها فساد للأموال، وهكذا كل من لا يتمكن من التمييز ومراعاة المصلحة كالصبي إلى أن يبلغ سن الرشد.

وفي العصر الحاضر حيث زاد الجشع في الأموال وبصورة منظّمة، فإنَّ بعض أصحاب رؤوس الأموال أو الشركات الكبرى تُرَغِّب الناس في القمار، لأنَّها تأخذ نسبة كبيرة من الأرباح وإنما الخاسر أحد المتقامرين ، ولذا يوفرون مختلف الخدمات وبأرخص الأثمان لجذب الناس إلى محلات القمار، ليأكلوا أموال الناس بالباطل .

وحيث إن القمار وضع لذلك فإنَّ الشرع حرّمه حتى لو لم يكن فيه اشتراط مال بل كان لمجرد التسلية، فكل آلة صارت آلة قمار حرم اللعب بها .

ص: 110


1- سورة النجم، الآية: 39.

لأن الشارع أوجد سُوراً حول المحرمات لكي لا يقع الإنسان فيها ، وكلّما اقترب الإنسان إلى ما يؤدي إلى الحرام أوشك أن يغريه الشيطان بالحرام، وفي الحديث الشريف : (من رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه)(1)، وكلما كان الحرام أكبر كان السور حوله أشد، ولذا يحرم الجلوس على مائدة فيها خمر حتى وإن لم يشرب هو، كما لعن رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم في الخمر عشرة غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها(2)(2). وأيضاً جعلت عقوبة شديدة بالجلد ثمانين جلدة، وجملة من الأحكام الأخرى مذكورة في الفقه .

وهكذا القمار حرم حتى وإن لم يكن فيه اشتراط مال، ومن أقسام القمار المراهنات التي توضع لها أموال جمة، وخاصة من الشركات التي تكون مستفيدة على كل حال لحصولها على نسبة كبيرة من الأموال .

وقد جمع مضارَّ الخمر والميسر قولُه تعالى «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » (3)و«البغضاء» في القلب، و«العداوة» إظهار تلك البغضاء باللسان و الوجه أو الجوارح .

فالسكران تصدر منه أفعال تجاه الآخرين من حيث لا يعقل توجب العداوة، مضافاً إلى عدم شعوره في حال السكر فينسى اللَّه تعالى ويغفل عن العبادات وأهمها الصلاة التي هي عمود الدين .

ص: 111


1- الوسائل ج18، ص122.
2- الكافي ج6 ص429.
3- سورة المائدة، الآية: 91.

وكذا القمار يوجب عداوة المغلوب للغالب حيث يرى أمواله بيده ، وهكذا عداوات داخل الأسرة والمجتمع نتيجة الخسارة، كما أنَّه لهو باطل من غير فائدة، وهذا اللهو يسبب انغماس اللاعب فيه فيغفل عن كل شیء.

الثالث : قوله تعالى « وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ» .

الظاهر أن هذا المقطع أريد به دفع شبهة، حيث يستند من يُبيح الخمر والقمار إلى أن فيهما منفعة فلماذا يمنع عنهما!؟، وهذا ما يستند إليه أهل الباطل إلى يومنا هذا، وخاصة يستندون إلى النمو الاقتصادي وجلب السيّاح، عبر إنتاج الخمر وتصديرها وتوفرها في المطاعم والفنادق وكذلك توفر مقاهي القمار، ونحو ذلك من الحجج الواهية، وقد يكابرون ويستندون إلى بعض التقارير الطبية المشبوهة في وجود بعض المنافع الصحية لهما . فيقال في جواب هذه الشبهة أن كل محظور فيه بعض المنافع، أليس في الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال ونهب وسرقة الثروات منفعة اقتصادية؟ أليس فيها اللذة والراحة مثلاً؟ بلى ولكن العاقل لا ينظر إلى منافع الشيء بعيداً عن مضاره، بل يقارن بينهما ويرجح الراجح، فأكل الطعام المسموم أيضاً فيه لذة وقتية ولكن حيث إنه ينتهي إلى المرض الشديد أو الموت فلا خير فيه أصلاً .

فتحصل أنا الخمروالميسر لا خير فيهما إطلاقاً لأن ضررهما أشد من نفعهما - الاقتصادي أو الشَّهَوِيّ -.

الرابع : قوله تعالى« وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ».

مرّ في الآية 215 هذا السؤال نفسه، ولعلّ إعادة السؤال لاختلاف

ص: 112

الغرض، فكان الغرض هناك بيان الصعوبات التي تكتنف أهل الحق، وأن الجنة لا تنال إلّا بتحمل المشاق والتكاليف الصعبة كتحمل البأساء والضراء والإنفاق والقتال، ويكون الغرض هنا بیان جملة من الأحكام الاجتماعية، والإنفاق يدخل في صميم العلاقات الاجتماعية، وقد مرّ في المجلد الأول بيان عدم وجود التكرار في القرآن وإن كان تشابه ظاهري، وذلك لاختلاف الغرض، هذا مضافاً إلى النظر إلى ما أعيد من زوايا مختلفة، ولذلك في الآية 215 بين المصرف وفي الآية 219 تم بیان الشيء المُنفَق.

وأما (العفو) فهو الوسط بين الإسراف والإقتار كما قال تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا »(1)، وقال سبحانه«وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا »(2).

وأصل (العفو) بمعنى الترك(3)، وما لا يحتاج إليه الإنسان في ضروریاته كأنَّه تركه، ويرجع إلى هذا المعنى ما في بعض الروايات أو کلام المفسرين من أنَّه : الوسط، أو الكفاف، أو القصد، أو ما فضل عن قوت السنة(4)، أو الزيادة، أو ما تيسّر أو ما سهل إنفاقه، فإنَّ كل هذه المذكورات عبارة أخرى عن معنى العفو أو ذکر مصادیق له.

الخامس : قوله تعالى : «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ». أي تتفکرون حول الدنيا والآخرة، والمراد لعلّكم تستعملون عقولكم

ص: 113


1- سورة الفرقان، الآية: 17.
2- سورة الإسراء، الآية: 29.
3- مقاييس اللغة: ص 142.
4- راجع تفسير البرهان ج 2، ص 171 - 172.

في أمرهما، فإنَّ هذه الأحكام المذكورة يدل عليها العقل أيضاً، أو أن العقل بعد تنبيهه عليها يكتشف صحتها وأنَّها مطابقة للمصلحة .

فإنَّ ما يراه العقل على صنفين : فهناك أحكام يستقل العقل بإدراكها كقبح الظلم وحسن العدل، وهناك أحكام لا يدركها العقل إلّا إذا تمّ تنبيهه، ولذا يزداد العقل بازدياد العلم عادة ، وقد ذكرنا في شرح أصول الكافي تفصيل ذلك، وفي نهج البلاغة في علة بعث الأنبياء (وليثيروا لهم دفائن العقول)(1).

مضافاً إلى أن هناك مصاديق جزئية لكليات يدركها العقل، مثلاً أصل وجوب العبادة أمر يدركه العقل ولكن كيفية تلك العبادة تحتاج إلى بيان من الشرع .

والحاصل أن الإنسان إذا استعمل عقله وفكّر في الحجج التي أشار إليها اللَّه تعالى، فإنَّه يصدّق بعقله كل تلك الأحكام ويلتزم بها، ولذا أشار القرآن الكريم إلى علل الأحكام - ولو بإشارة إجمالية - لكي يكون التزام الناس بها عن قناعة، لأن ما اقتنع به الإنسان يقوم به حتى وإن كانت دونه الصعاب، بل لا يتركه على كل حال، وقد أشرنا إلى طرف من هذا البحث سابقاً .

وفي هذه الآية إشارة إلى علة تحريم الخمر، وكذلك إلى سبب الإنفاق وهو العفو، لأنَّه ليس من المناسب إبقاء المال جامداً غير مستثمر في الحاجات، بل على الإنسان أن يصرف على نفسه من غير إسراف ولا إقتار، وينفق على المحتاجين بعضاً من ذلك المال تلبية لحاجاتهم،

ص: 114


1- نهج البلاغة: الخطبة: 1.

ويُبقي قسماً من المال للاتجار به أو للحاجات المستقبليَّة، فقوله (العفو) مضافاً إلى كونه جواباً للسؤال يتضمن بيان علة الحكم، فتأمل . وأما قوله: «فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ »فلأنَّه يلزم أن لا يحصر الإنسان فكره في الماديات فقط، بل يلزم أن يجمع بين التفكر في الدنيا والآخرة فيؤثر ما فيه الصلاح لهما جميعاً، وأحكام الشرع كذلك الالتزام بها سبب السعادة في الدنيا والآخرة، ولذا يدعو المؤمنون «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ »(1)، وأما ترك تلك الأحكام فإنَّه يوجب الشقاء فيهما، قال سبحانه «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)»«قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)»«قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)»(2). وقال سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا »(3).

السادس: قوله تعالى «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ...»- الآية .

أي عن كيفية التعامل معهم ومع أموالهم، فهل نخالطهم أو نجانبهم خوفاً من التلوث بأموالهم .

والأيتام يمثلون شريحة واسعة من المجتمع وخاصة في الأوقات التي تكثر فيها الحروب أو الأمراض، وهم لضعفهم من جهة ولامتلاكهم لأموال - قد تكون كثيرة ووصلتهم بالإرث - من جهة أخرى، يكونون عرضة لأصحاب المطامع ليبتزوا أموالهم، وكذلك يكونون عرضة للضياع بسبب عدم وجود من يهتم بشأنهم، ولذلك كثر الاهتمام بهم في القرآن

ص: 115


1- سورة البقرة، الآية: 201.
2- سورة طه، الآيات: 124 – 126.
3- سورة الأعراف، الآية: 152.

والأحاديث، وشدَّد اللَّه تعالى في عقوبة من يظلمهم - بجعل آثار وضعية في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة -، وكذا تفضّل سبحانه بالثواب الجزيل لمن يرعاهم ويترحم عليهم.

قال سبحانه «وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا »(1). وقال سبحانه «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)»«إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا »(2)، جمعت الآيتان الأثر الأخروي بدخول السعير، والآثار الدنيوية الوضعية بأن أثر ظلم اليتيم هو تحوّل ذلك الظلم إلى الظالم نفسه في ذريته، قال تعالى « وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ »(3)، وبأن الظالم لا ينتفع بذلك المال بل يجر ذلك المال الضرر عليه، فقوله: وإنما يأكلوت في بطونهم تارا که ظاهر في هذا المعنى، وعدم شعورهم بهذه النار کالمشلول الذي يضع يده في النار فإنَّها تحترق لكنه لا يشعر بسبب فقدان الأعصاب الموصلة إلى الدماغ، وهكذا آكل مال اليتيم يأكل ناراً تحرقه لكنه لا يشعر بها.

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه لما نزلت «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا »، خرج كل من كان عنده يتيم، وسألوا رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم في إخراجهم، فأنزل اللَّه « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ» الآية(4).

ص: 116


1- سورة النساء، الآية: 2.
2- سورة النساء، الآيتان: 9. 10.
3- سورة فاطر، الآية: 43.
4- البرهان ج 2، ص 176 عن تفسير القمي.

فجاء الجواب بقوله «إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ» وذلك بتربيتهم والقيام بشؤونهم ومراعاة أموالهم لكي لا تتلف .

ويحتمل أن تكون الآية في بيان شقين :

الأول: أن تقوموا بشؤونهم مجاناً فتكسوهم وتطعموهم من أموالكم وتحفظوا أموالهم، وهذا «خَيْرٌ»أي أفضل من الشق الثاني، لما فيه من عظيم ثواب هذا الإنفاق .

الثاني : أن تصرفوا عليهم من أموالهم، ولكن حيث يصعب فرز مصارفهم في كل شيء باعتبارهم يعيشون معكم وتحت رعايتكم، فيمكن أن تخلطوا أموالكم مع أموالهم، بالنسبة ومع حفظ المقدار، والجميع يستفيد من هذا الشيء المشترك، مثلاً في الأسرة التي فيها ستة أشخاص أحدهم يتيم، يوضع في المصروف من مال اليتيم بمقدار السُّدس في المصاريف العامة للمنزل كالأكل والشرب والتدفئة مثلاً، وهذه الطريقة أفضل من عزل اليتيم في أكله وشربه ونومه لما في ذلك من صعوبة بالغة على كافل اليتيم وضرر نفسي بالغ على اليتيم نفسه، بل قد يكون ضرراً مالياً عليه لتلف زائد الطعام أو بسبب أن الاشتراك في المصاريف يقلل من المصروف .

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم وتخرج من مالك مقدار ما يكفيك ثم تنفقه(1).

وعنه عليه السلام : لا بأس أن تخلط طعامك بطعام اليتيم فإنَّ الصغير يوشك

ص: 117


1- البرهان، ج2، ص173 عن الكافي.

أن يأكل كما يأكل الكبير، وأما الكسوة وغيرها فيحسب على كل رأس صغير وكبير كما يحتاج إليه(1).

وأما الذي يترك عمله لأجل رعاية اليتيم فيجوز له أن يأخذ من اليتيم أجراً على ذلك بالمعروف، وإن كان الأفضل التبرع في عمله، قال تعالى «وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ »(2) أي : من كان مشرفاً على إدارة شؤون اليتيم فلا يأخذ أجرة على عمله إذا كان غنياً، وإذا كان فقيراً فليأخذ من ماله بمقدار أجرة عمله لا أكثر .

وقوله « فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ » بمعنى التعامل معهم كما تتعاملون مع إخوتكم، وهذا حث على مخالطتهم بالحسنى .

وفي الحديث : قيل للإمام الصادق عليه السلام إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام، ومعهم خادم لهم، فنقعد على بساطهم، ونشرب من مائهم، ويخدمنا خادمهم، وربما طعمنا من الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما ترى في ذلك؟ فقال : إن كان دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر لهم فلا(3).

السابع : قوله تعالى «لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »

وهذا أيضاً كالعلة فيما ذكر من أحكام الأيتام، فإنَّ في الأمر بإصلاحهم ومخالطتهم كالأخ تسهيل لكم ولهم، مع حفظ مصالحهم ومصالحكم، وأموالهم وأموالكم .

ص: 118


1- البرهان ج2، ص 174 عن تفسير القمي.
2- سورة النساء، الآية: 6.
3- البرهان: ج2، ص 174 عن التهذيب.

فلا هو أمركم باعتزالهم ومجانبتهم ليكون مشقة عليكم وعليهم، ولا هو أمركم بالدقة الزائدة بفرز طعامهم ومصروفهم، بل أجاز أن تشاركوهم بالنسبة مع حفظ المقدار إجمالاً، وكل ذلك تسهيل منه تعالى لكم.

ولعل المقصود من هذا المقطع هو ترغيب الناس في إصلاح أمر الأيتام، فكما أن اللَّه سبحانه سهل عليكم رحمة بكم، كذلك عليكم أن ترحموا الأيتام فلا تأكلوا أموالهم فساداً وطمعاً .

ص: 119

ص: 120

فصل في مسائل النكاح

اشارة

ص: 121

ص: 122

فصل في مسائل النكاح

أولا: من يجوز نكاحهن

الآية 221

«وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)»

221 - وحيث ذكرت الآية السابقة مخالطة اليتيم انتقلت هذه الآية إلى المخالطة بالزواج : «وَلَا تَنْكِحُوا » أي لا تتخذوهن زوجات «الْمُشْرِكَاتِ » وهم غير المسلمين فإنَّ أولئك يشركون باللَّه غيره «حَتَّى يُؤْمِنَّ» يُصَدِّقن باللَّه وبالرسول وبالمعاد، « وَلَأَمَةٌ»مملوكة « مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ » حرة، «وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ » المشركة لمالها أو جمالها أو حسبها أو نسبها، لأن الملاك هو الإيمان فذلك الباقي، أما الاعتبارات الدنيوية فهي زائلة. «وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ»لا تزوجوهم المؤمنات « حَتَّى يُؤْمِنُوا

ص: 123

وَلَعَبْدٌ » مملوك «مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ »حرٍّ، وسبب هذا التحريم أن« أُولَئِكَ »المشركين والمشركات «يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ » أي الكفر المؤدي إلى دخول النار، ودعوتهم إما بالقول وإما بالتأثير العملي، فإنَّه يتأثر كل من الزوجين بأخلاق الآخر، وحيث إن المشركين والمشركات يدعون إلى النار وكذلك التأثير على الأولاد، فحقّ على المسلمين والمسلمات أن لا يخالطوهم، «وَاللَّهُ»خلق الناس لعبادته فهو تعالى « يَدْعُو إِلَى»إلى ما يوجب « الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ » فلا يشرّع ما يبعد الناس عنهما، ولذا حرّم هذا الزواج، «بِإِذْنِهِ »أي بلطفه بعباده المؤمنين وتوفيقه إياهم إلى الإيمان فلذا ينهاهم عن كل ما يبعدهم عنه، «وَيُبَيِّنُ » اللَّه «آيَاتِهِ »أحكامه وحججها «لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ »ما أودعه اللَّه في فطرتهم، وهذا الحكم أیضاً ما تكتشفه الفطرة.

بحوث

الأول : ذكرنا السياق العام لهذه الآيات، وأما ترتيب هذه الآية وارتباطها بما قبلها ، ففي المجمع : لما تقدّم ذكر المخالطة بیّن تعالی من يجوز مخالطته بالنكاح(1). وفي التقريب : ولعلّ الارتباط العام بين هذه الآية والآيات السابقة، أنَّها انتهت إلى حكم اليتيم، فاللازم بيان العش

ص: 124


1- مجمع البيان: ج 2، ص 128.

الذي يتربَّى فيه الفراخ، و أنَّه كيف يلزم أن يكون لينشأ الأولاد صالحين أصحاء جسماً وعقلًا وعاطفة(1).

وحيث إنه تعالى أراد ذكر أحكام الأسرة، صدّر تلك الأحكام بالزواج، وابتدأ تعالى بالحظر عن النكاح المضرّ، وهو النكاح مع أهل الشرك، لأن جميع أحكام الأسرة تبتني على تحقق النكاح، ولذا كان لا بد من تقديم ذكره، وابتدأ بالتحذير من الاغترار بالمظاهر المادية الزائفة ، و أنَّه لا بد أن يبتنى الزواج على الإيمان الذي يتحقق به الاطمئنان النفسي والفكري وكذلك الاطمئنان الديني - وهو الأهم -.

فبيَّنت الآية لزوم الكفاءة بين الزوجين في الدين، وهذه هي الكفاءة التي أقرها الإسلام، أما الاعتبارات المادية أو العرفية فلا دخل لها في الكفاءة الشرعية، فالعبد المؤمن كفؤ للحرة المؤمنة، والأمة المؤمنة كفؤ للحر المؤمن، فما في بعض المذاهب من تعميم الكفاءة إلى القومية أو النسب أو الثروة مخالفة صريحة لهذه الآية الكريمة.

ثم إن سبب اشتراط الكفاءة في الدين هو أن اللَّه تعالی بیده التكوين والتشريع، وكلاهما متطابقان ولا يعقل تخالف تشريعه مع نظام تكوينه ، فلذا كان التشريع بيده تعالى لا بيد غيره كما قال سبحانه «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ »الی قوله «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ »(2). فإنَّ الخالق هو المشرع، وقال «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ »(3)، فلا يعقل أن يكون الذي يخلق غير الذي يختار

ص: 125


1- تقريب القرآن ج 1، ص 267.
2- سورة آل عمران، الآيات: 3- 6.
3- سورة القصص، الآية: 68.

المبلغين عنه، وحيث إنه سبحانه خلق الناس ليعبدوه فلا يعقل أن يشرّع ما يبعّد الناس عن عبادته فإنَّ في ذلك نقضاً للغرض وعبثاً، ولذا كل أحكامه تعالي تصب في اتجاه عبادته، قال سبحانه «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا »(1)، أي لم يشرّع ما يجعل الكفار مسلطين على المؤمنين، فلذا لا ولاية للأب الكافر على ابنه المسلم، ولا يصح شراؤه للعبد المسلم، وإن أسلم عبده أجبر على بيعه، ولا يصح نکاح المسلمة من الكافر لأن للزوج ولاية على زوجته، ولو أسلمت الزوجة بانت من زوجها الكافر إلّا أن يسلم هو في عدتها فهو أحق بها حينئذ، ولا يقتل المسلم بالكافر - ولو كان ذميّاً -، ولا تجوز إمارته على المسلمين وهكذا.

والحاصل أن اللَّه سبحانه جعل توافقاً تاماً بين التكوين والتشريع، نعم خلق الإنسان مختاراً وإذا حصل هناك خلل فبسبب سوء تصرفات الإنسان قال سبحانه «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ »(2) .

الثاني : قوله تعالى «وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ»

بالتتبع في الآيات القرآنية يظهر أن هناك ثلاثة استعمالات - أو مصطلحات .

1- «الَّذِينَ آمَنُوا» يراد به المسلمون - حتى وإن كانوا منافقین - ولذا قال تعالى«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا »(3) .

ص: 126


1- سورة النساء، الآية: 141.
2- سورة الروم، الآية: 41.
3- سورة النساء، الآية: 139.

2 - « أَهْلُ الْكِتَابِ»(1)التي يراد به اليهود والنصارى فقط، وأما المجوس فهم داخلون في حكمهم لا أن الخطاب يشملهم .

3- و« الْمُشْرِكُونَ »هم عباد الأصنام الذين أشركوهم في عبادتهم لله تعالى، ولذا كان هناك تقابل بينهم وبين أهل الكتاب في قوله تعالى «مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ »(2)

. وهذا الاصطلاح لا ينافي شرك أهل الكتاب، كما أن خطاب ويأيها الذين امواه لا ينافي نفاق بعضهم وشركهم الباطني .

إذا اتضح هذا تبيّن أن هذه الآية غير مخصَّصة ولا ناسخة ولا منسوخة بقوله تعالى«وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ »(3)

نعم قوله تعالى «وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ »(4)قيده قوله تعالى «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ».

وهنا روایات متعارضة دلت على أن إحدى الآيتين ناسخة للآخرى، فلا بد من ردّ علمها إلى أهلها، أو حملها على التقية لأن العامة أیضاً مختلفون في أن أيّهما ناسخة للأخرى، وقد اختلف الفقهاء فيه تبعاً الاختلاف الروايات، والتفصيل في الفقه(5).

ص: 127


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- سورة البقرة، الآية: 105.
3- سورة المائدة، الآية: 5.
4- سورة الممتحنة، الآية: 10.
5- لتفصيل حكم الزواج بالكتابية راجع موسوعة الفقه، ج65، ص190 - 101.

الثالث : قوله تعالى « أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ »

هذا التعليل للتحريم، وهذه الدعوة قد تكون بالتبليغ للشرك، أو بحكم تأثر الجليس بجلیسه، أو بتربية الأولاد على الشرك، فالدعوة إلى النار لا تنحصر في دعوة كل من الزوجين الآخر إلى معتقده بل هي عامة ، فإنَّ المصاهرة توجب ارتباطاً اجتماعياً بين العوائل، فدخول مشرك أو مشركة في أسرة مسلمة سبب لكثرة مجالسته إياهم، ومن المعلوم تأثير الجليس على جليسه ، وكذا الأولاد يتأثرون بآبائهم وأمهاتهم فيكونون عرضة إلى التأثر بالمشرك من الأبوين.

وهكذا كل أهل باطل أو عصيان ينبغي ترك مخالطتهم وترك تزويجهم إذا كان في تلك المعاشرة احتمال التأثر بهم، وفي الحديث: (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوِّجوه)(1)، وهناك نهي شديد عن تزويج شارب الخمر (2).

وإن اضطر الإنسان إلى التعامل معهم فليقتصر بالمقدار الضروري، فإذا وصل الأمر إلى التشكيك أو الاستهزاء بالدين تركهم. قال تعالى «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ »(3). بل هناك نهي عن اتخاذ الكفار أولياء، قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ

ص: 128


1- التهذيب ج7، ص 396.
2- الكافي ج 5، ص300.
3- سورة النساء، الآية: 140.

مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)»(1)نعم لا مانع من البِرِّ إلى من لم يحارب الدين وأهله، قال تعالى «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)»(2).

وحيث إن تأثر المرأة بزوجها كبير جدّاً فلذا لم يجوز الشرع تزويجها إلى مطلق الكفار حتى أهل الكتاب ، بل يكره زواجها من أصحاب المذاهب الباطلة من المسلمين وقيل بالتحريم، وعن الإمام الصادق عليه السلام : تزوجوا في الشُّکّاك، ولا تزوّجوهم، المرأة تأخذ من أدب زوجها(3).

والحاصل : أن الغرض من تقديره تعالى الزواج هو الاطمئنان، قال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا » (4)،والزواج من المشركين والمشركات سبب للشقاء والعذاب فلذا لم يشرعه تعالی بل منع عنه .

الرابع : قوله تعالى« وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ » .

1- أي وحيث إن اللَّه يدعو إليهما، فلذا لا يشرّع ما يبعّد عنهما، فمعنی دعوته هو أنَّه يشرع الأحكام تکليفاً ويثبت الحق تكويناً كما قال

ص: 129


1- سورة الممتحنة، الآية: 1.
2- سورة الممتحنة، الآية: 8.
3- الكافي ج 5، ص368.
4- سورة الروم، الآية: 21.

«وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)»(1)، وكذا يرسل الرسل والمبلغين عنه .

2. وقيل : المعنى أن العبد المؤمن والأمة المؤمنة . وكذا كل زوج مؤمن وزوجة مؤمنة - يدعون إلى الإيمان امتثالاً لأمره تعالى وذلك يوجب الجنة والمغفرة، وحيث إنهم كانوا الواسطة في الدعوة والداعي الحقيقي هو اللَّه تعالى لذلك نسبت الدعوة إليه تعالى، فحاصلى المعنى أن اللَّه يدعو إليها وحيث إن المؤمنين يمتثلون أوامره تعالى فالزواج منهم يكون سبباً لبناء حياة مشتركة مبنية على الإيمان فتكون النتيجة هي الإيمان والطاعة وذلك استجابة لدعوته تعالى إليهما .

3- أو المعنى أن اللَّه تعالى يدعو إلى ما يكون سبباً إلى الوصول إلى الجنة والمغفرة لذا فهو يدعو إلى الزواج من المؤمنين والمؤمنات .

وقوله تعالى «وَالْمَغْفِرَةِ »بمعنى عدم العقاب وعدم دخول النار، كقوله تعالى « فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ »(2)، فالآية بيان لدخول الجنة وعدم دخول النار، حيث يمكن أن يدخل الإنسان النار بمعاصيه ثم بعد تطهيره تناله الشفاعة فيخرج منها إلى الجنة ، لكنه تعالی الرأفته يدعو المؤمنين إلى الالتزام بما يبعدهم عن النار دائما ويجعلهم مشمولين بلطفه ورحمته بغفران ذنوبهم وعدم معاقبتهم عليها، فقوله وبإذنده بمعنى بلطفه وتوفيقه، وقد مرّ أن دخول الجنة تفضل منه تعالى، وأن غفران الذنوب تفضل آخر من غير استحقاق.

ص: 130


1- سورة يونس، الآية: 82
2- سورة آل عمران، الآية: 180.

ثانيا: أحكام الزوجية

الآيتان 222 - 223

«وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)»

«نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)»

222 - بعد حكم أصل الزواج يأتي دور بعض خصوصیاته «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ » عن تكليف الأزواج حال حیض زوجاتهم «قُلْ هُوَ أَذًى»أي مكروه يصيبهنّ « فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ »بترك مباشرتهن «فِي الْمَحِيضِ » في زمانه أو مكانه، وهذا الاعتزال ليس بمعنی ترکهن بل «وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ » بالوطء «حَتَّى يَطْهُرْنَ » نقاء من الدم.

ثم إنه تعالی بین حکم الوطء : «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» من المحيض « فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ » أي أباحه بأن يكون حلالاً لا حراماً ، فلا توطأ إلّا الزوجة والمملوكة في غير صوم ولا اعتکاف ولا إحرام ولا أمثالها .

وحيث إن الكثيرين تغلبهم الشهوة فإنَّ اللَّه فتح باب التوبة وإن «إِنَّ

ص: 131

اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ »يجازيهم، «وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ »يراعون الطهارة ممتثلين لأوامره ونواهيه ولذا منع عن إتيانهن في حالة الحيض وأوجب الغسل .

223 - وإنما قدّر اللَّه الحيض لهن مع أنَّه أذى، لأن إنجاب النساء متوقف عليه عادة ف-«نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ »كالمزرعة فكما تراعون حرثكم فعليكم مراعاتهن، وكما أن الزرع ليس في كل الأوقات كذلك إتيانهنّ «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ » بأية كيفية وفي أي زمان ومكان إلّا ما نهيتم عنه، فالأصل هو جوازه وموارد التحريم استثناء .

وحيث علمتم الحلال من الحرام، فالتزموا بهما «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ » بالعمل الصالح،«وَاتَّقُوا اللَّهَ »بترك المعصية، «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ »أي تلاقون جزاءه، «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ »بأن جزاءهم الجنة .

بحوث

الأول : قوله تعالى «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ » .

«الْمَحِيضِ »هنا مصدر ميمي، والمراد السؤال عن تكليف الأزواج في حال حيض زوجاتهم، حيث كان اليهود والنصارى بين إفراط وتفريط، فكانت النصارى يأتونهن كسائر الأيام، وكانت اليهود يجتنبوهن حتى في المسكن والمأكل، والعرب الجاهليون بين متبع لليهود وبين متبع للنصارى، فبينت الآية أن التكليف هو الوسط بين إفراط أولئك وتفريط

ص: 132

هؤلاء، فالممنوع هو الوطء فقط، وأما سائر الأمور- من المأكل والمسكن ونحوهما - تكون الحالة الحالة الاعتيادية .

ويحتمل أن يكون سؤال عن علة الحيض، فلماذا قدّر اللَّه تعالى لهن ذلك، فيكون الجواب لبيان العلة مع إضافة بيان أحكام الحيض، فقوله «نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ » يكون علّة لحيضهن، فإنَّ الإنجاب هو السبب، وكما ثبت في العلم الحديث فإنَّ الرحم ينتج بويضة فتبقى في الرحم لأيام وتنعقد النطفة إن خُصّبت هذه البويضة بالحيمن المنوي، وإن لم تخصب فسدت وسببت جرحاً في الرحم، فيلقيها الرحم عبر الدم الذي يُسمى حيضاً ، ولذا يكون عدم الحيض نقصاً في المرأة لأنَّها لا تكون قادرة على الإنجاب، نعم قد يكون هناك حالة استثنائية بأن لا تطمث مع قدرتها على الإنجاب فيكون عدم الطمث فضيلة لها، ومن معاني (البتول) الانقطاع عن الدم من غير نقص .

الثاني : قوله تعالى«قُلْ هُوَ أَذًى».

(والأذى) هو ما يصيب الإنسان من مكروه في نفسه أو جسمه، سواء كان ضرراً أم لا، وسواء كان فيه مشقة أم لا . والمحيض يترك آثاراً جسميّة ونفسية في النساء، بالضعف والقذارة والحساسية النفسيّة ونحوها . ولذا فإنَّ الشرع - ومراعاة لظروفهن الخاصة - شرّع جملة من الأحكام شخصية واجتماعية وعبادية، كسقوط العبادة عنهن، وعدم جواز وطئهن، وعدم صحة طلاقهن، فكونه أذى علة لهذه الأحكام.

فلا معنى للقول بأنَّه أذى للرجال أيضاً بترك المباشرة، فإنَّ هذا التشريع هو معلول للأذى وليس علّة له .

ص: 133

أما سقوط الصلاة فلأجل نجاسة الدم وعدم التمكن من السيطرة على نزوله فتكليفها به يستوجب إما رفع اشتراط الطهارة في الصلاة وهذا لا يناسب العبادة، وإما إلزامها بالطهارة وهذا تصعيب عليها وحرج. نعم لو كانت هناك مصلحة أهم أمكن الأمر بالصلاة، كالمستحاضة حيث يجب عليها الصلاة، ولعلّ ذلك لئلا تنقطع عن العبادة لفترة طويلة فإنَّ للحيض مدة معلومة قصيرة - بين الثلاثة والعشرة أيام -، وليس للاستحاضة مدة معينة فقد تستمر لأيام طويلة فلم يكن من الصالح انقطاعها عن ذكر اللَّه ، فلذا وجب على المستحاضة الصلاة لكن مع غسلها من الدم، وقد يجب عليها الاغتسال، والتفصيل موكول إلى الفقه.

وأما سقوط الصوم، فلأن النزيف يوجب الضعف والحاجة إلى الطعام والشراب . عادة فتمّ تسهيل الأمر عليها، هذا مضافاً إلى أن شأن العبادة أجل من أن تؤتي في هذه الحالة.

بل عليها قضاء الصوم في أيام أخر، وأما الصلاة فإنَّ تشريع قضائها كان فيه من الصعوبة بمكان - لكثرة الصلوات وصعوبة قضائها عکس الصوم - فلذا سقط عنها قضاء الصلاة دون الصوم.

ومن أحكامها الاجتماعية : عدم صحة طلاقها، ولعلّ من أسباب هذا التشريع هو مراعاة نفسيتها، لأن المرأة تكون حساسة جدّاً في حال الحيض، والطلاق من أسوأ ما يؤثر في نفسيتها، هذا مضافاً إلى جهات أخرى ترتبط بالطلاق نفسه - مثل تصعيب الطلاق بتكثير شروطه، وكذا تأجيله لعلّه تخمد سورة الغضب ويتراجع الزوج عن الطلاق، وسيأتي بعض التفصيل في الآيات اللاحقة إن شاء اللَّه .

ص: 134

الثالث : قوله تعالى «فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ »

« الْمَحِيضِ » هنا بمعنى الزمان أو المكان - لذا كرر كلمة « الْمَحِيضِ »؟ من غير إرجاع الضمير -، فالمعنى اعتزلوهن مدة الحيض، أو في مكان الحيض - وهو الفرج - فلا مانع من سائر الاستمتاعات الأخرى غير الوطء، والظاهر أن قوله «وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ» عطف تفسيري على «فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ »، ببيان أن الاعتزال المطلوب هو ترك الوطء، وليس معناه ترك مساكنتهن ومؤاكلتهنّ، ولا اعتزالهن بالقلب - فإنَّ الاعتزال قد يكون بالابتعاد جسماً وقد يكون بالبراءة قلباً وقد يكون بترك عمل - .

وقوله « يَطْهُرْنَ »بمعنى النقاء من الدم وانقطاعه وليس المقصود الغسل، فلذا يجوز الوطء قبله كما وردت به الروايات، وإن كان الأفضل الانتظار إلى ما بعد الغسل ولا أقل من التنظيف أولاً، وقد يكون سبب الإذن هو التسهيل عليهن لصعوبة الاغتسال مرّتين - مرّة من الحيض ومرّة أُخرى من الجنابة - فلذا أُبيح الوطء بعد انقطاع الدم وقبل غسل الحيض، فتأمل .

الرابع : قوله تعالى «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ».

(التطهر) هنا بمعنى الفعل المجرد أي فإذا طَهُرن بانقطاع الدم، وليس معنى (التطهر) هو فعل الطهارة بالغُسل أو الغَسل، وقد يستعمل باب (التَّفَعُّل) بمعنى المجرد مثل (تبيّن) بمعنى (بان) كقوله «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ »(1).

وليس هذا المقطع تكرار لمفهوم قوله «وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ»

ص: 135


1- سورة البقرة، الآية: 187.سورة البقرة، الآية: 187.

- حيث إن مفهوم الغاية هو جواز الاقتراب بعد الطهر بل الغرض مختلف :

1 - إن بيان «مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ »لا يتم إلّا بذكر «فَأْتُوهُنَّ » .

2- وإن قوله «فَأْتُوهُنَّ »كالمقدمة لقوله «نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ » .

3 - وإن قوله «فَأْتُوهُنَّ » للدلالة على منَّته تعالى على العباد حيث أباح لهم الطيبات، وحيث إن المنع في حال الطمث كان لمصلحة لذا عقّبه بالامتنان على الناس بإباحة الوطء، وتقديم المنع على الإباحة أوقع في النفوس وأدلّ على الامتنان - عادة - .

الخامس : قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ».

حيث إن الصبر عن المباشرة في حال الحيض صعب على كثير من الناس وخاصة من أصيب بالشبق، فإنَّه تكثر المخالفة للأحكام المانعة عن المباشرة، نظير قوله «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ » (1). وقد مرّ بيانه، لذلك أمرهم اللَّه تعالى بالتوبة، ثم عقبه بقوله «وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ » وهم الذين لم يختانوا أنفسهم فالتزموا بالأحكام، وحيث إن هؤلاء طائفتان، فالتوابون الذين أخطأوا ثم تابوا، والمتطهرون هم الذين التزموا ، لذلك كرر تعالى كلمة (يحب)، أو لأن من البلاغة تكرار ما تستأنس به النفوس وفي ذلك زيادة ترغيب . ثم إن الآية عامة، وما يرتبط بأحكام الحيض من مصاديقها ، وبعبارة أخرى إن قوله « يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ » قانون عام كلي، جيء به هنا كالعلة لأحكام الحيض، وليس في ذلك حصر، فما ورد في التفاسير

ص: 136


1- سورة البقرة، الآية: 187

إنما هو ذكر بعض المصادیق : مثل تفسير المتطهر بالمرأة التي تغتسل بعد الحيض، والرجل لا يواقع إلّا في حالة الطهر، وکالتطهر بالماء من القذارات الظاهرة وبالاستغفار عن الذنوب.

وأما ما قيل من أن «إالتَّوَّابِينَ»من الكبائر و«الْمُتَطَهِّرِينَ »من الصغائر، فلا وجه له فلا هو ظاهر اللفظ ولا وردت به الروايات.

ثم إن التوابين صيغة مبالغة، وقد يكون المعنى كثرة التوبة عن كثرة الذنوب، فيكون باب التوبة مفتوحاً حتى إذا كثرت الذنوب وكثرت التوبة عنها ثم نقضها، وقد يكون المعنى شدّة التوبة حتى وإن كانت من ذنوب قليلة كما مرّ نظير ذلك في قوله « يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ »(1)فقد قيل إنهم كانوا اثني عشر، وكقوله« وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ »(2)، وكانت سبعة، لكن استعمل باب التفعّل دون المجرد ليس للتكثير بل للتهويل واستعظام الأمر.

«الْمُتَطَهِّرِينَ » أیضاً مطلق، وحذف المتعلّق يفيد العموم، ف اللَّه تعالى يحب كل أنواع الطهارة عن كل شيء قذر يتطهَّر منه .

السادس : قوله تعالى«نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ » .

لعلّ ارتباط هذه الآية بما قبلها هو:

1- إن الحيض لأجل الإنجاب، فمع كونه أذى هو مصلحة للإنسان الاستمرار النسل، فلذا قدّره اللَّه تعالی.

2 - إنه تعالى حيث أمر بإتيانهن، بين أن إباحة الوطء ليس لمجرد اللهو، بل الغرض الأصلي هو استمرار النسل، وأما جعل الشهوة فيه

ص: 137


1- سورة القصص، الآية: 4.
2- سورة يوسف، الآية: 23.

فلأجل أن الالتزام بالأسرة وبتربية الأولاد من الصعوبة بمكان، ولولا شعور الإنسان بحاجته إليه لما أقدم على الزواج والإنجاب وفي ذلك انقطاع للنسل، فإنَّ العبادة في قوله تتوقف على العابد، ولذا قال تعالى «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ »(1)أي من الولد، هذا مضافاً إلى أن الاختيار والاختبار يتوقفان على تمكن الناس من الخير والشر، والرغبة الجنسية من أقوى وسائل الامتحان .

ثم إن وجه تشبيه النساء بالحرث - مضافاً إلى بيان الغرض من المباشرة - هو الإشعار بلزوم مراعاتهن، فكما يرعى الزارع زرعه كذا ليرع الزوج زوجته بما يصلحها، وكما أن هناك أوقاتاً يترك فيها الحرث لعدم صلاحية التربة له كذلك هناك أوقات يلزم ترك المباشرة كزمان الحيض، أو لعلّه كالتعليل لخلق الإنسان رجلاً وامرأة وعدم خلقهم بشكل واحد حيث إن بقاء النسل يحتاج إلى المحل القابل للنمو والتربية ، فلذا كان دور الرجل الكد والعمل ودور المرأة الحمل والإنجاب والرضاعة، ولذا كان الاختلاف في الجسم وفي العواطف، فكل من الرجل والمرأة خلق - جسماً ونفساً - بما ينسجم مع دوره .

السابع : قوله تعالى «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ...»الآية.

أي ادَّخروا لآخرتكم بالطاعة والعمل الصالح، قال تعالى« وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ »(2)، والمقصود هو أن عليكم معاملة زوجاتكم بالتي هي أحسن كما قال «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ » (3)فيكون هذا

ص: 138


1- سورة البقرة، الآية: 187.
2- سورة البقرة، الآية: 110.
3- سورة النساء، الآية: 19.

العمل الصالح زيناً لكم في الآخرة وذلك لأن سلطة الزوج قد توجب تعديه على الزوجة، لذلك حسن تنبيهه بأن عمله ينتظره في الآخرة و أنَّه يجازي عليه، وقيل: المقصود هو أن لا يكون غرضكم هو الشهوة فقط بل اطلبوا الولد الصالح فإنَّه يبقى لكم ذخراً، أو لأن الغرض من بقاء النوع البشري هو العبادة، فاستمرار النسل طريق له وفي ذلك تحفيز بتربية الأولاد، فتأمل .

ثم في الآية حث على الطاعة «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ »، وزجر عن وزجر عن المعصية «وَاتَّقُوا اللَّهَ »، وإخبار بالجزاء «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ »أي تُجازَون على للقوة أعمالكم، وبشارة للمطيعين «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ».

ص: 139

ثالثا: الإيلاء

الآيات 226-227

«وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)»«لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)»«لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)»

224 - ثم يأتي الكلام حول بعض مشاكل الحياة الزوجية، ومنها الإيلاء وهو حلف بترك مباشرتها على سبيل الإضرار بها، وقبل بیان حكم الإيلاء يذكر سبحانه وتعالى حكم مطلق الحلف فقال : «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً»معرضاً « لِأَيْمَانِكُمْ »بأن تحلفوا به لأجل ترك «أَنْ تَبَرُّوا » ترك البِر، «وَ» أن «َتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ» فللفرار من هذه الخيرات تحلفون به تعالی فتجعلون اسمه ذريعة لترك الخير من أنَّه تعالى هو الأمر بالخير فلا تحتجوا بالحلف به لترك الخير، وفي هذا المقطع معنى آخر سنذكره في البحوث،« وَاللَّهُ سَمِيعٌ » لأيمانكم «عَلِيمٌ » بنياتكم.

220 - «لَا يُؤَاخِذُكُمُ » بالعقاب ولا بالكفارة «بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ » بأن لا يكون القسم مقصودة بل جرى على اللسان من غير قصد لأجل

ص: 140

التعود به - مثلاً - «وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ»بالعقاب والكفارة « بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ »بالقسم الذي قصدتموه ثم خالفتم، «وَاللَّهُ غَفُورٌ » لمن خالف ثم تاب «حَلِيمٌ » فلا يعاجل بالعقوبة .

226 - 227 - وبعد بيان حكم الحلف يتم بيان حكم أحد مصاديقه المرتبط بالحياة الزوجية «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ»والإيلاء وهو الحلف على أن لا يباشرها أكثر من أربعة أشهر على وجه الإضرار بها، فهؤلاء يحق لهم « تَرَبُّصُ»انتظار« أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» ففي هذه الفترة يفكرون ليقرروا مصير حياتهم الزوجية،« فَإِنْ فَاءُوا» أي رجعوا عن اليمين وذلك بدفع الكفارة « فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ »لا يعاقبهم على حنث اليمين «رَحِيمٌ »بهم حيث أباح الحنث هنا وذلك لمصلحة بقاء الحياة الزوجية، وإن عزموا الطلق أي قصدوه ثم أوقعوه « فإنَّ اللَّه سميع لطلاقهم وعليم بنياتهم

بحوث

الأول: قوله تعالى «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)»

أي لا تجعلوه معرضاً للحلف بأن تحلفوا به، و«العُرضة» هي كل ما يصلح لشيء كما يقال الكتاب عرضة للبيع أي صالح له، وذلك لأنَّه تعالى أجلّ وأعلى من أن يؤتى باسمه لعرض الدنيا الزائلة، أو للأغراض الفاسدة .

وتدل الآية على حكمين - تكليفي ووضعي

ص: 141

1 - أما التكليفي فهو المنع عن الحلف به تعالى، فإن كان كاذباً فهو منع تحريم، وإن كان صادقاً فهو منع تنزيه وكراهة .

2 - وأما الوضعي فهو عدم تأثير هذا الحلف في الموارد المذكورة في الآية وتعددت الروايات في تفسير الآية، ففي بعضها ذكر الحكم الوضعي وفي جملة منها ذكر الحكم التكليفي، وفي رواية جمع بين الحكمين، قال : لا تحلفوا باللَّه صادقين ولا كاذبين، فإنَّ اللَّه يقول «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ »، قال: إذا استعان رجل برجل على صالح بينه وبين رجل فلا يقولن : إن عليّ يميناً ألّا أفعل وهو قول اللَّه عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ...» (1).

والحاصل أن الحلف لا يغير الشيء المحلوف عليه عن واقعه، فلا يصير بالحلف الحسن قبيحاً ولا القبيح حسناً، ولذا ذكر الفقهاء عدم انعقاد اليمين على المرجوح مطلقاً .

وفي الآية تحذير لمن يريدون جعل اسم اللَّه تعالى ذريعة لأهوائهم، فلكي لا يعترض عليهم أو ليصرفوا الأذهان عن باطلهم يتذرعون بالدين، فإن تمكنوا حرّفوا الألفاظ - كما فعله أهل الكتاب -، وإلا حرّفوا المعاني أو تلاعبوا بالأحكام الشرعية، والحلف باللَّه من تلك الطرق، فلذا اللَّه تعالى عن ذلك وبين القاعدة العامة بأن الفعل الحسن لا يصبح منهيّاً عنه بالحلف، وكذا العكس .

الثاني : قوله تعالى« أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ »

ص: 142


1- البرهان: ج2، ص 184، عن تفسير العياشي.

بتقدير (لا) النافية أي لئلا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا، ويكثر حذف لا الناهية مع وجود قرينة عليها كقوله تعالى « يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا »(1) أي لئلا تضلوا أو مخافة أن تضلوا . وقيل : المعنى أن اللَّه تعالى أجل من أن تحلفوا به لأجل هذه الأمور المحبوبة فكيف بغيرها ، فعلى هذا المعنى لا تقدير لحرف النفي .

وقيل : « أَنْ تَبَرُّوا ...» هو علة أي أنهاكم عن الحلف باللَّه لأجل إرادة برِّكم وتقواكم وإصلاحكم .

لكن الصحيح هو ما ذكرناه أولاً لأن الروايات فسرت الآية به فراجع البرهان(2)، ويؤيده قوله تعالى«وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »(3) أي لا يحلف الأغنياء منكم على أن لا يؤتوا من أموالهم صدقة لهؤلاء المذكورين .

ثم إن قوله «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ ...» تدل على النهي عن مطلق الحلف به تعالى لأجل هذه الأمور، وليس النهي خاصة بكثرة الحلف، إذ بالحلف مرّة واحدة يصدق جعله تعالى عرضة لليمين، وأما قوله «لِأَيْمَانِكُمْ » فإنَّما هو باعتبار المجموع حيث خاطبهم بقوله «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ ...» نعم كثرة الحلف مذموم أكثر، فإنَّه مظنة الكذب والمخالفة ولذا قيل من كثر يمينه يوثق بقوله، قال تعالى«وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ »(4)

هذا حال الحلف لترك الأمور الحسنة، وأما الحلف لأجل أمر اللَّه

ص: 143


1- سورة النساء، الآية: 176.
2- البرهان ج2، ص183 - 184.
3- سورة النور، الآية: 22.
4- سورة القلم، الآية: 10.

تعالى كأن يقول: «و اللَّه إنكم لتحاسبون يوم القيامة» أو «و اللَّه إن الغيبة محرمة»، ونحو ذلك مما يراد به الوعظ والإرشاد فلا بأس به. وكذا الحلف إذا كان بأمر اللَّه تعالى كاليمين صادقاً في المحاكم إذا أراد به إحقاق حق أو إبطال باطل، وإذا دار الأمر بين التنازل عن بعض حقوقه المالية وبين الحلف فالأفضل ترك الحلف .

ثم إن الحلف قد يكون في الإخبار عن الماضي، فإن كان كاذباً فهو محرّم ولا كفارة عليه، وقد يكون تأكيداً للطلب مثل أن يقول : «أسألك باللَّه إلّا ما فعلت كذا»، وهذا لا يترتب عليه أثر لا على السائل ولا على المسؤول منه، وقد يكون تأكيد لما سيفعله كأن يقول: «و اللَّه سأصوم غداً»، وهذا يجب الالتزام به إن لم يكن مرجوحاً، وإن حنث وجبت عليه الكفارة كما قال تعالى: «لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ»(1) ثم إن تخصيص هذه الثلاثة - البر والتقوى والإصلاح - بالذكر إما لأنَّها أهم الأمور، أو لأن سائر الأمور ترجع إليها، أو لأن غالب حلف الناس يتعلق بها

الثالث : قوله تعالى«لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ... »الآية .

(اللَّغو) من الكلام هو الهذر الذي لا فائدة فيه، والمعنى هنا هو عدم قصد الحلف ولكن يجري القسم على لسانه للتعود ونحوه، ككثير من الناس الذين يملؤون كلامهم بقولهم «لا والله» و«بلى والله» .

ص: 144


1- سورة المائدة، الآية: 89.

والمؤمن هو الذي يعرض عن اللغو مطلقاً فلا يلغو ولا يستمع إلى اللغو، قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ »(1)، وقال «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ »(2). ولا يوجد في كلام أهل الجنة لغو، قال سبحانه «لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا »(3).

وقيل : رفع المؤاخذة امتناناً لا يدل على إباحة الفعل، فقد لا يعاقب اللَّه تعالى على المعاصي للشفاعة أو التكفير ونحوهما ، كما قال بعضهم بحرمة الإيلاء مع عدم المعاقبة عليه وكما قالوا بذلك في الصغائر - المعبر عنها ب-«اللمم» -، ومعنى ذلك وجود المفسدة والحزازة والمنقصة في ذلك الفعل فيوجب المنع عن رفع الدرجات كما يوجب ظلمة في القلب ، فله كل آثار العصيان سوى العقوبة، كما قالوا في الصغائر .

وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنّه يخالف ما اصطلحوا عليه في معنى الحرمة والإباحة، ولا مشاحة في الاصطلاح .

الرابع : «وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ » .

أي ما قصدتم اليمين وعقدتم النية عليه، كما قال تعالى«لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ »(4).

أي حلفتم عن قصد، وذلك لأن الأعمال بالنيات، فإن كان الحلف لقلقة لسان فهو لا ينعقد ولا كفارة عليه، ولكنه أمر مذموم، وأما

ص: 145


1- سورة المؤمنون، الآية: 3.
2- سورة القصص، الآية: 55.
3- سورة مريم، الآية: 62.
4- سورة المائدة، الآية: 89.

إذا قصد الحلف بأن التزم بأن يفعل أمراً ثم تركه عمداً فهو معصية وفيه الكفارة .

وفي الآية إشعار بأن الكلام الفارغ عن القصد لا اعتبار به ولا يترتب عليه الأثر، فقول العامة بصحة طلاق النائم والساهي والغالط مخالف للقرآن الكريم .

هذا إذا علمنا قصده من عدم قصده، ولكن مع الشك فالأصل العقلائي هو تطابق اللفظ النية - والذي يعبر عنه بأصالة الجِدّ - إذ استقرار النظام الاجتماعي يتوقف على ذلك .

الخامس : قوله تعالى«لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ »

الإيلاء هو الحلف المطلق، واصطلح على حلف خاص هو أن يحلف الرجل بأن لا يباشر زوجته أكثر من أربعة أشهر على وجه الإضرار بها، والآية في بيان حكم الإيلاء :

1 - انعقاد هذا اليمين بالخصوص، فإنَّ اليمين لا تنعقد في الأمور المرجوحة كما مرّ في قوله «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا ...»، لكن في خصوص هذا الحلف - بترك ملامسة الزوجة - شرّع انعقاده .

2 - جواز حنث هذا اليمين بالخصوص مع وجوب دفع الكفارة، ولعلّ سبب ذلك هو مراعاة استمرار الحياة الزوجية وتشريع ما يمنع عن انهيارها، لأنَّه قد يشتدّ خلاف الزوجين بحيث يصلان إلى طريق مسدود، وجعل الطلاق أول الحلول هو إغلاق الباب أمام حلول أخرى قد توجب حلّ المشكلة، ولذا كان الإيلاء حلاً مقدماً على الطلاق، بأن يحلف

ص: 146

الرجل بعدم وطء الزوجة لمدة أكثر من أربعة أشهر، وهذه المتاركة وبمقدار هذه المدة قد توجب خمود سورة الغضب ومراجعة كل من الزوجين لأسلوبه وتصرفاته مع إعطاء المجال للمصلحين لحلّ مشاكلهما وإصلاح بينهما، ولذا قدّم تعالى : الشق الأول - وهو الإصلاح - فقال« فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »، مضافاً إلى أن الفيء أحب إليه تعالى لأن الطلاق أبغض الحلال، فإذا عزم على الرجوع دفع الكفارة ورجع إليها .

3 - وإن لم يجدا حلاًّ وأرادا الانفصال فيطلق الزوج زوجته وعليها عدة الطلاق الرجعي .

وأما قوله « أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» فإنَّ تعيين هذه المدة لأنَّها فترة كافية للتفكير والمراجعة، ولأن في الزيادة على هذه المدة مشقة على الزوجة بترك المباشرة، ولذا كانت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، وقد ذكرت هذه الحكمة في بعض الروايات . فعن الإمام الجواد علیه السلام : فإنَّ اللَّه شرط للنساء شرطاً وشرط عليهن شرطاً - إلى أن قال - فلم يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء، لعلمه تبارك وتعالى أنَّه غاية صبر المرأة عن الرجل، وأما ما شرط عليهن : فإنَّه أمرها أن تعتدَّ إذا مات عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه في حياته . . . الحديث(1).

ولذا قالوا بعدم جواز ترك المباشرة لأكثر من أربعة أشهر، وإن رجح بعض الفقهاء وجوب كون تلك المدة متعارفة لقوله تعالى «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ »(2)، وترك وطئها في هذه المدة خصوصاً إذا كانت شابة ليس معاشرة بالمعروف .

ص: 147


1- البرهان ج2، ص186 عن الكافي.
2- سورة النساء، الآية: 19.

ثم إن قوله« يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ »«من» بمعنى «على» أي يحلفون على نسائهم، وقد مرّ أن الحكم إذا تعلق بالذات فإنَّما يراد منه الفعل المقصود منها، وهنا الحلف تعلق بالنساء والمراد مباشرتهن، وقيل لتضمين « يُؤْلُونَ » معنى البعد .

وأما تفصيل أحكام الإيلاء فليطلب من الكتب الفقهية .

السادس: هذه الآيات وصفت اللَّه تعالى تارة «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » وأخرى «وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ »، وثالثة «وَاللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »، وذلك من بلاغة القرآن وفصاحته مع ارتباط هذه الأوصاف بصميم الكلام أو الحكم المذكور في كل آية .

فأما الآية 224 حيث كانت للنهي عن جعله تعالى عرضة للأيمان فناسب التهديد بالمخالفة، فوصف تعالى بأنَّه سميع لما يلغون عليم بنياتهم الفاسدة، وهذا تهديد لهم مضافاً إلى دعوتهم إلى مراقبة أفعالهم .

وأما الآية 225 حيث كانت حول المؤاخذة أو العفو فناسبت وصفه بالغفور حيث لم يعاقب اللاغي ويقبل توبة المتعمد، ووصفه بالحليم أيضاً حيث لم يعاجل المتعمد بالعقوبة بل أمهله عسى أن يتوب، ويكون تقديم الغفور على الحليم من اللّفّ والنشر المرتب لأن اللاغي لا يؤاخذ، والمتعمد يمهل .

وأما الآية 226، فلأن الذي يرجع عن إيلائه ويصلح أمره مع زوجته فإنَّ اللَّه قد يغفر له ذنبه - ولا تخلو الخلافات الزوجية من ارتكاب البعض للمحرمات - أو لأنّ الإيلاء محرّم لكن اللَّه غفر له ذلك، وأنَّه تعالى حيث شرّع الرجوع فإنَّما هو لرحمته بهما . و اللَّه سبحانه العالم .

ص: 148

رابعا: العدة

الآية 228

«وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)»

228 - «وَالْمُطَلَّقَاتُ » كل المطلّقات إلّا ما استثني «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ »ينتظرن، أي يجب عليهن العدة «ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ »أي مدة ثلاثة أطهار، - طهر الطلاق، وطهران بعده فبمجرد انتهاء الطهر الثالث برؤية الحيضة الثالثة تنتهي العدة، «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ » من الولد أو الحيض «فِي أَرْحَامِهِنَّ »، أما كتمان الولد فلتقليل مدة العدة - لأن عدة الحامل وضع الحمل - أو درءاً من رجوع الزوج إليها لشفقته على ابنه، وأما كتمان الحيض بأن تدعي انتهاءه ودخولها في الطهر اللاحق لتنتهي العدة بسرعة، «إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ » بأنَّه حكيم فلم يشرع حكم العدة اعتباطاً ولا إضراراً بها، «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ » حيث الجزاء على الكتمان وما يستتبعه من تضييع الحقوق وارتكاب محرمات .

ص: 149

«وَبُعُولَتُهُنَّ » أي أزواجهن «أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ »بالرجوع إليهن، أحق منها فلا يحق لها الامتناع، وأحق من سائر الرجال الراغبين في زواجها«فِي ذَلِكَ » في زمان التربص العدة «إِنْ أَرَادُوا »أراد البعولة «إِصْلَاحًا»لا بقصد الإضرار بها لتطول المدة، « وَلَهُنَّ » للمطلقات في حال العدة من الحقوق على أزواجهن «مِثْلُ الَّذِي »لأزواجهن «عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ » أي ما يعرفه العقل والشرع، فلها النفقة والسكني وعليها عدم الخروج من المنزل وأمثال ذلك، «وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ » أي للرجل مزية أن الرجوع بيده لا بيدها،«وَاللَّهُ عَزِيزٌ » غيره يقدر على الانتقام ممن خالف الأحكام، «حَكِيمٌ » بتشريعه الأحكام لمصالحَ وحِكَم.

بحوث

الأول: إن تشريع الأحكام إنما هو لمصالح وحكم، ولم يشرع اللَّه تعالى الطلاق إلّا لضرورة هذا التشريع، وذلك لأن الحياة الزوجية قد تصل إلى طريق مسدود، فيدور الأمر بين فرض استمرارها بما فيها من استمرار للمشاكل الأسرية والاجتماعية وما قد يؤدي ذلك إلى المتاركة والانحراف، وبين السماح بالانفصال ليشق كل من الزوجين طريقه في الحياة وليختار من الأزواج ما هو أنسب له، ومن الواضح أن الفطرة والعقل يقتضيان الثاني .

ولا يخفى أن القرآن حثَّ على الزواج بشدة، قال تعالى «وَأَنْكِحُوا

ص: 150

الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ »(1)، ولم يأمر بالطلاق بل شرّع أحكامه فقط، ولذا سهّل أمر الزواج فلا يشترط فيه إلّا رضا الطرفين ورضا ولي أمر المرأة - في بعض الصور -، في حين أنَّه صعَّب أمر الطلاق فيجب فيه حضور شاهدين عادلین لقوله تعالی «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ »(2)، ولم يشترط حضور الشهود في الزواج نعم يستحب ذلك، كما لا يصح الطلاق في حال الحيض وفي الطهر الذي واقعها فيه، وكل ذلك تحديد للطلاق واستمهال للزوجين للتفكير في العواقب، كما جعل الإسلام العدة في الطلاق، ومدتها ليست بالقصيرة، مع إمكان الرجوع في العدة، كل ذلك لكيلا يكون الطلاق بمجرد انفعال نفسي ولإعطاء المهلة للتفكير ومداخلة المصلحين.

كما أن الطلاق هو آخر الدواء، فقبله تشريعات قد تساهم في حل المشكلة من جذورها، فبعضها يرتبط بالزوج کالوعظ والهجر والضرب، قال سبحانه «وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ »(3)، وبعضها يرتبط بالأقرباء قال تعالى «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا »(4) وبعد ذلك الرجوع إلى الحاكم الشرعي كما قال «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا »(5) ، وإن لم تنفع كل هذه الحلول فلا طريق آخر إلّا الطلاق أو استمرار حياةٍ زوجية تعيسة مع ما تستتبع من المشاكل،

ص: 151


1- سورة النور، الآية: 32.
2- سورة الطلاق، الآية: 2.
3- سورة النساء، الآية: 34.
4- سورة النساء، الآية: 35.
5- سورة المجادلة، الآية: 1.

ولذا شرّع اللَّه تعالى الطلاق مع أنَّه يبغضه وفي الحديث : (ما من شيء أحلّه اللَّه عزَّوجلَّ أبغض إليه من الطلاق)(1).

هذا مع أن الإسلام شرّع عدة أحكام تستلزم سعادة الحياة الزوجية، فلا تبقى مشاكل وفي ذلك حلّ لمشكلة الطلاق من أساسها، قال تعالى«وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ »(2). وقال سبحانه« لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » (3)كما حرّم النشوز وهو من أهم أسباب الخلافات الزوجية .

الثاني : قوله تعالى «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ».

هذا هو التشريع العام في التشريع العام في العدة ثم استثني من ذلك في أدلة أخرى الحامل، والتي لا تحيض، واليائسة، والصغيرة، وغير المدخول بها والأمة.

ودأب القرآن في التشريع هو ملاحظة الحالة الغالبة ثم تشريع حكم عام على ضوئها، ثم إخراج الحالات القليلة والاستثنائية بأدلة أخرى، وإنما يشرع الحكم العام لأجل الرجوع إليه في حالات الشك أو الفروض والصور الجديدة .

وحيث إن الطلاق عادة للزوجات المدخول بهن والحالة الطبيعية للنساء الشابات هو الحيض، وأما اليائسة فيندر طلاقها لأن المشاكل إن كانت توصل الزوجين إلى الطلاق فإنَّ ذلك يكون في بداية الحياة الزوجية

ص: 152


1- الكافي: ج6، ص 54.
2- سورة النساء، الآية: 19.
3- سورة الروم، الآية: 21.

أو في منتصفها عادة لا بعد بلوغ الخمسين والستين، وكذا يندر تحقق المشاكل بين الزوجين قبل الدخول، كما يندر عقد الصغيرة أو تحقق المشاكل في عقدها، وكذا يقل الزواج بالإماء، لأجل ذلك كلّه كانت الحالة العامة هو طلاق الحرائر الشابات المدخول بهنَّ اللاتي يحضن، فلذا جاء التشريع الأوليّ العام حسب الحالة الغالبة .

وأما قوله « يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ »، ففيه معنى منع النفس عن الرغبة في المباشرة، ولذا قيل: فيه بعث لهن على الصبر عن التزويج بقمع نفوسهن الطموح إلى الرجال(1)، حيث إن المطلقة قد ترغب في المباشرة لطول المدة أو أنَّها ترغب في التعجيل في الزواج برجل آخر لاعتبارها انقطاع عصمتها بزوجها الذي طلقها .

ثم إن قوله« يَتَرَبَّصْنَ »على صيغة الإخبار، فلأن الجملة الإخبارية أكد في الأمر والنهي من الجملة الإنشائية، فكأنَّ المكلف امتثل الأمر فصار يخبر عنه .

الثالث : قوله تعالى «ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ».

مادة «ق رأ» بمعنى الجمع، ومنه القراءة بمعنى جمع وهي من ألفاظ الأضداد تطلق على الحيض وعلى الطهر، أما الطهر فلجمع الرحم الدم وعدم قذفه، وأما الطهر فلجمع الرحم نفسه مما يؤدي إلى دفع الدم، وقيل: القرء هو اسم المركب منهما أي هو اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولذا لا يطلق على الدم المستمر ولا على الطهر الدائم وحيث إنه اسم للمركب جاز أن يطلق على كل واحد من أجزائه ،

ص: 153


1- الجوهر الثمين ج1، ص228.

کالمائدة التي هي اسم للسفرة وللطعام معاً ثم جاز إطلاقها على السفرة وحدها وعلى الطعام وحده(1).

و(القرء) في هذه الآية بمعنى الطهر، كما ورد تفسيره في روايات أهل البيت علیهم السلام ، فالقرء الأول هو الطهر الذي طلّقها فيه، ثم طهران، وتنقضي العدة بمجرد رؤية الدم بعد الطهر الثالث.

ثم إن الحكمة للعدة عدم اختلاط الأنساب باستبراء الرحم، كما يشعر به قوله تعالى «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ»مضافاً إلى المهلة بغية الرجوع، كما يشعر به قوله تعالى«وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ»، وأيضا لاستقرار الحالة النفسية للزوجة ليكون قرارها لمستقبل حياتها عن تروٍّ لا عن انفعال، ولولا العدة لاتخذ الزواج والطلاق ذريعة للزنی، ولعلّ ذلك كلّه من الحِكمة في تشريع العدة .

ولا يخفى أن المصالح في الأحكام إنما هي بملاحظة الحالة الغالبة ، فلا يقال بأن المرأة قد تكون عقيمة أو إن الزوجين قد لا يريدان الرجوع نهائياً أو نحو ذلك، وذلك لأن هذه الأسباب تراعي لتشريع حكم عام لكي لا تتخذ الأسباب ذريعة لمخالفة الأحكام، نعم قد تكون الحالات الاستثنائية كثيرة ولها جامع كليٌّ فقد يشرع حكم خاص لتلك الحالات.

الرابع : قوله تعالى «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ» .

حيث إن الطلاق هو نتيجة المشاكل والمنازعات، فقد يرتكب الزوجان بعض الذنوب تجاه بعضهما البعض، ولذا تمت في آیات متعددة

ص: 154


1- راجع مفردات الراغب: ص198.

توصيتهما بحفظ حدود الشرع بشكل عام، ثم التذكير بأهم تلك الذنوب والنهي عنها .

فقد تريد المرأة تعجيل انقضاء العدة، فلذا قد تكتم حملها ، لأن عدة الحامل هو إلى وضع حملها، ولو كان الحمل في أوائله لا يظهر لأحد، فلعلّها تريد انتهاء العدة في أقل من ثلاثة أشهر - لأن الأقراء الثلاثة قد تنتهي خلال شهر أو شهرين، ولا تتعدى الأشهر الثلاثة عادة - فلذا قد تكتم حملها لتتمكن من الزواج بسرعة، وفي ذلك مخالفة عظيمة حيث يستلزم نسبة الولد إلى غير أبيه وإلى الزني لبطلان زواجها الثاني لأنَّه في العدة، وإلى تضييع حق الزوج في الرجوع .

وقد تكتم الحمل لأنَّها لا تريد رجوع زوجها إليها فقد يرجع إليها لو علم بحملها شفقة على ولده منها .

وقد تريد المرأة التعجيل في انقضاء العدة أو إبطال حق الزوج في الرجعة أيضاً بإخفاء الحيض، مثل أنَّها تحيض عشرة أيام لكنها تدعي بعد ثلاثة أيام انتهاء حيضها وشروع الطهر الجديد، وفي ذلك تسريع لانقضاء العدة.

الخامس : قوله تعالى: «إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».

فيه زجر شديد وتهديد للكاتمات، وتحريض وحث على مراعاة الدين حتى في مثل هذه الظروف العصيبة، فإنَّ الكثير من الناس حينما تسيطر عليهم القوة الغضبية أو الرغبة الجنسية يستولي عليهم الشيطان فالرغبة في الانتقام تنسيهم ذكر اللَّه تعالى، لذا استوجب التذكير باللَّه وباليوم الآخر وهذا الكتمان إما بداعي الانتقام من الزوج أو للرغبة في سرعة

ص: 155

الزواج، لكن عليها أن تخشى اللَّه تعالى وعقابه يوم الجزاء فلا تدع الغضب أو الرغبة تخرجها عن أحكامه تعالى .

فلو علمت هذه المطلّقة : بأن اللَّه لم يشرع الحكم للإضرار بها بل للمصلحة العامة - وفي ذلك مصلحتها أيضاً -، وأنَّه يعاقب العصاة في يوم الجزاء، لكان علمها رادعاً قوياً لها عن الكتمان وعن سائر المعاصي.

وهذا الشرط للحث على التقوى وليس له مفهوم، نظير قوله تعالى «وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا »(1) .

ثم إنه استفيد من قوله تعالى «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ » قبول قولها في ادعائها الحمل أو الحيض، للملازمة العرفية بين النهي عن الكتمان وبين قبول قولها، وهذا على الأصل من حمل فعل المسلم وقوله على الصحة ، وحيث إن ذلك لا يعرف إلّا من جهتها كان قولها مسموعاً. وفي الحديث : (فوّض اللَّه إلى النساء ثلاثة أشياء: الطهر والحيض والحبل)(2)، نعم لو كان ادعاؤها خلاف المتعارف لزم التثبت، كأن تدعي انتهاء العدة خلال ستة وعشرين يوماً، وهذا أمر غير متعارف وإن كان ممكناً (بأن طلقها في الطهر - وهو الطهر الأول -، ثم حاضت بعد الطلاق مباشرة وكان حيضها ثلاثاً ثم طهرت طهراً ثانياً عشراً - لأن أقل الطهر ذلك - ثم حاضت ثلاثاً ثم طهرت طهراً ثالثاً عشراً ثم حاضت)، وروي أن امرأة ادعت أنَّها حاضت في شهر واحد ثلاث حِيَض، فقال

ص: 156


1- سورة النور، الآية: 33.
2- تفسير القمي ج1، ص74.

أمير المؤمنين عليه السلام : كلّفوا نسوة من بطانتها، إن كان حيضها فيما مضى على ما ادعت، فإنَّ شهدن صدقت، وإلا فهي كاذبة(1).

السادس : قوله تعالی«وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ».

اختيار كلمة (البعل) دون الزوج، لخصوصية في البعل، فلا يكون الرجل بعلاً للمرأة حتى يدخل بها ، وذلك أن البعال هو الملاعبة(2) وأصل الكلمة إما الارتفاع أو القيام بالأمر، وكلاهما مناسب لحكم الرجوع.

وقوله «أَحَقُّ » بمعنى له الحق في ذلك دون غيره، فالكلمة منسلخة عن التفضيل كقوله « فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ»(3)، وهذا الحق له دونها، فهي لا تتمكن من الرجوع إذا شاءت، وكذا لا حق لسائر الرجال في زواجها، وإنما جاء بصيغة أفعل التفضيل درءاً لتوهم وجود الحق لها أو لغيره، وهذا استعمال شائع حين توهم وجود أصل الفعل في كليهما.

وقوله « بِرَدِّهِنَّ» للدلالة على أن الرجوع ليس بزواج جديد بل هو الزواج السابق نفسه، ولذا قالوا بأن المطلقة الرجعية زوجة ولها جميع أحكام الزوجة من النفقة والمسكن وغير ذلك إلّا فيما استثني.

السابع : قوله تعالى « إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ».

وهذا الشرط أیضاً لا مفهوم له، بل هو حثٌّ على أن الرجوع ينبغي أن يكون بقصد الإصلاح، لا للإضرار كما قال تعالى «وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا

ص: 157


1- البرهان ج 2، ص192، عن التهذيب.
2- راجع معجم فروق اللغة ص 104 .
3- سورة التوبة، الآية: 13.

لِتَعْتَدُوا »(1) كأن يريد أن يؤذيها بتطويل مدة العدة وبتجديد المنازعة، فيطلقها ثم قبل انتهاء العدة يرجع إليها ثم يتركها فترة ثم يطلقها وهكذا .

والحاصل أن الآية في مقام بيان الحكم التكليفي وهو جواز الرجوع في العدة، لا في بيان الحكم الوضعي ببطلان الرجوع إن كان بقصد الإضرار، فالرجوع للإضرار مبغوض لكنه رجوع صحيح، وإنما صححه اللَّه تعالى لأجل عدم معرفة الناس بالنوايا فهل رجع للإصلاح أم للإضرار؟ فلذا صحّ الرجوع بأية نية كانت لكنه إن كان قصد الإضرار فقد ارتكب إثماً يستحق عليه العقوبة .

الثامن : قوله تعالى « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ».

ضمير (لهن) يرجع إلى المطلّقات، فليست الآية بصدد بيان حقوق الزوجين أو حقوق الرجال والنساء بشكل عام، بل هي بصدد بيان حقوق المطلّقات فلذا فالظاهر أن المراد ما في تقريب القرآن : ومن المحتمل أن يكون « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ»بيان حال العدة، أي إن لكل من الزوج والزوجة حقّاً على الآخر في حال العدة، مع أن الرجل له فضيلة على المرأة بأن الاختيار إلى الزوج فقط (2)أي الاختيار في الرجوع، فالمعنى أن حقوق الزوجة وحقوق الزوج لم تنته بالطلاق بل تستمر تلك الحقوق إلى انتهاء عدة الطلاق الرجعي كالنفقة والمسكن وجواز المباشرة - وبالمباشرة يتحقق الرجوع أيضاً - وغير ذلك من الحقوق .

ف «مِثْلُ» ليس بمعنى التساوي بل بمعنى المشاركة في أصل الحق

ص: 158


1- سورة البقرة، الآية: 231.
2- تقريب القرآن ج1، ص252.

كي لا يتصور الرجل بانتهاء وظيفته تجاهها كدأب بعض الرجال، ولذا قدم حقها فقال سبحانه « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ» .

نعم من أدلة أخرى ثبت اشتراك جميع الناس في الأحكام - تكيفية كانت أم وضعية - والاستثناء بحاجة إلى الدليل، وقد تكون الحقوق المتبادلة مختلفة من حيث الماهية بحس من حيث الماهية بحسب مقتضى الوظائف، كحق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، وحقوق الجاهل والعالم، والأقرباء بعضهم على بعض، فالحقوق متبادلة لكن لكلٍّ حق ينسجم مع عمله أو طبيعته. قال أمير المؤمنين علیه السلام : (إن لي عليكم حقّاً ولكم عليًّ حقٌّ . . . وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب ، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين أمركم(1)، وقد تعارف اصطلاح الحقوق والواجبات، فقالوا - مثلاً - واجبات الناس تجاه الحكومة يقابلها حقوقهم عليها .

التاسع : قوله تعالى «بِالْمَعْرُوفِ» .

تكررت كلمة المعروف اثنتا عشرة مرّة في هذه الآيات (228 - 242) التي تتحدث عن الحالات الزوجية، من الطلاق والرضاع والإنفاق ونحوها، وذلك لقوة النوازع النفسانية في الخروج عن الاعتدال، وكذلك لانتشار عدم المعروف بين مختلف الأمم في الأمور المتعلقة بالمرأة، فجاء القرآن ليؤكد على مقولة (المعروف) وأن جميع التعاملات يجب أن تكون منسجمة مع روح الإنسان وجسمه .

إذ (المعروف) هو ما تقبّلته الفطرة فعرفه العقل وأمر به الشرع، وليست العادات والتقاليد من المعروف إلّا إذا انسجمت مع الفطرة .

ص: 159


1- نهج البلاغة، خطبه:216

فمن الغريب تفسير المعروف بعادات الناس مع العلم بأن عاداتهم - وطوال التاريخ - كانت ولا زالت تخالف الفطرة والعقل والشرع إلّا القليل ممن التزم بالشرع الأقدس، فالمجتمعات البشرية بين تفريط في حقها كإنسانة، فيتعاملون معها كالرقيق، وبين إفراط في تجاوز الحد كما دأب عليه الغرب، وهذا في الحقيقة استعباد لها بطريقة أخرى بالإباحية والاتِّجار بها، فهو إرجاعها إلى هضم حقها ولكن بشعارات التساوي والحرية ونحو ذلك، ولذا لا توجد في واقع مجتمعاتهم ذلك التساوي المزعوم إلّا حالات هي أشبه بالديكور، وكانت النتيجة الاستغلال الجنسي وانتشار الرقيق الأبيض حسب تعبيراتهم أنفسهم، وتهديم الأسرة وانتشار الأمراض الجسمية والنفسية، ولتفصيل البحث في ذلك موضع آخر.

والحاصل أن اللَّه بحكمته ولانتظام شأن الخلق ولاستمرار الناس خلق الإنسان ذكر وأنثى، وجعل تكوين كل واحد منهما يناسب المهمة الموكلة إليه، ولذا اختلفت أعضاء ونفسيات الجنسين، وكان التشريع متطابقة للتكوين لا تفاوت بینهما.

العاشر: قوله تعالى«وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ».

إنما عبر ب(الرجال) دون الأزواج، لأن الأحكام الخاصة بالرجل في الزواج والطلاق والرجوع ونحوها ترتبط بكونه رجلاً.

والمقصود - كما ذكرنا - أن حقوق الزوجية من كلا الزوجين تستمر في فترة العدة ولكن مع تخصيص الرجل بحكم - وهو أن الرجوع بيده لا بيد الزوجة -.

ص: 160

وذلك لأن كل اجتماع إذا أراد أن يكون ناجحاً مستقراً لا بد له من مدير، ولا يصح إيكال الأمر فوضى، فللدولة حاكم، وللمؤسسات مدیر، قال أمير المؤمنين عليه السلام (لا بد للناس من أمير بَرّ أو فاجر)(1)أي نظم المجتمع بالحاكم لا بالفوضى فإنَّها أسوأ من الحاكم الجائر، ولابدّ أن تكون للمدير مزية أي سلطة يتمكن من تنفيذ ما يرتبط بجهات الإدارة .

والأسرة مؤسسة اجتماعية صغيرة، تتكون من زوج وزوجة ثم أولاد، فلا بد لها من مدير له صلاحيات، ولا يصح ترك الأسرة من غير مدير للزوم اتخاذ القرارات دائماً، كما لا يصح جعل المرأة هي المدير لغلبة العاطفة عليها ولانقطاعها عن المجتمع غالباً ولانشغالها بمسائل المنزل عادة، والرجل هو الأنسب للقيام بهذه المهمة، ولذا قال تعالى «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا »(2)فقد فضّل اللَّه المرأة على الرجل بعاطفتها التي تناسب تربية الأولاد وفضّل الرجل على المرأة بقوته وتعقله فناسب أن يكون هو المدير، مضافاً إلى أن النفقة واجبة على الزوج فيكون في مقابلها القيمومة، لتبادل الحقوق والواجبات - كما ذكرنا -.

وحيث كان هذا التكوين ثم التشريع بقدرة اللَّه وبعلمه بالمصلحة، كما أنَّه يعاقب المخالف، لذلك ختمت الآية بقوله تعالى «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »

ص: 161


1- نهج البلاغة، الخطبة 40.
2- سورة النساء، الآية: 34.

خامسا: مرّات الطلاق

الآيتان 229 - 230

«الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)»

«فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)».

229 - وحيث انتهى الأمر إلى الرجوع عن الطلاق، بینت هذه الآية أن مرات الرجوع ليست إلى ما لا نهاية : ف-«الطَّلَاقُ »الذي يجوز فيه الرجوع «مَرَّتَانِ»، وبعد كل منهما « فَإِمْسَاكٌ » بالرجوع «بِمَعْرُوفٍ» بالعشرة الحسنة لا بقصد الإضرار بها لتطول العدة ، « أَوْ تَسْرِيحٌ»وذلك بالطلاق الثالث « بِإِحْسَانٍ» بإعطائها حقها وعدم إيذائها، « وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ »أيها الأزواج «أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ»من المهر وسائر الهبات « شَيْئًا » ولو قليلاً «إِلَّا » في طلاق الخلع

حيث تكرهه أو طلاق المباراة حيث يتكارهان ب-«أَنْ يَخَافَا » لأجل الكراهة بينهما «أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ»أي ما شرّعه في النكاح من

ص: 162

حقوق، « فَإِنْ خِفْتُمْ» أيها الحكّام الذين تريدون فصل قضايا الأزواج « أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا » على الزوجين «فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ » بذلته كفدية لخلاص نفسها، فيجوز للزوجة الاقتداء ويجوز للزوج أخذه ، «تِلْكَ »الأحكام المذكورة المرتبطة بالزوجين«حُدُودُ اللَّهِ »أحكامه - أوامره ونواهيه - «فَلَا تَعْتَدُوهَا » لا تتجاوزوها بالمخالفة «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ »يظلمون أنفسهم ويظلمون الآخرين.

230 - حيث ذكرت الآية السابقة أحكام المرتين - بجواز الرجوع وبجواز التسريح - جاءت هذه الآية لبيان حكم الطلاق الثالث «فَإِنْ طَلَّقَهَا » للمرة الثالثة «فَلَا تَحِلُّ »الزوجة «لَهُ » للزوج «مِنْ بَعْدُ» الطلاق الثالث « حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا » الزوج الثاني «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا »هي والزوج الأول «أَنْ يَتَرَاجَعَا » بعقد جدید بعد انقضاء عدة الثاني «إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ»أي الحقوق الزوجية التي شرّعها اللَّه « وَتِلْكَ »الأحكام المذكورة «حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » فإنَّهم المنتفعون بهذه الأحكام أما الجهال فلا تهمهم المخالفة.

بحوث

الأول : قوله تعالى «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ».

حيث كان البعض يطلق ثم قبل انتهاء العدة يراجع وهكذا يكرّر

ص: 163

الطلاق والرجوع للإضرار بالزوجة، درءاً لهذا الإضرار مع فسح المجال للزوجين للرجوع بعد الطلاق - حيث قد يندمان ويقرران إصلاح ما فسد بينهما - لذلك شرّع تعالي الرجوع لمرتين فقط، حتى إذا قصد الزوج الإضرار لم يتمكن من الإسفاف فيه، وحتى إذا أراد الإصلاح أمكنه الرجوع.

فلذا يجوز له الطلاق والرجوع ثم الطلاق ثانياً والرجوع بعده ، وحيث إن أحكام هذين الطلاقين متحدة لذلك جمعهما معا فقال تعالى «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ»، وأما الطلاق الثالث فينفرد بأحكام خاصة به ولذلك أفرده بآية أخرى حيث قال «فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ ...»الآية .

وفي قوله «مَرَّتَانِ»دلالة على عدم إمكان الجمع بين الطلاقين بلفظ واحد، لأن معنى المرتين هو مرّة بعدة مرّة، فيكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق لا الجمع، نظير قوله تعالى «سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ »(1)، «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ »(2)، « أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ »(3)، فلو جمع بلفظ واحد كأن يقول أنت طالق مرتين أو أنت طالق ثلاثة لم تقع إلّا طلقة واحدة، وهذا كان الجاري على عهد الرسول صلی اللَّه علیه وآله وبه صرّح الأئمة علیهم السلام ، وأما إمضاء الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد فهو من البدع التي استحدثت بعد وفاة الرسول صلی اللَّه علیه وآله .

الثاني : قوله تعالى «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ».

أي شرّع اللَّه تعالي الرجوع بعدهما أو الطلاق الثالث، فحيث إن

ص: 164


1- سورة التوبة، الآية: 101.
2- سورة الإسراء، الآية: 4.
3- سورة القصص، الآية: 45.

الشرع أراد إبقاء الحياة الزوجية، ولأنَّه قد يندم الزوجان ويحاولان إصلاح الأمر بينهما بعد أن ذاقا مشاكل الطلاق، والتجربة علم مستحدث، فلذا شرّع للزوج الرجوع إلى عش الزوجية، وقد رأينا زيجات مليئة بالمشاكل الزوجية حتى إذا انتهى الأمر إلى الطلاق، فافترق الزوجان وجرَّبا المشاكل الأسرية والاجتماعية والنفسية للطلاق، وخاصة ما يتعلق بضياع الأولاد، ودخل المصلحون للإصلاح، عند ذلك يشعر كل من الزوجين بالخطأ في تصرفاتهما أو العبثية في العناد أو وطنَّا نفسيهما بالصبر و تحمل بعضهما البعض.

وقد لا تكون المرة كافية في التنبيه فلذا شرّع الطلاق والرجوع ثانياً، ولكن قد لا يحصل الانسجام أو الصبر في المرة الثانية، لذا شرّع الطلاق للمرة الثالثة مع عدم إمكان الرجوع درءاً لقصد الزوج للمضارة، وكذا التشريع نکاحها بزوج آخر- وسيأتي البحث عنه -.

وأما قوله «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ»فهو الرجوع بالعشرة الحسنة وعدم قصد الإضرار، وقد مرّ أن (المعروف) هو ما يستحسنه العقل والشرع، والرجوع بقصد الإضرار أمر منكر، ولذا أمر تعالى بالإمساك بالمعروف الا بالمنكر.

وأما قوله «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ » فالمراد به الطلاق للمرة الثالثة - كما فسرته الروايات(1)-، فالمعنى أنَّه حيث طلقها طلاقاً ثالثاً ولا أمل بالرجوع فلا يؤذيها ولا يحاول الانتقام منها ، بل يسرحها سراحاً جميلاً ، فالإحسان إليها هو بأداء حقوقها بل وزيادة جبراً لخاطرها المكسور.

وقد يقال « تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ » له معنى أعم أي الطلاق مرتان وفي

ص: 165


1- راجع البرهان ج2، ص199 - 198.

هاتين المرتين إما أمسكوهن بمعروف بالرجوع إليهن وحسن العشرة معهن وإما سرحوهن بإحسان وذلك قد يكون بترکهن حتى تنقضي عدتهن وقد يكون بإطلاق الثالث الذي لا رجعة فيه ، فيكون ما في الروايات - من تفسيره بالطلاق الثالث تفسيرة بالمصداق -، فتأمل.

ثم إن التسريح في هذه الآية « تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ »وفي الآية 231 «سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف»، ولعلّ الفرق أن هذه الآية في الزوجة التي يراد تطليقها فيكون الإحسان - وهو الزيادة على الحق - مطلوباً بالنسبة إليها جبراً لخاطرها المكسور، وأما الآية الثانية فهي التي انتهت عدتها أو قاربت الانتهاء - وقد أخذت حقّها وأحسن إليها فيما مضى من أيام العدة - والمطلوب في وقت الانتهاء إخراجها من البيت فقط عادة فليكن ذلك الإخراج بطريقة مناسبة معروفة، ولا معنى للتعبير عن ذلك بالإحسان، فتأمل.

الثالث : قوله تعالى «وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ».

سواء كان مهراً أم هبة، أما المهر فهو حقها ثبت لها بالعقد، واستثني من ذلك ما لو طلقها قبل المسّ فيجب نصف المهر إن كانا قد عيّناه وإلّا وجب التمتيع وذلك حسب دلالة الآيتين، وأما الهبة فلإطلاق هذه الآية وقد استدل بذلك في بعض الأخبار(1).

ثم إن الجمع في «تَأْخُذُوا » إما للقضاة لأنَّهم يأمرون بالأخذ أو پنهون عنه، وإما للرجال الأزواج. ولا يخفى أنَّه كلّما كان التكليف متوجهاً إلى الزوجين جميعاً جاء الضمير للتثنية باعتبار الزوج والزوجة ، وكلّما كان للأزواج فقط جاء الضمير بالجمع باعتبار مجموع الأزواج.

ص: 166


1- راجع البرهان ج2، ص199.

وقوله«شَيْئًا »فيه إشعار بأن حقها المالي - حتى وإن كان قليلاً - يجب إعطاؤها إياه، بل الحق القليل ما دام حقاً حتى وإن لم تكن له مالية فإنَّه محترم يجب إيصاله إلى صاحبه، قال تعالى « وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ »(1)، أي لا تمسكوهن ضراراً لتأخذوا المهر، فقد كان الرجل يبقي على زوجته بلا نفقة يريد بذلك جبرها على أن تفتدي بمهرها مقابل إطلاقه لها، وقال تعالى « وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا »(2).

الرابع : قوله تعالى «إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ».

أصل الأشياء، هو إقامة حدود اللَّه تعالى عبر الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، فلذا لو تعارضت الحياة الزوجية مع حدود اللَّه تعالى فإنَّ الترجيح للحدود، فإنَّ جميع قوانين تنظيم الحياة - ومنها الأمور الزوجية - إنما هي طريق لتحقيق مرضاة اللَّه تعالى عبر الالتزام بها، فلا قيمة لها لو تعارضت مع مرضاته تعالى، والزوجان إنما يخافان ألَّا يقيما حدود اللَّه للتباغض بينهما وحينئذٍ تقوی دواعي المخالفة لسيطرة القوة الغضبية.

وبعبارة أخرى : إن اللَّه تعالى إنما يبغض الطلاق لما فيه من المشاكل والتبعات، لكن لو كان في استمرار الحياة الزوجية مشاكل أكثر فيدور الأمر بين السيِّئ والأسوأ، فيدرأ الأسوأ بالسيِّئ.

الخامس: قوله تعالى« فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ».

أي بذلته كفدية لخلاص نفسها، ومن المعلوم أن ذلك لا يكون إلّا

ص: 167


1- سورة النساء، الآية: 19.
2- سورة النساء، الآية: 20.

مع کراهتها له، فإن كرهها الزوج أیضاً كان طلاق المباراة، وإن لم يكرهها كان طلاق الخلع.

ولا حدّ لهذه الفدية سواء كانت بمقدار المهر أم أقل أم أكثر، الإطلاق قوله تعالى «فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ »، نعم في طلاق المباراة بشرط أن لا يكون الفداء أكثر من المهر وذلك لتقييد هذا الإطلاق بالأخبار الخاصة .

ولعلّ تشريع الإفتداء لأجل أن لا يكون عدم قدرة الزوج على دفع المهر عائقاً عن الانفصال فيؤدي ذلك إلى مضارة الزوجة وتركها کالمعلّقة.

وأما عدم تحديد الفداء في الخلع دون المباراة، فلعلّه لأجل أنَّها إن كانت هي الكارهة له دونه فقد يكون في هذا الانفصال ضرر على الزوج فعدم تحديد مقدار الفداء - وذلك عبر إرجاع ما دفعه من المهر أو إسقاطه مضافاً إلى زيادة - ليتمكن الزوج من تعويض ما خسره بالطلاق، وإن كان الكره منهما فكلاهما يريد التخلص من الآخر فلا وجه لأن تتحمل الزوجة ضرراً أكثر من الزوج بل ترجع له المهر أو أقل منه فقط.

وأما قوله « فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا » فلأن الخلع والمباراة بحاجة إلى رضا الطرفين، فلا جناح على الزوجة بالاقتداء ولا جناح على الزوج في أخذه، فعدم الجناح عليهما يفيد الإباحة للطرفين.

السادس : قوله تعالى «فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ ...»الآية .

بعد أن ذكر اللَّه تعالى الطلاق الثالث بقوله « تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ »أراد تعالی بيان أحكامه التي ينفرد بها عن الطلاق الأول والثاني، وهو أن هذا الطلاق لا رجعة فيه، وعن ابن فضال قال : سألت الرضا عليه السلام عن العلة

ص: 168

التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنکح زوجاً غيره؟ فقال عليه السلام : ... ولدخوله فيما كره اللَّه عزَّ وجلّ من الطلاق الثالث حرّمها عليه، فلا تحلّ له حتی تنکح زوجاً غيره، لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق، ولا يضاروا النساء(1).

بين الإمام عليه السلام أن الحكمة في عدم إمكان المراجعة بعد الطلاق الثالث هو درء المضارَّة بأن يطلقها ويرجع إلى ما لا نهاية لتطول مدة کونها کالمعلّقة مع عدم تحمل الزوج المسؤولية عنها باعتبارها معتدّة ، مضافاً إلى عقوبة الزوج بتكراره ما يبغضه اللَّه تعالى، فإنَّه تعالى وإن أحلّ الطلاق لمصلحة أهم إلَّا أن بغضه للطلاق باق بحاله فتكرار الطلاق تكرار لما يبغضه اللَّه تعالی فاستوجب هذا الزوج أن يعاقب بذلك.

ومن فوائد عدم إمكان الرجوع هو فسح المجال للزوجة لكي تبني حياتها من جديد فلعلّها تجد زوجاً تنسجم معه من غير أن يكون هناك طريق للضغط عليها للرجوع إلى زوجها الأول.

ثم إنه تعالى لم يغلق الباب بالمرّة عليهما للرجوع بل أباح الرجوع لو طلقها الزوج الثاني، فلعلّ هذه التجربة تسبب رجوع الزوجين إلى رشدهما وقرارهما بحلّ المشاكل العالقة أو الصبر .

ثم إن هنا جملة من الأحكام ذكرها الفقهاء بالتفصيل في الفقه، ونشير إجمالاً إلى بعضها.

1- لو طلقها في المرة الأولى أو الثانية ولم يرجع إلى أن انتهت العدة، فلا تحسب هذه الطلقة من الثلاث، ولعلّ ذلك لعدم وجود

ص: 169


1- البرهان ج2، ص199 عن الفقيه.

المضارَّة فيها، حيث إنها بانتهاء العدة تتمكن من التزويج بمن شاءت ويتبيّن أن الزوج لم يقصد مضارتها بترکها کالمعلقة عبر الرجوع قبل انتهاء العدة ثم الطلاق من جديد.

2- لا يجوز في الزواج من الزوج الثاني اشتراط طلاقه منها لترجع إلى الأول ويكون هذا الشرط باطلاّ ، نعم لو كان بناؤهما الطلاق ولم يشترطا ذلك في العقد فلا بأس بهذا الزواج ويكون سبباً لتحليل الزوجة لزوجها الأول لو طلقها الزوج الثاني، لأن هذه النية لا أثر لها ولذا يمكن للزوج الثاني عدم الطلاق.

3 - يشرط في تحقق التحليل بالزواج الثاني أن يكون الزواج دائماً لا منقطعاً لقوله تعالى وحتى تنكح زوجا غيره فإن طلقهاه الآية، ونكاح المتعة لا طلاق فيه . كما يشترط فيه أن يطأ الزوج الثاني الزوجة فلا يكفي مجرد العقد، وفي الحديث : (حتی تنکح زوجاً غيره ويذوق عُسيلتها)(1).

ولعلّ سبب ذلك هو تقليل الطلاق فإن الزوجين إذا علما بعدم إمكان الرجوع بعد الطلاق الثالث إلَّا لو نكحها زوج آخر ووطئها، فلعلّهما يقرران حلّ مشاكلهما أو الصبر والتحمل لئلا ينجرَّ الأمر إلى الطلاق الثالث، هذا مضافاً إلى أن الزوجة قد تجد انسجاماً مع الزوج الثاني فتهنأ بحياتها الجديدة من غير أن يتمكن أحد من الضغط عليها للرجوع إلى زوجها الأول الذي لا تنسجم معه.

السابع : قوله تعالى «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ».

ص: 170


1- البرهان ج 2، ص202 عن الكافي.

أي لو طلق الزوج الثاني زوجته، فيجوز للزوج الأول الزواج منها لو ظنّا بأنَّهما يتمكنان من القيام بوظائفهما الشرعية .

وقوله «يَتَرَاجَعَا » بمعنى الزواج من جديد، وإنما عبر عنه بالتراجع باعتبار كونهما زوجين سابقاً فيرجعان إلى الحالة السابقة، وأما قوله وإن ظناه التعبير بالظن لأجل عدم العلم بما سيؤول إليه أمرهما فإنَّه لا يعلم الغيبإلَّا تعالى أو من أطلعه اللَّه عليه .

ثم إن هذا الشرط «إِنْ ظَنَّا ...» ليس شرطاً لصحة العقد بل هو بيان لحكم تكليفي، فإن لم يظنا صح الرجوع لكنه سبب للمعصية، فيكون نظير من غسل المتنجس بماء مغصوب فإن الحكم الوضعي - وهو الطهارة - يتحقق بهذا الغسل وإن كان مرتكباً معصية .

ويحتمل أن لا يكون للشرط في «إِنْ ظَنَّا » مفهوم، بل هو حث على مراعاة حدود اللَّه تعالى وترغيب في عدم الزواج إذا كان يؤدي إلى المحرمات فيكون الزواج مباحاً وإنما المحرّم هو عدم مراعاة الحدود بعد ذلك، وتفصيل حكم مقدمة الحرام والتعاون على الإثم يطلب من كتب الفقه وأصوله .

الثامن: قوله تعالى « يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ».

إنما خصهم بالذكر - مع أن الحكم عام - تشريفاً لهم، أو لأنَّهم هم المنتفعون بالأحكام، وأما الجاهل العاصي فلا ينتفع، قال تعالى « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ »(1).

ص: 171


1- سورة فاطر، الآية 28.

سادساً: ما بعد العدة

الآيتان 231 - 232

«وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)»

«وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)»

231 - «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ »طلاقاً رجعياً «فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» بأن اقترب انتهاء العدة « فَأَمْسِكُوهُنَّ» بالرجوع إليهن في العدة « بِمَعْرُوفٍ »من غير إيذاء لهن ومع أداء حقوقهن «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ » بعدم التعرض لهن حتى تنتهي العدة «بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا»بالرجوع لا بقصد الزوجية وبالتضييق عليهن في النفقة ليضطررن إلى هبة المهر خلعاً « لِتَعْتَدُوا »أي لتظلموهن في المعاشرة أو في ابتزاز مهورهن، «وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ » الإمساك بقصد الإضرار «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ». لأنَّه لا يحيق المكر السیِّئُ إلَّا بأهله، فيتضرر دُنیا بالشقاء والاضطراب وسوء السمعة، وآخرةً

ص: 172

بالعذاب، «وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ»أحكامه« هُزُوًا »بالاستخفاف بها كالمستهزىء الذي يظهر الإيمان لكنه لا يلتزم بلوازمه من العمل، «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»حيث أنعم عليكم بالأزواج لتسكنوا إليها ، فأدّوا شكر هذه النعم بالطاعة « وَ» كذلك اذكروا«مَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ » حيث شرّع الأحكام بصالحكم، حال كونه «يَعِظُكُمْ بِهِ»بواسطة ما أنزل عليكم، « وَاتَّقُوا اللَّهَ »حتى تنتفعوا بما أنزل، والمقصود أنكم حيث علمتم بنعمته التكوينية والتشريعية في الأزواج فاتقوه بترك معاصيه التي تؤدي إلى عقابه، «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » فإن هذه التشريعات إنما هي لعلمه بالمصلحة فيها وأن اللَّه يراقب أعمالكم فيجازيكم عليها .

232 - «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ » هنا بمعنى انتهاء العدة «فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ» أي لا تمنعوهن « أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ » من يردن الزواج منه سواء كان الزوج السابق أم رجلاً آخر «إِذَا تَرَاضَوْا » الأزواج والمطلّقات «بِالْمَعْرُوفِ»بما أباحه الشرع من شروط النكاح وآداب العشرة، « ذَلِكَ» الحكم بتحريم العضل « يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فإن المؤمن هو المنتفع بهذا الحكم فيؤثر رضا اللَّه على رغباته، « ذَلِكُمْ » الأحكام المذكورة في النكاح والطلاق «أَزْكَى لَكُمْ » أنفع فإن في الالتزام بها نموّ المجتمع بالصلاح «وَأَطْهَرُ»لقلوبكم من دنس الآثام « وَاللَّهُ يَعْلَمُ »فاتبعوا أحكامه «وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ »فلذا يعلمكم اللَّه لطفاً بكم ورحمة .

ص: 173

بحوث

الأول: كلتا الآيتين ابتدأتا بقوله تعالى«وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» ، والظاهر - بقرينة الروايات والسياق - أن الآيتين بصدد بيان أحكام حالتين :

1 - قبل انتهاء العدة الرجعية، فمعنى (بلغن) يكون القرب والمشارفة أي قاربن الأجل - وهو انتهاء العدة - وحينئذٍ فإن أراد الزوج الرجوع حقيقة مع القيام بالحقوق والوظائف جاز له ذلك «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ »، وإن

لم يرد الرجوع الحقيقي فعليه أن يسرحها بأن يتركها وشأنها حتى تنتهي العدة، لا أن يقصد الإضرار بها بأن يرجع إليها ثم يطلقها مرة أخرى لتعتدَّ من جديد، وهكذا ثلاث مرّات ليطوّل العدة عليها .

2 - بعد انتهاء العدة الرجعية، وحينئذٍ فالمرأة تملك نفسها وتتمكن من الزواج ممن شاءت، فلا يجوز منعها من الزواج الجديد سواء بزوجها السابق أم بزوج آخر .

أما دلالة السياق على أنَّهما حالتان ففي الآية الأولى القرار للزوج في قوله « فَأَمْسِكُوهُنَّ» « سَرِّحُوهُنَّ » « وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا»، وفي الآية الثانية القرار للزوجة في قوله أن ينكحن مع اشتراط رضاها في قوله « إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ » .

الثاني : قوله تعالى«وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ».

لأن اللَّه تعالى قدّر الزواج لأجل السعادة قال تعالى «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً »(1)، ثم شرّع سبحانه أحكاماً تنسجم مع ما قدّره تكويناً - لتطابق

ص: 174


1- سورة الروم، الآية: 21.

التكوين والتشريع کاملاً ، فكل إخلال بالأحكام الشرعية يوجب اضطراب الحياة كما قال سبحانه «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا»(1)، فالظلم يرجع وباله على الظالم نفسه قال تعالى «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ »(2)، فمن يقصد إضرار زوجته يعيش حياة قلقة مضطربة ويسيء إلى سمعة نفسه لدى الناس، مضافاً إلى أنَّه حرم نفسه من نيل الفضائل والعواطف الإنسانية النبيلة فهو ليس إلَّا كالأنعام بل أضلّ، هذا مضافاً إلى العقاب الأخروي وذلك هو الخسران المبين، وأما المظلوم فهو وإن حرم من بعض حقوقه لكن اللَّه تعالى ينتصر له في الدنيا بأن يعوضه في نفسه أو ذريته عمّا لاقاه من الظلم مضافاً إلى التفضل عليه بالثواب إن كان مؤمناً.

الثالث : قوله تعالى«وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ».

آياته هي أحكامه، لأنَّها تدل عليه تعالى، إذ العقل بالتدبر والتفكر في الأحكام الشرعية في مختلف الأبواب يستدل على أن المشرّع عالم بكل شيء حكيم، فشرّع ما ينسجم مع تكوين الإنسان بدقة متناهية، فنفس هذه الأحكام من علائم اللَّه سبحانه وتعالی.

ومن أظهر الإيمان باللَّه تعالى ثم خالف أحكامه، هو مستهزئ بها لأن قوله يخالف فعله وهذا دأب المستهزئين.

وعن أمير المؤمنین عليه السلام : من قرأ القرآن من هذه الأمة فدخل النار فهو ممن يتخذ آيات اللَّه هزوا(3).

ص: 175


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة فاطر، الآية: 43.
3- البرهان ج1، ص209، عن تفسير العياشي.

والحاصل : أن الإعراض عن الآيات والتهاون في العمل بها والاستخفاف بها ، هو استهزاء بآيات اللَّه تعالى .

ولا يخفى لطف الترتيب بين هذه المجموعة من الإرشادات :

فيجب أولاً التفكر في آياته تعالى وعدم النظرة إليها نظرة المستهزىء «وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا »ب، وذلك يسوق الإنسان إلى معرفة المنعم ونعمه «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...»، والمعرفة تستلزم الاعتبار والاتِّعاظ «يَعِظُكُمْ بِهِ »، والاتِّعاظ سبب التقوى بالطاعة والامتثال«وَاتَّقُوا اللَّهَ».، ثم بالخشية من عذاب الآخرة « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ ...» .

الرابع : قوله تعالى «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...»الآية .

إن ذكر النعمة توجب قبول قول المنعم، وحيث إن اللَّه تعالى أنعم عليكم بالزوجة لتكون سكناً وترفع حوائجكم، ثم أنزل عليكم الأحكام الشرعية التي هي بصلاحكم، فقابلوه تعالى بالشكر العملي بامتثال أوامره .

وقوله « نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»تكويناً وذلك بخلق الأزواج وتهيئة الجسم والنفس لذلك، فهناك دقة في وظائف الجسم والنفس بين الزوجين، وقوله «وما أنزل عليكم تشريعاً، فالآية بصدد بيان نعمته تكويناً وتشريعاً .

أو أن « نِعْمَتَ اللَّهِ »عام شامل لنعمه التكوينية والتشريعية ثم أفرد الكتاب والحكمة بالذكر تشريفاً لهما فيكون من عطف الخاص على العام.

وقيل في الفرق بين «الْكِتَابِ »و«الْحِكْمَةِ » وجوه، منها: أن الكتاب هو الأحكام والحكمة هي المواعظ، أو القرآن والشريعة، أو

ص: 176

القرآن والسنة، أو ظاهر الشرع وباطنه، أو العطف تفسيري فالحكمة مفسرة للقرآن ، . . . إلخ .

الخامس : قوله تعالى «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ».

اتقوه حتى تنتفعوا بهذه الأحكام التي أنزلها عليكم، وكأن كل ما سبق بيانه من الأحكام كالمقدمة لهذا الأمر، لأنَّه الغرض من الخلقة «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(1)، وقد مرّ أن التقوى من الوقاية، وهي حفظ النفس من المكروه، فالمعنى احفظوا أنفسكم من المعاصي، أو احفظوها من العذاب وذلك بترك المعاصي .

وأما قوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » فهو كالعلة للأحكام السابقة، أي إن كل تلك الأحكام صحيحة ومطابقة للحكمة، لأن المشرّع هو العالم بكل شيء، فلا يفوته ما يصلحكم وما يضركم، كما يعلم بحاجاتكم وبتكوينكم، ولذا شرّع هذه الأحكام فالتزموا بها .

هذا مضافاً إلى اشتمال الآية على التهديد إن خالفوا، فاعلموا أنَّه رقيب عليكم ويعلم تصرفاتكم، وسيجازيكم عليها .

السادس : قوله تعالى « ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ »

(العضل) هو الشدة والمنع، والمعنى أنَّه بعد انتهاء العدة تملك المرأة أمر نفسها فلا يحق لأحد أن يمنعها من الزواج - سواء من زوجها السابق أم من سائر الأزواج - .

ص: 177


1- سورة الذاريات، الآية: 56.

وفي الآية دلالة على عدم ولاية أحد على الثيّب، بل لا يحق لأي أحد منعها من الزواج ممن ترغب لأن النهي «فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ »عام يشمل الأقرباء وغيرهم ولذا قال «أَنْ يَنْكِحْنَ ».

فإن بعض الأزواج حتى بعد طلاق زوجاتهن يريدون الانتقام منهن، فيستعملون نفوذهم الاجتماعي لمنع الخُطّاب، أو بإثارة الشائعات ضد الزوجة، أو ببيان عيوبها للناس، وكل ذلك يؤدي إلى عزوف الخُطّاب عن نكاحهن.

كما أنَّه قد يندم الزوج فيريد أن يرجع إلى زوجته السابقة، وهي ترغب في ذلك أيضاً ، لكن بعض أقرباء الزوجة لا يريدون ذلك لسخطهم على الزوج فيمنعون من هذا الزواج.

فالحكم هو أن تراعي رغبة الزوجة لا رغبة غيرها، فهي التي تريد أن تتزوج وتعيش مع من ترضاه، فيلزم أن لا تكون رغبات الآخرين وحالاتهم النفسية - من الانتقام والسخط - مانعاً عن سعادة الزوجة.

كما أن الآية تدل على اشتراط رضا المرأة في الزواج فقال «إِذَا تَرَاضَوْا»فلا يجوز تزويجها من غير رضاها، كأفعال أهل الجاهلية، فهي إنسانة لها رغبات وعواطف، وتزويجها بغير رضاها سبب عادة لعدم حصول الانسجام بينها وبين زوجها، وفي ذلك تحطيم لحياتهما .

السابع : قوله تعالی « ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ».

أما كون الأحكام المذكورة (أزکی) - والزكاة من النمو - فلأنَّها قوانین بصالح المجتمع، والمجتمع التي تكون قوانینه صالحة ويعمل بها مجتمع في تطور ورقي فتتفتح القابليات وتنمو المواهب والاستعدادات .

ص: 178

وذلك لأن القوانين إنما جعلت لتنظيم أمور الحياة، ولكن قد تكون قوانين وضعية كابتة للحريات مقيدة للناس فتكون تلك القوانين عائقاً أمام تطور المجتمع وبها تقمع الحريات وتؤدي إلى الخمول وعدم إمكان التقدّم والرقي، قال تعالى «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ »(1)، فالرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم ألغى جميع القوانين الكابتة والعادات الضارَّة التي كانت تعيق حركة المجتمع، وعوضها بقوانين تنسجم مع تكوين الإنسان وفطرته .

وأما كونها (أطهر) فلأن تطبيق هذه القوانين سبب لعدم الوقوع في الأدناس المادية والمعنوية فهذه القوانين متطابقة من موازين الأسرة وفيها تحصين للمرأة وللرجل عن الزني، لأن تركها كالمعلّقة أو عضلها بيئة سيئة للفساد، كما أنَّها أطهر للنفوس، فإن النفس المؤذية التي تريد الانتقام وتنساق للسخط هي نفس مريضة .

ص: 179


1- سورة الأعراف، الآية: 157.

سابعاً: أحكام الرضاع

الآية 233

«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)»

233 - وقد يكون للمطلّقة رضيع فناسب ذكر أحكامه بشكل عام«وَالْوَالِدَاتُ » حتى لو كنَّ مطلقات يحق لهن أن « يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ» سنتين« كَامِلَيْنِ » بلا نقيصة بالتسامح « لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ » من الأمهات، و«مَن» يراد به الوالدة، فليس إرضاع السنتين بواجب عليهن بل هو حق لهن إن شئن أخذن به، « وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ »وهو الأب « رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» أجرة على الرضاع « بِالْمَعْرُوفِ »المقدار الذي أمر به الشرع وهو اللائق بحالها - من نفقتها أو أجرة رضاعها ، هذا إذا تمكن منه الزوج وإلا فبالمقدار الذي يتمكن ف-« لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا» ما تقدر عليه من غير حرج، « لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا » بأن يضرها الأب بأخذ الولد منها قهراً، أو لا ينفق عليها ، أو يترك

ص: 180

مباشرتها رعاية للولد، وغير ذلك، « وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ »بأن تضرّ الأمُّ الأبَ بمنعه من الاستمتاع بحجة الولد، أو تمنع الوالد عن رؤية ولده ، أو تطلب النفقة أكثر من وسعه، « وَعَلَى الْوَارِثِ » وارث الأب إن مات « مِثْلُ ذَلِكَ » مثل ما كان على الأب فلا يحق له أن يضار الوالدة وعليه أن يرزقها ويكسوها من نصيب الرضيع من الإرث -.

ورضاعة الحولين ليست بواجبة بل المهم مراعاة مصلحة الرضيع « فَإِنْ أَرَادَا» الأبوان « فِصَالًا »فطم الرضيع « عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ »في مصلحة الرضيع « فَلَا جُنَاحَ » لا إثم « عَلَيْهِمَا »في هذا الفصال.

وإن أسقطت الأم حقها في الإرضاع أو طلبت أجرة أعلى، أو لم تتمكن منه لمرض أو جفاف لبن أو موت، وحينئذ« وَإِنْ أَرَدْتُمْ»أيها الآباء « أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ»أي تأخذوا مرضعة لهم « فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ» للمرضعة « مَا آتَيْتُمْ » لهنّ من الأجر « بِالْمَعْرُوفِ »بدون نقصان أجرتها ولا مطل ولا منّ، وذلك أدعى لها لمراعاة الولد« وَاتَّقُوا اللَّهَ» فالتزموا بهذه الأحكام المذكورة « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ »يشاهد أعمالكم فيجازيكم عليها .

بحوث

الأول : قوله تعالى «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»

سياق الآية في بيان حكم المطلّقات، ولكن حيث إنه لا فرق في

ص: 181

إحكام الأولاد بين الزوجة والمطلّقة، فلذا عممت الآية الكلام بقوله تعالی «وَالْوَالِدَاتُ».

والآية في صدد بيان حق الأم في إرضاع ابنها، وليست في مقام بیان الحكم التكليفي - من وجوب الإرضاع أو استحبابه -، فالمعنى أن الوالدات أحق بإرضاع أولادهن، فلا يجوز انتزاع الأولاد منهن وإعطاؤهم لمرضعة أخرى إذا تبرعت الأم بالإرضاع أو رضيت بما رضي به غيرها، وإنما جعل اللَّه هذا الحق لهنَّ رعاية لهنَّ ولأولادهنّ، فالأم أبّر بولدها من غيرها، ولبنها أوفق به من لبن غيرها، كما أن الطفل انس بها من غيرها ، وقد ثبت أن الإرضاع أفضل لنمو الطفل جسماً وعاطفة.

ويستفاد استحباب إرضاعهن من أدلة أخرى، بل قد يجب عليهن إذا لم يرتضعإلَّا من أمه، أو لم توجد له مرضعة، أو عجز الوالد عن الاستئجار، مع عدم وجود بديل كالحليب المجفّف - مثلاً -.

وتقييد الحولين ب-(الكاملين) لكثرة التسامح عرفاً في المقادير، وخاصة أنَّهم يلغون الكسور عادة فإن تجاوز الكسر عن النصف ألحقوه بالعدد الأكبر، وإن قلّ ألحقوه بالعدد الأقل، وحيث إن الأحكام المرتبطة بالرضاع ترتبط بالزمان الدقي لذلك قيّده بالكاملين لبيان أنَّه لا تسامح في هذا العدد.

والآية تدل على أنَّه لا رضاع بعد الحولين، فلذا لا يتبعه أحكام الإرضاع، فلا تجب نفقة الإرضاع بعد الحولين، ولا تتحقق المحرمیّة بهذا الإرضاع.

ولا يخفى انسجام التكوين والتشريع في كل شيء - كما مرّ مراراً -

ص: 182

والطفل لا يحتاج إلى الإرضاع بعد السنتين، بل قد يعيق ذلك نموّه العقلي والجسمي، فلذا كان الإرضاع بعد تمام الستين مكروهاً .

الثاني : قوله تعالى « لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ » .

الظاهر أن المراد ب-(مَنْ) الأم، أي إذا أرادت الأم إتمام الرضاعة فيكون تذكير «أَرَادَ »و« يُتِمَّ » باعتبار رجوع الضمير إلى (من) الموصولة .

ويحتمل أن يكون المراد به الرضيع، أي للرضيع الذي يريد الاستمرار في الارتضاع، وقيل : المراد به الأب أي إذا أراد الأب إتمام الرضاعة فللأم أیضاً الإرضاع، فتدل الآية على أن الحق بينهما - بین الأب والأم -، وهذا الاحتمال الثالث بعيد، لأنَّه للأمّ الحق في الإرضاع سواء رضي الأب أم لم يرضَ.

الثالث : قوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» .

بيان لأجرة الرضاع، فعلى الوالد أن يدفع أجر رضاعها إلى أن تنتهي الرضاعة في الحولين، فيكون قوله « رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» بيان لمصادیق الأجرة - من الطعام واللباس -، فإن كانت الأم مطلّقة بائنة وجب لها الأجرة فقط، وإن كانت زوجة فتستحق النفقة أیضاً مضافاً إلى الأجرة .

هذا إذا لم تكن متبرعة في الإرضاع، فالآية في صدد بيان حقها في الأجر، ولكنها يمكنها إسقاط حقها، كل ذي حق مالي يحق له إسقاط حقه.

وقيل: قوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ »سواء كانت المرضعات زوجات أم مطلقات بائنات، أما الزوجة فيجب الإنفاق عليها

ص: 183

لجهتين - باعتبارها زوجة وأجرأً على إرضاعها -، وأما المطلقة البائنة فالإنفاق لأجل الأجر فقط.

ثم إن قوله «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ...» - عبر عن الأب ب-(المولود له) - للإشارة إلى علة وجوب الأجر عليه، فإن الأم ولدته له، ونفعه في المستقبل يكون له أكثر من نفعه لأمّه - عادة -، ومن له الغُنم فعليه الغرم، مضافاً إلى أن في هذا التعبير إثارة لعاطفة الأب فالولد ولده فاللازم أن يشفق عليه، فلا يجعل الولد محل تصفية حساباته مع أمّه المطلّقة، وبعبارة أخرى إن الخلافات الزوجية يلزم أن لا تسري إلى الولد فتلك الخلافات غير مرتبطة به، بل على كل من الأب والأم أن ينظر إلى الطفل باعتباره ولده ولذا قال «أَوْلَادَهُنَّ »و« الْمَوْلُودِ لَهُ».

وأما قوله «بِالْمَعْرُوفِ»أي الأجر المتعارف لمثلها اللائق بحالها مع مراعاة حال الزوج - ماليّاً واجتماعيّاً -.

الرابع: قوله تعالى« لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ».

أي تكليف الأب والأم إنما هو بما يسعهم ودون طاقتهم، فالشريعة سهلة سمحاء لاحظت مصلحة الجميع مع التيسير عليهم، فلا تتحمل الأم الإرضاع بلا أجر، فسعتها أن ترضع بأجر، ولا الأب ينتفع في المستقبل بولده مجاناً، فسعته أن يدفع الأجر بما يعود نفعه إليه.

والحاصل أن الأم ترضع حسب قدرتها ببدل، والأب مكلف بالنفقة حسب وسعه، قال تعالى «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)»«لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ

ص: 184

سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)»(1). و(الوسع) هو دون الطاقة من «السعة» ، فلم يكلف اللَّه الناس بمنتهی قدرتهم بل جميع التكاليف دون الطاقة، رحمة بهم ولطفاً عليهم.

الخامس : قوله تعالى«لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ».

«لَا تُضَارَّ» إما مبني للفاعل أي «لا تُضارِر» أو مبني للمفعول «لا تُضارَر»، والمقصود هو أنَّه لا يجوز لكل من الأب والأم أن يلحق الضرر بالآخر، ولا يحق لهما أن يلحقا الضرر بالولد، وهذا حكم عام شامل لجميع مصاديق الإضرار، وعدم جواز الإضرار بالغير حكم عقلي قبل أن يكون شرعيّاً .

وفي حالات الطلاق تغلب حالة السخط وحب الانتقام فإن تمكن أحدهما من الإضرار بالآخر فعل، وإن لم يتمكن فقد يلحق الضرر بالولد للانتقام من أبيه أو أمه.

وكذا في الحياة الزوجية قد يحاول كل من الزوجين اختلاق الأعذار للتملّص من حق الآخر، فالمرضعة - سواء كانت زوجة أم مطلقة - عليها أن لا تضرر بالرجل ولا بالولد، وكذا الرجل.

وللإضرار مصادیق مختلفة .

فمن مصادیق مضارة الرجل :

1- عدم الإنفاق عليها، استغلالاً لحالة عطفها عليه .

ص: 185


1- سورة الطلاق، الآيتان: 6 -7

2- أخذه منها وإعطاؤه لمرضعة أخرى، انتقاماً منها.

3 - منعها عن حضانته ورؤيته .

4- عدم ملامستها بحجة مراعاة مصلحة الولد لئلا يولد بعده آخر .

ومن مصادیق مضارة المرأة :

أ- منع الزوج من الاستمتاع بحجة الولد.

ب - طلب النفقة أكثر من الأجرة أو من وسعه استغلالاً لعطف الأب عليه .

ج- عدم السماح للوالد برؤية ولده وحجبه عنه .

ولا يخفى أن ما ذكر في الروايات من منع الملامسة (1)فهو بيان لبعض المصادیق، خصصت بالذكر لشيوعها.

وقوله «تُضَارَّ»من باب التفاعل، وهو فيما إذا كان الفعل بين اثنين مثل تضارب زید وعمرو أي ضرب كل واحد منهما الآخر، واستعمال هذا الباب هنا إما للمبالغة إذا كان الفعل من واحد، وإما لأن الضرر يرجع - عادة - إلى المضار أیضاً ، فمن يلحق الضرر بالآخر يرجع الضرر إليه أیضاً ، وخاصة في القضايا الاجتماعية والخلافات الزوجية، فالمرأة التي تلحق الضرر بزوجها تسبب المشاكل العائلية، وضرر ذلك يعود إليها بالمآل، وكذا الرجل الذي يضر زوجته، وهكذا في الطليقين فالضرر يكون عليهما وعلى الولد أیضاً ، فقد ينشأ نشأة غير سويّة فيكون وبالاً على الأبوين في المستقبل.

ص: 186


1- راجع البرهان ج2، ص207 - 210.

السادس : قوله تعالى : « وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ » .

أي مثل الذي كان على الأب من أجرة المرضعة، ومثل عدم مضارته، فلومات الأب فعلی وارث الأب أن يدفع أجر الإرضاع من حصة الرضيع من الإرث، فلا يمنع الأجر عليها، وكذا لا يحق لوارث الأب أن يُضارّ الأم فينتزع الرضيع منها أو يبخسها حقها، فقوله « وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ » يرتبط بكلا الجملتين « رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» و««لَا یُضَارَّ » قال الإمام الصادق عليه السلام : قضى أمير المؤمنين عليه السلام قال في رجل توفي وترك صبيّاً فاسترضع له، قال: أجر رضاع الصبي مما يرث من أبيه وأمه (1).

ثم إن هنا تفاصيل فقهية كثيرة في الإرضاع والأجرة تطلب من الكتب الفقهية المفصلة (2).

السابع : قوله تعالی «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا » .

أي يجوز فطام الرضيع قبل الحولين، فهذا حق للزوجين معاً فلذا يلزم اتفاقهما في ذلك، فالأب لولايته ولوجوب النفقة عليه، والأم لأن الإرضاع عليها وحضانته لها، وحيث إن الحق لهما فلا بد من اتفاقهما ، فقال «عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا» ، وحيث إن الرضا المجرد لا يكفي فلا بد من التشاور، فإن تقليب وجوه الرأي ينتج القرار الأفضل، وفي ذلك مصلحة للرضيع، فقد يتضرر إذا استقلَّ أحدهما بالفطام.

ص: 187


1- الوسائل: ج21، ص456.
2- مثلا راجع موسوعة الفقه ج98 ص 132 فما بعد.

وفي الآية دلالة على لزوم أخذ رأي النساء فيما يرتبط بهن من حقوق فلا يجوز استبداد الرجال في القرار فيما يتعلق بحق المرأة ، سواء كان حقا ماليّاً أم اجتماعيّاً أم سائر الحقوق، وقد يقال بأنَّها لا تستشار في الأمور العامة ولا يؤخذ برأيها فيها، ولعلّ الأصح أن الأمور العامة إن ارتبطت بالتصرف في حقوقها فلا بد من رضاها، إلّا إذا دل الدليل على سقوط حقها أم عدم اشتراط رضاها، و اللَّه العالم.

الثامن : قوله تعالی«وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا ...»

«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ»أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ »«مَا آتَيْتُمْ »«بِالْمَعْرُوفِ»« وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)» الآية .

بعد إثبات أن حق الإرضاع للأم حصراً ، يأتي بيان حكم ما لو لم تسقط الأم حقها، أم لم تتمكن من الإرضاع، أو أرادت مضارَّة الزوج بطلب أجرة أكثر، أو أرادت أخذ الأكثر مع وجود مرضعة تريد الإرضاع مجاناً أو بأجرة أقلّ، ففي هذه الصور يجوز للأب بل قد يجب أن يسترضع امرأة أخرى، ولذا كان الخطاب للآباء فقط فقال«وَإِنْ أَرَدْتُمْ » ولم يقل «وإن أرادا»، وحيث إن المرضعة ليست أمّاً للرضيع فحنانها أقل وقد لا تراعيه أو تضره، فلذا حثت الآية على إرضاء المرضعة وإعطائها حقها فوراً وبالمعروف ليكون ذلك حافزاً لها على مراعاة الرضيع، لأن بخسها حقها قد يؤدي بها إلى إهماله أو محاولة الانتقام من الأب عبر إضرار الرضيع، فقوله «إِذَا سَلَّمْتُمْ » كأنَّه للحث على إعطائها الأجر فوراً ويداً بيد، وقوله «مَا آتَيْتُمْ » أي ما أردتم إيتاءه إليها من الأجر، وقوله «بِالْمَعْرُوفِ» بأن لا تُنقص حقها ومن غير إيذائها بالتسويف والمنّ والإذلال ونحو ذلك.

وفي الكشاف: يجوز أن يكون بعثاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه

ص: 188

المرضع من أهنأ ما يكون، لتكون طيبة النفس راضية، فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبي واحتياطاً في أمره، فأمرنا بإيتائه ناجزاً ويداً بيد(1).

التاسع : قوله تعالی «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » .

حثّ من جديد على تقوى اللَّه بمراعاة الأحكام المذكورة في الآية ، ووعيد للمخالفين بأنَّه تعالى يراهم فيجازيهم على أفعالهم.

وقيل إن الأحكام المذكورة في هذه الآية حيث إنها مرتبطة بالعمل وبأمور ظاهرة للعيان، لذا ختمت الآية بأنَّه تعالى بصير «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » ، وأما المذكورة في الآية 231 حيث إنها ترتبط بالنية وهي أمر غير معلوم بالعيان، لذلك ختم تلك الآية بأنَّه تعالى عليم «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » ، و اللَّه العالم.

ص: 189


1- الكشاف: ج 1، ص309.

ثامناً: أحكام وفاة الزوج

الآيتان 234-235

«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)»«وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)»

236 - «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ » يموتون «مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ » يخلّفون من بعدهم «أَزْوَاجًا » حرة كانت أم أمة، دائمة أم منقطعة، مدخول بها أم لا، صغيرة أم كبيرة أم يائسة، «يَتَرَبَّصْنَ»تنتظر الزوجات « بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا »فعليها الحداد بترك الزينة والزواج، «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ »بأن انقضت مدة العدة «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ » من الزواج أو ترکه، فلا ولاية لكم عليهن، «بِالْمَعْرُوفِ » بما يجوزه الشرع، فلو أردن المنكر فعلیکم منعهن، «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ

ص: 190

خَبِيرٌ »عالم ببواطن الأمور وهذا ترغيب للطاعة وترهيب عن المعصية .

235 -«وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» عليك أيها الرجال « فِيمَا عَرَّضْتُمْ »بالإشارة الخفية لا بالتصريح «بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ» بتوجيه الكلام إليهنَّ تلويحاً في رغبتكم في الزواج بهنَّ بعد العدَّة، « أَوْ أَكْنَنْتُمْ »أي أضمرتم «فِي أَنْفُسِكُمْ » من أمرهنّ، «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ»لذا بیّن لكم المباح من الحرام، « وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا » أي لا تذكروا ما يستقبح ذكره في العلانية كالوطء ومقدماته ، أو بمعنى لا تتحدثوا معهنَّ في السرّ «إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا»مما لو ظهر إلى العلن لم يكن به بأس، « وَلَا تَعْزِمُوا »لا تقصدوا «عُقْدَةَ النِّكَاحِ » بإجراء صيغة عقد النكاح «حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ » ما كتبه اللَّه عليهنَّ من العدّة «أَجَلَهُ»نهايته، « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ » من العزم وقصد الطاعة أو المعصية «فَاحْذَرُوهُ » احذروا عقابه فلا تعزموا على ما لا يجوز، «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ »يستر عاجلا «حَلِيمٌ » لا يعاجل بالعقوبة فلا تغتروا بعدم عقابه العاجل فتمادوا في الغيّ.

بحوث

الأول : بعد ذكر أحكام المطلّقات وأولادهن تنتقل الآيات إلى بيان حكم المتوفى عنها زوجها، فبيّنت عدة أحكام ترتبط بهنَّ وبالرجال، وأبطلت عادات جاهلية.

ص: 191

1- تشريع العدّة، وحيث إن الغرض منها احترام الزوج واحترام العُلقة الزوجية، مع مراعاة مشاعر الزوجة وأولاد الميت وأقربائه، لذا كانت العدَّة لجميع من يتوفى عنهنَّ أزواجهنَّ، سواء كانت مدخول بها أم الا، وسواء كانت يائساً أم صغيرة أم لا، وسواء كان حرّة أم أمة، زواجهما دائم أم متعة، حامل كانت أم لا، ومن الواضح أن هذه العدَّة تتضمن الأقراء الثلاثة - في عدة المطلقة - فبها يتم استبراء الرحم أیضاً .

والحامل عليها الالتزام بهذه العدَّة أیضاً ، فإن تجاوز الحمل هذه المدة عليها الانتظار إلى وضع حملها، وقد صرّحت الروايات أن عدَّة الحامل المتوفى عنها زوجها هو أبعد الأجلين من الأربعة أشهر وعشراً ومن وضع الحمل، وأما قوله «وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ » (1)فذاك خاص بالمطلّقات كما يشهد به سياق الآيات هناك.

وحيث إن الغرض هو احترام المتوفي ورعاية المشاعر فيكون بدء العدة من حين بلوغ نبأ الوفاة - ولو كان بعد حين -.

2- تحديد العدة بأربعة أشهر وعشراً، رعاية للزوجات ودرءاً الأسباب الانحراف، لصعوبة صبرهن أكثر من هذه المدة، وقد دل على ذلك بعض الأحاديث كما مرّ، وكانت العرب في الجاهلية تعتد نساؤهم طوال عام كامل، فخفف اللَّه على النساء بأن أسقط ما يقارب الثمانية أشهر، وللأسف فإن هذه العادة الجاهلية سارية لحدّ الآن في بعض المجتمعات الإسلامية، وكان بعض الأقوام يمنعونهنَّ من الزواج ما بقي من عمرهن كما ينسب ذلك إلى النصارى.

ص: 192


1- سورة الطلاق، الآية: 4.

3 - عدم ولاية أحد على المتوفى عنها زوجها في أن تتزوج أو تترك الزواج بعد العدة، فولايتها لنفسها، فابطل هذا التشريع بعض العادات من جعل الحق لأقربائها في اكراهها على الزواج بأخ الميت أو بعض أقربائه، أو في جبرها على الحداد وعدم الزواج لمدة طويلة، أو تزويجها بمن يشاؤون .

نعم يستثنى من ذلك البكر إذا مات زوجها قبل الدخول فترجع الولاية لأبيها وجدّها من أبيها على المشهور، والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية .

4 - إبطال عادة جاهلية بعدم التحدث مع النساء، لكن مع جعل إطار مشروع له وهو أن لا يتجاوز الآداب، وأن لا يكون سراً -حذراً من أن يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه -وقد يرغب أحد الرجال في الزواج بها ويخشى أن يسبقه غيره إليها، فلذا أجيز التعريض بالخطبة دون التصريح لتعلم المرأة بأنَّه يرغب في الزواج بها فتختاره إن شاءت بعد العدة .

5 - تشريع عدم جواز العقد في العدة حتى إذا كان الزواج بعد العدة، فهو عقد باطل بل قد يستلزم تحريماً أبدياً في بعض الصور - وهي مذكورة في الفقه -، وذلك رعاية لحرمة الزوج وللمشاعر وتنظيماً للعلاقات الاجتماعية

الثاني : إن الآية في حكم المتوفى عنها زوجها، ولكن ابتدأت الآية بذكر الميت في قوله «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ »، مع أن القاعدة الابتداء بمحور الكلام، ولذا كان (المبتدأ) هو قطب رحى الكلام - عادة -، ولعلّ أن الخطاب في كلا الآيتين للرجال باعتبار أنَّهم

ص: 193

المتحكمون في أمر النساء - عادة -، وأنَّهم هم الذين يتقدمون في خطبتهنَّ ونكاحهنَّ، فإن الأحكام وإن كانت ترتبط بالنساء لكن تنفيذها والالتزام بها يرتبط بالرجال باعتبار قیمومتهم عليهن وضعفهن وتأثرهن

بهم، فقال «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ »،«وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ »، «سَتَذْكُرُونَهُنَّ »، «لَا تُوَاعِدُوهُنَّ » ، « وَلَا تَعْزِمُوا »وهكذا .

الثالث : قوله تعالى «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ».

أي يحفظن أنفسهن عن الأزواج، وقد مرّ في قوله تعالى «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ » (1)سبب ذكر (أنفسهنَّ).

والحداد على المتوفى أمر يتطابق مع الفطرة، فإنَّه تعالى جعل مودة ورحمة وعلقة بين أفراد المجتمع وخاصة في الأقرباء، ولذا فإنّ فقدان أحدهم يؤثر نفسياً على الآخرين، وفي الحديث: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ(2).

فمراعاة هذا الأمر الفطري أهم من رعاية الشهوات الجسدية، ولذا وجب الحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها، باعتبار شدة ارتباطها بالزوج وقيمومته عليها، فلذا كان الأمر بحاجة إلى فترة زمنية تستعيد فيها المرأة توازنها بعد أن تؤدي احترام زوجها المتوفی -بترك الزينة وترك النكاح - وبعد أن تحترم مشاعر أقرباء الميت، وليكون لها فرصة كافية للتفكير في مستقبلها لئلا تقرر قراراً خاطئاً في حالة عدم التوازن النفسي.

ثم إن الشرع لم يجعل مدة العدّة طويلة جداً رعاية لحال النساء من

ص: 194


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- الكافي ج 3، ص 263.

الحاجة إلى من يرعاهن وحفظاً لهن من الأطماع، ولذا شرّع العدة بمقدار تحفظ فيه جميع المصالح من احترام الزوج ورعاية المشاعر وحاجة الزوجة، و اللَّه العالم.

الرابع: قوله تعالى«فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ».

الخطاب للرجال حيث إنهم قد يستغلون قوتهم وسطوتهم في منع النساء من حقهن، وخاصة أقرباؤها كالأب والأخ وغيرهما، فقد يمنعونها من الزواج نهائية أو لأمد طويل، وقد يجبرونها على الزواج ممن لا تريد، أو يجبرونها على ترك الزينة طويلاً وهكذا، فجاء التشريع على أن لها الحق في أن تقرر مصيرها بنفسها بشرط أن لا تتجاوز الحدود الشرعية، ولذا قال تعالى « فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ».

وفي الآية إشعار على لزوم مراقبتها كي لا تتجاوز الشرع، فمع أنَّه لا يجوز إكراهها على ما لا تريد وهي أملك لنفسها، في الوقت نفسه يلزم أن لا تترك وشأنها بل تراقب - من غير جبر -، ويدخل في هذا إرشادها ورعايتها وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر... إلخ.

الخامس : قوله تعالى«وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ».

(الخبرة) ترجع إلى العلم، ومعناها العلم بالتفاصيل من البواطن والحقائق والكيفيات، و اللَّه تعالی عالم بحقائق الأمور، عالم بالمصالح، عالم بالأعمال، ولذا أمر بالتربص في العدة، وأباح ما تريد فعله بالمعروف بعدها، فاختلاف الأحكام إنما هو لاختلاف الأوقات وما تستتبعه من تغيّر المصالح والمفاسد فلذا حكمه في كلا الحالتين هو مطابق للمصلحة، كما أنَّه تعالی خبير بأعمال العباد يعلمها ويعلم نواياهم

ص: 195

فلا يمكن إخفاء شيء منه، ففي قوله «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » ترغيب إلى طاعته وترهيب عن معصيته .

والحاصل أن الأحكام في هذه الآية ترتبط بالأعمال، والخبير هو الذي يتمكن من تشخيص الأعمال، و اللَّه سبحانه عالم بكل عمل ولذا أباح ومنع، كما أنَّه عالم بكل تصرف لذا يُثيب ويعاقب .

السادس : قوله تعالى «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ »

تدل الآية على كيفية التعامل مع المتوفى عنها زوجها ، وبينت بعض أهم الأمور الاجتماعية المرتبطة بها، فيمكن التحدث معها مع مراعاة الحياء .

فإن كان الرجل يريد الزواج بها وكتم ذلك في نفسه لكي يخطبها بعد العدة فلا بأس بذلك ولا محذور فيه، لأن ذلك ليس إضماراً لسوء بل إضمار لخير، والقبيح هو إضماراً لسوء، أما إضمار خطبة المتوفى عنها زوجها بعد عدتها فهو أمر حسن .

وإن أراد الرجل التعجيل في بيان رغبته في الزواج منها، حذراً من أن تفوته بعد العدة، فقد أجاز الشارع التعريض بخطبة النكاح .

ولا يخفى أن هذا التعريض قد يكون بالتحدث معها مباشرة أو بواسطة، أو بالتحدث إلى أقربائها ومن ترجع إليه في أمر زواجها تأدباً كأمّها وأبيها وغيرهم، ومن المعلوم أن التحدث مع أقربائها لا يكون إلّا في شأن الزواج معها فلا يكون إلّا معروفاً، ولكن التحدث معها قد لا يكون بالمعروف وخاصة إذا كان من غير اطلاع أحد، ولذا احتاج إلى

ص: 196

التنبيه إلى ذلك فقال «وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا».و هو التعریض بخطبة النکاح .

والحاصل أن التعريض قد يكون لها أو لأقربائها وذلك ما ذكر في قوله «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ ... »، وقد يكون بالتحدث معها بانفرادها وهنا يخشى أن يكون كلاماً غير لائق، فلذا كرّر تعالى الحكم مع تقييده بالمعروف «وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا».

و(التعريض) هو أن يتفوّه بكلام له معنی ولكن بغرض إفهام شيء آخر.

فيكون التعريض بخطبة النكاح هو الإشارة من طرف خفيّ بحيث تفهم المرأة بأن الرجل راغب في زواجها .

وإنما لم يجز التصريح لأنَّه خلاف الظرف الذي يحيط بامرأة المتوفي عنها زوجها، فظرفها ظرف حزن وحداد لا فرح وسرور .

السابع : قوله تعالى «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ».

لرغبتكم فيهنّ وخوفاً من أن يسبقكم أحد إليهنَّ، فأباح لكم التعريض، والظاهر أن لحن الآية هو لحن التهديد لبيان أنَّه تعالى لا يفوته شيء مما تعملون فاحذروه فلا تتعدّوا ما أباحه لكم، فقد أباح لكمالإضمار والتعريض فقط دون الأكثر من ذلك.

وقيل : المقصود بيان أمر فطري وهو الميل إليهنَّ، والشرائع الإلهية لا تقمع الميول الفطرية بل تضبطها وتهذبها .

ص: 197

لكن في ذلك خلط بين الأحكام الفطرية والشهوات النفسانية، فليس ذكرهن أمر فطري بل رغبة جنسية، لكنه تعالى لم يمنع من الرغبات إلّا ما فيه المضرّة، ولا ضرر في الإضمار أو التعريض لذا أباحه.

الثامن: قوله تعالى «وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا».

أي لا تواعدوهنَّ في السر بأنكم ستنكحوهنَّ بعد العدة، فإن هذا تصريح بالنكاح وهو لا يجوز، مضافاً إلى أن ذلك قد يؤدي إلى محرمات من الخلوة بالأجنبية أو التلفظ بكلمات خادشة للحياء، وقد يؤدي ذلك إلى ارتكاب المعصية، نعم إذا كان الكلام بالمعروف - بأن عرّض بالخطبة بحيث لا يسمعه إلّا هي - فذلك لا بأس به.

وقوله «سِرًّا » إما مفعول به فيكون كناية عن الملامسة، أي لا تواعدونهن بذلك فإنَّه تصریح وفحش من القول فيكون قوله «إِلَّا أَنْ تَقُولُوا ...»استثناء منقطع، فالمعنى لا تواعدوهن بالملامسة لكن عرّضوا بالنكاح.

وإما مفعول فيه، أي لا تواعدوهن بالسرِّ إلّا بالقول المعروف فيكون الاستثناء متصلا. وعن علي بن أبي حمزة قال : سألت أبا الحسن علیه السلام قال عن قول اللَّه عزّ وجلّ «وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا » ؟ قال: يقول الرجل : أواعدك بيت آل فلان، تعرض لها بالرفث ويرفث، يقول اللَّه عزَّوجلَّ «إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا» والقول المعروف: التعريض بالخطبة على وجهها وحلّها(1).

ص: 198


1- البرهان ج 2، ص210، عن الكافي.

التاسع : قوله تعالى «وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»

لما أباح اللَّه تعالى التعريض بالخطبة وبالقول المعروف، أراد التأكيد على الوقوف عنده وعدم تجاوزه، كي لا يتوهم أحد أن عقد النكاح من المعروف، فيتصوّر أنَّه مباح مع انتظار انتهاء العدة لتحلّ المباشرة، فجاء قوله « وَلَا تَعْزِمُوا ...» للتأكيد على أن العقد في العدة لا يدخل في المعروف، بل زاد التأكيد بالنهي عن العزم على العقد، فإن المحرم وإن العقد ولكن العزم من مقدماته القريبة، فلذا تمّ النهي عنه بغرض جعل طوق حول الحرام، فكلّما كان الإنسان أبعد عن مقدمات الحرام كان أبعد عن الحرام نفسه، ولذا حُسن الاحتياط في الدين وعن كان هو الشبهات .

ثم إنَّ في قوله «عُقْدَةَ النِّكَاحِ » بيان أن النكاح - وهو من الأمور الاعتبارية - يشبه الربط الخارجي فكما أن الحبلين والخيطين المنفصلين يتصلان بالعقد، كذلك الرجل والمرأة يرتبطان ارتباطاً وثيقاً عبر النكاح .

والحاصل أنَّه يجب الانتظار إلى حين انتهاء العدة، وبعدها يجوز عقد النكاح .

العاشر: قوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ... »الآية .

عقّب اللَّه تعالى هذه الأحكام بالموعظة والتذكير بعلمه والتحذير من عقابه، وخاصة أن هذا الموضوع مما يكثر الزلل فيه، وهو من مداخل الشيطان، فبيَّنَ :

1 - علمه تعالى بما في النفوس، فضلاً عن عن الأعمال، فقد يعرّض

ص: 199

أحدهم بالنكاح ولكن قصده إغراء المرأة ليوقعها في الحرام، أو قصده الإضرار بها لكي لا تتزوج الخطاب ثم يتركها كالمعلّقة، أو أنَّه يعرّض لكي يعزم على النكاح قبل انتهاء العدة بالتحايل على المدة ونحو ذلك، فإن للقلب أحكاماً من واجبات ومحرمات وقد يكون حِليّة أو حرمة العمل مرتبطة بالنية.

2 - الربط بين التشريع وبين الخشية منه تعالى، فعلى الإنسان الحذر من مخالفة أحكامه ، نعم لو لم يكن حكم كان الأصل الإباحة.

3 - فتح باب التوبة، فإن المخالف يمكنه الرجوع لأنَّه تعالى غفور .

4 - تحذير من العقاب، وبيان أن عدم التعجيل في العقوبة ليس بسبب العجز أو النسيان بل بسبب الحلم.

ص: 200

تاسعا: الالتزامات المالية

اشارة

ثم إن الالتزامات المالية قد تكون حقّاً أوليّاً، وقد لا تكون واجبة لكن يستحب دفعها وهذا ما تكفلت بيانه الآيات (236 - .242 ).

1- الحقوق الواجبة
الآيتان 236-237

«لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)»

«وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)».

236 -«لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ»فلا إثم ولا مهر « إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ »بالجماع، «أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً » أي ولم تسموا لهنَّ مهراً معيناً، و«أو» بمعنى الواو، فلو لم يكن لا دخول ولا تعيين مهر فلا بأس بالطلاق، «وَمَتِّعُوهُنَّ »أي يجب إعطاؤهن شيئاً تنتفع به جبراً الخاطرها المكسور، «عَلَى» الرجل« الْمُوسِعِ» أي الغني « قَدَرُهُ » ما

ص: 201

يطيقه ويليق به فلا يدفع الأقل، «وَعَلَى الْمُقْتِرِ »الفقير الضيق الحال «قَدَرُهُ » فلا يلزمه الأكثر، فمتعوهنّ «مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ »بحيث يكون إحسانا لها لا إيذاء ومَنّ، «حَقًّا» واجبة هذا المتاع « عَلَى الْمُحْسِنِينَ »خُصوا بالذكر أنَّهم المنتفعون بهذا الحكم، فهم يحسنون الأنفسهم بامتثال التكاليف، ويكونون أصحاب نفسیات کریمة فيحسنون إلى مطلقاتهم.

237 - «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً » عينتم مهراً «فَ-» يجب عليكم «نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ » لهن، إلّا أن يتوب يسقطن هذا النصف فلا يأخذن منه شيئاً ، «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ» بأن كان له الولاية من الشارع کالأب والجد للأب على الصغيرة، أو كان وكيلاً لها في ذلك، « وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى» فإنَّ من يتنازل عن حقه أقرب إلى أن يتقي اللَّه فلا يطلب ما ليس له بحق، ثم توجه الخطاب إلى الزوج فقال « وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ »وهو الزيادة الممدوحة بأن يدفع كل المهر «بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ».

بحوث

الأول : آخر مقطع من تشريع أحكام الحياة الزوجية يتعلق بالشؤون المالية، حيث إنَّه يلزم في الزواج المهر، وهو حق مالي - عادة - فعلی الزوج الوفاء بهذا الحق وخاصة حين الطلاق فيجب أن لا تكون

ص: 202

الخلافات الزوجية سبباً لتضييع الحقوق، فحلّ الخلاف بالطلاق - إنَّ لم يتيسر الصلح أو الصبر - وتبقى الحقوق على حالها فيجب أداؤها.

ثم إنَّ هناك تعليمات أخرى تتعلق بما ليس بحق مالي للمطلقة، وكذا للمتوفى عنها زوجها، ولكنها تعليمات مستحسنة وتخفّف وقع الطلاق عليها وكذا تُجفّف جذور الخلافات الأسرية بين أقرباء الزوجين أو تقلّلها.

وتنقسم المطلّقات إلى أربعة أقسام تختلف فيها أحكامهن المالية .

1- التي طلقها زوجها قبل الملامسة ولم يعيّن لها مهراً حين العقد -فإنَّ ذكر المهر ليس بواجب في العقد الدائم -فعلى الزوج أن يدفع إليها شيئاً تطييباً لخاطرها، وهذا الحكم تكفلت ببيانه الآية الأولى.

2 - التي طلقها قبل الملامسة، وقد عيّن لها مهراً، فيجب على الزوج دفع نصف المهر، وإن كان قد سلّمها كل المهر وجب عليها إرجاع النصف، وهذا الحكم بُيّن في الآية الثانية .

3- سمّى المهر وواقعها، فيجب لها كل المهر، سواء طلقها أم لم يطلقها، قال تعالى «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)»«وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)»(1)، فقوله «وَآتَيْتُمْ ...»هو ذكر المهر، وقوله «وَقَدْ أَفْضَى... »كناية عن المواقعة.

ص: 203


1- سورة النساء، الآيتان: 20. 21.

4- لم يذكر المهر وواقعها، فيجب عليه مهر المثل - أي بمقدار مهر أمثالها - وهذا ما بَیَّنَته السنَّة المطهرة .

الثاني : قوله تعالى : «إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ».

«أَوْ»هنا بمعنى الواو، نظير قوله تعالى «وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ »(1)، فالمعنى أنَّه لو طلقها ولم يكن شيء من الأمرين لا المس ولا الفرض، فالحكم حينئذٍ التمتيع.

وقيل : الآية في صدد بیان جواز هذا الطلاق، فيجوز طلاق غير المدخول بها، كما يجوز طلاق التي لم يُعيّن لها مهر، فعلى هذا التفسير يكون المعني جواز طلاق غير المدخول بها - سواء عين لها مهراً أم لا - وكذا في صدد بیان جواز طلاق التي لم يعيّن مهرها - سواء دخل بها أم لا-، وليست الآية بصدد بیان ثبوت المهر أو عدم ثبوته، ثم تذكر الآية حكماً عاماً بالتمتيع بإرجاع ضمير «وَمَتِّعُوهُنَّ »للنساء المطلّقات بشكل عام وعليه يكون عدم ثبوت المهر لغير المدخول بها التي لم يعين مهرها إنما ثبت بالسنة.

لكن الظاهر بقرينة الآية الثانية، أن الآية في صدد بيان الأحكام المالية للمطلقات، وأن المطلقة التي لم تمس ولم تفرض لها فريضة فيجب لها التمتيع، هذا مضافاً إلى أن الطلاق من أبغض الحلال، فلا يناسبه التعبير ب-(لا جناح)، بل الأظهر أنَّه في صدد بيان عدم التبعة في

ص: 204


1- سورة الصافات، الآية: 167.

المهر، أي لا تبعة واثم عليكم في عدم دفع المهر، لكن عليكم التمتيع، و اللَّه العالم.

الثالث : قوله تعالى « وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ».

أي أعطوا هذه المطلقة - التي لم تمسّ ولم يعيّن لها مهر - شيئاً تتمتع به .

ثم إنَّ المتعة واجبة في هذه المطلقة كما دلت عليه الآية، ومستحبٌّ في سائر المطلّقات إلّا المختلعة وقيل بوجوبه، كما يدل عليه قوله تعالى «وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ »(1)، وتدل عليه الأخبار أیضاً (2)، وفيه جبر لخاطر المطلقة المكسور، وخاصة أن المهر معجّل عادة يسلّم للمرأة حين الزواج، فحين الطلاق لا يصل إليها شيء إلّا عبر المتعة، كما أنَّه سبب لتقليل العداوة، فإنَّ الطلاق هو نتيجة الاختلاف - عادة - فالتمتيع نحو تسريح بإحسان، كما أن فيه تعليم الزوج الإحسان إلى المطلّقة لا الانتقام منها.

وقد يقال إنَّ ضمير ومونه يرجع إلى و اللَّه فتكون الآية هي الدالة على المتعة في جميع المطلّقات، وأما وجوبه واستحبابه فهو يستفاد في الروايات.

هذا حكم المطلّقة قبل المس والفرض، أما لو مات عنها زوجها قبلهما فلها الميراث وعليها العدة لعموم أدلة الإرث وأدلة عدة المتوفی عنها زوجها ، مضافاً إلى الروايات والإجماع .

ص: 205


1- سورة البقرة الآية: 241
2- راجعها في تفسير البرهان ج 2، ص 217 - 218.

الرابع : قوله تعالى«عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ».

حيث إنَّ الزوجين لم يتفقا على مبلغ معين من المهر، ولا حصلت ملامسة، وإنَّما مجرد عقد لفظي، لذلك لا التزام بمبلغ معين ليجب الوفاء به، ولذا أوكل الشارع ذلك إلى مقدار طاقة الزوج.

فإنَّ الإنسان إذا التزم بشيء فعليه الوفاء بذلك الالتزام حتى لو كان صعباً لأنَّه صار حقاً للآخر، وما دام التزم فإنَّ الصعوبة نشأت منه لا من الشرع، نعم لو عجز عن ذلك فإنَّ للشرع حلولاً للخروج عن عهدة ما التزمه

أما لو لم يلتزم الإنسان بشيء فإنَّ تصرّف تصرفاً أوجب الضمان أو جعل حقاً معيناً في ذمته فالشرع يوجب أداء ذلك الحق كما لو وطىء الزوجة التي لم يعيّن مهرها فوجب لها المهر مثل أمثالها، ولكن إنَّ لم يتصرف هذا التصرف بل كان مجرد اتفاق لفظي فحينئذٍ لم يحدد الشرع شيئاً معينا بل أوكل الأمر إلى استطاعة الشخص، ولذا في المطلقة قبل المس والفرض أوجب على الغني ما يليق به ويطيقه فلا يجوز له دفع الأقل، وأوجب على الفقير قدره كذلك فلم يكلّفه بالزيادة، والحَكَم في ذلك العرف، وأما المتوسط الحال فلم يذكر إما لاتضاح الحكم فيه بعد ذكر الغني والفقير، وإما لأن المتوسط داخل في أحدهما لأن له درجات، وإما لأن (الموسع) يشمل المتوسط الحال.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : أما إنَّ الرجل الموسع يمتع المرأة بالعبد والأمة، ويمتّع الفقيرُ بالحنطة والزبيب والثوب والدراهم(1).

ص: 206


1- تفسير البرهان: ج 2، ص 230 عن الكافي.

وسُئل الإمام الباقر علیه السلام قال : ما أدني ذلك المتاع إذا كان معسراً لا يجد؟ قال: خمار أو شبهه(1).

ومن الواضح أن هذه الأمور مصاديق للمتعة، ذكرها الإمام علیه السلام كمثال، أو أنَّها كانت في زمانه قدر الموسع والمقتر.

ثم إنَّ اللازم مراعاة حاله ومراعاة حالها، أما حاله فلدلالة الآية «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ » ، وأما حالها فلدلالة الأخبار فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: وإنَّ لم يكن فرض لها فليمتعها على مثل ما يمتع مثلها من النساء(2).

والظاهر أن مراعاة حالها مدلول للآية أیضاً ، فقدر الموسر للمرأة الرفيعة غير قدره للمرأة الوضيعة، فتأمل.

الرابع : قوله تعالى «مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ » .

أي متعوهن متاعاً بالمعروف، و(المعروف) مطلق يشمل كل ما رآه الشرع حسنة، فلا يكون فيه إسراف ولا تقتير، ويكون إحساناً لا إيذاءً ، فإنَّ ما يدفع من المال بقصد الإيذاء يكون من المنكر حتى لو كان كثيراً، وأن يليق بشأنها حسب منزلتها الاجتماعية، وإلا لا يكون من المعروف حتى وإنَّ كان ثميناً، وأن تتمكن من الانتفاع به - ولو بيعه -، وهكذا .

الخامس: قوله تعالى« حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ».

إنَّما خصّ «الْمُحْسِنِينَ»بالذكر مع أن الحكم عام للجميع، لأجل أنَّهم هم المنتفعون بهذا الحكم، أو هم المتوقع منهم تطبيقه، وبعبارة

ص: 207


1- تفسير البرهان: ج 2، ص 221 عن التهذيب.
2- للتفصيل راجع موسوعة الفقه ج19 ص 360 فما بعد.

أخرى - كما في المناهج(1) - العمل بهذا التكليف يتوقع من أهل الكرامة والفضيلة يتواصلون ويتزاوجون ويتفارقون بإكرام وحیاء، لا الأجلاف الذين يتفارقون بعداوة وجفاء وبغضاء ويُصرّون على إبطال الحقوق والشؤون(2) و«الْمُحْسِنِينَ»لأنفسهم بامتثال الأوامر، وللمطلقات بإكرامهن، أو بمعنى يحسنون ويعرفون كيفية الطاعة.

ثم إنَّ في تسميتهم ب-(المحسنین) حثّ وترغيب لهم على الالتزام بهذا الحكم، ولا يخفى أن التمتيع هو نوع تسريح بإحسان المأمور به في آيات الطلاق.

السادس : قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ».

أي تعفو المطلّقات إما كلّه أو بعضه، أو يعفو من بيده عقدة النكاح وهو وليّ الصغيرة أو الوكيل عنها ، وهذا ما دلت عليه الأخبار.

وقيل إنَّ الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج فيدفع كل المهر، وفيه نظر لأن دفع الزيادة ليس عفواً بل هو فضل.

ولا يخفى أن أمر المهر بين ثلاثة : المرأة، وولي أمرها أو وكيلها، والزوج، أما المرأة فلها الحق أن تعفو عن حقها وذكرتها الآية«إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ»، وأما ولي أمرها أو وكيلها فيحق له العفو رعاية لمصلحتها ودل عليه قوله « أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ »، وأما الزوج فيمكنه أن لا يسترجع شيئاً من المهر إن كان دفعه كلّه إليها أو يسوق إليها المهر

ص: 208


1- مناهج البيان ج2، ص298.
2- المصدر السابق نفسه.

کاملاً إن لم يكن دفعه، وهذا فضل وزيادة على الحق ومكرمة ولعلّ قوله « وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » إشارة إلى ذلك، وقد يقال إنه أیضاً خطاب للمطلقات ومن بيده عقدة النكاح، فالفرق أن العفو عن كلّه والفضل عن بعضه .

السابع : قوله تعالى «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ».

« تَعْفُوا »إما مفرد أي تعفو المطلّقة، أو جمع حذفت النون للنصب أي تعفون أنتم - المطلّقات ومن بيده عقدة النكاح ، وجيء به مذكراً تغليباً .

أما إنه أقرب للتقوى فلأجل أنَّه طلب فضل من اللَّه تعالى وأنَّه استرضاء للزوج الذي كانت صفقته في هذا الزواج خاسرة، وفي ذلك تقليل للبغضاء ووأد للقيل والقال وما يلحقه من الكذب والافتراءوسائرالمحرمات.

وأيضاً من يترك حق نفسه أقرب إلى أن يتقي اللَّه من المعاصي وأن لا يطلب ما ليس له، وأن لا يظلم صاحبه.

الثامن : قوله تعالى «وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ».

في الخلافات الاجتماعية والزوجية تسيطر على الناس القوة الغضبية وتكون رغبة جامحة في الانتقام، وهنا الشرع لا يأمر بأداء الحقوق فحسب بل يرغّب إلى الزيادة على ذلك لأن من يتفضل أبعد من المعصية ، وكما ذكرنا فإن الدين جعل حواجز عن المحرمات لأن: من رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه كما في الحديث(1) -.

ص: 209


1- وسائل الشيعة ج18، ص 122.

والتعبير ب-«وَلَا تَنْسَوُا »فيه إيحاء بأن الخلافات تسبب نسيان الوجه الآخر المشرق، لذا اقتضى التنويه والتذكير.

و«الْفَضْلَ» هو الزيادة في المكارم بما يكون حسناً وممدوحاً، فإن لم يكن حسناً كان فضولاً - هكذا قيل - .

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : يأتي على الناس زمان عضوض يعضّ كل امرىءٍ على ما في يديه،وينسى الفضل، وقد قال اللَّه عزَّوجلَّ «وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ »ينبري في ذلك الزمان أقوام يعاملون المضطرين، هم شرار الخلق (1)

ص: 210


1- البرهان ج 2، ص 220، عن الكافي والتهذيب.
الآيتان 238 - 239

«حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)»«فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)»

وحيث إن الخلافات الزوجية وخاصة ما يرتبط بالمال تلهي الإنسان عن الذكر لذا تمّ التذكير بها فقال تعالى:

238 - «حَافِظُوا » بمعنى المراعاة أي راقبوا واهتموا وواظبوا «عَلَى الصَّلَوَاتِ» اليومية الخمس،« وَ» خصوصاً على «الصَّلَاةِ الْوُسْطَى » أي الظهر فهي وسط النهار ووسط صلاتين نهاريتين ، «وَقُومُوا لِلَّهِ » أي بين يديه بنية الإخلاص «قَانِتِينَ »خاضعين عبر الرغبة إليه وإطاعته ودعائه.

239 - «فَإِنْ خِفْتُمْ » من القيام قانتين بسبب لصّ أو سبع أو عدو وغير ذلك من أسباب الخوف فلا تتركوا الصلاة خوفاً بل صلّوا بأية كيفية قدرتم «فَرِجَالًا» جمع راجل وهو غير الراكب سواء كان في حالة مشي أم لا« أَوْ رُكْبَانًا» جمع راكب، « فَإِذَا »زال الخوف و«أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ » بالصلاة التامة «كَمَا عَلَّمَكُمْ » أي بالكيفية التي بينها لكم عبر الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ، أو بمعنى اذكروه شكراً له على نعمة

ص: 211

الشريعة فقد علّمكم «مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ »من كيفية الصلاة ومن سائر الأحكام.

بحوث

الأول: لعلّ سبب ذكر الصلاة وبعض أحكامها بين أحكام الحالات الزوجية من الطلاق والوفاة والمهر ونحوها، هو:

1- أن لا تلهيهم عن ذكر اللَّه مشاكل الحياة والخلافات الزوجية والأمور المالية، فلذا استدعى التنبيه على الصلاة في وسط هذه الأحكام، مع مراعاة الارتباط المناسب وهو ذکر حكم الصلاة في حال الخوف والأمن مما يعترض الإنسان في حياته، فكما يلزم أن لا ينتهي الإنسان عن الصلاة في حال الخوف كذلك في حال الخلافات العائلية .

2 - إن المشاكل العائلية وخاصة ما يرتبط منها بالأموال مظنة للتعدّي على الحقوق والإعراض عن الأحكام، وذلك من الفحشاء والمنكر، وحيث «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ »(1)، لذا كان التوجه إلى اللَّه بالصلاة معيناً للإنسان على البقاء على الصراط المستقيم.

3- إن الالتزام بأحكام الشرع - وخاصة في الخلافات - لا تكون إلّا ممَّن كانت نفسه مستعدة لقبول الحق، والصلاة - إذا كانت بحدودها وشرائطها - من أهم الأعمال التي توجب سموّ النفس والروح، فيسهل على صاحبها قبول الحق وإن كان مُرّاً صعباً .

ص: 212


1- سورة العنكبوت، الآية: 45.

4 - هذا مضافاً إلى مناسبة ذكر الصلاة بما ذكر في الآية السابقة حيث قال «وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » ، فالآيات تدل على لزوم عدم نسيان الأعمال الحسنة في الحالات الصعبة سواء كانت اجتماعية أم عبادية ، ففي حال الخلافات الزوجية لا تنسوا الفضل، وفي حال الخوف لا تنسوا العبادة، و اللَّه العالم.

الثاني : قوله تعالى«حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى».

«الحفظ» هو مراعاة الشيء(1) ويقال لتذكر الشيء وعدم نسيانه لأجل أن مراعاته توجب بقاءه في الذهن، فمعنى الآية راعوا الصلاة ولا تضيِّعوها، ويكون ذلك بحفظ حدودها وشروطها وأجزائها وأدائها في أوقاتها مع توقیرها وعدم الاستخفاف بها، وذمّ اللَّه الذين يتركونها أو يتهاونون فيها فإن ذلك من علائم الكفر والنفاق، قال تعالى:

«فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)»«الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ»(2)، وقال«وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى »(3).

و« الصَّلَوَاتِ » هي الصلوات اليومية، كما اتفقت على ذلك الروايات فليست الآية في مقام تشريع وجوب الصلوات كي يستدل بها على وجوب جميع الصلوات المأثورة إلّا إذا دلّ الدليل على الاستحباب، بل الآية في مقام بيان الكيفيّة، أي تريد الحث والترغيب إلى المحافظة على الصلوات اليومية التي أمر بها الشارع، بأن تؤتي بنحو صحیح مع الاهتمام بها وبآدابها، لا بالاستخفاف والاستهزاء.

ص: 213


1- راجع مقاييس اللغة ص209.
2- سورة الماعون، الآية: 5.
3- سورة التوبة، الآية: 54.

« وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى »هي صلاة الظهر كما في مستفیض الروايات(1). فوقتها وسط النهار - وقت الزوال -، وكذا هي وسط الصلوات النهارية حيث تتقدمها صلاة الصبح وتتأخر عنها صلاة العصر - كما في الحديث (2)-.

وإنما أفردها تعالى بالذكر مع أنَّها من( الصلوات):

1- لأهمية وقتها. فعن زرارة ومحمد بن مسلم أنَّهما سألا الإمام الباقر علیه السلام عنها، فقال: صلاة الظهر، وفيها فرض اللَّه الجمعة وفيها الساعة التي لا يوافقها عبد مسلم فيسأل اللَّه خيراً إلّا أعطاه اللَّه إياه(3).

2۔ ولأنَّها في وقت اشتغال الناس بأعمالهم ويصعب عليهم ترك عملهم وإقامة الصلاة، لذا تمّ التأكيد عليها .

3- وقد تكون في الحرّ الشديد، فقد قيل : كان الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم يصليها في القيظ ولم يكن للمسجد سقف فشقّت عليهم.

وتدخل صلاة الجمعة في« وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى » لأنَّها صلاة الظهر نفسها حقيقة مع اختلاف في الكيفية لا في الحقيقة، وعن الإمام الباقر علیه السلام : ونزلت هذه الآية يوم الجمعة، ورسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم في سفره ، فقنت فيها رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم وتركها على حالها في السفر والحضر، وأضاف للمقيم ركعتين، وإنما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي صلی اللَّه علیه وآله وسلم يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام، فمن صلّى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربع ركعات صلاة الظهر في سائر الأيام(4).

ص: 214


1- راجع الوسائل ج 4، ص 22.
2- البرهان ج 2، ص 225 عن الكافي.
3- البرهان ج2، ص227، عن تفسير العياشي.
4- الكافي ج 1، ص 271 وعنه في البرهان ج 2، ص 224.

والمعنى أن هذه الآية نزلت يوم الجمعة في السفر فصلی رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم ركعتين، فكل واحد من المسافر والمقيم عليه هاتان الركعتان ، ثم أضاف الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم و للمقيم ركعتين في غير صلاة الجمعة ، وأضاف في صلاة الجمعة خطبتين بدلاً عن الركعة الثالثة والرابعة .

الثالث : قوله تعالى «وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ» .

(القيام) هنا بمعنى العزيمة والنهوض بالأمر(1) ، تقول (قام بهذا الأمر) أي نهض به، فالمعنى انهضوا بهذه الصلاة لوجه اللَّه تعالی متواضعين، فليس «وَقُومُوا » تكرار ل-«حَافِظُوا »- وإن كانا بمعنى واحد - إذ الغرض من«حَافِظُوا » الحث على الاهتمام بالصلاة، والغرض من «وَقُومُوا » بیان لزوم الإخلاص والخضوع في هذه الصلوات، فقوله « لِلَّهِ » يدل على أن الصلاة يجب أن تكون له تعالی خالصاً بلا رياء أو خلط مع أغراض أخرى، وقوله « قَانِتِينَ»من «القنوت» بمعنى الخضوع قال تعالى «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا...»(2).

ولهذا الخضوع مصادیق متعددة ذكرت الروايات بعضها(3)، فمن مصاديق الخضوع الإقبال على الصلاة والمحافظة على وقتها، والدعاء، والطاعة، والخشوع، وعدم التكلم وسطها، وغير ذلك.

وأما القنوت بمعنی رفع الیدین فهو أحد مصادیق القنوت بمعناه الأعم، ودلت الروايات على استحبابه في الركعة الثانية من الصلوات .

ص: 215


1- راجع مقاييس اللغة ص 839.
2- سورة الزمر، الآية: 9.
3- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص226 - 227.

الرابع : قوله تعالى «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ...» الآية .

في الآية السابقة ذكر الحكم بشكل عام فقال تعالى «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ...» ، وفي هذه الآية ذكر لحالتين متعاقبتين هما حالة الخوف وحالة الأمن بعد الخوف.

ففي حالة الخوف سهّل اللَّه الأمر على الناس برفع بعض الشروط كالطمأنينة والاستقبال والركوع والسجود، بل يأتي بما تيسر له ولو في حال المشي والركوب ويركع ويسجد بالإيماء، فاللازم على الإنسان أن يذكر اللَّه تعالى على كل حال، ولا تكون حالة الخوف سبباً للغفلة عنه تعالی، بل في ذلك الوقت يكون الإنسان أحوج إلى ذكره تعالی فعليه أن يذكره بالصلاة بأية كيفية تمكن.

ولا فرق في سبب الخوف سواء كان لصّا أم سَبُعاً أم عدوّاً ، في حالة حرب أم غيرها، وقد ذكرت الروايات بعض هذه المصادیق المذكورة.

ثم بعد زوال الخوف ينتهي حكمه ويرجع إلى الحكم في حالة الأمن وهو لزوم المحافظة على الصلاة بأركانها وشرائطها وما إلى ذلك.

ولعلّ التنبيه على حكم حالة الأمن - مع أن قوله «حَافِظُوا » يدلّ عليها - هو غفلة الناس عن ذكره تعالی بعد تجاوز الصعاب، قال سبحانه «وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ »(1)، كما أن الإنسان قد ينجو من الخطر بإعانة الغير أو بجهوده فیشکر الغير ويفخر وينسى أن الفضل يرجع كلّه للّه تعالى، قال سبحانه«قُلْ مَنْ

ص: 216


1- سورة الزمر، الآية: 8.

يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)»«قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ»(1).

وقوله «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ»أي فأقيموا الصلاة كاملة بأجزائها وشروطها، أو بمعنى اشكروه على نعمة الأمن، أو اشكروه مقابل نعمه ومنها تعليمكم الشريعة.

وقد استدل بهذه الآية على توقيفية العبادات، وكذا على توقيفية أسمائه .

ص: 217


1- سورة الأنعام، الآية: 63 - 64.
الآيات 260 - 242

«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)»«وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)»«كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)»

ثم إن المصارف المالية قد تكون حقاً أوليّاً، وقد لا تكون واجبة لكن يستحب دفعها، فيستحب الوصية للزوجة، كما يستحب دفع المتعة لجميع المطلّقات إلّا التي لم توطأ ولم يفرض لها فرض، وأما الواجب فهو المهر والمتعة للتي لم يعيّن لها مهراً ولم يدخل بها .

وأما الوصية للزوجة فهو ما بيّنه تعالی :

240 - «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ » تقرب وفاتهم«وَيَذَرُونَ» يخلّفون من بعدهم « أَزْوَاجًا » ، فليوصوا «وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ» ، كما يستحب وصيتهم للوالدين والأقربين(1)، ومحتوى الوصية هو: أن یُمَتَّعن « مَتَاعًا»ينتفعون به « إِلَى الْحَوْلِ» سنة كاملة بعد الوفاة« غَيْرَ

ص: 218


1- كما مرّ في قوله تعالى«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ»سورة البقرة، الآية: 180.

إِخْرَاجٍ » أي غير مخرَجات عن بيوت أزواجهن، لكن لا يجب على الزوجات الالتزام بهذه الوصية بل هو حق لهن إن شئن التزمن بالوصية وإن شئن تركنها،«فَإِنْ» اخترن عدم الالتزام بها و« خَرَجْنَ» عن بيوت أزواجهن « فَلَا جُنَاحَ» لا إثم ولا تبعة « عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ»من الزواج والزينة « مِنْ مَعْرُوفٍ » ما لا يخالف الشرع بأن كان الزواج والزينة بعد عدة الوفاة، «وَاللَّهُ عَزِيزٌ »فلا يقهر في حكمه «حَكِيمٌ » في تشريعه للأحكام.

وأما المتعة للمطلقات فهو ما بيّنه بقوله تعالى «وَلِلْمُطَلَّقَاتِ » جميعاً يستحب «مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ » بما يعرفه الشرع - بمقدار متناسب مع إمكانات الزوج من غير أذى -، وهذا التمتيع يحقّ «حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»، نعم المطلقة غير المدخول بها والتي لم يعين لها مهراً فتجب المتعة لها كما مرّ في الآية 236.

241 - كما بیّن اللَّه هذه الأحكام «كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ»علائمه - سواء في التشريع أم في التكوين - « لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »لتكمل عقولكم أو لتستعملوا عقولكم.

بحوث

الأول: الفرق بين هذه الآية وبين الآية 234، أن تلك الآية كانت في مقام بيان التكليف الواجب للزوجات المتوفى عنهنَّ أزواجهنَّ وفي

ص: 219

تكاليف غير مالية، وهذه الآية في مقام بيان ما يستحب للأزواج قبل موتهم بالوصية في القضايا المالية أو المرتبطة بالمال.

وروي أن هذه الآية منسوخة بأية العدة والميراث(1)، والظاهر أن المراد نسخ وجوب الوصية على الأزواج ووجوب الالتزام بها على الزوجات، وكذا نسخ وجوب إعطاء المتعة، فبقي الاستحباب بالوصية وبالمتعة على حاله.

فعن رسول اللَّه صلی الله علیه وآله وسلم : إن المرأة منكنَّ إذا توفي عنها زوجها، أخذت بعرة فرمت بها خلف ظهرها ثم قالت: لا أمتشط ولا أكتحل ولا أختضب حولاً كاملاً، وإنما أمرتكن بأربعة أشهر وعشرة ثم لا تصبرن!!!(2).

وعنه صلی الله علیه وآله وسلم: كانت إحداكن إذا مات زوجها أخذت بَعرة فألقتها خلفها في دُویرتها ، ثم قعدت، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتقتها، ثم اكتحلت بها، ثم تزوجت، فوضع اللَّه عنكنَّ ثمانية أشهر(3).

فهذه كانت عادتهن ثم أقر الإسلام ذلك بقوله تعالى «وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ »، ثمّ نُسخ الوجوب وبقي استحباب الوصية بحاله، وعليه فيلزم إخراج ثمن المتاع وأجرة السكن في الدار من ثُلث الميت، لأن الوصية نافذة إلى حدّ الثلث فما زاد عن ذلك يشترط فيه رضا الورثة.

كما أن من عادتهم كانت عدم إرث الزوجة والاكتفاء بالإنفاق عليها با

ص: 220


1- راجع تفسير العياشي ج 1، ص 129.
2- البرهان: ج 2، ص212 عن الكافي ج6، ص117.
3- البرهان: ج 2، ص213، عن تفسير العياشي ج 1، ص 121.

طيلة السنة ثم أخرجت بغیر میراث، فأقر الإسلام ذلك في البداية ثم نُسخ عدم الإرث بتشريع إرثها الرُّبع والثُّمن. هذا ما ظهر لي في معنى الآية والروايات، و اللَّه العالم.

الثاني : قوله تعالى«وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ » .

قوله «وَصِيَّةً» مفعول مطلق محذوف الفعل أي ليوصوا وصية ، وقوله «مَتَاعًا»أیضاً مفعول مطلق أي ليُمتعن متاعاً، أو مفعول به ل_«وَصِيَّةً » أي : وصية متاعاً واللام في قوله « الْحَوْلِ» للعهد أي الحول المعهود المتعارف عند العرب - كذا قيل -، وقوله «غَيْرَ إِخْرَاجٍ » حال أي حال كونهنَّ غير مخرجات إخراجاً فحذفت مخرجات وأقيم إخراجاً مقامها.

وحيث إن الظاهر من لفظة المتاع هو المصاريف من الطعام والكسوة لذلك عقّبه بقوله «غَيْرَ إِخْرَاجٍ » ، لبيان أن تكون الوصية بشيئين : الرزق - من الطعام والكساء - والإسكان.

ولعلّ وجه استحباب هذه الوصية هو عدم امتلاك الزوجات للمال والمسكن عادةً، وقد تطول المدة في تقسيم الإرث، وقد لا تجد من يؤويها وينفق عليها، فإلقاؤها في الشارع فور وفاة زوجها بلا مأوى ولا نفقة ليس من المروءة، وإيكال الأمر إلى الوراث قد لا يفي بالغرض، إذ قد تكون بينهم وبينها خلافات عائلية، أو يكون بعضهم صغاراً فيجب حفظ حقوقهم كاملة، فالسنة هي فترة كافية لترتيب أوضاعها، لكل ذلك ولغيره من الأسباب استحبت هذه الوصية لتكون ملزمة لسائر الورثة مع عدم التعدي على حقوقهم وخاصة الصغار منهم، لكن ليس في ذلك إكراه

ص: 221

على المرأة، فقد تريد الانتقال إلى بيت أقاربها أو يكون لها مسكن تأوي إليه ومال تنفق منه على نفسها، فيجوز لها الخروج من غير سلطة لأحد عليها لكن شريطة أن تكون تصرفاتها ضمن دائرة الشرع. الثالث: قوله تعالي وواطلقت مع المعوي حقا على التنقيب .

هذا حكم استحبابي آخر، وهو إعطاء جميع المطلّقات المتاع - وهو ما تمتع به وتنتفع به -، ويستثنى من الاستحباب المطلقة غير المدخول بها التي لم يعين لها مهر فيجب تمتيعها كما مرّ في الآية 2396.

وقد مرّ أنَّه في العادة تعطى المرأة مهرها فور العقد معجلاً، فحين الطلاق لا شيء لها، فيكون التمتيع إرضاءً لها وجبراً لخاطرها المكسور، وفي ذلك درء للمشاكل حيث إن الإحسان يقلّل البغضاء والتوتّر، ولذا عقّبه بقوله « بِالْمَعْرُوفِ» أي معروف من حيث مقداره، ومعروف من جهة الإحسان وعدم الإيذاء، ومعروف من سائر الجهات.

ثم إن كان الطلاق بائناً استحب له تعجيل المتاع قبل طلاقها، وأما إن كان رجعيّاً فحيث إنها بحكم الزوجة وعليها البقاء في بيته وعليه الإنفاق عليها كما يرجى الرجعة، فلذا يستحب دفعه بعد انتهاء العدة ، فعن الإمام الصادق عليه السلام : متاعها بعدما تنقضي عدتها، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وكيف يمتعها وهي في عدتها ترجوه ويرجوها؟!، ويحدث اللَّه بينهما ما يشاء(1).

ثم إن قوله « حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ »ظاهر في الوجوب، لأن المستحب ليس حقّاً بل هو فضل، ويبدو أن المراد هو تنفيذ الوصية أي إن الوصية

ص: 222


1- الكافي ج6، ص105، وعنه في البرهان ج 2، ص 230.

بالمتاع والسكن إلى الحول يجب على الورثة تنفيذها، وأن يراعوا اللَّه فيها لا أن يستضعفوا الزوجة ويمنعوها من حقها الثابت لها بالوصية ، فيكون المراد من« الْمُتَّقِينَ » الورثة.

ويحتمل أن يكون المراد بالحق الوصية نفسها فنرفع اليد عن الظهور في الوجوب للروايات المفسرة وللإجماع على عدم الوجوب، فيكون المراد من« الْمُتَّقِينَ » الزوج الموصي نفسه فإن هذه الوصية هي مقتضی التقوى فتأمل.

الرابع : قوله تعالى «كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .

أحكام الشريعة هي آيات ودلائل على اللَّه تعالى، فإن التفكر فيها يسوق الإنسان إلى اكتشاف بعض المصالح والعلل، فيذعن بأن هذه الأحكام لیست تلفيقاً من بشر، بل هي من الخالق العالم بكل شيء لما فيها من المطابقة للفطرة، والمصلحة نوع الناس، وفي تنفيذها السعادة .

وحيث إن سموّ الإنسان بعقله، وبه يمتاز عن البهائم لذا كان تنمية العقل من أولى مهام الأنبياء، ولأنَّه بالعلم ينمو العقل كما قال تعالى « وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ »(1) لذلك كان من الوظائف تعليم الناس كل ما يرتبط باللَّه تعالى من إقامة البراهين على وجوده وعلى صفاته وعلى بطلان الأضداد والأنداد، وكذا بيان الأحكام والآداب والفضائل، فقوله«كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» أي بعلمكم بها عساكم تستعملون عقولكم أو تزداد عقولكم فتأتمروا بأوامره وتزدجروا عن نواهيه، وفي الآية إشارة إلى أن المنتفع بهذه الآيات هو الإنسان لأن اللَّه

ص: 223


1- سورة العنكبوت، الآية: 43.

غنيٌّ حميدٌ فلا تضرُّه المعصية ولا ينتفع بالطاعة، فبيانه للأحكام لكي يعقل الناس وفي ذلك سعادتهم.

وبعبارة أخرى - كما قيل - قرّرنا هذه الأحكام لتعقلوا ثم تعملوا بها، فإنَّ اللَّه قد یبیّن الشيء للعلم به ، وقد يبيّنه للعمل به، وقد يبيّنه للتعقل ثم العمل .

ص: 224

فصل في الجهاد

اشارة

ص: 225

ص: 226

فصل في الجهاد

بعد ذكر أحكام الصلاة والصوم والحج، وأحكام الموت والزواج والنكاح وغيرها، يأتي دور الجهاد في الآيات (243 - 260) ، ففي البداية يتمّ ذكر قصتين من بني إسرائيل، ثم بيان أن الجهاد يكون جهاد النفس أولاً، ثم الجهاد بالكلمة وبالمال وبالنفس، وفي بداية هذه المقاطع يتم بيان أن الإحياء والإماتة والرزق بيد الله، ثم تنتهي المقاطع بالتأكيد على ذلك مرّة أخرى، كما تتضمن الآيات تذكيراً باللَّه تعالى وبصفاته وبحوثاً أخرى سنشير إليها تباعاً ضمن مطالب.

ص: 227

المطلب الأول قصة أموات أحياهم الله تعالى

الآيات 243-245

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)»«وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)»«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)»

243 - «أَلَمْ تَرَ» الرؤية بمعنى العلم، والاستفهام تقريري « إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ » مدينة من مدن الشام« وَهُمْ أُلُوفٌ » كانوا سبعين ألف بيت« حَذَرَ الْمَوْتِ » خوفاً من الموت بالطاعون، « فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا » أماتهم دفعة واحدة، « ثُمَّ أَحْيَاهُمْ » استجابة لدعاء حزقیل علیه السلام وإظهاراً لقدرته تعالى، فعاشوا ما شاء اللَّه حتى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ونكحوا النساء ثم ماتوا بآجالهم، « إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» عامة وعلى أولئك خاصة لذا أحياهم بفضله عليهم، « وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ » فضله ونعمه، فلا يعتبرون بهذه القصة وغيرها .

244 -« وَ»حيث علمتم عدم فائدة الفرار من الموت وأن

ص: 228

الفرار غير منجٍ عنه ف-«قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ » أي بما أمر به تعالی ونبيه خالصة لا للتسلط والتجبر، « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ »لأقوالكم، في التثبيط عن الجهاد أو الحث عليه،« عَلِيمٌ»بنياتكم وأعمالكم فيجازيكم عليها .

245 - وحيث إنَّ في الجهاد خطراً على النفس ويستتبع الإنفاق كثيراً ، فإنَّه تعالى يعوض تعويضاً كبيراً ف-«مَنْ ذَا الَّذِي » أي من هو ذلك الإنسان الذي « يُقْرِضُ اللَّهَ » يعطيه نفسه وماله« قَرْضًا حَسَنًا» حسب ما أمر تعالی مقروناً بالإخلاص وطيب النفس ومن مصادیقه صلة الإمام علیه السلام « فَيُضَاعِفَهُ » اللَّه تعالی له « لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً »لا تحصى كثرةً - في الدنيا والآخرة ،« وَ» لا تخافوا من الجهاد والإنفاق إذ « اللَّهُ يَقْبِضُ» بالإماتة والإفقار « وَيَبْسُطُ»بالإحياء والإغناء « وَإِلَيْهِ »إلى حسابه « تُرْجَعُونَ »على كل حال، فلا ينفعكم الفرار عن الجهاد والإنفاق، كما أن أولئك لم ينفعهم الفرار من الطاعون.

بحوث

الأول : بعد أن ذكرت السابقة جملة من أحكام الأسرة من الزواج والطلاق والوفاة والشؤون المالية والمشاكل الأسرية، انتقلت الآيات إلى ذكر أحكام الجهاد بما فيه من المخاطر على النفس، ومن الإنفاق عليه ، فابتدأت الآيات ببيان عدم جدوى ترك الجهاد والإنفاق حذراً من الموت والفقر، وذلك لأنَّه تعالى قدّر الموت والحياة لجميع الناس فلا ينفعهم

ص: 229

الفرار، كما أن الرزق بيده تعالی فيوسع على من شاء ويضيِّق على من شاء ، فلا الإنفاق يكون سبباً للفقر، ولا البخل يكون سبباً للغنى.

وحيث إنّ للقصة تأثيراً بليغاً في تنبيه الإنسان، ابتدأت أحكام الجهاد بذكر قصة قومٍ من بني إسرائيل فرُّوا من الطاعون، لكنهم ماتوا كلّهم دفعة واحدة من حيث أنَّهم ظنوا الهرب، ثم أحياهم اللَّه تعالى إظهاراً لقدرته ، وليكونوا مثلاً سائراً في الناس، فعن الإمام الباقر علیه السلام أنَّه قال : إن هؤلاء أهل مدينة من مدن الشام، وكانوا سبعين ألف بيت - إلى أن قال علیه السلام - فلمّا أحسّوا بالطاعون خرجوا جميعاً، وتنحَّوا عن الطاعون، حذر الموت، فساروا في البلاد ما شاء اللَّه ، ثم إنهم مروا بمدينة خربة قد جلا عنها أهلها، وأفناهم الطاعون، فنزلوا بها . فلما حطّوا رحالهم واطمأنُّوا بها، قال اللَّه عزَّوجلَّ : موتوا جميعاً، فماتوا من ساعتهم، وصاروا رميماً يلوح، وكانوا على طريق المارَّة، فكنستهم المارَّة فنَحَّوهم وجمعوهم في موضع، فمرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقیل، فلمّا رأى تلك العظام بکی واستعبر، وقال : يا رب لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتَّهم فعمروا بلادك، وولدوا عبادك، وعبدوك مع مَن يعبدك من خلقك، فأوحى اللَّه إليه : أفَتُحِبُّ ذلك؟ قال : نعم يا رب فأحيِهم، قال: فأوحى اللَّه عزَّوجلَّ إليه أن قل كذا وكذا، فقال الذي أمره اللَّه عزَّوجلَّ أن يقوله - فقال أبو عبد اللَّه علیه السلام وهو الاسم الأعظم - فلما قال حزقيل ذلك الكلام نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياءً ينظر بعضهم إلى بعض يسبِّحون اللَّه عزَّوجلَّ ويكبِّرونه ويُهلِّلونه، فقال حزقيل : أشهد أن اللَّه على كل شيء قدير(1).

ص: 230


1- الكافي ج8، ص198 وعنه في البرهان ج2 ص 233 - 234.

الثاني : قوله تعالى «أَلَمْ تَرَ» .

الاستفهام هنا للتقرير سواء لم يكن السامع عالماً وأريد أن يعلم، أم كان عالماً، والرؤية هنا بمعنى العلم كقوله «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ »(1)، وأصل الرؤية هو النظر بالعين ثم استعملت في العلم أیضاً بمناسبة أن النظر هو من أقوى أسباب العلم، والمخاطب في«أَلَمْ تَرَ»إمّا الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم على طريقة «إياك أعني واسمعي يا جارة»، أو باعتباره صلی اللَّه علیه وآله وسلم واسطة في الفيض، وإما المخاطب الناس عموما فيكون المعنى ألم تر أيها السامع.

وقيل هكذا خطاب «أَلَمْ تَرَ»ونحوه للتعجيب أي تعجبوا من هذه الحالة فاعتبروا بها.

الثالث : قوله تعالى «فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا» .

في هذا التعبير بدل «فأماتهم »إشعار بأن موتهم لم يكن بحسب الأسباب الطبيعية، بل كان بحسب إرادته تعالى التكوينيّة وبقولة واحدة ، كما قال «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »(2). ثم إن قوله قد يراد به مشيئته أو القضاء الحتم، أي شاء اللَّه موتهم فماتوا أو قضي عليهم الموت فماتوا، وقد يراد به خلق قول كانت الإماتة بذلك القول، فإنَّه تعالى جعل لكل شيء سبباً ، وكما جعل ملك الموت سبباً للإماتة بإذنه تعالى، كذلك يمكن أن يخلق قولاً يكون سبباً للإماتة ، وقيل : عبر عنه بالقول تنبيهاً على أنَّهم ماتوا موتة رجل واحد بمشيئة منه تعالی.

ص: 231


1- سورة إبراهيم، الآية: 19.
2- سورة النحل، الآية: 40.

وقد يقال : إن موتهم كان بس بسبب طبيعي - وهو الطاعون الذي فرّوا منه - فيكون الغرض من ذكر موتهم هو أنَّهم فرُّوا من الموت، ولكنه تعالى أماتهم بنفس السبب الذي فرُّوا منه، نظير قوله تعالى «قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ »(1) أي إلى محل مقتلهم أو إلى قبورهم .

والحاصل أن هذا كالمقدمة لتشجيع المسلمين على الجهاد، حيث إن الموت لا مفرّ منه فليكن موتكم بالشهادة وهي أفضل ميتة .

الرابع : قوله تعالى «ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ».

عن الإمام الباقر علیه السلام قال: بل ردّهم اللَّه حتى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ونكحوا النساء ولبثوا بذلك ما شاء الله، ثم ماتوا بآجالهم (2).

وأما سبب إحيائهم :

1 - أراد اللَّه تعالى أن يُرِيَ خلقه قدرته -كما عن الإمام الصادق علیه السلام فبذلك ظهرت قدرته تعالى بالإماتة والإحياء (3).

2 - استجابة لدعاء النبي حزقيل علیه السلام ، وإظهار معجزة له، حيث إن اللَّه أحياهم بدعائه وبما علّمه من الاسم الأعظم كما مرّ في حديث الكافي لقصتهم -.

3 - وليصبحوا مثلاً في الآخرين، لتكون قصتهم موضع عبرة واتِّعاظ، وأن الفرار من الموت لا ينفع .

ص: 232


1- سورة آل عمران، الآية: 154.
2- تفسير العياشي ج1، ص130، وعنه في البرهان ج2، ص 234.
3- البرهان ج2، ص234 عن الاحتجاج.

4 - بيان فضله تعالى عليهم، وكما تفضل عليهم، فإنَّه يتفضّل على سائر الناس، حسب ما يراه من المصلحة، وللفضل مصادیق غیر منحصرة، وليس بالضرورة أن يكون فضله على الناس بشكل واحد، فهو القادر على كل أنواع الفضل.

فأصل خلقهم فضل منه تعالى، ثم رزقهم وتدبير أمورهم، ونعمة إرسال الرسل وإنزال الكتب، وحتى أخذهم بالبأساء والضراء نعمة منه حتى يتنبهوا ويتضرعوا ويتركوا غيَّهم أو لرفع درجاتهم.

ومن مصادیق فضله على الناس أن قدّر قضايا الأمم سابقة ليكونوا مثلاً وعظةً للأمم اللَّاحقة، وقصة هؤلاء وبيانها في القرآن الكريم من ذلك الفضل.

الخامس: قوله تعالى:«وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(1).

لما بیّن تعالى قصة إماتة وإحياء أولئك القوم وعدم فائدة الفرار من الموت، حثّ المؤمنين على الجهاد، فإن الفرار عن الجهاد حذراً من الموت غير مجدٍ، فإن الجميع سيموتون - سواء المجاهد والقاعد - فلتكن الميتة بالشهادة وهي أفضل أنواع الموت لما فيها من العِزّ ودفع العدّو والذكر الحسن والمقام الرفيع، والعقلاء يتحملون الأضرار الدنيوية التحصيل الربح في كل شؤونهم، وأيُّ ربح أكبر من رضا اللَّه والثواب والعزّ... إلخ، بل قد يكون الجهاد سبباً لتقدير طول الحياة وذلك لأن التخاذل عنه يوجب سيطرة العدو بما فيه من البطش والقتل، وليس كل

ص: 233


1- سورة البقرة، الآية: 244.

مجاهد يقتل، بل غالب المجاهدين فازوا بالنصر والغنيمة والسمعة الطيبة والعزّ لهم ولذراريهم. هذا مضافاً إلى الثواب الأخروي للجهاد في سبيل اللَّه .

و«سَبِيلِ اللَّهِ»هو شرط صحة الجهاد والثواب عليه، وذلك بأن يكون قتالاً عن أمر اللَّه تعالى، وبمراعاة شروط الجهاد من إخلاص النية ، والإيمان، والقتال تحت لواء من أمر اللَّه بالائتمار بأمره - وهو الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ومن بعده الأئمة ا أو من أمروا باتباعه -.

وأما القتال تحت لواء أئمة الجور وأشياع الضلالة من غير إذن من الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام فذاك ليس قتالاً في سبيل اللَّه تعالی بل هو قتال من غير إذنه تعالى فيكون قتالاً في سبيل الطاغوت.

ولو فرض انتفاع الدين والمؤمنين بذلك القتال فهو من مصادیق قوله صلی اللَّه علیه وآله وسلم إن اللَّه ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم(1).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : فليحكم امرؤ لنفسه، وليُرها كتاب اللَّه عثر وجل ويعرضها عليه، فإنَّه لا أحد أعلم بالمرء من نفسه، فإن وجدها قائمة بما شرط اللَّه عليه في الجهاد فليقدم على الجهاد، وإن علم تقصيراً فليصلحها وليقمها على ما فرض اللَّه تعالى عليها من الجهاد، ثم ليقدم بها وهي طاهرة مطهرة من كل دنس يحول بينها وبين جهادها، ولسنا نقول لمن أراد الجهاد وهو على خلاف ما وصفنا من شرائط اللَّه عزَّوجلَّ على المؤمنين والمجاهدين لا تجاهدوا !، ولكن نقول : قد علّمناكم ما شرط اللَّه عزَّوجلَّ على أهل الجهاد الذين بايعهم واشترى منهم أنفسهم

ص: 234


1- الكافي ج5، ص19.

وأموالهم بالجنان، فليصلح امرؤ ما علم من نفسه من تقصير عن ذلك ، وليعرضها على شرائط الله، فإن رأى أنَّه قد وفى بها وتكاملت فيه فإنَّه ممن أذن اللَّه عزَّوجلَّ له في الجهاد، وإن أبى إلّا أن يكون مجاهداً على ما فيه من الإصرار على المعاصي والمحارم والإقدام على الجهاد بالتخبيط والعمى والقدوم على اللَّه عزَّوجلَّ بالجهل والروايات الكاذبة، فقد لعمري جاء الأثر فيمن فعل هذا الفعل : إن اللَّه ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم (1)وحج الإمام زين العابدين علیه السلام فقال له رجل: تركت الجهاد وخشونته وأخذت بالحج وليونته! فقال له علیه السلام :

ثم بیّن اللَّه تعالى أن اللَّه سميع عليم بالنوايا والأعمال، فيعلم من يثبط عن الجهاد، ومن يتخلّف عن الجهاد،كما أنَّه يعلم بالمجاهدين وأن جهادهم هل هو في سبيله أم لا، ويعلم بمن يحث الناس على الجهاد، فيجازيهم جميعاً على أعمالهم وعلى ما يضمرون .

السادس : قوله تعالى«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ...»الآية .

هذه الآية المباركة غاية في الحث على الجهاد، فقد شبّه تعالى الجهاد بالقرض الحسن الذي لا يخسر صاحبه رأس المال بل يرجع إليه رأس ماله مع أرباحه، فالمُقرض هو المجاهد، والمستقرض هو تعالى، والقرض هو نفس المجاهد وماله، والربح هو أضعاف لا يحصيها إلّا اللَّه تعالى . فالقتال في سبيله تعالى المستتبع لصرف المال والخطر في النفس لا يذهب هدراً، وإنما المقاتل العامل بالبِرِّ يستوفي ثوابه أضعافاً مضاعفة .

ص: 235


1- الكافي: ج5، ص19.

ولا يخفى أنَّه تمَّ تشبيه الجهاد - بالمال والنفس - تارة بالقرض، وتارة أخرى بالبيع والشراء، كما قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ »(1)، ولعلّه لأجل أن إنفاق المال يخلفه اللَّه تعالى كما قال«وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ »(2) فكان الإنفاق كالقرض، وأما القتال فقد يسلم المجاهد ولا يصاب بأذى، فيكون كالقرض حيث أقرض نفسه لله ثم استرجعها بربح، وقد يقتل المجاهد فيكون الجهاد کالبيع والشراء فباع نفسه واشترى رضا اللَّه والجنة.

ثم إن (القرض) هو مجرد تشبيه لتقريب الفكرة إلى الأذهان وتليين القلوب، وليس كما زعمته اليهود إفكاً وطغياناً من حاجة اللَّه تعالى، قال سبحانه«لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ...»(3)، وهذا من مصادیق تحريف الكلم عن مواقعه وذلك بتحريف المعنى والمقصود.

وقوله «مَنْ ذَا الَّذِي »«من» استفهامية مبتدأ، و«ذا » خبر، و«الذي» بدل عنه، فالمعنى من هو هذا الذي يقرض، والغرض هو الأمر بالإقراض لكن جيء بالاستفهام ليكون أوقع في النفوس وأنسب للجزاء في «فَيُضَاعِفَهُ »

وقوله «َ قَرْضًا حَسَنًا » أي متَّصفاً بما يُحسّنه، من کون ذلك التصرف بإذن اللَّه تعالی وبإخلاص النية من غير رياء، ولا مَنّ، ولا إكراه، ولا سائر ما يشين القرض.

ص: 236


1- سورة التوبة، الآية: 111.
2- سورة سبأ، الآية: 39.
3- سورة آل عمران، الآية: 181.

وقوله «فَيُضَاعِفَهُ »أي يضاعف جزاءه، أو يضاعف نفس العمل بناء على تجسّم الأعمال، وإنما قال «يُضَاعِفَهُ » من باب المفاعلة - مع أن التضعيف هو فعل اللَّه سبحانه - للمبالغة.

وقوله « أَضْعَافًا كَثِيرَةً» وذلك حسب النية والعقل والعلم والمعرفة والتقوى ونوع العمل وغير ذلك مما هو دخيل في سمُّو العمل وصلاحه ، قال تعالى «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا »(1)، وقال «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا »(2)، وقال«مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ »(3).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية ومن جاء بالحسنة فله خير ينهاه قال رسول اللَّه صلی اللله علیه وآله : ربّ زدني، فأنزل اللَّه : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » والكثير عند اللَّه لا يحصى(4).

السابع : قوله تعالى : « وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » .

(القبض) هو الأخذ بالقبضة، فكان فيه معنى الاستيفاء والتجمع، وقبضه تعالی بمعنى الإماتة لأنَّها قبض للأرواح، وبمعنى الإفقار.

و(البسط) بمعنى الإحياء وبمعنى التوسعة في الرزق، وإن كان الغالب استعماله في الرزق كما قال تعالى«اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ

ص: 237


1- سورة القصص، الآية: 84.
2- سورة الأنعام، الآية: 160.
3- سورة البقرة، الآية: 261.
4- البرهان ج 2، ص 236 عن تفسير العياشي.

وَيَقْدِرُ » (1)وفي الآية بيان أن ترك الجهاد وعدم الإنفاق لا ينفع في الفرار من الموت والفقر، كما أن الجهاد والإنفاق لا يوجبان سرعة الموت أو الفقر، فإن الموت والحياة والرزق وكل شيء بيد اللَّه تعالى يقدّر حسب الحكمة، فكم من مجاهد رجع سالماً غانماً، وكم متخاذل عجّل اللَّه موته بذل - بالقتل أو بغيره -، وكم منفق ضاعف اللَّه أمواله، وكم بخيل افتقر من حيث كان يظن غناه، كل ذلك دليل على أن الأمور كلّها بيد الله، فلو أطعتموه في أوامره وخاصة الجهاد بالمال والنفس لكان خيراً لكم، ثم الجميع - المطيع والعاصي - يرجعون إلى اللَّه تعالى فيحاسبهم ثم يجازيهم إن خيراً فخير وإن شراً فشرّ.

ثم إن من أفضل مصاديق إقراض اللَّه تعالى هو صلة الإمام علیه السلام ، لأن في ذلك تنفيذ أوامر اللَّه تعالى بمودتهم وإطاعتهم، كما أن فيه إقامة الدين لأن الأئمة علیهم السلام أعرف الناس بصرف الأموال في وجوه البِرّ ونشر الدين، فما في الأخبار من أن الآية في صلة الإمام علیه السلام (2) هو بيان لأهم المصاديق وأولاها.

ص: 238


1- سورة الرعد، الآية: 26.
2- راجع البرهان ج2، ص235 عن الكافي ج1، ص251 وتفسير العياشي ج1، ص131.

المطلب الثاني قصة طالوت

الآيتان 246- 247

«أَلَمْ تَرَإِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)»«وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)»

246 - «أَلَمْ تَرَ» استفهام تقريري « إِلَى الْمَلَإِ» الجماعة أو جماعة الأشراف « مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى» بعد وفاته بزمان، حيث تفشّى فيهم العصيان فسلط اللَّه عليهم الظالمين « إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ » اشموئيل بالعبرية، إسماعيل بالعربية، وروي أنَّه كان أرميا : « ابْعَثْ» هیِّئ وعَيِّن « لَنَا مَلِكًا » سلطاناً أميراً علينا ، لتأتمر بأوامره

ص: 239

و« نُقَاتِلْ »تحت لوائه « فِي سَبِيلِ اللَّهِ » لننجو من الظلم، وحيث كان النبي يعرفهم بالعصيان والخذلان فأراد استیضاح نياتهم وأخذ العهد منهم وإتمام الحجة عليهم ف- « قَالَ» النبيُّ : « هَلْ عَسَيْتُمْ »استفهام عما هو متوقع، أي لعلَّكم « إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ» أمركم اللَّه به « أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ » أي ما هو الدَّاعي لترك القتال « فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، بل الواعي للقتال شديدة « وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا »بالطرد منها« وَأَبْنَائِنَا » بقتل بعضهم وسبي آخرين، « فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ»أمرهم اللَّه به « تَوَلَّوْا» أعرضوا عنه « إِلَّا قَلِيلًا »كانوا ستين ألفاً،« وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » فهم ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم بترك الجهاد وهذا وعيد لهم.

247 - ثم بعد إتمام الحجة عليهم استجاب اللَّه الدعاء وعيّن ملكاً «و َقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ »عيّن عليكم « طَالُوتَ »من ذرية بن یامین بن يعقوب « مَلِكًا » ، لكنهم تمرَّدوا و« قَالُوا أَنَّى» كيف ومن أين « يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا »إذ هو ليس من سبط النبوة ولا من سبط الملك كما أنَّه فقير « وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ » لشرافتنا في النسب فقد كانت النبوة في بني إسرائيل في ذرية لاوي بن يعقوب، والملك في ذرية يهوذا أو يوسف، « وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ» فهو فقير!!

ف-« قَالَ »النبي في جوابهم : أما النسب فليس سبباً للملك، بل سببها الصلاحية، وطالوت أصلح منكم « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ »اختاره « عَلَيْكُمْ» و اللَّه لا يصطفي إلّا الأصلح، وأما المال فليس بمهمٍّ « وَزَادَهُ » اللَّه

ص: 240

« بَسْطَةً » زيادة « فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ » أي يلزم كون المَلِك ذا علم ليتمكن من إدارة المملكة، ويكون شجاعاً مهيوباً ينفذ قراراته ويجلب الأمن، وهذان يأتيان بالمال وليس العكس، ثم لا وقع لاعتراضكم أصلاً فإن اللَّه كما أتى الملك والنبوة في سبط لاوي ويهوذا أو يوسف، كذلك يؤتيه الآن في سبط بنيامين « وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ »عطاءً وقدرة فيتفضل على من يشاء « عَلِيمٌ »فلذلك يقدر ما هو الصلاح .

بحوث

الأول: تضمنت قصة طالوت مجموعة من أحكام الجهاد : منها : لزوم كون الجهاد بإذن اللَّه تعالى، بأن يكون تحت لواء من عيَّنه اللَّه تعالى، أو بإذن من عيَّنه اللَّه

ومنها : أن الدفاع عن النفس والأبناء والديار من مقاصد الجهاد، ولا تنافيَ بين هذا الدفاع وبين كون الجهاد في سبيل اللَّه تعالى، وذلك لأن اللَّه أمر بالدفاع فيكون الدفاع في سبيله تعالى .

ومنها : أن ترك الجهاد ظلم، فهو حرام .

ومنها : أن الإمام علیه السلام لابدَّ أن يكون أعلم من المأموم، وأن يكون شجاعاً، غير ذي نقص في جسمه، فلا تصح إمامة المفضول على الفاضل، ولا إمامة الجبان، ولا إمامة المعوّق جسماً .

ومنها : أن المعيّن من قبل اللَّه تعالى لابدَّ أن تكون له آية ومعجزة .

ومنها : لزوم اتباع الأمير المعين من قبل اللَّه تعالى، وحرمة مخالفته .

ص: 241

ومنها : لزوم الإعداد من العدد والعدة .

ومنها : الصبر وعدم الفرار من الزحف .

ومنها غير ذلك مما سيتضح في مطاوي الكلام، هذا مضافاً إلى اشتمال الآيات على العقائد وبيان فضل اللَّه تعالى، وشروط متولي الأمر، وصفات الأمة، وبطلان ملك أئمة الجور، وغير ذلك .

الثاني: قوله تعالى «أَلَمْ تَرَإِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ...»الآية .

وكان من قصتهم ما عن الإمام الباقر علیه السلام : أنّ بني إسرائيل من بعد موسی علیه السلام عملوا بالمعاصي، وغيَّروا دين الله، وعَتَوا عن أمر ربهم، وكان فيهم نبيٌّ يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه -وروي أنَّه أرميا النبي علیه السلام (1)-، فسلط اللَّه عليهم جالوت وهو من القبط(2)، فأذَلَّهم، وقتل رجالهم، وأخرجهم من ديارهم وأموالهم، واستعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيهم، وقالوا سل اللَّه أن يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر، لم يجمع اللَّه تعالى لهم النبوة والملك في بيت واحد - إلى أن قال - وكانت النبوة في وُلد (لاوي)، والملك في وُلد (يوسف)(3)، وكان طالوت من ولد بنيامين أخي يوسف لأمّه لم يكن من بيت النبوة ولا من بيت المملكة . . . الحديث(4) .

ص: 242


1- هذه جملة معترضة ذكرها صاحب تفسير القمي في وسط كلام الإمام الباقر علیه السلام .
2- لعلّ المراد أن أصله كان من القبط، ويمكن القول بأن التواريخ التي ذكرت أنَّه كان من العمالقة ليست صحيحة، أو يقال إن العمالقة كانوا في أصولهم من القبط.
3- وفي تفسير العياشي ج1، ص132: وقد عرفت أن النبوة والمملكة في آل لاوي ويهوذا.
4- البرهان ج2، ص238. عن تفسير القمي.

ولا يخفى أنَّ القرآن الكريم لم يذكر القصص إلّا للاعتبار وللوعظ ولبيان الأحكام والعقائد، لأنَّها أكثر تأثيراً وأسهل للاعتبار والحفظ، ولذا اكتفى القرآن من القصص بما يصبُّ في الهداية لا أكثر، فلم يذكر التفاصيل الزائدة ولا الأمور الهامشية، ثم إن الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام بينوا بعض التفاصيل إما إجابة لسؤال من سألهم أو لأجل البيان لمن شاء أن يعلم التفاصيل .

و(الملأ) الجماعة، أو الجماعة من الأشراف، لأنَّهم يملؤون العيون والصدور هيبةً، أو لا مزيد على شرافتهم الظاهرية .

الثالث : قوله تعالى «إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »

فزعوا إلى نبيّهم لعلمهم بأنَّه مرتبط باللَّه تعالى، وهذا دأب الكثير من الناس يعصون ويعرضون عن اللّه وأوليائه في الرخاء فلمّا يصابون بالشدة يلتجئون إلى اللَّه وإلى أوليائه بفطرتهم ولتقطع الأسباب عندهم، وقد يكون الابتلاء من لطف اللَّه تعالى بهم ليتضرَّعوا وليرجعوا إلى الصراط السويِّ كما قال سبحانه «... فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)»«فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا »(1)، مضافاً إلى أن سنن اللَّه تعالى لا تتغير فمن أفسد حصد النتائج المرة، قال سبحانه «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا »(2)، وبتعبير آخر إن اللَّه جعل أسباباً طبيعية وأخرى غيبيّة فمن أطاعه وتمسك بتلك الأسباب حصد النتائج المرجوّة، ومن ترك الأسباب الطبيعة وأعرض عن أحكامه تعالى فإنَّه يحصد المشاكل

ص: 243


1- سورة الأنعام، الآية: 42 - 43.
2- سورة طه، الآية: 124.

والخزيَ والعار، ولا يمكنه الخروج عن واقعه المزري إلّا بالرجوع إلى سنن اللَّه تعالى، وهؤلاء الملأ من بني إسرائيل لعصيانهم وخلودهم إلى الدعة والراحة وتركهم للجهاد تسلط عليهم أعداؤهم فساموهم خسفاً، وحيث شاهدوا الخزي والذُّلّ توجهوا إلى النبي صلوات اللَّه عليه يريدون تهيئة الأسباب الطبيعية وفي إطار مرضاة اللَّه تعالى، ولذا قالوا وأبعث لنا ملكا تقتل في سبيل اللَّه ؟

فأولاً : مراجعته : مراجعتهم للنبي هو تمسك بسبب طبيعي وغيبي معاً، لأنَّه مرتبط باللَّه وباب إليه تعالى كما قال تعالى« وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ »(1). ولأنَّه مسموع الكلمة بين الناس لعلمهم أنَّه نبيٌّ .

وثانياً : طلبوا تعيين الملك الذي به ينتظم الأمر فإنَّه لا بدَّ للناس من أمير، ولا يمكن التوجه للقتال إلّا بعد أن يكون هناك قائد يدير أمر المعركة، كما أعلنوا تهيؤهم للقتال إذ لا يمكن للأمير تنظيم الأمور إلّا برعيّة مطيعة، وإلا فلا رأي لمن لا يطاع - كما عن أمير المؤمنين عليه السلام(2).

وثالثاً : بَيَّنوا أن عملهم خالص لله تعالى، فليس جهادهم للسيطرة أو الغنيمة بل في سبيل الله، ومن المعلوم أن إنقاذ النفس والأهل والمال هو بأمر اللَّه تعالى فيكون في سبيله إذا أخلصوا النيَّة .

فلما بينوا استعدادهم للامتثال للأوامر استحباب اللَّه لطلبهم بعد دعاء النبي صلوات اللَّه عليه، وبعد تحذيرهم من المخالفة .

ولكن لماذا لم يطلبوا أن يكون نبيهم بنفسه الملك عليهم؟

ص: 244


1- سورة المائدة، الآية: 35.
2- الكافي ج 5، ص6.

والجواب : ما عن الإمام الباقر علیه السلام قال: وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر، لم يجمع اللَّه تعالى لهم النبوة والملك في بيت واحد، فمن ذلك «قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »(1) ثم بعد ذلك جمع اللَّه الملك والنبوة في داود وسليمان علیهما السلام .

الرابع : قوله تعالى «قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا» .

وذلك لما كان المعهود منهم من اللّجاج والمخالفة، وما كان معروفاً منهم من أنَّهم أهل الدعة والراحة، ولصعوبة القتال وإحداق المخاطر بالمقاتلين، وكما قال أسلافهم لموسى علیه السلام «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ »(2)

وهذا دأب الكثيرين فيتكلمون في الفضائل والجهاد ويبيّنون استعدادهم لكل شيء حتى إذا حان وقت العمل تخاذلوا وجبنوا وتحججوا بمختلف الحجج والأوهام للفرار من المسؤولية، وها هم أصحاب الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم كانوا يتمنون الشهادة قبل أحد لكنهم انهزموا لمّا جدَّ الجدّ، قال تعالى «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »(3)

بل لعلَّ بعض هؤلاء الملأ من بني إسرائيل أرادوا إلقاء لوم مشاكلهم على اللَّه وعلى نبيّهم، فبقاؤهم في الذل والاستعباد هو نتيجة عدم تعيين

ص: 245


1- البرهان ج2، ص238، عن تفسير القمي.
2- سورة المائدة، الآية: 24.
3- سورة آل عمران، الآية: 143.

الملك عليهم، ولكن كان البعض الآخرون صادقين في كلامهم، فهم وإن كانوا أقلية لكن اللَّه سبحانه لما علم منهم الصدق استجاب لهم، وكان النصر على يدهم .

وقوله « هَلْ عَسَيْتُمْ » الاستفهام للتقرير، و«عسى» للتوقع، فالمعنى هو الاستفهام عما هو متوقع منهم بغرض إتمام الحجة عليهم بإقرارهم، وقد تكون وهل عسيتم إشفاقاً عليهم من مخالفة الأمر بالقتال فتكون المخالفة مزيداً في عصيانهم، فالعاصي كلما زادت تکالیفه زاد عصیانه قال تعالى«وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)»«وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ »(1).

الخامس : قوله تعالى «قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا ...»

غرضهم أن الداعي إلى الجهاد قوي فيهم فكيف تتوقع منهم المخالفة، فهم مظلومون أخرجوا من ديارهم أو سُبي أبناؤهم وغير ذلك فتكون الحمية والمصلحة قوية جدّاً في هذا القتال، لكنهم نسوا أن الذات وخوف الموت أقوى - كما ثبت في علم النفس - فهي تفوق كل الغرائز الأخرى، وفي القتال خوف الموت وتلف النفس فتكون أرجح من الأموال والأبناء، فلا يكون الإقدام على القتال إلّا بسببٍ قويٍّ جداً وذلك بقوة الإيمان في المؤمنين، أو بقوة الانتصار للذات بحيث يعتبر الإنسان عرضه أو شرفه أو ماء وجهه أهم من حياته، ولذا قد يتفانى بعض الناس - حتى غير المتدينين - في صون العِرض والسمعة وهذا يرجع في الحقيقة

ص: 246


1- سورة التوبة، الآيتان: 124 - 125.

إلى الانتصار للذات ومراعاتها، فتكون السُّمعة أو العرض في نظره أهم من الحياة حينئذ، أما الغالب فيرجح الحياة ولو كانت بذُلٍّ، على الجهاد وإن كان فيه العِزّ.

ثم يستفاد من تقرير القرآن لكلامهم هو أنَّه لا تنافي بين أن يكون القتال في سبيل اللَّه وبين الدفاع عن المال والأهل، لأنّ اللَّه تعالى أمر بحفظ الأهل والمال والعرض، والدفاع عنهم مقابل الظالمين، فيكون نفس الدفاع ضد الظالمين عملاً محبوباً، فإذا اقترن بالإخلاص استحق الثواب، نظير إعانة الفقير فإنَّه عمل محبوب في نفسه، فإذا اقترن بنية الإخلاص استحقَّ عليه الثواب تفضلاً من اللَّه تعالى .

السادس : قوله تعالى «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ »

والقليل منهم كانوا ستين ألفاً - كما روي ذلك(1)- ولكن الأكثر أعرضوا عن الجهاد فلم يمتثلوا للأمر به، وقد مرّ هؤلاء بمراحل مختلفة، وفي كل مرحلة سقط جمع منهم، منها :

1 - وجوب الجهاد والانطلاق له، وهنا سقط الأكثر إلّا ستين ألفاً ، وذلك لصعوبة الجهاد وإحساسهم بالخطر المحدق بهم، وكانت الحجة تامة عليهم «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ » (2) : حيث كان إيجاب الجهاد باقتراحهم وبأخذ نبيهم الإقرار منهم .

2 - اختيار اللَّه طالوت ملكاً عليهم، وهنا سقطت مجموعة موعة منه

ص: 247


1- البرهان ج2، ص238 عن معاني الأخبار ص151.
2- سورة الأنعام، الآية: 149.

لتكبرهم حيث زعموا أنَّهم أفضل وأعلى، لشرافة نسبهم ولامتلاكهم للثروة .

3 - امتحانهم بمدى التزامهم بأوامر أميرهم في الحرب، وكان ذلك بابتلائهم بالعطش ومنعهم من شربه إلّا بمقدار غرفة، فسقط الأكثر، ولعلّ سبب هذا الامتحان هو أن من يعصي الأوامر البسيطة سيولّي الدبر وينهزم في المعركة وذلك سبب الهزيمة، فأراد اللَّه تعالى أن يصفّي الجيش من أولئك .

فامتحنهم اللَّه بالتكليف الصعب أولاً، ثم امتحنهم بأمرٍ نفسيٍّ وهو اختيار من كانوا يزعمونه وضيعاً، ثم امتحنهم بحاجة جسمانية وهي العطش .

السابع : قوله تعالى «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » .

1 - فإنَّه كان يعلم بسقوطهم فلم يكن التكليف والامتحان لكي يعلم، فهو العالم بكل شيء، بل لتتم الحجة عليهم، ولكي لا يعاقب من غير استحقاق، فإن من لم يرتكب جرماً لا يستحقُّ عقاباً حتى مع العلم بأنَّه سيرتكبه، قال سبحانه«وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى »(1)

2 - كما أنَّه تعالى عليم بالذين خالفوا ولم يمتثلوا للتكليف فيجازيهم، وهؤلاء ظلموا أنفسهم بالذنب .

3 - كما أنَّه تعالى عليم بالعصاة الذين ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم بعصيانهم الذي سبّب ضعف بني إسرائيل وسيطرة الأعداء عليهم ليسوموهم سوء العذاب ويخرجوهم من ديارهم وأبنائهم .

ص: 248


1- سورة طه، الآية: 134.

الثامن: «قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ...»الآية .

تكبروا واعترضوا على تعيين طالوت لجهتين شرافة في النسب وامتلاك الثروة ودحض نبيّهم كلتا الحجتين .

1 - زعموا أنَّهم أحق بالملك وراثةً لكونهم من سبط النبوة أو سبط المملكة، والجواب أن المدار على اختيار اللَّه تعالى لا على الاعتبارات التي لا قيمة لها واقعاً، ومن المعلوم أن اللَّه لا يختار إلّا الأصلح، وكما أن اللَّه اختار الأنبياء والملوك سابقاً من سائر الأسباط كذلك يختار الملك الآن من سبط آخر، فما هو المرجح لتلك الأسباط من قبل مع أن -جميعهم كانوا من ذرية يعقوب علیه السلام- ؟ المرجح المرجح هو اصطفاء الله، كذلك الان.

2 - قالوا إنَّ طالوت فقير وهم أغنياء، وهذا من تكبرهم حيث زعموا الغنيَّ أولى من الفقير، والجواب أنَّه لا يشترط في إدارة المملكة في تجييش الجيش الثروة الشخصية للملك، بل يشترط أن يكون مديراً مدبراً وشجاعاً مهاباً، فيتمكن من جمع المال بإدارته وشجاعته، وإلا فهل يتمكن أحد بثروته الشخصية إدارة مملكة وجيش بأكمله، بل غير المدير الجبان حتى لو كانت أموال طائلة تحت تصرّفه فإنَّه سيبدّدها .

ويمكن أن يكون جواب نبيهم بجواب تعبدي وجواب إقناعي، أما التعبدي فإن اللَّه اصطفاه فعليكم أن ترضخوا لاختياره تعالى، وأما الجواب الإقناعي فهو علمه وشجاعته

التاسع : قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ».

دلت الآية على أن اللَّه قد يصطفي ملوكاً، كما يصطفي الأنبياء

ص: 249

والأوصياء، وقد يجمع الملك مع النبوة والإمامة، كما جمعهما في داود وسليمان .

وذلك لأنَّه تعالى مالك كل شيء، فكل تصرف في ملكه يحتاج إلى إذنه تعالى، ولذا قال جملة من الأصوليين بحق الطاعة - لا بأصالة الإباحة - بمعنى أن العقل يحكم بحرمة كل تصرف إلّا إذا أذن المولى تعالى، وعليه يكون كل إمارة ومملكة عدوانية وبالظلم إلّا إذا كان بتعيين من اللَّه تعالى أو بإذنه، وتفصيل أصالة الإباحة أو الحظر عقلاً يطلب من كتب أصول الفقه .

ثم إن الآية دلت على اشتراط العلم في الخلافة الإلهية، فلا بد أن يكون الإمام أعلم من غيره، وعلى اشتراط الشجاعة، فإنَّه من المعلوم أن البسطة في الجسم لا تراد بما هي هي، بل لأجل تلازمها مع الشجاعة والمهابة، هذا ولا يخفى أن العلم يلازم التقوى لقوله تعالى «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ »(1).

وهذا ما دل عليه العقل أیضاً .

العاشر : قوله تعالى «وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

إيتاء الملك قد يكون تكوينيّاً وقد يكون تشريعيّاً .

1 - أما التشريعي : فهو إعطاؤه صلاحية الأمر والنهي، وجواز التصرف في الشؤون العامة، ولا يثبت هذا إلّا بالإعجاز أو النص، وقد يجتمعان كما في طالوت حيث نصّ عليه نبيّهم، كما جعل اللَّه له آية لمُلكه .

ص: 250


1- سورة فاطر، الآية: 28.

وحيث إن تشريعاته كلّها بحكمة فلذا لا يكون الإيتاء التشريعي إلّا لمن اصطفاه اللَّه تعالى، - وهو يساوق العصمة - لأن اللَّه لا يأمر بإطاعة من يعصي أو يخطئ إطاعة مطلقة، ولذا اصطفی طالوت وزاده بسطة في العلم والجسم.

2- وأما التكويني، فهو يرتبط بتقديره تعالى وبجعل الأسباب والمسببات، ومن سار طبقاً لتلك الأسباب وصل إلى المسبَّب وهو المُلك - عادلاً كان أم ظالماً . فقال عن نمرود «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ »(1)، وقال سبحانه «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ »(2).

وقوله« وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» أي واسع عطاءً، فالمعنى هو سعة فضله وقدرته فيوسّع على من يشاء، وهو تعالی علیم لذلك يوسع حسب ما يعلم من المصلحة .

ص: 251


1- سورة البقرة الآية: 208.
2- سورة آل عمران، الآية: 26.
الآية 248

«وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)»

6. 248 - ثم إن اللَّه أراهم معجزة لينصاعوا إلى طالوت، ولشدِّ عزيمتهم على الجهاد، «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ »أي العلامة الظاهرة الاختيار اللَّه طالوت ملكاً عليكم : «أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ» وهو صندوقٌ خشبي أنزله اللَّه على أم موسى فوضعته ، ووضع موسى علیه السلام قالت فيه الألواح وآثار النبوة، وكان معظماً عند بني إسرائيل، فلمّا استخفّوا به رفعه اللَّه عنهم، فأصابهم الذلّ، وحيث أراد اللَّه إعزازهم أرجع التابوت، « فِيهِ سَكِينَةٌ»ما يوجب اطمئنان النفس« مِنْ رَبِّكُمْ»« وَبَقِيَّةٌ»أي في التابوت ما تبقى « مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ »أي مواريث الأنبياء من موسى وهارون وأوصيائهم علیهم السلام ، حال کون هذا التابوت «تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ » لقدسيَّته وأهميَّته، «إِنَّ فِي ذَلِكَ»رجوع التابوت « لَآيَةً لَكُمْ » لكي تعلموا باختيار اللَّه طالوت «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » مهتدين، وإلاّ فالمنافق لا تنفعه الآيات.

ص: 252

بحوث

الأول : قوله تعالى «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ...»الآیة.

ذكرنا أن دلالة اختيار اللَّه تعالی لشخص قد يكون بالنص من النبيّ أو الوصي السابق، وقد يكون بالإعجاز بأن يظهر اللَّه معجزة دالَّةً على هذا الاختيار، وقد يجتمع النص والإعجاز، أما المؤمنون حقًّا فهم يكتفون بالنص لقوة إيمانهم وشدة تصديقهم، ولكن حيث إن غالب الناس ليسوا بتلك المنزلة فيكون الإعجاز دليلاً قاطعاً لهم.

نعم إذا لم يكن هناك مجال للنصّ، كما لو ابتدأ اللَّه بإرسال نبيّ من غير أن يكون وصيّا لنبيٍّ آخر، أو كان النص منحصراً في أيدي مجموعة قليلة - قد تحرف الكلم عن مواضعه . ففحینئذٍ يكون الإعجاز أقوى شاهد ودليل.

ولذا كثرت معجزات النبي الأعظم صلی اللَّه علیه وآله وسلم - حتى روي أنَّها بلغت أربعة آلاف معجزة -، وأظهرها وأعمّها وأدوَمها القرآن الكريم، مع وجود بشارة الأنبياء السابقين به في التوراة والإنجيل، لكن طالهما التحريف والكتمان، وكذا تعددت المعجزات الظاهرة لأمير المؤمنین عليه السلام لأن تلك الفترة كانت فترة التجذير ومنع التحريف، مع كثرة نصوص النبي الأعظم صلی اللَّه علیه وآله وسلم على إمامته علیه السلام ، وكذا تكثر المعجزات الظاهرة للإمام المهدي (عجل اللَّه فرجه الشریف) لأن زمانه زمان بسط العدل في كل ربوع الأرض فلذا يحتاج الناس إلى مشاهدة تلك المعجزات، وأما سائر الأئمة علیهم السلام فحباهم اللَّه بمعجزات كثيرة لكن غالبها لم تكن ظاهرة لعامة

ص: 253

الناس ليجري قضاء اللَّه تعالى في اختبار الناس - مع استمرار دین الحق وعدم زواله - وليكون النص أدك دليل على إمامتهم، مضافاً إلى سماتهم الشخصية من العلم والورع والعمل الصالح وسائر علائمهم وآياتهم .

الثاني : قوله تعالى «أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ».

«التابوت» صندوق خشبي، وهو على وزن فَعَلُوت، نظير جبروت وملكوت ومادته (ت و ب) بمعنی رجع، وذلك لرجوع الأشياء إلى الصندوق بعد إخراجها منه أو لرجوع صاحبه إليه كلما احتاج إلى ما في الصندوق .

وعن الإمام الباقر علیه السلام قال : وكان التابوت الذي أنزل على موسی فوضعته فيه أمّه وألقته في اليمِّ، فكان في بني إسرائيل معظماً يتبركون به، فلمّا حضرت موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آیات النبوة، وأودعه يوشع وصيّه، فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفّوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو اسرائيل في عزّ وشرف ما دام التابوت عندهم، فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه اللَّه عنهم، فلما سألوا النبي، بعث اللَّه تعالی طالوت عليهم ملكاً يقاتل معهم، فردّ اللَّه عليهم التابوت (1).

ثم إن هذا التابوت کان علامة النبوة أو الملك في بني إسرائيل فعن الإمام الصادق عليه السلام قال : كانت بنو إسرائيل أي أهل بيت وجد التابوت على بابهم أوتوا النبوة(2)، وعنه عليه السلام حيثما دار التابوت دار الملك (3)والظاهر

ص: 254


1- البرهان ج 2، ص 239 عن تفسير القمي.
2- أصول الكافي: ج 1، ص238.
3- المصدر نفسه.

أن التابوت كما كان علامة للنبوة كذلك كان علامة للمُلك، فإن وجد التابوت عند أهل بيت أوتوا إما الملك وإما النبوة، وقد يؤتيان كليهما كما في داود وسليمان.

الثالث : قوله تعالى: « فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ».

أي نفس التابوت يكون سبباً للسكينة، كما أن ما يتضمنه من المعارف في الألواح سبب آخر للسكينة، وذلك لأن الأمة المنهارة المغلوبة لا يمكنها أن تلمّ شعثها ولا أن تنهض إلّا إذا وجدت العزيمة القوية واطمئنان خاطر وبال، فإنَّه لا يفيد العدد ولا العُدة مع الانهيار النفسي، ولذا ارتفاع المعنويات في الأمم من أهم أسباب نهوضها ، لكن مع الشعور بالانهزام النفسي وخور المعنويات لا يمكن النهوض وتغيير الحال أبداً .

ولذلك الأمم المغلوبة إن فقدت معنوياتها ستذوب تدريجياً في الأمم الغالبة، وما أكثر الشعوب التي انقرضت فلم يبق منهم أحد، وليس ذلك بمعنی عدم بقاء ذريتهم بل بمعنی ذوبانهم في الأمم الأخرى فبادت لغتهم وعاداتهم وتاريخهم وتطبًّع الأجيال اللَّاحقة بطابع الأمم الغالبة حتى صاروا جزءًا منهم.

ولدفع خطر الانهيار والذوبان قد تفكر الأمة المغلوبة بالانعزال والعيش في دوائر خاصة بها، وهذا حلّ مفيد في الظروف الخاصة، ولعلّه إلى ذلك يشير ما قاله موسی علیه السلام « وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً »(1) أي يتقابل بعضكم مع بعض حتى تكونوا مجتمعين في مكان واحد، لكن هذا حلّ موقت لا يمكن استمراره إلى ما لا نهاية .

ص: 255


1- سورة يونس، الآية: 87.

وقد تجعل نُظم شخصية واجتماعية تمنع من الذوبان، وهذا ما يشاهد في أحكام الإسلام حتى إنها تربط الإنسان بالدين من المهد إلى الأحد، وفي كل أموره، وفي كل أوقاته، ولذا من الصعوبة ذوبان المسلمين المستضعفين في الأمم الغالبة القوية حتى وهم في دار المهجر، ولذا شعرت بعض بلدان الغرب بالخطر المحدق على ثقافتها وتاريخها من المسلمين المهاجرين رغم أنَّهم أقلية مضطهدة، وذلك لمّا شاهدوا ذوبان سائر الأمم بحيث أصبح أبناؤهم وأحفادهم جزءاً من المجتمع والثقافة الغربية، ولكن حافظ المسلمون على خصوصياتهم رغم مرور أجيال متعددة .

على كل حال فإن استعادة المعنويات من أسباب تجمع القوى ومقاومة الأمة الغالبة عسكرياً ومن ثمَّ الانتصار عليها، فلذا أنزل اللَّه تعالى السكينة على بني إسرائيل بإنزال التابوت، كما أنزل السكينة على رسول اللَّه صلی اللَّه وعلیه وآله وسلم وعلى المؤمنين من أصحابه في المواقف العصيبة، فإن (السكينة) هي ما يوجب سکون البال واطمئنان القلب وارتفاع اضطرابه .

وهذه السكينة قد تنشأ من أمر باطني، وقد تنشأ من أمر ظاهري، فإن الإنسان قد يطمئن بسبب ما أدرکه بقوى الإدراك الباطنية، وقد يطمئن بسبب ما رآه وأحسَّه بحواسه الظاهرية.

أما الأول: فهو الإيمان والمعرفة والعلم، حيث توجب اطمئنان القلب وسكونه، قال تعالى «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا »(1)، وهذا الإيمان هو روح من اللَّه تعالى قال تعالى:« أُولَئِكَ

ص: 256


1- سورة الفتح، الآية: 4.

كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ »لأن حياة القلوب بالإيمان

كما قال تعالى «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا »(1).

ولا يخفى أن معرفة اللَّه تعالی ليست لها نهاية، لأنَّه تعالی غیر متناهٍ فلا تناهي لمعرفته، ولذا يزداد الرسول صلی اللَّه وعلیه وآله وسلم والأئمة عليه السلام معرفة به باستمرار، وقد شرحنا هذا المعنى في شرح أصول الكافي فراجع، قال تعالى «إ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى »(2).

وأما الثاني: فهو المعجزات الظاهرة التي توجب الاطمئنان القلبي، قال سبحانه «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي »(3).

والسكينة التي كانت في التابوت تضمنت كلا الأمرين، فهي:

1- تضمنت الألواح التي فيها العلم والمعرفة وبها حلّ المنازعات والخلافات، وقد أنزل اللَّه الإيمان في قلوب المؤمنين مع نزول التابوت .

2 - كما تضمنت معجزات ظاهرية يراها الجميع بحيث تطمئن قلوبهم إلى صدق الادِّعاء ورعاية اللَّه لهم، وتجتمع قلوبهم على العمل والتقوى .

فعن الإمام الرضا علیه السلام في معنى السكينة، قال : ريح تخرج من الجنة، لها صورة كصورة الإنسان، ورائحة طيبة، وهي التي نزلت على

ص: 257


1- سورة الأنعام، الآية: 122.
2- سورة الفتح، الآية: 26.
3- سورة البقرة الآية: 260.

إبراهيم عليه السلام فأقبلت تدور حول الكعبة وهو يضع الأساطين (1)والظاهر أن هذا سبب السكينة وهو أمر ظاهر للعيان.

وعن الإمام الكاظم علیه السلام في معناها ، قال : روح اللَّه يتكلّم إذا اختلفوا في شيء كلّمهم وأخبرهم بما يريدون(2)والظاهر أن المراد العلم الذي كان في الألواح فإنَّه روح - بفتح الراء أو ضمها - من اللَّه تعالى، وهو كلامه عزَّوجلَّ ، وبذلك العلم فصل الخلافات.

وعن الإمام الباقر علیه السلام قال : السكينة الإيمان(3)وهذا الأمر المعنوي حيث إنها سبب للإيمان كما ذكرنا، واللَّه العالم.

الرابع : قوله تعالی : « وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ » .

أي موسى وآله، وهارون وآله، فإنَّه قد يطلق الآل ويراد به نفس الشخص وآله، كقوله :«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ »(4) أي إبراهيم وآله وعمران وآله، وقال«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ » (5)أي أدخلوا فرعون وآله .

والمعنى أن الألواح التي نزلت على موسى كان يتوارثها الأنبياء من ذرية موسى وهارون، وقد جعلوه في التابوت، وهذه الألواح قد تكسرت إما بسبب طول المدة أو بسبب كثرة مراجعة الأنبياء لها، أو بسبب عبث الصبيان بالتابوت قبل رفعه، فعن الإمام الباقر علیه السلام في تفسير الآية ، قال :

ص: 258


1- الكافي: ج 3، ص 471.
2- البرهان ج 2، ص 242 عن معاني الأخبار.
3- الكافي: ج 2، ص15.
4- سورة آل عمران، الآية: 33.
5- سورة غافر، الآية: 46.

رَضراض الألواح، فيها العلم والحكمة، العلم جاء من السماء فكتب في الألواح وجعل في التابوت(1)، والرضراض هو المتكسر من الشيء.

الخامس: قوله تعالى «تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ».

يظهر من بعض الأخبار أن التابوت خرج من يد بني إسرائيل وذلك بنهب العمالقة - قوم من الأقوام كانوا يسكنون فلسطين ومنهم جالوت - فعن أمير المؤمنين عليه السلام : ويوم الأربعاء أخذت العماليق التابوت(2).

أما كيفية رجوعه إلى بني إسرائيل، ففي مجمع البيان: وقيل : لما غلب الأعداء على التابوت أدخلوه بيت الأصنام فأصبحت أصنامهم منكبَّة، فأخرجوه ووضعوه ناحية المدينة فأخذهم وجع في أعناقهم، وكل موضع وضعوه ظهر فيه بلاء وموت ووباء، فأشير عليهم بأن يخرجوا التابوت، فأجمع رأيهم على أن يأتوا به ويحملوه على عجلة ويشدّوها على ثورین، ففعلوا ذلك فأرسلوا الثورين، فجاءت الملائكة وساقوا الثورين إلى بني إسرائيل(3)، وإنما نقلنا هذا القول لأنَّه يصلح بياناً لمعنی ما روي عن الإمام الباقر علیه السلام قال : كانت تحمله في صورة البقرة(4)، وقد يقال إن قوله (في صورة البقرة) حال عن الملائكة أي الملائكة كانوا بتلك الصورة لأنَّهم يتشكلون بأشكال مختلفة، فتأمل.

والظاهر أن كيفية رجوع التابوت وحمل الملائكة له كانت بطريقة إعجازية لتكون آية ، فلا يكون مجالا للتشكيك .

ص: 259


1- البرهان ج 2، ص 244 عن تفسير العياشي
2- البحار ج 21، ص 451.
3- مجمع البيان ج2، ص219.
4- البرهان: ج2، ص241، عن الكافي.
الآية 249

«فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)».

249 - فلما جاء التابوت مع ما فيه من السكينة وبقية آل موسی وآل هارون اجتمع ستون ألفاً في جيش طالوت، «فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ» انفصلوا عن مقرِّهم وخرجوا للجهاد،« قَالَ» طالوت بوحي اللَّه إليه أو بإخبار النبي له: « إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ»مختبركم« بِنَهَرٍ» من الماء على عطش منكم ليميز الصادق من الكاذب ، وأما حكم شربه :

أ- « فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ » من النهر« فَلَيْسَ مِنِّي» ليس تابعاً لي وساقط في الامتحان، لأ من لا يصبر على العطش سینهزم في المعركة ولا يصبر على القتال.

ص: 260

ب - « وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ » أي لم يذقه إطلاقاً « فَإِنَّهُ مِنِّي »تابع لي، فهو يتمكن من ضبط شهواته فيصمد في مواجهة الأعداء.

ج-« إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» أي شرب بمقدار ما يتجمع في الكف، فهذا ليس من القسم الأول ولا الثاني، فهو مؤمن وناجح في الامتحان لكن ليس إيمانه بدرجة أولئك الذين هم من القسم الثاني

« (249)».

فلما وصلوا إلى النهر سقط الأكثر « فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ»كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وهؤلاء بين من لم يذق الماء أصلاً وبين من اغترف غرفة، ولم يتمكن الشاربون من عبور النهر « فَلَمَّا جَاوَزَهُ » عبر طالوت النهر « هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ » من لم يذق الماء ومن اغترف غرفة، « قَالُوا» الذين اغترفوا :« لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ » قائد جيش الكفار « وَجُنُودِهِ» لكثرتهم وقوتهم، « قَالَ» الذين لم يذوقوا الماء « الَّذِينَ يَظُنُّونَ»أي يتيقنون« أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ» يلاقون جزاءه في القيامة - في جوابهم تشجيعاً لهم -:« كَمْ مِنْ فِئَةٍ »مجموعة « قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ »بإذنه التكويني لمّا عملوا بالأسباب الظاهرية، وبإرادته الغيبية لمّا تضرعوا إليه وتوسلوا « وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»ينصرهم وينجّيهم.

بحوث

الأول : مع أنَّهم شاهدوا التابوت تخاذل أكثرهم، فلم يستعدَّ للقتال

ص: 261

إلا ستون ألفاً - كما في الأخبار -، وهؤلاء أیضاً كانوا بحاجة إلى اختبار وتمحيص، إذ لعلَّ البعض كان اختياره بتأثّر وقتيّ وخاصة في فترة الحماس والهيجان، فإن الاستمرار في الشيء أصعب من الشروع فيه، وما أكثر الناس الذين يقررون قراراً ويبدأون بالعمل لكنهم ينصرفون بعد فترة ويغيّرون قرارهم لما يرون من الصعوبات، وكذلك قرارهم بالإيمان والعمل الصالح، قال تعالى«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)»«وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(1) فما أكثر من تأخذه أجواء حماسية أو أسباب أسريّة أو اقتصادية ونحوها فيظهر الإيمان لكن الإيمان لم يكن متجذّراً فيه.

هذا مضافاً إلى أنَّ تقوية الإيمان أیضاً تكون عبر تجاوز الصعوبات، كالتلقيح الذي هو تدريب للجسم عن مقارعة الجراثيم، وقد مرّ أن الامتحان كما يكون لتمييز الكاذب عن الصادق، كذلك يكون لتقوية إيمان الصادق عبر تمحیصه .

وغير المؤمنين والذين لا يمتثلون أمر قائد الجيش والذين يرجحون شهواتهم على الطاعة، إن وجود هؤلاء قد يكون سبباً لانكسار الجيش وهزيمته، فلعلّه لذلك أراد اللَّه تعالی غربلة جيش طالوت ليخلص الجيش من الحثالات ويصفو المؤمنون المطيعون الذين يمتثلون الأمر.

ثم إن اللَّه امتحنهم بأمر ظاهر للعيان لكي لا تبقى حجة لأحد منهم.

وحيث إن الإيمان درجات، لذلك روعي في الامتحان درجاتهم أيضاً فكان هنالك حرام ومستحبٌّ:

ص: 262


1- سورة العنكبوت، الآيتان: 2- 3.

أما الحرام، فلكي يتميز العصاة من المؤمنين، فحرّم تعالى الشرب .

وأما المستحب، فلكي تتبين درجة إيمان المؤمنين .

ولذا صدر الحكم بأن من يشرب فهو عاصٍ غير تابع لطالوت، ومن لم يذق الماء أصلاً فهو كطالوت في قوة إيمانه وشدة عزيمته، ومن شرب غرفة من الماء فقد ترك مستحبّاً ولم يرتكب حراما فهذا أیضاً مؤمن ناجٍ لأنَّه لم يرتكب مخالفة لكنه ليس بدرجة أولئك الذين لم يتذوقوا إطلاقاً، وسيأتي ذكر الأخبار في هذا المعنى.

وحيث إن حقيقة الإنسان تظهر في مواقفه لذلك تبين درجة إيمان هؤلاء حین عبور النهر، فالذين اغترفوا قالوا لا طاقة لنا بجالوت وجنوده، والذين لم يتذوقوا قالوا كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ الآية ، وهذا من لطف اللَّه تعالى على الناس فلم يشقّ عليهم رأفةً ورحمةً، وجعل علائم لما في النفوس لكي يحاول الإنسان تربية نفسه وتزكيتها، ولكي يعرف القادة المؤمنون حقيقة أتباعهم فيتعاملون معهم حسب طاقتهم وقابلياتهم.

الثاني : قوله تعالى« إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ».

الظاهر أن هذا استثناء من قوله «وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» ، فيكون المعنى: ومن لم يذقه إلّا بمقدار الغُرفة فإنَّه منّي، وقيل : هو استثناء من « فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي » فالمعنى فمن شرب فليس مني إلّا الشرب بمقدار الغرفة فهو مني، وقيل : هو استثناء من كلا المقطعين، أي من اغترف لا هو منه، ولا هو ليس منه .

والأقوى هو الأول، لأن الاستثناء المتعقب للجمل يرجع إلى

ص: 263

الجملة الأخيرة، كما أن معنى«فَإِنَّهُ مِنِّي »و«فَلَيْسَ مِنِّي »هو الاتّباع، كما قال«مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(1)أي من تبعني فهو من زمرتي وجماعتي، ومن المعلوم أن الذين اعترفوا غرفة لم يكونوا عصاة بل أباح لهم طالوت ذلك، فلذا هم ينطبق عليهم «فَإِنَّهُ مِنِّي » حيث إنهم من زمرة طالوت وحزبه وجماعته، ولذا أطلق اللَّه تعالی لفظ الإيمان فقال «فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ » وهذه العبارة تشمل كلا الفريقين- الذي لم يطعم، والمغترف غرفة فقط -.

وقوله «وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ » أي لم يذقه، حيث إن هذا الصنف لم يشربوا حتى بمقدار الغرفة فلم يذوقوا الماء أصلاً - لا بمقدار الغرفة ولا أقل منها حتى بمقدار التذوق -.

وعن الإمام الباقر علیه السلام : ... فشربوا منه إلّا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، منهم من اغترف، ومنهم من لم يشرب، فلما برزوا قال الذين اغترفوا « لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ»، وقال الذين لم يغترفوا «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»(2) .

الثالث : قوله تعالى «قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ » .

قالوا تشجيعاً لأولئك وتصبيراً لهم، كما قال تعالى« وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ »(3)، فإن الانهيار النفسي مقدمة للفشل، ولذا فمن لاحظ بروز ضعفٍ نفسيٍّ في المؤمنين عليه أن يشجّعهم ويرفع معنوياتهم، قال

ص: 264


1- سورة إبراهيم، الآية: 36.
2- الكافي: ج 8، ص317، وعنه في البرهان ج 2، ص 241.
3- سورة العصر، الآية: 3.

تعالى «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ...»(1).

وليكن التشجيع بالصدق، لا بالكذب والتمني الباطل والخداع، ولذا

فإنَّ هؤلاء المؤمنين قد بينوا عدة حقائق مشجِّعةً:

1- تذكير بنماذج ومصادیق فازت الأقلية على الأكثرية، فإن بیان حقائق قد وقعت خارجاً أكثر تأثيراً.

2 - بیان لزوم اتخاذ كافة الأسباب الطبيعية والغيبية، وحينئذٍ لله المشيئة، فإن شاء نصرهم وإلا اختارهم للشهادة، فقالوا« بِإِذْنِ اللَّهِ»وسيأتي الكلام عنه.

3- بيان حقيقة أن الصبر لازم في المواقع الصعبة، وقد أمر اللَّه تعالی به ، فاصبروا فإن اللَّه ينصركم بما شاء.

وقوله « يَظُنُّونَ» بمعنی يعلمون ويتيقنون، وفي مقاييس اللغة : «ظنّ» يدل على معنيَينِ مختلفين : يقين وشكّ(2)، وفي المفردات «الظ» اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدّاً لم يتجاوز حدّ الوهم(3)، فهؤلاء كانوا على يقين بيوم الجزاء وأن اللَّه سيجازي الجميع، ولذلك ثبتوا على الإيمان وأطاعوا من أمر اللَّه بإطاعته، بل وارتقوا إلى المراتب العالية من الإيمان فلذلك قالوا هذا الكلام حثّاً وتوصية لأولئك .

قوله «مُلَاقُو اللَّهِ» أي لقاء حسابه وجزائه في يوم القيامة، وعن أمير

ص: 265


1- سورة الأنفال، الآية: 65.
2- مقاييس اللغة، ص 615.
3- المفردات ص539.

المؤمنین علیه السلام : فافهم جميع ما في كتاب اللَّه من لقائه فإنَّه يعني بذلك البعث(1).

وفي مناهج البيان: الظاهر أن إطلاق اللِّقاء على البعث بلحاظ شدة المعرفة وزوال الحجب، فيزداد المؤمنون إيماناً ولا يمكن للكافرين الترديد(2).

فالجميع سيلاقي اللَّه تعالى من المؤمنين وغيرهم، قال«تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا »(3)، وقال «فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ »(4).

والحاصل أن الكافر لا يتمكن من التشكيك، قال تعالى«هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)»«أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ »(5) وهو استفهام بقصد التوبيخ حين كانوا يشككون في المعجزات بأنَّها سحر، وأما المؤمن فيزداد معرفة وإيماناً حينما تزول الحجب يوم القيامة، وعن أمير المؤمنين عليه السلام : وكذلك قوله «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ »(6)يعني أنَّه لا يزول الإيمان عن قلوبهم يوم يبعثون(7) .

الرابع: قوله تعالى «»كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً...الآية

(کم) خبرية ومعناها التكثير، فقد يحدّثنا التاريخ كثيراً بانتصار جماعة

ص: 266


1- توحيد الصدوق، ص267.
2- مناهج البيان ج 2، ص308.
3- سورة الأحزاب، الآية: 44.
4- سورة التوبة، الآية: 77.
5- سورة الطور، الآية: 14 - 15.
6- سورة الأحزاب، الآية: 44.
7- توحيد الصدوق، ص267.

قليلة على جماعة كثيرة، وهؤلاء المشجعون لم يقولوا «يمكن الغلبة» إذ كما قد ينتصر القليل على الكثير كذلك قد ينتصر الكثير على القليل، ولكل واحد من هذين الاحتمالين نماذج كثيرة في التاريخ، ولكنهم ذكروا الجانب الإيجابي - وهو غلبة القليل على الكثير - لأن ذلك بيان للنموذج، والمصداق الذي يوجب التشجيع واستعادة المعنويات مع أنَّه كلام حقّ وصدق، مثلاً المريض الذي يخشى عليه الموت لا يقال له : مرضك قد يعالج وقد لا يعالج، بل يذكرون له النماذج التي عولجت وشُفیت تقوية المعنوياته.

وأما قوله « بِإِذْنِ اللَّهِ» فقد مرّ أن إذنه هو الأسباب الظاهرية والتقديرات الإلهية .

1- بمعنى أن من يلتزم بالأسباب التي جعلها اللَّه في الكون يصل عادة إلى المسبَّب وهو الغلبة، ولذا انهزم المسلمون يوم أحد لأن بعضهم تركوا الأسباب فخالفوا أوامر الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وتركوا جبل الرماة وهو الثغر الذي أغار منه المشركون.

2 - وكذا إن اللَّه سبحانه قد يقدّر الغلبة بدون أسباب ظاهرية فتتهیّا الأسباب الغيبيّة كيفما شاء فتتحقق الغلبة، وهذا مرتبط بمشيئته تعالی، فقد يشاء وقد لا يشاء.

ص: 267

الآيات 250 - 252

«وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)»«فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)»«تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)».

250 -«وَلَمَّا بَرَزُوا » طالوت والذين آمنوا معه «لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ » لحربهم، تضرعوا إلى اللَّه و«قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا»صَبَّه علينا صبّا « وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا» لكي لا نفرَّ من المعركة « وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ »، فاستجاب اللَّه دعاءهم.

251 -«فَهَزَمُوهُمْ » هزم المؤمنون الكافرين «بِإِذْنِ اللَّهِ »بنصره، «وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ» رأس الكفر، وبسقوطه حلت الهزيمة بالكفار، « وَآتَاهُ اللَّهُ » أعطىاللَّه داود «الْمُلْكَ» الإمارة « وَالْحِكْمَةَ»النبوة، فاجتمعتا له « وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ »اللَّه تعالى، کالزبور، وقوة العبادة، وصنعة الحديد، ونحوها.

ثم بیّن اللَّه حكمة الجهاد، وذلك ببيان قاعدة عامة وهي: «وَلَوْلَا

«(250)»«(251)»«(252)».

ص: 268

دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ »يدفع المصلحون المفسدين، ومن مصادیقه جهاد المؤمنين ضد الكافرين، ومن مصادیقه صلاح المؤمنين والتزامهم بقوانين اللَّه تعالى، لولا ذلك «لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ » أي عم الفساد في الناس ففسد الاجتماع، وفسدت الطبيعة بفعل الناس،«وَلَكِنَّ اللَّهَ » تعالى منع ذلك الفساد عبر أحكامه فإنَّه تعالى «ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ » أجمع، فإن دفع الفساد يصل خيره إلى الجميع.

202 -«تِلْكَ»الأحكام والقصص المذكورة ، « آيَاتُ اللَّهِ » تدل عليه وعلى علمه وقدرته وحكمته وسائر صفاته«نَتْلُوهَا » نقرأها «عَلَيْكَ» يا محمد « بِالْحَقِّ »بالصدق فلا كذب فيها، ولغرض الهداية لا لأجل الباطل«وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ »فتتلو تلك الآيات على الناس ليتبعوا الحقّ.

بحوث

الأول : قوله تعالى «قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ».

المؤمنون الذين نجحوا في الابتلاء والتمحيص هؤلاء قد فعلوا كل ما أمرهم اللَّه تعالى - من اتخاذ الأسباب الطبيعية والغيبية -، فوصلوا إلى المرحلة الأخيرة وهي ساحة المعركة فلم ينكلوا بل برزوا للقتال، ولكنهم

ص: 269

يعلمون أن كل شيء بيد اللَّه تعالى لذا تضرعوا إليه، ودعوا بثلاثة أدعية : الصبر وهو أمرٌ نفسيٌّ، ثم الثبات وهو أمرٌ خارجيٌّ، والنصر وهو النتيجة .

1. الصبر: سألوا اللَّه أن يرزقهم صبراً کاملاً ، فقالوا: «أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا » تمَّ تشبيه الصبر بالإناء الذي يُقلّب فينصب كل ما فيه فيصبح فارغاً، وذلك لأن موقف المعركة مع قلة العدد وكثرة العدو - من أصعب المواقف التي تنازع النفس عليه للفرار، فأول مرحلة تبدأ من الصمود، وذلك بحاجة إلى غاية في الصبر، ثم إن تنكير «صَبْرًا » لإيكال الأمر إلى اللَّه تعالى فهو الذي يعلم ما هو الصبر المحتاج إليه في تلك الحالة، لأن كل حالة وكل شخص بحاجة إلى نوعية خاصة مِنَ الصفات.

2- تثبيت الأقدام : سألوا اللَّه تعالى أن يكون موقفهم في المعركة موقفاً مناسباً ليتمكنوا من القتال بطريقة مناسبة ، فإنَّ العوامل الطبيعية في المعركة مؤثرة جدّاً في سير المعركة، فموقع المقاتلين، والأرض التي يقفون عليها، وجهة الشمس والرياح... إلخ، كلّها لا تخلو من تأثير، ولذا أرسل اللَّه المطر في معركة بدر لئلَّا تكون الأرض الرملية رخوة حين القتال فتزلَّ أقدام المجاهدين كما قال تعالى «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ »(1).

3- النصر: سألوا اللَّه أن ينصرهم، وهذه هي النتيجة للصبر والثبات، «وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ».

فهؤلاء لم يطلبوا النصر جزافاً ، بل هم عملوا بكل ما أمرهم اللَّه

ص: 270


1- سورة الأنفال، الآية: 11.

تعالى ثم سألوه سبحانه أن يساعدهم على أداء التكليف - بالصبر والثبات - وبعد ذلك سألوه تعالى النصر .

فمن يريد النصر من غير أسباب فهو متوهِّم، وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر(1) فإن سنة اللَّه تعالى جرت على أن ينصر المؤمنين المؤمنين المطيعين المؤدِّين لتكاليفهم المتضرِّعين إلى اللَّه في عونهم في أداء المهمة، قال تعالى«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ »(2).

وهذا رسول اللہ صلی اللَّه علیه وآله وسلم وهو أشرف المخلوقات تحمّل كلَّ الصعاب في سبيل الدعوة، وقاتل في مواطن كثيرة، وراعي جميع الأسباب الظاهرية ، وتضرع إلى اللَّه تعالى فنصره اللَّه سبحانه .

ثم إن في قولهم«وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ » بيان أن دعاءهم إنما هو لأمر محبوب للّه تعالى، فأولئك قوم کافرون باللَّه سبحانه، فنريد أن تنصرنا عليهم لأنّا عبادك ومؤمنون بك، فإن اللَّه تعالى لا يستجيب الدعاء في الحرام، قال تعالى« أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»(3)،«فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ »(4) ،«وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ »(5)

وعن الإمام الصادق علیه السلام : من أطاع اللَّه فيما أمره ثم دعاه من جهة

ص: 271


1- نهج البلاغة، الحكمة: 337.
2- سورة آل عمران، الآية: 146.
3- سورة البقرة، الآية: 186.
4- سورة غافر، الآية: 14.
5- سورة الرعد، الآية: 14.

الدعاء أجابه . . . الحديث(1)، وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم ما من مسلم دعا اللَّه سبحانه دعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلّا أعطاه اللَّه أحد خصال ثلاث : إما أن يعجل دعوته، وإما أن يدَّخر له، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها(2).

الثاني : قوله تعالى«فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ » .

أي فاستجاب اللَّه دعاءهم فنصرهم، وكان سبب تحقق النصر هو مقتل رأس الكفر جالوت، وإنما ذكرت الهزيمة أولاً قبل ذكر مقتل جالوت لبيان سرعة استجابة اللَّه لدعائهم، فلما دعوا استجاب دعاءهم، ولأنَّه تعالى أراد ذكر داود بقوله «وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ...» فنسق الكلام اقتضى تأخير ذكره، وبعبارة أخرى : الآيتان تضمنتا موضوعين : 1 - دعاء المؤمنين واستجابته . 2 - عمل داود ولطف اللَّه به، فذكر الموضوع الأول بتمامه، ثم انتقلت الآية إلى الموضوع الثاني، مع أن الموضوعين متداخلان زماناً.

وفي الآية بيان لاستراتيجيّة مهمة يتبعها المحاربون عادة، وهي ضرب رأس العدو ليختلَّ انتظامهم ولينهزموا نفسيّاً ثم عسكريّاً، وداود علیه السلام استعمل سلاحاً بسيطاً - هو المقلاع مع حجر - ضرب به جبهة جالوت فانتثر دماغه وخرَّ ميتاً(3)فانهزم جيشه الكثير المدجَّج بالسلاح .

فإنَّه وإن لزم تهيئة العدد والعُدَّة واستعمال الأساليب النفسية كما قال تعالى «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ

ص: 272


1- أصول الكافي ج2، ص486.
2- الوسائل، ج7، ص27.
3- راجع تفصيل القصة في روايات تفسير البرهان ج2، ص 240 فما بعد.

اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ »(1)، لكن أیضاً لا بدّ من أن تكون الاستراتيجية صحيحة والأولويات معلومة، وسقوط رمز العدو من العوامل المؤثرة في هزيمته نفسيّاً وعسكريّاً .

الثالث : قوله تعالى«وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ».

بعد أن عظُمت منزلة داود بين بني إسرائيل وتهيَّأت النفوس ليكون أميراً ونبياً، جعله اللَّه ملكاً على بني إسرائيل، وجعله نبياً أيضاً، فجمع الأمرين له .

وحينما يصطفي اللَّه تعالى شخصاً لأمر ما ، فإنَّه يجعله قابلاً لتحمل تلك المسؤولية، فيزوده بما يحتاج إليه، ولذا علّم اللَّه تعالى داود ما تحتاج إليه المملكة من القوة والإدارة، وما يحتاج إليه النبي من العلم والمعجزة، فأنزل عليه الزبور وصوتاً حسناً لتلاوته، ووهبه القوة على العبادة وكذلك علّمه صنع الدرع ولَيَّن له الحديد لتكون مملكته محصنة بالقوة أمام الأعداء قال تعالى«وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ » (2)، وقال «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ »(3)، وقال «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ »(4)، وقال « وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا »(5).

ص: 273


1- سورة الأنفال، الآية: 60.
2- سورة الأنبياء، الآية: 80.
3- سورة سبأ، الآية: 10.
4- سورة ص، الآية: 26.
5- سورة الإسراء، الآية: 55.

الرابع : قوله تعالي«وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ...»(1) الآية .

هذا المقطع هو بيان لحكمة الجهاد، وذلك ببيان سنة إلهية عامة تنطبق على تشريع الجهاد، وذلك أن اللَّه تعالى خلق الخلق لعبادته، فقال«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ »(2)، وذلك يقتضي كونهم مختارين، والاختيار يلازم التمكن من فعل الخير والشرّ، وحيث يختار الكثيرون الشرّ فسيطرتهم توجب فساد المجتمع، وينتج عن ذلك أن يعم الكفر فلا يبقى عابد لله تعالى، وهو نقض للغرض، ولذا هيا اللَّه أسباباً تكوينية وأخرى تشريعية لكي يتوجه الناس إلى عبادته تعالى، من ذلك إرسال الرسل وإنزال الكتب وعدم خلو الأرض من حجة - من نبيٍّ أو وصيٍّ -، ومن ذلك تشريع الجهاد لنصرة الحق في سبيله تعالى، وحينئذٍ لا يزول أهل الإيمان بل يبقون عابدين اللَّه تعالى، ولولاهم لانتفى الغرض من الخلقة، وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت(3)، وعن الإمام الباقر علیه السلام لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله(4)، وذلك لأن الإمام حافظ للدين وبه يعبد اللَّه تعالى - مضافاً إلى آثاره التكوينية حيث ربط اللَّه نظام الكون به - .

وبهذا يتضح أن لدفع اللَّه الناس بعضهم ببعضٍ مصداقان :

أحدهما دفع المؤمنين المصلحين للكافرين المفسدين عبر الجهاد، قال تعالى «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39) »

ص: 274


1- سورة الحج، الآيتان: 39 - 40.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- أصول الكافي: ج1، ص179.
4- أصول الكافي: ج1، ص179.

«الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)»(1)

والمصداق الآخر: هو نفس وجود المؤمنين، فوجودهم سبب لاستمرار فضل اللَّه تعالى على الجميع، ولولاهم لكان استمرار وجود الناس وتواتر فضله عليهم عبثاً، وقد تعالى اللَّه عن العبث، كما عن الإمام الصادق عليه السلام قال : إن اللَّه أجلُّ وأعظمُ من أن يترك الأرض بغير إمام عادل(2)، وقد وردت عدة روايات في بيان هذا المصداق، منها ما عن

الإمام الصادق عليه السلام قال: إن اللَّه يدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا - إلى أن قال - وهو قول اللَّه عزَّوجلَّ «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ...»الآية(3). وعن أمير المؤمنين عليه السلام يدفع الهلاك بالبر عن الفاجر(4) .

الخامس : قوله تعالى «تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ».

أي لم يكن ذكر هذه القصص والأحكام إلّا لأجل الهداية، فهي قصص صادقة وليست كاذبة أو خيالاً، كما أن إنزالها لم يكن بغرض باطل بل بغرض هداية الناس ورحمة ولطفاً بهم، ثم إنها نزلت على الرسول سول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ليبلغها للناس ليتعظوا ويهتدوا .

ص: 275


1- سورة الحج ،الآیتان :39-40
2- أصول الكافي ج 1، ص187.
3- البرهان ج1، ص247 عن الكافي وتفسير العياشي وتفسير القمي.
4- الجوهر الثمين: ج1، ص 255.

وقوله «تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ » ليس بمعنى أن هذه قصص حدثت في التاريخ وأنت علمتها بوحي من اللَّه وهذا دليل نبوتك، وذلك لأنَّها مذكورة في التوراة المحرّفة وبشكل مختلف، وكان المشركون يشككون فيها وفي طريقة تعلّم الرسول إياها قال تعالى«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ »(1) ، وقال تعالى«وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا »(2) فلا يكون مجرد تلاوتها آية، بل المعنى أن من تدبر في هذه الآيات علم وجه الإعجاز فيها .

أو بمعنى أنك تعلم صدق هذه القصص بوحينا فهي آيات اللَّه إليك ثم أنت مكلّف ببيانها للناس لأنك مرسل إليهم .

ص: 276


1- سورة النحل، الآية: 103.
2- سورة الفرقان، الآية: 5.

المطلب الثالث

الآيتان 253 - 254

«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)»«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)»

253 - ثم إن اللَّه بعد أن ذكر سبب تشريع الجهاد في قوله «ولولا دفع الناس» الآية، یبیّن سبب حدوث القتال وأنَّه ليس بسبب الأنبياء بل بسبب بغي المبطلين، فقال:«تِلْكَ الرُّسُلُ»التي أشير إليهم في الآية السابقة «وإنك لمن المرسلين» « فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ »فهم وإن اشتركوا في أصل الفضيلة لكن منزلتهم متفاوتة، ف-«مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ » إياه وهو موسى علیه السلام ، «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ»على بعض « دَرَجَاتٍ »بأن كان التفضيل من وجوه متعددة، «وَآتَيْنَا » أعطينا «عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ »الأدلة الواضحة كإحياء الموتى وخلق الطير وغير ذلك«وَأَيَّدْنَاهُ » قويناه «بِرُوحِ الْقُدُسِ» أي روح مطهَّرة، فهؤلاء الأنبياء لم يكونوا سبباً للاختلاف والقتال لأناللَّه نزّههم وفضلهم وأراهم الحق

ص: 277

والصواب، « وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ » مشيئته تكوينية «مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ » بعد الأنبياء من أتباعهم «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ » فإن من شأن الأدلة الواضحة اتفاق الناس عليها «وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا » لأن البعض يبغي حسداً وظلماً «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ» بالتزامه بتعاليم الأنبياء « وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ»بإعراضه عن البينات، وكان ذلك القتال، « وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا »بإزالة أسباب الخلاف تكويناً، «وَلَكِنَّ اللَّهَ »بحكمته «يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ » من خلق الإنسان مختاراً وعدم إلجاء الناس واضطرارهم إلى الإيمان أو إلى ترك القتال .

254 - وحيث علمتم بأنَّه لا بد من الجهاد، فإن الجهاد يحتاج إلى إنفاق ف-«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا »الأمر للجميع ولكن المؤمنين هم المنتفعون منه لذا خص الخطاب بهم «أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ » هو القيامة حيث يجازي المخالفون ولا يتمكنون من التخلص من العقاب، ف-«لَا بَيْعٌ» في ذلك اليوم ليشتري الإنسان نفسه بشيء فينجيها من عذاب الله، «وَلَا خُلَّةٌ »صداقة ليراعي

» المذنب باعتبار صديقه، «وَلَا شَفَاعَةٌ » ، كشفاعات الدنيا، «و»ليس عذاب المخالفين ظلم من اللَّه بل «َالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ »فلذا استحقوا العقاب .

بحوث

الأول: بعد أن بیّن اللَّه تعالى في الآيات السابقات سبب تشريع

ص: 278

القتال، بیّن في هذه الآية أنَّه تعالى كان يمكنه منع التجاوزات والظلم منعاً تكوينياً، لكن ذلك كان خلاف الحكمة في خلق الإنسان مختاراً، وبين تعالى أن سبب الاختلاف ليس الرسل وتعاليمهم، لأنَّهم في درجات عالية من الإيمان - وإن كان بعضهم أفضل -، فالمرسلون متفقون فيما بينهم لعصمتم ولارتباطهم باللَّه تعالى، فكل ما جاءوا به كان حقّاً اللَّه بدلائل واضحة، فكلّهم مشتركون في أصل الرسالة والفضيلة، وتفاوتهم في الفضل ليس سبباً للاختلاف، بل سبب لمزيد ترابطهم وتوادّهم، واتباع فاضلهم لأفضلهم، وتصديق لاحقهم لسابقهم، وبشارة سابقهم للاحقهم، فكلّهم على دين واحد كما قال تعالى«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ »(1)، وقال«لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » (2)، وقال «لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ » (3)

وإنما نشأ الاختلاف من البغي والظلم، وذلك في الأتباع، فبعضهم آمن بكل ما جاء به الأنبياء علیهم السلام والتزم بتعاليمهم، والبعض الآخر بغى ورغبة في الحطام، وحيث إن الباغي يريد التحريف أو يرفع السلاح لذا شرّع اللَّه للمؤمنين قتالهم لئلا يزول الحق، فالأنبياء فضَّلهم اللَّه ورفع بعضهم درجات وذلك ليس سبباً للاختلاف، لكن الأتباع جعلهم اللَّه مختارين فبغى بعضهم فاختلفوا، فشرّع الجهاد للمؤمنين، قال تعالى «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ »(4)وقال سبحانه «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا

ص: 279


1- سورة آل عمران، الآية: 19.
2- سورة البقرة، الآية: 285.
3- سورة البقرة، الآية: 136.
4- سورة آل عمران، الآية: 19.

وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى »الی قوله«وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ »(1)

وقيل : تضمنت الآية جواباً عن سؤالين :

1 - إرسال الرسل كان بغرض الهداية، فلماذا لم تتحقق الهداية للكثيرين حتى أنَّهم تقاتلوا؟

2 - أرسال الرسل كان لأجل إيمان الناس، فماذا ينفع القتال، إذ لا سيطرة للسيف على القلوب؟

والجواب : إن الرسالة وبيِّناتها تدحض الباطل وتزيل الشبهات، وأما الخلاف الحاصل من البغي واللّجاج فلا سبيل إلى تصفية الأرض منه إلّا بالقتال، فالحجة لا تنفع إلّا إذا تمّ الدفاع عنها أمام المعتدين، لأنَّه تعالى لم يرد إلجاء الناس(2).

الثاني: قوله تعالى «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ»

قد مرّ في المجلد الأول أن بناء هذا العالم كلّه على التفاضل في كل شيء والرسل ليسوا استثناء من هذه القاعدة، فاللَّه تعالى فضَّلهم جميعاً على سائر الناس بالمقامات العالية بحيث كانوا جديرين بحمل رسالته تعالى فاصطفاهم وعصمهم ... إلخ، وفي نفس دائرة الرسل فضل بعضهم على بعض، لاقتضاء الحكمة ذلك، وقد يكون من الأسباب تنوّع المهمات الموكلة إليهم، فكل واحد منهم ناسب ما اختير له- هكذا قيل

ص: 280


1- سورة الشورى، الآيتان: 13 - 14.
2- راجع الميزان ج2، ص313 - بتصرف -.

-، ثم إن اصطفاءهم لم يكن باختيار منهم - كما توهم - بل هو باختيار منه تعالی فخلقهم من طينة أرفع وعصمهم، ثم ابتلاهم ليزيد من درجاتهم بما يفعلونه باختيارهم.

أما ما يقال : من أن استعداد الماهيات مختلف فأفاض تعالی علی كل ماهية ما تسعه من الوجود والقابلية .

فكلام غير صحيح، لأن الماهيات قبل وجودها أعدام، والعدم لا يتصف بشيء من القابلية ولا بغيرها، بل حتى بعد الوجود لا حقيقة خارجية للماهية بل هي أمر ذهني، ولذا قالوا بأصالة الوجود، وتفصيل البحث ليس هذا موضعه .

ثم إنه تعالی أراد بيان أن الأنبياء ليسوا سبباً للاختلاف والاقتتال لذا بيّن أنَّهم يتلقون الوحي منه تعالى، ويؤيدهم اللَّه تعالى، فلذا هم الحق ولا اختلاف فيه، وضرب لذلك مثالين : موسى وعيسی علیهما السلام، فكان نبي اللَّه موسی علیه السلام کلیم اللَّه تعالى، وكان عيسی علیه السلام مؤيداً بروح القدس من قِبل اللَّه سبحانه، فلم تكن أعمالهما إلّا بوحي منه وتأييدٍ وهو الحق المطلق، فلم ينشأ الاختلاف منهما، بل نشأ من الباغين من بعدهم.

ولعلّ وجه التمثيل بهما علیهما السلام الي هو وضوح اختلاف أتباعهما من بعدهما واستمرار الأتباع واختلافاتهم بمذاهبهم المختلفة ورغباتهم المتضاربة.

الثالث : قوله تعالى «مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ » .

وهو موسی علیه السلام قال كما قال «« وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا »»(1)، وقال :

ص: 281


1- سورة النساء، الآية: 164.

« إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي»(1) و اللَّه تعالى لا يصطفي الباغي ولا يكلّمه، فمن ذلك يتبيّن أن موسى علیه السلام قال لم يكن سبباً للاختلاف.

وكلامه تعالى هو بخلق الصوت، لأنَّه منزه عن اللسان والحلق ونحوهما مما يحتاج إليها الإنسان، فيكون الكلام من صفات الفعل وقد فصّلنا هذا البحث في كتاب شرح أصول الكافي فراجع.

الرابع : قوله تعالى «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ».

قيل المراد به رسول اللَّه محمد صلى اللَّه عليه و آله وسلم، لأنَّه فوق جميع الأنبياء، قال صلى اللَّه عليه و آله وسلم: ما خلق اللَّه خلقاً أفضل منّي، ولا أكرم عليه منّي، إن اللَّه فضّل أنبياءه على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك، وإن الملائكة لخدامنا وخدّام محبينا(2).

لكن الظاهر أن «رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ» يشمل كل الأنبياء الذين فضلوا على غيرهم، كإبراهيم علیه السلام، كما قال سبحانه«وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ »(3)، فقد اختلفوا من بعده كما قال تعالى «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ »(4)، وقال«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا »(5)، وكیوسف عليه السلام حيث قال

ص: 282


1- سورة الأعراف، الآية: 144.
2- الجوهر الثمين ج 1، ص207.
3- سورة الأنعام، الآية: 83.
4- سورة آل عمران، الآية: 65.
5- سورة آل عمران، الآية: 68.

تعالى «كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ »(1)، وقال سبحانه «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ »(2)، وعلى كل حال فالمعنى أن اللَّه رفع بعض الأنبياء على بعض درجات فلا يعقل أن يبغوا وأن يتسببوا في الخلاف.

وقد يقال : إن قوله «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ» كالعِلّة لتكليم اللَّه ، فهل يمكن وصول إنسان إلى درجة يكلّمه الله؟ الجواب نعم بإيجاد القابلية فيه وذلك برفعه درجات.

ثم إنَّ (المفضَّل به) هو الإيمان، وقد مرّ أن معرفة اللَّه تعالى لا حدّ لها، والرسول صلى اللَّه عليه و آله وسلم والأئمة علیهم السلام لا يزدادون معرفة باللَّه تعالی دائماً، وجميع الأنبياء والرسل هم فوق سائر الناس في الإيمان والمعرفة، لكن بعضهم أعلى إيماناً ومعرفة من البعض الآخر، مع اشتراكهم جميعاً في قوة الإيمان وسموِّه على سائر الناس، ومن كان هذا شأنهم لا يعقل اختلافهم بغياً .

وفي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن الإمام الصادق عليه السلام قال: بالزيادة في الإيمان يتفاضل المؤمنون بالدرجات عند اللَّه ، قلت : وإن للإيمان درجات و منازل يتفاضل بها المؤمنون عندالله؟ قال: نعم، قلت: صف لي ذلك - رحمك اللَّه - حتى أفهمه، قال : ما فضل اللَّه به أولياءه بعضهم على بعض، فقال:«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ

ص: 283


1- سورة يوسف، الآية: 79.
2- سورة غافر، الآية: 34.

مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ »الآية، وقال : « وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ »(1)، وقال «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ »(2)، وقال«هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ »(3)، فهذا ذکر درجات الإيمان ومنازله عنداللَّه (4).

الخامس: قوله تعالی «وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ».

أي إن عيسی علیه السلام أیضاً لم يكن سبباً للاختلاف ومن ثَمَّ الاقتتال، لأنَّه كان الحق فقد حباه اللَّه بالبينات التي هي أدلة واضحة كإحياء الموتی وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير كل ذلك بإذنه تعالى، كما أن اللَّه سبحانه قواه بروح طاهرة، فهو علیه السلام مع الحق ومؤيد من قبل الحق، فلم يكن باغياً، كما قال « وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا »(5).

وأما سبب ذكر اسم عیسی علیه السلام مع عدم ذكر اسم موسی فلوُجوه :

1- في التقريب : إنه لمن التفنن في القرآن الحكيم في التعبير، حيث لم يصرح باسم موسى وصرح باسم عیسی علیه السلام (6) .

2 - إن نفس اسم عيسى ابن مريم فيه بينة، حيث ولد من غير أب.

3 - وكون موسی کلیم اللَّه تعالى واضح، حيث ذكر ذلك في آیات

ص: 284


1- سورة الإسراء، الآية: 55.
2- سورة الإسراء، الآية: 21.
3- سورة آل عمران، الآية: 163.
4- البرهان: ج 2، ص 250- 251 عن تفسير العياشي ج 1، ص136.
5- سورة مريم، الآية: 32.
6- التقريب ج 2، ص277.

متعددة وقد خصه اللَّه بالكلام دون غيره من سائر الأنبياء، فلذا لم تكن حاجة إلى التصريح باسمه، وأما إتيان البينات والتأييد بروح القدس فهو أمر عام لجميع الرسل فلهم المعجزات ومؤيدون بهذه الروح، وحيث إن المقصود کان عیسی علیه السلام لذلك لزم التصريح باسمه، قال تعالى « يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ » (1).

وعن الإمام الصادق عليه السلام : فالسابقون هم رُسل اللَّه وخاصة اللَّه من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا اللَّه عزَّوجلَّ ... الحديث(2).

واعلم أن روح القدس، تطلق على جبرئيل كما مرّ في الآية 87، وقد تطلق على الروح الذي هو أعظم من الملائكة، وقد تطلق على العلم الخاص الذي يفيضه اللَّه على الرسل والأئمة فبه يعرفون نبوتهم وإمامتهم وما عهده اللَّه إليهم، والتفصيل في شرح أصول الكافي .

السادس: قوله تعالى «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ...»الآية .

مشيئته تعالى لعدم الاقتتال قد تكون عبر أمور.

1- إكراههم جميعاً ، وهذا ما لم يرده اللَّه تعالى، إذ لا يصحّ التكليف إلّا مع القدرة والاختيار، لذا لم يُلجئ اللَّه تعالى أحداً على قبول الدعوة والعمل بها، فالمعنى: لو تعلقت الإرادة التكوينية في عدم حصول القتال، لما تقاتل أحد من بعد الأنبياء ولاجتمعوا كلّهم على التقوى

ص: 285


1- سورة غافر، الآية: 15.
2- اصول الكافي ج 1، ص 271 - 272، راجع شرح الحديث في شرح أصول الكافي للمؤلف.

والعمل الصالح ونبذ البغي والتفرقة، فتنتفي أسباب القتال، أو لما تمکَّن أحد من القتال حتى لو أراده لمنعه قهراً عن ذلك، لكن عند ذاك كان يبطل الامتحان وهو خلاف الحكمة، قال تعالى «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا »(1).

2 - إهلاك الكافرين والمخالفين أو عقابهم فوراً، وبهذا كان يبطل الامتحان أیضاً ، ولذا أَخّر اللَّه تعالى الجزاء إلى أجل مسمى كما قال سبحانه « وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»(2).

3 - إزالة الدواعي النفسية للخلاف من الحسد والبغي ونحوهما ، وفي ذلك أیضاً إبطال للامتحان، مع كون هذه الدنيا مبتنية على التفاضل، فلذا لزم وجود جنود العقل وجنود الجهل في الإنسان مع إراءته طريق الحق وتحذيره من الباطل، قال سبحانه «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)»«فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)»«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)»«وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)»(3).

السابع : قوله تعالی«وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ».

أي إن اللَّه تعالى لم يُلجئهم تكويناً على عدم القتال لذلك تحرکت الدواعي النفسانية في أهل الباطل فأوجدوا الاختلاف وأدّى ذلك إلى القتال.

وهذا الذي حذّر اللَّه تعالى منه أمم الأنبياء، حدث في أمة رسول الإسلام صلى اللَّه عليه و آله وسلم لأن ذلك من سنن اللَّه تعالى في العالم، فعن الأصبغ بن

ص: 286


1- سورة يونس، الآية: 99.
2- سورة يونس، الآية: 19.
3- سورة الشمس، الآيات: 7- 10.

نباتة قال : كنت واقفاً مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوم الجمل، فجاء رجل حتى وقف بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، كبّر القوم وكبّرنا، وهلّل القوم وهلّلنا، وصلّى القوم وصلّينا، فَعَلَامَ نقاتلهم؟، فقال: على هذه الآية «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» فنحن الذين من بعدهم« مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ » فنحن الذين آمنَّا وهم الذين كفروا، فقال الرجل : كفر القوم ورب الكعبة، ثم حمل فقاتل حتى قتل رحمه اللَّه(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام قال فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أُخرى وقسط آخرون، كأنَّهم لم يسمعوا كلام اللَّه حيث يقول «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » بلى و اللَّه سمعوها ووعوها ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها(2)، وكفر هؤلاء هو كفر نفاق وقد قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم: لا يحبك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق(3)، وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم: ستقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل (4)

ص: 287


1- البرهان ج 2، ص 251، عن تفسير العياشي وغيره.
2- نهج البلاغة، الخطبة 3.
3- أمالي الصدوق ص 197، ومن مصادر العامة: سنن الترمذي ج 5، ص306، الحديث رقم 3819، وقريب منه ما رواه مسلم في الصحيح عندهم.
4- بصائر الدرجات ص329، ومن مصادر العامة: مسند أحمد بن حنبل ج 3، ص 82 ومستدرك الحاكم ج 2، 123.

الثامن : قوله تعالى «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ».

تكرار المشيئة مرتين ليس لمجرد التأكيد فقط، بل لعلّه لجهات منها :

1- أن الأول كان قتال الذين من بعدهم بشكل عام فيشمل قتال الكافرين مع الكافرين أیضاً ، والثاني خصوص قتال المؤمنين مع الكافرين.

2- أن الأول في المشيئة التكوينية، والثاني في المشيئة التشريعية فالمعنى لو لم يشأاللَّه قتال المؤمنين لم يشرع لهم القتال فيلتزم المؤمنون بحكمه تعالی فما كان يقع قتال بينهم وبين الكفار.

3 - إن الثاني هو نفس الأول لكن تمّ تكراره بغرض آخر وذلك ليكون مقدمة لقوله «وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ » ، فالمعنى أن اللَّه يفعل ما يريده مما فيه الحكمة والصلاح وذلك بجعل الناس مختارين لذلك لم يشأ جبرهم على عدم القتال، وقد مرّ أن المطلب الواحد قد يتعدد فيه الغرض ولذا يذكر مرات متعددة بتعدد الأغراض، من دون أن يكون ذلك تكراراً .

التاسع : قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا ...»الآية.

لمّا ذكراللَّه تعالى الرسل وذكر المؤمنين والكافرين، حثّ على الطاعة وخاصة في مجال الإنفاق، فإن القتال بحاجة إلى مال فلا بد من الجهاد بالنفس والثروات، مع بيان أن هذا المال ليس لكم حقيقة بل هو رزق ساقه اللَّه إليكم ثم أمركم بصرف بعضه في سبيله، وإن المخالف لهذا التكليف لمستحق لأشد العقوبة حيث بخل بما رزقه اللَّه عن امتثال أمر الله، فلذا هدده اللَّه تعالى بالجزاء في يوم القيامة مع بيان أنَّه لا يوجد مفرّ من العقاب ولا تنفع الوسائل الدنيوية في الهروب منه .

ص: 288

ففي الدنيا قد يدفع الإنسان غرامة فيخلِّص نفسه، أو يتمكن من الفرار من العقاب عبر صداقة مع من له السلطة، أو عبر وسائط يشفعون

وكل هذه لا توجد في القيامة ف-« لَا بَيْعٌ فِيهِ » ليتمكن الإنسان من شراء نفسه أو شراء عقوبته بغرامة.

«وَلَا خُلَّةٌ »وهي خالص المودة قال تعالى «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ »(1).

و« وَلَا شَفَاعَةٌ » لهؤلاء وذلك لأنَّ الشفاعة كلّها بيداللَّه «قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا»(2) ولا أحد يشفع إلّا إذا أذن اللَّه« مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ »(3)« وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى »(4)، وأما الكفار فلا يستحقون الشفاعة، قال سبحانه «فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ »(5)، وقال سبحانه«قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)»الی«فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)»«وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ »(6)

والشفاعة هي انضمام العنصر القوي إلى العنصر الضعيف لإيصاله إلى كماله أو إزالة النقص عنه، وهي قد تكون تشريعية كشفاعة النبي صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام ، وقد تكون تكوينية كالبذرة التي لا تنمو إلّا إذا شفعت بالماء والشمس ونحو ذلك فهي لها القابلية للنمو مع هذه الضميمة، وكذا

ص: 289


1- سورة الزخرف، الآية: 67.
2- سورة الزمر، الآية: 44.
3- سورة البقرة، الآية: 255.
4- سورة الأنبياء، الآية: 28.
5- سورة المدثر، الآية: 48.
6- سورة الشعراء، الآيات: 96 - 101.

الشفاعة التشريعية إنما هي لمن له القابلية لها، وذلك إذا رضي اللَّه عنه لحسن أفعاله ومعتقداته، وقد مرَّ تفصیل بحث الشفاعة في المجلد الأول فراجع.

العاشر : قوله تعالى «وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

لا ظلم أعظم من الكفر والشرك، قال سبحانه«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ »(1) لكن المقصود في هذه الآية بيان أن عقابهم بسبب ظلمهم لأنفسهم وغيرهم، وليس ظلماً من اللَّه تعالى لهم، فإنَّه سبحانه ليس بظلام اللعبيد.

ص: 290


1- سورة لقمان، الآية: 13.

فصل في المبدأ والمعاد

اشارة

ص: 291

ص: 292

فصل في المبدأ والمعاد

بعد ذكر جملة من الأحكام العبادية والاجتماعية والشخصية ، التي كان آخرها الجهاد، وذكر اقتتال المؤمنين مع الكافرين، ينتقل الكلام إلى بيان المبدأ وهو اللَّه سبحانه وتعالى وصفاته، ثم إلى ذكر المعاد وكيفية إحياء الموتى، ولعلّ سبب ذلك هو بيان عدم حاجة اللَّه سبحانه وتعالى إلى خلقه، وأن تشريع الجهاد ليس إلّا لكونه لمصلحة الناس لينتشر الإيمان ولينعموا بالطمأنينة والرفاه في الدنيا والفوز في الآخرة، فإن اللَّه تعالى هو الغنيُّ عن عباده ولا يمكن لأحد التصرف بأي شيء إلّا بإرادة منه تعالى ثم الجميع في قبضته وسيجازي الجميع على أعمالهم في اليوم الآخر.

ص: 293

الآية 255

«اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)».

255 - تجمع الآية أهم الأمور المرتبطة باللَّه تعالی .

(1) «اللَّهُ »وهو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال المنزّه عن جميع صفات النقص، واشتقاق الكلمة من «اله» بمعنى المعبود ولذا عقبه بقوله «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ » فلا يستحق العبادة شيء غيره.

(2) «الْحَيُّ »والحياة يرجع إليها جميع صفات الذات، عکس سائر الآلهة المتفرقة فهي إما جمادات کالأصنام أو حياتها زائلة عارضة كالآلهة البشرية.

(3) «الْقَيُّومُ » والقيمومة أصل صفات الفعل، فهو سبحانه قائم على جميع الأمور بالعلم والقدرة والرعاية، في الإنشاء والاستمرار والرزق وغيرها.

(4) «لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ» وهي فتور قبل النوم كالنعاس« وَلَا نَوْمٌ »

ص: 294

وهذا نفي لصفات النقص، فهو منزه عنها ، وهو كالعلة لكونه قیُّوماً ، فهذه من صفاته تعالی.

(5) وأما نسبته إلى سائر الخلق فهو المالك لكل شيء ف-«لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» فكل الوجود ملکه تعالی.

(6) ولا أحد يتصرف في هذا الملك إلّا بمشيئته تعالی ف-« مَنْ » استفهام إنكاري «ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ »شفاعة تكوينية أو تشريعية «إِلَّا بِإِذْنِهِ»، ومشيئته .

« (255)».

(7) وهو تعالى لا يأذن بالشفاعة عبثاً إذ « يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » أيدي الشفعاء أي ما حضر لديهم «وَمَا خَلْفَهُمْ » أي ما خفي عليهم «وَلَا يُحِيطُونَ» إحاطة علم واطِّلاع« بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ» معلوماته « إِلَّا بِمَا شَاءَ» اللَّه تعالی.

(8) وسلطته تعالى عامة لكل الوجود ف-« وَسِعَ كُرْسِيُّهُ» وهو الجسم المحيط بكل شيء أو بمعنی ملکه أو بمعنى علمه « السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ»أي كل الكون.

(9) « وَلَا يَئُودُهُ »أي لا يشق عليه «حِفْظُهُمَا » السماوات والأرض.

(10) «وَهُوَ الْعَلِيُّ » الرفيع مقاماً «الْعَظِيمُ» شأناً .

بحوث

الأول: آية الكرسي من أعظم آيات القرآن الكريم، وذلك لاشتمالها

ص: 295

على كل معارف التوحید، ببيان صفات الذات والفعل وتنزيهه عن النقص أولاً، ثم بيان نسبته إلى الموجودات وذلك ببيان ملکه وسلطته وتصرفه في الكون أجمع، وأنَّه لا سبب سواه إلّا إذا أذن، وهو العالم بكل شيء ولا أحد يعلم شيئاً إلّا إذا شاء وبمقدار ما شاء، وأن عظمة السماوات والأرض لا شيء أمام علوّه وعظمته فلا يتعب من رعايتهما وحفظهما .

ولما أراد اللَّه سبحانه تنزيل سورة الحمد، وآية و«شَهِدَ اللَّه »، وآية الكرسي، وآية الملك، جعل لهن من الفضل الكثير، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال : لما أمر اللَّه عزَّوجلَّ هذه الآيات (1)أن يهبطن إلى الأرض تعلقن بالعرش (2)وقلن : أي رب إلى أين تهبطنا؟ إلى أهل الخطايا والذنوب! فأوحى اللَّه إليهنَّ : أن أهبطنَ، فوعزتي وجلالي لا يتلوكنَّ أحَدٌ من آل محمد وشيعتهم في دبر ما افترضت عليه من المكتوبة في كل يوم إلّا نظرت إليه بعيني المكنونة(3) في كل يوم سبعين نظرة، أقضي في کل نظرة سبعين حاجة، وقبلته على ما فيه من المعاصي، وهي: أمُّ الكتاب، «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ »، وآية الكرسي، وآية الملك (4).

ص: 296


1- المقصود هي الآيات التي ذكرها الإمام علیه السلام في آخر الحديث، وهي أم الكتاب - أي الحمد - وآية«شَهِدَاللَّه » وآية الكرسي وآية الملك، وقد توهم بعض أن هذه الآيات هي آية الكرسي فزعم أن قوله علیه السلام « هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ » إشارة إلى آية الكرسي. مع وضوح أن أم الكتاب هي سورة الحمد.
2- عن مرآة العقول - كما في هامش الكافي : هذا إما كناية عن تقدسهن وبعدهن عن دنس الخطايا، أو المراد تعلق الملائكة الموكلين بهن، أو أرواح الحروف كما اثبتها جماعة والحق أن تلك الأمور من أسرار علومهم وغوامض حكمهم ونحن مكلفون بالتصديق بها إجمالا وعدم التفتيش عن تفصيلها، و اللَّه يعلم.
3- أي الألطاف الخاصة - على ما قيل -
4- أصول الكافي ج 2، ص 620.

وعن أبي ذر أنَّه سأل النبي صلی الله علیه وآله وسلم : أيُّ آية أنزلها اللَّه عليك أعظم؟ قال : آية الكرسي(1)، ولا يخفى أن «أعظم» هنا نسبي فإن «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ » أیضاً «أعظم» كما في أحاديث أخرى(2) وذلك لأن تمجید اللَّه وتنزيهه أعظم الأمور فالآيات المتضمنة لذلك تكون أعظم الآيات، وقد مرّ بعض الكلام في أفعل التفضيل في قوله تعالی «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ...»الآیة(3) .

الثاني : اشتملت الآية المباركة على ستة مقاطع ولم يعطف بعضها على بعض بحرف العطف:«الْحَيُّ الْقَيُّومُ »«لَا تَأْخُذُهُ»«لَهُ مَا »« مَنْ ذَا »«يَعْلَمُ»«وَسِعَ ».

قيل : لأن كل جملة لاحقة هي تبيين للجملة السابقة، وفي عطف البيان لا يذكر حرف العطف.

وقيل : لأن كل جملة لاحقة هي كالعلة للجملة السابقة «لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ »كالعلة لكونه قیومة، لأن من ينام لا يكون قيُّوماً في حال نومه ، وحيث إنه لا تأخذه سِنة ولا نوم فهو المالك لكل شيء فقال « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ »، وحيث إنه مالك لكل شيء فلا يشاركه أحد في الأمر فقال ومن ذا الذي يشفع عنده إلّا بإديو، ولأنَّه يعلم كل شيء لذلك يأذن في الشفاعة أو لا يأذن فقال «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ...» وعدم إحاطتهم بعلمه لأن سلطته عامة على كل شيء ف-«وَسِعَ كُرْسِيُّهُ...»

ص: 297


1- البحار ج 89، ص262 عن الخصال .
2- راجع البحار ج 89، ص238 عن تفسير العياشي.
3- سورة البقرة، الآية: 114.

الثالث : قوله تعالى « اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» .

أصل صفات الذات هي الحياة، وجميع الصفات ترجع إلى الحياة ، فالعلم والقدرة والاختيار والخلق والرزق ... إلخ لا يمكن أن يوجد إلّا في الحيّ، وليس معنى الحيّ هو من يصح أن يعلم ويقدر کما عن بعض المتكلمين، بل العلم والقدرة من لوازم الحياة .

نعم جميع صفاته الذاتية هي عين ذاته بلا اثنينية ولا تركب وذاته المقدسة، وهي منشأ أفعاله من الخلق والرزق وغيرهما .

ثم إن صفاته الذاتية هي عين ذاته فهي وجوده سبحانه، وليست تلك الصفات سلوب في حقيقتها ، نعم باعتبار عدم تمكننا من إدراك كنه ذاته فلا يمكننا فهم کنه صفاته الذاتية - لأنَّها عين ذاته، والمقدار الذي نحن نتعقله من تلك الصفات هو سلب أضدادها عنه، فمقدار فهمنا من قدرته هو عدم عجزه عن أي شيء، ومن علمه عدم جهله بشيء، ومن حياته عدم موته تعالى اللَّه عن كل ذلك علوّاً كبيراً ، وإلى ذلك تشير بعض الروايات.

فقوله «الْحَيُّ » لنفي الشركاء والأضداد، فهو كالعلة لقوله تعالى «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ»، فالأصنام جمادات لا حياة فيها، والطبيعة عادمة للحياة وللشعور فلا يعقل أن تكون سبباً لهذا الخلق العظيم المتقن في كل الجهات، كما أنَّه لا سبيل للموت عليه، كما قال «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ »(1) فلا يمكن الفرار من حكومته أو انتظار موته للهرب من عقابه ، أما الآلهة البشرية فحياتها لفترة وجيزة تموت بعدها فلا يعقل أن

ص: 298


1- سورة الفرقان، الآية: 58.

تكون الإله الخالق الرازق، وكما ذكرنا فإن «الْحَيُّ »هو أصل كل صفات الذات.

وقوله«الْقَيُّومُ » أي قائم على جميع الأمور بالعلم والقدرة والرعاية ، فليس كبعض الملوك الذين لا يهتمّون بما يجري في مملكتهم، بل هو الربُّ الذي يخلق ويرزق ويدبر، فلا يمكن الاختفاء منه، وقيمومته هي بالعدل في كل شيء كما قال سبحانه«قَائِمًا بِالْقِسْطِ »(1)، والقيمومة هي أصل صفات الفعل، فالخلق والرزق والإحياء والإماتة والرحمة ... إلخ كلّها بسبب قیمومته تعالى على الخلق أجمع.

الرابع : قوله تعالى « لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ » .

تنزيه للَّه تعالى عن صفات النقص، ومن أظهر مصادیق النقص هو الغفلة التي تنشأ من النعاس أو النوم، كما أن هذا المقطع كالعلة لكونه قیّوماً - كما قيل - فإن القيمومة الدائمة لا تنسجم مع غفلة النوم والنعاس، فهو تعالى لا يغفل عن تدبير أمر الخلق ورعايتهم، بل كما هو سبحانه علة الإيجاد كذلك هو علّة البقاء، فلو قطع لطفه لحظة واحدة لانمحى الوجود بأسره، وقال سبحانه «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ »(2). ولا يخفى لطف التعبير عن النوم والنعاس بولا تأخذه، لأن القائم بالأمور من الناس لا يتمكن من التيقظ لفترة طويلة فحتى لو أراد اليقظة وقاوم فإنَّه سينهار ولو بعد أيام فيتغلّب النوم علیه قهراً ومن غير اختيار ،

ص: 299


1- سورة آل عمران، الآية: 18.
2- سورة فاطر، الآية: 41.

وأما اللَّه تعالى فهو العزيز القاهر الذي لا يغلبه شيء، فهو منزه عن النوم والسِّنة لأنَّهما نقص، ولا يستوليان عليه لأنَّه قاهر غير مقهور.

الخامس : قوله تعالى « لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ » .

بعد أن بیّن تعالى من صفات الذات والفعل والتنزيه عن النقص، بعد ذلك بين نسبته إلى سائر الموجودات، وأنَّه مالكها أجمع، فلا يشاركه أحد في ذلك، وهذا نتيجة أُلوهيته وحياته وقيوميته، إذ سائر الخلق عاجزون كانوا غير أحياء ثم يموتون، وتعرض عليهم الغفلة والنوم فلا يمكن لهم أن يضادوه تعالی في ملكه أو ينادوه.

ومعنى « لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ » له السماوات والأرض وما فيهما ، فإن الظرف تابع للمظروف - كما في التقريب -

السادس : قوله تعالى«مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ».

بعد بیان ملكيَّته لكل الوجود بأسره، بينت الآية أن تصرفات الموجودات كلّها ليست باستقلال منها من دون إذن من اللَّه تعالى، فحيث إن الوجود كلّه ملك لله تعالى فلا يمكن لأحد التصرف في هذا الملك إلّا إذا شاء اللَّه تعالى، قال سبحانه «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)»(1)، وقال « وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ»(2)، وقال «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ »(3)، وغيرها آیات كثيرة فراجع مادة (ش ی ء) و(اذن) في المعجم المفهرس لتجد الآيات القرآنية الكثيرة في هذا المجال، فكل ما يتحقق في هذا الكون حتى أفعال

ص: 300


1- سورة التكوير، الآية: 29.
2- سورة البقرة، الآية: 102.
3- سورة يونس، الآية: 100.

الإنسان فهي بمشيئة اللَّه تعالى وإذنه، وليس ذلك بمعنى الجبر كما توهمته الأشاعرة، فإن ذلك سلب للاختيار وظلم على عقاب العصاة، وتعالى اللَّه ذلك، بل بمعنى أن اللَّه سبحانه شاء أن يكون الإنسان مختاراً قادراً، وشاء جعل أسباب، وشاء جعل مسببات لتلك الأسباب، وشاء عدم جعل موانع. ، وشاء إرسال رسل، وشاء إصدار أحكام تكليفية من واجب وحرام، فلذا لو فعل الإنسان شيئاً فإنَّما يفعله باختياره فيستحق عليه الثواب والعقاب ولكن من دون خروجه عن سلطة اللَّه تعالى ومملكته، وهذا معنى (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين) كما ورد في أحاديث مستفيضة، وقد فصلنا شرح هذه الروايات وبيان معنى الاختيار في شرح أصول الكافي فراجع .

و«الشَّفَاعَةُ» هنا قد يراد بها الشفاعة التكوينية فيكون المعنى جعل الأسباب والمسببات، وقد يراد بها الشفاعة التشريعية وهي الأنبياءعلیهم السلام والأئمة علیهم السلام والملائكة وغيرهم فيكون ذكرها من باب ذكر أظهر مصاديق، لأن هؤلاء عباد مقربون مكرمون فإذا لم يتمكنوا من التصرف إلّا بإذنه تعالى فغيرهم بطريق أولى لا يتمكن من التصرف من غير إذنه سبحانه . والحاصل أن ما من سبب إلّا وتأثيره بجعل من اللَّه تعالى، ولو شاء سبحانه لسلبه ذلك الأثر، فالنار تحرق بإذنه وقد سلب إحراقها في نار إبراهيم .

وقد ذكرنا فيما سبق أن الصحيح هو (التوافي) أي إن الأسباب هي أسباب ظاهرية لا تأثير لها واقعاً وإنما اللَّه سبحانه هو الذي يرتب المسببات على الأسباب الظاهرية، وقيل ب-(التوليد) أو (الإعداد) وهي أنَّها أسباب حقيقية فهي التي تولد المسببات لكن بجعل منه تعالى، أو هي

ص: 301

مُعدّة بتفصيل مذكور في محلّه، لكن يظهر من مختلف الروايات الأول - أي التوافي - وخاصة الأخبار التي تبين دور الملائكة في التدبير قال تعالى «وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا» إلى قوله«فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا »(1)، وأظهر شاهد له الموت حيث إن هناك أسباباً طبيعية من قتل أو مرض ونحو ذلك، ولكن السبب الواقعي هو قبض الملك للروح، بل السبب الحقيقي هو مشيئة اللَّه تعالی وقبضه قال سبحانه «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ »(2).

السابع : قوله تعالى «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)»«لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)»

«يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)»(3).

السياق يدل على أن الضمير يرجع إلى الشفعاء في قوله « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ » ، كما يظهر ذلك من بعض الأخبار أیضاً ، فعن الإمام الرضا علیه السلام قال : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» فأمور الأنبياء وما كان ، «وَمَا خَلْفَهُمْ » أي ما لم يكن بعد(4)، وكذا يظهر من قوله تعالى.

ثم إن « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ »و يشمل ما فعلوه في حياتهم كأنَّه أمامهم، وما كان في الماضي، وما يقدمون من أعمال، والحاضر المشهود، فكل هذه من مصادیق « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ »

ص: 302


1- سورة النازعات، الآيات: 1- 5.
2- سورة الزمر، الآية: 42.
3- سورة الأنبياء، الآيات: 26- 28.
4- البرهان ج 2، ص 252 عن تفسير القمي.

وأما«وَمَا خَلْفَهُمْ » فيشمل آثارهم التي خلفوها، وما سيكون في المستقبل - لأنَّه يحدث خلفهم أي من بعدهم -، والغائب المستور عنهم زمان أو مكانة، فكل هذه من مصادیق «وَمَا خَلْفَهُمْ »، والحاصل أن اللَّه سبحانه وتعالى عالم بكل أحوالهم وأمورهم من غير أن يغيب عنه شيء.

والمقصود أن إذنه بالشفاعة لهم ليس اعتباطاً بل بحكمة لأنَّه سبحانه عالم بكل شيء فيعلم وجه الصلاح فلذا يأذن أو لا يأذن، وليس كالملوك الذين قد يفوّضون أحداً في شيء فيتصرف كما يشاء من غير علمهم ولا استئذان منهم في التفاصيل.

الثامن : قوله تعالى« وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ».

بعد أن أثبت علمه تعالي بكلِّ شيء، بيّن جهل الناس بكل شيء إلّا بالمقدار الذي يشاؤه تعالى، لأن كل كمال يرجع إلى اللَّه تعالى حيث إنه الكمال المطلق الذي لا نقص فيه، وكل كمال يكون في سائر الموجودات فهو بفضل منه تعالى قال سبحانه وقل إن الفضل يريد اللَّه يؤتيه من يشاه).

و(الإحاطة العلميَّة) هي معرفة كل التفاصيل وذلك بمعرفة حقيقة الشيء كما هو، وهذا غير متيسر للناس، فإن حقيقة الأشياء مجهولة لدينا وإنما نعرف منها بعض الآثار، و(الوجود) الذي هو أعرف الأشياء لا نعرف حقيقته وكنهه، بل نعرف بعض آثاره، نعم قد يفيض اللَّه سبحانه هذا العلم على من يشاء.

التاسع: قوله تعالى « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ».

للكرسي معان متعددة : منها : الجسم المحيط بالسماوات والأرض وهو تحت العرش

(1) آل عمران، الآية: 73.

ص: 303

ومنها : الملك، فيكون كناية عن السلطة، فهو تعالی مسلط على كل الوجود سواء السماوات والأرض أو العرش .

ومنها : العلم، وقيل في وجه هذه التسمية: إنها بعلاقة الحال والمحل، فالعالم يجلس على كرسي الدرس، فكأنَّ العلم على الكرسي، فسُمِّي العلم كرسيّا .

ولا يخفى أن الكرسي بالمعنى الأول يكون تحت العرش الجسماني - الذي هو محيط بكلِّ الموجودات -، ولذا ورد في بعض الروايات أن العرش يحيط بالكرسي، وأما الكرسي بالمعنى الثاني والثالث فهو شامل للعرش أيضاً لأن سلطته تعالى تشمل العرش، وعلمه يحيط بالعرش أيضاً، ولذا ورد في روايات أخر أن الكرسي محيط بالعرش .

فقد عرفت أن كلاًّ من هذه الروايات لا تنافي الأخرى بل سبب توهم المنافاة عدم الالتفات إلى تعدد المعاني، وهكذا للعرش أيضاً معانٍ، وقد ذكرنا التفصيل في شرح أصول الكافي فراجع(1).

والظاهر أن معنى الكرسي في قوله «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ »هو الملك والسلطة، والمعنى كما أن اللَّه سبحانه مالك لجميع الوجود كذلك مسيطر عليه، وليس كما تزعم اليهود، قال سبحانه«وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ »(2) وقال تعالى «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ »(3).

ص: 304


1- شرح أصول الكافي، ج2، ص 325.
2- سورة المائدة، الآية: 64.
3- سورة آل عمران، الآية: 181.

العاشر : قوله تعالى: «وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ».

مادة «أ و د» في الأصل بمعنى الاعوجاج بسبب الثقل، يقال : آدني الشيء یَؤُودُني كأنَّه ثقل عليه حتى ثنّاه وعطفه(1)، فالمعني هنا : لا يثقل عليه حفظ السماوات والأرض، وذلك لأن التعب والنصب والثقل عوارض الأجسام وهي بسبب العجز، وتعالى اللَّه سبحانه عن ذلك، وهذا بیان لاستمرار قيمومته تعالى، وأنَّه لا فرق في قدرته بين إنشاء الشيء وبين حفظه، بل هو رب كل شيء فيحفظ السماوات والأرض وما فيهنَّ وما بينهنَّ بالتربية والتنمية والإصلاح حسب ما تقتضيه حكمته، قال سبحانه « كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ»(2) أي تدبيره للأمور مستمر دائماً، والتغيير في المخلوقات لا في الخالق.

وقوله«وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ »كالتعليل لكل ما سبق فخلقه وملکه وعلمه وقهره للمخلوقات وسعة سلطته وعدم عجزه، كل ذلك لعلوِّه الذاتي وعظمته الذاتية، فهو القديم المستجمع لكل صفات الكمال المنزّه عن كل نقص، فلذا كان الخالق المدبر وكان سائر الموجودات هي المخلوقات المحتاجة إليه.

الحادي عشر : ورد في بعض الأحاديث أن تنزيل آية الكرسي کان هكذا : له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم من ذا الذي يشفع عنده ... الآية (3)، وفي حديث آخر: كذا نزلت(4).

ص: 305


1- راجع مقاييس اللغة ص 80 .
2- سورة الرحمن، الآية: 29.
3- البرهان ج2، ص252 عن تفسير القمي.
4- تفسير القمي ج 1، ص85.

وذلك لأن الذي نزل على الرسول صلی الله علیه وآله وسلم نص القرآن مع تفسيره وبيانه، قال تعالى«إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)»«فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)»«ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)»(1) فكما أنزل اللَّه القرآن كذلك أنزل بیان القرآن، ولذا ورد في الحديث أن القرآن سبعة عشر ألف آية (2)، وذلك لأن البيان ضعف النص، فستة آلاف ونيف هي النص وأحد عشر ألف ونيف هي البيان.

وفي آية الكرسي من المعلوم أن المراد بقوله وله ما في الموت وما في الأرض هو ملکه لجميع الكون بأسره فمعنى الآية يشمل «ما بين السماوات والأرض ويشمل ما تحت الثرى أيضأ»، ومعنى قوله «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ...»هو كونه تعالى «عالماً لما في الغيب والشهادة » كما شرحناه ، و(رحمته» داخلة في قيوميته ، فهو قائم على كل نفس بالعلم والقدرة والتدبير بعدل ورحمة .

فتبيّن أن قوله علیه السلام هكذا تنزيلها ليس بمعنى أن هذه الجُمل هي إحدى القراءات وقد قرأ بها أهل البيت علیهم السلام كما تُوهِّم، ولا بمعنى التحريف كما زعمه المخالفون، بل بمعنی بیانها وتفسيرها النازل، وللشيخ الصدوق كلام في نزول التفسير نقلناه في شرح الكافي فراجع.

ص: 306


1- سورة القيامة، الآيات: 17 - 19.
2- الكافي ج 2، ص 634.

الآيتان 256 - 257

«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)»«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)»

256 - بعد بيان صفات اللَّه وملكه، بينت هذه الآية أن ذلك واضح جدّاً لكن الإنسان مختار في قبوله والعمل طبقه ف-«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»لا تكويناً ولا تشريعاً، وسبب ذلك أنَّه « قَدْ تَبَيَّنَ » بسبب الآيات الواضحات «الرُّشْدُ »وهو طريق الهداية،«مِنَ الْغَيِّ »وهو طريق الضلال، وبعد التبيّن فالإنسان مختار لا إكراه ولا إلجاء،«فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ»كثير الطغيان وهو كل ما يصرف الإنسان عن عبادة اللَّه واتّباع تعاليمه « وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ » أخذ بإحكام واعتصم «بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى »، أي المقبض الأكثر استحكاماً، فتُنجّيه من المهالك، «لَا انْفِصَامَ » أي لا انقطاع«لَهَا» لتلك العروة، « وَاللَّهُ سَمِيعٌ»لأقوالكم « عَلِيمٌ » بنياتكم، فيعلم من تمسك حقيقة - قلباً وقولاً - من المنافق أو الكافر .

ص: 307

257 - ونتيجة هذا التمسك هو النجاة ف-«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» ، أولى بهم فلذا يوقفّهم بالاستمرار في الإيمان وبالحجة وبالثواب ف-« يُخْرِجُهُمْ »بلطفه وتوفيقه«مِنَ الظُّلُمَاتِ » كظلمات الكفر والجهل والذنوب وجميع الظلمات«إِلَى النُّورِ »نور الإيمان والمعرفة والمغفرة وغيرها، «وَ» عکس هؤلاء«الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ »كل من يصرف عن عبادة اللَّه كالشيطان وأعداء آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم «يُخْرِجُونَهُمْ »يخرج الطاغوتُ أولياءَهم بالإغواء والتزيين«مِنَ النُّورِ » نور الفطرة والإسلام «إِلَى الظُّلُمَاتِ» ظلمات الكفر والضلال في الدنيا والعذاب في الآخرة « أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ» ملازمون لها « هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » .

بحوث

الأول: لما بين اللَّه تعالى في آية الكرسي التوحيد، وصفات الذات ، وصفات الفعل، والتنزيه عن النقص، وملكه، وعلمه، وقدرته، مع عجز الناس وجهلهم إلّا بالمقدار الذي يأذن ويشاء، بعد ذلك بيَّن في هاتين الآيتين سائر أصول الدين - من العدل والنبوة والإمامة والمعاد - فأما عدله تعالى فأشار إليه بقوله تعالى « لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»وبقوله « قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » وباختیار الانسان «فَمَنْ يَكْفُرْ ...»الآية .

وأما النبوة والإمامة فبقوله «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ... »

ص: 308

وأما الجزاء فبقوله «يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»وبقوله «يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ » وبقوله «أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ...»

لأجل ارتباط هاتين الآيتين بآية الكرسي ورد في بعض الروايات استحباب تلاوتها معاً، بل قال بعض بأن آية الكرسي هي كل هذه الآيات الثلاث، ولكن الظاهر من الأخبار أنَّها هي الآية الأولى ولكن مع استحباب اقترانهما معها في التلاوة، فعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم قال: من قرأ أربع آيات من أول البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعدها، وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئاً يكرهه، ولا يقربه الشيطان، ولا ينسی القرآن(1).

الثاني : قوله تعالى«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ » .

«إِكْرَاهَ » مطلق فيشمل الإكراه التكويني، والإكراه التشريعي، قال تعالى «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ »(2)، دلت الآية على أن اللَّه لم يشأ إكراه الناس تكويناً ولو شاء لجعلهم كلّهم مؤمنين، كما لم يشرّع للرسول صلى اللَّه عليه و آله وسلم إكراه الناس على الإيمان.

وأما قوله تعالى« وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ »(3)، فمعناه أنكم لما اخترتم الإيمان نوّر اللَّه قلوبكم بالمعرفة وكشف لكم بلطفه أسواء الكفر والفسوق والعصيان، فلذا كرهتموها.

ص: 309


1- البرهان ج2، ص266 عن الكافي.
2- سورة يونس، الآية: 99.
3- سورة الحجرات، الآية: 7.

وهنا مطالب :

1 - سبب عدم الإكراه تكويناً هو أن اللَّه تعالى خلق الإنسان مختاراً فيجازي حسب ما اختاره إن خيراً فخير وإن شرا فشر، وفي قوله « قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » إشعار بهذا السبب، فإن اللَّه سبحانه بين طريق الهداية وطريق الضلال فيختار الإنسان ما شاء وسيجازي على اختياره، أما لو كان إكراه فلا معنى لهذا التبيّن بل يكون لغواً لأنَّه أمر لا يحتاج إليه حينئذٍ، و اللَّه تعالى عن اللغو والعبث، ولذا زوّد اللَّه الإنسان بالعقل وخلق الحيوانات من غیر عقل لعدم تكليفهم فلم يكونوا محتاجين إليه فلا يجتمع العقل مع عدم التكليف لأنَّه عبث، فكل عاقل مكلّف وكلّما كان العقل أكثر كان التكليف أشد وأكثر، وحيث إن الموجود المختار أشرف من غيره لذا قال سبحانه : «ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(1)

2-وسبب عدم الاكراه تشريعاً، هو أن هذا الإكراه لغوٌ لا فائدة فيه، وذلك لأن الإكراه يتعلق بما هو محسوس، كالإكراه على الأكل والشرب والقول وسائر الأفعال، وأما القلب فهو منطقة حرّة لا سيطرة عليها لأحد إلّا اللَّه سبحانه وتعالى، ومن أظهر الإيمان بلسانه عن إكراه من غير اعتقاد ولا عقد قلب يكون منافقاً وهو أسوأُ من الكافر وأشد ضرراً، فأن يكون كافراً يدفع الجزية خير من أن يكون منافقاً ينخر في جسم المسلمين من الداخل، بل لا قيمة في الآخرة لإيمان المكرَه، كما لا ضرر في كفر المكرَه بلسانه، قال سبحانه «إلا من أكره وقلبه ملمين بالإيمن»(2).

ص: 310


1- سورة المؤمنون، الآية: 14.
2- سورة النحل، الآية: 106

نعم إذا جاء أحد وأظهر الإيمان لا يجوز التفتيش عن نواياه ولا رفض إسلامه، قال تعالى «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا »(1)، وذلك لعدم اطلاعنا على النوايا ، ولعلّه سيحسن إيمانه حتى وإن لم يكن سبب إظهار الإسلام في البداية هو الاعتقاد، ولعلّ القبول يكون ترغيب للآخرين في الدين، فقد يُسلم الرأس نفاقاً لكن الأتباع قد يُسلمون حقيقة، وكذا مراعاة للذرية فكم من منافق كانت ذريته مؤمنة حقاً، ولغير ذلك.

3- الإكراه المنفي هو الإكراه في أصل العقيدة، ولكن في تفاصيل الأحكام قد يكون إكراه لتنظيم شؤون العباد والبلاد، وهذا أمر يقرّه جميع العقلاء، فحتى العالم المُسمَّى بالمتحضِّر قانونهم هو حرية الاعتقاد، لكن على الجميع مراعاة القوانين -التي سُنّت لتنظيم الحياة - ومن يخالف يعاقب بالغرامة والسجن وغير ذلك.

فمن اختار الإسلام عليه أن يلتزم بأحكامه، وإن أراد المخالفة أو خالف یُنبَّه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم يعاقب على بعض المخالفات، فالضريبة الواجبة تُؤخذ من الناس ولو بالجبر، قال تعالى« وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ »(2)، والتجنيد الإجباري في أوقات القتال أمر معقول، ولذا كتب اللَّه الجهاد حتى مع كرههم قلباً، ومن لا يريد الخروج يُجبر قال سبحانه«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ » (3).

4 - إن هنالك التزامات اختبارية، فمن اختار الالتزام لا يحق له

ص: 311


1- سورة النساء، الآية: 94.
2- سورة التوبة، الآية: 54.
3- سورة البقرة الآية: 216.

التنصّل عنه، ولذا كانت غالب العقود لازمة لا يحق لأحد المتعاقدين الفسخ، نعم قد تجعل طرق لفسخ هذه الالتزامات ضمن الضوابط القانونية، كما لو تراضى المتعاقدان بالفسخ، وكالطلاق والخلع، واختيار الإسلام من الأمور التي لم يُكَره الكفار عليه، لكن لو اختاروه فلا يحق لهم الارتداد، وهذا من الالتزامات الاختيارية التي لا يمكن التخلص منها أبدا، وكذا من يولد على الإسلام لا يحق له الارتداد، لأن اللَّه سبحانه مالك كل شيء والغاية من الخلق هو عبادته سبحانه، ولا تتحقق هذه العبادة إلّا بالإسلام، فلا يعقل أن يشرّع قانوناً يخالف التكوين، وقد ذكرنا فيما مضى أن التشريع مطابق للتكوین کاملاً، ولذا لم يشرع اللَّه سبيلاً للكافرين على المؤمنين، كذلك لم يجوّز الارتداد لأنَّه تشريع يخالف التكوين قال تعالى «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ »(1) فشرّع سبحانه ما يقرّب إلى العبادة ولم يشرّع ما يبعّد عنها .

5 - هذه الآية من الآيات المحكمة والتي لم تنسخ، وتوهم نسخها بآيات القتال غير صحيح:

أولا : لأن علّة عدم الإكراه وهي قوله « قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » مستمرة، ولا معنى للنسخ مع بقاء علة التكليف، بل إنما ينسخ الحكم مع انتهاء أمد عِلّته- كما مرّ سابقاً -.

وثانيا : إن آیات الجهاد ليست لإكراه الناس على الإيمان، وإنما هي الدفع الاعتداء، أو تسهيل أمر الدعوة إلى اللَّه ، فقد يظلم الظالمون عباد اللَّه فالجهاد لرفع الظلم، وقد يمنع الحكام الظلمة التبليغ والإرشاد

ص: 312


1- سورة الإسراء، الآية: 44.

ويزاحمون المبلغين فالجهاد لإزالة المانع كما قال تعالى«وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا »(1).

الثالث : قوله تعالى«قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » .

هذا كالعلّة لما قبله، أي إن أمر الدين من الوضوح بمكان فلا حاجة إلى الإكراه أصلاً .

و« الرُّشْدُ » هو طريق الهداية، و«الْغَيِّ » هو طريق الضلال، فالنسبة بين الرشد والهداية هي النسبة بين المقدمة وذي المقدمة، وكذلك النسبة بين الغي والضلال، وفي المقاييس: الرشد يدل على استقامة الطريق (2)، وفي المناهج : والظاهر من موارد الاستعمال أن الرشد هو الهداية والعلم مع عناية الاقدام للعمل طبق العلم، قال تعالى « فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا »(3)، فإن استيناس الرشد إنما يحصل مع تتّبع أعمالهم وأقوالهم، فيكون الغي الضلال نفسه بعناية الإقدام والجري العملي طبق جهله وعماه، فعلى هذا يكون المتبيّن هو نفس العمل الحق من الباطل(4).

وهذا التبيّن إنما هو بالفطرة والعقل أولاً، وبالبراهين والآيات المعجزة ثانياً، فإن هناك انسجاماً تاماً بين الفطرة والعقل و آیات الأنبياء والأوصياء.

ص: 313


1- سورة النساء، الآية: 75.
2- المقاييس: ص 385.
3- سورة النساء، الآية: 6.
4- مناهج البيان ج 3، ص 20 - 21.

الرابع: قوله تعالى « فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا».

إن تبين الرشد من الغي لوحده لا يكفي في هداية الإنسان، فلا بد من عامل قوي يسوق الإنسان إلى طريق الهداية ويصرفه عن طريق الضلال، فكان ذلك الأنبياء، وكلّما طال التحريف تشريعاتهم وما جاؤوا به واتر اللَّه إرسال أنبياء آخرين، إلى أن بعث اللَّه آخر الأنبياء رسوله محمداً صلى اللَّه عليه و آله وسلم ، فجاء بالتشريع النهائي وبيَّن تفاصيل العقيدة في كل شيء، ولضمان عدم تحریف الدين فإن اللَّه سبحانه جعل خليفتين للرسول صلى اللَّه عليه و آله وسلم و لا يفترقان وهما باقيان في الناس إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، وهما القرآن وأهل البيت فلا ، فقال الرسول صلى اللَّه عليه و آله وسلم : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى یردا عليّ الحوض (1). روته العامة والخاصة متواتراً وبألفاظ متقاربة، ولذا كان القرآن وأهل البيت علیهم السلام معاً ضماناً لعدم الانحراف، وقد انحرف الذين تركوهما معاً أو تركوا أحدهما فإن ذلك ترك لكليهما معاً، وقد أكّد الرسول صلى اللَّه عليه و آله وسلم على التمسك بهما في مواطن كثيرة وأراد أن يكتب ذلك قبل رحيله فقال : إيتوني بكتاب ودواة لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا من بعدي أبداً . ومن المعلوم أن قوله: (لن تضلوا من بعدي أبداً) هو إشارة إلى ما قاله في حديث الثقلين : (ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً)، فقال قائلهم: إن الرجل ليهجر حسبنا کتاب اللَّه ! !(2).

و« الطَّاغُوتُ»مبالغة في الطغيان من فَعَلُوت كالجبروت والملكوت،

ص: 314


1- أمالي الصدوق ص 500، بصائر الدرجات ص 433، ومن مصادر العامة سنن الترمذي ج5، ص663، الحديث رقم 3788، والدر المنثور ج 7 ص 349.
2- رواه من العامة البخاري في الصحيح عندهم في مواضع متعددة في كتابه.

وفيه قلب لام الفعل مكان العين، ويطلق على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث.

وكثرة الطغيان هي بالصد عن عبادة اللَّه تعالی وعن تنفيذ أوامره، لذلك كان من مصادیق الطاغوت : الأصنام، والشيطان، وحكام الجور، والذين غصبوا حق آل محمد صلى اللَّه عليه و آله وسلم .

قوله : « بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى» و(العروة) هي مقبض الإناء والكوز ونحوهما و(الوثقی) تأنيث الأوثق بمعنى الأشد استحکاماً وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس، فكما أن الشخص المعرَّض للسقوط لو تمسك بقوة بمقبض أو بحبل النجاة فإنَّه لا يسقط فينجو، كذلك من يكفر بالطاغوت ويؤمن باللَّه فهو متمسك بطوق النجاة فلا يسقط في مهاوي الضلال ولا ينهار به في نار جهنم، قال تعالى «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ »(1).

وفي هذا التشبيه إشارة إلى أنَّه كما أن إناء السقي أو الطعام فيه الخير والبركة لمن أخذ بمقبضه كذلك في المعنويات - كذا قيل - وفسرت الروايات (العروة الوثقی) بالإيمان باللَّه وحده، وبأمير المؤمنين علیه السلام ، وبالأئمة عليهم السلام ، وبحبّهم(2) وذلك لأن الدين وحدة متكاملة فالإيمان باللَّه تستلزم إطاعة من أمر اللَّه بإطاعتهم وحبّ من أمر اللَّه بحبهم .

وقوله «لَا انْفِصَامَ لَهَا » لبيان أن التمسك بالطواغيت إنما هو تمسك بعروة واهية تنفصم في الآخرة، قال سبحانه «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ

ص: 315


1- سورة التوبة، الآية: 109.
2- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص262 - 264.

الَّذِينَ اتَّبَعُوا»(1) بل في الدنيا أیضاً كما قال :«إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)»(2).

فلمّا قال« بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى» و«الوثقی» أفعل تفضيل، تبين أن هناك عروة غير وثقى، والفرق أن الوثقى لا انفصام لها أبداً، وأما غير الوثقی فهي تنفصم فينهارون في الذلة وغضبه تعالى ثم في نار جهنم.

الخامس : قوله تعالى «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا » .

لمّا بيّن أن الكفر بالطاغوت والإيمان باللَّه هو العروة الوثقى، بيّن في هذه الآية النتيجة في الدنيا والآخرة وأن اللَّه سبحانه - باعتبار أن حبل هذه العروة بيده سبحانه هو الذي يسحب هؤلاء المتمسكين بهذه العروة إلى النور فيكون في تمسكهم بها نجاتهم، وأما الطاغوت فمن أخذ بعروتهم فإنَّها تنقطع فيكونون سبباً في انهيار أتباعهم في الظلمات.

وولاية اللَّه هي من شؤون مالكيته المطلقة، فهو المالك لهم ويتصرف كما يشاء، وحيث إن هؤلاء المؤمنين بحسن اختيارهم صاروا لائقین للنجاة لذلك يتولّى اللَّه سبحانه أمورهم، وذلك بإراءتهم الطريق وبإيصالهم إلى المطلوب، فقوله «وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا »(3)أي هو أولى بهم من أنفسهم، فيلي أمورهم بلطفه ورحمته، ومن مصادیق ولايته لهم أنَّه يؤيدهم بالهداية قال سبحانه : «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى»، وبالحجة والبرهان قال سبحانه «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ » (4)،

ص: 316


1- سورة البقرة، الآية: 116.
2- سورة الأعراف، الآية: 152.
3- سورة محمد، الآية: 17.
4- سورة الأنعام، الآية: 83.

وبالنصر قال سبحانه «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ »(1)، في الآخرة قال سبحانه «أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »(2)، وبغير ذلك من أنواع الولاية .

السادس: قوله تعالى «يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ».

أي ظلمات الكفر والجهل والذنوب وجهنم، فكل شرّ وإثم هو ظُلمَة، سواء كان عقيدة أم عملاً أو نتيجة، وسواء كان في الدنيا أم الآخرة، وهي ظلمات متعددة بتعدد الباطل والشر.

وأما النور فهو واحد وهو نور الإيمان والمعرفة والهداية والمغفرة ، ولذا كان الصراط المستقيم واحداً وأما غيره فهي سبل متكثرة متضاربة ، قال سبحانه « هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ »(3)، نعم قد يكون الخير الواحد له مصادیق متعددة كمن ينفق ماله في سبيل الله، فقد يعطيه فقيراً أو يتيماً أو يطعم به أو يكسو به أو يفعل سائر وجوه البر فكلّها مصاديق للإنفاق المرغوب إليه، فبهذا الاعتبار صح تسميتها بالسُّبُل كما قال تعالى : «وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا »(4) فهي مصادیق مختلفة لكنها كلّها في سبيل واحد هو الصراط المستقيم .

السابع : قوله تعالى « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ...» الآية .

فالكفار لا يتولى اللَّه شؤونهم بالهداية والنصرة والثواب، بل

ص: 317


1- سورة غافر، الآية: 51.
2- سورة يونس، الآية: 62.
3- سورة الأنعام، الآية: 153.
4- سورة إبراهيم، الآية: 12.

يخذلهم، لأنَّهم بسوء اختيارهم رغبوا إلى الكفر وازدادوا كفراً ، فلما فقدوا القابلية قطع اللَّه لطفه عنهم، مع أنَّه سبحانه ابتدأهم بألطافة العامة لكنهم رفضوها وعتوا فلذا فقدوا القابلية ، وهؤلاء يغويهم الطاغوت - الشيطان وأعداء آل الرسول صلی الله علیه وآله وسلم- ، فيطفئون نور الفطرة ونور الإسلام من قلوبهم ويدخلونهم في ظلمات الكفر والضلال والشبهات والجهل في الدنيا ثم عذاب الآخرة، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : لا دين لمن دان اللَّه بولاية إمام جائرٍ ليس من الله، ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من اللَّه - إلى أن قال - ألا تسمع لقول اللَّه عزَّوجلَّ «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»يعني من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة بولاتهم كل إمام عادل من الله، وقال «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ» إنما عنى بهذا أنَّهم كانوا على نور الإسلام، فلمّا تولوا كل إمام جائر ليس من اللَّه عزَّوجلَّ خرجوا بولايتهم إياه من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب اللَّه لهم النار مع الكفار ف-«أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(1).

ص: 318


1- البرهان ج 2، ص 261 - 262 عن الكافي.

الآية 258

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)»

بعد أن بيّن اللَّه أنَّه تعالى ولي المؤمنين يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، بعد ذلك بين ثلاثة أمثلة:

المثال الأول

258 - «أَلَمْ تَرَ »استفهام تقريري لإيجاد العلم، أي ألم تعلم «إِلَى »الطاغية نمرود «الَّذِي حَاجَّ»جادل وخاصم « إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ» رب إبراهيم،« أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ »أي وكان سبب مجادلته وإنكاره اللَّه هو البَطَر الذي نشأ من سلطته، فبدل أن يشكر اللَّه عليها بغى وكفر، «إِذْ»سأل نمرود: من ربُّك يا إبراهيم؟ ف- « قَالَ إِبْرَاهِيمُ» في جوابه مستدلاًّ بقدرة اللَّه : « رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ »يحول الجماد إلى الحيّ، وبالعكس،«قَالَ»نمرود مغالطة « أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» فأتي بسجينين أطلق أحدهما وقتل الآخر، فقال له

« (258)»

ص: 319

إبراهيم عليه السلام : أحي الذي قتلته إن كنت صادقاً، ثمَّ أكمل إبراهيم عليه السلام الدليل بإثبات عجز نمرود ف- « قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ » إن كنت تزعم بأنك الربُّ!!«فَبُهِتَ » تحيّر وانقطع عن الكلام «الَّذِي كَفَرَ»، وكان تمّرد نمرود وطغيانه ومحاججته بالباطل كلّها ظلم « وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

بحوث

الأول : هذه الآية وآيتان بعدها تتضمن ثلاثة أمثلة لما ذكر في الآيات السابقة - من الهداية والضلال -، فقد هدى اللَّه تعالى إبراهيم عليه السلام بالحجة، وهدى عزيراً إلى البعث والنشور، كما هدى إبراهيم عليه السلام لذلك أیضاً ، ثم إنه تعالى بعد هدايتهما نقل قصصهما ليهتدي سائر الناس أیضاً .

وأما نسق الأمثلة :

فالمثال الأول: الإثبات اللَّه وعموم قدرته وعجز سائر الأرباب حتى وإن كانوا في أوج سلطتهم وملكهم، وفيه تعليم طريقة الاحتجاج أیضاً ، واختيار مادة الاحتجاج من أهم ما يرتبط بالناس وبمعاشهم بحيث يعلمه ويفهمه كل أحد، فاحتجَّ بأهم الأمور - وهو الحياة والموت - ثم بشروق الشمس فإنَّها سبب الحياة على الأرض، ولا يخفى مناسبة هذا المثال . حيث ذكر الحياة والموت - مع المثالين الآخرين ففيهما إحياء وإماتة أیضاً .

ص: 320

والمثال الثاني : الإثبات القيامة عبر إحياء الأموات، فأمات اللَّه عزيراً مائة عام ثم أحياه وأحيا حماره.

والمثال الثالث: الإثبات كيفية الإحياء، وأن تفرق الأجزاء واختلاط بعضها بالبعض لا يعجزه تعالى عن جمعها وتركيبها كما كانت.

ومن ذلك يتضح سبب التفريق بين المثال الأول والثالث مع كونهما يرتبطان بإبراهيم عليه السلام وتخلل قصة عزير بينهما، وذلك لمراعاة نسق المطالب، ففي البداية إثبات للخالق وعموم قدرته ثم لبيان الحشر وإحياء الموتی ثم لبيان كيفية إحيائهم.

الثاني :«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ » .

روي عن الإمام الصادق عليه السلام : أن المحاجة كانت بعد إلقائه في النار وصيرورتها برداً وسلاماً عليه(1)، وهذا ما يقتضيه العادة أیضاً ، فإن إبراهيم عليه السلام كان من عامة الناس في الظاهر، وما كان الملك الطاغوت ليتكلم معه إلّا بعد مشاهدة آية بينّة .

ويبدو أن تدرج الأمور كانت في محاولة إبراهيم عليه السلام هداية آزر، ثم محاججته لعباد الكوكب والقمر والشمس، ثم كسره للأصنام، ثم إلقاؤه في النار، فلما خرج سالماً أراد نمرود المحاججة معه.

وقوله «حَاجَّ»أي جادل وخاصة في أمر الرَّبِّ تبارك وتعالی.

وقيل : (الحجة) هي البرهان الصحيح فهي الدلالة المبينة للمحجّة - أي المقصد المستقيم -، فمحاجة نمرود إما من باب إلقائه ما يزعم أنَّها حجة أو من باب المقابلة أي ذكر إبراهيم حجة وذکر نمرود أمر، وسمی

ص: 321


1- البرهان ج2، ص271 عن مجمع البيان.

ذلك الأمر حجة للمقابلة كقوله « تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ »(1)وكقوله « فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ »(2).

لكن الظاهر أن الحجة هي الاستدلال سواء كان صحيحاً أم لا، وقد استعمل في القرآن كليهما فراجع مادة (ح ج ج) في المعجم المفهرس.

وقوله «فِي رَبِّهِ»الضمير يرجع إلى إبراهيم عليه السلام لأن نمرود کان يزعم أنَّه الرب، فلذا سأل عن رب إبراهيم عليه السلام .

الثالث : قوله تعالى : « أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ » .

إما مفعول لأجله، أو ظرف، والمعنى أنَّ احتجاجه كان بسبب سلطته وملکه فلذا بطر وطغى فادعى الألوهية، فإن للسلطة سكراً وغروراً تودي بالطاغي إلى شعوره بأنَّه المالك لكل شيء فهو الأولى ليكون ربّاً ، وهذا لا ينافي اعتقاده بآلهة أخرى أیضاً ، فإن عامة الوثنيين يعتقدون بألهة كثيرة، وقد يعتبرون بعضها أقوى من بعض، وبعض الملوك والجبارة كانوا يعتقدون بأنفسهم أنَّهم من الآلهة أو من الأرباب، وهذا فرعون كان يعتقد بأنَّه رب وفي الوقت نفسه كان يتخذ آلهة قال تعالى«وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ »(3)، وقال سبحانه «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ»(4)، وقيل إن ذلك تدرج في الطغيان، ففي البداية يزعم أنَّه

ص: 322


1- سورة المائدة، الآية: 116.
2- سورة البقرة، الآية: 194.
3- سورة الأعراف، الآية: 127.
4- سورة القصص، الآية: 38.

من الآلهة ثم لما تجذر الطغيان في نفسه يزعم بأنَّه الإله الوحيد لا إله غيره.

فحاصل معنى قوله « أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ » أن سبب طغيانه هو ملکه، وفي الآية تفنيد لأساس هذا الزعم فإن هذا الملك كان من اللَّه تعالى «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(1).

ولا يخفى أن كل ما يعطيه اللَّه سبحانه وتعالى فهو نعمة منه لعبيده ، ولكن الظالمين يحوّلون النعمة إلى نقمة، قال سبحانه «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ »(2)، ثم إن اللَّه سبحانه جعل أسباباً ظاهرية من تدرّج فيها وصل إلى السلطة - مؤمناً كان أم كافراً - ليتمَّ الامتحان فلا يمنع اللَّه سبحانه الكافر عن السلطة قهراً، ولا يمنحها للمؤمن من غير أسبابها، ثم إنه تعالى يمهل الطغاة لأجل مسمی لیتمّ امتحان الخلق، وهذا الإمهال ليس على سبيل الكرامة بل للاستدراج والإملاء كما قال سبحانه «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ »(3).

الرابع : قوله تعالى « إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ...»الآية .

استدل إبراهيم عليه السلام بآيات اللَّه وقدرته سبحانه وتعالى ولعلّ وجه اختياره للحياة والموت، لأن هذه المحاجة كانت بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالماً - كما مرّ في البحث الثاني - فأرادعليه السلام بيان أن بقاءه

ص: 323


1- سورة آل عمران، الآية: 26.
2- سورة إبراهيم، الآية: 28.
3- سورة آل عمران، الآية: 178.

حيّا وعدم احتراقه بالنار لأن ربّه تبارك وتعالى مالك الموت والحياة ولذا أبقاه حيّاً ولم يُمته حرقاً بالنار.

مضافاً إلى أن كل أحد يعرف أن الأصنام والآلهة البشرية عاجزة عن الإحياء والإماتة، ففي هذه الآية بيان لكمال قدرته تعالی وعجز من سواه، فلذلك هو الذي يستحق العبادة لا غيره .

ولمّا غالط نمرود أراد إبراهيم عليه السلام إزاحة المغالطة ودحضها عبر بيان عجز نمرود ولذا طلب منه إتيان الشمس من المغرب، وذلك ليس حجة أخرى، بل هو نفس هذه الحجة لكن في البداية استدلال بقدرة اللَّه ثم بعجز نمرود، وفي ذلك دحض للمغالطة وإبطال ألوهية نمرود.

وفي تفسير القمي: أنَّه لما ألقى نمرود إبراهيم عليه السلام في النار، وجعلها اللَّه برداً وسلاماً ، قال نمرود: يا إبراهيم من ربك؟ قال «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ » قال له نمرود «أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ » فقال له إبراهيم عليه السلام كيف تحيي وتميت؟ قال: أعمد إلى رجلين ممن قد وجب عليهما القتل فأطلق عن واحد وأقتل واحداً، فأكون قد أحييت وأمتّ، قال إبراهيم عليه السلام إن كنت صادقاً فأحي الذي قتلته(1)، فلم يترك إبراهيم عليه السلام مغالطته بلا دحض لها، بل أبطلَها ثم ذكر آية أخرى وهي حركة الشمس.

ومن ذلك يتبين أن طريقة استدلال إبراهيم عليه السلام كانت كالتالي :

1- استدلال بما شاهدوه من عدم موت إبراهيم بالنار، وبيان أن ربّه تعالى هو المحيي والمميت، وهذا ما لم يتمكن نمرود من ردّه، فلم يمكنه

ص: 324


1- البرهان ج2، ص370 - 371 عن تفسير القمي.

القول بأنَّه ما هو الدليل على أن ربك يحيي ويميت؟ وذلك لما شاهده الجميع من عدم احتراق إبراهيم عليه السلام بالنار.

2- لما أراد نمرود إثبات الشيء ذاته لنفسه - بالإحياء والإماتة - حيث أراد أن يحوّل برهان إبراهيم عليه السلام إلى دليل لإثبات ألوهيته، فغالط بإطلاق سراح محكوم بالإعدام وقتل آخر، أجابه إبراهيم عليه السلام بعجز نمرود عن الإحياء وذلك لعدم تمكنه من إحياء القتيل الذي قتله.

3- استدلال بعجز نمرود وبقدرة اللَّه تعالى عبر حركة الشمس، وساق الكلام بحيث طلب من نمرود تغییر تلك الحركة، فعجز نمرود حتى عن المغالطة.

وبعبارة أخرى استدل إبراهيم أولاً بقدرة اللَّه ثم استدل بعجز نمرود.

الخامس: قوله تعالى « قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ».

هذا المقطع - كما ذكرنا - لإثبات عجز نمرود، فكيف يكون إلهاً وهو عاجز، فلذلك بهت نمرود لأن في ذلك إبطالاً لألوهيته بأمر يشاهده الجمع، ولما بطلت بذلك ألوهيته لم يتمكن من معارضة إبراهيم عليه السلام بطلب أن يأتي اللَّه تعالى بالشمس من المغرب، مضافاً إلى أن نمرود لما شاهد عدم احتراق إبراهيم كان يعلم بأن ربه قادر على إتيان الشمس من المغرب ولو كان يطلب ذلك لفعله إبراهيم عليه السلام فكان مزیداً في فضيحة نمرود وبطلان ألوهيته .

كما لم يتمكن نمرود من ادِّعاء أنَّه هو الذي يأتي بالشمس من

ص: 325

المشرق لعلم الجميع بأن الشمس تطلع من المشرق قبل ولادة نمرود، فلا يمكنه أن ينسب شیئاً إلى نفسه في حين أن ذلك الشيء يسبقه .

السادس: قوله تعالى« وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » .

أي إن نمرود مع مشاهدته للآية الكبرى في عدم احتراق إبراهيم، وسماعه لاحتجاج إبراهيم مع انقطاعه وعجزه عن جوابه، مع ذلك كلّه لم يؤمن باللَّه واستمر في غيّه وطغيانه، وذلك لأنَّه كان ظالماً، فأغلق على نفسه باب الهداية، لذلك تركه اللَّه وشأنه ولم يهده، قال سبحانه «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا »(1)، وقال تعالى «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ »(2)، فهؤلاء بسبب سوء اختيارهم منعوا عن أنفسهم الخير فخذلهم اللَّه تعالى وتركهم وشأنهم فلم يلطف بهم اللطف الخاص، وقد مرّ الكلام حول الهداية والضلال مِراراً.

ص: 326


1- سورة الأنعام، الآية: 25.
2- سورة الأعراف، الآية: 146.

الآية 259

«أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)».

المثال الثاني

259 - «أَوْ كَالَّذِي» عطف على «الذي حاجّ» أي: ألم تر كالذي - وهو أرميا أو عزير - « مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ » هي بيت المقدس بعد تخریب بخت نصر لها وقتله أهلها،« وَهِيَ خَاوِيَةٌ » ساقطة « عَلَى عُرُوشِهَا » سقوفها، فتهدم السقف أولاً ثم تهدمت الجدران عليه، في إشارة إلى طول المدة، « قَالَ» في نفسه معترفاً بقصوره عن معرفة طريقة الإحياء واستعظاماً لقدرة اللَّه : « أَنَّى» أي كيف ومتى، فقوله كان يتضمن سؤالين: الكيفية وطول المدة« يُحْيِي هَذِهِ»، هذه القرية والمراد أهلها « اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا» ، فأراد اللَّه أن يريه عياناً « فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» أحياه،« قَالَ »اللَّه وحياً له ليجيبه عن طول المدة « كَمْ

ص: 327

لَبِثْتَ» بقيت هنا؟ « قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» أي مدة قليلة جداً ، وهكذا البعث يوم القيامة فكأنّ مدة الموت قليلة، والذي حدث في هذه المدة هي أن جسد أرميا أو عزير لم يتغير ولكن حماره صار رميماً لم يبق منه إلّا عظاماً نخراً ، وهما آيتان على قدرة الله، « فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ » التين« وَشَرَابِكَ » العصير أو اللبن « لَمْ يَتَسَنَّهْ» لم يتغير طوال هذه المدة، فكذلك جسدك بقدرة اللَّه ، « وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ » كيف تفرقت عظامه وصارت نخرة لتعلم طول المدة وإنَّما أَمتناك وأحييناك لجهتين: الأولى: جواباً عن سؤالك عن إحياء الأموات وطول المدة. والثانية : « وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً» علامة للمعاد ولقدرته تعالى « لِلنَّاسِ».

ثم لكي تشاهد كيفية الإحياء وتجمع الأوصال المتفتتة« وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ » عظام الحمار أو عظام موتى القرية أو عظامك« كَيْفَ نُنْشِزُهَا» نرفع بعضها فوق بعض « ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا » فنحييها مثل سيرتها الأولى،« فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ »إحياء الأموات وكيفيته عياناً بعد أن كان يعلم برهاناً « قَالَ أَعْلَمُ» من قبل « أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »لكني ازددت علماً بهذه المشاهدة .

بحوث

الأول: إن هذا المارّ بالقرية كان وليًّا من أولياء اللَّه إما نبي أو

ص: 328

صِدِّیق -، روي أنَّه أرميا وروي أنَّه عزير(1) ولعلّهما اسمان لشخص واحد، فلم يكن سؤاله عن إنكار أو عن شك بل استعظاماً للأمر.

وذلك لأن من أسباب السؤال الشك، وهو الغالب في الاستفهام الحقيقي حيث هو طلب الفهم لما لا يعلمه ويشك فيه ، أو الاستفهام إنكاراً ، أو الاستفهام تقريراً بغرض استعظام الأمر.

ولم يكن هذا الوليّ شاكّاً في قدرة اللَّه ولا في المعاد، فإن مقام الأنبياء والصديقين أجل من ذلك، بل اعترافاً منه بقصوره عن إدراك هذا الأمر مع علمه ويقينه به، واستعظاماً لقدرة اللَّه سبحانه وتعالى بحيث إنه قادر على هذا الأمر الذي لا يمكن تصور کيفيته ، فأراد اللَّه سبحانه أن يريه عظمته وقدرته ليتحول علمه من علم اليقين إلى حق اليقين وعين اليقين، فيزداد يقيناً على يقينه، وقد مرّ سابقاً الفرق بين هذه العلوم وأن لليقين درجات باعتبار منشئه، وهذا من لطف اللَّه على أوليائه، فيريهم آيات عظمته ليزدادوا معرفة وكمالاً ويقيناً كما قال«وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » (2)، وقال سبحانه«لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى »(3)، كما أراد سبحانه أن يجعله آية للناس - سواء من عاصروه بعد إحيائه أم من تنقل له قصته - فلذلك أماته اللَّه ثم أحياء وأراه الآيات.

الثاني : قوله تعالى : « أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا » .

لمّا ازدادت معاصي بني إسرائيل سلط اللَّه عليهم بخت النصر ملك بابل وكان ظلوماً کفوراً، وهكذا سنة اللَّه تعالى في الناس «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ

ص: 329


1- راجع البرهان ج 2، ص 272 فما بعد.
2- سورة الأنعام، الآية: 75.
3- سورة النجم، الآية: 18.

لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(1)، وقال سبحانه: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ »(2)، وقال «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)»(3)، فأبادهم بخت النصر قتلاً وخرّب بيت المقدس، ثم أراد اللَّه إحياءهم ولعلّه لكي تستمر هذه الحضارة الدينية بعد تأديبهم وعقوبتهم في زمان عمت الوثنية أرجاء الأرض، فقد فضّل اللَّه بني إسرائيل على العالمين في زمانهم واختار منهم الأنبياء وحباهم بالنعم لكن عتى الكثيرون فاستحقوا التأديب لتستمر الحضارة الدينية بعد التهذیب، فلذا كان إرادة عزير أو أرميا هذه الآية في هؤلاء القوم، لذا أحياهم اللَّه جميعاً كما يظهر من الروايات(4).

لا يبقى منها إلّا الأطلال، وفيها إشعار أیضاً بشدة بطش بخت النصر بحيث أهلك الحرث والنسل والبناء، وهذا دأب الظلمة يبطشون بالناس وبكل ما يرتبط بهم.

الثالث : قوله تعالى « قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا » .

« أَنَّى» للسؤال عن الزمان وعن الكيفية، أي متى يحييها وقد نخرت أو كيف يحييها، وقد أجابه اللَّه عن كلا السؤالين كما ذكرنا.

و«هَذِهِ »، إما إشارة إلى العظام التي رآها في القرية - ويُعلم المشار

ص: 330


1- سورة الأنفال، الآية: 53.
2- سورة النحل، الآية: 112.
3- سورة الإسراء، الآية:16.
4- في تفسير القمي والعياشي راجع البرهان ج2، ص272 فيما بعد.

إليه من سياق الكلام - فلا يكون مجازاً في الكلام، وإما إشارة إلى القرية ولكن مع كون المقصود أهل القرية كقوله «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا »(1) ، وليس المراد إحياء القرية ببنائها من جديد فذلك أمر طبيعي لا يستدعي التعجب ولا الاستعظام.

الرابع: قوله تعالى « قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ»

قول اللَّه تعالی بمعنى الوحي وليس بمعنى الكلام بخلق الصوت والتكلّم مباشرة معه، قال سبحانه «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)»(2).

وهذا السؤال هو في الحقيقة لجواب سؤاله عن المدّة حينما قال و يخيه، فكما أحياك اللَّه بعد موتك بمائة عام ولم تشعر بطول هذه المدة ، كذلك اللَّه قادر على الإحياء حتى بعد مضي أطول من هذه المدّة، وفي يوم القيامة يقول اللَّه تعالى للناس : «قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)»«قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ »(3)استقلالاً للمدة، أو لعدم شعورهم بطولها . أو لأن كل ماضي قليل حتى وإن طالت المدّة.

ودلت الأحاديث على أن الناس في البرزخ على أقسام ثلاثة، من مَحَضَ الإيمان فهو منعّم كما قال «بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ »(4)س. ومن مَحَضَ الكفر فهو معذب كقوله :«فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)»«النَّارُ

ص: 331


1- سورة يوسف، الآية: 82.
2- سورة الشورى، الآية: 51.
3- سورة المؤمنون: 112 - 113.
4- سورة آل عمران، الآية: 169.

يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا »(1). والقسم الثالث - وهم المستضعفون - یُلهی عنهم أي يتركون كالنائم إلى حين الحساب في يوم القيامة، وقد ذكرنا تفصيله في شرح أصول الكافي فراجع.

وفي بعض الأخبار أن اللَّه أماته في بداية النهار وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار(2)، فلذا قال « يَوْمًا»ثم لما رأى الشمس قال «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ »، وبذلك حصل على جواب أحد سؤاليه وهو عن المدة، فإن اللَّه لا تعجزه طول المدة ولا قصرها فكلّها بالنسبة إليه سواء لأنَّه سبحانه محیط بالزمان والزمانیات وقادر على كل شيء.

سؤال: لماذا أماته اللَّه مائة عام دون الأكثر أو الأقل؟

والجواب : أولاً إنه لو كان يختار الأكثر أو الأقل لجاء السؤال نفسه، وحيث إن المقصود يحصل بأيٍّ عدد فلا بأس باختيار أيٍّ منها - وسيأتي توضيحه .

وثانيا : لعلّ في ذلك وضوح الآية، لأن بعض من شاهده کان حياً حين بعثه اللَّه فكان من المعمّرين، ولذلك أمكنهم معرفته فاتضحت الآية وصار مثلاً، وأما لو كانت المدة أكثر من ذلك فلعلّ جميع من شاهده کان يموت فلم يمكنه إثبات أنَّه هو إلّا بإعجاز آخر ولم يكن داعٍ لذلك.

وأما ما قيل من عدم معرفتهم به إلّا بعد أن أراهم آية وذلك بقراءة التوراة عن حفظه إلى آخر ما ذكروه فلم أجده إلّا في رواية العامة، ولا يعتمد عليها، لأن الإسرائيليات دخلت في تفاسيرهم عن طريق كعب

ص: 332


1- سورة غافر، الآيتان: 45 - 46.
2- عن تفسير القمي، وتفسير العياشي. راجع البرهان: ج2، ص279 - 277.

الأحبار وغيره. فلا وثوق لما نقلوه، وفيما وصلنا عن طريق أهل البيت علیهم السلام في الكتب المعتبرة الكفاية، مع عدم تعارضها مع القرآن الكريم بل وجود شواهد من الكتاب العزيز عليها .

الخامس : قوله تعالى « فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ » .

قد يتساءل عن سبب أمره بالنظر إلى طعامه وهو التين، وشرابه وهو العصير أو اللبن مع عدم فساده كل هذه المدة خلافاً للمتعارف، فكان ذلك من آيات الله، ولكن أيُّ ارتباط لهذه الآية بالموضوع وهو البعث؟

وقد يقال في الجواب : إن اللَّه أراد أن یبیّن له قدرته على كلا الأمرين، حفظ ما يفسد، وإرجاع ما فسد، والأول دل عليه حفظ الطعام والشراب . وهما مما يفسدان بسرعة طوال هذه المدة، والثاني دلّ عليه إرجاع العظام إلى حالتها الأولى وإحيائها .

وأما جسمه هل بلي أم لا، فقد يقال : إن جسمه كان سالماً لم يُبلَ فأراد اللَّه تعالى أن یبیّن له أن ذلك بقدرته عزَّوجلَّ كما أبقى التين والعصير أو اللبن وهما مما يفسدان بسرعة، وذلك لأن أجساد الأنبياء والأوصياء لا تُرمّ ولا يصيبها الحدثان كما في أخبار متعددة ذكرناها في شرح أصول الكافي.

ولكن يظهر من بعض الروايات أن جسده بلي وأن أول ما أعاد اللَّه إليه عينيه، ثم أرجع إليه الروح فجعل ينظر إلى عظامه كيف اجتمعت وكيف تركبت العروق واللحم فوقها(1)، وأما بلي جسده فلأجل أنَّه لم يثبت كونه من الأنبياء الذين لا تبلى أجسادهم. أو أن ذلك كان استثناء

ص: 333


1- عن تفسير العياشي ج 1، ص 140 وعن الاحتجاج راجع البرهان: ج2، ص278 - 279.

لأجل الأهم وهو إراءته کيفية اجتماع العظام وكيفية تجمع اللحم والعروق وغيرها، فتأمل.

وقوله : «لَمْ يَتَسَنَّهْ » بمعنى لم يصر كالشيء الذي تأتي عليه السنوات فتُغيّره، وفي المقاييس: يقال : سنهت النخلة إذا أتت عليها الأعوام(1) وقيل غير ذلك.

وتكرار (انظر) ثلاث مرات لعلّه للإشارة إلى أمور ثلاثة :

1- عدم فساد ما تقتضي الطبيعة فساده، بقدرة اللَّه تعالی .

2 - الدلالة على طول المدة بحيث فسد ما يلزم فساده .

3 - إرجاع ما فسد، فيكون الثاني - مع كونه على مجرى الطبيعة - کالمقدمة للثالث.

والحاصل : انظر إلى عظمة اللَّه تعالى، حيث حفظ ما يلزم فساده وجمع ما فسد فأرجعه إلى حالته الأولى.

السادس : قوله تعالى « وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ»

. المقصود أنَّه كما أريناك قدرتنا في إحيائك لتُشاهد بنفسك البعث، كذلك هناك غرض آخر وهو جعلك آية للناس، فقوله « وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً»عطف على « بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ...»فتحقق بهذا الإحياء والإماتة غرضان.

وفي المناهج: إن ذکر موت الحمار وإحيائه إنما هو من حيث الدلالة على طول اللبث، لا لكونه آية للناس، والآية للناس هو نفس هذا

ص: 334


1- المقاييس: ص 471.

المبعوث، والعناية في إنشاز العظام هي مشاهدة هذا المبعوث عظام نفسه كيف ينشزها اللَّه سبحانه ويكسوها لحماً حتى قام حياً وقام حماره أیضاً (1).

ومن هذا البيان يتضح سبب إدراج « وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً»في وسط الأوامر الثلاثة بالنظر، فإن اللَّه بيّن إحياءه وجعله آية للناس فالأمر بالنظر إلى طعامه وشرابه والنظر إلى حماره ليعاين قدرة اللَّه وليعلم بطول المدة ، ثم أراه اللَّه سبحانه كيفية الإحياء فأمره اللَّه بأن ينظر إلى العظام... إلخ.

والحاصل أن الترتيب في الكلام هو أن اللَّه :

1- أماته وبعثه ليعاين قدرته سبحانه على البعث فأظهر له طول المدة وأظهر له القدرة بما شاهده في الطعام والشراب وعظام الحمار.

2- ثم قال له إنه تعالى جعله آية للناس.

3- ثم أراه كيفية البعث بالتفصيل .

ثم إن إرجاعه بعد إماتته يدل على تحقق الرجعة في الأمم الماضية ، وقد دلت الأحاديث بأنَّه سيقع في هذه الأمة جميع ما وقع في الأمم السابقة، فلا بد من وقوع الرجعة في هذه الأمة، فليس القول بالرجعة إلّا تمسكاً بالآيات والأحاديث مع إثبات کامل القدرة اللَّه تعالی.

السابع : قوله تعالى « فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .

دلّت الآية على أنَّه كان يعلم بالبعث، لكن استعظم ذلك فأراد اللَّه أن

ص: 335


1- مناهج البيان: ج3، ص36.

يشاهده عياناً، ولذا لم يقل : «الآن علمت» بل قال «أَعْلَمُ»أي من الأول كنت على علم بقدرته تعالى لكن لم أكن رأيته فرأيته الآن، وبعبارة أُخرى كنت أعلم به وهو غيب، والآن صار شهادة بالعيان، وقد مرّ أن هناك علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، كمن يعلم بالنار ولم يرها، ومن يعلم بها مشاهدة، ومن يعلم بها باللمس والاحتراق، فهي درجات في اليقين باعتبار منشئه، و اللَّه العالم .

ص: 336

الآية 260

«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)».

المثال الثالث:

260 - «وَإِذْ» أي وكما علمت قصة نمرود وقصة الذي مرّ على قرية، كذلك اذكر الوقت الذي « قَالَ إِبْرَاهِيمُ » لمّا شاهد سباع البر والبحر تأكل جيفة ثم يأكل بعضها بعضاً فقال : «رَبِّ أَرِنِي » رؤية عين «كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى»سأل عن كيفية الإحياء لا عن أصل الإحياء « قَالَ» اللَّه تعالى : « أَوَلَمْ تُؤْمِنْ » استفهام تقريري، كي لا يتوهم أحد أن إبراهيم عليه السلام كان شاکًّا،«قَالَ» إبراهيم عليه السلام : « بَلَى» فإني مؤمن « وَلَكِنْ » أحب رؤية كيفية الإحياء عياناً «لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»اطمئناناً ناشئاً عن الرؤية بالحسّ كما أني مطمئن علماً،« قَالَ »اللَّه تعالی «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ »من أربعة أنواع: الحمام والغراب والطاووس والديك كما روي، وروي غير ذلك «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ»أي اضممهن إليك لتأنس بهن، أو بمعنی قطّعهن وامزج بعضها بالبعض جيداّ حتى لا تتميّز، « ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ » وكانت عشرة جبال «مِنْهُنَّ جُزْءًا»

ص: 337

من هذا الخليط،« ثُمَّ ادْعُهُنَّ» بأسمائهم آخذاً منقارها بيدك « يَأْتِينَكَ سَعْيًا » مسرعات وذلك بتجميع أجزاء كل طير والتحاقه بمنقاره «وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ »لا يعجزه شيء فهو الغالب القاهر،«حَكِيمٌ» في تقديره للمعاد وفي كيفية الإحياء.

بحوث

الأول : قوله تعالى:«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى » .

هذا هو المثال الثالث لكون اللَّه تعالى ولي الذين آمنوا وأنَّه يخرجهم من الظلمات إلى النور، فيستجيب دعواتهم ويريهم آياته ويزيدهم معرفة به.

وفي هذه الآية يسأل إبراهيم عليه السلام ربَّهُ عن كيفية الإحياء، لا عن أصل الإحياء، فإن أصل المعاد أمر يعرفه كل موحد، فما بالك بسادة الموحدين، بل أفضل الأنبياء بعد رسول اللَّه محمدصلی الله علیه وآله وسلم وهو إبراهيم عليه السلام ، وأما طلب زيادة المعرفة من اللَّه تعالى فهو عين العبودية ، وكمال للأنبياء علیهم السلام الي بإظهار الفقر والاحتياج إلى اللَّه تعالی .

وحيث إن الإحياء من صفات اللَّه تعالى الخاصة والدالة على ربوبيته ، فإن مشاهدته عیاناً مزید معرفة، وذلك عين اليقين الذي هو أقوى درجات اليقين كما مرّ، ولا حُدود لمعرفةً اللَّه تعالی لعدم تناهيه لذلك يزيد اللَّه تعالى أولياءه معرفةً وبشكل مستمر، ولذا يفيض اللَّه العلم على الرسول صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة دائماً .

ص: 338

ولم يكن سؤاله عليه السلام ظليت عن كيفية فعل اللَّه أي الإحياء باعتباره صفة لله تعالى، بل عن طريقة الإحياء أي عن الإحياء باعتبار تحققه في المخلوق، وذلك لعدم إمكان الإحاطة بصفاته تعالى - حتى صفات الفعل - لأن منشأ صفات الفعل هي ذاته تعالى فلا يمكن معرفة كُنهها إلّا بمعرفة منشئها، وحيث استحالت معرفة الذات استحالت معرفة كنه الصفات.

وفي المناهج: و(الكيف) معنی حادث، من علامات الشيء المحدَث المخلوق، فيجب تنزيه الصانع - جل شأنه - عنه ، وكذلك يجب تنزيه فعله تعالی عنه أیضاً ، فعلى هذا يكون مورد السؤال غير الموارد التي قامت الضرورة والبرهان على استحالة تكيّفه بكيف وطور، فلا يقال له تعالى «كَيْفَ» لأنَّه هو الذي كيف الكيف، ولا يقال أیضاً لأمره سبحانه - وهو كلمة کن - (کیف)، إذ به خلق الكيف، والكيف متأخر عنه رتبة ، فيستحيل أن يكون مقدماً عليه أو يكون في عرضه، وحيث إن إحياء الموتی - بالمعنى المصدري - فعل من اللَّه تعالى منزه عن التصور والتعقل والتفكر فضلاً عن الكيف، فلا محالة يكون مورد سؤال الخليل عليه السلام هو الإحياء بالمعنى الإسم المصدري وهو حصول الحياة وصيرورة الشيء حياً على مرأى منه عليه السلام، فمفاد الآية ومورد السؤال إراءة حصول الحياة للموتى بالحس والعيان(1).

ويؤيد ذلك أن سبب سؤاله عليه السلام ما روى أنَّه عليه السلام التفت فرأى جيفة على ساحل، بعضها في الماء وبعضها في البَرّ، تجيء سباع البحر فتأكل ما في الماء، ثم ترجع فيشدّ بعضها على بعض ويأكل بعضها بعضاً ، وتجيء سباع البر فتأكل منها فيشدّ بعضها على بعض ويأكل بعضها بعضاً ،

ص: 339


1- مناهج البيان: ج3، ص37.

فعند ذلك تعجب مما رأى وقال«رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى» قال كيف تخرج ما تناسخ؟ هذه أمم أكل بعضها بعضاً(1).

والمعنى أن المعاد الجسماني هو رجوع کل میت بجسمه، فكيف ترجع الحيوانات بأجسامها كما قال «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ»(2) وقد أكل بعضها بعضاً؟ فإن ما كان جزءاً من حيوان صار جزءاً في حيوان آخر، فذلك الجزء يحشر مع أيٍّ منهما، وهذه تعرف بشبهة الأكل والمأكول، كما أنَّه قد ثبث في العلم الحديث أن خلايا الجسم تتبدل باستمرار بحيث تتبدل عامة خلايا الجسم خلال سبع سنوات ما خلا المخ والأعصاب حسب ما نقله بعض أهل الاختصاص -.

وقد أجاب المتكلمون بأن هناك أجزاء - وهي طينته التي خلق منها - تنحصر به ولا تصير جزءاً من آخر، حتى لو أكلها فإنَّها تخرج منه .

وقد يتساءل : عن ارتباط فعل إبراهيم - بمزج الحيوانات الأربعة - بهذه الشبهة ؟

والجواب : هو أن الآكل امتزج بالمأكول لكن لم يصر المأكول جزءاً من الأكل، كما أن أجزاء الحيوانات الأربعة امتزج بعضها بالبعض ولم يصر أيّاً منها جزءً من الآخر.

الثاني : قوله تعالى« أَوَلَمْ تُؤْمِنْ».

الاستفهام هنا للتقرير، كي لا يتوهم أحد أن إبراهيم عليه السلام كان شاکًّا

ص: 340


1- البرهان ج 2، ص283 عن تفسير العياشي، وقريب منه ما في تفسير القمي.
2- سورة التكوير، الآية: 5.

ولذا سأل هذا السؤال، بل كان إبراهيم عليه السلام كان مؤمناً لا شاکًّا فإن الشاك لا خير فيه كما في الحديث وسيأتي.

قيل : إن التقرير يستفاد من مكان (الواو)، فلو قال: (ألم تؤمن) من غير (واو) لكان عتاباً لعدم إيمانه فلو كان كذلك لكانت الهمزة للإنكار.

وهو محل تأمل لأن الواو للعطف أو الاستئناف، ولا دخل لها في موارد استعمال الهمزة من التقرير أو الإنكار أو الاستفهام الحقيقي أو نحو ذلك بل يستفاد كل ذلك من القرائن، كما في قوله تعالى « أَ لَمْ تَر»وکذا فی قوله«أَ لَسْتُ بِرَبِّكُم » بدون واو مع أن الهمزة للتقرير .

الثالث: قوله تعالى« بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ».

1- عدم اطمئنان القلب لا ينافي اليقين، وذلك لما ذكرناه من أنّ لليقين - حسب منشئه - درجات، من علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، وعن الإمام الكاظم علیه السلام إن إبراهيم كان مؤمناً وأحب أن يزداد إيمان. وقال علیه السلام : إنما الشك ما لم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشك(1). فقد كان يعلم وهو مطمئن علماً، فأراد أن يطمئن رؤية أیضاً .

2- إن قوى الإدراك في الإنسان متعددة، فما يرتبط بانکشاف الأشياء يكون علماً - وباختلاف منشئه ومتعلقه وخصوصياته يُسمى فهماً ومعرفة وشعوراً ويقيناً وقطعاً ... إلخ -، وما يرتبط بتخيل الأشياء فهو الوهم ونحوه.

ص: 341


1- الكافي: ج2، ص470.

وقد يجتمع العلم والتوهم، وقد يفترقان كالذي يخاف من الظلام مع علمه بعدم الضرر فيه، ولذا قد يكون العالم قلقاً ، وقد شاهدت أنا من سمعت بنجاة عزيزها من الخطر - ولم تكن تعلم لا بالضرر ولا بالنجاة وإنما أخبرت بعد النجاة - فأصيبت بالحمى والخوف والاضطراب مع علمها بالسلامة، وما ذلك إلّا بسبب القوة الواهمة، وقد تعتري الإنسان حالات نفسية مختلفة مع يقينه ، كالذي يغضب بسبب سيطرة القوة الغضبية عليه مع علمه بعدم وجود داع عقلاني لذلك، وهكذا .

3- وروي أنَّه علیه السلام علم أن اللَّه يتخذ خلياً إذا سأله إحياء الموتی أحياها، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يطمئن بأنَّه هو(1).

4 - وقيل المعنى : ليزول تفكيري في كيفية الإحياء وليستقر فكري على أمر واضح فيه.

ولا منافاة بين هذه الوجوه، فلعلّ كلّها أو بعضها كان السبب، و اللَّه العالم، وعلى كل حال فإن مقام إبراهيم علیه السلام منزه عن الشك وعدم العلم.

5. وقيل : إنه أراد الاستزادة من المعرفة، لأن المعرفة بالحس - في كل أمر محسوس - هو أقوى المعارف، كما أن معرفة وجه اندفاع الشبهات أیضاً من العلم المطلوب، فقد يعرف الإنسان بطلان شبهة لكن لا يدري الوجه في ذلك فيستزيد المعرفة.

6- وقيل إنه بعد أن أراه ملكوت السماوات والأرض استزاد من المعرفة فأراد رؤية ملكوته تعالى في الآخرة أیضاً .

ص: 342


1- عيون أخبار الرضا ، ج 2، 176.

الخامس: قوله تعالى: «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ».

هنا خمسة أوصاف فيما أمره اللَّه تعالى، وحيث إن كل شيء يصدر منه تعالى إنما يصدر لحكمة، فلعلّ وجه هذه الأوصاف كالتالي:

1- أن تكون طيوراً، ولعلّ ذلك لأن قتلها ومزجها أسهل، فأراد اللَّه تعالی تسهيل الأمر على إبراهيم عليه السلام وتسريع إجابة طلبه، أو لأن للطيور ريشاً أیضاً ، أو لأن اختلاط لحومها وعظامها أسهل لليونة أعضائها فيكون جمع أجرائها مع ريشها أدلّ على القدرة من الحيوانات الملساء كالبهائم ونحوها.

2- أن تكون أربعة . وكانت من أربعة أنواع - فإن فرز أعضاء حیوانات مختلفة بعد امتزاجها کاملاً أدلّ على القدرة .

وأما كونها أربعة فلأن ذلك عدد يفي بالغرض، وإذا كان الكلي وافياً فاختيار عدد خاص - لا أقل ولا أكثر - لا يحتاج إلى علة خاصة بل باعتباره مصداقاً للمراد، أو لأن الميسور إبراهيم في ذلك الوقت كان هذا العدد أو هناك حكمة أخرى لم تظهر لنا.

3- أن تكون مأنوسة له كما يظهر من قوله «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ » بناء على کونه بمعنى الضم ، فلعلّه لكي يعلم بأنَّها هي هي دون غيرها لأنَّه أنسها .

4 - وأما التفريق على رؤوس الجبال، فليكون أبين وأوضح له في اجتماعها لمّا تتطاير الأجزاء حيث إن الارتفاع خالٍ من الأشياء التي تشغل النظر، ولعلّها كانت جبالاً متباعدة فيكون أدلّ على اجتماع أجزاء الموتى المتناثرة في أرجاء الأرض.

ص: 343

وأما أنواع هذه الطيور الأربعة فاختلفت فيها الأخبار(1)، وجميع الروايات متفقة على وجود الطاووس.

ويمكن الجمع بين الأخبار بأن اللَّه تعالى خيّره في الأربعة بين هذه التي وردت في الأخبار، أو أن تعيين الأربعة إنما هو للأقل وكان يمكنه عليه السلام الأكثر فذبحها جميعاً وصرّها، وهذان احتمالان خلاف الظاهر لكن ذكرناهما من باب الاحتمال لعدم طرح الأخبار، أو يقال إن الخطأ كان من بعض الرواة ، و اللَّه تعالى العالم.

وقوله «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ » إما بمعنی اضممهن إليك لتتأملها جيداً فلا تشتبه عليك بعد الإحياء فإنَّه كلما كانت الحواس أكثر كان اليقين أشدّ - كذا قيل -، وإما بمعنى التقطيع فيكون التعدية ب_(إلى) بتضمین معنی الميل والاقتراب، فإن ذلك من مستلزمات التقطيع الجيّد.

السادس: قوله تعالى « ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا».

أي خذ منقار كل واحد منها - كما في الأخبار - ثم ادعها بأساميها، فيكون أشبه بيوم الحشر، لأنَّه تعالى يدعوهم فيقومون سراعاً قال تعالى « ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ»وقال سبحانه«مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ»(2).

وقد يقال إن دعاءه لي هو نفخة الإحياء كصور إسرافيل، فإن الموت والحياة بيد اللَّه تعالى لكنه سبحانه جعل لهما أسباباً بإذنه كقبض عزرائیل

ص: 344


1- راجع البرهان: ج 2. والروايات: (نسر، بط، طاووس، ديك) و(حمام، غراب، طاووس، ديك) و(طاووس، نيك، وزة، نعامة) و(طاووس، ديك، حمامة، هدهد) و(طاووس، غراب، صُرَد هدهد).
2- سورة القمر، الآية: 8.

وأعوانه للروح «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ »(1)، « تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا »(2)، كذا الإحياء عبر الصُّور أو الدعاء.

وأما عدم ذكر «بإذن الله» في قوله « »مع وضوح أن ذلك الإحياء كان بمشيئة اللَّه تعالى، مع تكرار «بِإِذْنِ اللَّهِ » في قصة عیسی علیه السلام ، فلأجل أن النصاری توهموا ألوهية عيسی علیه السلام لما شاهدوا تلك المعاجز، فلذا تكررت الكلمة كي يعلم الجميع بأن عیسی علیه السلام عبد اللَّه ظهرت المعاجز على يديه بإذن اللَّه سبحانه، وأما إبراهيم عليه السلام فلم يتوهم ذلك فيه.

مضافاً إلى أن قصة إبراهيم عليه السلام كانت بانفراده ولأجل اطمئنانه في حين أن إحياء عيسی علیه السلام للأموات كان أمام الناس معجزة له علیه السلام .

وأيضاً أنَّه من بداية الآية تمّ بیان دعاء إبراهيم وأنَّه طلب من اللَّه أن يريه الإحياء، وفعل ما فعل بأمر منه تعالى، فاستغني بذلك عن التصريح بإذنه تعالی لوضوحه.

وأما قوله «سَعْيًا » فللإشارة إلى سرعة حياة الطيور وسرعة إجابتهم لدعوة إبراهيم عليه السلام ليتطابق مع الآخرة في سرعة إجابة الناس - تکویناً ۔ لدعوته تعالى وإسراعهم إلى الحساب كما قال : «مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ»(3)وقال « سِرَاعًا »(4).

السابع : قوله تعالى : «وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » .

قيل إن قوله «وَاعْلَمْ » إنما هو لإيجاد الاطمئنان القلبي، فإن المعرفة

ص: 345


1- سورة السجدة، الآية: 11.
2- سورة الأنعام، الآية: 61.
3- سورة القمر، الآية: 8.
4- سورة المعارج، الآية: 43.

أمر بيد اللَّه تعالى وليس للناس فيها صنع - كما يظهر من أخبار كثيرة - وإنما يُفيضها اللَّه على من يستحقها بإطاعته تعالى، فمن كان قابلاً لها هداه اللَّه إليها، وطلب إبراهيم عليه السلام إنّما كان للاستزادة وللاطمئنان ولم يكن للتعنت لذلك أفاضها اللَّه تعالى عليه، في حين أن كثيراً من الناس يرون آيات اللَّه ولكن ينكرونها فلا تزيدهم إلّا بعداً من اللَّه تعالى بسبب سوء اختيارهم.

فأفاض اللَّه المعرفة وذلك بعزّته فهو القادر الذي لا يُعجزه شيء فلا يمتنع عليه جميع الأجزاء المتناثرة وإرجاعها إلى ما كانت عليه وإحيائها .

مع أن فعله ذلك ليس إلّا بحكمة، حيث يتعالى عن فعل العبث.

ص: 346

فصل في الأمور المالية

اشارة

ص: 347

ص: 348

فصل في الأمور المالية موضوع الآيات 261 - 284 هو الأمور الاقتصادية، وتُبيّن هذه الآيات المباركات أحكام ثلاثة مواضيع : البذل بالإنفاق، ثم التحذير من ابتزاز أموال الناس بالربا ، ثم كيفية حفظ الأموال.

الموضوع الأول: الإنفاق (الآيات 261 - 274) .

1- تبتدئ بثواب الإنفاق لترغيب النفوس إلى الاستماع والعمل.

2- ثم بیان شرط الإنفاق وهو أن لا يكون بمَنٍّ ولا أذى ولا رياء، وبيان أن هذه الأمور تبطل الصدقة .

وبعد ذلك ولتقريب المطلب إلى الأذهان بيان مثالين : للإنفاق بشروطه، وللإنفاق الذي يكون بأذى.

3- ثم الكلام حول المال المنفق به .

4 - ثم عوائق الإنفاق.

5- ثم بيان كيفية الإعطاء، وبيان أن فائدة الإنفاق ترجع إلى المُنفِق ، فهي تجارة مربحة إن روعيت شروطها .

ص: 349

6- وأخيرا بيان مصرف الإنفاق، أي المُنفَق عليهم . والموضوع الثاني : حول الربا (الآیات 275 - 281) . والموضوع الثالث : حول الدَّين (الآیات 282 - 284).

ص: 350

الموضوع الأول: الإنفاق

أولاً، ثواب الإنفاق
الآية 261

«مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)».

261 - «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »في مرضاته لا رياء وسمعة، والمثل في رقيّهم وكمالهم «كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ »بإرادة اللَّه تعالى «سَبْعَ سَنَابِلَ» وهي العيدان التي عليها الحب « فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ »والزيادة بهذا المقدار لیست لكل أحد «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ » فتختلف باختلاف النية والعمل والقابلية ، كالمحاصيل التي تزداد وتنقص بحسب الأرض والماء ونحوهما، «وَاللَّهُ وَاسِعٌ » قدرة وكرماً فلا يضيق بالزيادة، «عَلِيمٌ »بالإنفاق وبالنيّة ونحوهما .

بحوث

الأول: نظم الآيات هو أنَّه تعالى بعد أن ذكر الجهاد - بما فيه من مصاعب جمة وخطر القتل، وبعد ذكر قدرته تعالى على الإحياء تطميناً للمجاهدين بأنَّهم إن قتلوا ليبعثنّهم من جديد، بعد ذلك يأتي دور الجهاد

ص: 351

بالمال، فهنا يبتدأ الكلام بذكر الإنفاق في سبيل اللَّه تعالى وشروطه وتفاصيله ليكون ذلك مدخلاً إلى ذكر جملة من الأمور الاقتصادية، وما يجب فيها، وما تلزم محاربته، ونحو ذلك.

الثاني: إن المجتمع بحاجة إلى توازن بين كافة طبقاته بحيث لا يكون طغيان للثروة من جهة وحرمان مطلق من جهة أخرى، لذا جاءت التشريعات الإلهية لإيجاد هذا التوازن.

فمن جهة تمَّ تحريم كل ما يوجب طغيان المال، قال تعالى «كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ »(1)ومن ذلك تحريم الربا الذي هو استغلال الحاجة الناس في سبيل استنزاف ثرواتهم.

ومن جهة أخرى تم تشريع الضرائب التي ترفع حاجات الفقراء والمساكين كالخمس والزكاة مع جعلها بمقدار لا توجب ضرراً على صاحب المال، فتمّت ملاحظة كلا الطرفين الأغنياء والفقراء، وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم: أمرت أن آخذ من أموال أغنيائكم وأضعه في فقرائكم(2). وأما أهل الكتاب فحيث لا يؤخذ منهم الخمس والزكاة فجعل بدلاً عنهما الجزية -مع مراعاة حال كل واحد منهم في مقدارها من ثروته أو فقره -، ثم إن المقدار الذي يعطي لذوي الحاجات هو بمقدار استغنائهم بحيث ترفع حاجاتهم مع توفير عيشة كريمة لهم. وحول هذا الموضوع راجع (الفقه : الاقتصاد) للوالد رضوان اللَّه عليه .

ومراعاة لذلك شُرّع الإسلام أنواع من الإنفاق، فالإنفاق الواجب هو

ص: 352


1- سورة الحشر، الآية: 7.
2- علل الشرائع، ج1، ص217.

الخمس والزكاة والجزية والخراج. وهذه تكفي لحوائج المحتاجين ومصاريف الدولة كاملة، وعن الإمام الصادق عليه السلام : إن اللَّه عزَّوجلَّ جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم، ولولا ذلك لزادهم (1)بمعنى أنَّه تعالى علم بكفاية هذا المقدار منها .

ولكن حيث إن الأنظمة الفاسدة - المستأثرة بالسلطة والمال - لا تصرف هذه الضرائب في موردها، أو بسبب بخل بعض الأثرياء وعدم دفعهم للواجب من الإنفاق مع عدم إمكان جبرهم على ذلك، أو بسبب ظروف اضطرارية أو لجهات أخرى، فكل ذلك قد يكون سبباً لوجود کثیر من الحاجات التي لم تلبَّ، لذا شرّع الإنفاق المستحب بدفع الصدقات ونحوها .

الثالث : قوله تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ ... »الآية .

(المثل) هو وصف الشيء بكيفية تجعل صورته ماثلة ومنتصبة في ذهن المخاطب، ويكون ذلك بالتشبيه غالباً ، حيث يعرف المخاطب الشبيه وخصوصياته، فيضرب له المثل بذلك لتقريب المعنى المراد إفهامه، وخاصة في الأمور المعنوية البعيدة عن الحواس حيث تقرب بمثال محسوس.

وقد يكون المثل مجرد وصف من غير تشبيه، كقوله تعالى«مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ »(2)حيث لم يتمّ تشبيهها بشيء بل مجرد وصفها .

ص: 353


1- وسائل الشيعة، ج 9، ص12.
2- سورة الرعد، الآية: 30.

وفي هذه الآية تمّ تشبيه الإنسان المُنفِق في سبيل اللَّه بالحبة، فكما تنمو الحبة إلى أضعاف كثيرة ، كذلك ينمو المؤمن بنيل الكمالات والدرجات الرفيعة، وعليه لا حاجة إلى تقدير شيء كأن يقال «مثل مال الذين ينفقون» أو «كمثل زارع حبة» .

وفي مناهج البيان: «المثال» ليس هو التشبيه ، بل المراد الانتقال من أمر محسوس إلى أمر معقول يصعب نيله بالنسبة إلى المخاطب، أو معلوم ضروري عادي إلى معلوم يحتاج نيله إلى التدبر والتفكر، فإراءة الممثل وحكايته بواسطة المثل باب عظيم من أبواب التعاليم وتلقين الحقائق والعلوم الدائرة بين الناس، ويشمل بعض الأمثال على الخطابة والحجة ، وبعض منها على الوصف والتقريب، وبعض منها التشبيه، فعلى هذا لا يحتاج في الأمثال إلى ذكر أركان التشبيه من «المشبَّه» و«المشبّه به» و«وجه الشَّبَه» إذ ليس كل مثل تشبيهاً (1).

الرابع : قوله تعالى «فِي سَبِيلِ اللَّهِ » .

أي في مرضاته تعالى - كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام (2).

ولا يكون ذلك إلّا بصرف المال فيما أمره اللَّه تعالى من وجوه الخير والبر وبقصد القربة وسائر الشروط، فلو صرفه فيما لم يأمره به اللَّه بشكل خاص أو عام فلا يكون من سبيله تعالى، ولو خلط العمل بنية الرياء والسمعة فلا يكون في سبيله.

ومن ذلك يتضح أنَّه يلزم أن يكون الدافع إلى الإنفاق هو الدافع

ص: 354


1- مناهج البيان: ج 3، ص 50.
2- تفسير الصافي: ج1، ص493 عن تفسير القمي.

الديني، وأما لو لم يكن لدافع ديني بل كان بدافع عقلي أو عاطفي أو للهوى فلا يكون في سبيله تعالی.

أما الدافع العقلي، فهو وإن كان محبذاً إلّا أنَّه لا ثواب فيه كمن يدفع مالاً للفقير لدفع شره، أو للخوف منه، أو مراعاة لماء وجهه، أو الدفع الحرج، ونحو ذلك من الأغراض العقلائية، لكن حيث أراد المُنفِق من ذلك النفع الدنيوي لنفسه فلا يستحق ثواباً على اللَّه تعالى، لأنَّه تعالی لم يَعِد الثواب إلّا على الأعمال التي أتى بها لأجله وفي سبيله، نعم هذا النوع من الإنفاق محمود ولا عقاب فيه.

وأما الدافع العاطفي، كمن ينفق شفقة أو لاحتراق قلبه من منظر راه من غير أن يقصد وجه اللَّه تعالى، فكذلك هو محمود ولا ثواب فيه.

وأما الدافع الشهوي، فإن كان لأجل الرياء والسمعة فيكون مذموماً ، فإن كان في عبادة كان حراماً أیضاً . وعن الإمام الصادق عليه السلام : وكل عمل تعمله لله فليكن نقياً من الدنس (1).

والحاصل أن نظرة الإسلام إلى الإنفاق نظرة سامية بتجريده عن الدواعي الدنيوية وربطه باللَّه سبحانه وتعالى، وحينئذٍ تترتب عليه المصالح الدنيوية أیضاً من غير مفاسدها، فإن الأغراض الدنيوية مصالحها مشوبة بالمفاسد وقد يكون ما تفسده أكثر مما تصلحه، وقد يوجب هكذا إنفاق البغضاء والشحناء والعداوات والنظرة الفوقية والتكبر وسائر الرذائل والحاصل أن المصالح وإن كانت علة للأحكام لكنها ليست ثواباً لها ، بل هي تترتب على العمل السليم الذي لا شوب فيه، وأما الثواب فهو أمر أخروي، فتأمل.

ص: 355


1- البرهان: ج2، ص288، عن المحاسن والعياشي.

الخامس : قوله تعالى«وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ » .

وذلك لمراعاة الباذل والمبذول له والمال المبذول وكيفية البذل ، فكل ذلك يلزم أن يكون ضمن الموازين الشرعية وبحسب ما يريده تعالى حتى ينطبق عليه أنَّه في سبيل اللَّه ، وذلك ما بيّنته مجموع هذه الآيات.

أما الباذل فيلزم أن يكون مؤمناً متقياً، كما قال تعالى « إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »(1)، وباختلاف درجات إيمانه يختلف الثواب، فعن حمران عن الإمام الباقر علیه السلام قال : ولكن للمؤمن فضلاً على المسلم في أعمالهما وما يتقربان به إلى اللَّه تعالى، قلت: أليس اللَّه يقول «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا »(2)؟ قال : فقال : أليس اللَّه قد قال «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ » أضعافاً كثيرة؛ فالمؤمنون هم الذين يضاعف اللَّه لهم الحسنات، لكل حسنة سبعين ضعفاً، فهذا من فضلهم، ويزيد اللَّه المؤمن في حسناته على قدر صحة إيمانه أضعافاً مضاعفة كثيرة، ويفعل اللَّه بالمؤمن ما يشاء (3) يتبيّن من هذا الحديث أن مشيئته ليست اعتباطاً بل بحسب حال المُنفِق ، كما يستفاد من مجموعة من الآيات والأحاديث الأخرى أن مقدار الإخلاص والمشقة وحال المُنفِق عليه وأثر ذلك الإنفاق ونحو ذلك مما لها التأثير في التضاعف.

كما أن التضاعف ليس منحصراً في الكمية بل قد يكون في الكيفية وفي سائر الخصوصيات .

ص: 356


1- سورة المائدة، الآية: 27.
2- سورة الأنعام، الآية: 160.
3- البرهان: ج 2، ص 290 عن تفسير العياشي.

ثم إن قوله «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ » له ظاهر و باطن:

أما الظاهر فبمعنى أن اللَّه تعالى يضاعف على السبعمائة لمن يشاء .

وأما الباطن فهو التعليل للتضاعف، أي إنه تعالى يضاعف إلى السبعمائة لأنَّه شاء ذلك، وهذا ما يظهر من بعض الأخبار، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال : إذا أحسن العبد المؤمن عمله ضاعف اللَّه عمله بكل حسنة سبع مائة ضعف، وذلك قوله «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ »(1) .

ص: 357


1- البرهان، ج2، ص289 عن أمالي الشيخ، وتفسير العياشي
ثانيا: شرط الإنفاق
الآيتان 262 - 263

«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)»«قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)» .

262 - بعد ذكر ثواب الإنفاق جاء التأكيد على أن هذا الثواب مشروط، فقال تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ » لا يلحقون «مَا أَنْفَقُوا » الأموال التي أنفقوها «مَنًّا »على الآخذ، وهو التذكير بالفضل على وجه الاستعلاء «وَلَا أَذًى »بقولٍ كأن يتطاول عليه، أو فعل أن يعبس في وجهه، فهؤلاء الذين لا يمتون ولا يؤذون «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ »فلا يضيع الأجر لأنَّه عند اللَّه القادر العادل، «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ » بتوقع العذاب وفوات الأجر ونحوهما ، «وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »على خسران ما أنفقوا.

263 - ولو دار الأمر بين الصدقة بمنٍّ وأذى وبين عدمها باحترام فالثاني أولی، ف-«قَوْلٌ مَعْرُوفٌ » ردّ طالب الصدقة بجميل«وَمَغْفِرَةٌ » أي الستر عليه بعدم فضحه وتحمل إساءته «خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى» لا عقاب فيه، وهذا فيه الخسران والعقاب، « وَاللَّهُ غَنِيٌّ » لا يحتاج إلى صدقاتكم، وإنما أمركم بها لنفعكم،«حَلِيمٌ »لا

ص: 358

عاجل بالعقوبة لمن عصاه، فتخلّقوا بأخلاقه وتعاملوا مع السائلين بلطف وتحمّل.

بحوث

الأول : بعد أن بيّن اللَّه تعالى في الآية السابقة ثواب الإنفاق في سبيله، یبیّن في هاتين الآيتين وما بعدهما أن هذا الثواب مشروط، فهو وعد بشرط، فلا يكفي مجرد صدور العمل في سبيل الله، بل لا بد من استمراره في سبيله، فلو خرج عن سبيل اللَّه لحبط وبطل فلا يكون له الثواب، وبعبارة أخرى: إن العمل قد يقع صحيحاً لاستيفائه للشروط لكنه يُحبط بعد ذلك بعدم الثواب له بسبب أمور تلحقه.

وليس معنى البطلان هنا هو عدم براءة الذمة بل معناها عدم الثواب ، فلذا من دفع الصدقات الواجبة مستوفية للشروط لا يجب عليه تكرارها لو أبطلها بالمنّ والأذى أو بسائر المبطلات، وكذلك من أتي بالصلاة - مثلاً ۔ صحيحة ثم بعد انتهائها رآعي فيها، فإن الرياء اللاحق يبطلها لا بمعنی لزوم إعادتها أو قضائها بل بمعنی حبط ثوابها، والحاصل : أنَّه لا محذور في التفكيك في الآثار الوضعية، فقد يترتب بعضها ولا يترتب بعضها الآخر، كما يمكن التفكيك بين الآثار التكليفية والوضعية.

الثاني : قوله تعالى «مَنًّا وَلَا أَذًى ».

أصل (المنّ) هو التذكير بفضله عليه على وجه الاستعلاء، وهو ملازم للتكبّر، وهذا عمل لا يليق بالمخلوق وهو من الرذائل فيه .

ص: 359

نعم اللَّه سبحانه وتعالى - لعلّوه الذاتي - هو المتكبّر المنّان، قال سبحانه بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ »(1) ولم يقل بل الرسول يمن عليكم، وقال «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(2)، ف اللَّه تعالى هو المنّان وليس الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم وإن كان فضل الرسول عليهم كبيراً جداً فإن ذلك يرجع إلى اللَّه تعالى أیضاً قال تعالى «وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)»(3)

فأما قبح مِنّة المخلوق على غيره، فلأن سبب المنّة هو توهم أن ما أنفقه هو من نفسه وأنَّه عظيم، مع أن ما أنفقه إنما هو من اللَّه سبحانه وتعالى، وأن كل فعل لا يكون مرتبطاً باللَّه فهو حقير وضيع، مع ما يتضمن الامتنان من حالة التكبر والاستعلاء.

وأما مجرد تذكير الغير بفضله عليه لا على وجه الاستعلاء، ولا بغرض تعظيمه، بل لأجل التذكير بالحقوق الواجبة، أو لردع الغير عن الظلم، أو لبيان فضل اللَّه تعالى لا لأجل الرياء والسمعة، فلا يكون من المين، كقوله :

أعلّمه الرماية كل يوم ***فلمّا اشتد ساعده رماني

يريد تقبيح نكرانه للجميل لا المنّ عليه ، وكقول الأم لولدها : ألم تكن ضعيفاً فقويتك، وصغيراً فربيتك.. ونحو ذلك تريد تذكيره بحقوقها، ونظائر ذلك كثير.

وقد يكون مناً عملياً بأن يتنازل عن حقه في عقاب الغير، أو أن يعطيه

ص: 360


1- سورة الحجرات، الآية: 17.
2- سورة آل عمران، الآية: 164.
3- سورة المدثر، الآية: 6.

من غير استحقاق، فذلك لا بأس به بل هو أمر محمود، لكن من غير منّ بالقول، قال تعالى « فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً »(1)، وقال سبحانه «هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ » (2).

قيل : وللمنّ مصادیق :

منها : أن يذكر إحسانه عليه عند الناس .

ومنها : أن يقول عند إحسانه أو بعده بما لا يتحمّله ويشق عليه .

ومنها : أن يريد بالإحسان إلى الغير أن يحمّله أمراً لا يتوقع منه لولا الإحسان(3).

ولا يخفى أن الثالث ليس من مصاديق المنّ، بل بيان الغرض من المَنّ، فإن المنّان قد يقصد مجرد السمعة أو الإيذاء وقد يقصد ذلك الأمر غير المتوقع لولا الاحسان ثم المنّ.

وأما (الأذي) فهو ما يُكره من القول أو الفعل، والإيذاء هو التسبيب إلى ما يكرهه الغير من فعل أو قول، وهو قد يكون في الجسم فيكون بمعنى الضرر اليسير، وقد يكون في القلب، بأن يقول أو يفعل ما يجرح قلبه .

والأذى حين الإنفاق قد يكون بقول أو بفعل كالعبوس في وجهه أو إتعابه في الدفع بالتسويف والمماطلة .

وأما بعد الإنفاق فالغالب أن يكون بالقول كأن يتطاول عليه بسبب ما

ص: 361


1- سورة محمد، الآية: 4.
2- سورة ص، الآية: 39.
3- راجع مناهج البيان: ج3، ص56.

أنعم عليه، وقد يكون بالفعل كأن يكلّفه بأعمال وأفعال ما كان يمكنه تكليفه بها لولا صدقته عليه.

وأما الإتيان ب-«ثُمَّ » في قوله «ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا» فلأجل أن المنّ والأذى إن كانا حين الإنفاق فلا يكون إنفاقة في سبيل اللَّه أصلاً ، فيكون الكلام في هذه الآية حول إنفاق كان في سبيل اللَّه فبقاؤه كذلك مشترط بعدمهما .

الثالث : قوله تعالى«وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ».

قد مرّ أن (الخوف) هو من مکروه مستقبلي متوقع، و(الحزن) من مكروه واقع فعلاً، فهؤلاء لا يخاف عليهم من العذاب، ولا هم يحزنون على الأموال التي خسروها حسب الظاهر بالإنفاق.

ثم إنه قال :«وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ»ولم يقل (لا يخافون)، لأجل أن المؤمن في خوف دائم، لأنَّه يحتمل عدم قبول عمله أو عدم استمراره على الهداية ، فكم من صالح ضلّ فأصبح من الغاوين، كبلعم بن باعورا الذي آتاه اللَّه آیاته فانسلخ منها فاتبعه الشيطان.

وأما الحزن فلأن أولياء اللَّه لا يحزنون على الأمور المادية التي فاتتهم، قال تعالى «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ »(1) نعم هم يحزنون إذا فاتتهم فضيلة أو إذا رأوا ضلال الناس أو في المصيبة ، فذلك حزن لا بأس به بل هو محمود، وفي هذه الآية متعلق الحزن هو الأمور المادية فلذا قال «هُمْ يَحْزَنُونَ »على ما فاتهم من الأموال التي أنفقوها .

ص: 362


1- سورة الحديد، الآية: 23.

ولا يخفى أن متعلق الخوف والحزن غير مذكورين، وحذف المتعلّق يفيد العموم، فلا خوف عليهم من العذاب ومن الفقر وسائر ما يخاف منه، وذلك لأن من ينفق هكذا مع قوة الدواعي النفسانية إلى عدم الإنفاق وإلى المنّ فهو ذو نفسيّة رفيعة وإيمان قويّ يظهران في سائر الأعمال والأقوال.

الرابع : قوله تعالى ««قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ ...» الآية .

قد لا يتمكن الإنسان من الإنفاق، أو لا يريد الإنفاق لجهة من الجهات، فإن عليه أن يردّ السائل بأحسن رد، فأمر اللَّه تعالى بالقول المعروف.

و(المعروف) هو ما يعرفه العقل أو الشرع ولا ينكرانه، والقول المعروف يكون بكلام رزين مع لين، لأن الكلام الخشن في هكذا موقف ينكره العقل والشرع، ومن مصادیقه الدعاء للسائل كأن يقول له : اللَّه يعطيك، أو أن يعتذر منه بلباقة وأن يتواضع للفقير ونحو ذلك.

وأما (المغفرة) فهي من الغفران بمعنى الستر، بأن يستر على السائل، ومن مصاديقها عدم فضح السائل، أو إعلام الناس بفقره، وتعييره على ذلك، وكثيراً ما يذكر السائل بعض أسراره ليبيّن سبب استعطائه فلا بدّ أن يكتمها له، ومن مصاديقها التجاوز عن السائل إذا أساء وأغلظ في الكلام، كدأب بعض المتسولين الذين يشتمون من لا يعطيهم.

وأما كون قول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى، لأجل أنَّهما لا يجرحان قلب السائل عكس الصدقة مع الأذى، كما أنَّهما لا يورثان الحقد والضغينة عكسه، مضافاً إلى أنَّهما لا عقاب فيهما بل قد

«قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)»

ص: 363

يكون فيهما الثواب بسبب الدعاء والحلم عکس الصدقة بأذى حيث قد يكون فيها العقاب إذا استلزمت بعض المحرمات کهتك المؤمن مثلاً .

ثم إن الآية «خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى» من غير ذكر للمنّ، إما لأجل الإيجاز مع وضوح كونه مراداً أیضاً لذكره في الآية السابقة واللاحقة، أو بتعميم الأذى هنا ليشمل المنّ أیضاً فإنَّه نوع أذيّة.

الخامس : قوله تعالى «وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ».

هذا كالعلّة لما قبله، فإن اللَّه أمركم بالإنفاق لا لحاجته إليكم بل الأجل تهذیب نفوسكم وتطهير أموالكم، كما قال «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا »(1)، ولا يمكن هذا التطهير والتزكية بواسطة رذيلة أخرى كالمن والأذى، فالغرض تزکیتکم لا حاجته سبحانه وتعالی.

كذلك اللَّه تعالى«حَلِيمٌ »، فلا يعاجل بالعقوبة ويعفو عن السيئة ، فكذلك كونوا إذا جابهكم السائل بكلام خشن، فاحلموا عنه كما يحلم اللَّه عنكم.

ص: 364


1- سورة التوبة، الآية: 103.
الآيات 264 - 266

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)»«وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)»«أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)»

ثم إن اللَّه تعالى يضرب ثلاثة أمثلة لبيان أنواع الإنفاق.

المثال الأول: في الإنفاق الباطل من أساسه، وهو إنفاق المرائي فمثله كمثل الحجر الأملس الذي لا يقبل المطر فلا ينمو عليه شيء.

والمثال الثاني: في الإنفاق الصحيح المستمرة صحته، وهو إنفاق المؤمن الذي لا يُبطله بالمنّ والأذى، كالبستان الذي ينمو بالأمطار.

ص: 365

والمثال الثالث: في الإنفاق الذي كان صحيحاً في البداية، لكنه بطل بالمنّ والأذى، فهو كالبستان الذي أصابه إعصار فيه نار في وقت يكون الإنسان في أمسِّ الحاجة إليه.

264 - المثال الأول:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى» فإنَّه لا فرق بين بطلان العمل بعد صحته وبين بطلانه من رأس، « كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ » فتكونون مثله في حبط ثواب عملكم «وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ »هذا المرائي «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ليطلب مرضاته وواليوم الأخره ليسعى إلى ثوابها، « فَمَثَلُهُ »مثل هذا المرائي «كَمَثَلِ صَفْوَانٍ » وهو الحجر الأملس وهو غير قابل لنفوذ الماء فيه «عَلَيْهِ تُرَابٌ »مما جعل ظاهره قابلا للزراعة «فَأَصَابَهُ وَابِلٌ » أي المطر الشديد الكبير القطر«فَتَرَكَهُ صَلْدًا » عرّاه من التراب فظهر على حقيقته «لَا يَقْدِرُونَ » لا ينتفع المراؤون «عَلَى شَيْءٍ » من الثواب «مِمَّا كَسَبُوا »من صدقاتهم، کهذا الصفوان الذي لا ينتفع بالمطر، «وَاللَّهُ لَا يَهْدِي» بالألطاف الخفية والتوم الكفرين .

« الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ».

265 - المثال الثاني : «وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ»طلباً لها بلا رياء « وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ » أي يبقون على نية الإخلاص في نفوسهم بلا منّ وأذى«كَمَثَلِ جَنَّةٍ» بستان كثيف الأشجار « بِرَبْوَةٍ» مرتفع من الأرض، فهو أقرب إلى الشمس والهواء، وأبعد عن السيل والمياه الآسنة، وله بهجة ترى من بعيد « أَصَابَهَا وَابِلٌ» مطر شديد كبير القطر « فَآتَتْ أُكُلَهَا »ثمارها«ضِعْفَيْنِ » مثلي سائر الأشجار الواقعة في أسفل الوادي، «فَإِنْ لَمْ

ص: 366

يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ»أي فأصابها «طلّ» وهو مطر صغير القطر وذاك كاف في إثمارها، « وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ »فيعلم النيّات ومقدار الإخلاص وكمية الإنفاق، فالثواب يتضاعف حسب هذه الأمور.

266 - المثال الثالث : «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ » يُحب متمنياً «أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ » غالب أشجارها «مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا » تحت الجنة وأشجارها «الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ» فالغالب التمر والعنب وفيها سائر الثمار، « وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ» الشيخوخة، « وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ» فهو في أمسّ الحاجة إلى ذلك البستان مع فقدان سائر وسائل تأمین معیشته ومعيشة ذريته، « فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ » ریح شديدة الهبوب تدور من شدتها «فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ »الجنة ، فكذلك من يتصدق حال كونه مؤمنا لكنه يبطل صدقته بالمن والأذى، في حين هو في أمس الحاجة إليها يوم القيامة، «كَذَلِكَ »کهذا البيان بضرب الأمثال «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ » فتعتبر ون، فتعملون لمرضاته تعالی.

بحوث

الأول: لما بیّن اللَّه في الآيتين السابقتين«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » إلى قوله «وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ»اشتراط أجر الإنفاق بعدم المنّ والأذى، وأن الردّ الجميل هو أفضل من صدقة مع الأذى، أراد التأكيد على هذا الأمر ببيان أنَّهما محبطان للأجر، وتقريباً للفكرة إلى الأذهان لكي يعتبر الناس ذكر تعالى ثلاثة أمثلة، وفيها بيان أن العمل الصحيح

ص: 367

الذي يُبطله الإنسان لا يفترق عن العمل الباطل من أساسه، فلا ثواب الكليهما، فتم أولاً تشبيه الذي يمنّ ويؤذي بصدقته بالمرائي الذي لا يؤمن باللَّه ولا باليوم الآخر، فلا فرق في عملهما، كما لا فرق في نفسياتهما ، فالذي يرائي في أعماق قلبه لا يؤمن باللَّه وإلّا لرجح مرضاة اللَّه على مرضاة الناس، قال تعالى «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ »(1)، كما أنَّه لا يؤمن باليوم الآخر، وإلا لما رجح رضی زائل من الناس على ثواب اللَّه سبحانه وتعالى، وفي بعض الأخبار التعبير عن الرياء بالشرك الخفي(2).

ثم إن تشبيه المنّان المؤذي في صدقته بالمرائي وختم الآية بقوله «وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»، يدل على أن المنّ والأذى من صفات الكفار التي يجب أن يتنزه عنها المؤمنون.

الثاني : قوله تعالى« لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى» .

قد مرّ البحث عن معنى البطلان والمنّ والأذى في الآيتين السابقتين، وإنما تُبطله لأنَّه بذلك يتحول إلى عمل قبيح بشع حتى في نظر العرف.

وفي بعض الأخبار تأويل الأذى بأذى محمد وآل محمد(3)فيحتمل أن يكون المراد أن إيذائهم علیهم السلام كل من محبطات الأعمال - التي منها الصدقات -، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا »(4)، أو كان ذلك شأن نزول الآية فلعلّ

ص: 368


1- سورة التوبة، الآية: 62.
2- بحار الأنوار: ج19، ص300.
3- البرهان: ج2، ص292 عن تفسير العياشي.
4- سورة الأحزاب، الآية: 57.

الرجل قد تصدّق على قوم ثم جاء يؤذي الرسول وآله علیهم السلام ويمنّ عليهم بصدقته ، كما كان بعضهم يمن على الرسول إسلامه كما قال «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا »(1).

الثالث : قوله تعالى« كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ...»الآية .

المثل هو المرائي الذي لا يؤمن باللَّه ولا باليوم الآخر، لا كل مرائي، لأن قوله «وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ» عطف على « يُنْفِقُ مَالَهُ » ، فالمعنى المُنفِق الذي جمع هذه الصفات الثلاث : الرياء، وعدم الإيمان باللَّه ، ولا باليوم الآخر، وبذلك يتضح أن ختم الآية بقوله «وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» يراد به الكفر الاعتقادي لا مجرد الكفر العملي، فليست الآية لبيان عدم إيمانه في خصوص إنفاقه بل لبيان عدم إيمانه أساساً ، وبذلك يكون المثل أوقع في النفوس، فيقال للمنّان المؤذي أنت كالكافر رأساً، وهذا أدعى للاحتراز عن بطلان الصدقة بالمن والأذى.

الرابع : قوله تعالى « فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ...»الآية .

إنّ تشبيه المرائي بالصخرة الملساء التي عليها تراب، لبيان أن نفسه غير قابلة للخير فهي كالحجارة أو أشد قسوة، لكنه قد غطّى تلك النفس ببعض الأمور الحسنة في الظاهر، كالصفوان الذي عليه تراب حيث يتوهم الناظر أنَّه أرض قابلة للزراعة.

ثم إن الصدقة كالوابل، فكما أن المطر الشديد الكبير القطرات هو خیر محض فإذا أصاب أرض لها قابلية نفذ فيها وأخرج زرعها ومحاصيلها، لكنه إذا أصاب الصخرة المغطاة بالتراب أزال ذلك التراب

ص: 369


1- سورة الحجرات، الآية: 17.

وكشف حقيقتها وأنَّها غير قابلة للزراعة، كذلك الصدقة من المرائي كهذا المطر، فإنَّها تكشف عن حقيقته وعدم قابليته للحق ووسوء نيته، فإن اللَّه يفضح المرائي، فيكون قد أضرّ نفسه من حيث أراد نفعها بالمباهاة وبالسمعة أمام الناس، وهذا عكس إنفاق المؤمن طلباً لمرضاة اللَّه تعالى، حيث إن ظاهر المؤمن جميل فتزيده الصدقة الخالصة لوجه اللَّه جمالاً وبهجة كالجنة في الربوة يزيدها الوابل عطاءً وثمراً .

الخامس: قوله تعالى « وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ »

الظاهر أن المعنى أن هؤلاء يوطّنون أنفسهم على استمرار طلب مرضاة اللَّه تعالى، فأصل العمل كان لمرضاته تعالى واستمراره أیضاً على الوتيرة نفسها، فوصف «ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ» مقابل المرائي الذي لا يطلبها من الأول، ووصف « وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ » مقابل المنّان والمؤذي الذي تصدق بإخلاص لكن لم تدعه نفسه في الاستمرار في إخلاصه بل ساقته إلى إبطال عمله بالمنّ والأذى.

ثم إن قوله « مِنْ أَنْفُسِهِمْ »بمعنى أن هذا التثبيت على الإخلاص ناشیء من أنفسهم، فهي نفس مرتفعة قابلة للخير، فزادتها الصدقة خيراً، فهذه النفس العالية لا تنحرف إلى الأغراض الدنيوية الزائلة والأفعال القبيحة.

وهذه الآيات تدل على أن العمل المقبول إنما هو العمل الذي كان منطلقه الإخلاص لله تعالى، ولولا الإخلاص لم يكن للعمل ثواب، بل قد يكون فيه العقاب كما في الرياء في العبادات.

السادس: قوله تعالى«كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا ...»الآية .

ص: 370

(الربوة) المرتفع من الأرض، والبستان فيها أجود وذلك لمنظره من بعدُ أولاً، وشروق الشمس عليه باستمرار كما قال«شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ »(1) حيث هي في معرض الاستفادة من الشمس من الطلوع إلى الغروب، ولأنَّه أقرب إلى الهواء الطلق، وأبعد عن السيل والمياه الآسنة التي تجتمع في أسفل الوادي.

كما أن التمثيل بالربوة أنسب، فإنَّه تشبيه أنفسهم الرفيعة بالربوة، كما تمّ تشبيه نفس المرائي بالحجر.

ثم إن قوله «فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ »لبيان أن إنفاق هؤلاء مقبول مثمر سواء كان كثيراً أم قليلاً، فشُبَّه إنفاقهم بالمطر ونفوسهم بالجنة في ربوة، فهذه الجنة تثمر على كل حال لكن مقداره مرتبط بكمية المطر، كذلك هؤلاء كلّما زادوا في الإنفاق زاد ثوابهم، وحتى إنفاقهم القليل مقبول، نعم تختلف درجات الثواب كما مرّ بحسب المُنفِق و المُنفَق إليه وكميّة الإنفاق وسائر الظروف والأمور.

السابع : قوله تعالى : «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ... » الآية .

هذا مثل للذي ينفق مخلصاً ثم يبطل عمله بالمنّ والأذى، ففي يوم القيامة حيث هو في أمسّ الحاجة إلى ثواب إنفاقه يجد عمله محبطاً، ولا يتمكن من فعل شيء للتعويض، فتكون حسرته كبيرة جداً .

والمثل هو الذي أصابته الشيخوخة فلا يتمكن من اكتساب الرزق، وله أولاد صغار يعولهم، وله بستان بهيج كثير الثمر هو مصدر رزقهم الوحيد، فإنَّه في حاجة ماسة إليه، فلو احترق هذا البستان بإعصار فيه

ص: 371


1- سورة النور، الآية: 35.

نار، فلا هو شاب بحيث يتمكّن من إيجاد بديل له، ولا هو وحيد بحيث تقلّ حسرته على زوال مصدر رزقه فيسكّن نفسه بأنَّه شمس في أفول قريباً، ولا الذرية كبيرة بحيث تعتمد على نفسها، فهذا الشيخ يكون أسفه شديداً جداً على بستانه البهيج، كذلك المتصدق يُهيّئ لآخرته ثواباً جزيلاً لكن يراه في القيامة هباءً منثوراً لمنٍّ أو أذى في وقت الحاجة مع عدم إمكان التعويض.

و(الجنّة) البستان الكثيف الشجر بحيث سترت غصونها الأرض، وأصل المادة ( ج ن ن) بمعنى الستر ومنه الجن والجنين ونحوهما، وحيث إن الجنة هي هذا البستان المغطّى، ففوق البستان الأغصان الكثيفة وتحت البستان هي الأرض التي عليها الأشجار، ولذا تم التعبير ب-«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ »، فيكون لفظ التحت بمعناه الحقيقي بلا حاجة إلى تقدير تحت أشجارها.

وقوله:«فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ »بعد قوله: « جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ» ، إما باعتبار أن الجنة فيها جميع الأشجار لكن تم تخصيص النخيل والأعناب بالذكر لأنَّهما أكرم الأشجار وأجملها منظراً، أو باعتبار أن الغالب تلك الأشجار، لذا نُسبت الجنة إلى غالب أشجارها، فيكون التفصيل في ذكر أنواع شجر الجنة ليكون ذكرها أوقع في النفوس وأبرع في التصوير، وقيل: المراد كل ثمرات النخيل والأعناب من الفواكه والورق وما ينتج منهما كالدبس والعصير .... إلخ.

وقوله «إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ» لبيان سرعة اجتثاث تلك الجنة بحيث لا يتمكن من حفظها أو إعادتها بأية صورة، فالإعصار ریح سريعة مستديرة فلا يمكن لشيخ كبير السن من الحيلولة دونها، ولعلّ إعصاراً يأتي فتبقى

ص: 372

بعض الأشجار أو جذورها مما يأمل نموها بعد حين، لكن وجود النار فيها تزيل أيَّة بارقة أمل في ذلك البستان.

الثامن : قوله تعالى«كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ » .

أي کهكذا بيان في الصدقة، وهذه الأمثال، فإن اللَّه يبيّن أحكامه لينبّهكم بها، فإن الرياء والمنّ والأذى ونحوها من الأفعال والنوايا الخبيثة تصدر من الإنسان لغفلته عن الآيات بسبب استيلاء الشهوات والهوى والرذائل الخلقية، فلو تنبّه الإنسان عبر ذكر هذه الأمثال لعلّه يخرج عن غفلته فيتفكر ثم يعتبر،والمستعان باللَّه .

ص: 373

ثالثاً: المال المُنفِق به
الآية 267

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)» .

267 - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ » طيباً واقعياً بكونها حلالاً، وظاهرياً بكونها جيدة مرغوب فيها، والكسب بالتجارة ونحوها، «وَمِمَّا»أي ومن طيبات ما « أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» من الزرع والحبوب والفواكه ونحوها ،« وَلَا تَيَمَّمُوا » أي لا تقصدوا «الْخَبِيثَ » الرديء أو الحرام، «مِنْهُ »من ذلك الخبيث «تُنْفِقُونَ » ، وميزان الرديء هو: «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ»ذلك الخبيث في حقوقكم ومعاملاتكم « إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ » تسامحوا فيه «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ » لا يحتاج إلى صدقاتكم وإنما يريد تطهیر کم فلا يأخذ إلّا الطيب،«حَمِيدٌ » محمود على نعمه، أو يحمد من ينفق الطيب بالرضا عنه وبثوابه .

بحوث

الأول : بعد بيان شروط الإنفاق، جاء دور بيان المال المُنفَق به،

ص: 374

وأنه يلزم أن يكون مما ترغب فيه النفوس، لا ما تعافه ولا تحبه، وذلك لأن الغرض من الإنفاق هو:

أولاً : تهذيب النفس، وحيث إن النفس متعلّقة بالأموال الجيدة فتبخل بها، فالتصدق منها ترويض للنفس إلى الكمال، قال تعالى «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ »(1)، وقال: «مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ »(2).

وأما إنفاق الرديء فهو نوع تخلّص منه ، وليس فيه من تهذيب النفس شيء، بل قد يتطابق مع الهوى.

وثانياً : رفع حاجة الناس، والناس إلى الاحترام أحوج منهم إلى المال، وهذا النوع من الإنفاق هو استخفاف بالفقراء، وهو رذيلة كبيرة، ولا يمكن أن تكون الرذيلة سبباً للفضيلة من رقي النفس وكمالها، ومن ثَمَّ ثواب الآخرة، ولذا قال: « إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »(3)، وقال: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا»(4).

الثاني : قوله تعالى : « مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ » .

(الطيّب) لغة هو ما ترغب النفس إليه، عکس الخبيث الذي تتنفر النفس عنه، وقد يخطئ الإنسان فيستلذ بالخبيث لجهله بأضراره کالطعام المسموم الذي هو خبيث واقعاً لكن الأكل لجهله بالسم يأكله بشوق، ولو علم لكرهته نفسه وعافته ، ولذا كان (الطيّب) شرعاً هو ما حلّله الشرع،

ص: 375


1- سورة آل عمران، الآية: 92.
2- سورة المائدة، الآية: 27.
3- سورة محمد، الآية: 38.
4- سورة الأحقاف، الآية: 16.

والخبيث هو ما حرّمه، كما قال تعالى« وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ »(1)، وكثير من الناس يرغبون في الخمر مع أنَّها أم الخبائث، وفي لحم الخنزير مع أنَّه من أخبثها ، وفي المحرمات مع أنَّها خبيثة، قال تعالى « وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ »(2).

نعم قد يدرك الناس الخبث الواقعي للشيء فتنفر نفوسهم منه كالعذرة والجيفة والسموم القاتلة، وقد لا يدركون لجهلهم بالمضار أو لسوء التربية أو لغلبة الهوى فيبيّن الشرع لهم وينهاهم، كالخمر والزنا والغيبة والرذائل الأخلاقية ... إلخ.

فاتضح أن الطيب هو الطيب الواقعي وإن نفرت منه النفوس أو استثقلته، كالأدوية المُرّة، وكالعبادات الصعبة، والخبيث هو الخبيث الواقعي وإن رغبت إليه النفوس کالمحرمات التي تتطابق مع الهوى والشهوات، فمجرد رغبة النفوس إلى شيء لا يجعله من الطيبات ومجرد نفرتها منه لا يجعله من الخبائث.

وفي هذه الآية قوله تعالى «وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ » أريد منه معناه الأعم أي ما نفرت منه النفس وما كان خبيثاً واقعاً . ولذا فسر في الروايات بالمال الحقير التي لا ترغب النفس فيه، وبالمال الذي اكتسب من الحرام. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: كان أُناس على عهد رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم و يتصدقون بشرّ ما عندهم من التمر الرقيق القشر الكبير

ص: 376


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة المائدة، الآية: 100.

النوى - يقال له : المُعافارة . ففي ذلك أنزل اللَّه « وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ »(1) .

وعنه عليه السلام قال : كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية، فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدقوا بها، فأبى اللَّه تبارك وتعالى إلّا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا(2).

وعن رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم : لا يصل إلى اللَّه صدقة من کسب حرام (3).

الثالث : قوله تعالى «مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ...»الآية.

الكسب عادة يكون بالتجارة والإجارة كعامل البناء، فيدخل فيه استخراج المعادن من الذهب والفضة ونحوهما .

و(ما أخرجه اللَّه من الأرض )بالزراعة كالفواكه والحبوب والبقول وسائر الثمار .

وإنما خص هذين بالذكر مع أن أموال الإنسان قد تحصل بالهبة والإرث والالتقاط فلا هي كسب ولا هي زرع، لأجل أن الإنفاق مما عمل الإنسان لأجله وكدّ عليه أصعب على النفس، وخاصة من طيباته ومما يحبه الإنسان، أو لأنَّهما أغلب.

ثم إن قوله «كَسَبْتُمْ» و «أَخْرَجْنَا» لأجل أن الكسب فعل مباشري للإنسان وإن كانت مقدماته من اللَّه تعالى، وأما الزرع فبالعكس فإن المقدمات من الإنسان والإنبات من اللَّه تعالی.

ص: 377


1- البرهان: ج 2، ص 290 عن تفسير العياشي، وقريب منه في الكافي.
2- المصدر: ص 290 عن الكافي.
3- المصدر: ص290، عن تفسير العياشي.

وأما قوله«َمِمَّا أَخْرَجْنَا»فالمراد من طيبات ما أخرجنا، ولم يذكر الطيبات لوضوح أنَّها مرادة بقرينة المعطوف عليه في قوله «مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ »، أو لأجل أن الإخراج لما نسب إلى اللَّه تعالى لم يكن من المناسب تقسيمه إلى الطيب والخبيث كي يقال إنه تعالى أخرج الطيب وأخرج الخبيث، فإنَّه سبحانه وإن كان خالقاً لهما لمصلحة التفاضل في أمور الكون، لكن مقتضى الأدب تنزيهه عن بعض الكلمات، كما في قول الخضر « فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا »، ثم قوله« وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي»(1)حيث لم يكن من المناسب نسبة فعل العيب إليه تعالى، فتأمل.

الرابع : قوله تعالى :« وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» (2).

« تَيَمَّمُوا » يمَّم بمعنى القصد والتعمد، فقد ينفق الإنسان مما عنده من غير أن يفصل بين الجيد والرديء، فهذا لا بأس به، وهو أمر متعارف، كمن اقتطف ثمار بستانه من غير تمييز ثم ينفقها في سبيل اللَّه ، وأما أن يقصد الرديء فيتبرع به ويحتفظ بالجيد لنفسه، فهذا دليل على اللؤم وخساسة النفس وشحّها.

وقوله «مِنْهُ »يرجع إلى الخبيث، أي لا تقصدوا الخبيث لتنفقوا منه، ولا يرجع الضمير إلى ما أخرجنا لما ذكرناه في البحث السابق.

الخامس : قوله تعالى: «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ».

هذا بيان لميزان الخبيث في الإنفاق، بإرجاعه إلى وجدان المتصدّق فهل أنت تتقبل هكذا مال برحابة صدر لو كان لك الحق؟ مثلاً لو كنت

ص: 378


1- سورة الكهف، الآية: 79.
2- سورة الكهف، الآية: 82.

تطلب شخصاً مالاً فجاء به فهل تقبل أم لا؟ فإن وجدت من نفسك عدم قبول ذلك إلّا بتسامح وتنازل فاعلم بأنَّه رديء فلا تنفق منه.

والحاصل أن الإنسان لا يأخذ الرديء في حقوقه ، فعليه أن لا ينفق منه، لأن إنفاقه حينئذٍ كالتخلص منه، وفيه زيادة في اللؤم واستخفاف بالمُنفَق عليه، وما كان منشؤه خسة النفس لا يمكن أن يكون مقرباً إليه تعالی.

وقوله « إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ »كناية عن التسامح فيه، كمن يغمض عينيه استبشاعاً للشيء لئلا يرى رداءته، وقيل الغمض هنا كناية عن تقليل القيمة، فإن الإنسان لا يشتري الشيء الرديء إلّا بقيمة منخفضة .

السادس: قوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ .

«غَنِيٌّ »أي أمركم بإنفاق الطيب وعدم قصد الخبيث ليس لأجل حاجته تعالى، فهو سبحانه غني عنكم، لا فرق بين عدم إنفاقكم أو إنفاقكم الطيب أو الخبيث، وإنما يأمركم لنفعكم لطفاً بكم، لتزكوا نفوسكم، ولتنالوا ثوابه تعالی.

وقوله «حَمِيدٌ » إما بمعنى أنَّه يحمدكم على فعالكم فيثيبكم على إنفاق الطيب فالحمید بمعنی حامد.

وإما بمعنی احمدوه على نعمه عليكم، وذلك ببذل الطيب في سبيله ، فإن من يحترم شخصاً يبذل أحسن ما عنده له لا أنَّه يختار له الرديء ، فعلى هذا يكون الحميد بمعنى المحمود.

ص: 379

رابعا: عوائق الإنفاق
الآيات 268 - 270

«الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)»«يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)»«وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)».

268 - أما عوائق الإنفاق فهي: خوف الفقر أو تجاوز الحد بالمعصية،«الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ »بتسويلاته «الْفَقْرَ» بأن يخوفكم من الفقر بسبب الإنفاق« وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ» ما تجاوز الحدّ من المعاصي، فقد لا يخاف صاحب المال من الفقر لكنه لا يُنفق بخلاً وشحاً،« وَاللَّهُ» في مقابله « يَعِدُكُمْ»إن أنفقتم « مَغْفِرَةً مِنْهُ »غفران ذنوبكم وكفارة لها بالإنفاق«وَفَضْلًا » زيادة على ما أنفقتم بالبذل والثواب، «وَاللَّهُ وَاسِعٌ »عطاءً فيمكنه التعويض، «عَلِيمٌ » بنیّاتكم وأعمالكم، فيجازي على الحسن والسيّئ.

269 - ما تضمنته الآيات السابقة في الإنفاق هو من الحكمة، و اللَّه سبحانه «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ » وهي وضع الشيء في موضعه «مَنْ يَشَاءُ » لكونه مستعداً لقبولها، «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» لأن من اتَّبع أوامره تعالی فاز في الدارين وذلك الخير

ص: 380

الكثير، عكس الجاهل الذي إن أعطي كل خير فخيره ناقص بسبب جهله « وَمَا يَذَّكَّرُ» بالاتّعاظ بما مضى « إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ » أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الجهل والهوى.

270 - «وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ»في سبيل اللَّه - صغيرة كانت أم جليلة - « أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ »لله تعالى «فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ »فيجازيكم عليه، وأما من ترك الإنفاق أو خالف النذر فهو من الظالمين «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ »ينقذونهم من عذاب اللَّه تعالی.

بحوث

الأول: تتضمن هذه الآيات أهم المعوقات عن الإنفاق، وهي خواطر تعرض للإنسان بسبب تسويلات الشيطان، ثم بيان كيفية التخلص منها.

أما أهم المعوقات فهي:

1۔ خوف الفقر، فيسوّل الشيطان للنفس بأن تشح وتبخل وتدّخر المال لئلا يفتقر صاحبها، لذا قال تعالى «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ»فقابله اللَّه تعالی بوعده بالفضل فقال «وَفَضْلًا»مع أنَّه من الواضح أن الإنفاق باقتصاد لا يوجب الفقر، بل قد يكون من عوامل زوال الفقر أو تقليصه في المجتمع، فالمجتمع المتضامن الذي يُنفق الثري فيه على الفقير ، ويُؤثِر الإنسان على نفسه ولو كان به خصاصة ، مجتمع متماسك لا يخشی

ص: 381

على أحد فيه من الإعواز، فإن هذا المُنفِق لو افتقر بأثر حادث أو خسارة اقتصادية فإنَّه سرعان ما يجد من يأخذ بيده ويعاونه على فعله.

2- تجاوز الحدّ في المعاصي، فإن البعض لا يخشى الفقر، لكنه يطغى بثروته كما قال تعالى«كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)»«أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى »(1)، فيصاب بالكبر وبنظرة دونية للفقراء والمستضعفين، وتنعدم فيه الشفقة والرحمة فلا ضمير له ليتألم بما يتألم به الفقراء والمساكين، وهكذا حالة تؤدي بالإنسان إلى ارتكاب كل أنواع المعاصي وتجاوز كل الحدود، ولذا قال تعالى: «وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ».

3- الجهل وعدم وضع الأمور في مواضعها، فقد لا يكون الغني يخاف الفقر، ولا يريد الفحشاء، لكنه لجهله يصرف ماله في أمور لا تجلب عليه إلّا الخسارة والوبال، كما قال تعالى :«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً »(2)، فلذلك قال تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ... »الآية، فعلاج هذا الجهل بالحكمة بشرط أن يجعل الإنسان نفسه قابلة لها ليفيضها اللَّه تعالى عليه.

4- ضعف الإيمان باللَّه تعالى، وبأنَّه سيُخلف المال كما قال تعالى«َمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ »(3). ودرءاً لهذا العائق بیّن تعالى بأنَّه يعلم بمن أنفق فيجازيه على ما فعل، مع تهدید الظالمين المانعين للحقوق الواجبة في أموالهم.

الثاني : قوله تعالى «وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ » .

ص: 382


1- سورة العلق، الآيتان: 6- 7.
2- سورة الأنفال، الآية: 36.
3- سورة سبأ، الآية: 39.

(الفحش) هو تجاوز الحدّ، و(الفحشاء) صفة مشبهة تستعمل في القرآن في المعاصي التي فيها تجاوز للحدّ، كالكبائر من الذنوب، قال تعالى : «وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ »(1)، فالمعنی:

1- إن الشيطان يسول لكم تجاوز الحد في أموالكم بارتكاب المعاصي الشنيعة بتلك الأموال، مما يمنعكم عن الإنفاق وأداء الحقوق الواجبة .

2. وقيل : البخل هو من أسباب الوقوع في الفحشاء، حيث إن مخالفته تعالی تبدأ من الاستهانة بالفقراء ومنعهم حقوقهم أو عدم التصدق عليهم، وذلك يؤدي إلى حالة النفاق، وعندها لا يرعوي الإنسان من أيّ حرام، كما قال تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)»«فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)»«فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ »(2).

3. وقيل : إن نتيجة الشح والبخل هو شيوع الفقر وذلك يؤدي إلى شیوع المعاصي في الفقراء بسبب فقرهم، وفي الأغنياء بسبب بطرهم وتكدّس الثروة عندهم، فتنتشر الرذيلة والسرقة والفساد وبيع الدين بذلك السبب، فيكون قوله «وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ »إقامة المسبب مقام السبب أي يأمركم بالبخل الذي ينتج الفحشاء .

4- وقيل : الفحشاء هنا بمعنى البخل فإن العرب تسمي البخيل

ص: 383


1- سورة الأنعام، الآية: 151.
2- سورة التوبة، الآيات: 70 - 77.

فاحشاً كما في الكشاف(1) ولعلّ سبب ذلك هو تجاوزه للحدّ بردّه الضيوف والسائلين.

الثالث : قوله تعالى « وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ».

وعده تعالى بالفضل مقابل وعد الشيطان الفقر، وبالمغفرة مقابل أمره بالفحشاء، حيث إنه يريد زيادة الذنوب و اللَّه تعالی پرید غفرانها، فيأمر بما يكفر عنها، كما قال تعالى « إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ »(2) وقال «فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ »(3)، والتبديل إما بمعنی محو السيئة وكتابة الحسنة بدلاً عنها، وإما تبدیل ماهية السيئة إلى الحسنة، كما يشاهد في الماديات أیضاً فالجيفة تتبدل إلى تراب خصب، والسماد الخبيث يتحول إلى فاكهة طيبة، وكذا العكس.

ثم لا يخفى أن وعد الشيطان إغواء وتسويل ثم لا يفي به، قال تعالى «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا »(4)، وقال: «وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ »(5).

وكما أن أمره إنما هو بما يضّر الناس ولا ينفعهم لأنَّه عدوّ لهم. قال سبحانه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ »(6)، وقال «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ »(7).

ص: 384


1- الكشاف: ج 1، ص396 .
2- سورة هود، الآية: 114.
3- سورة الفرقان، الآية: 70.
4- سورة النساء، الآية: 120.
5- سورة إبراهيم، الآية: 22.
6- سورة النور، الآية: 21.
7- سورة فاطر، الآية: 6.

وقوله «فَضْلًا » مطلق يشمل الزيادة في الدنيا والآخرة وقوله«مِنْهُ » التعظيم شأن هذه المغفرة حيث إنها منه تعالی.

الرابع : قوله تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ».

(الحكمة) مصدر نوعي، وجذرها بمعنى الإحكام، فمعناها كيفية من الإحكام والإتقان بحيث لا يكون مجال للخلل والنقص.

و اللَّه تعالى حكيم لعلمه وإيجاده الأشياء في غاية الإحكام.

والحكمة في الإنسان لها سبب ونتيجة:

أما السبب: فهو معرفة الواقعيات الحاكمة في عالم الوجود، إذ لا يمكن الإحكام والإتقان مع الجهل بالحقائق، ولذا فسرت الحكمة في الروايات (1)بالعقل والفهم، وبالمعرفة، وبمعرفة الإمام، وبالتفقه في الدين - الذي هو العلم بالأصول وبالشريعة -.

وأما النتيجة : فهي وضع الأشياء في مواضعها، ولذا تمّ تفسيرها في بعض الروايات : بطاعة اللَّه تعالى وباجتناب الكبائر التي أوجب اللَّه عليها النار.

فمجرد العلم الذي لا يدعو إلى العمل لا يُسّمى حكمة، لأنَّه مجرد معلومات غير مذعن بها، بل هو صورة علم وليس علماً حقيقياً، فمن يعلم بخطر محدق يمكنه التخلص منه بسهولة، لا بد وأن يفرّ منه ، فعدم فراره يكشف عن عدم تصديقه وإذعانه لما علمه - حتى إن كرّره في لسانه - فهو أشبه بلقلقة اللسان، وفي الحديث : العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلّا عنه ارتحل(2).

ص: 385


1- الكافي: ج1، ص19، وفي تفسير البرهان ج2، ص299 فما بعد.
2- الكافي: ج 1، ص 44.

وعن الإمام الصادق عليه السلام : الحكمة ضياء المعرفة، وميزان التقوى، وثمرة الصدق، وما أنعم اللَّه على عباده بنعمة أعظم وأنعم وأرفع وأجزل وأبهي من الحكمة للقلب(1).

ثم لعلّ الإتيان باية الحكمة في وسط آیات الإنفاق باعتبار أن معرفة حقيقة الإنفاق المقبول من المرفوض، والعمل طبق ذلك، وعدم الانسياق وراء تسويلات الشيطان في ذلك، والاطمئنان بوعد اللَّه تعالى في الإنفاق، كل ذلك من أجل مصاديق الحكمة، حيث يتوقف هذا الفهم والعمل به على العقل والفهم والإخلاص والإقدام بوضع الصدقة في مواضعها مما أمر اللَّه بها .

الخامس : قوله تعالى« وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا»

إن كل خير هو إفاضة من اللَّه تعالى، ولكنه حكيم فيجعل ذلك الخير في مواضعه المناسبة، وحيث إن الحكمة من أعظم النعم حيث إنها جامعة السعادة الدارین باتباع الحقائق العلمية والعملية، فلذا تحتاج إلى المحلّ القابل لها، ولا يكون الإنسان قابلاً لها إلّا بمثابرته وحسن نیته وعمله ، فإن اللَّه تعالى أعطى لكل إنسان فطرة سليمة وعقلاً، ويبتدئه باللطف والرحمة، فإن استجاب لها وعمل على طبقها زاده اللَّه لطفاً، وإلا فإنَّه سبحانه لا يقطع عنه لطفه فجأة، بل يستمر في لطفه عسى أن يرعوي ويرجع إلى جادة الصواب، إلى أن لا يبقى في قلبه منفد للخير فحينذاك يطبع اللَّه على قلبه ويجعل غشاوة على سمعه وبصره نتيجة سوء سريرته ، ولذا قال تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ» و ولا تكون مشيئته اعتباطاً .

ص: 386


1- بحار الأنوار: ج 1، ص215.

ثم إن التعبير بالخير الكثير، لأن الخير قد يكون قليلاً زائلاً كزينة الحياة الدنيا ، تُعار أياماً ثم تسترد العارية، وقد يكون خيراً دائماً بل في نمو وزيادة فهذا هو الخير الكثير، ومن المعلوم أن الحكمة توجب سعادة الدارين، فهي سبب الخير الدائم كما بيّناه آنفاً، قال تعالى «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ »(1).

السادس: قوله تعالى :«وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» .

(التذكر) هو الاتعاظ، وأصله الالتفات إلى الشيء المنسي أو المغفول عنه، وذلك لأن اللَّه أودع جملة من الحقائق في فطرة الإنسان وعقله، لكن قد يغفل عنها أو ينساها بسبب سوء التربية أو الانغماس في الشهوات والملذات، وهذا قد لا ينفع معه الوعظ والتذكير كما قال وقال « فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ »(2)، وإنما ينفع التذكر لمن كان ذا لب أي عقل خالص عن شوائب الأوهام والهوى، قال أمير المؤمنین عليه السلام : بلی و اللَّه سمعوها ووعوها ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها(3).

السابع : قوله تعالى«وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ...»الآية .

هذه الآية تتضمن وعداً وعيداً ، وهي كالتتمة للآيات السابقة التي بيّنت أقسام المصّدّقين من المخلصين والمرائين والمنّانين والمؤذين.

أما الوعد: فقوله«وَمَا أَنْفَقْتُمْ »إلى قوله « فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ»، فهو سبحانه يعلمه فلا يضيّع هذا العمل. بل يجازيه بأحسن الجزاء .

ص: 387


1- سورة القصص، الآية: 60.
2- سورة الحديد، الآية: 16.
3- نهج البلاغة: الخطبة رقم 3.

وأما الوعيد: فقوله «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ»، فهم يظلمون أنفسهم بالمعصية أو بإبطال عملهم، فأولئك محسنون لأنفسهم، وهؤلاء ظالمون لها.

وقيل: إن صدر الآية عام أي ما أنفقتم من نفقة بحق أو باطل بإخلاص أو ریاء فإن اللَّه يعلمه فلا تختلط عنده النوايا والأعمال.

لكن هذا يستلزم أن يكون صدر الآية عامة بلا تبشير، وآخر الآية تهديد، مع أن الأنسب أن يجتمع الأمرين بأن يكون صدرها تبشیر، ورأسها - أي تتمتها - تهديد.

ثم إن الإتيان بالنذر في وسط آیات الإنفاق، لأجل أن الإنفاق قد يجب بالنذر، فإن وجوب الشيء قد يكون بتشريع من اللَّه مباشرة بجعل حق واجب في المال كالخمس والزكاة ونحوهما، وقد يكون أصل العمل مستحباً لكنه تعالى أذن للإنسان بأن يفرضه على نفسه ويكون ذلك بالنذر ونحوه، فمن نذر مساعدة فقير وجب عليه الوفاء بذلك، فيكون حاصل المعني: إن ما دعاكم اللَّه إليه أو ما أوجبتموه على أنفسكم فإن اللَّه يعلمه فيجازيكم عليه .

ص: 388

خامساً: كيفية الإنفاق
الآيتان 271 - 272

«إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)»«لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)» .

271 - «إِنْ تُبْدُوا »تظهروا «الصَّدَقَاتِ » في الصدقات الواجبة بدفعها في العلن «فَنِعِمَّا هِيَ » أي نِعم الشيء تلك الصدقة، لأن فيها الخير من اقتداء الناس ودفع تهمة البخل وغيرها من الفوائد، «وَإِنْ تُخْفُوهَا »في الصدقات المستحبة «وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ»بأن تصيبوا في مصرفها « فَهُوَ» الإخفاء « خَيْرٌ لَكُمْ »أي أحسن لأنَّه أقرب إلى قصد القربة وأبعد عن الرياء، «وَيُكَفِّرُ » اللَّه بسبب صدقة السر أو مطلق الصدقة «عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ » أي بعضها، «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ »فيعلم نواياكم، وعلى حسبها يكون ثواب العمل.

272 - إن تكليف الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم و هو الإبلاغ وتطبيق الشرع في الظاهر، وأما كيفية نيتهم - من الإخلاص أو غيره - فخارج مهمّته، ف-«لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ » بأن ينفذ الإيمان في قلوبهم ليتصدقوا .

ص: 389

بإخلاص «وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي » إلى الإيمان والعمل الخالص «مَنْ يَشَاءُ »ممن كان قابلا للهداية بحسن عمله وسريرته، فإذا هداكم اللَّه إلى العمل الخالص فإن نفعه يعود إليكم، «وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ »أي نفعه عائد إليكم، لا إلى المتصدق عليهم فإن نفعهم مادي زائل ونفعكم بالثواب الباقي، فلماذا عدم الإخلاص أو المن والإيذاء المبطلة للعمل؟ «وَمَا تُنْفِقُونَ » الواو للحال أي ثوابه عائد إليكم حال کونكم لا تنفقون «إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ » أي طلباً المرضاته تعالى، «وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ»يرجع إليكم في الآخرة بثوابه، فلا عذر في ترك الإنفاق وفي ترك أحسنه، « وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ » لا تُنقصون من الثواب ، بل تأخذونه وافياً كاملاً.

بحوث

الأول : قوله تعالى«إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ».

(الصدقة) ما يُصدَّق الإنسانُ به اللَّه تعالى سواء كان في مال أو غيره ، وفي الحديث : كل معروف صدقة (1)وفي آخر: إماطتك الأذى عن الطريق صدقة(2)، ولكن شاع استعمالها في دفع المال على وجه الثواب من غير إرادة الجزاء والشكور من المتصدَّق عليه.

وهذا المقطع وإن كان مطلقاً في الصدقات الواجبة وفي النوافل، إلّا

ص: 390


1- الكافي: ج 4، ص26.
2- بحار الأنوار: ج 72، ص50.

أن التدبر التام في كل الآية يدل على أن المراد هو خصوص الصدقة الواجبة من الزكاة، حيث إنه تعالى لم يبيّن المصرَف، بل مدحها بشكل مطلق عكس الصدقة الخفية حيث بیّن مصرفها فقال «وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ»

وذلك لأن الصدقة الواجبة تسلّم إلى الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم وإلى ولاة الأمر من بعده وهم يصرفونها في مصارفها وهي مصارف كثيرة لا تختص بالفقراء، كما قال تعالى«إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ...» (1)الآية . فتكليف دافع الصدقة ينحصر في تسليمها إلى الرسول وولاة الأمر من بعده، مضافاً إلى أن تسليمها إليهم لا يكون إلّا علناً عادة لكونهم في مقرّ إدارة الحكم .

وأما الصدقة المستحبة فصاحب المال يسلّمها مباشرة، ولا يكون مصرفها إلّا الفقراء عادة، فلذا ينبغي عليه التحرّي لتقع تلك الصدقة في محلّها ، بأن يكون المتصدَّق عليه محتاجاً.

نعم هنا شيء آخر وهو عدم رد السائل وعدم لزوم التفحص حوله، وهذا يختلف عن الابتدار بدفع الصدقة حيث الأفضل التحري عن الفقراء لأجلها .

وهذا المعنى هو ما دلَّت عليه الروايات أيضاً، فعن الإمام الباقر علیه السلام في قوله تعالى «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ »؟ قال: يعني الزك-اة المفروضة، قلت : «وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ» قال : يعني النافلة إنهم يستحبون إظهار الفرائض وكتمان النوافل(2) .

ص: 391


1- سورة التوبة، الآية: 60 .
2- الكافي ج 4، ص60، وراجع سائر الروايات في البرهان ج2، ص301.

وإنما كان الإعلان في الفرائض أفضل، لأن المجتمع الإيماني يقوم بظهور الحق والصلاح فيه، فلذا كثرت العبادات الجمعية، فالصلاة الواجبة يستحب إقامتها جماعة، وصلاة الجمعة لا تصح إلّا جماعة، فإن تمييز المجتمع المؤمن عن غيره إنما هو بالمظاهر، وعندما تكون العبادة عامة يؤديها الجميع فإنَّها تكون أبعد عن الرياء لاستواء الجميع فيها . وأما النوافل فإن الغرض منها هو التقرب إليه تعالى مع عدم إلزام الناس بها، لذا قد يتركها غالب الناس، فيكون العمل بها في معرض الرياء والسمعة وسائر الآفات والمبطلات، لذا كان إخفاؤها أفضل لتكون أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص، كما يترتب على إخفائها صون ماء وجه الفقير بل قبولهم لها فإن بعض الفقراء يأنفون عن قبول الصدقات العلنيّة لكنهم يقبلونها إذا لم تكن ظاهرة .

الثاني : قوله تعالى «وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ...»الآية .

أي بسبب الصدقة - سراً وعلناً - نكفر عنكم بعض سيئاتكم، لأن الحسنات يذهبن السيئات، وحيث تختلف درجات الحسنات والسيئات ، فلا تكون كل حسنة كفارة لكل سيئة، بل لا بد من التناسب بينهما ، كما قال تعالى « وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ »(1)وقال: « أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ » (2).

فالصدقة تكفّر بعض الذنوب، ولذا قال «وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ

ص: 392


1- سورة المائدة، الآية: 89.
2- سورة المائدة، الآية: 95.

سَيِّئَاتِكُمْ »، وأما تكفير كل الذنوب فبالإيمان والعمل الصالح، كما قال : «يوَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ »(1).

الثالث : قوله تعالى «لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ » الآية .

حيث كان الكلام حول الإنفاق المقبول من غيره مع اختلاف نيّات المنفقين، تمَّ في هذه الآية بيان أن على الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ظاهر الأمر، فتكليفه هو الإبلاغ بتلاوة الآيات وتزكية النفوس وتعليم الكتاب والحكمة وحفظ ظاهر الشرع بأن يمنع الناس عن المجاهرة بالمعاصي وترك الواجبات، قال تعالى «فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ » (2)، وقال «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ »«لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ »(3)، وقال «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ »(4)، وقال «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ»(5)، وقال «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ »(6). هذه هي من وظائف الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ، أما اهتداؤهم واقعاً وخلوص نياتهم فليس من تكليفه بل هو من اللَّه تعالى قال سبحانه «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ »(7)ولعلّ ذكر الآية هنا هو نوع تسلية للرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ، حيث كان يكثر المنافقون حوله وكانوا يخالفون أوامره، فكان يرى عدم إنفاقهم أو مَنَّهم وأذاهم أو اختيارهم الخبيث أو عدم إخلاصهم في نيّاتهم، مع حرصه

ص: 393


1- سورة التغابن، الآية: 9.
2- سورة الرعد، الآية: 40.
3- الغاشية، الآية: 22،21.
4- سورة يونس، الآية: 99.
5- سورة الأعراف، الآية: 157.
6- سورة المائدة، الآية: 49.
7- سورة القصص، الآية: 56.

على هدايتهم وبذل وسعه إلى تقريبهم إلى الحق، فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى «فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ »(1)، وقوله «وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ »(2).

الرابع : قوله تعالى « وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ . . .» الآية .

هذا المقطع إلى آخر الآية يتضمن ثلاثة أمور - بلا تكرار تأكيداً -.

1 - الترغيب في الإنفاق ببيان أن نفعه عائد إلى أنفسكم، فقال«وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ » فلماذا إبطاله بالرياء أو المنّ والأذى أو بقصد الرديء؟ كما أن فيه بيان أن الإنفاق ليس للرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ، فالزكاة الواجبة تُعطى له لا لنفسه بل ليصرفها في الموارد المذكورة في آية الزكاة، وفي ذلك رقيّ المجتمع بما يعود نفعه إلى الجميع بما فيهم المتصدّقين .

2 - بيان اشتراط نفع الإنفاق بكونه لوجه الله، فقوله «وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ » جملة حالية أي فلأنفسكم في حال كونكم مخلصين لله، فهذه النفقة هي التي يعود نفعها إليكم، وأما لو لم تكن خالصة فلا نفع فيها بل قد يكون فيها الوبال والويل .

وبهذا يتضح سبب عدم الجزم بحذف النون في هذا المقطع، عكس المقطع السابق واللاحق، فإنَّهما جُزِما بحذف النون وذلك لمعنى الشرط، أما هذا المقطع فهو جملة خبرية حالية لبيان اشتراط الإنفاق بقصد القربة .

وقيل: المراد بهذا المقطع أيضاً الشرط إلّا أنَّه أخرجه بصورة

ص: 394


1- سورة فاطر، الآية: 8.
2- سورة النحل، الآية: 127.

الإخبار تفنناً في العبارة لئلا تترادف ثلاث جمل شرطية، فيكون المعنى إذا أنفقتم فابتغوا وجه اللَّه تعالى .

3 - بيان رجوع نفس المال إلى المتصدق، فيكون فرقه عن المقطع الأول أن ذاك في الترغيب وبيان أن النفع عائد إلى المُنفِق ، وهذا بيان لكيفية عود النفع وأنَّه برجوع نفس المال كاملاً غير منقوص بجزائه في الآخرة بل في الدنيا أيضاً بتعويضه وإخلافه .

الخامس : قوله تعالى « ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ».

أي طلباً لمرضاته تعالى، والمعنى الحقيقي للوجه هو المُحيّا، وهو أشرف ما يُقابل به، ولذا تم إطلاقه مجازاً على الشيء الشريف، فيقال : وجه الرأي مثلاً، وأما وجه اللَّه تعالى فهو ذاته، أطلق عليها الوجه لشرفها وعلوها وتعاليها، وكذلك يطلق وجه اللَّه على دينه وعلى أوليائه، لأن الوجه هو ما يُواجه ويُقابل به الشيء، والتوجّه إلى اللَّه يكون عبر دينه وأوليائه، قال تعالى :« كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ »(1)أي ذاته ودينه وأولياؤه، كما ورد ذلك في روايات كثيرة(2)، ثم لا معنى لإرادة ذات اللَّه تعالى إلّا بإرادة مرضاته، قال تعالى «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ »(3).

سادساً: مصرف الإنفاق
الآيتان 273 - 274

«لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)»«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)»

ص: 395


1- سورة القصص، الآية: 88.
2- راجع شرح أصول الكافي للمؤلف.
3- سورة الكهف، الآية: 28.

273 -وأفضل الإنفاق هو «لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا »ضُيّق عليهم «فِي سَبِيلِ اللَّهِ » إما بمصادرة المشركين أموالهم لإيمانهم، أو لزمانة أصابتهم في الجهاد، أو لانشغالهم بفريضة أهم من الكسب، وأمثال ذلك، «لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ» مشياً فيها بسفر التجارة ونحوها،« يَحْسَبُهُمُ »يظنّهم «الْجَاهِلُ» بحالهم لعدم تفرّسه وتوسمه «أَغْنِيَاءَ » مستغنين غير محتاجين «مِنَ التَّعَفُّفِ » بسبب عفّتهم في ترك السؤال والتظاهر بالفقر، «تَعْرِفُهُمْ»أنت يا رسول اللَّه لتفرسّك وتوسّمك «بِسِيمَاهُمْ » فعلائم الفقر بادية عليهم رغم محاولتهم كتمانها، «لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا » أي بإلحاح، والمعنى لا يسألون أصلاً كي يكون إلحافاً،«وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ

ص: 396

خَيْرٍ » إنفاق أيِّ شيء يطلق عليه الخير «فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ »فيجازيكم عليه .

274- ولما بدأت آيات الإنفاق بالترغيب إليه بذكر ثوابه (الآية261)، ختمت هذه الآيات بالترغيب وذكر الثواب فقال تعالى : «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ » في جميع الحالات: «بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً »فهم حريصون على الخير في كل الحالات ولا يؤخرونه ولا يسوّفون فيه «فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ»من مکروه متوقع مستقبلاً « وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» على ما فاتهم في الماضي، نزلت الآية في أمير المؤمنين عليه السلام .

بحوث

الأول: تضمنت الآية أفضل مصارف الإنفاق المستحب، وهو ما يستجمع الأمور التالية : الفقر، والحصر في سبيل الله، وعدم القدرة على الكسب، والتعفف عن السؤال .

فهذا قوي الدين رفيع النفس، وقد أوذي في الله، أو حبس نفسه على سبيل اللَّه فلم يستطع التجارة، لكنه في الوقت نفسه لا يبتذل نفسه بل صانها بالتعفف وعدم السؤال، فمن أحسن من هذا في الإنفاق له، فهو مجمع للفضائل، ومن أعلاها أن فضائله سببت فقره وذلك لدينه وعلو نفسه .

و لعلّ تخصيص هؤلاء بالذكر - مضافاً إلى دينهم وعلوّ نفسهم - هو أن الناس عادة لا يتفحصون عن المحتاجين الواقعيين وإنما يتصدقون

ص: 397

على السائلين وخاصة الملحفين منهم -تخلصاً منهم عادة- وهؤلاء يحصلون على ما يحتاجون بل وزيادة عليه بسبب سؤالهم، فيبقى أولئك في ضنك وضيق، لذا حثّ اللَّه تعالى على الفحص عنهم والإنفاق عليهم .

فقوله «لِلْفُقَرَاءِ»متعلق بأمر مقدّر يدل عليه ما مضى من الآيات ، مثل : الإنفاق للفقراء، أو صدقاتكم لهم، أو اعمدوا في إنفاقكم لهم ونحو ذلك .

الثاني : قوله تعالى «الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ».

معنى الآية عام لكل نوع منع ناشيء عن سبيل الله، فيشمل من طرده أهله وصادروا أمواله لإيمانه كبعض أهل الصفة، وكذا من جرح في الجهاد فصار معوّقاً لا يتمكن من الكسب، وكذا من هاجر في سبيل اللَّه ثم لم يجد عملاً ولا رأس مال ليتكسب بهما، وكذا من حبس نفسه للأهم کذهابه إلى الجهاد أو للتفقه في الدين، وغير ذلك، سواء كان الإحصار بسبب الغير أو هو حصر نفسه في سبيل اللَّه تعالى، فلا وجه لتخصيص الآية ببعض هذه الموارد .

وأما ما في بعض التفاسير من تفسيرها بمن شغلته العبادة عن الكسب، فغير صحيح إذ تضافرت الأخبار بالنهي عن ترك الكسب للانشغال بالعبادة، فإن ذلك سبب صيرورته عالة على المجتمع، ولا خير في عبادة تورث فقراً وعالة وكلّاً على الناس، بل لا بد من إعطاء الروح نصيبها والجسم نصيبه، قال تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً »(1)، بل حتى لو كان للإنسان ما يستغني به

ص: 398


1- سورة البقرة، الآية: 201.

فلا ينبغي له ترك الكسب، وفي الحديث : أُغدُ إلى عزك(1)، وفي آخر لمن ترك الكسب استغناء بما عنده : إذاً لذهب ثُلثَا عقله(2)، إلّا إذا ران كانت الطاعة أهم كالجهاد في سبيله تعالى أو التفقه في الدين ونحوهما من الأمور المهمة.

وبذلك يتضح أن قوله «لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ »له مصاديق، فمنها : عدم القدرة والعجز للزمانة أو عدم رأس المال، ومنها : عدم الاستطاعة اختياراً لإلزام أنفسهم بما هو أهم، كقولك: لا أستطيع ترك والدي المريض، تعني أنك قد ألزمت نفسك خدمته .

الثالث : قوله تعالى«يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ»الآية .

أي الجاهل بحالهم وبفقرهم، وإنما عبر عنه ب(الجاهل) وهو صفة ذم باعتبار أن المؤمن كيّس فطن وله فراسة وتوسّم فلا يكون جاهلاً بحالهم، ولذا قابله بقوله «تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ». وقال سبحانه «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)»(3) أي الذين يعرفون الأشياء بعلائمها، و«السيماء» و«التوسم» من مادة واحدة، وهؤلاء لهم فراسة وفطنة، وفي الحديث : اتقوا فراسة المؤمن فإنَّه ينظر بنور الله(4)

وإنما يحسبهم الجاهل أغنياء لتعوّد الناس على سؤال الفقراء، فمن لم يسأل زعموه مستغنياً .

و(العفة) الكف عما لا ينبغي(5)، وعُرِّفت في الأخلاق : بأنَّها هي

ص: 399


1- الكافي: ج5، ص149.
2- تهذيب الأحكام: ج7، ص 4.
3- سورة الحجر، الآية: 75.
4- الكافي: ج1، ص218.
5- مقاييس اللغة: ص621.

الخوف عن الظهور بمظهر النقص، ولذا غلب استعمالها في الكف عن شهوات البطن والفرج، لأنَّها أساس غالب الرذائل، فالمعنى في هذه الآية أنَّهم يمنعون أنفسهم من السؤال لئلا يظهروا بمظهر الذل والنقص والهوان وقوله: «تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ»أي بعلائم الفقر، فهؤلاء يحاولون كتمان فقرهم بعدم السؤال، لكن بعض علائم الفقر غير اختيارية، كالبؤس في الوجه عکس «نظرة النعيم» في المتنعمين، وكالرثاثة في الملابس، ونحو ذلك

الرابع : قوله تعالى «لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا»

«الإلحاف» هو شدة الإلحاح، والمقصود: عدم السؤال أصلاً فلا يكون هناك إلحاف، من باب السالبة بانتفاء الموضوع، بقرينة قوله تعالى « يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» . فلو سألوا ولو لمرة واحدة لعرفهم الناس بالفقر، ولعلّ سبب هكذا تعبير هو أن من تعلّم السؤال لازمه الإلحاف أيضاً، إذ صون ماء الوجه سبب عدم الإقدام على السؤال وعلى عدم الإلحاف، فمن أراق ماء وجهه بالسؤال تهون عليه نفسه فلا يمانع عن الإلحاف، بل إيذاء المسؤول عنه، بل وشتمه إن لم يعطه شيئاً أو إعطاء دون ما يتوقع .

ثم لا يخفى أن السؤال عن حاجة ليس بحرام وخاصة السؤال من ذوي المروءات وكرام الناس، وقد يجب إن اضطر إليه أو توقفت عليه حياته، لكن كيفية السؤال لها دخل كبير في إخراجه عن المنقصة، كأن يطلب قرضاً، أو يطلب من حقه من الزكاة أو الخمس، أو يطلب من إمام المسلمين، أو من الكرام بطريقة لبقة .

وأما السؤال من غير حاجة فهو من المحرّمات كما دلّت عليه جملة

ص: 400

من الروايات، فعن الإمام الصادق عليه السلام ما من عبد يسأل من غير حاجة فيموت حتى يحوجه اللَّه إليها ويثبت اللَّه له بها النار(1).

بل السؤال من غير حاجة من أسباب الفقر، فعن الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم أنَّه قال: من فتح على نفسه باب مسألة فتح اللَّه عليه باب فقر(2)، وهذا مضافاً إلى كونه أمراً غيبياً، فإنَّه أيضاً أمر طبيعي فإن من تعلّم السؤال يتكاسل عن طلب الرزق والعمل وذلك يؤدي به إلى الفقر حقيقة.

الخامس: قوله تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. . . »الآية .

ابتدأت آيات الإنفاق بالترغيب إليه ببيان الثواب وختمت ببيان الثواب أيضاً، وذلك نهاية في الترغيب والتشويق إليه، والمعنى أن هؤلاء ينفقون في جميع الأزمان، ولا يؤخرون الإنفاق لأيِّ سبب، حتى نتى التأخير لوقت أفضل، فإن الحاجة قد تكون ماسة فالتعجيل خير من انتظار ظرف آخر، فهؤلاء كلّما نزلت بهم حاجة أو شعروا بها عجلوا قضاءها، وفي الأحاديث ترغيب إلى تعجيلها لتكون أهنأ وأبعد عن تسويلات الشيطان بتركها .

ومعنى هذه الآية عام وإن كان شأن نزولها في أمير المؤمنين الإمام علي علیه السلام ، كما روته الخاصة والعامة في مستفيض الروايات(3)، فإنَّه علیه السلام كانت له دراهم أربع أنفقها في الحالات الأربع، والمعنى ينفقون بالليل سواء كان سراً أم علانية، وينفقون في النهار كذلك سراً وعلانية .

ص: 401


1- الكافي: ج 4، ص19.
2- المصدر نفسه.
3- راجع البرهان: ج2، ص303 فما بعد.

الموضوع الثاني حول الربا

الآيات 275 - 277

«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)»«يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)»«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)»

كان ما مضى في الصدقة وهي إعطاء المال، ومن هذه الآيات يكون الكلام حول الربا وهو أخذ المال فقال تعالى :

275 - «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ » يأخذون «الرِّبَا »وهو استرجاع أو أخذ ما أعطوه مع زيادة «لَا يَقُومُونَ»في أمورهم باستواء واعتدال ، بل لا يكون قيامهم « إِلَّا كَمَا يَقُومُ » المصروع «الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ »و«الخبط الضرب بغير استواء«الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ » أي مس الجنون، فكما أن المصروع لا اتزان في حركاته ، كذلك لا اتّزان في حركات المرابي، حيث إن عمله خلاف الفطرة والعقل، فهو لا يسير

ص: 402

على الأسلوب الصحيح في الحياة، «ذَلِكَ » التخبط في المرابين «بِأَنَّهُمْ »أي بسبب ضلال في الفكر وقياس باطل حيث «قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا »فلو كان الربا حراماً لكان البيع مثله، لكن البيع حلال فالربا مثله ! حيث إنهما للاسترباح بالمال برضى الطرفين فما الفرق؟، لكن قولهم وقياسهم باطل «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ »لما فيه من الفوائد وقوام المعيشة «وَحَرَّمَ الرِّبَا»لما فيه من المضار وإبطال معيشة معطيه، « فَمَنْ جَاءَهُ » بلغه «مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ » بحرمة الربا «فَانْتَهَى» اتعظ واتبع النهي بأن كفّ عن الربا وتاب « فَلَهُ مَا سَلَفَ » لا يعاقب على ما مضى من أكله الربا «وَأَمْرُهُ» في العقوبة أو المغفرة وكذا في عدم الضمان « إِلَى اللَّهِ »لا إلى الناس، فلا حق لهم في مطالبته بما أخذه منهم بل الحكم الله، «وَمَنْ عَادَ»إلى الربا بعد بلوغ النهي إليه « فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ »ملازمون لها «هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ »فالربا يقتضي الخلود إلّا أن يغفر اللَّه له.

276 - هؤلاء يرابون لتزداد أموالهم ويمتنعون عن الصدقة خوفاً من نقصان أموالهم، لكن «يَمْحَقُ » يبطل «اللَّهُ الرِّبَا» فلا ينتفع المرابي بالزيادة بل تتحول إلى وبال عليه « وَيُرْبِي »ينمّي اللَّه «الصَّدَقَاتِ »، والأهم من المنفعة والضرر المادي هو رضا اللَّه وسخطه، فهو ساخط على المرابي «وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ»كثير الكفر يضم كفراً إلى كفر « أَثِيمٍ » متمادٍ في الإثم، والمرابي من هؤلاء فهو يكفر بالنعم كفراً عملياً قد يؤدي به إلى الكفر الاعتقادي ويأثم بفعل الربا .

ص: 403

277 - وأما المتصدق ف-«إِنَّ» اللَّه راضٍ عنه، لأنَّه من « الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ » خصّهما بالذكر مع أنَّهما من الصالحات لأهميتهما، فهؤلاء «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ »محفوظ عنده ولا يضيع وهو أجر عظيم يليق بكرم الله، «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ »من مكروه - متوقع كالفقر والعذاب - ،«وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »على ما فاتهم في الماضي .

بحوث

الأول: سياق الآيات هو بيان أن الربا يقابل الصدقة، فهناك بعض الناس يساعد الآخرين بإعطائهم المال بلا عوض تصدّقاً عليهم، وآخر يبتزّ الناس فيستغل حاجتهم فيأخذ منهم ولكن في صورة إعطاء - حيث يعطي المال ثم يسترجعه بزيادة -، وكلما كانت حاجتهم أكثر كانت الزيادة أكثر، أو إنها تتضاعف حين حدوث حاجة جديدة، كما في تأخير الأداء بزيادة إضافية، فجاءت الآيات لبيان أن الربا يضادّ الصدقة في كل شيء، فالصدقة خير وتوجب التآلف والتضامن الاجتماعي وتُنمي المجتمع وتسمو بالأخلاق وترفع الحاجات، عكس الربا الذي يوجب التنافر والاستغلال ويزيد في الرذائل ويزيد الحاجة بدلاً عن رفعها ونحو ذلك مما سنذكره في البحوث القادمة .

الثاني : يظهر من الآيات القرآنية أن تحريم الربا كان في مراحل .

ففي البداية بيان عدم إنمائه عند اللَّه حيث قال سبحانه «وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ

ص: 404

رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ »(1)

ثم تشريع تحريمه وبيان أنَّه كان محرماً في الشرائع السابقة أيضاً، قال تعالى«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »(2)، وقال حول اليهود «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ »(3).

ثم لما تهاون البعض فيه نزلت هذه الآيات تغليظاً للحرمة وتشديداً للعقوبة مع بيان بعض أحكام الربا والدَّين .

ولعلّ سبب ذلك التدرج هو أن الربا كان كالخمر مستشرياً في المجتمع الجاهلي بحيث لم يخل منه غالب الناس، فكان يصعب على الطرفين - المرابين وآخذي الربا - الاستغناء عنه، مضافاً إلى وجود أموال كثيرة في ذمة الناس يطالبون برباها مما يصعب عليهم إسقاطه .

الثالث : قوله تعالى« لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ...»الآية .

الظاهر أن هذا هو حالهم في الدنيا، وأما حالهم في الآخرة فالآية ساكتة عنها بل بيّنتها الروايات، فهذا التشبيه لأن المرابي زائغ عن الحق ينسجم مع نظام التكوين والتشريع، فأفعاله وإن كانت اختيارية لكنها تنشأ فكر منحرف وتصور باطل، فيتخبط في أعماله، فيكون شبيهاً بالمصروع الذي لا توازن في حركاته وسكناته، فالمرابي يمدّ عينيه إلى أموال الناس زيغاً، وكلامه كلّه يدور حول ما يتعلّق بالربا، وإذا أراد

ص: 405


1- سورة الروم، الآية: 39.
2- سورة آل عمران، الآية: 130.
3- سورة النساء، الآية: 161.

التوبة وترك الربا انجرف مرّة أخرى إليه فسقط فيها، کالمصروع الذي تدور عيناه ويخرج الزبد من فهمه ولا توازن لجسده فيسقط كلّما قام.

والحاصل أن وجه التشبيه هو أن المرابي خارج عن الصراط المستقيم، منحرف عن الأسلوب الصحيح في الحياة كالمصروع، فكان تشبيهاً لأمر معنوي بأمر مادي، وهو تشبيه بليغ يظهر بشاعة الربا بأوضح صورة، وبيان قبح المرابي، حيث إنه تشبيه للمرابي وليس تشبيهاً للربا ، وذلك زيادة في الاستبشاع، فقد يقال صدر قبیح عن إنسان معتدل، وقد يقال إن ذلك الإنسان بنفسه قبيح وهذا أبلغ في التصوير، فتأمل.

الرابع : قوله تعالى : « الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ » .

لا يخفى أن الأسباب كلّها هي بتقدير من اللَّه تعالى، فقد شاءت حكمته أن يخلق الكون في نظام متكامل متدرج، بأن يكون لكل شيء سبب أو أسباب، وقد تتوارد الأسباب المتعدّدة على شيء واحد، وقد تكون أسباب كثيرة طولية بأن يكون شيء مسبباً لشيء وهو سبب لشيء آخر، وبعض هذه الأسباب طبيعية، بمعنى كونها ضمن الانفعالات المادية يحسّها الإنسان بحواسه وتكون ضمن قدرته واختياره کعِلّية النارللإحراق والقتل للموت، وبعضها أسباب غيبية بمعنی عدم كونها مادية وعدم كونها ضمن محيط حواس الإنسان، وهذه هي الأسباب الحقيقية وهي مهيمنة على عالم المادة، فسبب الموت هو قبض الملك للروح بإذن اللَّه تعالى، والقتل إنما هو سبب ظاهري في طول هذا السبب الواقعي، وهكذا في كل الأسباب الطبيعية، قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا »(1)، فإمساکه تعالى هو السبب الحقيقي، والجاذبية

ص: 406


1- سورة فاطر، الآية: 41.

وسائر القوى الطبيعية أسباب ظاهرية، وقال سبحانه «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ»(1)، ف اللَّه يمسك الطيور عن الوقوع، لكن جعل أسباباً طبيعية ظاهرية كالريح والطاقة وكيفية خاصة في التصميم تتغلب على الجاذبية .

وهكذا التخبط من المس له أسباب ظاهرية قد يعرفها الأطباء لكن السبب الواقعي هو مس من الشيطان وهو إبليس وذريته أو المارد الخبيث من الجن، وكما أن تقدير قبض الروح يتزامن مع القتل مثلاًكذلك الشيطان يتزامن مع الأسباب الطبيعية .

سؤال: كيف أذن اللَّه للشيطان في إيذاء الإنسان، وهل هذا ينسجم مع العدل؟

الجواب : إن حكمة الامتحان والكد والعمل ونحوها كانت السبب في إمهال الشيطان ليُغوي، وإغواؤه أكثر ضرراً من إيذائه، فإن هذا ضرر في الجسم وذاك فيه خسران الدنيا والآخرة، وكما لم يمنع اللَّه الظالمين تكويناً من ظلمهم بالقتل والنهب والإضلال، وكما قدّر اللَّه تعالى الأمراض والأسقام والضراء والبأساء، وقدّر لها أسباباً، كذلك في مسّ الشيطان، فالجواب في كل هذه واحد .

وأما عدم سلطنة الشيطان على الإنسان كما قال « وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ »(2)فيراد السلطنة على الإغواء قهراً، فهو لا يستطيع أحد على الضلال وإنما غاية قدرته هي الإغواء بالدعوة إلى الشر، وأما سلطته على الضرر في الجسم أحياناً فذاك مما دلّ عليه جبر

ص: 407


1- سورة الملك، الآية: 19.
2- سورة إبراهيم، الآية: 22.

القرآن الكريم، قال تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ » (1).

الخامس : قوله تعالى « ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ...»الآية .

الظاهر أن « ذَلِكَ»إشارة إلى قوله « لَا يَقُومُونَ»، أي انحرافهم عن الاستواء في عملهم وعدم اهتدائهم إنما هو بسبب خلل في أفكارهم ومعتقداتهم، حيث يعتقدون بأن الربا كالبيع، فيه رضي الطرفينواسترباح لأحدهما!، وهذا منطق المرابين إلى يومنا هذا فيقولون البائع يعرض بضاعته للبيع مع زيادة في القيمة التي اشتراها بها والمشتري إنما هو محتاج إلى تلك البضاعة فيرضى بأخذها بزيادة، فكذلك الربا !

مع أن هذا قياس باطل، وذلك لأن الحاجة في البيع من الطرفين، فالبائع يحتاج إلى البيع بزيادة ليرتزق بها والمشتري يحتاج إلى البضاعة في معيشته، فصار تبادل احتياج باحتياج بلا استغلال من أحدهما للآخر، نعم لو تحوّل البيع إلى استغلال كما في الغش والاحتكار ونحوهما كان ممنوعاً، مضافاً إلى أن البيع هو طريق الرزق فكل بائع هو مشترٍ وكل مشتر هو بائع - عادة - وبذلك تدور الحياة ويرزق الناس بعضهم بعضاً .

وأما الربا فهو حاجة من طرف واحد- هو معطي الربا -يتمّ استغلالها من الطرف الآخر وهو المرابي، ثم الإمعان في الاستغلال بزيادة الأرباح كلّما عجز المقترض عن التسديد، مع ما يتضمن ذلك من سحق الكرامات وابتزاز المقترض وتهديده وسلبه سائر أمواله وعرضه، إلى آخر مساوي الربا .

ص: 408


1- سورة ص، الآية: 41.

والحاصل أن البيع هو أخذ شيء وإعطاء شيءٍ مقابله، والربا هو إعطاء شيءٍ، موقتاً ثم استرجاعه بنفسه مع أخذ زيادة فلم تكن هذه الزيادة في مقابل شيء حقيقي، وأما قولهم هي مقابل الزمان فهو أمر موهوم لا حقيقة له .

قال الوالد رضوان اللَّه عليه في التقريب : ويكفي أن نلمح إلى ضرر واحد هو أن معطي الربا إما ساقته الضرورة إلى الاقتراض كمرض أو نحوه مما أُلجأ للاقتراض برباء، فما أقبح أن يستغل الإنسان أخاه في مثل هذا الموقع مما يجدر به أن يساعده ويسعفه.

وإما اقترض للتجارة، وهذا لا يخلو من أحوال ثلاثة :

الأول: أن يخسر.

الثاني : أن لا يربح ولا يخسر، وما أقبح أن يأخذ صاحب المال زيادة بينما خسر العامل في الأول ولم يربح في الثاني.

والثالث: أن يربح، وقد قرر الإسلام المضاربة والاشتراك في المربح، فيما يجبر المقترض أن يدفع بمقدار خاص إلى المقرض، بينما قد ربح بمقداره وقد ربح أقل وقد ربح أكثر (1).

كما أن الربا يزيد حالة الجشع وضمور العواطف الإنسانية النبيلة، فعن الإمام الصادق عليه السلام : إنما حرم اللَّه الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف (2).

السادس : قوله تعالى «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا » .

هذا ردّ لقولهم بإنكار التسوية وإبطال القياس، ويكفي هذا الكلام في

ص: 409


1- تقريب القرآن: ج1، ص299 – 297.
2- الكافي: ج5،ص146.

ردّ المرابي إذا كان مسلماً فيقال له لا بد لك في أن تتعبّد بما أمرك ونهاك اللَّه تعالى .

وأما المرابي غير المسلم، فما هو فيه من الكفر والشرك أشد من ارتكاب موبقة الربا، فيمكن منعه بالقهر امتثالاً لأمر اللَّه تعالى، ويمكن أن يترك هو وشأنه إذا أخذ الربا من أهل مِلّته غير مجاهر به علی حسب قاعدة ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم، فحينئذٍ يقال له نحن المسلمون نمنعك من أخذ الربا من المسلم أو من المجاهرة بأخذه من أهل ملّتك لأنا ملتزمون بأمر اللَّه وهو تعالى قد حرّم الربا .

ويحتمل أن يكون المخاطب بهذه بالآيات المسلمين فقط بقرينة قوله «فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى »، فانتهى، حيث إن الانتهاء بعد الموعظة هي فعل المسلم، أما غير المسلم فلا ينتهي بالموعظة إلّا بعد إسلامه، إذ من غير المتعارف الالتزام بالفرع مع إنكار الأصل .

ويحتمل أن تكون الآية في مقام التعليل، باعتبار أن عامة الناس يؤمنون باللَّه تعالى - إلّا القليل من الملحدين - ويعترفون بحكمته وسلطته ، فما دام قد حرّم شيئاً وأحلّ شيئاً فلا يخلو ذلك عن حكمة، فتأمل .

ثم لا يخفى أن الربا قسمان: قرضي ومعاملي .

أما الربا في القرض : فهو أن يقرضه مالاً بأجل ليرجعه بزيادة، وهذا النوع هو غالب أقسام الربا، ومضارّه بيّنة واضحة .

وأما الربا في المعاملة : فهو تبديل الشيء بما يماثله مع زيادة سواء في النقد أم النسيئة، كأن يعطيه كيلو من حنطة بكيلو ونصف، فإن كان في النسيئة فهو أشبه بالربا القرضي وفيه مضارّه، وإن كان نقداً فيكون ذلك

ص: 410

عادة مع تفاوت البضاعتين في الجودة والرداءة، فيعطي كيلو من حنطة جيدة مقابل كيلو ونصف من حنطة رديئة - مثلاً -، وهذا يكون في المكيل والموزون دون المعدود، ولعلّ سبب تحريمه هو استغلال فقر الفقراء، فإنَّهم عادة يأخذون الرديء لكونه أرخص فيعطون محاصيلهم الجيدة ليأخذوا الرديئة بوزن أكثر لتطول استفادتهم منها، ولعلّ هذا يفتح باب غبن لهم واستغلال لفقرهم.

السابع : قوله تعالى «فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ...»الآية .

(الموعظة) هي الكلام الذي يرق له القلب، والمراد من بلغه حکم تحريم الربا، إذ أحكام اللَّه تعالى من مواعظه، (فانتهى) بأن تاب مما كان فيه، وذلك باتباع النهي والامتناع عن أكل الربا .

ثم إن الظاهر أن الآية بصدد بيان حكم الربا في الحالات الثلاث :

قبل الإسلام، وقبل تشريع تحريمه، وبعد تشريع حكمه .

1. أما قبل الإسلام وقبل تشريع تحريمه فحكمه هو: «فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ»، فالمال له، وأمر عقابه إلى اللَّه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، لكنه لرحمته ولطفه يغفر له، فكل من أكل الربا في الجاهلية أو في الإسلام قبل تحريمه فلا شيء عليه فلا يُطالب بالربا الذي أخذه، حتى وإن كانت عين المال موجودة، ولذا قال تعالى : «فَلَهُ مَا سَلَفَ » أي ما أخذه في الماضي من المال الربوي، فقوله «وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ» يراد به أمره من حيث العقاب والعفو، نظير قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ »(1)، فالمعنى لا يحق لأحد أن يعاقبهم علی رباهم في الجاهلية أو قبل تشريع حكمه، بأن يسترد منهم

ص: 411


1- سورة الأنعام، الآية: 159.

المال أو يُغرّمهم أو يطعن فيهم - مثلاً - بل الأمر إلى الله، وكان من أمره فيهم هو أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فلا يعاقب على ما ارتكبه في كفره ، كما لا يعاقب على ما فعله قبل التحريم .

2 - وأما بعد الإسلام والعلم بالحكم فقوله «وَمَنْ عَادَ . . . »الآية، حيث تضمنت الآية العقوبة باستحقاق الخلود في النار مقابل القسم الأول الذي أمره إلى الله، كما تضمنت حكم الربا - تكليفاً ووضعاً - مقابل القسم الأول الذي له ما سلف، فقال «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا » حيث يشمل المحق التشريعي وذلك بانتزاع الربا من المرابي وإرجاعه إلى صاحبه .

الثامن: قوله تعالى «وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ »الآية .

أي عاد إلى الربا بعد الاسلام وبعد تحريمه، فالمعنى فمن جاءه وعظة من ربه فلم ينته بل عاد إلى الربا الذي كان فيه قبل الإسلام وقبل التحريم، فهذا يستحق الخلود في النار، إلّا أن يلطف اللَّه به فيغفر له ذنبه كما قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ »(1) ففي التبيين : لا يخفى أن الخلود طبيعي أي ما تقتضيه طبيعة الربا فلا يكون علة تامة وإن نالته الشفاعة بسبب إسلامه وما أشبه(2) .

وبذلك يتضح أن لا وجه لما ذكرته المعتزلة من الاستدلال بهذه الآية على ما زعموه من خلود مرتكبي الكبائر في النار حتى وإن كانوا مؤمنين .

وكذا لا وجه لما ذكره جملة من المفسرين بأن المراد من استحلّ

ص: 412


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- تبيين القرآن: ص58.

الربا فأنكر ضرورياً من ضروريات الدين عامداً عالماً، وذلك كفر صريح يخلد صاحبه في النار.

وذلك لأن اللازم ملاحظة الآيات القرآنية كلّها عامّها وخاصّها، ناسخها ومنسوخها، محكمها ومتشابهها، وهذه الآية وإن دلت على خلود المرابي في النار إلّا أن الآية الأخرى دلت على أن اللَّه يغفر لمن يشاء إذا لم يكن مشركاً، وليس في هذه الآية دلالة على عوده مستحلاًّ، بل حتى لو كان مستحلًّا فإن ذلك لا يوجب كفره إلّا إذا رجع إلى تكذيب اللَّه تعالى أو رسوله صلی اللَّه علیه وآله ، هذا مضافاً إلى الروايات الكثيرة التي وردت في غفران الذنوب وفي الخالدين في النار، حيث دلت على أن من صحت عقيدته لا يخلد في النار وإن عوقب على ما ارتكبه من الكبائر .

فمقتضی مجموع الآيات والروايات أن بعض الذنوب - ومنها الربا - تكون مقتضية للخلود في النار إلّا أن يحدث مانع عن الخلود كغفرانه تعالى، فليتأمل.

التاسع : قوله تعالى «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا » .

(المحق) هو نقصان الشيء إلى حدّ هلاکه وبطلانه ، ومحقه تعالی للربا تشريعي وتكويني وغيبي.

1- أما التشريعي فبحكمه تعالی ببطلان الربا، وبقائه على ملك مالكه، وعدم ملك المرابي له.

2- ومحق تکویني طبيعي: لأن الربا من أهم أسباب الحروب والثورات، حيث يتكدس المال في جهة ويخلو من جيوب الفقراء، وذلك يسبب سخطهم وغضبهم، ويتراكم ذلك إلى أن يتحول إلى حروب

ص: 413

وثورات تبيد الأخضر واليابس وتحرق الأموال التي تكدست بسبب الربا ونحوه، بل قد تذهب بالأصل والربا معاً، بل قد يوجب الربا أزمات اقتصادية في الدول الفقيرة بحيث تعجز عن تسديد أصل المال فضلاً عن رباه -المعبر عنه بالأرباح -.

وإذا أردنا أن ننظر نظرة شاملة، فنقول: إن المحق يشمل آخذ الربا ومعطيه.

أ- أما المعطي فإنَّه يقترض لرفع حاجته، فإذا بالربا يزيده حاجة ، وذلك بتراكم الديون عليه، فكلما أراد التخلص من دين اضطر إلى أخذ قرض آخر بأرباح أكثر، وبمرور الزمان تتراكم عليه الديون وتزداد حاجة إلى حاجته، لذا المديون الذي يستدين بربا لا يستفيد من الربا في المدى المتوسط بل يذهب الربا بجميع ثرواته الحالية والمستقبلية.

وقد نشاهد في العصر الحاضر أن الدول التي تستدین بربا فإنَّها لا تخرج من فقرها بل يزيد أمثال هذه القروض من کاهلها ويجعلها مستعبدة للدول الدائنة والبنوك العالمية.

ب - وأما آخذ الربا فلا ينتفع بتلك الثروة لأنَّه تعلّم على تراكمها من غير استثمار لها في الإنماء، بل تكون ثرواتهم كالحبر على الورق فهي في البنوك أو في أيدي المقترضين، وقد شاهد الجميع كيفية حياة كثير من المرابين من المسكنة والفقر والتقتير على النفس، فلا يتمتعون بثرواتهم، مضافاً إلى أن كثيراً من المديونين لا يتمكنون من إرجاع القروض فيكون مصيرهم إلى المحاكم والسجون من غير رجوع المال إلى المرابي غالباً ، وحتى البنوك العالمية والدول الثرية فإن أخذها للربا وإن جرّ إليها نفعاً

ص: 414

موقتاً لكن ذلك بذرة سيئة للأزمات الاقتصادية وإفلاس البنوك وكذا الحروب التي تهلك الحرث والنسل .

3 - ومحق غيبي، بسلب البركة منه، وتحويله إلى عقاب في الآخرة، فيتحول ذلك الربا إلى علائم للذل والهوان في الآخرة، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال : قال رسول اللہ صلی اللَّه علیه وآله وسلم : لما أُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون الربا . . . الآية(1) .

فقد قيل إن لكل طاعة ومعصية علامة تناسب الفعل من حيث الظاهر والمحتوى يعرف بها أصحابها كما قال« سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ »(2)وقال «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ »(3)، وعلامة المرابي في الآخرة هو عظم البطن بما لا يقدر أن يقوم، ولعلّه ممتلئ ناراً كمن يأكل أموال اليتامى ظلماً .

العاشر: قوله تعالى (و اللَّه لا يحب كل كفار أنيم هذا حكم عام، والمرابي من مصاديقه، و(الكفّار) صيغة مبالغة يراد منه المقيم على الكفر والمصرّ على تحليل المحرمات، وقيل هو بمعنى ضم كفر إلى كفر فالمرابي يكفر بالتشريع ويكفر بنعمة الإسلام والتشريع والفطرة وبمكارم الأخلاق . . . إلخ .

ولا يخفى أن المراد الكفر العملي بمعنى أنَّه يعمل عمل الكفار وإن

ص: 415


1- البرهان: ج2، ص 305 عن تفسير القمي.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- سورة الرحمن، الآية: 41.

كان مسلماً في الظاهر، أو كفران النعمة - كما مرّ نظائره - قال تعالى : «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ »(1).

ويمكن أن يؤدي أكل الربا إلى الكفر باطناً بتكذيب آيات اللَّه تعالی كما قال : «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ »(2).

و(الأثيم) هو المتمادي في الإثم، المنهمك في ارتكابه ، وهكذا هو دأب المرابي الذي تكون كل حياته في معصية اللَّه تعالى، لأن أصل الربا من الكبار، ثم التصرف في المال الذي اكتسبه بالربا أيضاً حرام، وهكذا يكون طعامه وشرابه ونكاحه وملبسه و مسکنه وكل حياته من السحت فتحيط به خطيئته من كل جانب، والعياذ باللَّه .

ص: 416


1- سورة إبراهيم، الآية: 7.
2- سورة الروم، الآية: 10.
الآيات 278 - 281

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)»«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)»«وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)»«وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)».

بعد بيان حرمة الربا وآثاره، يأتي بيان حكم ما بقي منه وأحكامه، فقال تعالى :

278 - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » بألسنتهم «اتَّقُوا اللَّهَ»احفظوا أنفسكم من عقابه فخافوه « وَذَرُوا » اتركوا «مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا » مما کنتم تطلبون الناس في الجاهلية أو قبل النهي عنه «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » حقاً بقلوبكم، فإن امتثال الأمر والنهي دليل صدق إيمانكم.

279 - «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا » فلم تنقادوا إلى النهي وأخذتم البقايا ، کشف ذلك عن عدم إيمانكم قلباً «فَأْذَنُوا »اعلموا متيقنين «بِحَرْبٍ »عداوة «مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»وهذا تعظيم لهذه المعصية ، إذ الحرب هي غاية العداوة، « وَإِنْ تُبْتُمْ» من استحلال الربا ومطالبة بقاياه « فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ»أصولها دون الزيادة الربوية « لَا تَظْلِمُونَ »المديون

ص: 417

بأخذ الزيادة «وَلَا تُظْلَمُونَ » بتحريم أصل مالكم أو تنقيصه أو المطل فيه .

280 - «وَإِنْ كَانَ » في المديونين «ذُو عُسْرَةٍ » أي معسراً لا يتمكن من أداء الدين «فَنَظِرَةٌ »فانتظار، أي يجب إمهاله «إِلَى مَيْسَرَةٍ »حالة يسره فلا يجوز تأخير الأجل بزيادة، «وَأَنْ تَصَدَّقُوا» بإبراء ذمة المعسر « خَيْرٌ لَكُمْ» أكثر ثواباً « إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » الخير من الشر علماً نافعاً يؤدي إلى العمل.

281 - «وَاتَّقُوا يَوْمًا»تأهبوا لمصيركم إليه بالائتمار بالأوامر والانزجار عن النواهي « تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ» إلى حسابه فلا تأكلوا الربا ولا تضغطوا على المعسرين، وتصدّقوا« ثُمَّ » بعد الحساب «تُوَفَّى» تعطی کاملاً غير منقوص « كُلُّ نَفْسٍ » جزاء«مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» لا ينقصون حقوقهم ولا يزدادون عقاباً .

بحوث

الأول: بعد بيان أصل الربا، جائت هذه الآيات لبيان حكم ما بقي من ربا الجاهلية، فيشمل الحكم أيضاً غير المسلمين إذا دخلوا في الإسلام، أو من كان جاهلاً بحكم الربا ثم التفت إليه، وهنا جملة أحكام :

1 - سقوط ما بقي من الربا ، وأما ما أخذوه سابقاً فقد مرّ حكمه في قوله «فَلَهُ مَا سَلَفَ ».

ص: 418

2- عدم سقوط أصل المال، بل على المديون إرجاعه کاملاً غير منقوص .

3- لو كان المديون معسراً لا يتمكن من وفاء الدين فيجب إمهاله إلى يساره، مع كون الإبراء أفضل.

كما تتضمن الآيات أموراً أخرى، كالدعوة إلى تقوى الله، وأن العمل يكشف عن الإيمان القلبي، فالعاصي ضعيف الإيمان غير صادق في دعواه، وأن الاستمرار في أخذ الربا معاندة مع اللَّه ورسوله إلى حدّ إعلان الحرب، وأن القاعدة في الأموال هو أن لا يَظلم صاحبُ المال أحداً، ولا يظلمه أحد، وأن الاقتصاد في الإسلام مبني على مراعاة الجوانب الإنسانية، ونتيجة كل ذلك هو الجزاء في الآخرة إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

وهذا دأب القرآن الكريم، فهو ليس کتاب قانون مجرداً عن المبدأ والمعاد والأخلاق والنبل ، بل كل حكم فيه يربط الإنسان بمبدئه ومعاده وروعي في الحكم مصلحة الشخص والنوع، مع جعل الأخلاق روحاً في كل قانون، فهذه الآيات صدرت بالدعوة إلى التقوى «اتَّقُوا اللَّهَ»وختمت بالتحذير من الآخرة «وَاتَّقُوا يَوْمًا» .

الثاني: في الربا، يكون المشرِّع والمشرَّع له، ودائن ومديون، وأصل المال وزيادته، وثواب وعقاب .

1. أما المشرِّع فهو اللَّه تعالى، والرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم يبلغ ذلك التشريع، فعلى الناس الامتثال، فالعصيان هو إعلان لأشدّ أنواع العداوة وهي الحرب.

ص: 419

2- وأما الدائن : فإنّ التائب من الربا لا يَظلم ولا يُظلم، والعاصي معلن للحرب، وحربه خاسرة لأنَّه الضعيف المطلق الذي يريد مقابلة القوي الذي لا حدّ لقوته.

3- وأما المديون فإن كان موسراً فلا بد من إرجاعه لرأس المال كما قال «فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ » ، وإن كان معسراً فلا بد من انتظار يساره أو الصدقة عليه.

4 . وأما الجزاء، فمحو ذنب التائب وإعطاؤه حقوقه، وأما العاصي فإعلان الحرب عليه وقد يكون من ضمنه قتله في بعض الصور .

ثم في الآخرة الثواب أو العقاب.

الثالث: قوله تعالى: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ».

هذا تغليظ للحرمة وتشديد لها إلى أقصى درجة، فليس فوق حربهما شيء، كما أن هذه الحرب تتضمن عقوبة المرابي بالقتل، كما في الروايات أن المرابي يؤدّب مرتين فإن تمادى في غيّه قتل في المرة الثالثة ، وهذه عقوبة رادعة، لأن بعض النفوس لا يفيدها الوعظ والإرشاد فلا بد من وجود عقوبات مادية ، وخير العقوبات ما حسم مادة الفساد.

وتنقسم العقوبات على أقسام: منها الإيذاء الجسدي بالضرب والجرح، ومنها الغرامة المادية، ومنها الحبس.

1- وخير العقوبات هو الأول، نظراً إلى كونه رادعاً مع عدم وجود كلفة اقتصادية ولا اجتماعية إلى الدولة، مع مراعاة حقوق الجاني أیضاً ، فالزاني يجلد لدقائق يشعر فيها بالألم الشديد ثم يطلق سراحه ليرجع إلى

ص: 420

أهله وعمله، فيكون ذلك الألم مقابل تلك اللذة غير المشروعة، وهذا يكفي لردعه في المستقبل عن ارتكاب الجريمة مرّة أخرى.

2. وأما الغرامة المالية فلا تكون رادعاً للأثرياء المترفين، ولذا كان غالب مواردها في القضايا المالية أو تعويضاً للمتضرّر، فهي ليست عقوبة اللجاني، ولذا في بعض المخالفات تكون غرامة مع تعزير، فالغرامة التعويض المتضرر والتعزير عقوبة للجاني.

3. وأما الحبس فهو لا ينسجم عادة مع الجرائم، وفيه عادة تضييع حقوق الجاني بمنعه من الكسب، وهو مظنة ضياع أهله، ولذا لما شُرّع حبس الزانيات في البداية تمّ نسخه بالجلد وهو السبيل الذي جعله اللَّه

الهن، قال سبحانه «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا »(1)، ثم قال تعالى «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ »(2).

فتبيّن أن «الحرب من اللَّه ورسوله» تهويل وتشديد للمعصية أولاً، وبيان غلظة عقوبتها الدنيوية ثانياً، وليس المراد الحرب التكويني فإن ذاك من اللَّه لا من الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم وقيل : ضم الرسول إلى اللَّه مع أن الحرب هي مع اللَّه تعالى، لأن الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم و هو المنفذ لما أراده اللَّه تعالى، مع أن ذكره أوقع في نفوسهم لأنَّهم يأمنون مكر اللَّه لعدم إيمانهم أو ضعفه، لكن يشاهدون قوة الرسول وشدّته في تنفيذ أحكام الشرع.

ص: 421


1- سورة النساء، الآية: 15.
2- سورة النور، الآية: 2.

الرابع : قوله تعالی «وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ».

(التوبة) بمعنى الرجوع، والمقصود رجوعهم إلى اللَّه تعالى بالالتزام بأوامره ونواهيه، وذلك بعدم أخذ ما بقي من الربا، وهذه التوبة مقابل الحرب من اللَّه ورسوله، فأخذه حرب، وترکه توبة، ونتيجة هذه التوبة هو أن لا يظلموا أحداً ولا يظلمهم أحد، وهو العدل الذي يبغيه الإنسان بفطرته ، عكس أخذ بقايا الربا فإن المال إلى كلا الأمرين، فالمرابي يظلم نفسه بحرمانها من رحمة اللَّه واستحقاقها العذاب، ويظلم المديون بابتزاز أمواله، ويظلم المجتمع لما في الربا من آثار مخرّبة عليه، ونتيجة هذه المظالم هي انعكاس الظلم على المرابي نفسه، فالمجتمع الذي يبتني على هضم الحقوق وابتزاز الأموال يعمّ فيه الظلم حتى إنه يشمل الظالمين أنفسهم، كما قيل : وما ظالم إلّا سیُبلی بأظلم.

ولا يخفى عدم المفهوم للآية، فليس معناها إن لم تتوبوا فليست لكم رؤوس الأموال، كما زعم البعض بأنَّها تكون فيئاً للمسلمين، بل المقصود هو الترغيب إلى التوبة وبيان خصوصيتها كما يقال : «إن جاء زید فأكرمه» فليس له مفهوم إن لم يجيء فلا تكرمه، بل المقصود بیان خصوصية المجيء، وأنَّه أدعى للإكرام لأنَّه ضيف. وقد ذكروا في أصول الفقه أن الشرط إنما يكون له مفهوم لو كان علة منحصرة، أما لو لم يكن عِلة أو لم يكن عِلة منحصرة فلا مفهوم له.

الخامس : قوله تعالى: «وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ».

بعد منع ما بقي من الربا وبيان أن الدائن له رأس ماله يسترجعه من المديون من غير ظلم لأيِّ منهما، يتم بيان أن المديون إذا كان معسراً فلا يحق للدائن الضغط عليه ، فكما سقط باقي الربا كذلك يسقط التعجيل في

ص: 422

استرداد أصل المال، بل عليه الانتظار إلى حين تمكن المديون من تسديد دينه .

و(كان) هنا تامة أي إن وجد معسر، أو هي ناقصة مع تقدير خبرها أي إن كان في المديونين ذو عسرة، أو إن كان ذو عسرة مديوناً لكم، ونحو ذلك.

و (العُسرة) ضيق وشدّة، بمعنى صعوبة تسديد الدين لقلة موارده المالية، وحدّدها اشرع بأن لا تفيض أمواله عن نفقته ونفقة عياله، فعن الإمام الصادق عليه السلام : «إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الاقتصاد»(1). ولذا يستثنى من أمواله بيته ومركبه وخادمه وضروريات حياته، فلا يجوز أخذها في الدين .

والدائن عليه أحد أمور:

1- إما الانتظار إلى حين يسار المديون.

2 - وإما رفع أمره إلى حاكم الشرع، فيسدّد الدين إن كان عنده شيء من الزكاة من سهم الغارمين - المديونين - الذي هو أحد مصارف الزكاة بشرط أن لا يكون المديون صرف ما استدانه في معصية اللَّه تعالی.

وإلا خير الحاكم الديّان بين الانتظار أو إعلان إفلاس المديون بأن يقسّم بينهم أمواله - غير المستثنیات - وبذلك يسقط باقي الدين وتبرأ ذمة المديون نهائياً .

3 - إبراء ذمة المديون واعتبار ذلك صدقة ، سواء من الصدقات

ص: 423


1- مجمع البيان، ج 2، ص 320.

المستحبة، أو من الصدقات الواجبة ، فيجوز احتساب ما في ذمته من الزكاة أو الخمس ونحوهما بالشروط المقررة في الفقه.

فقوله «فَنَظِرَةٌ » أي الواجب نظرة بمعنى الانتظار والإمهال .

و(ميسرة) بمعنى يسار المديون، إما بأن يكسب المال، أو بأن يدفعه الحاكم الشرعي، ولذا لم تحدد الآية سبب اليسار ولم تذكر يسار المديون بل صرّحت بالميسرة وهي حصول اليسار سواء من المديون أو ممن يسدد دينه -.

السادس : قوله تعالى«وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ » .

أي تتصدقوا بذلك المال على المديون بإبراء ذمته، «خَيْرٌ » إما أفعل التفضيل فيكون أحسن وأفضل من النظرة، وإما صفة مشبهة فالمعنى أن الإبراء أیضاً خير كما كان الانتظار خيراً، والأول أظهر فيكون المعنى أن الإبراء أكثر ثواباً في الدنيا بالمحبة والبركة وفي الآخرة بتضاعف الأجر، فتكونون قد بدّلتم الربا الممحوق بالصدقة الرابية - كما قيل - .

ص: 424

الموضوع الثالث حول الدين

الآيات 282-283
اشارة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)»«وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)» .

بعد ذكر إعطاء المال بالإنفاق، وعدم ابتزاز أموال الناس بالربا ،

ص: 425

يأتي بيان طريقة حفظ الأموال في ضمن حدود عشرين حكماً، فقال تعالى:

282 - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » الخطاب لهم لأنَّهم المنتفعون بهدي القرآن «إِذَا تَدَايَنْتُمْ»تعاملتم بمعاملة فيها دَين، كالنسيئة والسلف والقرض ونحوها « بِدَيْنٍ » سواء كنتم معطين أم آخذين«إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى » وقت مذکور فلا تصح المعاملة مع جهالة الأجل.

(1) «فَاكْتُبُوهُ » اكتبوا الدَّين كيلا يحصل نسيان أو جحود أو خلاف.

(2) «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ »باستقامة واستواء ، فلا يزيد ولا ينقص في الدين أو الوصف أو الأجل، مراعياً عدم الإجمال والإبهام.

(3) «وَلَا يَأْبَ » لا يمتنع «كَاتِبٌ»سواء كان من المتعاملين أم من غيرهما « أَنْ يَكْتُبَ »وثيقة الدين «كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ » بمراعاة أحكامه تعالی وعدم الظلم والبخس .

(4)«فَلْيَكْتُبْ» هذا الكاتب، وإنما كرّر الأمر بالكتابة للتمهيد إلى الحكم التالي.

(5) « وَلْيُمْلِلِ»بمعنى الإملاء أي يذكر مقدار الدين « الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» أي المديون، حتى يكون إقراراً وليكون حجة عليه، إذ إملاء الدائن ليس حجة على المديون فإنَّه ادعاء منه لنفسه، عکس المديون حيث إن إملاءه إقرار على نفسه .

ص: 426

(6) « وَلْيَتَّقِ » الكاتب «اللَّهَ رَبَّهُ» كما رباه وعلّمه الكتابة والأحكام، فعليه أن يتقيه « وَلَا يَبْخَسْ» لا ينقص ظلماً « مِنْهُ »من الحق«شَيْئًا ».

(7) «فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» المديون « سَفِيهًا »سفهاً مالياً بمعنی جهله بأمور المعاملة «أَوْ ضَعِيفًا » أبله قليل العقل «أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ» لخرس أو انشغال أو كبر أو صغر ونحو ذلك « فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ» أي القائم بأمره « بِالْعَدْلِ» باستقامة لا يزيد ولا ينقص، فيراعي مصلحة المولى عليه لا مصلحة نفسه .

(8) « وَاسْتَشْهِدُوا » إضافة إلى الكتابة اطلبوا «شَهِيدَيْنِ »يوقعان على الكتاب ويتحملان الشهادة«مِنْ رِجَالِكُمْ » لا من الكفار ولا من الأطفال ولا من النساء.

(9) «فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ» الشاهدان ورجلينه لعدم حضورهما أو لعدم إرادتكم ذلك« فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ» بأن يكونوا عدول ثقات، وإنما اشترط المرأتان لأجل التذكير حین الخطأ، فلإرادة« أَنْ تَضِلَّ » بمعنى الخطأ أو النسيان «إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا » المتذكرة «الْأُخْرَى » الناسية، حيث إن بُعد النساء عن أمور المعاملة وانشغالهم بأمور المنزل يجعلهن أكثر عرضة للخطأ والنسيان في أمور المعاملات من الرجال، كما أنَّهن أحفظ لأمور المنزل من الرجال.

(10) «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا »لتحمل الشهادة ثم لأدائها .

ص: 427

(11) «وَلَا تَسْأَمُوا»ضجراً ومللاً « أَنْ تَكْتُبُوهُ» أي الدَّين، سواء كان الدين « صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا »فقد يتهاون الناس في كتابة الديون القليلة، أو إذا كثرت الديون والمعاملات کتبوا المهم وتركوا الصغير «إِلَى أَجَلِهِ »أي مع أجله فلا تهملوا ذكر الأجل لكثرة حصول الخلاف فيه.

«ذَلِكُمْ»الكتابة، أو كل ما مضى من الكتابة والإشهاد فيه فوائد ثلاث:

أ- « أَقْسَطُ »أي أقرب إلى العدل «عِنْدَ اللَّهِ» في حكمه، حيث إن الكتابة تمنع أكل المال بالباطل، وتحفظ حقوق الناس، فهي تمنع عن مجموعة من المعاصي.

ب-«وَأَقْوَمُ»أثبت وأحفظ « لِلشَّهَادَةِ» فلا تدع مجالاً للشهود في الكذب أو الجحود، كما تقوم مقام الشهادة حال غياب الشهود أو موتهم أو نسيانهم.

ج-« وَأَدْنَى» أقرب إلى « أَلَّا تَرْتَابُوا » في أصل الدين أو مقداره أو أجله، فقد يضطر المؤمن لأن يعطي أكثر أو يأخذ أقل أو يبرئ ذمة الآخر حينما يشك في أصل الدين أو تفاصيله ، فلئلّا يقع في أكل المال بالباطل يتنازل عن حقه الواقعي، فكان عدم الكتابة مظنة ضياع الحق.

(12)«إِلَّا أَنْ تَكُونَ » المعاملة «تِجَارَةً حَاضِرَةً » نقداً بلا دین «تُدِيرُونَهَا»تنقلونها يداً بيد « بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ »غضاضة

ص: 428

وكراهة «أَلَّا تَكْتُبُوهَا » لعدم حصول تنازع عادة في ذلك ولا هضم للحق.

(13) «وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ »في التجارة الحاضرة، فلا جناح في عدم الكتابة لكنه ينبغي الإشهاد، ولعلّه منصرف إلى التبايع في الأمور الجليلة دون محقراتها.

(14)«وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ» بأن يضرّهم المتعاملان وغيرهم بإحراجهم أو لمزهم أو تكليفهم بما يشق عليهم.

(15) « وَإِنْ تَفْعَلُوا » المضارّة «فَإِنَّهُ فُسُوقٌ » خروج عن طاعة اللَّه «بِكُمْ » أي تابع ولاحق لكم.

«وَاتَّقُوا اللَّهَ» في أحكامه، « وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ»ما ينفعكم لدنياكم وآخرتكم، « وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» فلا تخالفوه فإنَّه يراكم ويعلم بجميع تصرفاتكم.

283 - ثم بیَّن اللَّه تعالى حالة عدم وجود الكاتب أو عدم إرادة الكتابة ، فقال سبحانه :

(16) «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ»وتخصيصه بالذكر لأنَّه مظنة عدم وجود الكاتب« وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ »جمع رهن أي وثيقة.

(17) «مَقْبُوضَةٌ»لأنَّه لا يحصل التوثيق إلّا بالقبض، فلا يصح الرهن إلّا به.

(18) « فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا »فلم يكتب ولم يستشهد ولم يأخذ

ص: 429

الرهن«فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ»المديون«أَمَانَتَهُ» فلا ينكر ولا يمطل« وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» عقوبته تعالى على الجحود أو البخس.

(19) « وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ» بعدم إعلانها بما يستلزم ضياع الحقوق « وَمَنْ يَكْتُمْهَا»مع علمه بالمشهود به وتمكنه من أدائها « فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » لأن القلب محل الكتمان «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ»فيجازيكم عليه .

بحوث

الأول: محور البحث في هاتين الآيتين هو الكتابة في المعاملات، وكل الأحكام تدور حول هذا المحور، وأركان الأحكام ثلاثة :

1- المعاملة التي فيها دَين، كالنسيئة والسلم والقرض وأمثالها، فالتوثيق يكون بالكتابة وبالشهود.

2 - المعاملة الحاضرة النقدية ، فلا حاجة إلى الكتابة لأن كل طرف يأخذ حقه فوراً، ولكن الأولى الإشهاد لئلا يقع النزاع في الأمور الجليلة دون المعاملات على الأمور الصغيرة.

3- في صورة عدم توثيق المعاملة التي فيها دین بالكتابة ، بل صاحب الحق استأمن صاحبه، فلا بد من تقوى اللَّه تعالى وأداء الحق، مكافأة على ثقة صاحب الحق بصاحبه المديون.

ومراعاة هذه الأحكام توجب حفظ الأموال من الضياع، ومنع

ص: 430

حدوث النزاع من أصله، وإن حصل تنازع کان الوصول إلى الحق سهلاً ، فلا يُتوی حق أحد.

ومن ذلك يتبيّن أن غالب الأحكام المذكورة إنما هي أحكام إرشادية لا مولوية، فإن الحكم ينقسم إليهما:

أما المولوي: فهو الحكم الذي تجب إطاعته ويستحق المخالف العقاب ، كأوامر العبادات ونحوها.

وأما الإرشادي، فهو الذي كان الغرض منه بيان الفائدة المادية للإنسان بمعنى أنَّه لو التزم استفاد مادياً وإن خالف تضرر مادياً ، ولذا لا تجب إطاعته ، كأوامر الطبيب في الأمراض الطفيفة مثلاً.

وأحكام هاتين الآيتين تصبّ في اتجاه بیان فائدة الكتابة بحيث إن راعاها المتعاملان لا تضيع حقوقهما المادية، وإن لم يراعياها عرّضا حقوقهما المادية إلى التلف، فتأمل.

الثاني : قوله تعالى «إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» .

(التداين) بمعنی داین بعضكم بعضاً، فالمقصود معاملة فيها دین، واستعمال باب التفاعل - وهو بمعنی کون الفعل بين الطرفين - باعتبار أن الدين من الطرفين أحدهما أخذاً والآخر إعطاءً، فأحدهما يسلّم بضاعته أو نقوده نقداً والآخر يؤجّل، أما إذا كان التأجيل من الطرفين فهو معاملة الكالي بالكالي وهي معاملة باطلة.

وقوله « إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى» يُشعر بأنَّه لا بد من تحديد المدة في الديون، فلا تصح معاملة فيها جهالة من حيث المدة، وإن لم تذكر المدّة كانت نقداً .

ص: 431

وقوله «بِدَيْنٍ »إما تأكيد، أو لدفع توهم أن يكون التداین بمعنی المجازاة، أو للتعميم بمعني بأيِّ دين كان، ولذا جاء به منكراً، ويقابل التداين التجارة الحاضرة، وذكر حكمها في آخر الآية.

وقوله «فَاكْتُبُوهُ» لا يدل على الوجوب لكونه إرشادياً كما مرّ، ولدلالة قوله «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا»على الاستحباب.

الثالث : قوله تعالى «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ».

(العدل) هو الاستقامة والاستواء، فالمقصود أن لا ينقص ولا يزيد الكاتب شيئاً، وأن يكون عارفاً بالكتابة حتى لا تكون كتابته بإجمال أو إبهام مما يكون منفذاً للإرتياب والإختلاف، وقيل : وأن يكون عارفاً بأحكام المعاملات فقيهاً فيها ! لكن الظاهر عدم دلالة الآية على ذلك، بل المتعاملان يلزم أن يتعاملا بالطريقة المشروعة وليكتب الكاتب كما تعاملا بلا نقص أو زيادة، فإن تقويم المتعاملين ليست مهمة الكاتب بما هو كاتب، ويقابل الكاتب بالعدل الكاتب بغير العدل وسيأتي ذكره في قوله «فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ» .

الرابع : قوله تعالى «وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ».

في البداية أمر تعالى بالكتابة بالعدل ثم نهى عن الكتابة بغير العدل ، والجمع بين الأمر بالشيء والنهي عن ضده أدعى للامتثال وإن كانت حقيقة الحكم واحدة .

وقيل : هو حكم آخر، وهو النهي عن ردّ الدعوة إلى الكتابة، فلا يبخل العارف بالكتابة من خدمة الآخرين بها، فكما أنعم اللَّه عليه بأن علّمه الكتابة -وذلك بجعل القابلية في الإنسان وتهيئة الظرف لتعلمها -

ص: 432

كذلك عليه أن يشكر هذه النعمة بقضاء حوائج الناس بها، فلكل نعمة شكر خاص بها، نظير قوله تعالی «وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ »(1).

وقوله (كاتب) بالتنكير بمعنى أيّ كاتب کان سواء من المتعاملين أم من غيرهما .

الخامس : قوله تعالى-«وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» .

الإملال والإملاء بمعنى واحد، فالمعنى أن يلقي الكلام إليه ليكتبه ، وقوله « الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ»أي المديون، وإنما خص الإملاء به لكي يكون إقراراً على نفسه أیضاً ليكون حجة عليه مضافاً إلى ما سيأتي من الشهود، وإلا فإملاء الدائن وإقراره ليس بحجة لأنَّه إقرار لصالح نفسه.

قيل : لئلا تكتب زيادة، لأن المديون لا يزيد في الدين الذي عليه، لكن هذا منقوض بأن الدائن لا ينقص من حقه، فالصحيح هو ما ذكرناه من ضمّ الإقرار إلى الشهود.

السادس: قوله تعالى«وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا » .

فاعل (ليتق) إما المديون الذي عليه الحق، لأنَّه هو الذي له المصلحة في البخس، كما أنَّه أقرب إلى الضمير، وإما الكاتب فيكون تأكيدا لقوله « يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ » ، وهذا الاحتمال أولى بقرينة قوله «رَبَّهُ» اي مربّيه الذي علّمه الكتابة فليقابل نعمته بالشكر بأن لا يخرج عن طاعته تعالى، وبخس الكاتب كما يكون في النقيصة بأن يكتب الدين أقلّ، كذلك يكون في الزيادة لأنَّه نقصان لحق المديون بأخذ الزيادة منه فتأمل .

ص: 433


1- سورة القصص، الآية: 77.

السابع : قوله تعالى«فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ ...»الآية.

(السفيه) في المعاملات هو الذي لا يراعي الميزان المتعارف في المعاملات العقلائية، كمن يشتري الدرهم بأضعافه، ففي عقله المعاملي خلل، وهذا يحجر عليه فلا يتعامل معه إلّا بوليٍّ

و(الضعيف) هو الأبله القليل العقل في كل أموره، وهذا أیضاً يحجر عليه، وهذين المعنيين هو المستفاد من الروايات(1).

و(الذي لا يستطيع أن يمل) العاجز لكبر أو خرس ونحوها، أو المشغول والغائب وأمثالهما .

وقوله « لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ »قيل : إضافة الضمير الظاهر - مع إمكان الاستغناء عنه بالضمير المستتر -، لبيان الفرق بينه وبين السفيه والضعيف، لأنَّهما محجور عليهما لا شأن لهما بالمعاملة بل وليهما هو الذي يجري المعاملة عنهما بالاستقلال مع مراعاة المصلحة، لكن الذي لا يستطيع أن يملّ مستقل في المعاملة لعدم كونه محجوراً عليه، لكن العجزه عن الإملاء يوکّل شخصاً آخر فيه، ففائدة الضمير التشريك بمعنی أنَّه لا يستطيع الإملاء بنفسه لكنه يتمكن منه بمعونة آخر، عکس الأولين حيث لا دخل لهما لا في أصل المعاملة ولا في إملائها .

الثامن : قوله تعالى«وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ... »الآية .

هذا في تحمّل الشهادة، أي اطلبوا شاهدين ليتحملوا الشهادة، وذلك بحضورهما المعاملة ورؤيتهما وسماعهما لها ، وكذا للتوقيع على الكتاب .

ص: 434


1- راجع تفسير الصافي: ج 1، ص 480 عن التهذيب

وقوله «مِنْ رِجَالِكُمْ»يدل على اشتراط الذكورة والإسلام والبلوغ في الشاهدين، ولا دلالة له على اشتراط الحرية، فيجوز تحمّل العبد للشهادة ثم أداؤها إذا لم يكن مانعاً عن حقوق سيده أو كان بإذنه .

كما يدل على اشتراط الوثاقة والعدالة قوله تعالى «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ » ، إذ غير الثقة لا يرضى به أحد، والفاسق لا يرضى به المؤمنون وهم المخاطبون بهذه الآية ولا يخفى أن الناس عادة يرضون بالثقة في كلامه الصادق عليه السلام فيما يقول وإن لم يكن ملتزماً في أموره الأخرى، لكن الشرع أضاف العدالة- بمعنی الالتزام بتعاليم الشرع الكاشف عن ملكة نفسانية تردعه عن المخالفة -إعزازاً للعدول وغلقاً لباب الفسق والفجور، ولذا ضيّق على الفسقة في جملة من الأحكام، ومنها ردّ شهادته حتى لو كان ثقة في قوله.

ولا يخفى أن هذه الآية بضميمة الروايات تدل على أن ثبوت الحقوق المالية بالطرق التالية - والتفصيل موكول إلى الفقه -:

1- شهادة رجلين عدلين.

2- شهادة رجل وامرأتين من العدول.

3- شهادة رجل واحد مع اليمين - بمعنی حلف المدعي -(1).

التاسع : قوله تعالى «»الآية .

هذا تعليل لكون شهادة المرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وحاصله : أن النساء بعيدات عن المعاملات مشغولات بأمور أخرى عنها، والرجال هم الذين يزاولون المعاملات والتجارات ونحوها، وكلّما قلّ ارتباط

ص: 435


1- راجع الكافي: ج 7، ص416.

إنسان بشيء قلّ ضبطه له وكثر خطؤه فيه ، نعم الأمور المرتبطة بالنساء كالحمل والعذرة ونحوها تقبل فيها شهادة النساء منفردات لارتباط الأمر به ومعرفتهن بها.

ولذا اشترط الشرع انضمام امرأة إلى أخرى، فالشهادة من كليهما معا فإن أخطأت إحداهما ذكرتها الأخرى.

وقوله تعالى :« إِحْدَاهُمَا » : في المناهج: فكلمة إحداهما الأولى فاعل «تَضِلَّ»، وإحداهما الثانية فاعل «فَتُذَكِّرَ » فلا تكرار في المقام، وسرّ الإتيان بالاسم الظاهر وعدم الاكتفاء بالضمیر - بأن يقول : وتذكرها الأخرى - هو أن يكون صريحاً في المقصود، وهو تقوم إحدى الشهادتين بالأخرى، ولو بدّلنا الظاهر مضمراً لأوهم أن شهادة الواحدة كافية في الحكم إلّا أنَّها تحتاج إلى المرأة الثانية لتكون مذكرة للأولى حين نسيت الشهادة وغفلت عنها(1).

وقيل : لاختلاف معناهما فإحداهما الأولى لا على التعيين، والثانية هي إحداهما بعد ضلال الأخرى.

لكن هذا ليس سبباً وجيهاً وذلك لفصاحة الاستخدام - بإرادة معنی من اللفظ، وإرادة معنى آخر من ضميره .

التاسع : قوله تعالى «وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ ...»الآية.

(السأم) هو الملالة مما يكثر لبثه(2)، فلعلّ المقصود هو الضجر من الكتابة لكثرة المدائنات، أو لطول الكتاب فقد تكون معاملة مفصلة

ص: 436


1- مناهج البيان: ج 3، ص 112 - بتصرف .
2- المفردات ص438.

تستدعي كتاباً طويلاً، أو باعتبار أن السوم كان طويلاً حتى حصول الاتفاق على المداينة فيريد كل واحد منهما التخلّص بسرعة فيضجر عن الكتابة ، كما يقع ذلك كثيراً في الأمور التي تستغرق وقتاً طويلاً حيث يحصل الملل والكسل في آخره، لكن هذا الكسل عن الثبت بالكتابة قد يؤدي إلى نزاع وخلاف وضجر أكبر فالأولى دفع ذلك الضرر بعدم السام في الكتابة حين التداین.

وقوله «صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ». إما حال من الدين، أي اكتبوا الدين سواء كان قليلاً أم كثيراً، فالصغر والكبر باعتبار حجمه ومقداره، أو حال من الكتاب، أي سواء كان الكتاب طويلاً أم قصيراً، فالصغر والكبرباعتبار مساحة الورق أو مقدار الكلمات والخطوط.

وإنما قدّم الصغير لأن السام فيه والتهاون عنه أكثر، مع أن الخلافات والتنازع في الديون الصغيرة ليست قليلة، وقد تُترك فتُنسى لصغرها فيؤدي ذلك إلى انشغال الذمة بحقوق الناس والعذاب في الآخرة .

وقوله «إِلَى أَجَلِهِ» الظاهر أن « إِلَى » هنا بمعنی (مع)، كقوله تعالی «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ »(1) أي معها، فالمعنى اكتبوا الدين مع أجله، وإنما خص الأجل بالذكر لأنَّه قوام الدین به ولكثرة التنازع فيه ، وقيل : هو تنبيه إلى أن الكتابة تبقى إلى الأجل فتنفع، عکس الشاهد فقد يموت أو يغيب أو ينسى أو يجحد ونحو ذلك.

العاشر : قوله تعالی « ذَلِكُمْ أَقْسَطُ...» الآية .

هذا المقطع بيان لفوائد الكتابة، كدأب القرآن من ذكر عِلل الأحكام

ص: 437


1- سورة المائدة، الآية: 6.

وحكمتها، لتكون أوقع في النفوس وأدعى إلى العمل بها والتزامها، والفوائد هي:

1- في الكتابة حفظ حدود اللَّه تعالى، حيث تمنع من أكل المال بالباطل، كما تمنع من حدوث الخلاف والتنازع وما يستتبعانه من بعض المحرمات أحياناً كالكذب والجحود والتساب والقطيعة... إلخ، مما يؤدي إلى مفاسد اجتماعية كثيرة، أهونها انشغال الناس بالترافع والتنازع عن السعي لمعاشهم ومعادهم، ولذا قال «ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ».

2- في الكتابة حفظ للشهادة أیضاً ، لأن الشاهد إذا علم بها يرتدع عن الكذب لئلا يفتضح، وكذا قد ينسى فتكون الكتابة عاملاً مهماً في تذکره، بل تقوم مقام الشهادة في حال موت الشهود أو غيبتهم أو عدم تذكرهم ونحو ذلك فقال تعالى «وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ».

3- قد يحصل ارتياب من الدائن أو المدين، والريب هو الشك بشبهة، فهل يصدق الدائن في طلبه أم لا، وهل أدّى الدَّين أم لا، وكم كان مقداره؟ وكثيراً ما لا يطالب الناس بحقوقهم لشكهم فيها أو في مقدارها وذلك يوجب ضياع الحقوق، وأحياناً يدعي المديون مقداراً لكن يظن الدائن بأكثر منه فيرتاب في صدق المديون، وفي ذلك ازدياد حالات سوء الظن مما يضر المجتمع، فكانت الكتابة وقاية من كل ذلك، ولذا قال تعالى «وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا».

وأما (القسط) فهو النصيب، وسُمي العدل قِسطا - بالكسر - لأنَّه إعطاء كل ذي حق نصيبه وحقه من غير بخس ولا زيادة، وسُمّي الجور قَسطاً - بالفتح - لأنَّه أخذ لنصيب الآخرين، وقد استعمل باب الإفعال

ص: 438

المعنى العدل كقوله« فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا »(1)، وقوله « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ »(2)، كما استعمل المجرد لمعنی الجور كقوله «وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا » وللتفصيل راجع لمفردات والمقاييس (3).

وأما قوله «وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا »فالمراد منه بيان أمر تكويني، وهو أن الكتابة رافعة للريب عادة ، كما أنَّها تدل على أن الكتابة هي المرجع لو حصل الريب فيزول الريب بها، إلّا إذا رجع الريب في الكتاب نفسه باحتمال التزوير فيه، فحينئذٍ لا حجية فيه.

والحاصل أن الكتابة هي لأجل أن لا يحصل الريب أو ليرتفع الريب بها، وليس المعنى أنَّها المرجع في حال الريب حتى لو لم يرتفع بها باحتمال تزوير ونحوه، فدقق.

الحادي عشر : قوله تعالى « وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ» .

لما بیّن تعالی عدم لزوم الكتابة في التجارة الحاضرة التي تكون نقداً من غير دَين، بيَّن استحباب الإشهاد عليها، وأما الإشهاد على الدين فقد ذكر في أواسط الآية.

وهذا الإشهاد خصّصه بعض المفسرين بالإشهاد في الأمور الجليلة ، ودليل ذلك السيرة حيث لم يتعارف الإشهاد على الأمور الحقيرة منذ زمن الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم إلى يومنا هذا، وسيرة المتشرعة حجة إذا كانت متصلة

ص: 439


1- سورة الحجرات، الآية: 9.
2- سورة المائدة، الآية: 42.
3- المفردات: ص670، المقاييس: 856.

بزمان المعصومين علیهم السلام وكشفت عن تقريرهم لها، وبذلك تصلح السيرة مخصصاً أو مبيناً للكتاب لرجوعها إلى تقرير المعصوم .

الثاني عشر : قوله تعالى «وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ ...»الآية .

« يُضَارَّ» يحتمل أن يكون ببناء الفاعل أي «یُضارِر» فكاتب فاعله، أي ليكتب الكاتب بالعدل لا أن يكتب بضرر أحد الطرفين وكذا الشاهد، فالزيادة ضرر على المديون والنقصان ضرر على الدائن، فإذا لم يفعل فإنَّه فسوق، فيكون الكاتب بالعدل مقابل الكاتب بالضرر والفسوق.

ويحتمل أن يكون ببناء المفعول، أي «يضارَر» فكما بیّن اللَّه الحكم على الكاتب والشهيد بعدم الإباء، كذلك بیّن الحكم لهما بعدم إضرارهما وذلك كأن يُعنَّفا أو يُلمزا أو يُكذَّبا من غير وجه حق، أو يُكلّفا مصارف كأجرة الطريق إلى الشهادة أو ثمن الورق أو عدم إعطاء أجر الكاتب ونحو ذلك، فإن كل ذلك يوجب زهادة الناس في الشهادة والكتابة فتضيع الحقوق، بل حتى لو لم تقبل الشهادة أو الكتابة فاللازم احترام الكاتب والشاهد وردّهما بلباقة ومن غير تجريح، وفي بعض الأحاديث دلالة على أن الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم كان يرسل من يحقِّق عن الشاهد بطريقة غير مباشرة ومن غير علم الشاهد ثم لو أراد ردّ شهادته لعدم ثبوت وثاقته أو عدالته ردّه بطريقة مناسبة.

وهذا الاحتمال أقرب إلى السياق لقوله بعد ذلك «وَإِنْ تَفْعَلُوا » ولو كان « يُضَارَّ»بصيغة الفاعل لقال «وإن فعلا»، فتأمل.

وقوله «فُسُوقٌ بِكُمْ » بمعنى الخروج عن الطاعة و«بِكُمْ» إما بمعنى السببية أو بتقدير شيء مثل لاحقٌ بكم ونحو ذلك.

ص: 440

الثالث عشر : قوله تعالى « وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » .

قيل : التقوى هي سبب زيادة العلم! لكن لا يظهر ذلك هذه من الآية ولا من غيرها من الأدلة، فإن للتقوى طريق جعله الله، كذلك جعل لتحصيل العلم طريق آخر، فليست التقوى سبباً لزيادة العلم، بل العكس العلم الحق هو سبب التقوى قال سبحانه «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ »(1) بل من أراد سلوك طريق التقوى من غير علم زاده ذلك ضلالاً وانحرافاً عن الحق، بلى من اتقى اللَّه عن علم زاده اللَّه هداية ولطفاً قال سبحانه «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ » (2)وفي المناهج: نعم لا بد في تحصيل العلم الإلهي وطلب الهداية من استعمال العلم وسلوك هذه الجادة الوعرة بالتقوى، فالجاهل العامل بسنن الدين ومناهج التقوى مبتدع ضال، والعالم العامل الهاتك حرمات ربه أبعد الناس من اللَّه سبحانه، وهو المخذول المطرود، فقد جرت سنّته تعالى في الوصول إلى العلم والهداية بالتعلّم والتفقه(3).

والحاصل أن رأس الآية - أي آخرها - تدل على أمور ثلاثة مستقلة، أحدها : الدعوة إلى التقوى، والثانية : بيان أن اللَّه لطيف بالمؤمنين فلذا يعلمهم، كما قال تعالى «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ

ص: 441


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- سورة محمد، الآية: 17.
3- مناهج البیان ج3، ص119 - 120 بتصرف.

قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ »(1)، والثالثة : تحذير المخالفين وتبشير المطيعين ببيان أنَّه تعالى بكل شيء عليم .

الرابع عشر : قوله تعالى «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ...»الآية .

بيان لحكم صورة عدم إمكان الكتابة ولا الشهود، وتشريع جواز أخذ الوثيقة على الدين لئلا تضيع الحقوق، وتخصيص السفر بالذكر من باب أن الغالب في السفر عدم التمكن منهما عكس الحضر، فالسفر قيد غالبي، وليس تخصيصاً للرهن به .

وقوله « مَقْبُوضَةٌ » ، لأن الوثيقة لا تكون إلّا بقبضها، فإن لم يقبضها فلا أثر لها أصلاً لأن المديون إن كان ورعاً ردّ الدين حتى لو لم تكن وثيقة، وإن لم يكن ورعاً فكما يمكنه جحد الدين كذلك يجحد الوثيقة ، ولذا اشترطوا القبض في صحة الرهن، نعم قبض كل شيء بحسبه فقد يكون بأخذه أو أخذ مفتاحه أو سنده أو نحو ذلك، فتأمل .

الخامس عشر : قوله تعالى «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا...»الآية .

هذا آخر أركان الأحكام - بعد الوثيقة بالكتابة والشهود أو بالرهن - ما إذا وثق الدائن بالمديون فلم يكتب ولا استشهد ولا أخذ رهناً، فعلى المديون أن يكون عند حسن ظن الدائن، فكما وثق به ورآه أهلاً للأمانة كذلك يكافئة بأدائها وإنما سُمِّيَ هذا الدين أمانة لأن الدائن ائتمن المديون فلم يأخذ منه رهناً، وأداء الأمانة هو عدم إنكارها وعدم المطل والتسويف فيها ثم تمّ تأكيد ذلك بدعوته إلى تقوى اللَّه سبحانه وتعالى، لأنَّها السبب الأصلي في حفظ حقوق الناس .

ص: 442


1- سورة آل عمران، الآية: 164.

السادس عشر : قوله تعالى «وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ »الآية . الظاهر أن هذا في أداء الشهادة، كما أن قوله في الآية السابقة «ولا ياب الشهداء إذا ما دعوام كان في تحمل الشهادة، فإن كان تحمّل الشهادة مستحباً فإن أداءها واجب وكتمانها حرام . وقوله «آثِمٌ قَلْبُهُ » لأن الكتمان محلّه القلب، مع عدم سببيّة اللسان لهذا الكتمان، فاللسان ليس مشاركاً في الجريمة وإنما مركز الجريمة هو القلب، وللقلب ذنوب ومعاصي ولذا يعاقب كما تعاقب الأعضاء الفاسقة، قال سبحانه «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)»

«الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ »(1) ، كما أن للقلب تكاليف ومسؤولية كما قال «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا »(2)

ص: 443


1- سورة الهمزة، الآيتان: 6 و7.
2- سورة الإسراء، الآية: 36.
الآیة284

«لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)»

بعد بيان جملة من أحكام الأموال، بیّن اللَّه تعالى أن ملكية الناس اعتبارية وأنَّه سبحانه هو المالك الحقيقي فلا بد لهم من إطاعته فيما يأمره وينهاه في ملكه فقال سبحانه :

284 - «لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» فهو المالك الحقيقي، فعليكم إطاعته، « وَإِنْ تُبْدُوا » تظهروا « مَا فِي أَنْفُسِكُمْ »من خير أو شر « أَوْ تُخْفُوهُ » فلا تظهروه « يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ » مقدمة للجزاء، فهو سبحانه العالم والمهيمن على عباده، « فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ »فضلاً منه تعالى لمن كان محلاً قابلاً للمغفرة « وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ » عدلاً منه سبحانه لمن لم يستحق المغفرة،« وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» من المحاسبة والغفران والعذاب وغيرها « قَدِيرٌ »

بحوث

الأول: هذه الآية كالتكملة لآيات هذا الفصل والذي كان يرتبط

ص: 444

بالأمور المالية من الإنفاق والربا والدين ونحو ذلك، وفيها بيان أن المالك الحقيقي هو اللَّه سبحانه وتعالى فهو يملككم ويملك كل ما تملكون ويملك كل الوجود بأسره ملكاً حقيقياً، ومن رحمته ولطفه بكم أن أقرّ لكم الملكية الاعتبارية، وشرّع أحكاماً لتنظيم ملكيتكم بما يعود نفعه إليكم وفي سبيل معاشكم ومعادكم، فعليكم أن تطيعوه فتأتمروا بأوامره وتنزجروا بنواهيه، وإلّا فإنَّه القادر على عقابكم، حتى ما أضمرتموه في قلوبكم فإنَّه يحاسبكم عليه، فقد يغفر لكم زلاتكم فضلاً ولطفاً، وقد يعذبكم عدلاً .

والحاصل أن معنى الآية عام، والموارد المالية من مصاديق الآية، أو شأن نزولها، وخصوصية المورد لا تخصص الوارد.

ولا يخفى أن المالكية من صفات الذات، ولا يشترط في صدقها وجود المملوك، بل هو المالك قبل الخلق وبعده، كالعلم إذ هو سبحانه عالم إذ لا معلوم، وقد ذكرنا التفصيل في شرح أصول الكافي فراجع .

الثاني: قوله تعالى «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ...» الآية .

بما أن القلب هو مصدر الأعمال الجوارحية، وهو الذي يعطي اللون للعمل، لذا كان الإبداء والإخفاء مرتبطان به، فالعامل بالصالحات نقطة انطلاقته هي قلبه وفكره قال سبحانه« وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ » (1)، وكذا العامل بالسيئات قال سبحانه : « بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا »(2)، كما أن العمل الحسن يفقد قيمته إذا جيء به بنية سيئة بل قد يتحول إلى وبال

ص: 445


1- سورة البقرة، الآية: 265.
2- سورة يوسف، الآية: 18.

وويل كالعبادات إذا اقترنت بالرياء، وعكسه إذا أتى بعمل قبيح ظانّاً بأنَّه حسن فإنَّه منقاد ولا يعاقب على عمله إذا كان جهله عن قصور، قال تعالی : «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ »(1)، بل قد يثاب على انقياده، نعم إذا قصّر في المقدمات فهو كالعامد، وينطبق عليه قوله تعالى «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا »(2)

فقوله «وَإِنْ تُبْدُوا » بمعنى إظهاره، وهذا الاظهار يكون بالجوارح سواء باللسان أم باليد أم بغيرهما، وقوله «أَوْ تُخْفُوهُ » بمعنى عدم إظهاره بيد ولا بلسان فيبقى كامناً في النفس .

وأما قوله «مَا فِي أَنْفُسِكُمْ»، فلفظ الآية عام يشمل ما استمكن في النفس من الصفات كالحسد والحب والبغض ونحوها ، كما ويشمل ما كان عارضاً كالخواطر وحديث النفس ونحوهما .

وقوله « يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ » بمعنى إظهار تلك السرائر في يوم القيامة، ولا يخفى أن المحاسبة لا تعني الثواب أو العقاب، بل هي مقدمة لهما والنوايا السيئة والخواطر القبيحة هي أمور اختيارية عادة - ولو باختيارية مقدماتها - و اللَّه سبحانه وعد عدم العقاب عليها ، كما في حديث الرفع حيث قال النبي صلی اللَّه علیه وآله وسلم : رفع عن أمتي تسع - وعدّ منها - والوسوسة في التفكر في الخلق والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد(3)، فهذه مرفوعة مِنّة من اللَّه تعالى على عباده مما يكشف عن كونها اختيارية -ولو بمقدماتها -

ص: 446


1- سورة الأحزاب، الآية: 5.
2- سورة الكهف، الآية: 104.
3- الكافي: ج5، ص463.

ولو لم تكن اختيارية لم يجز التكليف بها ولا كان رفعها مِنّة ، لكن دلت آيات وروايات على أن سرائر الإنسان تظهر في يوم القيامة ويحاسب عليها من غير عقاب كقوله تعالى«يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ »(1)

والحاصل أن النفس هي نقطة انطلاق العمل، وهي التي تلوّن العمل، كما أن للقلب واجبات ومحرمات وغالبها يتعلّق بأصول الدين، وكل ما في النفس والقلب يظهر يوم القيامة ويحاسب الإنسان عليه، لكن العقاب يختلف

1 - ففي أصول الدين لا بدّ من الاعتقاد والإذعان، وذلك الإيمان وسبب الثواب والنجاة .

وأما عدم الاعتقاد والإذعان فهو كفر ونفاق وسبب العقاب والشقاء

2 - في غير أصول الدين فالملكات النفسية والأفكار والنوايا والخواطر يحاسب عليها الإنسان وهي قد توجب سمُوُّ النفس أو انحطاطها من دون عقاب على السيِّئ منها، ومع ثواب على الحسن منها تفضلاً منه تعالى .

3 - الخواطر غير الاختيارية - ومن غير سبب اختياري - قد لا يحاسب عليها الإنسان، ولعلّ الآية منصرفة عنها، اللّهم إلّا إذا قيل بأنَّها ترجع في النهاية إلى تقصير من الإنسان نفسه، و اللَّه العالم بحقائق الأمور.

وعن الإمام الصادق عليه السلام : وأما ما فرض على القلب من الإيمان : فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلّا هو وحده لا

ص: 447


1- سورة الطارق، الآية: 9.

شريك له إلهاً واحداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند اللَّه من نبي أو كتاب، فذلك ما فرض اللَّه على القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله(1)

الثالث : قوله تعالى «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ...» الآية .

قدّم المغفرة على العذاب، ترغيباً للنفوس إلى التوبة، وتشويقاً إلى اضمار الخير لينال غفرانه تعالى، ولأن رحمته سبقت غضبه، وكذلك ليبقى الباب مفتوحاً على العصاة لئلَّا يقنطوا من رحمة اللَّه سبحانه، وقد مرّ مراراً أن مشيئته ليست اعتباطاً بل بحكمته سبحانه وتعالى لمن كان قابلاً للمغفرة أو لمن لم يكن قابلاً لها، وفيه ردّ على من زعم عِلِّية الأعمال للثواب أو العقاب فإن ذلك بمعنى الترتب القهري، وليس الأمر كما زعموا فهو سبحانه الذي يرتب النتائج على المقدمات .

ص: 448


1- البرهان: ج2، ص334 عن تفسير العياشي.

خاتمة السورة

الآيات 285 - 286

«آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285)»«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)».

في ختام السورة تذكير بأصول الدين وحثّ على الطاعة ودعاء فكان كالتلخيص لما في هذه السورة المباركة .

285 - «آمَنَ الرَّسُولُ»وتخصيصه صلی الله علیه وآله وسلم بالذكر تعظيم لشأنه « بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» كذلك،« كُلٌّ » من الرسول والمؤمنين«آمَنَ بِاللَّهِ »بتوحيده «وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ»، لأنَّها كلّها مرتبطة باللَّه تعالى، ولا يمكن الإيمان به إلّا مع الإيمان بوسائل هدايته، يقولون:« لَا نُفَرِّقُ » في التصديق «بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » فنؤمن بالجميع «وَقَالُوا » الرسول والمؤمنون «سَمِعْنَا» بالإذعان إلى الأحكام « وَأَطَعْنَا » بالانقياد والامتثال للأوامر والنواهي، فاغفر لنا

ص: 449

«غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ » إلى حسابك وجزائك«الْمَصِيرُ» أي المرجع بعد الموت .

286 - «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ » من التكاليف المذكورة في هذه السورة وغيرها «نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» ما تطيقه، فبالإطاعة « لَهَا مَا كَسَبَتْ » الحسنات، «وَعَلَيْهَا » بالعصيان «مَا اكْتَسَبَتْ »من السيئات، وهذا المقطع كالجملة المعترضة لبيان أن ما سمعوه وأطاعوه مقدور لهم وأن عليه الجزاء، ثم يقولون «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا »بالعقوبة والذم «إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا »بتقصيرنا في أعمالنا مما أدى إلى النسيان أو الخطأ،«رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا » ثقلاً من التكاليف الشاقة «كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا »عقوبة لهم بسبب سوء اختيارهم، «رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ » من البلايا والعقوبات الدنيوية، «وَاعْفُ عَنَّا » بمحو الذنوب،«وَاغْفِرْ لَنَا»بسترها لئلا ننفضح« وَارْحَمْنَا »بالنعم علينا، «أَنْتَ مَوْلَانَا »ناصرنا الأولى بنا من أنفسنا «فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ »لنتمكن من أداء حق العبودية ولنطبّق شرعك في كل مكان .

بحوث

الأول: الآيتان كالتلخيص لكل ما في السورة، فاشتملتا على :

1 - أصول الدين من الإيمان باللَّه وبتوحيده «آمَنَ بِاللَّهِ » ، والإيمان بعدله تعالى «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا ...»الآية، والإيمان بالأنبياء

ص: 450

وبكتبهم، وبالملائكة الذين هم الواسطة في ذلك، والإيمان بما أنزل على الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، ومن أجَلّ ما نزل الولاية التي بها كمال الدين وتمام النعمة ورضى الرب تعالى، والإيمان بالمعاد .

2 - وعلى فروع الدين من التكليف بما يسع الناس، وأن عليهم السمع والطاعة مما يؤدي إلى مغفرته تعالى لهم.

3- وعلى الدعاء بالتوفيق وعدم المؤاخذة على التقصير بتشديد التكليف أو بإنزال البلايا، كما فعله بالأمم السابقة لما عصوا، وقد تضمنت السورة قصصاً كثيرة عن بني إسرائيل في عتوِّهم وفي التشديد عليهم، وفي عقابهم بالتيه والرجز والصاعقة والذلة والمسكنة والمسخ... إلخ فيستعيذ المؤمنون باللَّه منها ومن أمثالها .

الثاني : قوله تعالى «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ » .

إفراد الرسول صلی الله علیه وآله وسلم بالذكر تشریف له وتعظيم لشأنه، فهو صلی الله علیه وآله وسلم أول المسلمين، كما قال« قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»(1)،وقال «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ »(2) ومن المعلوم أن الإيمان الكامل هو الذي يستتبع العمل، إذ سبب الخلل في الأعمال هو نقصان الإيمان وفي الحديث : الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان(3)، وحيث إنّ إيمان الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم هو الإيمان الكامل فعمله في أقصى درجات الصحة والكمال، فهو أولى المؤمنين إذعاناً وعملاً، وليس کرؤساء الباطل الذين يخالفون القوانين ويحاسبون من يخالفها.

ص: 451


1- سورة الأنعام، الآية: 14.
2- سورة الأنعام، الآية: 163.
3- مستدرك الوسائل ج 11 ص 144.

وأحكام الشرع كلّها بحسب المصالح أو المفاسد في متعلقاتها، ولكن تلك المصالح والمفاسد أخذت كحكمة للحكم، فجری ضرب قانون عام حتى لو لم تكن تلك المصلحة أو المفسدة في مورد جزئي، درءاً للهرج والمرج ومنعاً عن التلاعب في الأحكام، وهذا دأب العقلاء أیضاً حيث يلاحظون المصلحة الغالبة ثم يشرّعون قانوناً عاماً ، فإشارات المرور مثلا جعلت لتنظيم السير لكن يلزم الالتزام بها حتى مع خلوّ الشوارع وهكذا في سائر قوانينهم، نعم لو كان الاستثناء كثيراً شرّعوا قانونين مع فرز وتمييز مانع عن التلاعب.

وعلل الأحكام الشرعية كذلك هي حِکَم في الغالب، لكن التشريع يجري على الجميع حتى على رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم بملاحظة كونه أسوة ولئلا تتخذ ذريعة إلى ترك الحكم الشرعي أو تحريفه، ولذا وجب غسل جسده الشريف بعد رحيله مع بقائه طاهراً مطهراً فقال أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك (لجريان السنة)(1).

الثالث : قوله « وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ...» إلخ.

الظاهر أن«الْمُؤْمِنُونَ » عطف على الرسول، فقوله «كُلٌّ» مبتدأ، والجملة بعده خبره، فالمعنى آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إلى الرسول، ثم تفصيل هذا الإيمان بقوله « وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ...»الآية، «كُلٌّ» أي كل واحد من الرسول والمؤمنين.

وقد مرّ أن الإيمان باللَّه يستدعي الإيمان بكل ما يرتبط به تعالی فالرسل كلّهم من طرف اللَّه تعالى فإنکار أحدهم تکذیب اللَّه سبحانه

ص: 452


1- تهذيب الأحكام ج1 ص469.

وتعالى، ولذا كان كفراً، وكذا الملائكة هم المنفذون لأوامر اللَّه تعالی ومنهم الوسائط في الوحي فإنكارهم يرجع إلى تكذيبه تعالی فكان كفراً، وكذا الكتب السماوية، فيلزم الإيمان الإجمالي بجميع الأنبياء - وإن لم نعرف أسماء أكثرهم -، وكذا بجميع الملائكة وبجميع الكتب المنزلة غير المحرفة، فهي وإن لم تصلنا لكن الإيمان الإجمالي بها بمعنى الاعتقاد بها وتصديقها واجب، إلّا القرآن فإنَّه وصلنا سليماً عن التحريف بإرادة الرب تعالى فيجب تصديقه مع الإيمان بما فيه والعمل به .

الرابع : قوله تعالى « لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا...» الآية.

لعل سبب عدم ذكر «قالوا» قبل « لَا نُفَرِّقُ» ثم الإتيان به في «وَقَالُوا سَمِعْنَا » ، هو أن الأول لسان حال أي حالهم هو تصديق جميع الأنبياء وعدم التفريق بينهم، والثاني هو تلفظهم وإقرارهم بالسمع والطاعة.

وعدم التفريق والإقرار بالسمع والطاعة هو عكس ما فعله أهل الكتاب حيث آمن اليهود بموسی عليه السلام دون عيسی عليه السلام ومحمد عليه السلام ، والنصاری بموسى عليه السلام وعيسی عليه السلام دون نبي الإسلام صلی الله علیه وآله وسلم ، وكذا عکس قولهم « سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا »

وأما قوله «غُفْرَانَكَ »فهو إما مفعول لسمعنا وأطعنا ، فيكون المراد سمعنا وأطعنا سبب غفرانك وهو الأوامر والنواهي، أو هو كالعلة للسمع والطاعة أي سمعنا وأطعنا لتنال غفرانك وطلباً له، فلا بد من تقدير فعل، أو هو دعاء مستأنف أي فاغفرنا غفراناً منك. وقيل : هو کالمقابلة أي نحن فعلنا ما كان حقاً علينا - وهو السمع والطاعة - فأنجز ما وعدته لنا من الغفران في قولك «فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »(1).

ص: 453


1- سورة البقرة، الآية: 38.

وأما قوله«سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا »، فالسمع هنا بمعنى الإجابة والقبول، لا بمعنی قرع الأسماع، فإن ذلك مشترك بينهم وبين الكفار، كما قال«وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ» (1)وقال :«إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ »(2)، وقال«إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ »(3). ثم إن قولهم وسيعنا وأطعنا يدل على قدرتهم على ذلك، إذ لو كان متعلّق التكليف غير مقدور لما أمكنتهم الإطاعة.

الخامس : قوله تعالى : « لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا » .

هذا بيان لعدله تعالى وبأن ما في هذه السورة وغيرها من أحكام وتشريعات إنما هي في دائرة قدرة الإنسان وسعته، فإنَّه تعالى لم يفترض حرجاً كما قال « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »(4).

و(الوسع) بمعنى القدرة، فالمعنى لم يكلّفها إلّا بما تقدر عليه، والذي يقدر عليه الإنسان قد يكون بمقدار نهاية قدرته وقد يكون دون ذلك لكنه سبحانه مَنّ على الناس بأن كلّفهم دون قدرتهم، بل رفع بعض الأحكام إذا اتفق ضرر أو حرج کرفع الصوم عن المريض وأمثال ذلك، فعن الإمام الصادق عليه السلام : ما كلّف اللَّه العباد إلّا ما يطيقون، وإنما كلّفهم في اليوم والليلة خمس صلوات، وكلفهم في كل مئتي درهم خمسة دراهم، وكلّفهم صيام شهر رمضان في السنة، وكلّفهم حجة واحدة، وهم يطيقون أكثر من ذلك، وإنما كلفهم دون ما يطيقون ونحو هذا(5).

ص: 454


1- سورة الأنفال، الآية: 21.
2- سورة الأنعام، الآية: 36.
3- سورة النمل، الآية: 81.
4- سورة الحج، الآية: 78.
5- البحار:ج 5، ص 41 عن المحاسن.

السادس: قوله «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ» .

لعل المقصود أن اللَّه إنما يكلّف الإنسان لا لحاجة منه تعالى إلى ذلك التكليف، بل لحاجة الإنسان نفسه، فالطاعات فيها مصلحة للإنسان فهي له حيث ينتفع بآثارها الوضعية في الدنيا وبثوابها في الآخرة ،والمعاصي فيها ضرر الإنسان دنیا وآخرةً.

ثم إن قوله«كَسَبَتْ» في الطاعات « اكْتَسَبَتْ» في المعاصي، لأجل أن باب الافتعال يدل على التعب والصعوبة، فالطاعات تطابق الفطرة وتطابق نظام التكوين فليس فيها مشقة حقيقية، عكس المعاصي فإن ارتكابها قد يكون متطابق مع الشهوات والهوى لكن حيث كانت متخالفة مع الفطرة ومع تركيبة الإنسان ومع نظام التكوين كان فيها الأعمال والنصب والشقاء، أو كان ذلك باعتبار النتيجة فلوحظت سهولة النتيجة أو صعوبتها.

ثم إن قوله «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ»إلى قوله «مَا اكْتَسَبَتْ»كالجملة المعترضة في وسط دعاء المؤمنين وكالعلة لقولهم «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» أي نسمع ونطيع لأن التكليف ضمن دائرة قدرتنا ولأن نفعه وضرره يعود إلينا، ثم يرجع السياق إلى إكمال الدعاء بقولهم « رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا... » الآية.

السابع : قوله تعالى « رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا» .

لما قصّ اللَّه في سورة البقرة كثيراً من مخالفات أهل الكتاب وما نالوه من تشديد وعقوبة دنيوية وعذاب أخروي، كان دعاء المؤمنين من هذه الأمة المرحومة بأن لا يبتليهم اللَّه تعالی بتلك العقوبات إن خالفوا،

ص: 455

مع استرحام بأن تلك المخالفات وإن كانت عن تقصير لكنها ليست متعمّدة بل بسبب النسيان والخطأ، فلذا ندعو بعدم قطع اللطف وباستمرار الرحمة .

و(المؤاخذة) بمعنى العقوبة، ويمكن إدخال الذم واللوم فيها .

وقولهم « إِنْ نَسِينَا » إذا كان عن تقصير بإهمال وإغفال، وإلا فلا يعقل المؤاخذة من غير تقصير فإن ذلك خلاف العدل، أما إذا كان الأمر غير اختياري لكن كانت مقدماته اختيارية فإن العقوبة عليه لا مانع فيها عقلاً، لأن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، كمن يلقي بنفسه من شاهق، فإنَّه لا يتمكن من منع الارتطام بالأرض حتى وإن ندم في حال سقوطه، لكن عمله اختياري باعتبار اختيارية مقدمته فتصح عقوبته .

والنسيان غالباً يكون بسبب الإهمال وعدم الاهتمام بالشيء، وقد ذكر بعض أهل الخبرة من علماء النفس بأن الإنسان إنما ينسى الأمور التي لا يرغب فيها ولا يحبها أما ما يهتمّ به ويشتاق إليه فلا ينساه عادة، وحيث كان النسيان بسوء الاختيار صح العقاب عليه، لكنّ اللَّه تعالى مَنَّ على المسلمين بأن رفع المؤاخذة عمّا نسوه .

وقولهم« أَوْ أَخْطَأْنَا» ما في الحكم أو في تطبيقه بلا نسيان، والفرق بينهما أن (النسيان) هو ترك العمل للغفلة عنه، و(الخطأ) هو الإتيان بالعمل بشكل غير صحيح، وقيل : هو بمعنى الذنب.

الثامن : قوله تعالى « رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا...» الآية .

الإصر) هو الثقل، والمراد التكاليف الشاقة، فإن اللَّه كلّف الأمم السابقة بتكاليف سهلة لكنهم لمّا خالفوا وعصوا وظلموا عاقبهم بأن

ص: 456

صعّب عليهم التكليف كما قال «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ »(1)، وقال«وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ »إلی قوله« ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ »(2).

ومن التشديد عليهم حكمه تعالی بقتل أنفسهم لمّا عبدوا العجل، والتشديد عليهم في أوصاف البقرة لما لم يمتثلوا الأمر فوراً وجعلوا يتحججون، وغير ذلك، كل ذلك وغيره عقوبة لهم لظلمهم وبغيهم.

التاسع: «رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ » .

الظاهر أن المراد إنزال العقوبات الدنيوية كالآفات والبلايا الأرضية والسماوية، فيكون قولهم «لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ» بمعنى عدم القدرة على تحمّله، وهذا هو الأقرب لئلا يكون هذا المقطع تكراراً لما قبله ، ويؤيده استعمال باب التفعيل هنا والمجرد هناك.

ويحتمل أن يكون المراد التكاليف الشاقة التي يقدر عليها الإنسان بصعوبة بالغة لكنها تعتبر عرفاً مما لا يطاق، کالأمر بالامتناع عن الأكل إلى حدّ الموت فإن الإنسان يقدر على هذا ولذا قد يُضرب البعض عن الطعام حتى الموت احتجاجاً، لكن يعتبر مثل هذا التكليف مما لا يطيقه الإنسان عرفاً، ولذا قالوا : شرط صحة التكليف هو القدرة العقلية، ولكن من لطفه تعالى أنَّه لم يكلّف المسلمين بالتكاليف الصعبة بما لا يقدر عليها الإنسان عرفاً - وإن قدر عليها عقلاً - وعليه: فيكون الفرق بين هذا المقطع وسابقه أن قوله «وَلَا تَحْمِلْ

ص: 457


1- سورة النساء، الآية: 160.
2- سورة الأنعام، الآية: 146.

عَلَيْنَا إِصْرًا » في التكليف الشاق، «رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ » في التكليف الأشق.

العاشر : قوله تعالى «وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا...». الآية .

(العفو) هو المحو، فالمعنى الدعاء بمحو أثر الذنب - وهو العقوبة -، و(الغفران) هو الستر فالمراد الدعاء بعدم الفضح، فقد يعفو اللَّه على الإنسان لكن بعد فضحه عقوبة له، و(الرحمة) هنا بمعنى إنزال النعم وتواترها، أو هي ذكر العام بعد الخاص، لأن العفو والغفران من رحمته لعباده .

ولعل العفو في مقابل النسيان، والغفران مقابل الخطأ، والرحمة مقابل تحميل الإصر وتحميل ما لا يطاق.

وقيل : «وَاغْفِرْ لَنَا »يختلف عن «غُفْرَانَكَ»في الآية الماضية فلا تکرار، فإن هذا مقابل الذنب، وذاك مقابل الطاعة.

الحادي عشر: قوله تعالى « أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» .

قوله «فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»كالتعليل لهذه الأدعية ، أي أنت سیدنا ومالكنا وأولی بنا من أنفسنا فلذلك نسترحمك وندعوك بعدم مؤاخذتنا وعدم تحميلنا الإصر وما لا يطاق وندعوك بالعفو والمغفرة والرحمة.

وأما قوله وفانصرنا على القوم الكافيه فهو دعاء للتوفيق على تطبيق الشرع في كل الأماكن، حيث إن الكفار حجر عثرة أمام انتشار الدين فوفقنا لكي ننتصر عليهم لتعلو كلمتك في ربوع الأرض كلّها .

ص: 458

أو لأن الكفار يدعوننا إلى المخالفة فانصرنا لنتغلب عليهم كما قال« أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ »(1).

أو بمعنى أن سيطرة الكفار قد يؤدي بنا إلى الانحراف لضعفنا، فانصرنا عليهم لئلا يكون هناك مانع على عبادتك وطاعتك، فإن العائق قد يكون من النفس وهنا كان الدعاء بعدم المؤاخذة على النسيان والخطأ، وقد يكون بعامل خارجي فالدعاء بالنصر على القوم الكافرين .

والحمد لله رب العالمين وصلى اللَّه على محمد وآله الطاهرين .

تم في يوم الجمعة 14/ شهر رمضان المبارك/ 1433ه.

ص: 459


1- سورة البقرة، الآية: 221.

الفهرس

الآيات 197 - 199 ...9

الآيات 200 - 203 ...21

الآيات 206 - 207 ...34

الآيات 208 - 210 ...46

الآيتان 211 - 212 ... 54

الآية 213 ...64

الآيات 214 - 216 ...75

الآيتان 217 - 218 ... 87

بحوث في الحبط ...94

فصل في جملة من الأحوال الشخصية ...99

الآيتان 219 - 220 ...103

فصل في مسائل النكاح ...121

أولا: من يجوز نكاحهن ...123

الآية 221 ...123

ثانيا: أحكام الزوجية ...131

الآيتان 222 - 223 ...131

ص: 460

ثالثا: الإيلاء...140

الآيات 224-227 ...140

رابعا: العدة ...149

الآية 228 ...149

خامسا: مرات الطلاق...162

الآيتان 229 - 230 ...162

. سادسا: ما بعد العدة ...172

الآيتان 231 - 232 ...172

سابعا: أحكام الرضاع ...180

الآية 233 ...180

ثامنا: أحكام وفاة الزوج ...190

الآيتان 234-235

تاسعا: الالتزامات المالية...201

1- الحقوق الواجبة ... 201

الآيتان 236-237 ...201

الآيتان 238 - 239 ...... 211

الآيات 240 - 242 ...218

فصل في الجهاد ...225

المطلب الأول: قصة أموات أحياهم اللَّه تعالى ...228

الآيات 243-245.....228

المطلب الثاني: قصة طالوت ...239

الآيتان 246- 247...239

ص: 461

الآية 248 ...252

الآية 249 ...260

الآيات 250 - 252 ...268

المطلب الثالث ...277

الآيتان 253 - 254 ...277

فصل في المبدأ والمعاد ...291

الآية 255 ...294

الآيتان 256 - 257 ...307

الآية 258 ...319

الآية 259 ...327

الآية 260 ...337

فصل في الأمور المالية ...347

الموضوع الأول: الإنفاق ...351

أولا: ثواب الإنفاق ...351

الآية 261 ...351

ثانيا: شرط الإنفاق ... 358

الآيتان 262 - 263 ...358

الآيات 264 - 266 ...365

ثالثا: المال المُنفِق به...374

الآية 267 ...374

رابعا: عوائق الإنفاق ...380

الآيات 268 - 270 ...380

ص: 462

خامسا كيفية الإنفاق ...389

الآيتان 271 - 272 ...389

سادسا: مصرف الإنفاق ...396

الآيتان 273 - 274 ...396

الموضوع الثاني: حول الربا ...402

الآيات 275 - 277 ...402

الآيات 278 - 281 ...417

الموضوع الثالث: حول الدَّين ...425

الآيتان282- 283....425

الآية284....444

خاتمة السورة....449

الآيتان285-286.....449

ص: 463

التفکر في القرآن (سورة آل عمران) المجلد 4

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفکر في القرآن (سورة آل عمران) المجلد 1 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم، 1443ق = 1400ش.

مواصفات المظهر: 410ص.

فروست: التفكر في القرآن؛8.

شابك: 7-628-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية

محتويات: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع: تفاسير (سوره اعراف)

موضوع: تفاسير شيعه -- قرن 14

موضوع: Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

ترتيب الكونجرس: BP102/26

تصنيف ديوي: 297/ 18

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 8441086

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين، إلی يوم الدين

الإطار العام للسورة

التدبر في هذه السورة تعطي فکرة بأن اطارها العام هو حول التحدي الفکري والعسکري، حيث إن المسلمين واجهوا کلا التحديين، وکان کل واحد منهما کفيلاً بالقضاء عليهم لولا أن الدين هو دين الحق وأن الله تعالی شاء أن يغلب دينه علی الدين کله، فتتضمن السورة جواب عن شبهات النصاری حول مسائل العقيدة، وکذا شبهات المشركين واليهود وغيرهم، قيل(1):

إن أکثر من ثمانين آية من السورة نزلت حين جاء وفد نصاری نجران للمجادلة مع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولذا سُمِّيت السورة باسم (آل عمران) أي مريم وعيسی (عليهماالسلام) ، کما تتضمن السورة تفصيل غزوة أ ُحد والتي لو انتصر المشرکون فيها لقضوا علی الإسلام والمسلمين، إلاّ أن الله تعالی شاء

ص: 5


1- راجع مجمع البيان 2: 352.

أن لا يتمکن المشرکون من الوصول إلی غايتهم في القضاء علی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلی الإسلام، وإن أصاب المسلمين قرح بمقتل حدود سبعين منهم.

ص: 6

الآيات 1-6

اشارة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)}

1- {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الابتداء باسمه تعالی، إما تعظيماً لشأنه أو لأنه تعالی جعل اسمه - المخزون المکنون - واسطة بينه وبين خلقه، {الم} إما بمعنی أن القران مرکّب من الحروف التي ينطق بها الناس ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثله، أو هو رمز بين الله تعالی ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقيل غير ذلک.

2- {اللَّهُ لَا إِلَهَ} لا معبود {إِلَّا هُوَ} فهو المستحق للعبادة لاسواه، لأنه تعالی {الْحَيُّ} عکس سائر الآلهة فهي إمّا جمادات أو لها حياة زائلة، {الْقَيُّومُ} القائم علی جميع الوجود بالخلق والتقدير والتصرف عکس سائر الآلهة فهي عاجزة.

4-3- ومن قيمومته تعالی أن هَدَی الناس، فهو الذي {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن تنزيلاً {بِالْحَقِّ} فليس تنزيله عبثاً ولا باطل فيه، حالکونه

ص: 7

{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي الکتب السماوية السابقة، لا الکتب المنحولة أو المحرّفة، {وَأَنْزَلَ} الله {التَّوْرَاةَ} علی موسی (عليه السلام)، {وَالْإِنْجِيلَ} علی عيسی (عليه السلام) {مِنْ قَبْلُ} إنزال القرآن {هُدًى لِلنَّاسِ} عامة ولبني إسرائيل خاصة، فالله تعالی هادي جميع الناس من قبل ومن بعد، {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} ما يفرق بين الحق والباطل، ومن مصاديقه: کل أمر محکم، والآيات القرآنية النازلة نجوماً، والمعاجز، والبراهين، والشريعة التي تفرق بين الحلال والحرام.

وحيث تمت الحجة بإنزال الکتب والفرقان ف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} کفر حجود {بِآيَاتِ اللَّهِ} عامة ومنها کتبه وتشريعاته {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الدنيا والآخرة، عدلاً منه تعالی، ولايتصورنّ أحد عدم عذاب الکفار فإن الله قادر منتقم {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} أي له القدرة في العذاب بلا منع، وهو {ذُو انْتِقَامٍ} يکافئ المجرم علی إساءته.

5- وکذلك هو عالم ف {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} فهو يعلم بالکافرين وبأعمالهم ونواياهم، وإنما خص الأرض والسماء بالذکر لأنها موطن الناس وأعمالهم في الحياة الدنيا.

6- وکيف يخفی عليه شيء والحال أنه {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ} أي يعطيکم الصورة {فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} من ذکر أو أنثی، قبيح أو جميل، أبيض أو أسود وغير ذلك، ولا مانع عن إرادته إذ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ} قادر علی ما يريد بلا منع، {الْحَكِيمُ} في أفعاله حيث يشاء بحسب حکمته.

ص: 8

بحوث

الأول: تبتدأ السورة بمقدمة تتضمن أصول الدين من التوحيد، والعدل،

وصفات الله تعالی، والنبوة، والکتب المنزلة، والفرقان - بما تتضمن من سائر أصول الدين کالإمامة - ، والمعاد، فتضمنت... .

1- التوحيد: فذکر {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مرّتين، الأولی: لبيان أصل التوحيد فلذا صدّر الآية بلفظة الجلالة فقال {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، والثانية: لبيان ربوبيته وأنه لا شريك له في أفعاله لذا جاءت الکلمة بعد بيان {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.

2- وأهم صفات الذات التي هي عين ذاته بلا اثنينية بين تلك الصفات وبين الذات: کالحياة والعلم والعزة والاختيار والحکمة - التي هي بمعنی العلم بوضع الأشياء في مواضعها - ، وکل صفات الذات ترجع إلی حياته وعلمه وقدرته واختياره، وکلها ترجع إلی حياته، وترجع حياته إلی ذاته، بلا ترکيب واثنينية، بل هي عين ذاته.

3- وأهم صفات الفعل: کالقيوم، والهادي بإنزال الکتب، والمصّور، والوهاب، والمريد، وصادق الوعد، والباعث للحشر، والمنتقم.

الثاني: إن الآيات تبيّن أن التشريع بيد الله تعالی، کما کان التکوين بيده، فهو الذي يصوّر في الأرحام کيف يشاء ولايتمکن أحد من الخلق، فهو الأحق بالتشريع لأنه مالك الکون بأجمعه، کما أنه يعلم جميع خصوصيات الإنسان، وجميع أمور السماء والأرض، فلذا يکون تشريعه بالحق وصحيحاً لا خلل فيه، عکس التشريعات البشرية، فإن الناس رغم تطور العلوم الطبيعية

ص: 9

والعلوم الإنسانية، لا زال ما يجهلونه عن طبيعة الإنسان والکون أکثر مما يعلمونه، ولذا تکثر تغيير التشريعات أو تعديلها في القوانين الوضعية.

وأما التشريعات الإلهية فکلها حقائق ثابتة تطابق نظام التکوين وطبيعة الإنسان، ولذا لاحق لأحد في التشريع إلاّ الله تعالی، قال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}(1).

ثم لايخفی أن التشريع لله تعالی، لکن الله وتشريفاً لرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) جعل لرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) تشريع الأحکام، بمعنی إصدارها طبقاً لما علّمه الله تعالی، وفي الحديث: «إن الله تبارک وتعالی أدّب نبيّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فلمّا انتهی به إلی ما أراد قال له {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(2) ففوّض إليه دينه»(3) وهذه التشريعات اشتهرت بعنوان سنة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

ومن ذلك يتّضح أنه لايحق لأحد أن يجتهد في مقابل النص بأن يقول: قال الله وأقول أنا!! بل ذلك کفر ظاهراً أو باطناً، کما يشعر به قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ...} بعد قوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ...}، ومن المفارقات المهمة إن القران لايجامل أحداً علی حساب الحق، بل بيّن الحق سواء رضي به الناس أم کرهوه، وسواء فهموه أم جهلوه، في ضمن نظام متکامل يکمّل بعضه بعضاً، قال تعالی: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(4). وقال: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ

ص: 10


1- سورة الأنعام، الآية: 57.
2- سورة القلم، الآية: 4.
3- الکافي 1: 267.
4- سورة الکهف، الآية: 29.

فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}(1).

نعم حيث إن غالب الناس يتأثرون بالحضارات الحاکمة في منطقتهم أو في العالم وقد تختلف ثقافة أولئك أو طريقة حياتهم وفکرهم أو دينهم مع أحکام الشرع فلذا قد لايدرکون بعض أحکام الشرع أو يعترضون عليها، وما ذلک إلاّ لضعف إيمانهم وانهزامية أنفسهم، لکن ذلك لايضرّ الحق وأهله، فالحق لايتغيّر بأهواء الناس قال تعالی: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}(2).

الثالث: قوله تعالی: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.

محور الکلام هو الله تعالی، فلذا ابتدأ بلفظة الجلالة، فهو تعالی لا شريك له ولا معبود سواه، وسبب ذلك أنه الحي القيوم، و«الحياة» هي أصل صفات الذات حيث ترجع إليها کل صفات الذات، و«القيمومة» هي أصل صفات الفعل، وفي هذا نفي ألوهية عيسی (عليه السلام) ، لأنه لم يکن حياً ثم أحياه الله وبعد ذلك سيموت قبل يوم القيامة، فحياته بالعرض لابالذات، کما أنه (عليه السلام) ليس قيوماً علی الأمور کلها، فما وجه استحقاقه للألوهية؟! ولماذا استحقها هو - بزعم النصاری - دون الأنبياء الماضين کإبراهيم وإسحاق وموسی وغيرهم (عليهم السلام) .

أما ولادته من غير أب، فآدم ولد من غير أبوين کما سيأتي، ومجرد ذلك لايکون سبباً للألوهية، إذ عيسی (عليه السلام) خُلق في الرحم وأعطاه الله تعالی الصورة فيها کما سيأتی في الآية السادسة.

ص: 11


1- سورة إبراهيم، الآية: 8.
2- سورة المؤمنون، الآية: 71.

الرابع: قوله تعالی: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ...} الآية.

بعد نفي الشريك عنه تعالی تبدأ الآيات ببيان أنه تعالی الخالق والمشرِّع، وقد بدأت الآيات بالتشريع إمّا لأجل أن العبادة هي الغرض من الخلق، کما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1) والعلة الغائية تسبق العلة الفاعلية، وإن کان الغرض الأقصی هو الرحمة کما قال: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}(2)، وإمّا لأجل أن محور الکلام مع وفد نصاری نجران کان حول نبوة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلذا تم بيان أن القران کالتوراة والإنجيل کلها أنزلها الله تعالی.

وقد روي أن التوراة والإنجيل نزلا دفعه واحدة(3)، عکس القرآن الذي نزل مرّتين، فمرّة نزل دفعه واحدة علی قلب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ومرّة أخری نجوماً وطيلة ثلاثة وعشرين عاماً، أما استفادة ذلك من (نزّل) و(أنزل) فقد مرّ عدم الفرق بينهما لغة، بل استعملت کلتا الکلمتين بالنسبة إلی القران الکريم کما في قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}(4).

وقوله: {بِالْحَقِّ} أي تنزيلاً بالحق، فالمقصود أن نفس عملية التنزيل هي فعل حق لاباطل، لأنه تعالی منزّه عن العبث والباطل، فلذا کان تکوينه بالحق کما أن تشريعه بالحق، قال تعالی: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

ص: 12


1- سورة الذاريات، الآية: 56.
2- سورة هود، الآية: 119.
3- الکافي 4: 157؛ بحار الأنوار 13: 209 وما بعده؛ علل الشرائع: 167 وعنه في بحار الأنوار14: 284.
4- سورة البقرة، الآية: 90.

وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ}(1). فلذا هو يستحق الحمد علی ذلك أيضاً کما قال تعالی: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}(2).

وقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي الکتب السماوية السابقة عليه، وإنما کانت بين يديه لأنها ظاهرة له کظهور الذي بين يديه، والمراد الکتب الحقة التي أوحيت إلی الأنبياء الماضين، لا ما نسب إليهم کذباً فهو لايصدّقها، بل يُکذّب کل کتاب منحول أو محرّف، فالقرآن هو المهمين علی سائر الکتب قال تعالی: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}(3).

وقوله: {هُدًى لِلنَّاسِ} يستفاد منه أن شريعة موسی وعيسی (عليهماالسلام) کانتا عامتين لجميع الناس، لاخاصة ببني إسرائيل، کما يدل علی ذلك جملة من الروايات، فإن الأنبياء أولي العزم بُعثوا للناس جميعاً.

الخامس: قوله تعالی: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}.

الفرقان معناه عام يشمل - کما يظهر بعضه من الروايات(4)-:

1- التفريق بين الحق والباطل، فلذا کان من الفرقان: القرآن کلّه، وکذا الآيات المحکمة فيه، والأنبياء، والائمة (عليهم السلام) ، والآيات والمعجزات، قال تعالی: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}(5)، وقال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى

ص: 13


1- سورة الأنعام، الآية: 73.
2- سورة الکهف، الآية: 1.
3- سورة المائدة، الآية: 48.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 362.
5- سورة البقرة، الآية: 53.

عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}(1)،

وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}(2).

2- التفريق بين الحلال والحرام، أي بيان ما هو الحلال عن الحرام.

3- التفريق في النزول، کما قال تعالی: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}(3).

ولعلّ المقصود من الفرقان في هذه الآية، هي معجزات عيسی (عليه السلام) ، حيث إن النصاری توهموا ألوهيته لذلك، فردّهم الله تعالی بأن تلك المعجزات أنزلها الله تعالی، فهي کمعجزات سائر الأنبياء، قال تعالی: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} إلی {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ}(4)، کما يحتمل أن يکون المقصود الأئمة (عليهم السلام) ، لأنه تعالی خلقهم أنواراً بعرشه محدقين ثم أنزلهم إلی الأرض رحمة لعباده، وبذلك يتم ذکر کل أصول الدين في هذه الآيات، ولذا کان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فاروق هذه الأمة کما دلت عليه الأخبار(5).

السادس: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ...} الآية.

و هذا يدل علی عدله تعالی، کما فيه تحذير عن الکفر بآياته تعالی،

ص: 14


1- سورة الأنفال، الآية: 41.
2- سورة الأنفال، الآية: 29.
3- سورة الإسراء، الآية: 106.
4- سورة الإسراء، الآية: 101-102.
5- بحار الأنوار 22: 424؛ الغدير 2: 313؛ ومن مصادر العامة مجمع الزوائد 9: 102؛ المعجم الکبير 6: 269 وغيرهما.

والظاهر بقرينة السياق أن المراد من (آيات الله) هو کتبه وتشريعاته، فمادام تنزيلها بالحق، فيکون الکفر بها وجحودها من الباطل والضلال، ومقتضی العدل هو مجازاة المسيء علی إسائته.

و هذا العذاب قد يکون في الدنيا کما قال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(1)، وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}(2)، کما يکون في الآخرة بالجزاء الأوفی.

اشتراك الکفار والمؤمنين في نعيم الدنيا ومشقتها

سؤال: کيف ونحن نری اشتراك المؤمنين والکافرين في البلاء والمشقة في الدنيا، کما نری اشتراکهم في التنعم بالملذات والنعم الدنيوية؟

والجواب: إن مقتضی الحکمة وليکمل الامتحان أن لايکون الکفار في نعيم دائم ولا المؤمنون في مشقة دائمة، بل القوانين الطبيعية تقتضي توزع النعيم والمشقة علی الجميع، لکن الفرق أن مشقة المؤمن هي ليست بعذاب واقعي لأنها طريق لنيله الدرجات الرفيعة، فيکون کالطالب الذي يسهر في المطالعة بما فيها من مشقة لينجح في الإمتحان وينال شهادة عليا بما لها من مزايا وفوائد، کما أن نعيم الکافر مزيد شقائه وعذابه لأنه لم يؤد حقه ولا شکر ربه فينقلب عليه وبالاً حينما يُسئل عن ذلك النعيم في يوم القيامة.

مضافاً إلی أن السعادة والشقاء في الدنيا أمران نفسيان، والمؤمن مرتاح البال حتی وإن کان في صعوبات لأنه يعلم أن له ربّاً يرعاه ويجازيه بحسن

ص: 15


1- سورة الأعراف، الآية: 152.
2- سورة طه، الآية: 124.

الثواب، عکس الکافر فإنه قلق لايری معنیً للحياة وهو يری زوالها ومرورها بسرعة حتی وإن کان في نعيم ظاهري.

فإن الأمور قد تتشابه لکن نتائجها تختلف، مثلاً من يسهر علی المطالعة ومن يسهر علی اللعب کلاهما يشعران بالتعب والإرهاق والألم، لکن التشابه في الظاهر، أما في الواقع فالدارس ربح علماً وکمالاً، واللاعب خسر وقتاً بلافائدة، وکذا المؤمن والکافر قد تتشابه أمورهما الدنيوية من التمتع بملذات الحياة الدنيا من المال والأهل والأطعمة والأشربة والأنکحة، أو يتشابهان في الأمراض والمصائب والفقر والفاقة ونحو ذلک، لکن الفرق في النتيجة، فالمؤمن نفسه مرتاحة وجزاؤه الجنة والرضوان، والکافر نفسه قلقة مضطربة وجزاؤه النار والغضب.

سبب العذاب الأخروي

ثم إن عذاب الله تعالی ليس للتشفي، فإنه سبحانه منزّه عن الکيفيات النفسانية، بل هو شفاء صدور المؤمنين، وليس متنافياً مع رحمته تعالی، فإن رحمته مع حکمة، ولذا اقتضت الحکمة أن تشمل هذه الرحمة الجميع في الدنيا وتختص بالمؤمنين في الآخرة، فالکافر بسوء اختياره أخرج نفسه عن قابلية الرحمة الأخروية، فشمول الرحمة له خلاف الحکمة، نظير الکريم الذي لاينبغي له أن يجود بماله في غير موضعه، فلو تصدّق علی محتاج يعلم بأنه سيصرف المال في جريمة فإنه يُلام علی ذلك، وإن أمسك فلم يتصدق عليه مدحه العقلاء واعتبروه حکيماً من غير أن يقلّ کرمه وسخاؤه، قال تعالی: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}(1)، هذا مضافاً إلی أن الله تعالی جعل العذاب نتيجة طبيعية

ص: 16


1- سورة الأعراف، الآية: 156.

للکفر، کمن يلقي بنفسه من شاهق فإن القوانين الطبيعية - التي أودعها الله في الکون - تقتضي سقوطه إلی الأسفل وارتطامه بالأرض وتکسر عظامه وموته.

والحاصل أن سبب عذاب الکفار هو:

1- شفاء صدور المؤمنين، فإنهم أولياء الله تعالی، وقد ظلمهم أولئك الکفار، وحتی الذين لم يظلموهم فإن المؤمنين تحملوا الصعاب ومشقات التکليف والطاعة واجتنبوا عن المشتهيات المحرمة فليس من العدل تساويهم مع الکفار العصاة، قال تعالی: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}(1)،

وقال: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)}(2).

ولعله لذلك ذکرت الآيات إطلاع المؤمنين في الجنة علی الکفار المعذبين في النار واستغاثة الکفار بهم، فإن في ذلك شفاء لصدورهم مع زيادة شعورهم بفضل الله ونعمته عليهم، فإن من رأی مبتلی زاد إلتفاته إلی نعمته فزاد شکره، قال تعالی: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)} إلی قوله: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}(3)، وقال تعالی: {وَنَادَى أَصْحَابُ

ص: 17


1- سورة التوبة، الآية: 14-15.
2- سورة القلم، الآية: 33-36.
3- سورة الصافات، الآية: 38-57.

الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}(1)، وقال: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}(2).

2- وأن العذاب هو مقتضی الحکمة، بمعاقبة المسيء والمجرم.

3- وأنه نتيجة الکفر والجرائم، قال تعالی: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(3)، وقال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(4).

السابع: قوله تعالی: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.

أي له العزة فهو القادر علی ما يريد من غير منع، کما أنه منتقم يعاقب المسيء، فلايتوهم أحد أنه لايقدر علی عذابه، أو أنه تعالی لايعذب لعدم حاجته إلی العذاب، بل ينتقم لالحاجة بل لحکمته تعالی، فلا يضع الشيء إلا في موضعه.

و(النقمة) هي مکافأة المجرم علی إسائته، فعذابه تعالی يساوي الجرم لا أزيد، قال تعالی: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(5)، وأما الخلود في النار فليس زيادة علی الجرم بل لاقتضاء طبيعة الجرم هذا الجزاء، کمن يقتل بريئاً في لحظة، فيعاقب بالسجن المؤبّد، مضافاً إلی أن

ص: 18


1- سورة الأعراف، الآية: 44.
2- سورة الأعراف، الآية: 50.
3- سورة الصافات، الآية: 39.
4- سورة الکهف، الآية: 49.
5- سورة الأنعام، الآية: 160.

المخلّدين في النار کان من نيتهم الاستمرار في الجريمة ولو خلّدوا، قال تعالی: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(1)، وقد مرّ تفصيل بحثه.

الثامن: قوله تعالی: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}.

الغرض هو بيان عدم تمکنهم من إخفاء کفرهم، فالله تعالی عالم بکل شيء، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا}(2)، وکثير من الکفار لجهلهم بالله تعالی وبصفاته ولتشبيههم الربّ بأنفسهم، کانوا يزعمون إمکان إخفاء الأمور عنه تعالی، قال تعالی: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(3).

ثم إن تخصيص السماء والأرض بالذکر، مع أنه تعالی عالم بکل شيء، إما لأجل أنهما موطن العاصين، فلذا هددهم بأنه لايخفی عليه شيء فيهما، أو لأن الأشياء کلها في الأرض والسماء، فهما يضمّان کل الموجودات وأفعالها، وعلمه تعالی وإن کان غير محدود ولانهاية له إلا أن متعلق العلم: إمّا ذاته، فهو عالم بها، فذاته غير متناهية فعلمه بها أيضاً کذلك وهذا خارج عن محلّ الاحتجاج معهم، وإمّا الحوادث، وکلها في الأرض أو في السماء، وإمّا ما لم يکن وهي لا موطن لها إلاّ في علمه سبحانه وتعالی، فانحصرت

ص: 19


1- سورة الأنعام، الآية: 28.
2- سورة فصلت، الآية: 40.
3- سورة فصلت، الآية: 22-23.

الأشياء الموجودة بما في الأرض أو في السماء لذا خصّها بالذکر، فتأمل.

التاسع: قوله تعالی: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ...} الآية.

هذا تقرير لقيمومته تعالی، فما دام له علم بما في الأرحام وهو الذي يصوّره فکيف يخفی عليه شيء، کما أن الذي يکون التکوين بيده وهو عالم بخفايا الإنسان فلابد أن يکون التشريع أيضاً بيده.

وقيل: هذا أيضاً ردّ لزعم النصاری أن عيسی (عليه السلام) ابن الله حيث إنه ولد من غير أب! فيقال لهم: لکنه وُلد من أم، وأن له صورة، وقد صوّرها الله تعالی، والقادر علی إعطاء الصورة قادر علی الخلق من غير أب أيضاً.

وقوله: {كَيْفَ يَشَاءُ} لبيان أنه تعالی المهيمن علی الوجود کلّه، فالقوانين الطبيعية خاضعة لإرادته سبحانه، فهو الذي قدّرها، فهو القادر علی تغييرها، ولذا سلب الإحراق عن نار إبراهيم (عليه السلام) من غير تبدّل في حقيقة تلك النار، بل في الحقيقة إن الغيب هو المهيمن علی الطبيعة، فالموت في الظاهر مستند إلی أسبابه الطبيعية کالقتل أو الهرم ونحو ذلك، لکنه في الواقع مستند إلی قبض الله تعالی للأرواح مباشرة أو بواسطة ملك الموت أو أعوانه، وهکذا الرزق وسائر الأمور، نعم لئلا يکون جبر فقد يرتب الله تعالی الأسباب الغيبية علی الأسباب الطبيعية، بمعنی أن الإنسان إن عمل بمقتضی الأسباب الطبيعية فإن الله تعالی يهيّأ الأسباب الغيبية أيضاً، وقد مرّ بعض الکلام في سورة البقرة الآية 275 فراجع.

وإنما کانت مشيئته نافذة بلا معارض لأنه هو المعبود دون سواه وله العزة والقدرة فلا تغلب مشيئة مشيئته، بل إن الناس يشاؤون لأن الله تعالی أراد

ص: 20

خلقهم مختارين، قال تعالی: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}(1)

بل لايکون شيء في الکون إلاّ بمشيئة الله تعالی، حيث إنه تعالی شاء أن يکون الإنسان مختاراً، وشاء تقدير القوانين الطبيعية وغيرها، وتعلّق قضاؤه وقدره بکل شيء، حتی أفعال الإنسان، لکن لا بما يلزم منه الجبر بل بما يبقی الإنسان علی اختياره، فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، وقد ذکرنا تفصيل هذا في شرح أصول الکافي (باب أنه لايکون شيء في الأرض والسماء إلا بسبعة) فراجع.

وليست مشيئته اعتباطاً، بل هو الحکيم الذي لايصنع شيئاً إلاّ لمصلحة، ولذا تمّت الآية بقوله: {هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

ص: 21


1- سورة الإنسان، الآية: 30.

الآيات 7-9

اشارة

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}

حول المحکم والمتشابه في القرآن

اشارة

7- وکما يصوّرکم الله في الأرحام کيف يشاء بحکمته، کذلك ينزل الکتاب کما يشاء بحکمته ف {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن {مِنْهُ} من الکتاب {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} ظاهرة الدلالة لاتخفی علی أهل اللسان وأريد ظاهرها، {هُنَّ} أي الآيات المحکمات {أُمُّ الْكِتَابِ} أصله ومرجع الناس إليها فهي التي تدل بظاهرها علی العقائد والأحکام والأخلاق وسائر مايهدي الناس، {وَأُخَرُ} من الآيات {مُتَشَابِهَاتٌ} لايُراد ظاهرها فتشتبه علی الجاهل بمقاصدها.

ثم إن الناس في کيفية تعاملهم مع الکتاب علی ثلاثة أصناف: الزائغين، والراسخين، وأولي الألباب.

{فَأَمَّا} الصنف الأول فهم {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} انحراف عن الحق

ص: 22

{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} من الکتاب اتّباعاً علی خلاف المراد، وغرضهم {ابْتِغَاءَ} أي طلب {الْفِتْنَةَ} بإضلال الناس عن دينهم {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي تأويل الکتاب بما يتطابق مع هواهم ومشتهياتهم، فيتلاعبون بکل معاني الکتاب بإرجاع المحکم إلی المتشابه، وإرجاع الناسخ إلی المنسوخ، والعام إلی الخاص... وهکذا، {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} تأويل الکتاب کله {إِلَّا اللَّهُ} تعالی، والله سبحانه قد أفاض علم التأويل کلَّه إلی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) .

والصنف الثاني: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} والرسوخ هو أشد الثبات، أي ثابتون فيه وذلك لکثرة علمهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} بالکتاب کلِّه، {كُلٌّ} من المحکم والمتشابه {مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، وأفضلهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) علّمه الله تعالی کل علم التأويل، ومن بعده أوصياؤه (عليهم السلام) علّمهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) کل ذلك العلم.

والصنف الثالث: هم المؤمنون التابعون للراسخين، وهم أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الهوی {وَمَا يَذَّكَّرُ} بعدم الإسراع في تفسير المتشابه {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} العقل الخالص، وهم الذين يتبعون الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام) .

8- ودعاء أولي الألباب هو أن يستمر الله في هدايتهم، فيقولون: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} بترك اللطف، فإن الهداية هي إفاضة مستمرة فلولم يستمر لطفه لزاغوا {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} إلی الإيمان بکل القرآن، {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} حتی يکون إيماننا عن معرفة وبصيرة، فقد يکون الايمان

ص: 23

إجمالياً من غير معرفة، وقد تنضم المعرفة إلی الايمان وهو نور علی نور، {إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} معطي الهبات بکثرة.

9- فلا تزغ قلوبنا حتی لا نکون يوم القيامة من المخذولين ف{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ} کلِّهم {لِيَوْمٍ} أي في يوم أو لحساب يوم {لَا رَيْبَ فِيهِ} لاشك فيه عند ذوي العقول، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} الوعد بالحساب والجزاء.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}.

مرّ في الآية الثالثة قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}، وکان الغرض هناك بيان قيوميّته تعالی علی التشريع کقيوميّته علی التکوين، وأما الغرض في هذه الآية فهو بيان تقسيم الکتاب إلی صنفين وأن کلا الصنفين من الله تعالی، فهو أنزلهما لحکمته ورحمته، ثم يُعَلِّم المؤمنين کيفية الاهتداء بهما، فالمحکم بجعله المرجع والأصل، والمتشابه بالرجوع إلی الراسخين لفهمه.

الثاني: قوله تعالی: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}.

و هنا مطالب:

المطلب الأول: معنی المحکم والمتشابه

المطلب الأول: (المحکم) من الإحکام بمعنی الإتقان والمنع عن تعرض الخلل فيه، و(المتشابه) بمعنی إشتباه الجاهل في المقصود منه.

وکل القرآن له ظاهر بحيث يعرف مفردات الکلمات ومعانيها کل عارف باللغة العربية، ولذا کان العرب الجاهليون حتی الأميين منهم يعرفون ظواهر الآيات بحيث لم تکن لهم ألغازاً أو أحاجي، مثلاً قوله تعالی: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

ص: 24

نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(1) مفردات الکلمات واضحة المعنی، لکن ما هو المقصود بالنظر؟ هل النظر الحسي بمعنی الرؤية کما تقوله المجسمة، أو النظر إلی رحمته تعالی وانتظارها کما هو مقتضی محکمات القرآن، کقوله تعالی: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}(2)، وقوله: {لَنْ تَرَانِي}(3) وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(4)، وکذا قوله تعالی: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(5) واضح المعنی من حيث المفردات، لکن هل الاستواء بمعنی الجلوس الحقيقي کما يقوله الضالون، أو بمعنی استيلاؤه علی الکون أجمع، واستواء نسبته إلی الأشياء کما هو مقتضی الآيات المحکمة ومقتضی بيان الراسخين في العلم.

والحاصل أن القران کلّه - باستثناء الحروف المقطعة - واضح المفردات واضح المعاني، قال تعالی: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}(6)، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا}(7)، لکن المقصود قد يشتبه علی من لايعرفه، مثلاً قولهم في الکنايات: (زيد کثير الرماد)، مفردات الجملة ومعناها واضحة، لکن المقصود هو بيان سخاء زيد، وهنا قد يأتي جاهل ويحمل معنی الجملة علی وساخة زيد وقذارته، وما ذلك إلاّ لجهله بالمقصود،

ص: 25


1- سورة القيامة، الآية: 22-23.
2- سورة الأنعام، الآية: 103.
3- سورة الأعراف، الآية: 143.
4- سورة الشوری، الآية: 11.
5- سورة طه، الآية: 5.
6- سورة النحل، الآية: 103.
7- سورة الکهف، الآية: 1-2.

أو لغرض آخر کعداوته لزيد فيستغلّ الکلام للإيقاع به - مثلاً - .

نعم قد يعرض الإجمال علی بعض المفردات بسبب اختلاف الاصطلاحات أو حدوث تغيير في بعض المفردات أو النقل أو لاختلاف اللهجات أو وجود الاشتراك اللفظي، لکن ذلك الإجمال يرتفع بالتدبر والتحقيق وبمراجعة الراسخين في العلم.

المطلب الثاني: مصاديقهما

المطلب الثاني: إن للمحکم والمتشابه مصاديق متعددة، فباعتبار أحد المصاديق کان بعض القرآن محکماً وبعضه متشابهاً، وباعتبار آخر کان کل القرآن محکماً وکلّه متشابهاً.

فباعتبار وضوح المقصود أو احتياجه إلی بيان، ينقسم القرآن إلی محکم ومتشابه.

وباعتبار إحکام الآيات، وکونها تصدّق بعضها بعضاً، وإعجازها، ورفعتها فکلّها محکمات، ومن هذه الجهة يشبه بعضها بعضاً، قال تعالی: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(1) وقال سبحانه: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}(2).

المطلب الثالث: سبب وجودهما في القرآن

المطلب الثالث: سبب وجود المتشابه في القرآن أمور، منها:

1- إن بعض المطالب دقيقة غير محسوسة: فلا تتحمّلها عقول الذين لايألفون سوی المادة والأجسام، وخاصة في صفات الرب تبارك وتعالی، والناس بفطرتهم يدرکون وجود الخالق، لکنهم لم يکونوا يرتقون إلی

ص: 26


1- سورة هود، الآية: 1.
2- سورة الزمر، الآية: 23.

تنزيهه عن المادة والماديات، لذا اختاروا آلهة حجرية أو بشرية، وحتی بنوإسرائيل بعد عبورهم البحر ومشاهدتهم الآيات الباهرات خاطبوا موسی (عليه السلام) : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}(1)، ثم لم يزل ذلك کامناً في نفوسهم إلی أن أظهروه في عبادة العجل.

ولذلك فالآيات الدالة علی تلك المعاني الدقيقة مع أن الله تعالی يسّرها للذکر، لم يکونوا يفهمون معانيها إلا بطريقة غير سليمة.

وقد جعل الله تعالی طريقاً واضحاً لفهم المقصود، وهو أن أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ببيان المعاني والمقاصد قال تعالی: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(2)، وقال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ}(3)، ورسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قد عيّن الأئمة من بعده - بأمر من الله تعالی - وجعلهم المرجع في فهم المتشابه، ولو کان الناس يجعلونهم حيث جعلهم الله تعالی ويتبعونهم ويستقون علومهم منهم لما بقي اختلاف ولاتّضح المراد للجميع، لکن الناس أخّروهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، فضلّوا وأضلّوا، قال تعالی: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }(4).

2- ومن ذلك يظهر سبب آخر وهو امتحان الناس، فلو لم تکن أسباب

ص: 27


1- سورة الأعراف، الآية: 138.
2- سورة النحل، الآية: 44.
3- سورة النحل، الآية: 64.
4- سورة البقرة، الآية: 253.

الضلال موجودة لبطل الامتحان، فکان وجود المتشابه من أسباب الامتحان.

3- نسخ بعض الآيات، حيث کان المقصود هو العمل بتلك الآيات لفترة معيّنة، وبانتهاء المصلحة يتبدّل الحکم فتنسخ تلك الآيات مع بقاء تلاوتها في القرآن - لوجود أغراض أخری منها کما مرّ في سورة البقرة - وقد يشتبه الأمر علی الجاهلين فلايعرفون الآيات المنسوخة، فيستمرون في العمل بها، مع أن أمد العمل قد انتهی وبقيت الآية لأغراض أخری.

ولعل ما ورد في بعض الأخبار من أن المتشابه هو الذي لايُعمل به، يراد به الآيات المنسوخة فإنها من التشابهات ولايجوز العمل بأحکامها حيث إنها نسخت، وأما سائر الآيات المتشابهة وبعد بيان الراسخين لمعانيها فإنها يجب العمل بها.

4- وقد يکون سبب التشابه هو سعة اللغة وفصاحة الکلام وبلاغته، فمن البلاغة أن توضع المعاني العالية والدقيقة في قالب ألفاظ مُيسّرة، ولذا يکثر المجاز والکناية واستعمال الألفاظ المشترکة في الکلام البليغ، والقران معانيه رفيعة ومقاصده سامية وباطنه عميق فلولا أن الله مَنَّ علی الناس بتيسيره لما فهموه أصلاً، قال تعالی: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}(1)، وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(2)، وقال: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}(3).

ص: 28


1- سورة القمر، الآية: 17.
2- سورة الدخان، الآية: 58.
3- سورة الزخرف، الآية: 2-4.
المطلب الرابع: المحکمات أ ُم الکتاب

المطلب الرابع: کون المحکمات أُمّ الکتاب بمعنی أنها أصله التي تتضمن معارفه وأحکامه ومواعظه، ونحو ذلك، فالمحکمات الواضحة المقصود تشتمل علی کل الأمور المرتبطة بالهداية، فأصول الدين وأصول الأحکام والأخلاق والمواعظ والإرشاد وسائر الحقائق موجودة في المحکمات، وأما المتشابهات فهي أيضاً تتضمن تلك الأمور وتفاصيل أخری، لکنها لاتختص بما لايوجد في المحکمات.

وبعبارة أخری: أسس الهداية کلّها موجودة في المحکمات، فلا يوجد أصل تخلو المحکمات منه، وأما المتشابهات فهي تتضمن تلك الأصول أيضاً وبعض الأمور المتفرعة.

ومن لوازم کون المحکمات أم الکتاب هو رجوع المتشابهات إليها، لا أن أمومتها منحصرة في ذلك، کما هو واضح.

المطلب الخامس: کيفية رجوع المتشابهات إلی المحکمات
اشارة

المطلب الخامس: کيفية رجوع المتشابهات إلی المحکمات هو عن طريق معرفة المحکم عن المتشابه أولاً، ثم تفسير المتشابه بما يقتضيه المحکم، وهذا لايتيسر إلا عبر مراجعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والائمة (عليهم السلام) ، لأن المبطلين قد يبدلّون المحکم بالمتشابه، فيعتبرون المتشابه محکماً والمحکم متشابهاً، کما فعلوه في قوله تعالی: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} حيث اعتبروه متشابهاً مع أنه محکم، وفي قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فاعتبروه محکماً مع أنه متشابه، نعم قد تکون آيات يتفق الکل علی کونها محکمة فحينئذٍ يمکن إرجاع المتشابهات إليها.

الثالث: قوله تعالی: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ...} الآية.

ص: 29

هؤلاء الصنف الأول من الناس: فهم قد ينتحلون الإسلام، أو هم منافقون لکنهم يريدون تشکيك الناس في دينهم وإضلالهم، فيأتون إلی الآيات المتشابهة، فيتبعونها، أي يتعلقون بها ويشرحونها بخلاف المقصود والمراد منها، وليس المراد يعملون بالآية، وذلك لأن الآيات المتشابهة قد لاترتبط بالعمل بل بالاعتقاد، کما أن الزائغين قد لايکونون من المسلمين بل من الکفار الذين يريدون الإضلال والإغواء، وغرض هؤلاء أمران:

1- الفتنة، أي إضلال الناس عن دينهم، کما قيل في سبب نزول الآية أن وفد نصاری نجران استدلوا علی کون عيسی (عليه السلام) ابناً لله تعالی بأنه ولد من غير أب وأنه کلمة الله وأنه روح منه(1)، فأرادوا إضلال الناس عن قوله تعالی: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}(2)، وهکذا جميع المبتدعة من منتحلي الإسلام يستدلون علی باطلهم بآيات متشابهة من القرآن الکريم بغية إضلال الناس إلی بدعتهم.

2- تأويل القرآن، وليس المراد تأويل خصوص الآيات المتشابهة، بل الظاهر أن مرادهم هو تأويل کل القرآن - حتی المحکمات منه - بما ينسجم مع زيغهم وأهوائهم، وسياق الآية يدل علی رجوع ضمير {تَأْوِيلِهِ} إلی القرآن الکريم کلّه، وذلك لرجوع کل الضمائر إلی القرآن في {مِنْهُ آيَاتٌ} و{تَشَابَهَ مِنْهُ} و{آمَنَّا بِهِ}.

وهذا أخطر من الفتنة، فقد يأولون المتشابه إلی معنی غير مقصود، وقد

ص: 30


1- مجمع البيان 2: 361.
2- سورة النساء، الآية: 171.

يأولون کل القرآن بما يناسب هواهم، وهذا ما يشاهد في المبتدعة حيث أولوا المحکمات وأرجعوها إلی المتشابهات وبالمعنی غير المقصود منها، وفي ذلك تحريف للمعاني وإلباس العقائد الباطلة بلباس الحق، ولذا وُجدت المجبرة والمشبهة والمفوضة والقدرية ونحوهم من النحل الفاسدة التي قد تکون کفراً في الباطن.

وقد روي عن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال لعلي (عليه السلام) : «تقاتل علی التأويل کما قاتلتُ علی التنزيل»(1) وذلك لأنهم قاتلوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إنکاراً لرسالته وتکذيباً لکون القرآن کلام الله تعالی، فلما انهزموا في المعرکة دخلوا في الإسلام نفاقاً ثم قاتلوا أميرالمؤمنين (عليه السلام) علی معاني القرآن، فأنکروا نزول الآيات فيه (عليه السلام) بل وضعوا أحاديث في نزول آيات أخری فيه مع أنها نزلت في الکفار والمنافقين، کما ابتدعوا عقائد وعبادات وأعمالاً ألبسوها لباس الدين وأوّلوا القرآن ليتطابق معها، فقاتلهم علی التأويل ليرجع الحق إلی نصابه، وکما نجح الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في إثبات التنزيل رغم بقاء کثيرين علی الکفر والنفاق، کذلك نجح أمير المؤمنين (عليه السلام) في إبقاء التأويل الصحيح رغم سيطرة الأمويين وسائر الظالمين، فبقيت الحجة ف{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}(2).

ومن ذلك يتضح معنی ما روي من أن المحکمات هم أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) ، والمتشابهات من أعدائهم(3)، فلعلّ المقصود من هذا التأويل واضحة، عکس

ص: 31


1- بحار الأنوار 28: 45 عن أمالي الشيخ الطوسي.
2- سورة الأنفال، الآية: 42.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 364 عن الکافي.

هو أن الأئمة (عليهم السلام) يبيّنون المحکمات کما أن أعدائهم يتبعون المتشابهات، أو أن الأئمة واضح کونهم حقاً فالبراهين والأدلة عليهم أولئك فما يستدل لهم من المتشابهات التي لايُرادون بها.

الرابع: قوله تعالی: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}.

معنی التأويل

(التَأوِيلَ) من الأوْل أي هو ما يؤول إليه الشيء ويرجع إليه، وقوله: {تَأْوِيلَهُ} أي تأويل القرآن کله، کما أن أهل الزيغ يريدون تأويل القرآن کله بما يتطابق مع أهوائهم.

وقد دلت هذه الآية وآيات أخری أن للقرآن کله تأويلاً کما قال تعالی: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ...}(1)، وقال سبحانه: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}(2).

وتأويل القرآن هو الحقائق المقصودة فيه، ومن مصاديقها بطون القرآن أي المعاني التي لايدل عليها الظاهر لکنها مقصودة أيضاً، وهذا هو المعنی الشائع والمصطلح للتأويل، لکنه أحد مصاديق المعنی اللغوي العام الذي هو المراد من کلمة التأويل في القرآن الکريم.

وبعبارة أخری: (التأويل) بمعناه اللغوي هو المرجع والمئآل وهو المراد في هذه الآيات، أي حقائق القرآن المقصودة من ألفاظه ومعانيه ومن مصاديقه التأويل الاصطلاحي - أي المعاني التي لاتستفاد من الظاهر لکنها مقصودة - .

ص: 32


1- سورة الأعراف، الآية: 52-53.
2- سورة يونس، الآية: 39.

مثلاً: {أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} معناه واضح لکن هناك غرض من إقامة الصلاة هو النهي عن الفحشاء والمنکر ثم القرب إلی الله تعالی ونيل رضاه والجنّة، فهذه حقائق هي مئال ومرجع الآية، وهذه حقائق يعلمها الله تعالی وعلّمها الراسخين في العلم، وقد بيّن الله وأولياؤه بعض تلك الحقائق للناس، فتأمل.

ثم إن التأويل الاصطلاحي - ببيان معاني للآيات لاتستفاد من ظاهرها - هو علم خاص بالله تعالی علّمه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) ولا طريق لنا إلی الوصول إليه إلاّ بواسطتهم، وأما التأويل بمعناه اللغوي العام فقد يمکن وصول بعض العلماء الربانيين إليه.

ومن ذلك يتضح أن التأويل بحاجة إلی رسوخ في العلم، فإن أريد معنی التأويل العام فالرسول والأئمة أبرز المصاديق ويدخل فيه العلماء الربانيين - الذي أخذوا علومهم عبر التمسك بالثقلين - بل عدّ القرآن من الراسخين بعض أهل الکتاب قال سبحانه: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي من أهل الکتاب {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}(1)،

وإن أريد المعنی الاصطلاحي فهم (عليهم السلام) المصداق الوحيد فلا راسخ غيرهم.

الخامس: قوله تعالی: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ...} الآية.

(الرسوخ) بمعنی الثبات، فالمعنی أنهم ثابتون في العلم، وذلك لکثرة علمهم ومعرفتهم لحقائق الأمور وقد اختلف في أن الواو في (الراسخون) هل هي عاطفة أم استيناف، فإن کانت عاطفة فالمعنی إن العالم بالتأويل هوالله والراسخون، وإن کانت استيناف فالمعنی إن العالم بالتأويل هو الله

ص: 33


1- سورة النساء، الآية: 162.

تعالی فقط، لکن هذا لاينافي تعليمه تعالی التأويل للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، وذلك لما مرّ مراراً من أن کل کمال خاص بالله تعالی، وهو سبحانه قد يفيض من ذلك الکمال لمن يشاء، کعلم الغيب الذي يختص بالله تعالی {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(1)

لکنه تعالی قد يفيض من علم الغيب لمن يشاء من عباده، کما قال: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(2).

فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : إن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أفضل الراسخين في العلم، فقد علم جميع ما أنزل الله عليه من التنزيل والتأويل، وما کان الله لينزل عليه شيئاً لم يُعلّمه التأويل، وأوصياؤه يعلمونه کله(3).

وأما قولهم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فهو دليل علی رسوخ علمهم وقوة إيمانهم، وفي التقريب: فإنهم جمعوا بين فضيلتي العلم بالتأويل والإذعان بصحة المتشابه، بخلاف الجهال فإنهم يعترضون علی المتشابه أولاً ويفسرون حسب أهوائهم ثانياً، وهکذا نجد الآن في العرف: العالم الورع يجمع بين الفضيلتين، والجاهل يشتمل علی الرذيلتين(4).

السادس: قوله تعالی: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}.

وهؤلاء الصنف الثالث، فليس في قلوبهم زيغ، ولاهم من الراسخين في العلم، لکنهم مؤمنون مهتدون، وسبب ذلك ابتعادهم عن هوی النفس

ص: 34


1- سورة النمل، الآية: 65.
2- سورة الجن، الآية: 26-27.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 366، عن تفسير القمي، وقريب منه في الکافي وتفسير العياشي.
4- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 315.

وامتلاکهم لعقل خلّصوه من الحُجب وشوائب الشهوات والأهواء، فحينما يرجعون إلی عقلهم الخالص يرشدهم إلی الاله الحکيم الرحيم، وأنّ من حکمته أنّه أنزل الکتاب واختار للکتاب حملة ومُبيّنين، وأنه لا اختلاف في الکتاب بل يصدّق بعضه بعضاً، وأنهم لو لم يفهموا أمراً فليس ذلك إلا لقلة علمهم لا لبطلان ذلك الأمر أو تناقضه، قال تعالی: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(1)، وقال تعالی: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(2).

معنی أولي الألباب

ثم إنه قد وردت روايات کثيرة علی أن أولي الألباب هم شيعة أهل البيت (عليهم السلام) (3)، لأنهم أطاعوا الله والرسول في تولّي الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وإطاعتهم، ثم أخذوا علومهم منهم فهم المعين الصافي النابع من علم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) المستقی من الوحي.

وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ} من الذکر والتذکر، وهو العلم بالواقع ابتداءً أو بعد الغفلة والنسيان، فليس معنی التذکر خصوص ما کان بعد غفلة أو نسيان، بل يمکن أن يحصل العلم ابتداءً، بل حتی مع العلم فإن التوجه إليه بالخصوص هو نوع تذکر، فتحصل أن التذکر علی أقسام، منها: رجوع العلم بعد زواله بالغفلة أو النسيان، ومنها: حدوث العلم بعد أن لم يکن، ومنها: توجه النفس ولحاظ المعلوم، ومن ذلک ذکر الله تعالی استمراراً مع عدم الغفلة عنه أصلاً بل مزيد التفات وترکيز، فتأمل.

ص: 35


1- سورة النساء، الآية: 83.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- البرهان في تفسير القرآن 8: 350 فما بعد.

السابع: قوله تعالی: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا...} الآية.

أي هذا دعاء أولي الألباب، والراسخين أيضاً، وذلك إنهم يعلمون أن الهداية فيض من الله تعالی، وهم يعلمون أنه لولا لطف الله تعالی لضلّوا، فإنه کلما ازدادت المعرفة ازدادت الخشية، کما قال تعالی: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(1)، فلذا يخافون أن يکون مصيرهم الضلال بسوء الاختيار قال تعالی: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}(2)، وقال تعالی: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}(3).

وقد مرّ مفصلاً أن الهداية والضلال من الله تعالی، لکنه سبحانه يهدي الجميع ابتداءً، فمن قَبِل الهداية بحسن اختياره زاده الله هدی، قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(4).

و من رفض الهداية لايقطع الله لطفه عنه، إلی أن يفقد قابلية الهداية فحينئذٍ يختم الله علی قلبه ويقطع عنه ألطافه فلا يؤمن حتی يری العذاب الأليم بسوء اختياره، قال تعالی: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}(5)، وقال: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}(6).

ص: 36


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- سورة الأعراف، الآية: 175-176.
3- سورة الصف، الآية: 5.
4- سورة محمد، الآية: 17.
5- سورة البقرة، الآية: 26.
6- سورة إبراهيم، الآية: 27.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أکثروا من أن تقولوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ولا تأمنوا الزيغ»(1).

وأيضاً قد يکون المعنی لاتختبرنا بما لانتمکن من حفظ إيماننا معه فنزيغ عنده، وفي الدعاء «أعوذ بك من مضلاّت الفتن»(2)، فقد يکون الإنسان علی الصراط المستقيم لکنه حين تشريع جديد أو امتحان صعب يسقط، کقوله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} فإن الله لو لم يخلق آدماً (عليه السلام) أو لم يأمر إبليس بالسجود له لما کان إبليس يتمرد ويعصي، فلما خلقه وأمره بالسجود له عصی وتمرد، وکقوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا}(3).

ثم إن دعاءهم {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} بعد دعاءهم {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} إنما هو لأجل زيادة الألطاف، فعدم الزيغ لطف لکن قد يبقی الإنسان علی عدم معرفته بالحقائق فهو مؤمن إجمالاً وغير زائغ قلباً لکنه جاهل بمعنی المتشابه وتأويله، فيدعون الله تعالی أن يهب لهم رحمة عظيمة من عنده ليعرفوا المتشابه وليتمسکوا بالراسخين بالعلم ليزدادوا مقاماً ودرجة وقرباً.

الثامن: قوله تعالی: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ...} الآية.

وهذا من تکملة دعاءهم بعدم الزيغ وهو کالتعليل لطلبهم الرحمة، فإن الزائغ قد يتوهم أنه يتمکن من الفرار عن العقاب، لکن أولي الألباب والراسخين يذعنون بيوم الجزاء فيدعون الله أن يثبتهم علی الايمان لينجوا من

ص: 37


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 369، عن تفسير العياشي.
2- بحار الأنوار 83: 89.
3- سورة البقرة، الآية: 246.

العذاب في ذلك اليوم، فکما أن الهداية من عنده کذلك المجازاة منه تعالی.

والحاصل: هنا مراحل ثلاث، أشاروا إليها في قولهم:

1- أصل الإيمان {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}.

2- الثبات علی الإيمان وزيادته {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} الآية.

3- الجزاء الحسن علی الإيمان والعقاب علی الزيغ {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ...}.

وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي لاينبغي الريب فيه لوضوحه وسطوع براهينه، وإن کان قد شك فيه من لايعقلون.

ص: 38

الآيات 10-13

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}

بعد ذکر أصناف المسلمين الثلاث، يأتي الکلام حول الکفار الذين لايذعنون بالکتاب أصلاً ولا يريدون اتباعه لا في محکمه ولا في متشابهه، فقال تعالی:

10- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله وبالرسول وبالقرآن {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} أي لاتفيدهم {أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ} من عذابه أو بدلاً عن رحمته {شَيْئًا} ولو مقداراً قليلاً، {وَأُولَئِكَ} الکفار {هُمْ وَقُودُ النَّارِ} أي المادة التي تشتعل منها النار کالحطب، فهم يستقوون بأموالهم وأولادهم لکن أموالهم تفنی وأولادهم يتبرؤون منهم لما يروا العذاب.

11- وهل نفعت أموال وأولاد من کانوا أکثر منهم قوة؟ کلاّ فإن هؤلاء في تکذيبهم وفي عدم انتفاعهم بأموالهم وأولادهم {كَدَأْبِ} عادة {آلِ

ص: 39

فِرْعَوْنَ} أي فرعون وأتباعه {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قبل آل فرعون {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} دلائلنا الدالة علی العقائد والأحکام، فلم يغن عنهم من الله شيئاً {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي عاقبهم عليها {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

12- بعد أن علمت بهذه الحقيقة فاذکرها للکفار إتماماً للحجة وتثبيتاً لقلوب المؤمنين ف{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} في الدنيا {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} في الآخرة {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ما مهدتموه لأنفسکم وهو جزاء أعمالکم.

13- وهناك قضية شاهدها الجميع في مغلوبية الکفار ف{قَدْ كَانَ لَكُمْ} أيها الکفار أو أيها الناس جميعاً {آيَةٌ} علامة علی صدق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث أخبر بأن يکون للمسلمين إحدی الحُسنيين وقد تحقق ما قاله (صلی الله عليه وآله وسلم) {فِي فِئَتَيْنِ} جماعتين من المسلمين والکفار {الْتَقَتَا} في غزوة بدر {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأجل دينه وفي طاعته تعالی {وَ} فئة {أُخْرَى كَافِرَةٌ} مشرکو مکة {يَرَوْنَهُمْ} يری المسلمون الکافرين {مِثْلَيْهِمْ} أي ضِعفهم مع أن الکفار کانوا ثلاثة أضعاف {رَأْيَ الْعَيْنِ} أي معاينة ظاهرة بالبصر لامجرد علم، فکان المسلمون أقل عدداً وعدة ومع ذلك انتصروا بنصر الله تعالی {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ} يقوّي {بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} من المؤمنين الذي وفوا بشروطه تعالی {إِنَّ فِي ذَلِكَ} نصر المؤمنين {لَعِبْرَةً} اعتبار وموعظته {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} فيبصرون الآيات ويعون حقائقها، عکس الکفار الذين يرونها ولا يدرکونها.

ص: 40

بحوث

الأول: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ...} الآية.

لما کان التقسيم في الآية السابعة حول من ينتسبون إلی الإسلام من الراسخين وأولي الألباب والزائغين، بينت هذه الآية حال الکافرين، لأن الزائغين ينتحلون الإسلام لکنهم يتبعون المتشابهات للفتنة وللتأويل حسب أهوائهم، وأما الکفار فهم ينکرون الکتاب ولا يدعون الانتساب إلی الإسلام.

ويحتمل تعميم الزائغين للکفار الذين يريدون الإشکال علی القرآن أو تحريف تعاليمه عبر اتباع المتشابه وتحريف معناه، فتکون هذه الآية کالتتمة للآية السابقة، أي إن الله جامع الناس ليوم القيامة فقسم منهم وهم الکفار - ومنهم الزائغون - فهم وقود النار وذکرته هذه الآية، وقسم آخر منهم وهم المؤمنون ففي نعيم الجنة کما سيأتي في الآية 15.

ثم إن هؤلاء الکفار يستقوون بالأمور المادية الزائلة ويتوهمون أنها تنفعهم، وسبب ذلك أنهم قصروا عقولهم علی المادة والماديات وغفلوا عن قوة الخالق سبحانه وتعالی، أو توهموا أن الميزان عند الله تعالی هو الأمور الدنيوية، قال تعالی: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(1) ثم إن الله تعالی يبين لهم أن أموالهم وأولادهم إنما هما من الله تعالی فکيف تحجزهم عن عذابه فقال: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ

ص: 41


1- سورة سبأ، الآية: 34-35.

عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}(1) وقال: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}(2)، عکس المؤمن الذي يری الأموال والأولاد فضلاً من الله تعالی فلابد أن تصرف في مرضاته، وأنه لا أهمية لقلتها وکثرتها، وقال: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}(3).

وإنما قدّم الأموال علی الأولاد، لأن اعتماد الإنسان عليها أکثر من اعتماده علی أولاده، ولأنها أسبق زماناً من الأولاد، فالإنسان يستظهر بأمواله أکثر من استظهاره بأولاده، وهي سبب البطر والعتو أکثر من الأولاد.

وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} إما يرجع إلی الکفار، فهم وقود النار، وإما إلی الجميع أي الکفار وأموالهم وأولادهم الذين اتبعوهم بالکفر، فبدلاً من أن تحميهم أموالهم وأولادهم تتحول هي إلی وسيلة لتعذيبهم، فيأتيهم الضرر من حيث کانوا يريدون النفع، قال تعالی: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}(4) وقال: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ

ص: 42


1- سورة سبأ، الآية: 36-37.
2- سورة مريم، الآية: 77.
3- سورة الکهف، الآية: 39-40.
4- سورة التوبة، الآية: 34-35.

وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ}(1).

و{الْوَقُودِ} هو ما توقد به النار وتشتعل کالحطب، فکما يحترقون بالنار من خارجهم، کذلك تنبع النار من داخلهم، فطينتهم طينة سجين وهي من جهنم.

الثاني: قوله تعالی: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ...} الآية.

(الدأب) هو العادة والشأن، وأصله من العمل المستمر، والمقصود هو العبرة بمن مضی، فهؤلاء الکفار لإحاطتهم بالمال والأولاد يبطرون فلا يرون الحقائق، فيتم تذکيرهم بالذين من قبلهم وقد کانوا أقوی منهم لکن مع ذلك أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر فلم ينتفعوا لابمال ولا بولد ولا بسلطان ولا بأعوان، قال تعالی: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} إلی قوله: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(2).

و{ءَالِ فِرْعَوْنَ} هم فرعون وآله، والمراد أتباعه.

وقوله: {كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا} تفسير لدأبهم، أي عادتهم في التکذيب، أو هو سبب للدأب فيکون المعنی عدم إغناء الأموال والأولاد هو العادة التي جرت في آل فرعون والذين من قبلهم حيث لم تغنِ عنهم، وسبب جريان تلك العادة هو تکذيبهم، فيکون حاصل المعنی أن السنة الإلهية جرت في المکذبين أن لاتنفعهم أموالهم ولا أولادهم.

ص: 43


1- سورة الممتحنة، الآية: 3.
2- سورة التوبة، الآية: 69.

عدم عقوبة المؤمن مرتين في الدنيا والآخرة

وقوله: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي عاقبهم علی الذنوب، کما قال تعالی: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ}(1)، والباء إمّا للسببيّة أي بسبب ذنوبهم، فإنه تعالی لايأخذ البريء بجريرة الظالم فإنه لاتزر وازرة وزر أخری، وإما للآلة أي الذنوب کانت آلة الأخذ، نظير قوله تعالی: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ}(2)، وفي ذلك إشعار بتجسّم الأعمال، فتأمل.

وقوله: {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لأن عقابه يساوي الجريمة، عکس العقوبات الدنيوية حيث هي أقلّ من الجريمة عادة، فقد تکون العقوبة تشابه الجريمة وتکون مثلها في الظاهر لکنها في الواقع أقل منها ولاتساويها، مثلاً من يقتل مؤمناً فعقوبته الدنيوية القصاص، وهو عقوبة تساوي الجريمة في الظاهر فقتل بقتل، ولکن هل واقع قتل المؤمن يساوي واقع قتل الجاني؟ کلا، فقتل المؤمن کقتل الناس جميعاً، وقتل الجاني مجرد إزهاق روحه الخبيثة نکالاً به.

ومن ذلك يتضح أن العقوبات الدنيوية قاصرة عن بلوغ کنه الجرائم - عادة - وأما العقوبات الأخروية فهي الجزاء الأوفي الذي يتساوی معها لذلك کان العذاب عذاباً شديداً.

نعم هنا بحث آخر وهو أن الله تعالی بفضله وکرمه لايجمع علی المؤمن عقوبتين - عقوبة الدنيا والآخرة - فمن أ ُجري عليه الحدّ الشرعي يتطهّر من ذلك الذنب فلا يعاقب عليه في الآخرة، وفي الحديث: فالله أحکم وأکرم من

ص: 44


1- سورة هود، الآية: 102.
2- سورة المؤمنون، الآية: 76.

أن يعاقب عبده مرّتين(1) لکن شرط ذلك الإيمان وعدم العتوّ، أما الکافر الجاني فتجمع عليه العقوبتان، وکذا المسلم الذي أ ُجري عليه الحد لکنه يعتو ولايندم ويريد تکرار الجريمة، فدليل عدم جمع العقوبتين لايشملهما.

الثالث: قوله تعالی: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ...} الآية.

کانت الآية العاشرة حول عدم نفع أموال الکفار وأولادهم أمام قدرة الله تعالی في عذابهم، وهذه الآية تعميم لعدم النفع حتی أمام المؤمنين، فکما يعذبهم الله تعالی کذلك سيغلبهم المؤمنون، قال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}(2)،

ويحتمل أن يکون {أُوْلَئِكَ} في الآية العاشرة إشارة إلی الأموال والأولاد فقط، وهذه الآية بيان لعذاب الکفار أيضاً مضافاً إلی کون أموالهم وأولادهم وقوداً للنار.

وقوله: {سَتُغْلَبُونَ} بيان لسنةٍ إلهية وهي انتصار الحق في نهاية المطاف حتی وإن جال الباطل لفترة، قال تعالی: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(3) وذلك لأن الله تعالی خلق السموات والأرض بالحق، فلذا من الطبيعي کون الباطل زهوقاً، ولئن کانت حکمة الامتحان والتمحيص سبباً لإعطاء المجال للکفار ولأهل الباطل وعدم منعهم بالقهر والقوة لکن هذا المجال لايسبب غلبتهم علی السنة الإلهية، بل

ص: 45


1- الکافي 2: 443.
2- سورة التوبة، الآية: 14.
3- سورة الصف، الآية: 9.

انتصاراتهم ظاهرية زائلة والحق يغلبهم ولو بعد حين.

ومن ذلك يظهر أن قوله: {سَتُغْلَبُونَ} إشارة إلی الغلبة في الدنيا، وحتی اعتی العتاة فإنهم يموتون ويترکون الدنيا وأهلها وأموالها لايدفعون عن أنفسهم الموت.

وقوله: {وَتُحْشَرُونَ} من الحشر وهو الجمع مع سَوق، أي يجمعون ويساقون إلی جهنم سوقاً لايتمکنون من الامتناع.

والحاصل: إن الکفار يخذلهم الله في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فبغلبة المؤمنين عليهم ولو بعد حين، وکذا بنزعهم عن الدنيا قهراً إلی قبورهم التي يعذبون فيها، مضافاً إلی اتبّاعهم في هذه الدنيا لعنة مع الذکر السيّء، وإضلال أعمالهم، وقد مرّ الکلام في هذه النقاط، وأما في الأخرة: فبالعذاب الشديد الذي لا دافع له.

وقوله: {بِئْسَ الْمِهَادُ} من التمهيد، وهذا بيان لعدله تعالی، فالکفار هم الذين مهدوا لأنفسهم هذا العذاب بسوء اختيارهم وبتکذيبهم بالرسل قال تعالی: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}(1).

الرابع: قوله تعالی: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا...} الآية.

المشهور أن الآية بيان لما جری في غزوة بدر الکبری حيث التقی المسلمون والکافرون في أولی المعارك، وکان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قد وعد المسلمين بأحدی الحُسنيين: إمّا اغتنام القافلة التجارية لقريش، وإمّا النصر في المعرکة، قال تعالی: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ

ص: 46


1- سورة التوبة، الآية: 35.

وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}(1)،

فکان کما أخبر.

ثم إن کونها آية من جهتين:

1- صدق ما أخبر به الله ورسوله، والإخبار عن المستقبل إذا تحقق فهو آية الصدق.

ولم يکن ذلك اتفاقيّاً، کي يقال إنه ليس بآية فأحياناً يرجم الناس بالغيب فيتفق ما قالوه، بل إن الصدق الدائم لکل ما أخبره لاشك أنه آية وعلامة، فلا يعقل الاتفاق الدائم في کل الأخبار، والله ورسوله قد أخبرا بقضايا کثيرة وکلّها صدقت.

2- وانتصار المسلمين في بدر مع قلة عددهم وعُدّتهم، حيث کانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر، وکان الکفار حدود الألف، کما أن سلاح الکفار وخيلهم کانت أکثر، حتی قيل أن معسکر المسلمين کان يضم فرسين وستة دروع وثمانية سيوف فقط، ومع ذلك انهزم الکفار أشد هزيمة.

سؤال: انهزم المسلمون أيضاً في غزوة أ ُحد وغزوة حنين رغم کثرتهم، حتی قال تعالی: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}(2).

والجواب: إن انتصار المسلمين في بدر کان خلافاً للموازين الطبيعية، فکان الکفار في غاية القوة عدداً وعدة وأبطالاً، بل وعزيمة قوية للدفاع عن أموالهم في قافلتهم التجارية، وکان المسلمون في غاية الضعف من کل

ص: 47


1- سورة الأنفال، الآية: 7.
2- سورة التوبة، الآية: 25.

الجهات إلّا التأييد الإلهي وهذا آية وعلامة علی نصراللّه تعالی لهم وغلبتهم علی الکفار.

وأما في يوم أ ُحد فکان هزيمتهم بسبب عصيانهم لأمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وکذا يوم حنين بسبب عجبهم وعدم حذرهم، فکان غلبة الکفار في بداية الأمر أمراً طبيعياً، علی أن المسلمين لم ينهزموا في المعرکتين، بل في أ ُحد جمع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلولهم وتوجهوا إلی غزوة حمراء الأسد لمواصلة القتال مع المشركين، وکذا في حنين أنزل الله السكينه علی الرسول وعلی المؤمنين فجمعوا أمرهم وهزموا الکفار.

وببيان آخر: ليست الآية والعلامة هي النصر في کل موطن حتی يستشکل بالهزيمة في بعض المواطن، أو يُنتقض بانتصار بعض الملوك في کل معارکهم، بل الآية هي النصر في موطن لايحتمل فيه النصر أصلاً، بأن تدخل الله تعالی غيبياً فنصرهم، وسيأتي التفصيل في نهاية سورة آل عمران وفي سورة الأنفال.

وقوله تعالی: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} أصل التقابل إنما هو بين الإيمان والکفر، فطائفة مؤمنة به تعالی وأخری کافرة به، ولذا لم يقل واخری تقاتل في سبيل الطاغوت، بل قال: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}، ولذا قيل: إن الکلام غير مسوق للمقايسة بين السبيلين، کما في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}(1)، بل لبيان أنه لايُغني عنه شيءٌ وأن الغلبة لله ولأوليائه، وإنما ذکر قتال المؤمنين

ص: 48


1- سورة النساء، الآية: 76.

في سبيل الله تعالی لأن الآيات السابقة ذکرت تسليم المؤمنين لله بالنسبة إلی الاعتقاد بالکتاب محکمه ومتشابهه والاعتقاد بيوم الجزاء فکذلك تسليمهم له عملاً بأن کان جهادهم في سبيله، وکما ذکرت الآيات السابقة کفر الکافرين وزيغ قلوبهم وتکذيبهم اعتقاداً، کذلك ذکرت بأن قتالهم ناشیء عن کفرهم.

الخامس: قوله تعالی: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}.

ظاهر السياق أن المعنی: يری المسلمون الکافرين مثلي المسلمين، فکانت رؤية المسلمين للکافرين هي مع تصرّف في عيون المسلمين أو قلوبهم بحيث ظنوا أن الکفار ستمائة وستة وعشرين شخصاً، مع أن الکفار کانوا حدود ألف مقاتل، وهذا يتطابق مع قوله تعالی: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}(1)، فإن الله تعالی وعد المسلمين بالنصر حتی وإن کان الکفار ضِعفاً لهم فقال: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ}(2)، فحتی لاتخور عزيمة المسلمين، إذا علموا بأن الکفار ثلاثة أضعافهم، لذلك قلّل الکفار في أعين المسلمين إلی ضعفي عدد المسلمين - وکان المسلمون 313 - ، وکان ذلك شدّاً لعزيمتهم، وأما تقليل المسلمين في أعين الکفار فلأجل أن يقتحموا الحرب بلامبالاة ولا حذر، فکان ذلك مزيداً في هزيمتهم.

ص: 49


1- سورة الأنفال، الآية: 44.
2- سورة الأنفال، الآية: 66.

وقوله: {رَأْيَ الْعَيْنِ} بمعنی أن العدد کان أکثر واقعاً، لکنهم رأوا العدد أقل بتصرّف في أعينهم أو في قلوبهم.

ويحتمل أن يکون التقليل عبر سبب طبيعي مثل تعرجات أو تلال أو نحو ذلك تحجب الرؤية فلم يروا ثُلث معسکر الکفر أو لتفرق عسکر الکفار أو لاجتماعهم معاً بکيفية کانت تقللهم في أعين الناظرين، أو کان من خطأ الباصرة، فإن العين لها مدی لاتتعداه فتخطأ فيما سوی ذلك، کما يری الإنسان غروب الشمس في البحر کما قال: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}(1)، ولعل سبب قوله تعالی: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}(2)،

هو إلقاء الرعب في قلوب الکفار بکثرة المسلمين ونظمهم، بل بتخيّل کثرة عددهم.

السادس: وقوله: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ...} الآية.

هذا تعليل لانتصار المسلمين، بأن الله شاء نصرهم، وأيضاً لئلا يغتّر المسلمون فيتصورون أن الله ينصرهم حتی إذا لم يفوا بشروطه تعالی، وکذا ليتبين لهم أن الحکمة قد تقتضي عدم نصرهم في الظاهر.

فالأمر کلّه معلّق علی مشيئة الله تعالی، وهو لايشاء شيئاً اعتباطاً لأنه حکيم، فإذا توقف بقاء دينه علی تدخل الأسباب الغيبية تدخلت کما في معرکة بدر وفي عبور بني إسرائيل من البحر، وإذا لم يتوقف بقاء الدين علی تدخل الأسباب الغيبية فلا تتدخل کما في غزوة أ ُحد وفي مؤتة، بل قد

ص: 50


1- سورة الکهف، الآية: 86.
2- سورة الصف، الآية: 4.

لايشاء تعالی نصر المسلمين عاجلاً لأسباب أخری کالتمحيص ورفع الدرجات وأمثال ذلك، وسيأتي التفصيل في الآيات 140 فما بعد من هذه السورة.

وقوله: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} أي من له عين فيری آيات الله تعالی، بمعنی أن لاتکون غشاوة علی بصره فيدرك الحقيقة، فلا يکونون کالذين قال الله تعالی عنهم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ}(1)، والحاصل أن المراد أولی البصائر والعقل الذي يدرك الحقائق، لکن التعبير ب {أُولِي الْأَبْصَارِ} لأن البصر هو من أهم أدوات المعرفة، مضافاً إلی حسن المقابلة مع قوله: {رَأْيَ الْعَيْنِ}.

ص: 51


1- سورة الأعراف، الآية: 179.

الآيات 14-17

اشارة

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}

14- إن سبب الزيغ وصرف الکفار عن الحق هو حب الدنيا ف{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} المشتهيات التي تصرف عن الحق، وهذا يکون من فعل الشيطان، وإلاّ فأصل تقديرها من الله سبحانه وتعالی لمصلحة النظام العام {مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} الأولاد الذکور {وَالْقَنَاطِيرِ} المال الکثير بحيث يملأ جلد ثور {الْمُقَنْطَرَةِ} المکدسة {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} مُعلّمة بعلامة الجودة أو المرسلة إلی الرعي {وَالْأَنْعَامِ} الإبل والبقر والغنم {وَالْحَرْثِ} الزرع.

لکن اعلموا أن {ذَلِكَ} الذي ذُکِر {مَتَاعُ} ما يستمتع به الإنسان في {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قدّره الله لنظام حياته لا لکي يصرفه عن الحق، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} المرجع فاللازم علی الإنسان أن يحاول الوصول إلی

ص: 52

ذلك المرجع عبر الاستفادة من متاع الدنيا بالنحو المرضي لله تعالی.

15- ثم فصّل الله تعالی حسن المأب بقوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} هل أ ُخبرکم {بِخَيْرٍ} أفضل {مِنْ ذَلِكُمْ} المذکورات من الشهوات الدنيوية؟ {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} المعاصي فلم يصرفوا أنفسهم في الشهوات المحرمة واقتصروا علی المُحللَّة منها {عِنْدَ رَبِّهِمْ} في الآخرة {جَنَّاتٌ} بساتين کثيفة الشجر بحيث غطت فوقها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فالجنة کالمرکب الواحد فوقه أغصان وتحته أنهار {خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} من القذارات المادية والنفسية {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} وهذا أکبر النعم، ولا تتوهموا أن الله لا يری أعمالکم ولا يعلم بنياتکم {وَاللَّهُ بَصِيرٌ} خبير { بِالْعِبَادِ}.

16- وصفات الذين اتقوا هي أنهم {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} بك وبرُسلك وأوصيائهم {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} لنستحق الجنة {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} احفظنا منه، وهذا في مجال العقيدة، فهم اعتقدوا بأصول الدين کلها.

17- وأما صفاتهم العملية فهم من {الصَّابِرِينَ} بدينهم فلا ينکصون علی أعقابهم بسبب المشاکل التي يبتلی بها أهل الإيمان، {وَالصَّادِقِينَ} في أقوالهم فإيمانهم إيمان صدق لانفاق فيه، {وَالْقَانِتِينَ} الخاضعين لله تعالی ولأوامره، {وَالْمُنْفِقِينَ} لأموالهم في الزکاة ونحوها، {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} قُبيل طلوع الفجر.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ...} الآية.

ص: 53

سبب تقدير الشهوات

لمّا ذکر الله سبحانه زيغ قلوب البعض وکفر آخرين، بيّن سبب ذلك في هذه الآية الشريفة، فإعراض الإنسان عن ما يقتضيه عقله وفطرته يحتاج إلی سبب قوي يحجب عن رؤية المصلحة الواقعية أو يسبب إيثار غيرها عليها رغم معرفته بها، قال تعالی: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(1)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «کأنهم لم يسمعوا کلام الله حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2)، بلی والله سمعوها ووعوها، ولکن حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها»(3) وليس ذلك السبب إلاّ حبّ الشهوات، فإن الله تعالی قدّر المشتهيات في الإنسان کوسيلة لاستمرار نظام الحياة ولتکون قنطرة لنيل الدرجات الرفيعة في الآخرة، ولکن ليتم الامتحان وتظهر جواهر النفوس ومکنوناتها خلق الإنسان مختاراً في حسن الاستفادة من تلك المشتهيات أو سوء الاستفادة منها.

فلولا شهوة النکاح لعزف غالب الناس عن الزواج لکثرة مشاکله ومسؤولياته وفي ذلك انقطاع النسل، ولولا شهوة الأبوة لما انجب غالب الناس لئلا يقعوا في صعوبات تربية الأولاد ورزقهم، ولولا حب المال وشهوة الأکل ونحوه لما عملوا ومازرعوا وما ربّوا الأنعام، وذلك فساد للحياة الدنيا، ولو لم يکن الإنسان مختاراً لما تمکن من الطاعة أو المعصية فيبطل الامتحان ولم يکن مجال لسمو النفس ورقيّها إلی الکمالات، وذلك

ص: 54


1- سورة الملک، الآية: 10.
2- سورة القصص، الآية: 83.
3- نهج البلاغة، الخطبة 3.

خلاف الحکمة، فلذلك کله ولغيره من الأسباب کان تقدير المشتهيات مع تشريع ضوابط لها لتکون في طريق نظم الحياة ومقدمة للدرجات العليا في الآخرة، وکان أيضاً اختيار الإنسان، فلذا يزيّن الشيطان حب الشهوات ليتجاوز الإنسان الحدود المشروعة.

فاتضح من ذلك أن المزيّن في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} هو الشيطان، لأن الآية في سياق التحذير عن الزيغ والکفر وبيان سببهما، وليست الآية في سياق بيان ما قدّره الله تکويناً حتی يکون المزيّن هو الله، کما أنها ليست في سياق بيان الحکم الشرعي في الاستفادة من هذه المشتهيات کي يُفصّل ويقال: إن المزيّن بقدر ولمصالح هو الله، والمزين للمحرّم منها هو الشيطان، هذا فيما يرتبط بهذه الآية.

وأما أصل التزيين فإن کان لمصلحة حفظ النظام أو لأجل کونه قنطرة للآخرة فهو من الله تعالی، قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(1)، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(2).

وإن کان صداً عن سبيل الله وغفلة عن الآخرة فهو من عمل الشيطان، وينسب إلی الأفعال عادة، قال تعالی: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}(3)، وقال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(4).

ص: 55


1- سورة الأعراف، الآية: 32.
2- سورة الکهف، الآية: 7.
3- سورة فاطر، الآية: 8.
4- سورة الأنعام، الآية: 43.

وقوله: {مِنَ النِّسَاءِ} «من» إما ابتدائية نشوية، فالشهوات أريد بها المعنی المصدري أي الشهوات الناشئة عن النساء والبنين... الخ، وإما بيانية فالشهوات مصدر أ ُريد به اسم المفعول أي المشتهيات، وإقامة المصدر مقام الصفة للمبالغة، وللإيماء بأنهم انغمسوا فيها حتی أحبّوا شهوتها، فکأنها صارت الغاية والمقصد مع أنها طريق ووسيلة.

و في قوله: {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} إشعار بأن الحب تعلّق بالشهوة بما هي شهوة لا بما أنها طريق، وذلك أمر مذموم، فيتأکد أن المزيّن هو الشيطان دون الله سبحانه وتعالی.

الثاني: قوله تعالی: {مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ...} الآية.

بيان لأظهر مصاديق المشتهيات، والمراد من (حب النساء) حب نکاحهن، فالذي ينغمس في الاستمتاع بهن ومقدماته يقع في المحرمات کثيراً وتصرفه عن الطاعة والعبادة، وأما حبّهن لابمعنی حب شهوتهن فهذا أمر محمود مطلقاً، عکس الجاهليين الذين کانوا يکرهون البنات کما قال سبحانه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}(1)، ولذا أکد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) علی حبّ البنات والنساء معارضةً للعادة الجاهلية، فعنه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أحب من دنياکم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة»(2).

ص: 56


1- سورة النحل، الآية: 58-59.
2- مجمع البيان 2: 379.

وأما (حب البنين) دون البنات فأيضاً من عادات الجاهلية، کما أن حبهم مذموم إن ألهی عن ذکر الله تعالی کما قال تعالی: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}(1)، وقال: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}(2).

وأما {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} فهي الأموال الکثيرة، والمذموم منه ما عُصِي الله في جمعه ولم يُؤدَّ حقه، وروي أن القناطير هي ملأ جلد الثور(3) و{الْمُقَنْطَرَةِ} أي المکدّسة المجموعة، وهي مشتقة من القناطير فإن من دأب العرب تأکيد الکلمة بلفظة مشتقّة منها وعلی وزن إسم المفعول غالباً، حتی لو کانت الکلمة جامدة، کقولهم: دراهم مدرهمة، وحجاب محجوب، وستر مستور وأمثالها.

وأما {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} فهي المُعلّمَة بعلامة الجودة، إذ لا تُعَلّم إلا الجيدة منها، أو السائمة التي ترسل إلی الرعي فإنها أجود من التی تُعَلّف، وأما {وَالْأَنْعَامِ} فهي الإبل والبقر والغنم، وقد تطلق علی الإبل وحدها، وأما {وَالْحَرْثِ} فهي الزراعة حيث تُحرث الأرض لأجلها.

وما ذکر في هذه الآية أمثلة ظاهرة للمشتهيات التي تُلهي عن ذکر الله وعن الآخرة، وهناك مشتهيات أخری لم تذکر کحب الجاه والسلطة، لأنها أمور معنوية غير ملموسة مادياً، والآية في تعداد المشتهيات الملموسة المحسوسة،

ص: 57


1- سورة المنافقون، الآية: 9.
2- سورة نوح، الآية: 21.
3- مجمع البيان 2: 379.

مضافاً إلی أن المشتهيات غير المادية إنما تُراد عادة لکونها وسيلة للوصول إلی الرغبات الجسدية والتي أصول تلك الرغبات مذکورة في هذه الآية.

کما أن الترتيب روعي فيه ذکر الرغبات الأقوی أولاً، فأوّل، کما أن هذه الرغبات قد تجتمع في بعض الناس، وقد يکون بعضها دون بعض في آخرين.

الثالث: قوله تعالی: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...} الآية.

أي إنما قدّر الله هذه الأمور لکونها وسيلة للاستمتاع في الدنيا، لتوقف النظام الأتم عليها، لکن علی الإنسان أن لايغفل عن الآخرة فعليه أن يجعل هذه الأمور قنطرة لها، فيستمتع بها بمقدار حاجته الجسدية، فينکح من غير إفراط ولا تفريط، ويأکل لابمقدار التخمة ولا أقل من حاجة جسده بحيث يضعف عن أداء المسؤوليات، ويجمع المال من حلال بأداء حقوقه والإنفاق منه في سبيل الله، وهکذا سائر الأمور المالية، وأما مدح الأنبياء بکثرة الطروقة کما في بعض الأحاديث(1)

فليس المراد به الإفراط في الوقاع، بل المراد تعدد الزوجات، لأن الطَروقه بفتح الطاء هي الأنثی، والطُروقة بضمها مصدر بمعنی الوقاع، والظاهر أنّ المراد الأول دون الثاني.

و (المتاع) إذا کان حسناً فهو لا بأس به بل ضروري، قال تعالی: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}(2)، وقال: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(3)، والمذموم منه ما کان سبباً للغفلة عن الآخرة قال تعالی: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 58


1- بحار الأنوار 62: 5.
2- سورة الصافات، الآية: 148.
3- سورة البقرة، الآية: 36.

يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}(1).

وقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أي المرجع الحسن إنما هو عند الله تعالی، ولايتيسر ذلك إلاّ للمتقي الذي لايتناول الحرام من هذه الشهوات، ولذا فصّل تعالی في {حُسْنُ الْمَآبِ} في الآية التالية التي هي کالتفسير له، ففي الآية تقابل بين {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وبين {حُسْنُ الْمَآبِ} أي في الأخرة، ولما ذکر في الآية تفصيل متاع الحياة الدنيا، اتبعه في الآية التالية بتفصيل حسن المئاب، ومن ذلك يتبين أن {الْمَآبِ} إسم مکان أو مصدر بمعنی المفعول فيتم المقابلة بين المتاع والمئاب.

الرابع: قوله تعالی: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ...} الآية.

لما ذکر تعالی تفصيل متاع الحياة الدنيا وصنوف شهواتها، أراد بيان ما يقابلها من نعيم الجنة لمن اتقی الشهوات المحرّمة، فبيّن تعالی ثلاثة أصناف من نعيم الجنة، وهي:

1- الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، فکأنّ الجنة مرکبّة، ففوقها غصون الأشجار المتشابکة - لأن الجنة هي البستان التي لايری السماء منه لتداخل الأغصان - وتحتها أنهار جارية، فجمال من فوق وتحت، وعلی هذا البيان لاحاجة إلی تقدير تحت أشجارها، بل نفس الجنة لها فوق هي الأغصان، وتحت هي الأنهار، وهذا يقابل القناطير والخيل والأنعام والحرث، مع فرق جوهري هو أنه لابقاء لشهوات الدنيا مع خلود نعيم الجنة، فلذا أتم نعمة الجنة بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا}.

ص: 59


1- سورة محمد، الآية: 12.

2- الأزواج المطهرة عن القذارات المادية کالحيض والمعنوية کالحسد ونحوه، وهي تقابل النساء في شهوات الدنيا.

3- رضوان من الله تعالی، وهذا لايقابله شيء من متاع الحياة الدنيا لقصور متاعه عن ذلك، ولذا کان الرضوان هو الثواب الأکبر، قال تعالی: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1).

وأما ما يقابل البنين، فهو إلحاق الذرية، إذ لاتناسل في الآخرة، قال تعالی: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}(2)،

فيكمل سرورهم بإلحاق ذريتهم بهم.

معنی رضی الله تعالی

وقوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} أي رضا الله تعالی عن عباده المؤمنين، وهذا أکبر النعم التي يتنعمون بها، فشعورهم بأن خالقهم راضٍ عنهم فيه أکبر السرور، کما لو شعر المرؤوس بأنّ رئيسه الدنيوي الذي يحبه راضٍ عنه، فإن ذلك أعظم عنده من المکافئات المادية.

ولا يخفی أن رضی الله تعالی يختلف عن الرضا في الناس، فإنه تعالی منزّه عن الکيفيات النفسانية وعن التغير، بل المراد، إمّا رضی الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) کما يظهر من بعض الأحاديث، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول الله عز وجل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}(3)، فقال: «إن الله عز وجل

ص: 60


1- سورة التوبة، الآية: 72.
2- سورة الطور، الآية: 21.
3- سورة الزخرف، الآية: 55.

لايأسف کأسفنا، ولکنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون، وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه، وسخطهم سخط نفسه»(1).

وإمّا سنخ ثواب فوق الجنة ونعيمها، وقد يکون ذلك هو تنعمهم بعبادته تعالی، کما قال: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(2)، أو غير ذلک.

وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} بيان علمه تعالی بکلا الصنفين - أي المحبّين للشهوات والذين اتقوا - فيجازي کلاً بحسب نيته وعمله، وفي کثير من الأحيان يتشابه العمل الظاهري أو القول فلا تمييز إلاّ بخبرة وبصيرة، والله سبحانه بصير خبير بکل شيء.

الخامس: قوله تعالی: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا...} الآية.

ثم بعد أن ذکر الله سبحانه مصير الذين اتقوا إلی الجنة ونعيمها، فصّل في صفاتهم الإيجابية عقيدة وعملاً، إذ الدين يترکب من منع النفس وکفّها عن المحرمات وهو ما دلّ عليه قوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}، ومن عقيدة ومن عمل، أما العقيدة فدلت عليه هذه الآية.

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} هو قول بلسان لکنه يكشف عن إيمانهم القلبي، لأن المنافق يخاطب المؤمنين بالإيمان لکنه إذا خلا إلی شياطينه يجاهر بالکفر، لکن هؤلاء خطابهم مع ربّهم لامع سائر الناس، ومن المعلوم أن الإنسان في خطابه مع ربّه - وخاصة في خلواته - لايقول إلاّ بما يعتقد،

ص: 61


1- الکافي، کتاب التوحيد، باب النوادر؛ شرح أصول الکافي 2: 428 (للمؤلف).
2- سورة يونس، الآية: 10.

فهؤلاء يصرحون بإيمانهم، وهو إيمان بالله تعالی وبما أنزله من عقائد وکتب ورسل وأئمة، کما يصرحون باعتقادهم بالجزاء، وهذا وإن کان داخلاً في الايمان أيضاً إلاّ أن إفراده بالذکر لأجل دعائهم بغفران الذنوب والنجاة من النار، أو هو دعاء بتنجيز الوعد، فيقولون إنا قد عملنا بما أمرتنا به من الايمان، فانجز لنا ما وعدتنا من غفران الذنب والوقاية من النار، حيث وعدهم الله بذلك، فقال تعالی: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(1).

ثم إن غفران الذنب لايلازم الوقاية من عذاب النار، ولذلك يتضرّعون إلی الله تعالی بغفران الذنب وبالوقاية عن عذاب النار، لأنه قد يغفر الله الذنب بعد عذاب المذنب لفترة، فإن بعض الذنوب لها اقتضاء خلود مرتکبها في نار جهنم، لکن الله بفضله ومَنِّه لا يُخلِّد المؤمن في نار جهنم فيعفو عنه، وقد يعذّب في البرزخ أو في القيامة لفترة قبل أن تناله الشفاعة والعفو، فهؤلاء يدعون بالغفران والوقاية، بأن يکون غفراناً تاماً ومن کل الجهات لئلا يعذبوا في النار بذنوبهم ولو لفترة وجيزة، قال تعالی: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}(2)، وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}(3)، وقال في الربا: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(4)، ولکن الله يغفر لمن يشاء منهم

ص: 62


1- سورة الأحزاب، الآية: 70-71.
2- سورة النساء، الآية: 14.
3- سورة النساء، الآية: 93.
4- سورة البقرة، الآية: 275.

قال تعالی: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(1)، وقد تکون المغفرة بعد العذاب لفترة - طويلة أو قصيرة - قال تعالی: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}(2).

فهو استثناء عن الخلود بأن يخرجهم الله تعالی من النار بعد أن يعذبوا فيها فترة، وهذا ما يظهر من الأخبار أيضاً.

السادس: قوله تعالی: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ...} الآية.

وهذا في أوصاف المتقين العملية، فقولهم بأنهم آمنوا يصاحب إلتزامهم العملی، فهم (صابرون) لأن الإيمان بحاجة إلی استقامة عليه، فکم من إنسان دخل في الإيمان طوعاً ثم لمّا رأی صعوبةً ارتدّ أو نافق.

وهم (صادقون) في قولهم هذا، بل صادقون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم کلّها، ويتطابق قولهم مع قلوبهم.

وهم (قانتون) أي خاضعون لله فيطيعون أوامره وزواجره بلا تمرّد.

وهم (منفقون) لما أوجب الله عليهم من الحقوق المالية.

وهم يعبدون الله بعيداً عن الرياء ومن أجلی مصاديقه (الاستغفار في الأسحار)، حيث العبادة أشق وأبعد عن الرياء وأجمع للروع.

والحاصل أن هذه الصفات الخمس جامعة لصفات المتقين أجمع:

1- فالصبر نسبتهم مع الآخرين من الکفار والمنافقين والشياطين.

ص: 63


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- سورة هود، الآية: 106-107.

2- والصدق نسبتهم مع أنفسهم، فيتطابق قولهم مع نياتهم وأعمالهم.

3- والقنوت - أي الخضوع - نسبتهم مع ربّهم.

4- والإنفاق نسبتهم مع الفقراء والمحتاجين.

5- والمستغفرين بالأسحار نسبتهم مع ذنوبهم التي يطلبون الله تعالی بأن يتجاوز عنها.

ص: 64

الآيات 18-20

اشارة

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}

18- بعد ذکر صفات المتقين يذکر صفات ربهم، وبيان أن ما في الآيات السابقة من عدم غناء المال والولد وشدة عقابه هو الحق، {شَهِدَ اللَّهُ} شهادة عملية بخلقه المخلوقات الدالة عليه وعلی وحدته، وبشهادة لفظية في کتبه وعبر رسله {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فهو الواحد الذي لا شريك له في ألوهيته، {وَالْمَلَائِكَةُ} يشهدون أيضاً فإن تدبيرهم الأمور بنسق واحد يكشف عن إله واحد، {وَأُولُو الْعِلْمِ} يشهدون، لأن الدلائل علی التوحيد واضحة لاينکرها إلا جاهل، حالکون الله تعالی {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} بالعدل في تکوينه وتشريعه، وهذه الشهادة مطابقة للواقع فإنه {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ} لايغلبه أحد فلا يغني عنه شيء ولا يدفع عذابه أحد {الْحَكِيمُ} في خلقه وتشريعه وفي ثوابه وعقابه، فهذا التوحيد والعدل.

ص: 65

19- ولتوحيده وعدله شرّع الدين ف{إِنَّ الدِّينَ} أي الطريقة في الحياة {عِنْدَ اللَّهِ} الذي أقرّه وشرّعه هو {الْإِسْلَامُ} التسليم لله تعالی في کل شيء وهذا تقرير لتوحيده وعدله، فلا إله آخر ليكون دين آخر، وهو تعالی العادل لذا قرر الطريقة المستقيمة التي بيّنها عبر أنبيائه ورسله ومن بعدهم عبر الأئمة، وإذا رأيتم اختلافاً بين أهل الکتاب وبينهم وبين المسلمين فليس لأجل اختلاف الدين بل {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} الحق الذي عرفوه، فمنهم من آمن، ومنهم من کفر وحرّف، وسبب اختلافهم ليس لشبهة في الدين، بل {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي بسبب البغي حسداً وطلباً للرئاسة.

{وَ} بعد التوحيد والعدل والنبوة والإمامة يأتي دور المعاد، فإنه {مَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ} کلِّها وعلی الخصوص الآيات التشريعية وهي الکتب والشريعة {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يحاسبهم فيجازيهم.

20- {فَإِنْ حَاجُّوكَ} جادلوا وخاصموا من بعد ما تبيّن لهم الحق، وإنّما جدالهم استمرار لبغيهم {فَقُلْ} في جوابهم {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} فليس ذلك الدين اجتهاد من عندي بل هو ما أنزله الله وأنا قد أسلمت له {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي وأسلم أتباعي لله تعالی فليس اتباعهم لي لعصبية أو جهل وإنّما امتثال لأمر الله تعالی، {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اليهود والنصاری {وَالْأُمِّيِّينَ} الذين لاکتاب لهم {أَأَسْلَمْتُمْ} استفهام يراد منه أمرهم بالإسلام، أو توبيخهم علی ترکه، {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} إلی الحق الذي يعرفونه، {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الإسلام {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} بلا جبر وإکراه، فهؤلاء لايضرونك

ص: 66

لأنك قد أديت وظيفتك بأحسن وجه، وأما الجزاء فهو علی الله {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} يجازي المحسن بالحسنی، والمسيء بالعذاب.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ...} الآية.

سياق الآية هو في تأکيد التوحيد وسائر أصول الدين، وبيان أن ما مرّ في الآيات السابقة من عدم إغناء الأموال والأولاد ومن أخذه الکفار بذنوبهم، ومن مجازاته المتقين بالحسنی کل ذلك هو الحق الذي لاريب فيه، لأنه تعالی الإله الواحد الأحد، فلو أغنی شيء من المال والولد والزينة ونحو ذلك لکان إلهاً أو شريكاً في الألوهية أو راجعاً إلی إله آخر، وبعبارة أخری: إن عدم إغناء شيء من الله ومن عذابه وقدرته تعالی علی عذاب الکفار وثواب المؤمنين دليل علی وحدانيته وعدله تعالی.

أو لمّا ذکر الله تعالی صفات المتقين أتبعه بصفات ربهم وخالقهم.

أو هو تعليل لما في الآيات السابقة، فإن الله تعالی يفعل ما هو مذکور في الآيات السابقة لأنه الواحد العادل الذي لايجور.

وأما شهادته تعالی: فهي شهادة عملية ولفظية، أما اللفظية فهي ما أنزله تعالی في کتبه وعلی لسان رُسله، وأما العملية فهي خلقه وتدبيره وانتظام أمور الکون، إذ لو تعددت الآلهة لفسدتا، وقيل: هو تشبيه الظهور والإظهار في الکشف والانکشاف بشهادة الشاهد.

الآيات 18-20الآيات 18-20

وأما شهادة الملائکة: فکذلك باللفظ، ونقلها إلينا الرسل والکتب، وبالعمل لأن انتظام أمور الکون وتناسق عمل الملائکة کله دليل علی وحدة

ص: 67

الآمر والمدبّر.

وأما شهادة أولی العلم: فأفضلهم الأنبياء وأوصياؤهم (عليهم السلام) وکلّهم اتفقوا علی الشهادة بالتوحيد والعدل، وأما سائر أولي العلم فإن کل من أعمل عقله رأی البراهين الجلية علی التوحيد والعدل، إلا لو اتبع الجهل واقتفی أثر آبائه المشركين أو عاند الحق ولجّ عنه.

وقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} حال عن الله تعالی، وهذا بيان لعدله تعالی، و(العدل) هو الاستواء، ومعنی قيامه بالعدل هو کون أفعاله کلها بالعدل سواء في خلقه أو تقديراته أو تشريعه وسائر شؤونه تعالی، وإنّما جاء بلفظ القائم للدلالة علی إشرافه وسيطرته، قال تعالی: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}(1)، وفي التقريب: في ذلك إيمائة لطيفة، فإن القائم يشاهد مالا يشاهده الجالس.

ويمکن إرجاع {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} لله وللملائکة ولأولي العلم، أي شهادتهم شهادة حقٍ لازور فيها، وفي بعض الأخبار تأويل القيام بالقسط بأميرالمؤمنين (عليه السلام) (2)، ولعله بيان لأحد المصاديق، فإن نصب الإمام من عدل الله تعالی.

ولعل المقصود الأصلي هنا هو شهادة أولي العلم، لکن قدّم ذکر شهادة الله والملائکة تقوية لشهادتهم، بمعنی أنه تعالی لما ذکر التوحيد في صدر السورة ثم أتبعه ببيان تکوينه وتشريعه وجزائه أراد بيان أن ذلك کله مطابق

ص: 68


1- سورة الرعد، الآية: 33.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 373، عن تفسير العياشي.

للعقل، ولذا يشهد به أولو العلم، وأمّا الذين اختلفوا وانحرفوا عن الحق فاولئك لم يكن عملهم عن علم بل بسبب البغي والکفر بما يعلمون به وينکرونه، فأراد الله تعالی تقوية وتأکيد شهادة أولي العلم بذکر شهادته وشهادة ملائکته، فيکون هذا التأکيد نظير تأکيد الکلام بالقسم بالله تعالی، أو بجعله شاهداً، کما يتعارف عند الناس، فمن يريد تقوية کلامه ومدعاه يقول أشهد الله علی هذا الأمر أو علی ما أقول، فتأمل.

الثاني: قوله تعالی: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

لعل ذکر {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مرة أخری في هذه الآية...

1- لبيان أن الشهادة هي شهادة حق لازور فيها فهي شهادة تتطابق مع الواقع فالله والملائکة وأولوالعلم يشهدون بأنه لا إله إلاّ هو، وهي شهادة صحيحة متطابقة مع الواقع إذ لا إله إلا هو سبحانه وتعالی کما تقول: (شهد زيد بعلم عمرو، وعمروٌ عالم حقيقة).

2- أو هو تعليل لقيامه بالقسط، فالمعنی: الله واحد، وهو عادل لأنه واحد عزيز حکيم، فوحدانيته وعزته وحکمته هي سبب عدله، وذلك لأن صفات الذات هي منشأ صفات الفعل، ومرجع صفات الذات إلی ذاته الواحدة البسيطة التي لاترکب فيها.

بيان ذلك: أن الله تعالی غير مرکب، لأن کل مرکب محتاج إلی أجزائه وأيضاً لتأخر رتبة المرکب عن الأجزاء، والله سبحانه غير محتاج، وهو الأول فلا ترکب فيه، بل صفاته الذاتية هي عين ذاته، وإنما التغاير في المفهوم لافي الحقيقة والخارج، ثم إن ذاته منشأ لأفعاله، فصفات الفعل هي

ص: 69

تنتزع عن أفعاله سبحانه وتعالی، مثلاً الله تعالی قادر والقدرة عين ذاته، وبقدرته خلق الأشياء، فالخلق صفة فعله، وکان منشأها قدرته التي هي عين ذاته، وعليه فيکون المعنی إنه تعالی قائم بالقسط وهذا صفة الفعل، ومنشأ هذه الصفة وحدانيته وعزته وحکمته وهي صفات الذات.

ولايخفی أن العدل إن کان بمعنی عدم الاعوجاج والتفاوت في الخلق والتشريع والتقدير فهو من صفات الفعل، وإن کان بمعنی کمال ذاته من کل الجهات فهو من صفات الذات، فتأمل.

3- وقيل: دأب القران الکريم هو تنزيه الله وتعظيمه کلّما ذکر أمراً يتعلق به تعالی، فلما ذکر هنا شهادته بالتوحيد والتعديل أراد إکمال الکلام بتنزيهه فقال تعالی: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

الثالث: قوله تعالی: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.

بعد ذکر التوحيد والعدل في الآية السابقة، جاء ذکر النبوة فالله الواحد العادل عيّن منهجاً لخلقه، وأنزله علی أنبيائه، وأکمله بنصب الأئمة، فالدين الذي هو منهج جميع الأنبياء إنما هو الإسلام أي التسليم المطلق لله تعالی في کل ما يريد، فهو إذعان به تعالی، وأخذ المعارف منه سبحانه في کل ما يرتبط بالعقيدة والعمل، وکذا التسليم عند الشبهات، فإذا لم يتضح سبب شيء من أمور الدين للإنسان فعليه أن يقف وقوف تسليم، لا وقوف إنکار، ولا وقوف شك، بل ردّ الأمر إلی الله تعالی وأوليائه، قال تعالی: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(1)، وقد مرّ

ص: 70


1- سورة النساء، الآية: 83.

شطر من الکلام في قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}(1):

الآيات 18-20

فالدين هو الحقائق الثابتة في العقيدة وفي الأخلاق وفي أصول الأعمال، وهذه أمور غير قابلة للتبدّل، وإنّما اختلاف الشرائع في بعض تفاصيل الأحکام ککيفية العبادة مع الاتفاق علی أصلها، وذلك لأن التفاصيل قد تکون في معرض تبدل المصلحة فيها، أمّا أصل الحقيقة الثابتة فهي غير قابلة للتبدّل، ثم في خاتمة الشرائع وهي شريعة النبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) تمّ بيان کل تلك الحقائق، ودرءاً للفوضی وللتلاعب في الدين ولسهولة الأمر علی المسلمين تمّ تعيين مصاديق معينة في العبادات والأحکام لاتغيير فيها ولاتبديل، وأما الأمور القابلة للمصاديق المختلفة فشُرع حکم کليّ جامع بلا تعيين للجزئيات، وکذلك جعلت مرونة مشرَّعة ومنظّمة في موارد الطوارئ يعبر عنها بالأحکام الثانوية، وکذا جعلت الأحکام الظاهرية حين عدم التمکن من الوصول إلی الحکم الواقعي لئلا يکون المتدين في حيرة من أمره.

فلذا لااجتهاد في أصل الدين من عقائده وأصول أحکامه وضرورياتها، وإنّما الاجتهاد في الوصول إلی الأحکام الفرعية أو في تطبيق کبريات الشرع علی صغرياتها أو في معرفة الحالات الثانوية أو الأحکام الظاهرية.

الرابع: قوله تعالی: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ...} الآية.

وهنا مظنة سؤال بأنه إذا کان الدين واحداً وهو الإسلام فلماذا لم يرتضه أهل الکتاب وهم الذين يؤمنون بالأنبياء السابقين وعليهم نزلت التوراة والانجيل؟

ص: 71


1- سورة البقرة، الآية: 128.

والجواب بأن دين الله واحد وطريقه هو الصراط المستقيم، لکن منشأ اختلاف أهل الکتاب هو بغيهم لالشبهة في الدين، فما نزل علی نوح وإبراهيم وعيسی وموسی (عليهم السلام) ورسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وکذا ما نزل علی سائر الأنبياء هو دين واحد وهم قد بشّروا به، لکن أصحاب الأهواء والزيغ والانحراف بدلّوا وغيروا، إمّا حسداً للأنبياء وأوصيائهم، أو طلباً لرئاسة أو مال ونحو ذلك.

وقوله: {بَغْيًا} أي ظلماً، أو طلباً للدنيا.

وقوله: {بَيْنَهُمْ} للدلالة علی أن هذا الظلم أو الطلب إنما هو فيما بين الناس والاّ فالله أمنع جانباً وأعزّ من أن يظلمه أحد، ولذا کملت الآية ببيان سرعة حسابه لهم.

ثم إنه من الواضح أن الإسلام أکمله الله يوم الغدير بنصب الإمام علي (عليه السلام) للإمامة، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(1)، فما ورد في الأخبار من أنه التسليم لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) (2)

فهو من باب بيان المصداق، لأن الاختلاف في المسلمين بدأ من رفض ولايته وعدم التسليم له (عليه السلام) ، ثم حرّف سلاطين الجور ووعاظهم کل شيء، إلاّ أن الله تعالی حفظ دينه وکتابه بواسطة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .

ثم هنا کلام طويل حول فرق الإسلام عن الإيمان، وحول المعاني

ص: 72


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 374.

الاصطلاحية لهما، وقد ذکرناه في شرح أصول الکافي فراجع(1).

الخامس: قوله تعالی: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ} الآية.

وهذا بيان لأصل آخر من أصول الدين وهو المعاد، و{بِآيَاتِ اللَّهِ} هي مطلق دلائله وعلائمه تکوينية أم تشريعية، لکن المراد هنا الآيات التشريعية بالخصوص، إذ الکلام حول الإسلام وهو تشريع الله تعالی وبغي بعض أهل الکتاب في عدم الإذعان له.

وسرعة حسابه يراد بها لازم الحساب وهو الجزاء، وذلك جزاء في الدنيا بأخذهم أخذ عزيز مقتدر بالبلايا والمصائب قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}(2)،

وفي الآخرة بالعذاب الشديد.

السادس: قوله تعالی: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}.

الفاء للتفريع، أي الباغون من أهل الکتاب إذا جاؤوك للاحتجاج، فبيّن لهم طريقتك وطريقة أتباعك وادعهم إلی الإسلام، حيث لافائدة في جدالهم لأن المعاند الباغي لايريد الجدال لأجل الوصول إلی الحق، بل يريده ذريعة لنفسه لبقائه علی بغيه فلذا يلزم عدم إعطائه هذه الذريعة، قال تعالی: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(3).

فإن الجدال لايراد لأجل الجدال، بل الغرض منه هو الوصول إلی الحق،

ص: 73


1- في المجلد السابع.
2- سورة طه، الآية: 124.
3- سورة العنکبوت، الآية: 46.

أما المتعنِّت الذي يعلم الحق لکنه ينكره ولايريد من الجدال إلا إبطال الحق وإعطاء ذريعة لنفسه لبقائه علی ضلاله ولإغواء الناس فلا جدال معه، بل بيان المعتقد الحق ودعوته إليه إتماماً للحجة، قال تعالی: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا}(1)، وقال سبحانه: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}(2).

نعم قد يکون المجادل بالباطل يثير شبهات في أذهان العامة فلابد من جواب شبهاته ببيان الحق الصراح ودلائله وآياته ونقض الباطل وحججه الداحضة، إتماماً للحجة علی هذا المجادل حتی لو کان معانداً، وهداية لمن يستمع الجدال ومنعاً عن ضلاله وغوايته.

وفي هذه الآية المجادل کان باغياً کما بيّنه تعالی في الآية السابقة {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}، فهؤلاء لاجدال معهم بل إتمام الحجة عليهم ببيان الحق الصراح وهو تسليمه (صلی الله عليه وآله وسلم) لله تعالی.

وأما قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} فالظاهر أنه عطف علی التاء في {أَسْلَمْتُ} أي وأسلم من اتبعني أيضاً، وفي هذا اشعار بأن أتباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هم الذين يسلمون وجههم إلی الله تعالی، أما من لايسلّم بعقيدة أو حکم الشرع فهو غير مُسلم حقيقة وإن کان مسلماً صورة وفي الظاهر، أو هو لبيان أن الناس أمام الرسالة علی صنفين: فصنف قد أسلموا وجههم لله وهم أتباع

ص: 74


1- سورة الکهف، الآية: 56.
2- سورة الحج، الآية: 67-68.

الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وصنف لم يسلموا بغياً أو جهلاً.

السابع: قوله تعالی: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَ...} الآية.

المراد من أهل الکتاب في الآية السابقة هم الذين بغوا بعد العلم فهم صنف منهم، وأما المراد في هذه الآية فعامة أهل الکتاب ولذا قرن الأميين - وهم مشرکو العرب الذين لم يكن لهم کتاب - بهم، فالمعنی إذا حاجّك الباغون من أهل الکتاب فبيّن لهم تسليمك وتسليم أتباعك لله تعالی، ثم ادع عامة اهل الکتاب والمشركين إلی الإسلام، فمن استجاب فقد اهتدی ومن تولّی فإلی جهنم وبئس المصير.

وقوله: {الْأُمِّيِّينَ} قد مرّ أن الأمي إما نسبة إلی الأم أي الذي لم يتعلّم القراءة والکتابة، أو نسبة إلی أم القری أي مکه، والمراد بهم العرب حيث لم ينزل فيهم کتاب قبل القرآن ولا کانوا يعرفون الکتابة والقراءة.

وإنما ضمّ الأميين إلی أهل الکتاب لأن المقصود الدعوة وهي عامة للجميع.

وقوله: {أَأَسْلَمْتُمْ} استفهام للتحضيض والحث علی قبول الإسلام وليس للتوبيخ، لأن الخطاب لم يوجّه للمعاندين بل لعمومهم، ولذا فرّع عليه الاهتداء والتولّي، فالمعنی حيث عرفتم أنّه لابدّ من التسليم لله تعالی وقد دلت الآيات والبراهين علی أن ما عليه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأتباعه هو التسليم لله، فعليكم أن تدخلوا في زمرة المسلمين، فإن أسلمتم فقد اهتديتم وإن أعرضتم فلا يضر الرسول إعراضکم شيئاً.

وقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} لبيان أنه ليس مهمة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إکراه

ص: 75

الناس علی الإيمان، فإنه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1)،

لأن الله شاء أن يخلق الناس مختارين مع إتمام الحجة عليهم ولذا لم يكرههم علی الايمان مع قدرته تعالی قال تعالی: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}(2)، فالأنبياء نجحوا في مهمتهم أيما نجاح، ولم تکن من مهمتهم إيمان کل الناس بل مهمتهم البلاغ وقد أدّوها بأحسن وجه.

وبعبارة أخری: فإن آمن الناس فنفعه يصل إليهم لا إلی الرسول لأنهم اهتدوا، وإن لم يؤمنوا فضرره عليهم لا علی الرسول لأنه قد أدّی مهمته في البلاغ.

وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} هذه تکملة فيها وعد لمن آمن ووعيد علی من کفر، ثم تأتي الآيات اللاحقة لبيان عذاب هؤلاء المتولين الکفار.

ص: 76


1- سورة البقرة، الآية: 256.
2- سورة يونس، الآية: 99.

الآيات 21-25

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}

21- ان سبب تولّي هؤلاء هو انحراف عقيدتهم وعملهم فلايتبعون الآيات ولا الدعاة إليها، ف {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} يجحدونها فلا يقبلونها مع وضوحها {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} الدعاة إلی تلك الآيات قتلاً {بِغَيْرِ حَقٍّ} وهذا قيد توضيحي، والمقصود أنه لاحجة لهم في ذلك أبداً {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ} أي العدل {مِنَ النَّاسِ} أي من سائر الناس غير الأنبياء {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لاانقطاع له.

22- {أُولَئِكَ} الکافرون القتلة {الَّذِينَ حَبِطَتْ} بطلت فلا فائدة فيها {أَعْمَالُهُمْ} التي ظاهرها حسن {فِي الدُّنْيَا} حبطاً تکوينياً وتشريعياً، {وَالْآخِرَةِ} بعدم الثواب عليها وبتحوّلها إلی هباء منثور، {وَمَا لَهُمْ مِنْ

ص: 77

نَاصِرِينَ} ليشفعوا لهم، فلا أعمالهم تنفعهم ولاشفاعة تنالهم.

23- وهؤلاء لاعذر لهم في کفرهم وأعمالهم وذلك لعنادهم وافترائهم {أَلَمْ تَرَ} استفهام تقريري يراد به الإعلام أو التعجيب {إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} حظاً وجزءاً منه بالعلم والعمل به لمطابقته مع ما يرغبون، لکنهم ترکوا مالا يتطابق مع هواهم فهؤلاء {يُدْعَوْنَ} والداعي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون {إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} التوراة أي الأجزاء التي لم تحرّف منها {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} في صفات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وفي أحکام الشرع وسائر شؤون الدين {ثُمَّ يَتَوَلَّى} عن الاستماع إلی الداعي {فَرِيقٌ مِنْهُمْ} لاکلّهم، {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} بقلوبهم عن الحق، والقليل منهم آمن.

24- {ذَلِكَ} الإعراض والتولي {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب زعمهم الأمن من العقوبة ف {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} في الآخرة {إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} قليلة فزعموا أنه لاينبغي ترك الشهوات والرئاسة لأجل ذلك العذاب القليل، {وَ} سبب هذا الزعم أنهم {غَرَّهُمْ} خدعهم {فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من التحريفات في الکتاب وزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم، وأن مدة العذاب قليلة سبعة أيام أو أربعين يوماً، وأنه عذاب مجرد مسّ لاأکثر، وأمثال ذلك من العقائد الباطلة التي افتروها فصارت سبباً لانخداعهم وترکهم الحق.

25- {فَكَيْفَ} سيکون حالهم وماذا يصنعون {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ} لجزائه وهو يوم {لَا رَيْبَ فِيهِ} بلاشك {وَوُفِّيَتْ} أعطيت عطاءً وافياً غير منقوص {كُلُّ نَفْسٍ} جزاء {مَا كَسَبَتْ} من أعمالها، وجزاء الکفر والقتل

ص: 78

والافتراء ونحوها هو الخلود في نار جهنم في أشد العذاب {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} لأن الجزاء نتيجة أعمالهم.

بحوث

الأول: نظم هذه الآيات وارتباطها بما قبلها هو لبيان أعمالهم التي يحاسبون ويجازون عليها، کما أنه تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن هذه هي أعمالهم منذ القدم فدأبهم الکفر بآيات الله وقتل الأنبياء، کما أنه تفصيل لکفرهم المذکور في الآية السابقة وبيان أنه جامع للکفر بالله ورفض رُسله بل قتلهم ورفض العدل بقتل الآمرين به، کما أنه بيان إلی عدم وجود حجة لهم بل هم معاندون يعملون القبائح، لکن مع کل ذلك لايتمکنون من الفرار عن عذاب الله وجزائه العادل ويومئذٍ لاتنفعهم أعمالهم لبطلانها، ولاشافعين لهم لأن من يأذن الله لهم بالشفاعة هم خصماؤهم وأما أولياؤهم فيتبرؤون منهم ويشترکون معهم في العذاب.

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ...} الآية.

تتضمن الآية بيان أعظم جرائمهم مع إتمام الحجة عليهم وهي:

1- الکفر بآيات الله، أي دلائله وعلائمه الواضحة - تکوينية أم تشريعية - وکفرهم کفر جحود وإنکار، إذ لايمکن إنکار العلائم الواضحة إلا بالجحود، وذلك لأن الجهل بها غير معقول بعد وضوحها وبعد امتلاکهم لأدوات المعرفة من السمع والبصر والفؤاد، قال تعالی: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(1)، لکنهم عطّلوا تلك الأدوات وعاندوا الحق، قال

ص: 79


1- سورة إبراهيم، الآية: 10.

تعالی: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}(1)،

وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(2).

2- معارضة الأنبياء إلی حدّ قتلهم، مع أنهم يعلمون عدم جواز ذلك، ولذا قال تعالی: {بِغَيْرِ حَقٍّ}، وهو قيد توضيحي، جيء به لبيان تمام الحجة عليهم، وفي التقريب: إفادة بأنهم لاحجة لهم في قتل الأنبياء مطلقاً حتی أنه ليس هناك حق مدّعی أيضاً(3).

3- معارضة الآمرين بالعدل إلی حدّ قتلهم أيضاً، مع تمام الحجة عليهم أيضاً، فإن القتلة يعلمون بفطرتهم وبعقولهم أن القسط أمر حسن، وأن الدعاة إليه عباد مکرمون لابد من احترامهم والاتعاظ بما يعظون، لکنهم مع ذلك لم يرفضوا کلامهم فحسب بل قتلوهم.

وکل ذلك کان دأبهم، لذا تکذيبهم للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مع ظهور الآيات البينات کان أمراً کامناً في نفوسهم، بل أرادوا قتله واستئصال شأفة المؤمنين، تأسياً بأجدادهم قتلة الأنبياء وقتلة الآمرين بالقسط، لکن الله شاء شيئاً آخر والله خير الماکرين، فلذا استحقوا العذاب الدائم.

الثالث: قوله تعالی: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

أصل البشارة هي في الخبر الذي يوجب سرور الإنسان، ولکن کثر استعماله في إخبار المعاندين بما يوجب انقباض نفوسهم وانکسارها وحزنها، إما تبکيتاً واستهزاءً بهم، أو للمقابلة، فيبشَّر المؤمنون بالثواب ويبشَّر الکفار بالعقاب.

ص: 80


1- سورة الأنفال، الآية: 6.
2- سورة النمل، الآية: 14.
3- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 326.

وقيل: هو في الأساس بشارة للمؤمنين بعذاب أعدائهم، فالمخاطب وإن کان الکفار إلاّ أن المقصود بالخبر المؤمنون.

وقيل: جذر الکلمة من البَشَرة وهي ظاهر الجلد، وحيث يظهر أثر السرور والحزن علی بَشَرة الوجه لذلك سُمّي الخبر بما يسر أو يحزن بشارة، إلاّ أن الأغلب استعماله فيما يوجب السرور.

الناس وحبط أعمالهم

الرابع: قوله تعالی: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}.

أي بطلت فلا فائدة فيها، وبطلانها إما لعدم تماميتها بأن کانت خلاف المأمور به، أو لعدم تحقق شرطها المتأخر حيث کان وعد الثواب وعداً بشرط لاوعداً مطلقاً.

وبعبارة أخری: إن أعمالهم الحسنة - سواء کانت اجتماعية أم فردية - لم يفعلوها للتقرب إلی الله تعالی، فلا تمامية للعمل کي يترتب عليه الآثار المرجوة الدنيوية والأخروية.

وفي المناهج: ان الناس في بطلان العمل - علی طوائف:

1- الکفار المعاندون الذين ارتکبوا قتل الأنبياء والآمرين بالقسط وأمثالهم، فأعمالهم حابطة باطلة، لاتترتب عليها الآثار المطلوبة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

2- المنافقون الذين يبطنون الکفر وينتحلون الإسلام، فأعمالهم باطلة من أساسها کالکفار، لافرق بينهم وبين الکفار إلاّ في تظاهرهم بأعمال المسلمين کالصلاة والصوم والحج في الظاهر.

3- الکفار الذين لم يعاندوا ولم يفسدوا في الأرض ولاخالفوا الأحکام

ص: 81

العقلية الضرورية ولم يبدر منهم ضرر علی الدين وأهله، وکانت لهم أعمال حسنة، کإعانة الضعفاء وحسن الخلق ومداراة المسلمين وحسن الجوار معهم والإنصاف ومراعاة العدل الاجتماعي وأمثال ذلك، کحائم الطائي، فلايبعد من فضل الله وکرمه سبحانه أن يحسن إليهم في الدنيا جزاءً لأعمالهم الحسنة، ويحسن إليهم في الآخرة بتقليل عذابهم.

4- المؤمنون والمسلمون الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً... .

فإن کان عملهم الصالح متحداً مع الحرام کالصلاة في المغصوب، أو کان مستلزماً له کالإنفاق بقصد المنّ والأذی، أو کان فاقداً لشرط من شرائط الصحة فهذه الأعمال أيضاً باطلة، لعدم وقوعها علی الوجه المأمور به.

وان کانت أعمالهم الصالحة واجدة لشرائط الصحة، ثم ارتکبوا بعدها أو قبلها معصية، فلا وجه لبطلانها، إذ ليس من شرائط الصحة کون العامل معصوماً أو متقياً عادلاً، وأما قبولها فيظهر من بعض الأخبار أن الله لايقبل بعض الطاعات بسبب بعض الذنوب، کما ورد في الأخبار أن حبس الزکاة يمنع من قبول الصلاة، ومآل ذلك الحرمان إلی العدل الإلهي، وقد أخذه تعالی بعدله وحبط ثواب عمله، ومن الجائز والممکن أن يصفح سبحانه عن الذنب ولايجعله وسيلة لحبط العمل الصالح الصحيح، ومن أدعية سيد الساجدين (عليه السلام) في يوم عرفة: «ولا تحبط حسناتي بما يشوبها من المعصية»(1).

وقد ذکرنا بعض البحوث حول الحبط في سورة البقرة الآية 217(2).

ص: 82


1- مناهج البيان 3: 174-176 (بتصرف وتقديم وتأخير).
2- راجع المجلد الثالث من هذا الکتاب، الصفحة 94 فما بعد.

الخامس: قوله تعالی: {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}.

بطلان العمل تکويناً وتشريعاً

أما بطلان عملهم في الدنيا فتشريعي وتکويني:

أما التشريعي: فهو عدم تشريع ما يحقن دماءهم، فلذا جازت مقاتلتهم بسبب بغيهم وکفرهم، سواء کان جهاداً ابتدائياً أم دفاعياً، کما مرّ تفصيله في آيات الجهاد، عکس المسلم الذي يحقن دمه بمجرد إظهاره للشهادتين، نعم الکافر المعاهد أو الذمي الذي رضخ لحکم المسلمين وأدّی الجزية فهو محقون الدم، وکذا الکافر غير المعاهد وغير الذمي فهو محقون الدم قبل نبذ القتال إليه - أي إعلان الحرب عليه - فلا يجوز قتلهم غيلة.

أما التکويني: فلأنّهم فعلوا ذلك لإزالة الحق وإزهاقه، فلم يتمکنوا من ذلك، قال تعالی: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(1)، وقد يقال بأنهم لاينالون بها المدح والذکر الحسن، أو أن الأعمال الخيرية التي تدفع البلايا لاتدفعها مع الکفر، أو بأنهم لايتنعمون بما يتنعم به المؤمنون من الإطمئنان وسکون القلب واللذات المعنوية، وکل ذلك علی سبيل المقتضي.

وأما قوله: {وَمَا لَهُم مِّن نَّصِرِينَ} فأيضاً في الدنيا وفي الآخرة.

أما في الدنيا: فلاينصرهم الله وملائکته بالمدد الغيبي حين يحتاجون إليه عکس المؤمنين، قال تعالی: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا}(2)، وکذا ساعة الاحتضار والموت، وکذا في الرجعة لاناصرلهم.

وأما في الآخرة: فلا شفعاء يشفعون لهم، لأن الذين يأذن لهم الله في

ص: 83


1- سورة الأنفال، الآية: 8.
2- سورة غافر، الآية: 51.

الشفاعة - من الأنبياء والأئمة والأولياء - لايشفعون لهؤلاء الکفار، فإنّهم کانوا أعداء لهم فلا يأذن الله في شفاعتهم، فيقولون: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيم}(1)،

وقال: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَعَةُ الشَّافِعِينَ}(2)، والمعنی لايشفعون حتی تنفعهم الشفاعة، وأما أصنامهم وأوليائهم الکفار فيتبرؤون منهم ويشترکون معهم في العذاب، قال تعالی: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}(3)، وقال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}(4).

السادس: قوله تعالی: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ...} الآية.

هذا لبيان کيفية بغيهم وسببه، وحاصله: أن ذلك بسبب إعراضهم عن کتاب الله حينما لايتفق مع أهوائهم ومصالحهم، وبسبب الافتراءات التي أدخلوها في عقائدهم، وهذان سببان لکل بغي وانحراف، فلا عقيدتهم صحيحة کي تسوقهم إلی الطريق المستقيمة، ولا هم يسمعون إلی ما أنزل الله تعالی کي يطبقوا حياتهم عليه، ومن المعلوم أن قبول ما في الکتاب يمنع عن البغي.

ولذا شدَّد الدين أيما تشديد علی تصحيح العقيدة، لأنها الرؤية العامة التي يری بها الإنسان نفسه وعمله ومايحيط به، وماضيه ومستقبله.

فمن لايعتقد بالله تعالی لايری نفسه ملزماً بشيء من الأحکام والأخلاق

ص: 84


1- سورة الشعراء، الآية: 100-101.
2- سورة المدثر، الآية: 48.
3- سورة الأنعام، الآية: 94.
4- سورة البقرة، الآية: 166.

والأعمال، بل يتحول الأمر عنده إلی اتخاذ هواه رباً، کما نشاهد في الحضارة المادية حيث إن الأصل عندهم الالتذاذ بملذات الدنيا، وکل حياتهم الاجتماعية والسياسية والعسکرية وغيرها تدور علی هذا المحور قال تعالی: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(1).

ومن لايعتقد بصفاته تعالی أو کانت عقيدته مغلوطة فلا يری نفسه ملزماً بطاعة، کالذي لايعتقد بعلمه تعالی يرتکب الموبقات في خلواته، قال سبحانه: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(2)، ومن يری رحمته من غير حکمته ووعده من غير وعيده قد يمنّي نفسه بالمغفرة والثواب، قال سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(3)، وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}(4).

وکذا من لايعتقد بنبوة الأنبياء ولا إمامة الأئمة لايتبعهم، ومن لايعتقد بالمعاد لايری رادعاً لنفسه عن ترك طاعة أو ارتکاب معصية.

هذا کله في جانب العقيدة.

أما في جانب العمل فکذلك يترکون أحکام الشريعة بما سوّلت لهم

ص: 85


1- سورة الفرقان، الآية: 43-44.
2- سورة فصلت، الآية: 22-23.
3- سورة النساء، الآية: 123.
4- سورة الأعراف، الآية: 156.

أنفسهم من أکاذيب وافتراءات وشبهات واهية، غرضهم منها هو متابعة هوی النفس وارتکاب الموبقات وترك الطاعات والإخلاد إلی الأرض والدنيا.

وقوله: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} قيل في شأن نزول هذه الآية: إنها نزلت حينما دعا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) اليهود إلی تحکيم التوراة في صفاته (صلی الله عليه وآله وسلم) فأبوا ورفضوا ذلك، کما قيل: إنها نزلت في حکم الرجم حيث أرادوا إعفاء بعض أشرافهم عن هذه العقوبة فرفضوا تحکيم التوراة لعلمهم بأن الحکم فيها هو الرجم، وعلی کل حال فالآية عامة للعقيدة والعمل ولايخصصها شأن نزولها.

وقوله: {نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَبِ} أي جزءاً من علم الکتاب أو العمل به، وذلك لأن التوراة حُرّفت ولکن کان جزء منها موجوداً في أيديهم، أو المراد أنهم يأخذون قِسماً من الکتاب الذي يوافق هواهم ويترکون أجزاء أخری لاتوافقها، قال تعالی: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}(1).

وقوله: {يَتَوَلَّى} بمعنی الإعراض عن الداعي، و{مُّعْرِضُونَ} بقلوبهم لايذعنون إلی الحق، والمراد هو شدة بغيهم وجحودهم بحيث جمعوا بين الإعراض عن الاستماع إلی الداعي والإعراض القلبي بما يؤدي إلی ترك العمل.

السابع: قوله تعالی: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ...} الآية.

أي ذلك التولي والإعراض، أو کل ما سبق من الکفر والقتل والتولي

ص: 86


1- سورة المائدة، الآية: 13.

والإعراض وغيرها من الموبقات، کل ذلك بسبب خلل في عقيدتهم، حيث أ َمِنوا العقوبه فتوهموا عدم عقابهم علی أعمالهم، وزعموا أن الله لايعلم بأعمالهم أو أنه ليس بشديد العقاب، وأنهم أبناء الله وأحبائه، وأن آبائهم الأنبياء سيشفعون لهم، وأنّ العذاب خفيف بمقدار المس، ومدته قليلة بين سبعة أيام والأربعين يوماً، وأمثال هذه من العقائد الفاسدة ومنشأ کل ذلك هو الأکاذيب التي لفقوها في عقائدهم وتحريفهم الکتاب، والکاذب يكذب ثم يصر علی کذبه حتی يصدّقه أو يتحول إلی منهج وأسلوب في حياته.

وأمثال هذه العقائد - وبشکل آخر - راجت بين بعض المسلمين أيضاً فکل من يريد التهرّب عن طاعة الله تعالی ويريد ارتکاب الموبقات والتملّص من الوظائف يتذرع بأمثال هذه الذرائع فتارة يتذرعون برحمة الله متناسين حکمته سبحانه. وأخری بالشفاعة مع أنها حق لکنها لاتکون إلاّ لمن ارتضاه الله سبحانه، وثالثة بحبهم أولياء الله، وهل المُحبّ يخالف من أحبّه إذا کان صادقاً في حُبّه؟ ورابعة بأن المهم طهارة القلب متناسين أن المعاصي وترك الطاعات السبب الأساس في اسوداد القلب وخبثه، والله المستعان علی ما يصفون.

وقوله: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي خدعتهم افتراءاتهم في العقيدة والعمل وتحريفاتهم حتی ترکوا دينهم الحق الذي أنزله الله تعالی، أو خدعتهم في کيفية طريقتهم وأسلوب حياتهم.

الثامن: قوله تعالی: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٖ لَّا رَيْبَ فِيهِ...} الآية.

الرحمة لاتنافي تقدير العذاب

وهذا نقض لما افتروه، فإن کانوا في الدنيا يقولون ما افتروه فکيف

ص: 87

يعتذرون في يوم الجزاء؟ ولئن زعموا أن النار لاتمسهم إلا أياماً معدودات فکيف حالهم إذا رأوا خلودهم في النار وشدة عذابهم حيث نالوا عقابهم وافياً غير منقوص؟ ولئن أصابهم الغرور في دينهم فکيف يصنعون إذا رأوا تبخّر مزاعمهم وأن حالهم کحال سائر الناس؟ ولئن افتروا في هذه الدنيا فکيف بهم إذا رأوا ماکسبوه حاضراً متجسماً أمامهم بشکل عذاب؟!!

وقوله تعالی: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} تأکيد علی أن عقوبتهم الشديدة الدائمة ليست ظلماً، وإنما هي نتيجة أعمالهم بل هي نفس أعمالهم.

ص: 88

الآيتان 26-27

اشارة

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}

26- هؤلاء أعرضوا عن الدعوة إلی حکم کتاب الله في صفات الرسول، لکن إعراضهم لايضرّ ف- {قُلِ اللَّهُمَّ} يا {مَالِكَ الْمُلْكِ} کلّه، فالوجود لك والسلطنة عليه لك، ولذلك {تُؤْتِي الْمُلْكَ} کالنبوة {مَن تَشَاءُ} من أوليائك، {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ} لذا نزعت النبوة من بني إسرائيل ونقلته إلی رسولك محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ} من أوليائك، {وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} من أعدائك بسبب سوء اختيارهم، {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} کالنبوة حيث تنقلها من قوم إلی آخرين، ف {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

27- ومن آياتك قدرتك، فإنّك تتصرف في التکوين کما تشاء ف {تُولِجُ} تدخل {الَّيْلَ فِي النَّهَارِ} فيقلّ ضياء النهار إلی أن يمحوه الليل، {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ} فيبدأ الفجر ثم يزداد النور إلی حدّ محو الليل، {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} کالنبات من الحبّ، والإنسان من التراب، وکالمؤمن من الکافر، {وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} کالحب من النبات،

ص: 89

وکالکافر من المؤمن، {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} من جهة الکثرة بحيث لايتمکن الناس من حسابه، وإن کنت أنت تنزله بقدر معلوم.

بحوث

الأول: ارتباط الآيتين بما قبلها، هو أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) دعاهم إلی التوراة لتحکم بينهم في صفاته (صلی الله عليه وآله وسلم) لکنهم رفضوا ذلك لعلمهم بأن صفاته (صلی الله عليه وآله وسلم) مذکورة فيها کما قال: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ}(1)، وما کان سبب إنکارهم وإعراضهم عن هذا التحکيم إلا الحسد والبغي حيث کانوا يطمعون في أن تکون النبوة فيهم کما مرّ في قوله تعالی: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ 89 بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَی مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(2).

فيبيّن الله تعالی أن الملك - ومن أفضله النبوة - هو بيد الله تعالی فيؤتيه من يشاء من أوليائه، لذا جعله في بني إسرائيل برهة من الزمن ثم نقله إلی بني اسماعيل (عليه السلام) .

وقد يقال في وجه الارتباط وجوه أخری، منها: إنه في الآية السابقة ذکر تعالی أنه يجمعهم ليوم لاريب فيه وذلك لأن الملك کلّه بيده تعالی، أو أن إمهاله لهم في الدنيا حتی حين ليس بسبب عدم قدرته عليهم بل لحکمته، أو أنه تهديد لهم بعذاب الدنيا بسلب الملك منهم، أو هو طريقة لتعليم

ص: 90


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة البقرة، الآية: 89-90.

الاحتجاج مع أهل الکتاب، وغير ذلك.

الثاني: قوله تعالی: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ}.

المِلك - بکسر الميم - الأعيان التي تملك، والمُلك - بالضم - اسم مصدر، والمَلك - بالفتح - المصدر، کما قاله بعض اللغويين، وقيل: إنها بمعنی واحد، وقيل غير ذلك(1).

والله تعالی مالك کل شيء بعينه وبالتصرف فيه، المهيمن والقيّوم علی الأشياء کلها، لکن حيث کان الغرض هنا هو بيان قدرته علی التصرف في الأشياء لذا کان المناسب ذکر اللفظ الدال علی معنی اسم المصدر وهو {الْمُلْكِ} بالضم، إذ المقصود بيان إيتاء النبوة أو الجمع ليوم الحساب أو الإمهال ونحو ذلك، وکلها تصرّف في الأشياء.

وفي التعبير القراني کلّما أراد الله تعالی بيان ملکيته لأعيان الأشياء استعمل عادة اللام الجارة من دون ذکر لفظ الملك کقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}(2)، وإذا أراد بيان ملکيته للتصرف في الأشياء استعمل لفظ الملك کقوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(3)، ولم تستعمل لفظة المِلْك - بالکسر - في القرآن، وأما المَلْك - بالفتح - فاستعملت مرة واحدة بمعنی الاختيار في قصة عجل بني إسرائيل قال: {قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا}(4)، هذا إذا قلنا باختلاف معنی الملك بحسب حرکة الميم، أما لو قلنا بوحدة المعنی

ص: 91


1- مقاييس اللغة: 960؛ مفردات الراغب: 775؛ لسان العرب 10: 492-495.
2- سورة النجم، الآية: 31.
3- سورة الفتح، الآية: 14.
4- سورة طه، الآية: 87.

فالملك يدل علی ملکية الأعيان والتصرف فيها.

و{اللَّهُمَّ} بمعنی يا الله، و{مَالِكَ الْمُلْكِ} إمّا منادی أي يا مالك الملك، أو هو صفة لله أي يا الله الموصوف بکونك مالك الملك، ومعنی {مَالِكَ الْمُلْكِ} هو أنك تملك کل تصرف لأنك المالك الحقيقي للأشياء، وأما ملکية الناس فهي ملکية اعتبارية زائلة، فملکيتهم للأعيان الخارجية إنما هي بجعل الجاعل أي إن الله تعالی أذن لهم في التصرف في الأشياء وإدخالها في حوزتهم وحيطتهم، أما تکويناً فبمنح الإنسان القدرة في حيازة الأشياء والتصرف فيها، وأما تشريعاً فبتشريع قوانين تبيح استملاك الأشياء ضمن شروط مقررّة وتبيح بعض التصرفات في الأشياء.

الثالث: قوله تعالی: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ}.

1- إما بمعنی إعطاء النبوة والإمامة لمن يشاء ممن خلقهم الله من طينة عليا بحيث کانت لهم القابلية لحمل أعباء النبوة أو الإمامة، وذلك لأن هذا المنصب الرفيع يحتاج إلی قابلية رفيعة، وهي لاتحصل إلا باصطفائه تعالی، بأن خلقهم من طينة عليين وأعلی منها، وحلاّهم بکل الفضائل، ونزههم عن کل الرذائل، وعصمهم من الزلل، وهذا المنصب غير قابل للغصب والابتزاز من الظالمين.

2- وإما بمعنی إعطاء حق الطاعة، أي وجوب إطاعة الناس لهم کما قال: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(1)،

وهذا الحق أيضاً لايمکن للظالمين إزالته، وقد ورد في تفسير قوله تعالی: {وَءَاتَيْنَاهُم مُّلْكًا

ص: 92


1- سورة النساء، الآية: 59.

عَظِيما}(1)، أنه الطاعة(2).

3- وإما بمعنی السيطرة الظاهرية علی البلاد والعباد، فهذا حق منحه الله تشريعاً لأوليائه، ولکن لم يمنع أعدائه من ابتزازه وغصبه، امتحاناً للخلق، ورفعاً لدرجات أوليائه، واستدراجاً لأعدائه.

وقد سأل عبد الأعلی مولی آل سام الإمام الصادق (عليه السلام) حول هذه الآية: أليس قد آتی الله عز وجل بني أمية الملك؟ قال (عليه السلام) : «ليس حيث تذهب، إن الله عزوجل آتانا الملك وأخذته بنو أمية، بمنزلة الرجل يکون له الثوب فيأخذه الآخر، فليس هو للذي أخذه»(3).

فالله قد شرّع السلطة لأوليائه لکن أقدر أعداءه علی سلبه منهم، قال تعالی: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِیمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}(4).

والأنسب بسياق الآيات أن يکون المقصود من {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ} هو إيتاؤه لأوليائه بمعنی النبوة والإمامة وحق الطاعة وتشريع سلطتهم.

کما أن الأنسب بالسياق أن يکون المقصود من {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ} هو عدم إعطائه لأعدائه، وإنما استعمل (النزع) باعتبار الأقوام، فنزع النبوة من بني إسرائيل وآتاها بني اسماعيل (عليه السلام) ، فليس المراد النزع من شخص واحد إذ لايعقل أن ينزع الله النبوة والإمامة وحق الطاعة من شخص، إذ لم يؤتيها إياه إلاّ لکونه مصطفی وقابلاً لها وهؤلاء لاينزع الله

ص: 93


1- سورة النساء، الآية: 54.
2- بحار الأنوار 9: 194، عن تفسير القمي.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 377، عن الکافي.
4- سورة البقرة، الآية: 258.

القابلية والاصطفاء عنهم.

نعم لو کان المقصود الملك بمعنی السلطة فإنه تعالی يؤتيه ناساً ثم قد يسلبه عن أشخاصهم إلی آخرين، لکن قد عرفت أن السياق يقتضی شيئاً آخر.

الرابع: قوله تعالی: {وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ}.

السياق يقتضی أن المراد العزة الواقعية، وکذا الذلة الواقعية، - وإن کانت الذلة والعزة الظاهريتان أيضاً بتقديره وبإذنه تعالی - ، فإن الله تعالی لايذل أولياءه، فإن ابتلاهم وأمرضهم وأفقرهم ونحو ذلك فليس لإذلالهم، بل هو طريق إلی إعزازهم وإکرامهم في الآخرة، کما أنه لايعزّ أعدائه، فإن أغناهم ومهّد لهم وسلّطهم فليس لاعزازهم بل استدراجاً وإملاءً لهم ليذلهم في الآخرة بصنوف العذاب، قال تعالی: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1)، وقال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعا}(2)، وقال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ}(3).

نعم إن الله تعالی قدّر اختيار الإنسان، وقدر الأسباب والمسببات ولم يمنع الظالمين تکويناً من السيطرة علی المؤمنين، ولا منعهم عن إذلالهم المؤمنين ظاهراً، قال: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ

ص: 94


1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- سورة النساء، الآية: 139.
3- سورة البقرة، الآية: 61.

أَهْلِهَا أَذِلَّة وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ}(1)، فعزة الظالمين وذلة المؤمنين في الظاهر بسبب سوء اختيار الناس، لابسبب إرادة الله التشريعية ذلك، ولکنه أراد تکويناً اختيار الناس وتأثير الأسباب، فلذا يصح سلب ذلك عن الله تعالی بمعنی عدم تشريعه لذلك، ويصح نسبته إلی الله سبحانه لتقديره نظام الکون علی هذا المنهج، قال تعالی: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}(2)، فالله قد حکم بکل هذه القوانين وقدّر تعالی أن يکون الإنسان مختاراً، فتفضّل علی الإنسان بالنعم، کما أن السيئات قدّرها بسبب الإنسان.

الخامس: قوله تعالی: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَی كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

(الخير) هو ما کان نافعاً واقعاً حتی لو لم يدرك الإنسان ذلك أو کرهه، قال تعالی: {وَعَسَا أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}(3)، وعکسه (الشر) وهو ما کان مُضراً واقعاً حتی لو تصوّر الإنسان نفعه قال: {وَعَسَا أَن تُحِبُّواْ شَئْا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}(4).

وکل من الخير والشر بيد الله تعالی، لکن حيث إن السياق في تمجيد الله تعالی في فضله تعالی لذا ناسب ذکر الخير فقط.

وقد زعم البعض أن الشر عدمٌ، والأعدام ليست بشيء حتی تکون تحت

ص: 95


1- سورة النمل، الآية: 34.
2- سورة النساء، الآية: 78-79.
3- سورة البقرة، الآية: 216.
4- سورة البقرة، الآية: 216.

القدرة!! لزعمهم أن الوجود خير محض، ولاينشأ من الخير الشر لأن الشيء لايکون علة لنقيضه!!

الخير والشر وجوديّان

لکن الصحيح أن الخير والشر کلاهما وجوديان، وفعل الله تعالی هو خير محض، لکن متعلق هذا الفعل قد يکون خيراً وقد يکون شراً، فعذاب أهل النار هو شر، وإنما يعذبهم الله تعالی بحکمته وعدله، والکفار شرٌ من طينة سجين وإن کان فعل الله تعالی بخلقهم خيراً.

وبعبارة أخری: إن فعله تعالی خير محض، للمصلحة والحکمة في الفعل، وإن کان متعلق الفعل شراً، وأما زعم أن الوجود وکل أمر وجودي خير محض فکلام خطابي لم يقم عليه برهان بل البرهان والوجدان علی خلافه، قال تعالی: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَالِكَ الْيَوْمِ}(1)، وقال: {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}(2).

وأما قوله: {إِنَّكَ عَلَی كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو تعليل لإيتائه الملك ونزعه وإعزازه وإذلاله، فليس المنع لعدم القدرة، بل هو قادر علی کل شيء لکنه يتصرف بالحکمة.

السادس: قوله تعالی: {تُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ...} الآية.

هذه الآية کالدليل لکونه قادراً علی إيتاء الملك ونزعه وإعزازه وإذلاله، فکما هو قادر علی الأمور التکوينية المادية مثل إيلاج الليل في النهار وبالعکس، وعلی إخراج الحي من الميت وبالعکس، وعلی الرزق من غير

ص: 96


1- سورة الإنسان، الآية: 11.
2- سورة البينة، الآية: 6.

حساب وهذه أمور يشاهدها الناس ويعلمون بصدقها، کذلك في الأمور المعنوية هو قادر علی إيتاء النبوة... الخ.

1- {تُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ} في کل يوم، حيث ينتهی النهار بقلة الضياء ويبدأ الظلام إلی أن يعمّ کل مکان، وکذا العکس، وأيضاً في طوال السنة حيث تطول الأيام والليالي وتقصر في الفصول المختلفة، فکأنّه إدخال الليل في النهار، أو إدخال النهار في الليل، فهل يتمکن الناس من تغيير هذا التکوين؟ کلا، قال تعالی: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَا يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَا يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(1).

2- {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}، والظاهر أن المراد هو ما يشاهده الناس من تحوّل الميت إلی حيّ کالحب إلی نبات والبيضة إلی طير والنطفة إلی إنسان ونحو ذلك، لأن الغرض هو الدلالة علی قدرته الکاملة في إيتاء الملك ونزعه وإعزازه وإذلاله عکس مايتصوره الظالمون من أن ذلك بجهدهم، کما قال تعالی عن قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَی عِلْمٍ عِندِي}(2)، وقال سبحانه: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَة مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَی عِلْمٍ}(3)، أي زعموا أنه ليس فضلاً من الله تعالی وإنما علمهم بکيفية جمع الأموال هو الذي سبَّب غناهم،

ص: 97


1- سورة القصص، الآية: 71-72.
2- سورة القصص، الآية: 78.
3- سورة الزمر، الآية: 49.

وکذا في السلطة والملك وسائر الأمور الأخری.

وأما ما ورد في الأخبار من أنه إخراج المؤمن من الکافر والکافر من المؤمن(1) کما في قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}(2)، فالظاهر أنه من تأويل الآية الشريفة.

3- {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وهذا أيضاً يشاهده الناس في قدرته تعالی، فالله يرزق الجميع علی اختلافهم، بل کل الدواب والطيور والحيتان لها رزق معلوم، قال سبحانه: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}(3)، وقال: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ}(4).

وقد ذکرنا فيما مضی أن الله يقدر الرزق الحلال، لکن الإنسان قد يحوّله إلی حرام بسوء اختياره، ولذا قيل: إن الله جعل علی نفسه لمخلوقاته حقاً برزقهم، وهو تعالی أجلّ من أن يجعل الحرام حقاً علی نفسه ثم ينهی عنه تشريعاً.

وقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} إما باعتبار عدم قدرة العادّين والحاسبين في حساب ذلك الرزق، مع أنه بقَدَر ويعلمه الله تعالی ومن جعلهم الله وسائط فيه من الملائکة وغيرهم.

أو بمعنی من غير تقتير، کالکريم الذي ينفق کثيراً عکس البخيل الذي

ص: 98


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 378.
2- سورة الأنعام، الآية: 122.
3- سورة هود، الآية: 6.
4- سورة العنکبوت، الآية: 60.

يحسب ألف حساب حين صرف الأموال.

أو بمعنی أنه رزق من غير مقابل عکس غالب عطايا الناس فإنها بمقابل مادي أو معنوي.

أو بمعنی عدم محاسبة الناس علی ما استفادوه من النعم المحللّة، فالله أجلّ من أن يحاسب الناس علی شربهم الماء وأکلهم الطيبات، نعم لو حولوا الرزق إلی حرام أو استفادوا منه في الحرام فحينئذٍ يحاسبون، وقد ورد في تفسير قوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(1)، عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن الله عز وجل لايسأل عباده عمّا تفضل عليهم به، ولا يمنّ بذلك عليهم، والامتنان بالانعام مستقبح من المخلوقين فکيف يضاف إلی الخالق عزّ وجل مالايرضی المخلوق به، لکن النعيم حبنا أهل البيت وموالاتنا، يسأل الله عباده عنه بعد التوحيد والنبوة»(2).

ولا يخفی لطف تقابل مقدوراته في الآيتين، فالملك ونزعه کالليل والنهار في تسلط أحدهما علی الآخر، وکذلك العزة والذلة کالحياة والموت، وکذا الرزق حسب المشيئه کما أن الخير بيده - کذا قيل - .

ص: 99


1- سورة التکاثر، الآية: 8.
2- وسائل الشيعة 24: 299، عن العيون.

الآيات 28-32

اشارة

{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}

28- وحيث علمتم أن کل شيء بيد الله تعالی وأنه يُعزّ المومنين ويذل الکافرين ف {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} بأن لايختاروا {الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} محبين وناصرين وسادة {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} بدلاً عنهم، بل عليهم أن يتخذوا المؤمنين أولياء لأن الله أمر بذلك، {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ} أي اتخاد الکافرين أولياء {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ} وولايته {فِي شَيْءٍ} فانقطعت الولاية بينه وبين الله، {إِلَّا أَن تَتَّقُواْ} بأن تخافوا {مِنْهُمْ تُقَاة} فيجوز موالاتهم في الظاهر دون الموالاة القلبية لعدم إطلاعهم وسيطرتهم علی القلوب، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} فإنه عالم بالنوايا، فلاتتخذوا الأحکام ذريعة لأهوائکم، فالتقية إنما شُرّعت لحفظ النفس

ص: 100

والدين لا لأجل الأهواء والشهوات، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي المرجع، فمادام هو عالم بکل شيء ويجازي علی الأعمال فعليكم أن تحذروه.

29- {قُلْ} يا رسول الله: {إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ} أي نواياکم في موالاة الکافرين وسائر الأمور {أَوْ تُبْدُوهُ} تظهروه {يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ} کل شيء من {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فلذا هو عالم بسبب موالاتکم للکافرين وأنه للتقية أم غيرها، {وَاللَّهُ عَلَی كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيمکنه عقاب من يوالي الکافرين بلا مبرر شرعي حتی لوتستر بستر الاتقاء.

30- وسيظهر لکم علمه وقدرته {يَوْمَ} القيامة، حيث {تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} قد أحضره الله تعالی أمامکم فتجازون عليه، {وَ} کذا يحضر {مَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ}، وحينئذٍ {تَوَدُّ} النفس {لَوْ} للتمني {أَنَّ بَيْنَهَا} بين النفس {وَبَيْنَهُ} بين العمل السوء {أَمَدًا بَعِيدًا} أي مسافة کبيرة، وهذا کناية عن تمنّي عدم فعلها لذلك العمل، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} فلا تفعلوا السوء، {وَاللَّهُ رَءُوفُ} شديد الرحمة {بِالْعِبَادِ} ولذلك يحذرکم رحمةً ورأفةً بکم لئلاتقعوا في العذاب.

31- وحيث نُهيتم عن موالاة الکافرين فعليكم أن تتولوا الله تعالی، وعلامة موالاتکم لله هو اتّباعکم للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ف {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} توالونه قلباً {فَاتَّبِعُونِي} فإن ذلك علامة حبکم لله تعالی، ونتيجة ذلك هو أن {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي يجازيكم بأحسن الثواب في الدنيا والآخرة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

32- واتباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ليس باللفظ بل باطاعته في کل شيء ف {قُلْ

ص: 101

أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} فإن کلام الرسول هو کلام الله تعالی، وهذا هو الاتّباع الحق، {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإطاعة {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فإن کان توليهم عن جحود فهو کفر عقيدة، وإن کان تولي عملي بلا جحود فهو کفران النعمة، وعدم حبّه تعالی بمعنی عقابه لهم.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ...} الآية.

لعلّ ارتباط هذه الآيات بما قبلها، هو أن شياطين الإنس الذين يصدّون الإنسان عن الصراط السويّ هم من أهم أسباب الانحراف وعدم قبول الحق، قال تعالی: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَٰنُ لِلْإِنسَٰنِ خَذُولًا}(1) وحيث إن الآيات السابقة کانت حول الکفار والمؤمنين، وأن الملك والعزة بيده تعالی وأنه يحاسب ويجازي في يوم القيامة فلذا بيّن الله تعالی في هذه الآيات أحد أهم أسباب الضلال والإضلال، وهو اتخاذ الکافرين أولياء.

بل المفروض هو اتخاذ الله تعالی ولياً وموالاة أوليائه لأنهم يهدون إلی سبيله.

فإن الضالين يزيّنون الباطل للإنسان حتی يراه حسناً، عکس المؤمنين الذين يزيّنون الإيمان ويكرّهون الضلال وأسبابه، قال تعالی: {وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ

ص: 102


1- سورة الفرقان، الآية: 27-29.

لِكَثِيرٖ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}(1)،

قال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}(2)،

وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ}(3).

وقوله: {أَوْلِيَاءَ} من ول ي بمعنی قرب(4)،

ولذا يطلق علی متولي الأمر وعلی الناصر والمحبّ والعبد وسيده وعلی غيرهم، والله تعالی وليّ الجميع بمعنی متولي أمرهم الخالق والمدبر، قال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(5)،

وهو سبحانه ولي المؤمنين بمعنی أنه يتولّی أمرهم وينصرهم ويحبهم، قال تعالی: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(6).

والمراد في هذه الآية المعنی العام الشامل لمتولي الأمر والمحبّ، فلا يجوز أن يجعل المؤمنون الکفار أسيادهم وحکّامهم کما قال تعالی: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(7)، کما لايجوز لهم محبتهم قلباً قال تعالی: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ}(8).

ص: 103


1- سورة الأنعام، الآية: 137.
2- سورة فصلت، الآية: 25.
3- سورة التوبة، الآية: 71.
4- مقاييس اللغة: 1064.
5- سورة الشوری، الآية: 9.
6- سورة البقرة، الآية: 257.
7- سورة النساء، الآية: 141.
8- سورة المجادلة، الآية: 22.

الحب والبغض في الله

فالحب في الله والبغض في الله من أصول الإيمان، قال تعالی: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(1)، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}(2)، وقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ}(3).

نعم لو لم يكن الکافر معادياً فإنه يجوز بِرّه وحبّه حباً عاطفياً، قال تعالی: {لَّا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَٰتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(4).

و من ذلك يتبين أن جواز بِرّ وحب الکافر غير المعادي لله وللمؤمنين حباً عاطفياً کالأبوين الکافرين ليس من باب الاستثناء من عدم اتخاذ الکافرين أولياء، بل هو موضوع آخر، فالآيات الناهية عن محبة الکفار ناظرة إلی الکفار الأعداء، والآيات المجوّزة لمعاشرتهم في الدنيا معروفاً وبِرهم ناظرة إلی الکفار غير الأعداء، فتأمل.

الثاني: قوله تعالی: {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}.

أي من يتخذ الکافرين أولياء من دون المؤمنين فهو منسلخ عن ولاية الله تعالی کاملاً، فينقطع هو وکل أعماله عن الله سبحانه وتعالی، و(شيء) نکرة

ص: 104


1- سورة التوبة، الآية: 71.
2- سورة الأنفال، الآية: 73.
3- سورة الممتحنة، الآية: 1.
4- سورة الممتحنة، الآية: 8-9.

في سياق النفي، وهي تفيد العموم، ومعنی ذلك بُعد هذا الشخص عن الله تعالی وعدم قربه منه، وعدم قبول أعماله کلها وذلك بحبطها، ونتيجة ذلك أنه لاکرامة له ولا منزلة عند الله تعالی، وهذا في غاية التحذير وبيان عظم جريمة تولي الکافرين، قال تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُۥ مِنْهُمْ}(1).

حول التقية

الثالث: قوله تعالی: {إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَىٰةً}.

الاستثناء متصل، لأن النهي عن ولايتهم کما يشمل الولاية القلبية بالاعتقاد والمحبة، کذلك يشمل إظهار المحبة حتی لو لم تکن قلبية، إذ تجب البراءة القلبية والعملية من أعداء الله تعالی، قال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُۥ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُۥ}(2)،

وعليه: فلا تجوز الموالاة القلبية والظاهرية إلاّ في حالة التقية فيجوز إظهار الموالاة ظاهراً، ولا تجوز الموالاة القلبية لعدم وجود التقية فيها إذ لاطريق للکفار في الوصول إلی القلب ومعرفة ما فيه، وهذا معنی قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في التقية: «فأمّا السب فسبوني، فإنه لي زکاة ولکم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرؤوا منّي، فإنيّ ولدت علی الفطرة وسبقت إلی الإيمان والهجرة»(3).

فالسب باللسان أمر ظاهري رُخِّص فيه في التقية، وأما البراءة القلبية

ص: 105


1- سورة المائدة، الآية: 51.
2- سورة الممتحنة، الآية: 4.
3- نهج البلاغة، الخطبة 57.

عنه (عليه السلام) فهي غير مرخّصه أبداً إذ لاتقية فيها، وبيّن (عليه السلام) سبب عدم جواز البراءة القلبية عنه بدلالة العقل والنقل، أما العقل فإنه يدل علی التوحيد وعلی الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والجميع يعلم بأنه (عليه السلام) لم يشرك بالله طرفة عين فهو علی الفطرة فلا مبرّر للبراءة القلبية عنه، وأما النقل فهو (عليه السلام) أول المسلمين بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن أوائل المهاجرين، وقد قال الله تعالی: {وَالسَّٰبِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}(1).

سؤال: الأمور القلبية غير اختيارية، فلا يتمکّن المحبّ من البراءة منه (عليه السلام) قلباً، فکيف نهی (عليه السلام) عن أمر غير اختياري؟

والجواب: أن مقدمات الحب والبغض اختيارية، والموالي الذي يدخل في عمل السلطان وموالاة النواصب يمکن أن يستطيب حياتهم ويتأثر بکلامهم وبالتدريج يتبدل حبه إلی بغض، فنهيه (عليه السلام) عن البراءة القلبية منهم بمعنی عدم تمهيد المقدمات لبغضه، بل يكتفي في حال التقية بالمقدار الضروري مع إبقاء اطمينان القلب علی الإيمان کما قال تعالی: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰذِبُونَ (105) مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُۥ مُطْمَئِنُّۢ بِالْإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا عَلَى الْأخِرَةِ}(2).

ص: 106


1- سورة التوبة، الآية: 100.
2- سورة النحل، الآية: 105-107.

وأما أصل التقية فهي من المفاهيم القرآنية والتي دلت عليها هذه الآية، وآيات أخری کقوله تعالی: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَٰنَهُۥ}(1)، وهي من أهم الوسائل لحفظ الدين والمؤمنين وخاصة في حال سيطرة الکفار، إلاّ لو کان حفظ الدين في عدمها فيجب الإجهار بالحق حتی لو أدی إلی القتل، وللتقية أحکام وتفاصيل تطلب من الکتب الفقهية.

وقوله: {تُقَىٰةً} مصدر وهو إمّا مفعول مطلق جيء به للتأکيد، وإمّا بمعنی مايجب الاتقاء منه فيکون مفعولاً به.

ومن کل ما ذکرناه تبيّن أن (التقية) هي إبطان الايمان وإظهار خلافه لأمرٍ سوّغه الشرع الأقدس، ويضادها النفاق الذي هو إبطان الکفر واظهار الايمان.

الرابع: قوله تعالی: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُۥ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}.

في کثير من الأحيان يتخذ بعض الناس أحکام الشرع وخاصة الاستثناءات ذريعة لترك الأحکام الشرعية والانغماس في الهوی والشهوات قال تعالی: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}(2).

ولذا احتاج إلی تحذير شديد، ببيان أن موالاة الکفار من دون المؤمنين هي محاربة لله تعالی، فهو يحذّرکم نفسه، فهو يعلم أن موالاتکم هل هي عن تقية أم عن هوی وشهوة أم عن کفر وضلال، وهو سبحانه يقدر علی

ص: 107


1- سورة غافر، الآية: 28.
2- سورة الأحزاب، الآية: 13.

الانتقام منکم وعقوبتکم، فقوله: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} تکميل لهذا التحذير، فهو عالم قادر ويحاسب ويجازي.

و(الحَذَر) هو الاحتراز عن الأمر المخيف أو الذي فيه ضرر کبير، والتحذير هو إعلام لزوم الحذر.

وقوله: {نَفْسَهُۥ} أي ذاته، فهو العالم القادر الحکيم، ولاحاجة إلی تقدير عذاب بأن يکون المراد ويحذرکم الله عذاب نفسه، بل سبب التحذير هو نفسه المتعالية.

الخامس: قوله تعالی: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ...} الآية.

وحاصل المعنی: خافوا الله فلا تخالفوا أوامره ونواهيه، ومنها في اتخاذ الأولياء، فأولياؤکم من الکفار لاينفعونکم في دفع العذاب قال تعالی: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}(1).

کما أن الترخيص في الاتقاء لايعني الانجرار وراء الهوی والشهوات فهو تعالی عالم بنواياکم فهل موالاتکم عن تقية أم لا، کما هو تحذير عن ترك التقية الواجبة، والحاصل هو تحذير عن التسامح في أحکامه تعالی مطلقاً.

وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} بيان بأن الذي يعلم ما فيهما علی عظمتهما ودقة وکثرة أمورهما کيف يخفی عليه ما تعلنون أو تخفون، فلذا يعلم بنواياکم في الموالاة هل هي عن هوی أم عن تقية.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} لبيان قدرته علی عقاب العصاة. فإن البعض لايحذر من العالم غير القادر لکنه قد يحذر من العالم القادر، أو هو

ص: 108


1- سورة الأعراف، الآية: 192.

بيان أن سبب موالاة الکافرين هي طلب العزة والمال منهم، لکن کل العزة وکل الرزق بيد الله تعالی، قال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}(1)، وقال تعالی:{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ}(2)، وقال: {أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُۥ}(3).

السادس: قوله تعالی: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٖ مَّا عَمِلَتْ...} الآية.

هذا دليل علی علمه بکل شيء وقدرته علی کل شيء، فهو تعالی يحضر کل عمل - من خير أو شر - في يوم الحساب والجزاء، فهو تعالی عالم بأعمالکم ويحفظها عليكم قال تعالی: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ (10) كِرَامًا كَٰتِبِينَ}(4)، وقال {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ}(5)، ثم يحضرها يوم القيامة قال تعالی: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا}(6)، فالإنسان يزعم فناء عمله فينساه، لکن الله يُبقيه ليوم الجزاء قال تعالی: {أَحْصَىٰهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}(7)، وقال: {وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَىٰهَا}(8).

والآية تدل علی تجسم الاعمال في يوم القيامة، کما مرّ نظيره، وأما

ص: 109


1- سورة النساء، الآية: 139.
2- سورة العنکبوت، الآية: 17.
3- سورة الملك، الآية: 21.
4- سورة الإنفطار، الآية: 10-11.
5- سورة الشوری، الآية: 6.
6- سورة الکهف، الآية: 49.
7- سورة المجادلة، الآية: 6.
8- سورة الکهف، الآية: 49.

قولهم إن الأعمال أعراض وهي تزول ولاتبقی، فکلام منظور فيه، وقد يستأنس لتقريب ذلك إلی الذهن بامکان بقاء الطاقة وعدم زوالها - ولو بصورة أخری - کما تتبدل المادة إلی طاقة والطاقة إلی مادة، فتأمل.

وقوله: {يَوْمَ} ظرف متعلق ب {يَعْلَمْهُ} و{قَدِيرٌ}، فالمراد أن انکشاف علمه وقدرته للجميع إنما يکون في يوم الجزاء، وأما في هذا الدنيا فالکثيرون يزعمون عدم علمه وقدرته فلذا يخالفون أوامره، وهو تعالی يمهلهم إما رأفةً بهم ليتوبوا أو إملاءً واستدراجاً لهم ليزدادوا إثماً، وقيل: الظرف متعلق بما بعده أي {تَوَدُّ}.

وحاصل المعنی: أنّ ولايتکم للکفار أو للمؤمنين وتقيتکم وکذا کل أمورکم إن کانت حسنة أو سيئة فهي تحضر يوم القيامة، فإن کان العمل حسناً يتباهی به المؤمن قال تعالی: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُواْ كِتَٰبِيَهْ}(1)، وإن کان سيئاً فيتمنی أن لو لم يكن قد فعله، قال تعالی: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}(2)، فقوله: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُۥ أَمَدَۢا بَعِيدًا} کناية عن تمنّي أنها لم تکن قد فعلته، و{أَمَدَۢا} هو الغاية، ويستعمل في أقصی درجة في الغاية، سواء في المکان أو الزمان.

وأما إعادة قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُۥ} فللتأکيد، أو لتعدد الغرض، فالأول لبيان أهمية أحکامه تعالی بحيث يُحذِّر المخالفين من نفسه، والثاني

ص: 110


1- سورة الحاقة، الآية: 19.
2- سورة الحاقة، الآية: 25-26.

لبيان قدرته علی إحضار العمل فيحذرهم من ذلك، أو الأول التحذير من العقوبة الدنيوية والثاني من الأخروية، أو أن الثاني لضمّ رأفته بعباده، أي لما حذّر من نفسه تعالی أراد بيانه أنه رؤوف أيضاً بعباده فليس تعامله مع العباد بالبطش دائماً، بل يبطش بمن لايستحق الرحمة، أو لغير ذلك.

وقوله: {وَاللَّهُ رَءُوفُۢ بِالْعِبَادِ} زيادة في التحذير، أي لأجل رأفته بعباده يحذرهم عن الأعمال السيئة التي يصيبهم وبالها، کما يقول الناصح: إني مشفق عليك فلذا أحذرك من کذا!! أو إنه لما ذکر إحضار عمل الخير وعمل السوء بيَّن أنه تعالی رؤوف بعباده المؤمنين، ويحذر عبيد السوء من نفسه لعلمه وقدرته علی معاقبتهم، فيکون نظير قوله: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).

حول حب الله تعالی

السابع: قوله تعالی: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية.

بعد النهي عن اتخاذ الکافرين أولياء، يأمر الله تعالی بتوليه وتولّي أوليائه ولمّا کانت الولاية القلبية هي الحب، والولاية العملية هي الاتّباع والطاعة أراد الله تعالی التفصيل في کلا الأمرين، ولذا بدّل لفظ الولاية إلی الحب والاتباع في هذه الآية، وإلی الإطاعة في الآية التالية.

فقوله: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} هو توليه قلباً، فلابد من جعل علامة لذلك ليتبيّن الصادق من الکاذب، وتلك العلامة هي اتباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وذلك لأن الله تعالی جعل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) واسطة بينه وبين الناس، کما أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يبلّغ الناس ما يريده الله تعالی وما يكرهه، فاتّباع الرسول علامة الحب الصادق

ص: 111


1- سورة المائدة، الآية: 98.

لله، وإلاّ کيف يمکن إدعاء المحبة من غير تصديق عملي؟ وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : ما أحبّ اللهَ عز وجل مَن عصاه، ثم تمثّل (عليه السلام) فقال:

تعصي الإلهَ وأنت تُظهر حُبّه***هذا مِحالٌ في الفِعال بديع

لو کان حبّك صادقاً لأطعتَه***إنّ المحب لمن يحب مطيع(1)

وأما قوله: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فقد مرّ مراراً أنه تعالی ليس محلاً للحوادث ولا تعرضه الکيفيات النفسانية، وإنّما حُبّه من أفعاله عز وجل، وهي بمعنی إثابة العبد والقرب المعنوي منه تعالی، وقد سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) بأن لله رضاً وسخطاً؟ فقال (عليه السلام) : نعم، ولکن ليس ذلك علی ما يوجد من المخلوقين، وذلك أن الرضا حال تدخل عليه فتنقله من حال إلی حال، لأن المخلوق أجوف معتمل مرکب، للأشياء فيه مدخل، وخالقنا لامدخل للأشياء فيه، لأنه واحد، واحدي الذات، واحدي المعنی، فرضاه ثوابه وسخطه عقابه، من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال إلی حال(2).

وأما توهم أن حبه تعالی هو لابتهاج ذاته، فيحبها ويحب کل ما صدر منها، وکلما کان الصدور بلا واسطة أو بوسائط أقل کان الحب أشد، وبذلك يکون الحب من صفات الذات!!

فغير صحيح ولاسديد، لعدم معنی معقول لابتهاج الذات، ولا ورد ذلك في الشريعة في القرآن وأخبار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، کما أنه مخالف لصريح الآيات الدالة علی عدم حبه لبعض الناس قال تعالی: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ

ص: 112


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 383، عن أمالي الشيخ الصدوق.
2- الکافي 1: 110.

الظَّٰلِمِينَ}(1)، وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(2)، وغيرها من الآيات.

وأما تفسير حب الإنسان لله بطاعته، فهو تفسير باللازم.

کلام حول الحب

کلام حول الحب...

1- أن (الحب) أمر وجودي وجداني يدرکه کل إنسان.

2- وقد يکون سببه الشعور بالحاجة، فلذا يحب الإنسان ما يحتاج إليه من الماديات والمعنويات، ثم يتطور الحب إلی الحب العقلي الذي يتجاوز عن الماديات وعن الحاجة، فالطفل قد يحب أ ُمّه لحاجته إلی الرضاع والحنان ثم لما يستغني عنها فإنه يحبها للداعي العقلي والفطري، ثم يتطور الحب إلی أن يتحول إلی حب ديني.

ومن ذلك يتبين أن حب الإنسان لله تعالی قد يکون لدفع مضرّة أو جبران نقص أو نيل کمال وهذا في الحقيقة يرجع إلی حب الإنسان لنفسه، وقد يکون حبه لعظمة الله تعالی ولکونه الکمال المطلق من غير أن يکون الداعي الخوف أو الطمع، وهذا هو غاية الحب الخالص.

ولذا فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يحب المؤمنين لالحاجة له إليهم، وإنما لأجل ذواتهم حيث إن الإيمان رفعهم فاستحقوا حب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لهم، کما صارت لهم القابلية لحب الله تعالی بمعنی الثواب والمنزلة الرفيعة عنده.

والحب في الله والبغض في الله من أرفع درجات الإيمان ومن مقوماته، حيث لايحب الإنسان لمصلحة نفسه وإنما يحب من ارتبط بالله فيرجع حبه

ص: 113


1- سورة آل عمران، الآية: 57.
2- سورة المائدة، الآية: 64.

إلی حب الله تعالی، وکذا يبغض من انقطعت عصمته عن الله تعالی لا لمصلحة لنفسه.

3- والحب أمر اختياری، وذلك باختيارية أسبابه، سواء کانت قريبة أم بعيدة، کسائر الصفات النفسانية، ولذا کان الحب والبغض متعلقاً للتکليف، ولولا اختياريتهما باختيارية مقدماتهما لم يصحّ التکليف به.

4- ومتعلق الحب قد يکون محموداً وقد يکون مذموماً، وهو کما يتعلق بالأعمال کذلك يتعلق بالأعيان وخاصة بالناس، وکذلك الکره والبغض، قال تعالی: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(1)، وقال: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}(2)، وقال: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}(3)، وقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ}(4)، وقال: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ}(5)، وغيرها من الآيات.

5- وأما علامة حب العبد لله تعالی فهي ايثار طاعته سبحانه وتقواه، وترجيح رضا الله تعالی علی الهوی.

6- وأما الطريق إلی نيل حب الله تعالی فهو:

تذکر عظيم مَنّه وإحسانه وفضله وغفرانه وستره، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «فيما أوحی الله تعالی إلی موسی (عليه السلام) : فذکّرهم نعمتي وآلائي فإنهم

ص: 114


1- سورة البقرة، الآية: 165.
2- سورة الحشر، الآية: 9.
3- سورة الفجر، الآية: 20.
4- سورة التوبة، الآية: 108.
5- سورة آل عمران، الآية: 188.

لايذکرون مني إلا خيراً»(1) ثم العلم والعمل بما في الشريعة المقدسة.

فأما الطرق المبتدعة والأساليب المخترعة فلا تزيد الإنسان إلا بعداً عن الله تعالی، ولم تکن معصية إبليس لعنه الله التي استوجبت طرده ولعنه إلاّ استکباره علی حکم الله تعالی، فأراد أن يطيع الله بالکيفية التي يريدها هو لا بالکيفية التي يريدها الله تعالی، وقد رُوي أنه استرخص في أن لايسجد لآدم ويعوّض ذلك بالسجود لله آلاف السنين، فقال تعالی: إنما أريد أن أعبد من حيث أريد لامن حيث تُريد(2).

ومن ذلك يتضح أن ترتيب {فَاتَّبِعُونِي} علی حب الله تعالی هو أمر واقعي لترابط محبته تعالی مع اتّباع رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ارتباطاً واقعياً فليس الحب مجرد لقلقة لسان.

الثامن: قوله تعالی: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ...} الآية.

وذلك لأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يبلّغ عن الله ما يريده وما لا يريده في کل شيء، فالدين کامل والتبليغ قد تمّ بالنحو الأحسن، فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بيّن کل من لايحبه الله ومن يحبه.

أ - فممن لايحبهم: المعتدون، کل کفار أثيم، الکافرون، الظالمون، من کان مختالاً فخوراً، من کان خوّاناً أثيماً، المفسدون، المسرفون، المستکبرون، الفرحون، وغيرهم.

ب- وممن يحبهم: المحسنون، التوابون، المتطهرون، المتقون، الصابرون،

ص: 115


1- بحار الأنوار 13: 352، عن قصص الأنبياء.
2- بحار الأنوار 11: 141، عن تفسير القمي.

المتوکلون، المقسطون، وغيرهم.

ولايخفی أن الأعمال هي سبب الحب أو البغض، فحسن العمل يوجب حبّ الله تعالی وسوؤه يوجب بغضه، والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يأمر بالمعروف الذي يوجب حب الله تعالی، وينهی عن المنکر الذي يوجب بغضه، فلذا کان علامة حب الله تعالی هو اتّباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في کل شيء.

ثم إن للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) جهتين:

الأولی: إنه مبلّغ عن الله تعالی في الأحکام والموضوعات وغيرها.

الثاني: إن الله تعالی فوّض إليه الدين والسلطنة علی العباد والبلاد بعد أن أدّبه بآدابه، فجعل الله تعالی له (صلی الله عليه وآله وسلم) الإمامة الکبری والخلافة العظمی، وبعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) جعل الله تعالی تلك الإمامة والخلافة للأئمة (عليهم السلام) فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(1)، وقال: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(2).

وأما قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فلبيان أن اتّباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يوجب الأمرين أي الثواب الذي دلّ عليه {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، وترك العقاب بسبب الذنوب وهذا ما دل عليه قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وقيل: هذا لإزالة المانع عن حب الله لعبده، لأن الذنوب ظلمات توجب البُعد والبغض فلذا في محبة الله لعبده لابد من إزالة الموانع الکامنة في الذنوب، أو الغرض إيجاد الرجاء في قلوب الناس فلا ييأسوا من رحمة الله ولا يقيسوا الله

ص: 116


1- سورة المائدة، الآية: 55.
2- سورة النساء، الآية: 59.

بالخلق حيث إن کثرة الإجرام بحق إنسان تمنع عن حبّه للمجرم حتی لو ندم، ولکن الله تعالی يغفر الذنوب جميعاً إن اتّبع العبد رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) حتی لو کانت تلك الذنوب من مشاش رأسه إلی أخمص قدميه، قال تعالی: {قُلْ يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُۥ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُواْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(1).

التاسع: قوله تعالی: {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} الآية.

لعلّ الآية بصدد بيان معنی اتّباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأنه ليس باللفظ فقط، بل إنما هو بالإطاعة العملية.

ثم إن وجوب إطاعة الله إنما هي بالذات، وأما إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلأنّ الله تعالی أمر بذلك، فمن جهة هذا الفارق - أي الإطاعة الذاتية أو بالتبع - فقد تکررت لفظة الإطاعة في بعض الآيات فقال تعالی: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}(2)، لبيان اختلاف سنخ الإطاعة، ومن جهة أن مرجع إطاعة الرسول إلی إطاعة الله تعالی لم تتکرر لفظة الإطاعة في آيات أخری کهذه الآية، وقد قال تعالی: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(3).

وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي فإن أعرضوا عن الطاعة، فإن کان إعراضاً عن

ص: 117


1- سورة الزمر، الآية: 53-55.
2- سورة النور، الآية: 54.
3- سورة النساء، الآية: 80.

جحود فهو النفاق أو الکفر في العقيدة، وإن کان إعراضاً عمليّاً فهو کفران بالنعمة وفسق.

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَٰفِرِينَ} بيان أن عدم إطاعة الرسول توجب بغض الله تعالی، مضافاً إلی الکفر في العقيدة أو کفران النعمة.

وفي مجمع البيان: في هذه الآية دلالة علی بطلان مذهب المجبرة، لأنه إذا لم يحب الکافرين من أجل کفرهم ولم يرد ثوابهم لذلك، فلا يريد إذاً کفرهم، لأنه لو أراده لم يكن نفي محبته لهم لکفرهم(1).

وإنما لم يقل (لايحبهم) للدلالة علی سبب عدم محبتهم وهو الکفر.

ص: 118


1- مجمع البيان 2: 415 (بتصرّف).

الآية 34

اشارة

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى الْعَٰلَمِينَ (33) ذُرِّيَّةَۢ بَعْضُهَا مِنۢ بَعْضٖ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}

33- وليس اتّباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلاّ لأن الله اصطفاه، وهذا ليس ببدع ف {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ} اختار وفضّل {ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ} أي إبراهيم وآله وأفضلهم الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) {وَءَالَ عِمْرَٰنَ} مريم وعيسی (عليهماالسلام) {عَلَى الْعَٰلَمِينَ} کلهم بما فيهم سائر الناس والملائکة بل علی الوجود بأسره.

34- حالکونهم {ذُرِّيَّةَۢ بَعْضُهَا مِنۢ بَعْضٖ} في النسل فهم شجرة واحدة، وکذا يتشابهون في الصفات التي جعلتهم صالحين للنبوة والإمامة، وکذا في أداء الرسالة وإرشاد الناس، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لأقوالهم ودعائهم، {عَلِيمٌ} بنواياهم وأعمالهم ولذلك اصطفاهم.

بحوث

الأول: وجه ارتباط هاتين الآيتين بما قبلهما هو أنه تعالی لمّا ذکر وجوب اتّباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وإطاعته بيّن سبب ذلك، فإن الله قد اصطفاه في ذاته وفي حمله للرسالة، فهو المطهّر من الذنوب، المبرّأ من العيوب، المنزّه عن الغلط والسهو والنسيان، المفضَّل علی سائر الناس، فلذا کان قابلاً لحمل

ص: 119

الرسالة وللوساطة بين الخالق وبين الناس، وهذا ليس ببدع من الأمور، فالله تعالی اصطفی قبله أنبياء وأئمة، فلذا کانت الخليفة قبل الخليقة، فکان أول بشر خلقه الله تعالی هو حجته علی الخلق، وهذا من لطف الله تعالی علی خلقه، فلا تخلو الأرض من حجة إلی أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذا ربط الله تعالی تکوينه وتشريعه بالحجج، وحيث إن التشريع مستمر فالحجة مستمرة، وکذا نظام التکوين قائم بوجود الحجج وفي الحديث: «لو بقيت الأرض يوماً واحداً بلا إمام منا لساخت الأرض بأهلها»(1).

ثم إن هاتين الآيتين بداية الورود في الغرض الأصلي من السورة المبارکة حيث إن سورة آل عمران - کما ذکرنا - سورة مقابلة التحدي الفکري والعسکري وقد نزل أکثر من ثمانين آية منها لمّا جاء وفد نجران للمحاججة مع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) - کما قيل - فکانت الآيتان المدخل إلی بيان التحدي الأول وهو التحدي الفکري وشروع في بيان الحقائق حول عيسی (عليه السلام) وبيان التوحيد الخالص ونقض شبهات النصاری.

حول الاصطفاء

الثانی: قوله تعالی: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ...} الآية.

قد مرّ بعض الکلام في معنی الاصطفاء وسببه في الآية 132 من سورة البقرة، و(الاصطفاء) من (الصفو) وهو الخلوص من الشوب والکدر، يقال: «ماء صافٍ» لاشوب ولا کدر فيه، فالاصطفاء من الافتعال وهو أخذ صفو الشيء.

وهنا أمور:

1- ان الاصطفاء بمعنی واحد في کل استعمالاته.

ص: 120


1- دلائل الإمامة: 436.

أ - فاذا تعدی ب (من) کالاصطفاء من الناس کان المعنی: اختيار البعض منهم قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُۢ بِالْخَيْرَٰتِ}(1) فالناس علی أصناف ثلاث فاصطفی الله منهم القسم الثالث.

ب - وإذا تعدی ب (علی) کالاصطفاء علی الناس، کان بمعنی الاختيار الموجب للخصوصية أو للتفضيل علی سائر الناس کقوله: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ}(2)، ولذا تکررت کلمة الاصطفاء في قوله تعالی: {يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ}(3) فالأول بمعنی اختيار الصفو، بمعنی جعل خصوصية لها من بين سائر النساء، والثاني بمعنی تفضيلها عليهم.

ج - وإذا تعدّی ب (الباء) فهو لبيان ما به الاصطفاء کقوله: {قَالَ يَٰمُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي}(4).

د - وإذا تعدّی ب (اللام) فهو لبيان «المصطفی له» کقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(5).

وعلی کل حال فالاصطفاء بمعنی واحد، ولکن الاختلاف في حرف الجر لبيان سبب الاصطفاء أو متعلّقه أو نتيجته.

ص: 121


1- سورة فاطر، الآية: 32.
2- سورة البقرة، الآية: 247.
3- سورة آل عمران، الآية: 42.
4- سورة الأعراف، الآية: 144.
5- سورة البقرة، الآية: 132.

وفي التبيان: الاصطفاء هو الاختصاص بحالة خالصة من الأدناس، ويقال ذلك علی وجهين: الأول: أن يقال: اصطفاه لنفسه أي جعله خالصاً له يختص به، والثاني: اصطفاه علی غيره أي اختصه بالتفضيل علی غيره وهو معنی الآية(1).

2- ثم إن الاصطفاء من فعل الله تعالی، فلا يمكن لأحد أن يصل إلی تلك الدرجة بجهده وعمله، إذ ذاك بسبب خلقه من طينة أعلی ثم عصمته من الذنوب کلها ومن الخطأ والسهو ثم إيتاء النبوة أو الإمامة قال تعالی: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2).

نعم من اصطفاه الله تعالی جعل فيه قابلية زيادة الکمال، ولذا يزدادون رفعةً وکمالاً بعبادتهم وبتسليمهم لإرادة الرب تبارك وتعالی، ولذا کان إختبارهم بأصعب الابتلاءات، وورد حول الإمام الحسين (عليه السلام) : «إن لك درجة لاتنالها إلا بالشهادة»(3) وتلک الدرجة هي أن الله تعالی ألحقه بدرجة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) کما ورد في تفسير قوله تعالی: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٖ}(4)-(5).

3- إن کون الاصطفاء من فعل الله تعالی، لاينافي مدخلية المصطفی في

ص: 122


1- التبيان في تفسير القرآن 2: 440.
2- سورة القصص، الآية: 68.
3- بحار الأنوار 44: 313، عن أمالي الشيخ الصدوق.
4- سورة الطور، الآية: 21.
5- ([5]) راجع البرهان في تفسير القرآن 9: 241، عن أمالي الشيخ الطوسي.

ذلک الاصطفاء، أي إن الله تعالی لمّا علم أزلاً بأن هؤلاء سيختارون التسليم المطلق لذاته المقدسة لذلك خلقهم مصطَفين، وفي بعض الأحاديث دلالة علی ذلك، فقد سُئل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ فقال: «إني کنت أول من آمن بربي، وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم علی أنفسهم ألست بربکم، فکنت أنا أول من قال بلی، فسبقتهم بالإقرار بالله عز وجل»(1).

وقد ذکرنا نظير هذا في أحاديث الطينة حيث إن الله علم أزلاً باختيار الکفار الکفر بسوء اختيارهم لذلك خلقهم من طينة سجين ولو کان يخلقهم من طينة عليين لما اختاروا الإيمان، وکذلك علم أزلاً باختيار المؤمنين الإيمان بحسن اختيارهم لذلك خلقهم من طينة عليين ولو کان يخلقهم من سجين لما اختاروا الکفر، ولکن الحکمة اقتضت أن يکون تناسب بين الإيمان الذي يختارونه والجنة التي يدخلونها وبين طينتهم، وکذا في الکفار وکفرهم والنار التي يدخلوها وطينة سجين.

4- إن الاصطفاء هو مما لابد منه في الحکمة، أي إن الله تعالی حکيم وحکمته تقتضي أن يخلق الخلق العظيم، وأيُّ خلق أعظم من الإنسان حيث قال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(2)، وحيث إنه تعالی حکيم وعلی کل شيء قدير فخَلقُ إنسانٍ بغاية الکمال الذي يمکن أن يصله البشر من الحکمة، وفي ذلك تجلّي عظمة الله تعالی وهو سبحانه قادر علی خلق

ص: 123


1- الکافي 2: 10.
2- سورة المؤمنون، الآية: 14.

إنسان مُطَهَّر من الرجس ومبرّأ من العيب، لانَقصَ في خلقه وأخلاقه، لايسهو ولايغلط فالحکمة تقتضي خلقه، وحيث إن هذا المخلوق ممکن فلذا له استعداد للتکامل إلی ما لا آخر له فلذا يتکاملون باستمرار بعملهم وبما يفيضه الله تعالی عليهم.

فاتضح أن معرفة مقامات الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) تتوقف علی معرفة الله تعالی ومعرفة صفاته، وأن إنکار مقاماتهم ونسبة بعض النواقص إليهم بسبب عدم معرفة خالقهم سبحانه وتعالی، وقد يکون سببه الخلط بين الکمال البشري والکمال الإلهي حيث توهموا أن الکمال البشري غلو، وليس کما زعموا بل هو دليل علی الکمال الإلهي.

5- إن الاصطفاء کما يقتضي الکمالات المعنوية، فکذلك يقتضي الکمالات الجسمانية، فلذا لاعيب في خلق الأنبياء وأوصيائهم من حين الولادة إلی الوفاة، بمعنی کمالهم الجسماني ولادةً وعدم لحوق عيب في أعضائهم وقواهم الجسمانية، لمنافاة ذلك للاصطفاء، بل للغرض من بعثتهم لئلا يتنفر الناس منهم فتکون حجة للکفار وقد قال تعالی: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ}(1)، وقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُۢ بَعْدَ الرُّسُلِ}(2)، وأما قول موسی (عليه السلام) : {وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي}(3)، فالمراد من الخوف لامن لکنةٍ وعيبٍ ولذا قال: {وَأَخِي هَٰرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}(4)، وکذا قوله تعالی:

ص: 124


1- سورة الأنعام، الآية: 149.
2- سورة النساء، الآية: 165.
3- سورة الشعراء، الآية: 13.
4- سورة القصص، الآية: 34.

{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ}(1)، ليس المراد العمی بل ظهور بياض فيها وضعف، فمعنی {فَارْتَدَّ بَصِيرًا}(2)، زوال البياض ورجوع القوة، وأما المرض فليس عيباً ولانقصاً وهو مقتضی الترکيبة الجسمانية البشرية، وکذا قطع الأوصال في قتلهم فذاك ليس عيباً لأنه مصاحب للموت والشهادة.

الثالث: قوله: {ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}.

1- أمّا آدم (عليه السلام) فهو أبوالبشر، فأراد الله تعالی بيان أن الاصطفاء منذ أول بشر خلقه الله تعالی علی وجه الأرض، ولذا کانت الخليفة قبل الخليقة.

2- وأمّا نوح فهو الأب الثاني للبشر، قال تعالی: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ الْبَاقِينَ}(3)، وهو أول الأنبياء أولي العزم.

3- وأمّا آل إبراهيم، فالمراد إبراهيم وآله، وجيء بهذا التعبير إيجازاً وبلاغة، کقوله: {إِلَّا ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ}(4)، وقوله: {فَالْتَقَطَهُۥ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}(5)، وابراهيم (عليه السلام) ثاني أنبياء أولی العزم، ومن آله: أنبياء بني إسرائيل وأوصياؤهم، وکذا رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأوصياؤه (عليهم السلام) .

4- وأما آل عمران: فالظاهر أن المراد مريم وعيسی (عليهماالسلام) ، وهما وإن کانا من آل ابراهيم، إلاّ أنه لمّا کان في ذلك نوع خفاء، لأن مريم أنثی وعيسی

ص: 125


1- سورة يوسف، الآية: 84.
2- سورة يوسف، الآية: 96.
3- سورة الصافات، الآية: 77.
4- سورة الحجر، الآية: 59.
5- سورة القصص، الآية: 8.

وُلد من غير أب فقد يتوهم البعض بعدم شمول آل ابراهيم لهما لذا خُصّوا بالذکر، وکذلك لأن الغرض بيان تفاصيل تتعلق بهما في الآيات اللاحقة.

وأما إحتمال أن يکون المراد من (آل عمران) موسی وهارون (عليهماالسلام) ، فبعيد لأنه لم يذکر في هذه السورة شيء عن موسی وهارون أصلاً، بل التفصيل عن مريم وعيسی (عليهماالسلام) أکثر من أيَّة سورة أخری.

وقيل: إن آل ابراهيم في هذه الآية هم رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) حصراً، ولا يراد منهم مايشمل أنبياء بني إسرائيل، وذلك لأن عطف (آل عمران) يقتضي المغايرة بين آل إبراهيم وآل عمران، مع وضوح أن آل عمران هم من آل إبراهيم، فاتضح أن المراد من آل إبراهيم جماعة خاصة منهم لاکلّهم.

لکن يمکن أن يقال عطف الخاص علی العام أمر شائع وخاصة إذا کان هناك غرض في ذکر الخاص، وهنا الغرض هو الشروع في قصة مريم وعيسی (عليهماالسلام) .

ثم إن (الآل) هم الأقرب إلی الإنسان، ومن المعلوم أن أقرب الناس إلی إبراهيم (عليه السلام) هم ذريته التي علی نهجه وطريقته، وهم خصوص الأنبياء والأوصياء من ذريته، لاکل الذرية، إذ فيها الظالم والکافر، وهؤلاء لم يصطفهم الله تعالی، قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ}(1)، وقال تعالی: {قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٖ}(2).

ص: 126


1- سورة الصافات، الآية: 113.
2- سورة هود، الآية: 46.

وبقرينة الاصطفاء لايراد کل المؤمنين من ذريته، وإنما خصوص الأنبياء والأوصياء منهم.

وقوله: {عَلَى الْعَٰلَمِينَ} دليل علی تفضيلهم علی کل العوالم بما فيها عالم الملائکة، فالأنبياء أفضل من الملائکة کلهم حتی المقربين منهم، ويدل عليه أيضاً أمره تعالی الملائکة کلهم بالسجود لآدم، ولم يأمر العالمين بالسجود له قال تعالی: {فَسَجَدَ الْمَلَٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَٰفِرِينَ (74) قَالَ يَٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}(1).

وحيث إن الاصطفاء کان من آدم إلی آل ابراهيم وآل عمران ويدخل فيهم رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) لذا فالمراد کل العالمين من الأولين والآخرين، لا العالمين في خصوص زمان واحد.

ثم اعلم أنه ورد في بعض الروايات(2)

کون الآية آل ابراهيم وآل عمران وآل محمد علی العالمين، وفي بعضها آل محمد بدلاً عن آل عمران، وفي بعضها «هکذا نزلت»، وعن بعض العامة أيضاً أنه قرأ في مصحف ابن مسعود وآل ابراهيم وآل محمد علی العالمين(3).

وقد حملها البعض علی أنها کذلك في قراءة أهل البيت (عليهم السلام) .

والأقرب أنها لبيان تأويل الآية أو لبيان أن آل محمد هم من مصاديق الآية، وقوله (عليه السلام) هکذا نزلت لايراد به نزولها لتکون نصاً من القرآن، بل

ص: 127


1- سورة ص، الآية: 73-75.
2- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 2: 384-391.
3- نقل عن تفسير الثعلبي، وراجع شواهد التنزيل 1: 152.

نزولها لتفسيره أو تأويله، إذ کما نزلت ألفاظ القرآن کذلك نزل تفسيره وتأويله، قال تعالی: {فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُۥ}(1)، وقد ذکرنا تفصيل ذلك في شرح أصول الکافي فراجع.

الرابع: قوله تعالی: {ذُرِّيَّةَۢ بَعْضُهَا مِنۢ بَعْضٖ}.

هذا کالتعليل لاصطفاء هؤلاء (عليهم السلام) لأنهم من نسل واحد ويمتلکون صفات ومواهب متشابهة.

أما الأول: فلأن الناس أقرب لمعرفتهم ولقبول قولهم، لأنهم يعرفون آبائهم بل قد يعتقدون بهم، فلا کلفة زائدة في التعرُّف علی هؤلاء الأبناء، ولذا جعل الله تعالی أصفيائه وأنبيائه وأوصيائهم في سلسلة واحدة عادة.

وأما الثاني - وهو الأهم - : فإن بعضهم يشبهون البعض في الصفات المؤهلة للاصطفاء من العصمة والعلم والشجاعة... الخ، ولذا لاتجد فارقاً بين الأنبياء من هذه الجهة، نعم بعضهم أفضل من بعض مع اشتراکهم في أصل الفضيلة.

ومن ذلك يتضح معنی قوله (صلی الله عليه وآله وسلم) «حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً»(2) فإن صفات الحسين (عليه السلام) کانت شبيهة بصفات جده (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه بضعة منه، فلذا کان (عليه السلام) تمثالاً للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في کل شيء، ولذا فرّع عليه أن الله يحب من يحب الإمام الحسين (عليه السلام) .

الخامس: قوله تعالی: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

ص: 128


1- سورة القيامة، الآية: 18-19.
2- کامل الزيارات: 116؛ ومن مصادر العامة مسند أحمد 4: 172.

وهذا أيضاً کعِلة أخری لاصطفائهم، فهو سبحانه يسمع ما تقوله الذرية وماتدعو به، وهو عالم بما يضمرون ومايعملون، فلذلك اصطفاهم وفضلهم علی غيرهم، قال تعالی: {أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُۥ}(1)، أو الغرض بيان أن جعل الأنبياء والأوصياء في ذريتهم إنّما هو استجابه لدعائهم مع علمه تعالی بصلاح ذلك، کقوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}(2)، وقوله: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(3).

مضافاً إلی أن هذا کالمقدمة لاستجابة دعاء امرأة عمران.

ص: 129


1- سورة الأنعام، الآية: 124.
2- سورة البقرة، الآية: 128.
3- سورة البقرة، الآية: 124.

الآيات 35-37

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَٰنِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}

35- من نماذج الاصطفاء من آل عمران مريم وعيسی (عليهماالسلام) ، فنسل مبارك وأم مؤمنة {إِذْ} أي أذکر الوقت الذي {قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَٰنَ} وکانت مؤمنة، وزوجها عمران کان نبياً: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} للعبادة ولخدمة بيت المقدس، ولايشتغل للدنيا ولا استخدمه في حوائجي، فجعلت أعزّ شيء لديها لخدمة الدين مع کِبرها ولم يكن لها ولد غير هذا الجنين وهذا دليل شدة إيمانها، {فَتَقَبَّلْ} هذا النذر {مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ} لدعائي ونذري فتُجيب دعوة الداع، {الْعَلِيمُ} بصدق وإخلاص ما في ضميري.

36- {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} ولدتها، خاب ظنها ف {قَالَتْ} في خضوع

ص: 130

ورضیً بقضاء الله تعالی، داعية وملتجئة إلی الله: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ} وهي بحاجة إلی رعاية شديدة، إذ والدها قد مات، وأمّها کبيرة، ولا إخوة لها {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} فلم يكن کلامها للإعلام والإخبار بل للدعاء والتبتّل، ثم قالت: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} الذي کنت أرغب فيه {كَالْأُنثَىٰ} التي رُزقتُها، فهي لاتصلح للرسالة ولا لخدمة العُبّاد بعد بلوغها، بل هی بحاجة إلی من يرعاها، {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} بمعنی العابدة تفألاً وتقرّباً ودعاءً للعصمة، {وَإِنِّي أُعِيذُهَا} أ ُجيرها {بِكَ} يا رب {وَ} أ ُعيذ {ذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَٰنِ} لئلا يمسهم بسوء أو کفر {الرَّجِيمِ} المطرود عن الخير باللعن.

37- فاستجاب الله دعاء الأم {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} أي رضي تعالی بمريم مع انوثتها {بِقَبُولٍ حَسَنٖ} أکثر مما کانت تأمل الأم، فهي کانت ترغب في ولد ذکر محرّر، فرزقها الله سيدة نساء العالمين في زمانها وجعل ابنها من أنبياء أولي العزم، {وَأَنۢبَتَهَا} ربّاها {نَبَاتًا حَسَنًا} فکان نشوؤها بالإيمان والطهارة والعفة، {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} جعله کافلاً ومراعياً لمصالحها وهو من الأنبياء (عليهم السلام) ، وکان زوج أ ُختها أو خالتها، وجعل الله لمريم کرامات ف {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} المکان الذي کان قد أعدّه لها للعبادة في بيت المقدس وکان کالغرفة {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} فاکهة في غير أوانها {قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ} من أين {لَكِ هَٰذَا}؟ متعجباً أو لإبانة کرامتها علی الله، {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} من مائدة الجنة، {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} بغير تقتير، أو بغير محاسبة عليه في يوم القيامة.

ص: 131

بحوث

الأول: خلاصة القصة کما في الروايات(1)

أن عمران کان رجلاً صالحاً ونبيا(2)

وکانت زوجته تدعی مرثاد أو حنّه(3) ومعناها بالعربية (وهيبة)، فأوحی الله تعالی إلی عمران: أني واهب لك ذکراً مبارکاً، يبرئ الأکمه والأبرص، ويحيي الموتی بإذني، وجاعله رسولاً إلی بني إسرائيل، فحدّث عمران زوجته بذلك، فلمّا حملت بها کان حملها عند نفسها غلاماً ذکراً، ونذرت أن تجعله محرراً للعبادة ولخدمة بيت المقدس، والمحرّر للمسجد هو الذي إذا وضعته دخل المسجد فلم يخرج منه أبداً ويخدم العبّاد، فلمّا وضعتها أنثی قالت: رب إني وضعتها أنثی وليس الذکر کالأنثی، لأن البنت تضطر للخروج من المسجد أيام الطمث، کما أنها لاتکون رسولاً، فلمّا وهب الله لمريم عيسی (عليه السلام) کان هو الذي بشّر الله به عمران ووعده إياه، ثم إن عمران مات وأيتمت مريم فاحتاجت إلی من يتکفلها، فتنافس النبيون علی ذلك لعلمهم بفضلها، فاقترعوا عليها فخرجت القرعة علی زکريا وکان زوج أختها أو زوج خالتها، وسيأتي تفصيل کيفية الاقتراع في الآية 44، وکانت مريم في المسجد تخدم العُبّاد إلی أن بلغت، فأمر زکريا أن تتخذ لها حجاباً دون العُبّاد، فصارت في المحراب، وأرخت علی نفسها ستراً، وکان لايراها أحد، وکان زکريا يدخل عليها في المحراب فيجد عندها

ص: 132


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 2: 391-402.
2- بحار الأنوار 14: 202.
3- وکلاهما مرويّ، والظاهر أن أحدهما اسمها والآخر لقبها، أو کان لها اسمان کما هو متعارف عند الکثير من الأ ُسر.

فاکهة الصيف في الشتاء، وفاکهة الشتاء في الصيف.

ثم إنه قد اختلف في أمرين:

1- هل زکريا زوج أخت مريم أو زوج خالتها، وکلاهما مروي(1).

2- هل کان عمران نبيا أم لا، فرُويت نبوته(2)،

وروي أن بنات الأنبياء لايطمثن(3) مع رواية طمث مريم(4)

مما يدل علی عدم کونها بنت نبيّ.

وحيث لايترتب أمر عملي علی هذين الأمرين، نوکل علم هذه الروايات إلی أهلها.

الثاني: قوله تعالی: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}.

لايخفی أن النذر کان عاماً لايختص بالذکر، ولذا قالت {مَا فِي بَطْنِي} لکنها کانت تظن أن الجنين ذکر، ولذا لمّا ولدت مريم خاب ظن الأم في کونه ذکراً، لکن بقي النذر علی حاله، ولذلك أرسلت مريم إلی المسجد تخدم العُبّاد وتعبد الله تعالی فيه، ولا دلالة للآيات علی أنها نذرت نذراً آخر بعد الولادة ولا علی أن إرسالها إلی بيت المقدس کان تطوعاً لانتفاء النذر بانتفاء الموضوع.

والحاصل أن المحرّر کما کان يمکن أن يکون ذکراً کذلك کان يمکن أن يکون أنثی، لکن الذکر أفضل لذلك، لوجوب خروج الأنثی من

ص: 133


1- بحار الأنوار 14: 202.
2- بحار الأنوار 14: 202.
3- الکافي 1: 458.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 392.

المسجد حين الطمث، ووجوب احتجابها عن العُبّاد بعد البلوغ، وحيث إن متعلّق نذر الأم کان مطلقاً من غير تقييده بالذکر فلذا لزمها الوفاء به حتی بعد تبيّن کونها أنثی.

وهذا النذر کان مشروعاً في شريعتهم ولکنه نسخ في شريعتنا من جهتين: أولاً: لعدم صحة النذر علی الغير في شريعتنا، وثانياً: لنسخ الرهبنة وعدم صحة النذر بها.

ويمکن أن يقال: إن قولها لم يكن نذراً بالمعنی المصطلح عند المتشرعة بأن يوجب الإنسان شيئاً علی نفسه لله تعالی فيجب عليه الوفاء به، وإنما هو نذر بالمعنی اللغوي وهو إلزام النفس بشيء، فيکون معنی کلامها أنها تربّي مولودها علی أن يکون محرّراً فيتعلّم علی ذلك ويستمر عليه.

الثالث: قوله تعالی: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

لما کان النذر لله تعالی فلابد من الدعاء لقبوله تعالی لذلك النذر، إذ الغرض منه هو التقرب إليه وکسب رضاه سبحانه وتعالی، وهکذا في جميع الأعمال الصالحة ينبغي للإنسان أن يدعو الله بقبولها، لأن قبولها تفضُّل منه تعالی، إذ هو الغني المطلق الذي لايحتاج إلی أعمال عباده أبداً، ففي هذا الدعاء بيان عدم الامتنان عليه، بل له المنّة علی عباده إن تقبَّله منهم قال تعالی: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ}(1)، وقال تعالی: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ}(2)، وذلك لأن الله تعالی لايقبل إلاّ العمل الصالح

ص: 134


1- سورة المائدة، الآية: 27.
2- سورة التوبة، الآية: 53.

الصادر عن المتقين قال تعالی: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ}(1)، وقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(2)، ولذا حتی الأنبياء يدعون الله سبحانه في أن يقبل أعمالهم، کدعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهماالسلام) حين بناء الکعبة قال تعالی: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(3).

والحاصل: إن قبول العمل له شروط ترتبط بنفس العمل وبالعامل فاذا کان العمل فاقداً للشرائط لايقبل حتی إذا قصد العامل به التقرب، قال سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(4)، فالعمل السيء لاصلاحية له لکي يقبل.

وإذا کان العامل کافراً أو غير متّقٍ عن المحرمات يحبط عمله فلا يکون له الأثر الذي رجاه، قال تعالی: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}(5)، وقد مرّ بعض الکلام في الحبط، فراجع.

ثم إن القبول قد يکون للعمل وقد يکون للعامل، وأحدهما متلازم للآخر، فقبول العمل هو بمعنی ترتيب الآثار المرجوة عليه من الثواب.

وقبول العامل بمعنی إعزازه وإکرامه، ومحو ذنوبه ورفع درجاته، فقبول

ص: 135


1- سورة الأحقاف، الآية: 16.
2- سورة المائدة، الآية: 27.
3- سورة البقرة، الآية: 127.
4- سورة الکهف، الآية: 103-104.
5- سورة التوبة، الآية: 54.

المذنب بمعنی غفران ذنوبه ومحو آثارها، وقبول المحسن بتأييده وتطهيره.

وأما قولها: {أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فالغرض منه هو رجاء استجابة دعائها بتقبّل العمل، أو هو کالعلة للتقبّل.

الرابع: قوله تعالی: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}.

لم يكن قولها هذا اعتراضاً ولا عدم رضی بقضاء الله تعالی، فإن سياق الآيات لبيان فضلها وبيان مقدمات اصطفاء مريم وعيسی (عليهماالسلام) ولايناسب ذلك الاعتراض، وإنما المقصود - والله العالم - هو بيان تبتُّلها وخضوعها ورضاها بقضائه تعالی، ولذا کمّلت کلامها بقولها {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} حيث لايمکنها القيام بوظيفة المحرَّر في أيام الطمث، کما لاتتمکن من خدمة العُبّاد بعد البلوغ، فکلامها أشبه بالاعتذار، نظير من يَعِد بأمر ثم يمرض فلايتمکن من الوفاء الکامل بالوعد فيقول: «إنك تری أني مريض» لايقصد الإخبار بل يقصد الاعتذار.

ومن ذلك يتبيّن وجه قوله تعالی: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} فهو استيناف في وسط کلامها، لبيان علمه تعالی وأن غرضها ليس الإخبار والإعلام، فهذه الجملة لبيان نزاهتها وصحة عقيدتها بعلم الله تعالی.

وفي المناهج: واعتقاد امرأة عمران بأن الجنين ذکر لم يكن جزافاً وأمنية عادية، فإنه سبحانه لايذکر في مقام حنانه وإبراز کراماته لأحبائه ماهو من الأمور العادية، ولاينسب إليهم الأمنيات غير الحقيقية، بل أُمنيتها - علی ما في بعض الروايات - کان من جهة أن عمران زوجها کان قد أخبرها بما

ص: 136

أوحی الله من أنه يهب له غلاماً يبرئ الأکمه والأبرص(1).

الخامس: قوله تعالی: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ}.

هذا من کلامها وليس تتمة للجملة المعترضة في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}، أي ليس الذکر الذي کنتُ أتمناه کالأنثی التی رُزقتُها، فإن الذکر يمکن أن يکون رسولاً کما أنه يتمکن من القيام بوظيفة التحرير أحسن من قيام الأنثی بها لما ذکرناه من وجوب احتجابها وطروّ الطمث عليها، فهذا في الحقيقة اعتذار لااعتراض.

قال في المناهج: ولذا لم تقل «وليس الأنثی کالذکر» حيث إن فيه تصريح بخسّة المولودة والزهد عنها واليأس عمّا وعدالله من إکرامها، وهذا فيه لحن اعتراض وهو لايليق بها، وأما قولها {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ} فإنه ليس فيه اعتراض ولاتحقير لشأنها، بل علی عدم صلاحية الأنثی للنذر بالتحرير والرسالة، مع حفظ الأدب وبيان الرضا والتسليم بالقضاء(2).

وقيل: إن جملة {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ} هو من تتمة الجملة المعترضة وليس من کلامها، فالمعنی انها لم تکن تعلم أن الأنثی التي وهبها الله لها هي أفضل من الذکر التي کانت تتمناه، لأن الله اصطفاها وجعل عيسی (عليه السلام) إبناً لها!!

لکن هذا يخالف ما في الروايات فراجع.

السادس: قوله تعالی: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا...} الآية.

ص: 137


1- مناهج البيان 3: 222 (بتصرف).
2- مناهج البيان 3: 224.

يتضمن کلامها هذا أمرين:

1- عبادة الله تعالی، وهذا يظهر من تسميتها ب {مَرْيَمَ}، فقد قيل: إن معناها العابدة في لغتهم، وهذا أول خطوة في الوفاء بالنذر، فهو تفأل بأن الوليدة ستفي بالنذر بعبادتها، کما هو يتضمّن دعاءً لها بذلك، کما هو تقرّب من أمها إلی الله، أي ليس کلامها اعتراضاً بل هي تريد أن تکون بنتها عابدة لله تعالی، فهذا يدل علی رضی الأم بقضائه تعالی.

2- الالتجاء إليه من مکائد الشيطان بأن لايمسها بسوء أو کفر، وذلك ليُتمها وبُعدها عن أبويها ووجودها في مکان عام، فکانت الأخطار تحيق بها من شياطين الإنس والجن، فاستجاب الله دعاءها، کما سيأتي في الآية التالية.

وقوله: {وَذُرِّيَّتَهَا} لأنها کانت تعلم بأن الله سيرزقها ذکراً رسولاً إلی بني إسرائيل يبرئ الأکمه والأبرص ويحيي الموتی بإذن الله کما أخبرها زوجها عمران(1)،

فلما مات عمران، وکانت الوليدة أنثی علمت بأن ذلك الموعود هو من ذرية هذه المولودة، ولذلك استجارت بالله تعالی بأن يبعد عنها کيد الشيطان.

وهذه الاستعاذة لعيسی (عليه السلام) ليس من الانخداع بالشيطان بل من أذاه، فالأنبياء معصومون لاطريق للشيطان إلی إغوائهم، وإنّما يتمکن من إيذائهم کما قال تعالی: {أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٖ وَعَذَابٍ}(2)، نعم استعاذتها لمريم (عليهاالسلام) يحتمل کونه لکلا الأمرين، إذ لعلّ

ص: 138


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 2: 392، عن تفسير القمي والعياشي؛ ومثله في الکافي 1: 535.
2- سورة ص، الآية: 41.

أمها لم تکن تعلم باصطفائها وعصمتها.

وقوله: {الرَّجِيمِ} من الرجم بمعنی الرمي بالحصی، والمراد هنا المطرود عن رحمة الله تعالی أو المرجوم باللعن من الله ومن المؤمنين.

السابع: قوله تعالی: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ...} الآية.

کان هذا استجابة لدعاء امرأة عمران وزيادة فضل من الله تعالی:

1- فحيث قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ}، فأعطاها الله تعالی الخير الکثير، حيث تقبّل مريم علی أنوثتها بقبول حسن، فهي أفضل من کثير من الذکور، وأفضل من المحررّين في بيت المقدس.

2- وقالت: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ}، فربّی الله مريم تربية حسنه بحيث فاقت الکثير من الذکور ف {وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}.

3- وکانت تخاف عليها من الشيطان، فالله تعالی جعل زکريا النبي زوج أختها أو خالتها کفيلاً لها، حافظاً وحامياً لها عن شرّ شياطين الإنس والجن.

4- وزادها الله کرامة لم تکن تتصورها أمها، وهو أنه رزقها من الجنة فاکهة في غير أوانها، ليتبيّن وجه الإعجاز فيها، لأنها لوکانت في أوانها لاحتملوا أن ذلك أمر طبيعي.

وقوله: {فَتَقَبَّلَهَا} أي قَبِل مريم ورضي بها في نذر الأم، لأن مريم کانت متعلق النذر أي المنذورة، فکما تقبل الله نذر الأم کذلك قبل المنذورة، و(التقبّل) هو قبول الشيء عن رضا ورغبة، وأما (القبول) فهو أعم ولذا وصفه بالحسن فقال: {بِقَبُولٍ حَسَنٖ}، وقيل: إنما لم يقل: (تقبلها تقبلاً) بل قال: {بِقَبُولٍ حَسَنٖ} لأن هذا يشعر بزيادة العطايا فوق ما کانت

ص: 139

ترجو، فإنها کانت ترجو ذکراً رسولاً صاحب معاجر، فرزقها الله زيادة علی ذلك سيّدة نساء العالمين في زمانها، فتأمل.

وقوله: {وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} بمعنی رباها تربية صحيحة عبر أفاضة الکمالات وتحديث الملائکة وغير ذلك.

وقوله: {الْمِحْرَابَ} هو موضع في المسجد کانت اتخذت عليه ستراً وحجاباً، وروي أنها صومعة في المسجد بناها لها زکريا وکان يرقی إليها بسُلَّم(1)،

وقيل: هو کالمقصورة التي توجد في کنائس النصاری وأصلها من هذا، وعلی کل حال کان مکاناً منعزلاً عن العُبّاد لايدخل عليها فيه إلاّ زکريا (عليه السلام) ، و«المحراب» اسم مکان من الحرب، لأنه مکان محاربة النفس والشيطان، وقيل غير ذلك.

وقوله: {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} في الروايات فاکهة الشتاء في الصيف وفاکهة الصيف في الشتاء، کرامةً من الله تعالی لها، ولعلّه مضافاً إلی ذلك لئلا تخرج من المحراب طلباً للرزق، أو لئلا يدخل عليها الناس لايصال الطعام فتنشغل عن العبادة، وأما دخول زکريا عليها فلأنه کان کفيلاً لها ولعلّه کان يبلّغها الوحي عن الله تعالی فکان من أسباب الانبات الحسن.

وأما قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} فقد مرّ الکلام فيه في الآية 27.

ص: 140


1- تفسير الصافي 2: 41، عن تفسير الامام (عليه السلام) .

الآيات 38-41

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَٰرِ (41)}

38- {هُنَالِكَ} في ذلك الموقف حيث رأی زکريا کرامة مريم علی الله تعالی أحب أن يكرمه الله تعالی أيضاً ف {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ} أي من عندك بحنانك وفضلك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ولداً ذا کمالات في النفس والدين والأخلاق {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} سماع قبول أي مجيب.

39- فاستجاب الله دعاءه وبشّره بالولد الطيب، تعجيلاً في سروره {فَنَادَتْهُ الْمَلَٰئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ} أي في حال کونه قائماً {يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أراد تعالی أن تکون البشارة في أفضل الأوقات والأماکن فاختار وقت صلاته في المحراب {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ} ولعل بيان اسمه لإخباره بأنّه ذکر وأنه طيب لذلك اختار الله اسمه قبل ولادته، وله خمس صفات 1- حالکونه {مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} وهو عيسی (عليه السلام) 2- {وَسَيِّدًا} رئيساً علی

ص: 141

المؤمنين في طاعة الله تعالی 3- {وَحَصُورًا} لايتزوج فيمنع نفسه عن ملذاته، لانشغاله بالعبادة 4-5- {وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} والمراد صلاح خاص في أعلی درجاته، فکل الأنبياء في قمة الصلاح لکن بعضهم أرفع صلاحاً من بعض.

40- {قَالَ} زکريا مستبشراً وطالباً العلم بکيفية رزقه بالولد: {رَبِّ أَنَّىٰ} کيف {يَكُونُ لِي غُلَٰمٌ} لأنه علم أن رزقه الولد لايکون إلاّ باعجاز فأحب أن يعرف کيفيته {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} فأضعفنی وأثّر فيّ {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} عقيم لاتلد؟ {قَالَ} الله تعالی: {كَذَٰلِكَ} کرزقکما الولد في حالتکما من الکبر والعقر {اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} فهو قادر، والأسباب الطبيعية هو الذي جعلها بحکمته وهو قادر علی تغييرها لحکمة أخری.

41- {قَالَ} زکريا: {رَبِّ اجْعَل لِّي ءَايَةً} علامة أعرف بها وقت الحمل لاستقبلك بالشکر، أو لاطمئنان القلب باستجابة الدعاء ليتحوّل علم اليقين إلی حق اليقين {قَالَ} الله تعالی مستجيباً هذا الدعاء أيضاً: {ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} لاتقدر علی أن تکلمهم بان يعتقل لسانك عنهم {ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} بالإشارة والإيماء بالرأس، ولکن لايعتقل لسانك عن ذکر الله تعالی {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ} نزهه تعالی {بِالْعَشِيِّ} آخر النهار، و{وَالْإِبْكَٰرِ} أول النهار، والمراد استمرار التسبيح طوال النهار.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ}.

{هُنَالِكَ} أي في ذلك الموقف الذی رأی زکريا کرامة مريم علی الله

ص: 142

ورزقها بالإعجاز فاکهة الصيف في الشتاء وبالعکس، وقد کان زکريا يائساً عن الذرية لمّا شاخ وکانت امرأته عاقراً، ولم يكن قبل ذاك طلب الذرية علی وجه الإعجاز، لکن لما رأی الإعجاز في مريم طلب من الله کرامة مثلها له بأن يرزق ولداً علی جهة الإعجاز، فليس المعنی أن زکريا لم يكن يعلم بقدرة الله أو کان غافلاً عنها، حاشاه وهو من الأنبياء العظام، وقدرة الله يعتقد بها المؤمن العادي فضلاً عن النبي المعصوم، والأنبياء أکثر الناس معرفة بالله من المؤمنين العاديين، بل هو (عليه السلام) لما شاهد معجزة رغب في مثلها، وهذا أمر طبيعي حتی من العالم بالأمر، فالإنسان العادي قد يعلم بشيء ولايتحرك نحوه، لکنه إذا رآه في غيره حصلت له الرغبة في مثله.

والحاصل أن المؤمن يزداد إيماناً ومعرفة في المواقف المختلفة، فتارة: لمّا يری آية من آيات الله تعالی، وأخری: لمّا يشرّع الله تشريعاً أو ينزل قرآناً، وثالثة: لمّا يقع في المصائب والمصاعب، ورابعة: لمّا يری نعمة أنعم الله بها علی قوم، وخامسة: لمّا يری عذاب قوم، وهکذا، فيزداد إيماناً ومعرفة ويرغب في فضل الله تعالی ويستجير من نقمته وعذابه سبحانه، قال تعالی: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا}(1)، وقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(2)، وقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ

ص: 143


1- سورة الأنفال، الآية: 2.
2- سورة التوبة، الآية: 124.

وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(1).

کما أن المؤمن يحب أن يری فضل الله في الآخرين، کما يحب أن يعلموا بفضل الله عليه، قال الله تعالی: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}(2).

الثاني: قوله تعالی: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}.

(الهبة) هي عطيةُ منفعةٍ يتفضّل بها علی المُعطی له، ولذا لاتقال لعطية المرؤوس للرئيس(3).

و{لَّدُنكَ} بمعنی من عندك، وهذه الکلمة تدل علی حضور الشيء ولاتطلق علی الغائب(4).

وفي هذا الدعاء راعی زکريا (عليه السلام) کمال الأدب، فافتتح دعاءه بقوله {رَبِّ}، وهذه عادتهم (عليهم السلام) في افتتاح الأدعية في طلب الحوائج وهو خضوع له تعالی وتذلّل واستعطاف، ثم عبر بقوله {هَبْ لِي} طالباً تفضّله تعالی من غير استحقاق بل بلطفه وکرمه، ثم قال {مِن لَّدُنكَ} لبيان عموم قدرته وأنه لا يُعجزه شيء، وفيه إشعار بأنه أرادها بطريقة إعجازية لابطريقة طبيعية کأن يعالج ضعف جسمه ويتزوج بأخری غير عاقر.

ص: 144


1- سورة آل عمران، الآية: 173.
2- سورة يس، الآية: 26-27.
3- معجم الفروق اللغوية: 516، 555.
4- معجم الفروق اللغوية: 462.

و{ذُرِّيَّةً} تطلق علی الواحد والجمع، وعلی الذکر والانثی، لکن الظاهر أن دعاءه (عليه السلام) کان للولد کما يظهر من قوله في سورة مريم: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}(1).

و{طَيِّبَةً} من الطيب بمعنی ما يلائم الحواس والنفس، وقيل: ملائمة الشيء لصاحبه فيما يريده لأجله، ومن المعلوم أن الملائم التام لنفس زکريا (عليه السلام) هو الولد المُحلّی بالکمالات المبرّی عن العيوب، وهو في معنی العصمة، ولذا کان دعاؤه في سورة مريم {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} أي مرضياً عندك، کما أن السياق يشعر بذلك، فإن زکريا لمّا رأی کرامة مريم علی الله حينذاك دعا لأن يرزقه الله الذرية الطيبة، التي لها کرامات واصطفاء.

وقوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} بمعنی سماع قبول، فليس مقصوده مجرد علمه تعالی بالمسموعات، بل سماع وإجابة للدعاء ولايخفی أن أفضل الدعاء ما کان مقترناً بتمجيد الله تعالی واستعطافه وطلب لطفه.

الثالث: قوله تعالی: {فَنَادَتْهُ الْمَلَٰئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}.

أي فاستجاب الله دعاءه، وأراد أن يبشّره بذلك فأسرعت الملائکة في بشارته.

وأما قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} فلعل صلاته کانت صلاة الحاجة، بأنه لمّا رأی کرامة مريم توجه إلی المحراب مصلياً داعياً الله بالذرية، فاستجاب الله دعاءه فوراً وبُشِّر بذلك ليعلم بکرامته وکرامة وليده علی الله تعالی، وکان ذلك في أشرف البقاع وهو محراب المسجد وفي

ص: 145


1- سورة مريم، الآية: 5-6.

أفضل الحالات وهي الصلاة.

وقوله: {قَائِمٌ} إما بمعنی وقت القيام في الصلاة قبل السجود لبيان سرعة الاستجابة، أو بمعنی القيام بالدعاء أي قائم بالدعاء في الصلاة، أو بمعنی إقامة الصلاة.

ثم إن استجابة الدعاء کانت فورية لکن تنفيذها کان بعد خمس سنوات کما يظهر من بعض الروايات(1)، فإن استجابة الدعاء هي بمعنی قبوله والتقدير الموافق للدعاء أو لأفضل منه، وليس بمعنی التنفيذ حين الاستجابة، بل قد يتأخر التنفيذ لفترة وذلك لحکمة فيه، کما رُوي في قوله: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا}(2) أنه کان بين الإجابة وتنفيذها أربعون سنة، نظير من يطلب مالاً فيعطی صکاً بتاريخ لاحق فقد استجيب طلبه لکن مع تنفيذه في وقت لاحق، ولعل الغرض من هذا التأخير زيادة عبادته ودعائه، ولعلّه لهذا طلب أن تجعل له آية.

وأما نداء الملائکة، فإنه من إحدی طرق الوحي کما قال تعالی: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَايِٕ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}(3)،

أي إلاّ بالإلهام وذلك بالإلقاء في الروع، أو يكلّمه بخلق الصوت لکنه لايری الربّ لاستحالة رؤيته، أو يرسل ملکاً يتکلّم معه بأمر الله وبما أراده تعالی، وهناك تفصيل في أقسام الأنبياء وکيفية تلقيهم الوحي بسماع الصوت فقط أو بالرؤية أيضاً أو في المنام بيّنته

ص: 146


1- بحار الأنوار 14: 176، عن مجمع البيان.
2- سورة يونس، الآية: 89.
3- سورة الشوری، الآية: 51.

الروايات وقد ذکرناه في شرح أصول الکافي فراجع، ولعل زکريا (عليه السلام) کان من الصنف الذي يسمع الصوت ولايری الملك.

الرابع: قوله تعالی: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ...} الآية.

هذا بيان لاستجابة دعائه مع زيادة فضل من الله تعالی، فبشروه بولد يمتلك صفات خمس:

1- {مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} وهذا من أفضل البشارات، لأن الأنبياء يصدّق بعضهم بعضاً ويؤيد بعضهم بعضاً، حيث إن الهدف واحد والکل يسعون للوصول إليه، ولذا کان من أعظم صفات القرآن أنه يصدِّق الکتب السماوية السابقة قال تعالی: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ}(1).

وزکريا (عليه السلام) کان يعلم بأن الله سيبعث عيسی (عليه السلام) نبيا من أولي العزم، لأن کل نبي يعلم ويبشر بالنبي اللاحق، ولعلّه کان يعلم بانّه من ذرية عمران لأن الله أوحی إلی عمران - کما مرّ - ، فلذا کانت البشارة بأن ولدك يحيی سيصدّق هذا الرسول الذي هو کلمة الله تعالی.

و(کلمة الله) هو عيسی (عليه السلام) ، وإنما سُمّي بها لأنه وُلد من غير أب وبإرادة الله تعالی حيث قال: (کن)، فخلقه الله تعالی بأمره، أو کما تلقی الکلمة کذلك ألقی الله عيسی إلی مريم بغير الأسباب الطبيعية، وسيأتي الکلام حول {ذَٰلِكَ} في الآية 45.

وهذا التصديق کما کان باللفظ، فيحيی (عليه السلام) کان يصدّق عيسی (عليه السلام)

ص: 147


1- سورة المائدة، الآية: 48.

وکان ذلك من أقوی أسباب تصديق الناس لعيسی (عليه السلام) لمعرفتهم بيحيی وزهده، کذلك کان بنفس خلق يحيی بالإعجاز حيث شيخوخة الأب وعقر الأم، وکانت ولادة يحيی مقاربة لولادة عيسی کما يظهر من بعض الروايات(1)، وقيل: کان يحيی أکبر من عيسی بستة أشهر فمن کان يعلم بحال يحيی (عليه السلام) وأن ولادته بالإعجاز کان يسهل عليه تصديق ولادة عيسی (عليه السلام) من غير أب بالإعجاز، هذا مضافاً إلی کلام عيسی (عليه السلام) في المهد.

2- {وَسَيِّدًا} أي رئيساً وشريفاً، والمراد رئيساً علی أهل الطاعة، ورئاسته لم تکن دنيوية بل في طاعة الله تعالی، ففي تفسير الإمام (عليه السلام) : رئيساً في طاعة الله علی أهل طاعته(2).

3- {وَحَصُورًا} أي يحصر نفسه فيمنعها عن ملذات النکاح فلم يتزوج طيلة عمره، وهذا کان مشروعاً بل من أعظم الفضائل، لکن نُسخ في الإسلام، قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «النکاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس منّي»(3).

ولعل سبب تشريعه سابقاً أن أکثر الناس کانوا وثنيين منغمسين في الملذات والشهوات فکان لابد من وجود ناس يتخصّصون في العبادة في صوامع أو مساجد ليکونوا مثالاً وأسوة وليقرّبوا الناس إلی الدين، لکن في الشريعة الإسلامية کملت القوانين وشُرّعت العبادات العامة وفي جميع الأوقات وعلی جميع الناس وانتشرت شعائر الدين فکان لابد من کون العُبّاد أسوة للناس يقتدون بهم في کل شيء، ومنها في حياتهم العائلية

ص: 148


1- بحار الأنوار 14: 186-187، عن تفسير الإمام (عليه السلام) .
2- تفسير الإمام (عليه السلام) : 277؛ وعنه في بحار الأنوار 14: 187.
3- بحار الأنوار 100: 220.

والشخصية، فتأمل.

وقيل: إن الزواج مهم والعبادة أهم، ولدی التزاحم يرجح الأهم علی المهم، لکن شريعة الإسلام کاملة بحيث لايبقی تزاحماً بينهما فيمکن الجمع بينها.

5-4- {وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} أي هو من أعظم الأنبياء، فقوله: {مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} ليس قيداً توضيحياً إذ کل نبي هو صالح، بل المراد درجة سامية من الصلاح، بحيث تمناها يوسف ودعا الله بأن ينالها قال: {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّٰلِحِينَ}(1)،

وهي درجة نالها إبراهيم (عليه السلام) قال تعالی: {وَإِنَّهُۥ فِي الْأخِرَةِ لَمِنَ الصَّٰلِحِينَ}(2)، وقد مضی شطر من الکلام في سورة البقرة فراجع.

الخامس: قوله تعالی: {قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٌ...} الآية.

سؤاله (عليه السلام) کان لمعرفة کيفية رزقه بالولد، لا إنکاراً أو تعجباً، بل هو الذي کان قد دعا الله بذلك فکيف يتعجب أو ينکر حين الاستجابة، بل الإنکار لايناسب مقام الأنبياء (عليهم السلام) کما هو أوضح من أن يخفی.

فهو (عليه السلام) علم بأن الله سيرزقه ولداً فأحب أن يعلم کيفيته، مثلاً هل يرجعهما الله شابين، أو أن عليه أن يتزوج أخری شابة غير عقيمة.

وبعبارة أخری: لعلّه أراد معرفة أن تلك الاستجابة هل هي عبر الطرق

ص: 149


1- سورة يوسف، الآية: 101.
2- سورة البقرة، الآية: 130.

الطبيعية فعليه أن يتزوج أخری وأن يراجع الطبيب وأمثال ذلك من الأسباب، أو أن في الأمر وجه إعجاز فليس عليه عمل شيء إلاّ الانتظار لتنفيذ الوعد، ولذا ضمّن کلامه الموانع الطبيعية وهي شيوخته وعقر امرأته، فأجابه الله تعالی: {كَذَٰلِكَ} أي ما أنتما عليه من الکبر والعقر {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} بقدرته، فهو الذي سنّ القوانين الطبيعية، لحکمته، فتغييرها بيده إن اقتضت حکمته ذلك.

السادس: قوله تعالی: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي ءَايَةً}.

لمّا کان الفاصل بين استجابة الدعاء وبين تنفيذ الأمر خمس سنوات - کما مرّ - ولعلم زکريا (عليه السلام) بأن استجابة الدعاء لاتعني التنفيذ فوراً لذلك طلب أن تجعل له علامة علی حمل الزوجة، ليستقبل ذلك بالشکر والسرور، أو لاطمئنان القلب بأن يجده ملموساً بعد ما علم به عبر السمع، فيرتقي يقينه من علم اليقين إلی عين اليقين، وقد مرّ تفصيل معنی الاطمئنان في اطمئنان إبراهيم (عليه السلام) برؤية إحياء الأموات في الآية 260 من سورة البقرة، فراجع.

لکن روي أن زکريا لما دعا ربّه أن يهب له، فنادته الملائکة بما نادته به، أحبّ أن يعلم أن ذلك الصوت من الله، فأوحي إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الکلام ثلاثة أيام، قال: لما أمسك لسانه ولم يتکلم علم أنه لايقدر علی ذلك إلاّ الله(1).

قال العلامة المجلسی رضوان الله عليه: يمکن أن يقال: اشتبه عليه في خصوص هذا الموضع لحکمة، فاحتاج إلی استعلام ذلك، أو يقال: إنه فعل

ص: 150


1- بحار الأنوار 14: 184، عن تفسير العياشي.

ذلك لزيادة اليقين کما في سؤال ابراهيم (عليه السلام) (1).

أقول: والأقرب أن يقال: إن الأنبياء (عليهم السلام) يميزون بين کلام الملائکة وکلام غيرهم وخاصة وساوس الشيطان، لکن ذلك التمييز بإرادة من الله تعالی فهو الذي يلقي إليهم المعرفة، وطُرُق هذه المعرفة متعددة، ومنها جعل الآية، فقد يلقي الله المعرفة في قلبهم مباشرة، وقد يوفقهم للمعرفة بواسطة آية، وقد تکون هناك طرق أخری، والحاصل أنه لاشك في أن الأنبياء يعرفون ما يوحی إليهم ويميزون بين أقسام الکلام، والله تعالی هو الذي يوفقهم لتلك المعرفة وبأساليب مختلفة.

فعن بريد عن الإمام الباقر والصادق (عليهماالسلام) : «الرسول الذي يظهر له الملك فيكلّمه، والنبي هو الذي يری في منامه، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد، والمحدّث الذي يسمع الصوت ولايری الصورة»، قلت: أصلحك الله کيف يعلم أن الذي رأی في النوم حق وأنه من الملك؟ قال: «يوفّق لذلك حتی يعرفه»(2).

السابع: قوله تعالی: {ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا...} الآية.

أي العلامة هي اعتقال لسانه عن الکلام مع الناس دون ذکر الله تعالی، وهذا دليل علی أنه لم يكن عن آفة، ولو کان يعتقل لسانه بشکل کامل لم يكن آية، فلعله کان يتوهم أنه لمرض، کما أنه کان نقضاً للغرض، لأنه أراد أن يعرف وقت الحمل ليزيد من شکره لله تعالی، فحبس لسانه عن ذکر الله

ص: 151


1- بحار الأنوار 14: 185.
2- الکافي 1: 177.

کان مخالفاً لما أراده، والله تعالی لايجعل آيته لأنبيائه منعهم عن ذکره.

وليس المقصود صوم الصمت کما فعلت مريم (عليهاالسلام) حين ولادة عيسی (عليه السلام) فإن ذلك کان عبادة لاآية.

وقوله: {رَمْزًا} أي بالحرکة وهي بالإشارة فهي لاتمنع عن ذکر الله، ولاتنافي الآية، وفيها قضاء ضروريات الحوائج.

وقوله: {وَاذْكُر رَّبَّكَ...} دليل علی الآية، وأشبه ببيان الغرض منها حيث إن غرضه تخصيص وقته لذکر الله تعالی، فقوله: {بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَٰرِ} کناية عن استغراق الذکر لکل الوقت لا لخصوص هذين الوقتين.

وعطف التسبيح علی الذکر من عطف الخاص علی العام، إذ کل تسبيح هو ذکر، أو الذکر هو تمجيده والتسبيح هو تنزيهه، أو أن الغرض من الأمر بالتسبيح هو تنزيه الله عن العبث أو خلاف الحکمة، فتأخير ولادة يحيی وجعل الآية عدم القدرة علی الکلام مع الناس إنما هما لحکمة، فهو تعالی منزّه عن العبث والنقائص کلها، والله العالم.

ثم إن ذکر قصة زکريا ويحيی في وسط آيات مريم والمسيح (عليه السلام) لعلّه بغرض بيان تصديق يحيی لعيسی فاقتضی السياق ذکر بقية جوانب القصة وخاصة مايرتبط بمريم (عليهاالسلام) حيث إن دعاء زکريا کان بعد ما رأی کرامتها علی الله تعالی، أو لوجود الشبه التام بين عيسی ويحيی (عليهماالسلام) فولادة کليهما کانت بدعاء الآباء، وبطريقة إعجازية، وکلاهما آتاهما الله النبوة في الصغر، وغير ذلك من أوجه الشبه.

ص: 152

الآيات 42-44

اشارة

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ (42) يَٰمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّٰكِعِينَ (43) ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}

42- {وَإِذْ} أي أذکر الوقت الذي {قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ} اختارك من ذرية الأنبياء {وَطَهَّرَكِ} من السفاح وسائر الأقذار المعنوية {وَاصْطَفَىٰكِ} اختارك للولادة من غير فحل {عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ} فهذا خصيصة خصّ الله بها مريم (عليهاالسلام) .

43- فاشکري {يَٰمَرْيَمُ} هذه النعمة ف {اقْنُتِي} اخضعی {لِرَبِّكِ} بالتسليم لأمره، {وَاسْجُدِي} شکراً لله تعالی، {وَارْكَعِي مَعَ الرَّٰكِعِينَ} أي علی طريقة الراکعين، لاکاليهود الذين لارکوع لهم، ويمکن أن يکون کل ذلك أمر بالصلاة مع ذکر أرکانها.

44- {ذَٰلِكَ} ما ذکرناه من قصص مريم وزکريا ويحيی {مِنْ أَنۢبَاءِ الْغَيْبِ} أي ما غاب عن الحواس فلم تشهدها أنت وقومك {نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} عند الأنبياء الذين أرادوا کفالة مريم {إِذْ} في الوقت الذي {يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ} في الماء للاقتراع {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ

ص: 153

لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} يتنافسون في أمر کفالتها.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ}.

کانت مريم (عليهاالسلام) محدَّثة، والمحدَّث هو من لم يكن نبيا لکنه يسمع کلام الملائکة ويحدِّثهم، وهذه ميزة خصّها الله ببعض أوليائه المصطفين (عليهم السلام) ، ويظهر من بعض الأخبار أن التحديث لايکون في مسائل الحلال والحرام فإن ذلك خاص بوحي الأنبياء (عليهم السلام) ، وإنّما المحدَّث تحدثه الملائکة بقضايا وأمور أخری کالوقائع وما کان أو يکون أو هو کائن، فقول الملائکة لمريم (عليهاالسلام) : {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} لم يكن وحي تشريع، فإن مريم کانت تعلم بذلك وکانت منشغلة بالعبادة قبل هذا التحديث، وإنّما الغرض هو إرشادها إلی شکر نعمة الاصطفاء والتطهير بالخصوص، وليس ذلك بيان تشريع بل هو إرشاد لحکم عقلي.

وکما حدثت الملائکة مريم (عليهاالسلام) فإنها حدثت فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) بعد رحيل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولم يكن في ذلك التحديث شيء من الحلال أو الحرام، وإنما الوقائع والقضايا وما يجري في العالم إلی انقضاء الدهر، وکان أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب کل ذلك فاجتمع في کتاب إسمه «مصحف فاطمة» توارثه الأئمة (عليهم السلام) ، وهو الآن عند الإمام المهدي، وتفصيل بحث التحديث ذکرناه في شرح أصول الکافي فراجع.

معنی اصطفاء مريم (عليهاالسلام)

الثاني: قوله تعالی: {يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ}.

لعل قولهم هذا کمقدمة لقولهم الثاني في القنوت والسجود والرکوع،

ص: 154

بمعنی أنهم أرادوا إرشادها إلی شکر هذه النعمة الکبری فبيّنوا النعمة أولاً ثم ارشدوها إلی الشکر، أو هو مقدمة لبشارتهم إياها بولادة المسيح (عليه السلام) وما يؤول إليه أمره کي لاتنصدم، فکانت المراحل ثلاث، في البداية إخبارها بالاصطفاء والتطهير، ثم تبشيرها بالمسيح (عليه السلام) ، ثم تنفيذ البشارة بواسطة جبرئيل (عليه السلام) لمّا تمثل لها بشراً سوياً، أو إن الله تعالی يكرم أوليائه بکرامات ويخبرهم بها ليعلموا منزلتهم لديه ليزدادوا سروراً وعبودية، أو لغير ذلك.

وقوله: {اصْطَفَىٰكِ} و{وَاصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ} ليس تکراراً للتأکيد أو لزيادة علی نساء العالمين في المرة الثانية، بل الاصطفاء الأول هو اختيارها لذاتها بمعنی خلقها خالصة من کل شوب ونقص فتقبّل الله مريم (عليهاالسلام) بقبول حسن وانبتها نباتاً حسناً، والاصطفاء الثاني اختيارها لأمرٍ خاص بها لايشارکها أحد من النساء وهو الولادة بطريقة إعجازية من غير فحل، ولذا ذکر قبله {وَطَهَّرَكِ} والمراد به التطهير من رجس السفاح وسائر الأرجاس المعنوية.

فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «معنی الآية: اصطفاك من ذرية الأنبياء، وطهرك من السفاح، واصطفاك لولادة عيسی من غير فحل»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «اصطفاها مرتين: أما الأولی فاصطفاها أي اختارها، وأما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك علی نساء العالمين»(2).

ص: 155


1- بحار الأنوار 14: 193.
2- بحار الأنوار 14: 200، عن تفسير القمي.

ثم اعلم أن (الاصطفاء) غير (السيادة)، فمريم (عليهاالسلام) اصطفيت أي اختيرت من بين کل النساء للولادة من غير فحل بطهارة وإعجاز وهذه الخصيصة عامة علی نساء کل العالمين سواء في عالمها أو العوالم التي سبقتها أو لحقتها، وأما السيادة فلم تذکر في هذه الآية ولا في آيات أخری، وإنما ذکرت الروايات أنها (عليهاالسلام) سادت نساء عالمها أي النساء المعاصرين لها، وأما السيادة العامة، لجميع النساء من الأولين والآخرين فهي لفاطمة الزهرا (عليهاالسلام) کما في صحاح روايات الخاصة والعامة، وليس الاصطفاء بمعنی التفضيل بل هو بمعنی الاختيار، وهذا الاختيار قد يلازم التفضيل وقد يلازم الخصيصة من الخصائص، کما مرّ تفصيله في الآية 32، وأما بعض المفسرين فقالوا إن الاصطفاء بمعنی التفضيل فلذا حملوا قوله: {عَلَى الْعَٰلَمِينَ} علی معنی عالمي زمانها، نظير قوله تعالی في بني إسرائيل: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}، حيث إن المراد العالمين في زمانهم لا کل العالمين من الأولين والآخرين إذ إنه لاشك بأن الأمة الإسلامية أفضل جميع الأمم کما قال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.

وقوله: {وَطَهَّرَكِ} بمعنی الطهارة من الأرجاس المعنوية، والمقصود هنا هو طهارتها عن السفاح لأنها ولدت من غير زوج، وأما الطمث فيظهر من جملة من الروايات - تصريحاً أو تلويحاً - بأنه کان يصيبها(1).

الثالث: قوله تعالی: {يَٰمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ...} الآية.

هذا کالتفريع علی البشارة، أي وحيث علمتِ بهذه البشارة فازدادي

ص: 156


1- بحار الأنوار 14: 193.

عبادة لربك وخضوعاً، وقد أرشدوها إلی أمور ثلاثة:

1- القنوت، وهو لزوم الطاعة مع الخضوع(1)

وقد سُمّي کل استقامة في طريق الدين قنوتاً(2)، وذلك لأن اصطفاءها لولادة المسيح من غير أب کان من أصعب الأمور عليها حتی أنّها تمنت الموت لما ولدته قال: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}(3)،

فلذا کان لابد من توصيتها للخضوع لله تعالی والاستقامة في طريق الدين وترجيح إرادته تعالی علی الرغبات.

2- السجود، ولعلّ تقديمه علی الرکوع لأجل أن المراد منه سجدة الشکر لله تعالی علی هذه النِعم الجسام.

3- والرکوع مع الراکعين، ولعل المراد الصلاة کما يصلي المصلّون، فإنه لم يشرّع الرکوع لوحده وإنما شرّع ضمن الصلاة، عکس السجود فکما هو جزء من الصلاة کذلك شُرّع لوحده في سجدة الشکر ونحوها.

وقيل: مع الراکعين بمعنی إقامة صلاة الجماعة معهم، لکنه يتنافی مع اتخاذها حجاباً وانفرادها في غرفتها عنهم.

وقيل: لمّا لم يكن لليهود رکوع فکانت صلواتهم من غير رکوع لذا أمرت بالصلاة التي فيها رکوع مع الجماعة الراکعة أي في زمرتهم ومجموعتهم.

وقيل: هذه الثلاثة - القنوت والسجود والرکوع - أريد بها إقامة الصلاة

ص: 157


1- مفردات الراغب: 684.
2- مقاييس اللغة: 834.
3- سورة مريم، الآية: 23.

ولکن مع ذکر أهم أرکانها، فيکون القنوت بمعنی الکيفية المخصوصة في رفع اليدين عند الدعاء.

الرابع: قوله تعالی: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَاءِ الْغَيْبِ...} الآية.

هذا في ختام قصة مريم (عليهاالسلام) حيث إن الآية التالية شروع في قصة المسيح (عليه السلام) ، فبيّن سبحانه أن هذا المذکور في الآيات إنما هو من الأخبار الغيبية التي لم يكن يعلمها الناس، فإن المذکور في الأناجيل محرّف، کما أنّها لاتحتوي علی جملة من التفاصيل المذکورة في هذه الآيات، نظير ما ذکره تعالی في آخر سورة يوسف: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}(1).

ولعل المقصود هو ردّ مزاعم المشركين وأضرابهم قال تعالی: {وَقَالُواْ أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(2)، وقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}(3)، ولذا عقّبها بالصبر في قوله تعالی: {تِلْكَ مِنْ أَنۢبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَٰقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}(4).

وإنّما کانت من أنباء الغيب لأن المعاصرين الذين شاهدوا القضية کانوا قد ماتوا منذ أمد بعيد، ولم يكن تاريخ مدون صحيح يورث الاطمئنان،

ص: 158


1- سورة يوسف، الآية: 102.
2- سورة الفرقان، الآية: 5.
3- سورة النحل، الآية: 103.
4- سورة هود، الآية: 49.

والانجيل الذي في الأيدي محرّف بأشد تحريف بحيث لايمکن اعتباره وثيقة تاريخية، فطريق العلم بتلك الوقائع منحصر بالوحي ولا طريق آخر.

بل قد يقال: إن النبي الوحيد الذي يمکن إثباته تاريخيا وبخصوصياته وعبر الوثائق التاريخية هو رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لکثرة الوثائق التاريخية من کتب وآثار ووقائع مؤکدة، وأما سائر الأنبياء فلا طريق لعلم التاريخ إلی إثباتهم فضلاً عن إثبات تفاصيلهم، لموت المعاصرين الشاهدين لهم، وعدم وجود آثار حجرية أو کتابية، لأن الأنبياء لم يکونوا بُناة قصور ولا أصحاب زخارف دنيوية، ولا کان الحکّام يؤيدونهم حتی ينقشوا لهم آثاراً، بل کانوا من المستضعفين - عادة - ، وأما التوراة والانجيل الموجودان حالياً فکتب محرّفة مليئة بالأساطير وقضايا غير واقعية فهي غير معتمد عليها في علم التاريخ، فانحصر الطريق في الوحي، وهو الموجود في القرآن الکريم وما بيّنه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ، فلابد من العلم بنبوة رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وصدق القرآن الکريم، وهذا ما يحصل لکل عاقل جرّد نفسه عن الأهواء وموروث الآباء الکفرة، فلا شک في إعجاز القرآن وإعجاز طريقة بيانه للقصص للإعتبار بها، فمن قرأ قصص القران ببصيرة وجد أنها الحق الذي لاباطل فيه، بل نفس کيفية بيان القصة والمفردات المذکورة فيها وطريقيتها للهداية، وعدم وجود حشو فيها، وعدم تعرض للزوايا والجوانب التي لاتصبّ في غرض الهداية أو غرض السورة، کل ذلك دليل علی کونها وحياً من الله سبحانه وتعالی.

وقوله في ختام القصة: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ...} إنما هو

ص: 159

رجوع إلی بدايات القصة حيث قال: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}، وهنا بيان لکيفية ذلك التکفيل حيث کان بالاقتراع، إذ اختصموا في کفالتها وکانوا ستة، وقيل: تسعة وعشرين، والأول مرويّ(1)، فاقترعوا بإلقاء أقلامهم، ويظهر من بعض الأخبار أن الذين اختصموا فيها کانوا أنبياء(2)، ومن ذلك يتبيّن أن اختصامهم إنما هو بمعنی التنافس في نيل هذه المکرمة، قال تعالی: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(3)، وقال: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ}(4).

وقوله: {أَقْلَٰمَهُمْ} قيل: هو القِدْح أي العود الذي يساهم به ويجعل للاقتراع، وقيل: هي أقلامهم التي کانوا يكتبون بها التوراة وکانت حديدية ألقوها في الماء فرسبت إلاّ قلم زکريا فطفا بالإعجاز، لکن هذا قول بعض المفسرين ولم يسند إلی کلام معصوم، فالمقدار المعلوم هو اقتراعهم عبر الأقلام، أما هذه التفاصيل فلم ترد في دليل معتبر، والله العالم.

ص: 160


1- بحار الأنوار 14: 198، عن الخصال.
2- تفسير العياشي 1: 170.
3- سورة المطففين، الآية: 26.
4- سورة البقرة، الآية: 148.

الآيات 45-47

اشارة

{إِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّٰلِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (47)}

45-46- بعد بشارتها بالاصطفاء والتطهير {إِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} يخبرك بخبر حسن {بِكَلِمَةٖ مِّنْهُ} من الله، والکلمة الشيء المُلقی، وسمّي عيسی کلمة لأن الله خلقه من غير واسطة {اسْمُهُ} أي يعرف بهذه الأمور: فلقبه {الْمَسِيحُ} بمعنی المبارك، واسمه: {عِيسَى}، ووصفه: {ابْنُ مَرْيَمَ}، وفيه إشعار بأنه يولد من غير أب وإلاّ نُسِب إلی الأب، ولهذا المولود مجموعة من الصفات:

(1) حالکونه {وَجِيهًا} ذا جاه ومنزلة ومقبولية {فِي الدُّنْيَا} برفع الاسم، عکس سائر من يولدون من غير أب حيث لااعتبار لهم في المجتمع، {وَالْأخِرَةِ} بقبول شفاعته.

(2) {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} إلی الله تعالی.

(3) {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} حالکونه رضيعاً {فِي الْمَهْدِ} وهو ما يُعدّ للطفل

ص: 161

ويهزّ فيه، {وَكَهْلًا} وهو ما بين الشباب والشيخوخة، وکلامه بالنبوة في کلتا الحالتين بالإعجاز.

(4) {وَمِنَ الصَّٰلِحِينَ} الأنبياء العظام.

47- {قَالَتْ} سائلة للاستيضاح وزيادة الاستبصار موجهة السؤال إلی الله تعالی: {رَبِّ أَنَّىٰ} کيف {يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ} الله بالوحي إليها مباشرة أو بواسطة الملائکة {كَذَٰلِكِ} هکذا، والکاف للخطاب، {اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا} حکم تکويناً بوجود الشيء {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} أي فيوجده، فهو سبحانه يتحکّم في الوجود کما شاء بحکمته، سواء شاء الشيء بالواسطة أم بغير واسطة.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ...} الآية.

(اذ) بدون حرف عطف، ولعله بدل أو عطف بيان عن {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ}، فيدل علی أن القولين کانا بغرض واحد، فالثاني تفصيل للأول، فالأول طهارة واصطفاء للولادة من غير فحل، والثاني تفصيله له، فالاصطفاء لولادة هذا المسمی بالمسيح عيسی، ولا أب له لذا نسب إلی أ ُمّه، ونتيجة طهارة مريم هو وجاهة ولدها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ومن الأنبياء الصالحين إلی سائر الأوصاف.

وحيث إن البشارة الأولی بقوله: {وَاصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ} کانت مجملة لذا لم تسأل عن کيفية ذلك، لکن لما کانت البشارة الثانية مفصّلة وتُشعر بولادته من غير أب لذا سألت فقالت: {أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ...} الآية.

ص: 162

والظاهر أن هذه البشارة هي قبل تمثل جبرئيل بشراً سويّاً، إذ أن الملائکة اخبروها بالاصطفاء أولاً، ثم اخبروها بولادة المسيح مع ما يمتلك من صفات، ثم بعد ذلك تمثّل جبرئيل لها فولدت عيسی، فکانت مراحل ثلاث، ولعله لتتهيّأ نفسياً، وأيضاً لتعبد الله زيادةً في القابلية لحمل هذا الوليد العظيم، أما احتمال أن المراد بالملائکة في هذه الآية خصوص جبرئيل وأن هذه البشارة کانت حين تمثله لها بشراً سويّاً ليهب لها عيسی (عليه السلام) ! فخلاف الظاهر.

الثاني: قوله تعالی: {بِكَلِمَةٖ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}.

جذر مادة (ك ل م) بمعنی التأثير، فلذا يسمی الجرح کَلْماً لأنه يؤثر في الجسم بما يری بالعين، وتُسمی الألفاظ کلاماً لتأثيرها في السمع، ولذا يقال للشيء المُلقی کلمه سواء کان بلفظ أم بوجود عيني.

ولعلّ إطلاق الکلمة علی عيسی (عليه السلام) لأجل أنّ الله تعالی خلقه (عليه السلام) بقوله: {كُن}، فأطلق السبب علی المسبّب، وهذه الطريقة في الخلق وإن کانت عامة لکل المخلوقات لکن الغالب کونها عبر الأسباب، وأما عيسی فکان بغير الأسباب العادية لذا سُمّي بالسبب الحقيقي الذي هو کلامه تعالی، وقد استعملت الکلمة في القرآن بمعنی قضائه تعالی کما قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ}(1)، وقال: {كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(2)، حيث إن هذا القضاء کان بالألفاظ بالوعد والوعيد أولاً ثم بتنفيذه خارجاً وعيناً.

ص: 163


1- سورة الأعراف، الآية: 137.
2- سورة يونس، الآية: 33.

تعريب الکلمات الأعجمية

وقوله: {اسْمُهُ} يراد به: ما يطلق ويدل عليه، سواء کان اسماً اصطلاحاً أو لقباً أو وصفاً خاصاً، لأن الإسم ما يدل علی المسمی، وهو المعنی المقصود الذي جعل ذلك الإسم علامةً له، وهذه الألفاظ الثلاثة تدل علی السيد المسيح (عليه السلام) وهي:

1- {الْمَسِيحُ} وهو لقبه، وأصل الکلمة أعجمية، وقيل: هي بمعنی المبارك، کما قال تعالی: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ الْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}(1).

ثم إعلم أن الکلمات الأعجمية - من أية لغة کانت - إذ عُرّبت يکون تعريبها عادة بما يسهل نطقه علی العرب، وکثيراً ما تُعرّب علی الأوزان المتعارفة عندهم، وهذا يقتضي تغيير بعض الحروف ببعض، مع تقديم أو تأخير، وحذف أو زيادة.

وهذا لاينافي ملاحظة المعنی واختيار حروف ووزن يدل علی معنی في اللغة العربية مع قصد ذلك المعنی أيضاً في التعريب، مثلاً (يوحنّا) تمَّ تعريبه إلی (يحيی) وهو علی وزن الفعل المضارع ولا مانع في أن يکون قد لوحظ حين التعريب معنی الکلمة في اللغة العربية وهي التفأل بحياته، وهکذا (المسيح) معرب (مشيحا) - علی ما قيل - وهو بمعنی المبارك في لغتهم، ولامانع أن يکون المُعرِّب لاحظ معاجز عيسی بإبرائه الأکمه والأبرص بمسح يده عليهما، أو لاحظ سياحته في الأرض، فعرّب الکلمة بوزن عربي وهو فعيل وبکيفية تدل علی المسح والسياحة، ونحو ذلك.

ص: 164


1- سورة مريم، الآية: 30-31.

والحاصل: إنه لامانع في التعريب من حفظ روح الکلمة الأعجمية مع تغييرها لتتطابق جذراً من جذور الکلمات العربية - ولو علی الاشتقاق الکبير - ووزناً من الأوزان العربية مع دلالة علی معنی وقصد ذلك المعنی في الکلمة المعرّبة.

وبهذا البيان يتضح ما ورد في کثير من الروايات في سبب التسمية بأسماء أعجمية معرّبة، فآدم (عليه السلام) سمّي به لأنه خُلق من أديم الأرض، وحوّاء سميت به لأنها خلقت من حيّ، وادريس (عليه السلام) لکثرة دراسته، ونوح (عليه السلام) لنوحه علی نفسه، وابراهيم (عليه السلام) لأنّه هَمّ فبَرّ، أي قصد ونفّذ ما قصده، ويعقوب (عليه السلام) لأنه خرج بعقب أخيه، أي بعد أخيه التوأم له، وهکذا مما تجده في علل الشرائع للشيخ الصدوق رضوان الله تعالی عليه(1) وغيره من الکتب.

2- {عِيسَى}، وهو اسمه، وهو معرَّب (يسوع) أو (أيشوع)، وقيل: هو بمعنی السيد في لغتهم.

3- {ابْنُ مَرْيَمَ}، وهو وصفه ونسبه، ولعلّ ذکر هذا الوصف في الخطاب مع مريم (عليهاالسلام) هو إخبارها بأنه يولد من غير أب، فإن الولد ينسب إلی أبيه ولاينسب إلی أمه إلاّ لجهة من الجهات، ولذا فهمت مريم ذلك، فاستفسرت عن کيفية ولادته.

کما أن فيه دحضاً لکلام النصاری حيث زعموا أنه ابن الله سبحانه، بل هو ابن مريم (عليهاالسلام) ، خلقه الله بمشيئته.

الثالث: قوله تعالی: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.

ص: 165


1- علل الشرائع: 14-16، 27-28، 34، 43.

وجاهة عيسی (عليه السلام)

شروع في بيان أوصاف عيسی (عليه السلام) ، ذکرت الملائکة ذلك لمريم (عليهاالسلام) تسكينا لخاطرها، وبيان منزلتها ومنزلة ولدها، والصفات المذکورة في هذه الآية وما بعدها تجمع أهم صفات ومراحل حياة عيسی (عليه السلام) :

1- وجاهته عند الناس في الدنيا والآخرة، 2- وقربه إلی الله تعالی، 3- ومعجزته في الکلام سواء في المهد أو في کبره، 4- وکونه من أعاظم الأنبياء الصالحين، 5- وعلمه بالکتاب والحکمة والتوراة والانجيل، 6- ورسالته، 7- ومعاجزه، 8- وشريعته، فهذه أمور ثمانية تتعلق بعيسی (عليه السلام) .

والأربعة الأولی ذُکرت لمريم (عليهاالسلام) في البشارة، والأربعة الأخری لم تذکر في البشارة علی الظاهر - کما سيأتي - ولکنها أوصاف ذکرها الله تعالی لعيسی (عليه السلام) بعد انتهاء قصة مريم وشروع في بيان تفاصيل حياة عيسی (عليه السلام) ، ولعلّها تفصيل الأربعة الأولی.

فقوله: {وَجِيهًا} يراد عدم تضرّره بالولادة من غير أب عند الناس، فهو وجيه عندهم في الدنيا والآخرة، عکس سائر من يولدون من غير أب، فإن ذلك عار ومنقصة عليهم، ولا وجاهة ومقبولية لديهم عند المجتمع.

أما في الدنيا: فما نلاحظه الآن من احترام وقدسية لعيسی عند عامة البشر، فالنصاری والمسلمون يجلّونه ويحترمونه، وسائر الناس أيضاً ينظرون إليه باحترام وإعجاب حتی الذين لايعتقدون بنبوته، وحتی اليهود الذين قالوا في مريم بهتاناً عظيماً لاينطقون بشيء ضده (عليه السلام) خوفاً.

وأما في الآخرة: فالظاهر أن المراد الوجاهة عند الناس فيها، وذلك بمقام الشفاعة والمنزلة الرفيعة التي يراها الناس لعيسی (عليه السلام) .

ص: 166

وقوله: {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي هو من المقربين لدی الله تعالی، بالقرب المعنوي والعنايات والمواهب الخاصة التي يمنحها الله إياه، وهذا منزلته عند الله تعالی، کما أن الوجاهة منزلته عند الناس.

ويحتمل أن تکون الوجاهة في الدنيا والآخرة عند الله تعالی، فوجاهته عند الله في الدنيا بمعنی استجابة دعائه وإذن الله تعالی له بإبراء الأکمه والأبرص وإحياء الموتی وسائر معاجزه، ووجاهته في الآخرة عند الله بقبول شفاعته ورزقه مايريد من المقامات العالية والمنزلة الرفيعة، وتبرئته من غلوّ النصاری فيه، کما قال تعالی: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلی قوله: {قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ}(1).

وأما تفسير المقربين بأنه رُفِع إلی السماء! فهو أشبه بکلام المجسمة الذين يزعمون أن الله في السماء أو فوقها بالفوقية المکانية، فمن کان في المکان الأعلی کان أقرب إليه تعالی!! وقد زعم بعضهم أن من علی المنارة أقرب إلی الله من الذي علی الأرض!! تعالی الله عما يقولون علواً کبيراً، بل هو خالق المکان وليس في شيء من المکان، ونسبته إلی جميع المخلوقات نسبة واحدة هي إحاطته علماً وقدرة بهم، والقرب إليه قرب معنوي بمعنی المنزلة والکرامة والعنايات الخاصة.

الرابع: قوله تعالی: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّٰلِحِينَ}.

ص: 167


1- سورة المائدة، الآية: 116-119.

أما کلامه في المهد وهو رضيع فلاشك في کونه خارقاً للعادة، وخاصة ما تضمنه کلامه من بيان نبوته وتبرأة أمّه، قال تعالی: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ الْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَٰنِي بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}(1).

وأما کلامه وهو کهل - والکهل هو ما بين الشباب والشيب، وقيل: هو الذي بلغ أربعاً وثلاثين سنة - فأيضاً کان کلاماً خارقاً للعادة، لأنه تکلّم بالنبوة - تکويناً وتشريعاً - ، فکلامه في التکوين ما أظهره من معاجز بکلامه کإحيائه الموتی بقوله «قم بإذن الله» مثلاً، وکلامه في التشريع فالانجيل والأحکام التي بيّنها للناس، وهذا معجزة له أيضاً.

فاتضح من ذلك أن کلامه في کهولته بطريقة إعجازية أيضاً، فلاوجه للسؤال عن أن الکلام في الکهولة عام لکل بني البشر فما هو وجه ذکره في البشارة؟ کي يحتاج إلی الجواب بأن المراد أن کلامه في المهد ککلامه في حالة الکهولة فيکونان معجزة واحدة، فتأمل.

وقوله: {وَمِنَ الصَّٰلِحِينَ} لعل المراد من الأنبياء العظام البالغين الدرجة العليا للصلاح، وقد مرّ البحث فيه في الآية 39 فراجع.

الخامس: قوله تعالی: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ...} الآية.

البشارة کانت من الملائکة، لکن مريم (عليهاالسلام) وجّهت سؤالها إلی الله تعالی، لعلمها بأنهم وسائط الله تعالی في البشارة وأن التقدير والقضاء منه تعالی،

ص: 168


1- سورة مريم، الآية: 30-33.

فالملائکة لايعلمون إلاّ ما علّمهم الله تعالی، قال: {قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(1)، فهؤلاء کانوا وسائط للبشارة لاأکثر، ولعلّهم لم يکونوا يعلمون کيفية خلق عيسی (عليه السلام) .

فقولها (عليهاالسلام) : {أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ...}، إمّا للاستيضاح وطلب زيادة الاستبصار، لاللاعتراض والاستنکاف، فإنها (عليهاالسلام) أجلّ من ذلك، وإمّا دعاء بتغيير التقدير، فإن الله قد يقدّر شيئاً ثم يغير ذلك التقدير بدعاء العبد وتضرّعه، کما بدا له تعالی في عذاب قوم يونس قال تعالی: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَٰنُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَٰهُمْ إِلَىٰ حِينٖ}(2)،

ولعل من ذلك دعاء نوح (عليه السلام) في ابنه، حيث قال تعالی: {وَلَا تُخَٰطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} ثم قال: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ}(3)، فقد قدّر الله تعالی هلاك الظالمين بالغرق ووعد بنجاة أهله إلاّ من سبق القول عليه، لکن نوحاً (عليه السلام) دعا الله ليُغيّر التقدير مع إذعانه بأن وعد الله حق وأنه تعالی لم يَعِد بإنجاء الابن الکافر، لکن مع ذلك دعا نوح فقال: {وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَٰكِمِينَ}(4) لکن الله تعالی بيّن له أن هذا کان قضاءً حتماً لاتغير فيه.

ص: 169


1- سورة البقرة، الآية: 32.
2- سورة يونس، الآية: 98.
3- سورة هود، الآية: 37-40.
4- سورة هود، الآية: 45.

فلعل مريم (عليهاالسلام) لمّا بُشِّرت بعيسی (عليه السلام) من غير أب دعت الله تعالی في تغيير التقدير، لکنه تعالی بيّن لها بأن ذلك قضاء حتم لابداء فيه، فقال في سورة مريم: {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا}(1)، وهنا قال: {إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا}.

مراحل کيفية الخلق

السادس: قوله تعالی: {قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا...}.

الآية تتضمن مقطعين:

1- بيان أن الخلق إنّما هو حسب مشيئة الله تعالی، فهو الذي شاء جعل الأسباب، وهو قادر علی الخلق بلا أسباب، أو بتغيير الأسباب، والفرق أن الإنسان يألف الخلق عبر الأسباب فلذا يتعجب من الخلق من غير أسباب، أو من تغير الأسباب، لکن لافرق عند الله تعالی في الخلق بأية طريقة شاء، فإذا اقتضت الحکمة بطريقة شاء الخلق بتلك الطريقة، ولو کانت الحکمة بشکل آخر کانت المشيئة أيضاً کذلك.

2- بيان نفوذ قضائه الحتم، فإذا تعلّق قضاؤه بشيء خَلَقه بلا امتناع من ذلك الشيء، وعَبر کلمة {كُن}.

ويحتمل أن يکون المقطع الثاني بياناً للمقطع الأول، أي إن الله يخلق مايشاء، وطريقته في ذلك هو أن يقول له کن فيکون.

کما ويحتمل أن يکون کلا المقطعين إشارة إلی بعض مراحل کيفية الخلق من المشيئة ثم القضاء ثم الإيجاد ثم الوجود، فقوله: {مَا يَشَاءُ} إشارة إلی المشيئة، و{إِذَا قَضَىٰ} إلی القضاء، و{كُن} إلی الإيجاد و{يَكُونُ} إلی وجود الشيء، فعن الإمام الکاظم (عليه السلام) أنه قال: «فبعلمه

ص: 170


1- سورة مريم، الآية: 21.

کانت المشيئة، وبمشيئته کانت الإرادة، وبإرادته کان التقدير، وبتقديره کان القضاء، وبقضائه کان الإمضاء، والعلم متقدم علی المشيئة، والمشيئة ثانية، والإرادة ثالثة، والتقدير واقع علی القضاء بالإمضاء، فللّه تبارک وتعالی البداء فيما علم متی شاء، وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء»(1).

وشرح هذا الحديث: بأن الأسباب التي رتّبها الله تعالی لخلق الأشياء هي ضمن مراحل - لاعلی سبيل الحصر وإنّما هذه من الأسباب - :

فأولاً: العلم الأزلی، وعلمه واختياره سبب لمشيئته تعالی، فبعلمه الأزلی علم أن المصلحة في خلق الأشياء في أوقاتها، وباختياره تعالی خلق المشيئة.

وثانياً: المشيئة، وهي التسجيل في اللوح، ولعلّ المراد هو اللوح المحفوظ، وهي وجود إنشائي.

وثالثاً: الإرادة: وهي تحريك الأسباب وتهيأة المقدمات القريبة.

ورابعاً: التقدير، وهو تعيين حدود الشيء وقابليته وأوقاته ونحو ذلك.

وخامساً: القضاء، وهو الحکم التکويني والإلزام.

وسادساً: الإمضاء، وهو الإيجاد.

وحينئذٍ يتحقق الشيء لامحالة، لعدم انفکاك الإيجاد عن الوجود، وللتفصيل راجع شرحنا علی أصول الکافي(2).

وفي المناهج: جريان أمر الخلق من سير العلل والأسباب ليس بحيث

ص: 171


1- الکافي 1: 148-149.
2- شرح أصول الکافي 2: 460-469 (للمؤلف).

ينحصر تحقق المُشاء المقضيّ بواسطتها، بأن يکون قانون العِلية حاکماً علی المشيئة والقضاء! بل العلل والأسباب وجميع ما في طولها من المسببات بالنسبة إلی المشيئة والقضاء علی عرض واحد.

وإنما الحکمة اقتضت تنظيم أمور العالم عبرها، ولاتنحصر الحکمة بأسلوب واحد، إذ العلم والقدرة مطلقين بالنسبة إليها وغيرها، وتوهم أن نظام الأسباب والعلل هو بعينه نظام علمه ومعلول لعلمه!! يوجب کون العلم والقدرة محدودين بما يحصل من مسير الأسباب والعلل، وهذا واضح البطلان، ويخالف العقل والنقل، حيث بيّن الله تعالی بأنه يخلق ما يشاء بالمشيئة والقضاء کائناً ما کان(1).

ص: 172


1- مناهج البيان 3: 244-245 (بتصرف واختصار).

الآيات 48-51

اشارة

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَۢا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51)}

48-50- وأما سائر صفات عيسی (عليه السلام) فهي:

(5) {وَيُعَلِّمُهُ} يعلّم اللهُ عيسی {الْكِتَٰبَ} جنسه أي کل الکتب السماوية السابقة، {وَالْحِكْمَةَ} وضع الأشياء في موضعها ومنها الشريعة، {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} خصّ الکتابين بالذکر مع دخولها في «الکتاب» لأنه (عليه السلام) کان يأمر الناس بالعمل بهما.

(6) {وَ} يجعله {رَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ}.

(7) قائلاً لهم ب {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٖ} تکوينية وتشريعية، أي علامة ومعجزة تدل علی رسالتي وصدقي {مِّن رَّبِّكُمْ} فليست الآية من نفسي.

أمّا التکوينية: {أَنِّي أَخْلُقُ} أصنع {لَكُم} لأجلکم {مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ

ص: 173

الطَّيْرِ} مثل صورة الطائر، {فَأَنفُخُ فِيهِ} في هذا المِثل، {فَيَكُونُ طَيْرَۢا} ذاحياة ولحم ودم {بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمره وإرادته تکويناً، {وَأُبْرِئُ} أعالج {الْأَكْمَهَ} الأعمی بالولادة {وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم} أخبرکم {بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ} تجعلونه ذخيرة {فِي بُيُوتِكُمْ} مما لاطريق للعلم به إلاّ الغيب {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ} المذکورات من الخلق والعلاج والإنباء {لَأيَةً لَّكُمْ} علامة علی صدقي {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} موفقين للإيمان لامعاندين.

(8) {وَ} أما الآية التشريعية: فحالکوني {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} تقدّمني {مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} بنسخ ما حُرّم، لأن الشريعة الجديدة تُبيّن انتهاء أمد بعض الأحکام وتغييرها بغيرها {وَجِئْتُكُم بِآيَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ} لعلّها الانجيل، {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه فصدقوني ولا تغلو فيّ {وَأَطِيعُونِ} في دعوتی.

51- وکل تلك الآيات کانت من الله ف {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} فلستُ رباً أعبد من دونه، و{هَٰذَا} الذي قلتُه من عبادته تعالی {صِرَٰطٌ} طريق {مُّسْتَقِيمٌ} لاانحراف فيه.

بحوث

الأول: هذه الآيات المبارکات ذکرت صفات أخری لعيسی (عليه السلام) ، يحتمل أن تکون ضمن بشارة الملائکة لمريم (عليهاالسلام) وقد حصل فيها إلتفات حيث قال: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم...}.

ص: 174

کما يحتمل أن يکون الأوليين - أي {وَيُعَلِّمُهُ} {وَرَسُولًا} - من تتمة البشارة، ثم يستأنف الکلام بقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم}.

ويحتمل أن لاتکون هذه الأربعة ضمن البشارة وإنما هي تفصيل لما ذکر في البشارة، بأن يکون قوله: {وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} تفسيراً لقوله: {وَجِيهًا}، وکذا قوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ...} وقوله: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ...} تفسير لقوله: {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} حيث منحه الله الآيات التکوينية والتشريعيّة.

وتفسير قوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} بأن قال في مهده وکهولته: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ...}، وتفسير قوله: {وَمِنَ الصَّٰلِحِينَ} هو کونه من الأنبياء العظام حيث {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ...} وذلك من أهم صفات الأنبياء (عليهم السلام) ، وعلی هذا فإن قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ...} عطف علی قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}.

الثاني: قوله تعالی: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ}.

العلم من أهم صفات الأنبياء وأوصيائهم (عليهم السلام) ، قال تعالی: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1)، وقال: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}(2)، وخاصة علمهم بالعقيدة والشريعة، بل حيث ثبت وجوب کون الأنبياء أفضل الناس، ومن المعلوم أن الفضيلة بالتقوی وبالعلم وبالأخلاق، لذا لزم کونهم أتقی الناس وأعلمهم وأحسنهم

ص: 175


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- سورة يونس، الآية: 35.

أخلاقاً، ولولا ذلك لزم تقديم المفضول علی الفاضل وهو قبيح، کما حُقق في علم الکلام والمعارف.

ولذا علّم الله تعالی عيسی (عليه السلام) جميع الکتب السماوية السابقة لتضمنها أصول المعارف والأحکام والأخلاق، وهذا لاينافي نسخها، لأن النسخ - کما مرّ - ليس في العقائد ولا في الأخلاق ولا في أصول الأحکام وإنّما في بعض الأحکام الفرعية، والعلم الذي أنزله الله تعالی في تلك الکتب محفوظ في الأرض بحفظها وباصطفاء حملة لها، فورثها رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأورثها الأوصياء من بعده، وهي الآن بحوزة الإمام المهدي في صندوق يقال له الجفر الأبيض - کما في الروايات(1) - .

کما علّم الله تعالی عيسی (عليه السلام) {وَالْحِكْمَةَ} وهي من الإحکام والإتقان ويلازم ذلك وضع الأشياء في مواضعها، ومنها الشريعة، ومنها معرفة کيفية الدعوة إلی الله تعالی والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، فهي علم وعمل.

وقوله: {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} ذکرهما بالخصوص مع کونهما داخلين في {الْكِتَٰبَ}، لأن سائر الکتب لم يكن عيسی (عليه السلام) مأموراً بقرائتها علی الناس ولا بأمرهم بما فيها من الأحکام، وإنما کان مأموراً بالعمل بالتوراة بما فيها من شرائع، وجاء الانجيل مکملاً للتوراة، فليس في الإنجيل من الشريعة إلاّ نسخ بعض المحرّمات، فالحدود والمواريث والقصاص کانت حسب ما في التوراة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «وأنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص ولا أحکام حدود ولافرض مواريث،

ص: 176


1- الکافي 1: 225، 239-240 وغيرها.

وأنزل عليه تخفيف ما کان نزل علی موسی (عليه السلام) في التوراة، وهو قول الله تعالی في الذي قال عيسی بن مريم لبني إسرائيل: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وأمر عيسی من معه ممّن اتّبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والانجيل»(1).

عموم شريعة عيسی (عليه السلام) لکل الناس

الثالث: قوله تعالی: {وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ}.

أي ويجعله رسولاً إلی بني إسرائيل، فرسالته (عليه السلام) کانت خاصة ببني إسرائيل، وهذا لاينافي عموم شريعته لکل الناس.

بيان ذلك: إن الله تعالی اصطفی أنبياء ومنذرين في کل البشر فقال: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}(2)، ولم يكن لأکثر هؤلاء الأنبياء شريعة خاصة، وإنما کانوا تابعين في شريعتهم لأولي العزم من الرسل، وأولوالعزم خمسة: نوح وإبراهيم وموسی وعيسی (عليهم السلام) ومحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فکانوا أصحاب شرائع، وکل نبي جاء بعدهم دعا إلی شريعتهم وبلّغها إلی قومه إلی حين نسخها أو تکميلها بالشريعة اللاحقة.

وعيسی (عليه السلام) کان رسولاً إلی خصوص بني إسرائيل - کما هو ظاهر هذه الآية - بمعنی أنه لم يكن مکلّفاً بالتبليغ لسائر الناس، لکن مع ذلك کانت شريعته ومنهاجه عامةً لکل البشر، بمعنی أن کل نبي جاء بعد عيسی (عليه السلام) دعا إلی منهاجه وبلّغ شريعته فإنه لم يکن بعد عيسی (عليه السلام) رسول، ولکن کان بعده أنبياء غير رسل، إلی حين بُعِث رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث

ص: 177


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 405، عن تفسير العياشي.
2- سورة فاطر، الآية: 24.

نُسِخت شريعة عيسی (عليه السلام) .

وبهذا البيان يتم الجمع بين ظاهر هذه الآية والروايات الدالة علی رسالته إلی خصوص بني إسرائيل وبين الروايات الدالة علی عموم شريعته لشرق الأرض وغربها.

فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إن الله عز وجل أرسل عيسی بن مريم إلی بني إسرائيل خاصة فکانت نبوته ببيت المقدس»(1).

وسُئل الإمام زين العابدين عن أولي العزم من هم؟ قال: «نوح وإبراهيم وموسی وعيسی ومحمد صلی الله عليهم»، قلنا له: ما معنی أولو العزم؟ قال: «بعثوا إلی شرق الأرض وغربها جِنّها وإنسها»(2)،

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «وکلّ نبي کان في أيام عيسی وبعده کان علی منهاج عيسی وشريعته وتابعاً لکتابه إلی زمن نبينا محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) »(3).

وأما ما قيل: من أن نبوته کانت عامة ورسالته خاصة! فلايظهر ذلك من القران أو الروايات.

وکذا ما قيل: من أن الجار في {إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} ليس متعلقاً ب {رَسُولًا} بل متعلق بمقدر هو وصف، أي رسولاً کائناً إلی بني إسرائيل، والوصف لامفهوم له!

الرابع: قوله تعالی: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ...} الآية.

أي حالکونه قائلاً بأني قدجئتکم بآية، ثم إعلم أن آيته علی نوعين:

ص: 178


1- بحار الأنوار 11: 52، عن إکمال الدين.
2- بحار الأنوار 11: 33، عن کامل الزيارات.
3- بحار الأنوار 11: 35، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) .

آيات عيسی (عليه السلام) التکوينية والتشريعية

الأولی: الآية التکوينية، وهي معاجزه في الخلق والعلاج والإخبار بالغيب.

الثانية: الآية التشريعية، وهي ما سيأتي في الآية اللاحقة من تصديقه بالتوراة ونسخه لبعض أحکامها وبنزول الإنجيل عليه.

فأما الآيات التکوينية فهي:

1- الخلق، وذلك بأن کان يصنع تمثالاً من الطين علی شکل طير ثم يُحييه بإذن الله تعالی.

2- العلاج بلمسة يد، بإبراء الأعمی بالولادة، والأبرص الذي به وَضَح، وإحياء الموتی، وهذه أمور يعجز عنها الأطباء حتی مع تطور العلم الحديث... .

فالأعمی بالولادة يستحيل إعادة البصر إليه، وذلك لأن خلايا الدماغ المرتبطة بالإبصار تتکامل خلال السنة الأولی من الولادة بسبب استعمال النظر والرؤية حتی تأخذ حالتها النهائية ومن لم ير خلال هذه السنة لاتتکامل فيه تلك الخلايا بل تأخذ شکلها النهائي من غير قابلية للتغيير أبداً - وهذا حسب ما ذکره بعض أهل الاختصاص في المجال الطبي - .

وکذا البرص لم يتمکن الطب قديماً وحديثاً من علاجه، ولو فرض وصول الطب مستقبلاً إلی علاجهما فيبقی وجه الإعجاز في العلاج بلمسة يد من غير دواء ولا أدوات.

وأما إحياء الموتی بلمسة يد فهذا وإن لم يكن من العلاج بالمعنی المصطلح لکنه قريب منه، فالمنع عن الموت أو إرجاع حياة من هو مشارف علی الموت من مهام الأطباء، أما الذي مات بالفعل فلايقدرون علی إحيائه ابداً.

ص: 179

وحيث إن هذه الثلاثة من نمط واحد لذا لم يكرر قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} في کل واحدة منها بل جمعها جميعاً ثم عقبها بقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ}.

3- الإخبار بالمغيبات التي هي شهود لبعض الناس لکنها غيب علی الآخرين، فمن يأکل شيئاً أو يدخر شيئاً فذلك شهود بالنسبة إليه لکنه غيب بالنسبة إلی غيره، وذلك أوضح لهم في جهة الإعجاز لعدم تمکنهم من إنکاره، ولو فرض أنهم أنکروه باللسان لکنهم يعلمون بصدقه فتتم الحجة عليهم.

سبب تنوع معاجز عيسی (عليه السلام)

ثم إن سبب هذه الأنواع من المعاجز:

أ - أما الخلق کهيأة الطير والنفخ فيه وحياته بإذن الله تعالی، فلعلّه لکثرة التماثيل في مناطقهم، ولعلّها کانت باقية من زمن سليمان (عليه السلام) حيث کانت الجن تصنعها له قال تعالی: {يَعْمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ}(1)، ولرواج صنعة التماثيل عند الرومان الحاکمين آنذاك علی فلسطين، فکانت شيئاً مألوفاً لديهم ويعلمون بعدم إمکان إحيائها، ولعل اختيار خصوص الطير لتمکُّن الجميع من رؤيته حينما يُحيی ويطير عکس سائر الدواب.

ويمکن أن يکون هذا من ضمن نوع العلاج، فبدأ بإحياء الطين الجماد وانتهی بإحياء ميت الناس، فتأمل.

ب - أما العلاج، فعن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال: «وإن الله لمّا بعث عيسی (عليه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلی الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيی لهم الموتی وأبرأ

ص: 180


1- سورة سبأ، الآية: 13.

الأکمه والأبرص بإذن الله وأثبت الحجة عليهم»(1).

ج - وأما إخبارهم بما يأکلون وما يدّخرون، فلأنهم لمّا أنکروا خلق الطير وعلاج المرضی، وزعموا أنها سحر فأراهم آية أخری هي الإخبار بالمغيبات، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «قالوا: ما نری الذي تصنع إلاّ سحراً، فأرنا آية نعلم أنك صادق!! قال: أرأيتم إن أخبرتکم بما تأکلون وما تدخرون... تعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم، فکان يقول للرجل: أکلت کذا وکذا، وشربت کذا وکذا، ورفعت کذا وکذا، منهم من يقبل منه فيؤمن، ومنهم من ينکر فيكفر»(2).

فتبيّن أن أصل المعجزة هي الإحياء والعلاج، وأما الأخبار بالمغيبات فهي استجابة لاقتراحهم إتماماً للحجة، فلذا آمن بها البعض، مضافاً إلی أن خلق الطير وإحياء الموتی وإبراء الأکمه والأبرص حالات خاصة وفي أوقات خاصة قد لم يكن شاهدها بعض الناس ولا وجه لتکرار المعجزة لکل أحد وفي کل وقت، أما الإخبار فهي حالة عامة بمعنی أن کل إنسان إذا شاء الإطلاع علی المعجزة أمکنه ذلك وفي کل وقت، والله العالم.

كلام حول المعاجز

ثم إن الکلام حول المعاجز يتضمن مطالب:

أولاً: الغرض الأساسي من المعاجز هو إثبات صدق مدعي النبوة، وليس الغرض منها تغيير السنن الکونية، بل المعاجز هي ضمن تلك السنن التي

ص: 181


1- الکافي 1: 24.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 403، عن تفسير القمي.

جعلها الله تعالی، وقد مرّ الکلام في ذلك في سورة البقرة الآية 23.

وثانياً: إن الأمور الخارقة للعادة کما تصدر علی يدی الأنبياء (عليهم السلام) کذلك تصدر علی يد أوصيائهم وبعض الأولياء الصالحين، کالرزق الذي کان عند مريم (عليهاالسلام) ، لکن اصطلح العلماء بالمعجزة علی الخارق للعادة مع إدّعاء النبوة أو الإمامة، وبالکرامة علی الخارق الذي لم يكن مع إدعائهما، لکنه اصطلاح، والجامع هو إکرام الله أولياءه بإجراء خوارق العادة علی أيديهم.

وثالثاً: المعاجز علی أقسام:

فمنها: ما هي فعل الله تعالی مباشرة من غير مدخلية للنبي فيها، کالقرآن الکريم حيث إن دور الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هو تلقيه وتبليغه للناس وبيانه، والله تعالی هو الذي خلق القرآن بقدرته ولم يوسط في خلقه أحداً.

ومنها: ما هي فعل النبي بقدرة أعطاها الله إياه، فإن کل الناس يقومون بأعمالهم بقدرة منحها الله لهم، لکنها قدرة محدودة بحدود خاصة مع إمکان توسعة تلك القدرة قليلاً بالاستعانة بالآلات والوسائل، وقد يمنح الله تعالی أنبيائه قدرة أکثر ممّا منحه لسائر الناس فيتمکنون من فعل مايعجز الناس عنه ولايتمکنون من الوصول إليه لا بلا آلة ولا بآلة، ولو فرض تمکنهم منه بآلة فإنهم لايتمکنون منه بغير آلة.

ومنها: ما هو فعل الله باستجابة دعائهم.

ومن ذلك يتضح أنه لاوجه لتأويل کلمة {أَخْلُقُ} في هذه الآية، بأنه دعاء عيسی (عليه السلام) واستجابة الله له، بل لامحذور عقلي أو نقلي في أن يعطي الله عيسی (عليه السلام) القدرة علی الخلق بمعنی إيجاد المعدوم فهو تعالی علی کل شيء

ص: 182

قدير، ولامحذور في أن يکون خالق الطير هو عيسی (عليه السلام) لکن مع التنبيه علی أن ذلک بإذن الله تعالی أي ليس استقلالاً وإنّما بمشيئته وإرادته تعالی.

بل کل أفعال العباد - صغيرها وکبيرها - هي بقدرة منحها الله إياهم کما نقول: «بحول الله وقوته أقوم وأقعد»، فتکرار {بِإِذْنِ اللَّهِ} في معاجز الأنبياء هو درء للغلو، حتی لايتصور استقلالهم في ذلك وألوهيتهم کما زعمت النصاری في عيسی (عليه السلام) ، والغلاة في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) .

ولذا لامحذور عقلي في ادّعاء أن الله أقدر رسوله محمداً وأهل بيته (عليه وعليهم الصلاة والسلام) علی الخلق، فهم يخلقون بإذنه تعالی، إنما الکلام في إثبات ذلك، وقد يستدل لذلك ببعض المرويات لکنها - مع عدم صراحتها - معارضة بغيرها، مضافاً إلی عدم کفايتها لإثبات هکذا أمر مهم، والله العالم.

الخامس: قوله تعالی: {بِإِذْنِ اللَّهِ}.

الإذن قد يکون تکوينياً، وهو بمعنی إعطاء القدرة وجعل الأسباب للوصول إلی النتائج، وقد يکون تشريعياً وهو بمعنی جواز ذلك شرعاً وعدم المنع عنه، کما مر تفصيله في سورة البقرة الآية 97، والمراد في هذه الآيات کلاهما، أي إن الله إعطاه القدرة تکويناً وأجاز له استعمالها في مواردها، وقد يأذن الله تکويناً بمعنی إعطاء القدرة ولم يأذن تشريعاً بمعنی عدم تسويغه استعمال تلك القدرة، ولذا لما عصی بلعم بن باعورا فخالف التشريع وأراد استعمال الاسم الأعظم ضد نبي الله موسی (عليه السلام) سلبه الله منه، قال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا}(1)، إذ لايصح أن

ص: 183


1- سورة الأعراف، الآية: 175.

يخالف تکوينُه تشريعَه.

وحيث إن الخلق کهيأة الطير والنفخ وصيرورته طيراً کلّها آية واحدة لذا لم يكرر قوله بإذن الله، بل ذکره بعد المقطع الآخر، وأما قوله تعالی في سورة المائدة: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرَۢا بِإِذْنِي}(1)، فلعل الإذن الأول هو الإذن التشريعي وذلك لمبغوضية صنع تماثيل المجسمات فلايليق ذلك بالأنبياء، لکن حيث کان الغرض هنا إعجازاً لعيسی (عليه السلام) فأذن الله تشريعاً في صنع مجسمة الطير ثم أذن تکويناً بإحيائه، فتأمل.

کما أن إبراء الأکمه والأبرص وإحياء الموتی کلّه من سنخ واحد - کما مرّ - فلذا ذکرها معاً وألحقها بقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} مرة واحدة.

وأما ما ورد في سورة المائدة من تکراره حيث قال: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي}(2)، فلعله لأجل الفرق بين إحياء من مات من ساعته حيث يشبه العلاج، وبين من دفن ثم يخرج من قبره حيّاً حيث يختلف سنخه عن العلاج، وحيث کان المذکور هنا إحياء الموتی فجمعه مع سائر موارد العلاج بإذن واحد، وأما المذکور هناك فهو إخراج الموتی فلذا فصله.

کما يحتمل أن يکون ذلك التفصيل لاختلاف الموقف، فتارة بإذن يذکره عيسی (عليه السلام) لهم وأخری في يوم القيامة يبيّنها الله تعالی، فتأمل.

ص: 184


1- سورة المائدة، الآية: 110.
2- سورة المائدة، الآية: 110.

وأما عدم ذکر «بإذن الله» بعد قوله: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} فلعلّه لعدم الحاجة إلی تکرارها لأن إحياء الطير وعلاج هذه الأمراض أصعب عند الناس من الإخبار بالمغيبات، فإذا کان الأصعب إنّما هو بإذن الله فغيره بطريق أولی، أولعلّها کانت معجزة شائعة في أنبيائهم فلم يكن مظنة للغلوّ.

السادس: قوله تعالی: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ...} الآية.

هذه آيته (عليه السلام) التشريعية، فإن شرائع الأنبياء هي معاجز يستحيل للبشر أن يأتوا بمثلها، فهي تتطابق مع ترکيبة الإنسان الفطرية والنفسية والجسدية، ولا تخالف العقول الخالصة عن شوائب الأوهام والشبهات، فشريعة عيسی (عليه السلام) کانت علی قسمين، فالقسم الأعظم منها هي إقرار ما في التوراة، وقسم آخر منها نسخ بعض المحرمات التي وردت فيها ببيان انتهاء أمدها، ولعلّها کانت عقوبة وقد عوقبوا لمدة فرحمهم الله ببعث نبي جديد يبين لهم انتهاء تلك العقوبة، أو لغير ذلك من العلل، مضافاً إلی اشتمال الانجيل - غير المحرّف الذي نزل علی عيسی (عليه السلام) - علی مواعظ وحِکَم وسائر الأمور التي يعجز الناس عن الإتيان بمثلها.

وأما تفاصيل الأمور التي کانت محرّمة فأحلّها عيسی (عليه السلام) ، فلم أجد بياناً للمعصومين (عليهم السلام) ، نعم ورد في تفسير القمي من غير إسناد إلی معصوم بأنها: «السبت والشحوم والطير الذي حرّم علی بني إسرائيل»(1) والله العالم.

السابع: قوله تعالی: {وَجِئْتُكُم بِآيَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ...} الآية.

ص: 185


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 403، عن تفسير القمي.

هذا إما مقدمة لدعوتهم إلی التقوی والإطاعة أي حيث علمتم بهذه الآيات التکوينية والتشريعية فعليكم حفظ أنفسکم من عذاب الله تعالی، فهذه آيات من عنده، وهي دليل علی صدقي في ادّعائي فعليكم أن تطيعوني فيما آمرکم وأنهاکم.

ويحتمل أن يکون ذلك إشارة إلی الإنجيل، أي مصدقاً بالتوراة وجئتکم بآية من ربکم هي الإنجيل، لأن الکتب السماوية کلها آيات من الله تعالی ودلائل عليه وهي معجزة للأنبياء أصحاب الکتب (عليهم السلام) .

الثامن: قوله تعالی: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ...} الآية.

هذا درء للغلو وإبطال لکلام من ادّعی ألوهيته، فالمعنی إن هذه الآيات من الله تعالی لا منّي، لذا خافوا الله فلا تغلو فيّ، وأطيعوني فيما أقوله لکم من أني عبدالله وأن الله ربنا جميعاً وعلينا عبادته، فهذا هو الطريق المستقيم الذي لازيغ فيه، ولذا في يوم القيامة يسأل الله تعالی عيسی (عليه السلام) عن ذلك تبکيتاً للغلاة، قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، إلی قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ}(1).

ص: 186


1- سورة المائدة، الآية: 116-117.

الآيات 52-54

اشارة

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ (53) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ (54)}

52- لکن مع کل تلك الآيات التکوينية والتشريعية کفر أکثرهم فلم يؤمنوا {فَلَمَّا أَحَسَّ} علم بما رآه وسمعه من أفعالهم وأقوالهم {عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ} بالله وتکذيب رسوله، أراد اختيار مجموعة تحمل الرسالة وتبلغها من بعده ف {قَالَ} مخاطباً الجميع قاصداً الامتحان أو الاختيار: {مَنْ أَنصَارِي} علی التبليغ سالكين معي {إِلَى اللَّهِ} للوصول إلی قربه وثوابه، {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وهم خاصته حيث خلصوا من الشوائب بقلوب نقية وأعمال طاهرة: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} أي أنصار دينه، ثم بينوا کيفية نصرتهم له تعالی فقالوا: {ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَ} آمنا بك ف {اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} سلّمنا أمرنا إلی الله تعالی قلباً وعملاً ومن ذلك الإذعان والاتباع لرسوله (عليه السلام) .

53- بعد تصديقهم لعيسی توجهوا إلی الله تعالی فقالوا: {رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ} بکلّه قلباً، {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} عملاً، فلم يکن قولهم لعيسی (عليه السلام) مجاملة أو نفاقاً بل کان منطلقاً من قلوبهم المصدِّقة والمذعنة، لذا أکدوا

ص: 187

إقرارهم اللساني لعيسی (عليه السلام) بالدعاء والتوجه إلی الله تعالی، ثم دعوا الله بقبول ايمانهم {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ} الذين يشهدون بالتوحيد وبالنبوة، لا کالمنافقين الذين يسجل کتابهم في سجين.

54- لکن هؤلاء کانوا أقلية، {وَ} أما الأکثر الذين أحسّ منهم الکفر فقد {مَكَرُواْ} بالتأمر علی عيسی (عليه السلام) لقتله حيث وشوا به للسلطة فأرسلت قوّة لقتله، {وَمَكَرَ اللَّهُ} بأن ردّ مکرهم وقدّر تقديراً خفي عليهم برفع عيسی (عليه السلام) إلی السماء وإلقاء الشبه علی شخص آخر فصلبوه ظناً منهم أنه عيسی {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ} حيث إنّ مکره ليس سيّئاً بل بحکمة ومصلحة فهو مکر حسن، کما لا يمکن لأحد أن يقف دون إرادته سبحانه.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ}.

أي علم بکفرهم عياناً، وذلك عبر ما رآه وسمعه منهم، و(الحواس) هي أهم طريق لعلم الإنسان بالأمور، إذ قلّما يتطرق إليها الشك أو الخطأ، عکس المعقولات التي يكثر الخطأ فيها، ومن نِعَم الله تعالی علی الإنسان أن جعل حواسه طريقا إلی معرفته للمعقولات أيضاً ولذا يكثر تشبيه المعقول بالمحسوس ليذعن الإنسان به، نعم هناك معقولات لايتطرق إليها الحس لکن يمکن الوصول إليها عبر المحسوسات، کمسائل المبدأ والمعاد فهي من الغيب الذي لايحسّ لکن الآيات الباهرات - وهي محسوسات عادة - طريق إلی الإذعان بها، ولذا أمر الله تعالی بالتفکر في آياته ودلائل عظمته،

ص: 188

فإنها تسوق الإنسان إلی الإذعان به سبحانه وتعالی قال: {سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِي الْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(1).

والظاهر أنه (عليه السلام) قد يئس من إيمانهم، لأنهم قد رأوا تلك الآيات الباهرات - تکوينية وتشريعية - کما أن شريعة عيسی (عليه السلام) کانت أسهل، فکان من مصلحتهم الإيمان به أيضاً، لکنهم عتوا وعاندوا، وهکذا ناس ميؤوس منهم، لذا أراد عيسی (عليه السلام) توسيع دائرة التبليغ إلی الأجيال القادمة وإلی الأمم الأخری، فاحتاج إلی ناس مخلصين طاهرين يکونون من خواصّه يتعلّمون منه ثم يعلّمون الآخرين، لکنه (عليه السلام) لم يغلق الباب علی أحد من الناس فعمّم الخطاب للجميع ليتبيّن فضل الحواريين حيث اختاورا النصرة دون غيرهم، وأيضاً لعلّ في عامة الناس من له القابلية فتعميم الخطاب فتح للطريق أمامه للرقي والکمال، وأما قوله تعالی في سورة الصف: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ}(2)، فليس دليلاً علی تخصيص الخطاب بهم، بل کانا خطاباً عاماً مع علم عيسی (عليه السلام) بأن هؤلاء سيستجيبون لندائه، فکانوا هم المعنيون بالإرادة الجدية مع عموم الخطاب للجميع.

وقوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي أنصاري في دينه وتبليغ رسالته، فالمعنی ليست نصرة عيسی (عليه السلام) إلاّ لکونه رسولاً من الله تعالی وطريقا إليه، فليست قضية شخصية لذات عيسی (عليه السلام) بما هو هو، بل بما هو طريق إلی الله

ص: 189


1- سورة فصلت، الآية: 53.
2- سورة الصف، الآية: 14.

تعالی، حيث اصطفاه الله وحمّله الرسالة وأمر باتباعه، ف {إِلَى} لانتهاء الغاية أي النصرة منتهية إلی الله تعالی حيث إن عيسی (عليه السلام) طريق إليه، ويمکن تضمين {أَنصَارِي} معنی السلوك والذهاب، فيکون نظير قوله تعالی: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ}(1).

والآية تدل علی أنه يلزم سلوك الطريق المؤدي إلی الله تعالی دون الطرق المتفرقة، قال سبحانه: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}(2).

الثاني: قوله تعالی: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ...} الآية.

{الْحَوَارِيُّونَ} جمع حواري، من (الحور) وهو شدة البياض، وتسمية خاصة الإنسان بذلك لنقاء قلبه وصفاء باطنه تجاه صاحبه، وحواريّو عيسی (عليه السلام) کانوا مُخلِصين في أنفسهم ومُخَلِّصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذکر، کما في الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) (3).

وقولهم: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} جواب لقوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} فيدل علی أن نصرته (عليه السلام) هي نصرة لله تعالی، والمراد نصرة دينه ونبيّه، وإلاّ فالله تعالی غنيّ عن العالمين، بل الله تعالی شرّف الدين وشرّف الرسل بأن اعتبر نصرهما نصره.

ثم فسروا قولهم: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} بقولهم: {ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا

ص: 190


1- سورة الصافات، الآية: 99.
2- سورة الأنعام، الآية: 153.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 406، عن علل الشرائع.

مُسْلِمُونَ} فکأنّ نصرالله يتضمن أمرين:

1- الايمان بالله حيث أراد من الناس ذلك فتنفيذ إرادته نصره.

2- التصديق برسوله وبما أنزله عليه، وهذا هو التسليم المحض لإرادة الله تعالی، فحيث اختار نبيا وشريعة أذعنوا للنبي قلباً، وصدّقوه لساناً، وتابعوه في کل شيء.

وطلبهم شهادته (عليه السلام) : أمّا في الدنيا فلتأکيد إيمانهم بتلك الشهادة وتحفيزاً لهم في الصمود والاستقامة لأن الکبير إذا شهد للتابع کان تشويقا له في مواصلة الدرب، أو لاطمينانهم بصدق دعواهم، إذ هو (عليه السلام) لايشهد إذا کان في قولهم أو عملهم خلل بل يأمرهم بتصحيح الأخطاء.

وأما في الآخرة: فلشهادة الأنبياء علی أممهم، کما قال تعالی: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا}(1)، وقال: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}(2).

وقد يکون جوابهم هذا يتضمن أيضاً استجابة لما قاله (عليه السلام) في الآية 50 {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} فقالوا: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}، وقال: {وَأَطِيعُونِ} فقالوا: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.

الثالث: قوله تعالی: {رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا...} الآية.

بعد أن استجاب الحواريون لعيسی (عليه السلام) توجهوا إلی الله تعالی العالم بالقلوب والأسرار - متضرّعين إليه بأن استجابتهم لعيسی (عليه السلام) حقيقيّة لامجرد

ص: 191


1- سورة النحل، الآية: 84.
2- سورة الأعراف، الآية: 6.

لقلقة لسان ونفاق، يدعون الله بأن يتقبل عملهم - بالإيمان والاتباع - وأن يوفقهم إلی مواصلة ذلك، فقالوا: {رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ} ايماناً حقيقياً في القلب {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} عيسی (عليه السلام) في کل شيء {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ} بمعنی قبول إيمانهم وعملهم، إذ کل شيء لاقيمة له إلاّ إذا ارتبط بالله تعالی، قال تعالی: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحًا تَرْضَىٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَٰبِ الْجَنَّةِ}(1)، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ}(2)، وقد مرّ أن کل کمال وکل خير فهو من الله سبحانه تعالی، فلا قيمة لأيّ شخص أو شيء إلاّ لو انتسب إليه تعالی.

وقوله: {الشَّٰهِدِينَ} إمّا الشهادة بالوحدانية والرسالة، وإمّا الشاهدين علی عيسی (عليه السلام) بأنه قد بلّغ الرسالة ولذا فرّعه علی قوله: {ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ}، إذ لولا تبليغه لما تمکنوا من الإيمان بما أنزل الله - کذا قيل - کما في قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ}(3)، وإمّا الشاهدين علی الناس ولهم في يوم القيامة، فإن الرسل شهداء علی أوصيائهم وحوارييهم، وهم شهداء علی سائر الناس، وإمّا هو طلب مقام الشفاعة کما قال: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(4).

ص: 192


1- سورة الأحقاف، الآية: 15-16.
2- سورة فاطر، الآية: 10.
3- سورة الأعراف، الآية: 6.
4- سورة الزخرف، الآية: 86.

الرابع: قوله تعالی: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ...} الآية.

(المکر) هو علاج بخفاء بما فيه ضرر الغير، والأکثر استعماله في المکر المذموم، وقد يستعمل في المکر بوجه حق إذا استحق الممکور به ذلك الضرر، ومکر الله بمعنی جزائه علی مکرهم، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «أنه عز وجل يجازيهم جزاء المکر»(1)، فهؤلاء يمکرون مکر السيّء فيجازيهم الله عليه من حيث يخفی عليهم.

وقيل: هو للمقابلة کما في قوله: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}(2).

معنی «شُبّه لهم» وکيفيته

وفاعل {مَكَرُواْ} الذين أحسّ عيسی (عليه السلام) منهم الکفر حيث أرادوا قتله فوشوا به إلی السلطات الرومانية، فأرسلت قوة عسکرية لقتله، ولکن الله عالج الأمر من حيث خفي عليهم، حيث اشتبهوا فصلبوا رجلاً آخر بزعم أنه عيسی (عليه السلام) ، قال تعالی: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ}(3).

واختلف في کيفية التشبيه، فقيل: إن ذلك کان بالإعجاز حيث قلب الله وجه الواشي أو أحد الحواريين إلی مثل وجه عيسی (عليه السلام) .

وقيل: إن العساکر الذين جاؤوا لقتله لم يکونوا يعرفونه ولا رأوه من قبل فأخذوا رجلاً آخر فقتلوه فالاشتباه في ذلك لا في تشبيه الوجه، ويؤيد هذا ما رُوي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إن عيسی (عليه السلام) قال لأصحابه: إن الله

ص: 193


1- الاعتقادات للشيخ الصدوق: 26.
2- سورة البقرة، الآية: 194.
3- سورة النساء، الآية: 157.

أوحی إلیّ أنه رافعي إليه الساعة، ومطهّري من اليهود، فأيكم يلقی عليه شبحي فيقتل ويصلب ويکون معي في درجتي؟ فقال شاب منهم: أنا يا روح الله، قال: فأنت هو ذا... وأخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسی (عليه السلام) فقُتل وصُلب»(1)، حيث قال (شبح) ولم يقل (شبه)، وقد کان الصلب قبل طلوع الشمس - علی ما قيل - فکانوا يرونه کالشبح لعيسی فظنوا أنه هو، فتأمل.

وقوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ} أي إن مکره بمصلحة وحکمة وعن استحقاق الممکور به، وهو أنفذ من مکر غيره، کما أن في مکره تعالی عبره وموعظة.

ص: 194


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 407، عن تفسير القمي.

الآيات 55-57

اشارة

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ (57)}

55- وکان مکر الله {إِذْ} في الوقت الذي {قَالَ اللَّهُ} مبشراً: {يَٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} آخذك أخذاً وافياً بروحك وجسمك عکس سائر الناس الذين يقبض الله أرواحهم دون أجسامهم، {وَرَافِعُكَ} رفعاً معنوياً وظاهريّاً {إِلَيَّ} إلی السماء الرابعة حيث محلّ کرامتي ومجاورة ملائکتی، {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ} سوء جوار {الَّذِينَ كَفَرُواْ} من اليهود وغيرهم، {وَجَاعِلُ} بقضاء وقدر تکويني {الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} أي النصاری الذين اتبع بعضهم عيسی حقيقة واتبعه آخرون بالاسم دون الحقيقة {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بك من اليهود {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} فاليهود حتی في قوتهم هم دون النصاری، بل قوتهم حالاً مکتسبة من النصاری، {ثُمَّ إِلَيَّ} إلی حسابي {مَرْجِعُكُمْ} مرجع عيسی والذين اتبعوه والذين کفروا {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في أمر الدين وفي رسالة عيسی (عليه السلام) وغير ذلك.

ص: 195

56- وتفصيل حکمه أو نتيجة جعل اتباعه فوق الذين کفروا هو {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ} بك وبدينك {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا} بالذلة والمسکنة {وَالْأخِرَةِ} بعذاب النار {وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ} يسعون في إنقاذهم من الذل والهوان ومن عذاب الرحمن.

57- {وَأَمَّا} الأتباع فهم صنفان: الصنف الأول الاتباع حقيقة {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمْ} الله {أُجُورَهُمْ} کاملة غير منقوصة، والصنف الثاني: الأتباع بالاسم دون الحقيقة فهولاء ظالمون {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ} لايثيبهم بل يعاقبهم.

بحوث

معنی وفاة عيسی (عليه السلام)

الأول: قوله تعالی: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَىٰ...} الآية.

بعد أن أحس عيسی (عليه السلام) منهم الکفر، واختار حواريين يكمّلون المسيرة من بعده، أخبره الله تعالی بإکمال مهمته وأنه آن الأوان لفراقه الدنيا، فبشّره بعدة بشارات، وهي:

1- وفاته (عليه السلام) لکن لا بالطريقة المتعارفة بالموت بقبض الروح، فإن عيسی (عليه السلام) کانت حياته کلّها خارقة للعادة وبالإعجاز من ولادته من غير أب وتکّلمه في المهد إلی حين قبضه بروحه وجسده إلی السماء، فهو ولد من غير أب خلافاً للمتعارف، وقبض بروحه وجسده خلافاً للمتعارف أيضاً، وفي ذلك بشارة له بعدم موته.

وکلمة (الوفاة) لاتختص بالموت، بل معناها الحقيقي هو القبض الوافي الکامل، فلذا أطلقت علی النوم کما قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا

ص: 196

وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}(1)، بل صريح آيات أخری في عدم موت عيسی (عليه السلام) کقوله تعالی: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}(2)، وکذا قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}(3)، وسيأتي تفصيل مسألة حياته (عليه السلام) في سورة النساء إن شاء الله تعالی.

2- رفعه (عليه السلام) إلی السماء، فإن الوفاة بالروح والجسد لاتلازم الرفع إلی السماء، فلذا کان الرفع بشارة أخری، حيث رفعه مادياً ومعنوياً، إذ رفعه إلی السماء الرابعة محلّ کرامته وجوار ملائکته، وروی أن البيت المعمور - الذي يقابل الکعبة في السماء - هو في السماء الرابعة وهو مطاف الملائکة، فاجتمع الرفع المادي مع الرفع المعنوي، وقوله: {إِلَيَّ} أي إلی قربي وکرامتي، فإنه تعالی ليس بجسم، کما أنه خالق المکان فلا يعقل أن يحيط به مکان، ونسبة المخلوقات إليه سواء فلا قرب وبُعد مکاني، بل قرب وبُعد معنوي.

3- تطهيره من الکفار - سواء من يهود بني إسرائيل أو سائر الکفار - أي من سوء جوارهم، فهؤلاء کالنجاسة التي تحيط بالجسم فکما أن إبعادها عن الجسم بالغسل تطهير له، کذلك إبعادهم عن عيسی تطهيره له (عليه السلام) من کفرهم وسوء جوارهم.

ص: 197


1- سورة الزمر، الآية: 42.
2- سورة النساء، الآية: 159.
3- سورة النساء، الآية: 157-158.

ويمکن أن يکون المقصود عدم نقصان درجاته بکفر الکافرين سواء الذين اتهموه أم الذين غلوا فيه، فلا يلحقه شيء من قذارتهم.

أو بمعنی تنزيهه عن أقاويلهم، فقد نزهه الله تعالی في القرآن، کما ينزهه عنها في الآخرة، فقد جعله الله تعالی وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين.

4- جعل الغلبة لأتباعه، فهم دائماً فوق اليهود الذين کفروا به، وحتی الآن حيث شکّلوا دولتهم اللقيطة في فلسطين کان ذلك بتخطيط ودعم من دول النصاری، وکذا استمرارهم في التوسع والبقاء رهين استمرار دعمهم لهم، ولو قطع النصاری دعمهم لانقرضت دولتهم، ولذا هم أذلاء أمام النصاری يستجدون منهم ويسيرون في رکابهم وضمن برنامجهم، واستمرار دعم النصاری لهم ليس حباً فيهم بل لأجل مصالح تلك الدول النصرانية في تمزيق أوصال بلاد المسلمين واستمرار الفتن فيها مع وجود حلفاء لهم ينفذون أجندتهم.

فقوله تعالی: {الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} أي کانوا أتباعك سواء بالحقيقة وهم الحواريون ومن سار علی شريعة عيسی (عليه السلام) قبل نسخها، أم بالاسم دون الواقع کبعض فسقة النصاری قبل الإسلام وعامة النصاری بعد الإسلام، فهؤلاء اتباع عيسی (عليه السلام) بالاسم دون الواقع، وحيث إن المجموع - من المؤمنين الواقعيين وغيرهم - ينسبون أنفسهم إلی عيسی (عليه السلام) لذلك صحّ إطلاق اسم الأتباع عليهم أجمع باعتبار وجود أتباع في ضمنهم، وقد مرّ بعض البحث في هذا في الآية 143 من سورة البقرة.

وقيل: المراد خصوص الأتباع الحقيقيين وهم المؤمنون بعيسی قبل نسخ شريعته، والمسلمون بعد نسخها، والفوقية إنما هي بالحجة والبرهان.

ص: 198

وفيه تأمل: لأنه تعالی يقول: {وَجَاعِلُ} أي في المستقبل، مع أن الفوقية بالحجة کانت من زمان وجود عيسی بينهم لا أنها حدثت فيما بعد، ولقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} مع أن الفوقية مستمرة في يوم القيامة وما بعدها حيث هؤلاء في الجنة وأولئك في النار.

وقوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي بعد استمرار الفوقية إلی يوم القيامة، يرجع الجميع إلی حساب الله تعالی، وهناك لا أثر للأسماء والاعتبارات، فلا يكفي مجرد اتّباع عيسی (عليه السلام) بالاسم، فهذا الاتّباع کان له أثره الوضعي في الدنيا لکن ينتهي مفعوله في الآخرة، کالإسلام باللسان الذي له آثاره الدنيوية التشريعية، لکن لا أثر له في الآخرة إذا لم يكن إيماناً بالقلب وبما أنزل الله تعالی، وحينذاك يحکم الله تعالی بين خلقه، فالأتباع الحقيقيون في الجنة، وأما الأتباع المزيفون فهؤلاء مصيرهم مع الذين کفروا من اليهود في النار.

الثاني: قوله تعالی: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ...} الآية.

الظاهر أن الفاء في {فَأَمَّا} تفريع علی أمرين ذُکرا في الآية السابقة:

الأول: جعل أتباعه فوق الذين کفروا وهذا يرتبط بالدنيا ولذا قال: {فِي الدُّنْيَا}.

والثاني: الحکم بينهم يوم القيامة ولذا قال: {وَالْأخِرَةِ}، ومن المستبعد کون التفريع علی حکمه، لأن ذلك الحکم في الآخرة کما هو ظاهر الآية السابقة، مع أن العذاب في هذه الدنيا کما قال: {فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ}.

وعذاب الذين کفروا بعيسی من اليهود في الدنيا هو بضرب الذلة والمسکنة عليهم، فهم أذلاء مکروهون في کل مجتمع تواجدوا فيه،

ص: 199

ونفوسهم حقيرة متمسکنة، وطوال التاريخ سلّط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}(1).

وأما عذاب الآخرة فواضح مذکور في آيات کثيرة من القرآن الکريم.

وقوله: {وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ} أي ينصرونهم من عذاب الله، والظاهر أن المراد لايوجد لهم شفعاء في الآخرة يشفعون لهم، خلافاً لما يزعموه من شفاعة أنبيائهم لهم.

الثالث: قوله تعالی: {وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ...} الآية.

بعد ذکر حکمه تعالی في الذين کفروا، تُبيّن هذه الآية حکم أتباعه (عليه السلام) فهم صنفان.

الصنف الأول: الأتباع الواقعيون، الذين آمنوا بعيسی واتّبعوا شريعته قبل نسخها کالحواريين وأوصياء عيسی إلی حين بعثة الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأتباعهم، فهؤلاء آمنوا وعملوا الصالحات، وحيث وعدهم الله تعالی بالثواب لذلك يفي سبحانه بما وعده ولاينقص من ثوابهم شيء.

والصنف الثاني: الأتباع بالاسم دون الواقع، وهم فسقة النصاری وکفارهم قبل الإسلام، وعامة النصاری بعد الإسلام، فهؤلاء ظالمون بترکهم الاتّباع الحقيقي - الذي يقتضي الالتزام بکل ما جاء به السيد المسيح (عليه السلام) ومنه بشارته برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) - واقتصارهم علی الاتّباع الاسمي، وقد ذکرهم الله تعالی بقوله: {لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}.

ص: 200


1- سورة الأعراف، الآية: 167.

وقوله: {وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} يشتمل علی الاجتناب عن السيئات، فإنه لايقال: فلان يعمل بالصالحات، إلاّ إذا اجتنب الآثام إلی جنب إتيانه بالواجبات - کذا في التقريب(1).

ص: 201


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 347.

الآيات 58-60

{ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأيَٰتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}

58- {ذَٰلِكَ} الذي تقدم ذکره من أخبار يحيی وزکريا ومريم وعيسی (عليهم السلام) {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} نقرأه بالوحي إليك {مِنَ الْأيَٰتِ} تدل علی عظمة الله تعالی وصدقك {وَالذِّكْرِ} القرآن الذي يوجب تذکر الإنسان {الْحَكِيمِ} المحکم المشتمل علی الحکمة والذي لاباطل فيه.

59- وبعد الانتهاء من بيان قصة هؤلاء يبدأ الاحتجاج علی النصاری، ف {إِنَّ مَثَلَ} شأن ووصف {عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُۥ} خلق الله آدماً {مِن تُرَابٖ} فکما ليس هو إله ولا افتراء عليه کذلك عيسی (عليه السلام) {ثُمَّ} بعد أن صوّر جسده من التراب {قَالَ لَهُۥ كُن} بشراً حيا {فَيَكُونُ} أي فکان کما أراد الله تعالی.

60- هذا هو {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} في أمر عيسی (عليه السلام) ، فلا هو ربّ، ولا افتراء علی أمّه (عليهاالسلام) ، ولا القصّة أسطورة، {فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين في أمره، والخطاب تثبيت للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مع کون المراد عامة الناس.

ص: 202

بحوث

الأول: قوله تعالی: {ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأيَٰتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}.

هذا المقطع کالتمام لذکر قصة عيسی (عليه السلام) - مع ما تضمنته من قصص مريم ويحيی وزکريا (عليهم السلام) - اکتفی فيه بما يناسب الاحتجاج علی نصاری نجران، وقد ذکرت آيات أخری في سورة النساء والمائدة والصف وغيرها جوانب وتفاصيل أخری من قصته (عليه السلام) ، لکن حيث لم يكن لها دخل في الغرض من سورة آل عمران لم تذکر هنا، وهذا دأب القرآن الکريم حيث إنه کتاب هداية، فيكتفي بما يناسب الغرض، ولذا تجد القصة الواحدة مبثوثة في عدة سور، وفي کل موضع يذکر فيها تفاصيل أو يتم الإيجاز بحسب مقتضی الحال بما يناسب الحکمة، کقصة آدم وموسی (عليهماالسلام) والنبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وکذا في مسائل التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد وغيرها من المواضيع التي تصبّ في هداية الناس وإرشادهم، وهکذا کان دأب الأئمة (عليهم السلام) حيث کانوا يجيبون بالزيادة والنقصان وحسب مقتضی الحال، ولذا علی من يريد الوصول إلی الصورة المتکاملة ملاحظة الآيات أجمع، وکذا في الروايات، ليتعرّف علی العام والخاص، والمحکم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبيّن... الخ.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) - بعد تقسيم الناس إلی أصناف - أنه قال: «وآخر رابع لم يكذب علی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، مبغض للکذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، لم ينسه بل حفظ ما سمع علی وجهه، فجاء به کما سمع، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإنّ أمر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ، وخاص وعام،

ص: 203

ومتشابه...» الحديث(1).

قال تعالی: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ}(2)،

أي فرقوه وجزّؤوه فأخذوا مايوافقهم وترکوا مايخالفهم، وقال: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ}(3).

وقوله: {مِنَ الْأيَٰتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} بيان لوصفين لما سبق من القصص فهي:

أولاً: آيات الله تعالی تدل علی عظمته سبحانه، حيث اصطفی خلقاً وحباهم بالمعجزات، کما هي آيات علی صدق النبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث أخبر بالمغيبات التي علّمه الله إياها، مع حسن بيان بحيث يعجز الناس عن الإتيان بمثله، وفيه تلميح إلی ردّ حجة النصاری في ألوهية عيسی وکونه ابناً لله تعالی، حيث زعموا أن کيفية ولادته ومعاجزه دليل علی ذلك، مع أن الصحيح أنها آيات الله حيث خلق عيسی (عليه السلام) بتلك الکيفية، وأقدره علی المعاجز، کما سيأتی بيانه في الآية التالية.

وثانياً: إن التأمل في هذه الآيات توجب تذکر الإنسان وإثارة دفائن العقول فيه، فهي {الذِّكْرِ الْحَكِيمِ} من الإحکام فلا باطل فيه ولا مداهنة ولا أسطورة، بل هو الحق الصراح الذي يذکر بحکمة بالغة وبما يتناسب مع الغرض والاحتجاج علی أولئك النصاری وعلی غيرهم.

ص: 204


1- الکافي 1: 63.
2- سورة الحجر، الآية: 90-91.
3- سورة النساء، الآية: 150.

وقد مرّ أن الحکمة من (الإحکام)، ولازمها هو وضع الشيء في موضعه المناسب له، وهکذا القرآن وکل آياته.

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ...} الآية.

بعد الانتهاء من بيان قصص عيسی (عليه السلام) وما يرتبط به، يبدأ الاحتجاج علی النصاری ودحض حججهم، فعيسی مخلوق لم يكن ثم کان، فلا يمکن أن يکون إلهاً، لأن الإله قديم واجب الوجود، فيستحيل أن يکون مسبوقاً بالعدم، کما أن خرق العادة في خلقه لاتقتضي ألوهيته، وإلاّ کان آدم (عليه السلام) أولی منه في ذلك، لأنه خُلق من غير أب وأم، فخلقه أغرب من خلق عيسی (عليه السلام) .

کما فيه إبطال لمزاعم اليهود، فهم يسلّمون بقدرة الله تعالی في خلق آدم (عليه السلام) من غير أبوين، فلا غرو في خلق عيسی (عليه السلام) من غير أب.

وقوله: {مَثَلَ عِيسَىٰ} قد مرّ أن «المثل» قد يأتي بمعنی الوصف ولذا يطلق علی تشبيه شيء بشيء إذ فيه وصف للمشبَّه بأوصاف المشبَّه به، أو بالعکس فهو بمعنی التشبيه، وحيث يتضمن الوصف أ ُطلق علی الوصف أيضاً کما في قوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ}(1)، فالمعنی هنا هو وصف عيسی (عليه السلام) بما وُصف به آدم فهما يتشابهان في خرق العادة في خلقهما حين خلق أحدهما من غير أبوين والآخر من غير أب.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} بيان لطيف لبطلان مزاعمهم، فعند النصاري إنه إله

ص: 205


1- سورة الرعد، الآية: 35.

لأنه خُلق من غير أب، وعند اليهود متهم، لکن عند الله مثله کمثل آدم.

وقوله: {خَلَقَهُۥ} أي خلق آدم (عليه السلام) ، وهذا بيان لوجه الشبه، حيث صوّر الله من الطين صورته ثم نفخ فيه من روحه فصار بشراً سوياً، کذلك عيسی (عليه السلام) .

وقوله: {مِن تُرَابٖ} ردّ لمزاعم النصاری أنه ابن لله سبحانه، بل هو من تراب، لأنه لو کان ابناً له سبحانه لکان جزءاً منه بحيث ينفصل منه جزء يتحوّل إلی الابن، کالمواليد في الإنسان حيث ينفصل جزء من الأب يتحول إلی نطفة ثم علقة ثم مضغة إلی آخر المراحل حتی يتحول إلی إنسان، وعيسی لم يكن جزءاً لله سبحانه وتعالی بل کان تراباً ثم أنشأه الله بشراً من غير أب بقدرته کآدم (عليه السلام) .

وقوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُۥ} أي توجّه تعالی إلی التراب فصيّره إنساناً بقدرته و(القول) هنا قد يکون بمعناه الحقيقي أي خاطب الله التراب بخلق الصوت، أو معناه المجازي بمعنی إرادة ذلك، وقد مرّ تفصيله.

وقوله: {فَيَكُونُ} أي فکان، وهذه الجملة صارت مثالاً، لذا يؤتی بها علی طبق لفظها - کما في التقريب(1) - فاللفظة حکاية حال ماضية لذا لم يتصرّف فيها بتغييرها من المضارع إلی الماضي.

الثالث: قوله تعالی: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ}.

أي هذا هو الحق لا ما زعمته النصاري واليهود وغيرهم، فلا تشك فيه، وقوله: {مِن رَّبِّكَ} ولم يقل (مع ربك) لأن الحق ينشأ من إرادته سبحانه

ص: 206


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 348 (بتصرّف).

وتعالی، فهو تعالی الحق، وأفعاله وأقواله الحق، وکل حق في العالم فهو منه تعالی حيث خلق الأشياء بالحق وقدرها بالحق وجعلها حقاً، فقيد الحق ب {مِن} الدالة علی الابتداء، لأنه تعالی أوجد الأشياء، فالحقائق - حتی النفس الأمرية - إنما تنتزع من الوجود الذي قدّره الله ثم خلقه فالحق کلّه منه تعالی(1).

وقوله: {فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ} خطاب للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفيه جانبان:

أحدهما: ما يرتبط بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فإنه لم يكن شاکاً ولا ممترياً أبداً، ولکن کان ذلك بفضل من الله تعالی وتثبيته، کما قال: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَئًْا قَلِيلًا}(2)، وقال: {كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}(3).

والآخر: مايرتبط بعموم الناس، فيکون من قبيل (إياك أعني واسمعي ياجارة)، وهذا تأکيد لهم لئلا يمتروا ويشکّوا، حيث کثرت المعاجز وخوارق العادة في قصة عيسی، کما اشتهر بين النصاری واليهود غير الحق، وکل ذلك مثار شك الناس، فجاء الحق الصراح بتأکيد شديد.

و(المرية) هي الشك بشبهة أولئك مع تردد(4).

ص: 207


1- اقتباس بتصرف من الميزان في تفسير القرآن 2: 247.
2- سورة الإسراء، الآية: 74.
3- سورة الفرقان، الآية: 32.
4- معجم الفروق اللغوية: 70؛ مفردات الراغب: 766.

الآية 61

اشارة

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَٰذِبِينَ (61)}

61- وبعد ظهور الحق لايبقی مجال لإنکاره إلاّ من المعاند وهذا لاتنفعه حجة، بل يجادل بالباطل ويماري، فلابد من مجابهته بطريقة أخری هي المباهلة، فقال تعالی: {فَمَنْ حَاجَّكَ} جادلك {فِيهِ} في الحق أو في عيسی {مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} بالوحي المتضمن للبرهان الساطع {فَقُلْ} لهذا المحاجّ بالباطل، {تَعَالَوْاْ} هلمّوا {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ} أي يدعو کل واحد منا ومنکم خاصّته، {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي نجتهد في الدعاء، {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ} الطرد من رحمته {عَلَى الْكَٰذِبِينَ} في أمر عيسی (عليه السلام) .

بحوث

الأول: لمّا حاجّ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) نصاری نجران وأقام عليهم الحجة والبرهان بأنّ عيسی (عليه السلام) ليس إلهاً ولا ابناً لله، ودحض (صلی الله عليه وآله وسلم) حججهم في ذلك، أصرّوا وعتوا عن قبول الحق حباً في الصليب والخمر والخنزير، فاقترح عليهم المباهلة بالتوجه إلی الله تعالی بالدعاء علی الکاذب الذي

ص: 208

فوائد المباهلة

يخالف کلامه الواقع ويعاند فيُنکر الحق ولا يذعن له، وللمباهلة فوائد متعددة منها:

1- إنه لامعنی لاستمرار المجادلة مع المعاند الذي لاتنفعه حجة، لأنه يعلم بالحق ومع ذلك ينکره، فما هو الغرض بعد ذلك في الاستمرار في المحاجة معه؟ هل لکي يعلم بالحق - وهو متيقن به لکنه يجحده - ؟ هل لبيان الحق للآخرين - فقد تبين لهم الحق بالبرهان الجلي في المجادلة فلا زيادة في ذلك - ؟ مع أن في استمرار الجدال معه تضييعاً للوقت من غير وصول إلی النتيجة المرجوة، فکان مقتضی الحکمة دفع جداله بالباطل بأحسن الطرق کما قال تعالی: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}(1)، وهنا يأتي دور ترکيز العقيدة الحقة والمباهلة، أمّا ترکيز العقيدة الحقة فکما قال تعالی: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَٰحِدٌ وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ}(2)، وأما المباهلة فهي طريق آخر لايقاف عنادهم وجدالهم بالباطل.

2- إن المباهلة توجه إلی الله تعالی لکي ينصر دينه، فقد أدّی العبد ما أمره الله به من المجادلة وإقامة الحجة ودحض الشبهات، مع الالتزام بالتکاليف العبادية وغيرها، وکل ذلک نصر العبد لله، فلم يبق إلاّ نصر الله للعبد کما قال: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(3).

ص: 209


1- سورة المؤمنون، الآية: 96.
2- سورة العنکبوت، الآية: 46.
3- سورة محمد، الآية: 7.

والدعاء والتضرع إليه طريق لتنجيز وعده بالنصر، لأنه يستجيب دعاء من دعاه.

3- وفي المباهلة أيضاً أثر نفسي علی المؤمنين بتقوية إيمانهم، حيث يرون شدة الإطمئنان بما أوحاه الله تعالی من العلم والبرهان، وأثر نفسي علی الکفار بهزيمتهم نفسياً وفکرياً، فلئن عاند المعاندون لکن عوامهم حيث يرون تخاذل أولئك المعاندين قد يكتشفون الحق فيذعنون به.

الثاني: قوله تعالی: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ...} الآية.

قوله: {حَاجَّكَ} أي جادلك، والمراد الاستمرار في الجدل عناداً بعد وضوح الحق.

وقوله: {فِيهِ} أي في الحق المذکور في الآية السابقة، أو في أمر عيسی (عليه السلام) فلم يذعن لما أقمت له من برهان.

وقوله: {مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي بعد البرهان الذي أنزله الله عليك وحاججته به، لکنه لم ينتفع به عناداً، وفي الآية إشعار بأن المباهلة إنما تکون بعد الاطمئنان بکون الإنسان علی حق، وبعد إقامة الحجج علی المخالف وبقائه معانداً مستمراً في عناده، فلا تصح المباهلة مع الشك، ولا قبل إقامة الحجج، ولا مع عدم عناد الطرف الآخر، وذلك لأن الغرض منها إحقاق الحق بعد استنفاذ کافة الطرق الأخری.

وقوله: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ} أي هلمّوا، وأصل الکلمة من العلو، وفيه إشعار إلی دعوتهم إلی الترفع عن العناد - الذي هو آفة ينشأ من التکبر وحب الشهوات الله

ص: 210

وحبّ الاستمرار علی المألوف من طريقة الآباء - وذلك بالتوجه إلی تعالی بالدعاء لينصر المحق ويخذل الکاذب.

وقوله: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ...} هذه الکيفية تبيّن شدة الاطمئنان بالحق حيث يأتي بأعز أقربائه للمباهلة، والمبطل لايعرّضهم لذلك، لعلمه بعدم کونه علی حق وأن اللعن سيصيبهم، إذ الإنسان يعرض نفسه للخطر ليحمي أعزاءه، أما أن يأتي بهم في موقع المباهلة ومع تقديمهم في الذکر حيث قدّم الأبناء والنساء علی الأنفس فهذا دليل علی شدة اليقين وقوة الحجة والبرهان.

وقد اتفق المسلمون أجمع في صحاحهم وتواريخهم أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) جاء إلی موقع المباهلة مصطحباً أمير المؤمنين علياً والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام) لاغير.

وقيل: مفهوم {أَبْنَاءَنَا} و{نِسَاءَنَا} و{أَنفُسَنَا} وإن کان عاماً، إلاّ أن المصداق کان منحصراً في الخمسة الطيبة، لأن المقصود کان أعزّ الأهل وأقربهم إلی المتباهلين، فقرابات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من بني هاشم ومن زوجاته وأصهاره کثيرون، إلاّ أن شدة القرب والمعزّة کانت منحصرة في هؤلاء الخمسة (عليهم السلام) ، ف {أَبْنَاءَنَا} وإن کان جمعاً إلاّ أنه لم يكن للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حينذاك أبناء سوی الحسنين (عليهماالسلام) ، و{نِسَاءَنَا} اسم الجمع لکن لم يدخل فيه زوجات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لأن تلك المعزة والقرب کانت خاصة بفاطمة (عليهاالسلام) ، و{أَنفُسَنَا} أيضاً جمع لکنه لم يشمل سوی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، حيث إن عليا (عليه السلام) هو نفس الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفي

ص: 211

ذلك منزلة عظيمة للخمسة الطيبة، وإبانة لأفضليتهم علی سائر الصحابة، حيث لم يكن أحد يليق بأن يُباهَل به إلاّ هؤلاء (عليهم السلام) .

معنی أنفسنا

ولايخفی أنه لايراد ب {أَنفُسَنَا} هنا القومية أو القرابة کما في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}(1)، وذلك لأن مقام المباهلة ليست مقام الإتيان بمطلق من کان من القومية أو القرابة حتی لو کان کافراً أو منافقاً أو مستضعفاً، بل هي مقام الإتيان بأعزّ الناس وأقربهم، ولذا لم يأت الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) للمباهلة إلاّ بالإمام علي (عليه السلام) ، مما يدل علی انحصار أنفسنا فيه (عليه السلام) وفي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وحيث لم يكن المراد من الأنفس مطلق الأقرباء أو الأقوام فلابد أن يکون المراد منه ما هو کالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في کلّ المنازل سوی ما أُستثني من النبوة، وإلی ذلك يشير حديث المنزلة حيث قال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أنت مني بمنزلة هارون من موسی إلاّ أنه لا نبيّ بعدي»(2).

الثالث: قوله تعالی: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَٰذِبِينَ}.

(الابتهال) هو کل دعاء يجتهد فيه حتی لو لم يكن إلتعاناً، ولذا فرّع عليه قوله: {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ...}، وذلك لأن المباهلة دعاء عظيم يصيب وباله الکاذب فلذا لابدّ من شدة التضرع والإلتجاء إلی الله تعالی فيها، وقيل: الابتهال هو الدعاء باللعن فقوله: {فَنَجْعَل...} عطف توضيحي وتأکيد، أو تعليم کيفية الدعاء باللعن بأن يکون لعناً للکاذب.

وقوله: {فَنَجْعَل} کأنّه بيان لاستجابة الدعاء فوراً، فبمجرد الدعاء

ص: 212


1- سورة التوبة، الآية: 128.
2- حديث متواتر، راجع من مصادر الشيعة الکافي 4: 107؛ ومن مصادر العامة البخاري 4: 208.

يستجيب الله الدعاء ويطرد من رحمته الکاذب، فکأنّ الداعي هو الذي جعل اللعنة علی الکاذب، مع أن الجاعل هو الله استجابة للدعاء.

وقوله: {عَلَى الْكَٰذِبِينَ} فيه تعريض بهم بأنهم کاذبون في دعواهم، والمراد الکذب بخلاف الواقع وخلاف مايضمرون، لأن کلامهم باطل وهم يعلمون بطلانه، فکذبهم من الجهتين، لکن لم يقل (فنجعل لعنة الله عليكم) لأن مقتضی الإنصاف إبهام الکاذب بحيث يشترك کلا الطرفين في صيغة الدعاء.

قصة المباهلة

الرابع: وکان من قصة نصاری نجران ما رواه القمي بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أن نصاری نجران لمّا وفدوا علی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وکان سيدهم الأهتم، والعاقب، والسيد، وحضرت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلّوا، فقال أصحاب رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا رسول الله هذا مسجدك!! فقال: دعوهم، فلمّا فرغوا دنوا من رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إلی ما تدعو؟ فقال: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله، وأن عيسی عبدٌ مخلوق، يأکل ويشرب ويحدث، فقالوا: من أبوه؟ فنزل الوحي علی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال لهم: ما تقولون في آدم، أکان عبداً مخلوقاً يأکل ويشرب ويحدث وينکح؟ فسألهم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقالوا: نعم، قال: فمن أبوه؟ فبهتوا، فأنزل الله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ...} وقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ...}، فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : باهلوني، فإن کنت صادقاً أنزلت اللعنة عليكم، وإن کنت کاذباً أ ُنزلت عليّ، فقالوا: أنصفت، فتواعدوا للمباهلة، فلمّا رجعوا إلی منازلهم قال رؤساؤهم السيد والعاقب والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس بنبيّ، وإن باهلنا بأهل البيته

ص: 213

خاصة فلا نباهله، فإنه لايقدم إلی أهل بيته إلاّ وهو صادق، فلمّا أصبحوا جاؤوا إلی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فقال النصاری: من هؤلاء؟ قيل لهم: إن هذا ابن عمه ووصيه وختنه عليّ بن أبي طالب، وهذه بنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين، صلوات الله عليهم، فتفرّقوا وقالوا لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) علی الجزية وانصرفوا»(1).

ص: 214


1- تفسير الصافي 2: 58؛ عن تفسير القمي 1: 104.

الآيات 62-64

{إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِۢ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}

62- {إِنَّ هَٰذَا} المذکور في الآيات السابقة {لَهُوَ الْقَصَصُ} أي الحديث المقصوص {الْحَقُّ} لاباطل فيه، {وَ} أما ما قالته النصاری في ألوهية عيسی (عليه السلام) فهو باطل، إذ {مَا مِنْ إِلَٰهٍ} معبود {إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} فلا يضره کفرکم، ولايشارکه أحد في الألوهية ليعارضه في عزّته، کما لايحتاج إلی اتخاذ الولد، {الْحَكِيمُ} في تقدير کيفية ولادة عيسی (عليه السلام) وإقداره علی المعاجز.

63- {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإذعان إلی الحق مع وضوح آياته، أو أعرضوا عن المباهلة مع الإصرار علی العقائد الفاسدة {فَ} لايضرّك إعراضهم إذ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِالْمُفْسِدِينَ} فيجازيهم علی إفسادهم بالعقائد الباطلة والأعمال القبيحة.

64- ثم تتوجه الآيات إلی وعظهم ببيان الحق بعد أن لم ينفعهم البرهان ولا اقتراح المباهلة وبيان أن مصلحتهم في اتّباع الحق {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ}

ص: 215

ونصاری نجران مصداق، والآية عامة لجميعهم {تَعَالَوْاْ} هلموا {إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِۢ} نتساوی فيها باتفاقنا عليها، وهي کلمة عدل لاعوج فيها {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} جميعاً، وتلك الکلمة هي {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} وهو توحيد العبادة، {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} وهو توحيد الذات، {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} بأن تکون إطاعتنا لله تعالی ولمن أمر الله بإطاعته، {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن التوحيد وأطاعوا أحبارهم ورهبانهم {فَقُولُواْ} لساناً واستقامة عليه مخاطبين أهل الکتاب: {اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} والمراد بيان لزوم الحجة عليهم، والتعريض بهم، وثبات المسلمين علی إسلامهم.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}.

{الْقَصَصُ} بفتح القاف بمعنی المفعول أي المقصوص، والمراد ما ذکر في الآيات السابقة، و{الْحَقُّ} هو المطابق للواقع الذي لاکذب فيه ولا باطل، والغرض التعريض بهم بأن کلامهم باطل، کما أنه تأکيد علی ما بيّنته الآيات السابقة، وهو کالفاصل بين نهاية القصة والبرهان الذي أقيم علی الحق وبين وعظهم ودحض حججهم، وتنبيههم علی أن الدخول في الإسلام من مصلحتهم في الدنيا والآخرة.

ويکون تدرج الآيات هکذا، ففي البداية بيان قصة عيسی وأمه ويحيی وزکريا (عليهم السلام) ، وخرق العادة في ميلاد المسيح ومعاجزه وأنصاره وعاقبة أمره (الآيات 33-58)، ثم الاستدلال علی بشريته (الآيتان 59-60)، ثم المباهلة (الآية 61)، ثم وعظهم (الآية 64) ثم دحض حججهم (الآيات 65-68).

ص: 216

وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ} تعريض بهم بأن ما يقولونه في عيسی (عليه السلام) ليس بحق، وهو کالنتيجة لکون ما قاله القرآن هو القصص الحق، و{مِنْ} لإفادة العموم وتأکيده، فهذه حقيقة غير قابلة للاستثناء.

ثم إن قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} للدلالة علی أنه سبحانه لايضره کفرهم ولا اعتقادهم بألوهية غيره ولا سائر أباطيلهم، کما فيه دلالة علی عدم اتخاذه ولداً ولا شريكاً فهو العزيز الذي لايغلبه شيء، کما أنه تعالی حکيم حيث خلق عيسی (عليه السلام) بهذه الکيفية، وخلق الناس مختارين مع إقامة الحجة عليهم.

الثاني: قوله تعالی: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِالْمُفْسِدِينَ}.

بيان أن ترك الحق مع وضوحه والتمسك بالباطل إنما هو إفساد، وأن الله يجازي المفسد عليه، فهؤلاء أفسدوا أنفسهم ولم يصلحوها بالعقيدة الحقة والأعمال الصالحة، کما أنهم يفسدون الناس بإصرارهم علی الباطل وصدّهم عن سبيل الله تعالی.

والآيات تضمنت مجموعة من صفاتهم القبيحة، فهم کاذبون يستحقون لعن الله إياهم، کما أنهم أهل باطل في عبادتهم وفي عقيدتهم، مضافاً إلی إفسادهم لأنفسهم ولغيرهم.

وقوله: {عَلِيمُۢ بِالْمُفْسِدِينَ} الغرض منه بيان أنه تعالی يجازيهم علی سوء أفعالهم وعلی إعراضهم عن الحق، أو هو ردّ لزعم من زعم منهم أن الله لايعلم بأفعال عباده، فيکون ذلك من ضمن فساد عقيدتهم، کما فيه إيماء بعدم إکراههم علی قبول الدين الحق، بل بعد إتمام الحجة عليهم

ص: 217

فيُترکون وعقيدتهم ليجازيهم الله عليها، وإنما يتعامل معهم المسلمون بالمعاهدة إن کانوا خارج سيطرة المسلمين أو بأخذ الجزية إن کانوا داخلها، فإن رفضوا دفع الجزية ولم تکن معهم معاهدة جاز قتالهم.

الثالث: قوله تعالی: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ...} الآية.

هذه الآية رجوع إلی وعظهم بعد إقامة الحجة والبرهان علی کون عيسی (عليه السلام) بشراً مخلوقاً، وبعد اقتراح المباهلة عليهم، ويتضمن هذا الوعظ براهين ومطالب أخری:

1- الکلمة السواء، أي لنتفق علی هذه الکلمة، فنکون نحن وأنتم سواء، إذ قد يريد الإنسان الاحتفاظ بواقعه وأن لايکون تابعاً للآخرين، فالآية تبين لهم أن المسلمين جميعاً سواء إذا اجتمعوا علی الإيمان بالله والعمل الصالح، ولايوجد مسلمون من الدرجة الثانية، بل الکل سواء في عبادة الله وفي عدم اتخاذ الشريك له وفي عدم إطاعة أحد من دون الله إلاّ إذا أمر الله بطاعته، فإذا أسلمتم فلا يکون هناک تمايز عليکم.

2- اختصاص العبادة بالله، لأنه لا شريك له، إذ الناس بعضهم من بعض، فلا يصلح أحدهم للألوهية علی الآخرين، بل الإله هو الذي يختلف بالذات عن کل الناس في کل شيء فليس کمثله شيء.

وهذا برهان متسلسل من مقدمات ثلاث ذکرت في قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ} إلی قوله: {أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}. ومن ذلك يتبين أنه لاتکرار في المقاطع الثلاث، فقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} هو بمعنی توحيد العبادة، وسبب ذلك أنه لا شريك له، إذ لو کان له شريك لاستحق العبادة أيضاً فقال: {وَلَا نُشْرِكَ

ص: 218

بِهِ شَيْءًا}، وسبب عدم کون أحد من البشر شريكاً لله هو أن البشر متشابهون في ترکيبتهم الجسدية، فبعضهم من بعض، فلا يصلح أحدهم للألوهية علی سائرهم، نعم يصح جعل الإطاعة للبعض من قِبَل الله تعالی إذا کان طريقاً إليه تعالی کما قال: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(1)،

لکن ذلك لايرتبط بعبادته بل هو مرتبط بعبادة الله أيضاً.

3- التسليم المحض لله تعالی ينافي اتخاذ الشريك له، إذ لابد حينئذٍ من إطاعة الشريك أيضاً، قال تعالی: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٖ وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهِۢ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ سُبْحَٰنَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(2).

الرابع: قوله تعالی: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.

أي بعد إقامة البرهان عليكم، وعدم استعدادکم للمباهلة، وعدم نفع الوعظ فيكم، بعد کل ذلك يتبيّن أنکم غير خاضعين لله تعالی ولاتسلمون له، لکنّا سلّمنا لله وصدّقنا برسله وأطعناه فيما أمر ونهی.

والمراد من هذه الکلمة:

أولاً: تأديب المؤمنين في عدم اعتناهم بأولئك، بل عليهم أن يستمروا في عقيدتهم وعملهم وأن يستقيموا عليها، کما قال تعالی: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(3)، وهذا شأن النفوس القوية بالإيمان

ص: 219


1- سورة النساء، الآية: 80.
2- سورة المؤمنون، الآية: 91.
3- سورة المائدة، الآية: 105.

حيث يتبعون الحق علی کل حال حتی لو کانت الأجواء غير ملائمة، عکس غالب الناس الذين يخذلون الحق لو قلّ أتباعه وکثر أعدائه.

وثانياً: بيان وضوح الحق وجلائه فيعلم بذلك حتی المعاند المعارض، علماً يقينياً، بحيث يصح الاستشهاد به، فقوله: {اشْهَدُواْ} کناية عن ذلك، والله العالم.

ص: 220

الآيات 65-68

اشارة

{يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَٰجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}

65- بعد دحض حججهم في ألوهية عيسی وإثبات التوحيد ووعظهم بعدم الشرك، يأتي الدور إلی دحض حججهم الأخری، وأهمها مايرتبط بإبراهيم (عليه السلام) ، فقال تعالی: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ} وشأن النزول وإن کان نصاری نجران إلاّ أن الخطاب عام يشمل اليهود أيضاً {لِمَ تُحَاجُّونَ} تجادلون {فِي إِبْرَٰهِيمَ} فتزعمون أنه کان علی دينکم {وَ} الحال أنه {مَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعْدِهِ} فشريعة موسی وعيسی (عليهماالسلام) کانتا متأخرتين عنه فکيف يکون المتقدم تابعاً للمتأخر؟! {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} لاتستعملون عقولکم حيث إن العقل يمنع عن ادّعاء ما لا دليل عليه فکيف بما ثبت فساده.

66- {هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ} «الهاء» حرف تنبيه، و«أنتم» مبتدا، و«هؤلاء» تأکيد، والخبر قوله: {حَٰجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ} حيث احتّجت اليهود علی النصاری في بطلان التثليث وألوهية عيسی (عليه السلام) ، واحتجت النصاری

ص: 221

علی اليهود في إثبات نبوة عيسی (عليه السلام) ومعاجزه وطيب أصله، واحتجوا جميعاً علی المشركين في نبوة موسی والأنبياء من قبله وبعده، فالاحتجاج بعلمٍ هو مقتضی العقل، {فَلِمَ} فلماذا تخالفون العقل في أنکم {تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} في شأن إبراهيم (عليه السلام) ، وهل العاقل يجادل فيما يجهل فيه؟! بل عليكم أن تطلبوا العلم حين جهلکم لا أن تجادلوا باطلاً، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فلذا عليكم أن تتلقّوا العلم من الله تعالی بواسطة رسله.

67- وممّا يعلمه الله أنه {مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا}، وليس معنی ذلك أنه کان علی باطل {وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا} مائلاً من الباطل إلی الحق، {مُّسْلِمًا} أي سلَّم أمره إلی الله {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا تعريض بهم لأنهم أشرکوا فليسوا علی ملة إبراهيم.

68- وهذا العلم علّمه الله لمجموعة فعليكم أن تتلقّوه منهم، ف {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَٰهِيمَ} أي أحقهم في أن ينسب إبراهيم إلی نفسه {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} في زمانه ومن بعده {وَهَٰذَا النَّبِيُّ} حيث ينصر إبراهيم (عليه السلام) بالحجة وهو علی ملته {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} بهذا النبي من المسلمين، {وَاللَّهُ وَلِيُّ} ناصر {الْمُؤْمِنِينَ} فلذا حجتهم تدحض حجتکم.

بحوث

الأول: الاحتجاج في بدايته کان في التوحيد بنفي ألوهية عيسی (عليه السلام) ونفي الشريك، وحصر الطاعة فيه تعالی ومن أمر بطاعته، ثم بعد ذلك ينتقل الاحتجاج إلی النبوة، المتمثلة في الشخصية المتفق عليها بين اليهود والنصاری والمسلمين، بل ومشرکي العرب أيضاً، وهو نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) ،

ص: 222

فکل طرف يريد إلصاق إبراهيم (عليه السلام) بنفسه، ليستنتج من ذلك أنه علی حق وغيره علی باطل.

ودحض حجتهم هو أن إبراهيم (عليه السلام) کان متقدماً علی شريعة موسی وعيسی (عليهماالسلام) فلم يكن تابعاً للشريعتين، وهذا أمر واضح وجلي يعرفه کل ذي مسکة، لذا قرّعهم الله تعالی بقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

فهنا يأتي السؤال فما کان دين إبراهيم؟

الجواب: الذي يتفق عليه أهل الکتاب والمسلمون:

فأولاً: إنه (عليه السلام) کان مائلاً عن باطل قومه إلی الحق الذي أوحاه الله إليه.

وثانياً: قد سلّم أمره إلی الله تعالی في کل شيء.

وثالثاً: لم يكن مشرکاً، فإن ولادة عزير وعيسی کانت من بعده، فکان اتخاذهما ابنين لله من بعد إبراهيم.

ويحتمل أن يکون قوله: {حَنِيفًا مُّسْلِمًا} ردّ لمزاعم أهل الکتاب، وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ردّ لمزاعم مشرکي مکة والعرب.

الثاني: قوله تعالی: {هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَٰجَجْتُمْ...} الآية.

{هَٰأَ} حرف تنبيه، و{أَنتُمْ} مبتدأ، وخبره إما {حَٰجَجْتُمْ...}، و{هَٰؤُلَاءِ} تأکيد، أو الخبر {هَٰؤُلَاءِ} بمعنی الذين، و{حَٰجَجْتُمْ} صلة.

والغرض التأکيد علی دحض حجتهم، وهو أسلوب متعارف حيث يبتدأ الکلام بتقريعهم علی ضحالة فکرهم وضعف حجتهم، ثم بيان سبب ذلك بأن يقال: نحن نقبل کلامکم الصحيح المنطلق من العلم، لکن لامعنی لقبول کلام منشؤه الجهل.

ص: 223

وقوله: {فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ} بيان لصحة بعض احتجاجاتهم التي يحتج بها بعضهم علی بعض، فاليهود ينفون ألوهية عيسی ويستدلون لذلك بحجج صحيحة منطلقها العلم، وکذا في نفي التثليث ونحو ذلك، کما أن النصاری يثبتون نبوة عيسی (عليه السلام) ومعاجزه وهم في ذلك علی حق وأدلتهم صحيحة، وکلا الطرفين - من اليهود والنصاری - يحتجون علی المشركين بأن إبراهيم (عليه السلام) لم يكن عابد صنم، ويثبتون معاجز الأنبياء السابقين، ومنطلقهم العلم، فکل ذلك حق يصدقه الإسلام لأنه لم يطاله التحريف.

لکن زعم أن إبراهيم (عليه السلام) کان علی دينهم! لم ينطلق من علم، بل من أهوائهم حيث أرادوا إثبات صحة دينهم بشخصية متفق عليها بين الطرفين وهو إبراهيم (عليه السلام) .

وقوله: {فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} أعم من جهلهم بدين إبراهيم (عليه السلام) ، أو ضلالهم وکذبهم عليه، فلعلّ جمع منهم کانوا لايعلمون بدينه لکن حبّهم لدينهم صار سبباً لأن ينسبوه إلی أنفسهم، وجمع آخر کانوا يعلمون بأنه لم يكن علی طريقتهم لکن افتروا عليه عناداً بغياً.

قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} کالمقدمة لبيان حقيقة دين إبراهيم (عليه السلام) وأن ما يقوله رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) إنما هو بوحي من الله تعالی، فإذا کان قولکم رجماً بالغيب، فما يقوله المسلمون إنما هو بعلم من الله سبحانه وتعالی، ثم الآية التالية تبين حقيقة دين إبراهيم بما لايمکنهم إنکاره، لأنهم يعترفون به أيضاً.

الثالث: قوله تعالی: {مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا...} الآية.

ص: 224

في البداية بيان دحض حجتهم في تبعية إبراهيم (عليه السلام) لهم، فکيف تحتجون بإبراهيم، فهو لم يكن علی شريعة موسی (عليه السلام) ولا شريعة عيسی (عليه السلام) لأن شريعتهما نزلت بعد إبراهيم (عليه السلام) ، فلم تکن شريعته ما نزلت في التوراة والانجيل کما بينته الآية 65، ثم إنه لم يكن علی الدين الذي حرّفه الأحبار والرهبان، فلم يكن يهودياً ولا نصرانياً، وهذا ما بينته هذه الآية، وفي مجمع البيان: نَزّه إبراهيم وبرّأه عن اليهودية والنصرانية، لأنهما صفة ذم، وهذا يدلّ علی أن موسی أيضاً لم يكن يهودياً، ولم يكن عيسی نصرانياً، فإن الدين عند الله الإسلام، واليهودية ملة منحرفة عن شرع موسی، والنصرانية ملة منحرفة عن شرع عيسی، فهما صفتا ذم جرتا علی فرقتين ضالتين(1).

وقوله: {وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا} قد مرّ أن الحَنَف هو الميل من الباطل إلی الحق، وليس المراد أنه کان علی باطل ثم مال إلی الحق، إذ الأنبياء منزهون عن الباطل في المعتقدات والأعمال في کل حياتهم، بل المراد ميله عن باطل قومه بعدم اتّباعه لهم أصلاً إلی الحق الذي أوحاه الله إليه.

وقوله: {مُّسْلِمًا} أي منقاداً لله تعالی، فليس المراد الشريعة التي نزلت علی رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، حتی يستشکل بأن هذه الشريعة أيضاً نزلت بعد إبراهيم (عليه السلام) ، بل کانت لإبراهيم (عليه السلام) شريعة خاصة ثم نُسخت بشريعة موسی (عليه السلام) ، وهذه نُسخت بشريعة عيسی (عليه السلام) ، والتي بدورها نُسخت بشريعة رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير {مُّسْلِمًا} قال: خالصاً، مخلصاً ليس فيه شيء من عبادة الأوثان»(2).

ص: 225


1- مجمع البيان 2: 476.
2- الکافي 2: 15.

فالإسلام يرتبط بالعقيدة ثم الخضوع بالعمل، وهو دين کل الأنبياء لأن دين الله واحد، وقد مرّ أن الدين يترکب من العقائد الحقة وهي غير قابلة للتغيير لأنها الحقيقة المطلقة، والأعمال الصالحة وهي لاتغير فيها لأنها أمور ذاتية عادة، والأخلاق الفاضلة وهي أيضاً حقائق واقعية، وإنّما اختلاف الشرائع في خصوص بعض جزئيات الأعمال أو في بعض مصاديق الکليّات، مثلاً عبادة الله تعالی حقيقة غير قابلة للتغير، لکن کيفية العبادة وشروطها وأجزائها تختلف من شريعة لأخری، بل في الشريعة الواحدة أيضاً، فالکلي متفق عليه والمصاديق متغيرة.

وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تعريض بهم علی أنهم ليسوا علی ملة إبراهيم، لأنهم أشرکوا عزيراً والمسيح بالله.

وقيل: هذا القيد توضيح ل {حَنِيفًا} حيث کانت تزعم العرب أنها علی الحنيفية التي هي وثنيتهم، فکان لابدّ من بيان أن الحنيفية المقصودة هي الحنيفية الواقعية لا المحرّقة التي وضعوا الإسم عليها زوراً وافتراءً.

والحاصل أن هذه أمور ثلاثة متفق عليها بين أهل الکتاب والمسلمين، بأن إبراهيم (عليه السلام) لم يكن تابعاً لباطل قومه، وأنه کان منقاداً لله تعالی في کل أموره، وأنه لم يكن يُألّه عزيراً ولا المسيح لعدم وجودهما حينذاك، فما دامت ملة إبراهيم هي هذه فلنتفق عليها نحن المسلمين وأنتم أهل الکتاب، وهي الکلمة السواء التي مرّت في الآية 64.

الرابع: قوله تعالی: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَٰهِيمَ...} الآية.

بعد بيان أن أهل الکتاب لايعلمون بدين إبراهيم، وأن الله يعلم، وبيان

ص: 226

حال إبراهيم من حَنَفه وإسلامه وعدم شرکه، يأتي بيان أن أهل الکتاب لايحق لهم انتحال إبراهيم (عليه السلام) ونسبته إلی أنفسهم، بل أقرب الناس إلی إبراهيم وأحقهم في أن ينسبوه إلی أنفسهم وينسبوا أنفسهم إليه صنفان:

1- الذين اتّبعوه في زمانه وما بعد زمانه، کالمؤمنين الذين آمنوا به وبشريعته، وکالأنبياء الذين جاؤوا من بعده وکانوا علی ملته حتی بعد نسخ شريعته کموسی وعيسی (عليهماالسلام) ، فهؤلاء اتّبعوه فهم أولی الناس به.

2- رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والذين آمنوا به، فإنه وإن لم يكن تابعاً لإبراهيم (عليه السلام) - لأنه أفضل منه ولايصحّ تبعية الأفضل للفاضل - إلاّ أنه (صلی الله عليه وآله وسلم) کان علی نفس الدين والمنهج الذي کان عليه إبراهيم (عليه السلام) .

ولايخفی أن رسول الله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) أفضل الخلق أجمعين، فهو أفضل من إبراهيم (عليه السلام) ، فلم يكن تابعاً له، إذ لاتصح التبعية إلاّ إذا کان المتبوع أفضل من التابع، ولذا لم يرد نص بتبعية الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لإبراهيم، بل تبعيته لملة إبراهيم، وهي دين الله الوحيد من آدم إلی أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإنما سُميت ملة إبراهيم لانتشارها عبر إبراهيم (عليه السلام) ، أو لاتفاق أهل الکتاب والمشركين والمسلمين عليه، قال تعالی: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ}(1)، ولذا صحّ اعتبار هذه الملة لسائر الأنبياء أيضاً کما قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَاءِي إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ}(2)، کما أن الله تعالی لم يأمر رسوله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) بالاقتداء بالأنبياء الماضين بل أمره بالاقتداء

ص: 227


1- سورة النحل، الآية: 123.
2- سورة يوسف، الآية: 38.

بهداهم الذي هو دين الله تعالی، فقال: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}(1)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «{مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} لايهودياً يصلّي إلی المغرب، ولا نصرانياً يصلّي إلی المشرق {وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا} يقول: کان علی دين محمد»(2)، والمقصود تطابق دينه مع دين رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لأن الدين واحد.

شريعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته

ثم إن الرسول محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) کان يعمل حسب الشريعة التي أوحاها الله إليه بعد بعثته، وأمّا قبل البعثة فقد کان نبيا - إذ خلقه الله نبيا قبل أن يخلق الخلق - لکنه لم يكن رسولاً إلی أن بعثه الله في الأربعين من عمره الشريف، وأما الشريعة التي کان يعمل بها قبل بعثته فلا شك في أنها کانت بوحي من الله تعالی، ولکن تحديد تلك الشريعة لم يرد فيه دليل، وقد رجّح العلامة المجلسي في مرآة العقول بأنه (صلی الله عليه وآله وسلم) کان يعمل بشريعة إبراهيم (عليه السلام) لابمعنی اتّباعه له، بل بمعنی أن الله کما أوحی تلك الشريعة علی إبراهيم (عليه السلام) کذلك أوحاها إلی النبيّ محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فهو في عرضه لافي طوله.

وقوله: {أَوْلَى} من الوَلْي والولاء بمعنی القرب، والمراد أحقهم بأن ينسب إبراهيم إلی نفسه، وينسبها إليه، أو الأولی في أن ينصر إبراهيم بالحجة ويبيّن عقيدته الصحيحة، إذ لاعلم لأهل الکتاب فلا أولوية لهم، وإنّما العالم بملة ابراهيم علماً مستنداً إلی الوحي والحقائق هو الذي له الأولوية.

وقوله: {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} اللام للتأکيد، والاتّباع بقبول شريعته وملته في

ص: 228


1- سورة الأنعام، الآية: 90.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 424-425؛ عن تفسير العياشي 1: 177.

زمانه، وباتّباعه علی ملته بعد نسخ شريعته.

وقوله: {وَهَٰذَا النَّبِيُّ} عطف علی (الذين اتبعوه)، أي نبي الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) في هذا الزمان هو أولی الناس بإبراهيم، لأنه نبي مثله والنبي أولی بالنبي من المنتحلين، فالآية کما بينت أصل الأولية کذلك بينت السبب، فأولئك باتّباعهم، والنبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لکونه نبيا مثله ولا تفرقة بين أنبياء الله ورسله.

وقوله: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي المسلمون لأنهم اتّبعوا ملة إبراهيم التی أوحاها الله إلی رسولهم محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} أي إن أوليتهم بإبراهيم (عليه السلام) لأن الجميع مشترکون في ولاية الله تعالی، وحيث إن الله وليهم جميعاً فبعضهم أولی ببعض، وکلّما کان الايمان أشد کانت الولاية آکد، ولذا کانت الإمامة في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأولاده (عليهم السلام) لأنهم أولی بإبراهيم من غيرهم لشدة إيمانهم وعدم ظلمهم طوال حياتهم، کما قال تعالی: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(1)، کما أنهم أقرب للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) رحماً فصاروا أولی بقوله تعالی: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(2).

ص: 229


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- سورة الأنفال، الآية: 75.

الآيات 69-74

اشارة

{وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُواْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}

من أعمال أهل الکتاب

من هنا تبدأ الآيات بذکر بعض أعمال أهل الکتاب، ثم تنزيه الأنبياء عن أفعالهم، ثم بيان مصيرهم، فمحاولتهم لإضلال الناس عن التوحيد (الآيات 69-71)، ثم إضلالهم عن النبوة (72-74)، ثم فسادهم عملاً (75-77)، ثم تحريفهم الکتاب (78)، ثم تنزيه الأنبياء عن تحريفهم (79-82)، ويعقب ذلك بيان دين الأنبياء ليتبين عدم ارتباط أهل الکتاب بهم عملاً (83-84)، وختاماً مصيرهم في الآخرة (85-91).

69- {وَدَّت} أحبت وأظهرت حبها مهتمّةً {طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} أحبارهم ورؤساؤهم {لَوْ} للتمنيّ أي تمنّوا {يُضِلُّونَكُمْ} عن دينکم بأن

ص: 230

ترجعوا کفاراً، {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} فعملهم زيادة في ضلالهم، لأن المُضِلّ ضالٌّ في نفسه وبالإضلال يزداد هو ضلالاً، أو بمعنی أنّ وبال الإضلال يرجع إليهم، {وَمَا يَشْعُرُونَ} تهکّم بهم وبيان إغلاقهم روافد الفهم عن أنفسهم.

70- ثم يقرّعهم الله تعالی علی ضلالهم وعلی إضلالهم، أما ضلالهم فقال: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ} دلائله وحججه في نبوة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وصحة ما نزل عليه {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} تلك الآيات أي تعلمون بها علماً يقينياً، وکذا ترونها بأعينکم.

71- وأما إضلالهم فقال: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ} لماذا تحرّفون وتُخفون، أما التحريف ف {تَلْبِسُونَ} تموّهون {الْحَقَّ بِالْبَٰطِلِ} فتصوّرون للناس الحق باطلاً، {وَ} أما الإخفاء ف {تَكْتُمُونَ الْحَقَّ} لئلا يتّبعه الناس {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق.

72- ومن طرق إضلالهم نصب المکائد للناس {وَ} منها: {قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي أظهروا الايمان بالإسلام کيداً {وَجْهَ النَّهَارِ} أي أوله {وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُۥ} آخر النهار، حتی تُظهروا أنفسکم بمظهر المنصف الذي يبحث عن الحق فلذا آمن صباحاً لکنه لمّا تبيّن له عدم صحته کفر عصراً!! أو آمنوا بما نزل أولاً مما يوافق معتقداتکم کالصلاة إلی بيت المقدس، واکفروا بما نزل آخراً مما يخالفها کالصلاة إلی الکعبة، وبهذه المکيدة {لَعَلَّهُمْ} لعلّ الذين آمنوا أي المسلمون {يَرْجِعُونَ} عن دينهم إلی الکفر.

ص: 231

73- {وَلَا تُؤْمِنُواْ} أي لاتصدّقوا {إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} من أهل الکتاب، أما الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والمسلمون فلا تصدّقوهم، {قُلْ} يا رسول الله في ردّهم، {إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ} فإذا أراد الله هداية أحد لم يضرّه کيدکم، فالهداية منه سبحانه.

وإنما لم يصدقوا غير أتباع ديانتهم حسداً وبغياً، مخافة {أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ} من غير بني إسرائيل {مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} من النبوة والکتاب، {أَوْ} مخافة أن {يُحَاجُّوكُمْ} يغلبوکم بالحجة {عِندَ رَبِّكُمْ} فيقولوا: إن هؤلاء کانوا يعلمون أن الإسلام حق ومع ذلك لم يتبعوه، فاکتموا ما تعرفونه من الحق عن هؤلاء لئلا تُؤخذوا بالحجة عند الله تعالی! زعماً منهم أنه تعالی لايعلم أسرارهم وما يُسِرّونه بين أنفسهم! {قُلْ} في جوابهم: {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} لذا هو القادر علی أن ينسخ شريعتکم وأن ينزل الکتاب علی غيرکم {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} ممن کانت له القابلية، {وَاللَّهُ وَٰسِعٌ} فضلاً فلا ينفذ فضله بالإعطاء لکم أو لغيرکم، {عَلِيمٌ} بمصالح الخلق لذا يعلم أين يجعل الرسالة، ويعلم بما في قلوبکم.

74- {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} فلا يمکنکم منعه عن إيتائها غيرکم، وهذا الاختصاص إنّما هو لحکمته تعالی، وليس لقلة الفضل أو العجز أو الجهل {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ففضله عظيم فلا يليق إلاّ بمن له قابلية لذلك.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}.

ص: 232

(الودّ) إظهار الحبّ الذي في القلب، کما مرّ، وفيه إشعار بالاهتمام بالأمر والسعي له، وعامة الناس لا اهتمام لهم بدين الناس، وإنّما الذي يهتّم به کبار کل قوم في الدين أو الدنيا، أما کبار الدين فلا يريدون صعود نجم الأديان الأخری، وأما کبار الدنيا فيخافون تزلزل عروشهم لو اتّبع الناس ديناً آخر، وهؤلاء هم الملأ من القوم - أي الذين يملؤون العيون برفعتهم وزينتهم وأتباعهم - وهم الذين کانوا ولازالوا يعارضون الأنبياء وأتباعهم، ولذا کثر ذم أئمة الکفر من الأحبار والرهبان والحکّام، فلذا قال تعالی: {وَدَّت طَّائِفَةٌ} أي مجموعة منهم، وهم هؤلاء، وقوله: {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} للتمني، أي أحبوا ذلك واهتموا به متمنين إضلالکم عن دينکم، برجوعکم کفاراً، بمختلف السبل ولو بالقتال قال تعالی: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَٰعُواْ}(1)، وذلك لحسدهم أولاً، ولخوفهم من غلبة دين الحق عليهم فتزول مصالحهم ثانياً.

الثاني: قوله تعالی: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.

وذلك لجهات:

1- إن المُضِل هو ضالّ في نفسه، وکلّما إزداد إضلالاً زاد ضلالاً وابتعاداً عن الحق وتمسکاً بضلاله، فکأنه لم يضلّ الغير - حتی لو استجاب له - بل أضلّ نفسه.

2- إن هؤلاء لم يتمکنوا من إضلال المسلمين، بل أضلوا أمثالهم من ضعاف أهل الکتاب، فمعنی {أَنفُسَهُمْ} أي أمثالهم

ص: 233


1- سورة البقرة، الآية: 217.

في الدين، أو أمثالهم في طينة سجين.

3- إن الحصر إضافي، وبيان عدم الاهتمام بشأن من ينخدع بهم فکأنه لاوجود له، بل هؤلاء مع علمهم نقصوا حظ أنفسهم باشتراء خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فکأنهم لم يضلوا أحداً إلا أنفسهم.

وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} هذا تحقير لهم وبيان قلة عقلهم، حيث يفعلون ما يضرّهم زاعمين أنه ينفعهم.

الثالث: قوله تعالی: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ}.

تقريع لهم بضلالهم وعدم قبولهم الحق مع وضوحه ومع علمهم علماً يقينياً به، فهي آيات لله، وهم يعلمون بها علماً کالمشاهدة.

وقيل: الکفر کفران: کفرٌ بالله وهو إنکار وجوده أو توحيده، وکفرٌ بآيات الله بإنکار شيء من المعارف الإلهية بعد ورود البيان.

والمراد هنا کفرهم بنبوة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) مع مشاهدتهم عياناً لمعاجزه وقرائتهم ماورد في کتبهم من أوصافه واسمه.

وتضمنت الآية بيان سببين لتقريعهم والإنکار عليهم، فهي آيات الله التي هي علائم ودلائل واضحة لاتخفی علی إنسان عادي فکيف بأهل الکتاب، کما أنهم يعلمون الحق ومع ذلك يكفرون به وهذا سبب آخر للتقريع، فالجاهل قد يکون معذوراً، لکن العالم غير معذور أبداً إذا خالف علمه.

الرابع: قوله تعالی: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَٰطِلِ...} الآية.

تقريع لهم علی إضلالهم الناس، فهم لم يكتفوا بضلالهم بل يكيدون

ص: 234

طرق الإضلال

لإضلال غيرهم، وطريق الإضلال ثلاثه أمور:

1- التمويه علی الحق، بإظهاره بصورة الباطل، عبر المغالطات والتحريف، کما فعلوه في تحريف کتبهم التي نطقت بصفة الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) واسمه وشريعته.

2- إخفاء الحق، بعدم إظهاره للناس وکتمانه، کما أخفوا القراطيس من التوراة والإنجيل الدالة علی نبوة محمّد (صلی الله عليه وآله وسلم) .

3- المکائد، وقد تضمنت الآية التالية نموذجاً منه.

قوله: {تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَٰطِلِ} من (اللَبس) بالفتح بمعنی التمويه الذي يوجب الاشتباه والخطأ، أو من (اللُبس) بالضم بمعنی إلباس الحق لباس الباطل لکي يزعم الناس أنه باطل، ومن ذلك زعم المعاجز أنها سحر، أو تحريف الکتاب في أوصاف النبي بأنه أشقر وأنه سيظهر بعد خسمائة سنة وأنه من بني إسرائيل وأمثال ذلك مما مرّ ذکره في سورة البقرة.

وقوله: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} فيما لم يمكن اللبس فيه، وذلك عبر إخفائه لئلا يصل إلی الناس.

وقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} بذلك الحق، وهذا بيان سبب لومهم وتقريعهم، کما مرّ في الآية السابقة، وقيل: الآية السابقة في عدم اهتدائهم بالآيات الواضحات من المعاجز ولذا أتمّها بقوله: {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ}، وهذه الآية في عدم اهتدائهم بما في کتبهم ولذا أتمّها بقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

الخامس: قوله تعالی: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ...} الآية.

بيان لنموذج من مکائدهم في إضلال الناس وصرفهم عن الحق، وهي

ص: 235

طريقة واحدة ولها مصداقان:

1- أن يأتوا إلی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ويعلنوا إسلامهم، ليظهر للناس أنهم منصفون لذا دخلوا في الإسلام وترکوا دينهم، ثم بعد فترة وجيزة يعلنون ارتدادهم لاکتشافهم أن الدين ليس بحق، فيموّهوا علی الناس أن المنصفين ترکوا الدين وأنه لو کان حقاً لما ترکه هؤلاء!! وبذلك يتمکنون من إضلال الناس بإرجاعهم عن الدين الحق.

2- أن يؤمنوا بما يتوافق مع دينهم، وأن يرفضوا ما خالفه، وبذلك يبيّنون للناس إنصافهم بطريقة أخری بأنهم يقبلون الحق حتی لوجاء من غيرهم ويرفضون ما سوی ذلك، وقد روي في شأن نزول الآية أن تغيير القبلة کان في صلاة الظهر، فقالوا آمنوا بالقبلة التي کانت في النصف الأول من اليوم باتجاه بيت المقدس، واکفروا بالقبلة التي جائت بعد ذلك في النصف الثاني باتجاه الکعبة(1).

ولا منافاة بين الأمرين، لأن شأن النزول لايخصص الآية، بل هي عامة في کيدهم ومن مصاديقه ذلك وغيره مما تنطبق الآية عليه.

وعلی الأول يکون {وَجْهَ النَّهَارِ} متعلق ب {ءَامَنُواْ}، و{ءَاخِرَهُۥ} ب {وَاكْفُرُواْ}، وعلی الثاني يکونان متعلقين ب {أُنزِلَ}.

وفي الآية تلميح بعلمهم بالحق ومع ذلك کانوا ينکرونه، حيث قال عنهم: {بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فهم يعترفون بأنه منزل من الله وليس مختلق، کما في قوله في آيات القبلة: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَيَعْلَمُونَ

ص: 236


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 427-428، عن تفسير القمي.

أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ}(1).

السادس: قوله تعالی: {وَلَا تُؤْمِنُواْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ...} الآية.

هذا من تتمة الآية السابقة، أي إيمانکم وجه النهار بما أنزل علی الذين آمنوا هو إيمان صوري لاتصديق فيه ولا إذعان بل يراد منه المکيدة ولذا ترتدون عنه آخر النهار، أو هو إيمان بما وافقکم لابما خالفکم، لکن تصديقکم وإذعانکم الحقيقي ليكن لمن هو علی دينکم من الأحبار والرهبان والحکّام، فقولهم: {وَلَا تُؤْمِنُواْ} بمعنی لاتصدّقوا ولذا تمت تعديته باللام فقال: {إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ}، فإن الإيمان إن عُدِّي بالباء کان بمعنی الإذعان، وإن عُدِّي باللام کان بمعنی التصديق، کما قال: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}(2).

وحيث إن غرضهم من هذه المکيدة ومن اللبس والکتمان هو إضلال الناس لذلك أجابهم الله تعالی بقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ} فمکيدتهم لاتمنع هداية من يريد الله هدايته، أو بيان أن إيمانهم وجه النهار خداعاً ليس إيمانَ هدايةٍ لأنه من النفس الأمارة بالسوء، بل إيمانُ الهداية هو من الله، لذا هو حق لاباطل فيه ولاکيد ولاخداع، وهذه الجملة أي {قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ} جملة معترضة في وسط کلامهم، استباقاً للجواب وتثبيتاً لقلوب المؤمنين، ثم بعد ذلك ترجع الآية إلی تتمة کلماتهم مع دحضها.

فقوله: {أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ...} وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ...} من تتمه کلامهم

ص: 237


1- سورة البقرة، الآية: 144.
2- سورة التوبة، الآية: 61.

حيث قالوا: {وَلَا تُؤْمِنُواْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} وعلّلوا ذلك بأمرين:

1- {أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} أي مخافة ذلك، فإنکم إن آمنتم بدين هؤلاء فقد أقررتم بأن الوحي نزل علی غيرکم، وأن لغيرکم النبوة أيضاً، فلذا أ ُکفروا به لتنحصر النبوة والکتاب فيكم!!

والجواب في قوله تعالی: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} أي إنکارکم لايغير من الواقع شيئاً، فسواء آمنتم أم کفرتم فقد آتی الله رسوله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) النبوة والکتاب کما آتی موسی وعيسی (عليهماالسلام) ذلك.

2- {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} أي مخافة ذلك، بمعنی أنکم إذا صدّقتم بنزول الوحي والکتاب علی غيرکم مع عدم اتّباعکم له، فقد أعطيتم لهؤلاء الحجة عليكم، ففي يوم القيامة يشهدون بأنکم خالفتم الحق مع علمکم به!!

والجواب في قوله: {وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} أي إن الله عليم بنواياکم، فسواء أقررتم أم أنکرتم فإنه سبحانه يعلم بذلك فيحاسبکم عليه يوم القيامة، قال سبحانه: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}(1).

السابع: قوله تعالی: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} إلی قوله: {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

تضمنت الآيتان - في معرض الردّ علی مزاعمهم - علی عدة من المعارف.

1- {الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} فإن النبوة وإنزال الکتاب فضل من الله وليسا حقاً

ص: 238


1- سورة البقرة، الآية: 76-77.

لأحد ليحصر ذلك الحق بنفسه، فکما آتی الله بني إسحق الحکم والنبوة فيما مضی، کذلك يؤتيها لبني إسماعيل ببعث نبي منهم.

2- {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} فلا تحديد لقدرته، ولا أنه في مشيئته تابع لأهواء هؤلاء، بل هو تعالی بحکمته ومشيئته يختار للنبوة من اصطفاه فکان قابلاً لها، قال سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُۥ}(1)،

وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2).

3- إنه {وَٰسِعٌ} ففضله عميم وقدرته غير محدودة بحدّ، فلا ينفذ فضله بإعطاء فضلٍ لأحد، وإنه {عَلِيمٌ} بأحوال عباده لذا يعلم بمن هو قابل لذلك الفضل ممن لم يكن قابلاً له، فصحيح أنه لاينقصه شيء بالفضل علی المخلوقات، لکنه عليم بمواقع ذلك الفضل بحکمته، فلذا لايفعل ما يخالف الحکمة.

4- ولذلك {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} ممن هو قابل لها، لا لعدم سعة الرحمة، بل لحکمته وعلمه، فإنه سبحانه {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} لذا لابد من إنزال هذا الفضل علی من يتحمّله ويکون قابلاً له، فقوله: {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} کالعلة لقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ}.

ص: 239


1- سورة الأنعام، الآية: 124.
2- سورة القصص، الآية: 68.

الآيات 75-77

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَٰئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي الْأخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}

75- وکفر هؤلاء بسبب حبّهم للدنيا وحبهم التفوّق علی غيرهم، ولذا تکثر فيهم الخيانة والتکبر، {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} بعضهم {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ} تجعله أميناً {بِقِنطَارٖ} المال الکثير ملء جلد ثور ذهباً ومجوهرات {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} يردّه عليك حين مطالبته، {وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٖ} وهو مال قليل {لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} بالإنکار أو المماطلة {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} تطالبه بشدة وعنف، {ذَٰلِكَ} أي فعل الطائفة الثانية بترك الأداء {بِأَنَّهُمْ} أي ناشٍ عن عنصريتهم وکذبهم علی الله، ف {قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ} الذين لاکتاب لهم والمقصود العرب {سَبِيلٌ} أي ليس لهم سبيل علينا في الشرع ولايتمکنون من مطالبتنا بحقهم يوم القيامة فهذا من عنصريتهم، {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بنسبة هذا الباطل إليه تعالی وهذا

ص: 240

من تحريفهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بأنهم يكذبون، فجريمتهم أعظم.

76- {بَلَىٰ} لهم عليكم سبيل، أو بلی لم يأذن الله في الخيانة بل أوجب أداء الأمانه، ف {مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ} عهد نفسه أو عهد الله ومنه أداء الأمانه {وَاتَّقَىٰ} المحرمات أو النار {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} يجازيهم بأحسن الجزاء.

77- ويقابلهم الخائنون ف {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} يستبدلون {بِعَهْدِ اللَّهِ} وهي أوامره ونواهيه {وَأَيْمَٰنِهِمْ} حيث أخذ الله ميثاقهم بتصديق رسوله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ونصره فحلفوا علی ذلك، فکان يجب عليهم الوفاء به لکنه استبدلوه بأن أخذوا بدله {ثَمَنًا قَلِيلًا} رئاسة ومالاً دنيوياً زائلاً {أُوْلَٰئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ} أي لانصيب لهم من الثواب {فِي الْأخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} بکلام يسرّهم کناية عن غضبه عليهم، {وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} کناية عن عدم شمول لطفه وإحسانه لهم، {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} بأن يطهرّهم من ذنوبهم بالمغفرة أو لايمدحهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ...} الآية.

الظاهر أن هذه الآيات بصدد بيان سبب کفرهم بآيات الله ولبسهم الحق بالباطل وکتمانهم الحق ومحاولتهم إضلال المؤمنين، مما هو مذکور في الآيات السابقة، والأسباب هي:

1- عنصريتهم واعتبارهم أنفسهم أعلی من غيرهم، ولذا لايراعون في غيرهم إلاًّ ولاذمة، ويزعمون أن الأحکام لهم دون غيرهم، وأثر ذلك هو أن يجوزوا سرقة أموال غيرهم بالخيانة أو غيرها.

ص: 241

ثم يفترون علی الله الکذب بنسبة هذه الأباطيل إليه وأنه هو الذي شرّعها!

2- طلبهم الدنيا برئاستها الزائلة وأکلتها، زعماً منهم أن قبولهم للحق يزيل متاع الدنيا عنهم.

لکن وبال ذلك يرجع إليهم فيخسروا الآخرة ويستحقوا اللعن الأبدي من الله تعالی.

ثم إن تصدير الآية بأمانة بعض أهل الکتاب، بيان للواقع حيث إن القليل منهم ذونفسية عالية ولذا آمن کعبدالله بن سلام، وتحريض للآخرين ليحذوا حذوهم، وأيضاً بيان کذب الطائفة الثانية، لأنه لو کانت خيانة غيرهم من دين الله فلماذا هذا البعض يؤدي الأمانة الکبيرة!! فهذا المقطع في الواقع کالمقدمة وکالعِلة لبيان الغرض الأصلي من هذه الآيات وهو خيانة الکثير منهم حيث خانوا الله فلا وازع لهم من خيانة الناس.

قوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} أي إلاّ مدة قيامك علی رأسه تطالبه بشدة بحيث يخافك ويضطر إلی أداء الأمانة، وفي الآية تلميح بعدم الاعتماد عليهم وأخذهم بالقوة لئلا يذهبوا بالحقوق کما قال تعالی: {حَتَّىٰ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٖ وَهُمْ صَٰغِرُونَ}(1)،

لأنهم بمجرد شعورهم بضعف الطرف الآخر ينقضون العهود والمواثيق، وإنّما يلتزمون بها لا بوازعٍ من دين أو ضمير وأخلاق بل خوفاً، وفي الآية تلميح بلزوم مراقبتهم مادام هناك حق عليهم أن يؤدّوه، وعدم الوثوق بهم.

الثاني: قوله تعالی: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا...} الآية.

ص: 242


1- سورة التوبة، الآية: 29.

أي سبب عدم أداء الأمانة هو الفرية علی الله تعالی بإباحة أموال غير أهل الکتاب، فکأنهم لم يعتبروهم بشراً فأباحوا أموالهم.

ولايخفی أن العقيدة هي أساس حرکة الإنسان في حياته، وعامة الأعمال تؤطِّرها العقيدة، ولذا کان ترکيز الأنبياء علی تصحيح عقائد الناس، ومن ذلك تنطلق الأعمال الصالحة، ومن سوء العقيدة تنشأ الأعمال الفاسدة، بل التطور والرقي والکمال أو التسافل والهوي ترتبط بالمنهج الفکري الذي يتبعه الإنسان، فإذا صحت العقيدة من کل الجهات صحّ العمل من کل الجهات، وإن صحت من جهة دون جهة تبعتها الأعمال أيضاً فتصح في الجهة المرتبطة بالصحيحة وتفسد في عکسها، وأما عصاة المسلمين فسبب عصيانهم ضعف عقيدتهم وعدم يقينهم قلباً وإن کانوا يقرّون لساناً.

وقوله: {فِي الْأُمِّيِّينَ} قد مرّ أن (الأمي) منسوب إلی «أم القری»، أو إلی «الأم» وهو الذي لم يتعلّم عند أحد، وهذا الوصف وصف عامة العرب، فهم لم يتعلّموا عند أحد، فلم يکونوا يعرفون القراءة والکتابة، وأما الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلم يتعلم عند أحد فهو أمي، لکنه کان يعرف القراءة والکتابة بالإعجاز بتعليم من الله تعالی.

وقوله: {سَبِيلٌ} أي لاسلطة لهم شرعية علينا فلذا لايتمکنون من مطالبتنا في الآخرة بحقهم.

وقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} أي للتغطيه علی خيانتهم وتبريراً لمقولتهم ينسبونها إلی الله تعالی، فکأن خيانتهم قد أمر الله بها!! نظير المشركين، قال تعالی: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ

ص: 243

أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(1).

ثم لعل قوله: {وَيَقُولُونَ}، بالواو لا بالفاء «فيقولون» لتعميم حالتهم في الکذب علی الله تعالی، فيکون المعنی هم يخونون الناس في أموالهم، ويخونون الله في الکذب عليه سبحانه.

الثالث: قوله تعالی: {بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ...} الآية.

{بَلَىٰ} نفي لما قبله وإثبات لما بعده، أي بلی يوجد سبيل عليكم، فيحاسبکم الله تعالی يوم القيامة علی خيانتکم الأمانات، وکذا في الدنيا، فعليكم الوفاء بعهدکم مع الناس بأداء الأمانه، والوفاء بعهد الله بالتقوی، وحينئذٍ لاسبيل عليكم، کما قال تعالی: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٖ}(2).

وقوله: {بِعَهْدِهِ} أي بعهد نفسه مع الناس ومنه أداء أمانتهم، وأمّا الوفاء بعهد الله فقد قال عنه {وَاتَّقَىٰ}، أو يقال: الوفاء بالعهد أداء الواجب، والتقوی ترك الحرام، وحينئذٍ يصح إرجاع ضمير {بِعَهْدِهِ} إلی الله أي وفى بعهد الله الذي منه أداء أمانة الناس.

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي فإن الله يحبه، وجعل المتقين موضع الضمير للإشارة إلی علة حبّ الله تعالی له وهو تقواه، فليس المِلاك العِرق أو القومية أو النسب بل المِلاک هو التقوی، کما قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(3).

ص: 244


1- سورة الأعراف، الآية: 28.
2- سورة التوبة، الآية: 91.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.

و(حب الله) بمعنی ثوابه، لأنه سبحانه ليس محلاً للحوادث ولا کيف له، بل يُثيب المتقي وذلك حبّه، ويُعاقب العاصي وذلك غضبه.

ثم إن نوعية هذا الثواب تظهر من المقابلة مع الصنف الآخر کما سيأتي في الآية التالية، فهؤلاء لهم نصيب في الآخرة من ثواب الله والجنة، ويكلّمهم الله بما يسرّهم، وينظر إليهم نظرة رحيمة، ويزکيهم بتطهيرهم من الذنوب بالغفران وبمضاعفة أعمالهم، ولهم ثواب عظيم.

الرابع: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ...} الآية.

هذا تفصيل لما ذکره تعالی في قوله: {بَلَىٰ} أي بلی يوجد عليكم سبيل، مع بيان سبب السبيل، وهو مخالفة عهد الله وتبديله بمتاع قليل من الحياة الدنيا، وعدم الوفاء بالعهد، وأمّا تفصيل السبيل فهو:

1- لاخلاق - أي لانصيب - لهم في ثواب الآخرة.

2- لايكلّمهم الله بکلام يسرّهم، وهذا کناية عن غضبه عليهم، بل الکلام الذي يسمعونه تقريع وذم، قال: {قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}(1).

3- ولاينظر إليهم، کناية عن عدم إنزال رحمته عليهم.

4- ولايزکيهم، من الزکاة إمّا بمعنی الطهارة، فالمعنی لايغفر لهم ذنوبهم ليطهروا منها، وإمّا بمعنی النمو أي لايضاعف أعمالهم الحسنة بل يحبطها ويجعلها هباءً منثوراً.

5- ولهم عذاب أليم في النار.

فهذه خمس عقوبات لهم، الأول والثالث بعدم الثواب من الجنة والرحمة،

ص: 245


1- سورة المؤمنون، الآية: 108.

والثاني بعدم قربهم وعدم احترامهم لذا لايكلمهم بما يسرهم، والرابع بعدم الغفران لهم، والخامس بعذاب النار، والحاصل لاقرب لهم ولاثواب ولاغفران بل لهم العذاب، وقد مرّ بعض التفصيل في سورة البقرة، الآية 174 فراجع.

وقوله: {وَأَيْمَٰنِهِمْ} جمع يمين، بمعنی القَسَم والحلف، حيث أقسموا بالله لنصرة رسوله والإيمان به، أو عامة أيمانهم ثم حنثوا اليمين وعادوا الرسول، قال تعالی: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}(1).

ثم إن قوله: {فِي الْأخِرَةِ} في العقوبة الأولی، وقوله: {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} في العقوبة الثانية والثالثة، ولم يذکر قيد في العقوبة الرابعة والخامسة، ولعل ذلک لأنهم طلبوا ثمناً في الدنيا فقابله بأنه لانصيب لهم في الآخرة، ثم بيان حالهم في يوم القيامة بعدم کلام الله معهم وبعدم نظره إليهم لأن رحمته في الآخرة خاصة بالمؤمنين عکس رحمات الدنيا، ثم بيان حالهم في الدنيا والآخرة بعدم تزکيتهم وبأنهم في عذاب أليم، فالله لايثني عليهم بل يذمهم في کتابه، ولا يغفر لهم ذنوبهم فيعاقبهم في الدنيا والآخرة، ثم إن إعراضهم عن العهد والايمان يسبب صعوبة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، کما قال: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}(2)، وقال: {قَٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}(3).

ص: 246


1- سورة آل عمران، الآية: 187.
2- سورة التوبة، الآية: 55.
3- سورة التوبة، الآية: 14.

الآيات 78-80

اشارة

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُۥنَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَٰبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَٰئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80)}

78- ومن جرائم هؤلاء هو تحريف الکتاب ليغطوا علی باطلهم وعدم اتّباعهم الحق {وَإِنَّ مِنْهُمْ} من أهل الکتاب {لَفَرِيقًا} من الأحبار والرؤساء {يَلْوُۥنَ} من لَوی يلوي بمعنی الفتل والميل {أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَٰبِ} أي بقراءة الکتاب، والمراد يحرفون الکتاب ثم يقرؤون المحرف، فوصف اللسان باللوي وصف باعتبار المتعلّق، قيل: لعلّهم کانوا يقرؤونه باللحن الخاص بقرائة الکتاب، {لِتَحْسَبُوهُ} لتظنوه {مِنَ الْكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَٰبِ} أي والحال أنه ليس من الکتاب، ثم هؤلاء لايكتفون بالقرائة بل {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} فيصرحون بذلك الافتراء تأکيداً، {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} ردّ عليهم وزيادة تشنيع، {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في مضمون ما حرّفوه وفي نسبته إلی الله تعالی {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بأنه کذب.

ص: 247

79- وکما کذبوا علی الله تعالی کذلك کذبوا علی أنبيائه فزعموا أن الشرك نزل في الکتاب ودعت إليه الأنبياء، ولکن کذبوا ف {مَا كَانَ} لايحق بل ولا يمکن {لِبَشَرٍ} مخلوق {أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ} أي الحکمة أو الشريعة أو السلطة {وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي} اعبدوني {مِن دُونِ اللَّهِ} فهذا ليس من حق البشر النبي، ولا يمکن ذلك لأن الله يصطفي للنبوة والکتاب والحکم، ومن اصطفاه الله يستحيل أن يدعو الناس إلی عبادة نفسه، {وَلَٰكِن} اللازم علی هذا البشر النبي والذي ينبغي له أن يقول: {كُونُواْ رَبَّٰنِيِّينَ} الرباني هو المنسوب إلی الرب بمعنی شديد الاختصاص به وذلك بشدة عبادته {بِمَا} أي بسبب أنکم {كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَٰبَ} لغيرکم فالمعلّم ينبغي أن يکون أول عامل بما يعلّمه {وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} أي تتعلمون الکتاب وتکررون قراءته، فالعالم المعلّم هو الذي يعلم بأنه لاتجوز عبادة غير الله.

80- {وَلَا} يکون لهذا البشر النبي أن {يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَٰئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} جمع رب، فلا يدعو لعبادة نفسه، ولا يدعو لعبادة الملائکة أو أنبياء آخرين، بل يدعو لعبادة الله الواحد الأحد {أَيَأْمُرُكُم} استفهام إنکاری أي هل يمکن أن يأمرکم هذا البشر النبي {بِالْكُفْرِ} عبر الإشراك في العبادة {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} منقادون لله تعالی بالإخلاص في عبادته؟!

تحريف أهل الکتاب للتوراة

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُۥنَ أَلْسِنَتَهُم...} الآية.

بعد بيان لبسهم الحق بالباطل وکتمانهم الحق، ومحاولة خداعهم

ص: 248

للمؤمنين، وخيانتهم لله وللناس، يأتي بيان جريمة أخری هي تحريفهم للکتاب تغطية علی أفعالهم وتبريراً لتبديلهم عهد الله تعالی، وهذه من أکبر الجرائم، لأنها تلاعب بعقائد الناس وإضلالهم وتعدي علی کتاب الله تعالی، وقد شنّع الله تعالی عليهم لعظم الجريمة وتحذيراً للناس من الاغترار بهم وبأمثالهم، ثم بيان الدليل العقلي علی بطلان المطالب التي أدخلوها في الکتاب، وفي ذلك حث وتحريض لاستعمال العقول فيما ينسب إلی الله تعالی من أمور، إذ الله جعل العقل حجة باطنة، فکل کلام يخالف العقل باطل، فنسبته إليه تعالی زور وافتراء، ولذا کثرت الآيات المادحة للعقل والعقلاء والتعبير عنهم بأولي الألباب، و(اللب) هو العقل الخالص عن شوائب الأوهام والتقليد الأعمی، وليس الحجة المغالطات والأوهام التي يسيمها البعض عقلاً، بل (اللب) الخاص، کما هو واضح، قال تعالی: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(1)،

وقال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(2)، وقال: {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}(3)، وقال: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(4)، وقال: {ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(5)، وقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6)، وغيرها آيات کثيرة، ففي هذه الآية (78) يبين الله تعالی تحريفهم للکتاب، ثم في

ص: 249


1- سورة البقرة، الآية: 44.
2- سورة البقرة، الآية: 73.
3- سورة آل عمران، الآية: 118.
4- سورة الملك، الآية: 10.
5- سورة الجاثية، الآية: 5.
6- سورة الزمر، الآية: 9.

الآية التالية (79) بيان الوجه العقلي لبطلان ما أفتروه علی الله تعالی.

قوله: {لَفَرِيقًا} هم الأحبار والرهبان والرؤساء الذين کانت التوراة والأنجيل بيدهم.

وقوله: {يَلْوُۥنَ} من لوی يلوي ليّاً، يقال: لَوی يده أي طواها وفتلها، وفي التقريب: کما أن لَيّ الشيء يخرجه عن الاستقامة - بالزيادة في جانب والنقيصة في جانب آخر - کذلك ليّ اللسان بالکتاب(1)، وفي کيفية ليّ ألسنتهم وجهان:

1- أنهم کانوا يقرؤون المحرّف بلحن قراءة الکتاب - بالترتيل والتجويد مثلاً - فيظن الجاهل أنه من الکتاب، ثم بعد ذلك کانوا يصرحون بأنه منه.

2- أو الليّ باعتبار المتعلَّق، أي کانوا يحرّفون الکتاب ثم يقرؤون هذا المحرّف علی أنه من الکتاب، فلم يكن طوياً للّسان بل طوياً للمقروء، وصحّ نسبة الليّ إلی اللسان مجازاً باعتبار المتعلَّق کما يقال: جری الميزاب، أي جری الماء في الميزاب.

وقوله: {بِالْكِتَٰبِ} قيل: کرر الکتاب ثلاث مرات من غير إرجاع الضمير في الثانية والثالثة، لأن الکتاب الأول أريد به المحرّف، والثاني أريد به الکتاب الحق، وأما الثالث فهو الکتاب الحق لکن لم يرجع الضمير إليه لئلا يتوهم رجوعه إلی الأول.

ويمکن أن يکون الإظهار وعدم استعمال الضمير لأجل أهمية الموضوع، وأن المحور هو الکتاب حيث حرفوه وأرادوا أن يلبسوا عليكم

ص: 250


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 359 (بتصرّف).

تحريفهم فيه، مع أنه ليس منه، وحيث کان المحور الکتاب مع أهميته البالغة لذا تمّ التصريح به في کل الموارد من دون إضمار.

الدليل العقلي علی بطلان تحريفهم

قوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} أي لم يكتفوا بقراءة المحرّف فقط، بل زادوا علی افترائهم کذباً بأن صرّحوا بأنه نازل من عند الله تعالی.

ثم يردّهم الله تعالی بأنه ليس نازلاً من عند الله بل هؤلاء يكذبون متعمدين، والرد يتضمن أمرين:

أولاً: هذا المحرّف ليس من عند الله، وهذا يتعلّق بالکلام المحرّف.

وثانياً: تکذيبهم في ادّعائهم، بأنه لم يكن خطأً غير مقصود، بل کذب متعمد عن قصد، وهذا يتعلّق بهم، والحاصل لاالمحرّف من عند الله، ولا هؤلاء مخطئون بل متعمدون للکذب.

الثاني: قوله تعالی: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ...} الآية.

هذا کالدليل العقلي علی بطلان تحريفاتهم وما نسبوه زوراً وبهتاناً للأنبياء (عليهم السلام) وتنزيه لهم عن هذه الأقاويل.

فإن من أعظم إفتراءاتهم هو الشرك بالله تعالی مع نسبته إلی الکتاب وإلی الأنبياء (عليهم السلام) ، والبرهان يتضمن أمور:

1- إن الأنبياء بشر، ولايعقل ألوهية البشر، فأيّ فرق بينه وبين سائر الناس في الجانب البشري؟ فهو لم يكن ثم کان، وتعرض عليه الحالات البشرية من النمو في الرحم ثم الولادة طفلاً، ثم النمو التدريجي، مع الحاجة إلی الطعام والشراب، وعروض الحالات البشرية من المرض والصحة، والکهولة والشيخوخة... الخ، فهو يحتاج إلی کل هذه الأمور کغيره من الناس،

ص: 251

فکيف يعقل أن يکون إلهاً، مع أن الإله هو الغني المطلق الذي لايحتاج إلی شيء لافي وجوده فهو قديم أزلي أبدي، ولا في صفاته ولا في أفعاله!!

ولئن کانت للأنبياء والأوصياء معاجز وکرامات وکانوا أفضل الناس، فإن ذلك بسبب اصطفاء الله تعالی لهم وإذنه لهم في تلك المعاجز والکرامات، وذلك لايخرجهم عن حدّ البشرية، کما قال تعالی: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}(1)، والحاصل أن الترکيبية الجسدية بشرية لذا لايعقل کونهم آلهة، نعم اصطفاهم الله فهم أفضل من سائر البشر في کل الجهات وقد مرّ تفصيل التفاضل في سورة البقرة فراجع.

2- إن الله حکيم فلا يختار لحمل الکتاب والحکم والنبوة إلاّ من هو لائق لها وذلك باصطفائه، فلا يعقل أن يدعي هذا الشخص أمراً غير معقول من کونه إلهاً فيدعو الناس إلی عبادته!!

3- إن نفس إيتاء الکتاب والحکم والنبوة سبب للعلم ولارتقاء النفس إلی أقصی درجات الکمال، فلا يعقل حينئذٍ التسافل إلی درجه إدّعاء الشرك.

4- إن الله يختار الأنبياء لهداية الناس لا لإضلالهم، فهل يعقل أن يختار الکاذب؟!

5- إن الذين يدّعون الشرك لأنفسهم ويدعون إليه، هم أناس يبحثون عن مصالح مادية زائلة ورئاسة فانية، أما الأنبياء فقد آتاهم الله أعلی الدرجات والفضائل من الکتاب والحکم والنبوة، فأية حاجة لهم إلی

ص: 252


1- سورة الکهف، الآية: 110.

الدعوة إلی عبادة أنفسهم؟ بل إيتاء هذه الثلاثة سبب لرفع درجاتهم زيادة علی الاصطفاء.

والحاصل أن بين امتلاك هذه الصفات الثلاث وبين الدعوة إلی الکفر تباين وتنافي، فلا يعقل الجمع بينهما أبداً، وعليه فقوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ...} ليس في مقام النهي التشريعي أي يحرم عليه ذلك، بل في مقام استحالة ذلك فهو إخبار عن عدم تحققه أبداً.

وقوله: {أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَٰبَ} أي ينزل عليه الکتاب، فدرجة تلقي الوحي درجة عظيمة لاينالها إلاّ من اصطفاه الله تعالی فبلغ أقصی درجات الکمال والمعرفة والعبودية لله.

وقوله: {وَالْحُكْمَ} أي الحکمة أو الشريعة أو الفصل بين الناس ومن کان حکيماً عالماً صالحاً للفصل بين الناس يمتنع عليه إدّعاء الباطل في أهم الأمور.

وقوله: {وَالنُّبُوَّةَ} هي منصب إلهي تحتاج إلی نفسية عاليه رفيعة بالعلم والعمل والعبودية لله تعالی.

وقوله: {مِن دُونِ اللَّهِ} سواء بتخصيص العبادة بنفسه، أو إشراك نفسه مع الله في العبادة، وذلك لأن عبادة المشرك ليست عبادة لله تعالی، لأنه سبحانه لايقبل هذه العبادة، وهي تبعّد عن الله ولا تقرّب إليه، فلا فرق بين تخصيص العبادة لغير الله أو عبادة غير الله معه، فکلاهما عبادة من دون الله سبحانه.

وبعبارة أخری: عبادة غير الله مع الله تجعل العبادة باطلة غير مقبوله ولا

ص: 253

مقرّبة فصارت عبادة من دون الله.

وبعبارة ثالثة: عبادة من له شريك ليست عبادة لله بل هي عبادة لما توهّمه في ذهنه.

الثالث: قوله تعالی: {وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّينَ...} الآية.

أي لکن کانوا يقولون للناس {كُونُواْ رَبَّٰنِيِّينَ}، وفي (الرباني) احتمالان:

1- منسوب إلی (الرب)، والألف والنون من زيادة النسبة، کما يقال: جسماني وروحاني نسبة إلی الجسم والروح - إن صحّت - .

2- منسوب إلی (ربّان)(1)

مثل عطشان، بمعنی التدبير والإصلاح، وفي مجمع البيان: يقال: رَبَّ فلان أمره ربابة وهو ربّان، إذا دبّره وأصلحه(2)، ولذا يقال لقائد السفينة الربّان باعتبار تدبيره لأمرها.

والمعنی علی الأول: کونوا منسوبين إلی الرب تعالی، بشدة الاختصاص به، وذلك يستلزم الکمال في العلم والعمل، ومنه إرشاد الناس إلی التوحيد وعبادة الإله الواحد الأحد الفرد.

والمعنی علی الثاني: کونوا مصلحين بالدعوة إلی التوحيد، لامفسدين بالدعوة إلی الشرك.

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} بيان لسبب کونهم ربانيين، وذلك السبب هو التعليم والتعلّم، والمعنی أن کونکم علماء يقتضي أن

ص: 254


1- مفردات الراغب: 336.
2- مجمع البيان 2: 495.

تکونوا ربانيين، کما قال تعالی: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1).

قيل: تکرار {كُنتُمْ} لافادة کفاية کل واحد منهما.

وقوله: {تَدْرُسُونَ} بمعنی تکرار القراءة، وأصل الکلمة من التعهّد للشيء إلی أن يمحی أو يبلي، يقال درست الديار إذا خربت فبقي أثرها، ودرس الثوب إذا بلي، وتکرار قراءة الکتاب سبب لدروسه وانمحائه.

والحاصل: إن معلّم الکتاب العالم به لابد أن يکون ربانياً يدعو إلی التوحيد.

وفي هذا المقطع دعوة إلی تعليم الکتاب وتعلّمه، لئلا يخدع الإنسان بما يقوله الأحبار والرهبان، وکذا المسلمون لابد أن يتعلّموا القرآن ويعلّموه لئلا يخدعهم أصحاب الأهواء الباطلة، فلذا صرّح الفقهاء بوجوب معرفة الدليل علی أصول العقائد وعدم صحة التقليد فيها، وإنّما التقليد في الأحکام ولابد أن يکون المقلَّد فقيهاً عادلاً.

الرابع: قوله تعالی: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَٰئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ...} الآية.

{لَا يَأْمُرَكُمْ} عطف علی {أَن يُؤْتِيَهُ} أي: وما کان لبشر أن يأمرکم باتخاذ الملائکة والنبيين أرباباً من دون الله.

أو عطف علی {يَقُولَ لِلنَّاسِ} و{لَا} للتأکيد، أي ما کان لبشر أن يقول للناس کونوا عباداً لي، ولا أن يأمرکم باتخاد أرباب آخرين، فالمعنی النبي لايدعو لعبادة نفسه، کما لايدعو لعبادة سائر المخلوقات من الملائکة والأنبياء، فلا تجوز عبادة روح القدس لأنه ملك مخلوق هو جبرئيل (عليه السلام) ،

ص: 255


1- سورة فاطر، الآية: 28.

ولا تجوز عبادة عيسی (عليه السلام) لأنه مخلوق، ولم يدعُ لعبادة نفسه، ولا دعا إلی عبادته نبي آخر کيحيی (عليه السلام) ومحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، نعم البعض حرفوا الکتاب ونسبوا إلی عيسی (عليه السلام) أنه دعا لعبادته، أو دعا إلی عبادة روح القدس، أو أنبياء آخرون دعوا إلی عبادته، وکل ذلك افتراء وبهتان.

الخامس: قوله تعالی: {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}.

هذا استنکار لما نسبوه إلی الأنبياء، مع بيان سبب الإنکار، وهو أن عبادة غير الله کفر، فکيف يدعو إليه الأنبياء بعد دعوتهم إلی الانقياد لله الواحد الأحد؟!!

وقوله: {أَيَأْمُرُكُم} أي البشر الذي آتاه الله الکتاب والحکم والنبوة.

وقوله: {مُّسْلِمُونَ} بمعنی منقادون إلی الله تعالی، فالنبي دعاکم إليه فآمنتم بالله، وهذه مهمة النبي، فکيف يتراجع عنها ويدعوکم إلی الکفر؟! وفي التبيين: فإن قول الأنبياء للناس: آمنوا، يسبّب إسلامهم، فکيف يقولون لهم أ ُکفروا؟!(1)

ص: 256


1- تبيين القرآن: 71.

الآيتان 81-82

اشارة

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكْمَةٖ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُۥ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ الشَّٰهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ (82)}

81- بعد ذکر التوحيد يأتي ذکر النبوة - التي هي الأصل الآخر من أصول الدين - ، فالمحرّفون من أهل الکتاب کما حرّفوا في التوحيد کذلك فرّقوا بين الرُسل، فخالفوا بذلك العهد الذي أخذه منهم أنبيائهم {وَإِذْ} أي أذکر الوقت الذي {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ النَّبِيِّينَ} أخذه منهم ومن أممهم بواسطتهم، و«الميثاق» العهد الأکيد {لَمَا} «اللام» لتوطئة القسم، و«ما» شرطية، أي أَخَذ ميثاقهم إذا {ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكْمَةٖ} «من» بيانية، {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} من بعدکم {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} من الکتاب والحکمة، لأن أنبياء الله تعالی يصدّق بعضهم بعضاً وهذا من علائم صدق النبي اللاحق، {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} وهذا جزاء الشرط، فالمعنی إذا أنزلت عليكم الکتاب والحکمة ثم جاء رسول من بعدکم يلزم عليكم الإيمان بهذا الرسول، {وَلَتَنصُرُنَّهُۥ} وذلك ببشارة أمتکم به ودعوتکم إياهم لتصديقه، {قَالَ} الله تأکيداً للميثاق: {ءَأَقْرَرْتُمْ} أي هل اعترفتم أيها الأنبياء؟ {وَ} هل {أَخَذْتُمْ} من أممکم {عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ} الايمان والنصر {إِصْرِي} عهدي الأکيد والشديد؟

ص: 257

{قَالُواْ} الأنبياء: {أَقْرَرْنَا} نحن الأنبياء، {قَالَ} الله: {فَاشْهَدُواْ} علی أممکم بأنکم بلّغتموهم، فمنهم من أقرّ، ومنهم من أنکر، {وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّٰهِدِينَ} علی أممکم، أو عليكم وعلی أممکم.

82- {فَمَن تَوَلَّىٰ} أعرض عن الإيمان بالرسول وعن نصره {بَعْدَ ذَٰلِكَ} أي أخذ الإصر {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ} الخارجون عن طاعة الله، بنقضهم العهد ومخالفة الإصر.

بحوث

الأول: نظم الآيات: هو أن الآيات السابقة (79-80) کانت حول مسائل التوحيد وتحريفهم الکتاب بإدخال الناس في الشرك، واتخاد الابن لله سبحانه، مع أن الأنبياء لم يدعوا ذلك أصلاً، بل کانوا يَدعُون الناس إلی أن يکونوا ربانيين عبر تعلّم وتعليم الکتاب.

حول مسائل النبوة

ثم بعد ذلك يأتي الکلام حول مسائل النبوة (الآيات 81-84) وأن الأنبياء السابقين أخذوا العهد من أممهم في الإيمان برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وبنصره، أو بعامة الرسل من بعدهم ومنهم الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فکانت البشارة به في التوراة والإنجيل کما قال تعالی: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ...} الآية(1)، لکن المحرّفون حرّفوا الکتاب، وکذّبوا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأنکروا بشائر الأنبياء السابقين، لکن المؤمنون لايبالون بتحريفاتهم فآمنوا بدين الله وبتوحيده وبأنبيائه أجمع من غير تفريق بينهم.

ص: 258


1- سورة الأعراف، الآية: 157.

ثم بعد ذلك يأتي الکلام حول مسائل المعاد (الآيات 85-91) وسيأتي تفصيلها.

الثاني: قوله تعالی: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ النَّبِيِّينَ}.

بيان أن الأنبياء يصدّق بعضهم بعضاً، فالسابق يبشّر باللاحق ويدعو أمتّه إلی الإيمان به وبنصره، واللاحق يصدّق السابق في نبوته وکتابه وحکمته، وذلك لأن الله هو الذي اصطفاهم ونبّأهم وأرسلهم ليبلّغوا دينه، ودين الله واحد هو الانقياد التام والتسليم لله تعالی، فالعقيدة واحدة وأصول الشريعة لااختلاف فيها والأخلاق الفاضلة لاتغير فيها، وقد مرّ تفصيل هذا.

وعليه فلا اختلاف بين الأنبياء، فمرسلهم واحد ورسالتهم واحدة وکل واحد منهم يكمّل الآخرين في الدعوة، فلذا أخذ الله ميثاق السابق بالإقرار باللاحق، وأخذ ميثاق اللاحق بتصديق السابق.

أما هذه الآية فالظاهر أن المقصود منها هو بشارة الأنبياء السابقين برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولذا قال: {رَسُولٌ}، ولم يقل: (رسل)، ولذا غيّر التعبير من {النَّبِيِّينَ} إلی {رَسُولٌ} ولم يقل (نبي).

وکأنّ هذا الميثاق وعد بشرط، أي اشترط نبوتهم بالإيمان برسوله وبنصره، وأما زمان هذا الميثاق فقد ذُکر في بعض الروايات بأنّه کان في عالم الذر، ثم تکرّر الميثاق في هذا العالم، وعليه فما ذکرته بعض الروايات(1) من کون الميثاق في عالم الذر ليس مجرد تأويل للآية، بل بيان زمان هذا الميثاق، بل ظاهر هذه الآية أن أخذ الميثاق کان مرتين کما

ص: 259


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 436، عن تفسير العياشي.

سيأتي بيانه.

الثالث: قوله تعالی: {لَمَا ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكْمَةٖ ثُمَّ جَاءَكُمْ...} الآية.

الظاهر أن اللام في {لَمَا} لتوطئة القَسَم، باعتبار أن أخذ الميثاق کالقسم، کقولك: «لئن فعلت کذا لأکرمنّك»، و(ما) اسمية شرطية، فالمعنی إذا اعطيتکم الکتاب والحکمة ثم جاء بعدکم رسول فعليكم أن تؤمنوا به وتنصرونه.

وهناك أقوال أخری في ترکيب العبارة، راجعها في کتب التفسير، والأظهر هو ما ذکرناه.

شرط النبوة

والمراد هو اشتراط نبوتهم بالايمان بالرسول وبنصره، وذلك لأن الله لايختار للنبوة إلاّ من اصطفاه ثم أخذ الميثاق منه، وبعبارة أخری: للنبوة شرطان:

1- غير اختياري بأن يصطفيه الله تعالی لتکون له القابلية لتلقي الوحي والقيام بأعباء النبوة.

2- اختياري بأن يأخذ الميثاق منه، ومن الميثاق الايمان بالرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ونصره.

قوله: {ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكْمَةٖ} متعلّق بالميثاق، أي الميثاق هو إتيانکم النبوة مقابل إيمانکم بالرسول ونصره، ولعل هذا التعبير عن النبوة لأجل بيان أهمية الکتاب والحکمة بحيث کانا رکنين في النبوة، وليکون مقدمة لقوله: {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ}، فإن تصديقه بهما علامة رسالته، کما أن إتيانهم الکتاب والحکمة سبب للإيمان به ونصره، لعلمهم برسالته وحکمتهم، والحکمة تقتضي وضع الشيء في موضعه، ومنه الإيمان به

ص: 260

ونصرته إذ هما من الحکمة.

و{مِّن} في قوله: {مِّن كِتَٰبٖ وَحِكْمَةٖ} إمّا بيانية فالمعنی الکتاب الذي نزل علی بعضهم وبقي بيد الآخرين منهم، أو تبعيضية فالمعنی آتيت بعضکم الکتاب وبعضکم الحکمة، إذ الکتب السماوية قليلة وهي مائة وأربعة حسب مايظهر من بعض الروايات نزلت علی القليل من الأنبياء، لکنها کانت نبراساً للأنبياء الذين من بعدهم.

وقوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ...} أي جاء بعدکم، أو باعتبار أممهم، فإن الميثاق أخذه الله من الأنبياء، ومن أممهم بواسطتهم، فالمجموع من الأنبياء والأمم أخذ ميثاقهم، وتلك الأمم بقيت إلی زمان الرسول، فصحّ خطاب الأنبياء بقوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ} باعتبار أممهم.

وقوله: {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} أي ما معکم من کتاب وحکمة، وتصديقه بمعنی بيانه لصحة تلك الکتب، وباعتبار أن الکتب بشرت به، فمجيئه تصديق عملاً بما أخبرت به الکتب، وقد مرّ تفصيله.

الرابع: قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُۥ...} الآية.

هذا جواب الشرط في {لَمَا ءَاتَيْتُكُم}، أو جواب القسم، سدّ أحدهما مسد الآخر، و{لَتُؤْمِنُنَّ} بمعنی الاعتقاد بنبوته، و{لَتَنصُرُنَّهُۥ} أمّا الأنبياء فنصرهم له هو بشارتهم به وأمر أممهم باتبّاعه إذا ظهر، وأمّا أمم الأنبياء المعاصرون للرسول فبنصره باليد واللسان وسائر وسائل النصر، وقد وردت روايات في تأويل الآية بالرجعة حيث يرجع الأنبياء فينصرونه عملاً(1).

ص: 261


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 433-437.

وفي جملة من الروايات بيان أنه نصر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (1)

وهي من التفسير بالمصداق، لأن نصر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) هو إعانته في دين الله، ومن الدين الولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ونصره علی إقامة الدين وعلی أعدائه، وبعبارة أخری: نصر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في وصيه أمير المؤمنين (عليه السلام) .

وقوله: {ءَأَقْرَرْتُمْ} أي هل اعترفتم بذلك؟ والاستفهام تقريري، أي عليكم أن تُقِرّوا، وقوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي} أي هل أخذتم العهد من أممکم علی ذلك؟ إذ أقر الأنبياء أولاً ثم أخذوا العهد من أممهم علی ذلك، والإصر هو العهد... الشديد، وأصل الکلمة بمعنی الثقل لأن العهد ثقيل وشديد، أو من الإصار وهو الخيط أو الحبل الذي يشدّ ويعقد به الکيس ونحوه، فيکون کناية عن إحکام الميثاق.

قوله: {قَالُواْ أَقْرَرْنَا} أي اعترفنا بنبوته وبوجوب نصره، والمراد أن الأنبياء عاهدوا الله عليه، ثم وفوا بذلك العهد.

وقوله: {قَالَ فَاشْهَدُواْ} أي علی أممکم بأنکم بلّغتموهم وجوب الإيمان بالرسول ونصره.

وقوله: {وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ الشَّٰهِدِينَ} علی أممکم، والمراد أنهم شهداء علی أممهم ماداموا فيهم، وبعدهم فالشهيد عليهم الله تعالی، کما في قول عيسی (عليه السلام) : {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ}(2).

ص: 262


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 433-437.
2- سورة المائدة، الآية: 117.

والحاصل: إن الأنبياء (عليهم السلام) أقرّوا، ثم بلّغوا، وهم شهداء علی أممهم يوم القيامة کما أن الله تعالی شهيد عليهم، ففي قوله: {قَالَ فَاشْهَدُواْ} إيجاز بليغ، أي قالوا: أخذنا الإصر، فقال: إشهدوا عليهم.

الخامس: قوله تعالی: {فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ}.

أي من أعرض عن الإيمان بالرسول ونصره بعد أخذ الإصر، فهو فاسق خارج عن طاعة الله، ولعلّ التعبير بالفسق دون الکفر، لأن التولي والإعراض قد يکون عن الإيمان بالرسول فهو کفر، وقد يکون عن نصره مع الإيمان به فهو ليس بکفر لکنه من أکبر الکبائر، فقوله: {هُمُ الْفَٰسِقُونَ} جامع لهما، لأن أصل الفسق هو الخروج عن الطاعة، فتارة: خروج إلی الکفر، وأخری: إلی الضلال، وثالثة: إلی المعصية، وهذه الآية هي المقصودة من الآية السابقة في سياق الکلام، لأن المقصود إعراض أهل الکتاب عن التوحيد وعن النبوة، کما مرّ توضيحه في البحث الأول ولذا لم تذکر الآية من لم يُعرِض، لأنه ليس المقصود الأصلي، ولوضوح شأنه من بيان شأن مقابله الذي هو المُعرِض.

ص: 263

الآيات 83-85

اشارة

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُۥ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ (85)}

83- ثم أنکر الله عليهم توليهم {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} يطلبون بإعراضهم مع أنه دين الفطرة، {وَلَهُۥ أَسْلَمَ} خضع تکويناً وقلباً {مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ} من الملائکة {وَالْأَرْضِ} من الجن والإنس وغيرهم {طَوْعًا} برغبة {وَكَرْهًا} بغير رغبة، فالکل يقرّ قلباً بالتوحيد بفطرته وإن عاند البعض فکفر، {وَإِلَيْهِ} إلی حکمه حين الموت ويوم القيامة {يُرْجَعُونَ} فيحاسبهم علی دينهم وأعمالهم، فحيث إن الفطرة تدل عليه تعالی والمرجع إليه للجزاء فکان حريّاً بهؤلاء أن يطلبوا دينه لاغير دينه.

84- وعکس هؤلاء المؤمنون ف {قُلْ} يا رسول الله مُخبراً عن نفسك ومُعلِّماً أمتك: {ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} من القرآن وسائر الأحکام: وکذلك آمنّا بجميع الأنبياء وکتبهم {وَ} منها الصحف وهي {مَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} أولاد يعقوب وذريتهم،

ص: 264

فصحف إبراهيم (عليه السلام) أنزلت علی هؤلاء وکانت شريعتهم عليها إلی زمان موسی (عليه السلام) ، {وَ} منها {مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ} التوراة، {وَعِيسَىٰ} الانجيل {وَالنَّبِيُّونَ} أي ما أنزل علی سائر النبيين کآدم وإدريس ونوح (عليهم السلام) ، وسائر ما أوحاه الله إلی الأنبياء من غير الکتب {مِن رَّبِّهِمْ} أي ما أنزل عليهم من ربّهم، {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ} بل نؤمن بجميعهم، ولا کالنصاری الذين کفروا بمحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولا کاليهود الذين کفروا به وبعيسی (عليه السلام) ، {وَنَحْنُ لَهُۥ} لله {مُسْلِمُونَ} مخلصون في أعمالنا.

85- {وَمَن يَبْتَغِ} يطلب {غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ} غير التوحيد والانقياد لله {دِينًا فَلَن يُقْبَلَ} دينه {مِنْهُ} في الدنيا إذ هو کافر لا دين له، وحيث کان مبتدعاً ضربت بدعته في وجهه، {وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ} خسر نفسه بإهلاکها بالعذاب الأبدي.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ...} الآية.

الهمزة استفهام إنکاري، والفاء عطف الجملة علی الجملة، أي من تولّی فطلب ديناً غير دين الله، أو أولئك هم الفاسقون فيطلبون ديناً آخر فخرجوا عن طاعة الله فطلبوا غير دينه.

ثم إنه تعالی بين وجه الإنکار عليهم:

فأولاً: إنه دين الله العالم الحکيم، فما سواه جهل وجهالة.

وثانياً: إن التکوين کلّه بيد الله فالجميع خاضع له تعالی تکويناً فکيف يکون التشريع لغيره؟ وأن الفطرة تدل علی هذا الدين فکيف خالفوا فطرتهم؟

ص: 265

وثالثاً: إن المرجع إليه فيعاقب المخالف، فکيف لم يخافوا عقابه؟

1- قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} بيان أن ما طلبوه ليس من الله تعالی، فکان الحريّ بهم أن يتبعوا دين الله، ومن المعلوم أنه الحق الذي بعده الضلال، وذلك لعلمه وحکمته ورحمته وبِّره بخلقه، فهل العاقل يترك الحق المطلق إلی الضلال المطلق الذي صنعته الأهواء والجهالات.

خضوع المخلوقات لله تعالی

2- قوله: {وَلَهُۥ أَسْلَمَ...} أي خضع تکويناً وقلباً ولساناً، فلهذا المقطع ثلاثة مصاديق:

المصداق الأول: الخضوع التکويني، وهو بيان هيمنة الله تعالی علی الوجود بأسره، فهو الجبار الذي يقهر الکون بقدرته وحسبما يريد بحکمته، فإذا کان الخلق والتکوين من الله فالتشريع أيضاً منه، ولا معنی لأن يکون الخلق منه والتشريع من غيره، وقد مرّ تفصيله في الآية السادسة من هذه السورة، وبعبارة أخری: إن الله خلق هذا الکون وهو عالم بکل تفاصيله وبما يصلحه وما يفسده وهو حکيم بارٌّ بعباده لذا من لطفه أنزل عليهم ديناً ينسجم مع تکوينهم فلابد لهم من الإيمان والعمل به، کما أنه يقدّر ما يشاء لعباده من صحة ومرض وفقر وغنی... الخ.

المصداق الثاني: الخضوع القلبي وهو بيان أن الفطرة تدل علی دينه، فإن التوحيد في فطرة کل ذوي العقول - سواء کانوا من أهل السماء أم من أهل الأرض - ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية أنه قال: «هي توحيدهم لله عز وجل»(1)، حيث رکب الله الفطرة علی الناس جميعاً في عالم الذر،

ص: 266


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 438-440، عن توحيد الشيخ الصدوق وتفسير العياشي.

ولايخفی أن هذا أيضاً نوع خضوع تکويني له تعالی، إذ لايمکن للإنسان تغيير فطرته أبداً.

المصداق الثالث: الخضوع باللسان، وهذا خاص بالبعض فالملائکة أقروا کلّهم طوعاً، والناس منهم من أقرّ طوعاً، ومنهم من أقر نفاقاً أو خوفاً من السيف، والمصداق الأتم هو بعد ظهور الإمام المهدي حتی لايبقی في المشارق والمغارب أحدٌ إلاّ وحّد الله تعالی، ولاتبقی أرض إلاّ نودي فيها بشهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، وکل ذلك مروي(1)، ويحتمل أن يکون هذا المصداق من تأويل الآية، فتأمل.

3- قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أي إلی حکمه وثوابه وعقابه، عند الموت وفي القيامة، فکيف لايخاف هؤلاء عقابه باتخاذهم ديناً غير دينه؟!!

الثاني: قوله تعالی: {طَوْعًا وَكَرْهًا}.

(الطوع) أي برغبة، و(الکره) أي بغير رغبة، حيث إنهم خاضعون لله تعالی تکويناً شاؤوا أم أبوا، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث حول عالم الذر، أنه قال: «ثم إن الله تبارك وتعالی نادی في أصحاب اليمين وأصحاب الشمال: ألست بربکم؟ فقال أصحاب اليمين: بلی يا ربنا نحن بريّتك وخلقك مقرّين طائعين، وقال أصحاب الشمال: بلی يا ربنا نحن بريّتك وخلقک کارهين، وذلك قول الله: {وَلَهُۥ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، قال: توحيدهم لله»(2).

ص: 267


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 439-441.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 438، عن تفسير العياشي.

ثم إن عدم الرغبة في شيء قد يکون بسبب الخوف کقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُۥ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ}(1).

وأما الإکراه فمرجعه إلی الخوف أيضاً بأن يعمل أو يقول الإنسان مالا يريد تحت وطئة التهديد أو التعذيب، ولم يشرّع هذا النوع من الإکراه لأجل الدخول في الإسلام، وقد مرّ تفصيله في قوله تعالی: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(2).

الثالث: قوله تعالی: {قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا...} الآية.

الآية 81 دلت علی وجوب الإيمان بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبيان إعراضهم وتوليهم، وهذه الآية تبين وجوب الايمان بجميع الأنبياء وجميع ما أنزله الله تعالی عليهم، لأن الرسالات واحدة ولا تفرقة بين الرسل، حيث إن الله تعالی اختارهم لهداية الناس، وهذا هو مقتضی بشارة الأنبياء بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فهم (عليهم السلام) بشروا به وهو (صلی الله عليه وآله وسلم) صدّق ما معهم.

کما أن الآية تدل علی عدم الاعتناء بشأن المعاندين، فلئن اختاروا غير دين الله فعليكم أن تختاروه غير مهتمين بهم، کما قال تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(3).

قوله: {قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ} أي قل مخبراً عن نفسك ومعلّماً لأمتك ولذا جاء

ص: 268


1- سورة غافر، الآية: 83-84.
2- سورة البقرة، الآية: 256.
3- سورة المائدة، الآية: 105.

{قُلْ} بالإفراد، و{ءَامَنَّا} بالجمع، أو قل عن نفسك وعن أمتك، والايمان بالله هو أصل العقيدة والذي يبتني عليه سائر العقائد.

وقوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} هي صحف إبراهيم (عليه السلام) حيث نزلت عليه، وکانت کتاب ذريته وفيها شريعته، فهي أنزلت علی إبراهيم مباشرة، وعلی ذريته بواسطته، کما أن القرآن نزل علی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلی أمته بواسطته، لذا قال تعالی: {أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ}(1). وقال: {نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ}(2)،

وقال: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَٰبِ}(3).

وقوله: {وَالْأَسْبَاطِ} هم أولاد يعقوب، وذريتهم، حيث کانت صحف إبراهيم (عليه السلام) کتابهم، وعليه لاحاجة إلی تفسير الأسباط بالأنبياء منهم ومن ذريتهم، لما ذکرنا أن الصحف نزلت عليهم بواسطة إبراهيم (عليه السلام) ، نعم لو حملنا {أُنزِلَ} علی الوحي صحّ التخصيص.

قوله: {وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} تعميم بعد ذکر خصوص القران والصحف والتوراة والإنجيل، وهي سائر کتب الأنبياء، وقد مرّ أن الکتب التي نزلت مائة وأربعة، منها ما نزلت علی آدم، ونوح، وإدريس، وداود، إضافة إلی التوراة والإنجيل والقرآن.

وتخصيص المذکورات بالذکر، لأن إيمان المؤمنين متوقف علی

ص: 269


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة النساء، الآية: 140.
3- سورة البقرة، الآية: 231.

إيمانهم بالقرآن ولذا قدّمه في الذکر، ثم إن ما أنزل علی إبراهيم (عليه السلام) وذريته وکذا ما أنزل علی موسی (عليه السلام) محل اتفاق اليهود والنصاری والمسلمين، وأما ما أنزل علی عيسی (عليه السلام) فهو محل اتفاق بين النصاری والمسلمين، وحيث إن المحاجة مع أهل الکتاب کان لابدّ من ذکر هذه الکتب والأنبياء الذين نزلت عليهم.

وقوله: {وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ} الظاهر - بقرينة المقابلة مع الإيمان بالله والإيمان بالأنبياء وکتبهم - أن المراد هنا: الإسلام العملي أي تبعية الأحکام الشرعية، فالإيمان في الاعتقادات، والإسلام بمعنی الخضوع والانقياد للأحکام التي شرّعها الله تعالی.

الرابع: قوله تعالی: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا...} الآية.

بعد بيان أن الإسلام هو دين الله تعالی وأن أهل الکتاب أعرضوا عن دينه سبحانه، يأتی بيان بطلان دينهم ورجوع وباله وضرره عليهم، فالإسلام - الذي هو التوحيد والإيمان بالرسل وبما نزل عليهم والانقياد العملي - هو الحق، الذي لايکون بعده إلاّ الضلال والانحراف، فلا ينفعهم ضلالهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأعمالهم تکون هباءً منثوراً.

قوله: {فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} تکويناً وتشريعاً:

أما تکويناً: فلأنه مبتدع ضال، فهو أولی ببدعته، فلا صلاحية لدينه وعمله لکي يقبل، قال تعالی: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ}(1).

وأما تشريعاً: فيجري عليه أحکام الکفار، لا أحکام المسلمين، فمجرد

ص: 270


1- سورة فاطر، الآية: 10.

انتحال اتّباع موسی أو عيسی (عليهماالسلام) لاينفع بعد شرکه وبعد تکذيبه رسول الله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ} حيث خسر نفسه بإهلاکها في جهنم أبداً، فعدم القبول هو في الدنيا، والخسران في الآخرة، ويمکن أن يکون عدم القبول بمعنی عدم الثواب بل يکون عمله هباءً منثوراً والخسران بمعنی العذاب، فکلاهما في الآخرة، أو عدم القبول في الدنيا والآخرة، والخسران في الآخرة.

ص: 271

الآيات 86-91

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ (86) أُوْلَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَٰئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ (91)}

بعد ذکر انحراف أهل الکتاب عن التوحيد وعن النبوة يتم بيان ما يرتبط بجزائهم في المعاد مع بيان سبب عذابهم.

86- {كَيْفَ} استفهام إنکاري للاستبعاد وبيان عدم الإمکان {يَهْدِي اللَّهُ} يلطف اللطف الخاص الموجب للهداية {قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ} فآمنوا بموسی أو عيسی (عليهماالسلام) ثم کفروا برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أو آمنوا به قبل بعثته ثم کفروا بها بعدها، {وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ} محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) {حَقٌّ} من عند الله تعالی، فکانوا يصرحون بذلك قبل البعثة إذ وجدوه مکتوباً عندهم في التوراة والانجيل، {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ} الدلائل الواضحة،

ص: 272

کالقرآن، والمعاجز، ثم بيّن الله تعالی سبب عدم هدايتهم بقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} إذ هم معاندون فما داموا ظالمين لايهديهم الله تعالی بالهداية الخاصة الموجبة للوصول إلی المطلوب وأما الهداية العامة بمعنی إراءة الطريق فهي حاصلة للجميع لتتم الحجة عليهم.

87- ثم أخبر الله تعالی عن مصير هؤلاء فقال: {أُوْلَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ} علی کفرهم وعنادهم وظلمهم {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ} بإبعادهم عن رحمته، {وَالْمَلَٰئِكَةِ وَالنَّاسِ} بالدعاء عليهم بأن يطردهم الله من رحمته، {أَجْمَعِينَ} کل الناس إمّا في الآخرة، أو بمعنی براءة کل الناس منهم قلباً في الدنيا، أو المراد من الناس المؤمنون.

88- {خَٰلِدِينَ فِيهَا} في تلك اللعنة التي تستوجب أشدّ العذاب لهم، {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} بأن يُقلّل، {وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} أي لايمهلون للتوبة، أو لاينظرون بعين رحيمة نظر لطف ورحمة، أو لايتقطع عنهم العذاب بل هو مستمر.

89- ثم إن الله تعالی يفسح المجال لهم لرجوعهم عن غيهم فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ} الکفر بأن آمنوا {وَأَصْلَحُواْ} ضمائرهم بأن لم يكن إيمان عن نفاق أو خدعة {فَإِنَّ اللَّهَ} يهديهم، إذ هو {غَفُورٌ} بقبول التوبة، {رَّحِيمٌ} بعدم مؤاخذتهم بسيئاتهم.

90- أما الذين لم يتوبوا ولم يصلحوا فهم صنفان: الصنف الأول: المرتدون ف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا} بإصرارهم وعنادهم فتمکّن الکفر من صدورهم {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لأنها توبة صورية کاذبة

ص: 273

لم تنطلق من قلوبهم، أو في لحظة الاحتضار عند المعاينة، أو بعد موتهم، لأن للتوبة شروطاً من أخلّ بها لم تقبل منه، {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} وهذا سبب عدم قبول توبتهم، إذ لو صدقوا في توبتهم لکانوا مهتدين لاضالين.

91- الصنف الثاني: الکفار الأصليون الذين لم يؤمنوا قط، ف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} بلا توبة فهؤلاء لاتقبل منهم فدية يوم القيامة ولا لهم من ينصرهم، أما الفدية {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم} أيِّ واحدٍ منهم {مِّلْءُ} أي المقدار الذي يملأ {الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ} فلا تنفعه في دفع العذاب عنه {أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وأمّا النصر فليس لهم شفعاء ولايتمکن شرکاؤهم من نصرهم {وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ}.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ...} الآية.

کأنه جواب عن سؤال هو لماذا الله لايهدي هؤلاء إلی دينه؟

والجواب: أن الهداية إمّا عامة، بمعنی بيان الحقائق للناس، والاختيار بيدهم إن شاؤوا آمنوا وإن شاؤوا کفروا، کما قال تعالی: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ}(1)،

وهذه الهداية حاصلة لهؤلاء لذلك في البداية آمنوا وشهدوا بحقانية الرسول وجاءتهم البينات.

وإمّا هداية خاصة، بمعنی اللطف الخاص الخفي الموجب للتوفيق لاتّباع الحق، وهذه الهداية لابد أن تجد محلاً قابلاً، وإلاّ لزم وضعها في غير

ص: 274


1- سورة فصلت، الآية: 17.

موضعها وهو خلاف الحکمة، وبعبارة أخری - کما قيل -: إن اللطف الخاص بمن يعلم الله بعدم انتفاعه به لغو، والله يتعالی عن ذلك علواً کبيراً.

وإنّما فقدوا القابلية بسبب ظلمهم، فإذا غيّروا ما بأنفسهم من ظلم غيّر الله أحوالهم باللطف الخاص، کما قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1)، فلا يغيّر الله ما بهم من عدم هداية إلاّ إذا غيّروا ما بأنفسهم من الظلم.

وقيل: أي کيف يهديهم إلی طريق الإيمان مع أنه أراه لهم وقد ترکوه، فهل يجبرهم ويكرههم علی الهداية؟ وذلك خلاف الحکمة، وبعبارة أخری: إن طريق الهداية منحصر فيما بيّنه الله تعالی فلا طريق غيره، فکيف يهديهم إلی الإيمان وقد ترکوه؟!

وقوله: {كَيْفَ} ليس لمجرد استبعاد، بل بيان استحالة ذلك في حکمته تعالی، فالله تعالی علی کل شيء قدير، لکنه حکيم لايفعل اللغو وکلّ ما يخالف الحکمة.

وقوله: {كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ} سياق الآية في أهل الکتاب، لکن حکمها عام فتشمل غيرهم من المنافقين والمرتدين وسائر الکفار، فإن شأن النزول لايخصص مدلول الآيات غالباً، فالمعنی إن هؤلاء آمنوا بموسی (عليه السلام) أو آمنوا به وبعيسی (عليه السلام) لکنهم بعد ذلك کفروا برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أو المعنی إن هؤلاء کانوا يؤمنون برسول الله قبل البعثة بل کانوا ينتظرونه لکنهم کفروا به بعد البعثة، کما قال تعالی: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى

ص: 275


1- سورة الرعد، الآية: 11.

الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}(1)، حسداً وبغياً، لأنه لم يكن منهم.

وقوله: {وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} عطف علی معنی إيمانهم، أي آمنوا وشهدوا، وهذه الشهادة إما شهادة تحمّل بمعنی علمهم بها حيث وجدوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مکتوباً عندهم في کتبهم، أو شهادة أداء، حيث کانوا يصرحون بذلك قبل البعثة.

وقوله: {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ} أي الأدلة الواضحة، کالقرآن وسائر معجزات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

ولعل ذکر هذين الأمرين - الشهادة ومجيء البينات - لبيان شدة عنادهم، وإلاّ فکل واحد منهما يكفي في قبول الحق وعدم الکفر، أو الشهادة من أحبارهم الذين کانوا يقرؤون الکتاب، ومجيء البينات لعامتهم من الذين لم يکونوا يعلمون الکتاب إلاّ أماني، فلئن کتم الأحبار ما في الکتاب لم يخفَ الحق عليهم لرؤيتهم البينات، ولکن مع ذلك عاندوا الحق.

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} بيان لعلة عدم هدايته تعالی إياهم، فهؤلاء تعمدوا الضلال فظلموا أنفسهم وظلموا أتباعهم وظلموا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فما داموا علی الظلم لاهداية خاصة لهم، نعم لو رجعوا عن ظلمهم لهداهم الله تعالی لزوال سبب عدم الهداية.

الثاني: قوله تعالی: {أُوْلَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ...} الآية.

کأنّ هذا إخبار بأن جزاء هؤلاء هو الإبعاد عن رحمة الله تعالی، فالمعنی

ص: 276


1- سورة البقرة، الآية: 89.

إن الله لايهديهم أولاً لظلمهم، ونتيجة ذلك هو طردهم من الرحمة بحيث يخلدون في العذاب من غير تخفيف ولا إمهال أو رحم ثانياً.

وأما لعن الله لهم: فبمعنی الإبعاد والطرد عن الرحمة، وهذا الطرد هو سبب لعذابهم الدائم، أو إن اللعنة هي نفس العذاب - لا أنها سبب له - لکن للعذاب درجات، فاللعن في الدنيا بمنع اللطف والتوفيق، وفي الآخرة بجهنّم والنار، والأول أقرب.

وأما لعن الملائکة والناس: فهو بمعنی دعائهم عليهم بأن يطردهم الله من رحمته، وإنّما يلعنونهم لأجل البراءة منهم وبيان عدم الرضا بفعلتهم، ولتقديس الله سبحانه والتقرب إليه، کما لو تمرّد أحد العبيد علی مولاه فيتبرأ منه سائر العبيد لبيان خضوعهم للمولی وعدم رضاهم بذلك التمرد، مضافاً إلی ما في اللعن من تثبيت النفس علی الطاعة، وقد مرّ بحث اللعن في المجلد الأول فراجع.

وقوله: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} في الدنيا والآخرة، وأما في الآخرة فالجميع يلعن ويتبرأ من الظالمين حتی بعضهم من بعض کما قال تعالی: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٖ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا}(1)، وأما في الدنيا فقيل: إن المراد من الناس المؤمنون، وقيل: هو لعن بالفطرة أي کل إنسان بفطرته يتنفّر من الظالمين - وإن أخطأ في المصداق - ، أو هو بمعنی استحقاقهم اللعن من جميع الناس، أو هو خبر بقصد الإنشاء أي يجب علی الناس أجمعين لعنهم.

ص: 277


1- سورة العنکبوت، الآية: 25.

الثالث: قوله تعالی: {خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ...}.

أي خالدين في اللعنة - التي هي العذاب أو سبب للعذاب - ، فهنا أمور ثلاثة:

1- الخلود في اللعن والعذاب.

2- عدم تخفيف العذاب عنهم.

3- عدم إمهالهم للتوبة، أو عدم تأخير العذاب عنهم.

لأن سبب العذاب مستمر وهو عتوّهم وظلمهم، فهؤلاء وإن ندموا لمّا رأوا العذاب لکن لم يتغير ذاتهم ولانواياهم، قال تعالی: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(1).

وقوله: {وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} إما بمعنی عدم الإمهال للتوبة، کما قال تعالی: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٖ قَرِيبٖ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٖ}(2).

أو بمعنی الإمهال في العذاب بأن يرفع عنهم أحياناً، فيکون التخفيف في مقداره، والإمهال في زمانه.

أو بمعنی عدم رحمهم أي لاينظر إليهم بعين رحيمة، فيکون تأکيداً

ص: 278


1- سورة الأنعام، الآية: 27-28.
2- سورة إبراهيم، الآية: 44.

لعدم التخفيف، أو التخفيف في شدته والإنظار في أصله بمعنی رفعه نهائياً.

الرابع: قوله تعالی: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ...} الآية.

هذا لفسح المجال لهم ليعودوا عن غيهم، لئلا يکون يأسهم من روح الله سبباً لاستمرارهم علی کفرهم، فإن للعناد أسباب، وهي وإن کانت مستمرة عادة إلاّ أنه يمکن زوالها فيزول العناد، فيکون ذلك باعثاً لترك الظلم وسبباً لوجود قابلية الهداية فحينئذٍ يلطف الله تعالی به اللطف الخاص فيتوب ويصلح، وهذا صعب تحققه عادة، إلاّ أن الأمر لايخلو من أشخاص يکونون هکذا.

وقوله: {وَأَصْلَحُواْ} أي کانت توبتهم حقيقية منطلقة من صلاح ضمائرهم، أو أصلحوا أعمالهم بحيث کشف ذلك عن صلاح ضمائرهم، وهذا لاينافي قبول توبة من تاب حقيقة ثم مات قبل أن يعمل شيئاً، وذلك لأن المراد صيرورته بکيفية لاتکون أعماله بعدها إلاّ صالحة، وبعبارة أخری: لو صدرت منه أعمال کانت أعمالاً صالحة، والمعنيان قريبان لأن صلاح الضمير يلازم صلاح العمل، کالعکس.

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بيان لعلة قبوله للتوبة عن إصلاح إذ هو تعالی غفور يستر ذنوبهم، ورحيم فلا يؤاخذهم بها، فهو ذوالفضل العميم، مع أنه لامحذور عقلاً في عدم قبول التوبة وفي عقاب المذنب حتی لو تاب وندم.

الخامس: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ...} الآية.

هذا وما بعده تصنيف للکفار إلی صنفين، فمنهم من ارتد فمات علی الکفر، ومنهم من بقي علی کفره الأصلي إلی حين موته، فهذه الآية تبين عاقبة الصنف الأول، والآية التالية تبين عاقبة الصنف الثاني.

ص: 279

فالصنف الأول: الذين ارتدوا بعد إيمانهم ثم أصرّوا علی الکفر إلی أن استحکم الکفر في أنفسهم، فهؤلاء ضالون غير قابلين للهداية، لذا يستمرون في کفرهم، حتی إذا اضطروا إلی الرجوع إلی الإسلام، أو أملته لهم مصالحهم، فهؤلاء قد يرجعون إلی الإسلام بشکل ظاهري مع تجذّر الکفر في قلوبهم، فيدخلون في زمرة المنافقين، فلا تکون توبتهم مقبولة لأنها لم تکن مع إصلاح ضمائرهم ولا إصلاح أعمالهم.

فقوله: {ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا} بمعنی تمکّن الکفر في صدورهم، ومن مصاديقه اليهود الذين کفروا بعيسی (عليه السلام) ثم ازدادوا کفراً بکفرهم برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وکذا المرتدون الذين کفروا بعد إسلامهم ثم ازدادوا کفراً بصدّهم عن سبيل الله وبنقض العهد وبکفرهم بکل آية جديدة.

وقوله: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لأن للتوبة شروطاً من أخلّ بها لم تقبل، منها: الندم علی ما فعل، والعزم علی عدم العود، وإصلاح ما أفسده کأداء حقوق الناس وحقوق الله، والاستغفار باللسان، وهؤلاء بازديادهم الکفر وبضلالهم لم يتوبوا توبة حقيقية، بل صورية سببها المصلحة ونحوها، وقيل: المراد التوبة حين الاحتضار والمعاينة أو التوبة بعد الموت فکلاهما غير مقبولتين کما قال تعالی: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(1).

وقوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} أي ضلوا عن طريق الهداية، فلايهديهم الله

ص: 280


1- سورة النساء، الآية: 18.

تعالی، وفي هذا المقطع بيان سبب عدم قبول توبتهم، إذ لو کانوا صادقين فيها لکانوا مهتدين فکان الله يقبلها منهم کما قال: {غَافِرِ الذَّنۢبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}(1).

السادس: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ...} الآية.

هذا بيان للصنف الثاني من الکفار، وهم الکفار الذين لم يسلموا أصلاً وبقوا علی کفرهم إلی حين موتهم، فهؤلاء لم يتوبوا - ولو توبة صورية - فلا منجی لهم من العذاب، إذ لافدية تقبل مهما عظمت في أعينهم، ولا شفيع يشفع لهم لينقذهم من العذاب.

1- أما عدم قبول الفدية: لأن جريمتهم أعظم من کل فدية متصورة، ولأن قبول الفدية إنما هو للإحتياج إليها عادة، والله سبحانه الغني الحميد الذي لايحتاج إلی شيء والوجود بأسره محتاج إليه في کل شيء، مضافاً إلی أنه المالك الحقيقي لکل شيء، فلا معنی لأن يفتدي أحد بما هو ملکه سبحانه وتعالی، وأيضاً فالقبول لأجل قابلية العامل والمنفق، فإذا لم تکن له القابلية فلا قبول منه، قال تعالی: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(2)،

فيقبل الله تعالی من المتقين لالحاجته بل لسعة رحمته ولطفه.

2- وأما عدم الشفاعة لهم، لأن الله يأذن بالشفاعة لمن ارتضاه، کما قال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ}(3)، ومن ابتغی غير الإسلام ديناً لايرتضيه الله تعالی، قال عنهم: {فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٖ}(4).

ص: 281


1- سورة غافر، الآية: 3.
2- سورة المائدة، الآية: 27.
3- سورة الأنبياء، الآية: 28.
4- سورة الشعراء، الآية: 100-101.

وقوله: {وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ} قيل: إن محاولته للفرار من العذاب تکون بصور مختلفة منها الوعد بالفداء، ومنها الافتداء فعلاً، فإذا لم ينفع الافتداء نقداً فعدم نفع تلك الحالات بطريق أولی.

وقيل: في الکلام تقديم وتأخير کما هو شأن کلام الفصحاء، أي فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدی بملء الأرض ذهباً، کما قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُۥ مَعَهُۥ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1).

وقيل: المعنی لن يقبل إنفاقه في الحياة الدنيا بهذا المقدار، ولو کان الإنفاق لأجل أن لايعذّب في الآخره من دون توقع ثواب.

ثم إنه ذکرت التوبة في الصنف الأول ولم تذکر في الصنف الثاني، وهذا يقوّي أن المراد بها التوبة الصورية، أما التوبة عند المعاينة أو في الآخرة فيشترکان فيها حيث لاتنفعهم، فذاك بتوبته الصورية وهذا بفديته - إن تمکن منها - يريدان دفع العذاب، ولکن هيهات، کما لايوجد أحد ينصرهم فلا شفيع يشفع لهم، ولا شرکاؤهم الذين کانوا يزعمون، فأولئک لايتمکنون من إنقاذهم من بطش ربهم سبحانه.

ص: 282


1- سورة المائدة، الآية: 36.

الآيات 92-95

{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَٰءِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}

بعد بيان تحريفات أهل الکتاب في أصول الدين وبيان الجزاء الأخروي علی ذلك، يتم بيان تحريفاتهم في فروع الدين ورفضهم لأحکام الشرع مع أنها من ملة إبراهيم (عليه السلام) وهم يعترفون بذلک، مع بيان أن سبب تلك التحريفات هي حبّهم للدنيا، فقال تعالی:

92- {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ} أي لن تصيروا أبراراً سواء في العقائد أم في الأعمال، وأصل «البِرّ» هو التوسع في الإحسان، {حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} ترغبون فيه، لأن ذلك دليل ترجيحکم لإرادة الربّ علی هواکم، {وَ} نفع ذلك سيعود عليكم إذ {مَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ} قليل أو کثير {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} فيجازيكم عليه.

93- {كُلُّ الطَّعَامِ} الطيب {كَانَ حِلًّا} حلالاً {لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَٰءِيلُ} وهو يعقوب (عليه السلام) {عَلَىٰ نَفْسِهِ} بأن امتنع عن أکله لضرره

ص: 283

عليه وهو لحم الإبل، ولم يحرّمه علی الآخرين، وکانت الحلية {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}، لکن الله حرّم عليهم بعض الطيبات لظلمهم وبغيهم عقوبة لهم، وأهل الکتاب کانوا يدعون أن التوراة تدل علی تحريمها علی کل الأنبياء، {قُلْ} احتجاجاً عليهم: {فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} فإنها لاتدل علی قِدَم التحريم، بل ليس فيها إشارة إلی أيّ تحريم للطيبات، وإنما حُرّمت بعد نزولها لظلمهم وبغيهم، {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} في دعواکم إن التحريم قديم، لکنهم لم يأتوا بها فتبيّن کذبهم.

94- {فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بأن قال إنها کانت محرّمة علی الأنبياء قبل نزول التوراة {مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ} بعد قيام الحجة عليهم {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ} لأنفسهم بمنعها عن الهداية، ولأتباعهم بإضلالهم، وذلك لمکابرتهم الحق بعد وضوحه.

95- {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} فيما أوحاه إلی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) من عدم التحريم قبل نزول التوراة، وهذا تعريض بکذبهم، وحيث تبيّن لکم حليتها قبلها {فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ} طريقته سواء في العقائد أم في حلية الطيبات أجمع {حَنِيفًا} مائلاً إلی الحق {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فکان يتبع وحي الله في التشريعات، ولم يجعل التشريع لغيره تعالی.

بحوث

الأول: لعلّ وجه ارتباط الآيات بما قبلها، أن الآيات السابقة تضمنت بيان مسائل العقائد: من التوحيد، وتحريف أهل الکتاب بالشرك، ومن النبوة، وتحريفاتهم فيما يتعلق بها، وتمَّ ذکر المعاد وجزاء هؤلاء الذين ترکوا

ص: 284

التوحيد إلی الکفر وخالفوا الأنبياء، ثم بعد ذلك يأتي الکلام في أمرين:

1- في کيفية إنقاذ الإنسان نفسه من الحالة التي وقع فيها أهل الکتاب، وهو التخلّص من حبّ الدنيا والتعلّق بها، لأن سبب تحريفاتهم هو ما قال تعالی: {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}(1)،

وقال: {إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(2)، ولايمکن التخلّص إلا بترويض النفس بقطع تعلقاتها بالدنيا وزخارفها، وترجيح رضا الرب تبارك وتعالی علی حبّ الدنيا، ومن أظهر مصاديقه الإنفاق ممّا يحبه الإنسان، لا ممّا يريد التخلص منه، فإن حبّه للمال سبب تعلّقه به، ولذا قد يبيع آخرته بدنياه حفاظاً علی ذلك المال، أما لو قطع تعلق نفسه به فأنفق منه، فحينئذٍ يمکن لهذا الإنسان أن يسمو فينال البِرّ في العقائد والأعمال، فينزّه نفسه عن التحريف ويتبع دين الله ويصدّق رسله أجمع.

2- في اتّباع الشرع في فروع الدين أيضاً وعدم التحريف فيها، عکس أهل الکتاب الذين أضافوا إلی تحريفهم في العقائد کذبهم وتحريفهم في الأحکام أيضاً.

الثاني: قوله تعالی: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ...} الآية.

(البِر) هو التوسع في الإحسان، والمراد به هنا إصابة الحق في العقائد والأحکام، کما قال تعالی: {وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَالْمَلَٰئِكَةِ وَالْكِتَٰبِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ

ص: 285


1- سورة البقرة، الآية: 79.
2- سورة التوبة، الآية: 34.

وَالْمَسَٰكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَى الزَّكَوٰةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَٰهَدُواْ وَالصَّٰبِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(1).

ومن هذا يتضح معنی قول الإمام الصادق (عليه السلام) في الآية حيث قال: «نحن البر والتقوی وسبيل الهدی...» الحديث(2)، لأنهم (عليهم السلام) من أصول الدين، فهم من أجلی مصاديق {الْبِرَّ} في الآية الشريفة، فلا يمکن للإنسان الوصول إلی ولايتهم إلا بقطع تعلقاته بالدنيا، کسائر أصول الدين.

و{مِن} في قوله: {مِمَّا تُحِبُّونَ} إما تبعيضية، أي الإنفاق من بعضه، فيکون من قبيل قوله تعالی: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(3)، وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(4).

وإمّا بيانية، أي ليكن ماتنفقونه محبوباً لکم لاماتکرهونه، فتکون الآية نظير قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ}(5)، ولعلّه علی هذا يحمل ما ورد في قراءة (ما تحبون)(6)،

ص: 286


1- سورة البقرة، الآية: 177.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 444، عن تفسير العياشي.
3- سورة الإسراء، الآية: 29.
4- سورة الفرقان، الآية: 67.
5- سورة البقرة، الآية: 267.
6- الکافي 8: 183؛ تفسير العياشي 1: 184.

وهي قراءة تفسيرية لاقراءة النص، بمعنی أنه هکذا قرأها للتفسير.

وقوله: {مِن شَيْءٖ} بيان ل {مَا}، والمراد التعميم أي سواء کان ماتحبون قليلاً أم کثيراً، فإن الله يعلمه فيجازيكم عليه، أو سواء کان ماتنفقون محبوباً أم لا، فيکون الغرض بيان علمه بنواياکم وأن الإنفاق لوجه الله تعالی بأن کنتم تحبون الشيء أم کان الانفاق بقصد التخلّص عن المال المکروه لديكم.

ومن مصاديق الإنفاق إيتاء الحقوق الواجبة في الأموال، فإن الإنسان يحبّها لکنه يؤدي حقها بالزکاة والخمس ونحو ذلك، وفي تفسير القمي: «لن تنالوا الثواب حتی تردوا إلی آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) حقّهم من الخمس والأنفال والفيء»(1)، فسّر {الْبِرَّ} بالثواب لأنه سبب له، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه کان يتصدّق بالسکّر، فقيل له: أتتصدق بالسکّر؟ فقال: «نعم، إنه ليس شيء أحبّ إليّ منه، فأنا أحبّ أن أتصدّق بأحبّ الأشياء إليّ»(2).

الثالث: قوله تعالی: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ...} الآية.

من هنا يبدأ افتراء أهل الکتاب علی الله ورسله في فروع الدين، فقد انکروا علی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) تحليله لحم البعير، وقالوا: إن ابراهيم (عليه السلام) حرّمه، وأن ذلک مذکور في التوراة، وکذا أرادوا الردّ علی قوله تعالی: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوٰاْ وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَٰلَ النَّاسِ

ص: 287


1- تفسير القمي 1: 107.
2- الکافي 4: 61.

بِالْبَٰطِلِ}(1)، بزعم أن تلك المحرّمات کانت في ملة إبراهيم (عليه السلام) وذکرتها التوراة فليس تحريمها لأجل ظلمهم وبغيهم!!

والجواب عليهم أن التوراة خالية عن تلك التحريمات، فهي لم تذکر سوی تحريم الرجس من الحيوانات البرية والمائية والطيور(2)، وليس فيها من تحريم الطيبات أيَّ ذکرٍ، فمن أين جاؤوا بتحريمها؟!

فأما لحم البعير فقد امتنع يعقوب (عليه السلام) عن أکله، لاتشريعاً للتحريم، بل لضرره عليه، فلم يحرّمها علی بني إسرائيل بما حرّمها علی نفسه بمعنی امتناعه عنه، وحتی التوراة لم تذکر تشريع يعقوب (عليه السلام) تحريم لحم الإبل بل هو تشريع منهم(3).

ثم يتحدی القرآن أهل الکتاب بأنهم لو کانوا صادقين في دعواهم في أن التحريم مذکور في التوراة وأنه کان محرّماً علی الأنبياء السابقين فعليهم أن يأتوا بالتوراة فيقرؤوا ما زعموه، لکنهم حيث کانوا کاذبين لم يستجيبوا لذلك، فتبيّن کذبهم علی الله وعلی رسله.

قوله: {كُلُّ الطَّعَامِ} أي الطيبات، أو الألف واللام للعهد أي کل الطعام الذي ادّعی أهل الکتاب تحريمه.

وقوله: {حِلًّا} مصدر بمعنی اسم المفعول، أي کان حلالاً من الله تعالی عليهم.

ص: 288


1- سورة النساء، الآية: 160-161.
2- راجع آلاء الرحمن (للعلامة البلاغي): 311.
3- راجع سِفر التکوين الفصل الثاني والثلاثين وآلاء الرحمن: 311.

وقوله: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَٰءِيلُ} التحريم هنا بمعنی الامتناع وليس المراد التشريع، فيکون نظير قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}(1)، أي تمتنع عن فعل أو أکلة محلّلة عليك.

وقوله: {عَلَىٰ نَفْسِهِ} دليل علی أنه لم يحرّمه علی بني إسرائيل بل خصّ الامتناع بنفسه، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن إسرائيل کان إذا أکل من لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة، فحرّم علی نفسه لحم الإبل، وذلك قبل أن تنزل التوراة، فلمّا نزلت التوراة لم يحرّمه ولم يأکله»(2) أي لم يحرّمه موسی (عليه السلام) ولم يأکله.

وقوله: {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} متعلّق بقوله: {كَانَ حِلًّا} أي الحلية قديمة فلا يصح ما افتروه علی إبراهيم (عليه السلام) وسائر الأنبياء بأنهم حرّموها، کذلك لايصح ما افتروه بأن تحريمها مذکور في التوراة، إذ التوراة خالية عن تحريمها.

وبناءً علی ذلك فلا وجه لإنکارهم تحليل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لحم الإبل، کما يثبت أن تحريم بعض الطيبات عليهم لم تکن إلاّ لبغيهم وظلمهم بعد نزول التوراة لذا لايوجد لها ذکر في التوراة أصلاً.

قوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ} لأنه کان من ضمن فرية هؤلاء أن التحريم مذکور في التوراة، حيث کانوا يزعمون أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لاعلم له بالتوراة لأنه أمي وقومه أميون، لکن الوحي فضحهم، فدعاهم إلی الإتيان بالتوراة - لا

ص: 289


1- سورة التحريم، الآية: 1.
2- الکافي 5: 306.

مجرد النقل کذباً عنها - وتلاوة الآيات المزعومة أمام الملأ! لکنهم نکصوا علی أعقابهم فتبيّن کذبهم وافتراءهم.

ولايخفی أن المقصود الاحتجاج عليهم بما في التوراة، لا الاحتکام إليها کي يقال: کيف يحتکم إلی کتاب محرّف؟ أو کانت التوراة غير المحرّفة موجودة عندهم فطلب الاحتکام إليها، أو أن هذا المقطع لم يكن محرّفاً فلم يكن مانع من الاحتکام إليه.

الرابع: قوله تعالی: {فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ...} الآية.

أي استمر في الفرية بعد قيام الحجة والبرهان علی عدم وجود هذه التحريمات في التوراة، والظاهر أن الآية تشير إلی أن أغلب اليهود لم يکونوا يعرفون أن ذلك افتراء علی الله حيث کانوا يتوهمون صدق أحبارهم ورؤساؤهم، فهؤلاء کانوا ظالمين سواء قبل هذه المحاججة أم بعدها لأنهم کانوا يعلمون الحق وينکرونه، أما عوامهم فکانوا جهلة کما قال تعالی: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَٰبَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(1)،

فلو فرض کونهم معذورين قبل هذا لجهلم، لکنهم غير معذورين بعد قيام الحجة عليهم وتبيّن کذب أحبارهم ورؤسائهم، فدخلوا في سلك الظالمين.

الخامس: قوله تعالی: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا...} الآية.

أي بهذه المحاججة تبين أن هذه الطيبات کانت محلّلة، وأن الوحي الذي نزل علی رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) هو الحق الصادق، وفي هذا تعريض

ص: 290


1- سورة البقرة، الآية: 78.

عليهم بکذبهم.

وقوله: {فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ} إمّا بيان أن طريقة إبراهيم (عليه السلام) کانت تحليل الطيبات، فعليكم أن تتبعوا ملته في الفروع کما عليكم أن تتبعوا ملته في الأصول.

أو بيان أنه بعد تبيّن کذب أحبارکم ورؤسائکم عليكم طلب الدين الحق وهو ملة إبراهيم حيث کان مائلاً إلی الحق ولم يكن مشرکاً، وعلی هذا الدين رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فعليكم اتّباعه.

ص: 291

الآيتان 96-97

اشارة

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ (96) فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ (97)}

ومن الفروع المهمة مسألة القبلة، فبعد دحض حجج أهل الکتاب في أصول الدين وبعض الفروع يأتي إنکارهم تحويل القبلة إلی الکعبة باعتبار أنها خلاف ملة إبراهيم، فدحضت حجتهم بقوله تعالی:

96- {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ} فهو قبل بيت المقدس {وُضِعَ لِلنَّاسِ} لعبادتهم {لَلَّذِي} أي البيت الذي {بِبَكَّةَ} سميت بذلك لازدحام الناس فيها، حالکونه {مُبَارَكًا} کثير الخير والنفع، {وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ} فيه هدايتهم فإنه محل العبادة والتذکير بأولياء الله.

97- {فِيهِ} في البيت {ءَايَٰتُۢ} علائم علی التوحيد والنبوة وغيرهما {بَيِّنَٰتٌ} واضحات، فمنها: {مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ} الحَجَر الذي کان يقف عليه لبناء الکعبة وفيه أثر قدميه، {وَ} منها: أن {مَن دَخَلَهُۥ} دخل البيت {كَانَ ءَامِنًا} أي شرّع الله الأمان فيه فلايُمسّ أحد فيه بسوء حتی يخرج منه، {وَ} منها: تشريع الحجج إليه ف {لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} أي يجب عليهم ويلزمهم {حِجُّ الْبَيْتِ} أي قصده بالحج أو العمرة {مَنِ اسْتَطَاعَ}

ص: 292

باستطاعة عرفية بأن يتملك الزاد والراحلة مع صحة البدن وإمکان السير والرجوع إلی کفاية {إِلَيْهِ} إلی البيت {سَبِيلًا} طريقة يحج بها، {وَمَن كَفَرَ} بترك الحجج، کفراً عمليا أو کفراناً بالنعمة {فَإِنَّ} ترکه لايضرّ {اللَّهَ} شيئاً لأنه سبحانه {غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ} لايحتاج إلی عملهم وإنّما أمرهم لمصلحتهم.

بحوث

الأول: سياق الآيات في دحض حجج أهل الکتاب، ففي البداية تم دحض حججهم في المسائل العقائدية - من التوحيد والنبوة - وتهديدهم بعذاب الآخرة، ثمّ دحض حججهم في الفروع ومنه حجتهم في القبلة، حيث زعموا أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلی الکعبة هو خلاف ملة إبراهيم (عليه السلام) ، والجواب أن بيت المقدس لم يكن في زمن إبراهيم (عليه السلام) ، وأما الکعبة فهي أول محلّ للعبادة فقد جعلها الله تعالی برکة وهداية للناس، وجعل فيها علائم واضحة علی ذلك، وهي بناء إبراهيم (عليه السلام) ، لابيت المقدس الذي بُني بعد إبراهيم بسنوات طويلة وذلک في زمن نبي الله سليمان (عليه السلام) .

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ...} الآية.

أي أول مکان جُعل للعبادة، وکان ذلك قبل خلق آدم (عليه السلام) حيث اختاره الله مسجداً لملائکته، وکان البيت درة بيضاء جعلها تعالی في موضع الکعبة، ثم رفعت الدرة بعد هبوط آدم (عليه السلام) وبقي أساسها(1)، إلی أن أمر الله تعالی إبراهيم (عليه السلام) بالبناء علی ذلك الأساس، فرفع القواعد، کما قال تعالی: {وَإِذْ

ص: 293


1- راجع في ذلک الروايات مفصلة في بحار الأنوار 96: 52-65.

يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ}(1)،

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «ونخبرکم أن آدم ونوحاً وسليمان (عليهم السلام) قد حجوا البيت بالجن والإنس والطير، ولقد حجّه موسی (عليه السلام) علی جمل أحمر»(2).

مراحل بناء الکعبة

ثم إن الروايات أشارت إلی ثلاث مراحل:

1- مرحلة أصل الخلق، فإن الله خلق موضع البيت ثم دحاه بأن بسط الأرض من تحته(3)، قال تعالی: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَىٰهَا}(4).

2- مرحلة جعله للعبادة، وهذه المرحلة قبل خلق آدم (عليه السلام) حيث شرَّع الله ذلك.

3- مرحلة البناء في زمن إبراهيم (عليه السلام) .

ولا يخفی أنه قبل هذا البناء کانت أبنية للناس في کل مکان(5)، فليس المراد أن بناء إبراهيم (عليه السلام) هو أول بناء علی وجه الأرض، بل المراد المرحلة الثانية وهي مرحلة اختيار البيت للعبادة، فهذا کان من قبل آدم (عليه السلام) .

وقوله: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} بمعنی خلقه واتخاذه مسجداً لهم.

وقوله: {بِبَكَّةَ} من البكّ بمعنی الازدحام والدقّ، والمراد بها المسجد الحرام، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «موضع البيت بکة، والقرية

ص: 294


1- سورة البقرة، الآية: 127.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 452، عن تفسير العياشي.
3- الکافي 4: 189.
4- سورة النازعات، الآية: 30.
5- البرهان في تفسير القرآن 2: 455، عن مناقب ابن شهر آشوب.

مکة»(1)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «مکة جملة القرية، وبکة موضع الحجر الذي يبك الناس بعضهم بعضاً»(2)، وإنّما سميت مکة بذلك لازدحام الناس فيها في الحج والعمرة وغيرهما، ولأن الله يدق أعناق الباغين فيها - کما في الحديث(3)- ، وأما ما روي من أنه لکثرة البکاء فيها(4)، فذلك من باب الاشتقاق الکبير، وقد مرّ بيانه.

وقوله: {مُبَارَكًا} من البرکة بمعنی الخير الثابت، وهذه البرکة مادية بالرزق وبکثرة الثمار في واد غير ذي زرع، ومعنوية بالاجتماع والألفة، وأخروية بالطاعة والعبادة ومضاعفة الثواب، وغير ذلك.

وقوله: {وَهُدًى} أي هادياً، من إقامة المصدر مقام إسم الفاعل، للدلالة علی الکثرة، والمراد هو أن البيت هادٍ للناس بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، ويرشدهم إلی الله تعالی، ويهتدون بسبب طاعاتهم وعباداتهم، فالبيت يذکّر بالله وفيه ذکريات رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ومعالم ومشاعر عبادته.

وقوله: {لِّلْعَٰلَمِينَ} لبيان عموم النفع للجميع، فلم يجعل البيت لطائفة خاصة أو قومية خاصة، بل هو عالميٌّ بعالمية الإسلام.

الثالث: قوله تعالی: {فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا}.

أي هذا البيت جعل الله تعالی فيه دلائل وعلائم علی التوحيد وعلی

ص: 295


1- علل الشرائع: 397.
2- تفسير العياشي 1: 187.
3- الکافي 4: 211.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 449، عن علل الشرائع.

النبوة وعلی الشرع، وتلك الآيات تکوينية وتشريعية، وقد ذکرت الآية ثلاث آيات بأسلوب بليغ يجمع بين بيان کونها آية، وبين بيان أحکام شرعية، وتلك الآيات:

1- مقام إبراهيم (عليه السلام) وهو الحجر الذي کان يقف عليه إبراهيم لبناء أعالي البيت، وهي صخرة صماء ألانها الله فغارت فيها قدما إبراهيم (عليه السلام) وبقي الأثر، وقد مرّ تفصيله في الآية 125 من سورة البقرة، فراجع، وهذه آية تکوينية.

2- تشريع الأمن فيه، وهذه آية تکوينية وتشريعية.

3- تشريع الحج إليه، وهذه آية تشريعية.

قوله: {فِيهِ ءَايَٰتُۢ} الآية هي العلامة، وهي أعم من المعجزة فليس المراد منها خصوص الخارقة للعادة، بل الآيات قد تکون معاجز، وقد تکون براهين عقلية، وقد تکون أدلة محسوسة، وقد تکون تشريعيات صحيحة، ومقام إبراهيم معجزة خارقة للعادة، والأمن فيه أحياناً معجزه تکوينية کما حدث في قصة أصحاب الفيل، وأحياناً تشريع الأمن فيه وهو آية لکنها ليست خارقة للعادة، وأما الحج إليه فهو آية تشريعية من غير خرق للعادة.

وإنّما ذکر هذه الثلاثة في مقام دحض حجة أهل الکتاب، حيث زعموا أن بيت المقدس أشرف وهو أولی بکونه قبلة، فالجواب أن الکعبة أشرف، لأنها أول بيت وضع للعبادة، ولأن بانيها إبراهيم (عليه السلام) ، ولأن الحج شُرّع إليها، فکل واحد من ذلك آية علی کونها أفضل وأشرف من بيت المقدس.

وقوله: {بَيِّنَٰتٌ} أي واضحات، تدل علی التوحيد والنبوة وعلی الشرع،

ص: 296

ولايخفی أنه ذکر ثلاث آيات کنموذج جليّ للآيات التي فيه - مما يکون في سياق دحض حجة أهل الکتاب - مع أن آيات البيت کثيرة، منها الحجر الأسود، ومنها منزل إسماعيل (عليه السلام) - ولعل المراد به حِجر اسماعيل - کما في بعض الروايات(1)،

وإنما خصّ المقام بالذکر، لأنه مورد الاحتجاج مع أهل الکتاب حيث أراد بيان ارتباط الکعبة بإبراهيم (عليه السلام) وأنها من ملته.

وقوله: {وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا} الظاهر أنه إخبار بقصد الإنشاء بمعنی تشريع الأمن فيه، أي تجب رعاية حرمته بأن يکون الجميع فيه آمناً، فالناس فيه آمنون، حتی من ارتکب جريمة خارج الحرم ثم هرب إليه لايجوز اعتقاله أو إجراء العقوبة عليه لأنه مکان أمن حتی لهؤلاء، بل يضيق عليه في المأکل ونحوه حتی يخرج هو من الحرم باختياره، فيؤخذ للعقوبة، نعم لو ارتکب الجريمة في داخل الحرم أ ُخذ وعوقب، لأن ذلک هتك حرمة الحرم فلابد من منعه، فأخذه بجُرمه أيضاً لأجل حرمة الحرم واستمرار الأمن فيه.

بل الحکم يعمّ غير الإنسان أيضاً فلايجوز صيد الحرم، بل ولاقلع نباته.

ثم إن للآية تأويلاً في الأمن التکويني في أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام) ، وکذا الأمن من عذاب الله في الآخرة وغفران الذنب وکفاية ما أهمّ لمن قصد البيت عارفاً بحق أهل البيت (عليهم السلام) .

أو يقال: إن الأمن في الآية أعم من التکويني والتشريعي في الدنيا والآخرة، فيکون هذان من مصاديق التفسير.

فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من أمّ هذا البيت وهو يعلم أنه البيت

ص: 297


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 447، عن الکافي.

الذي أمره الله عز وجل به، وعرفنا أهل البيت حق معرفتنا کان آمناً في الدنيا والآخرة»(1).

وعنه (عليه السلام) أنه قال: «من دخل مکة المسجد الحرام يعرف من حقنا وحرمتنا ما عرف من حقها وحرمتها، غفر الله له ذنبه، وکفاه ما أهمّه من أمر الدنيا والآخرة»(2).

وقال (عليه السلام) حول الآية: «في قائمنا أهل البيت، فمن بايعه ودخل معه ومسح علی يده ودخل في عقد أصحابه، کان آمناً»(3).

الرابع: قوله تعالی: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا...} الآية.

وهذه ثالث الآيات، فمِن فضيلة الکعبة هو أن الله أمر بالحج إليها.

وقوله: {لِلَّهِ} أي من حقه تعالی، وهذه الکلمة تستعمل عادة في بيان الوجوب والإلزام، کما يقال: (لي عليه درهم) أي من حقي عليه وفي ذمته، فيجب عليه أداؤه، فالآية إخبار في مقام الإنشاء والأمر.

وقوله: {حِجُّ الْبَيْتِ} أي قصده، فإن مادة (ح ج ج) بمعنی التوجه إلی الشيء وقصده، وقصد البيت إنما هو لإتيان المناسك فيه، وهو أعم من الحج والعمرة، فلذا کما يجب قصد البيت لإتيان الحج کذلك يجب قصده لإتيان العمرة، ولذا أفتی جمع من الفقهاء بأن من استطاع علی العمرة وجبت عليه حتی لو لم يستطع علی الحج، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في

ص: 298


1- الکافي 4: 545.
2- تفسير العياشي 1: 189.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 449، عن علل الشرائع.

الآية: «يعنی به الحج والعمرة جميعاً لأنهما مفروضان»(1).

وقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} بدل عن الناس، والمراد القدرة العرفية، وأما القدرة العقلية فهي شرط في جميع التکاليف، فالاستطاعة هنا يراد بها قدرة عرفية، وهي امتلاك الزاد والراحلة، والتمکن من قطع المسافة بأن لايمنع مانع من الظالمين ونحوهم، وصحة البدن بحيث يتمکن من الإتيان بالمناسك، والرجوع إلی کفاية بمعنی أن لايسبّب صرف النفقة في الحج إلی احتياجه سؤال الناس بعد الرجوع، کأن يکون له رأس مال يتکسّب به فإذا صرفه في الحج عاد فقيراً سائلاً، والتفصيل يطلب من کتب الفقه.

وقوله: {وَمَن كَفَرَ} أي ومَن ترك الحج، وهو إما من کفران النعمة، أو من الکفر العملي، لا الکفر في العقيدة، أي عمل کعمل الکفار، وهذا لايخرج عن الملة، وقد يعاقب في الآخرة عقاب الکفار إلاّ أن يشاء الله مغفرته، وعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «مَن سوّف الحج حتی يموت بعثه الله يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً»(2).

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ} الجزاء محذوف، وهذا علتّه، أي فلا يضرّ الله شيئاً لأنه تعالی غني عن العالمين أجمعهم فکيف بهذا التارك، فلا يحتاج سبحانه إليهم وإنما أمرهم لحاجتهم. فلايظننّ العاصي أنه أعجزه، بل حرم نفسه الرحمة والمغفرة.

وفي الجوهر الثمين: أکّد الله تعالی أمر الحج بإيجابه بصيغة الخبر،

ص: 299


1- الکافي 4: 264.
2- من لايحضره الفقيه 4: 266.

والجملة الإسمية، وإيراده علی وجه يفيد أنه حق الله في رقاب الناس، وتخصيص الحکم بعد تعميمه - وهو تکرير للمراد وبيان بعد إبهام - ، وتغليظ ترکه بتسميته کفرا، کما سُمّي تارکه في الحديث يهودياً أو نصرانياً، وذکر الاستغناء الدالّ علی المقت والسخط، وأبدل (عنه) ب {عَنِ الْعَٰلَمِينَ} الدال علی الاستغناء عنه بالبرهان وعلی عظم السخط(1).

ص: 300


1- الجوهر الثمين 1: 351.

الآيات 98-101

{قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ كَٰفِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُۥ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ (101)}

وبعد بيان انحراف أهل الکتاب في العقائد والأحکام عن ملة إبراهيم (عليه السلام) تم توبيخهم ليتعظوا ولتحذير المؤمنين منهم، فقال تعالی:

98- {قُلْ} يا رسول الله: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ} تخصيصهم بالذکر - مع عموم المقصود - لأنهم شأن نزول الآية، ولأنّ الکفر منهم أقبح {لِمَ} لماذا {تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ} دلائله الواضحة في التوحيد وفي نبوة الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وسائر البينات، {وَاللَّهُ} أي والحال أنّ الله {شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ} فهو سبحانه قائم علی کل نفس بما کسبت ويعلم أعمالها، فلاينفعکم التحريف والکتمان وعدم الإيمان، فإنه سيجازيكم عليها.

99- {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ} لماذا {تَصُدُّونَ} تمنعون وتصرفون عبر إلقاء الشبهات {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} الطريق الذي أمر الله سلوکه فتصدّون

ص: 301

{مَنْ ءَامَنَ} حالکونکم {تَبْغُونَهَا} تطلبون السبيل {عِوَجًا} أي معوجّة، أي تريدون أن تکون السبيل حسب أهوائکم، فهذه الآية ذمهم علی إضلال الناس، والآية السابقة تقريع لهم علی ضلالهم في أنفسهم، {وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ} تعلمون في قرارة أنفسکم أنها سبيل الله تعالی، {وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بل هو تعالی عالم وسيجازيكم علی أفعالکم.

100- ثم يتوجه الخطاب إلی المؤمنين لتحذيرهم من هؤلاء فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا} جماعة وهم المضلّون الذين يريدون إضلالکم {مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} فلم يعملوا به وحرّفوه {يَرُدُّوكُم} يرجعوکم {بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ كَٰفِرِينَ} فهؤلاء لو کانوا طلاب حق لاتّبعوا الهدی، لکنهم ضلّوا فحريّ بکم عدم إطاعتهم لئلا تضلّوا.

101- {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} استفهام للتعجب وللاستبعاد، بغرض إبعادهم عن الکفر وإلفاتهم إلی ما يمتلکونه من وسائل الهداية، {وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ} تُقرأ {عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُۥ} وکل واحد منهما يكفي في عدم الکفر، لکن سبب الکفر مع وجود هذين النورين هو عدم الاعتصام بالله، فاعتصموا به {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ} يتمسك بأوامره أو يلتجئ إليه تعالی في أموره {فَقَدْ هُدِيَ} اهتدی بهداية الله {إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ} وهو طريق الإسلام الموصل إلی طريق الجنة والرضوان.

بحوث

الأول: نظم الآيات أن الله تعالی بعد أن دحض حجج أهل الکتاب في مسائل التوحيد والنبوة وفي بعض فروع الدين، يبدأ بتقريعهم وذمهم علی

ص: 302

إصرارهم علی الکفر والعناد بعد تبيّن الحق لهم، وفيه ذمهم علی ثلاثة أمور - ضلالهم وإضلالهم وتحريفهم - والغرض وعظهم، فلعلّه يرعوي البعض - ولو القليل - منهم، وتحذير المؤمنين منهم بأن هؤلاء معاندون فعليهم أن يحذروا منهم ولاينخدعوا بأباطيلهم، إذ لو کانوا أهل الحق والهداية لبدأوا من أنفسهم، فلا تغترّوا بهم فتطيعوهم، مع توفر أسباب الهداية من تلاوة آيات الله ووجود الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بين أظهرهم ووجود الأئمة (عليهم السلام) من بعده - کما سيأتي بيانه - .

الثاني: قوله تعالی: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ...} الآية.

هذا التقريع الأول بضلالهم في أنفسهم من جهات ثلاث:

1- إنهم أهل کتاب، فيعلمون أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حق، فلئن کان الکفر من کل أحد قبيحاً فمنهم أقبح، ولئن کان بعض الجهلة معذورين لقصورهم فلا عذر لهؤلاء بعد ما رأوه في الکتاب من ذکره (صلی الله عليه وآله وسلم) وبيان صفاته.

2- إنها آيات الله، ودلائله لاتخفی علی عاقل فضلاً عن عالم بالکتاب، لأن آيات الله واضحة لاغموض فيها أبداً، لکنهم مع ذلك کفروا بها.

3- إن الله شهيد عليهم، فهذا أقبح ما في فعلهم، لأن مخالفة صاحب النعمة قبيح في غيابه فکيف في حضوره، والله تعالی لايعزب عنه شيء في السموات ولا في الأرض.

قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ} الاستفهام إمّا للإنکار أو للتعجب أي تعجبّوا أيها الناس من فعل هؤلاء.

قوله: {بِآيَٰتِ اللَّهِ} لأن الکفر ببعض الآيات کفر بجميعها، کما أن

ص: 303

رفض بعض ما في الکتاب رفض لجميعه، إذ يكشف عن عدم الايمان، لأن المؤمن الحقّ هو الذي يسلّم لله في کل شيء کما قال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(1).

قوله: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ} في هذا المقطع تذکير لهم وتهديد، أمّا التذکير فلأنهم کانوا يزعمون أنه لايعلم ما يكتمونه فکأنّهم يخادعون الله، أو کانوا يعلمون بأنه شهيد عليهم لکنهم يغفلون عنه لرين قلوبهم، فکان لابد في وعظهم وتذکيرهم بذلك، وأمّا التهديد فلأن المقصود بيان عقابهم علی أفعالهم وذلك يتوقف علی العلم بها، والله سبحانه قائم علی کل نفس بما کسبت، بل قد يراد بيان عدم نفع کفرهم وتحريفاتهم لأن الله القادر المهيمن الذي أنزل تلك الآيات شاهد علی أعمالهم، والله بالغ أمره ومکر أولئك هو يبور.

الثالث: قوله تعالی: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

وفي الآية تقريعان آخران: صدهم عن سبيل الله وطلب اعوجاج سبيله تعالی، فهؤلاء لم يكتفوا بکفرهم أنفسهم، بل تعدوا ذلك إلی إضلال الناس، وأيضاً تحريف سبيل الله تعالی عن الصراط المستقيم إلی الاعوجاج.

قيل: تکرار قوله: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ} مبالغة في التقريع، ونفي العذر، وإشعار بأن کل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه.

ص: 304


1- سورة النساء، الآية: 65.

وقوله: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} صدّهم عبر إلقاء الشبهات في الدين، أو تزيين الدنيا في أعينهم بالتطميع أو ببذل الأموال ونحو ذلك.

وقوله: {مَنْ ءَامَنَ} أي من آمن فعلاً، أو من يريد الايمان، حيث کان بعض الکفار يستطلعون أخبار الناس، فمن رأوا فيه ميلاً إلی الايمان رکزوا عليه ليصرفوه عنه.

وقوله: {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} تقريع آخر علی محاولاتهم تحريف الدين حتی يُری الطريق الأعوج کانّه الصراط المستقيم، والجملة حالية أي تصدّون حالکونکم تطلبون الاعوجاج في سبيله تعالی، والضمير في {تَبْغُونَهَا} للسبيل فإنه يجوز تذکيرها وتأنيثها، و{عِوَجًا} مصدر بمعنی اسم الفاعل وهو مفعول ثاني ل (تبغون) أي معوجّة، والسبيل العوجاء تقابل الصراط المستقيم.

وقوله: {وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ} أي تعلمون علم اليقين بسبيل الله، ومع ذلك تصدّون عنه، وهذا أقبح أنواع الانحراف، فهؤلاء شهداء علی باطلهم والله ليس بغافل عنهم بل هو شهيد عليهم وسيجازيهم بأفعالهم.

وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تهديد لهم وإشعار بعدم نفع أفعالهم لأنه سبحانه يريد أن يحق الحق بکلماته، وأنهم يريدون إطفاء نور الله لکنه سبحانه متم نوره ويظهر دينه علی الدين کله ولو کرهوا ومهما حاولوا.

وقيل: إن کفرهم کان علنياً لذا ختم الله الآية السابقة بقوله: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ} وأما صدّهم عن سبيل الله تعالی فکان في الخفاء وبالمکر

ص: 305

عادة لذا أتم هذه الآية بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

الرابع: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا...} الآية.

بعد بيان ضلال وإضلال أهل الکتاب، تحذر هذه الآية عن اتبّاعهم وإطاعتهم، فأهل الکتاب يريدون العوج في سبيل الله تعالی ولذا يصدّون الناس عنها، فاحذروهم أيها المؤمنون.

وإنّما قال: {فَرِيقًا} لأن الذين تحتمل إطاعتهم ليسوا کل أهل الکتاب وفيهم الضعفاء والجهلة والأميين، وإنّما محتمل الإطاعة هم أحبارهم الذين يظهرون بمظهر العلماء، أو رؤساؤهم الذين بيدهم السلطة والمال، أو المراد الفريق المحرّف، أمّا الذين لم يحرّفوا وبينوا الحق وآمنوا فهؤلاء لابد من تصديقهم وإطاعتهم في الإيمان برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {يَرُدُّوكُم} أي إطاعتکم إياهم سبب لطمعهم فيكم حيث يرون ضعفکم وذُلّکم لذلك سيحاولون إضلالکم، فلابد لکم من قطع علقة التبعية لهم فلا تطيعوهم في شيء لئلا يطمعوا فيكم.

وعلی الإنسان المؤمن أن يغلق علی نفسه منافذ الشيطان سواء في المعتقدات أم في الأعمال، وليس معنی ذلك عدم الاستماع بل عدم الإطاعة في کبير أو صغير، وقد أغناکم الله عنهم فأمرکم بإطاعته وإطاعة رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأولي الأمر منکم، فلا حاجة لإطاعة أهل الکتاب أبداً.

الخامس: قوله تعالی: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ...} الآية.

استفهام علی سبيل التعجب، بمعنی أنه لاينبغي لکم الکفر أبداً، إذ لامجال للتأثر بالشبهات أبداً إذ آيات الله بيّنة وواضحة نصب أعينکم وهي

ص: 306

تتلی عليكم أولاً بأول، ومضافاً إلی کونها آية في نفسها فإنها تبين الحقائق وتدحض الشبهات، کما أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حضر بين أظهرکم، بمعجزاته ودلائله ومنطقه، وأصل رؤيته والاستماع إليه کفيل بدحض الشبهات، فضلاً عن المعاجز التي صدرت عنه، مضافاً إلی إمکانکم استفساره عن أيّ شيء وطلب جواب أية شبهة.

وأما قوله: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ} فيمکن أن يراد به بيان أن سبب ارتداد ونفاق بعض الناس مع أنهم شاهدوا آيات الله تعالی ورأوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، هو عدم اعتصامهم بالله تعالی، فإن الهداية منه سبحانه کما قال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(1)، فلابدّ للمؤمن أن لايعتمد علی رؤيته وسماعه بل يعتمد علی الله سبحانه ويتوکل عليه ليوفقه علی الانتفاع بما حباه من سمع وبصر وعقل.

کما يمکن أن يکون المقصود بيان حالة أخری هي حالة انقطاع الوحي ورحيل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فحينئذٍ تکون الآية بصدد التعميم بعد التخصيص ببيان أنه لابدّ للإنسان من الالتجاء إلی الله تعالی ليحفظه من الضلال وليهديه سبيله، وهذا هو الذي بيّنه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين المتواتر لدی الفريقين حيث خلّف الرسول في الأمة کتاب الله وعترته أهل بيته وقال: «ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً» فهذا من الاعتصام بالله تعالی.

و(الاعتصام) بمعنی الامتناع، واعتصم به أي امتنع بسببه، فالاعتصام بالله بمعنی الامتناع عن الضلال بتوفيق منه تعالی، وسمّي المعصوم معصوماً لأنه

ص: 307


1- سورة القصص، الآية: 56.

الممتنع بالله من جميع محارم الله کما في الحديث(1).

وقوله: {فَقَدْ هُدِيَ} إخبار، أي اهتدی سواء في الدنيا بالحياة الکريمة البعيدة عن الضنك، أم في الآخرة إلی السعادة والجنة، وقيل: هذا وعد أي إن الله يعده بالهداية إلی الصراط المستقيم، لا السبيل الأعوج الذي کانوا يريدون إغوائه بإلقائه فيه.

ص: 308


1- معاني الأخبار: 132.

الآيتان 102-103

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}

وبعد تحذير المومنين من مکائد أهل الکتاب وأمرهم بالاعتصام بالله تعالی، يتم وعظهم وإرشادهم إلی کيفية الاعتصام به تعالی، وذلک بالتقوی والاستمرار علی الإسلام والاعتصام بحبل الله وتذکر نعمه فقال:

102- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} حيث أظهروا الإسلام {اتَّقُواْ اللَّهَ} احذروا عذابه {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي التقوی الحق بأن تطيعوه ولاتعصوه، وتذکروه فلاتنسوه، وتشکروه فلا تکفروه، {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي لتکونوا مسلمين في کل الأزمان والأحوال حتی إذا جاءکم الموت متّم علی الإسلام بمعنی التسليم المطلق لله تعالی في کل شيء.

103- {وَاعْتَصِمُواْ} تمسکوا وامتنعوا عن الانحراف {بِحَبْلِ اللَّهِ} بسبب حبله الذي هو الدين والقرآن والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) {جَمِيعًا} مجتمعين عليه {وَلَا تَفَرَّقُواْ} بأن يترك البعض حبل الله.

ثم يحث الله المؤمنين علی الاعتصام بحبله بتذکيرهم بما وُفّقوا له بسبب

ص: 309

الإيمان، من فائدتين عظيمتين دنيوية وأخروية {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وهي الإيمان {إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً} قبل الإسلام {فَأَلَّفَ} جمع وقرّب {بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ} بسببها {إِخْوَٰنًا} حالکم کحال الإخوة في النسب متحابين، فهذه نعمة دنيوية، {وَ} أما الأخروية فقد {كُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا} حافة {حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ} حيث کنتم علی الکفر ولم يكن بينکم وبين الوقوع في نار جهنم سوی الموت {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} من الحفرة أو من النار ببرکة هدايتکم إلی الإسلام، {كَذَٰلِكَ} کما في هذه الآية {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ} علائمه وحججه ودلائله {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لأجل هدايتکم بالثبات علی الهدی والزيادة فيه.

بحوث

الأول: بعد أمرهم بالاعتصام بالله تعالی، يتم بيان کيفية هذا الاعتصام، وذلك في مراحل ثلاث.

1- ملازمة التقوی في کل حال.

2- التمسك بحبل الله - من الدين والقرآن والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) - لأنهم الطريق إلی الله تعالی، فالدين هو الإرادة التشريعية لله تعالی الذي نَهَجَه للعباد، والقرآن هو الجامع لکل ما يريده الله من الناس، والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) هم المبلّغون عن الله والشارحون لکتابه.

3- تذکر نعم الله تعالی - دنيوية وأخروية - وماکانوا عليه من سوء الحال قبل الإسلام، ليکون ذلك محفّزاً لهم للاستمرار في الإسلام والاستزادة من التقوی والعمل الصالح.

ص: 310

الثاني: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}.

بيان للمرحلة الأولی، و{اتَّقُواْ} من الوقاية بمعنی حفظ النفس، و{اتَّقُواْ اللَّهَ} بمعنی الحذر من عقابه وعذابه، وذلك بإطاعته في جميع الأحوال.

و{حَقَّ تُقَاتِهِ} أي بالکيفية التي تستحقها التقوی، من ملازمتها وبأقصی درجاتها، وفي جميع الأحوال والأزمنة والأمکنة، ولايکون ذلك إلاّ بطاعته في جميع أوامره وترك معصيته في جميع نواهيه، وبأن يذکر دائماً من غير نسيان، وبأن يشکر من غير کفر، کما في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «يطاع ولا يعصی، ويذکر فلا ينسی، ويشکر فلا يكفر»(1).

ومن المعلوم أن هذا يتوقف علی معرفة جميع الأحکام الواقعية من جهة، وعلی إفراغ النفس والفکر من جميع التعلقات المادية وبشکل دائم، وهذا لايطيقه غالب الناس إلا من اصطفاه الله وعصمه، فلذا خفف الله عنهم فأنزل قوله تعالی: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(2)، أي إن لم تتمکنوا من حق تقواه إمّا لعدم علمکم ببعض الأحکام الواقعية - وهذا ما حصل الآن حيث إن بعض الأحکام أحکام ظاهرية وبأدلة مظنونة أو بأصول عملية - وإمّا لعدم تمکنکم من الذکر الدائم والشکر المتواصل بعروض الغفلة والتعلقات الدنيوية، فعليكم بالتقوی بمقدار استطاعتکم.

وهذا ما دلت عليه الأحاديث الشريفة، فعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالی: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} أنه قال: «والله ما عمل بها غير أهل بيت

ص: 311


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 463، عن معاني الأخبار والمحاسن وکتاب الزهد.
2- سورة التغابن، الآية: 16.

رسول الله، نحن ذکرنا الله فلا ننساه، ونحن شکرناه فلا نکفره، ونحن أطعناه فلم نعصه، فلما نزلت هذه الآية قالت الصحابة: لانطيق ذلك! فأنزل الله تعالی: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(1).

وبذلك يتضح معنی ماورد من نسخ آية {حَقَّ تُقَاتِهِ} بآية {مَا اسْتَطَعْتُمْ}(2)،

فإن المراد الاکتفاء بما يستطيع الإنسان مع عدم إيجاب الدرجة العليا من التقوی عليه، وبعبارة أخری: إن (حق التقوی) هي الدرجة العليا منه لمن تمکّن - ولم يتمکن منها إلا المعصومون (عليهم السلام) - ولکن خفّف الأمر علی سائر الناس بجعل حق التقوی عليهم بما يستطيعون، وبعبارة ثالثة: ليس هناك نسخ في الحکم، وإنما توسعة للموضوع، وذلك بإدخال تقوی سائر الناس في حق التقوی کلٌ بحسبه، وهذا ما يعبّر عنه في أصول الفقه بالحکومة، التي من مصاديقها التوسعة في الموضوع ليدخل فيه ما لم يكن منه، وذلك بغية شمول الحکم له.

وقيل: إن مفاد الآيتين - آية حق تقاته، وآية ما استطعتم - واحد، لأن الاستطاعة شرط عقلي للتکليف، فکل مؤمن وحسب مرتبة کماله وإيمانه يکون متقياً حق تقاته، مع تأويل رواية النسخ بأن المراد من النسخ هنا هو نزول المفسِّر الذي يرفع توهم أن حق التقاة هو ما فوق الاستطاعة.

لکن الأقرب هو ما ذکرناه لتطابقه مع الأخبار ومع الاعتبار العقلي، فالجمع بين الآيتين يعطي معنی أن علی الإنسان أن يتقي الله حق تقاته، فإن

ص: 312


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 464، عن مناقب ابن شهر آشوب عن تفسير وکيع.
2- تفسير العياشي 1: 193.

لم يستطع ذلك فبالمقدار الذي يتمکن منه.

الثالث: قوله تعالی: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.

هو نهي عن الکفر الذي قد يصادف موت الإنسان عليه، وليس نهياً عن الموت لأنه ليس من أفعال الإنسان ولا هو يقدر عليه، فالمراد هو الاستمرار علی الإسلام دائماً وعدم التسويف في الإيمان والتوبة أو بناء الأمر علی التمني والآمال، إذ لايعلم الإنسان متی يموت، فعليه أن يکون علی الإسلام دائماً حتی إذا مات مات علی الإيمان.

وقوله: {مُّسْلِمُونَ} بمعنی مسلِّمون من التسليم لله في کل شيء، کما في دعاء إبراهيم (عليه السلام) : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}(1)، قال سبحانه: {ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(2)، وعليه فالخطاب في صدر الآية بقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} يراد به مطلق من أظهر الشهادتين، ولذا أمرهم بالإيمان في قوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...}(3)،

وقد مرّ أن الاصطلاح القرآني هو أنّ {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} لمطلق المسلمين فيشمل کل من أظهر الشهادتين، و{أَهْلِ الْكِتَٰبِ} لليهود والنصاری، و{الْمُشْرِكُونَ} لعبدة الأصنام، وأما الإسلام في قوله: {إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} يراد به التسليم لله في کل شيء وهو أرفع درجات الإيمان، فما روي من أن التنزيل الذي نزل به جبرئيل هو

ص: 313


1- سورة البقرة، الآية: 128.
2- سورة النساء، الآية: 65.
3- سورة النساء، الآية: 136.

مسلِّمون(1) يراد به تنزيل المعنی، إذ کما نزل نص القرآن کذلك نزل تفسيره وتأويله، کما قال: {فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُۥ}(2) والله العالم.

معنی حبل الله تعالی

الرابع: قوله تعالی: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}.

هذه المرحلة الثانية، فبعد تقوی الله، يکون الوعظ بالتمسك بحبله تعالی، وتم تشبيهه بالحبل لأن الحبل الوثيق يمنع المتسلّق من السقوط في الهاوية، کما يرفع به من کان في بئر ونحوها، فکذلك حبل الله يمنع الإنسان من السقوط في نار جهنم، ويرفعه إلی الدرجات الراقية من الکمال والجنة والرضوان.

فحبل الله هو ما يوصل الإنسان إلی الله تعالی، وهو دينه والقرآن والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) ، حيث إن ذلک يرفع الإنسان إلی درجات الکمال ويمنعه من الهويّ في الرذائل ونار جهنم، ولذا ترك رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في أمته الثقلين وبيّن أن التمسك بهما أمان من الضلال أبداً، فقال: «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً کتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتی»(3).

وعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه أشار إلی الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: «هذا حبل الله الذي من تمسك به عُصم به في دنياه ولم يضلّ في آخرته»(4)،

ص: 314


1- تفسير العياشي 1: 193.
2- سورة القيامة، الآية: 18-19.
3- حديث متواتر بمضامين قريبة، راجع بحار الأنوار 23: 106 فما بعد.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 468، عن غيبة النعماني.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «نحن الحبل»(1)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «آل محمد هم حبل الله الذي أمرنا بالاعتصام به»(2)،

وعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أيها الناس إني قد ترکت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدی، أحدهما أکبر من الآخر: کتاب الله حبل ممدود من السماء إلی الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا إنهما لن يفترقا حتی يردا عليّ الحوض»(3).

وقيل: الفرق بين قوله: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ} في الآية 101، وقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ}، أن الباء في الأولی للتعدية فالاعتصام بالله هو الالتجاء إليه، والباء في الثانية للسببية أي الاعتصام بسبب الحبل، فمعنی الآيتين هو الاعتصام بالله بواسطة حبله.

وقيل: الباء في الآيتين، بمعنی واحد، لکن الثانية شارحة للأولي أي الاعتصام بالله يکون عبر الاعتصام بحبله.

وقيل: ذاك في الاعتصام الفردي فقال: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ} وهذا في الاعتصام الجمعي.

وقوله: {جَمِيعًا} إمّا أمر الجميع، أي هذا واجب عيني علی الکل وليس کالأمر بالمعروف والنهي عن المنکر - المذکورين في الآيات التالية - حيث إنهما واجبان کفائيان، فيکون قوله: {وَلَا تَفَرَّقُواْ} بمعنی النهي عن ترك البعض.

وإمّا بمعنی مجتمعين، أي اعتصموا حالکونکم مجتمعين، فيکون قوله:

ص: 315


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 468، عن أمالي الشيخ الطوسي.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 468، عن تفسير العياشي.
3- مجمع البيان 2: 534.

{وَلَا تَفَرَّقُواْ} تأکيداً أي مجتمعين غير متفرقين.

الخامس: قوله تعالی: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...} الآية.

هذه المرحلة الثالثة وهي تذکيرهم بفائدتين مهمتين في إسلامهم، والغرض هو حثّهم علی الاستمرار علی الايمان والاعتصام، إحداهما دنيوية يلمسونها وهو تبدل العداوة إلی الألفة الشديدة بحيث صاروا کالإخوان، وتبدل الخوف بالأمن والأمان، والثانية أخروية بإنقاذهم من نار جهنم مع أنهم کادوا أن يقعوا فيها بکفرهم.

وقوله: {نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وهي إرسال الرسول إليكم وهدايتکم إلی دين الله، کما قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(1)، وقال: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَىٰكُمْ لِلْإِيمَٰنِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(2).

قوله: {إِذْ كُنتُمْ...} بيان للنعمة الأولی، وقوله: {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا...} بيان للنعمة الثانية.

قوله: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} من الألفة بمعنی الإلتئام القلبي والمودة بين الأشخاص، بحيث اقتربت قلوبهم وحصلت المودة بعد طول التباغض والحروب بينهم، حيث طالت الحرب بين الأوس والخزرج أکثر من مائة سنة، وکانت الغارات دأب القبائل، فکان شعارهم الخوف ودثارهم السيف، فکان الجميع - باستثناء أهل مکة - في خوف دائم.

ص: 316


1- سورة الجمعة، الآية: 2.
2- سورة الحجرات، الآية: 17.

وقوله: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا} بيان أن تلك الألفة بلغت إلی أعلی المراتب، حيث صار أحدکم کأخ للآخر، فيتعامل معه کما يتعامل مع أخيه.

وقوله: {شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ} بيان للفائدة الأخروية و{شَفَا} بمعنی الحافة، فالمعنی کنتم کفاراً، والکافر في حافة نار جهنم، ليس بينکم وبين الوقوع فيها إلاّ الموت، وهو قريب جداً، فکأنکم ساقطون في جهنم.

وقوله: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} أي من الحفرة، لأنهم کانوا سيقعون فيها لامحالة إن لم يرسل الله تعالی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) إليهم، کما قال تعالی: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}(1).

ص: 317


1- سورة التوبة، الآية: 109.

الآيات 104-109

اشارة

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ (107) تِلْكَ ءَايَٰتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَٰلَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)}

104- ولابد من حفظ الاعتصام بالله وبحبله واستمرار نعمه، وذلك بهداية الناس ومنعهم عن الانحراف {وَلْتَكُن} يجب أن تکون {مِّنكُمْ أُمَّةٌ} جماعة وعلی رأسهم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} کالإسلام بإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي ما يعرفه الشرع والعقل بالحُسن {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ما لايعرفاه بالحُسن بل يستقبحانه، {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون، أو الکُمّل في الفلاح.

105- ثم حذرهم من نسيان هذه النِعم الجسام کما نسته الأمم السابقة {وَلَا تَكُونُواْ} بعد الألفة والأخوة {كَالَّذِينَ} من قبلکم کاليهود والنصاری حيث تألفت قلوبهم بسبب الأنبياء ثم {تَفَرَّقُواْ} عن حبل الله {وَ} اَدّی ذلك إلی أن

ص: 318

{اخْتَلَفُواْ} في دين الله فصاروا فِرقاً کثيرة {مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ} الأدلة الواضحة في العقيدة والشريعة، ولکنهم ترکوها عمداً وعناداً فضلّوا {وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فعليكم أن لاتحذوا حذوهم لئلا ينالکم هذا العذاب.

106- ووقت هذا العذاب العظيم {يَوْمَ} أي في يوم القيامة الذي فيه {تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} بالنور فهم فرحون وعليهم نضرة النعيم، {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} بعدم النور عاليهم الحزن والبؤس والذل، {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فيقال لهم سبب ذلك تقريعاً لهم وبياناً لعدله تعالی: {أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ} وهذا يشمل أهل الکتاب الذين آمنوا بالأنبياء السابقين وکفروا برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أو آمنوا به قبل مبعثه ثم کفروا به بعده، کما يشمل المرتدين، ويشمل المنافقين الذي آمنوا لساناً وکفروا قلباً {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} وهو إسوداد الوجه ويليه سائر العذاب {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بسبب کفرکم.

107- {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} وهم المؤمنون حقاً المعتصمون بالله وبحبله {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} وبدايتها بياض الوجه ويليه الجنة والرضوان {هُمْ فِيهَا} في الرحمة {خَٰلِدُونَ}.

108- {تِلْكَ} الأمور التي ذکرت من الأمر والنهي والوعد والوعيد وأحوال المؤمنين والکافرين {ءَايَٰتُ اللَّهِ} دلائله وحججه {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} مباشرة وعلی أمتك بواسطتك {بِالْحَقِّ} ملازمة للحق فهي حق وتلاوتها حق، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَٰلَمِينَ} فليست التشريعات ثم الجزاء من الظلم في شيء بل هي حسب الحکمة والمصلحة.

109- {وَ} إنّما شرّع تعالی ويجازي لأنه المالك المطلق ف {لِلَّهِ مَا فِي

ص: 319

السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فکما أن التکوين له کذلك التشريع له {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} کل شؤون الخلق والمخلوقات فهي بيد الله تعالی، ولذا شرّع ثم يعاقب المخالف ويثيب المطيع.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ...} الآية.

بعد أن بيّن الله تعالی الطريق المستقيم وکيفية الاهتداء إليه، وحذّر من الضلال وأسبابه، بعد ذلك يبيّن أن من واجب الناس الحفاظ علی طريق الهداية، وذلك عن طريق الدعوة إلی الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، وبعبارة أخری: إن الله تعالی شرّع ورُسله بلّغوا، لکن لاينتهی الأمر عند هذا الحدّ، بل لابدّ من وجود مجموعة تساهم في التبليغ.

وقوله: {مِّنكُمْ} أي من المسلمين لامن الکفار، فأنتم أولی بذلك من غيرکم، و(من) إما للتبعيض أو بيانية، وعلی کلا التقديرين فالمعنی واحد، إذ علی التبعيض يکون المعنی ليكن بعضکم، وعلی البيانية يکون المعنی لتکونوا أمة داعيةً آمرةً ناهيةً، ومن المعلوم أنه يكفي في کون المسلمين هکذا وجود مجموعة فيهم تقوم بهذه المهمة، لأن الغرض يحصل بدعوة البعض وأمرهم ونهيهم، ومع حصول الغرض لاوجه لتکليف الآخرين.

وقوله: {أُمَّةٌ} أي مجموعة، وأصل الکلمة من (ا م م)، بمعنی القصد، وفيه إشعار بکونهم ممن يقصدون لعلمهم وورعهم، إذ لافائدة في دعوة من لم يلتزم بنفسه لجهله أو لفسقه، ولا في أمر من لم يأتمر بنفسه، ولا في نهي من لم ينتهِ بنفسه، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «وانهوا عن المنکر

ص: 320

وتناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي»(1) وقد دلت الأدلة الشرعية علی أن التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر من الواجبات الکفائية التي إذا قام بها من فيه الکفاية سقط الوجوب عن الآخرين.

وأفضل هؤلاء الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم، لأنهم عرفوا الحق ثم بلّغوه، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «هذه الآية لآل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن تابعهم»(2)، وهناك روايات في تفسير الأمة بالأئمة(3)، حيث أريد نزول معنی الأمة بالأئمة (عليهم السلام) ثم أتباعهم من بعدهم، وأما من توهم أن هذه الأمة کل الأمة الإسلامية فکلامه مستنکر لأن فيهم قتلة أمير المؤمنين والحسن والحسين ابني علي (عليهم السلام) (4).

وقيل: في هذا التبعيض وتنکير {أُمَّةٌ} تنبيه علی قلة العاملين بذلك، وأنه لايخاطب به إلاّ الخواص(5).

وقوله: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} مطلق الخير فيشمل الأفعال والتروك، وأصل الخير الإسلام والإيمان، فتدل الآية علی وجوب التبليغ وهداية الکفار والمنافقين ووجوب إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل.

وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وهو کل ما عرفه الشرع والعقل بالحُسن، ولايکون کذلك إلا ما کان حسنه ذاتي أو عرضت عليه جهة محسِّنة،

ص: 321


1- نهج البلاغة، الخطبة 105.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 473، عن تفسير القمي.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 476، عن تفسير القمي والعياشي.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 476، عن تفسير القمي.
5- الکشّاف 1: 303 (الحاشية).

وليس المراد مجرد تعارفه بين الناس، إذ کثيراً ما تتعارف بينهم القبائح حتی يتعودوا عليها، لکنهم بفطرتهم يدرکون قبحها، فهي متعارفة عندهم لکنهم ينکرونها بعقولهم.

وقوله: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وهو کل ما لم يعرفه الشرع والعقل بالحُسن بل استقبحاه، وهذا يشمل ما شاع من القبائح بين الناس حتی تعودوا عليه، فهو منکر واقعاً يدرکون نکارته بفطرتهم أو بعقولهم.

نعم هناك أمور لايدرك الإنسان حسنها أو قبحها لقصور علمه، وقد بيّنها الشارع رحمة للناس ولطفاً من الله تعالی بهم، فکل ما أباحه الشارع معروف حتی لو لم يعرفه الناس، وکل ما منع عنه منکر حتی لو تعارف بينهم.

وقيل في الفرق بين الخير والمعروف، والشر والمنکر: أن المعروف والمنکر من صفات الفعل في مرحلة الطاعة والعصيان، وأما الخير والشر فهما أعم من ذلك فيشملان ما لم يكن باختيار الإنسان کالبلايا والنعماء ونحو ذلك(1).

وفي المناهج: الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر من أفضل فرائض الله تعالی، لأنهما کاشفان عن أعلی درجات الايمان، فإن الآمر والناهي لايرضيان أن يعصی الله في أرضه، فهما يذبان عن حريم الله تعالی ويدافعان عن حرماته(2).

وقوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الفلاح الکامل وذلك لأنهم سبقوا

ص: 322


1- مناهج البيان 4: 31.
2- مناهج البيان 4: 44 (بتصرّف).

غيرهم إلی هذه الفضيلة، فإن الواجب الکفائي يسقط عن الآخرين بفعل من فيه الکفاية، لکن العاملين به فازوا بقصب السبق، فالفلاح الکامل لهم، وقيل: هذا کالعلة لدعوتهم وأمرهم ونهيهم، أي لأنهم کانوا مفلحين بحسب تربية النفس لذلك قاموا بهذه المهمة، أو الأمة التي فيها هذه المجموعة هي أمة مفلحة فائزة، وهذا لاينافي عدم فلاح البعض بنفاقهم أو معاصيهم، فتأمل.

الثاني: قوله تعالی: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ...} الآية.

بعد إرشاد المؤمنين بمواصلة الاعتصام بالله وبحبله، يتم تحذيرهم من التماهل والغفلة عن ذلك بأن يطول عليهم الزمان فيترکوا الاعتصام، فإن ذلك يؤدي بهم إلی الانحراف عن طريق الحق إلی سبل الباطل، وهذا ليس مجرد أمر نظري، بل قد وقع مثله في الأمم السابقة، قال تعالی: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنۢ بَعْدِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ}(1)، والفرق بين {تَفَرَّقُواْ} و{وَاخْتَلَفُواْ} أن التفرّق هو بمعنی عدم الاعتصام بالله وبحبله، فأدّی ذلك إلی أخذهم بالآراء المختلفة فاختلفوا إلی فرق ومذاهب شتی وکثيرة.

وقيل: تفرقوا بالعداوة واختلفوا في المعتقد، وقيل: تفرقوا في البداية، واختلفوا باستمرار التفرقة، وقيل: تفرقوا بالأبدان فاختلفوا في الأفکار، وقيل: کلمتان بمعنی واحد تأکيداً.

وقد استفاضت الروايات بافتراق أمة موسی (عليه السلام) إلی إحدی وسبعين فرقة، وأمة عيسی (عليه السلام) إلی اثنتين وسبعين، وستفترق أمة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) إلی

ص: 323


1- سورة البقرة، الآية: 253.

ثلاثة وسبعين فرقة(1)، وسبب ذلك عدم عمل الأکثر بوصية الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بالتمسك بالثقلين الذي مَن تمسك بهما لن يضلّ أبداً، لکنهم شرّقوا وغرّبوا فحفظوا رسم القرآن وکلماته وحرّفوا معانيه، وأقصوا العترة عن السلطة ثم شردّوهم وقتلوهم.

افتراق المسلمين وعدد فِرَقهم

ومن فذلکة القول إن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يذکر زمان حدوث هذه الفرق، لکنه أخبر عن الافتراق إليها في المستقبل، وتأسيس هذه الفرق کان بالتدريج، لکن بعض کتّاب الملل والنحل تصوروا أن هذه الفرق کلها قد تأسست قبل زمانهم لذلك کلّما نقص العدد اخترعوا بأوهامهم فرقاً أخری ليكمّلوا العدد إلی ثلاثة وسبعين!!

ومع کل هذا التحذير من التفرق لم يراع الأکثر کلام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فاختلفوا وتفرقوا في زمانه، وحديث القرطاس مشهور روته العامة والخاصة حيث اتهموا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأنه يهجر - والعياذ بالله - لما طلب کتاباً وقلماً ليكتب لهم کتاباً لن يضلوا بعده أبداً، ثم خالفوا وصيته ونقضوا العهود حتی حاربهم أمير المؤمنين (عليه السلام) علی التأويل کما حاربهم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) علی التنزيل.

ثم إعلم أن الاختلاف المذموم هو الاختلاف في الدين الناتج عن ترك الاعتصام بالله وبحبله، وهذا أمر اختياري للإنسان لذا تعلّق به التکليف والذم، وأما الاختلاف الطبيعي غير الاختياري في مقدار الادراك وفي الفوارق الخَلقية والاجتماعية فذلك من آيات الله تعالی، کما قال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ إِنَّ فِي

ص: 324


1- الکافي 8: 224.

ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّلْعَٰلِمِينَ}(1)، وقد أشرنا في المجلد الأول أن سنة الله تعالی هي إيجاد التفاضل في کل شيء فراجع.

الثالث: قوله تعالی: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ...} الآية.

بعد الأمر بالاعتصام بالله وبحبله، والنهي عن التفرق والاختلاف، بيّن الله تعالی جزاء الطائفتين، فحيث إن الله تعالی نور السموات والأرض، وحبله، نور لذلك الاعتصام بهما سبب النور، فيظهر هذا النور، علی الوجه في الآخرة، کما أن ترکهما ضلال، والضلال ظلمات في الدنيا والآخرة، قال تعالی: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِ}(2)، وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم} إلی قوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالْمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُورًا}(3).

وقيل: بياض الوجه کناية عن السرور والنضارة والبهجة، کما قال: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}(4)، وسواد الوجه کناية عن الحزن والبؤس والخوف والذل کما قال: {وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِمًا}(5)، وقال: {فَلَمَّا

ص: 325


1- سورة الروم، الآية: 22.
2- سورة البقرة، الآية: 257.
3- سورة الحديد، الآية: 12-13.
4- سورة المطففين، الآية: 24.
5- سورة يونس، الآية: 27.

رَأَوْهُ زُلْفَةً سِئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}(1)، وذلك لأن السرور والعزّ وکذا الحزن والذل ونحوها أول ظهورها علی الوجه، فينبسط أو ينقبض فکُنّي عنهما بالبياض أو السواد، وقيل: السواد والبياض هنا بمعناهما الحقيقي، ولا وجه للحمل علی المجاز مع عدم المحذور من الحمل علی المعنی الحقيقي!! إلاّ أن الحمل علی الکناية أفصح وهو استعمال شائع.

وقوله: {أَكَفَرْتُم} بحذف القول اختصاراً لدلالة الجملة عليه، أي فيقال لهم أکفرتم، وذلك لتوبيخهم وتعنيفهم، فيکون ذلك مزيداً لعذابهم، وأيضاً وعظاً للناس لئلا يسلکوا ما يؤدي بهم إلی هذا المصير، فإن البعض قد يتعظ عبر التهديد بالعذاب النفسي أکثر مما يتعظ من التهديد بالعذاب الجسدي.

وقوله: {بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ} حيث إن الکلام حول الذين تفرقوا من بعد ما جائتهم البينات وهم أهل الکتاب، أو أهل الکتاب من مصاديقهم البارزة، فهؤلاء آمنوا بالبداية بالرسل لکنهم ارتدوا بعدهم وهذا أسوء أنواع الکفر لأنه کفر بعد الإقرار، ولکن شأن النزول لايخصص الآيات عادة فلذا الآية تشمل أهل الکتاب الذين کفروا برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بعد إيمانهم بموسی أو عيسی (عليهماالسلام) .

وقوله: {فَذُوقُواْ} الأمر للإهانة، والتعبير بالذوق مع أن العذاب محيط بکل أعضائهم وجوارحهم إمّا للتوسع في الذوق، أو هو إشارة إلی الاسوداد حيث إنه بداية العذاب الأکبر فکأنهم بذلك ذاقوا العذاب قبل أن يحيط بهم من کل جانب.

الرابع: قوله تعالی: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}.

ص: 326


1- سورة الملك، الآية: 27.

أي ثوابه ورضاه والجنة، وکل ذلك رحمة من الله تعالی علی عبده المؤمن، قيل: هو تنبيه علی أن ذلك رحمة من الله من غير استحقاق بالذات، وإنما بفضله تعالی، وحيث أراد تعالی التنبيه علی أمرين: أنهم في رحمة الله، وأن هذه الرحمة مستمرة من غير انقطاع أبد الآبدين لذلك کرّر حرف الجر فقال: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} وهو الأمر الأول، ثم قال: {هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ} وهو الأمر الثاني، ولو قال: «ففي رحمة الله خالدون» لأفاد المعنی، لکن من المطلوب التفصيل في الشيء المحبوب لزيادة الرغبة فيه.

الخامس: قوله تعالی: {تِلْكَ ءَايَٰتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ...} الآية.

لعلّ المقصود من هذه الآية والآية التي بعدها هو بيان أن هذه الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، وذکر أحوال المؤمنين والکافرين ليس لغواً باطلاً، بل لهداية الناس وإرشادهم، وذلك هو الحق فلذا يريده الله تعالی ولا يترکه لأن في ترکه الظلم وهو تعالی منزه عنه، فکما أن خلق السموات والأرض کان بالحق ولغرض سامي کذلك تکليف العباد، وحيث إن أزمة الأمور کلها بيدالله تعالی لذا شرّع لهم الأحکام - من أمر ونهي - ولا ضمانة للامتثال إلا بالجزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ.

فقوله: {تِلْكَ} أي ما ذکر في الآيات السابقة وفيها الوعظ والأمر والنهي والإنذار والتبشير وبيان الجزاء، کل تلك من علائم الله ودلائله وحججه.

وقوله: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} تلاوتها متلبسة بالحق تلازم کونها حقاً في نفسها، لأن الباطل لايُتلی إلاّ بالباطل، وأما الحق فقد يتلی بالباطل بتحريفه عن مقصده، کما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لما سمع استشهاد الخوارج

ص: 327

بآية قرآنية فقال: «کلمة حق يراد بها باطل»(1)، وقد يتلی بالحق أي يجعل الحق في مساره وللغرض الذي نزله له، فالتلاوة بالحق تلازم الأمرين معاً، فالمقصود أن ما ذکر کلّه حق وتلاوته أيضاً بالحق لأن الله أنزله لهداية الناس لأنه العدل الذي لايجور، فقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَٰلَمِينَ} کالدليل لهذا الکلام، أي إن عدم التلاوة ظلم والله منزه عنه، فلذا أرسل الرسل وأنزل الکتب وأراهم طريق الهداية، وبعبارة موجزة: إن الهداية من العدل وترکها - بترك الناس هملاً وبلا هادي أصلاً - ظلم، فلذا أنزل الله الآيات لأنه عادل لايريد ظلماً لأحد.

وفي قوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ} إشارة إلی أن الله لايصدر منه ظلم أبداً، بل ولايريده لا من نفسه ولا من غيره، لأن صدور الظلم بل وإرادته لايکون إلاّ من الجاهل أو المحتاج أو الخبيث، فقد يظلم شخص لجهله بأنه ظلم، وقد يظلم لاحتياجه فيرفع الاحتياج عبر الظلم، وقد يعلم ولايحتاج لکنه يتلذذ بالظلم لخبث باطنه، وقد تنزه الله عن کل ذلك فلذا لايظلم ولا يريد الظلم.

وقوله تعالی: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، کالتتمة للآية السابقة، فالتشريع والجزاء بيدالله تعالی لأنه الحق، کما أن خلق السموات والأرض کان بالحق، وبعبارة أخری: إن التشريع بيده کما أن التکوين بيده، فلذا خلق وشرّع ويجازي، فقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} کالدليل، أي أزمة الأمور کلها بيده، تکويناً وتشريعاً وجزاءً.

ص: 328


1- نهج البلاغة، الحکمة 198.

الآيات 110-112

اشارة

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ (110) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَٰتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُو بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنۢبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّٖ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (112)}

وکما في الآخرة تبيض وجوه المؤمنين وتسود وجوه الکافرين، کذلك في الدنيا المؤمنين خير جماعة والنصر لهم، والکفار من أهل الکتاب أذلّاء مغضوب عليهم مضروب عليهم المسکنة، فقال تعالی:

110- {كُنتُمْ} منذ أسلمتم {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} ظهرت {لِلنَّاسِ} أجمع، فاختارکم الله لنفع الناس، وإنّما کنتم خير الأمم لاتصافکم بصفات ثلاث: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} هذا في جانب العمل، {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} في جانب العقيدة، والايمان به تعالی لاينفك عن الإيمان بکل ما أمر تعالی بالإيمان به، {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} حيث سيصبحون مثلکم خير أمة، {مِّنْهُمُ} بعضهم القليل {الْمُؤْمِنُونَ} کعبدالله بن سلام وربعه، {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ} خارجون عن طاعة الله تعالی.

ص: 329

111- وهؤلاء الفاسقون في معارضتهم إياکم {لَن يَضُرُّوكُمْ} فلا تخشوا منهم {إِلَّا أَذًى} وهو المکروه الذي لايبلغ حدّ الضرر، کالطعن باللسان والتهديد، حتی لو اجتمعوا لاضرارکم لايتمکنون {وَإِن يُقَٰتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} أي ينهزمون {ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} أي لاناصر لهم من بطشکم.

112- وأما هم بأنفسهم فقد {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} کناية عن ملازمتهم لها، تکويناً بسلطة غيرهم عليهم، وتشريعاً بفرض الجزية عليهم وهم صاغرون {أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} في أي بقعة وجدهم الناس {إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ} بأن يؤمنوا فيکونون کسائر المسلمين أعزاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما علی المسلمين، {وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ} بأن تحميهم دولة أو مجموعة قوية أو يدخلوا في عهود وذمام مع الناس فيدافعوا عنهم، {وَبَاءُو} رجعوا {بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ} بتقديره عقابهم، {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} انکسار وهوان وضعف نفسي، وسبب {ذَٰلِكَ} العقاب الدنيوي المذکور {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ} منذ الأول ولحدّ الآن {يَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنۢبِيَاءَ} فأسلافهم قتلوا أو سبّبوا القتل، وهؤلاء رضوا بفعلهم، و{بِغَيْرِ حَقّٖ} تشنيع عليهم بأن فعلهم کان بغير حق حتی في الظاهر وفي اعتقادهم، {ذَٰلِكَ} الکفر والقتل {بِمَا عَصَواْ} بسبب عصيانهم {وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} وبسبب اعتدائهم، فالعصيان والاعتداء کانا سبباً للکفر وقتل النبيين، وهذا صار سبباً لعقوبتهم بالذلة والغضب والمسکنة.

بحوث

الأول: الظاهر أن السياق هو في ذکر المثوبة الدنيوية للمؤمنين، والعقوبة الدنيوية علی الکافرين، بعد أن ذکر الله تعالی مثوبة وعقاب الطائفتين في

ص: 330

الآخرة، ففي الآخرة إبيضاض الوجه والرحمة مع الخلود فيها للمؤمنين، وإسوداد الوجه والتقريع والعذاب للکافرين، وأما في الدنيا فمثوبة المؤمنين أنهم خير أمة، فلا أمة أفضل منهم من لدن آدم (عليه السلام) إلی أن يرث الله الأرض ومن عليها، مع بيان أن ذلك يختص بالمؤمنين الحقيقيين الذين التزموا عملاً بالأوامر والنواهي مع أمرهم ونهيهم عن المنکر، کما صحت عقيدتهم بلا انحراف فيها بأن آمنوا بالله وبکل ما أمر بالايمان به، ويتبع ذلك بأن الله ناصرهم علی الکفار من أهل الکتاب کما قال: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1)، فلا يتمکنون من الإضرار بهم سوی أذی بلسان کالطعن في الدين والتهديد، ولو تطوّر الأمر إلی أن جمعوا عدداً وعدة لقتال المسلمين، فإنهم لايتمکنون من الصمود فينهزمون فوراً، ولا أحد ينصرهم من بطش المسلمين، وبعد ذلك يتم بيان عقوبات دنيوية عاقبهم الله بها، مثل ملازمتهم للذلة أمام غيرهم في أية بقعة وجدوا فيها سواء کان فيها المسلمون أم النصاری أم غيرهم، کما أنهم في أنفسهم منکسرون يشعرون بالهوان والضعف، مع طردهم من رحمة الله تعالی.

ثم بيان أن عقوبتهم هذه ليست ظلماً عليهم بل بما کسبت أيديهم، حيث خالفوا أوامر الله واعتدوا علی حرماته حتی آل أمرهم إلی الکفر بآيات الله تعالی وقتل أنبيائه (عليهم السلام) .

الثاني: قوله تعالی: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...} الآية.

{كُنتُمْ} من کان الناقصة والفعل ماضي، والمعنی من زمان دخولکم في

ص: 331


1- سورة محمد، الآية: 7.

الإسلام أصبحتم خير أمة، وسبب ذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر والايمان بالله، فإن استمرت هذه الصفات فيكم استمر کونکم خير أمة، وإلاّ فلا، فلا داعي لسلخ {كُنتُمْ} عن ظاهره في الدلالة علی الزمان الماضي والنقصان - أي الاحتياج إلی الخبر - ، وبعبارة أخری: إن هذه قضية حقيقية، فمتی ما تحقق الموضوع تحقق الحکم، وحيث إنه في الماضي التزمتم بالشروط الثلاثة لذلك أصبحتم خير أمة، فإن واصلتم الالتزام استمر کونکم خير أمة، والاّ فلا.

قوله: {خَيْرَ أُمَّةٍ} أي أفضل جماعة، ولايخفی إن أجلی مصداق لهذه الأمة هم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، بل نفس الأمة التي هي خير الأمم فيها تفاضل فبعضهم أفضل من بعض، وکلّما ازداد الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر ازدادت درجة الفضيلة، ولذا کان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) أفضل هذه الأمة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «في قراءة علي (عليه السلام) : کنتم خير أئمة أخرجت للناس»، قال: «هم آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) »(1). والمقصود أنه (عليه السلام) هکذا کان يقرأ تفسيرها، أي يقرأ الآية فيفسرها هکذا، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «يعنی الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم (عليه السلام) ، فهم الأمة التي بعث الله فيها ومنها وإليها، وهم الأمة الوسطی، وهم خير أمة أخرجت للناس»(2)، ويحتمل أن يکون شأن النزول في الأئمة (عليهم السلام) مع عموم المقصود لکل من تحلّی بالصفات الثلاث.

ص: 332


1- تفسير العياشي 1: 195.
2- تفسير العياشي 1: 195؛ البرهان في تفسير القرآن 2: 476.

قوله: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي ظهرت، والنفع منها يرجع لعامة الناس لأن هذه الأمة تنشر الخير وتبيّن طريق الصلاح لعامة الناس، فنفعها يعود عليهم أجمع، ولعلّ التعبير بالخروج، لأنها کانت کامنة غير ظاهرة، فبإرسال رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ظهرت هذه الأمة، کالحب تحت الأرض کامن فبنزول المطر يخرج نباتاً لصالح الناس، قال تعالی: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَٰتِ رِزْقًا لَّكُمْ}(1)،

فکما أخرج للناس الثمار المادية لينتفعوا بها کذلك أخرج هذه الأمة لينتفعوا بها في طريقة حياتهم.

وقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} بيان للجانب العملي في صيرورتهم خير أمه، وفي الآية إيجاز بليغ، والمراد تعملون بالمعروف وتأمرون به، وتنتهون عن المنکر وتنهون عنه.

وقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} بيان للجانب الاعتقادي، والمراد الإيمان بالله وبکل ما أمر بالايمان به، إذ عدم الإيمان بالبعض هو کفر بالله تعالی وعدم إيمان به، قال سبحانه: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (150) أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ حَقًّا}(2).

وإنما قدّم الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر علی الايمان بالله، مع أن الايمان هو الأصل، لأنه تعالی ذکر أنها أخرجت للناس فقدّم الأمر والنهي لأن انتفاع الناس بهما مباشر.

وقوله: {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ...} حث لأهل الکتاب علی الإسلام

ص: 333


1- سورة إبراهيم، الآية: 32.
2- سورة النساء، الآية: 150-151.

وأن سبق المسلمين إلی الإسلام وصيروتهم خير أمة لاينافي لحوق الآخرين بهم، فالخيرية لاترتبط بالقومية أو العرق أو اللون ونحو ذلك من الفوارق الطبيعية بين بني البشر بل بالعقيدة والعمل، کما قال تعالی: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

والظاهر أن المراد هنا من {أَهْلُ الْكِتَٰبِ} اليهود، لأن السياق في الآيات السابقة حولهم، ولأن العقوبات المذکورة - من الذلة والسکنة والغضب - خصّ بها اليهود في آيات أخری.

وقوله: {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} في دنياهم وآخرتهم، أمّا الدنيا فتخلو من الضنك والإصر والأغلال التي کانت عليهم، والنجاة من الجلاء والقتل وغنم أموالهم وغير ذلك، وأمّا الآخرة ففي نعيم الله ورضوانه خالدين فيهما.

الثالث: قوله تعالی: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى...} الآية.

هذه الآية لبيان عدم تأثير مؤامراتهم وأقوالهم وأفعالهم التي يعارضون بها المسلمين، وفيها تطمين للمسلمين وتسكين لخواطرهم، وخاصة من آمن من أهل الکتاب حيث کانوا يؤذونهم بألسنتهم ويهددونهم.

1- إيذاؤهم للمؤمنين لايتطور إلی الضرر، فقوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ} لنفي التأبيد، و(الضرر) نقصان في النفس أو المال، و{أَذًى} المکروه الذي لايبلغ حدّ الضرر، فالاستثناء في {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} منقطع، وهذا الإيذاء بالکلام عادة إما بشتم أو تعنيف ولوم أو تهديد أو بالإشاعات، ونحو ذلك.

2- قتالهم للمؤمنين يتحول إلی هزيمة لهم، فحتی لو تطور إيذاؤهم إلی قتال

ص: 334


1- سورة الحجرات، الآية: 13.

فاجتمعوا ليستأصلوا المؤمنين فلايتمکنون، بل ينهزمون فارين من المعرکة، قال تعالی: {لَا يُقَٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرِۢ}(1).

3- عدم نصرهم وذلك بدفع بأسکم عنهم، أي لاينصرهم أحد، أو لاينصرهم قومهم أو من تعاهدوا معه، کما تعاهدوا مع المشركين في غزوة الأحزاب ثم خذلهم المشرکون ورحلوا فترکوهم لوحدهم أمام جيش الإسلام، و{ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} عطف علی {لَن يَضُرُّوكُمْ}.

فيکون المعنی: لن يتمکنوا من إضرارکم، وينهزمون أمامکم، ولا ناصر لهم من بطشکم، فهي مراحل ثلاث في معارضتهم لکم.

سؤال: کيف نجد اليهود الآن في فلسطين وقد احتلوها منذ سنوات طويلة فهجّروا أهلها وشکّلوا دويلتهم اللقيطة، وخاضوا حروباً مع الدول الإسلامية وانتصروا فيها!؟

والجواب: إن الآية في مقام مقابلتهم لخير أمة - والتي تأمر بالمعروف وتنهی عن المنکر وتؤمن بالله - أما المسلمون الآن فعلی الأعم الأغلب ترکوا هذه الأوصاف الثلاث، فتفشت فيهم المنکرات وتَرْك المعروف وانحرفوا عن العقيدة السليمة، لذا تسلط عليهم الشرق والغرب قتلاً وتنکيلاً ونهباً وغير ذلك، ولو عاد المسلمون إلی ماکانوا عليه في عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) عادت إليهم عزتهم ومنعتهم، وقد قال تعالی: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2)، وأما اليهود في فلسطين فتمسکوا بحبل من الناس کما سيأتي

ص: 335


1- سورة الحشر، الآية: 14.
2- سورة الرعد، الآية: 11.

توضيحه في الآية التالية.

معنی «ضربت عليهم الذلة»

الرابع: قوله تعالی: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ...} الآية.

کانت الآية السابقة حول مؤامراتهم تجاه المسلمين، وهذه الآية حول حالتهم أنفسهم، حيث عاقبهم الله بکفرهم وعصيانهم اللذين أدّيا بهم إلی الکفر بآيات الله وقتل الأنبياء، بثلاث عقوبات دنيوية، إحداها حالتهم مع الناس، والأخری حالتهم مع الله تعالی، والثالثة حالتهم في أنفسهم.

1- {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} هذا حالهم مع سائر الناس، فهم أذلاء أينما کانوا سواء مع المسلمين أو النصاری أو غيرهم، و(الضرب) کناية عن الملازمة، کما تُضرب النقود بسکة عليها تلازمها دائماً فعبّر عن لزوم الذلة عليهم بالضرب، و{الذِّلَّةُ} تکويناً، بهوانهم علی الناس وإذلال الناس إياهم، لما جُبل عليه الناس من تحقير المتکبّر الذي يری نفسه فوق الآخرين الذي يتحيّن الفرص للمؤامرة علی الناس لابتزازهم وسلبهم أموالهم، واليهود يزعمون أنهم أبناء الله وأحبائه وأن الناس کالبهائم بالنسبة إليهم، وأن أموالهم ونفوسهم مباحة لهم متی ما استطاعوا علی ذلك.

وقيل: وأيضاً الذلة تشريعاً بفرض الجزية عليهم، وفي المناهج: الأمان تشريعي لاتکويني، أي إذا اعتصموا (بحبل من الله) - أي إلی حکم من أحکام الکتاب - يحفظون به دماءهم وأعراضهم وأموالهم، {وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ} ما جعله الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقرره عليهم(1).

لکن هذا لاينسجم مع قوله: {أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ}، حيث معناه في أي مکان

ص: 336


1- مناهج البيان 4: 41-42 (بتصرّف).

تواجد فيه اليهود - سواء بلاد المسلمين أم النصاری أم سائر الکفار - فهم أذلاء يحتقرهم الناس.

وقوله: {إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ} أي لو آمنوا بالله واعتصموا بحبله فإن الذلة تتبدل إلی عزة، حيث يدخل المؤمن منهم في ربقة المسلمين فيکون له ما لهم وعليه ما عليهم، قال تعالی: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(1)، وقد مرّ معنی حبل الله في الآية 103.

وقوله: {وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ} الواو للتقسيم أي أو بحبل من الناس، والمعنی أن يحتموا في ظل حکومة قوية سواء کانت إسلامية أو غير إسلامية، بحيث يکونون علی ذمتها فتدافع عنهم وتُؤمنهم وتمنع من ظلمهم...

أما الحکومة الإسلامية: فإنها تأخذ منهم ضريبة الجزية، وتمنع الناس من إيذاء أهل الذمة أو ظلمهم، ولعلّ ما ورد في تفسير الآية من أن حبلاً من الناس هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (2) يراد به هذا حيث إن أهل الذمة عاشوا بأمان في ظل حکمه (عليه السلام) ، کما يحتمل أن يکون من بطون الآية.

وأما الحکومات غير الإسلامية: کالحکومات الاستعمارية فهي مستعدة لحماية من يعمل طبقاً لمصلحتها ما دامت المصلحة مستمرة، وحيث استعد اليهود في العصر الحاضر أن يکونوا أدوات للدول الغربية الکبری، وکانت لهذه الدول المصلحة في التخلص من اليهود القاطنين فيها، لذلك منحوهم فلسطين وأسسوا لهم دولتهم اللقيطة المسماة زوراً وبهتاناً باسم نبي الله

ص: 337


1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 477، عن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) وتفسير العياشي.

يعقوب (عليه السلام) ، ولا زالوا يواصلون دعمهم ولحد الآن، لاستمرار المصلحة وهذا من حبل الناس الذی ذکرته الآية، حتی إذا انتهت المصلحة ترکوهم لوحدهم ليستأصلهم المسلمون من شأفتهم، وهذا يوم قريب بإذن الله تعالی.

2- {وَبَاءُو بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ} هذا بيان حالهم مع ربّهم، وفي التقريب: فکأنّ الناس جاؤوا للاغتراف من مناهل الإسلام وکانت اليهود فيهم، فالناس رجعوا بالإسلام وحبّ الله سبحانه، وهؤلاء رجعوا بالکفر وغضب الله تعالی(1)، وفي التبيين: کأنهم جاؤوا لأخذ الحق فلم يأخذوه فرجعوا بغضب من الله أي والله ساخط عليهم(2).

3- {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} هذا حالهم في أنفسهم، وذلك بانکسار وهوان وضعف، فهم بين فقراء جائعين فهذه مسکنة بدنية(3)، وبين أثرياء لکن نفوسهم فقيرة حقيرة، فهم علی ثروتهم الظاهرة من أفقر خلق الله نفساً، وقد مرّ بيان ذلك في الآية 61 من سورة البقرة فراجع.

الخامس: قوله تعالی: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ...} الآية.

بيان أن هذه العقوبات ليست ظلماً لهم بل بما کسبت أيديهم، والآية تبيّن سببين طوليين، أي أحدهما سبب للآخر.

فالسبب الأصلي هو عصيانهم واعتداؤهم، وهذا صار سبباً لکفرهم

ص: 338


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 381.
2- تبيين القرآن: 75.
3- ذکر القمي في تفسيره: أن المسکنة الجوع، راجع البرهان في تفسير القرآن 2: 477.

وقتلهم الأنبياء فعاقبهم الله بهذه العقوبات، وبعبارة أخری حالتهم النفسية من التمرّد أدّت بهم إلی المخالفة العملية بالکفر والقتل.

فقوله: {ذَٰلِكَ} أولاً بيان للسبب القريب، و{ذَٰلِكَ} ثانياً بيان للسبب الأصلي.

وقوله: {وَيَقْتُلُونَ الْأَنۢبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّٖ} أمّا المتأخرين منهم فرضوا بفعل أسلافهم لذا شارکوهم في الجريمة ونسبت إليهم أيضاً، وأما سلفهم فکان قتلهم الأنبياء بالمباشرة تارة، وأخری بتأليب الجائرين عليهم فقتلهم الجائرون بوشاية أولئك أو بإذاعة کلامهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أذاعوا سرّهم وأفشوا عليهم فقتلوا»(1).

وقوله: {بِغَيْرِ حَقّٖ} تأکيد، إذ لايکون قتل الأنبياء إلا بغير حق، ولعلّ الغرض هو بيان أنهم کانوا يعلمون أن قتلهم بغير حق، فحتی في الظاهر لم تکن حجة لقتلهم، إذ کان غالب عمل الأنبياء الوعظ والإرشاد فقط بما هو في صالح الناس وذلك لايستوجب القتل حتی عند من لايعتقد بما يقولون.

وقوله: {عَصَواْ} أي بناء أمرهم علی العصيان، فاستمر بهم إلی أن أوصلهم إلی الکفر والقتل، وقوله: {يَعْتَدُونَ} أي يتمادون في الاعتداء کما قال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}(2) فعصيان أوامر الله ونواهيه أدّی بهم إلی الکفر، کما أن الاعتداء علی الناس أدّی بهم إلی قتل الأنبياء، فالمخالفات تبدأ صغيرة حتی تنتهی إلی أعظم المخالفات.

ص: 339


1- الکافي 2: 275.
2- سورة الروم، الآية: 10.

الآيات 113-115

{لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَٰتِ اللَّهِ ءَانَاءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ وَأُوْلَٰئِكَ مِنَ الصَّٰلِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالْمُتَّقِينَ (115)}

113- بعد ذکر الفاسقين من أهل الکتاب يتم بيان المؤمنين منهم، حثاً للباقي إلی الالتحاق بهم، {لَيْسُواْ سَوَاءً} ليس أهل الکتاب متساوين فيما ذکر من الأوصاف بل {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} بعضهم {أُمَّةٌ} مجموعة {قَائِمَةٌ} مستقيمة علی الحق {يَتْلُونَ ءَايَٰتِ اللَّهِ ءَانَاءَ} ساعات {الَّيْلِ} أي بإخلاص لارياءً أو نفاقاً {وَهُمْ يَسْجُدُونَ}.

114- {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إيماناً حقيقياً {وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} ومنه الدعوة إلی الإقرار بنبوة رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} کإنکار نبوته، {وَيُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ} يبادرون إليها کالإنفاق المالي، فجمعوا بين صحة العقيدة، والعبادة بإخلاص، وعمل الخيرات، والسعي لهداية الآخرين، {وَأُوْلَٰئِكَ} الموصوفون بهذه الأوصاف {مِنَ الصَّٰلِحِينَ} صلحت نفوسهم وأعمالهم فصلحوا لنيل المقامات العالية.

115- فيجازيهم الله أحسن جزاء {وَمَا} «ما» موصولة تفيد معنی الشرط

ص: 340

{يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ} سواء طاعة أو عبادة، قليلاً أم کثيراً {فَلَن يُكْفَرُوهُ} أي لايحرمون جزاءه بخلاف سائر الکفار حيث تحبط أعمالهم، {وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالْمُتَّقِينَ} لذا يميز بين الطائفتين فيعلم أن هؤلاء متقون فيجازيهم أحسن الجزاء، وأولئك غير متقين فيحبط أعمالهم، وهذا يدل علی أن التقوی هي سبب الخير.

بحوث

الأول: بعد أن ذکر الله تعالی صفات الکفار من أهل الکتاب والعقوبات الأخروية والدنيوية التي يصابون بها، مع بيان أن الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس لتحلّيها بمجموعة من الصفات، وأن أهل الکتاب المعاصرين للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ}، بعد ذلك أراد بيان أن أهل الکتاب السابقين علی عصر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) کالذين کانوا في زمن موسی أو عيسی (عليهماالسلام) وما بعدهما، هؤلاء کان فيهم مجموعة من أهل الإيمان والتقوی، صحيح أن الأمة الإسلامية الموصوفة بالصفات المذکورة هي خير أمة أخرجت للناس، لکن في الأمم السابقة أيضاً کانت مجموعات عملت بتکليفها باتّباع الرسل مع صحة العقيدة والعمل فهؤلاء أيضاً متقون ومن الصالحين.

وقيل: هذه الآيات (113-115) تفصيل لما ذکره تعالی في الآية 110 بقوله: {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} بمدح من آمن بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) منهم والتزم عقيدة وعملاً! لکن ما ذکرناه أقرب إلی السياق، ولأن هؤلاء بإسلامهم دخلوا في جماعة المسلمين وصاروا من خير أمة واتصفوا بصفاتها.

الثاني: قوله تعالی: {لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ أُمَّةٌ...} الآية.

ص: 341

(سواء) مصدر أقيم مقام إسم الفاعل تأکيداً أي ليس أهل الکتاب متساوين في العقيدة والعمل، فلئن ذمّت الآيات السابقة فساقهم، فهذا لايعنی أن جميعهم کذلك، بل هناك طائفة أخری حفظت عهد الله تعالی، فاتصفت بصفات تخالف صفات أولئك الفاسقين، فهي جماعة متقية ولذلك يجازيها الله سبحانه وتعالی جزاء المتقين، والصفات التي تتحلّی بها، أنها:

1- {قَائِمَةٌ} من القيام بمعنی الاعتدال والاستقامة، کما تقول: أقمت العود فاستقام، قال تعالی: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ}(1)، وقال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}(2)، والحاصل أن نفوس هؤلاء مستقيمة معتدلة.

عکس أکثرهم حيث فيهم اعوجاج في النفس والدين والعمل، کما مرّ في قوله تعالی: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا}(3).

2- {يَتْلُونَ ءَايَٰتِ اللَّهِ} أي يتلونها حق تلاوتها، بما يستلزم التدبر فيها ومن ثَمّ العمل بها، قال تعالی: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَتْلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُوْلَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}(4)، فهؤلاء نفوسهم مستقيمة ثم قرأوا الکتاب فاهتدوا بهديه.

وقوله: {ءَانَاءَ الَّيْلِ} أي في أوقاته وساعاته، وتقييد التلاوة بالليل لأجل

ص: 342


1- سورة المائدة، الآية: 68.
2- سورة الروم، الآية: 43.
3- سورة آل عمران، الآية: 99.
4- سورة البقرة، الآية: 121.

أن القراءة حينئذٍ تکون أبعد عن النفاق والرياء، کما أن هدوء الليل وعدم انشغال الفکر سبب للتدبر والفهم، وفي التقريب: حيث هدوء النفس وهدوء الجو يوجبان وقوع الآيات في النفس أکثر منه في النهار(1)، عکس أکثرهم حيث کفروا بآيات الله، کما مرّ في قوله تعالی: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ}(2).

3- {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} لله تواضعاً في صلاتهم وفي غيرها، والمعنی وهم مع تلاوتهم يسجدون أيضاً، أي تارة يتلون وتارة يسجدون، أو المعنی أن تلاوتهم يتخللها سجود کما قال: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لَا يَسْجُدُونَ}(3)، أو يتلون في حالة السجود، ولعل ذلك کان في شريعتهم بأن يتلو الکتاب في حالة السجدة، وعلی کل حال فهذه صفة ثالثة يراد منها خضوعهم لله تعالی وتذلّلهم له وعبادتهم إياه، فهم غير مستکبرين، عکس أکثرهم الذين لايخضعون لله بل يصدون عن سبيله سبحانه وتعالی، قال تعالی: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَٰتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}(4).

4- {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} قيل: أخّر الإيمان لأنه نتيجة استقامة النفس وتلاوة آيات الله والخضوع له، فمن کانت له نفسية صالحة وتلی آيات الله وعبده فلا محالة يؤمن إيماناً حقيقياً لانفاق فيه ولاشرك، وأما الإيمان بالرسل فهو مقتضی کون هؤلاء من أهل الکتاب حيث آمنوا

ص: 343


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 114.
2- سورة آل عمران، الآية: 98.
3- سورة الإنشقاق، الآية: 21.
4- سورة الأنعام، الآية: 93.

برسولهم، وکذلك هو لازم تلاوة آيات الله لأنها نزلت علی الرسل کما أنها تدعو إليهم، مضافاً إلی أن الإيمان باليوم الآخر هو فرع الإيمان بالرسل، لأن طريقه السمع غالباً، وقيل: الإيمان بالرسل هو المراد من أمرهم بالمعروف بتصديق الرسل، ونهيهم عن المنکر بإنکارهم، عکس أولئك الذين کفروا بالله وآياته ولم يصدّقوا باليوم الآخر لذا تجاوزوا الحدود في الباطل.

5- {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وهذا في هداية غيرهم وإرشادهم إلی مسائل العقيدة والشريعة، ويدخل فيه الأمر بالإقرار بنبوة رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والنهي عن إنکارها، عکس اولئك الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً.

6- {وَيُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ} أي يبادرون إليها، وهذا بيان لشدة رغبتهم فيها، فإن من يرغب إلی شيء سارع فيه، والمسارعة من باب المفاعلة کأنه لبيان تسابق بعضهم بعضاً للوصول إليها، و{الْخَيْرَٰتِ} مطلق الأعمال الحسنة، لکن شاع استعمالها في الإنفاق، عکس أولئك الذين ضربت عليهم المسکنة فحرصوا علی الأموال وعلی جمعها وعدم إنفاقهم.

والحاصل: إن نفوس هؤلاء المؤمنين سليمة، وعملهم صالح بالتلاوة والسجود، وعقيدتهم صحيحة بالإيمان بالله واليوم الآخر، ويحاولون هداية الآخرين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، کما يبادرون إلی فعل الخير من الإنفاق وغيره.

الثالث: قوله تعالی: {وَأُوْلَٰئِكَ مِنَ الصَّٰلِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ...} الآية.

ص: 344

هذا بيان نتيجة اتصاف هؤلاء بالصفات المذکورة.

فأولاً: {وَأُوْلَٰئِكَ مِنَ الصَّٰلِحِينَ} فنفوسهم سامية، نالوا الکمال فهم أشخاص صالحون في المجتمع، کما صلحت أحوالهم عند الله تعالی فاستحقوا ثنائه، کما صلحوا لنيل المقامات العالية.

وثانياً: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ فَلَن يُكْفَرُوهُ} أي لن يحرموا جزاء الله تعالی عليه، ولن يمنعوا عن ثوابه، وذلك لأن الله تعالی شکور فلا يجعل المتقين کالفجار، قال سبحانه: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}(1)، أما الکفار فأعمالهم تحبط فيحرمون ثوابه بسوء عملهم، قال سبحانه: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَٰلُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٖ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَٰلُ الْبَعِيدُ}(2).

وقيل: وصف الله بالشکر بمعنی إعطاء الثواب وافياً بلانقص، فنفی ضد الشکر وهو الکفران عنه تعالی لأن عدم إعطاء الثواب لمن يستحقه - ولو کان استحقاقه بالوعد والتفضّل - کفرانٌ.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالْمُتَّقِينَ} الذين يحفظون أنفسهم عن عذاب الله بتجنب المعاصي فهو سبحانه يعلم بهم فيجازيهم، والمقصود بيان أن سبب عدم کفران عملهم هو تقواهم، فهي مبدأ الخير وحسن العمل، وبها الجزاء والثواب.

ص: 345


1- سورة التغابن، الآية: 17.
2- سورة إبراهيم، الآية: 18.

الآيتان 116-117

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٖ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}

116- بعد بيان أن الطائفة المؤمنة من أهل الکتاب ما فعلته من خير لن تُکفره بل تجازی عليه لتقواها، يأتي بيان حبط أعمال الطائفة الکافرة ف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بالله ورسوله {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ} لاتفيدهم {أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُم مِّنَ} عذاب {اللَّهِ شَيْئًا} ولو بمقدار ضئيل {وَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ} ملازمون لها {هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}.

117- وکما لم تنفعهم في الآخرة، کذلك لاتنفعهم في الدنيا، إذ {مَثَلُ} أي صفة {مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} أي شأنه وحاله في الدنيا أنه ضاع المال بلا فائدة دنيوية {كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ} برد شديد {أَصَابَتْ} تلك الريح {حَرْثَ} زراعة {قَوْمٖ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالکفر أو العصيان، عقوبة لهم، فهم حرثوا لکن عاقبهم الله بظلمهم فلم ينتفعوا من عملهم بالحرث {فَأَهْلَكَتْهُ} أهلکت الريح الزرع.

{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} لم يظلم أولئك الکفار حينما لم ينفعهم عملهم لا في

ص: 346

الآخرة ولا في الدنيا {وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بکفرهم فهو سبب إحباط أعمالهم، ولو اتّقوا لقبل الله أعمالهم.

بحوث

الأول: الظاهر أن سياق الآيات متصل، فحيث ذکر الله تعالی الطائفة المؤمنة من أهل الکتاب وأنه تعالی يشکرهم علی أعمالهم فلن يكفروها، بعد ذلك بيّن أن الطائفة الفاسقة لاتنفعهم أموالهم ولا أولادهم ولاأعمالهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، لأنهم ظلموا أنفسهم باختيارهم الکفر، ولم يظلمهم الله تعالی، لأن الثواب شرطه التقوی ولم يلتزموا بها، والمخالفة نتيجتها العذاب وقد ارتکبوها، فهم بسوء اختيارهم جلبوا علی أنفسهم الخزي والشقاء.

وهذا لاينافي عموم معنی الآية لکل الکفار، لما مرّ مراراً من أن شأن النزول لايخصص مفهوم الآيات غالباً.

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ...} الآية.

مرّ في الآية العاشرة شبيه هذه الآية، مع اختلاف في آخر الآيتين، وکان الغرض هناك بيان عقاب عامة الکفار مع بيان کيفية العقاب ولذا قال: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}، والغرض هنا بيان أصل عقوبة الطائفة الفاسقة من أهل الکتاب، وهذه العقوبة:

1- أخروية: بالخلود في عذاب النار، ولا دافع لهم من مال يفتدون به أو أولاد ينصرونهم، فلئن نفعتهم الأموال والأولاد في الدنيا، لکن لايفيدان في دفع عذاب الله تعالی في الآخرة.

أما الأموال فانقطعت علقتهم بها بموتهم فصارت للوارث، وفي الآخرة

ص: 347

تبطل الملکيات المجازية إذ لاظهور إلاّ للملکية الحقيقية التي هي ملکية الله تعالی لکل الوجود بأسره، قال سبحانه: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَٰحِدِ الْقَهَّارِ}(1)، بل حتی لو افتدوا بالدنيا لن يتقبل منهم کما مرّ في الآية 91 فراجع.

وأما الأولاد فکل إنسان يوم القيامة مشغول بنفسه، قال سبحانه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِيٕٖ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٖ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(2).

وقوله: {مِّنَ اللَّهِ} أي من عذابه وبطشه، أو {مِّنَ} بمعنی البدل أي بدلاً عن طاعته ورحمته(3)، فعلی هذا يکون المعنی الأولاد والأموال من دون الله أي من غير ارتباطهما بالله تعالی، إذ کل شيء لايرتبط بالله سبحانه لانفع فيه إطلاقاً، أما لو ارتبطت الأموال بالله بأن انفقها المتقي في سبيله تعالی فهي تنفع لأنها ارتبطت بالله فيضاعفها، وکذا لو ارتبط الأولاد بالله بأن أمنوا مع إيمان أبيهم، فحينئذٍ يکونون قرّة عين لأبيهم ويلحقهم الله به في الآخرة کما قال: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٖ}(4).

2- ودنيوية: بالخسارة من غير عوض فلئن نفعتهم أموالهم وأولادهم في الدنيا دون الآخرة، لکن أعمالهم لاتنفعهم حتی في الدنيا، فلو أنفقوا شيئاً فهو نقصان من أموالهم من غير وصولهم إلی مبتغاهم.

ص: 348


1- سورة غافر، الآية: 16.
2- سورة عبس، الآية: 34-37
3- راجع مغني اللبيب 1: 422.
4- سورة الطور، الآية: 21.

الثالث: قوله تعالی: {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا...} الآية.

أي کما لاتنفعهم الأموال والأولاد في الآخرة، کذلك لاتنفعهم أعمالهم في الدنيا فضلاً عن الآخرة، فيکون مثلهم کمثل الزارع الظالم الذي يعاقبه الله بإتلاف زرعه، فقد ضاع عمله في الدنيا حيث لم يحصل علی ثمر زرعه من غير تعويض له بثواب، لأن الإتلاف کان عقوبة، عکس الزارع المؤمن إذا تلف زرعه فإن الله يستبدله بما هو خير له في الدنيا، أو ثواب جزيل في الآخرة، لصبره ولفضل الله عليه.

وقوله: {مَثَلُ} في المناهج: يقال المثل للانتقال من أمر محسوس واضح إلی معقول يصعب علی المخاطب فهمه، أو من أمر ضروري عادي إلی أمر يحتاج العلم به إلی التدبر والتفکر، فالمثل ليس من باب التشبيه حتی يحتاج إلی أرکانه من المشبّه والمشبّه به ووجه التشبيه، بل هو بمعنی النعت والصفة والإخبار عن الشيء وإن کان في بعض موارد استعماله تشبيه أيضاً(1).

وفي التقريب: ليس المراد أن الإنفاق کالريح، بل يضرب المثل فيما کان المجموع من الأصل والشبه مرتبطين، کما تقول:زيد في تکلّمه کمثل صوت الحمار، فالجملة شبيهة بالجملة، لا أنّ الصوت شبيه بزيد، والحمار بالتکلّم(2).

ومن ذلك يتضح عدم الحاجة إلی تقدير شيء نحو (کمثل ما أهلکته ريح) ونحو ذلك.

والمعنی إنفاقهم کالحرث، وکفرهم الموجب لبطلانه کالصِّر.

ص: 349


1- مناهج البيان 4: 46.
2- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 385.

وقوله: {يُنفِقُونَ} بأي قصد کان سواء کان رياءً أم لکسب المآثر وثناء الناس أم عداوة أم خوفاً، بل حتی لو قصدوا القربة لله تعالی، فإن إنفاقهم لايکون مقبولاً أبداً لاشتراط القبول بالتقوی کما قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(1)، قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(2).

وقوله: {فِي هَٰذِهِ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} الظاهر أن {فِي} متعلق ب {مَثَلُ} أي المثل الدنيوي لأعمالهم، والغرض هو بيان عدم انتفاعهم في الدنيا بأعمالهم، کما أنهم يعذبون في الآخرة.

ويحتمل تعلق حرف الجر بالإنفاق، وحينئذٍ ف {فِي} إمّا للتعليل أي إنفاقهم لأجل الحياة الدنيوية لا لأجل الله تعالی وفي سبيله، وإما للظرفية فيکون ذکر هذا القيد مع وضوحه للإشارة إلی أن الحياة التي هي مزرعة ومن المقتضي أن تنمو ويبقی أثرها للانتفاع به في الآخرة، لاتنفع الکافر، کذا في التقريب(3).

وقوله: {صِرٌّ} بمعنی الريح التي فيها برودة شديدة، وتلك البرودة تضرّ الزرع فيموت بإثرها.

وقوله: {ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} أي بالکفر أو العصيان، فعاقبهم الله بأن سلّط الله عليهم هذه الريح، فضاع جهدهم في الدنيا من غير تعويض أو مثوبة، لأنه

ص: 350


1- سورة المائدة، الآية: 27.
2- سورة الفرقان، الآية: 23.
3- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 384.

کان عقوبة، ولا تعويض منها، فيکون نظير قوله تعالی: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا} إلی قوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا}(1)، وأما الزارع المؤمن الذي هلك زرعه فحيث لم يكن الهلاك عقوبة له فعسی الله أن يعوّضه بلطفه وفضله، ومن ذلك يتضح وجه التقييد بقوله: {ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث لااحتمال للتعويض أصلاً وأبداً.

الرابع: قوله تعالی: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

أي هؤلاء الذين هم أصحاب النار والذين حبطت أعمالهم وبطل إنفاقهم، هم قد ظلموا أنفسهم بالکفر والعصيان، ولم يعملوا أعمالهم بشروطها لتُقبل، فلم يكن إنفاقهم إنفاقاً يستتبع قبولاً، فإذا أحبط الله عملهم ولم يثبهم عليه فإنما هو بسببهم أنفسهم، لأنه سبحانه يتعالی عن الظلم وعن کل قبيح، فقد اشترط سبحانه قبول العمل بالتقوی وهؤلاء لم يتقوا، کما أوعد الکفار بالعذاب وهؤلاء کفروا، وليس اشتراطه التقوی عبثاً بل لأجل أن العمل من غير تقوی لاقابلية له للارتفاع ولرفع صاحبه، وکذلك مقتضی المخالفة والمعصية العقوبة، ولولا الإيعاد بالعقوبة لبطل التکليف إذ المحرّك لغالب المؤمنين خوف العقاب فقط دون الوعد بالثواب، ولو لم تکن للمخالفة عقاب وانحصر الثواب في الطاعة لخرج أکثر المطيعين عن الطاعة.

ص: 351


1- سورة الکهف، الآية: 35-43.

الآيات 118-120

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَٰهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأيَٰتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَٰأَنتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَٰبِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}

118- وحيث علمتم بأن هؤلاء الکفار ظالمون فعليكم أن تجتنبوهم ف {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} أي خواص بحيث تسرون إليهم أسرارکم ويستبطنون أخبارکم، {مِّن دُونِكُمْ} من غير أهل ملّتکم کالکفار والمنافقين، وذلك للضرر الکبير في ذلك. إذ {لَا يَأْلُونَكُمْ} أي لايقصرون بالنسبة لکم {خَبَالًا} أي فساداً، والمعنی: لايترکون جهداً في إفسادکم وإفساد أمرکم هذا من جهة عملهم، وأما قلوبهم: فقد {وَدُّواْ} أحبّوا مظهرين ذلك في عملهم {مَا عَنِتُّمْ} أي عَنَتکم بمعنی شدة الضرر والمشقة، و{قَدْ بَدَتِ} ظهرت {الْبَغْضَاءُ} شدة العداوة {مِنْ أَفْوَٰهِهِمْ} أي لايتمالکون أنفسهم في کتمان العداوة بل تظهر في فلتات ألسنتهم لشدة

ص: 352

بغضهم لکم {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} مما ظهر علی ألسنتهم، {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأيَٰتِ} وهي الأحکام الشرعية الدالة علی معاداة أعداء الله والتحذّر منهم {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} تستعملون عقولکم لتدرکوا أن الله تعالی لايشرّع إلاّ ما هو خير لکم.

119- ثم إن الله تعالی يحذر المؤمنين ببيان الفوارق الجوهرية بينکم وبينهم بحيث تستدعي حذرکم منهم فهم لايحبونکم، ولا يؤمنون بالکتاب کله فيخالفونکم في العقيدة، وينافقون معکم، ولايريدون مصلحتکم لذا يفرحون بمشاکلکم وتسوؤهم نجاحاتکم.

{هَٰأَنتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ} «ها» للتنبيه، و«أنتم» مبتدأ، و«أولاء» خبر موصول، و«الواو» حالية، والمعنی: کيف تحبونهم مع عدم توفر أسباب الحب أصلاً لاعاطفياً، ولا دينياً، ولا عقلياً، أما عاطفياً: فهم {لَا يُحِبُّونَكُمْ}، وأما دينياً: فالقرآن نهاکم عن موالاتهم {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَٰبِ كُلِّهِ} بما فيه هذا الحکم، وأما عقلياً: فلنفاقهم معکم {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا} يظهرون التصديق لکم {وَإِذَا خَلَوْاْ} مع أنفسهم أو مع شياطينهم {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} فبغضهم لکم شديد {قُلْ} أي أخبرهم بعلمك بنفاقهم وغيظهم: {مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} دعاء عليهم، بغرض تسكين خاطر المؤمنين بإخبارهم بأن الله يعزّهم بحيث يزداد غيظ هؤلاء من غير تشفي إلی أن يموتوا غيظاً، ولا يظنوا بأنهم بمفازة من العذاب إذ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فيجازيهم عليها، و«ذات» بمعنی صاحبة أي عليم بالنفاق والکيد والغيظ التي ملکت صدورهم.

ص: 353

120- وکيف تتخذونهم بطانة مع بلوغ عداوتهم إلی أقصی درجاتها، ف {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} من خير أو نعمة أو ظفر بالأعداء ونحو ذلك {تَسُؤْهُمْ} تحزنهم {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} بلية أو مصيبة ونحوهما {يَفْرَحُواْ بِهَا} بإصابتکم.

ثم إن الله تعالی يبين للمؤمنين کيفية الخلاص من شرّهم بقوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ} علی عداوتهم وعلی مقاطعتهم {وَتَتَّقُواْ} کيدهم أو تتقوا موالاتهم أو مطلق المعاصي، {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَئًْا} لأن الله ناصرکم حيث إلتزمتم بأحکامه ف {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} إحاطة علم وقدرة.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو أنه بعد تبين اختلافکم معهم في العقيدة والعمل وأنهم ظالمون، عليكم التحذّر منهم لأنهم أعداء لکم ولايريدون خيرکم، فلذا لاتجعلونهم من خواصکم إذ ليس من المصلحة أن يطلعوا علی أسرارکم، کما أنهم لايريدون خيرکم فلذا قد يزينون لکم الباطل أو يخدعونکم بالخيانة في المشورة، وبعبارة أخری کما قيل: لابد من أن تکون أسرار المجتمع الإسلامي محفوظة عن أعدائه وخاصة العدو المتصف برذائل الأخلاق، وبعبارة ثالثة کما قيل أيضاً: إن اتخاذهم بطانة ليس من مصلحة الأمة الإسلامية، وخاصة فيما يرتبط بين المسلمين وأعدائهم، ولا فرق في ذلك بين زمان قوة المسلمين أو زمان ضعفهم، لأن القوي أيضاً لابد أن يتحذّر من أعدائه حتی لو کانوا ضعافاً.

الثاني: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن

ص: 354

دُونِكُمْ...} الآية.

(البطانة) الخواص الذين يطّلعون علی الأسرار ويخبرون ببواطن الأمور، فهم موضع الثقة ويُستشارون في مختلف الأمور، وتُستَمع إلی نصائحهم عادة، وأصل الکلمة من بطانة الثوب، شُبِّهوا بها للصوقها بالجسم، ولصوقهم بالإنسان.

قوله: {مِّن دُونِكُمْ} أي من غير أهل ملتکم - سواء من الکافرين أم من المنافقين - ، وفيه إشعار بجواز اتخاذ البطانة من إخوانکم المؤمنين إذ هم بمنزلة أنفسکم، فأنتم أولياء لهم، وهم أولياء لکم.

ثم إن الله تعالی بيّن الحکمة في هذا النهي، وهو أن عملهم في إفساد أمرکم، وقلوبهم معادية لکم:

1- فمن جهة العمل {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} أي يحاولون إفساد أمرکم، وألَا، يألو، ألْواً بمعنی التقصير، وهو فعل لازم يتعدی بحرف الجر أو بتضمين معنی فعل آخر، يقال: لم يأل جهداً بمعنی استفرغ الوسع ولم يقصّر في جهده، فالمعنی لايقصرون لکم من جهة الخبال، أو لايمنعونکم الخبال، و(الخبال) هو الفساد، ويقال للمجنون المخبّل لفساد عقله.

2- ومن جهة قلوبهم: يحبون مشقتکم ويبغضونکم بشدة بحيث تظهر آثارها في فلتات لسانهم.

وقوله: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} من (الود) بمعنی إظهار الحب، أي يحبون ذلك بحيث يظهر علی أقوالهم وأفعالهم، و{مَا} مصدرية، و(العنت) بمعنی المشقة الشديدة، ومنها الضرر الشديد، أي يحبون أن تقعوا في الصعوبات.

ص: 355

وقوله: {قَدْ بَدَتِ...} أي ظهرت بغضاؤهم في ألسنتهم، فهم يريدون کتمان ما في قلوبهم لئلا تعلموا ببغضهم لکم، لکن لشدة بغضهم لايتمالکون أنفسهم فتظهر البغضاء في فلتات لسانهم، وعن أمير المومنين (عليه السلام) : «ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»(1).

وقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأيَٰتِ} أي الحکم الشرعي في عدم جواز موالاة الکفار والمنافقين، مع بيان سبب ذلك، فقد حرّمنا عليكم اتخاذهم بطانة لأنهم يريدون فسادکم ويعادوکم، فعليكم اتّباع الآيات والالتزام بالأحکام.

وقوله: {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إن استعملتم عقولکم علمتم لزوم اتّباع هذا الحکم لأنه فيه مصلحتکم وفي ترکه مضرتکم، فالعقل يسوقکم إلی اتّباع حکم الشرع في هذا النهي وفي غيره من الأحکام، کما يكشف لکم حکمة هذا التشريع، أما من يخالف هذا التشريع فلا عقل له إذ لم يطع الشرع، وسفه عن إدراك الحکمة الواضحة لهذا التشريع.

الثالث: قوله تعالی: {هَٰأَنتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ...} الآية.

هذا ذم وتقريع لمن لايعقل فيتخذهم بطانة، وإرشاد وتحذير لسائر المؤمنين ببيان عدم توفر أسباب الحب فکيف يتخذون بطانة؟

و{هَٰا} حرف تنبيه، و{أَنتُمْ} مبتدأ، و{أُوْلَاءِ} إمّا موصول بمعنی الذين وهو الخبر، فقوله: {تُحِبُّونَهُمْ} صلة، وإمّا اسم إشارة فيکون تأکيداً لأنتم، فأصل الجملة هؤلاء فصل بين الهاء وأولاء بأنتم تأکيداً، فقوله:

ص: 356


1- نهج البلاغه، الحکمة 26.

{تُحِبُّونَهُمْ} الخبر.

وقوله: {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} حال، وقوله: {وَتُؤْمِنُونَ...} عطف عليه، فالمعنی والحال أنه لاتتوفر أسباب الحب لاعاطفياً ولا دينياً ولا عقلياً:

1- أما عاطفياً فإنهم لايحبونکم، والإنسان السويّ يحب من يحبه، ولا يمکن أن يحب من لايحبه بل يبغضه.

2- وأما دينياً فقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَٰبِ كُلِّهِ} أي جميع من نزل في القرآن، ومنه النهي عن موالاة الکافرين والمنافقين، فکيف تخالفون هذا التشريع النازل في القرآن مراراً وتکراراً وأنتم تدعون الإيمان بکل القرآن؟!

وقيل: المقصود من (الکتاب) هو جنس الکتاب أي تؤمنون بجميع الکتب السماوية ومنها التوراة والانجيل غير المحرّفين، فالمعنی حينئذٍ: إنهم لايحبونکم مع إيمانکم بکتابهم، فما بالکم تحبونهم مع أنهم لايؤمنون بکتابکم، ففيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منکم في حقکم.

3- وأما عقلياً: فإنهم منافقون يبطنون غير ما يظهرون بل يحاولون خداعکم، ومن هذا شأنه کيف تتخذونه بطانة يتعرّف علی أسرارکم وأخبارکم الخاصة.

وقوله: {قَالُواْ ءَامَنَّا} إمّا بمعنی التصديق أي يصدّقونکم في أقوالکم ليحافظوا علی الصداقة وليواصلوا معرفة مخابرکم، أو بمعنی إظهار الإسلام أي يظهرون الإسلام أمامکم نفاقاً لخداعکم.

وقوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ} إمّا بمعنی الخلوة مع أنفسهم فهنالك لايجدون طريقة لإظهار غيظهم وإشفاء غليل باطنهم إلاّ بالعض علی الأنامل، وإما

ص: 357

بمعنی الاختلاء مع أمثالهم کما قال تعالی: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ}(1).

الرابع: قوله تعالی: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

هذا تشنيع عليهم وتوبيخ لهم، وهو مع ذلك يتضمن مجموعة أمور - إمّا بدلالة اللفظ، أو الغرض من هذا المقطع، أو النتيجة والمآل - :

منها: الدعاء عليهم باستمرار سبب غيظهم، وهو قوة الإسلام وعزّ المسلمين، ولحوق الخزي والذل بالأعداء.

ومنها: إعلامهم بأن أسلوبهم مکشوف، قد علم به الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ويعلمه المسلمون، وفي ذلك تحذير لهم من الاستمرار في کيدهم.

ومنها: تطييب خاطر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والمسلمين والبشارة لهم بعزة الإسلام وذلّ أعدائه.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ} کالعلة لأمر الرسول لأن يخاطبهم بقوله: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ}، أي إن الله تعالی يعلم ما تنطوي عليه صدورکم من البغض والغيظ لذلك أخبر رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) به، وحذّر المؤمنين من اتخاذکم بطانة، کما أنه سبحانه سيجازيكم علی کفرکم وعداوتکم، قال سبحانه: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ}(2).

وقوله: (ذات) مؤنث (ذو) بمعنی الصاحب کما يقال ذوعلم أي صاحب علم، و(ذات الصدور) أي صاحبة الصدر، فکأن الحالات النفسية تستولي

ص: 358


1- سورة البقرة، الآية: 14.
2- سورة الهمزة، الآية: 6-7.

علی القلوب وتمتلکها فغيظ هؤلاء ملك قلوبهم لاستيلائه عليها.

الخامس: قوله تعالی: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ...} الآية.

هذه الآية لبيان شدة عداوتهم للمسلمين بحيث لايريدون خيراً لهم ولو يسيراً ويريدون کل شر لهم.

وقوله: {تَمْسَسْكُمْ} أي تصيبکم، وقيل: (المس) أقل تمکناً من الإصابة، وکأنّه أقل درجاتها، و{تَسُؤْهُمْ} بمعنی تحزنهم فکأنّ الکلام إن تصبکم الحسنة أدنی إصابة تحزنهم ويحسدوکم عليها، وإن تمکنت الإصابة منکم لايَرثُون عليکم، ولا ينفکون عن حسدهم حتی في هذه الحال بل يفرحون.

السادس: قوله تعالی: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا...} الآية.

هذا تعليم للمسلمين بکيفية مقابلة کيدهم، فإن عدم اتخاذهم بطانة قد يجرّ عدائهم الظاهري أيضاً، وهذا ما يخشی منه البعض، لکن العدو الظاهري أهون من العدو الباطني الذي يحوك المؤامرات ويحاول الإفساد خفية.

فقوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ} علی مشاکل عدم اتخاذهم بطانة، أو علی مشاق التکليف، أو علی عداوتهم.

وقوله: {وَتَتَّقُواْ} أي تحفظوا أنفسکم من کيدهم بمعنی الحذر منهم ومراقبتهم وعدم ترکهم يعيثون في الأرض فساداً، أو تتقوا الله في اطاعته فيما أمرکم ونهاکم، وهذا مفتاح النصر علی العدو أي تحمل مشاق

ص: 359

المسؤوليات، والتحذر من الأعداء، فکل عامل حَذِر يتمکن من التغلب علی أعدائه.

والحاصل أن الأمن من کيدهم مشروط بالصبر والتقوی. وقد قيل: إذا أردت أن تکبت عدوك فازدد فضلاً في نفسك.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي إحاطة علم وقدرة، فهو يعلم أعمالهم وقادر عليهم وعلی إفشال خططهم، لذلك أمرکم بما فيه صلاحکم ونهاکم عمّا فيه ضررکم، فإن أطعتموه نصرکم عليهم.

ص: 360

القسم الثاني من سورة آل عمران

غزوة أُحد وتوابعها

وحيث وصلت الآيات إلی هذا الموضع انتهی القسم الأول من سورة آل عمران، وهو المتضمن للتحدي الفکري الذي واجهه المسلمون من أهل الکتاب بإثارة الشبهات ومحاولة خلق البلبلة في صفوف المسلمين، فأجاب الله تعالی عن شبهاتهم، وبيّن الحقائق ووعظهم، وحذّر المسلمين من مغبة الاغترار بهم، وبعد ذلك يبدأ القسم الآخر من السورة (الآيات 121-175) وهو التحدي العسکري الذي واجهه المسلمون من المشركين حيث أرادوا استئصالهم بقتلهم واطفاء نور الله تعالی، فتبدأ الآيات بذکر ما جری في غزوة أ ُحد ثم غزوة حمراء الأسد، وما تضمنته من أحداث، مع ذکر جملة من أحوال المنافقين وذکر مجموعة من الأحکام التشريعية.

ويمکن بيان تسلسل الآيات کالتالي:

أولاً: (الآيات 121-138) في مقدمات غزوة أحد: تهيأة مقاعد للقتال، وما جری علی طائفتين کادتا أن ترجعا - ولعلّ ذلک کان من أسباب الوهن - ووعود الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لهم، والتحذير من بعض الذنوب - أي الربا - ولعلّه هو الذنب الذي سبّب زللهم أو کان من أهم الذنوب، والتحذير من سائر الذنوب

ص: 361

التي توجب النار، والدعوة إلی إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، والدعوة إلی عمل الطاعات ومنها الإنفاق والتوبة.

ثانياً: (الآيات 139-145) بيان أن المسلمين هم الأعلی، وأن المصائب لها أسباب ومنها تداول الأيام لکن لايضرّ ذلک بعلوّ الإسلام والمسلمين، ومنها تمييز المؤمنين عن غيرهم، ومنها اتخاذ الشهداء، ومنها تمحيص المؤمنين، ومنها محق الکافرين، وبيان أن نيل الجنة يحتاج إلی جهاد وصبر، وأن الدين لايتوقف علی بقاء حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بل هو باق ببقاء الله تعالی.

ثالثاً: (الآيات 146-171) تقسيم الناس في غزوة أ ُحد إلی طوائف:

1- الصابرون الثابتون (146-148).

2- الکافرون المحاربون (149-151).

3- المسلمون المنهزمون - وهم بين تائب ومنافق - (152-154).

4- الرماة الذين أخلوا مواقعهم (155).

5- سائر الکفار الباقون في مکة (156-158).

6- حول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وتخطيطه وفائدته وتنزيهه (159-165).

7- المنافقون الذين لم يذهبوا إلی الغزوة أصلاً (166-168).

8- الشهداء في الغزوة (169-171).

رابعاً: (الآيات 172-175) غزوة حمراء الأسد.

ص: 362

الآيتان 121-122

اشارة

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)}

121- {وَإِذْ} أي أذکر الوقت الذي {غَدَوْتَ} أي خرجت في الغداة وهي أول النهار {مِنْ أَهْلِكَ} أقربائك في المدينة {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} تتخذ لهم وتختار {مَقَٰعِدَ} أماکن {لِلْقِتَالِ} في غزوة أحد، حيث اختار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مکان القتال وأماکن تواجد المسلمين في سفح الجبل وعلی الشعب بدقة، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لأقوالهم {عَلِيمٌ} بنياتهم.

122- {إِذْ} کان ذلك في الوقت الذي {هَمَّت} قصدت {طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ} من المؤمنين {أَن تَفْشَلَا} أي تضعفا عن جبن، حيث أراد ابن أبي سلول أن يصرفهما عن الجهاد، {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} يلی أمورهما بمعنی أنه عاصمهما عن الالتحاق بالمنافقين، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ} يعتمد {الْمُؤْمِنُونَ} حيث وعدهم بالنصر إن أطاعوا الله ورسوله، لا أن ينخدعوا بکلام المنافقين.

بحوث

الأول: من هذا المقطع تبدأ قصة غزوة أحد، وهو أهم تحدي عسکري واجهه المسلمون، إذ کان يمکن أن تُستأصل شأفتهم ويقضی علی الإسلام

ص: 363

نهائياً بمقتل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المخلصين وارتداد باقي المسلمين، لکن الله تعالی نصرهم وذلك بثبات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام) وثلة قليلة من المؤمنين، وکذا بحنکة وحکمة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقيادته الدقيقة لدفة المعرکة، سواء قبل بدئها أم حين هزيمة المسلمين أم بعدها، وکانت الغزوة رحمة من الله للمؤمنين حيث التفتوا إلی أهمية إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وعدم الاستعجال في الأمور وعدم طلب الدنيا، کما عرفوا حکمته (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وهذا المقطع من السورة وإن کان بداية فصل جديد عنوانه التحدي العسکري، إلاّ أنه لايخلو من ربط بالآيات السابقة، حيث بيّن الله تعالی في الآية 120 {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَئًْا} أمّا في أ ُحد فعصی البعض ولم يصبروا لذلك حولوا النصر إلی هزيمة، أمّا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن معه فصبروا واتقوا فمنعوا من الهزيمة النهائية، بل حولوها إلی نصر مرة أخری حيث لم يصل المشرکون إلی مبتغاهم من استئصال شأفة المسلمين، بل هربوا من لقائهم مرة أخری في غزوة حمراء الأسد التي کانت بعد غزوة أ ُحد مباشرة.

ثم اعلم أن الکلام حول غزوة أ ُحد وما جری فيها (الآيات 120-175) لکن جری في أثنائها ذکر جانب من غزوة بدر، وذلك لبيان أنهم في بدر مع ضعفهم الشديد انتصروا علی المشركين لتقواهم وإطاعتهم، أما في أ ُحد فکان عددهم وعدتهم أقوی مما کانوا عليه في بدر وانتصروا في البداية لکنهم عصوا وخالفوا فأصيبوا، فليس الآيات في صدد ذکر غزوة بدر إلاّ بالمقدار الذي يرتبط بالغرض من بيان قصة غزوة أحد، وأما تفاصيل معرکة بدر فقد ذکرت في سورة الأنفال.

ص: 364

قصة غزوة أحد

الثاني: کان من قصة غزوة أ ُحد أن المشركين لما انهزموا في بدر فقتل منهم سبعون وفيهم بعض کبارهم ورؤسائهم، وأ ُسِر منهم سبعون لم يطلق سراحهم إلاّ بفدية، قرّروا الانتقام، فجمعوا العدد والعُدة لمدة عام، ثم ساروا إلی المدينة بثلاثة آلاف - وروي خمسة آلاف - مقاتل بکامل عددهم وعُدتّهم، وساقوا معهم النساء لئلا ينهزموا وليثبتوا للدفاع عنهن، فجمع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أصحابه واستشارهم في الحرب، فأشاروا عليه بالخروج إليهم، وکان رأيه التحصّن بالمدينة مما يؤدي إلی استنزاف قوی المشركين وتفتّتهم من غير قتال - کما حدث نظيره في غزوة الخندق - لکنهم أصرّوا علی رأيهم، فاستجاب لهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لعدم المصلحة في مخالفتهم، ولعله کان فيه درساً لهم بإطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حتی في أوامره الإرشادية التي لم ينزل فيها وحي في الظاهر.

فخرج رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه وکانوا ألف رجل، لکن انخزل رأس النفاق عبدالله بن أبيّ بن أبي سلول بثلاثمائة من المنافقين فرجعوا إلی المدينة، وکاد أن يلتحق بهم طائفتان من المؤمنين وهما بنو سلمة وبنو حارثة لکن الله ربط علی قلوبهما فثبتوا، فکان عدد المسلمين في غزوة أ ُحد سبعمائة مع عُدّة أقل من المشركين.

وخطط الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) للقاء العدوّ بخطة متقنة، فاتخذ للمسلمين أفضل موقع، في سفح الجبل حتی يلاقوا العدو من جهة واحدة وبجنب السفح شِعب جعل عليه خمسين من الرماة ليحموا ظهر المسلمين، وأمرهم الرسول بأن لايترکوا الموقع سواء انتصر المسلمون أم انهزموا، وحتی عند الهزيمة

ص: 365

نفعهم الموقع إذ تمکن المنهزمون من الفرار إلی الجبل فلم يقعوا فريسة المشركين ليحصدوهم حصداً، فکانت الخطة رحمة حتی للعصاة.

وحينما بدأت الحرب سقطت راية المشركين لمّا قَتَل أمير المؤمنين (عليه السلام) حملة الراية - وروي أنه تعاقبها تسعة قتلهم أمير المؤمنين بأجمعهم - فانهزم المشرکون شر هزيمة، وکان أبوسفيان کلّف خالد بن الوليد أن ينحاز بمأتي فارس إلی جانب الشِعب ليهجموا علی المسلمين من الخلف، وقد هجموا في بداية المعرکة لکن رشقهم الرماة فأرجعوهم خائبين، لکن لما انهزم المشرکون وبدأ المقاتلون في جمع الغنائم، ترك أکثر الرماة موقعهم وکلّما نهاهم قائدهم وذکّرهم بأمر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يصغوا له، فبقي في الشِعب اثنا عشر رجلاً، فهجم خالد بن الوليد مرة أخری وقتلوا هؤلاء الاثني عشر وأغاروا علی المسلمين من خلف ورفعوا راية المشركين من جديد، ثم رجع المشرکون المنهزمون وحاصروا المسلمين في جهتين، فانهزم أکثر المسلمين إلی الجبل ولم يبق إلاّ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وأشخاص قلائل قُتل أکثرهم.

ثم إن مشرکاً قتل مسلماً زاعماً أنه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وانتشر الخبر بين المسلمين فزادهم هزيمة، وبين المشركين فکفّوا عن القتال وقفلوا راجعين.

وفي هذه المعرکة مثّلت هند زوجة أبي سفيان وأم معاوية بجثة حمزة (عليه السلام) فلاکت کبده وقطعت أطرافه، وهکذا تمّ التمثيل بجثث شهداء آخرين، فصار ذلك عاراً وشناراً علی آل أمية أبد الدهر وصار لقب آکلة الأکباد وصمة عار عليهم وخزي في الدنيا وعذاب في الآخرة.

ص: 366

ولما بدأ المشرکون في الانسحاب بلغهم نبأ حياة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فندموا حيث لم يستأصلوا المسلمين، فقرروا الرجوع، لکن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) سبقهم حيث أعاد الجيش ونظم صفوف المسلمين وأمرهم بالمسير إلی المشركين ليلاقوهم من جديد، وهذا ما عرف بغزوة حمراء الأسد، فلما وصل خبرهم إلی المشركين دبّ الرعب فيهم وکانوا يعلمون أن الحرب سجال فلعل الدائرة تدور عليهم مرة أخری، فقرروا الاکتفاء بما حصلوا عليه من الانتقام والرجوع إلی مکة، فقفلوا راجعين إليها ريثما يعودوا من جديد في معرکة أخری، فرجعوا بعد عامين تقريباً في غزوة الأحزاب.

وکانت هذه الغزوة درساً قاسياً للمسلمين، ليطيعوا الله ورسوله وليثبتوا وليحذروا المنافقين، فتحولت الهزيمة ببرکة حکمة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلی نصر استراتيجي ونبراس للمسلمين في جميع الأعصار، وفي المثل الضربة التي لاتقصمك تقوّيك.

الثالث: قوله تعالی: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ...} الآية.

{إِذْ} ظرفية متعلقة بمحذوف أي أذکر ذلك الوقت، و{غَدَوْتَ} بمعنی الخروج في الغدوة وهي الفترة الصباحية.

وقوله: {أَهْلِكَ} يراد به الأقرباء، والمقصود خروجك من المدينة، قيل: يستفاد من الآية قرب موقع المعرکة من المدينة، إذ خرج من أهله وهو يتخذ مواقع للقتال، وهذا ما عليه أکثر المفسرين وهو مروي، فلا وجه لحمل الآية علی غزوة بدر لأنها کانت علی مسافة عدة أيام من المدينة.

وقوله: {تُبَوِّئُ} بمعنی تتخذلهم وتختار، وأصل الکلمة من باء يبوء

ص: 367

بمعنی الاستمکان والتمکن، ويقال: باء بالذنب أي رجع به، لأنه استمکن منه، وقيل غير ذلك.

وقوله: {مَقَٰعِدَ} أي مراکز وأماکن، وشاع استعمال مقعد ومقام بمعنی المکان.

وفي هذا المقطع براعة الاستهلال، وذلك ببيان أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) خطط واختار أماکن القتال بدقة، فلم يكن هو (صلی الله عليه وآله وسلم) سبب القتال بل المشرکون هم الذين اعتدوا فاضطر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يخرج من أهله لقتالهم، کما أنه (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يكن سبباً لهزيمة المسلمين لأنه اختار أماکن القتال لکن أکثر الرماة ترکوا موقعهم فکانت الهزيمة منهم، ثم بعد ذلك في الآية التالية يتم بيان سبب الهزيمة، حيث بدأ الوهن من همّ طائفتين بالفشل إلی الأسباب الأخری التي تذکرها الآيات تباعاً.

الرابع: قوله تعالی: {إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا...} الآية.

(الهم) هو قصد الشيء والعزيمة علی فعله، فلا يطلق علی مجرد التمني أو حديث النفس، و(الفشل) هو ضعف في جبن، و(الولي) هنا بمعنی المتولّي للأمور والناصر، والمعنی أن هاتين الطائفتين عزمتا علی الالتحاق بالمنافقين الراجعين إلی المدينة ضعفاً وجبناً عن القتال لکن الله ربط علی قلوبهم فانصرفوا عن هذا العزم وثبتوا وجاهدوا.

أما ما قيل: من أنها کانت مجرد حديث نفس، إذ لو کانت عزيمة ما ثبتت معها ولاية الله تعالی مع أنه يقول: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}، بل کان ذمهم أولی من مدحهم!! وما قيل: من أنه عتاب وذم بمعنی أنه لاينبغي لمؤمن أن

ص: 368

يفشل وهو يری أن الله تعالی وليّه!!

فليس بصحيح، إذ (الهم) ليس بمعنی حديث النفس - الذي قد لايخلو منه إلاّ من عصمه الله - ، کما أن {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} بيان للواقع وليس بمعنی أنهم يرون أن الله وليهما، بل الأقرب هو أن المؤمن قد يعزم علی العصيان لکن حيث إن الله وليّه فيوفّقه للانصراف عن هذا العزم إلی عزم الطاعة، فما دامت المعصية لم تصدر منه لم يخرج من ولاية الله تعالی، قال سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(1) والحاصل: إن الآية ليست في مقام الذم ولا في مقام المدح، بل في مقام بيان الواقع، وبيان قصة أولئك الذين عزموا علی الفرار من الزحف لکن الله حفظهم فوفّقهم.

وأما قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فلعلّه تعريض بابن أبي سلول والثلاثمائة من المنافقين الذين انخزلوا ورجعوا إلی المدينة فنزلت فيهم سورة المنافقون، فهؤلاء لم يکونوا مؤمنين لذا لم يتوکّلوا علی الله وفرّوا من المعرکة، وأما الطائفتان فهم وإن عزموا علی الفشل لکنهم توکّلوا علی الله فثبتوا فکانوا بذلك مؤمنين.

وأما التوکل فهو بمعنی الاعتماد علی الله تعالی، وذلك بإطاعته في ما أمر ونهی وإيكال الأمر إليه لأن أزمّة الأمور کلها بيده، أما من لايطيع فليس بمتوکّل، وبعبارة أخری: إن التوکّل هو أن يؤدي الإنسان ما عليه ويعتمد عليه تعالی في تهيأة الأسباب الخارجة عن قدرة الإنسان.

ص: 369


1- سورة البقرة، الآية: 257.

الآيات 123-129

اشارة

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٖ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129)}

123- وکيف تهمّون بالفشل {وَلَقَدْ} أي والحال أنه {نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٖ} في غزوة بدر، {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} ضعفاء عدداً وعُدّة، {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} واثبتوا في الحرب في غزوة أ ُحد ولا تهنوا {لَعَلَّكُمْ} بتقواکم {تَشْكُرُونَ} ما أنعم الله عليكم من النصر في بدر، والحاصل أن الله أنعم عليكم بالنصر في غزوة بدر فاشکروه بالثبات وعدم الفشل في غزوة أحد.

124- {إِذْ} أي کان همّ الطائفتين بالفشل في الوقت الذي {تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} حين الخروج إلی غزوة أ ُحد {أَلَن يَكْفِيَكُمْ} استفهام إنکاري، أي کيف لاينفعکم {أَن يُمِدَّكُمْ} يرفدکم ويساعدکم {رَبُّكُم

ص: 370

بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُنزَلِينَ}؟ فکيف هممتم بالفشل في غزوة أ ُحد وقد رأيتم نصر الله تعالی لکم في غزوة بدر وسمعتم کلام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

125- {بَلَىٰ} يكفيكم هذا الإمداد بل يزيد الله عدد الملائکة لکن {إِن تَصْبِرُواْ} علی الجهاد فلا تخدعکم الغنائم {وَتَتَّقُواْ} المعاصي فلاتخالفوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في خططه الحربية {وَيَأْتُوكُم} المشرکون بأن يرجعوا إليكم لحربکم مرة أخری {مِّن فَوْرِهِمْ} بسرعة {هَٰذَا} الفور الذي شاهدتموه، إذ لم يفصل بين غزوتي بدر وأحد إلاّ عام وشهر واحد، فکأنهم رجعوا فوراً طلباً للانتقام، فحينئذٍ {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وسموا أنفسهم بعلامة مثل علامتهم يوم بدر حيث کانوا معتمرين العمائم البيض وقد سدلوا طرفها.

126- {وَمَا جَعَلَهُ} لم يجعل قول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بوعده بالملائکة بشرط الصبر والتقوی {اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ} بشارة بالنصر، {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم} لتسکن من الخوف {بِهِ} بقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) أو بالنصر، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ} الذي يغلب کل أحد {الْحَكِيمِ} ينصر بحکمة، والمعنی أنه لم يكن بحاجة إلی هذا العدد من الملائکة إلاّ لربط قلوبکم، وإلاّ فالله قادر علی نصرکم بدون واسطة، أو بواسطة ملك واحد مثلاً.

127- وإنّما ينصرکم ليخزي الله الکافرين في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا ف {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ} أي ليهدم رکناً من أرکان {الَّذِينَ كَفَرُواْ} فقطع الأنفس بالقتل والأسر، والأموال بالغنيمة، والأراضي بالفتح، {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} يخزيهم ويوهن قلوبهم، فيقطع طرفاً ويكبت طرفاً آخر {فَيَنقَلِبُواْ} يرجعوا

ص: 371

إلی مواطنهم {خَائِبِينَ} منقطعي الآمال لم ينالوا ما قصدوه.

128- وأما في الآخرة ف {لَيْسَ لَكَ} يا رسول الله {مِنَ الْأَمْرِ} المرتبط بما يفعله الله بهؤلاء الکفار {شَيْءٌ} بل هو مرتبط بالله تعالی، وإنّما الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) له شيء فيما فوض الله تعالی إليه، لافيما لم يفوّضه، فالأمر مرتبط بمشيئة الله تعالی {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إذا أسلموا، {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} إن لم يسلموا {فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} استحقوا العذاب بظلمهم.

129- {وَ} إنما ليس لك من الأمر شيء إذ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فالتکوين کلّه بيده، {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} فالجزاء أيضاً بيده سبحانه وتعالی {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

بحوث

الأول: إن سياق الآيات من الآية 121 حول غزوة أحد، لا حول غزوة بدر وإنّما آية واحدة هي الآية 123 فيها تذکير بنصر الله تعالی للمسلمين في غزوة بدر مع أنهم کانوا أضعف عُدة وأقل عدداً، ومن هذا يتضح أن قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ...} هو بيان قوله لهم في غزوة أحد، لا في غزوة بدر، والسياق هکذا: خرجت يا رسول الله تعيّن مواقع قتال المؤمنين، في الوقت الذي قصدت طائفتان الفشل، بأن همّتا بالرجوع ضعفاً وجُبناً، والحال أن الله وليهما، کما أنهما شاهدا نصر الله للمؤمنين في غزوة بدر، وقد سمعا أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يعدهم بنصر الله بالملائکة بشرط الصبر والتقوی، فما بال الطائفتين همتا بالفشل؟ ألم يعلما بأن الله وليهما؟! ألم يشاهدا نصر بدر؟ ألم يسمعا وعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بالإمداد بالملائکة؟!

ص: 372

الثاني: قوله تعالی: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٖ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ...} الآية.

عطف علی {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي همتا بالفشل والحال أن الله وليهما وقد شاهدا نصر الله في بدر.

وقوله: {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} أي ضعفاء عُدّة، قليليون عدداً، وليس المراد الذلة عن هوان، فإن مادة (ذ ل ل) قد تکون بمعنی الهوان وهو عن قهر غالباً کقوله: {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}(1)، وقد تکون بمعنی التواضع کقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُۥ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(2)، وليس ذلهم للمؤمنين من هوان بل عن تواضع لهم وذلك مما يزيدهم عزاً، وقد تکون بمعنی التسهيل والتمهيد کقوله: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}(3)، أي يسهل اقتطافها، وقد تکون بمعنی الضعف والحاجة کقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ}(4)، أي من ضعف أو حاجة تعالی الله عن ذلك، وعلی هذا المعنی قوله: {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} أي ضعفاء، حيث کان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، أکثرهم راجلون، ولم يکونوا يمتلکون إلاّ القليل من الأسياف والدروع، وکان المشرکون ثلاثة أضعافهم بين فارسٍ أو راکب، مع امتلاکهم العدة الکاملة، ولذا فسرت الروايات (الأذلة) بالضعفاء دفعاً لتوهم ذلّ الهوان، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لقد نصرکم الله ببدر وأنتم

ص: 373


1- سورة النمل، الآية: 34.
2- سورة المائدة، الآية: 54.
3- سورة الإنسان، الآية: 14.
4- سورة الإسراء، الآية: 111.

ضعفاء، وما کانوا أذلة ورسول الله فيهم»(1).

وقوله: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي فلا تهمّوا بالفشل بل أثبتوا.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي إن اتقيتم الله بالثبات في غزوة أ ُحد فإن ذلك يکون شکراً عملياً لنعمته عليكم بالنصر في غزوة بدر.

الثالث: قوله تعالی: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم...} الآية.

قوله: {إِذْ تَقُولُ...} بدل عن قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ}، فالآيات ترتبط بالسياق العام وهو ذکر غزوة أحد، وليست تتمة للآية السابقة بأن يکون {إِذْ تَقُولُ...} متعلقاً بالنصر في بدر، کما ذکرنا قبل قليل، وذلك لأن السياق العام هو ذکر أخبار معرکة أ ُحد وما جری فيها، مع بيان أنه لاوجه لقصد الفشل إذ کلّ أسباب النصر مهيأة، فالولي هو الله، ونصره ببدر نصب أعينکم، والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يعدکم بنصر جديد من الله بالملائکة، بل هناك وعد بزيادة بعد وعد أوليّ، لکنه مشروط بثباتکم، فلماذا الفشل؟ بل جبنکم وعدم ثباتکم يزيدکم فشلاً إلی فشل، کما حدث حينما عصوا الله ورسوله، فلم يصبروا ولم يتقوا فانقلب الأمر عليهم، ولکن مع ذلك نصر الله رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين.

وقوله: {أَلَن يَكْفِيَكُمْ} الهمزة للاستفهام الإنکاري، أي کيف لاينفعکم إمداد الله لکم بأعداد کبيرة من الملائکة؟! وليس الغرض من هذا الإنکار الذم أو التقريع، بل الحثّ والربط علی القلوب، فکما ذکرنا ليست الآيات في مقام الذم.

ص: 374


1- تفسير العياشي 1: 196.

الرابع: قوله تعالی: {بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ...} الآية.

(بلی) تصديق للوعد، أي يفعل کما وعدکم، و(بلی) تأتي بعد النفي وذلك لإثبات ماتمّ نفيه، کما يقال: لم يجئ زيد؟ فيقال: بلی قد جاء، وکقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ}(1).

وقوله: {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} شرط للوعد، أي إن الوعد بإرسال الملائکة مشروط بصبرکم وتقواکم، نظير قوله: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(2)، فإنهم في البداية صبروا بالثبات في الجهاد کما أنهم اتقوا المخالفة فأطاعوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في الخطط الحربية، فلذلك انتصروا علی المشركين، لکنهم بعد ذلك لم يصبروا علی إغراء الغنائم وخالفوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فانقلب النصر إلی هزيمة.

وقوله: {وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ} أي بسرعة حيث لم يفصل بين معرکة بدر وأحد إلاّ ثلاثة عشر شهراً، بمقدار جمع المشركين للعدد والعُدة ولملمة الجراح، فرجعوا إلی القتال فوراً، وأصل الفور بمعنی غليان الماء، وحيث إن في صعود الماء سرعة لذلك اطلقت الکلمة علی السرعة في العمل.

وقوله: {هَٰذَا} أي هذا الذي شاهدتموه بسرعتهم في المجيء، وکأنّ المقصود بيان شدة بأسهم وعزيمتهم لأن حبّ الانتقام أصمّهم وأعماهم فلم يدع مجالاً لهم للتريث.

وقوله: {بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ} أي يزيد الثلاثة آلاف ألفين ليتم العدد إلی

ص: 375


1- سورة الأعراف، الآية: 172.
2- سورة محمد، الآية: 7.

خمسة آلاف، وقيل: خمسة آلاف زيادة علی الثلاثة آلاف ليکون المجموع ثمانية آلاف، وهذا وعد بعد وعد فيکون أقوی لشحذ الهمم، کما لو قلت: إن فعلت کذا أعطيتك ديناراً وديناراً آخر، فهذا أکثر تأثيراً من أن تقول منذ البداية: أعطيك دينارين.

وقوله: {مُسَوِّمِينَ} من السوم بمعنی جعل العلامة بحيث يعرفهم بذلك المسلمون والمشرکون، وکانت علائمهم في معرکة بدر العمائم البيضاء مرسلين أذنابها(1) ولو کان المسلمون يصبرون ويتقون في معرکة أ ُحد لأرسل الملائکة بهذه العلامة، ولعلّ العلامة لأجل أن يعرفهم المؤمنون بأنهم ملائکة.

الخامس: قوله تعالی: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ...} الآية.

الغرض من هذا هو بيان أن الله تعالی في نصره المؤمنين لايحتاج إلی شيء، وإذا قدّر الأسباب فليس لحاجة إليها بل لحکمة في ذلك، فهو القادر علی أن يصنع مايشاء من غير تقدير سبب، کما أنه قادر علی تقدير الأسباب - سواء قليلة أم کثيرة، طولية أم عرضية - ، مثلاً أهلك قوم لوط بأقل من عشرة من الملائکة، کما أهلك أصحاب الفيل بطير أبابيل، کما أهلك أقوام آخرين من غير واسطة، فإذن إخبار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن الله سيرسل الملائکة لنصرهم إن صبروا واتّقوا لم يكن لأجل أن النصر متوقف عليهم بل لأن الله أراد النصر بواسطتهم، فيکون خبره بشارة للمؤمنين بالنصر وإزالة الخوف من قلوبهم.

قوله: {وَمَا جَعَلَهُ} الظاهر أن الضمير يرجع إلی قول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في {إِذْ تَقُولُ}، لا إلی الإمداد في {يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم}، وذلك لأن الإمداد لم يحصل

ص: 376


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 489-490.

في معرکة أحد، فلم تکن بشارة ولا اطمئنان بسببه، مضافاً إلی أن الحاجة إلی البشارة والاطمئنان کانت قبل المعرکة حيث انخزل ابن أبي سلول وثلاثمائة معه، وقد همت طائفتان بالرجوع، فکان المسلمون بحاجة إلی دعم معنوي، فجاء هذا الدعم عبر وعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لهم، فکان بشارة وسکون خاطر، فأمّا البشارة فبما يوجب سرورهم، وأمّا الاطمئنان فبإزالة أسباب الخوف.

وقوله: {وَمَا النَّصْرُ...} إشارة إلی أنه ليس متوقفاً علی العدد فإنه يكفي واحد، بل ولا بتوسيطهم أصلاً، بل هو من الله تعالی أجراه بواسطتهم، وهذا في کل الأمور، کما في قوله: {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُۥ أَمْ نَحْنُ الْخَٰلِقُونَ}(1)، وقد مرّ أن کل کمال من الله تعالی، وهو الذي أذن في کمال مخلوقاته أو جعلهم وسائط فيه، بل کل ما يجري في الکون فإنما هو بقضاء وقدر من الله تعالی، حتی في الأفعال الاختيارية، إذ لاجبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين.

ولذا قيل: فيه تنبيه علی أنه لاحاجة إلی المدد، وإنّما وعدهم بذلك بشارة لهم وربطاً علی قلوبهم لأن نظر عامة الناس إلی الأسباب أکثر، کما أن فيه حثّاً وتحريضاً لهم بأن لايبالوا بمن تأخّر عنهم.

السادس: قوله تعالی: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ}.

هذا بيان لعلة نصره تعالی لهم، وحاصله هو تقليل عدد وعُدة الکفار، أي هذا النصر سبب لانهدام رکن من أرکان الشرك بحيث:

ص: 377


1- سورة الواقعة، الآية: 58-59.

1- يقطع طرفاً من الکفار، أي جانب من جوانبهم، فالقطع من نفوسهم هو بالقتل أو الأسر، وذلك نقصان في عددهم، والقطع من أموالهم بما يغتنمه المسلمون منها أو يأخذوه فدية عن أسراهم، والقطع من أراضيهم بفتحها، وبذلك يضعف الکفار وتعلو کلمة الله تعالی عليهم وتکون العاقبة للمؤمنين.

2- کبت طرف آخر من الکفار، بأن يخزيهم وتقل شوکتهم، وأصل (الکبت) بمعنی منع العدو من تحقيق غرضه، فيکون ذلك سبباً لشدة غيظه، ولذا قيل: الکبت شدة غيظ أو وهن يقع في القلب.

فالمعنی أن نصر الله تعالی سبب لهلاك مجموعة منهم ومن أموالهم وأراضيهم کما أنه سبب لعدم وصولهم إلی مبتغاهم، فيضطرون إلی الانهزام في حالة الخيبة، أي منقطعة آمالهم إذ کانوا يأملون استئصال المسلمين.

السابع: قوله تعالی: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ...} الآية.

الظاهر أن هذا بيان لمصير هؤلاء في الآخرة، فإضافة إلی قطع طرفهم وکبتهم في الدنيا، فإن عذاب الآخرة ينتظرهم إن لم يتوبوا، فهؤلاء رغم جرائمهم باب التوبة مفتوح أمامهم، وإلاّ فعذاب الله ينتظرهم بسبب ظلمهم.

وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ} أي ما يتعلق بشأنهم، ثم بيّن هذا الأمر بأنه التوبة أو العذاب، ومن ذلك يتضح أنها ليست جملة معترضة، بل استيناف لبيان مطلب آخر.

وقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} باضمار (أنْ)، و(أن يتوب) إمّا في حکم اسم معطوف ب {أَوْ} علی {الْأَمْرِ} أي ليس لك شيءٌ من أمرهم، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم، وإما معطوف علی {شَيْءٌ} أي ليس لك من أمرهم

ص: 378

شيء أو توبة أو تعذيب(1).

وقوله: {فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} بيان أنهم استحقوا العذاب بظلمهم، وليس الله يظلمهم بعذابهم.

کل ما للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فهو من الله تعالی

ثم اعلم أن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لايملك شيئاً من نفسه، لافي تکوين ولا في تشريع ولا في شفاعة ونحوها، وکل ما للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فإنما هو فضل من الله تعالی، قال سبحانه: {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}(2)، وقال: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}(3)، وقال: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُۥ فَلَن تَمْلِكَ لَهُۥ مِنَ اللَّهِ شَئًْا}(4) وغيرها آيات کثيرة تدلّ علی أنه لا إرادة تعلو إرادة رب العالمين، وهذا لاينافي تفويض أمور من التکوين أو التشريع إلی غير الله بإذنه وإرادته سبحانه وتعالی، فجعل ملائکة مدبرات بإذنه تعالی، کما جعل لأنبيائه ولاية تکوينية أو تشريعية ليتصّرفوا بإذنه، فکما أن الله تعالی خلق الإنسان مختاراً وأعطاه القدرة في أن يفعل مايشاء لکن ذلك لم يخرجه عن قدرة الله وقضائه وقدره، کذلك شاء أن يؤدّب نبيه بآدابه ويفوض إليه الدين وأمور الکون وأمور أخری ترتبط بالدنيا أو الآخرة، ومع ذلك کلّه فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لايخالف إرادة الرب تبارك وتعالی، وقد فصلنا مسألة التفويض في شرح أصول الکافي فراجع(5).

ص: 379


1- الکشّاف 1: 413.
2- سورة يونس، الآية: 49.
3- سورة الجن، الآية: 21.
4- سورة المائدة، الآية: 41.
5- شرح أصول الکافي 4: 193 فما بعد (للمؤلف).

ثم اعلم أنه وردت روايات(1) في تأويل قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} في ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فإنما کانت تعييناً من الله تعالی ولم يكن للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فيها اختيار، وذلك لعظمة هذه الولاية بحيث أن تعيين الإمام هي من مختصات الباري جلّ وعلا، کما قال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2).

الثامن: قوله تعالی: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ...} الآية.

المعنی: ليس لك من الأمر شيء والحال أن الله هو مالك الکون وهو مالك المغفرة أو العذاب، أي کما هو مالك التکوين کذلك هو مالك التشريع ومالك الجزاء، فيتصرف في ملکه کما يشاء بحکمته، فليست مشيئته اعتباطاً أو ظلماً فإنه سبحانه يتعالی عن ذلك.

وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لعلّ الغرض منه بيان أن الله إن غفر فلأنه غفور رحيم، وإن عذب فلعدم قابلية ذلك الکافر لأن تناله الرحمة والغفران، فعذابه للکفار ليس لنقص في رحمته أو غفرانه بل لحکمته حيث إن الکافر غير قابل لهما، أو يقال: إن عذاب أولئك أيضاً من رحمته وغفرانه، لأن الوعيد بالنار سبب اهتداء کثير من الناس، فمن رحمته للناس خلق النار ويعذّب الکفار فيه إذ إخبار الناس بجهنم وعذابها ووعيد الکفار والعصاة بها کفيل بارتداع الکثير من الناس، فمن هذه الجهة صار رحمة ومغفرة لا للمعذّبين بل للمهتدين، فتأمل.

ص: 380


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 491-492.
2- سورة القصص، الآية: 68.

الآيات 130-133

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ الرِّبَوٰاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ (131) وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}

130- وکان سبب الهم بالفشل ثم ترك الموقع الحربي في غزوة أ ُحد هو حب الدنيا وزخارفها، فنهاهم تعالی عن التعلّق بها، فنهی عن أکل المال بالباطل وأمر بالإنفاق، فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ الرِّبَوٰاْ} وهو في القرض: کل ما جرّ نفعاً، وفي المعاملة: زيادة وزن أو کيل أحد المتماثلين عن الآخر {أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً} أي زيادة مکررة، وهو من أسوء أنواع الربا، حيث يربي إلی أجل، ولما يحين الأجل ويعجز المديون عن التسديد زاد في الربح إلی أجل آخر، وهکذا حتی يستغرق مال المديون کلّه، إذ الزيادة تصاعدية هندسية، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} حافوه بترك معاصيه التي منها الربا {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تفوزون بالثواب والرضوان.

131- {وَاتَّقُواْ النَّارَ} احفظوا أنفسکم منها بترك المعاصی التي توجب استحقاقها {الَّتِي أُعِدَّتْ} هُيأت {لِلْكَٰفِرِينَ}، فلا تفعلوا مايوجب دخولکم معهم فيها.

ص: 381

بعض أسباب الهزيمة في أحد

132- {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ} في أوامره ونواهيه {وَالرَّسُولَ} في الأحکام وفي التنظيمات الإدارية والحربية وغيرهما {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

133- {وَسَارِعُواْ} بادروا {إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ} بالعمل الصالح الموجب للمغفرة کأداء الفرائض، وإلی {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا} أي سعتها کعرض {السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ} هُيأت {لِلْمُتَّقِينَ} الذين يتقون الله بطاعته، ويتقون النار بترك موجباتها، ويتقون المعاصي بترکها.

بحوث

الأول: من الآية 130 إلی 136 يتم بيان بعض أسباب الهزيمة في غزوة أحد، حيث بدأت بهمّ طائفتين بالفشل ثم عصيان أکثر الرماة بترك مواقعهم، ثم فرار الأکثر من الزحف وغير ذلك مما سيأتي ذکره في الآيات اللاحقه، فإنه من أهم الأسباب هو الحالة النفسية التي کان عليها الناس حيث کانوا قريبي عهد بالجاهلية، فإن الحالة النفسية وطريقة تفکير الإنسان يؤثران الأثر الکبير في کيفية عمله، وحيث إن بين العمل والنفس تفاعلاً شديداً لذلك تمّ الارشاد إلی تهذيب النفس وتصحيح العمل، فالنفس تؤثر في العمل، والعمل يؤثر في النفس.

فحبّ المال واستغلال الناس في حوائجهم وعدم الإنفاق وحالات الإفراط في العداء والانتقام ونحو ذلك کلّها سبب التعلق بالدنيا والخروج عن جادة الصواب، ولذا جائت هذه الآيات لتهذيب النفوس وتصحيح الأعمال، مما يؤدي إلی التمسك بالشرع حتی في الحالات الخطرة، وعدم ترجيح الدنيا علی رضا الله والآخرة.

ص: 382

حول الربا

فلذا تم ذکر الربا مع النهي عنه، ثم الدعوة إلی الإنفاق في حالة اليسر والعسر، لئلا يکون هناك تعلق بالمال يؤدي إلی المخالفة، کما حدث لأکثر الرماة حيث عصوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وترکوا موقعهم في شِعب الجبل طمعاً في الغنيمة، کما تمّ الحث علی اطاعة الله تعالی ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنهما سبب الرحمة، وکذلك الحث علی أعمال الخير التي هي سبب المغفرة والجنة مع التحذير عن الأعمال السيئة التي هي سبب النار ثم الحث علی التوبة.

والحاصل أن هذه الآيات وما بعدها دلت علی:

1- تقوی الله، وإطاعته تعالی واطاعة رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فالفلاح والرحمة الخاصة ترتبط بها.

2- وقاية النفس من نار جهنم التي أ ُعدت للکافرين، وذلك بترك المعاصي.

3- المسارعة إلی المغفرة والجنة التي أعدت للمتقين، وذلك بامتثال الواجبات.

4- النهي عن ابتزاز أموال الناس عبر الربا والأمر بمساعدتهم بالإنفاق في اليسر والعُسر.

5- الإحسان إلی الناس وعدم الانتقام منهم، وذلك عبر کظم الغيظ والعفو.

6- التوبة من الذنوب وعدم الإصرار عليها.

الثاني: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ الرِّبَوٰاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً...} الآية.

ص: 383

(الربا) في اللغة بمعنی الارتفاع والزيادة، وأطلق علی الزيادة في القرض أو المعاملة:

أما في القرض: فهو أن يقرض إلی أجل مع زيادة، کأن يقرض ألف لشهر فيسترجعه ألف ومائة مثلاً، وأما في المعاملة: فهو أن يتبادلا بضاعة من جنس واحد مع اختلاف في الوزن أو الکيل کأن يبيعه کيلو من الحنطة بکيلو ونصف منها.

والظاهر أن هذه الآية ناظرة إلی الربا القرضي، لقوله: {أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً} أي زيادة تصاعدية - والتي يعبّر عنها بالزيادة الهندسية - ، وذلك لأنه کثيراً ما لايتمکن المديون من تسديد الدين في الوقت المحدّد، ويطلب تأجيل التسديد، وحينئذٍ يستغل الدائن حاجة المديون مرة أخری بأن يجعل أصل القرض مع زيادته رأساً للمال ويجعل الربا علی رأس المال الجديد، مثلاً أقرضه ألف لشهر بربا عشرة بالمائة، فلما حان الشهر وعجز المديون من التسديد، أجّله لشهر آخر مع جعل رأس المال ألف ومائة وجعل العشرة بالمائة من الربا علی رأس المال الجديد - الذي هو ألف ومائه - بحيث يسترجع منه ألف ومأتين وعشرة، وحيث إن المديون يعجز باستمرار يتضاعف الدين، وکثيراً ما يستغرق مال المديون حيث أقرضه قليلاً واسترجع منه أضعاف کثيرة، وهذا استغلال لحاجة الفقراء مع أکل الدائن المال بالباطل، وفي ذلك زيادة ثروة الأثرياء علی حساب زيادة فقر الفقراء في حين أن اللازم علی الثري مساعدة الفقير لااستغلال فقره، ليزيد من ثروة نفسه، وقد مرّ في سورة البقرة الآية 275 بعض الکلام حول مضار الربا فراجع.

ص: 384

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أمر عام ومن مصاديقه ترك الربا، وتقوی الله الخشية منه والحذر من بطشه بالکفار والعصاة.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي تقواه سبب فلاحکم بالفوز بالجنة والرضوان.

الثالث: قوله تعالی: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ}.

هذه الآية بيان شناعة الربا وأنه يستوجب استحقاق دخول النار، تلك النار التي هُيأت بالأساس للکافرين، لکن بعض المعاصي لشدة قبحها توجب استحقاق غير الکافر للنار التي أ ُعدت للکافرين، فالمسلم المرابي يستحق بعصيانه النار التي لم تهيأ للمسلمين في الأساس - إذ هُيأت لهم الجنة - .

فهذا التعبير لبيان غاية شناعة الربا، کما في قوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَوٰاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٖ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}(1)، وقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَوٰاْ وَيُرْبِي الصَّدَقَٰتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}(2).

ويحتمل أن يکون المراد الکفر العملي، لاالکفر الاعتقادي، فالنار قد أ ُعدت لکل کافر عقيدة أو عملاً بأن کان مسلماً اعتقاداً لکن عمله عمل الکفار بالعصيان، أو أن الکثير من المرابين يستحلون الربا وبذلك يكفرون، لأن إنکار الضروري من الدين مع العلم بکونه ضرورياً سبب للکفر والخروج عن الملة.

ص: 385


1- سورة البقرة، الآية: 278-279.
2- سورة البقرة، الآية: 276.

والتقوي من الوقاية، و{اتَّقُواْ اللَّهَ} و{اتَّقُواْ النَّارَ} إما تأکيد لأن تقوی الله بمعنی حفظ النفس من عذابه التي هي النار، وإما تقوی الله أعم من إتقاء النار، لأن النار إحدی مصاديق غضبه وعذابه، وإما تقوی الله يراد منها سببها أي خشيته وحفظ حرماته وأن يقدره حق قدره.

الرابع: قوله تعالی: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

إرشاد إلی لزوم إطاعتهما، وإطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هي إطاعة لله تعالی کما قال: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(1)، لکن قرنها معاً في هذه الآية وفي آيات أخری دفعاً لتوهم أنه لاتجب إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلاّ فيما بلّغه عن الله مباشرة، کما شاعت هذه السفسطة بين أدعياء المعرفة مؤخراً، بل إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) واجبة بشکل مطلق. وکذلك وجوب إطاعته فيما فوّض الله إليه، کما تجب إطاعته في القضايا الإدارية والتنظيمات الحربية ونحو ذلك.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بيان أنه لايمکن نيل رحمة الله الخاصة بالجنة والرضوان إلاّ عن طريق إطاعة الله والرسول، فمن لم يطعهما لايستحق تلك الرحمة.

الخامس: قوله تعالی: {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ...} الآية.

بعد الأمر بأصل الطاعة، يتم في هذه الآية بيان محبوبية المبادرة إليها، فعلی الإنسان أن لايسوّف في تنفيذ الواجبات، إذ لايدري ماذا يحدث له بعد ذلك، وحتی الواجبات الموسعة ينبغي للإنسان الإتيان بها في أول وقتها، و(المغفرة)

ص: 386


1- سورة النساء، الآية: 80.

هي من فعل الله تعالی، فالمسارعة إليها بمعنی المسارعة إلی أسبابها التي هي فعل العباد، والظاهر أن المراد بها المسارعة إلی امتثال الواجبات وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «إنها أداء الفرائض»(1)، وأما ترك المحرمات فقد مر ذکره في قوله تعالی: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ}.

ثم إن عطف الجنة علی المغفرة، لأن الجنة نتيجة المغفرة، فمن غفر الله له ارتقی بحيث يليق بدخول الجنة، وأما غير المغفور له فلا يليق بها، وحيث إن الله حکيم - ولازم الحکمة وضع الشيء في موضعه - فيغفر ثم يدخل الجنة.

وقوله: {عَرْضُهَا السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ} أي سعتها کسعتهما، قيل: وإنما عبّر بالعرض مبالغة في وصفها بالسعة لأن العرض أقل من الطول، فإذا کان عرض الجنة هکذا فما بالك بطولها؟ وقيل: إن هذا لبيان سعتها لالتحديد السعة، إذ لانهاية للسموات والأرض في تصور الإنسان.

وقد يسأل: إذا کانت الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ والجواب: إن الآية لاتدل علی أن الجنة في هذه السموات والأرض بل دلت علی أن عرضها کعرضهما، والله قادر علی أن يخلق الجنة في مکان آخر، فليست يده مغلولة کما زعمت اليهود، بل خلق السموات بقدرته وهو يزيد في الخلق ويوسع قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَيْيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}(2)، وقال: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}(3)، ويستفاد من بعض الآيات والرويات أن الجنة

ص: 387


1- مجمع البيان 2: 584.
2- سورة الذاريات، الآية: 47.
3- سورة فاطر، الآية: 1.

فوق السموات عن يمين العرش، عند سدرة المنتهی، قال تعالی: {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ}(1).

وقوله في هذه الآية: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وفي تلك الآية: {أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ} دليل علی أن النار والجنة مخلوقتان حالاً، لا کما زعمته بعض المعتزلة من أنهما سيخلقان، إذ ذلك صرف لظاهر الآيتين وغيرهما من الآيات من غير وجه.

ص: 388


1- سورة النجم، الآية: 13-15.

الآيات 134-136

{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَٰمِلِينَ (136)}

134- وللمتقين صفتان رئيسيتان جامعتان هما: العمل الصالح والتوبة من الأعمال السيئة، والأول في علاقتهم بالناس، والثاني في علاقتهم بالله تعالی، أمّا العمل الصالح في اتجاه الناس فهم: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ} من أموالهم {فِي السَّرَّاءِ} حالة الرخاء التي تُسرّ صاحبها، {وَالضَّرَّاءِ} حالة الشدة والعسر، {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ} يتجرعون شدة الغضب فيوقفون سورة الغضب مع تمکنهم من إمضائه، {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} بترك مؤاخذة من جنی عليهم فاستحق العقاب، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الذين فعلوا الفعل الحسن الذي من مصاديقه الإحسان إلی الغير، وهذا کالعلة لمدحهم في الإنفاق والکظم والعفو.

135- وأما علاقة المتقين بالله تعالی فهي ذکر الله والتوبة {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً} الذنب العظيم المتجاوز للحدّ کالزنا والفرار من الزحف {أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بارتکاب سائر الذنوب {ذَكَرُواْ اللَّهَ} بتذکر عظمته تعالی،

ص: 389

وحقه العظيم، ونهيه، وعقابه ونحو ذلك، وهذا التذکر بالقلب ويظهر أثره باللسان، {فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} طلبوا غفرانه، {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} هذا استفهام بمعنی النفي والمقصود الحثّ علی التوبة، فالمعنی لايغفرها إلاّ الله تعالی فأنيبوا إليه، {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ} لم يقيموا علی الذنب وذلك بأن أقلعوا عنه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه خطيئة وقبيح وأنه لاغافر سوی الله تعالی.

136- {أُوْلَٰئِكَ} المتقون الموصوفون بهذه الصفات {جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} بستر الذنوب والعفو عنها {وَجَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ} هذا الجزاء بالمغفرة والجنة {أَجْرُ الْعَٰمِلِينَ} عملاً بإحسان وتوبة.

بحوث

الأول: بعد أن حذّر الله تعالی من النار التي أعدت للکافرين، وبعد أن أمر سبحانه بالمسارعة إلی المغفرة والجنة التي أعدت للمتقين، بيّن الله تعالی بعض صفات المتقين مما يناسب السياق العام المرتبط بأحداث غزوة أحد، ولايخفی أن للمتقين صفات کثيرة مبثوثة في آيات کثيرة من القرآن الکريم، وفي کل مقام ذکرت الصفات التي تتناسب مع الغرض، وفيما نحن فيه ذکر مايرتبط بالناس في الآية الأولی ومايرتبط بالله تعالی في الآية الثانية، وهي کالتالي:

1- الغزوات بحاجة إلی جهاد بالمال، کما أنه بعد انتهاء الغزوة تزداد الحاجات، وذلك بسبب استشهاد جمع وجرح آخرين ممن کانوا يعولون أهليهم، فأصبحوا من غير معيل، فلذا قال: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}.

ص: 390

2- في الهزائم يزداد لوم بعض بعضاً إذ يريد الأشخاص التملّص عن تحمل مسؤولية الهزيمة وإلقائها علی الآخرين، کما يزداد الغيظ تجاه من صاروا سبباً للهزيمة، فقال تعالی: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} حيث من مصاديقه عدم لوم الآخرين والتجاوز عن خطيئتهم، وذلك لأن اللوم والذم والتقريع والانتقام يزيد الهزيمة هزيمة، فهم مهزومون عسکرياً ومتشتتون اجتماعياً، أما الکظم والعفو فيساعدان في لملمة الجراح.

3- إن تجاوز المحنة بحاجة إلی تجديد القوی فقال تعالی: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي بالفعل الحسن الذي منه الإحسان إلی الآخرين، ويمکن أن يکون هذا المقطع بيان علة الاتصاف بالإنفاق والکظم والعفو، فإن ذلك إحسان والله يحب المحسنين.

4- إن الهزيمة کانت بسبب عصيانهم لله سبحانه وللرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فلابد من إصلاح مافسد وذلك بالتوبة بأن يتذکر الإنسان ربّه فيستغفر وينقلع عن القبيح الذي ارتکبه فلا يكرّره.

الثاني: قوله تعالی: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}.

لعلّ تقديم الإنفاق لأن السياق العام کان حول أن سبب الهزيمة کان حب الدنيا - بجمع الغنائم أولاً، وبخوف القتل في الفرار من الزحف ثانياً - ، والإنفاق المالي من أفضل الأسباب لترويض النفس علی حبّ المکارم والانقلاع من حبّ الدنيا، وليكن الإنفاق في کل الحالات لأن النفس بحاجة إلی ترويض دائم ومستمر، فحتی حالة الضراء التي هي حالة الفقر وشدة الحاجة لابد فيها من الإنفاق أيضاً، ولذا قيل: لو لم يحسن بحجة

ص: 391

الفقر والعُسر لابتلي برذيلة المنع واعتاد قساوة القلب وعدم النظر إلی حوائج المضطرين، وقد وردت في الروايات أن زکاة الفطرة لاتجب علی الفقراء لکن يستحب أن يأخذ معيل الأسرة صاعاً من حنطة أو نحوه وينفقه علی أحد أفراد الأسرة وهذا ينفقه علی الثالث، والثالث علی الرابع، وهکذا ثم يخرجون الصاع إلی فقير آخر، فينالوا کلهم ثواب زکاة الفطرة، ولعلّ فيه ترويض نفوسهم علی الإنفاق إضافة إلی تحصيل الثواب.

و{السَّرَّاءِ} حالة السرور، وهي حالة الرخاء، لأنها توجب مسرّة الإنسان، و{الضَّرَّاءِ} حالة الشدة، لوقوع الإنسان في المضرّة.

الثالث: قوله تعالی: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

أما (کظم الغيظ) فبمعنی إمساکه وتجرعه وعدم إظهاره، ومن أبرز مصاديقه عدم التقريع واللوم وعدم تشفي النفس، والکظم هو من أصعب أنواع الصبر، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من کظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه يوم القيامة رضی»(1).

و(الغيظ) هو شدة الغضب، وفي المقاييس: کرب يلحق الإنسان من غيره(2).

وأما (العفو) فهو ترک عقاب من استحقه، بأن کان من حقوقه، فيغضّ الطرف عنه ويتنازل عن حقه، نعم لو کان من حقوق الله کما في غالب

ص: 392


1- الکافي 2: 11.
2- مقاييس اللغة: 780.

الحدود فلا يجوز العفو، إلاّ في حالات خاصة مذکورة في الفقه.

وأما قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فهو إما بيان صفة أخری من صفات المتقين، فهؤلاء لايکتفون بالکظم والعفو بل يحسنون حتی إلی من ظلمهم، فقد يعفو الإنسان ويقاطع الخاطئ، وقد يعفو عنه ويحسن إليه.

وإما بيان سبب الکظم والعفو، بأنهما إحسان والله يحب المحسنين بمعنی يجازيهم ويکافئهم علی إحسانهم.

و(الإحسان) هو صنع الفعل الحسن، سواء کان متعلّق الإحسان النفس، فمن يطيع الله فقد أحسن إلی نفسه، أم کان متعلقه الغير کالتصدق عليه، فلا ينحصر الإحسان في الإحسان إلی الغير وبالکظم والعفو، فكما يحسن الإنسان إلی الخاطئ، کذلک يحسن إلی المجتمع بشدّ القلوب وتقوية الأواصر، وکذلک يحسن إلی نفسه بفعل ما ينال به رضا الله تعالی وثوابه.

الرابع: قوله تعالی: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ...} الآية.

الآية عطف علی قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ...} فتکون بياناً لصفة أخری من صفات المتقين، وهي فيما يرتبط بعلاقتهم بربهم سبحانه وتعالی، بأنهم في ذکر الله تعالی بحيث لو غفلوا فارتکبوا خطيئة تذکروا الله سبحانه وتابوا إليه.

والتوبة بمعنی الرجوع إلی الله تعالی، وهي تتکون من أمور ثلاث:

1- قلبي: بالندم علی المعصية، وهذا يلازم العزم علی عدم العود إليها.

2- ولساني: بأن يقول: استغفر الله، ونحو ذلک.

3- وعملي: بأن يُصلح ما أفسده، فإن کان في حق الناس أرجع إليهم حقوقهم أو استرضاهم، وإن کان في حق الله أدّاه أو قضاه إن کان

ص: 393

الموضوع باقياً، کمن فرّ من الزحف ولا زالت المعرکة قائمة فعليه الرجوع إليها ومواصلة الجهاد، أما لو لم يبق الموضوع، کما لو وضعت الحرب أوزارها، کفی في التوبة الندم والاستغفار.

وفي هذه الآية إشارات إلی أرکان التوبة الثلاثة، لأن ذکر الله قلباً يلازم الندم علی الفعل، والاستغفار هو طلب المغفرة فيشمل الاستغفار اللساني والاستغفار العملي بإصلاح ما أفسد، وعدم الإصرار يلازم الندم والعزم علی عدم العود.

و(الفاحشة) من الفُحش وهو تجاوز الحدّ، يقال: غلاء فاحش، والقبيح قد يکون متناهياً في القبح فيطلق عليه الفاحشة کالزنا، وما سوی ذلک لايطلق عليه الفاحشة کاللمم وهي صغائر الذنوب، ولايخفی أن تقسيم الذنوب إلی کبيرة وصغيرة وفاحشة وغير فاحشة إنما هو باعتبار الذنب في نفسه، وأما إذا لوحظ فيه أنه عصيان للرب العظيم فکل ذنب عظيم، وبهذا يتبيّن أن قوله: {أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بمعنی ارتکاب سائر الذنوب غير الفواحش.

وقوله: {ذَكَرُواْ اللَّهَ} أصل (الذکر) بمعنی حضور الشيء في القلب، ويقابله النسيان والغفلة، فذکر الله بمعنی عدم الغفلة عنه، بأن يلاحظ الإنسان عظمة الله وحقه العظيم ونهيه وعقابه وأمثال ذلک، وأما الذکر باللسان فهو فرع الذکر القلبي ومکمّل له، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: من أشدّ ما فرض الله علی خلقه ذکر الله کثيراً، ثم قال: لا أعني «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله اکبر» وإن کان منه، ولکن ذکر الله عندما أحلّ وحرّم،

ص: 394

فإن کان طاعة عمل بها، وإن کان معصية ترکها(1).

وقوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} جملة فاصلة بين المعطوف والمعطوف عليه، والغرض تليين القلوب وحثّها علی الاستغفار ببيان سعة رحمة الله تعالی وأنه يغفر جميع الذنوب لمن توجه إليه بالتوبة والإنابة و{مَن} استفهام يراد به النفي.

وقوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ} أي لم يقيموا علی الذنب، بل انقلعوا منه نادمين قاصدين عدم تکراره، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلک الإصرار(2).

وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال عن {مَا فَعَلُواْ} والمعنی انهم لو يصروا علی الذنوب وهم يعلمون أنها ذنب، فقد لايعلم الإنسان الحکم أو قد لايعلم الموضوع فيُخطئ، فهذا تکراره ليس إصراراً إذا کان معذوراً في جهله، وحتی العقلاء لايعتبرون ما ارتکبه ذنباً وإصراراً، مثلاً لو لم يعلم العبد أمر مولاه أو نهيه، وکان معذوراً في جهله فلا يعاقب بل ولا يُلام علی مخالفته.

نعم لو کان الجهل عن تقصير فهذا يلام ويعاقب، لکن من يخالف عن علم وعمل أسوأ حالاً وأشد عقاباً.

الخامس: قوله تعالی: {أُوْلَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّٰتٌ...} الآية.

ص: 395


1- الکافي 2: 80.
2- الکافي 2: 219.

أي هؤلاء المتقون المتصفون بهذه الصفات يجازيهم الله بالمغفرة والجنات، وهذه الآية ليست تکراراً للآية 133 لإحدی الجهات التالية أو لغيرها:

1- إن تلك الآية کانت حول أسباب المغفرة والجنة، وهذه الآية حول نفس المغفرة والجنة.

2- أو تلك وعد بهما، وهذه إخبار عن تحقق الوعد.

3- أو تلك بيان سعة الجنة، وهذه بيان أوصافها وخلود أهلها، فتمّ تفريق المطالب في آيتين ليکون آکد وأقوی في إثارة الشوق إليها.

4- وقيل ذکر الله صنفين: فصنف المتقون الذين لم يرتکبوا المعاصي بل ارتقوا إلی فعل الفضائل، وصنف ثان هم الذين لم يتقوا المعاصي لکنهم تابوا عنها، مع بيان أن الجنة أ ُعدت للصنف الأول، لکن الصنف الثاني أيضاً يدخلونها بفضل الله تعالی، وهذا تشريف للصنف الأول أيّما تشريف، کما لو أقيمت مأدبة علی شرف شخص ودُعي إليها آخرون أيضاً.

وقوله: {جَنَّٰتٌ...} قد مرّ أن الجنة هي البستان الذي غطته الأشجار، فهي مرکب من أرض وشجر، ففوقها الاغصان المتشابکة وتحتها الأرض، وعليه فلا داعي لتقدير تجري من تحت أشجارها، بل تجري من تحت نفس الجنة باعتبار أن الأرض جزء منها.

وقوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَٰمِلِينَ} بيان أن الجنة لاتنال إلا بالعمل، وعن أمير المومنين (عليه السلام) أنه قال: «لاتکن ممن يرجو الآخرة من غير عمل»(1)، وقال الله

ص: 396


1- تحف العقول: 157.

تعالی: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(1)، وقوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ} بيان لعظمة هذا الأجر، فإنه لا أجر يبلغ هذا الأجر - لا کماً ولا کيفياً ولا دواماً - ولذا قيل: لو کانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف، لرجّح العاقل الخزف الباقي علی الذهب الفاني، کيف والأمر علی العکس إذ لاعين رأت ولا سمعت أذن ولا خطر علی قلب بشر مثل الجنة وما فيها.

ص: 397


1- سورة النساء، الآية: 123.

الآيات 137-139

اشارة

{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)}

137- ثم إن الله تعالی يحث المؤمنين علی الطاعة وترک المعصية، بالاعتبار بما جری علی الأمم السابقة الذين کذبوا الرسل: {قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِكُمْ} في الأمم السابقة {سُنَنٌ} سنّها الله تعالی في الأمم المکذّبة، وهي تجري فيکم أيضاً إن کذّبتم، {فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ} في البلاد التي کانوا فيها، {فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} حيث أهلکوا ولم تبق من مساکنهم إلاّ الأطلال.

138- {هَٰذَا} السير والنظر في عاقبة المکذبين {بَيَانٌ} أي إيضاح الحق {لِّلنَّاسِ} عامة لتتم الحجة علی الجميع، {وَهُدًى} أي إرشاد إلی طريق الحق، {وَمَوْعِظَةٌ} أي نصح وتذکير بالعواقب {لِّلْمُتَّقِينَ} فمن لم يکن يعلم يهتدي، ومن کان يعلم يُذکَّر.

139- وحيث تبين لکم أن سنة الله جارية في إهلاک المکذبين وإزالة نعمهم فعليکم أن تستقيموا وتتحملوا صعوبات طريق الحق لتجري فيکم سنته تعالی في المؤمنين {وَلَا تَهِنُواْ} أي لاتضعفوا عن العمل ومنه جهاد

ص: 398

الأعداء، {وَلَا تَحْزَنُواْ} علی ما أصابکم من المصائب، {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} الغالبون {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بامتثالکم أوامر الله ورسوله، وهکذا کان في غزوة أ ُحد حيث امتثلوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في البداية فانتصروا، ثم خالفوا فانهزموا ونُکّل بهم، ثم استجابوا لله تعالی ولرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وصبروا فانقلبوا بنعمة الله وفضل لم يمسسهم سوء، فالعلو مشروط بالايمان.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ...} الآية.

بعد الدعوة إلی المسارعة إلی أسباب المغفرة والجنة، والدعوة إلی التوبة عن المخالفات، وبيان أن المصير سيکون إلی الجنة، بعد ذلک يتم بيان مصير المکذبين، فإنهم أهلکوا وزالت نعمهم وانقرضت حضارتهم، فعلی الإنسان أن ينظر إلی آثارهم الباقية ليعتبر بها، وليعلم أن مبادلة الخلود في الجنة بدنيا فانية زائلة ليس من شأن أولي الألباب.

واعلم أن الأمور العقلية الصرفة لا تؤثر في الکثير من الناس، فلا تبتدل عندهم تلک المعلومات إلی قناعات حقيقية بحيث تؤثر في تصرفاتهم وأعمالهم، إلاّ إذا اقترنت بإدراک الشيء عبر الحواس، فغالب الناس لايکترثون بالمعلومات الطبية - مثلاً - إلاّ بعد تجربة المضار أو المنافع، وهکذا في غالب أمورهم، وحيث إن مسائل الآخرة من الغيب الذي لايمکن إحساسه فدعوتهم إليها اقترنت بذکر الأمثال المحسوسة، وايجاد طرق محسوسة لإدراکها، وأهم الحواس في هذا المضمار البصر والسمع، فالعاقبة الدنيوية للظلم أو العدل إذا کانت ماثلة بين أيدي الناس ينظرون

ص: 399

إليها ويستمعون إلی قصصها کان لها الأثر الکبير في ايجاد قناعة لدی الإنسان بحسن العدل وقبح الظلم، بحيث تؤثر تلک القناعة في سلوکه وأعماله.

وهکذا النظر في آثار الماضين وخاصة أطلال قصور حکام الدنيا، حيث يری الإنسان زوال نعيمهم وهلاکهم بعد أن کانت حياة الناس وأرزاقهم رهن إشارتهم، فلم تشفع لهم عساکرهم ولا أموالهم ولا سطوتهم من الله شيئاً.

حفظ آثار الماضين

ثم إن الغرض من النظر إلی آثار الظالمين والاستماع إلی قصصهم هو الاعتبار، وليس الغرض إحياء أمجادهم وحث الناس إلی الاقتداء بهم، کما دأب عليه بعض الحکام الظلمة في العصر الحاضر، حيث قصدوا بذلک تثبيت دعائم حکمهم الاستبدادي عبر إيهام أنهم يعيدون الأمجاد الغابرة، فيکون نظير: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم مُّقْتَدُونَ}(1).

فحفظ الآثار أمر حق لکن لابد أن يکون بغرض صحيح، وأهم تلك الأغراض هو الاعتبار بهم، قال تعالی: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ}(2).

فالغرض الأساسي هو معرفة تبعات الظلم والاستکبار علی الله تعالی.

وأما الصالحون فآثارهم تُذکّر بهم وبالله سبحانه وتعالی فلذا يلزم حفظها من هذه الجهة، وأيضاً تساعد في فهم کثير من قضاياهم المروية في کتب الآثار، وفي تصحيح أخطاء بعض الروايات التاريخيّة، وقد حفظ الله تعالی

ص: 400


1- سورة الزخرف، الآية: 23.
2- سورة يونس، الآية: 92.

مقام ابراهيم (عليه السلام) تذکيراً به وتخليداً لتضحياته کما مرّ، ولذا کان من أهم الأمور حفظ آثار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في مکة والمدينة، والذي أزال الوهابيون کثيراً منها وهم يسعون إلی إزالة ما تبقی منها، سعياً لاطفاء نور الله تعالی، وليتمکنوا من تزوير بعض حقائق التاريخ أو التشکيک فيها بعد زوال آثارها.

قوله تعالی: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} أي لله تعالی سنن في خلقه، وهذه السنن غير قابلة للتغيير والتحويل کما قال: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(1)

وهذه السنن تحکم التاريخ، وهناك علم يسمی (فلسفة التاريخ) يبحث عن هذه السنن.

وفي هذه الآيات تُذکر سُنّتان - مما يرتبط بغزوة أ ُحد - .

1- سنته سبحانه في المکذبين، بإهلاکهم وإزالة نعمهم.

2- سنته تعالی في المؤمنين، بأنهم الأعلون، بشرط إلتزامهم بلوازم الايمان.

ولکن لمّا کان المؤمنون قد يضعفون ويخالفون أو قد يختلط بهم غير المؤمنين لذا کانت له تعالی سنة أخری أيضاً هي تداول الأيام بين الناس، فيکون رفعاً لدرجات المؤمنين وتمييزاً لهم عن غير المؤمنين ولغير ذلک من العِلل التي ذکرت في الآيات التالية.

وقوله: {سُنَنٌ} جمع سنة بمعنی الطريقة والعادة، و(سنة الله) هي الوقائع التي قدّرها الله تعالی بجعل شيء علة لشيء آخر وخاصة فيما يرتبط بأفعال الناس بحيث تکون لها آثار لاتنفک عنها.

ص: 401


1- سورة فاطر، الآية: 43.

وقوله: {فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ} بيان لعدم الاکتفاء بالاستماع عن بعيد، بل الذهاب والنظر بالعين والاستماع للقصص عن قرب، فإن ذلک أکثر تأثيراً وأشد إقناعاً.

الثاني: قوله تعالی: {هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}.

أي السير في الأرض والنظر إلی عاقبة المکذبين ينفع الناس عموماً، والمتقين خصوصاً، فليس الأمر اعتباطياً، إذ إن الله تعالی حکيم، والحکيم لايضع الشيء إلاّ في موضعه، فيتعالی سبحانه عن اللغو والعبث والتکليف من غير مصلحة.

1- بيان للناس، أي ايضاح الحقائق للناس عامة، وذلک ليهتدي من شاء الهداية، ولتتم الحجة علی من شاء الضلالة، فمن طرق البيان القول، ومن طرقه ترک الآثار، کما هناک طرق أخری قال تعالی: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءَايَةَۢ بَيِّنَةً لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(1)، وقال: {وَتَرَكْنَا فِيهَا ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}(2)، وأما الغرض من البيان فکما قال تعالی: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(3)، وقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(4)، وقال: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(5)، وقال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(6)، وقال: {لَعَلَّكُمْ

ص: 402


1- سورة العنکبوت، الآية: 35.
2- سورة الذاريات، الآية: 37.
3- سورة البقرة، الآية: 187.
4- سورة البقرة، الآية: 219.
5- سورة البقرة، الآية: 221.
6- سورة البقرة، الآية: 242

تَهْتَدُونَ}(1) وغيرها.

ولايخفی أن البيان أعم من الإيضاح بالقول أم بالفعل، تشريعاً أم تکويناً.

2- هدی للمتقين، أي زيادة هداية لهم وتثبيتهم علی تقواهم، کما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ}(2)، وفي سورة الحمد: {اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ}، فالمراد هنا الهداية التکوينية بتوفيقهم في الاستمرار في هدايتهم وتقواهم.

3- موعظة للمتقين، أي بتذکيرهم للعواقب، فإن أصل الموعظة هي القول الذي يرق له القلب(3)، ثم تُوسّع فيه فأطلق حتی علی الأفعال التي تُنبِّه الإنسان وتزيده بصيرة.

ومن هذا يتبين الفرق في هذه الآية بين الهداية والوعظ، فالهداية تثبيت علی طريق الرشد والتقوی، والموعظة تذکير بالعاقبة، ويحتمل أن يراد بالهداية الابتداء بها لمن کانت له القابلية فأراد أن يتقی، وبالموعظة الاستمرار بالهداية لمن کان متقياً فتکون تثبيتاً له.

الثالث: قوله تعالی: {وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

هذا بيان لسُنّته تعالی في جانب المؤمنين، وهو علّوهم وغلبتهم علی الکفار بشرط الإيمان، قال تعالی: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَٰلِبُونَ}(4)، وقال: {فَإِنَّ حِزْبَ

ص: 403


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- سورة محمد، الآية: 17.
3- العين 2: 228؛ مفردات الراغب: 876.
4- سورة الصافات، الآية: 173.

اللَّهِ هُمُ الْغَٰلِبُونَ}(1)، وقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(2).

ولا يخفی أن الإيمان هو بمعنی الالتزام بجميع ما أمر الله تعالی، ومن ذلك التمسک بالأسباب الطبيعية للغلبة، کإعداد القوة، وعدم اطاعة الکفار، وعدم عصيان القيادة المشروعة، وعدم التنازع، وعدم الفرار من الزحف.

وقد بيّن الله تعالی هذه الأسباب في القرآن الکريم، بعضها في الآيات التالية تبياناً لأسباب هزيمتهم يوم أحد، وکقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ}(3).

وفي هذه الآية تثبيت لقلوبهم لتطمئن، ولئلا تضعضع بسبب کثرة الخسائر في غزوة أحد، فيقال لهم إرشاداً وتبصرة: {وَلَا تَهِنُواْ} أي لايُصِبکم الضعف في أفعالکم وجهادکم في المستقبل، و{وَلَا تَحْزَنُواْ} علی هزيمتکم الماضية وکثرة خسائرکم، بل عليکم بالإيمان الذي هو سبب لعلوکم وغلبتکم علی الکفار، ولذا قيل: فأنتم الأعلون وکلمة الکفار السفلی لأنکم علی الحق وهم علی باطل، وقتالکم لله وقتالهم في سبيل الطاغوت، وشهداؤکم في الجنة وقتلاهم في النار، وأنکم منصورون في العاقبة وغالبون عليهم ولو بعد حين.

والحاصل: إنه بعد علمکم بهذه الحقيقة بأنکم الأعلون فلا مُبرِّر للضعف

ص: 404


1- سورة المائده، الآية: 56.
2- سورة محمد، الآية: 7.
3- سورة الأنفال، الآية: 60.

والحزن، فانظروا إلی المستقبل بنظرة متفائلة، والتزموا بدينکم وبما يأمرکم من إعداد وسائل النصر، وانتهوا عما ينهاکم عنه من أسباب الهزيمة، واعتبروا بما جری عليکم يوم أ ُحد حيث التزمتم فانتصرتم، ثم عصيتم فانهزمتم، ثم أطعتم فردّ الله الکفار عنکم.

ص: 405

الآيات 140-143

اشارة

{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَٰفِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّٰبِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143)}

140- ثم يبين الله تعالی أن المصائب التي يبتلی بها المؤمنون إنما هي لحکمة إلهية فلا تُنافي علوّ المؤمنين، فلابد أن لايهنوا ولا يحزنوا إن ابتلوا بها، ف {إِن يَمْسَسْكُمْ} يُصبکم {قَرْحٌ} جراح، والمراد القتل والجرح في غزوة أُحد {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ} کفار قريش {قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ} في غزوة بدر، فما وهنت عزيمتهم عن الانتقام فجمعوا عددهم وعُدّتهم إلی يوم أحد، فأنتم أولی منهم في عدم الوهن والحزن، لأنکم الأعلون، ولأنکم ترجون من الله ما لايرجون، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ} أي وهکذا هي أيام الدنيا {نُدَاوِلُهَا} ننقلها {بَيْنَ النَّاسِ} فتارة لهم وتارة عليهم، {وَ} الغرض من التداول أولاً: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي يظهر ما علمه الله تعالی أزلاً بمن يختار الإيمان، إذ الجزاء إنما يکون بعمل الإنسان لا بما علمه الله تعالی فقط، فلابد أن يتحقق ما علمه، والمقصود بيان أن تمييز المؤمن عن غيره يکون

ص: 406

في المداولة، إذ لو کانت الدنيا للمؤمنين دائماً لما رغب أحد عن الإيمان ولبطل الامتحان، {وَ} ثانياً: ل {يَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} يشهدون علی الخلق، إذ هي مرتبة رفيعة لاتُنال إلاّ بالعمل الشاق، ثم عند المداولة کما يظهر المؤمن يظهر الکافر والمنافق {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ} فلا يرفعهم إلی الدرجات العالية، ولايتخذهم شهداء، بل يشهد أولئک عليهم.

141- {وَ} ثالثاً: {لِيُمَحِّصَ} يخلّص من الذنوب ويطهر {اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فإن صمودهم واستقامتهم في الصعاب يکفّر عنهم ذنوبهم {وَ} رابعاً: ل {يَمْحَقَ الْكَٰفِرِينَ} يُفنيهم بإنقاصهم وإهلاکهم.

142- وأما الفائدة الخامسة فهي نيل الجنة التي يستحقها من استقام فقال: {أَمْ} منقطعة وقد تضمنت معنی الاستفهام الإنکاري أي بل أ {حَسِبْتُمْ} ظننتم {أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} أي قبل أن يظهر عياناً ما علمه الله تعالی أزلاً {الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ} «الواو» للجمع أي وقبل أن يظهر علمه في {الصَّٰبِرِينَ}؟ کلا لايکون ذلک، فالجزاء علی العمل لا علی العلم الأزلي.

143- ثم ذمّ الله الذين فرّوا فقال: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} شهادةً في سبيل الله {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} حيث کانوا يأسفون لعدم نيلهم الشهادة يوم بدر، {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} شاهدتم الموت عياناً في غزوة أ ُحد حيث رأيتم من قُتل {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} أي تنتظرونه، فکما شاهدتم القتلی کذلک کنتم تنتظرون أن يحصدکم المشرکون قتلاً، فکيف فررتم ثم اعترضتم علی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مع أنکم کنتم تصرّحون بحبکم للشهادة؟!

ص: 407

بحوث

الأول: قوله تعالی: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ}.

من هذه الآية يبدأ بيان تفاصيل غزوة أحد، بما تتضمن من بيان سبب الهزيمة وإجابة عن اعتراضات وتوهمات، وبيان سنن الله تعالی ونتائج الطاعة والمعصية وغير ذلک.

ففي البداية يتم بيان أن من سنن الله تعالی مداولة الأيام بأن تکون تارة للمؤمنين وتارة عليهم، وکذا تارة للکفار والمنافقين وتارة عليهم، بل حتی حينما تکون للکفار أو المنافقين فإنها لاتبقی لمجموعة دون مجموعة، ولذا عبّر عن ذلک بقوله: {بَيْنَ النَّاسِ}، وهذا الأمر قد ثبت في علم التاريخ، واکتشف سببه في علم فلسفة التاريخ، حيث ذکروا أن الحضارة تدور بين الأمم وفي أقطار الأرض، فالحضارات کالأجسام لها فترة ولادة وطفولة ونضج في قوة ثم کهولة وشيبة ثم الفناء، وکما يمکن تطويل فترة الشباب والقوة في الجسم کذلک يمکن تطويل فترة قوة الحضارة وفتوّتها، لکن دون التمکن من إيقاف قوسها النزولی وانحدارها إلی حدّ الزوال، نعم يمکن أن تحيا حضارة من جديد وبيد أشخاص آخرين، فتکون کحضارة جديدة ولدت من جديد.

وقوله: {يَمْسَسْكُمْ} من المس إشارة إلی أن الضربة لم تکن قاصمة بل هي مسّ يمکن تجاوزه، کما أن المشرکين في بدر مسّهم القرح لکنهم أعادوا قواهم فرجعوا إلی أحد.

وقوله: {قَرْحٌ} بمعنی الجرح، والمراد القتل والجراحات التي أصيب بها

ص: 408

المسلمون والکفار في أ ُحد وبدر.

وقوله: {مِّثْلُهُۥ} إما المثليّة من حيث الکم، فقد قتل في بدر سبعون من المشرکين وأصيب جمع منهم، کذلک استشهد في أ ُحد سبعون من المسلمين وأصيب آخرون، وأما المثلية في أصل القرح أي کما انهزمتم کذلک هم انهزموا، وعليه يمکن أن يکون کلا القرحين في غزوة أ ُحد فالمعنی إن مسکم قرح في آخر غزوة أحد، کذلک مس المشرکين قرح مثله في بداية غزوة أ ُحد حيث انهزموا وقتل جمع منهم في بداية الأمر.

سبب مداولة الأيام

الثاني: قوله تعالی: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} الآية.

أي هذا هو شأن أيام الدنيا، حيث تنتقل الهزيمة والنصر بين مختلف الناس - بمؤمنهم وکافرهم - .

ثم إن الله تعالی يذکر خمسة أسباب لتقدير مداولة الأيام بين الناس، وبعض هذه الأسباب متداخلة لذا استعملت لام العلة تارة ولم تستعمل تارة أخری، وتلک الأسباب هي:

1- التمييز بين المؤمن وغيره، إذ لو کانت الدولة للمؤمنين دائماً لآمن الناس کلهم، واختلط من آمن واقعاً بمن آمن طمعاً، ولکن حين دولة المؤمنين يؤمن الناس ثم حينما تکون الدولة عليهم يبقی المؤمن الحقيقي مستقيماً وينکشف المنافق أو الذي غرّته نفسه فتوهم أنه مؤمن حقيقي، وهکذا حدث في غزوة أ ُحد حيث انخزل عبدالله بن أبي بثلاثمائة، وفرّ الأکثر، وصمد الأقل.

2- إن الصمود والاستقامة سبب الرقي وصعود مدارج الکمال، وحينئذٍ

ص: 409

تکون لهکذا إنسان قابلية أن يُمنح المقامات العالية، وحيث إن الله تعالی أراد اختيار من يشهدون علی الناس، وهي درجة عالية جداً لأنها درجة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ومن يلونهم في المرتبة، فلذا جعل المسلمين في مواقف حرجة ليرتقي بعضهم بالصمود والصبر والاستقامة بحيث ينال درجة الشهادة علی الخلق.

ولا يخفی أن هؤلاء الشهداء هم بعض من علم الله إيمانهم، فکأنّ هذين السببين متداخلان لذلک لم يکرر لام التعليل في قوله: {وَيَتَّخِذَ...}.

3- تخليص المؤمنين من ذنوبهم، لأن الاستقامة حسنة کبيرة، والحسنات تکفّر عن السيئات.

4- محق الکافرين، بإنقاصهم وإهلاکهم.

وأيضاً هذان سببان متلازمان عادة، لأن الحرب کما يقتل ويجرح فيها المؤمن کذلک الکافر، فهي تمحيص للمؤمنين وفي الوقت نفسه محق للکافرين، ولذا لم تتکرر لام التعليل في قوله: {وَيَمْحَقَ...}.

5- نيل الجنة ومقاماتها العالية لايکون إلاّ بالجهاد والصبر، وفي مداولة الأيام تتهيأ الفرصة لکلا الأمرين - أي الجهاد والصبر - فيستحق الجنة من جاهد وصبر.

وقوله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ} الظاهر أن (تلک) مبتدأ، و(الأيام) خبر، أي هکذا هي الأيام وهذا هو شأنها، ثم وصفها بقوله: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} من المداولة بمعنی الصرف والانتقال، والمقصود بيان أن هناک أسباباً طبيعية سنّها الله في الناس، فمن أخذ بالأسباب وصل إلی النتائج سواء کان

ص: 410

المؤمنون أم الکفّار، مع إضافة أن الله تعالی ينصر المؤمن الذي أطاعه وأطاع رسوله باتخاد الأسباب الطبيعية مع التمسک بالأسباب الغيبيّة، فحاصل الأية هو أن تقدير الله هو تداول الأيام بين الناس بأن ينصر الله تعالی المؤمنين الذين ينصرونه، ويُملي للکافرين الذين يتمسکون بالأسباب، کما قال: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1)، کما مرّ قوله تعالی: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ}(2).

الثالث: قوله تعالی: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ}.

هذا بيان العِلة الأولی لمداولة الأيام بين الناس، والمقصود تمييز المؤمن عن غيره، إذ الامتحان يکون في الشدة لا في الرخاء، وبالصعوبات لا بالشهوات، فلم يجعل الله الدنيا دار کرامة أوليائه بل خصّ الآخرة بهم. وأما الدنيا فلا قيمة لها عند الله ولو بمقدار جناح بعوض - کما في بعض الأحاديث -(3) فلذا جعلها ثواباً للکفار مع تداول الأيام بينهم وبين المؤمنين، فإن کانت الدولة للمؤمنين فهو نصر من الله لهم، وإن کنت الدولة للکافرين فهو استدراج واملاء لهم، کما قال تعالی: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}(4)، وهذا ليس نصراً من الله لهم، إذ ما عاقبته الذل والهوان والخزي ليس نصراً کما

ص: 411


1- سورة الإسراء، الآية: 20.
2- سورة آل عمران، الآية: 112.
3- الکافي 2: 247.
4- سورة الأعراف، الآية: 182-183.

قال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَٰتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ}(1).

معنی «ليعلم الله»

وأما قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} بمعنی ليظهر ما علمه الله تعالی أزلاً، فليس الغرض هو إثبات علمه سبحانه وتعالی، فإن ذلک أمر مفروغ منه لاشبهة فيه، وإنما الغرض إثبات متعلق العلم وهو المعلوم، ولذا قيل: إن العلم إنما هو بين العالم والمعلوم ف (عَلِم) قد يکون باعتبار العالم فيما کان جاهلاً ثم علم وهذا يستحيل في الله تعالی، وقد يکون باعتبار المعلوم فيما لم يکن المعلوم موجوداً ثم کان، وحيث إن الله تعالی عالم إذ لا معلوم فمعنی ليعلم الله هو تحقق معلومه في الخارج، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: لم يزل الله عزوجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور، فلما أحدث الأشياء وکان المعلوم، وقع العلم منه علی المعلوم، والسمع علی المسموع والبصر علی المبصر والقدرة علی المقدور(2)، وعنه (عليه السلام) : إن الله أعلم بما هو مکوّنه قبل أن يکوّنه - وهم ذرّ - ، وعلم من يجاهد ممن لايجاهد، کما علم أنه يُميت خلقه قبل أن يميتهم، ولم يسرهم موتهم وهم أحياء(3).

وقيل: العلم يتعلق بالمعلوم، فنُزِّل نفي العلم منزلة نفي متعلّقه، لأنه ينتفي بانتفائه، تقول: ما علم الله في فلانٍ خيراً، تريد ما فيه خير حتی يعلمه الله!!

ص: 412


1- سورة المؤمنون، الآية: 55-56.
2- الکافي 1: 107.
3- تفسير العياشي 1: 199.

ثم إن إستعمال واو العطف في قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ...} مع أن هذا هو العلة الأولی، لعلّه کما قيل: من أنه عطف علی مقدّر لبيان أن العلل کثيرة وهذه منها، فتأمل.

الرابع: قوله تعالی: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}.

هذا بيان للعلة الثانية لمداولة الأيام، والمقصود لترتفع قابلية بعض المؤمنين - بسبب إطاعتهم لله تعالی ولرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) - فينالوا درجة الشهادة.

والظاهر - بقرينة السياق - هو الشهادة علی الخلق، فإنها درجة الأنبياء والأوصياء والأئمة (عليهم السلام) وأما من سواهم فلابد أن يکون تالي تلوهم وذلك بالعمل الصالح الشاق، ومن أصعبه الجهاد في سبيل الله والاستقامة في مواضع الهزيمة، فليس المراد من {شُهَدَاءَ} القتلی في سبيل الله تعالی، وإن کان من هؤلاء شهداء علی الخلق أيضاً، إذ إصطلاح الشهيد علی القتيل في سبيل الله حقيقة متشرعية، ولا تحمل ألفاظ القرآن الکريم علی الاصطلاحات المتأخرة، نعم ما ورد في الروايات يراد به عادة هذا الاصطلاح، فتأمل.

وأما قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ} فهو بيان الشق الآخر المقابل للذين آمنوا وللشهداء، فإنه في الامتحان کما يتميّز المؤمن کذلک يتميّز الظالم لنفسه المنهزم العاصي.

الخامس: قوله تعالی: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَٰفِرِينَ}.

بيان للعلة الثالثة والرابعة لمداولة الأيام، فإن بعض الناس مؤمنون وهم يثبتون في الامتحان ويتميزون عن غير المؤمنين، لکن لهم ذنوباً قد

ص: 413

ارتکبوها، فهؤلاء بحاجة إلی تطهير منها، لئلا تعوقهم تلک الذنوب عن المقامات العالية، لذا يمحّصهم الله بالأعمال الصعبة فيطهروا من تلک الذنوب، وأصل التمحيص هو تخليص الشيء، مما فيه من عيب، يقال: مَحَصتُ الذهب ومَحّصتُه إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث(1).

فالفرق بين قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} وقوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} هو أن الأول في تمييزهم عن غير المؤمنين، والثاني في تطهيرهم عن الأدران العالقة بهم من أنفسهم أو من أعمالهم.

وأما محق الکافرين: فهو بمعنی إنقاصهم وإهلاکهم.

قيل: تمحيص المؤمنين إن کانت الدولة عليهم، ومحق الکافرين إن کانت الدولة للمؤمنين!

لکن الأقرب أنه سواء کانت الدولة للمسلمين أم للکافرين فذلک تمحيص للمؤمنين ومحق للکافرين، لأن (المحق) هو النقصان شيئاً فشيئاً إلی حدّ الهلاک، والکفار حتی لو کانت الدولة لهم لکن لايصلون إلی الأثر الذي يرجونه، فلاخير ولا برکة لانتصارهم فهو کالبطلان والهلاک، کما قال تعالی: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ}(2)، وأي نقصان وهلاک أسوء من الإملاء والاستدراج الذي يسوق إلی نار جهنم؟!

السادس: قوله تعالی: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا...} الآية.

هذا بيان للعلة الخامسة للمداولة، وحاصله بيان أن للجنة ثمن لابد

ص: 414


1- مفردات الراغب: 761.
2- سورة محمد، الآية: 8.

للإنسان أن يدفعه لينالها، وفي تداول الأيام يحصل هذا الشيء، فالجهاد بالمال والنفس والصبر عن المعاصي وعلی الطاعات وفي الأزمات طريقان مهمّان إلی الجنة.

وقوله: {الَّذِينَ جَٰهَدُواْ} يراد به الجهاد بمقاتلة الأعداء لاجهاد النفس، لأن السياق حول المعرکة، مضافاً إلی أن جهاد النفس داخل في الصبر بل هو أحد أرکانه وأعمدته، فلا تکرار في الکلمتين، والمقصود هو إن کانت ظروف الجهاد متحققة فثمن الجنة بالجهاد والصبر، ولکن إن لم تکن ظروف الجهاد متحققة فثمن الجنة سائر الطاعات وترک المعاصي.

وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} (أم) منقطعة وبتقدير الاستفهام الانکاري فالمعنی بل أزعمتم، والواو في (ويعلم) للجمع بتقدير (أن) المصدرية، قيل: جيء بهذه العلة بصيغة الاستفهام تفننا في التعبير وهو من أوجه البلاغة والفصاحة.

السابع: قوله تعالی: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ...} الآية.

هذا کالتتمة للآية السابقة، أي لايکون نيل الجنة بالتمني بل بالعمل، وأنتم کنتم تتمنون الشهادة لمّا فاتتکم في بدر، فهل کنتم تظنون أن يترککم الله تعالی وتمنيّکم من غير تمييز الصادق عن الکاذب؟ کلا، بل داول الأيام في أ ُحد فکانت الدولة للمشرکين فأين ذهب أولئک الذين تمنوا الموت؟ إنه قد هرب أکثرهم من القتال خوفاً من الموت لمّا رأوا أصحابهم قد قتلوا وأوشک القتل أن يصل إليهم، فالغرض من هذه الآية بيان مصداق عملي لفائدة هکذا إمتحان وبأن للجنة ثمناً ليس هو مجرد تمنّي الشهادة.

وکان من قصة هؤلاء أن قوماً فاتتهم غزوة بدر فتحسروا لذلک لمّا علموا

ص: 415

فضل الشهداء عند الله، فتمنّوا لو کانوا في بدر واستشهدوا فيه! وقيل: إن هؤلاء کانوا من أکثر الناس إلحاحاً للخروج إلی أ ُحد وعدم التحصن في المدينة، لکن عند الامتحان تبيّن عدم صدق أکثرهم إلاّ القليل، وفي ذلک تنبيه لهم ولغيرهم بأن لايغتروا بالنفس ولايکتفوا بالتمنّيات، بل عليهم أن يسيئوا الظن بها، وأن يواصلوا تهذيب النفس ولا يغفلوا عنها آناً ما.

وقوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي رأيتم الموت حينما رأيتم شهداء المسلمين.

وقوله: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} أي تنتظرون وصول الموت إليکم لذا هرب أکثرکم، وقيل: تنظرون بمعنی الرؤية لکن المقصود منه عدم إقدامکم علی القتال کراهية الموت، فيکون المعنی فقد رأيتم الموت رؤية الناظر لا رؤية المقدام الذي لايبالي بالموت أ وقع هو علی الموت أم وقع الموت عليه.

وقيل: هو تأکيد لرأيتموه أي لم يکن مجرد رؤية علمية لاتثير خوفاً ولا خطراً، بل کانت رؤية بصرية بما فيها من احساس الخوف والخطر.

ص: 416

الآيتان 144-145

اشارة

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْأخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّٰكِرِينَ (145)}

144- ثم يقرّع الله المنهزمين بأن دين الله مستمر سواء بقي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أم ارتحل فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} فهو بشر اختاره الله لرسالته وليس إلهاً لايموت، {قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فهو ليس بدعاً منهم، {أَفَإِيْن مَّاتَ} موتة طبيعية {أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ} أي رجعتم إلی الکفر ارتداداً کالذي يمشي القهقری؟! {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} بل يضر نفسه، لأنه سبحانه الغني الحميد الذي لايحتاج إلی إيمان أحد کي يضره ارتداده، کما أنه تعالی لم يکن بحاجة إلی اطاعة المطيعين، بل هم الذين انتفعوا {وَسَيَجْزِي اللَّهُ} جزاءً حسناً {الشَّٰكِرِينَ} الذين شکروا نعمة الإيمان والهداية وذلک بعدم الارتداد.

145- ثم لماذا انهزم أولئک الفارّون؟ هل لکي يدرأوا عن أنفسهم الموت؟! ألايعلمون أن الموت والحياة بيد الله تعالی {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} لأن الله تعالی مهيمن علی الوجود کلّه فلا يقع شيء

ص: 417

في ملکه تعالی من غير قضائه وقدره وإذنه، وقد کتب الله تعالی الموت {كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا} أي ذا أجل معين، فلا ينفع الفرار من الموت بالارتداد أو الفرار من الجهاد، ثم عرّض الله تعالی بمن شغلته الغنائم يوم أ ُحد عن الإطاعة أو شغلته النفس عن الجهاد فقال: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا} خيرها فاهتمَّ بذلک {نُؤْتِهِ مِنْهَا} من الدنيا أي بعضها، لکن الاعطاء استدراج له فلا يغترّ به، {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْأخِرَةِ} بأن أطاع وعمل عملاً صالحاً {نُؤْتِهِ مِنْهَا} من الآخرة، وهذا الإيتاء إحسان وإکرام له {وَسَنَجْزِي} جزاءً حسناً {الشَّٰكِرِينَ} الذين أطاعوا.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ}.

بيان أن الله تعالی اختار بشراً لرسالاته، فترکيبتهم الجسدية کسائر البشر، فيجري عليهم ما يجري علی سائر الناس، ومنه الموت الذي کتبه الله تعالی علی الجميع، قال تعالی: {وَمَا جَعَلْنَٰهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ}(1)، وذلک لأنه تعالی أراد أن يکونوا أسوة وقدوة يقتدي بهم الناس، فلابدّ من کون ترکيبتهم الجسدية کسائر الناس کي يتمکنوا من الاقتداء بهم، وحتی لو کانوا ملائکة کان لابدّ من جعلهم بشراً کما قال تعالی: {وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}(2).

ولايخفی أن الله تعالی خلق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) أنواراً محدقين بعرشه، ثم أنزلهم إلی الدنيا رحمة ولطفاً منه تعالی بالعالمين أجمع، وهذا

ص: 418


1- سورة الأنبياء، الآية: 8.
2- سورة الأنعام، الآية: 9.

الغرض يتحقق بوجودهم فترة ثم رجوعهم إلی منازلهم التي شرفهم الله بها، فلم تکن من الحکمة خلودهم في الأرض، وکذا سائر الناس إنما جيء بهم إلی الدنيا للامتحان قال تعالی: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰئِفَ فِي الْأَرْضِ مِنۢ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(1)، وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}(2)، فلذا قدّر لهم البقاء في الدنيا لفترة محدودة ليکملوا الامتحان، ولينتقلوا بعدها إلی دار کرامته أو عذابه، فلذا کان الموت من الحکمة، وعدمه خلاف الحکمة، والله تعالی منزه عن العبث.

الثاني: قوله تعالی: {أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ}.

(الهمزة) للإستفهام الإنکاری التوبيخي، أي حيث علمتم أنه رسول، وأن رسلاً قبله سبقوه وقد ماتوا، واستمرت شريعتهم بعد موتهم، فکيف انقلبتم بمجرد سماعکم نبأ موت رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟! ألم تکونوا تعلمون أن الله أرسله ليبلّغ، لا لکي يعيش بين أظهرکم أبد الدهر؟! فدينُه دين الله، ودين الله لايموت بموت من أرسله الله لتبليغه، وفي الحقيقة هذا توبيخ لهم لضعف إيمانهم بحيث يبقی ما دامت الدولة لهم، ويزول إذا صارت عليهم، کما قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(3)، وأما

ص: 419


1- سورة يونس، الآية: 14.
2- سورة المؤمنون، الآية: 115.
3- سورة الحج، الآية: 11.

المؤمن کامل الإيمان فليس إيمانه طمعاً في الدنيا ولا خوفاً من القتل، ولذا يثبت في کل الحالات قال تعالی: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا}(1).

و(الموت) هو زهوق الروح عن الجسد سواء کان بسبب طبيعي أم بحادث کالقتل، إلاّ أنه لو عطف القتل عليه کان المراد منه الزهوق الطبيعي ومن القتل الزهوق المتعمد ونحوه، وقد ورد في بعض الأحاديث أن القتل ليس موتاً(2) والظاهر أن المراد فيما لو اجتمع ذکرهما معاً، حتی لايکون من التکرار.

وغير خفي أن شأن نزول الآية في غزوة أحد، لکن معنی الآية غير منحصر بها، ولذا ارتد الکثيرون بعد رحيل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، بل قاتل بعضهم بعضاً کما قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖۘ} إلی قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنۢ بَعْدِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(3).

الانقلاب بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)

(والانقلاب) بمعنی الانصراف عن الوجهة إلی غيرها و(الأعقاب) جمع عقب وهو مؤخر القدم، فکأن المؤمن يسير في الطريق المستقيم وفجأة يتحوّل عنه إلی طريق الباطل، وفي هذا التعبير وجهان:

ص: 420


1- سورة الأحزاب، الآية: 23.
2- تفسير العياشي 1: 199.
3- سورة البقرة، الآية: 252-253.

1- بمعنی أنه أدار ظهره إلی الوجهة الصحيحة، لکن عبّر بالأعقاب بدلاً عن الظهر زيادةً في التشنيع عليه.

2- أن يراد التشبيه بمشية القهقری، إذ المتقهقر يضع عقبه علی الأرض أولاً.

الثالث: قوله تعالی: {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ...} الآية.

هذا وعد ووعيد، أما الوعيد فبيان أن المنقلب يضرّ نفسه، ولايتضرر الله تعالی من ذلک، لأنه الغني المطلق الذي لاينفعه إيمان ولا يضره کفر، وإنما المتضرر هو من يکفر قال تعالی: {فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُۥ}(1)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَئًْا}(2)، بل يضرون أنفسهم بحرمانها من الکمال والثواب وبإيقاعها في العذاب، فالله تعالی خلق الناس ليرحمهم بلا حاجة منه إلی طاعتهم ولا ضرر من عصيانهم، فإذا عصوا حرموا انفسهم من الثواب الجزيل.

وأما الوعد فهو جزاء الشاکرين، و(الشکر) هو عرفان المنعم بالقلب، والثناء عليه بالسان، وإطاعته بالجوارح، فمن أطاع الله تعالی فقد شکره، والذين استقاموا ولم يفروا من الزحف ولم ينقلبوا علی الأعقاب إطاعةً لله ولرسوله، فقد شکروه سبحانه وقد وعدهم بالجزاء الجزيل، فقوله: {الشَّٰكِرِينَ} هم الذين لم يرتدوا علی أعقابهم.

ولا يخفی تکرار جزاء الشاکرين في هذه الآية والآية التي بعدها،

ص: 421


1- سورة فاطر، الآية: 39.
2- سورة آل عمران، الآية: 177.

والظاهر ان {الشَّٰكِرِينَ} في الآية الأولی يراد بهم الذين لم يرتدوا علی الاعقاب فهم الشاکرون في أصول الدين بأن شکروا نعمة الإسلام بالثبات عليه، فشکرهم هو إيمانهم، ويراد بالشاکرين في الآية الثانية العاملين بإخلاص، فهم الشاکرون في فروع الدين فشکرهم بطاعتهم.

والحاصل أن من صحت عقيدته ولم يرتد يجازيه الله، وکذا من عمل بالصالحات يجازيه، وقيل: الأول في الآخرة، والثاني في الدنيا لئلا يتوهم أحد حرمان المؤمنين من جزاء الدنيا!

أسباب الموت

الرابع: قوله تعالی: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ...} الآية.

هذا تشجيع علی الاستقامة والجهاد، فالذين ارتدوا، أو فرّوا من الجهاد إنما کان ذلک لحبّهم الحياة وأماناً من الموت، وقد رُوي أن بعضهم أراد توسيط رأس النفاق عبد الله بن أبيّ ليأخذ لهم أماناً من أبي سفيان(1).

والآية تبين أن الارتداد والفرار من الجهاد ليس أماناً من الموت، فکم من غير مجاهد مات حتف أنفه أو بحادث، قال تعالی: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ}(2)، وکم من مجاهد رجع سالماً غانماً.

قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} الإذن إما بمعناه أي الإيجاد تکويناً، أو المراد المعنی الخاص المذکور في قول الإمام الصادق (عليه السلام) : لايکون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع: بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن

ص: 422


1- جوامع الجامع 1: 333.
2- سورة آل عمران، الآية: 154.

وکتاب وأجل، فمن زعم أنه يقدر علی نقض واحدة فقد کفر(1).

والحاصل أن السبب الحقيقي للموت هو إرادة الله تعالی قبض روح العبد، وأمره لملک الموت، وليس الجهاد هو سبب الموت ولا الفرار منه سبب بقاء الحياة.

وعليه فلو مات أو قتل الرسول فقد کان ذلک باذن الله تعالی، وهو يستدعي الثبات علی الدين لا الخروج منه، لأن الأمر کلّه بيد الله تعالی، فله المشيئة التشريعية في الدين وأمرکم به، وله المشيئة التکوينية في موت الجميع ومنهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولا تناقض بين التشريع والتکوين بل هما متلازمان متطابقان، کما مرّ توضيحه في أوائل السورة.

قوله: {كِتَٰبًا} أي کتب الموت کتاباً أو حالکونه کتاباً {مُّؤَجَّلًا} أي ذا أجل ووقت، والمعنی أن کل إنسان سيموت يوماً ما فيرجع إلی حساب الله تعالی، فليکن موتاً في طاعة الله لينال الثواب، لا أنه يعصي الله تعالی حباً للبقاء فيفر من الجهاد أو يرتد، فإن ذلک لا يدفع عنه الموت، وحتی لو أخّر الله موته فإنه سيلاقيه عاصياً قد استوجب الخذلان والعقاب.

سؤال: في الحروب نری حصد أرواح الکثيرين، ونحن نعلم يقيناً بأنه لو لم تکن حرب أو لم يشارکوا فيها لم يکونوا يموتون معاً وفي ذلک الوقت؟!

والجواب: أن الآية ليست في صدد بيان الأجل المحتوم، وسيأتي توضيحه في الآيات 154-156، بل في بيان أصل الموت، بمعنی أنهم لايتمکنون من دفع الموت عن أنفسهم دائماً، فالأجل أما محتوم أو غير محتوم، فالمحتوم

ص: 423


1- راجع شرح أصول الکافي 2: 467-468 (للمؤلف)، ففيه شرح لمعنی الحديث.

هو الذي لا مناص منه أبداً ولا يتقدم ولا يتأخر، وأما غير المحتوم فهو الذي علّقه الله تعالی علی الأسباب الخاصة، فيمکن تأخيره بتأخير أسبابه أو تقديمه بتقديم أسبابه، قال تعالی: {ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُۥ}(1)، ولذا کان الدعاء والصدقة وصلة الأرحام ونحوها من أسباب زيادة العمر، وهناك أسباب في تنقيص الأعمار، وهذه من موارد البداء، کما في قوم يونس لما عصوا قرب منهم العذاب فلما تضرعوا کشفه الله عنهم.

والحاصل: إن الارتداد أو الفرار من الجهاد قد يؤخر الأجل المعلّق غير المحتوم، لکنه لا يؤخر الأجل المحتوم وسيلاقيه - ولو بعد حين - ولکن مع خسارة الآخرة والعذاب الأليم، بل قد يکون مع الهلکة في الدنيا أيضاً.

الخامس: قوله تعالی: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا...} الآية.

کأنّه بيان أن الذين يفرون من الجهاد أو يرتدّون حين سيطرة الأعداء يتمتعون قليلاً فقد نجوا بأرواحهم عادة، والذين يصمدون ويقتلون في سبيل الله تعالی ينالون ثواب الآخرة، ومن ذلک يتضح سبب عدم تقييد ارادتهم بالعمل کما في قوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}(2)، وذلک لأن الصامدين إنما هم مؤمنون ساعون بجهادهم إلی طلب مرضاته تعالی، فتأمل.

وقيل: هو تعريض بمن شغلتهم الغنيمة عن الجهاد وعن إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بلزوم مواقعهم، فمن يجاهد لأجل الغنيمة قد يحصل عليها

ص: 424


1- سورة الأنعام، الآية: 2.
2- سورة الإسراء، الآية: 19.

لکن لاخلاق له في الآخرة، وأما من يجاهد في سبيل الله تعالی فينال ثواب الآخرة، وقوله: {مِنْهَا} للتبعيض، إذ الارادة قد لاتتفق مع الأسباب أحياناً فهو يريد لکن لايتمکن من الوصول إلی ما يريد، لکنه لايخلو من الوصول إلی بعض خيرات الدنيا، وکذا الذي يعمل للآخرة فيؤتی بعضاً منها قد يحبط عمله أو يفرّط فلاينال کل ما يحب.

وقيل: قوله: {وَمَن يُرِدْ...} بيان لسبب الانقلاب وسبب الشکر، فأما المنقلبون فقد أرادوا الدنيا لذا لمّا دارت الدائرة ارتدوا وفرّوا، وأما الشاکرون فقد أرادوا الآخرة لذا يجازيهم الله تعالی بأحسن الجزاء.

السادس: في شأن نزول الآية...

في مجمع البيان: قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية أنه لما أ ُرجف بأن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قد قتل يوم أ ُحد وأشيع ذلک، قال أناس: لو کان نبياً لما قتل! وقال آخرون: نقاتل علی ما قاتل عليه حتی نلحق به، وارتد بعضهم، وانهزم بعضهم، وکان سبب انهزامهم وتضعضهم إخلال الرماة لمکانهم من الشِعب... فلما رأی خالد بن الوليد قلة الرماه واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأی ظهورهم خالية صاح في خيله من المشرکين، وحمل علی أصحاب النبي من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم... حتی قتل مصعب بن عمير، قتله ابن قميئة، فرجع وهو يری أنه قتل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقال: إنی قتلت محمداً، وصاح صائح: ألا إنّ محمداً قد قُتل، ويقال: إن ذلک الصائح کان ابليس لعنه الله(1).

ص: 425


1- مجمع البيان 2: 603-604.

وفي الکافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: لما انهزم الناس يوم أ ُحد عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) انصرف إليهم بوجهه وهو يقول: أنا محمد، أنا رسول الله، لم أقتل ولم أمت، فالتفت إليه فلان وفلان وقالا: الآن يسخر بنا أيضاً وقد هُزِمنا.

وبقي معه علي (عليه السلام) وسمّاک بن خرشة - أبو دجانة - فدعاه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا أبا دجانة انصرف وأنت في حلّ من بيعتک، فأما عليّ فهو أنا، وأنا هو، فتحوّل وجلس بين يدي النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وبکی، وقال: لا والله، ورفع رأسه إلی السماء وقال: لا والله، لا جعلت نفسي في حلّ من بيعتي، إني بايعتک، فإلی من أنصرف يا رسول الله؟ إلی زوجة تموت! أو ولد يموت! أو دار تخرب! أو مال يفنی! أو أجل قد اقترب؟! فرَقّ له النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فلم يزل يقاتل حتی أثخنته الجراحة، وهو في وجهٍ، وعلي (عليه السلام) في وجه، فلمّا أ ُسقط احتمله عليّ (عليه السلام) ، فجاء به إلی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فوضعه عنده، فقال: يا رسول الله أوفيت ببيعتي؟ قال: نعم، وقال له النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) خيراً.

وکان الناس يحملون علی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الميمنة فيکشفهم علي (عليه السلام) ، فإذا کشفهم أقبلت الميسرة إلی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فلم يزل کذلک حتی تقطع سيفه بثلاث قِطع، فجاء إلی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فطرحه بين يديه وقال: هذا سيفی قد تقطع! فيومئذٍ أعطاه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ذا الفقار.

ولمّا رأی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) اختلاج ساقيه من کثرة القتال رفع رأسه إلی السماء وهو يبکي، وقال: يا ربّ وعدتني أن تُظهر دينک، وإن شئت لم يعيک، فأقبل علي (عليه السلام) إلی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أسمع دويّاً شديداً،

ص: 426

وأسمع: أقدم حيزوم، وما أهمّ أضرب أحداً إلاّ سقط ميتاً قبل أن أضربه؟! فقال: هذا جبرئيل وميکائيل واسرافيل في الملائکة، ثم جاء جبرئيل (عليه السلام) فوقف إلی جنب رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد إن هذه لهي المواساة، فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : إن علياً منّي وأنا من عليّ، فقال جبرئيل: وأنا منکما... الحديث(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه أصاب علياً (عليه السلام) يوم أ ُحد ستون جراحة، وأن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أمر أم سليم وأم عطية أن تداوياه، فقالتا: إنا لا نعالج منه مکاناً إلاّ انفتق منه مکان، وقد خفنا عليه، ودخل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة، فجعل (صلی الله عليه وآله وسلم) يمسحه بيده، ويقول: إن رجلاً لقي هذا في الله فقد أبلی وأعذر، فکان القرح الذي يمسحه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يلتئم، فقال علي (عليه السلام) : الحمد لله إذ لم أفرّ ولم أ ُوَلِّ الدبر، فشکر الله له ذلک في موضعين من القرآن، وهو قوله: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ} {وَسَنَجْزِي الشَّٰكِرِينَ}(2).

ص: 427


1- الکافي 8: 318-321.
2- مجمع البيان 2: 610.

الآيات 146-148

اشارة

{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْأخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}

القسم الأول من الناس: الصابرون الثابتون

قد مرّ أن الناس في غزوة أ ُحد انقسموا إلی أصناف ثمانية، فهذا القسم الأول.

146- ثم يحرضهم علی الاقتداء بأصحاب الأنبياء السابقين حيث لم ينهزموا {وَكَأَيِّن} بمعنی «کم» للتکثير {مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ} مع النبي {رِبِّيُّونَ} عارفون بالرب {كَثِيرٌ} أي جماعات کثيرة، نسبت إلی الرب لإيمانهم به وعبادتهم له وطاعته، {فَمَا وَهَنُواْ} لم تفتُر عزيمتهم {لِمَا أَصَابَهُمْ} من الشدائد {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فحيث کانوا يريدون الله شدّوا عزائمهم {وَمَا ضَعُفُواْ} في القتال {وَمَا اسْتَكَانُواْ} للعدو بالخضوع والتذلل له، فبقيت عزيمتهم قوية واستمروا في القتال ولم يتذللوا للعدو، فکان هذا الصبر منشأ حب الله تعالی لهم {وَاللَّهُ يُحِبُّ} يجازي ويثيب {الصَّٰبِرِينَ} هذا کلّه من حيث العمل.

ص: 428

147- وأما من حيث القول {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} قول الربييّن عند ملاقاة العدو {إِلَّا أَن قَالُواْ رَبَّنَا} أي التضرع إلی الله تعالی بأن يدرأ عنهم أسباب الهزيمة ويهيّأ لهم أسباب النصر وهي:

أ - {اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} التي قد تکون سبباً للزلل والفرار من الزحف.

ب - {وَإِسْرَافَنَا} بمعنی الإفراط ومجاوزه الحد {فِي أَمْرِنَا} أمر القتال، فقد يکونون قصّروا في العدد والعدة، ولم يعدوا لهم ما استطاعوا من قوة.

ج - {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} لئلا تزل، وذلک بتقوية القلوب وبالألطاف الخفية والجلية.

د - {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ} بالإعانة عليهم، کإلقاء الرعب في قلوبهم، والإمداد بالملائکة، أو عبر تهيأة الأسباب الظاهرية للنصر.

148- فلما رأی الله صدقهم بصبرهم عملاً وتضرعهم إليه لساناً وقلباً نصرهم {فَآتَاهُمُ اللَّهُ} جزاءً لهم {ثَوَابَ الدُّنْيَا} منافعها: بالنصر والغنيمة تارة، وبالعزة والذکر الحسن تارة أخری، أو في ذرياتهم ثالثة، وقد يجمع کل ذلک لهم، {وَ} آتاهم {حُسْنَ ثَوَابِ الْأخِرَةِ} أي ثوابها الحسن، فإنه هو الثواب الأهم والمعتد به، وذلك لاحسانهم {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} حيث أحسنوا إلی أنفسهم بطاعة ربهم، وأحسنوا إلی غيرهم من سائر الناس بجهادهم، لأن فائدة الجهاد تصل إلی سائر الناس المعاصرين والأجيال القادمة.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}.

بعد أن قرّعهم الله ووبّخهم علی انهزامهم، أراد تشجيعهم وحضّهم علی

ص: 429

الجهاد، وذلک بذکر الأمثال من الأمم السابقة، حيث قاتل کثير من الأنبياء ومعهم أصحاب مؤمنون، قد ابتلوا بالشدائد من القتل والجرح، لکنهم لم يترکوا مواقعهم وواصلوا الجهاد، ولم تتضعضع عقيدتهم بل ازدادوا ايماناً فتوجهوا إلی الله متضرعين له ومعترفين بتقصيرهم - الذي قد يکون هو سبب ما لاقوه من شدائد - وطالبين نصره، وکان نتيجة ذلک أن أثابهم الله في الدنيا والآخرة.

قوله: {كَأَيِّن} بمعنی (کم) ويراد به التکثير، أي لم يکن ذلک صدفة غير قابلة للتکرار، بل تکرر مرات کثيرة، فعليکم الاقتداء بهم، لئلا تهزموا في الحروب اللاحقة.

وقوله: {رِبِّيُّونَ} بکسر الراء، منسوب إلی الربّ تعالی، والکسرة من تغييرات النسبة، فقد يغيرون في الکلمة حين النسبة، کالأموي بفتح الهمزة نسبة إلی أمية بضمها، وقيل: نسبة إلی (رِبية) بمعنی الجماعة الکثيرة أو (رِبوة) بمعنی عشرة آلاف أو آلاف مؤلّفة، وبعضها مرويّ(1)،

والأقرب أنه نسبة إلی الرب، وأمّا آلاف أو عشرة آلاف أو الجماعة الکثيرة فهي تفسير لقوله (کثير) فالمعنی مؤمنون کثيرون.

وإنما قيده بالکثرة حثاً وتحريضاً لهم بأن حالات الصبر والاستقامة لم تکن نادرة وبالصدفة فکثير من الأنبياء قاتل معهم کثير من العارفين بالرب تعالی فنُسبوا إليه لإيمانهم وعبادتهم وطاعتهم.

الثاني: قوله تعالی: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

ص: 430


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 513.

هذا تفريع علی کونهم رِبييّن، فهؤلاء قلباً وعملاً وقولاً صمدوا واستقاموا، فصبروا وأحسنوا فأحبهم الله تعالی وجازاهم في الدنيا والآخرة.

قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} قلباً، فعزائمهم لم تفتر ولم تصب بالوهن، وأول الهزيمة هي الهزيمة النفسية، وأول النصر قوة المعنويات، فمن خارت عزيمته انهزم حتی لو کان له العدد والعُدة، وکونهم ربانيين انتج قوة العزيمة، لأن ضعف الإيمان سبب ترجيح الدنيا علی الآخرة، والذلة علی العزة والکرامة.

وقوله: {لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} کالعلة لعدم وهنهم، لأنهم يعملون في سبيل الله ويطلبون رضاه، فيرضون بما يقدّره سواء کان شدة أم رخاءً، أو ما يحبونه بالطبع أم يکرهونه، عکس المنافقين وضعاف الإيمان في غزوة أ ُحد حيث کان قتال بعضهم لا عن قناعة ولا عن إيمان مستقر، کما أن الربيّين يعلمون بأنه حيث کان في سبيل الله فهو تعالی سيعوّضهم بأحسن الجزاء، فيهون عليهم ما أصيبوا به.

ويحتمل أن يکون {فَمَا وَهَنُواْ...} بمعنی التزلزل لما اصيبوا به و{وَمَا ضَعُفُواْ} بمعنی التزلزل خوفاً من الإصابة فيما لم يصابوا به لحدّ الآن.

وقوله: {وَمَا اسْتَكَانُواْ} أي لم يخضعوا للعدو ولم يتذلّلوا له بطلب رضاه، کما فعل بعض المنافقين في غزوة أُحد حيث أرادوا توسيط المنافق عبد الله بن أبيّ عند أبي سفيان، وأراد بعضهم الإرتداد ليرضی عنهم المشرکون، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: بين الله سبحانه أنه لو قُتل (صلی الله عليه وآله وسلم) کما أ ُرجف بذلک يوم أحُد، لما أوجب ذلک أن يضعفوا أويهنوا کما لم

ص: 431

يهن من کان مع الأنبياء بقتلهم(1).

و(الاستکانة) قيل: هي من باب الافتعال من السکون، فهي «استکن» أ ُشبعت الفتحه فصارت ألفاً، إذ الذليل يسکن لصاحبه ليصنع به ما يشاء، وقيل: هي من باب الاستفعال من الکينة وهي الحالة السيئة.

وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ} بيان أن حالتهم هذه هي الصبر أو نتيجة للصبر، إذ لايمکن الوفاء بعهود الله تعالی إلا بالصبر والثبات، فحيث إن الدنيا دار امتحان والعوض هو کرامة الله تعالی الأبدية، فلابد من صعوبة في الامتحان وإلاّ لم يکن امتحاناً، فلو سئل طالب الجامعة أسئلة الابتدائية لم يکن امتحاناً حقيقة، ولو أعظمت له الجائزة لم يکن ذلک من الحکمة.

الثالث: قوله تعالی: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ...} الآية.

في هذه الآية تذکر أقوالهم بشکل دعاء، فاولئک لم يقولوا شيئاً يدل علی ضعفهم أو علی إلقاء اللوم علی الله أو النبي، بل قولهم أيضاً يکشف عن سموّ أنفسهم والتوسل بالأسباب التي جعلها الله تعالی متضرعين إليه سبحانه أن يوفقهم إلی تلک الأسباب، وهذا عکس المنافقين وضعاف الإيمان في غزوة أ ُحُد حيث ألقوا اللوم علی الله وعلی الرسول، وأرادوا تبرير فعلتهم، وعدم الاعتراف بها، وعدم تصحيح الأخطاء.

مع أنه في الهزيمة أو حين الشدة والإصابة لابد من الالتجاء إلی الله تعالی، والبحث عن أسباب المشکلة، ومن ثم محاولة إيجاد الحلول، مع الاستعانة بالله تعالی للتوفيق إلی ذلک، أما توقع النصر من دون امتثال أوامر

ص: 432


1- تفسير الصافي 2: 133، عن مجمع البيان.

الله تعالی فهو من التواکل المذموم، والله تعالی لاينصر المخالفين عن أمره، بل ينصر رسله والذين آمنوا فأطاعوه وامتثلوا أوامره ومنها الاستغفار عن الذنوب وعن ترک أسباب النصر والتي أمر الله بها.

فلا بد من الاقتداء بالربانيين من أصحاب الأنبياء السابقين حيث کان دعاؤهم کالتالي:

1- {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} لأن الذنوب مُعوِّق عن الاستقامة والصبر قال تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ}(1)، کما أن للذنوب عقوبات دينوية وأخروية، فلعل بعض تلک الذنوب هي سبب لعقوبتهم بالهزيمة، فأرادوا تطهير نفوسهم منها بالاستغفار ليرحمهم الله تعالی برفع تلک العقوبة، قال تعالی: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(2)، وقال: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}(3)، وقيل: أرادوا غفران ذنوبهم استعداداً للقاء الله تعالی طاهرين.

2- {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} (الإسراف) هو مجاوزة الحد، کالإفراط، قيل: وليس الاسراف متعلقاً بالمال فقط، بل بکل شيء وضع في غير موضعه اللائق به، کما وصف قوم لوط بقوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}(4)، ووصف فرعون بقوله: {إِنَّهُۥ كَانَ عَالِيًا

ص: 433


1- سورة آل عمران، الآية: 155.
2- سورة آل عمران، الآية: 11.
3- سورة المائدة، الآية: 49.
4- سورة الأعراف، الآية: 81.

مِّنَ الْمُسْرِفِينَ}(1)-(2)، وقيل: أصل الاسراف في المال ثم تُوسع فيه فأ ُطلق علی الإفراط في رفض الحق.

وکأنّ قولهم: {فِي أَمْرِنَا} أي أمر الجهاد والقتال، فلعلّهم أفرطوا وتجاوزوا الحدود في مسائل الجهاد فلذلک أصيبوا، فيدعون بغفران ذلک الإسراف، ومن المعلوم أن الدعاء يتضمن إصلاح الأمر أيضاً، إذ لامعنی لطلب الغفران مع الإصرار علی الذنب والإسراف وعدم اصلاح الأمر، إذ يشترط في التوبة إصلاح ما أفسده، وقيل: شدة الحال قد توجب صدور بعض الهفوات وقد تکون تلک سبباً للهزيمة، فغفرانها هو بسترها ومحو أثرها، وذلک أمر مهم في تحقق النصر.

3- {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} بعد طلب محو السلبيات، يأتي دور طلب الايجابيات التي تکون سبباً للنصر، وذلک بالاستقامة حتی النهاية، ويکون ذلک بتقوية القلوب وفعل الألطاف الخفية والجليّة.

4- {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ} وذلک لأن الاستقامة وحدها لا تکفي بل لابد من شفعها بالنصر من الله تعالی، مع تضرعهم أن طلبهم للنصر ليس إلاّ لإعلاء کلمته تعالی، فنحن نقاتل لا لأجل الدنيا بل نقاتل قوماً کافرين فنطلب منک نصرنا عليهم، وفي ذلک غاية التواضع والتذلل والإخبات له تعالی.

والنصر قد يکو ن بأسباب غيبية کإرسال الملائکة، أو بأسباب طبيعية کإلقاء الرعب في قلوب الکافرين، أو هداية المؤمنين لأسباب النصر

ص: 434


1- سورة الدخان، الآية: 31.
2- ([3]) معجم الفروق اللغوية: 115.

واستثمار نقاط ضعف العدو وعدم اهتداء العدو لأسباب ضعف المؤمنين، وغير ذلک.

قيل: قدموا الدعاء بالاستغفار ليکون طلبهم النصر عن زکاة وطهارة وخضوع فيکون أقرب للإجابة.

وقيل: أضافوا الذنوب والإسراف إلی أنفسهم هضماً لها، وأضافوا ما أصابهم إلی سوء أعمالهم فاستغفروا منها، ثم طلبوا التثبيت والنصر.

الرابع: قوله تعالی: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْأخِرَةِ...} الآية.

أي فاستجاب الله دعائهم، وأثابهم في الدنيا والآخرة، لأنه سبحانه يحب المحسنين ويجازيهم.

و{ثَوَابِ} هو ما يرجع إلی الإنسان من جزاء أعماله، ويستعمل في الخير والشر، إلاّ أن استعماله في الخير أکثر(1).

قوله تعالی: {ثَوَابَ الدُّنْيَا} لاينحصر في الغلبة العسکرية أو الغنيمة والرفاه ونحو ذلک، حتی يقال: کيف ذلک والبعض منهم قُتل فلم ير ثواب الدنيا، وأحياناً کانت الهزيمة العسکرية فقتلوا وأسروا!! بل ثواب الدنيا أعم من ذلک ومن العزة والکرامة وحسن الذکر والبرکة في الذرية، فإن الدنيا ليست، تنحصر في التمتع بلذائذها المادية، بل منافعها المعنوية أهم من تلک، فالجندي الذي يقتل في المعرکة دفاعاً عن وطنه وعرضه قد انتصر هو بتخليد ذکره وحسن سمعته وعزة ذويه وذريته، وکان من دعاء إبراهيم (عليه السلام)

ص: 435


1- مفردات الراغب: 180.

قوله: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٖ فِي الْأخِرِينَ}(1)، نعم من ينظر إلی الدنيا نظر البهائم بأنها أکل وشرب ونکح ورفاه فقط يعتبر القتيل دون عرضه ووطنه خاسراً، لکن حتی الملاحدة لايفکرون هکذا!!

وقوله: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْأخِرَةِ} أي الثواب الحسن، من إضافة الوصف إلی الموصوف، وفيه إشعار بأن المهم هو ثواب الآخرة لأن الدنيا زائلة لا بقاء للذّاتها فلا اعتداد به، أو لأن ثواب الآخرة درجات فأحسن درجاته للمجاهدين الصابرين، أو لأن ثواب الدنيا مشوب بالکدر والمنغصات وأولها عدم دوامه وعدم إمکان الاستفادة منه أحياناً لمرض أو عارض، وأما ثواب الآخرة فهو حسن خالصاً لا کدر فيه.

وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} هذا کالعلة لإثابتهم، فهؤلاء احسنوا في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم فأحبهم الله تعالی بجزائهم في الدنيا والآخرة، فهؤلاء بجهادهم أحسنوا إلی أنفسهم وإلی غيرهم فاستحقوا الثواب تفضلاً منه تعالی.

ص: 436


1- سورة الشعراء، الآية: 84.

الآيات 149-151

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّٰصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا وَمَأْوَىٰهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّٰلِمِينَ (151)}

القسم الثاني: الكفار الغالبون

149- بعد الحث علی الاقتداء بالربيين وبيان ما نالوه في الدنيا والآخرة من الثواب، حذّر الله تعالی عن اتباع الکفار وبيّن سوء عاقبتهم فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ} تُصغوا وتعملوا بما يقوله لکم {الَّذِينَ كَفَرُواْ} فلا تنتفعون بل {يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ} يرجعونکم کفاراً کما کنتم وهذا ضرر حيث تحرمون من نعمة الايمان وفوائده {فَتَنقَلِبُواْ} ترجعوا {خَٰسِرِينَ} وهذا ضرر آخر.

150- {بَلِ} اللازم عليکم إطاعة الله تعالی ف {اللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ} أي الأولی بکم إذ هو خالقکم ورازقکم فعليکم ترجيح إطاعته علی إطاعة غيره، فمن القبيح ترجيح طاعة عدو المولی علی طاعة المولی، {وَ} أيضاً إذا کان سبب اطاعتکم الکفار طلب النصر والنجاة فعليکم أن تطلبوه من الله إذ {هُوَ خَيْرُ النَّٰصِرِينَ} أي حسن النصرة.

ص: 437

151- عکس الأعداء الذين نصرتهم سبب لخسارتکم إذ هم بانفسهم خاسرون في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا ف {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} وهو الانقطاع من شدة الخوف، فکيف تتوقعون منهم نصراً بإطاعتکم إياهم؟ {بِمَا أَشْرَكُواْ} أي بسبب شرکهم {بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا} أي ليس لهم علی شرکهم حجة وبرهان فافتروا علی الله تعالی وذلک سبب لإلقاء الرعب في قلوبهم، {وَ} أما في الآخرة ف {مَأْوَىٰهُمُ} محلهم {النَّارُ وَبِئْسَ} هذا المأوی الذي هو النار {مَثْوَى} محل مکث {الظَّٰلِمِينَ} بيان أن سبب استحقاقهم النار هو ظلمهم.

بحوث

الأول: نظم الآيات هو أن الله تعالی في الآيات السابقة حثّ المؤمنين علی الاقتداء بالربيين أنصار الأنبياء الذين قاتلوا معهم فاستقاموا وتضرعوا إلی الله تعالی، وأن يعتبروا بما جازاهم الله تعالی حيث أثابهم خير الجزاء في الدنيا والآخرة نتيجة لحسن عملهم وقولهم.

ثم في هذه الآيات يحذّر الله تعالی عن اتّباع الکفار طلباً للنصر والنجاة، فيبيّن ضرر أولئک علی المؤمنين بأن اطاعتهم سبب الانقلاب علی الأعقاب فهو أکبر الضرر حيث يرجع الإنسان إلی الظلام بعد النور، وإلی الضلال بعد الهداية، وينتج من ذلک خسارة الدنيا والآخرة، فإطاعتهم نقض لغرض النصر والنجاة، ثم إن أولئک الکفار هم مهزومون وخاسرون فکيف تتوقعون منهم النصر؟ فهم في الدنيا مرعوبون، وهل المرعوب يتمکن من نصر غيره! ثم هم في الآخرة في النار فهل ينصرونکم من بأس الله تعالی!

ص: 438

الثاني: قوله تعالی: {إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ...} الآية.

الآية عامة مفهوماً وإن کان شأن نزولها في غزوة أحد، فقد أرجف الکفار والمنافقون بأن محمداً إن کان نبياً لما غُلب، أو إن استأمنتم أبا سفيان واستکنتم له نجوتم، کما ذکره بعض المفسرين، والآية نهت عن إطاعة الکفار مطلقاً وفي کل شيء، لأنهم لايريدون خير المسلمين، ولا يرضون إلا باتبّاعهم، قال تعالی: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(1)، وما الذي يدفعهم إلی نفعکم؟ هل دينهم؟ وهو لايعترف بکم بل دينهم قد يأمرهم بإضلالکم! هل المصلحة؟ ومصلحتهم في ضعفکم وانسلاخکم عن دينکم الذي هو نقطة قوتکم! هل الإ نسانية؟ وهم قد رجّحوا المصلحة والباطل عليها، فجعلوها سلعة حينما تتطابق مع مصالحهم ونبذوها وراء ظهورهم حينما تتعارض معها قال تعالی: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا}(2)، وقال: {وَلَا تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}(3).

ثم بينت الآية ضرر إطاعة الکفار:

1- {يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ} أي يسلبوا منکم نور الإيمان والهداية، لأنّهم لايرضون إلا بإرجاعکم إلی دينکم السابق، فإذا أطعتموهم في الصغيرة جرّ ذلک إلی إطاعتهم في الکبيرة إلی حدّ إخراجکم عن الدين

ص: 439


1- سورة البقرة، الآية: 120.
2- سورة الکهف، الآية: 28.
3- سورة الشعراء، الآية: 151-152.

الحق، فالذي يطلب النجاة ولو بمعصية الله وخذلان رسوله والاستکانة إلی الکافر، إذا رأی أن استمرار نجاته متوقف علی الارتداد فلا شک في أنه سيرتد، لأن حياته الزائلة الدنيوية کانت أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله!

2- {فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ} هذا تفريع علی الضرر السابق، أي ونتيجة الارتداد هو الخسارة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن حياة الجاهلية هي حياة بؤس وفقر وظلم وسواد الوجه في الدنيا، مع ذلة للکافر المنتصر عليکم الذين استکنتم له، وأما في الآخرة فبالنار. عکس الربيين الذين آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وأحبّهم.

الثالث: قوله تعالی: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّٰصِرِينَ}.

بعد أن حذرهم الله من إطاعة الکفار، حثّهم علی إطاعته، مع بيان سبب وجوب إطاعته.

فأولاً: {اللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ} أي الأولی بکم، لأنه خالقکم ورازقکم، ولابد لکم من شکره علی نعمة الخلق والرزق وسائر النعم، فالعقل يرشدکم إلی وجوب طاعته، فکيف ترجحون طاعة عدوه علی طاعته؟ أليس هذا من أقبح أنواع کفران النعمة.

و(المولی) هو المتولّي للأمر، أو من يُتولّی أمره، فلذا يطلق علی السيد وعلی العبد، وليس معناه الناصر والمحب ونحو ذلک فهي من معاني الولي لا المولی، لکن حيث قال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من کنت مولاه فعلي مولاه»، أرادوا صرف معناها بتوسيع المعنی وجعله ذا مصاديق متعددة أو بالاشتراک

ص: 440

اللفظي، لإخراج هذا الحديث عن مدلوله، ولکن تلک المحاولات غير مجدية، فحتی لو کان للمولی معانٍ مختلفة إلا أن القرينة اللفظية تدل علی إرادة خصوص الأولی بهم، ففي الحديث المتواتر قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : ألست أولی بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقلنا: بلی يا رسول الله، قال: فمن کنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه(1).

وثانياً: {وَهُوَ خَيْرُ النَّٰصِرِينَ} أي أحسنهم، فلماذا تطلبون النصر من الکفار، ولا تطلبوه منه تعالی، ففي نصره خير الدارين، وغيره لايمکن أن ينصر إلا بإذنه، وقد وعد نصر المؤمنين وهزيمة الکافرين، وفي الآية اللاحقة نموذج من نصره تعالی حيث نصر رسوله بالرعب.

الرابع: قوله تعالی: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ...} الآية.

وهذا بيان مصداق من مصاديق نصره تعالی للمؤمنين، وبيان عدم نفع الالتجاء إلی الکافرين، فعليکم أن لا تنظروا إلی هذه الهزيمة الوقتية التي مُنيتم بها في غزوه أ ُحد بسوء اختيارکم وعصيانکم، بل لتکن لکم رؤية عامة، فالأيام تتداول بين الناس، ولکن النصر النهائي والکامل في الدنيا للمؤمنين، قال تعالی: {وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2)، وقال: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ الدَّارِ}(3)، وقال: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}(4).

وإلقاء الرعب عام فقد يکون أمراً غيبياً يستند إلی أسباب غير طبيعية،

ص: 441


1- الحديث متواتر، راجع کمثال مسند أحمد 1: 118.
2- سورة الأعراف، الآية: 128.
3- سورة الأنعام، الآية: 135.
4- سورة النمل، الآية: 51.

فکما نصر الله رسله بالملائکة وبعذاب الأقوام وبالمعاجز ونحو ذلک، فکذلک ينصرهم بالقاء الرعب في قلوب الأعداء من غير سبب طبيعي، وقد يکون أمراً طبيعياً يستند إلی قوة الإسلام وانتشاره، ولذا يخافه ويهابه الأعداء، وحتی الآن حيث المسلمون في حضيض الضعف فإن الکفار يخافون من الإسلام، فهم لايخافون من المسلمين لضعفهم حيث ترکوا الايمان کما قال: {وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(1)، لکنهم يخافون من الإسلام لقوته، قال تعالی: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}(2).

و{الرُّعْبَ} هو الانقطاع من امتلاء الخوف - کما في المفردات(3) - فمعناه العجز وعدم التمکن من فعل شيء جرّاء الخوف، فهو بنفسه عاجز فکيف تطلبون النصر منه.

والنصر بالرعب هو من خصائص الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفي الحديث: «ونصرت بالرعب مسيرة شهر»(4)، وهذا من نعم الله تعالی علی هذه الأمة المرحومة، حيث القاء الرعب يسهّل الانتصار ويمنع الأعداء من الإقدام ويقلل الخسائر.

قوله: {بِمَا أَشْرَكُواْ} الباء سببيّة، أي إن سبب القاء الرعب هو الشرک، عقوبةً دنيوية للمشرکين، وهذه السببيّة أيضاً غيبيّة وطبيعية، وذلک لأن المشرک لم يبن أمره علی يقين ولا يعتقد بالآخرة، ولا يتوقع نصراً من الله

ص: 442


1- سورة آل عمران، الآية: 139.
2- سورة التوبة، الآية: 40.
3- مفردات الراغب: 356.
4- وسائل الشيعة 3: 350، عن الخصال.

تعالی، ويعتبر الموت نهاية کل شيء، فلذا تجده متمسکاً بالحياة، ويصاب بالرعب من کل قوة أخری خاصة إذا کانت معنوية، والإسلام هو الذي يعلو ولا يُعلی عليه فلذا کان رعبهم منه أمراً طبيعياً، هذا مضافاً إلی الإلقاء الغيبي، کرامة للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وإظهاراً للدين، والحمد لله رب العالمين.

قيل: الشرک هو سبب إلقاء الرعب، فلذا لو اشرک المسلمون - ولو بالشرک الخفي - سيعاقبون بالقاء الرعب في قلوبهم، بل ومن الشرک الخفي الإعراض عن أحکام الله تعالی وعبادة الشيطان والأهواء والتمسک بالقوانين الوضعية بدلاً من أحکام القرآن.

وقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا} أي لا حجة للشرک کي ينزلها الله تعالی، فالله هو الحق وينزّل الحق، فلو کان الشرک حقاً لأمر به ولأنزل حجته، کما قال: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا۠ أَوَّلُ الْعَٰبِدِينَ}(1)، قال تعالی: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُۥ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ}(2).

وفي الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: کل ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل(3)، أي في علوم الدين ولذا قيل: العلوم الحقة والحجج الواقعية تفاض من الله تعالی، وأما غيرها فباختلاف النفوس وإلقاء الشياطين(4).

وقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} أي محلهم في الآخرة، و(المأوی) ما يأوي

ص: 443


1- سورة الزخرف، الآية: 81.
2- سورة الشوری، الآية: 16.
3- وسائل الشيعة 27: 75، عن بصائر الدرجات.
4- مناهج البيان 4: 108.

الإنسان إليه للاستراحة، فالتعبير عن جهنم بمأواهم هو نوع تبکيت لهم.

وقوله: {مَثْوَى} اشارة إلی طول بقائهم فيه، من (الثواء).

وقوله: {الظَّٰلِمِينَ} للإشارة إلی سبب عقابهم، وهو ظلمهم أنفسهم بالکفر، وظلمهم غيرهم بالصد عن سبيل الله.

ص: 444

الآيتان 152-153

اشارة

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُۥ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنۢ بَعْدِ مَا أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْأخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُۥنَ عَلَىٰ أَحَدٖ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَىٰكُمْ فَأَثَٰبَكُمْ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)}

القسم الثالث: المسلمون المنهزمون

152- وکان من إرجاف المنافقين أن محمداً وعدکم بالنصر ولم يتحقق! فانقلبوا علی دينکم، فقال الله تعالی: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ} وفی لکم {اللَّهُ وَعْدَهُۥ} بالنصر وکان ذلک الوفاء {إِذْ} أي في الوقت الذي {تَحُسُّونَهُم} أي تقتلونهم، لأن قتلهم إبطال لِحسّهم {بِإِذْنِهِ} التشريعي في تشريع قتالهم، والتکويني بإنزال النصر عليکم، وقد استمر الوفاء {حَتَّىٰ إِذَا} خالفتم الشرط الذي جعله لنصرکم وهو الصبر والتقوی، فما دمتم عليهما کان النصر، لکنه تعالی رفع نصره حينما {فَشِلْتُمْ} أي ضعف رأيکم فقد أعمتکم الغنائم عن الإدراک الصحيح لقواعد القتال {وَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أمر القتال {وَعَصَيْتُم} أي خالفتم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث خالفه

ص: 445

المقاتلون فتوجهوا إلی جمع الغنائم وترکوا مواقعهم {مِّنۢ بَعْدِ} أن وفی الله بوعده حيث {مَا أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ} من النصر علی المشرکين، لکن ليس کلهم کانوا کذلک، بل {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} ومنها الغنائم وهم الذين فشلوا وتنازعوا وعصوا، {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْأخِرَةَ} وهم الصابرون المطيعون، والحاصل أن الله وفی بوعده إلی حين مخالفتکم، {ثُمَّ} بعد وفائه ومخالفتکم {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أي منعکم عنهم بأن ترکتم قتالهم ولم تلتفتوا إلی مخططهم للإيقاع بکم، والمراد أنه تعالی ترککم وشأنکم ولم يلطف بکم باستمرار النصر، وذلک {لِيَبْتَلِيَكُمْ} ليمتحنکم ليتميّز المؤمن من المنافق والصابر من الجازع {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} بعد الإمتحان، وسقوط الأکثر أي عفا عنکم ترککم للجهاد وتوجهکم إلی جمع الغنائم، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وهذا هو سبب عفوه.

153- وکان کل ذلک {إِذْ} في الوقت الذي {تُصْعِدُونَ} أي تفرّون ولا تثبتون في مواقعکم، فإن «الإصعاد» بمعنی الذهاب في الأرض، {وَلَا تَلْوُۥنَ عَلَىٰ أَحَدٖ} لاتلتفتون لأحد من خلفکم لشدة دهشتکم، {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} يناديکم {فِي أُخْرَىٰكُمْ} أي من ورائکم، {فَأَثَٰبَكُمْ} أي جزاکم {غَمَّۢا} حزناً بالهزيمة والقتل {بِغَمّٖ} أي بعد غمِّ غلبة الکفار وإشرافهم عليکم، وإنما أثابکم بالغم المتواتر حتی تقوی نفوسکم وليکون درساً لکم للمستقبل {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ} من الغنيمة وأمور الدنيا {وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ} من المکروهات {وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَ} عالم بالخفايا فجزاؤه ليس اعتباطاً.

ص: 446

بحوث

الأول: قد مرّ أن أهل المدينة في غزوة أ ُحد کانوا أصنافاً، ومنهم:

الرماة في الشِعب وکانوا خمسين رجلاً، وقد ذکرهم في الآية 155 في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ...} الآية.

والمقاتلون المنهزمون، وهم المذکورون في الآيتين 152-154، وهم علی صنفين: صنف تاب، وصنف نافق، وقد ميّز الله الصنفين بأن ألقی النعاس علی التائبين فقط.

ومن ذلک يتبيّن أن قوله تعالی في الآية 152: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ...} وفي الآية 155 {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} ليس تکراراً، بل الأول عفو عن توجههم إلی جمع الغنائم حيث فشلوا وتنازعوا وعصوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، والثاني عفو عن خصوص الرماة، وأما سائر المنهزمين فلم يکن هناک تصريح بالعفو عنهم بل تلميح إلی العفو عن خصوص من ألقی عليه النعاس، ولا عفو عن المنافقين الراجعين قبل الغزوة، کما لاعفو عن المنهزمين الذين أهمتهم أنفسهم وظنوا بالله ظن الجاهلية.

الثاني: قوله تعالی: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُۥ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ}.

لقد وعدهم الله تعالی بالنصر کما مرّ في قوله: {بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ...} الآية(1)، لکن وعده کان مشروطاً بالصبر والتقوی وقد وفی الله لهم بوعده مادام أنّهم التزموا بالشرط، فلذا انتصر المسلمون في بداية الأمر وهزموا المشرکين هزيمة نکراء، ولو استمروا في الالتزام بالشرط لأتمّ الله النصر لهم، بمعنی وفاء

ص: 447


1- سورة آل عمران، الآية: 125.

لکنهم رغبوا في الحطام فخالفوا، فترکهم الله وشأنهم ولم ينصرهم حينذاک، وکان في ذلک درساً مهما للمسلمين في غزواتهم اللاحقة وسائر أمورهم بأن التوکل لا يعني التواکل، إذ التوکل إنما هو الإنسان بإلتزاماته جميعاً وايکال الأمر إلی الله تعالی لينزل عونه ونصره، فالله عزوجل ينصر المؤمنين لکن بشرط کما قال: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(1).

وفي هذه الآية جواب عن المرجفين من الکفار والمنافقين، حيث أرادوا استغلال هزيمة المسلمين لتشکيکهم في دينهم وبإرجاعهم إلی الکفر، ومن صفات المبطلين هو المغالطة ومحاولة ربط المسببات بغير أسبابها، کما يشاهد في الحال الحاضرة حيث يوهمون الناس أن غلبتهم عسکرياً وقوتهم اقتصادياً وصناعياً إنما هو بسبب أنظمتهم الاجتماعية والفکرية، والتي منها نبذ الدين وإباحة المحظورات، مع أن السبب الواقعي هو نبذ الاستبداد وطلب العلم وشدة العمل، لا الإلحاد والخمور والفجور والسفور، وکذلک ليس سبب ضعف المسلمين دينهم، کيف وکان الإسلام سبب تقدمهم وحضارتهم وتطورهم بعد الجاهلية الجهلاء، فکيف يکون سبب القوة سبباً للضعف!؟ بل سبب ضعفهم هو إعراضهم عن تعاليم دينهم بطلب العلم وشدة السعي وإعداد القوة ونحو ذلک من الأحکام.

وعلی کل حال أراد الکفار والمنافقون استغلال الهزيمة بتکذيب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم الدعوة إلی الارتداد عن الدين، فکان الجواب أن الله تعالی أنجز وعده فأنزل النصر، لکنکم خالفتم الشرط فترککم وشأنکم ولو

ص: 448


1- سورة محمد، الآية: 7.

کنتم تستمرون في الوفاء بالشرط لأتمّ الله النصر کما في بدر، ولکنه مع ذلک تفضل عليهم بأن عفا عنهم وجعلهم يعتبرون من الهزيمة لتکون تجربة لهم في المواقف الأخری.

قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُم} أي وقت الوفاء بالوعد کان في بداية الغزوة حيث انتصر المسلمون و(الحَسّ) بمعنی القتل، قيل: هو القتل علی جهة الاستئصال، وقيل: هو بمعنی أبطل حِسّه، لأن الميت تتعطّل حواسه الظاهرية، فإن من معاني باب الإفعال: السلب، يقال: أعذر من أنذر أي أزال العذر، ويقال: أشکيتُه أي أزلت شکايته(1).

وقوله: {بِإِذْنِهِ} أي بإجازته تکويناً وتشريعاً، ولعل هذا لبيان نصره تعالی وأنّ قتلهم من مصاديق وعده تعالی.

الثالث: قوله تعالی: {حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم}.

{حَتَّىٰ إِذَا} بيان نهاية النصر، فحيث کان وعداً بشرط فما دمتم التزمتم بالشرط وفی الله بوعده، ولمّا أخللتم به ترککم وشأنکم، و{إِذَا} ظرفية منسلخة عن الشرطية فلا جزاء لها، أي صدقکم الوعد حتی الوقت الذي أخلفتم الوعد، وقيل: هي باقية علی الشرطية، والجزاء محذوف أي حتی إذا فشلتم خذلکم أو ابتلاکم أو منعکم نصره ونحو ذلک مما يناسب المقام.

وقوله: {فَشِلْتُمْ} أي ضعف رأيکم، فلم تراعوا مقتضيات الحروب، بالغفلة والانشغال بالغنائم، والعدو لازال موجوداً يتربص بکم.

وقوله: {وَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} في أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بالاستمرار في

ص: 449


1- شرح النظام: 139.

الجهاد، فبدلاً من توحيد الجهود ضد الأعداء انشغلتم بالنزاع بين أنفسکم.

وقوله: {وَعَصَيْتُم} أي خالفتم أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أي تنازعتم ثم غلب رأي المخالفين علی رأي المطيعين.

قيل: هذا في الرماة الذين ترکوا مواقعهم.

لکن لايخفی أن التقريع عام، والرماة الذين ترکوا الثغر کانوا سبعة وثلاثين فقط، وکان عدد المسلمين ما يقارب الألف، وهذا التقريع العام لايکون إلاّ لو خالف الغالب، فالأظهر أن غالب المسلمين فشلوا وتنازعوا وعصوا، فقد ضعف رأيهم حتی المقاتلين في الوادي فانشغلوا بجمع الغنائم، فلحق بهم أکثر الرماة، ولعل التنازع لم يکن في خصوص أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وإنما علی الغنائم أيضاً، وکذا العصيان لم يکن خاصاً بأ ُولئک الرماة بل بغالب المسلمين.

والحاصل: إن الغالب فقدوا جاهزيتهم وتهيأتهم، لذا باغتهم الکفار من طرف الشِعب، فلعلّه لو کان العسکر في الوادي جاهزاً للقتال لما أضرهم هجوم خيل خالد بن الوليد من خلفهم، لکنهم أخلوا مواقعهم العسکرية فدبّت الفوضی فيهم حين الهجوم مباغتة لهم، فإنّ خطة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) کانت محکمة، فوضع الرماة في الشِعب، فلو ثبت کلّهم لما تمکن خالد من الاختراق والهجوم بغتة، کما أن سائر المسلمين في ساحة المعرکة لو کانوا علی جاهزيتهم واستعدادهم ومواقعهم لتمکنوا من صدّ الهجوم، لکن الأکثر أخلوا مواقعهم، فلا رماة بمقدار الکفاية ليصدوهم، ولا مقاتلين جاهزين في ساحة المعرکة ليُناجزوهم.

فالأقرب أن الآية لاترتبط بالرماة أصلاً، بل بالمقاتلين في ساحة المعرکة وأما الرماة فسيأتي ذکرهم في الآية 155.

ص: 450

أسباب الهزيمة

وفي هذه الآية بيان أن أسباب الهزيمة هي أمور ثلاثة عادة فلابد من تجنبها:

1- ضعف الرأي، وعدم تقدير الأمور بشکل صحيح، والغفلة عن العدو حتی إذا کان مهزوماً.

2- التنازع في أمر قيادة الحرب، أو في کل ما يرتبط بمسائل الحرب، وقد قال الله تعالی: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(1).

3- عصيان أمر قادة المعسکر.

وهذا ما حدث في معرکة صفين أيضاً حيث انخدعوا برفع المصاحف وتنازعوا وعصوا أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ففاتهم النصر، وبدأ أمرهم في ضعف ووهن إلی أن غلبهم معاوية، فسيطر علی العراق وسامهم الخسف.

الرابع: قوله تعالی: {بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ}.

أي بعد النصر الابتدائي حيث وفی الله بوعده فنصرکم، وکنتم تحبون ذلک النصر، فکان لابدّ لکم من شکر هذه النعمة بزيادة الإطاعة، لا أن تقابلوا نعمته بما تحبون بالکفران، فتبطرکم النعمة، لأن البطر يعرّض النعمة للزوال، قال تعالی: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

الخامس: قوله تعالی: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْأخِرَةَ}.

1- کأنّ هذا المقطع لإخراج الصابرين الثابتين عن اللوم والتقريع العام،

ص: 451


1- سورة الأنفال، الآية: 46.
2- سورة الأنفال، الآية: 53.

فالأغلب فشلوا وتنازعوا وعصوا لذلک جاء التقريع عاماً، لکن کان لابد من استثناء الصابرين المطيعين.

2- أو هذا تفصيل لقوله: {مَّا تُحِبُّونَ} أي أنتم کنتم تحبون النصر، لکن البعض أحبه لأجل الدنيا، والبعض أحبّه لأجل الآخرة، وکان الذين يحبونه للدينا هم الأکثر لذلک انهزموا حين أحسّوا بالبأس والخطر، ففي الآية تحذير من کون الغرض هي الدنيا، وحثّ علی صدق النية وخلوصها ليکون الإنسان طالباً للآخرة، أي يکون فرحه من النصر لأجل تقدم المسلمين وإعزاز أولياء الله تعالی، لا لأجل الغنائم والأمور الدنيوية، لأن الأول لايتضعضع في المواقف الحرجة عکس الثاني.

3- أو هذا بيان سبب النزاع، فمن أراد الآخرة نازع من أراد الغنيمة، فأراد الله تعالی تنزيه أحد طرفي النزاع من الذم واللوم - وهم طلاب الآخرة - ، فإن ظاهر {تَنَٰزَعْتُمْ} ذم کل الأطراف المتنازعة، فأراد تعالی تخصيص الذم بطلّاب الدنيا، فيکون قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ...} قيداً توضيحياً ولذا لم يأت بواو العطف قبله.

4- أو هو بيان قوله: {مَّا تُحِبُّونَ} أي أنزل النصر عليکم، فکلکم رأيتم ما تحبون سواء منکم طلاّب الدنيا أم طلاب الآخرة، ففي إطاعة الله والرسول خير للجميع، فمن أطاع لا للدين نال الدنيا، ومن أطاع للدين نال الدارين.

السادس: قوله تعالی: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}.

عطف علی {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ} فلمّا بيّن أنه تعالی وعدهم بالنصر ووفی بوعده إلی حين مخالفتهم، فبعد ذلک غفلوا عن المشرکين وتوجهوا إلی

ص: 452

الغنائم، وکان ذلک ابتلاءً لهم، فقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أي غفلتهم عنهم وانشغلتم بالغنائم، مع أنه کان لابد لهم من الترکيز علی المشرکين ولا يغتروا بهزيمتهم في البداية، فالحرب سجال، فالنصر أولاً ليس بمعنی استمراره، وکذلک في الهزيمة.

وقوله: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي يمتحنکم وذلک عبر الغنائم التي خلّفها المشرکون المهزومون.

ومن سنن الله تعالی ترک العصاة وشأنهم وعدم اللطف بهم، وفي التقريب: نسبة الصرف إلی الله کسائر الإضافات مثل {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ}، أو باعتبار أن الصرف کان عقوبة لهم علی إرادتهم الدنيا(1).

فحاصل معنی الآية: أنه تعالی صدقکم، ثم لما فشلتم وتنازعتم وعصيتم عاقبکم الله تعالی بصرفکم عنهم، ونتج عن ذلک الصرف الامتحان لتمييز المؤمن من المنافق والمطيع من العاصي.

السابع: قوله تعالی: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.

هذا لبيان فضله تعالی ولطفه للمؤمنين، فأولئک العصاة سببوا الهزيمة، وکان وعده تعالی مشروطاً، فلما خالفوا لم يکن وعداً بالنصر، بل استحقوا الخذلان والعقاب، ولکن مع ذلک تفضل الله عليهم فلم يؤاخذهم بذنبهم، بل عفا عنهم.

أو أنه لما امتحنهم وظهر مکنون أمرهم أعطاهم فرصة أخری بفضله ليصلحوا أمرهم، فعفا عنهم ولم يؤاخذهم فضلاً منه مع استحقاقهم للعقوبة.

ص: 453


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 404.

وقيل: بعد الصرف والابتداء تفضل عليهم بالعفو، وقد ظهر أثر هذا العفو في انقلاب هزيمة المسلمين إلی النصر حيث لملموا جراحهم وتجمعوا حول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وتعقبوا المشرکين إلی منطقة حمراء الأسد، فلم يقو المشرکون علی لقائهم ورجعوا مکتفين بقتلهم لسبعين من المسلمين في غزوة أحد، من غير أن يتحقق ما أرادوه من استئصال المسلمين وقتل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

و(العفو) إما بمعنی قبول التوبة، فقوله: {ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لتقييد العفو بالمؤمنين دون المنافقين، أو بمعنی عدم العقوبة علی جريمة العصيان والفرار من الزحف.

وأما فضل الله علی المؤمنين فهو بتقوية عزيمتهم والعفو عن مسيئهم، ومنحهم النصر حتی لو لم يکن موعوداً.

الثامن: قوله تعالی: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُۥنَ عَلَىٰ أَحَدٖ...}.

{إِذْ} ظرفية، ومتعلقها إما (صرفکم) أو (يبتليکم) أو اذکر المقدرة أو ب (ذو فضل) أو ب (عفا عنکم)، والأقرب أنها متعلقه ب (اذکر) المقدّرة، لأن الآيات في بيان قضايا غزوة أحد، ففي الآية السابقة ذکر وفاءه تعالی بوعده، وفي هذه الآية ذکر نقضهم لعهدهم وقوله: {تُصْعِدُونَ} أي تفرون، فإن الإصعاد بمعنی الذهاب في الأرض أو الإبعاد فيه، وأصله من الصعود وهو ارتقاء الأماکن المرتفعة ثم استعمل في الذهاب للمکان البعيد حتی لو لم يکن فيه ارتقاء، والفارون أکثرهم صعدوا الجبل وبعضهم تفرقوا يمنة ويسرة.

وقوله: {وَلَا تَلْوُۥنَ عَلَىٰ أَحَدٖ} بيان لشدة خوفهم ودهشتهم، والمعنی لم تکونوا تلتفتون إلی وراء ظهورکم، وهذا کناية عن سرعة الفرار، وأصله من

ص: 454

لوی يلوي ليّاً.

وقوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَىٰكُمْ} هذا بيان لعدم عذرهم في الفرار، فإن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) کان يناديهم فعلموا بعدم قتله، کما علموا باستقامته واستقامة جمع معه، وهذا مما يزيد شناعة فرارهم، بل کان عليهم أن يرجعوا للدفاع عن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لکنهم لم يفعلوا.

و{أُخْرَىٰكُمْ} أي من ورائکم، أو بمعنی الجماعة الأخری وهم الصامدون الذين بقوا مع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وکانوا أقلية لايتعدون أصابع اليدين، فقتل بعضهم وجرح الباقون، وکان علی رأس المدافعين عن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) .

التاسع: قوله تعالی: {فَأَثَٰبَكُمْ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ...} الآية.

أي إصعادکم وفرارکم من الزحف زاد حزنکم الشديد، فالمعنی {أَثَٰبَكُمْ} أي جزاکم الله تعالی علی فرارکم من الزحف {غَمَّۢا} حزناً شديداً بالهزيمة والقتل {بِغَمّٖ} أي إضافة علی الحزن الشديد أولاً الذي کان بسبب إشراف خالد بن الوليد بخيله عليهم، فالمعنی إنهم اغتمّوا أولاً لما داهمتهم خيول المشرکين بقيادة خالد بن الوليد، ثم حين فرارهم ازدادوا غماً بسبب أن فرارهم سبّب الهزيمة والقتل في صفوف المسلمين، والباء في {بِغَمّٖ} إما بمعنی (مع) أو (علی) أو (بعد) والمعنی واحد، وفاعل {أَثَٰبَكُمْ} هو الله أي جزاکم الله بذلک، وقيل: هو الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أي دعاء الرسول سبّب زيادة غمّکم بعذاب نفسي وشعور بالتقصير، لأن المنهزم إذا علم باطلاع من فوقه علی هزيمته يزداد غماً وحزناً.

ص: 455

قيل: دلت الآية علی أن مخالفة الله تعالی والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) سبب زيادة الغموم والهموم النفسية مضافاً إلی الخسارة المادية والهزيمة العسکرية.

وقوله: {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ...} اما متعلق ب {أَثَٰبَكُمْ} أو ب {عَفَا عَنكُمْ} أي إنّما زاد الله غمّکم ليکون لکم عبرة للمستقبل، أو إنما عفا عنکم حتی لاتکرروا هذه المعصية في المستقبل، وفي التقريب: فإن الإنسان إذا وقع في الشدائد وجرّبها ومارسها، تصلب نفسه، وتقوی روحه، فلا تتزحزح بمصيبة، ولا تهتز بکارثة، وهکذا کانت هزيمة أ ُحد درساً وعبرة، حتی يصغر في نفوس المسلمين کل ما يفوتهم من خيرات وکل ما يصيبهم من شرور وآلام(1).

وفي التبيين: وإنما أصابکم الله بهذا الغم لکيلا تحزنوا علی ما فاتکم من الغنيمة، فإن حزنهم علی فوت الغنيمة سبّب مخالفتهم التي أوجبت غلبة الکفار، ولا ما أصابکم من الأضرار، ومعنی هذه الجملة أنه إذا أصابکم بسبب طاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الحزن بضرر أو فوت نفع فإن أردتم زوال ذلک الحزن بمخالفة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يصيبکم الله حزناً آخر فلا يفيد الفرار من الحزن(2).

وقوله: {وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيه ترغيب وترهيب، وذلک لأن الخبير هو العالم بالأمور الخفيّة وبواطن الأمور، فهو عالم بأعمالکم سرها وجهرها کما يعلم بنياتکم، فيجازيکم علی أعمالکم فاحذروه واطلبوا رضاه.

ص: 456


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 405.
2- تبيين القرآن: 80.

الآيتان 154-155

اشارة

{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٖ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}

154- {ثُمَّ} أراد الله تعالی تمييز المؤمن التائب من المنافق الکاذب ليعرفهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وکذا سائر المؤمنين فجعل علامة للمؤمن التائب ف {أَنزَلَ} الله {عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ الْغَمِّ} أي غمّ الهزيمة والقتل والجرح {أَمَنَةً} حيث شعرتم بالأمان بعد ذهاب المشرکين، وکان ذلک {نُّعَاسًا} لأن الآمن ينام بخلاف الخائف {يَغْشَىٰ طَائِفَةً} أي يحيط ذلک النعاس بمجموعة {مِّنكُمْ} وهم التائبون، {وَطَائِفَةٌ} أخری وهم الکاذبون لم ينزل عليهم الأمن والنعاس ف {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} قلقون عليها واستولی الرعب عليهم، خوفاً من رجوع الکفار {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ} ظناً {غَيْرَ الْحَقِّ} حيث ظنوا بأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) خدعهم بوعد النصر، وهذا ظن باطل {ظَنَّ الْجَٰهِلِيَّةِ} أي

ص: 457

کظن أهل الجاهلية حيث کانوا يسيئون الظن بالله وبرسوله، وکان هؤلاء منافقين فحينما يأتون الرسول {يَقُولُونَ} بشکل استفهام: {هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ} أي أمر النصر {مِن شَيْءٖ} أي نصيب؟ {قُلْ} في جوابهم: {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُۥ} سواء کان نصراً أم هزيمة أم في غيرهما {لِلَّهِ} فهو المالک والمدبّر لعباده، لکن هؤلاء منافقون ف {يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا} أي کفراً {لَا يُبْدُونَ} لا يُظهرون ذلک الکفر {لَكَ} ف {يَقُولُونَ} في أنفسهم أو لإخوانهم الشياطين: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ} أمر النصر الموعود {شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا} في أ ُحد {قُل} في جوابهم: إن الأمر لله، لذلک قدّر القتال لجهات ثلاث:

الأولی: اتخاذ شهداء فإن الأجل والموت والقتل بتقدير من الله تعالی ف {لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} فلم تخرجوا للقتال {لَبَرَزَ} أي خرج {الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} أي قدّر الله القتل لهم {إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ} إلی مقتلهم أو قبورهم.

{وَ} الجهة الثانية: {لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ} أي ليُظهر {مَا فِي صُدُورِكُمْ} فإنه في الأزمات يتبيّن واقع الأشخاص.

{وَ} الجهة الثالثة: {لِيُمَحِّصَ} ليخلّص {مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من الوساوس، کالنار التي تفصل الشوائب عن الذهب.

{وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فليس الامتحان لأجل أن يعلم، بل لأجل أن يظهر ما علمه أزلاً، إذ لا يصح العقاب إلاّ علی العمل، کما أن بعض درجات الثواب تتوقف علی العمل أيضاً.

القسم الرابع: الرماة الذين أخلوا مواقعهم

155- وأما الرماة فقد عفی الله عنهم، ف {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ} ترکوا

ص: 458

مواقعهم في شِعب الجبل {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وهم الذين قاتلوا في ساحة المعرکة - جمع المؤمنين وجمع الکفار - {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَٰنُ} حملهم علی الزلة فزيّن لهم مخالفة أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} أي بسبب بعض ذنوبهم السابقة {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} بعد ما ندموا ورجعوا، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لهم زلتهم وآثامهم السابقة وکذا لسائر التوابين {حَلِيمٌ} فلا يعاجل بالعقوبة بل يمهل عساهم يتوبوا.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ}.

هذا من تتمة الآية السابقة في المنهزمين، فقد رجعوا معتذرين يظهرون التوبة، فأراد الله تعالی أن يُعرِّف رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) الصادق من الکاذب، فجعل لذلک علامة وهي النعاس، لأن التائبين کانوا مؤمنين قد علموا بصدق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث أخبرهم بالنصر بشرط، وقد علموا أن الله لم يخلف وعده، بل وفی به حيث انتصروا مادام أنّهم التزموا بالشرط، وأن الهزيمة کان بسببهم حيث أخلّوا بالشرط، فالآن قد رجعوا يريدون الوفاء بالشرط، فهم علی علم بأن النصر سيکون حليفهم لذلک کانوا مطمئنين، ولذا اعتراهم النعاس، لأن المطمئن إذا تعب غلبه النعاس، هذا من الجانب الطبيعي، ومن جانب آخر فإن إلقاء النعاس کان بطريقة غيبية فلذا شعروا جميعهم به وغلبهم حتی رُوي عن بعضهم أن السلاح سقط من يده جرّاء النوم ولذا قال: {يَغْشَىٰ} من الغشيان بمعنی الاشتمال والإحاطة، بحيث لم

ص: 459

يتمکنوا من مقاومة النوم، وقد يکون من أسباب ذلک تجديد قواهم للّحوق بالمشرکين في حمراء الأسد کما سيأتي.

قوله: {أَمَنَةً} بمعنی الأمن، وهو إما مفعول به أي أنزل الله الأمن، وقوله: {نُّعَاسًا} بدل عنه لبيان أن ذلک الأمن ظهر في النعاس، وإما مفعول لأجله و{نُّعَاسًا} مفعول أنزل أي أنزل النعاس لأجل الأمن.

وقوله: {مِّنۢ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً} يدل علی أن أحد الغمين المذکورين في قوله: {غَمَّۢا بِغَمّٖ} کان بمعنی عدم الأمن، وقد ورد في بعض الروايات تفسيره بإشراف خالد بن الوليد عليهم، وفي بعضها بالهزيمة والقتل(1).

فهؤلاء بعد ذهاب المشرکين وتوبتهم والتزامهم بالشرط شعروا بالاطمئنان بأن الله تعالی سيفي بوعده مستقبلاً کما وفی به في الماضي، لذا شعروا بالأمن فناموا.

الثاني: قوله تعالی: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ...} الآية.

وهم جماعة أخری من المنهزمين وکانوا من المنافقين، فهؤلاء لم يکونوا يؤمنون بوعد الله تعالی بالنصر، وحين الهزيمة زعموا أن ذلک خلف للوعد، فلذا کانوا في خوف من رجوع المشرکين، والخائف لايعتريه النعاس حتی لو کان تعباً، وقد وصفهم الله تعالی بالأوصاف التالية:

1- {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي أوقعتهم في الهمّ خوفاً من رجوع الکفار، أو کان اهتمامهم بها دون الاهتمام بالدين وبالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبسائر المسلمين، فيريدون النجاة بأنفسهم بأيّ ثمن کان ولو بالانقلاب علی

ص: 460


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 513، عن تفسير القمي.

الأعقاب، قال تعالی: {قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ}(1).

2- {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أي ظنوا بأن الله تعالی قد خدعهم في وعد النصر، کما کان أهل الجاهلية يسيئون الظن بالله تعالی، فقد کانوا ينسبون إليه النقائص، ومن تلک عدم الوفاء بالوعد أو الکذب، سبحانه وتعالی عمّا يقولون علواً کبيراً، وظنهم بالله إما في ذاته تعالی أو في وعده سبحانه، والمآل واحد هو نسبة النقص اليه.

أو المراد أنهم يظنون بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) غير الحق، حيث أخبرهم بوعد الله تعالی، فقد کانوا من المنافقين المکذبين لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فکان زعمهم أن خداعهم من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، لکن حيث إنه رسول الله، وکان وعده تبليغاً عن الله تعالی، فسوء ظنهم بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هو سوء ظن بالله تعالی، کما أن إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إطاعة الله تعالی.

وقوله: {ظَنَّ الْجَٰهِلِيَّةِ} هو مفعول مطلق نوعي أي يظنون بالله ظناً منشؤه الجاهلية، أو بمعنی کظن أهل الجاهلية في الله تعالی وفي رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) .

3- {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٖ} واستفهامهم هذا يکشف عن عدم ايمانهم أيضاً، لأنهم لوکانوا مؤمنين ما سألوا هذا السؤال بعد علمهم بوعد الله تعالی بالنصر، و{هَل} هنا في صورة استفهام حقيقي، کأنهم بهذا

ص: 461


1- سورة التوبة، الآية: 24.

السؤال يريدون إخفاء تکذيبهم، وقيل: هو استفهام انکاري بمعنی أنه لانصر لنا علی الکفار!! وهذا دأب المنافقين في ساعات الشدة حيث إنهم بدلاً عن الفکر في الحلول وتقوية المعنويات يظهر واقعهم في شکل تعريض وطعن واستهزاء ونحو ذلک.

4- {يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم...} أي يخفون نفاقهم، لکن يظهر ذلک في فلتات لسانهم أو في کلامهم مع شياطينهم کما قال: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ...}.

الثالث: قوله تعالی: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٖ...} الآية.

فهم لايتجرأون علی إظهار التکذيب، فلذا يظهرونه بصورة استفهام وکأنهم طالبون للنصر، لکنهم يبطنون إنکاراً وتکذيباً، و{الْأَمْرِ} هنا بمعنی النصر أي هل لنا نصيب من النصر بعد هذه الهزيمة، وکيف إذا رجع الکفار ليستأصلونا ونحن مثخنون بالجراح؟!

وجوابهم هو: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِ} أي ليس مجرد أمر النصر فحسب بل أمر الهزيمة وسائر القضايا کلّها لله تعالی، فهو المدبّر للکون، وأجری سنناً حسب الحکمة، وجعل أسباباً ومسبّبات، فکل من تمسک بالأسباب وصل إلی المسببات سواء کان محقاً أم مبطلاً کما قال تعالی: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ}(1) وقال: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(2)، ولذا قيل(3): إن الله

ص: 462


1- سورة الإسراء، الآية: 20.
2- سورة الکهف، الآية: 89.
3- اقتباس من الميزان في تفسير القرآن 4: 50.

تعالی رتّب نظام الدينا علی الأسباب والمسببات، ولدی تعارض الأسباب يترجح ما کان سببه أقوی حتی لو کان باطلاً أو شراً أو ضلالاً أو ظلماً، ولا فرق في ذلک بين المؤمن والکافر، نعم لله تعالی عناية خاصة بدينه وبأوليائه بحيث رتب أسباب ظهور الدين وغلبته علی الدين کله وجعل العاقبة للمتقين، وذلک لأنه تعالی أراد امتحان الناس، فلو کانت الغلبة دائماً للحق لبطل الامتحان، والله سبحانه منزه عن العبث.

وکون الأمر کلّه لله لاينافي الاختيار، لأن نفس خلق الإنسان مختاراً هو تدبير من الله تعالی، بل حتی مع تحقق الأسباب فإن تأثيرها بإذن الله تعالی، ولو أراد لسلبها تأثيرها کما في نار إبراهيم (عليه السلام) .

الرابع: قوله تعالی: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا}.

وهذه مقولتهم إما في أنفسهم، أو إذا خلوا إلی شياطينهم، وحاصل توهمهم أن هذا الدين لو کان علی حق وأنّ وعد النصر لو کان صادقاً لما قُتل من قتل منا!!

وقيل: قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} يراد به من أمر الحرب لا النصر، وذلک لأن المسلمين قبل غزوة أ ُحد اختلفوا في کيفية لقاء المشرکين، فمن قائل بالخروج إليهم إلی أ ُحد لقتالهم، ومن قائل بالبقاء في المدينة والاحتماء بحصونها، وحيث کان رأی الأکثر بالخروج رجّح رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) رأيهم، فيقول هؤلاء المنافقون: لو کان هؤلاء يسمعون کلامنا بالتحصّن بالمدينة لما قتلوا!!

الخامس: قوله تعالی: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ...} الآية.

ص: 463

هذا جواب عن شبهتهم، مع بيان منافع الخروج للقتال، وهي کالتالي:

1- اتخاذ شهداء، فإن الله تعالی يکرم بعض أوليائه بالشهادة کما قال: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}(1).

و حاصل الجواب: إن الله تعالی قدّر القتل لهؤلاء، فسواء خرجتم أنتم أم لا فإن هؤلاء کانوا سيخرجون وسيقتلون کما قدّره الله تعالی لهم، لأن تقديره فيهم کان تقدير حتم، ولا رادّ لقضائه.

أو بمعنی أنه حيث قدّر الله قتلهم فحتی لو بقيتم في المدينة لقتل هؤلاء، وما أکثر المدافعين المتحصنين الذين يقتلون وهم خلف حصونهم.

أو بمعنی أن الله تعالی قدّر الموت علی الجميع، فهؤلاء حتی لو لم يخرجوا وفرضتم أن قتلهم لم يکن قضاء حتم، فإنه لابدّ من أن يلاقوا حتفهم في يوم ما، کما سيأتي في الآية 168.

2- {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} أي إن الأزمات والشدة لابدّ منها في النظام الأتمّ الأکمل، وذلک لتميّز المؤمن من المنافق، ومادة (بلو) بمعنی الظهور والکشف، لذا يقال ثوب بالي أي رقّ بحيث يحکي عمّا تحته، قال تعالی: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}(2) والحاصل أن الله بالشدائد يُظهر ما في صدورکم فينکشف المؤمن من المنافق.

3- {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} فقد يکون إعطاء فرصة للناس ليصلحوا شأنهم، فإن الکثير لايعرف حقيقة نفسه ويتصورها علی أحسن مايرام، لأن

ص: 464


1- سورة آل عمران، الآية: 140.
2- سورة آل عمران، الآية: 179.

الإنسان يحب نفسه، والحب يُعمي ويُصمّ، فلذا لايلتفت إلی نقائصها والخلل فيها، حتی إذا جاء وقت الامتحان تبيّن له حقيقة أمرها، وفي ذلک إعطاء فرصة له لإصلاحها وتهذيبها بعد الالتفات إلی نقصها وخللها.

و(التمحيص) هو التخليص، کالذهب يلقی في النار ليخلص من الشوائب، فالابتلاء لتمييز المؤمن عن المنافق، والتمحيص لتخليص المؤمن من الرين والدرن في قلبه.

وفي الکشاف: کتب في اللوح المحفوظ من يُقتل من المؤمنين، وکتب مع ذلک أنهم الغالبون، لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم، وأن دين الإسلام يظهر علی الدين کلّه، وأن ما ينکبّون به في بعض الأوقات تمحيص لهم وترغيب في الشهادة مما يحرضهم علی الجهاد فتحصل الغلبة(1).

فتحصل أن خلاصة جواب الشبهة هو أن الله قضی قضاءً حتماً بأن يقتل هؤلاء فنفذ قضاؤه، وهذا دليل علی کون الأمر کلّه لله، وليس دليلاً علی بطلان الدين، کما أن الله يريد الابتلاء والتمحيص، فبخروجکم إلی الجهاد نال أولئک درجة الشهادة وتمّ تمييز المؤمن من المنافق وتمّ تخليص قلوب المؤمنين من الرين، فکل ذلک دليل علی أن الأمر لله تعالی وأنه الحکيم الذي قدّر ما فيه الحکمة.

وقوله: {مَضَاجِعِهِمْ} جمع مضجع وهو محل النوم، والمراد هنا محلّ قتلهم أو محل دفنهم، وکأنّ فيه إشارة إلی أن الموت کالنوم مؤقت، فکما يقوم النائم من مضجعه بعد النوم کذلک هؤلاء سيقومون للحساب.

ص: 465


1- الکشّاف 1: 328.

السادس: قوله تعالی: {وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

بيان أن الامتحان ليس لأجل أن يعلم الله تعالی، بل هو عالم أزلاً بما يکون ويعلم المؤمن من غيره.

و(ذات) مؤنث (ذو) بمعنی الصاحب والمالک، والمراد القلب فکأنه يملک الصدر کلّه، فالابتلاء والتمحيص إنما هو ليتحقق ما علمه أزلاً، لأن الجزاء علی العمل لا علی ما علمه الله تعالی، ولولا ذلک لکان ظلماً.

وقد مرّ أن العلم الأزلي ليس سبباً لأعمالنا الاختيارية، وعدم تخلّف علمه لايجعلنا مضطرين مجبورين علی أعمالنا، وذلک لأنه تعالی يعلم باختيارنا هذه الاعمال، ولو علم عدم اختيارنا لها لکان يعلم بعدم تحققها، نظير الاستاذ الذي يعلم برسوب التلميذ الکسول في نهاية السنة، وليس علمه سبباً لرسوبه، کما أن تدريسه لم يکن عبثياً، ولو کان التلميذ شاطراً لعلم بنجاحه لکنه لسوء اختياره اختار الکسل فيعلم الاستاذ بسقوطه.

السابع: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ...} الآية.

هذه الآية خاصة بالرماة الذين أخلوا مواقعهم وکانوا سبعة وثلاثين رجلاً من خمسين، ففي تفسير العياشي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «هم أصحاب العقبة»(1)، أي الشِعب في الجبل.

ويؤيد ذلک أن قوله: {الْتَقَى الْجَمْعَانِ} له اِشعار بأن هؤلاء المتولين لم يکونوا من الجمعين، لأنهم کانوا مشغولين بحراسة الشِعب فلم يلتقوا مع الکفار، فقوله: {تَوَلَّوْاْ} أي أدبروا عن الشِعب أو عن أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 466


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 515، عن تفسير العياشي 1: 201.

بالثبات فيه مهما کان الأمر، فالتولي هنا ليس بمعنی الفرار من الزحف لأن هذه المادة إذا استعملت في القرآن بمعنی الفرار ضمّ إليها الأدبار کقوله: {تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}(1)،

بل المعنی هنا الإعراض کقوله: {مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا}(2).

ويؤيد ذلک أن المراد لو کان جميع المسلمين المنهزمين لکان قوله تعالی: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} تکراراً لقوله في الآية 152: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ}، کما أن بعض المنهزمين کانوا منافقين والذين أشار إليهم الله تعالی في قوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} ولا وجه للعفو عنهم وهم منافقون يظنون بالله غير الحق وفي حالة کذبهم علی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَٰنُ} أي طلب زلتهم فأطاعوه، وزلتهم کانت بعصيانهم أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بعدم مغادرة الشِعب، وترجيحهم الغنيمة علی أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} الباء سببيّة، أي إنما طمع فيهم الشيطان فطلب زلتهم، لأنهم أطاعوه سابقاً في بعض الذنوب، فإن الذنوب کالحلقات المتواصلة يتبع بعضها بعضاً، وکذلک الطاعات فکل طاعة تجرّ أختها، وقد عدّ من الموبقات استصغار الذنب، وفي المجمع: وفي ذلک الزجر عمّا يؤدي إلی الفتور فيما يلزم من الأمور(3). وفي الکشاف: کان سبب توليهم أنهم

ص: 467


1- سورة الأنفال، الآية: 15.
2- سورة البقرة، الآية: 142.
3- مجمع البيان 2: 630.

کانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوباً، فلذلک منعتهم التأييد وتقوية القلب حتی تولّوا(1). وفي التبيين: إذ المعصية توجب تزلزل الإيمان فإذا صار وقت الامتحان ظهر الضعف في العاصي(2).

والحاصل: إن من يقع فريسة الهوی في الشهوة، کيف لايقع فريسته فيما فيه قوام حياته وأحب الأشياء إلی نفسه؟! وإنما قال {بِبَعْضِ} لأن الله تعالی يعفو عن کثير، أو إن آثار الذنوب مختلفة وهذا أثر بعضها، قال تعالی: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٖ}(3).

ص: 468


1- الکشّاف 1: 328.
2- تبيين القرآن: 81.
3- سورة فاطر، الآية: 45.

الآيات 156-158

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}

القسم الخامس: الكفار الباقون في مكة

156- ثم يذکر الله تعالی موقف جماعة أخری من الغزوة، وهم الکفار وهو موقف سلبي يکشف عن عدم اعتقادهم بالله واليوم الآخر والغرض تحذير المؤمنين وإبطال کلام الکافرين فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ} بعدم الاعتقاد بالله واليوم الآخر، ثم يثبطون المؤمنين {وَقَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ} أي حول إخوانهم، والأُخوّة في العشيرة أو القوم {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ} هاجروا {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} جمع غازي أي جاهدوا: {لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا} ولم يهاجروا ولم يجاهدوا {مَا مَاتُواْ} في طريق الهجرة {وَمَا قُتِلُواْ} في الجهاد، {لِيَجْعَلَ اللَّهُ} اللام للعاقبة، أي عاقبة کفرهم وقولهم هو أن الله يجعل {ذَٰلِكَ} الکفر والقول {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} في الآخرة، حيث يرون درجات المهاجرين والمجاهدين فيتحسرون علی فوات

ص: 469

ذلک عنهم، وفي الدنيا أيضاً حيث تفوتهم الغنائم ونحوها من فوائد الهجرة والجهاد، {وَ} لکن ليعلم أولئک أن الموت لايرتبط بالهجرة أو الجهاد بل {اللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ} فکم مهاجر ومجاهد رجع سالماً، وکم من مقيم قد مات، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، أي عالم به، وهذا ترغيب إلی الهجرة والجهاد وتحذير عن اتبّاع الکفار.

157- ثم لو مات المهاجر في طريق هجرته أو قتل المجاهد فلا يضرّه {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في الجهاد {أَوْ مُتُّمْ} في سبيله تعالی فجزاؤکم المغفرة والرحمة ف {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ} لذنوبکم {وَرَحْمَةٌ} بالثواب الجزيل {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} يجمع المقيمون من الأموال.

158- ثم الجميع سيموت المؤمنون والکفار، المهاجرون والمقيمون، المجاهدون والقاعدون {وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} فليس الموت نهاية کل شيء حتی يترک الإنسان الفضائل والمقامات العالية خوفاً منه.

بحوث

الأول: ذکرنا أن الله تعالی يبين موقف کل مجموعة من غزوة أحد، وما آل إليه أمرها، وهذه الآيات لبيان موقف مجموعة من الکفار الذين أسلم أقرباؤهم وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، لکن مات بعضهم في طريق الهجرة وقتل بعضهم في الغزوة، فهؤلاء الکفار يتحسرون عليهم بأنهم أخطأوا في الهجرة أو الجهاد، فلو بقوا في بيوتهم لکان خيراً لهم، يتاجرون ويتنعمون بملذات الحياة!

ولعلّ التدبر في مجمل هذه الآيات يدلنا علی أن {الَّذِينَ كَفَرُواْ} يراد

ص: 470

بهم جمع من کفار مکة الذين أسلم أقرباؤهم، لا المنافقين، فإن المنافق وإن کان کافراً باطناً إلاّ أنه لايطلق عليه لفظ الکافر، کما أن الآيات المبارکات السابقة واللاحقة تذکر موقف المنافقين في الآيات 154-167-168، وقد ذکرت الآيات 149-151 موقف الکفار المقاتلين، وأما هذه الآيات فهي في ذکر سائر الکفار، والظاهر أنهم الکفار الباقين في مکة.

ومن ذلک يتبيّن أن قوله: {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ} يراد به خصوص الهجرة، لا سفر التجارة ونحوه فإن ذلک کان يفعله الجميع ولا ينهی أحد أحداً عنه، بل کان من أهم مقومات حياة الکفار في مکة رحلة الشتاء والصيف، والله العالم.

الثاني: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ...} الآية.

هؤلاء قسم من الکفار مثبّطون، والتثبيط قد يکون مؤثراً حين الأزمات والهزائم، فالمتخاذل يستغل هذه الأوقات لبيان صحة موقفه وخطأ موقف العاملين، ولذا نشاهد أن العاملين المتطلعين للرقي والتقدم إذا أرادوا البدء في عملهم ثبطهم البعض، وهؤلاء العاملون قد لايصلون إلی ما أرادوا، وهذا أمر طبيعي، إذ ليس کل ما يتمناه المرء ويعمل له يدرکه، فحينئذٍ يشعر المتخاذل بأن الفرصة قد أتيحت له لينتصر لنفسه ويغطي علی تخاذله، فيبدأ باللوم وأحياناً يکون لومه بشکل إظهار الشفقة والحزن علی العامل، وأما إذا وصل العاملون إلی ما أرادوا عند ذاک يتحسّر المتخاذلون ويتمنون لو کانوا معهم کما قال الله تعالی: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ

ص: 471

قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنۢ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُۥ مَوَدَّةٌ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}(1).

والله تعالی يبيّن أن الأمر کله بيده، فإن قدّر النصر للمؤمنين فقد اغتنموا غنائم إلی إيمانهم، وإن قتلوا فإلی المغفرة والرحمة، فهم الرابحون الفائزون علی کل حال، وأما الکفار فإن قتلوا فقد خسروا الدنيا والآخرة، وإن کانت الدولة لهم فذلک تمتع قليل ثم يضطرهم الله تعالی إلی العذاب الدائم وبئس المصير.

وقوله: {كَالَّذِينَ كَفَرُواْ} أي لاتکفروا ککفر أولئک، أو لاتکونوا مثلهم في طريقة التفکير، وعطف {وَقَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ} لبيان التثبيط القولی، والحاصل لاتکونوا مثلهم في الکفر أو في الفکر، وکذا لاتکونوا مثلهم في التثبيط.

وقوله: {لِإِخْوَٰنِهِمْ} أي حول إخوانهم المقتولين أو الميّتين، ويحتمل أن يکون المراد سائر المؤمنين الأحياء فيکون الضمير في قوله: {لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} للقتلی أو الأموات من باب الاستخدام، أي قالوا للأحياء لو کان الأموات والقتلی عندنا لم يصابوا.

و(الأخوة) قد تکون في القرابة والقوم أو الدين، والمراد هنا الأول، وإنما قالوا ذلک لدعوة المؤمنين الباقين إلی الارتداد والرجوع إلی الکفر.

وقوله: {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ} بمعنی السفر، لأن المسافر يقطع الطريق

ص: 472


1- سورة النساء، الآية: 72-73.

بضرب رجله علی الأرض، ثم صار اصطلاحاً للسفر حتی لو کان بحراً أو لم يکن ضرب.

وقد ذکر بعض المفسرين بأن المراد السفر للتجارة وحتی عمّمه بعضهم إلی السفر لطلب العلم، لکن الأقرب أن المراد الهجرة کما ذکرناه، فلا ملامة لسفر التجارة ونحوه، بل اللوم يکون علی الهجرة في سبيل الله تعالی قال: {وَمَن يَخْرُجْ مِنۢ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ عَلَى اللَّهِ}(1).

الثالث: قوله تعالی: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ...} الآية.

قد ذکر المفسرون للتعليل في قوله: {لِيَجْعَلَ} وجوهاً، منها:

1- إنه مرتبط بقوله: {لَا تَكُونُواْ} واللام للعاقبة، فالمعنی لمّا لم تصغوا إليهم واستقمتم علی نهجکم، فإن استقامتکم ستکون سبب فوزکم بالمغانم والنصر في الدنيا، وذلک سيکون سبباً لحسرتهم وتمنيهم لوکانوا مثلکم، والمراد تشجيع المؤمنين بأن لاتنظروا إلی الحالة التي انتم عليها الآن حيث يلومکم الکفار، بل وسّعوا افق فکرکم وأبعدوا النظر، فسوف لاتمضي إلاّ أياماً معدودة وينقلب الأمر فالمثبطون سيتحسّرون علی عدم اتّباعکم، وهذا ما يشاهد في عامة المجاهدين والمتخاذلين، فصعوبات الجهاد سبب طعن المتخاذلين، لکن حسن نتيجة الجهاد سبب حسرتهم.

2- أو بمعنی لاتقولوا مثل قولهم ليبقی حسرة في قلوبهم، لأنهم يفرحون لو صرتم مثلهم، لکن لو فشلوا في إغوائکم فإنهم سيتحسرون علی فشلهم،

ص: 473


1- سورة النساء، الآية: 100.

قال تعالی: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ}(1).

3- أو بمعنی أن موت أو قتل إخوانهم سيکون حسرة عليهم، فيضاف حسرة فقدانهم إلی حسرة کفرهم، أي لاينفعهم قولهم هذا لأن عاقبة أمرهم الحسرة علی الأموات.

4- أو الحسرة في الآخرة، أي کفرهم وتثبيطهم سيکون حسرة عليهم في الآخرة، قال تعالی: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}(2).

والأولی التمسک بالإطلاق، فالحسرة في الدنيا والآخرة، وعلی ما فاتهم من المنافع وعلی إخوانهم.

الرابع: قوله تعالی: {وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

هذا دحض لکلامهم حيث ربطوا الموت بالهجرة والجهاد وربطوا الحياة بالإقامة، وذلک لأن الموت والحياة بيد الله تعالی، وقد جعل لهما أسباباً کثيرة، فکم من مهاجر مجاهد رجع سالماً غانماً، وکم من مقيم مات حتف أنفه أو بحادث، بل ترک الهجرة والجهاد قد يکون سبباً لتسلط الأعداء فيکثروا من القتل والتنکيل، وقد مرّ في قوله: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(3).

ص: 474


1- سورة النساء، الآية: 89.
2- سورة الأنعام، الآية: 31.
3- سورة البقرة، الآية: 195.

والحاصل أنه لامحيص عن الموت فهو من سننه تعالی في الناس وقضاؤه تعالی نافذ کما مرّ في قوله: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ...}.

وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ترغيب للمؤمنين بأن أعمالکم لاتضيع عند الله تعالی، فهو عالم بجهادکم وهجرتکم وسائر أعمالکم، کما أنه عالم بنواياکم، وهذا تمهيد لبيان الجزاء في الآية اللاحقة، کما أنه ترهيب للکفار بأن کفرکم وأقاويلکم لاتخفی عليه، فسيحشر الجميع إلی الله تعالی فيحاسبکم ثم يجازيهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

الخامس: قوله تعالی: {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ...} الآية.

هذا کالتکملة للاستدلال، أي نقول أولاً: إن الموت والحياة بيد الله تعالی ولا تنحصر أسبابها بالهجرة والاقامة أو الجهاد والقعود، ثم نقول ثانياً أنه ما الغرض من الإقامة؟ الغرض هو جمع الأموال للتمتع بالحياة الدنيا، فالموت في طريق الهجرة أو القتل في الجهاد منافعه أعظم بما لايقاس بمنافع جمع الأموال، وذلک بالمغفرة والرحمة من الله تعالی.

وقوله: {أَوْ مُتُّمْ} أي متم في سبيله تعالی، عطف علی قتلتم فلم تکن حاجة إلی تکرار في سبيل الله، وقد عمّم بعض المفسرين الموت في سبيله تعالی بالموت في طريق طلب الرزق أو الحج أو اکتساب العلم ونحو ذلک، لکن قد عرفت أن السياق بعيد عن ذلک، بل المراد الموت في طريق الهجرة، نعم يمکن التعميم بأن المورد وإن کان في الهجرة إلاّ أن الوارد أعم، فتأمل.

قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} هو طريق الأئمة (عليهم السلام) ، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه

ص: 475

قال: «سبيل الله علي وذريته (عليهم السلام) ، ومن قُتل في ولايتهم قُتل في سبيل الله، ومن مات في ولايتهم مات في سبيل الله»(1) وذلک لأن سبيلهم هو سبيل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو سبيل الله تعالی، حيث أمر الله تعالی بولايتهم، وبلّغه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) للناس في مواطن کثيرة منها يوم غدير خم.

وقوله: {خَيْرٌ} منسلخ عن التفصيل، إذ لاخير فيما يجمعه الکفار من الأموال، فيکون نظير قولنا الجنة خير من النار، وقيل: التفضيل باعتبار تصور غالب الناس حيث يرون الخير في جمع الأموال فيقال لهم إن المغفرة والرحمة أکثر خيراً.

وقوله: {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ} قدّم المغفرة لأن بعض درجات الرحمة لاتنال إلاّ الطاهر المطهّر، فلا بد أولاً من الطهارة من درن الذنوب بالمغفرة ثم نيل الرحمة الخاصة، أو إن المغفرة دفع ضرر المواخذة بها والرحمة جلب منفعة الثواب.

قوله: {مِّمَّا يَجْمَعُونَ} کأنه تلميح إلی أن بقاءهم علی کفرهم وفي بلدهم وطلبهم للمال لايصل نفعه إليهم، لأنهم يجمعون الأموال ثم يترکونها للورثة!! فهو بقي ليجمع المال فخسر الدنيا والآخرة! والحاصل أنهم أمام عملين ونتيجتين:

الکفر والاقامة: وذلک يجلب حسرة في قلوبهم، ولا يدفع موتاً، ونتيجته جمع مال فقط ولا خير في ذلک.

أو الهجرة والجهاد، وذلک لايقرّب موتاً، ويجلب سروراً ومنافع مادية،

ص: 476


1- تفسير العياشي 2: 202.

مضافاً إلی المغفرة والرحمة لو مات.

أو نقول: إنه تقابل بين المغفرة والرحمة من الله من جهة، والجمع للأموال من المقيمين من جهة أخری، ولا قياس بين المغفرة والرحمة وبين المال، کما لا قياس بين واهب المغفرة والرحمة وهو الله تعالی، وبين جامع المال وهم الکافر!!

السادس: قوله تعالی: {وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}.

بعد بيان أن من مات أو قتل في سبيل الله ينال المغفرة والرحمة من الله، تم بيان أن الجميع سيحشر إلی الله تعالی حتی الکفار، قوله: {وَلَئِن مُّتُّمْ} يعني بأيّ وجهٍ وسببٍ کان.

ولا يخفی أن الحشر إلی الله عام للجميع کما قال: {وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَٰئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(1)، فلا وجه لما ذکره بعضهم بأن هذه الآية خاصة بالمؤمنين أيضاً، فالآية السابقة في بيان المغفرة والرحمة لهم وهذه الآية لبيان ثواب أعظم وهو الحشر إلی الله تعالی! وقد اتضح لک أن الحشر إليه تعالی عام، وليس نفس الحشر ثواباً حتی يخص به المؤمنون، فالغرض من هذه الآية بيان حشر الجميع بما فيهم الکفار، وفي ذلک ترهيب لهم، کما أنه ترغيب لسائر الناس ليحذو حذو المهاجرين والمجاهدين لينالوا الثواب الجزيل کما نالوه.

ثم إن هذه الآية ذکرت الموت والقتل ثلاث مرات، وفي الأولی والثالثة

ص: 477


1- سورة الأنعام، الآية: 38.

قدّم الموت علی القتل، وعکس في الثانية، قيل: إن الأولی بحسب الترتيب الزماني لأن بعض المهاجرين مات ثم قتل البعض في الجهاد، والثالثة حسب الترتيب الطبيعي لأن الموت أکثر وأعم، وأما الثانية فلأنه کان في سبيل الله فالقتل فيه أشرف من الموت فلذا قدّمه لشرفه.

ص: 478

الآيتان 159-160

اشارة

{فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}

القسم السادس: حول قيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)

اشارة

159- ثم تعطف الآيات العنان إلی بيان حُسن قيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) للمعرکة ولسائر الشؤون، وأن الله ينصر المؤمنين، فإن کانت هزيمة فبسبب عصيانهم {فَبِمَا رَحْمَةٖ} «ما» للتأکيد أي بسبب رحمة {مِّنَ اللَّهِ} عليک بأن فضّلک بالمکارم، ورحمته عليهم لتسلک بهم سبيل الهداية {لِنتَ لَهُمْ} کنت ليناً معهم، فاستشرتهم قبل الغزوة، وصفحت عنهم بعد الهزيمة، {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا} خشن الکلام والفعل {غَلِيظَ} قاسي {الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ} تفرقوا {مِنْ حَوْلِكَ}، وحيث تحليت بالمکارم بفضل الله {فَاعْفُ عَنْهُمْ} إذا أخطؤوا بحقّک، {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ذنوبهم فيما يرتبط بالله تعالی، أي أ ُدع الله ليغفر لهم، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} في أمر الحرب وغيره، تحبيباً لقلوبهم وتعليماً لهم، {فَإِذَا عَزَمْتَ} عقدت النية علی ما رأيته صلاحاً متفرعاً علی مشورتهم {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ليوطأ لک الأمور ويذلّل الصعاب ويرتب الأسباب الغيبية، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

ص: 479

الْمُتَوَكِّلِينَ} يجازيهم بالجزاء الحسن، ومنه فوزهم بما يريدون.

160- فاتضح لکم أن الهزيمة أو النصر ليست من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه يوکل أمره إلی الله تعالی، والله تعالی هو الذي يفعل ما يريد بحکمته ف {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} لا يغلبکم أحد، {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} بأن يترککم وشأنکم ولم يُعنکم {فَمَن} استفهام إنکاري {ذَا} إشارة {الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعْدِهِ} بعد خذلان الله أو من بعد الله إذا ترکتموه والتجأتم إلی غيره {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

بحوث

الأول: وجه ارتباط هذه الآيات وما بعدها (الآيات 159-165) هو بيان حُسن قيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) للمعرکة، وأن الهزيمة لم تکن منه، بل منکم حيث عصيتم، فإن الله تعالی قد تفضّل عليکم وأرسل رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) متحلياً بصفات الکمال، عالماً بالحکمة معلماً لها، زاکياً في نفسه مزکيّاً لغيره، حسن التدبير في کيفية معاملته معکم، متوکلاً علی الله في أموره، عادلاً في تقسيم المال، ولکن الأمر کلّه لله تعالی، وهو سبحانه بحکمته ينصر من نصره، ويخذل من عصاه، وحيث عصيتموه خذلکم فانهزمتم، فلا ترتبط تلک الهزيمة بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بل بکم بسوء اختيارکم، ومع ذلک لطف الله بکم حيث رتب فوائد جمّة لکم علی هزيمتکم من الابتلاء والتمحيص وغيرهما.

الثاني: قوله تعالی: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ...} الآية.

(الفاء) إما للاستئناف - کما عن بعض النحاة - او عاطفة تفريعيّة فالمعنی

ص: 480

حيث إنکم تحشرون إلی الله لذلک هيّأ أسباب هدايتکم عبر أخلاق رسوله الکريم (صلی الله عليه وآله وسلم) .

و(الباء) سببيّة أي بسبب هذه الرحمة کنت ليناً شفيقاً لهم.

وقوله: {رَحْمَةٖ} تنکرها لتعظيمها، ولتعميمها، فقد أدّب الله تعالی نبيّه بأحسن الآداب حتی قال عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1)،

وذلک رحمة منه تعالی علی نبيّه، کما أن ذلک کان رحمة علی الناس لأنه صار سبباً لهدايتهم حيث جذبت هذه الأخلاق الناس إلی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وحبّبته اليهم، ومن ثمَّ زيّنت الإيمان في قلوبهم، قال تعالی: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(2).

وقوله: {لِنتَ لَهُمْ} من الليونة بمعنی رقة القلب، وحسن الفعل، وطيب الکلام.

وقوله: {وَلَوْ كُنتَ} لم يقل «ولا تکن» لان فيه إيهام أنها فيه، لکن هذا التعبير صريح بنفی الفظاظة والغلظة عنه - هکذا قيل - .

وقوله: {فَظًّا} بمعنی الجفو والخشونة في القول أو الفعل.

وقوله: {غَلِيظَ الْقَلْبِ} بمعنی قاسيه، ولا يخفی أن قساوته سبب للفظاظة، ولکن الناس يرون القول والعمل ويستدلون بهما علی قساوة القلب، ففي الظاهر والإثبات الفظاظة مقدمة علی القسوة في کونها سبباً لتفرق الناس، فقد يکون هناک مَن هو قاس القلب لکنه يتحکّم في أقواله

ص: 481


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- سورة الأنبياء، الآية: 107.

وأفعاله ويتحلّم، فقد يبقی معه الناس لفترة، إلاّ أنهم في المآل سينفضون عنه، لأن تلک القساوة القلبية - إن لم تعالج - لابدّ أن يظهر أثرها في الفلتات والصفحات، وکما قال الشاعر:

ومهما تکن عند امرءٍ من خليقة***وإن خالها تخفی علی الناس تُعْلَم

قوله: {لَانفَضُّواْ} من الانقضاض أي التفرّق، وهذا دليل علی أن بقاء الناس علی الإسلام إنما هو بسبب الأخلاق المحمدية في سيرته الوضاءة (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفي ذلک إبطال لمقولة انتشار الإسلام بالسيف بمعنی إکراه الناس عليه، ولو کان کذلک لزال الإسلام بزوال السيف، کما حدث مع کل الفاتحين والغزاة حيث أجبروا الناس المغلوبين علی أمور فلما زالت دولتهم رفضهم الناس، وعليه فيجب تبيين السيرة الصحيحة للرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) للناس وذلک سبب اهتدائهم، فکما کان في زمانه أخلاقه سبب اجتماعهم، والأکاذيب والشائعات عنه انخدع بها البعض لکن برؤيته وسماع أخباره ذهبت کل تلک الأکاذيب أدراج الرياح، فکذلک الأن حيث نفقد شخصه الکريم لکن عندنا سيرته فلابد من تنزيهها من الدس والوضع وفصل المختلقات التي تصدّ الناس عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليعلم الناس بواقع سيرته فيهتدون بإذن الله تعالی.

الثالث: قوله تعالی: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.

أي حيث کنت الرحمة، وکنت ليناً معهم، وجمعتهم حولک بأخلاقک فعليک أن تستعمل لينک في جهات ثلاث:

1- {فَاعْفُ عَنْهُمْ} أي أ ُترک مؤاخذتهم، فيما يرتبط بشخصک، فقد

ص: 482

کانوا يسيئون الأدب، أو ينتقصون من حق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، کما نسبوا الهزيمة إليه مع أنها کانت من فعلهم، وکما اتهموه بالغل وبغير ذلک، فعفوک عنهم من لينک تجاههم.

2- {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي ادعُ الله ليغفرلهم ذنوبهم التي ارتکبوها مخالفة لأمره تعالی، کترک مواقعهم وفشلهم وتنازعهم وعصيانهم وانهزامهم.

وفي تقريب القرآن: والله - وإن کان أرحم بهم - لکن ذلک لزيادة عطف النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فإن من يطلب المغفرة لأحد لابدّ أن يزول من قلبه ما علق به من الکراهية، ولتکثير محبة المؤمنين له حيث يعلمون بأنه يستغفر لهم(1).

حول المشورة والشوری

3- {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي کل الأمور ومنها أمر الحرب، کما فعله (صلی الله عليه وآله وسلم) في غزوة أ ُحد حيث استشارهم في التحصّن بالمدينة أو الخروج إلی أ ُحد، فکان رأي الغالب الخروج.

ولا يخفی أنه لا مشورة في التشريعات والأحکام الإلهية، فإن التشريع خاص بالله تعالی، وقد أدّب نبيه بآدابه ففوض إليه ذلک، ولا تفويض للتشريع للناس أبداً فليس لهم حق التشريع، قال تعالی: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}(2)، نعم يمکن المشورة في کيفية تطبيقها وهذا لايرتبط بالتشريع، ولذا فلا حقّ للمجالس النيابية بتشريع أحکام مقابل الحکم الشرعي، نعم يمکنها - إن استکملت الضوابط الشرعية - أن تجعل آلية لتطبيقها، ولذا قد غيّر الوالد رضوان الله عليه، في بعض کتبه عبارة السلطة التشريعية إلی التأطيرية،

ص: 483


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 411.
2- سورة يوسف، الآية: 40.

أي جعل إطار للحکم حتی يتسنّی تطبيقه بأحسن الوجوه.

کما لا مشورة فيما أنزل الله الوحي فيه سواء کان من الأمور العامة والخاصة، کما قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٖ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(1)، کبطلان الشوری في تعيين الخليفة لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقد قال تعالی: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(2)، وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(3).

وإنما المشورة فيما لا وحي فيه ولم يکن من التشريعات، بل کان من إدارة الأمور وتنظيمها، سواء کان في الشؤون العامة أو الخاصة.

وأما وجوبها أو استحبابها، ومن يکون طرف المشورة، وإلزامها وعدم إلزامها، والفرق بين الشوری والمشورة فيطول بحثه، وقد ذکر بحوثها الوالد رضوان الله عليه في جملة من کتبه، فراجعها.

وهنا بحث آخر: وهو أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مستغنٍ عن مشورتهم وذلک لتسديده بالوحي، وعصمته في أموره کلها، فسبب أمره بمشورتهم هو تحبيب قلوبهم، وفي ذلک تزيين الإيمان لهم، وأيضاً تعليمهم ليستشيروا، ولئلا يتکبّر أحدهم عن المشورة وعن قبول الاستشارة.

وأما غير المعصوم فمشورته استخراج للرأي الأصح عبر مشارکة الناس

ص: 484


1- سورة الأحزاب، الآية: 36.
2- سورة المائدة، الآية: 67.
3- سورة القصص، الآية: 68.

في عقولهم، وايضاً استظهار بهم، ففي الحديث: «من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأ عاذراً»(1).

معنی التوکل

الرابع: قوله تعالی: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ...} الآية.

(الفاء) للتفريع، أي عزمت بعد المشورة، أي آخذاً بها عاملاً عليها، فذلک لايکفيک، لأن المستشيرين قد يخطؤون، وقد لايحيطون بجميع الأسباب، فالمشورة وإن کانت تقلّل نسبة الخطأ إلاّ أنها لا تعصم عنه، کذلک قد يکون الرأي صحيحاً لکن تحدث طوارئ وأمور لم تکن بالحسبان، کما حدث في غزوة أ ُحد حيث کان الرأي بالخروج عن المدينة وعدم التحصّن بها رأياً صائباً لذا انتصروا في البداية، لکن آل الأمر إلی مخالفتهم وعصيانهم مما لم يحتمله المستشارون، وعليه فلا بد من التوکل علی الله ليرتب الأسباب الأخری ويرفع الموانع.

و(التوکل) من (وکل) بمعنی الاعتماد علی الغير في أمرک(2)،

لکن ليس بمعنی عدم فعل شيء والکسل والتماهل، فذاک التواکل وليس التوکل.

ولذا أمر الله تعالی نبيه بالتوکل بعد المشورة والعزم، وفي الحديث اعقل وتوکّل(3)، وقال تعالی في قصة يعقوب (عليه السلام) : {وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدْخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}(4) فهو (عليه السلام) أمر أبناءه

ص: 485


1- جامع أحاديث الشيعة 16: 78.
2- مقاييس اللغة: 1063.
3- عوالي اللئالي 1: 75.
4- سورة يوسف، الآية: 67.

باتخاذ المنهج الطبيعي بالدخول من أبواب متفرقة لئلا تصيبهم العين، لکن صرّح بأنه يتوکل علی ربّه.

ثم بعد التوکّل يکون التوفيق، حيث إن التوکّل من العبد والتوفيق من الله تعالی، بأن يجعل الأسباب بعضها وفق بعض حتی تحصل النتيجة المرجوة قال: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إذا فعل العبد ما أمره الله عزوجل به من الطاعة کان فعله وفقاً لأمر الله عزوجل وسُمّي العبد موفقاً، وإذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي الله فحال الله تبارک وتعالی بينه وبين تلک المعصية فترکها کان ترکه لها بتوفيق الله تعالی ذکره، ومتی خلّی بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها حتی يرکبها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفقه(2).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} بمعنی يجازيهم علی توکلهم، فقد يکون ذلک عبر إرشادهم للأصلح، أو تهيأة الأسباب الأخری الخارجة عن اختيارهم وإرادتهم، وأما لو لم تکن المصلحة في ذلک فنوع آخر من الثواب الدنيوي مضافاً إلی الثواب الجزيل في الآخرة، مثلاً من توکلوا واستشهدوا في المعرکة کانت شهادتهم وما يترتب عليها من الذکر الحسن ونحوه هو نوع ثواب علی توکلهم وحسن نيتهم وعملهم مضافاً إلی ثواب الآخرة، وهذا هو نصر الله تعالی للمؤمنين المتوکلين حتی لو انهزموا

ص: 486


1- سورة هود، الآية: 88.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 519، عن توحيد الشيخ الصدوق: 242.

عسکرياً وقتلوا أو أصيبوا.

وفي المناهج: ليس معنی التوکل أن کل من توکّل فله الظفر والسعادة - سواء کان توکله بتهيأة الأسباب أم بدونها، بناءً علی کون التوکل يوجب الاتصال بسبب غير مغلوب، فيکون للسبب الغالب أثره في مجری التوکل - لإمکان أن يکون ما وراء التوکل شرائط وأسباب في قضاء الحوائج(1).

بمعنی أن هناک أسباباً متعددة غيبية، والتوکل أحدها، فللوصول إلی النتيجة لابد من توفرها أجمع.

الخامس: قوله تعالی: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ...} الآية.

الظاهر أن هذه الآية تتحدث عن النصر العسکري والهزيمة، بقرينة قوله: {فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} ولأن الغرض بيان أن الهزيمة لم تکن من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بل بسبب سوء عملکم فخذلکم الله تعالی فانهزمتم، وذلک لأن الله ينصر الرسل والمؤمنين حتماً کما قال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَٰدُ}(2)، وطرق نصره في الدنيا کثيرة، فقد تکون غلبة عسکرية، وقد تجتمع مع الهزيمة والشهادة کما قتل کثير من الأنبياء (عليهم السلام) ، لأن مصداق النصر حينئذٍ هو غلبة المنهج والذکر الحسن والفوز بکرامة الشهادة وبرکة في الذرية ونحو ذلک.

والحاصل: إن الآية تأکيد علی أن الأمر کلّه لله تعالی، وهو يقدّر بحکمته، فقدّر غلبتکم في بدر لمّا أطعتم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقدّر هزيمتکم

ص: 487


1- مناهج البيان 4: 178.
2- سورة غافر، الآية: 51.

في أ ُحد لمّا خالفتموه.

و(الخذلان) هو الامتناع عن المعونة علی العدو في وقت الحاجة إليها، وأما لو لم يحتج فلا يکون خذلاناً - هکذا قيل - .

وقوله: {مِّنۢ بَعْدِهِ} أي من بعد خذلانه، أو من بعد الله، کأنکّم أعرضتم عنه تعالی إلی غيره لينصرکم، فهل يتمکن؟! کلا لا ناصر لکم بعد الله تعالی، لأنه مالک کل شيء وکل شخص وهو العزيز القدير.

وأما قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فليس تکراراً لما في الآية السابقة، لأنها کانت دعوة للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بخصوصه، کما أنها کانت لبيان حبّه للمتوکلين، وهذه الآية دعوة لکل المؤمنين للتوکل لينالوا حبه تعالی لهم، وفي هذا الأسلوب حثّ أکثر وترغيب أشد، حيث أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أولاً، ثم بيّن فائدة التوکل، ثم دعا سائر المؤمنين ليقتدوا برسولهم ولينالوا حبه تعالی.

ص: 488

الآيات 161-165

اشارة

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَ اللَّهِ كَمَنۢ بَاءَ بِسَخَطٖ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ (165)}

161- ثم کان من أسباب ترکهم لمواقعهم هو الجشع علی الغنيمة والظن بأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لايقسمها بينهم بالعدل، والله نزّه رسوله بقوله: {وَمَا كَانَ} لا يمکن {لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} يخون في الغنيمة، {وَمَن يَغْلُلْ} أيّاً کان {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} أي يؤمر بذلک الشيء ليحضره مهانة وفضيحة له {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} فيحاسب علی غلوله، {ثُمَّ} ينال جزاءه العادل إذ {تُوَفَّىٰ} تعطی جزاءها کاملاً {كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ} من خير أو شر، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} فلا يزداد عذاب المسيء، ولا ينقص ثواب المحسن، نعم قد يعفو الله عن المسيء ويزيد ثواب المحسن وذلک فضل منه تعالی واحسان.

162- ثم يحرضهم الله تعالی علی الثبات وإطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 489

ويحذرهم عن معصيته وعن الهزيمة {أَفَمَنِ} «الهمزة» للاستفهام الإنکاری و«الفاء» للتفريع لبيان کيفية جزاء کل نفس بما کسبت، فليس الذي {اتَّبَعَ رِضْوَٰنَ اللَّهِ} بطاعته تعالی، ومن أجلی مصاديقهم الأئمة (عليهم السلام) {كَمَنۢ بَاءَ} رجع {بِسَخَطٖ مِّنَ اللَّهِ} أي المعصية التي توجب شدة غضبه تعالی، {وَ} أما الجزاء الوافي فالراجع بالسخط {مَأْوَىٰهُ} محله الذي يرجع إليه {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

163- وأمّا الذين اتبعوا الرضوان ف {هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ اللَّهِ} باختلاف معرفتهم {وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي طاعاتهم، فکلّما کانت المعرفة أکثر کانت الدرجة أرفع، وکذلک أعمالهم.

164- ثم يؤکد الله تعالی بأن الهزيمة لم تکن بسبب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه منبع الفضائل ف {لَقَدْ مَنَّ} أنعم نعمة عظيمة {اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} خصّهم بالذکر لأنهم المنتفعون {إِذْ بَعَثَ} أرسل {فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} بشراً مثلهم، {يَتْلُواْ} يقرأ {عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ} القرآن الکريم، {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهّرهم من الرذائل والأدناس، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ} يفسّر لهم القرآن {وَالْحِكْمَةَ} يعلّمهم الشريعة وسائر الأمور ومواضع خيرها وشرها، {وَإِن} مخففة من المثقلة {كَانُواْ مِن قَبْلُ} أي قبل إرساله {لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} واضح، وهذا يزيد المِنّة عليهم، فهکذا رسول لاتنشأ منه الهزيمة بل النصر.

165- لکن معصيتکم إياه صارت سبباً لهزيمتکم {أَوَلَمَّا} «الهمزة» للاستفهام الانکاري، و«الواو» عاطفة علی الجملة السابقة، و«لمّا» ظرفية {أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ} حيث قُتل سبعون من المسلمين في أ ُحد {قَدْ أَصَبْتُم

ص: 490

مِّثْلَيْهَا} في بدر حيث قتلتم سبعين من المشرکين وأسرتم سبعين {قُلْتُمْ} مستنکرين {أَنَّىٰ} من أين {هَٰذَا} الإنکسار؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} حيث دعتکم نفسکم إلی الغنائم فخالفتم أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} فينصرکم إن أطعتم ويخذلکم إن عصيتم.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ...} الآية.

لمّا بين الله في الآيات السابقة حسن قيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وحسن تدبيره للأمور، أراد تحذيرهم من سوء الظن به، فقد أساؤوا الظن حيث توهموا أنه لايقسّم بينهم الغنائم بالعدل، وکان ذلک سبباً لترکهم مواقعهم، ثم أساؤوا الظن به بعد الهزيمة مع أنهم بعصيانهم کانوا السبب فيها، وکانوا قد شاهدوا بطلان ما اتّهمه به بعض المنافقين في غزوة بدر حيث فُقدت قطيفة حمراء وکان أحدهم قد سرقها واحتفر لها فخبّأها، حتی اکتشف أمره، فنزّه الله رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) من الغلول(1)، ومع ذلک في غزوة أ ُحد أساؤوا الظن فعصوا ليحوزوا علی الغنائم.

والحاصل: إنّ الآية تبيّن سبب الهزيمة وهو سوء ظنهم بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، مما أدّی إلی عصيانهم، ومن ذلک يتبيّن أهمية صحة العقيدة في صحة العمل والوصول إلی النتائج المرجوة، فمن اعتقد بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وانقاد له ولم يجد حرجاً في نفسه مما قضی أطاعه في کل شيء فيستوجب فضل الله عليه بالنصر، ومن لم يعتقد به ولم يسلّم وشعر بالحرج عصاه فيستوجب خذلانه.

قوله: {وَمَا كَانَ} بمعنی عدم الإمکان عقلاً أن يختار الله رجلاً خائناً

ص: 491


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 523، عن أمالي الشيخ الصدوق.

لرسالته، فحکمته تعالی تقتضي اصطفاء من يرسلهم وأن يعصمهم وأن يحليهم بالفضائل ويجنبهم الرذائل.

قوله: {أَن يَغُلَّ} من الغلول وهو الخيانة الخفيّة، کأن يأخذ شيئاً من المغنم سِراً.

وقوله: {وَمَن يَغْلُلْ} للتعميم أي الغلول کبيرة، ولا يحق للإنسان أياً کانت درجته ومنزلته أن يرتکبها، فالمحرمات محرّمة علی الجميع، ولا محاباة فيها.

وقوله: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} أي يُفضح علی رؤوس الأشهاد يوم القيامة بأن يؤمر بإحضار مادة الجرم - وهو ما غلّه - فيحاکم عليها، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: ومن غلّ شيئاً رآه يوم القيامة في النار، ثم يکلّف أن يدخل إليه فيخرجه من النار(1).

ولا يخفی أن هذا شيء لايرتبط بتجسم الأعمال، فالمذکور في الآية هو إحضار مادة الجرم وهي ليست العمل بل متعلّقه ، وأما تجسّم العمل فيستفاد من أيات أخری، وقد مضت الإشارة إليه.

الثاني: قوله تعالی: {ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.

أي بعد الحساب في يوم القيامة - والذي يتضمّن إحضار مادة الجرم - ينال الجميع جزاءهم العادل، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

والکلام کان حول الغلول لکن تمّ تعميم الکلام حول الجزاء... .

1- إما ليکون کالبرهان علی المقصود، أي حيث إن الله يوفي الجميع

ص: 492


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 523، عن تفسير القمي.

جزاءهم لذلک يُؤمر الغال باحضار ما غلّ - هکذا قيل - .

2- أو لبيان أنه کما يوفّی الغال جزاءه، کذلک المغلول منه أيضاً يوفی جزاءه، فهو أيضاً لايبقی بغير جزاء، فيکون تحذيراً للمظلومين بأن لايتعدوا حدود الله تعالی کما قال: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَٰنًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورًا}(1).

3- والأقرب أن التعميم لأجل بيان حال المطيعين والعاصين بشکل عام لينطبق علی الحالة في غزوة أحد، لأن الغرض حثّ المؤمنين علی الإطاعة وتحذير العصاة عن المعصية، ولذا أتبعه بآيتين في تفصيل الجزاء.

قوله: {تُوَفَّىٰ} بمعنی الاعطاء کاملاً من غير بخس، وهذا لاينافي التفضّل بالعفو عن بعض الذنوب أو بمضاعفة الثواب فوق الاستحقاق، لأن الوفاء بمعنی عدم زيادة عقاب المسيء وعدم بخس المحسن، مثلاً عامل تعاقد علی مائة، فإذا أعطاه صاحب العمل مأتين قيل: وفّاه أجره وزاده من فضله، وإذا أجرم أحد وکان الحکم الحبس عشر سنوات فتمّ التخفيف إلی خمسة فيقال: نال عقابه وتمّ التفضّل عليه، وفي قوله: {مَّا كَسَبَتْ} إشارة لذلک أيضاً، لأن الفضل ليس مما کسبت ولا منافاة بينهما.

وقوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} في مجمع البيان: وفي هذه الآية دلالة علی فساد قول المجبّرة: أن الله لو عذّب أولياءه لم يکن ذلک ظلماً! لأنه قد بيّن أنه لو لم يوفّها ما کسبت لکان ظلماً(2).

ص: 493


1- سورة الإسراء، الآية: 33.
2- مجمع البيان 2: 644.

الثالث: قوله تعالی: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَ اللَّهِ...} الآية.

شروع في بيان کيفية الجزاء الأوفی، فالمؤمنون طلبوا رضوان الله تعالی فيجازيهم بالدرجات، وأما العصاة فقد فعلوا ما أوجب سخطه سبحانه فکان جزاؤهم جهنم.

وفي الآية تحريض علی الثبات والإطاعة بأنهما طلب رضاه تعالی، وتحذير من الهزيمة والعصيان بأنهما سبب لسخطه.

قوله: {أَفَمَنِ} الاستفهام للإنکار، والمراد بيان الفرق بين الفريقين.

قوله: {اتَّبَعَ} بمعنی اقتفاء الأثر، ويدل علی التبعية اکثر من (تَبَع)، لأن من معاني باب الافتعال: المبالغة في طلب الشيء، أو شدة طلبة والمعاناة فيه، وهکذا طلب رضوان الله تعالی محفوف بالصعوبات والمعوّقات من النفس والدنيا والشياطين وغيرهم.

وقوله: {رِضْوَٰنَ اللَّهِ} أي ما يوجب رضاه وهي الأعمال الصالحة، أو طلب نفس الرضوان وذلک عبر الطاعة وترک المعصية، وأشرف من اتّبع رضوان الله تعالی الأئمة (عليهم السلام) کما سيأتي بيانه.

وقوله: {كَمَنۢ بَاءَ} أي رجع إلی أهله من الغزوة منهزماً أو حاملاً ثقل الذنوب، ولا يخفی لطف التعبير حيث عبّر عن المؤمنين بأنهم يتبعون رضوان الله، وعبّر عن العصاة بأنهم باؤوا بسخطه سبحانه، لأن العصاة لايطلبون غضبه غالباً، وإنما يطلبون ما فيه هواهم وذلک يؤدي إلی سخطه.

وقوله: {بِسَخَطٖ} وهو الغضب الشديد المقتضي للعقوبة.

ثم إنه تعالی بيّن جزاء من باء بالسخط، في قوله: {وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ

ص: 494

الْمَصِيرُ} وأما جزاء المؤمن المتبع لرضوانه تعالی فقد تمّ بيانه في الآية التالية:

الرابع: قوله تعالی: {هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعْمَلُونَ}.

أي لمن اتبع رضوان الله، ثواب جزيل منه تعالی، لکن هذا الثواب مختلف في الزيادة، فکلما کانت العقيدة أقوی والعمل أصح کانت الدرجة أرفع.

قوله: {هُمْ} الضمير يرجع إلی من اتبع رضوان الله.

وقيل: ويمکن ارجاعه إلی کلا الفريقين: المطيعين والعصاة! لکنه بعيد، لأن الدرجة تستعمل عادة في الثواب، ولذا اضطروا إلی القول بأنها تشمل الدَرَکات تغليباً، وهو محل تأمل.

والحاصل أن قوله: {دَرَجَٰتٌ} قرينة علی أنّ مرجع الضمير إلی المؤمنين فقط.

وقوله: {دَرَجَٰتٌ} أي مراتب في الارتفاع والعلو، قيل: هو بمعنی ذوو درجات، وقيل: هو تشبيههم بالدرجات للتفاوت بينها فبعضها أعلی من بعض کذلک هؤلاء.

وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي يراها، وهذا کالعلة لکونهم درجات لأن أعمالهم ونياتهم تختلف شدة وضعفاً فلذلک اختلفت درجاتهم، وفي التقريب: فلا يزهد الإنسان في الإحسان لأن الناس لا يُقدّرونه، ولا يجري العاصي في عصيانه لأنهم لايرونه، فالکل مرئي لله تعالی(1).

وأيضاً تدلّ الآية علی أن نيل الدرجات ليس علی التوهم بل العمل.

ص: 495


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 413 (بتصرّف).

وقد سأل عمار الساباطي الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية فقال (عليه السلام) : الذين اتبعوا رضوان الله هم الأئمة، وهم - والله يا عمار - درجات للمؤمنين، وبولايتهم ومعرفتهم إيانا يضاعف الله لهم أعمالهم ويرفع الله لهم الدرجات العلی(1).

وذلک لأن الأئمة (عليهم السلام) في أعلی درجات القرب والرضوان والثواب، وهم الميزان، فکلّما کان المعرفة بهم أشد واتّباعهم أکثر ارتفعت درجات المؤمنين بتلک النسبة، وکلّما کانت المعرفة والاتباع أقل انخفضت تلک الدرجات، فقوله (عليه السلام) «هم والله يا عمّار درجات للمؤمنين» بمعنی أنهم (عليهم السلام) الميزان للمؤمنين، ولذلک وضّحه بالعطف التفسيري بقوله: «وبولايتهم ومعرفتهم ايانا...» الخ، والولاية بالمحبة والاتّباع والنصرة، والمعرفة بالعلم بمنزلتهم ومقامهم، وهما متلازمان في الجملة، وهما يزيدان من قيمة العمل ومن قابلية العامل لزيادة الفضل.

وفي المناهج: فاختلاف الدرجات ومنشأ ارتفاعها إنما هو العلم بالحقائق والمعارف الواقعية، والعمل بالصالحات، ومعرفة الأئمة (عليهم السلام) من أجلّ العلوم والمعارف القرآنية، وولايتهم من أفضل الصالحات، لأنها تنتهي إلی ولاية الله، فإنه لا ولاية لأحد عند الله إلاّ ولاية أوليائه والتبرّؤ من أعدائه(2).

الخامس: قوله تعالی: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.

هذه الآية تبيّن أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) نعمة عليهم، وباتّباعه يخرجون من ظلمات الضلال إلی نور الهداية فلا يجوز أن يسيئوا الظن به ولا أن يرموا عليه

ص: 496


1- الکافي 1: 356.
2- مناهج البيان 4: 139.

أخطائهم، وقد قال تعالی: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}(1)، فکيف باتهام سيد الخلق الذي بعث رحمة للعالمين وقد بيّن وجه الصواب لکنهم عصوه ثم يرمونه بنتائج أعمالهم؟

قوله: {لَقَدْ مَنَّ} «المِنّة» النعمة العظيمة، تارة تکون بالفعل، فيقال: منّ فلان علی فلان: إذا أثقله بالنعمة، وذلک علی الحقيقة لايکون إلاّ لله تعالی، وتارة يکون ذلک بالقول، وذلک مستقبح فيما بين الناس إلاّ عند کفران النعمة، ولقبح ذلک قيل: المنّة تهدم الصنيعة، ولحسن ذکرها عند الکفران قيل: إذا کفرت النعمة حسنت المِنّة کذا في المفردات(2)، وقد تُعرّف المنّة القولية بأنها التذکير بالنعمة علی وجه الاستعلاء، فيکون ذلک خاصاً بالله تعالی.

قيل: إن کل نِعم الله تعالی علی الإنسان هي مِنن منه تعالی، لکنه سبحانه لم يُمن علی المؤمنين إلاّ بنعمة الهداية وإرسال الرسل، لأن الإرسال صلاح الدين والدنيا والآخرة وإکمال للبشرية حسب قابلياتهم.

بل إنه تعالی لايسأل عنها ولا يحاسب إذا لم تصرف في الحرام، کما ورد في تفسير قوله تعالی: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(3)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إن الله عز وجلّ أکرم وأجلّ أن يطعمکم طعاماً فيسوّغکموه، ثم يسألکم عنه، ولکن يسألکم عمّا أنعم عليکم بمحمّد وآل محمد صلی الله عليه وعليهم»(4).

ص: 497


1- سورة النساء، الآية: 112.
2- مفردات الراغب: 777 (بتصرّف).
3- سورة التکاثر، الآية: 8.
4- الکافي 6: 280؛ البرهان في تفسير القرآن 10: 398 فما بعد.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إنما يسألکم عمّا أنتم عليه من الحق»(1).

حول مِنّة الله تعالی علی عباده

والحاصل أن الله منّ علی الإنسان بالنعم الجِسام، ثم مَنّ عليه قولاً في خصوص الهداية، ثم لا يسأل يوم القيامة عن سائر النِعم المسوغة التي صرفها الإنسان في الحلال وإنما عن خصوص الهداية.

ثم إنه يستفاد من قوله: {مَنَّ} أمران:

1- إن إرسال الرسل فضل من الله تعالی لا أنه واجب عليه، فکان يمکنه خلق الناس کالحيوانات، لکن حکمته اقتضت المنّ عليهم بنعمة العقل ثم إرسال الرسل ليثيروا لهم دفائن العقول ويعلموهم ما لا طريق للعقل إليه، وبذلک يکملوا لينال کل أحد الجزاء بالمقامات العالية حسب قابليته وطاعته، وحيث کان ذلک مِنّة حَسُن صُنعه فضلاً منه تعالی.

فيلزم أن تُری النعم جميعاً مجتمعة، لا أن نُجزّءها ثم نحکم بالوجوب عليه في بعضها، بمعنی أن علينا أن ننظر بشکل مجموعي إلی نعمة الخلق ونعمة العقل ونعمة الهداية بإرسال الرسل وکذلک سائر النعم وحينئذٍ نری جميعها مِنن من غير وجوب عليه تعالی، نعم لمّا نظر بعض المتکلمين إلی هذه النِعم نظرة متجزأة ذهبوا إلی وجوب الهداية عليه، لأنه لولاها کان الخلق عبثاً، والله يتعالی عن العبث والقبيح!! فهؤلاء جزّؤوا نعمه بأن نظر إلی أصل الخلق بنظرة منفصلة وبعد ذلک حکموا عليه بوجوب الهداية، وهذا خطأ منهجي، والله العاصم.

2- إن العقل هو أداة الإنسان لتمييز الصالح عن غيره، لکنه لوحده

ص: 498


1- الکافي 6: 280؛ البرهان في تفسير القرآن 10: 398 فما بعد.

لايکفي، بل لابدّ مِن أن يقترن بالعلم، فالعاقل الذي لايعلم بخطر محدق به لايتخذ الإجراءات اللازمة کالهرب مثلاً، ولذا لابد من اقتران العقل بالعلم، وذلک العلم نوعان: فقد يحتاج الإنسان إلی سنوات طوال للوصول إليه عبر التأمل والتجربة وأحياناً بحاجة إلی آلاف السنين، وقد لايتمکن الإنسان من الوصول إليه بنفسه أبداً، فکان من لطف الله تعالی علی الأنام بأن أرسل الرسل حتی يختصروا الطريق في النوع الأول ويتمکنوا من الوصول إلی النوع الثاني.

قوله تعالی: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} هي مِنة عامة لکن خصّ المؤمنين بالذکر لأنهم المستفيدون، أو لتحريضهم لزيادة الاتّباع، أو لأنه صار نقمة علی الکفار بسوء اختيارهم.

السادس: قوله تعالی: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ...} الآية.

مضی بعض الکلام في تفسير الآية 129 و151 من سورة البقرة، فراجع.

والآية تتضمن بيان نِعم جِسام وهي:

1- {بَعَثَ فِيهِمْ} وهذه نعمة عظيمة، بمعنی أن الله شرّفهم بأن أرسل لهم ما يُصلح أمورهم، ولم يترکهم هملاً، فأن يُرسل العالي رسالة إلی الداني مفخرة وعزة، ولذا تری الناس يفتخرون برسالة عظيم لهم، کيف والمرسل هو الله تعالی والمرسل إليه هم المخلوقون المملوکون له سبحانه.

2- {رَسُولًا} فلم يکن البعث مجرد إرسال قرطاس فيه التعاليم، کما طلب ذلک بعض المشرکين، بل کان ذلک عبر رسول، وهذا زيادة في التشريف، ومزيد في سبب الهداية.

ص: 499

3- {مِّنْ أَنفُسِهِمْ} أي من البشر يرونه ويقتدون به ويتعلمون منه، ولم يکن من الملائکة حيث إن ترکيبتهم تختلف عن ترکيبة البشر فلا يمکن الاقتداء بهم، إلاّ لو ظهروا بشکل بشر قال تعالی: {وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}(1) فأيّ حاجة إلی التلبيس بأن يکون ملکاً ملبساً بصورة البشر بعد إمکان إرسال بشر مباشرة.

4- {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ} أي القرآن، أو البراهين والدلائل، يذکّرهم بما في فطرتهم ويثيرلهم دفائن عقولهم، والأول - أي کون المراد من الآيات القرآن - أنسب.

5- {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهّر نفوسهم وقلوبهم وأجسادهم وأعمالهم من الرجس والرين، بوعظه وإرشاده وبما يعلّمهم من الأحکام.

6- {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ} أي يفسّر لهم القرآن وما فيه من المعارف والحقائق.

7- {وَالْحِكْمَةَ} أي إحکام الأمور وذلک بوضع الأشياء في مواضعها، ومنه تعليم الشريعة والأخلاق والآداب ونحوها.

قوله: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} وهذا يزيد النعمة کالماء بعد العطش والطعام بعد الجوع الشديد.

والحاصل: إن هذه النِعم العظيمة التي جمعها الله تعالی في إرسال رسوله کان لابد لهم من شکرها بإطاعة هذا الرسول وتوقيره والاعتذار منه عند مخالفتهم إياه، لا أن يقابلوها بالکفران، فما فعلوا يوم أ ُحد کان کفراناً،

ص: 500


1- سورة الأنعام، الآية: 9.

فلابد لهم من تصحيح أمورهم.

السابع: قوله تعالی: {أَوَلَمَّا أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا...} الآية.

رجوع لتذکيرهم بأن الهزيمة کانت بسبب عصيانهم، وتذکير لهم بأنهم لما أطاعوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في غزوة بدر انتصروا انتصاراً عظيماً کان ضِعف انتصار المشرکين في غزوة أحد.

أو لمّا ذکر تعالی أنهم من قبل کانوا في ضلال مبين أراد تحذيرهم من الارتداد والانقلاب علی الأعقاب، فلا زال آثار ذلک الضلال موجود، ولحدّ الأن لم تنتفعوا الانتفاع الکامل من بعث الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فعليکم الزيادة في الاهتداء من نوره.

وقوله: {قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا} حيث قتلوا سبعين من المشرکين وأسروا سبعين في غزوة بدر، وأما في غزوة أ ُحد فقد قُتِل من المسلمين سبعون فقط.

وقوله: {أَنَّىٰ هَٰذَا} استفهام علی سبيل الإنکار، أي کيف قُتلنا وقد وعدنا الله النصر؟ أو کيف لم ينصرنا الله ونحن مسلمون وهم کفّار.

وقوله: {قُلْ هُوَ...} بيان لأمرين إجابة عن سؤالهم واستنکارهم.

1- إنکم سبب الهزيمة حيث خالفتم أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

2- إن الله لم يعجز عن نصرکم حيث إنه علی کل شيء قدير، وإنما خذلکم بترک نصرکم عقوبةً لکم علی مخالفتکم.

وقد روي أن الحُکم الابتدائي في أسری بدر کان القتل، فاختار المسلمون الفداء، وشرط عليهم أنکم إن قبلتم الفداء قتل منکم في القابل

ص: 501

بعدتهم، فقالوا رضينا بذلک فإنا نأخذ الفداء وننتفع به، وإذا قتل منا فيما بعد کنّا شهداء(1).

فالمعنی أن استشهاد هؤلاء کان بسبب اختيارکم أنتم في بدر فکيف تستنکرون الآن ذلک؟ ويؤيده أنهم تمنّوا الشهادة يوم بدر کما قال تعالی: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ}(2)

کما مرّ، فحيث أرادوا أخذ الفدية من أسری بدر وکان ذلک محبوباً لهم، کما أنهم تمنوا الشهادة وکانت محبوبة لهم فقبلوا الشرط حيث جمعوا محبوبين المال والشهادة في العام القابل.

لکن من المعلوم أن الإنسان قد يتمنی الأمر المحبوب الصعب، لکنه مجرد لقلقة لسان أو خاطرة في القلب، فإذا جدّ الجدّ تبيّن عدم صحة تمنّيه، فهکذا حال کثير من الناس يحبون الثواب والمقامات العالية ويتمنون التضحية لأجل الوصول إليها، لکن حين العمل ينکصون علی أعقابهم.

ص: 502


1- التبيان في تفسير القرآن 3: 40.
2- سورة آل عمران، الآية: 143.

الآيات 166-168

اشارة

{وَمَا أَصَٰبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَٰكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَٰنِ يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ قُلْ فَادْرَءُواْ عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (168)}

القسم السابع: المنافقون الذين لم يشاركوا في الغزوة

166- ثم يعطف الله تعالی الکلام إلی موقف صنف آخر حول غزوة أ ُحد وهم المنافقون الذي رجعوا قبل الغزوة، ومهّد لذلک تمهيداً فيه ردّ لکلامهم وموقفهم فقال: {وَمَا أَصَٰبَكُمْ} من القتل والجرح {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} المسلمون والمشرکون يوم أ ُحد {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} إذنه التکويني الذي هو إيجاد الأشياء فالله أنزل المصيبة عليکم عقوبة أو تمحيصاً.

وهناک فائدة أخری: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} أي ليظهر ما علمه الله وذلک بتمييز المؤمنين من غيرهم.

167- {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ} بفعلهم حيث انخزلوا يوم أ ُحد، وکانوا ثلاثمائة رجل مع رأسهم عبد الله بن أبي، {وَ} کفروا بقولهم قبل القتال وبعده، أما قبل القتال فقد {قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ} مع المسلمين إلی الغزوة

ص: 503

و{قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ} عن بلدکم وأهلکم وأموالکم ف {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا} أي ليس هذا قتالاً بل هو إلقاء النفس في التهلکة إذ کان عليکم أن تتحصنوا في المدينة {لَّاتَّبَعْنَٰكُمْ} في الخروج إلی أ ُحد، وهؤلاء بفعلهم النفاق وبقولهم هذا {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ} يوم نافقوا وقالوا قولتهم {أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَٰنِ} لأنهم أظهروا کفرهم الباطني حيث إن المنافق يتظاهر بعمل المسلمين، لکنهم هنا لم يتظاهروا فکانوا أقرب إلی الکفر عملاً بعد کونهم کفاراً قلباً، {يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم} بإظهار الإسلام {مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} التي أحاط بها الکفر، أو قولتهم هذه يعلمون کذبهم فيها، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} فيجازيهم عليه، وهذا تحذير منهم، أو لبيان أن التمييز ليس لأجل أن يعلم الله بل لأجل أن يظهر علمه إذ هو أعلم بهم وبما في قلوبهم.

168- وأما نفاقهم بقولهم بعد القتال فهُم {الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ} أي حول إخوتهم في النسب وهم المؤمنون الذي استشهدوا في المعرکة {وَقَعَدُواْ} أي والحال أن هؤلاء المنافقين لم يجاهدوا، قالوا رجماً بالغيب: {لَوْ أَطَاعُونَا} بعدم الخروج عن المدينة {مَا قُتِلُواْ} کما نجونا نحن! {قُلْ} دحضاً لشبهتهم: إن کان الموت بأيديکم {فَادْرَءُواْ} ادفعوا {عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ} حين يأتيکم {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} في أن قعودکم کان سبباً لبقائکم.

بحوث

الأول: تتضمن هذه الآيات بيان موقف طائفة أخری من غزوة أ ُحد وهم المنافقون الذين لم يشارکوا في المعرکة ورجعوا عنها، وذلک لأن رسول

ص: 504

الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قد استشار أصحابه، فأشار عبد الله بن أبيّ بالتحصّن بالمدينة، وأشار الأکثر بالخروج إلی أ ُحد، فرَجّح الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الرأي الثاني، فخرج الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وانخزل عبد الله بن أبي وثلاثمائة معه مثبطين الباقين بحيث کاد يتبعه طائفتان من المسلمين، وقد مرّ تفصيله في تفسير الآية 122، فلما انهزم المسلمون وجد المنافقون ذريعة للهجوم وتکذيب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فأتبعوا کلامهم السابق بکلام آخر هو في صورة الشفقة والتأسف علی القتلی لکن واقعه تکذيب ودعوة إلی الارتداد.

والله تعالی يمهّد لردّهم وبيان نفاقهم بجواب عن شبهتهم، وهو من بديع الأسلوب، حيث تُردّ الشبهة قبل بيانها، لئلا تستمکن في النفوس إن ذکرت أولاً، وذلک لأن الأذهان قد تکون فارغة وقد تتقبل أول ما يُلقی إليها بحيث يصعب اِقتلاعه بعد ذلک، ولذا قد يکون ذکر الشبهة أولاً هو سبب قبولها من بعض أصحاب النفوس الضعيفة بحيث لايمکن اقتلاعها بعد ذلک بالجواب الصحيح، فلابد حينئذٍ من ذکر الجواب أولاً أو التمهيد له، وبعد ذلک يتم ذکر الشبهة ثم الرجوع إلی جوابها مرة أخری بالجواب السابق أو بجواب جديد، وهذا من دأب القران الکريم في تفنيد کثير من الشبهات.

الثاني: قوله تعالی: {وَمَا أَصَٰبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ}.

بيان لحقيقة وهي أن کل شيء ومنه المصائب ومنها مصائب يوم أ ُحد کلّها بإذن الله تعالی، لأنّه المالک والمدبّر والمهيمن، فلا يقع شيء في ملکه إلا بإذنه، والمراد هنا الإذن التکويني، وهذا الاذن قد يُراد به الخذلان أي ترککم وشأنکم ولم يمنع الکفار عنکم، وقد يراد به الايجاد أي إن الله

ص: 505

تعالی أنزل المصائب عليکم من الهزيمة واستشهاد سبعين وجرح آخرين، نعم إنه حکيم فهذا التدبير کان بسبب عصيانکم، فأراد تعالی عقوبة العصاة وتمحيص المؤمنين واتخاذ شهداء وتعليمکم الأمور، وفي الحقيقة هذه الآية کالتتمة للآية السابقة، فإنه تعالی حيث قال: {هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} أراد أن لايتوهم أحد التفويض الکامل بحيث يعزل الله تعالی عن ملکه بزعمه، بل بيان أن العصيان سبب تقدير الله تعالی لعقوبة العصاة وقد يکون ذلک بشکل مصائب، فکل الأمور بتقدير وقضاء منه تعالی لکن ليس ذلک بمعنی الجبر أيضاً فللإنسان الاختيار وبحسب ما يختار يُجازي، وهذا هو معنی (الأمر بين الأمرين) المذکور في الروايات الشريفة(1).

الثالث: قوله تعالی: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ}.

هذا إما استيناف لبيان فائدة أخری من فوائد غزوة أحد، حيث تمّ تمييز المؤمنين عن المنافقين، وقبل ذلک لم يکونوا مُمَيَّزين لعدم مرورهم بامتحان صعب يظهر به حقيقة کل شخص، فلم يکن قبل ذلک إلا غزوة بدر وکان النصر فيها کاسحاً بما لايترک مجالاً لإظهار نفاق أيِّ منافق، بل لعلّ کل منافق کان يريد أن يکون له سهم من النصر، وکما في المثل (للانتصار ألف أب والهزيمة يتيمة).

أو عطف علی {هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}، فيکون ذاک لبيان سبب المصيبة، وهذا لبيان الغاية منها.

أو عطف علی {بِإِذْنِ اللَّهِ} وذلک لبيان سبب هذا الإذن.

ص: 506


1- الکافي 1: 158.

أو عطف علی قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} أي الله قادر ويريد أن يظهر علمه.

وفي معنی قوله: {وَلِيَعْلَمَ} وجوه ثلاثة:

1- أن يکون العلم بمعنی التمييز، بوضع السبب موضع المسبّب، لأن العلم سبب للتمييز، فالمعنی إن الله کان يعلم أزلاً فأراد أن يميز بينهم خارجاً.

2- أو بمعنی ليظهر ما علمه الله أزلاً، بمعنی أن الله شاء أن تعلموا أنتم أيضاً بما هو عالم به فجعل غزوة أ ُحد سبباً لعلمکم، قال تعالی: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٖ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}(1).

3- أو بمعنی ليتحقق معلومه خارجاً، أي عَلِم أزلاً بأن هؤلاء سينافقون فأراد أن يتحقق المعلوم خارجاً.

وليس بمعنی حدوث العلم له سبحانه، لأنه منزه عن الجهل، فهو عالم بما کان قبل کونه، وعالم بما لم يکن، ولا حدود لعلمه تعالی.

والحاصل: إن هذا الامتحان العسير صار سبباً لظهور إيمان المؤمنين بصبرهم وثباتهم وحسن معتقدهم، ولظهور نفاق المنافقين بانخزالهم وبأقوالهم.

وقوله: {الَّذِينَ نَافَقُواْ} ولم يقل المنافقين کما قال: {الْمُؤْمِنِينَ}، لعلّه لأجل أن أکثرهم لم يکونوا منافقين، لکنهم نافقوا حينذاک، بمعنی أنهم أسلموا في البداية لا عن إيمان مستحکم وإنما أسلموا مع الناس عامة فلم يکونوا مؤمنين لعدم کون إيمانهم عن قناعة، ولم يکونوا منافقين لأنهم لم يبطنوا الکفر، بل کانوا مسلمين لمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، لکن هذا

ص: 507


1- سورة البقرة، الآية: 255.

الموقف الصعب جعلهم ينافقون بأن يبطنوا الکفر، عکس الثابتين الذين آمنوا من البداية ولم تکن الغزوة إلا سبباً لزيادة إيمانهم ولذا عبّر عنهم بالمؤمنين.

ويحتمل أن يکون قوله: {نَافَقُواْ} بيان لزيادة نفاقهم، أي هؤلاء کانوا منافقين، والمصيبة يوم أ ُحد زادتهم نفاقاً، قال تعالی: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}(1).

الرابع: قوله تعالی: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ}.

بيان لصفة أخری من صفات المنافقين بعد ذکر تخاذلهم وذلک بطعنهم في المؤمنين وتحيّن الفرض للايقاع بهم وإلقاء الشبهات خاصة حين المصائب، وهذا دأب المبطلين عادة حيث يحاولون ربط انتکاسات المؤمنين بدينهم، وربط انتصارات الکفار بطريقتهم، وهو استغلال حالة الضعف النفسي، في المهزوم لإلقاء الباطل، عکس المؤمنين الذي ينتهزون الفرص للتذکير بالفطرة واستثارة العقول وتقريب الناس إلی الحق، فلا يربطون القضايا إلاّ بعللها الواقعية.

وقوله: {وَقِيلَ لَهُمْ} عطف علی نافقوا، وفي الحقيقة إن العطف هو في {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا} أي الذين نافقوا وقالوا کفراً، لکن قدّم {وَقِيلَ لَهُمْ...} للتمهيد لأن قولهم کان جواباً لهذا القول، فالمعنی نافقوا بعملهم بعدم المشارکة في الجهاد کما أنهم قالوا کلمة الکفر بأفواههم، ومن ذلک يتضح

ص: 508


1- سورة التوبة، الآية: 124-125.

أنه عطف کفر قولي إلی نفاق عملی، کما قال تعالی في وصف المنافقين: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ}(1).

وقوله: {أَوِ ادْفَعُواْ} يدل علی محبوبية القتال دفاعاً عن النفس والأهل والمال حتی لو لم يکن بقصد القربة، وهذا وإن لم يکن جهاداً وليس فيه أجره، إلاّ أنه حسن عقلاً حيث إنه دفع للظلم ودفاع عن النفس وما يتعلّق بها تجاه المعتدي، ومحبوب شرعاً بدلالة هذه الآية وغيرها، وقد يتفضل الله عليه بالثواب کما يظهر من بعض الأخبار کقوله: «المقتول دون ماله شهيد»(2)،

وقوله: «من قتل دون عياله فهو شهيد»(3). لکنه لايبلغ ثواب المجاهد في سبيل الله تعالی.

فيکون نظير الأمور التوصلية المحبوبة شرعاً التي لايشترط فيها قصد القربة، کالکدّ علی العيال لتحصيل الرزق وکالنظافة وغيرها التي حث عليها الدين واستحبّها ولم يشترط فيها قصد القربة، نعم لو أمکن قصد القربة وقصدها کان ثوابه مضاعفاً.

سؤال: هؤلاء المنافقون کانوا قد أمنوا جانب الکفار فکيف يقال لهم {ادْفَعُواْ}؟

والجواب: إن المنتصرين في الحروب لا يميزون عادة بين من کان معهم ومن لم يکن، فإذا فتحوا مدينة نهبوها ونکّلوا بأهلها من غير تمييز

ص: 509


1- سورة التوبة، الآية: 74.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 132.
3- تهذيب الأحکام 6: 157.

عادة، وفي المدينة کان منافقون بکثرة وقد انخزل معهم قبل المعرکة ثلاثمائة ولهؤلاء بيوت مبثوثة في المدينة وبعضهم غير معروف للکفار کما أن جيش الکفار کان متشکّل من أصناف مختلفة وفيهم الرعاع والأحباش وحتی أشرافهم کانوا جشعين، فلم يکن هناک ضمان للمنافقين أبداً لو کان الکفار يستولون علی المدينة.

وحتی في عکس ذلک في جيش الإسلام بقيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وانضباط الجيش لم يکن هناک أحياناً ضمان من بعض أفراد الجيش، ولذا أمر الله تعالی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) بالصلح في الحديبيّة لحفظ المسلمين المتخفين في مکة فقال: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَٰتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَُٔوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيْرِ عِلْمٖ}(1) أي لأذن الله لکم في قتال أهل مکة يوم الحديبيّة.

الخامس: قوله تعالی: {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَٰكُمْ...} الآية.

والمعنی إنهم قالوا ليس هذا قتال بل هو إلقاء للنفس في التهلکة، وذلک لأن عبد الله بن أبيّ کان يری لزوم البقاء في المدينة والتحصّن بأسوارها أو قتالهم في أزقتها لخوفه من قوة المشرکين وکثرة عددهم وعدتهم، ولکن أکثر المسلمين کانوا يرون الخروج فرجّح الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الرأي الثاني، فما کان من عبد الله بن أبي والمنافقين معهم إلاّ أن رجعوا قبل المعرکة خوفاً من المشرکين، فلما قيل لهم: تعالوا للقتال، قالوا: لايصح أن يُسمّی هذا قتالاً، بل هو تهلکة، وذلک لأن (القتال) مصدر باب المفاعلة، وهو ما يکون بين طرفين أي يقتل هذا من ذاک ويقتل ذاک من هذا، فزعم المنافقون أن

ص: 510


1- سورة الفتح، الآية: 25.

معرکة أ ُحد ليست قتالاً بل هي قتل من طرف واحد أي سيحصد المشرکون کل المسلمين!!

وقوله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ...} لأنهم عصوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وترکوا فريضة الجهاد التي هي من أعظم الفرائض، والمنافقون يبطنون الکفر لکنهم يتظاهرون بالإسلام فيؤدون الفرائض العلنية خداعاً للمؤمنين، فإذا ترکوا الفرائض علناً کان ذلک إظهاراً لکفرهم، وبعبارة أخری المنافق يقع في نقطة الوسط فقلبه کافر مع الکفار وعمله مع المسلمين کما قال تعالی: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا}(1)، لکن إذا ترک فريضة علناً ترجّح جانب الکفر عنده.

أو المعنی هم لأهل الکفر أقرب منهم لأهل الإيمان، لأن فعلهم بترک الجهاد وقولهم تثبيطاً للمؤمنين کانا تقوية للمشرکين.

وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم...} إنما ذکر الأفواه مع أن القول لايکون إلا من الفم، لتأکيد نفي تساوي قلوبهم مع أقوالهم، أي هذا القول لم يخرج من القلب وإنما منحصر باللسان ففي أفواههم الإيمان وقلوبهم خالية منه.

ويمکن أن يکون المراد أن قولهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا...} لايعتقدون به وإنما يذکرونه فراراً من المشارکة في القتال، أو عناداً للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث خالف رأيهم في عدم الخروج، کما قال تعالی: {وَيَسْتَْٔذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}(2).

ص: 511


1- سورة النساء، الآية: 143.
2- سورة الأحزاب، الآية: 13.

وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ}.

کالتفسير لقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ}، فليس الاختبار لأجل أن يعلم بل أن يظهر علمه کما مضی.

وقوله: {أَعْلَمُ} بصيغة أفعل التفضيل إما بمعنی أعلم من أنفسهم بنفاقهم لأن الإنسان قد يغفل عمّا يکتمه أو عن بعض تفاصيله لکن الله تعالی محيط بهم، أو بمعنی أعلم من المسلمين بهم، لأنه تعالی يعلمه مفصلاً بإحاطته، والمسلمون يعلمونه إجمالاً وبالقرائن.

السادس: قوله تعالی: {الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ وَقَعَدُواْ...} الآية.

هذا قولهم بعد المعرکة کما أن الآية الماضية ذکرت قولهم قبل المعرکة، فلما انهزم المسلمون وقتل منهم سبعون استغل هؤلاء المنافقون المصيبة لبيان صحة موقفهم فأظهروا نفاقهم بصورة تأسف وتحسّر علی الشهداء الذين قتلوا في المعرکة.

قوله: {لِإِخْوَٰنِهِمْ} أي حول إخوانهم القتلی، أو قالوا لإخوانهم الأحياء الناجين من المعرکة وضمير أطاعونا وقتلوا يرجع إلی القتلی من باب الاستخدام.

وقيل: إنما ذکر أخوتهم لهم ليکون مع انضمام قوله: {وَقَعَدُواْ} أوقع تعيير وتأنيب عليهم، فإنهم قعدوا عن إمداد إخوانهم حتی أصابهم ما أصابهم من القتل.

وقوله: {وَقَعَدُواْ} أي ذمّوا الشهداء مع خذلانهم لهم، فأضافوا رذيلة الذم إلی رذيلة القعود.

ص: 512

وقوله: {فَادْرَءُواْ عَنْ أَنفُسِكُمُ...} هذا جواب علی شبهتهم، وحاصله أن أسباب الموت کثيرة ولا تنحصر في الجهاد، کما أن أسباب النجاة متعددة فلا تنحصر في القعود، فأکثر المجاهدين رجعوا بالسلامة حيث کانوا سبعمائة استشهد منهم سبعون، کما أن أکثر القاعدين لم يموتوا وقد روي أنه مات بعضهم في ذلک اليوم.

بل کان لابد للقتال أن يقع سواء خرج المسلمون أم تحصنوا في المدينة وقاتلوا في أزقتها، فهل کان يضمن المنافقون عدم قتلهم لو کان الرأي رأيهم بالبقاء في المدينة؟

بل قد يکون العکس بأن يُدفع العدو بالقتال، ويغلب العدو بالقعود فيَغلب ويَقتل.

والحاصل: إن الموت والحياة بيد الله تعالی، وقد قضی الموت علی الجميع فأن يموتوا وهم ممتثلون لأمره تعالی خير لهم من أن يموتوا وهم عصاة.

وقيل: المعنی إذا کنتم قادرين علی دفع الموت عمّن کتب عليه القتل لو تبع نصائحکم المزعومة، فادرؤوا عن أنفسکم الموت فإن ذلک أحری لکم، لکنکم غير قادرين علی دفع الموت عن أنفسکم وهي أعز عليکم من أيّ نفس أخری فکيف تدفعونه عن غيرکم؟!

ص: 513

الآيات 169-171

اشارة

{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَۢا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)}

القسم الثامن: شهداء غزوة أحد

اشارة

169- ثم يذکر الله تعالی حال طائفة أخری وهم الذين استشهدوا في غزوة أحد، وفيه ردّ علی مقولة المنافقين أيضاً فيقول: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} لا تظن أيها السامع {الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو کل ما شرعه الله تعالی لإقامة الحق ودحض الباطل {أَمْوَٰتَۢا} کسائر الأموات، {بَلْ} هم {أَحْيَاءٌ} بحياة برزخية طيّبة تفوق حياة سائر الموتی، فهم {عِندَ رَبِّهِمْ} في قُربه المعنوی وهذا أکبر النعم، ثم إنهم {يُرْزَقُونَ} بالأکل والشرب ونحوهما.

170- ومرتاحون نفسياً فيما يتعلق بهم وبإخوانهم حالکونهم {فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} شرف الشهادة، {وَيَسْتَبْشِرُونَ} أي يفرحون بالبشارة المتعلّقة {بِالَّذِينَ} بالمؤمنين الأحياء الناجين من المعرکة ف {لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} بالشهداء {مِّنْ خَلْفِهِمْ} بقوا في الدنيا، وتلک البشارة هي {أَلَّا} أن لا {خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من المشرکين فهم في أمان، وهذا ما حدث حيث لم يتمکن

ص: 514

المشرکون من الرجوع لاستئصال المسلمين، {وَلَا هُمْ} الشهداء أو الباقون {يَحْزَنُونَ} فالشهداء لايحزنون ما فقدوه من الدنيا، أو الباقون لايحزنون علی ما أصيبوا به من فقد الشهداء لعلمهم بالکرامة التي نالوها.

171- أولئک الشهداء کما فرحوا بثواب البرزخ کذلک {يَسْتَبْشِرُونَ} بثواب الآخرة: {بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} بالثواب الجزيل الموعود {وَفَضْلٖ} زيادة علی ما وُعدوا أو ما توقعوا هذا بالنسبة إلی ثوابهم بأنفسهم، {وَ} کذلک يستبشرون ب {أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} إخوانهم الذين جاهدوا ولم ينالوا درجة الشهادة.

بحوث

الأول: هذه الآيات الثلاث تتضمن حال الشهداء الذين قتلوا في غزوة أ ُحد وبيان حالتهم الطيّبة في البرزخ وفي الآخرة، وأنهم غير نادمين علی عدم إطاعتهم للمنافقين الذين قالوا عنهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ}، بل الشهداء فرحون لأنفسهم ومستبشرون للمؤمنين الذين لم ينالوا درجة الشهادة، عکس المنافقين الذين هم قلقون علی أنفسهم ويظهرون الأسف علی مقتل إخوانهم، وهم مع ذلک کله لا أجر لهم بل تنتظرهم عقوبة شديدة في البرزخ وفی الآخرة.

الثاني: قوله تعالی: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَۢا}.

قد مضی بعض البحث في سورة البقرة في قوله تعالی: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتُۢ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}(1)، فراجع.

ص: 515


1- سورة البقرة، الآية: 154.

فالمنافقون کانوا يظهرون أسفهم علی إخوانهم لأنهم يزعمون أن الموت هو نهاية کل شيء ويتحول الإنسان بعده إلی جماد! لکن الحقيقة هي أن هناک حياة بعد الموت في البرزخ وفي الآخرة، والمؤمنون منعّمون في البرزخ، فأيُّ ضير علی الشهداء بانتقالهم إلی حياة طيّبة خير من هذه الحياة الدنيوية.

قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} أي لاتزعم أيها السامع، أو الخطاب موجّه إلی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) من باب (إياک أعني واسمعي يا جارة).

معنی الشهيد

وقوله: {الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} کل الآيات التي تتحدث عن الشهداء عبرت عنهم بهذا التعبير، واصطلاح الشهيد في القتيل في سبيل الله حقيقة متشرعيّة، ولذا لابد من حمل لفظ الشهيد في القرآن علی معناه اللغوي أي الشاهد، وفي الروايات علی معناه الاصطلاحي أي القتيل في سبيل الله.

ولعل سبب التأکيد علی هذه اللفظة في القرآن الکريم لبيان أن الأجر إنما يکون لکون القتل في سبيله تعالی، فمن قتل لا لإيمانه ولا في طريق الله تعالی أو کان جهاداً ولکن کانت نيته أمراً آخر ليس له هذا الأجر، فلا بد لتحقق کونه في سبيل الله أن يکون سبب الشهادة أمراً دينياً مرضيّاً لله تعالی، وأن يکون غرض الشخص هو ذلک الأمر الديني، فالمقتول لأمر دنيوي - حتی لوکان حسناً کالدفاع عن المال أو العرض - لا يقال له مقتول في سبيل الله، وکذلک من شارک في الجهاد لا لأجل الدين بل بطمع الغنيمة مثلاً فقتاله ليس في سبيل الله بل في سبيل الغنيمة.

و{سَبِيلِ اللَّهِ} هو کل أمر شرّعه الله تعالی وأمر به، فيشمل الجهاد

ص: 516

والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر والوعظ والإرشاد، ولذا کان شهداء بئر معونة من المقتولين في سبيل الله تعالی، وکانوا سبعين قارئاً للقرآن أرسلهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلی نجدٍ ليدعوا الناس إلی الإسلام بعد غزوة أ ُحد بأربعة أشهر، فأغار عليهم المشرکون وقتلوهم، ولعلّ ذلک کان من تداعيات الهزيمة في معرکة أحد، حيث تجرّأ المشرکون علی المسلمين.

ومن مصاديق الآية من قتلوا في ولاية الأئمة (عليهم السلام) ، لأن ولايتهم سبيل الله تعالی، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: هم والله شيعتنا حين صارت أرواحهم في الجنة، واستقبلوا الکرامة من الله عزوجل، علموا واستيقنوا أنهم کانوا علی الحق وعلی دين الله جلّ ذکره، فاستبشروا بمن لم يلحقوا بهم من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين(1).

ويحتمل کون الحديث تأويلاً للآية وبيان أن موتی الشيعة کالشهداء، وقد روت العامة والخاصة عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال من مات علی حب آل محمد مات شهيداً(2).

وقوله: {أَمْوَٰتَۢا} قيل: الموت هو بطلان الشعور والفعل، وليس کذلک هؤلاء الشهداء لأن شعورهم موجود وذلک بالفرح والاستبشار، وفعلهم مستمر بالرزق.

نعم الأحياء بالحياة الدنيوية لايشعرون بتلک الحياة کما قال تعالی: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتُۢ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}(3)، وذلک لأن عالم البرزخ غيب بالنسبة إلی من کان في عالم الدنيا، إذ لکل

ص: 517


1- الکافي 8: 156.
2- بحار الأنوار 23: 233؛ تفسير الرازي 27: 165؛ تفسير الثعالبي 5: 157 وغيرها.
3- سورة البقرة، الآية: 154.

عالم وسائل إدراک خاصة به، لذا يری المحتضر ما لا يراه الجالسون عنده قال تعالی: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(1).

الثالث: قوله تعالی: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.

حياة الجسد بالروح، وأمّا الموت فهو انفصال الروح عن الجسد، ولا تموت الروح بل تبقی حيّة إلی نفخ الصور، ثم يُفني الله کلّ شيء، ثم يعيدها يوم القيامة للحساب والجزاء، فجميع الأرواح بعد الموت تبقی حية، إلاّ أن أرواح الکفار معذّبة فلا خير لها في حياتها، وأرواح المؤمنين منعّمة إلا أن أرواح الشهداء في نعمة أکبر من أرواح المؤمنين الموتی الذين يتساوون معهم في الرتبة، فلذا الحياة البرزخية مختلفة فالکافر کالميت والمؤمنون درجات.

النّعَم للشهداء

ثم إن الله تعالی يکرم الشهداء بالنعم الجسمية العظيمة، وهي نعم مادية ومعنوية ونفسية.

1- أما النعمة المعنوية: فهي قربهم لله تعالی قرباً معنوياً لامکانياً - حيث إنه تعالی خالق المکان وهو منزه عن إحاطة المکان به - قال تعالی: {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}(2).

2- وأما النعمة المادية: فهي رزقهم، فإنهم يأکلون ويشربون ويتنعمون بسائر النعم، وذلک لأن الأحاديث دلّت علی أن الروح حينما تنفصل عن الجسد العنصري، تحلّ في جسد مثالي بصورة الجسد العنصري وهي من

ص: 518


1- سورة ق، الآية: 22.
2- سورة التوبة، الآية: 72.

عالم البرزخ لذلک لا نشعر بها، وأما العامة فقد رووا أنها في حواصل طير خضر(1)

لکن الأئمة (عليهم السلام) ردوا ذلک وبينوا أن المؤمن أکرم عند الله من أن تجعل روحه في حواصل هذه الطيور، بل تجعل في أجسام مثالية إلی يوم القيامة حيث ترجع إلی نفس الأجساد العنصرية التي کانت متعلقة بها في الدنيا وقد ذکرنا تفصيله في شرح أصول الکافي فراجع.

وعلی کل حال فإن المؤمنين منعمون في البرزخ يأکلون ويشربون بأجسامهم المثالية، والکفار معذّبون إلی يوم القيامة.

3- وأما النعمة النفسية: فهي سرورهم بالشهادة، واستبشارهم بإخوانهم المؤمنين الأحياء، واستبشارهم بما سينالونه في الآخرة.

فقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} بيان للثواب المعنوي بالقرب، وقوله: {يُرْزَقُونَ} بيان للنعمة المادية کالأکل والشرب.

الرابع: قوله تعالی: {فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.

بيان للنعمة النفسية، وهو أنهم غير نادمين علی شهادتهم وفقدانهم الحياة الدنيوية ولا يأسفون عليها، عکس الإنسان الذي قد يفقد شيئاً ويعوّض عنه بآخر لکن تبقی نفسه تتوق إلی ما فقده أو يرجّحه علی ما أ ُعطي، کمن يسافر للقاء عظيم فقد يکرمه بأحسن الطعام والشراب ويجعله في قربه، لکن تبقی نفس الرجل مشتاقة إلی الرجوع إلی أهله! وليس کذلک الشهداء بل هم فرحون بالشهادة ولا يرغبون في العودة إلی الدنيا.

وقوله: {فَرِحِينَ} حال أي الرزق مقرون بالفرح، ولذا لم يعطف.

ص: 519


1- الکافي 1: 67.

وقوله: {مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ} أي الشهادة، وقيل: النعم التي رزقهم الله في البرزخ، أو فرحين بذلک الرزق والقرب، والأول أنسب.

وقوله: {مِن فَضْلِهِ} من غير استحقاق، لأن کل نعمه تعالی فضل علی العباد، وقد مرّ أن الله تعالی أنعم علی الإنسان من غير وجوب عليه ولا حق عليه، بل ابتدأ بالفضل بأن خلقه ثم غمره بالنعم التي لا تُعد ولا تحصی وذلک فضل آخر، ثم أمره ونهاه وشرّع له الدين وذلک فضل ثالث لأن نفعه يعود للإنسان نفسه من غير حاجة لله تعالی، ثم وعده ثواباً علی طاعاته وذلک فضل رابع لعدم استحقاق ثواب عقلاً علی الشکر علی النعم، ثم يزيده علی ما وعده وهو فضل خامس.

ولا يخفی أن الشهادة منزلة عظيمة وبها تُنال الدرجات العلی فتقديرها لأحد فضل من الله عليه، لذا کثرت الأدعية في طلب الشهادة.

الخامس: قوله تعالی: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ}.

وهذا نعمة نفسية أخری، حيث إن الإنسان يهتم بأعزته وأحبابه، ويحب أن لايصيبهم مکروه، ويفرح بما نالوه من خير، ويحزن بما يصيبهم من شر.

و(الاستبشار) استفعال من البشارة، وباب الاستفعال يأتي لمعان(1)، لکن المناسب هنا أحد معنيين:

1- التحوّل، کقولهم استحجر الطين، أي تحوّل إلی حجر، وهذا في واقعه يرجع إلی الطلب فکأنه طلبه، وهذا المعنی مناسب لما نحن فيه، أي حين المعرکة کانوا في قلق علی مصير إخوانهم، لکن بعد الشهادة يتحولون

ص: 520


1- شرح النظام: 152.

إلی سرور وبشارة لمصير المؤمنين الباقين.

2- وبمعنی المجرد مثل قرّ واستقرّ حيث إنهما بمعنی واحد، ويمکن استفادة الزيادة والمبالغة منه، وهذا المعنی أيضاً مناسب أي مسرورين بالباقين.

وليس المعنی هنا طلب البشاره، وذلک لأن الشهداء يعلمون بها کما قال تعالی: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

ولا وجه لحمل الاستبشار علی معنی التمني بأنهم يتمنون أن يعلم إخوانهم الباقون أنهم نالوا هذه الکرامة کما في قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}(1) وذلک لقوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ} حيث عدّاه بالباء ولو کان المراد سؤالهم عن أخبارهم لکانت التعدية بعن أو من.

کما أنه لا وجه لحمل الاستبشار علی التمني، لأنه معنی مجازي ولا وجه للحمل عليه، فقوله تعالی هنا نظير ما قاله في الآية التالية: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٖ} وما قاله في: {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ}(2).

والباء إما للتعدية أي استبشارهم تعلق بالباقين، أو للسببية أي استبشارهم کان بسبب الباقين.

والحاصل: إن الآية تبيّن شفقة الشهداء ومحبتهم للمؤمنين الباقين، فالشهداء لم يکتفوا بتقديم أرواحهم بل يحبون دفع الضرر عن الباقين فيبشّرهم الله بذلک.

ص: 521


1- سورة يس، الآية: 26-27.
2- سورة التوبة، الآية: 111.

وفي التقريب: فهؤلاء المقتولون جمعوا بين خيرين: خير أنفسهم حيث تنعموا بنعمة الله سبحانه، وخير إخوانهم الذين من خلفهم حيث علموا بأنهم لاخوف عليهم، وذلک بخلاف من بقي ولم يجاهد، فإنهم جمعوا بين شرين: مشاکل حياة أنفسهم ومشاکل حياة إخوانهم، حيث لا يعلمون ماذا تکون عاقبة أمر أنفسهم وأمر إخوانهم(1).

وفي التبيين: فإن الإنسان إذا کان علی نعمة، وعلم أن إخوانه الذين ليسوا معه لهم مستقبل زاهر يکون في أشد أحوال الفرح والسرور(2).

وفي الکشاف: وفي ذکر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم علی ازدياد الطاعة، والجدّ في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء، وإصابة فضلهم، وإحماد لمن يری نفسه في خير فيتمنی مثله لإخوانه في الله، وبشری للمؤمنين بالفوز في المآب(3).

وقوله: {لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} أي لم يستشهدوا معهم، فالشهداء سبقوا، والباقون - وإن جاهدوا وأصيبوا - إلاّ أنهم لم يلحقوا بالشهداء، وکأنّ فيه إشعاراً بأنّ علی الباقين أن يأسفوا لفوت سعادة الشهادة عنهم.

وقوله: {مِّنْ خَلْفِهِمْ} أي في الدنيا، وکأنّ فيه إشعاراً بأن المؤمنين الباقين هم علی طريق الشهداء، فلعلّهم سيفوزون بالشهادة ولو بعد حين، کما قال تعالی: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن

ص: 522


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 418.
2- تبيين القرآن: 83.
3- الکشّاف 1: 336.

قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا}(1).

السادس: قوله تعالی: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

(أن) مفسرة أي سرورهم من جهة أنّ الباقين لاخوف عليهم، فکأنهم يقولون لهم ذلک، أو هو أمر بصيغة الخبر أي لاتخافوا، فأنتم آمنون وقد دفع الله شر الکفار عنکم.

ولعل المقصود حثّ الباقين علی الاستقامة والثبات وأن مستقبلهم زاهر ووعد لهم بالنصر.

وقوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} إما عطف علی لاخوف عليهم، أي الباقون لا خوف عليهم من المستقبل ولا يحزنون علی الماضي کما قال: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(2).

وأما عطف علی يستبشرون، فيکون وصفاً للشهداء، أي ولا يحزنون علی ما فاتهم من الدنيا وملذّاتها، لأن الله عوّضهم بخير منها، وهو يکفيهم أهلهم وأولادهم، والأول أنسب للسياق.

ثم إن عدم الخوف إمّا يرتبط بالدنيا أو البرزخ، فلا ينافي الفزع حين نفخ الصور حيث قال تعالی: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَٰخِرِينَ}(3)، وإمّا لدخول هؤلاء في الاستثناء.

السابع: قوله تعالی: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ...} الآية.

ص: 523


1- سورة الأحزاب، الآية: 23.
2- سورة الحديد، الآية: 23.
3- سورة النمل، الآية: 87.

1- الظاهر أن هذا تتمة استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم، فقد بينت الآية السابقة أنهم يستبشرون بالباقين بأن لاخوف عليهم ولاهم يحزنون، وهذه الآية تکمّل جهة الاستبشار بأن الباقين في نعمة الأمن وفضل من الله بانتصارهم علی المشرکين في المستقبل، مع ما ادّخر الله لهم من الأجر في الآخرة، فليست هذه الآية لبيان ثواب الشهداء، إذ قد بين أجرهم بقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ...}.

2- وقيل: الآية تأکيد لما في الآيتين الماضيتين، وذلک لتمکين وترکيز المعنی في النفس، لأن تکرار الأمور الغيبية يجعلها کالأمور المشاهدة، فيکون قوله: {بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ} تأکيداً لقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ...} فهو في أجر الشهداء، ويکون قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ...} تأکيداً لقوله: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ...} فهو في أجر المؤمنين الباقين.

3- وقيل: يستبشرون الأول بالنسبة إلی إخوانهم، والثاني بالنسبة إلی أنفسهم، وعليه فيکون الفرق بين هذا الاستبشار وبين قوله: {فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} أن فرحهم بالشهادة، واستبشارهم بالثواب. وما ذکرناه أولاً هو الأقرب.

و(النعمة) هي الحالة الحسنة التي يکون عليها الإنسان کالجِلسة(1)، وتعريفها: المنفعة التي يستحق بها الشکر إذا کانت خالية من وجوه القبح(2).

ص: 524


1- مفردات الراغب: 814.
2- مجمع البيان 2: 654.

و(الفضل) الزيادة والخير(1).

و(الأجر) الکِراء علی العمل(2)،

فهو عوض له.

ولايخفی أن کل نعمة هي فضل من الله تعالی، ولا استحقاق للإنسان بذاته عوضاً علی أعماله، کما مرّ مراراً.

فالآية في صدد بيان أمرين:

أحدهما: بيان رحمته تعالی، حيث يعطيهم ما وعدهم، ويزيدهم عليه بما لم يکونوا يتوقعون فقال: {بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} وهو الذي وعدهم به من الجزاء الحسن، و{فَضْلٖ} زيادة علی ذلک بما لم يکن قد وعدهم به.

وثانيهما: بيان عدله وأنه سبحانه لا يظلم، حيث إنّ من الظلم أن تأمر أحداً بعمل وتعده بثواب ثم لا توفيه ذلک الثواب، والله تعالی منزه عن الظلم وعن کلّ قبيح.

وذلک لأنه لا أحد يستحق شيئاً علی الله تعالی، لکنه سبحانه جعل حقاً عليه برحمته کما قال: {كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}(3)

وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(4).

والحاصل باعتبار هذا الحق العَرَضي - الذي لم يکن جعله عن استحقاق بل عن فضل - کان عدم الوفاء إضاعة، والله تعالی منزه عن ذلک.

وفي مجمع البيان: إنما ذکر ذلک - وإن کان غيرهم يعلم به أيضاً - لأنهم

ص: 525


1- مقاييس اللغة: 819.
2- مقاييس اللغة: 46.
3- سورة يونس، الآية: 103.
4- سورة الروم، الآية: 47.

يعلمونه بعد الموت ضرورة، وإنما يعلمونه في دار الدنيا استدلالاً، وليس الاستدلال کالمشاهدة، ولا الخبر کالمعاينة، فإن مع الضرورة والعيان يتضاعف سرورهم ويشتدّ ارتباطهم(1).

الی هنا ينتهي الکلام حول غزوة أحد.

ص: 526


1- مجمع البيان 2: 659.

الآيات 172-175

اشارة

{الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنۢ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَٰنَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)}

ثم يذکر الله تعالی غزوتين وقعتا بعد غزوة أحد، وهما غزوة حمراء الأسد وغزوة بدر الصغری، في سياق مدح المؤمنين بأنهم يطيعون الله ورسوله، وأنهم لايخافون من المشرکين، فقال:

172- أولئک المؤمنون موصوفون بأنهم {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ} أطاعوا الأمر بالخروج إلی حمراء الأسد {لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنۢ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ} في غزوة أ ُحد {الْقَرْحُ} الجرح {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ} بفعل الطاعات {وَاتَّقَوْاْ} تجنبوا المعاصي {أَجْرٌ عَظِيمٌ} فهؤلاء جرحوا في أ ُحد ولم يتوانوا فاستجابوا للأمر إلی الخروج لمطاردة المشرکين في اليوم الثاني.

173- أولئک المؤمنون لم يتوانوا مرة أخری حيث خرجوا في العام القابل إلی بدر الصغری مع التثبيطات، فهم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} کنعيم بن مسعود محذوراً لهم {إِنَّ النَّاسَ} أبا سفيان والمشرکين {قَدْ جَمَعُواْ

ص: 527

لَكُمْ} هيأوا العدد والعُدّة {فَاخْشَوْهُمْ } خافوهم فلا تخرجوا إليهم، {فَزَادَهُمْ} هذا التحذير {إِيمَٰنًا} إصراراً وعزماً علی المضيّ إلی الجهاد، {وَقَالُواْ حَسْبُنَا} يکفينا {اللَّهُ} فهو القادر علی دفع الضرر عنا {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} يتوکل أمورنا فيدبرها ويحفظنا.

174- {فَانقَلَبُواْ} رجع المؤمنون من کلتا الغزوتين {بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} کالعافية من الحرب والسلامة في أنفسهم {وَفَضْلٖ} زيادة في الثواب وربح في تجارة، حالکونهم {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} کالجراحة والکيد {وَاتَّبَعُواْ} أي وقد طلبوا {رِضْوَٰنَ اللَّهِ} بامتثالهم لأمره تعالی بالخروج {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} سيجازيهم في الآخرة بالثواب الجزيل.

175- {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ} المثبط عن الخروج {الشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ} أي يخوّفکم {أَوْلِيَاءَهُۥ} أي اتباعه من المشرکين {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} فامتثلوا أوامری {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} حيث إنهم يؤثرون خوف الله علی خوف الناس.

بحوث

الأول: اختلف المفسرون والمرويات حول شأن نزول هذه الآيات فبعضهم علی أنها نزلت في غزوة حمراء الأسد والتي کانت في اليوم الثاني بعد غزوة أحُد، وآخرون علی أنها نزلت في غزوة بدر الصغری والتي کانت بعد سنة من أحُد، والأقرب أن الآية 172 حول غزوة حمراء الأسد، والآية 173 حول غزوة بدر الصغری، لأن آثار الهزيمة في أ ُحد کانت کبيرة علی المسلمين، فلذا لمّا أمرهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في اليوم الثاني للخروج إلی مطاردة المشرکين لم يستجب منهم إلاّ القليل، وکذا لمّا أمرهم

ص: 528

بالخروج إلی بدر الصغری في العام القابل لم يستجب إلا سبعين، وکان من آثارها قتل مشرکي نجد سبعين مبلّغا أرسلهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بعد أربعة أشهر من غزوة أ ُحد إلی نجد حيث قتلوهم عند بئر معونة کما مرّ.

غزوة حمراء الأسد

أما غزوة حمراء الأسد:

فقد روي القمي في تفسيره أنه لما دخل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) المدينة، يعني بعد غزوة أحد، نزل عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد إن الله يأمرک أن تخرج في أثر القوم، ولا يخرج معک إلاّ من کانت به جراحة... فأقبلوا يضمّدون جراحهم ويداوونها، فأنزل الله علی نبيّه: {وَلَا تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}(1) ... فخرجوا علی ما بهم من ألم الجراح، فلمّا بلغ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بحمراء الأسد، وقريش قد نزلت الروحاء، قال عکرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع فنُغير علی المدينة، فقد قتلنا سَراتهم - أي أشرافهم - ، وکبشهم يعنون حمزة، فوافاهم رجل من المدينة فسألوه الخبر، فقال: ترکت محمداً وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونکم أجدّ الطلب، فقال أبو سفيان: هکذا النکد والبغي، قد ظفرنا بالقوم وبغينا، والله ما أفلح قوم قط بغوا، فوافاهم نعيم بن مسعود الأشجعي، فقال أبو سفيان: أين تريد؟ قال: المدينة لأمتار لأهلي طعاماً، قال: هل لک أن تمُرّ بحمراء الأسد وتلقی أصحاب محمد وتُعلمهم أن حلفاءنا وموالينا قد وافونا من الأحابيش، حتی يرجعوا عنا، ولک عندي عشرة قلائص أملأها تمراً وزبيباً؟ قال: نعم،

ص: 529


1- سورة النساء، الآية: 104.

فوافی من غد ذلک اليوم حمراء الأسد، فقال لأصحاب محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) : أين تريدون؟ قالوا: قريش! قال: ارجعوا، فإن قريشاً قد اجتمع إليهم حلفاؤهم، ومن کان تخلّف عنهم، وما أظن إلاّ أوائل القوم قد طلعوا عليکم الساعة، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوکيل، ما نبالي أن يطلعوا علينا، فنزل جبرئيل علی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: ارجع يا محمد، فإن الله قد ارعب قريشاً، ومرّوا لايلوون علی شيء، فرجع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) إلی المدينه(1).

غزوة بدر الصغری

وأما غزوة بدر الصغری:

فقد روي في مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) : أن أبا سفيان قال يوم أ ُحد حين أراد أن ينصرف: يا محمد موعدنا بيننا وبينک موسم بدر الصغری القابل إن شئت، فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ذلک بيننا وبينک، فلما کان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مکة... ثم ألقی الله عليه الرعب، فبدا له الرجوع، فلقي نعيم بن مسعود - وقد قدم معتمراً - فقال له أبو سفيان: ... وقد بدا لي أن لا أخرج، وأکره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلک جرأة، فالحق بالمدينة فثبطهم، ولک عندي عشرة من الإبل - ثم ذکر أنه جاء إلی المدينة وثبّط أصحاب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فکرهوا الخروج - فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدی، فأما الجبان فإنه رجع، وأما الشجاع فإنه تأهّب للقتال وقالوا: حسبنا الله ونعم الوکيل، فخرج رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في أصحابه حتی وافوا بدر الصغری... ولم يلق رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه أحداً من المشرکين ببدر، ووافق السوق، وکانت لهم تجارات، فباعوا، وأصابوا

ص: 530


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 501-502، عن تفسير القمي.

للدرهم درهمين، وانصرفوا إلی المدينة سالمين غانمين(1).

الثاني: قوله تعالی: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...} الآية.

قوله: {الَّذِينَ} صفة للمؤمنين المذکورين في الآية السابقة، بأنهم يطيعون الله والرسول حتی في أشد الحالات والظروف.

ولعلّ التوصيف لزيادة تمييزهم عن المنهزمين أو المنافقين، ولذا خصّ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الدعوة بمن کانت به جراحة، لأن هؤلاء اثبتوا صدق نيتهم عکس المنهزمين الذين لم يُصابوا بکلم ولا جرح.

أو لأن الله تعالی أراد أن يخصّهم بميزة ويشرّفهم بفضيلة، فلعل بعض المنهزمين تاب وکان يريد الخروج إلاّ أن الله تعالی أمر بخروج خصوص المجروحين ليخصّهم بالثواب من غير مشقة جزاءً لحسن موقفهم وثباتهم في غزوة أحُد، والتائب من الذنب وإن کان کمن لا ذنب له إلاّ أن المطيع الثابت قد نال ثواب إطاعته فيزيده الله من فضله فيوفقه لثواب آخر، ولعل هذا من الفروق بين المطيع وبين التائب.

أو إن ذلک کان أرعب لقلوب المشرکين، فالجريح الراجع إلی الجهاد أشد عزيمة وأقوی داعياً للانتقام، فکما لم ينهزم أولاً سوف لاينهزم ثانياً، أما الذي انهزم قبل القرح فاحتمال انهزامه بعده وارد بل الدواعي أقوی.

قوله: {الَّذِينَ} قيل: کان مجموعهم سبعين، وکان طلائعهم عشرة بقيادة أمير المومنين (عليه السلام) .

قوله: {اسْتَجَابُواْ} من الجواب، بأن يُطلب منه شيءٌ فيجيب بالقبول،

ص: 531


1- مجمع البيان 2: 665-666.

بمعنی أطاعوا.

وقوله: {لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} إنما ضمّ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلی الله، لأن المنهزمين عصوا الله في نهيه عن الفرار من الزحف، وعصوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فيما أمرهم به من تفاصيل الموقف کعدم تخلية الثغر في الجبل.

أو لأن الجهاد بأمر الله تعالی، وأما کيفيته فهو استنباط من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بما علّمه الله تعالی وعصمه، فکما تجب إطاعة الله في أوامره ونواهيه، کذلک تجب إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فيما له فيه الولاية.

وقوله: {مِنۢ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} قرينة علی أن المراد بهذه الآية غزوة حمراء الأسد، حيث کانت بعد غزوة أ ُحد بيوم واحد فقط و{الْقَرْحُ} الأثر من الجراحة.

وقوله: {مِنْهُمْ} «من» للتبعيض، فليس الوعد لجميعهم وإنما لبعضهم مع تعليق الوعد علی الإحسان والتقوی، فهو وعد بشرط والغرض من التبعيض هو حثّهم جميعاً علی المواصلة في العمل الصالح وأن لايتّکلوا علی موقف حسن صدر منهم، فإن الإنسان إذا ضمن الجائزة يتکاسل عادة، ولابد من کون المؤمن بين الخوف والرجاء، ولذا لا وعد مقطوع للأشخاص في القرآن الاّ للمعصومين (عليهم السلام) وللشهداء، وأما غيرهم من الأحياء فالوعد دائماً مشترط بالإيمان والعمل الصالح، وإذا کان هناک وعد للاشخاص فيقترن بالتبعيض أو يعلّق علی الاستمرار، ففي زوجات النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال تعالی: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}(1)، وقال في أصحابه:

ص: 532


1- سورة الأحزاب، الآية: 29.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَۢا}(1).

ويمکن أن يکون التبعيض لأجل أن البعض منهم انقلب علی الأعقاب بعد ذلک، فأحبط عمله وأبطل أجره.

وقيل: {مِنۢ} بيانية، وفيه نظر، لأنه لابد في البيان من کون مدخول (من) توضيحاً وشرحاً لما قبله کقوله: {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَٰنِ}(2) حيث الأوثان تفسير للرجس، وليس هنا کذلک.

وقوله: {أَحْسَنُواْ} لبيان الطاعة بفعل الصالحات، لأن الأحسان هو فعل الحسن.

وقوله: {وَاتَّقَوْاْ} لبيان الطاعة بترک المعاصي، لأن التقوی هي حفظ النفس وکفّها، والحاصل ائتمروا بالأوامر وانزجروا بالنواهي.

الثالث: قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ...} الآية.

وصف آخر للمؤمنين لبيان عدم خوفهم من المشرکين، بل لايخافون إلاّ الله لذا يطيعونه، وشأن نزولها غزوة بدر الصغری کما مرّ.

قوله: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} بيان لدأب الکفار المنافقين وضعاف الإيمان حيث يشککون المؤمنين أو يحاولون تشکيکهم.

إما لأنهم يحبون أن يکون المسلمون مثلهم - حسداً أو جهلاً - کما قال: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً}(3)، أو لأنهم ارتشوا کما

ص: 533


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة الحج، الآية: 30.
3- سورة النساء، الآية: 89.

أرشی أبو سفيان نعيم بن مسعود ليخوّف المسلمين، أو تودداً للکفار وانبطاحاً لهم، کما يکثر هذا في عصرنا الحاضر.

وقوله: {قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} أي جمعوا العدد والعُدّة، وهذا قرينة علی أن هذه القضية لم تکن في حمراء الأسد، لأن المشرکين حينذاک کانوا مجموعين بعددهم وعدتهم وإنما أرادوا الرجوع فقط، وأما في غزوة بدر الصغری والتي کانت بعد سنة من وقعة أحد، فکانوا في منازلهم في مکة، حتی إذا حان الموعد جمعوا عددهم وعدتهم وخرجوا لمسافة قصيرة إلا أنهم أرعبوا فرجعوا.

وقوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا} أي هذا القول زاد المؤمنين إيماناً، بدلاً عن الخشية من الکفار، وزيادة الإيمان من جهتين:

الأولی: إن کل طاعة هي زيادة في الإيمان العملي.

الثانية: إن هذا القول زاد يقينهم، فالزيادة في الإيمان القلبي.

قيل: لأن الممنوع إذا رأی نفسه علی حق زاده ذلک إصراراً وخاصة إذا لم يحسن الظن بمن ينهاه.

وقد مرّ أن الإيمان - بأجزائه وشروطه - هو اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأرکان، فالمؤمنون لم يخشوا بالتحذير من الکفار وإنما أصروا علی عملهم وزاد يقينهم.

وتدل الآية علی أن الإيمان يزداد وينقص، وکذلک آيات أخری کقوله تعالی: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(1)، وقال: {وَلَمَّا

ص: 534


1- سورة التوبة، الآية: 124.

رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَٰنًا وَتَسْلِيمًا}(1).

وقوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ} «حسب» مصدر بمعنی الفاعل أي يکفينا الله تعالی.

وقوله: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي أحق بأن توکل الأمور إليه لأنه المالک القادر المهيمن، و{الْوَكِيلُ} المتولي لأمر الإنسان حيث يوکل الإنسان أموره إليه ويعتمد عليه.

الرابع: قوله تعالی: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ...} الآية.

تبيّن الآية عاقبة ازدياد إيمانهم وثباتهم، وهو عدم توجه ضرر عليهم، وانتفاعهم مادياً ومعنوياً، فقد انقلبوا أي رجعوا إلی أهلهم سالمين غانمين:

1- {بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} الباء للمصاحبة أي رجعوا بالنعمة، ومن تلک النعمة إعادة الهيبة للمسلمين بعد هزيمة أحُد، وهذا ما کان تنبأ به أبو سفيان حيث قال: وأکره أن يخرج محمداً ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلک جرأة(2)،

وأيضاً ربط قلوب سائر المسلمين، مضافاً إلی نعم أخری کالتثبت والزيادة في الإيمان والتوفيق للمبادرة إلی الجهاد ونحو ذلک.

2- {وَفَضْلٖ} قيل: هو التجارة حيث ربحوا في منطقة بدر الصغری في سوقها بالدرهم درهمين، والربح الحلال فضل من الله تعالی کما قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوٰةُ فَانتَشِرُواْ فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ}(3)، وقال:{لَيْسَ

ص: 535


1- سورة الأحزاب، الآية: 22.
2- بحار الأنوار 20: 42.
3- سورة الجمعة، الآية: 10.

عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ}(1).

وتعقيب النعمة بالفضل للدلالة علی أنها ليست استدراجاً لهم کالإنعام علی أهل البطر والبغي، کما قال: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَٰنِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}(2)، وقال: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(3)، بل هي نعمة توجب مزيداً من الخير قال تعالی: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكُمْ}(4)، وقال تعالی: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ}(5).

3- {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي حالکونهم لم يلتقوا مع المشرکين للحرب، فلا حاربوا ولا قتل منهم أحد ولا جُرح، أي کانت النعمة کاملة من غير منغّصات.

4- {وَاتَّبَعُواْ رِضْوَٰنَ اللَّهِ} عطف علی لم يمسسهم، فهو حال ثانية أي وحالکونهم قد أطاعوا الله تعالی بالخروج إلی الجهاد وامتثلوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفي هذا تحسير للمتخلفين، حيث لم يطيعوا الله ورسوله ولم يربحوا في التجارة، کما قال: {وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنۢ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُۥ مَوَدَّةٌ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}(6).

الخامس: قوله تعالی: {ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمْ...} الآية.

ص: 536


1- سورة البقرة، الآية: 198.
2- سورة فصلت، الآية: 51.
3- سورة البقرة، الآية: 211.
4- سورة المائدة، الآية: 6.
5- سورة النمل، الآية: 19.
6- سورة النساء، الآية: 73.

أي إن المنافقين أو الکفار أو ضعاف الإيمان إذا ثبطوکم عن الجهاد وخوّفوکم، فإنما في الحقيقة المخوّف الأصلي هو الشيطان، وهؤلاء أدوات له، وفي قباله الله تعالی المالک القادر المهيمن، فأنتم أولياء الله، والمشرکون أولياء الشيطان، فالتقابل بين الله وبين الشيطان، ومن المعلوم أن کيد الشيطان ضعيف، فلا تهنوا ولا تخافوا

قوله: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَٰنُ} (إنما) للحصر أي المخوّف هو الشيطان فقط و(ذا) إسم إشارة مبتدأ، و(کم) للخطاب، و(الشيطان) خبره، أي هذا هو الشيطان لاغير.

وقوله: {يُخَوِّفُ} أي يخوّفکم، لأن مادة الخوف متعدية إلی مفعول واحد فإذا ابتني منها باب التفعيل صارت ذا مفعولين، فالمعنی الشيطان يخوّف المؤمنين أوليائه وهم المشرکون.

وقوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ} أي لاتخافوا أولياء الشيطان وهم الذين يقال إنهم جمعوا لکم، لأن کيد الشيطان ضعيف، فأولياؤه أضعف منه، والمراد عدم ترتيب أثر الخوف، لا الخوف الطبيعي الذي قد لايخلو منه أحد.

وقوله: {خَافُونِ} أي خافوا الله تعالی، والخوف إما بمعنی الخشية منه تعالی أو الخوف من عقابه حين المخالفة، وقد مرّ تفصيله.

وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بيان للعلامة الفارقة بين المؤمنين وغيرهم، فالمؤمن يخاف الله، وغيره يخاف أولياء الشيطان!

ص: 537

الآيات 176-178

اشارة

{وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَئًْا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْأخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَئًْا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178)}

کأنّ الآيات 176-180 هي تتمة لموضوع غزوة أ ُحد وتلخيص لها، وفيها تسلية وتثبيت للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وللمؤمنين، بأن کون الدولة للکفار أحياناً وکذلک مصائب المؤمنين ليست إلا بتقدير من الله تعالی، لغرض أسمی وهو التمحيص والامتحان ليتميز المؤمن من المنافق، ولينال المؤمن ثوابه والکافر عقابه، ثم بيان أن الامتحان کما يکون في الجهاد في النفس کذلک الجهاد بالمال.

والحاصل أن الله تعالی غالب علی أمره، فغلبة الکفار أحياناً إنما هو بتقدير منه تعالی املاءً لهم، وأن الصعوبات التي تنال المؤمنين أحياناً إنّما هي لتمييزهم عن المنافقين، وأن النجاح في الامتحان يتوقف علی الإطاعة، والسقوط فيه علی المعصية.

176- فبعد أن نهی تعالی عن الخوف من أولياء الشيطان عقّبه بالنهي عن الحزن عليهم {وَلَا يَحْزُنكَ} يا رسول الله {الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ} يبادرون إليه، وکأن المراد مبادرتهم إلی العمل طبقاً لعقيدتهم الفاسدة

ص: 538

کمحاربة المؤمنين، {إِنَّهُمْ} هذا علة النهي عن الحزن عليهم {لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ} أي لن يضروا دينه وأولياءه فالإسلام يتقدم حتی يُظهره الله علی کل الأديان {شَئًْا} ولو قليلاً فالعزة لله تعالی دائماً، بل لم يمنعهم من المسارعة في الکفر بحکمته تعالی إذ {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا} أن لا {يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا} نصيباً من الثواب {فِي الْأخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وذلک يتوقف علی عدم منعهم تکوينا، فهؤلاء لايضرون الله بل يضرون أنفسهم.

177- کما لا تضرّ مسارعتهم، کذلک لا يضرّ أصل کفرهم، ف {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ} استبدلوا {الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ} أي کفروا بدلاً عن إيمانهم {لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا} بتبديلهم هذا، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فارتداءهم ليس خسارة وضرراً لله تعالی بل أضروا أنفسهم.

178- ثم إن إمهالهم وانتصاراتهم أحياناً إنما هي بإرادة من الله تعالی بحکمته ف {وَلَا يَحْسَبَنَّ} لايتوهموا {الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا} «أنّ» للتأکيد و«ما» مصدرية {نُمْلِي لَهُمْ} أي إملاءنا لهم، بمعنی الإمهال وأعطائهم المال والجاه والسلطة وطول العمر {خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ} فهو وإن کان خيراً في نفسه إلاّ أنهم حولوه إلی شر لأنفسهم، بل {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} نمهلهم ونرزقهم {لِيَزْدَادُواْ} اللام للعاقبة أي عاقبة هذا الإملاء هو ازديادهم {إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} فيه إهانة وإذلال لهم في جهنم مضافاً إلی کربه وألمه.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ...} الآية.

ص: 539

بعد أن حذّر الله المؤمنين ونهاهم عن الخوف من الکفار وأمرهم بالخوف من الله تعالی، عطف الکلام إلی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) بعدم الحزن بسبب أعمالهم، فإن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) کان يحب هداية الناس أجمع، لکنه لمّا کان يری شقاء البعض ورفضهم للهداية کان يحزن عليهم، کما أن أعمالهم کانت توجب حزنه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فأرشده الله تعالی إلی أنه (صلی الله عليه وآله وسلم) قد أدّی المهمة بأحسن وجه حيث کانت مهمته التبليغ، وأما الهداية فهي بيد الله تعالی يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) کان ناجحاً في وظيفته غير مقصّر فيها، ولم تکن الهداية التکوينية من مهامّه، بل هي بيد الله تعالی يمنحها لمن شاء، قال تعالی: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(1)، وقال: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(2)، وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَصْنَعُونَ}(3).

وقوله: {وَلَا يَحْزُنكَ} أي لايتسبّبوا في حزنک.

وقوله: {الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ} بيان لسبب الحزن أي الکفار بسبب مسارعتهم إلی الکفر، إذ تارة يکون الحزن عليهم شفقة کما قال: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}(4)، وتارة الحزن بسبب أعمالهم کما في هذه الآية، فالحزن

ص: 540


1- سورة الغاشية، الآية: 21-22.
2- سورة التغابن، الآية: 12.
3- سورة فاطر، الآية: 8.
4- سورة النمل، الآية: 70.

لم يکن شفقة بل بسبب الأضرار التي وجهوها إلی المسلمين بالقتل والجرح وغير ذلک، ولذا عقّبه بقوله: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَئًْا} فمسارعتهم في الکفر وإن أضرّت المسلمين لکنها لم تضرّ الله تعالی، وحتی الضرر الذي لحق بالمسلمين فهو بصالحهم وضمن تقدير الله تعالی بحکمته کما سيأتي في الآية 179.

وقوله: {فِي الْكُفْرِ} ولم يقل إلی الکفر، لأنهم کفار فلا يتسابقون إليه بعد کونهم فيه، بل مسارعتهم في دائرة کفرهم، وحيث إن الکفر زاهق وباطل فکذلک مسارعتهم إنما هي مسارعة ضمن إطار زاهق وباطل.

ومن ذلک يتبيّن أن الآية وإن کانت في سياق غزوة أ ُحد وحول خصوص الکفار إلاّ أن معناها عام لجميع الکفار والمنافقين في جميع الأزمنة والأمکنة.

وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ...} بيان لعدم ضررهم علی الله، فهو تعالی الذي لم يمنعهم عن کفرهم بل ترکهم وشأنهم فلم يوفقهم بسوء اختيارهم وجعل لعقابهم أجلاً هم بالغوه، والضرر إنما يلحق لو نقص من الملک شيء أو تحقق شيء خلاف الإرادة، وليس مسارعتهم في الکفر کذلک، إذ لاينقص منه شيء، بل عمل الجميع ضمن دائرة إرادته تعالی التکوينيّة، بأن أراد أن يکونوا مختارين وأراد عقاب المخالف وثواب المطيع، فاختيار هؤلاء الکفر ومن ثمَّ عقابهم عليه کان ضمن الارادة التکوينية، وقد مرّ مراراً أن إرادته التکوينية هي خلقهم مختارين بأن يطيعوا أو يعصوا باختيارهم وليس معناها جبرهم علی أحد الأمرين.

ص: 541

وقوله: {أَلَّا يَجْعَلَ} في التقريب: وإنما أراد ذلک لأنهم أعرضوا عن الحق، کما أنک إذا أديت إلی عبدک مالاً ليتاجر به، ثم ذهب يقامر به وأمهلته فلم تضرب علی يده، تقول: أريد أن أ ُبدي سوءته وأعاقبه بعقاب کبير(1).

نعم إرادته تعالی التشريعية هي هداية الکل، قال تعالی: {وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}(2)، وقال: {وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}(3).

والحاصل: إنه تعالی خلق العباد ليرحمهم، وجعل طريق نيل رحمته التامة عبادته عن اختيار، فلذا شرّع الأحکام والشرائع، وهي إرادته التشريعيّة، ثم أراد ثواب المطيع وعقاب العاصي وذلک من إرادته التکوينية.

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ...} الآية.

هذه الآية في اختيارهم الکفر، والآية الماضية حول مسارعتهم في الکفر فلا تکرار، فالمعنی کما أن مسارعتهم في الکفر لا تضرّ کذلک أصل اختيارهم للکفر لايضر، وهذا عکس الأضرار التي تتوجه للبشر، مثلاً يأبق عبد فذلک ضرر علی مولاه، ثم يفعل أعمالاً يزيد ضرر المولی، وقد يکون الضرر في أحدهما - أي أصل العمل أو ما يرتبط به - لکن الله سبحانه غنيّ عن العالمين، فکما لا تضرّه أعمالهم الکفرية کذلک لا يضرّه أصل کفرهم.

وقيل: الآية الأولی حول خصوص المسارعين وهذه الآية حول کل

ص: 542


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 422.
2- سورة الزمر، الآية: 7.
3- سورة المائدة، الآية: 6.

الکفار، فالمعنی المسارعون لايضرّون لأن الکفار جميعاً لايضرّون، وقيل: الأولی للکفار والثانية للمنافقين، وقيل العکس، والأظهر ما ذکرناه.

قوله: {اشْتَرَوُاْ} في المناهج: في التعبير بالاشتراء دلالة علی أن الثمن الذي هو الإيمان کان - هو وأسبابه - حاصلاً عندهم وفي قبضتهم، لتوارد الحجج القيّمة عندهم، وسطوع براهين الحق وشعاع الفطرة لديهم، فباعوه وأضاعوه واستبدلوه بالکفر، بزعمهم أن ما اشتروه أعم نفعاً مما بذلوه(1).

ثم إن قوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} في هذه الآية، وقوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الآية السابقة، وقوله: {عَذَابٌ مُّهِينٌ} في الآية اللاحقة، لأجل أن أصل الکفر سبب للعذاب وهذا العذاب مؤلم، لکن المسارعة في الکفر سبب لتضاعف العذاب ولذا عبرّ عنه بالعظيم، کما أن هؤلاء زعموا أن ما يمنحون من الإمکانات هو خير وعزة، لکنه لم يکن کذلک لأنه أعقب عذاباً فيه إهانتهم.

الثالث: قوله تعالی: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ}.

قد يکون سبب البقاء علی الکفر، والمسارعة فيه هو توفر الإمکانات من المال والجاه والسلطة والغلبة العسکرية ونحو ذلک.

وهذا ما يشاهد في کثير من الناس حيث يقصرون نظرهم إلی متاع الحياة الدنيا وزينتها لکنهم غافلون عن الحقائق والعاقبة، قال تعالی: {يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ}(2)، وقد يحاول

ص: 543


1- مناهج البيان 4: 182-183.
2- سورة الروم، الآية: 7.

المبطلون تحويل غلبتهم العسکرية أو قوتهم سياسياً واقتصادياً وصناعياً ونحو ذلک إلی غلبة فکرية دينية، بأن يقولوا إن سبب انتصارهم أو قوتهم هو دينهم أو مناهجهم الفکرية، مع عدم التلازم واقعاً بين ذلک، بل کل علة تنتج معلولها ولا يهمّ الفاعل، فإيقاد النار سبب الحرارة من غير فرق بين المُوقِد، والمُجِدّ في العلوم التجربية والصناعات يصل إلی تطور صناعي کائناً من کان، وهکذا في سائر العلل.

والحاصل: إن امتلاک الکفار الدنيا ومتاعها أو الغلبة عسکرياً لاتنفعهم في الحصول علی ثواب الآخرة والأمن من عذابها، فإنهما يرتبطان بالإيمان والعمل الصالح.

فليست الغلبة في غزوة أ ُحد دليل علی صحة منهج الکفار، بل کانت بسبب مخالفة المسلمين وعدم مراعاتهم للقواعد الحربية التي أمرهم بها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ثم إن هذه الغلبة موقتة وليست خيراً واقعياً.

وقوله: {أَنَّمَا} هي «أن» التأکيدية، و«ما» المصدرية، وتکتبان منفصلتين في رسم الخط المتعارف، إلاّ أن رسم الخط اصطلاح ويمکن اختلاف الاصطلاحات بل وتعدد الکيفية في اصطلاح واحد، وهکذا رسم خط القرآن هو اصطلاح خاص ولا يُقاس عليه وقد التزم المسلمون بعدم تغيير هذا الرسم - مع أن النازل الألفاظ فقط دون الکتابة - وقايةً للقرآن من التحريف والتبديل.

وقوله: {نُمْلِي} من «الإملاء» وهو الإمداد، ويقال: للمدة الطويلة مليّ من الدهر، فيفيد الإمهال والتوسعة والإمداد بالمال والجاه والسلطة ونحوها،

ص: 544

والمعنی لايتوّهمّن الکفار أن المهلة والإمکانات التي يتمتعون بها هي خير لهم، کلاّ ليست خيراً، وذلک لأن الخير هو الذي لايسبب شراً وعقاباً، أما لو استتبعهما فهو شر وليس بخير، کمن يأکل طعاماً مسموماً مستلذاً به، فلا يقال: إن إعطائه هذا الطعام کان خيراً له بل هو شر له.

ولا يخفی أن أصل هذه النعم هي خير لأن الغرض منها إصلاح المعاش واکتساب المعاد، لکن الإنسان بسوء عمله يحوّلها إلی شر قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}(1).

کما أن أصل الإمهال إنّما هو بمقتضی الحکمة، فهو خير ضمن النظام العام العادل لکنه شر لهؤلاء، وهذا کعقوبة القاتل بالقصاص فهو شر للقاتل لکنه خير حسب النظام العام، وإنما کان شرا له بسوء اختياره حيث عصی وارتکب جريمة القتل.

الرابع: قوله تعالی: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.

اللام في {لِيَزْدَادُواْ} للعاقبة، أي عاقبة الإملاء هو زيادتهم في الإثم، وليس المعنی أن الله تعالی يريد العصيان، فهو تعالی لا يرضی لعباده الکفر، قال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا}(2)،

أي عاقبة إمهالهم هو زيادة إثمهم حيث يواصلون المعاصي في کل يوم فيزداد إثمهم ومن ثمَّ يزداد عقابهم.

والحاصل: إن الله تعالی يبدأ الجميع باللطف والهداية، ثم يمتحنهم

ص: 545


1- سورة إبراهيم، الآية: 28.
2- سورة النساء، الآية: 27.

وذلک للتمحيص والتمييز، فمن رفض الهداية وسقط في الامتحان ترکه الله وشأنه وذلک عقوبة له، فيزداد إثماً وعذاباً في الآخرة.

الإملاء والاستدراج للکفار

وفي المناهج: الإملاء والاستدراج مرتبة السقوط، ويکون ذلک بعد الامتحان لمن سقط فيه، فقوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا} إشارة إلی أن الإملاء بعده، لأن الامتحان عام للمؤمن وغيره، فليس کل ما يصح به الامتحان يکون اعطاؤه لغاية الامتحان، بل ربما يکون إعطاؤه لغاية الإملاء، فبعد ذلک يستحق العذاب المهين(1).

والحاصل أن الإملاء في مرتبة متأخرة عن الکفر، فلا يکون إلاّ عقوبة ومجازاة علی کفرهم.

سؤال: قد نری بعض الکفار يعمل الخير، وکلّما طال عمره زاد في خيره کما نری بعض الکفار بعد الإملاء يتوب ويؤمن ويعمل الصالحات؟

والجواب: أما الکافر العامل بالخيرات فلا قيمة لعمله، إذ يشترط في صحة العمل وقبوله قصد القربة، وحيث لا قربة له فلا فائدة في عمله، فيکون استمراره علی الکفر وترکه لسائر الفرائض وعمله بالمعاصي الناشئة عن الکفر هو ازدياده في الإثم، وقد مرّ تفصيله سابقاً.

وأما الکافر التائب بعد الإمهال، فإن املاء الکافر وتوفيق المؤمن ليسا علة تامة بحيث لايمکن توبة الکافر أو کفر المؤمن، بل الاختيار مستمر سواء بعد توفيق المؤمن أم بعد إملاء الکافر، بل قد تکون هناک عوامل ومقتضيات أقوی تأثيراً فتصير سبباً لإيمان الکافر أو ارتداد المؤمن.

ص: 546


1- مناهج البيان 4: 184.

بيان ذلک: إن هناک أسباب تقتضي مسببات، لکنها ليست الأسباب الوحيدة، فقد يزاحمها أسباب أخری، مثلاً النار سبب للإحراق لکنها قد لا تؤثر أثرها إذا حدث سبب أقوی منها کالماء الذي يُلقی علی النار فيمنعها عن أثرها، أو قد يکون مانع عن تأثيرها کالألسبة الواقية من النار فتمنع عن إحتراق مُرتديها.

فإملاء الکافر سبب لزيادته في إثمه ومن ثمّ إلقائه في العذاب المهين لکن قد يزاحمه سبب آخر أقوی منه، مثل دعوة من مؤمن، فقد يستجيبها الله فتؤثر أثرها في هدايته.

وکذا المؤمن الذي وفقه الله تعالی لطاعاته، قد يفشل في امتحان بسوء اختياره فيسلبه الله تعالی التوفيق.

وعلی کل حال فمن مصاديق الآية غلبة الکفار ورجوعهم سالمين يوم غزوة أ ُحد واستشهاد کثير من المسلمين، فلم يکن إطالة عمر الکفار خيراً لهم بل ازدادوا غياً وکفراً فازدادوا عقاباً، ولم يکن استشهاد شهداء أ ُحد شراً لهم بل قتلوا في سبيل الله فأورثهم خيراً دائماً وعزة أبدية بفضل من الله تعالی.

ص: 547

الآيتان 179-180

اشارة

{مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}

179- بعد ذکر الکفار يأتي ذکر المنافقين وأنه لابد من تمييزهم عن المؤمنين ف {مَّا كَانَ اللَّهُ} ليس من سنته تعالی في خلقه {لِيَذَرَ} يترک {الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} من إختلاط المؤمن بالمنافق وتساويهم في الإقرار اللساني والأعمال الظاهرية، بل لابد من الامتحان مکرراً {حَتَّىٰ} أي إلی أن {يَمِيزَ} الله {الْخَبِيثَ} المنافق {مِنَ الطَّيِّبِ} المؤمن، وذلک عبر التکاليف الشاقة فيطيع المؤمن ويعصي المنافق، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} بأن يجعلکم أنبياء کلّکم حتی لايکون مورداً للتمييز، أو بمعنی أن يخبرکم بما في قلب کل أحد حتی تميّزوهم، {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي} يختار لإطلاعه علی الغيب {مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} فيرسله إلی الناس وعن طريقه يتمّ الامتحان والتمييز، {فَآمَنُوا بِاللَّهِ} إيماناً صادقاً {وَرُسُلِهِ} أي آمنوا

ص: 548

بهم فأطيعوهم، {وَ} نفع ذلک يعود إليکم ف {إِن تُؤْمِنُواْ} حق الإيمان بالله ورسوله {وَتَتَّقُواْ} المعاصي بترکها {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

180- وکما أن التمييز يکون بالجهاد بالنفس کذلک بالجهاد بالمال {وَلَا يَحْسَبَنَّ} لايتوهم {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} عبر منع الحق الواجب {بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وهذا زيادة في القبح، حيث منحهم المال فعصوا أمره {هُوَ خَيْرًا لَّهُم} حيث زعموا أنهم يوفّرون المال ويحتفظون به {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} وذلک لأنهم {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ} يکون وبالاً عليهم وطوقاً في أعناقهم {بِهِ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَ} أما في الدنيا فلا يبقی المال لهم إذ {لِلَّهِ مِيرَٰثُ} أي الملک الحقيقي، فهو مالک {السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} فليس أمره بالإنفاق لحاجة منه بل لحاجتکم ولاختبارکم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فليس الاختبار إلاّ لأجل أن لايکون عقابه ظلماً، ولأجل أن يرتقي المطيع فينال الثواب الجزيل.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ...} الآية.

بيان لسبب الامتحان، وهو أن الذين آمنوا بألسنتهم ناس مختلفون من حيث مقاصدهم وباطنهم، فمنهم من أمن عن اعتقاد راسخ، ومنهم من آمن عن إيمان ضعيف، وآخرون لدواعي مادية أو اجتماعية أو قبلية ونحوها، وجمع نافق، فکان لابد من تمييزهم، لا لمجرد أن يعرف الناس المؤمن من المنافق، بل لأجل نيل الدرجات العلی لمن کان إيمانه حقاً، إذ إن الله تعالی

ص: 549

هو المتفضل بکل الثواب، لکنه حکيم ففضله تابع لحکمته سبحانه، وقد مرّ أن الرحمة من صفات الفعل، والحکمة من صفات الذات، ومنشأ صفات الفعل هي صفات الذات، فلا يعقل التخالف بينها، وعليه فإن الله خلق الناس ليرحمهم فحباهم جميعاً بالرحمة العامة، وتفضل بالرحمة الخاصة لمن کان أهلاً لها، ولا يکون الإنسان أهلاً لها إلا بعمله، فکان الامتحان لذلک، لينجح المؤمنون ويرتقوا الدرجات العلی، ولکن البعض يسقط في الامتحان فکان لابد من عقابه، والله تعالی عالم بمن ينجح وبمن يسقط إلا أن الرحمة الخاصة وکذلک العقاب لا يکونان بالعلم، إذ العقاب قبل الجرم ظلمٌ، والفضل لمن لا يليق به خلاف الحکمة.

ومن ذلک يتضح قوله (ليميز) حيث لم يقل: لتميّزوا أنتم، لأن الغرض الأصلی من الامتحان ليس تميز الناس بأن يعرفوا المؤمن من المنافق - وإن کان هذا أيضاً نتيجةً للإمتحان - وإنما الغرض أن يتحقق ما علمه الله تعالی أزلاً، فهو سبحانه بهذا الامتحان يميّز بينهم ليثيب فضلاً وليعاقب عدلاً.

وقوله: {عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} من إظهار الإسلام والالتزام الظاهري بالفرائض، وقد يقال: بأن التمييز قد حصل بعد غزوة أ ُحد فلماذا لم يقل: علی ما کنتم عليه؟ ويجاب بأن الامتحان الواحد قد لا يکفي لإظهار حقيقة الاشخاص، فقد يسقط الإنسان في امتحان لکنه يتنبّه فيُصلح أمره ويزکّي نفسه ويخلص نيته فينجح في الامتحانات اللاحقة، کما أن البعض قد ينجح في إمتحان لدواعي أخری غير الداعي الإلهي ويسقط في امتحانات أخری، کما أن بعض المؤمنين لهم قابلية السمو أکثر من ذي قبل، فکلّ امتحان

ص: 550

يزيدهم إيماناً ودرجة، فکان لابد من تکرار الامتحان، قال تعالی: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}(1)،

وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}(2).

الثاني: قوله تعالی: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ...} الآية.

قيل: المعنی وما کان الله ليجعلکم أنبياء تطلعون علی الغيب، وحينئذٍ لايکون سبباً للتمييز، لأن الله تعالی قد اصطفی الأنبياء وعصمهم فهم طيبون معصومون، فلا يخالفون أوامره، بل امتحانهم يکون لرفع مقاماتهم فحسب، وحيث إن عامة الناس ليسوا أنبياء فکان لابد من التمييز.

والأکثر علی أن المعنی: إنکم لا تعلمون الغيب فلا تميّزون الطيب من الخبيث، إذ لا طريق من الحواس أو العقل لمعرفة باطن الناس وما يدور في خلدهم، ولکن الله تعالی - رأفة ورحمة - جعل علائم ظاهرة للعيان يکتشف بها عمّا في القلوب، ولذا يمتحنکم عبر إرسال الرسل، فإطاعتهم تکشف عن الإيمان ومعصيتهم تکشف عن ضعفه أو عن النفاق.

حول علم الغيب

وقوله: {عَلَى الْغَيْبِ} وهو ما غاب عن الحواس، ويقابله الشهود وهو ما أمکن احساسه بالحواس الخمس.

ولا يخفی أن ما غاب عن الحواس قد يکون العلم به عن طرق طبيعية،

ص: 551


1- سورة التوبة، الآية: 126.
2- سورة البقرة، الآية: 214.

کالإخبار عن حوادث في البلاد النائية وکالعلائم التي تجعل للأمور المخفيّة.

وقد لا يکون له طريق طبيعي أبداً، وإنما ينحصر العلم به عن طريق البرهان العقلي أو عن الوحي، فالله تعالی من الغيب لعدم إمکان إدراکه بالحواس وإنما نعلم به عن طريق البرهان العقلي والفطري، وتفاصيل البرزخ والمعاد لايمکن العلم بها إلا عن طريق الوحي حصراً، ومن ذلک يتضح التأمل في ما ينقل عن غير المعصومين مما يسمی بالکشف والشهود أو بالخلع للروح أو العين البرزخية، فکل ذلک من الغيب الذي قال الله تعالی عنه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}، وقال: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ}(1)، بل الإطلاع عليه خاص بالمعصومين (عليهم السلام) ، ولا يوجد دليل يُخصّص الآيتين.

وقوله: {يَجْتَبِي} من الاجتباء، ومعناه قريب من الاختيار والاصطفاء، وأصله من (جبي) بمعنی جمع، فکأنه جمع نُخبةً هي خير الناس وصفوهم.

وقوله: {مِن رُّسُلِهِ} بيانية، أي يجتبي من يشاء من رسله، وإنما خصّ الرسل ولم يذکر الأنبياء بشکل عام لأجل أن التمييز إنما يکون ببعث الأنبياء وإرسالهم للناس فأمروهم ونهوهم، وقبل الرسالة لم يکن تمييز لعدم الدعوة إلی شيء ولعدم التکاليف الشاقة، وأما إطلاع الأئمة (عليهم السلام) علی الغيب فبتخصيص الآية بالأحاديث المتواترة، أو إنه بتعليم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إياهم، وفي نهج البلاغة: «تعلّم عن ذي علم»(2).

ص: 552


1- سورة الجن، الآية: 26-27.
2- نهج البلاغة، الخطبة 128.

قوله: {فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}. أي حيث علمتم أن الله يميز الخبيث من الطيب، وأنه أرسل رسله لذلک، فاطيعوا الله والرسل ولا تعصوهم، کي تکونوا ضمن الطيب، وفي الآية دلالة علی أن الطِيب والخُبث باختيار الإنسان نفسه، فمن خَبُث فبسوء اختياره، ومن طاب فبُحسن اختياره، وأما الطينة فقد مرّ أنها لا تأثير لها في اختيار الإنسان، وإنما علم الله أن الکافر سيختار الکفر بسوء اختياره لذلک خلقه من سجين، وأن المؤمن سيختار الإيمان بحسن اختياره فلذلک خلقه من عليين.

وقوله: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ} لبيان ثواب الإيمان والعمل الصالح، فلئن أطعتم الله والرسول في التکاليف الشاقة فقد اخترتم الطِيب، وجزاؤکم الأجر العظيم الذي لايقاس بصعوبات الدنيا، وفي الحديث: صبروا أياماً قصيرة اعقبتهم راحة طويلة(1)،

وعظمة هذا الأجر من جهة کميّته وکيفيته ودوامه بلا انقطاع.

الثالث: قوله تعالی: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ...} الآية.

الجهاد کما يحتاج إلی تضحية بالنفس کذلک يحتاج إلی إنفاق وبذل المال، ولذا يُذکر الجهاد بالنفس وبالمال مقترنين عادة، وأيضاً إن من أسباب عدم الجهاد أو الفرار من الزحف أو النفاق هو حب المال والتعلّق بالدنيا، وإن أداء الحقوق المالية الواجبة طريق إلی ترجيح مرضاة الله تعالی علی هوی النفس، وترويضها بحيث لو تعارض رضاه مع بقائها کلها لرجح رضاه تعالی، فترک الکل يتوقف علی التمرين علی ترک البعض.

ص: 553


1- نهج البلاغة، الخطبة 193.

وقوله: {يَبْخَلُونَ} بمنع الحق الواجب، وفي الروايات ذکر الزکاة(1)، وهو بيان المصداق.

وقوله: {بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} تشنيع علی بُخلهم، لأنهم يبخلون علی الله بما هو ملکه وقد تفضّل عليهم به من غير استحقاق منهم، قال تعالی: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}(2).

وقوله: {هُوَ خَيْرًا} المفعول الأول مقدّر أي بخلهم، و{هُوَ} ضمير فصل بين المفعولين و{خَيْرًا} مفعول ثان، أي لا يحسبنّ البخلاء بخلَهم خيراً.

وقوله: {بَلْ هُوَ شَرٌّ} أي بخلهم شر، وأما المال الذي آتاهم الله من فضله فقد کان خيراً، فرزق الله تعالی لايکون إلاّ خيراً حلالاً، لکنهم حوّلوه إلی شر بسبب بخلهم، وهذا الشر کما يکون في الآخرة کذلک يکون في الدنيا، وفي التقريب: إن ذلک البخل شرّ لهم يعود عليهم في الدنيا بالشر حيث إن ذلک موجب لسوء السمعة، الذي بدوره يوجب عدم التمکن من اکتساب المزيد من المال، ويوجب ذهاب الکائن منه بمصادرات الحکام وثورات الفقراء، والأسوء من ذلک أنهم سيطوقون...(3).

وقوله: {سَيُطَوَّقُونَ} قيل: هو بيان لقوله: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} أي إن ذلک الشر هو تطويق ما بخلوا علی أعناقهم في يوم القيامة، لکن الأنسب عموم

ص: 554


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 531-532.
2- سورة الحديد، الآية: 7.
3- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 425.

کونه شراً، وذکر سيطوقون من باب أسوء أنواع الشرور لا لحصر الشر في ذلک.

والمعنی يلزمهم تبعة هذا المال، ومن مصاديق التبعة: تجسّم البخل أو المال يوم القيامة بشکل ثعبان من نار وتطويقه به ونهش لحمه، کما في الأحاديث(1).

وقوله: {وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} بيان لعدم نفع بخلهم، فإن کل السموات والأرض هي ملک لله تعالی بالذات، وملکية غيره إنما هي ملکية اعتبارية وبالظاهر ومعرضة للزوال، ولذا حين زوالها يخاطبون بقوله: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَٰحِدِ الْقَهَّارِ}(2).

وفسّر أکثر المفسرين {مِيرَٰثُ} بمعنی الارث أي انتقالها منهم إلی الله تعالی بعد بطلان ملکياتهم المجازية، وفسره بعضهم بأن المعنی المال أي المال الذي يتوارثونه ينتقل إليه تعالی!

لکن قوله: {السَّمَٰوَٰتِ} لاينسجم مع المعنيين إذ لايملک أحد السموات بالملکية المجازية لينتقل منه إليه تعالی! فالأقرب أن المراد من الميراث: الملک، وإنما عبّر عن الملک بالميراث مجازاً لمناسبة أنهم سيترکون هذه الاموال عاجلاً لورثتهم.

والحاصل: إن المعنی هو أن الله لايحتاج اليهم حينما أمرهم بالإنفاق، وذلک لأن جميع السموات والأرض ملکه بالذات، وهو الذي قد آتاهم

ص: 555


1- الکافي 3: 502.
2- سورة غافر، الآية: 16.

بعضه من فضله، وسينتقل عنهم عن قريب، فإن بخلوا به فالضرر يعود عليهم مع عدم بقاء المال بيدهم.

الرابع: قوله تعالی: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.

کأنّه لبيان أن التمييز ليس لأجل أن يعلم الله، بل هو عالم أزلاً بکل ما ستختارونه، وکذلک لکي لايتوهم أحد أن الله تعالی غافل عن عمله أو لا يعلم بتفاصيله أو بنواياه، فکل ذلک في علمه سبحانه فيجازيهم عليه، و(الخبير) هو العالِم تفصيلاً بجميع شؤون المعلوم وتفاصيله ودقائقه.

ص: 556

الآيات 181-184

{لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الْأَنۢبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٖ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَٰتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (183) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُو بِالْبَيِّنَٰتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَٰبِ الْمُنِيرِ (184)}

181- بعد ذکر الکفار والمنافقين يتم ذکر اليهود الذين کانوا يلقون الشبهات، وحيث کانت الآية السابقة حول البخل ابتدأت هذه الآية به فقال تعالی: {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ} فلم يَخفَ عليه، وهذا تهديد لهم {قَوْلَ} اليهود {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} لأنه يستقرض ولأن أولياءه فقراء فلو کان غنياً لأغناهم! {وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُۘ}! وکما سمع الله قولهم کذلک {سَنَكْتُبُ} في سجل أعمالهم {مَا قَالُواْ} وذلک لعقابهم وعدم إهمال مقولتهم {وَ} کذلک سنکتب {قَتْلَهُمُ الْأَنۢبِيَاءَ} فأسلافهم سبّبوا قتلهم والأخلاف رضوا به، {بِغَيْرِ حَقّٖ} فکان عن معرفة وعمد وهو أشنع، {وَنَقُولُ} يوم القيامة بمعنی الحکم عليهم {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} لهب النار أو المُحرِق.

182- {ذَٰلِكَ} العذاب {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي بالأعمال التي

ص: 557

أرسلتموها إلی الآخرة، {وَأَنَّ} أي وذلک العذاب بأن {اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ} أي ذلک العذاب هو بمقتضی العدل.

183- وهؤلاء اليهود مضافاً إلی فساد عقيدتهم في الله فإنهم يکذبون عليه فهم {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} أوصانا وأمرنا {أَلَّا} أن لا {نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا} يجيء ذلک الرسول إلينا {بِقُرْبَانٖ} ما يُتقرب به إلی الله {تَأْكُلُهُ النَّارُ} تأتي نار من السماء فتحرقه، {قُلْ} معاجز الأنبياء لاتنحصر في القربان ف {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَٰتِ} الأدلة الواضحة {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} أي القربان الذي تأکله النار {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} صار أسلافکم سبباً لقتلهم ورضيتم أنتم بذلک {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} بأنکم تؤمنون إذا أتيتکم بالقربان.

184- ثم يسلّي الله رسوله فيقول: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} کذّبهم أقوامهم وغيرهم، فلا يضق صدرک، مع أن اولئک الأنبياء قد {جَاءُو بِالْبَيِّنَٰتِ} الأدلة الواضحة {وَالزُّبُرِ} جمع زبور وهي کتب الأنبياء بالنبوة {وَالْكِتَٰبِ الْمُنِيرِ} ذي النور الذي فيه الحلال والحرام.

بحوث

الأول: حيث إن الآيات (176-189) من سورة آل عمران کالتتمة لذکر غزوة أ ُحد فقد ذکر أولاً المشرکين (الآيات 176-178) ثم ذکر المنافقين وطريقة تمييزهم عن المؤمنين (الآيتان 179-180)، وبعد ذلک يعطف العنان إلی ذکر اليهود المتربصين بالمؤمنين عبر التکذيب وإلقاء الشبهات، وبيان سوء معتقدهم في الله والرسول، وسوء عملهم بالکذب علی الله وقتل

ص: 558

الأنبياء ونبذ ميثاق الله وراء ظهورهم وإيذائهم للمؤمنين، مع تهديد الله لهم بالعذاب، ودعوة المؤمنين إلی الصبر والتقوی ووعدهم بالجنة.

أما سوء معتقدهم في الله فقوله: {قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ}، وامّا سوء معتقدهم في الرسول فقوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ}، وأما سوء عملهم بالکذب علی الله فقوله: {قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا...}، وأما سوء عملهم بالنسبة إلی الأنبياء فقوله: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنۢبِيَاءَ}، وأما مخالفتهم للعهود فقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ...}، وأما إيذاؤهم للمؤمنين فقوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...}، وأما تهديدهم بالعذاب فقوله: {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ...} وقوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ الْعَذَابِ}، وأما دعوة المؤمنين للصبر والتقوی فقوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ}، وأما الوعد بالجنة فقوله: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ...}.

الثاني: قوله تعالی: {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُۘ}.

بمعنی علمه تعالی بما قالوا، وقد مرّ أن السمع والبصر في الله تعالی بغير آلة، فهو الغني عن الأجزاء، ويتعالی عن الکيفيات، عکس الإنسان الذي سمعه عبر الأذن وبدخول الأمواج الصوتية فيها، وبصره عبر العين بدخول الأمواج النورية فيها، فلا يکون سامعاً بصيراً قبل ذلک، وأما الله تعالی فهو سميع بصير أزلاً، بمعنی کونه عالماً بالمسموعات وبالمرئيات قبل کونها وحينه وبعده، وهو عالم بکل شيء، إلاّ أنه باعتبار علمه بالمسموعات يقال له سميع، وباعتبار علمه بالمرئيات يقال له بصير، وذلک لامتلاء النفوس من هيبته تعالی، وإلاّ فکل صفات الذات هي شيء واحد، ولا اثنينية بينها وبين

ص: 559

ذاته المتعالية، فلا فرق بين ذاته وعلمه وحياته وقدرته واختياره وسائر صفاته الذاتية، لأنه بسيط لاترکّب في ذاته، إذ المرکب يحتاج إلی أجزائه وهو سبحانه منزّه عن الاحتياج، کما أن الترکّب يعني فقدان هذه الأوصاف في مرتبة ذاته وهو محال في حقه تعالی.

وقوله: {لَّقَدْ سَمِعَ...} تهديد لهم، بمعنی أنه سمع ثم کتبه الحفظة فلا نسيان ولا غفلة، ثم بعد ذلک العذاب، لأن المجرمين يفرّون عن عقاب السلاطين إما بعدم علمهم أو بنسيانهم، وليس الله سبحانه کذلک.

وقوله: {الَّذِينَ قَالُواْ} کانوا يقولون ذلک اعتقاداً، وليس مجرد استهزاء بالمسلمين أو احتجاج عليهم، وذلک لأن عقيدتهم في الله تعالی عقيدة باطلة مشوبة بالخرافات والتشبيه بالخلق، لأنهم حرّفوا الکتاب لأجل مصالحهم وأهوائهم، وأول التحريف هو نسبة الجهل والعجز إلی الله تعالی ليتسنّی لهم فعل ما يحلو لهم زاعمين عدم إحاطته بما يفعلون أو عدم تمکنه من مؤاخذتهم تعالی الله عن ذلک علوّاً کبيراً، وأيضاً لقصورهم عن إدراک الحقائق التي بيّنها الأنبياء (عليهم السلام) لهم فکانوا يميلون إلی الوثنية والتشبّه بعبدة الأصنام، کما في طلبهم جعل إله لهم: {اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ}(1).

ولا يخفی أن جميع الانحرافات العملية والعقدية مرجعها إلی عدم معرفة الله تعالی، وفي الدعاء: «اللهم عرّفني نفسک، فإنک إن لم تعرّفني نفسک لم أعرف نبيک، اللهم عرّفني رسولک فإنک إن لم تعرّفني رسولک لم أعرف حجتک، اللهم عرّفني حجتک فإنک إن لم تعرّفني حجتک ضللت

ص: 560


1- سورة الأعراف، الآية: 138.

عن ديني»(1).

وإنما قالوا إنه تعالی فقير لمّا رأوا فقر أوليائه فزعموا أن إلههم إن کان غنياً لأغناهم، وهذا من جهلهم بالله تعالی وأنه خالق السموات والأرض ويملک کل شيء، وحتی هم بأنفسهم ملک له تعالی، وکل ما يملکون مخلوقاته وقد رزقهم إياها.

وفي المناقب عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «هم الذين يزعمون أن الإمام يحتاج إلی ما يحملونه إليه»(2) وهذا بيان لإحدی المصاديق، أو الجري بمعنی أن الآية نزلت في قوم وجرت في آخرين أيضاً.

وقيل: إن اليهود قالوا قولتهم هذه لما سمعوا قوله تعالی: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}(3).

الثالث: قوله تعالی: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الْأَنۢبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّٖ...} الآية.

والمعنی إنا لا نهمل قولهم هذا، فکما سمعناه فکذلک قد أمرنا الحفظة بأن يسجلوه عليهم، وذلک لأن الإنسان قد يسمع شيئاً فيتغاضی عنه، لکن کتابته دليل علی عدم إغماضه وأنه مُهتمٌّ به ويريد ترتيب الأثر عليه، قال تعالی: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ (10) كِرَامًا كَٰتِبِينَ}(4)، وقال: {وَوُضِعَ الْكِتَٰبُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً

ص: 561


1- الکافي 1: 337.
2- تفسير الصافي 2: 158، عن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 4: 48.
3- سورة البقرة، الآية: 245.
4- سورة الإنفطار، الآية: 10-11.

وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَىٰهَا}(1)، وأما سبب الکتابة: فلأن الإنسان إذا علم بذلک کان أدعی له في الطاعة، وليتبيّن عدله يوم القيامة حين يعطي الناس کتبهم.

والسين في قوله: {سَنَكْتُبُ} إما للتأکيد، أو باعتبار أنه لاتثبت الکتابة إلا حين موتهم، إذ لو تابوا مُحيت، أو باعتبار العقاب لأن الکتابة وإن کانت حين العمل إلاّ أن العقاب في المستقبل، فالسين باعتبار المآل والغرض من الکتابة الذي هو العقاب، أو بمعنی سنقرأ عليهم يوم القيامة ما کتبناه في الدنيا، ولذا لم يقل وسنقول لهم بل قال: {وَنَقُولُ} عطف علی {سَنَكْتُبُ}.

وقوله: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنۢبِيَاءَ} أي وسنکتب ذلک أيضاً، لبيان أن سوء اعتقادهم بالله تعالی جرّهم إلی سوء الاعتقاد بالأنبياء (عليهم السلام) إلی حدّ قتلهم، أو لبيان شناعة قولهم بأن الله فقير فهو کقتلهم الأنبياء (عليهم السلام) ، أو لبيان أن ما قالوه ليس أوّل جريمة يرتکبونها فقد قتلوا الأنبياء من قبل.

وأما قتلهم الأنبياء، فأسلافهم المعاصرون لهم وشوا علی بعض الأنبياء وأذاعوا أسرارهم مما سبب تأليب السلطات الجائرة عليهم فأخذوهم وقتلوهم کما في مقتل يحيی (عليه السلام) ، وکذلک أرادوا لعيسی (عليه السلام) إلاّ أن الله سبحانه رفعه إليه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أما والله ما قتلوهم بأسيافهم، ولکن أذاعوا أمرهم وأفشوا عليهم فقتلوا»(2).

وأما الأخلاف المعاصرون للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فقد رضوا بفعل أسلافهم، والراضي بفعل قوم داخل فيهم، وخاصة في أصول الدين، فعن الإمام

ص: 562


1- سورة الکهف، الآية: 49.
2- الکافي 2: 371.

الصادق (عليه السلام) أنه قال: «کان بين القاتلين والقائلين خمس مائة عام فألزمهم الله القتل لرضاهم بما فعلوا»(1).

وهکذا کل من رضي بمنکر في أصول الدين فهو شريک مع الفاعلين، فعن محمد بن الأرقط عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال لي: «تنزل الکوفة؟ قلت: نعم، قال: فترون قتلة الحسين بين أظهرکم؟ قال: قلت: جعلت فداک ما رأيت منهم أحداً! قال: فإذن أنت لا تری القاتل إلاّ من قتل، أو من وَلِي القتل، ألم تسمع إلی قول الله: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَٰتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} فأيّ رسول قتل الذين کان محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بين أظهرهم، ولم يکن بينه وبين عيسی (عليهماالسلام) رسول؟ إنما رضوا قتل أولئک فسُمّوا قاتلين»(2).

وقوله: {بِغَيْرِ حَقّٖ} قيد توضيحي، أو لبيان أن قتلهم کان عن معرفة وعمد، فهو أشنع وأقبح.

وقوله: {وَنَقُولُ} أي نحکم عليهم بذلک، أو إن هذا القول عذاب نفسي لهم کما أن النار عذاب جسدي لهم، لأن المعذّب إذا خوطب بمثل هذا الکلام زاده عذاباً وخزياً.

وقوله: {ذُوقُواْ} يقال للمنتقم منه: ذق، وقد استعمل الذوق في العذاب في حدود خمسين آية من القرآن الکريم، ولعل ذلک لبيان إحساسهم بالعذاب، فإن الذائقة أقوی الحواس إدراکاً - علی ما قيل - ، أو لما في المفردات: اختير في القرآن لفظ الذوق في العذاب، لأن ذلک وإن کان في

ص: 563


1- الکافي 2: 409.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 534-535، عن تفسير العياشي.

التعارف للقليل، فهو مستصلح للکثير، فخصّه بالذکر ليعم الأمرين(1).

وقوله: {الْحَرِيقِ} أي النار أو لهبها فالإضافه بمعنی اللام أو من.

الرابع: قوله تعالی: {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ}.

بيان عدله تعالی وأن هذا العذاب هو نتيجة أعمالهم وليس ظلماً من الله سبحانه، فللعذاب سببان مجتمعان معاً: سوء العمل وعدل الرب.

وقوله: {بِمَا} (الباء) سببيّة، و(ما) موصوله أو مصدرية.

وقوله: {قَدَّمَتْ} بمعنی الأعمال التي عملتموها في الدنيا، فکأنکم أرسلتموها قبلکم إلی الآخرة، لأن الأعمال تتجسّم في الآخرة، فمن عمل عملاً فقد أرسله إلی الآخرة، أو لأنها تسجّل إلی يوم الجزاء فکأنه قدّمها باعتبار أثرها.

وقوله: {أَيْدِيكُمْ} أي أنفسکم، فالمعنی ذلک بما قدمتموه، وإنما عبر بالأيدي لأن أکثر الأعمال بها.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ} عطف علی ما قدمت، أي وبسبب أن الله ليس بظلام، أي عدله اقتضی عذابهم وعدم العفو عنهم، وذلک لأنه ليس من العدل العفو عن جميع الظالمين وجميع الجرائم، فلابد في العدل من عقوبة المخالفين ولو في الجملة.

بيان ذلک: إن الله تعالی ذو رحمة وفضل، لکن ليس من العدل وضع الفضل والرحمة في غير موضعهما، فذلک خلاف الحکمة، وکل ما کان

ص: 564


1- مفردات الراغب: 332.

خلاف الحکمة فهو ليس من العدل، مثلاً ترک عقاب من ظلم الناس خلاف العدل، ولذا يتمنی الکافر أن يکون تراباً کما قال: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا}(1)،

أو أن يقضي الله عليه قال: {وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}(2)، أو أن يخفف عنه العذاب قال: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ}(3).

فليس العقاب لمجرد الردع کي يقال: لايتمکن الکافر من العصيان يوم القيامة أو إذا أفناه الله تعالی، ولذا تری المحاکم تصدر أحکامها عقوبةً للمجرمين حتی لو أمنوا من تکرار جرمهم، لأن عدم العقوبة علی الجرم ظلم وليس بعدل.

وبهذا يتضح سبب عطف عدم ظلمه في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ} علی عملهم في قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، ويتبيّن أن سبب العقاب کلا الأمرين مجتمعين: عصيان العبد وعدل الرب.

نعم من آمن وعمل صالحاً قد يستحق التخفيف عليه بالعفو والغفران، ولا يخالف ذلک العدل، وليس بظلم، کما قد تخفف المحاکم أو تعفو عن بعض المخالفين.

وقوله: {ظَلَّامٖ} إما للنسبة أي ليس بذی ظلم، لأن صيغة فعّال قد تستعمل لذلک مثل عطّار وتمّار، وإمّا صيغة مبالغة لتشنيع الظلم وبيان قبحه

ص: 565


1- سورة النبأ، الآية: 40.
2- سورة الزخرف، الآية: 77.
3- سورة غافر، الآية: 49.

فلا يصدر منه تعالی مطلقاً، أو لبيان کثرة المتعلّق لأنه لو کان ظلم في قضيّة لعمّ الظلم کل من يرتکبها!

وفي التقريب: ولعل اختيار هذه الکلمة لردّ التوهم، وهو أن الإحراق بالنار إنما يصدر من إنسان کثير الظلم، فيکون الإتيان به للمجانسة اللفظية(1).

وقوله: {لِّلْعَبِيدِ} لبيان حسن عقوبته لهم حيث إنهم عبيده، ولو کانوا عبيد غيره لأوکل أمرهم إليه، لکن لا ربّ سواه وکل ما في الکون ملکه، وکل الناس عبيده، قال تعالی: {وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهِۢ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ سُبْحَٰنَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(2).

وإنما لايصدر منه الظلم سبحانه وتعالی، لأن الظلم لايصدر إلا من جاهل أو عاجز أو خبيث، فالظالم قد يجهل بکون عمله ظلماً، ولو علم لما فعله، أو الظالم ضعيف يريد تغطية ضعفه والاستقواء بالظلم کما يفعل الحکام الظلمة بمصادرة أموال الناس وقتلهم أو سجنهم ليغطوا علی ضعفهم وليستقووا بالظلم، أو الظالم خبيث يلتذ بظلمه لاعن جهل ولا عن ضعف، والله منزه عن کل ذلک.

الخامس: قوله تعالی: {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ...} الآية.

بيان لافترائهم علی الله تعالی، وذلک من سوء عملهم، فزعموا أن الله تعالی أمرهم بأن لايؤمنوا بأيّ رسول إلاّ لو جاء بهذه المعجزة، وهي أن يأتي بشيء يتقرب به إلی الله کالذبائح ونحوها ثم تأتي نار من السماء

ص: 566


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 427.
2- سورة المؤمنون، الآية: 91.

تحرق ذلک القربان.

وبهذا الزعم کذّبوا عيسی (عليه السلام) حيث کانت معاجزه غير ذلک، وکذبوا الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لنفس السبب.

وکلامهم يتضمن الکذب علی الله من جهتين:

الأولی: إن الله لم يأمرهم بهذا، بل أمرهم بالإيمان بعيسی (عليه السلام) وبرسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) مع ذکر أوصافهما بدقة في التوراة، وحيث قد علموا انطباق تلک الأوصاف عليهما کان لابد لهم من تصديقهم فوراً من غير احتياج إلی معجزة أصلاً.

الثانية: إن الله تعالی لم يحصر المعاجز بشيء معين، بل بحکمته کان يختار لکل رسول معجزة أو معاجز، فلا وجه لحصر المعاجز بشيء خاص، وحتی نبيّ الله موسی (عليه السلام) لم تکن معجزة القربان من معاجزه.

سؤال: لماذا لم يستجب الله لطلبهم، فينزل هذه المعجزة علی رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟

والجواب: کان يکفيهم بما وجدوه من صفاته واسمه في التوراة وبما رأوا من معاجزه الأخری، فلذا لم يکن داع للاستجابة لطلبهم، وکما مرّ فإن المعاجز ليست ألعوبة لکلّ صاحب هوی ليطلب ما يشاء کيفما يشاء، فإن في ذلک فساد نظام العالم قال تعالی: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ}(1)، فلو کانت معجزة القربان تتحقق لافتروا علی الله تعالی بأمور أخری، أو ادّعوا السحر ونحو ذلک من أباطيل، والحاصل: إن

ص: 567


1- سورة المؤمنون، الآية: 71.

القربان معجزة فهو وسائر المعاجز سواء.

قوله: {عَهِدَ إِلَيْنَا} أي أوصانا وأمرنا بحفظه ورعايته.

وقوله: {بِقُرْبَانٖ} قيل: وکان طريقته في بني إسرائيل أن توضع ذبيحة في طشت ثم تأتي نار من السماء فتحرقها، وأول قربان بهذه الکيفية ما قدّمه ابني آدم (عليه السلام) ، فقدّم هابيل خير غنمه، فنزلت نار فأحرقته وکان ذلک آية قبول قربانه.

وقوله: {تَأْكُلُهُ النَّارُ} کناية عن إحراقه بها، فکأنها أکلته.

السادس: قوله تعالی: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَٰتِ...} الآية.

هذا ردّ لقولهم وتکذيب لهم بأنهم سيؤمنون لو رأوا هذه المعجزة، وذلک لأن الله أرسل أنبياءً في أسلافهم ظهروا بالمعجزات الواضحة، وکان من معجزاتهم القربان، ومع ذلک لم يؤمنوا بهم، بل وتمادوا في الغي بأن قتلوهم، وهؤلاء الأخلاف راضون بفعل أسلافهم.

ولعل قوله: {بِالْبَيِّنَٰتِ} لتکذيب دعواهم أن الله عهد إليهم بما قالوا، إذ لو کان العهد هکذا لم يکن وجه لتلک البينات، لأن سبب المعاجز هو بيان صدق الأنبياء ليتبعهم الناس، فإذا أمر الله بعدم الايمان برؤية المعجزات سوی معجزة القربان فلماذا أعطی الأنبياء السابقين البينات؟ أليس هذا خلاف الحکمة ونقضاً للغرض، ومن ذلک يتبيّن کذب هؤلاء اليهود في افترائهم علی الله تعالی.

وقوله: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} أي قتلهم أسلافکم ورضيتم أنتم بفعلهم؟ وهذا

ص: 568

ليس تکرار لما في الآية 186، لأن ذاک کان في بيان تماديهم علی الله ورسله، وهذا في مقام الاحتجاج عليهم وبيان إفترائهم.

وفي المناهج: الظاهر من بعض الروايات أن الخروج عن مظلمة الظالمين متوقف علی البراءة والتبرؤ منهم، ولا يکفي في ذلک صِرف السکوت، بل لابد من الإظهار والإعلان، سواء کان الظالم معاصراً أو متقدماً لئلا يسري الفساد والإنحراف إلی اللاحقين، ولا تستحکم أصول البدع والمظالم فيهم، فتطهير المجتمع والأفکار العمومية متوقف علی البراءة والإنکار. فإن التولي لأولياء الله تعالی والبراءة من أعدائه سبحانه من أصول الإيمان، فإن لم يستطع الإنکار والجهر به فلابد أن يعرض في خلواته إلی ربه، وينکره بقلبه(1).

وقوله: {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} أي قتلهم دليل علی کذبکم فيما ادّعيتموه وافتريتموه علی الله من العهد إليکم، وبأنکم ستؤمنون إن جاءکم رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بالقربان.

السابع: قوله تعالی: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ...} الآية.

هذا تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأنه ليس بدعاً من الرسل، وأن تکذيب الناس للأنبياء شيء عهدوه، وهؤلاء المکذبون علی أثر أولئک المکذبين، ولم يکن تکذيبهم عن بينة أو برهان بل کان الدليل الواضح للأنبياء (عليهم السلام) ، فلهم المعاجز وبشارات الأنبياء السابقين والکتاب السماوي:

قوله: {بِالْبَيِّنَٰتِ} أي الدلائل الواضحة، وهي معاجزهم کعصی موسی، وناقة صالح، وإحياء عيسی للأموات ونحو ذلک.

ص: 569


1- مناهج البيان 4: 200.

وقوله: {وَالزُّبُرِ} جمع زبور وهي الأوراق، وکأن المقصود بشائر الأنبياء السابقين بهم.

وقوله: {وَالْكِتَٰبِ الْمُنِيرِ} أي الکتاب الجامع الذي فيه الحلال والحرام.

وبهذا البيان يتضح الفرق بين الزبر والکتاب، فالزبر ما کتبه الأنبياء السابقين الذي فيه بشارة للأنبياء اللاحقين، والکتاب هو الکتب السماوية المشتملة علی المعارف والأحکام الشرعية والمواعظ، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «{بِالْبَيِّنَٰتِ} هي الآيات، {وَالزُّبُرِ} هو کتب الأنبياء بالنبوة، {وَالْكِتَٰبِ الْمُنِيرِ} الحلال والحرام»(1) وکأنّ ذکر الحلال والحرام هو من باب المصداق، فخصّ (عليه السلام) الزبر بکتب الأنبياء بالنبوة دون غيرها، وهذا ظاهر بالبشارة بهم.

وقوله: {الْمُنِيرِ} أي ذي النور، الهادي من ظلمات الکفر والرذائل، فيُظهر الحق حتی لايبقی وجه التباس وشبهة.

والحاصل: إن کل أسباب تصديقهم اجتمعت، لکن کذبوهم عناداً، وهکذا من کذّب برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .

ص: 570


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 535، عن تفسير القمي.

الآيتان 185-186

{كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}

ثم إن عدم الجهاد بالنفس أو المال وعدم الإيمان إما لخوف الموت أو خوف نقصان الأموال أو لطلب الدنيا، فبينت الآيات عدم کون ذلک عذراً.

185- ف {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أي تلاقيه، فالفرار عن الجهاد لاينفع في الفرار عن الموت، بل جاهدوا، {وَإِنَّمَا} سيجازيکم الله في الدنيا والبرزخ ثم {تُوَفَّوْنَ} تعطون وافياً تاماً {أُجُورَكُمْ} ثواب أعمالکم {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ} أ ُقصی وبُعِّد {عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أي ربح وظفر بالنجاة، {وَ} أما المنهزم عن الجهاد الذي يحسب أنه نجی من الموت فليس بفائز إذ {مَا} ليست {الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} التي يتمتع بها غير المجاهد {إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ} الخداع والغفلة، کالمشتري الذي يُدلّس له المتاع حتی يشتريه فيخسر رأس ماله ويحصل علی شيء رديء، والغارّ الخادع هو الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.

186- وأما الأموال فلا بقاء لها فلا تبخلوا بالجهاد بها ف {لَتُبْلَوُنَّ فِي

ص: 571

أَمْوَٰلِكُمْ} تمتحنون بها وذلک بنقصانها أو زوالها، ومن الاختبار وجوب إخراج الزکاة وسائر الحقوق الواجبة، {وَأَنفُسِكُمْ} فتموتون فتورث الاموال إلی الورثة فتنتقل عنکم!

ثم إن هناک مثبطات أخری {وَ} منها: {لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ} اليهود والنصاری {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} ککفار مکة {أَذًى كَثِيرًا} أي تسمعون منهم أقوالاً فيها إيذاء لکم کالطعن في دينکم والاستهزاء بکم ونحو ذلک، {وَإِن تَصْبِرُواْ} علی البلايا والأذی {وَتَتَّقُواْ} تحفظوا أنفسکم من المعاصي حين البلاء والأذی {فَإِنَّ ذَٰلِكَ} الصبر والتقوی {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي من المعزومات بمعنی الواجبات، والعزم هو ثبات الرأي والاستقامة في الفعل.

بحوث

الأول: سياق الآيات وارتباطها بما قبلها هو في الحث علی الجهاد والاستقامة علی الدين وتحمل الصعوبات والمشقات، وذلک لأن عدم الجهاد والعمل الصالح له أسباب متعددة، لکن لدی التأمل والتعقل يتبيّن عدم إجداء ترک الجهاد والعمل للوصول إلی مطلوب النفس.

1- فقد لايجاهد خوفاً من الموت، لکن ليعلم أن الموت لاقيه، فلا ينفعه الفرار منه، کما أنّ الفرار من الموت لأجل التمتع بالحياة الدنيا، لکن الجهاد سبب الفوز بالنعيم الأبدي في الجنة والبُعد عن النار، فلا يُقارن عاقبة الجهاد بعاقبة الفرار منه.

2- وقد لا يجاهد بماله، خوفاً من نقصانه أو زواله، لکن البلاء قد يصيب

ص: 572

الأموال المکدّسة فيخسرها الإنسان، وحتی لو فرض أنه في ربح دائم لکنه سيترک هذه الأموال لغيره بمجرد موته، فلا تبقی له، إذن لماذا يبخل بها عن أداء حقها الواجب.

3- وقد تکون هناک مثبّطات مثل کلام الکفار بالطعن والاستهزاء فيهم وفي دينهم، لکن ما قيمة کلامهم وطعنهم، فهل إذا اتبعتموهم في کلامهم تفوزون؟

الثاني: قوله تعالی: {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ...} الآية.

أي فحيث لامناص من الموت، فلا بد أن لايکون الموت حاجزاً عن نيل المعالي والمکرمات، بل عليکم طلبها حتی لو کان في ذلک خطر الموت، لأن الحياة في ذل وهوان أو الحياة لمجرد المتمتع بالأکل والشرب والنکاح لاقيمة لها، بل ذلک سقوط الإنسان إلی الحيوانية بل أسوء کما قال تعالی: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَٰمُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}(1)، وقال: {أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَٰفِلُونَ}(2).

والحاصل: إنه حيث لامفرّ من الموت فعلی الإنسان أن يعمل بما يوجب ارتقاءه وکماله، ولا يقولنّ أحدٌ إن القتيل لم يأخذ أجره! لأنه يقال له: إن المجاهد إن رجع سالماً فقد فاز بالدنيا والآخرة، وإن قتل في سبيل الله فله أجر في الدنيا بالذکر الحسن وآثار أخری تترتب لذريته، وله أجر في

ص: 573


1- سورة محمد، الآية: 12.
2- سورة الأعراف، الآية: 179.

البرزخ، فإن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار - کما في الحديث(1)- وأما الأجر التام الوافي فهو في الآخرة کما قال تعالی: {وَأَنَّ سَعْيَهُۥ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}(2).

وقوله: {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أي ملاقيته، والموت أمر وجودي مخلوق لله تعالی کما قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(3)، وهو انفصال الروح عن الجسد، وانتقاله إلی عالم البرزخ، والروح حية فيه في أجساد مثالية إما منعّمة إن کان مؤمناً، أو معذّبة إن کان کافراً، أو يُلهی عنها إن کان مستضعفاً، وقد مرّ تفصيله.

ولا موت للروح إلا حين النفخة الأولی للصور، فتفنی کل الأشياء ثم يعيدها الله في النفخة الثانية.

وقد يقال: إن الحياة لازم ذاتي للروح، فلا معنی لموتها إلا إنعدامها وهو ما يحصل في النفخة الأولی حسب ما يظهر من الأخبار، وأما ما ذکره بعضهم من استحالة إعادة المعدوم! فأدلته ضعيفة مردودة عقلاً، مع دلالة الأخبار علی انعدام کل شيء ثم إرجاعه، والتفصيل في مقام آخر.

وقوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} الظاهر إنّه في الثواب، لأن العقاب لايقال له الأجر، وکذلک کل استعمالات الأجر في القرآن الکريم فإنها في الثواب، وأما ما ذکره بعض المفسرين من أن الأجر هو الجزاء إن خيراً فخير

ص: 574


1- نور الثقلين 3: 553.
2- سورة النجم، الآية: 40-41.
3- سورة الملک، الآية: 2.

وإن شراً فشر فبعيد، بل يخالف سياق الآية الکريمة لأنها في مقام الحث علی الجهاد.

الثالث: قوله تعالی: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}.

الزحزحة من الزحّ، بمعنی البُعد، وقيل: هو الجذب بعنف وعجلة، والمعنی من بُوعد عن النار وأقصي عنها، فکأن النار - بسبب الشهوات والشبهات - تجذب الإنسان إليها بقوة، لکن الله تعالی هيّأ وسائل النجاة عنها بحيث يُبعّد الإنسان عنها بشدة وقوة.

واستعمال الفعل المجهول لأن وسائل النجاة عنها متعددة وهي الفطرة والعقل والرسل وأوصياؤهم (عليهم السلام) والکُتب والأعمال الصالحة والشفعاء وأمثال ذلک فکلها تجتمع حتی يختار الإنسان الإيمان والعمل الصالح ليزحزح عن النار.

وقوله: {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ} کذلک، فإن الجنة بلطف من الله تعالی ومنّه وکرمه حيث هيّأ للإنسان ما به يصير قابلاً لهذا الفضل.

وقوله: {فَقَدْ فَازَ} والفوز هو الظفر بالخير مع حصول السلامة(1)، أي فحيث لامنجی من الموت فالفائز الذي نال الخير بسلامة هو الناجي عن النار النائل الجنة.

الرابع: قوله: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}.

المراد من {الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} خصوص ما يتمتع بها العاصي القاعد عن الجهاد الواجب، بقرينة المقابلة مع الذي يزحزح عن النار ويدخل الجنة،

ص: 575


1- مفردات الراغب: 647.

وذلک لأن الدنيا قد تکون قنطرة للآخرة وثوابها، حيث يفوز المؤمنون فيها عبر إطاعة الله تعالی فهذه دنيا محمودة، وأما إذا کانت الدنيا وسيلة للعصيان والسقوط إلی درکات الضلال وعالم الحيوان، فهي الدنيا المذمومة، والتي نزّه أولياء الله تعالی أنفسهم عنها، وإنما کثر ذم الدنيا لأن النفس تنساق إلی رذائلها بقوة، فکان لابد من الترکيز علی شرّها وظلمتها.

ثم إن الدنيا قد تلاحظ بنفسها فلا قيمة لها، لأن الله تعالی لم يجعل لها منزلة وقدراً، وفي أحاديث متعددة أنه لو عدلت الدنيا عند الله عز وجل جناح بعوضة ما سقی عدوّه منها شربه ماء(1)،

ولذا لم يجعلها الله ثواباً لمؤمن لأن عمله عظيم ولا تکافئه الدنيا أبداً.

وقد تلاحظ بالنسبة إلی الأعمال فيها، فقد تکون ممدوحة باعتبار تلک الأعمال، ففي نهج البلاغة: «إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنیً لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلّی ملائکة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اکتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة»(2).

والحاصل: إن الحصر في قوله: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ} بيان لحقيقة الدنيا بشکل عام، فهي المتاع الذي يستغلّه إبليس وأعوانه ليخدعوا الناس جميعاً، لکن المؤمنون لاينخدعون لمّا زکوا أنفسهم واهتدوا بهدی الله تعالی والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) .

ص: 576


1- الکافي 2: 246.
2- نهج البلاغة، الحکمة 131.

فالمقصود بيان انخداع العصاة وتارکي الجهاد بالدنيا.

والحاصل: إن المؤمن لاينخدع بالدنيا، بل يأخذها بقيمتها الحقيقية، وذلک بأن يطلب منها ما يصلح به معيشته ويتزود لآخرته، وهو ما يُعبّر عنه في الأخبار بدنيا البلاغ(1)، وأما غالب الناس فينخدعون بالتدليس، فيأخذون الدنيا بثمن بيع الآخرة وبالغفلة والمعاصي.

فتلخص: أن الحصر في قوله: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ} حصر حقيقي أي کل الحياة الدنيا فيها تدليس، فلا بد للمؤمن أن لاينخدع فيأخذ من الدنيا بالمقدار الذي أباحه الله تعالی، لا أن يشتريها بالعصيان والکفر!

وقوله: {الْغُرُورِ} بمعنی الخداع بغفلة، ومن أسماء الشيطان {الْغُرُورِ} وهو صيغة مبالغة کما قال: {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(2).

الخامس: قوله تعالی: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}.

بيان لسنة من سنن الله تعالی فيما يتعلّق بالمال، وحثّ للجهاد به، وعدم البخل به خوفاً من زواله أو نقصانه، وذلک لأن الأموال في زوال، إما بالخسارة والآفات، فکم من بخيل خسر في تجارته أو زالت أمواله بأسباب طبيعية أو غير طبيعية، أو بالموت، فمن لم يخسر ماله ولم يصبه آفة سرعان ما يموت وحينئذٍ يترک الأموال لورثته أو لغيرهم، فهم يتمتعون بتلک الأموال وهو يحاسب عليها، وفي الحديث: «وشر منه من باع آخرته بدنيا غيره»(3).

ص: 577


1- الکافي 2: 131.
2- سورة لقمان، الآية: 33.
3- من لايحضره الفقيه 4: 353.

ومن ذلک يتضح أن قوله: {وَأَنفُسِكُمْ} ليس تکراراً لقوله: {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} کما لا حاجة إلی تفسيره بأن المراد الأمراض والأسقام ونحوها، لأن ذلک خلاف السياق، بل الظاهر أن المقصود - والله العالم - هو أن المال لايبقی لکم إما بزواله أو بزوالکم.

وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أن {فِي أَمْوَٰلِكُمْ} بإخراج الزکاة {وَأَنفُسِكُمْ} بتوطين النفس علی الصبر»(1) وذلک من مصاديق بذل المال في سبيل الله تعالی حيث يمتحن الله الناس به، کما أن توطين النفس علی الصبر قد يکون بمعنی الابتلاء بأمور تستدعي الصبر عليها.

السادس: قوله تعالی: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...} الآية.

بيان لمصيبة أخری تصيب المجاهدين، وإنما ذکرها ليوطنوا أنفسهم عليها، فإن الذي يتوقع حدوث مشکلة يکون تحمله لها أهون وأسهل من الذي تأتيه بغتة من غير استعداد.

فالمجاهد قد يصاب في نفسه وقد يصاب في ماله، لکن الأصعب من ذلک شماتة الأعداء وطعنهم في الدين وأهله، وقد لايتحمل بعض الناس ذلک فيقعون في المخالفة والمعصية، مع أن الصحيح هو کسب رضا الله تعالی والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لا رضا الناس وخاصة إذا کانوا أعداءاً، قال تعالی: {وَرَسُولُهُۥ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}(2).

وقوله: {أَذًى} أي قولاً فيه أذی، و(الأذية) دون الضر أي أقل منه،

ص: 578


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 540، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) .
2- سورة التوبة، الآية: 62.

فهؤلاء لايتمکنون من ضررکم ضرراً جسيماً، بل کل ما يصنعونه هو ايذاؤکم بکلامهم کما قال: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}(1).

وقوله: {كَثِيرًا} بمعنی مواصلتهم في الطعن والشماتة وإلقاء الشبهات، فهم لايتوانون في باطلهم، فعليکم أن تستقيموا علی حقکم.

السابع: قوله تعالی: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.

تعليم لکيفية الاستقامة، وعدم التأثر بالبلاء والأذی:

فأولاً: الصبر، بمعنی التحمل وعدم الانهيار.

وثانياً: التقوی، بمعنی کف النفس وحفظها عن المحرمات.

وهذان علاجان للبلاء والأذی، فأمامهما البلاء لابد من الصبر والتقوی، ويحتمل أن يکون الصبر في البلاء والتقوی في الأذی.

وقوله: {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} «العزم» إما مصدر بمعنی المفعول فالمعنی من واجبات الأمور أي أوجبها الله تعالی، أو بمعنی أنه لابد من العزم عليها أي إثبات الرأي وإمضائه وعدم التراجع عنه.

ولا يخفی أن النتيجة العظيمة - کالفوز بالجنة والبُعد عن النار - بحاجة إلی مقدمات صعبة، وتلک المقدمات لابد من اقترانها بالعزم الأکيد، وإلاّ لوهن الإنسان عنها فلا يصل إلی مبتغاه، وقد مرّ أنه في الدنيا کلّما کانت النتيجة أعظم کان الوصول إليها أصعب، وثواب الآخرة أشرف من الدنيا وهو أعلی الغايات وأسماها فکانت مقدماته أصعب فلابد فيها من الصبر وکف النفس.

ص: 579


1- سورة آل عمران، الآية: 111.

وفي التقريب: {عَزْمِ الْأُمُورِ} فيه مجاز إذ نُسب العزم الذي هو للإنسان إلی الأمر، کقولک: أصرّت الأمور عليّ، لبيان أن الأمر قد صار عزماً من شدة لزومه وفرض وجوبه(1).

ص: 580


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 430.

الآيات 187-189

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ (189)}

187- ومن البلايا التي يبتلي بها المؤمنون هو کتمان أهل الکتاب للحق مضافاً إلی ما مرّ من تکذيبهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) {وَإِذْ} اذکر الوقت الذي {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ} العهد الأکيد عبر الأنبياء وعبر ما أودعه في فطرتهم {الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} علمائهم: {لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ} أي بيان الکتاب وما فيه من البشارة برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) {وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ} أي عدم کتمان الکتاب إذا بُعث محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {فَنَبَذُوهُ} الميثاق أو الکتاب {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} کناية عن الإهمال وعدم الاعتناء، {وَاشْتَرَوْاْ بِهِ} بدلّوه عمداً {ثَمَنًا قَلِيلًا} حطام الدنيا من رئاسة وأموال وأهواء، {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} تحقير لما حصلوا عليه.

188- وهؤلاء هم الذين يقلّبون الحقائق ف {لَا تَحْسَبَنَّ} لاتتوهم أيها السامع {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ} ماصنعوا من الکتمان والتحريف والتدليس {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ} يمدحهم الناس {بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} من

ص: 581

الوفاء بالميثاق {فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ} نجاة وبُعد {مِّنَ الْعَذَابِ} فهم يستحقونه، {وَ} لايغفر لهم ف {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

189- {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} فلا يضره کفر ونفاق وسوء صنيع بعض الناس، {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} فإمهالهم عن حکمة لا عن عجز، کما أنهم لايفوتونه فيقدر علی عقابهم.

بحوث

الأول: سياق الآيات في بيان ابتلاء المؤمنين، فکما ابتلوا بالتکذيب وبسماع أقوال تؤذيهم وبغير ذلک من البلايا، کذلک ابتلوا بعلماء أهل الکتاب حيث کتموا الحق ولم يبيّنوه، وهم مع ذلک يظهرون أنفسهم بمظهر الحق ويتوقعون من الناس مدحهم والثناء عليهم، ثم يُسلّي الله تعالی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بأن تجارة هؤلاء خاسرة، لأنهم استحقوا بها العذاب والله تعالی لايغفر لهم لذا سينالونه، إذ هو تعالی المالک لکل شيء القادر علی فعل ما يشاء.

الثاني: قوله تعالی: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...} الآية.

(الميثاق) هو العهد الأکيد، وهو ما جعله الله تعالی في فطرتهم تکويناً بقبح الظلم وحسن العدل وعدم حجب الحق عن الناس لأجل الأهواء والمصالح، وکذلک أخذ الله العهد عنهم بواسطة أنبيائه (عليهم السلام) قال تعالی: {فَخَلَفَ مِنۢ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُۥ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَٰقُ الْكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ

ص: 582

لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(1)،

وهذا الميثاق کان في رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) کما عن الإمام الباقر (عليه السلام) (2).

وقوله: {أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} أي علمائهم، لأن الجهال منهم لم يکونوا يعلمون الکتاب إلاّ أماني کما مرّ في سورة البقرة، والتعبير ب {أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} للدلالة علی أنهم لم ينسوا العهد بسبب طول المدة، وذلک لوجوده في الکتاب الذي بأيديهم.

وقوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ} البيان مؤکد بلام القسم ونون التأکيد الثقيلة، ولا يخفی أن البيان لايکون إلاّ بعد العلم.

وفي المناهج: فوجوب طلب العلم والتفقه في الدين ليس لأجل العلم الإجمالي بوجود أحکام واجبة أو محرّمة للخروج عن عهدتها، بل لأجل بداهة وجوب القيام بحمل الدعوة الإلهية والعلوم الربانية والذب عنها من التحريف والانتحال والتأويل بالباطل(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «ما أخذ الله علی أهل الجهل أن يتعلّموا حتی أخذ علی أهل العلم أن يعلّموا»(4).

وقوله: {وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ} إما تأکيد للبيان إذ الکتمان يستلزم عدم البيان، کما أن البيان يستلزم عدم الکتمان.

وإما أن البيان هو الشرح والتوضيح وبيان المصداق، وعدم الکتمان

ص: 583


1- سورة الأعراف، الآية: 169.
2- تفسير الصافي 2: 163.
3- مناهج البيان 4: 211 (بتصرف).
4- نهج البلاغة، الحکمة 477.

بمعنی الإظهار للناس، وذلک لأنه قد لايُخفي أحد الکتاب ولا يحرّف فيه لکن لايدعو الناس إليه ولا يوضّحه لهم بل يسکت عنه، فالآية تنهی عن السکوت وتأمر بالدعوة إليه.

وإما البيان مقابل التحريف، وعدم الکتمان مقابل الإظهار، فکما نُهوا عن الإخفاء کذلک نُهوا عن التحريف.

الثالث: قوله تعالی: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا...} الآية.

أي بدلاً عن الوفاء بالميثاق ترکوه وأهملوه، لأنهم زعموا أنه خطر علی مصالحهم الدنيوية، لکنهم قد أخطؤوا إذ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فلو کانوا يؤمنون لکان الله يعزّهم بعزّة حقيقية في الدنيا والآخرة، لکنهم بنقضهم الميثاق خسروا دنياهم حيث حاکوا المؤامرات وأوقدوا الحروب فخسروا فيها نفوسهم وأموالهم وديارهم وأهليهم، کما اشتروا لأنفسهم العذاب الدائم الخالد.

وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} کناية عن عدم الإهتمام، کالذي يلقي ما لايريده خلف ظهره، ولذا کتموه وحرفوه وأوّلوه بالباطل، ويقابله «جعله نصب عينيه»، کنايه عن شدة الإهتمام به.

وقوله: {وَاشْتَرَوْاْ} أي بدّلوه بالثمن القليل، والاشتراء کما يطلق علی أخذ المثمن، کذلک يطلق علی أخذ الثمن، فهو بمعنی التبديل سواء کان تبديل ثمن ببضاعة أو بالعکس، فالمعنی: إن هؤلاء عوّضوا الميثاق بحطام الدنيا، فلم يحفظوه، وفي قوله: {وَاشْتَرَوْاْ} بيان أن عملهم هذا لم يکن عن

ص: 584

غفلة أو جهل بل تعمّدوا ذلک لينالوا الحطام.

وقوله: {ثَمَنًا قَلِيلًا} لأن الدنيا متاع قليل من حيث الکمّيّة والکيفية وعدم الاستمرار، فأخذوا أموالاً قليلة من عوامّهم الذين دلّسوا وترأسوا عليهم، وحکّموا أهوائهم، لکن کل ذلک قليل ولمدة محدودة.

وقوله: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} هذا لتحقير ما حصلوا عليه، فلا قيمة لتلک الأموال والرئاسة والأهواء، التي کانت ثمناً لنقض العهد، فإنه رذيلة لابد من اجتنابها، لا ارتکابها ولو بثمن کل الدنيا وما فيها، فإنسانية الإنسان أسمی من کل ذلک.

الرابع: قوله تعالی: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ...} الآية.

بعد أن ذکر تعالی سوء صنيعهم، يبيّن سبحانه عذابهم علی عملهم، فهم يفرحون بما صنعوا من الکتمان وعدم البيان واشتراء الثمن القليل، وقد حصلوا علی مدح من عوامّهم، لکن لاينفعهم ذلک کلّه، لأنهم استحقوا العذاب بسوء صنيعهم وسوف لايغفر الله تعالی لهم، فلا يتوهموا أنهم وإن استحقوا العذاب إلا أن المغفره ستشملهم! کلاّ، فليس ذلک مجرد وعيد قد لاينفّذ، بل هو إخبار وتأکيد علی فعلية ذلک العذاب.

وقوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ} أي يفرحون علی الباطل الذي صنعوه وهو التدليس علی العوام بالکتمان وعدم البيان، وإنما يفرحون لأنهم قبضوا ثمنه من الحطام، فانتفاعهم بتدليسهم صار سبباً لفرحهم.

وقيل: فرحهم بعموم أعمالهم حتی الصالحة منها، فإن ذلک مذموم، بل المؤمنون في وجل کما قال تعالی: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ

ص: 585

أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَٰجِعُونَ}(1)، وقال تعالی: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(2).

نعم المؤمن يفرح بفضل الله تعالی وبالحق، کما أنه يفرح بالحسنة نفسها لا بما يفعله، قال تعالی: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(3)، وقال: {وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}(4).

لکن الفرح بالأعمال الصالحة - وإن کان مذموماً - إلاّ أنه غير مراد في هذه الآية، وذلک لأنّ الفرح بنفسه ليس حراماً حتی يستوجب العذاب، فالعذاب الموعود في هذه الآيه قرينة علی أن المراد فرحهم بما أتوا من عدم البيان والکتمان.

أو بمعنی أنهم يفرحون بکل أعمالهم حقاً کانت أم باطلاً، عکس المؤمن الذي لايفرح بما صدر منه من الباطل، وفي الحديث: «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن»(5).

والأنسب أن الذم منصب علی ما أتوا من القبائح، لا علی مجرد الفرح به، کما سيأتي بيانه بعد قليل.

وقوله: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} أي لم يفوا بالميثاق ولم يُظهروا الحق ولم يُصدقوا، ولکنهم مع ذلک يحبون أن يمدحهم الناس

ص: 586


1- سورة المؤمنون، الآية: 60.
2- سورة الحديد، الآية: 23.
3- سورة يونس، الآية: 58.
4- سورة الرعد، الآية: 36.
5- الکافي 2: 232.

بالوفاء والعمل بالحق وبالصدق، وهذا دأب کل أهل الباطل حيث يحبون أن يمدحهم الناس بأنهم أتباع الحق وعاملون به، ولو بيّن الناس أعمالهم القبيحة ونواياهم الشنيعة لانزعجوا، وکفی ذلک علامة علی حسن الحق وقبح الباطل، وکفاه حجة علی أهل الباطل.

وفي التقريب: ومن الناس من لايدخل في عمل الخير مع العاملين، فإذا خسر العاملون ما أرادوا وصف نفسه بالحصانة والتعقل، وإذا ربحوا جعل نفسه من المؤيدين لهم، وتوقّع أن يُثنی عليه ثناء العاملين(1).

ثم إن قوله: {بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} يدلّ علی أن الذم خاص بمن يحب أن يمدح بما لم يفعله، وأما إذا فعل الصالحات فلا بأس بأن يحب المدح، بل قد قيل: إنه خلق حسن ومن الأمور الفطرية أن يحب الإنسان المحمدة علی عمله الصالح، کما قال ابراهيم (عليه السلام) : {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٖ فِي الْأخِرِينَ}(2).

لکن الأقرب أن هذا الحب وإن لم يکن مذموماً إلاّ أن الإنسان لابد من أن ينزّه نفسه عنه بل يکون همّه رضا الله تعالی، وأما قول ابراهيم (عليه السلام) فليس لأجل أن يُمدح بل لأجل أن يُتخذ أسوة.

والحاصل: إن ذمّهم بأنهم يحبون أن يمدحوا بما لم يفعلوا إما علی نفس هذا الحب باعتبار أنه غرور وعجب، أو علی عدم الفعل نظير قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(3) حيث إن الذم منصب علی عدم الفعل لا علی القول، وهذا أنسب بالسياق حيث وعد العذاب من جهتين: فعل القبائح بقوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا

ص: 587


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 431.
2- سورة الشعراء، الآية: 84.
3- سورة الصف، الآية: 2.

أَتَواْ}، وترک الطاعات بقوله: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ}، وفي ذلک تشنيع عليهم بأنهم لم يکتفوا بفعل المعاصي حتی زادوا عليه الفرح عليها، کما لم يکتفوا بترک الطاعات حتی زادوا حبهم بأن يحمدوا عليها.

وقوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُم} تأکيد لما في أول الآية، لطول الفصل بالمفعول الأول.

وقوله: {بِمَفَازَةٖ مِّنَ الْعَذَابِ} مصدر ميمي من الفوز، أي فائزين بالنجاة عن العذاب، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ببُعد من العذاب»(1)

وهذا لبيان استحقاقهم للعذاب.

وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إخبار عن عدم العفو عنهم، فهذا ليس تأکيداً لقبله، بل ذاک لبيان الاستحقاق وهذا لبيان الوقوع.

أو لأنه تعالی لما ذکر جريمتين من جرائمهم بفرحهم بما أتوا وبحبهم بالمدح بما لم يفعلوا، أراد تأکيد العذاب مرتين.

الخامس: قوله تعالی: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ...} الآية.

هذا کحسن الختام لهذا المقطع من سورة آل عمران، وکأنه لبيان عدم خروجهم عن سلطته بعصيانهم، وعدم عجزه عن عقابهم، فهؤلاء جميعاً ملکه ولايمکنهم الفرار من مملکته، لأن جميع السموات والأرض في قبضته، وهو علی عذابهم قدير، فلا يفوته ما يريد، ولئن أمهلهم أياماً معدودة فلحکمته ولتظهر حقيقتهم حتی لايکون عقابهم ظلماً، لأنه لايعاقب بعلمه وإنما يعاقبهم بعملهم سبحانه وتعالی.

ص: 588


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 541.

الآيات 190-194

اشارة

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُۥ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}

خاتمة السورة

وعند ختام السورة تلخيص لما ورد فيها، وتضرع إلی الله تعالی وابتهال إليه عزوجل، فيذکر فيه أصول الدين کلّها، ودعوة إلی الإيمان والعمل الصالح والجهاد في سبيله:

190- أما التوحيد: ف {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} أي إيجادهما وإنشاؤهما، {وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} تعاقبهما بإتقان {لَأيَٰتٖ} دلائل واضحة علی وجود الله تعالی وتوحيده وعلی صفاته کقدرته وعلمه {لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ} أصحاب العقول الخالصة من الشوائب، ولهؤلاء موقف ذکر وموقف خشية وموقف رغبة، ذکرتها الآيات التالية.

ص: 589

191- هؤلاءهم {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ} بقلبهم وبلسانهم وبصلاتهم، حالکونهم {قِيَٰمًا} قائمين، {وَقُعُودًا} قاعدين، {وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ} مضطجعين، {وَيَتَفَكَّرُونَ} تفکر اعتبار {فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} قائلين: يا {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا} الخلق {بَٰطِلًا} عبثاً وبدون غاية {سُبْحَٰنَكَ} ننزهک تنزيهاً من العبث، بل خلقت بالحق لترحم المخلوقات وتعذب من رفض الرحمة فلابد من بعث {فَقِنَا} احفظنا {عَذَابَ النَّارِ} الذي هيّأتَهُ للکفار.

192- أما معادهم: فيقولون {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُۥ} والخزي ذلّ مع افتضاح، وسبب ذلک ظلمه نفسه {وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ} بالکفر والعصيان {مِنْ أَنصَارٖ} ينجونهم من عذاب الله تعالی.

193- وأما تصديقهم الرسول: فيقولون {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) {يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ} يدعو إليه، {أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} فاستجبنا له {رَبَّنَا فَاغْفِرْ} أ ُستر {لَنَا ذُنُوبَنَا} فإنها ذات تبعات وأذناب {وَكَفِّرْ} أُمح وبدّل {عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} فإنّها مستقبحة {وَتَوَفَّنَا} اقبض روحنا فاجعلها {مَعَ الْأَبْرَارِ}، وذلک بأن توفّقنا للعمل الصالح حتی تکون منهم.

194- وحيث أطاعوا - عقيدة وعملاً - طمعوا في أن يتقبل الله عملهم، فيقولون: {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ} أي علی لسانهم أو علی تصديقهم، وهو الثواب والجنة، {وَلَا تُخْزِنَا} لا تذلّنا بافتضاح {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} بعدم قبول أعمالنا {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} حيث وعدت بالمغفرة والجنة لمن آمن وعمل صالحاً.

ص: 590

بحوث

الأول: من الآية 190 إلی نهاية السورة کالتلخيص لکل ما ورد فيها من أصول الدين وأهم فروعه، والوعد بالثواب والجنة لمن آمن وعمل صالحاً، والوعيد بالنار لمن کفر وعصی، وبذکر أن بعض أهل الکتاب انتفعوا بالحجج فآمنوا ولم يشتروا به ثمناً قليلاً، وانتهاءً بالدعوة إلی الصبر والاستقامة والتقوی.

فالتوحيد في قوله تعالی: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ...} حيث إن أولي الألباب تفکروا فرفعوا الغشاوة عن قلوبهم، فرأوا الله بقلوبهم بمعرفة حقة يقينية وعلموا بأنه الکمال المطلق لانقص فيه، والمعاد في قوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ...}، والنبوة والإمامة في قوله: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا...}، وأما عملهم الصالح ففي قوله: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم...}، مع ذکر أهم الاعمال التي ذکرتها السورة أي الجهاد في سبيله وما استتبعه من الأذی والشهادة في قوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ...} وسيأتي بيان سائر الآيات.

وقد مرّ أن السور عادة تبدأ بمقدمة تمهّد لما يُراد ذکره، ثم يتمّ بيان المقصود منها، ثم تنتهي بخاتمة کالتلخيص لها، وهذا أسلوب انجع وأحسن في تهيأة النفوس بدايةً، وترکيز المطالب في الأذهان نهايةً.

کما أن هذه الآيات تذکر أصناف الناس، من المؤمنين والمشرکين وأهل الکتاب، فالمؤمنون يذکرون الله ويعتبرون بآياته ويرغبون في ثوابه ويخشونه، وأما الکفار فيتمتعون قليلاً ثم مصيرهم إلی النار، وأما أهل الکتاب فمنهم من يؤمن والله تعالی يجازيه بالثواب الجزيل.

ص: 591

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ...} الآية.

حيث ذکرت الآية السابقة أن الله تعالی مالک السموات والأرض وأنه علی کل شيء قدير، بدأت هذه الآية في التوحيد ببيان الدلالة علی ذلک، والآية تتضمن موضوعين، أصل الخلق، والتدبير.

أما أصل الخلق، فإن إيجاد السموات والأرض دليل علی خالق.

وبيانه بمقدمتين بديهيتين عقلاً:

1- بداهة وجود الموجودات، فالإنسان يعلم بوجود نفسه ووجودات حوله، أما السوفسطائيون الذين ينکرون الوجود ويعتبرون کل شيء خيالاً فقد عطّلوا عقولهم، فلا کلام معهم.

2- بداهة استحالة تبدل العدم إلی الوجود من غير علة.

وحينئذٍ فضرورة العقل قائمة علی وجود شيء قديم، لم يسبقه عدم، وهذا القديم هو الله تعالی، وأما الماديون فقد کانوا بدايةً يزعمون أن العالم وُجد صدفة، لکنهم لمّا اصطدموا ببداهة العقول باستحالة تبدّل العدم إلی الوجود من غير علة، اضطروا إلی أن يغيّروا کلامهم إلی أن القديم هو المادة، لکن کلامهم يصطدم بواقع تغيّر المادة، فهذا التغيّر إما بدون عِلّة ويستحيل عند العقل المعلول من غير عِلة، وإما العِلة نفس المادة فهي التي تغيّر نفسها وهذا أيضاً غير ممکن لأن المادة فاقدة للحياة والشعور والاختيار، وإما أن يکون هناک مُغيّر يغيّرها وليس إلا القديم الذي هو الله سبحانه وتعالی.

ولذا تجد الماديين محتارين فيما يقوله العلم الحديث من أن جميع الأجرام السماوية کانت کتلة واحدة مجتمعة بصورة متراکمة بحجم صغير،

ص: 592

ثم حدث الانفجار الکوني الکبير فتفرقت وتشکّلت منها السموات والنجوم والأرض، فما هو سبب ذلک الإنفجار؟ الإلهيون منهم يقولون هو الله تعالی، وأما الماديون منهم ففي حيرة، لأن المادة لو کانت قديمة ومن الأزل کانت مجتمعة في کتلة متراکمة فلماذا انفجرت؟! ولماذا في هذا الوقت بالذات؟! ومرجع ذلک إلی أن التغيّر دليل الحدوث، وأن القديم يستحيل عليه التغيّر.

قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} أي إيجادهما وإنشاؤهما، فأصل خلق المخلوقات دليل علی وجود الخالق، فالعاقل إذا رأی شيئاً مصنوعاً يرفض أنه من غير صانع، مع أن هذه الصنائع إنما هي مجرد تغيير في صورة المواد الموجودة من الحديد والنفط وسائر المعادن، وبعبارة أخری: أصحاب الحرف والصنائع يغيّرون صورة المواد الموجودة، فهل يعقل أن تکون نفس المادة وبهذه العظمة من غير خالق؟!

وأما التدبير ففي قوله: {وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي فکما أن أصل الخلق آية، کذلک تدبير الله تعالی لما خلقه بأحسن تدبير، وأظهر مصاديق تدبيره تعالی هو تعاقب الليل والنهار بهذا الاتقان، بحيث صارت الأرض صالحة لحياة الإنسان والنبات والحيوان قال تعالی: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٖ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(1).

ص: 593


1- سورة القصص، الآية: 71-73.

ولعل ذکر خصوص اختلاف الليل والنهار مع أن کل ما في هذا الکون آية علی تدبيره سبحانه وتعالی، هو وضوح نفع هذا التدبير وحسنه، فکل إنسان من صغير أو کبير يدرکه ويعلم فائدته.

ولولا هذا التعاقب لما أمکنت الحياة، فالقمر مثلاً - کما يقوله علماء الفلک - وجه منه بطرف الشمس دائماً وهو الوجه المضيء، ووجه آخر منه في الجهة المقابلة وهو الوجه المظلم منه، فلذا کان الوجه المضيء حاراً جداً والوجه المظلم بارداً جداً لايصلحان للحياة أبداً، وحتی في هذه الکرة الأرضية القطبان غير صالحين للحياة، بل المناطق القريبة منهما تصعب الحياة فيهما لقصر نهارها تارة وليلها تارة أخری.

وقوله: {لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ} أي آيات تُذکّر بالخالق تبارک وتعالی، وهذا قد يکون بالاستدلال النظري بأن يری الإنسان الوجود وحسن النظم فيستدل علی خالق حکيم، وتارة أخری يکون برفع الغشاوة والغفلة عن القلوب فتری نوره تبارک وتعالی فلا يکون استدلالاً نظرياً بل رؤية بالقلب، نظير من علی عينه غطاء فقد يستدل علی النهار باستدلال نظري کأن يقول قد مرّ علی غروب الشمس کذا ساعة فإذن الآن نهار، وقد يرفع الغطاء عن عينه فيری النهار فهذا لايستدل علی النهار بشيء بل يدرکه إدراکاً بحواسه، وليس الله سبحانه جسماً حتی يدرک بالحواس، لکن نوره ظاهر للعقول، لکن الإنسان بحاجة إلی رفع الغشاوة والغفلة، ولذا عبر عمّن يعتبر بالآيات بقوله: {لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ} أي العقل الخالص من الشوائب، وفي الحديث: «اعْر ِفُوا اللَّهَ بِاللَّهِ»(1).

ص: 594


1- الکافي 1: 85.

الثالث: قوله تعالی: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}.

هذا هو سبب کونهم أولي الألباب، أي لايغفلون عن الله تعالی، وذلک لايدع تراکم الجهل والغفلة علی قلوبهم بحيث يتراکم رين علی قلوبهم فيکون حاجباً لهم عن الله تعالی.

ولعل هذا من أسباب تشريع الصلوات الخمس في کل يوم، فيبدأ الإنسان يومه بالصلاة، وينهيه بالصلاة، مع توسط صلاة في وسط النهار أيضاً، حتی لاتشغل الدنيا وأمورها الإنسان عن ذکر الله تعالی فيغفل عنه، ومن غير ضرر علی معيشة الإنسان، وکلّما أراد الإنسان زيادة معرفة بالله أمکنه الإکثار من الصلوات، فلذا شرعت النوافل في آناء الليل وأطراف النهار، بل يمکن للإنسان الصلاة المستحبة في کل وقت فإنها خير موضوع، لأنها تشتمل علی الذکر باللسان والطاعة بالاعضاء والجوارح.

وهذه الآية عامة لذکر الله تعالی بأية کيفية مشروعة وبکل حالة، والصلاة أهم مصداق لها، ولذا ورد عن الأئمة (عليهم السلام) بيان هذا المصداق، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «الصحيح يصلي قائماً وقعوداً، والمريض يصلي جالساً، وعلی جنوبهم أضعف من المريض الذي يصلي جالساً»(1).

الرابع: قوله تعالی: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ}.

أي ليس ذکرهم مجرد لقلقة لسان أو رکوع وسجود من غير فهم لحقيقة العبادة، فالخوارج کانوا يکثرون من تلاوة القرآن ومن الصلاة لکن من غير فهم کما قال عنهم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «يقرؤون القران لايتجاوز

ص: 595


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 549، عن تفسير العياشي.

تراقيهم»(1) أي لاينفذ في قلوبهم، فهذه عبادة لاتنفع، بل عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «رُبّ تالٍ للقران والقران يلعنه»(2) بل لابد من ضميمة الفهم إليه، وذلک يکون عبر التفکر في عظيم آيات الله تعالی، فقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ} أي تفکر اعتبار واستبصار، فهو الذي يرفع الغشاوة عن القلوب، فعن الإمام الکاظم (عليه السلام) أنه قال: «إن لکل شيء دليلاً، ودليل العقل التفکّر، ودليل التفکّر الصمت»(3)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «التفکر يدعو إلی البِّر والعمل به»(4)، وفي المناهج: نتيجة التفکر هي التذکرة والمعرفة بالآيات، وتکون تلک تذکرة ومعرفة واقعية، إذ معرفة الحقيقة النورية لاتمکن إلاّ بظهورها الذاتي وبتعريفها نفسها، فليس ذو الآيات أمراً مشکوکاً فيه مجهولاً ليحتاج إثباته بإقامة البرهان علی وجوده، بل مرجع الإثبات إلی الظهور الذاتي بلا تشبيه وتعطيل(5).

ثم إن هذه الآية تدعو إلی التفکر في آيات الله أي في الخلق، لا في ذات الخالق، فإنه منهي عنه، وذلک لعدم تمکن الإنسان من الوصول إلی حقيقة ذات الله تعالی، لأنه سبحانه غير محدود ولا شبيه له، فلا يمکن للإنسان المحدود معرفة کنه ذاته، فإذا فکّر في ذلک ازداد حيرة أو ضلالاً، فعليه أن يفکر في آياته ليزداد معرفة به تعالی بوجوده وبصفاته.

ص: 596


1- بحار الأنوار 33: 338.
2- مستدرک الوسائل 4: 249.
3- الکافي 1: 10.
4- الکافي 2: 45.
5- مناهج البيان 4: 216.

وقوله: {فِي خَلْقِ} إما بمعنی المخلوق والإضافة بيانية أي مخلوق هو السموات والأرض، أو بمعناه المصدري أي يفکرون في إيجادهما وإنشائهما بأنه بالحق لا بالباطل.

وإنما لم يذکر اختلاف الليل والنهار في هذه الآية مع ذکره في الآية السابقة، لأن تلک کانت في مقام معرفته تعالی عبر خلقه وتدبيره، وأما هذه الآية ففي مقام بيان الفائدة، وفائدة تعاقب الليل والنهار لا تخفی علی کل أحد فلا داعي لذکرها هنا، وإنما فائدة أصل الخلق خافية علی کثير من الناس، فهؤلاء يتفکرون في الفائدة والغرض من الخلق فيتوصلون إلی نتيجة بأنه ليس الخلق عبثاً، بل هناک غرض سامي وحکمة بالغة.

قيل: لابد من کون التفکر بعد ذکر الله تعالی حتی يکون بالطريقة الصحيحة ولولا ذلک لم يکن التفکر موصلاً إلی المقصود.

الخامس: قوله تعالی: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

هذا القول يصاحب التفکر، وهو فائدة هذا التفکر وما ينتج منه.

وحاصله: أن الله تعالی حکيم قدير غني، فلا يفعل شيئاً عبثاً ولعباً ولهواً، وإنما يعبث السفيه أو المحتاج أو الضعيف، فالطفل مثلاً يلعب لحاجته إلی اللعب ليملأ فراغه وليطّور قدراته وعقله، والکبير قد يلعب أو يلهو دفعاً لتعبه من العمل أو ليرجع نشاطه أو لتقوية قدراته البدنية أو العقلية أو ليغفل عن بعض مصائبه، وقد يلعب سفاهة وجهلاً وغفلة، وأما الله عز وجل فهو الحکيم القدير الغني فلا يعبث، وکل أفعاله سبحانه لحکمة ومصلحة.

ص: 597

وأما خلقه الخلق فلأجل أن يرحمهم، بل عدم الخلق في الجملة نقص، والله منزه عن کل نقص، إذ القادر الحکيم الرحيم الذي لا يکلّفه الخلق شيئاً ولا ينقصه شيئاً، فلا يصاب بتعب ولا تنقص خزائنه، إذا لم يخلق ليرحم کان محلاً للسؤال لماذا لم يخلق، أما إذا خلق ليرحم فلا وجه للسؤال أصلاً، نعم الضعيف المحتاج الذي يکلّفه الصنع ويستنزف طاقاته الجسدية والمادية لابدّ أن يصرف تلک الطاقات فيما يحتاج هو إليه، فإذا لم يحتاجه يقال له انت لم تکن تحتاجه وقد کلّفک وقتاً وطاقة واستنزف امکاناتک فلماذا صنعت؟

فلذا کان أصل الخلقة بحکمة.

ثم إن الله تعالی قادر علی أعلی درجات الرحمة، فمن الحکمة خلق الجنة ونعيمها، کما أن هناک ظلماً يحدث في الدنيا وأکثر الأحيان يفلت الظالم من العقاب، فمن الحکمة خلق النار وعقوباتها، فلولا الآخرة لکان الاقتصار علی الدنيا عبثاً ومن غير حکمة، ولذا في عدة آيات فرّع الآخرة علی عدم العبث في الخلق، کما في هذه الآية، وکقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}(1).

ثم إن المؤمن إذا علم بحکمة الخالق، فلا يضيره عدم علمه بسبب أفعاله تعالی، فمادام أنّه حکيم فلابد أن يکون فعله عن حکمة لا عن باطل، فالذي يخلق هذا الخلق العظيم ويدبّره بأحسن تدبير لايعقل عدم کونه حکيماً، إذ لايعقل حسن الصنيع مع نقص في الصانع، ولذا المؤمن الحق هو من يسلّم

ص: 598


1- سورة المؤمنون، الآية: 115.

لقضاء الله وتشريعاته سواء علم بوجه الحکمة فيها أم لم يعلم.

وقوله: {بَٰطِلًا} أي بالباطل أو للباطل، والمراد عبثاً وبدون غاية، فأصل الغايات الإنسان، قال تعالی: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)، ثم علّمهم طريقة نيل الرحمة الخاصة حيث قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، والأرض بما فيها خلقها لأجل الإنسان قال تعالی: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}(3). وقال: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(4). وأما السموات فقسم منها يرتبط بنظام الأرض کالشمس والقمر، وقسم منها يرتبط بحاجة الإنسان قال تعالی: {وَعَلَٰمَٰتٖ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}(5)، وکلها دلائل علی عظمته وهداية إلی دينه، قال تعالی: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٖ}(6)، وقال تعالی: {وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا...} الآية(7).

وقوله: {سُبْحَٰنَكَ} مفعول مطلق أي أسبّحک سبحاناً، حذف الفعل وأضيف المصدر إلی الضمير، والإضافة بمعنی اللام، والمعنی ننزهک تنزيهاً

ص: 599


1- سورة هود، الآية: 119.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- سورة الرحمن، الآية: 10.
4- سورة البقرة، الآية: 29.
5- سورة النحل، الآية: 16.
6- سورة الأعراف، الآية: 185.
7- سورة الأنعام، الآية: 75-79.

عن العبث.

وقوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الفاء للتفريع، فحيث علموا أن الخلق ليس عبثاً وإنما هناک جزاء، تضرعوا إلی الله تعالی أن يحفظهم من عذاب النار، وبعبارة أخری: عِلمهم بما لأجله خلقت السموات والأرض دعاهم إلی الاستعاذة بالله تعالی، وقيل: الفاء لبيان أنهم يطلبون جزاء تصديقهم وإيمانهم وتفکّرهم، أو لمّا يتذکرون عظمة الله تعالی يخشون عقابه فيستجيرون به، أو بسبب الذکر تنزل الخشية في قلوبهم، أو لمّا يشاهدون عظمة الله تعالی يخافون من تقصيرهم في طاعته وعبادته وشکر نعمه.

وشأن نزول الآية - وإن کان معناها عاماً - في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فعنه أنه قال: «وأنا الذاکر يقول الله تبارک وتعالی: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}»(1)، وفي تفسير البرهان تفصيل الشأن حيث إن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد هجرة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) خرج من مکة بالفواطم، فتلقاه المشرکون يريدون إرجاعهن فقاتلهم وهزمهم، وسار علي (عليه السلام) بأصحابه وقد کلّوا من الحرب والقتال، فأمرهم بالنزول ليستريحوا، فنزلوا وصلّوا علی مايتمکنون وطرحوا أنفسهم عجزاً يذکرون الله تعالی في هذه الحالات کلها إلی الصباح يمدحونه ويشکرونه ويعبدونه، ثم سار بهم إلی المدينة إلی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ونزل جبرئيل (عليه السلام) قبل وصولهم وتلا عليه الآيات(2).

ص: 600


1- سورة آل عمران، الآية: 191.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 547.

السادس: قوله تعالی: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُۥ...} الآية.

الظاهر أن هذه الآية وقوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} في الآية السابقة يرتبطان بالتوحيد، أي إننا اعتقدنا بالله وبصفاته ونرجو أن يحفظنا الله من النار، وأما قوله في الآية 194 {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} فليس تکراراً للتأکيد، بل يرتبط بالأعمال، أي اغفر ذنوبنا وکفر سيئاتنا واقبل أعمالنا لئلا نخزی في نار جهنم. وذلک لأن استحقاق الخزي في نار جهنم قد يکون للکفر وبطلان المعتقد وهذا ما تکفلت هذه الآية بيانه، وقد يکون بسبب الذنوب کالقتل والزنا، وهذا ما تکفلت الآية 194 بيانه.

وقوله: {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُۥ} من الخزي وهو ذلّ مع افتضاح(1)،

فأصل الإدخال في النار ذلّ وفضيحة فضلاً عن إيلامها، قال تعالی: {وَتَرَىٰهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَٰشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ}(2)،

وبعکس ذلک المؤمنون فلا يخزيهم الله تعالی قال: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِمْ}(3).

وقوله: {وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ} بيان لسبب خزيهم بإدخالهم النار، حيث ظلموا أنفسهم فاستحقوا العذاب، فهم حرموا أنفسهم من رحمة الله تعالی ولا أحد هناک يشفع لهم، فإن الشفعاء لايشفعون إلاّ لمن ارتضاه الله

ص: 601


1- معجم الفروق اللغوية: 215.
2- سورة الشوری، الآية: 45.
3- سورة التحريم، الآية: 8.

تعالی، وهو سبحانه کما لايرضی بالکفر کذلک لايرضی عن الکافر، قال تعالی: {وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}(1)، وقال: {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ}(2).

و(الانصار) هم الشفعاء، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ما لهم من أئمة يسمونهم بأسمائهم»(3) أي أئمة حق، بل أئمتهم يدعون إلی النار ويتبرؤون منهم لمّا يرون العذاب.

وقد زعم البعض أن هذه الآية تدلّ علی أن من تناله الشفاعة من المؤمنين لايدخل النار أبداً، فلا شفاعة بعد دخول النار!!

والجواب: أولاً: قد اتضح لک أن الآية في بيان حکم الکفار، فالمراد من الظالمين هنا خصوص الکفار، فلا تشمل المؤمن الذي ظلم نفسه بالمعصية.

وقد دلت روايات کثيرة بل متواترة علی أن بعض من صحت عقيدته يدخل النار إلی حين تصفيته من درن الذنوب، ثم تناله الشفاعة فيخرج من النار إلی الجنة.

وثانياً: ما في مجمع البيان: بأن لا ينافي الشفاعة، لأن النصرة هو الدفع عن المنصور علی وجه المغالبة، وأما الشفاعة فهو علی سبيل المسألة والخضوع والتضرع إلی الله تعالی وليس من النصرة في شيء(4)

فتأمل.

السابع: قوله تعالی: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ أَنْ ءَامِنُواْ

ص: 602


1- سورة الزمر، الآية: 7.
2- سورة التوبة، الآية: 96.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 549، عن تفسير العياشي.
4- مجمع البيان 2: 703.

بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}.

فأشرف من نادی هو رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأول من استجاب لدعوته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) کما اتفقت عليه کلمة المسلمين، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «هو أمير المؤمنين (عليه السلام) نودي من السماء أن آمن برسول الله، فآمن به»(1).

وهذا القول تصديقهم للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بعد إيمانهم بالله تعالی، فهؤلاء بعد أن تذکروا وذکروا الله واعتقدوا به وبجماله وجلاله، عرفوا بفطرتهم أنه تعالی لايترکهم هملاً، بل يبيّن لهم دينه عن طريق رسول يبعثه فيهم، إذ لاطريق للوقاية من النار ولنيل الرحمة العظمی إلا بطاعة الله تعالی، فلا بد من رسول يبلّغ عن الله تعالی ما يريد ولذا لما سمعوا نداء الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أمنوا به.

وقوله: {يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ} لتمييز المحق من المبطل، فما أکثر من تنبأ بالباطل، وطريقة تميزه عن المحق لذوي الألباب هو کلامه، وأما لعامة الناس فهو معاجزه، ومن ذلک يتضح أن قوله: {يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ} کالعلة لتصديقهم، فهم لم يصدقوا کل منادي بل المنادي الذي ينادي للإيمان.

فاتضح سبب الجمع بين قوله: {مُنَادِيًا} وقوله: {يُنَادِي}، وعدم کفاية أن يقال (منادياً للإيمان)، لأن الغرض هو التصديق بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلذا قدّم (المنادي) حيث إنه محور التصديق، وأراد بيان علّة التصديق فقال: {يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ}.

وقيل: ذکر النداء مطلقاً ثم مقيداً بالإيمان لتفخيم شأن المنادي، لأنه لا

ص: 603


1- البرهان في تفسير القرآن 1: 549، عن تفسير العياشي.

منادي أعظم من مناد ينادي للايمان، لأن ما يُنادی به مختلف، کالنداء للحرب أو للإغاثة أو للکفاية أو نحو ذلک، وأعظمهم من ينادي للإيمان، کما يقال: هادي يهدي إلی الله(1).

وقوله: {أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ} أي بأن أمنوا به وهذا تفسير لقوله: {لِلْإِيمَٰنِ} ولا يخفی وجوه عدّة في تفخيم هذا الإيمان، فأولاً ذکر المنادي ثم بين المنادی به، وأنه للإيمان، ثم بين أن هذا الإيمان هو الإيمان بالله تعالی، ثم بيان استجابتهم بقوله: {فَآمَنَّا} ففي کل ذلک تفخيم للمنادي والمنادی به.

الثامن: قوله تعالی: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا...} الآية.

(المغفرة): الستر، وهي من الله بمعنی أن يصون العبد من أن يمسه العذاب، ويقابلها العذاب قال تعالی: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَٰلَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}(2).

و(الذنب): الجرم لأنه ذو تبعات وأذناب.

و(التکفير): إزالة أثر الکفر والکفران، کالتمريض في کونه إزالة للمرض.

و(السيئة): الفعلة القبيحة التي تسوء صاحبها أو غيره، وضدها الحسنة.

فالمعنی غفران الذنب بعدم العقاب عليه، وتکفير السيئة بتبديلها إلی الحسنة، کما قال تعالی: {أُوْلَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَٰتٖ}(3).

ص: 604


1- الکشّاف 1: 348.
2- سورة البقرة، الآية: 175.
3- سورة الفرقان، الآية: 70.

أو باعتبار أن المعاصي قسمان: ما لايمکن تلافيها وجبرانها فهي بحاجة إلی المغفرة، وما يمکن جبرانها وتلافيها فهي بحاجة إلی تکفيرها بأن يفعل الإنسان عملاً حسناً يعادلها ويزيلها.

وقيل: الذنوب هي الکبائر، والسيئات هي الصغائر المکفّرة لقوله تعالی:

{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}(1).

وقيل: المعنی اغفرها حتی لو لم نتب منها، وکفّرها مع التوبة، لأن التکفير لايکون إلا عند فعل العبد.

وقوله: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} بمعنی اجعلنا أبراراً حتی تتوفانا معهم، يقال: يَبِرُّ ربّه أي يطيعه، وهو من الصدق(2).

وللأبرار مصاديق، فأفضلهم الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ثم من يتبعهم، وعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام) : «وأصحابک الأبرار»(3)

وغير خفي أنه لايمکن للإنسان أن يکون من الأبرار إلاّ بعد أن يتطهر من ذنوبه، فلذا قدّموا الدعاء بالمغفرة والتکفير علی التوفي مع الأبرار.

التاسع: قوله تعالی: {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا...} الآية.

هذا دعاء آخر يرتبط بالمصير يوم القيامة، وهو الإدخال في رحمة الله تعالی کالجنة والإبعاد عن انتقامه کالنار، وهذان يترتبان علی الدعاء السابق إذ محو الذنوب والسيئات والتوفيق للعمل الصالح الذي يجعل الإنسان في

ص: 605


1- سورة النساء، الآية: 31.
2- مقاييس اللغة: 89.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 549، عن تفسير العياشي.

زمرة الأبرار تجعل الإنسان محلاً قابلاً للرحمة الإلهية، فهؤلاء يتضرّعون إلی الله تعالی لتشملهم رحمته.

ودعاؤهم بذلک ليس من باب احتمال خلف الوعد، إذ إنهم يعلمون جزماً بأنه تعالی لايخلف الميعاد، بل لأجل احتمالهم تقصيرهم في نيتهم أو عملهم بحيث لايشملهم الوعد، ففي الحقيقة دعاؤهم بأن يوفقهم الله للعمل الصالح وأن يتقبل عملهم حتی ينالون ما وعده، فما أکثر من يعمل لکن عمله يتحول إلی هباء منثور، وما أکثر من يضلّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.

وقوله: {عَلَىٰ رُسُلِكَ} أي علی لسانهم، أو علی تصديقهم بمعنی الجزاء عليه.

وقوله: {وَلَا تُخْزِنَا} بالإذلال بفضيحة، بمعنی وفقنا لئلا نرتکب ما يوجب خزينا من ترک الطاعات وفعل المعاصي.

ثم إن في تکرار {رَبَّنَا} في بداية کل دعاء إنما هو زيادة تضرع واستکانة له تعالی.

ص: 606

الآيات 195-198

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّنۢ بَعْضٖ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَٰدِ (196) مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ (198)}

195- وحيث کانوا صادقين في دعائهم {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ} لبّی دعاءهم {رَبُّهُمْ} قائلاً ب {أَنِّي لَا أُضِيعُ} لا أ ُبطل {عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم} من المؤمنين المتقين، ثم بيّن تعالی عموم العامل بقوله: {مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّنۢ بَعْضٖ} تجتمعون علی الدين والطاعة، ثم فصّل الله تعالی العمل والعامل بقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} ترکوا أوطانهم طوعاً لمّا رأوا عدم تمکنهم من إقامة الدين فيها {وَأُخْرِجُواْ} أخرجهم المشرکون جبراً {مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ} آذاهم الکفار {فِي سَبِيلِي} بسبب إيمانهم بالله {وَقَٰتَلُواْ} جهاداً ودفاعاً عن الدين {وَقُتِلُواْ} في سبيل الله {لَأُكَفِّرَنَّ} محواً وتبديلاً {عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ}، وکل ذلک

ص: 607

أجازيهم {ثَوَابًا} وهذا الثواب عظيم لأنه {مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَ} هو تعالی قادر عليه إذ {اللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ الثَّوَابِ} أي الثواب الحسن، هذا بالنسبة إلی المؤمنين.

196- وأمّا الکفار ف{لَا يَغُرَّنَّكَ} لايخدعک أيها السامع {تَقَلُّبُ} تصرّف {الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَٰدِ} بأن تتوهم حسن حالهم لما اُوتوا من ثروة وإمکانات.

197- فذلک {مَتَٰعٌ قَلِيلٌ} أي خسيس ويتمتعون به لفترة وجيزة، {ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ} مصيرهم {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} المستقر الذين مهدوه لأنفسهم، فلا خير في متاع قليل يستتبع عذاباً دائماً.

198- {لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ} بالإيمان والطاعة، فأذيتهم في الدنيا قليلة تعقبها راحة أبدية ف {لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا} حالکون الجنات {نُزُلًا} وهو ما يُهيّأ للضيف من الکرامة والبِّر {مِّنْ عِندِ اللَّهِ}، بل هناک لهم کرامة اعظم {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ} من الجنة {لِّلْأَبْرَارِ} جمع بَرّ وهو الصادق في الطاعة، ولعلّه الرضوان منه تعالی.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ}.

هؤلاء قد أطاعوا الله تعالی بأن ذکروه في مختلف حالاتهم واعتبروا بآياته واستجاروا به من النار وصدّقوا رسوله المنادي بالايمان فآمنوا وأطاعوا واستغفروا، فکانوا صادقين في دعائهم، لذلک استجاب الله دعائهم، بأن تقبّل أعمالهم من غير إضاعة، وخاصة الاعمال العظيمة - والتي ترتبط

ص: 608

بهذه السورة - من الهجرة وتحمل الأذی والجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالی، ووعدهم بتکفير سيئاتهم وإدخالهم الجنات.

فکان من دعائهم: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} فکانت الاستجابة ب {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم}.

وکان من دعائهم: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} فکانت الاستجابة ب{لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}.

وکان من دعائهم: {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ} فکانت الاستجابة ب{لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ...}.

وکان من دعائهم: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} فکانت الاستجابة ب {ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ}.

ثم إن قوله: {فَاسْتَجَابَ} بالفاء وبصيغة الماضي لبيان أن هذه الاستجابة تحققت بمجرد دعائهم، وإن کان الزمان الموعود فيه هو يوم القيامة، أو لبيان حتمية هذه الاستجابة، کما يتعارف في بعض الشخصيات إذا طُلب منهم شيء قالوا: صار! لبيان حتمية الوقوع فکانّه قد تحقق ما وعدوه.

قيل: (الاستجابة) و(الاجابة) بمعنی واحد، إلاّ أن الاستجابة هي الجواب بالقبول دائماً، والإجابة أعم من الجواب بالقبول أو الرد.

وقد مرّ في سورة البقرة بحث الدعاء والاستجابة فراجع.

الثاني: قوله تعالی: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ...} الآية.

هذا کالتعليل للاستجابة، وهو أن الله تعالی کريم رحيم لطيف بعباده بارّ

ص: 609

بهم، فلذا يتقبل عمل العامل إذا کان للعمل قابلية القبول بأن کان من مؤمن مخلص، قال تعالی: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ}(1)، فقوله: {مِّنكُم} لبيان تقيّد العمل المقبول، وأما لو کان العمل من کافر أو لم يُرَد به وجه الله تعالی فلا قابلية له للقبول فمقتضی الحکمة ردّه، قال تعالی: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(2)، وقال: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُواْ أَعْمَٰلَكُمْ}(3).

وقد مرّ أن الله رحيم لکن الرحمة من صفات الفعل، ومنشؤها صفات الذات ومنها الحکمة، فلا يعقل التضاد بين صفاته تعالی، بل صفات الفعل تکون مترتبة علی صفات الذات، وحيث إن الباطل لا قابلية له لذلک يبطله الله تعالی بحکمته کما قال: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(4)، وقال: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(5)، وقال: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(6)، وأما العمل الصالح الصادر عن مؤمن فهو حق لذلک له قابلية النمو والرفع، فيتفضل الله تعالی علی المؤمن بقبول عمله وتزکيته.

وقوله: {مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ} لبيان عدم الفرق بينهما من جهة قبول العمل،

ص: 610


1- سورة فاطر، الآية: 10.
2- سورة الفرقان، الآية: 23.
3- سورة محمد، الآية: 33.
4- سورة الأعراف، الآية: 118.
5- سورة الأنفال، الآية: 8.
6- سورة هود، الآية: 16.

وذلک لأن الاختلاف التکويني في ترکيبة الرجل عن المرأة أوجب اختلافاً في بعض أحکامهما التشريعية، لکن ذلک لايضرّ بالثواب والمنزلة في الآخرة.

بيانه: أن الحکمة لاستمرار النسل ولتقسيم الأدوار في أداء وظائف الحياة اقتضت خلق الإنسان ذکراً وأنثی، والترکيبة الجسدية والنفسية لکل منهما تتناسب مع الوظيفة المخوّلة إليهما، لکن أکثر الأمور مشترکة، فلذا اشترکا في غالب الأحکام من واجبات أو محرمات، کالصلاة والصوم والحج وحرمة الزنا والسرقة والغش ونحو ذلک، وأما في اختلاف الترکيبة التي استدعت اختلاف الوظائف اختلفت أحکامهما، کوجوب النفقة علی الزوج دون الزوجة، وکوجوب الستر علی المرأة دون الرجل، وحتی دعاة مساواة حقوق الرجل والمرأة في کل شيء يصطدمون بواقع اختلاف الترکيبة الجسدية، مثلاً الموظفة إذا حملت وانجبت تُجاز لأشهر مع إعطائها راتبها کاملاً، وليس مثل ذلک للرجل، ولا اعتراض علی هذا التفضيل کما هو واضح، أما الآخرة فهي ترتبط بالإيمان والعمل الصالح - أياً کان - فلذا لاتفضيل لأحد علی أحد فيها، بل کل من أدّی تکاليفه نال الجنة وکلّما کان إخلاصه أکثر وعمله أحسن زادت درجته ذکراً کان أم أنثی.

وروي في شأن نزول الآية أنها نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) والفواطم لما هاجروا من مکة إلی المدينة، وقد ذکرنا شطراً من الرواية في تفسير الآية 191 فراجع.

وقوله: {بَعْضُكُم مِّنۢ بَعْضٖ} أي بعض العاملين من بعض، والمقصود أن

ص: 611

الحکم في جميعکم واحد، فلا طبقيات ولا أشرافيات ولا امتياز لأحد علی أحد، فالمعنی إنکم حيث اشترکتم في الإيمان والعمل الصالح فجميعکم علی صفة واحدة، کما قال تعالی: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1)، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(2) ومن ذلک يتبيّن أن قوله: {بَعْضُكُم مِّنۢ بَعْضٖ} کالتعليل لقوله: {لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم}.

الثالث: قوله تعالی: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي...} الآية.

هذا تفريع علی عدم إضاعته تعالی عمل العاملين واستجابة دعائهم، وإنما خصّ هذه الطاعات بالذکر لکونها أشق، ولارتباطها بمضامين السورة.

وقوله: {هَاجَرُواْ} أي ترکوا أوطانهم، وبقرينة قوله: {وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ} يکون المراد من المهاجرة الترک طوعاً لمّا رأوا عدم تمکنهم من إقامة الدين في أوطانهم، وأما ما قيل من أن معنی هاجروا ترک الشرک وهجره فخلاف ظاهر الکلمة واستعمالها القرآني، قال تعالی: {وَمَن يَخْرُجْ مِنۢ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ...}(3)، والعطف بالواو إما لکونها بمعنی (أو)، فکل واحد من هذه الأعمال موعود عليه الجنة فتکون إشارة إلی أن بعض المهاجرين خرجوا طوعاً وبعضهم أ ُخرجوا من ديارهم.

ص: 612


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- سورة التوبة، الآية: 71.
3- سورة النساء، الآية: 100.

الرابع: قوله تعالی: {ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ الثَّوَابِ}.

أي تکفير السيئات والجنات هو ثوابهم، فليس الثواب منحصراً في النعيم، بل عدم العقاب علی السيئات بتکفيرها أيضاً نوع ثواب، أو يقال: إنما سُمّي التکفير ثواباً لأنه مقدمته، إذ لاينال الإنسان الجنة إلا بعد تطهيره من درن الذنوب والسيئات.

وقوله: {ثَوَابًا} مفعول مطلق، لأن قوله لأکفرن ولأدخلنهم بمعنی أثيبهم، أو مفعول لأجله أي ذلک لأجل ثوابهم بمعنی جزائهم.

وقوله: {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} أي بفضله، لا باستحقاقهم، وقيل: هو بمعنی أن الثواب يختص بالله تعالی وذلک لکونه ملکه وبقدرته، ولا يتمکن غيره من ذلک الثواب، وقيل: هو تشريف للثواب وإلاّ فالعقاب أيضاً بقدرته تعالی.

وقوله: {وَاللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ الثَّوَابِ} أي الثواب الحسن، وهذا کالتعليل لکل ما سبق في الآية من الاستجابة وعدم الإضاعة والتکفير وإدخال الجنة، وحاصله: أن الله تعالی قادر علی الثواب الحسن فلذا يثيبهم بحسن اختيارهم وعملهم.

الخامس: قوله تعالی: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَٰدِ * مَتَٰعٌ قَلِيلٌ...} الآية.

بعد أن ذکر حال المؤمنين العاملين بالصالحات يذکر الکفّار، ومقايسة حالهم بحال المتقين، فقد نری الکفار منعّمين وأصحاب سلطة وجاه ومال، وفي المقابل نری المؤمنين مطاردين مشردين فقراء محکومين فکيف ذلک، مع أن الله تعالی ناصر المؤمنين وخاذل الکافرين؟

ص: 613

والجواب: أن تمتع الکفار إنما هو في الدنيا الفانية، لا علی وجه الکرامة بل استدراج لهم وإملاء، ويعقبه عذاب أبدي في نار جهنم، وأما المؤمنون فبلاياهم ومصائبهم في الدنيا کرامة لهم تطهيراً لهم أو رفعاً لدرجاتهم يعقبه ثواب دائم.

وقوله: {لَا يَغُرَّنَّكَ} الخطاب للسامعين، أو الخطاب للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من باب إياک أعني واسمعي يا جارة، من (الغرور) وهو إيهام يحمل الإنسان علی فعل ما يضرّه، وقيل: إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه(1)،

والنهي إنما هو عن الاغترار، وإنما تعلق بالتغرير لأنه سبب للإغترار، فالمعنی لاتغتبط بما هم فيه، إذ ليس من الخير ما کان من الخسيس القليل الذي عاقبته إلی النار.

وقوله: {تَقَلُّبُ} بمعنی تصرفهم، وذهابهم وإيابهم، والتوسعة عليهم في مکاسبهم ورفاهم وعيشهم.

وقوله: {مَتَٰعٌ} هذا کالعلة لعدم الاغترار، أي هو شيء يتمتع به الکافر، ومعنی المتاع هو النفع الذي تتعجل به اللذة، وذلک إمّا لوجود اللذة، أو بما يکون معه اللذة نحو المال الجليل والملک النفيس(2).

وقوله: {قَلِيلٌ} إما لخسته، أو لقلة أيامه، أو لکونه مشوباً بالکدر.

وقوله: {بِئْسَ الْمِهَادُ} تهکم بهم، لأن المهاد هو الفراش الذي يمهّده الإنسان لراحته، فهؤلاء مهّدوا لأنفسهم بسوء أعمالهم جهنم.

ص: 614


1- معجم الفروق اللغوية: 383-484.
2- معجم الفروق اللغوية: 476.

السادس: قوله تعالی: {لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي...} الآية.

قيل: حرمان المؤمنين عن بعض حظوظ الدنيا هو من سُبُل التقوی، فلا يتوهم أحدٌ بأنه من موجبات شقائهم.

وقوله: {نُزُلًا} هو ما يقدم للضيف النازل علی وجه الإکرام، فالمعنی إن الجنة إنما هي علی جهة الکرامة للمؤمن کإکرام الضيف بالطعام والشراب والراحة، وفيه دلالة علی عظمة الجنة، لأن صاحب الدار يکرم ضيفه بأجود وأحسن ماعنده، والله تعالی يکرم المتقين في الجنة بأفضل ثواب بمقتضی الحکمة، ولذا تتفاوت الدرجات بحسب درجة الإيمان والعمل الصالح.

وأما قوله: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ} فالأنسب هو أن المراد أن هناک درجة أعلی من درجة المتقين، وهي درجة الأبرار، فلهؤلاء ثواب أعظم من ثواب المتقين، فللمتقين النُزُل بالجنة، وللأبرار خير من ذلک، ولعله الرضوان أو الدرجة العالية منه کما قال تعالی: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}(1).

ويحتمل أن يکون بيان أمرين: التقوی بحفظ النفس وذلک بطاعة الله تعالی، والبِرّ بمعنی التوسّع في أعمال الخير، فبتقواهم استحقوا الجنة بفضل من الله تعالی، وببرّهم استحقوا أفضل من ذلک بفضله تعالی.

وقيل: إن الأبرار نفس المتقين، وحيث کان المقام مقام مقايسة ومقارنة بين تقلّب الکافر في الدنيا وثواب المؤمن في الآخرة ففي البداية تم بيان أن

ص: 615


1- سورة التوبة، الآية: 72.

المتقين ينالون الجنة لطاعتهم، ثم المقايسة بأن ما لهؤلاء وهم أبرار خير مما للکفار من متاع الدنيا.

وليس المراد من التفضيل في قوله: {خَيْرٌ} هو حُسن ما بيد الکفار من متاع الدنيا لکن الثواب الأخروي أحسن، بل ذلک لتوهم الناس کون متاع الدنيا حسناً، أو أن {خَيْرٌ} منسلخ عن التفضيل نظير قوله: {أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}(1).

ص: 616


1- سورة الصافات، الآية: 62.

الآيتان 199-200

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَٰشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}

199- وأما أهل الکتاب فالغالب مع الکفار وقد ورد ذمهم في الآيات السابقة، ولکن منهم من آمن {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} بعضهم {لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} يصدق بوحدانيته ويذعن بما أذعن به المؤمنون {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي القرآن، وهذا يستلزم إيمانه بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من التوراة والانجيل غير المحرفتين، فلا يحرفون وصف النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فيهما ولا يحرّمون حلالاً ولا يحلّلون حراماً، حالکونهم {خَٰشِعِينَ لِلَّهِ} خضوع بخوف في القلوب يظهر علی الأعضاء، وحالکونهم {لَا يَشْتَرُونَ} لايستبدلون {بِآيَٰتِ اللَّهِ} في رسوله وفي أحکامه {ثَمَنًا قَلِيلًا} رئاسة زائلة أو دنيا فانية، {أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} يجازيهم بما صنعوا من الخيرات {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

200- ثم يختم الله تعالی السورة بموعظة بليغة تجمع کل المواعظ بقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ} تحمّلوا الصعوبات، {وَصَابِرُواْ} أي

ص: 617

في مواجهة أعدائکم اغلبوهم في الصبر، {وَرَابِطُواْ} واظبوا علی الأمور، ومن مصاديقه رباط الخيل في الثغور، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} بالأمر بالمعروف والنهي عن المنکر {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تظفرون بما تريدون.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ...} الآية.

لما ذکر الله تعالی غالب أهل الکتاب بکفرهم وکتمانهم الحق واشترائهم به ثمناً قليلاً کما مر في الآيات 181-188، أراد أن ينزّه بعضهم القليل ممن آمن وعمل صالحاً، کدأب القران حينما يذمّ أناساً علی کفرهم أو سوء صنيعهم يستثني منهم البعض المؤمن العامل بالصالحات، وذلک من باب بيان الواقع أولاً، ولترغيب الآخرين باتباع هذه الأقلية المؤمنة، وحسب القاعدة يتم الذم العام ثم التخصيص، کما أنه ذم الأعراب بقول مطلق بقوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}، ثم مدح المؤمنين منهم بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ}(1)، وإنما بدأ بالذم ثم استثنی لأن أکثرهم لايؤمنون.

أما أهل الکتاب المستثنون فهم من توجد فيهم الأوصاف التالية، المضادة للأوصاف التي يتصف بها کفارهم:

1- {لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} أي يذعن بوحدانيته وبصفاته، عکس غالبهم حيث أشرکوا أو وصفوه بما لايليق به کالوصف بالفقر والعجز تعالی الله عما يقولون علواً کبيراً.

ص: 618


1- سورة التوبة، الآية: 97-99.

2- {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي القرآن الکريم وما فيه من أحکام ومطالب، وذلک يستلزم تصديق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والإيمان به، لأنه الواسطة في الکتاب.

3- {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من غير تحريف وتبديل، فلمّا وجدوا وصف الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في کتبهم صدّقوا بها فآمنوا به، ولم يکذبوها بالتحريف والکتمان کما أنهم لم يغيّروا أحکامها ولم يتلاعبوا بها.

وإنّما قدّم الإيمان بالقرآن علی الإيمان بما أنزل إليهم، لأن القرآن هو المهيمن والناسخ، ولأنه أشرف، فهم يؤمنون بالتوراة والانجيل غير المحرفين لکن يعلمون أن بعض شرائعهما قد نسخت بالقرآن الکريم.

4- {خَٰشِعِينَ لِلَّهِ} من الخشوع وهو خوف في القلب يظهر علی البصر والصوت، ويستلزم الإطاعة والخضوع لله تعالی.

5- {لَا يَشْتَرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} کما فعله أحبارهم بالتحريف والکتمان ليحفظوا رئاستهم الزائلة، ومصالحهم الدنيويه الفانية.

وقوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي إن الله تعالی يشکرهم علی حسن صنيعهم فيجازيهم خيراً، أما مقدار هذا الثواب وکيفيته فليس مقصوداً بالذکر في هذه الآية بل ذُکر في آيات أخری کقوله: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلی قوله: {أُوْلَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ}(1).

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

ليس المراد قِلّة زمان المحاکمة، ولا المراد مجرد علمه تعالی بأفعال

ص: 619


1- سورة القصص، الآية: 52-54.

العباد مما يسبب قصر المدة، بل المراد: إما کتابة أعمالهم وحسابها عليهم، کما قال: {جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا}(1) أي أعطاه ما حسبه له کاملاً، ومن المعلوم أن أعمال العباد تسجل عليهم ليحاکموا عليها في الآخرة، وإما أن يوم الجزاء قريب سريع وليس ببعيد کما قال: {وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَۢا}(2)، وذلک لأن کل آتٍ قريب، وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ}(3)، وفي المناهج سرعة الحساب في المؤمنين بمعنی الحساب اليسير أي عدم المناقشة والمداقّة، وفي غيرهم بمعنی المبادرة إلی الأخذ وعدم الإمهال(4).

الثالث: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ...} الآية.

هذه الآية کالموعظة الأخيرة في هذه السورة وهي تلخيص لکل التعاليم الواردة فيها بعبارة بليغة وموجزة، وبيان أن العمل بها هو طريق الفلاح، وهي:

1- {اصْبِرُواْ} والصبر هو عدم الانهيار أمام المشاکل، سواء کان صبراً علی طاعة صعبة أو عن معصية يدفع الهوی إليها، أو علی مصيبة ألمّت بالإنسان، أو علی الأذی.

2- {وَصَابِرُواْ} من باب المفاعلة، وهي من الصبر أيضاً، إلاّ أن الصبر

ص: 620


1- سورة النبأ، الآية: 36.
2- سورة الطارق، الآية: 16-17
3- سورة يونس، الآية: 45.
4- مناهج البيان 4: 227 (بتصرف).

شخصي، والمصابرة بين أفراد المجتمع، ولذلک مصاديق، منها: أن يصبّر بعضهم بعضاً، وذلک أقوی للقلب وأسهل للإطاعة وبتعبير آخر - کما قيل - اعتماد صبر البعض علی صبر الآخرين، وذلک لأن للإنسان وعياً فردياً ووعياً جمعياً، والوعي الجمعي يتکوّن من خلال الاجتماع والتربية الاجتماعية، ولذا حثّ الإسلام علی العبادات الجمعية الظاهرة کالصلاة والصوم والحج لتتشکل هوية الأمة الإسلامية ويتربی علی ذلک المسلمين، قال تعالی: {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(1)، وقال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ}(2).

3- {وَرَابِطُواْ} بمعنی المواظبة علی الأمور، کالمواظبة علی الصلوات، وکرباط الخيل في الثغور ونحو ذلک، وليست الآية خاصة بالرباط بالثغر، فذلک هو أحد المصاديق، بل لم يکن متعارفاً في زمن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وإنما تعارف بعده، فلا تحمل ألفاظ القران عليه، بل الآيات عادة معناها عام فتشمل المصاديق الجديدة بعد ذلک، ومن أهم مصاديق المرابطة ملازمة الأئمة (عليهم السلام) .

4- {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي احفظو انفسکم من عقابه، وذلک بالأمر بالمعروف والنهي عن المنکر کما عن الإمام الصادق (عليه السلام) (3)، فلا يکون تکراراً لقوله: {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ}، أو بمعنی أن صبرکم ومصابرتکم ومرابطتکم يجب

ص: 621


1- سورة العصر، الآية: 3.
2- سورة البلد، الآية: 17.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 553، عن تفسير العياشي.

أن تکون من منطلق التقوی، فلا تفيد من غير تقوی کمن يصبر لا لله وإنما للمسائل القبلية والعشائرية أو ينصر الحق لئلا يفقد وجاهته بين الناس.

ومن ذلک کلّه يتضح أن ما تضمنته الروايات في تفسير الآية هو بيان لبعض المصاديق، وقد تکون مصاديق متداخلة، مثلاً ترک المعصية هو مصداق للصبر وللمصابرة وللتقوی، ولذا لاتعارض أو تنافي بين الأخبار.

منها ما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «اصبروا علی الفرائض وصابروا علی المصائب ورابطوا علی الأئمة (عليهم السلام) »(1).

وعن الإمام الکاظم (عليه السلام) أنه قال: «اصبروا علی المصائب، وصابروهم علی التقية، ورابطوا علی من تقتدون به»(2).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «اصبروا علی أداء الفرائض، وصابروا عدوکم، ورابطوا إمامکم المنتظر»(3).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «اصبروا عن المعاصي، صابروا علی الفرائض... ورابطوا في سبيل الله، ونحن السبيل فيما بين الله وبين خلقه»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «(اصبروا) علی الأذی فينا (وصابروا) قال: علی عدوکم مع وليکم (ورابطوا) قال: المقام مع إمامکم»(5).

وحيث وصلنا إلی هذا الموضع، فإني أحمد الله تعالی أن وفقني لإتمام

ص: 622


1- الکافي 2: 66.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 551، عن معاني الأخبار.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 551، عن غيبة النعماني.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 554، عن تفسير العياشي.
5- البرهان في تفسير القرآن 2: 554، عن تفسير العياشي.

التفکر في سورة آل عمران، وأسأله سبحانه أن يجعلني من المتفکرين في القرآن ومن العاملين به، وأن يشفّعه لي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتی الله بقلب سليم.

سبحان ربک رب العزة عما يصفون، وسلام علی المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلی الله علی محمد وآله الطاهرين.

21/ شهر رمضان / 1436

ص: 623

ص: 624

الفهرس

الإطار العام للسورة...5

الآيات 1-6...7

اشتراك الکفار والمؤمنين في نعيم الدنيا ومشقتها...15

سبب العذاب الأخروي...16

الآيات 7-9...23

حول المحکم والمتشابه في القرآن...24

المطلب الأول: معنی المحکم والمتشابه...24

المطلب الثاني: مصاديقهما...26

المطلب الثالث: سبب وجودهما في القرآن...26

المطلب الرابع: المحکمات أ ُم الکتاب...29

المطلب الخامس: کيفية رجوع المتشابهات إلی المحکمات...29

معنی التأويل...32

معنی أولي الألباب...35

الآيات 10-13...39

عدم عقوبة المؤمن مرتين في الدنيا والآخرة...44

الآيات 14-17...52

سبب تقدير الشهوات...54

ص: 625

معنی رضی الله تعالی...60

الآيات 18-20...65

شهادة الله وملائکته...67

معنی الدين وعدم تغيّره...71

الآيات 21-25...77

الناس وحبط أعمالهم...81

بطلان العمل تکويناً وتشريعاً...83

الرحمة لاتنافي تقدير العذاب...87

الآيتان 26-27...89

الخير والشر وجوديّان...96

الآيات 28-32...100

الحب والبغض في الله...104

حول التقية...105

حول حب الله تعالی...111

کلام حول الحب...113

الآية 34...119

حول الاصطفاء...120

الآيات 35-37...131

الآيات 38-41...141

الآيات 42-44...153

معنی اصطفاء مريم (عليهاالسلام) ...154

الآيات 45-47...161

تعريب الکلمات الأعجمية...164

ص: 626

وجاهة عيسی (عليه السلام) ...166

مراحل کيفية الخلق...170

الآيات 48-51...173

عموم شريعة عيسی (عليه السلام) لکل الناس...177

آيات عيسی (عليه السلام) التکوينية والتشريعية...179

سبب تنوع معاجز عيسی (عليه السلام) ...180

کلام حول المعاجز...181

الآيات 52-54...187

معنی «شُبّه لهم» وکيفيته...193

الآيات 55-57...195

معنی وفاة عيسی (عليه السلام) ...196

الآيات 58-60...202

الآية 61...208

فوائد المباهلة...209

معنی أنفسنا...212

قصة المباهلة...213

الآيات 62-64...215

الآيات 65-68...221

شريعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته...228

الآيات 69-74...230

من أعمال أهل الکتاب...230

طرق الإضلال...235

الآيات 75-77...240

ص: 627

الآيات 78-80...247

تحريف أهل الکتاب للتوراة...249

الدليل العقلي علی بطلان تحريفهم...251

الآيتان 81-82...257

حول مسائل النبوة...258

شرط النبوة...260

الآيات 83-85...264

خضوع المخلوقات لله تعالی...266

الآيات 86-91...272

الآيات 92-95...283

الآيتان 96-97...292

مراحل بناء الکعبة...294

الآيات 98-101...301

الآيتان 102-103...309

معنی حبل الله تعالی...314

الآيات 104-109...318

افتراق المسلمين وعدد فِرَقهم...324

الآيات 110-112...329

معنی «ضربت عليهم الذلة»...336

الآيات 113-115...340

الآيتان 116-117...346

الآيات 118-120...352

القسم الثاني من سورة آل عمران...361

ص: 628

غزوة أحد وتوابعها...361

الآيتان 121-122...363

قصة غزوة أحد...365

الآيات 123-129...370

کل ما للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فهو من الله تعالی...379

الآيات 130-133...381

بعض أسباب الهزيمة في أحد...382

حول الربا...384

الآيات 134-136...389

الآيات 137-139...398

حفظ آثار الماضين...400

الآيات 140-143...406

سبب مداولة الأيام...409

معنی «ليعلم الله»...412

الآيتان 144-145...417

الانقلاب بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ...420

أسباب الموت...422

الآيات 146-148...428

القسم الأول من الناس: الصابرون الثابتون...428

الآيات 149-151...437

القسم الثاني: الکفار الغالبون...437

الآيتان 152-153...445

القسم الثالث: المسلمون المنهزمون...445

ص: 629

أسباب الهزيمة...451

الآيتان 154-155...457

القسم الرابع: الرماة الذين اخلوا مواقعهم...459

الآيات 156-158...469

القسم الخامس: الکفار الباقون في مکة...469

الآيتان 159-160...479

القسم السادس: حول قيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ...479

حول المشورة والشوری...483

معنی التوکل...485

الآيات 161-165...489

حول مِنّة الله تعالی علی عباده...498

الآيات 166-168...503

القسم السابع: المنافقون الذين لم يشارکوا في الغزوة...503

الآيات 169-171...514

القسم الثامن: شهداء غزوة أحد...514

معنی الشهيد...516

النّعَم للشهداء...518

الآيات 172-175...527

غزوة حمراء الأسد...529

غزوة بدر الصغری...530

الآيات 176-178...538

الإملاء والاستدراج للکفار...546

الآيتان 179-180...548

ص: 630

حول علم الغيب...552

الآيات 181-184...557

الآيتان 185-186...571

الآيات 187-189...581

الآيات 190-194...589

خاتمة السورة...589

الآيات 195-198...605

الآيتان 199-200...615

الفهرس...625

ص: 631

التفكر في القرآن (سورة النساء) المجلد 5

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفكر في القرآن (سورة النساء) المجلد 5 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دار الفكر، 1439ق = 1397ش.

الشجرة الطيبة

التفكر في القرآن

--------------------

آية اللّه السيّد جعفر الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1439ه.ق

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم

التفكر في القرآن

سورة النساء

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين،

ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدين

الإطار العام للسورة

تتضمن السورة الدعوة إلى تقوى اللّه تعالى ومراعاة أحكامه، فتبتدئ بحكم الأموال كأموال اليتامى ومهور النساء والإرث (الآيات 2-20)، ثم تذكر أحكام الأحوال الشخصية في النكاح والعلاقات الاجتماعية (الآيات 21-39)، وتصنيف الناس، وعدم ظلم اللّه تعالى، وبيان أنّ الناس ينقسمون إلى كفار يجب جهادهم، ومنافقين يلزم الحذر منهم، ومستضعفين ينبغي مراعاتهم (الآيات 40-100)، ثم الدعوة إلى الإيمان وبيان جملة من أحكامه، والنهي عن الضلال والإضلال وأسبابه (الآيات 101-126)، ثم رجوع إلى أحكام النساء مرة أخرى لمناسبة سنذكرها (الآيات 127-130)، ثم بيان ثواب الإيمان والعمل الصالح والدعوة إليهما والنهي عن العمل غير الصالح (131-152)، ثم أمثلة من الأنبياء (عليهم السلام) كموسى وعيسى ورسول اللّه

ص: 5

محمد صلوات اللّه عليه وآله وعليهم أجمعين (الآيات 153-175)، وختام السورة في حكم مالي وهو الإرث، كأنه رجوع إلى صدر السورة (الآية 176).

والحاصل أنّ محور السورة المباركة هو الأحوال الشخصية والأحكام الاجتماعية والالتزامات المالية، ولذا ابتدأت بالدعوة إلى تقوى اللّه سبحانه بمراعاة أحكامه، وحثّت على التراحم والتضامن، وتخلل كل ذلك أمور تتعلق بالمبدأ والمعاد وموعظة الناس وتحذيرهم من مغبّة مخالفة أوامر اللّه تعالى ونواهيه، ومن هذا المنطلق كان اسم السورة المباركة.

ص: 6

الآية 1

اشارة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا 1}

{بِسْمِ اللَّهِ} الابتداء والاستغاثة باسم اللّه تعالى؛ لأنه جعل اسمه واسطة بينه وبين خلقه، {الرَّحْمَٰنِ} رحمة عامة للجميع فقد وسعت كل شيء، {الرَّحِيمِ} برحمات خاصة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

1- {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ} خطاب للجميع؛ لأنه دعوة إلى الإيمان والعمل الصالح فيدعو الكفار أيضاً {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} احفظوا أنفسكم من عقابه، فخافوا مخالفته ومعصيته وتضييع حقه {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} آدم (عليه السلام) ، {وَخَلَقَ مِنْهَا} من نوعها وجنسها، وذلك من فضل طينتها {زَوْجَهَا} حواء، {وَبَثَّ} نشر وفرّق في الأرض {مِنْهُمَا} ذريةً فكانوا {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} كثيرات، فكلّكم ترجعون إلى هذا الأصل الواحد، فلا فضل لأحدكم على الآخر من هذه الجهة، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} بمراعاة حقوق بعضكم {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} أي: يسأل بعضكم الآخر باللّه، وهذا كناية عن تعظيمه، أي: كما تعظّمونه باللسان عبر السؤال كذلك عظّموه بالعمل بتقواه، {وَالْأَرْحَامَ} أي: واتقوا الأرحام بعدم قطعها، ويكون ذلك بعدم

ص: 7

ظلمهم وبإيتاء حقوقهم المالية والاجتماعية وغيرها، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} مراقباً لأعمالكم فلا يفوته شيء، فيجازيكم عليها.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ}.

الأوامر الإلهية قد تتصدر بقوله: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ}، أو بقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فأمّا الأول فهو في العادة إذا كان الغرض الدعوة إلى الإيمان وإلى اللّه تعالى، وأما الثاني فهو في العادة إذا كان لدعوة المسلمين إلى فروع الأحكام الشرعية، كالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك، فإنّ الأحكام وإن كانت عامة فالكفار أيضاً مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، إلاّ أنّ الذي ينتفع بذكر الأحكام إنما هم المسلمون، وأما الكافر فلا يعنيه الحكم الفرعي شيئاً، فلا بد من دعوته إلى الأصل أوّلاً ثم بيان الأحكام له.

وفي هذه الآية دعوة إلى الأصول أوّلاً ومن ثَمّ الفروع، ولذا صدّرها بقوله: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ}.

الثاني: قوله تعالى: {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}.

سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن التقوى؟ فقال: «هي طاعته فلا يُعصى، وأن يذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر»(1) وهذا بيان لأعلى مصاديق التقوى.

ثم إنّ قوله هذا، مع قوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ} ليس تكراراً، بل الأولى للترغيب، لذلك جاء بلفظ {رَبَّكُمُ}، والثانية للترهيب لذلك جاء بلفظ الجلالة، كما قيل، أو الغرض من الأولى الدعوة إلى تقواه؛ لأنه بدأ

ص: 8


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 7.

النعم بخلقكم، ومن الثانية الدعوة إليها في مقابل انتفاعكم باسمه، أو الأولى دعوة إلى شكر المنعم بإطاعته وترك معصيته بالتذكير بأنه الربّ الخالق، ومن الثانية الدعوة إلى مراعاة حقوق الأرحام، فكما تجب تقواه لحقوقه تعالى كذلك تجب تقواه فيما جعله من حقوق للأرحام.

كما أنه قد مرّ أنّ (التقوى) من (الوقاية) وهي الحفظ، فمعنى {اتَّقُواْ اللَّهَ} احفظوا أنفسكم من عقابه أو احفظوا أنفسكم من مخالفته، وحيث يلازم ذلك الخوف، لذا كثر استعمال التقوى بمعنى الخوف منه سبحانه وتعالى.

الثالث: قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} إلى قوله: {وَنِسَاءً}.

الغرض من هذا الوصف بيان أنّ اللّه تعالى قادر، فلا بد لكم من أن تخشوه، وأيّ قادر أقدر من الذي خلقكم كلكم من شخص واحد فقط ثم كثّره بالتناسل؟ فهل يعجز عن عقابكم لو خالفتموه؟ هذا من جهة.

ومن جهة أخرى إنه المنعم عليكم، وأصل النعم هو إيجادكم، فلا بد لكم من إطاعته شكراً له.

ومن جهة ثالثة هذا كالمقدمة للدعوة إلى رعاية حقوق الناس وخاصة الأرحام، فإنكم جميعاً من أصل واحد، فعليكم أن يرحم بعضكم بعضاً.

وأما قوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فبمعنى أنّ حواء هي من جنس آدم، فكلاهما من البشر، ويتفرع على ذلك أنّ واجبات وحقوق الرجل والمرأة متماثلة إلاّ فيما استثني، وقاعدة الاشتراك في التكليف معروفة، فالواجبات والمحرمات، وكذا الأحكام الوضعية أدلتها عامة تشمل كلا الجنسين.

نعم هناك مهمة ملقاة على عاتق الرجل تختلف عن مهمة المرأة، ولذلك

ص: 9

كان هناك بعض التفاوت والاختلاف بين تكوين الرجل والمرأة ليتناسبالتكوين مع التشريع، فإنّ الخالق حكيم، لذا تطابق تشريعه مع تكوينه، كما مرّ في أوائل سورة آل عمران، فللرجل مهمة تناسب تكوينه، وللمرأة مهمة تناسب تكوينها، ولكن مع ذلك فهناك توازن في الحقوق والواجبات، قال اللّه تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(1)، وهذه الدرجة هي أنّ الرجل مدير للأسرة وله القيمومة.

لكن ليس معنى ذلك استبداد الرجل وغمط المرأة حقوقها، وقد مرّ التفصيل في سورة البقرة.

وأما كيفية خلقها منه فلم تتعرّض الآية لبيانها، فلا بد من مراجعة الروايات لمعرفتها، فبعضها دلت على أنها خلقت من ضلعه الأيسر، وهي متطابقة مع روايات روتها العامة، وأخرى دلت على أنها خلقت من فاضل طينته، والجمع بينها هو ما دل عليه خبر مروي عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه سُئل: فمن أين خلقت؟ قال: «من الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر»(2)، قال العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في الأخبار التي دلت على خلق حواء من ضلع آدم: إمّا محمولة على التقية، أو على أنها خلقت من طينة ضلع من أضلاعه(3).

قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} أي: ونساءً كثيرات، وهذا دليل قدرته وعظمته، فهذا العدد الذي لا يمكن حصره من الناس وبمختلف الألوان وصنوف اللغات ونحو ذلك كلّهم مرجعهم إلى إنسان واحد، والذي

ص: 10


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- علل الشرائع: 471.
3- بحار الأنوار 11: 116.

خلقت زوجته منه.

كيفية تناسل أولاد آدم (عليه السلام)

والآية في مقام بيان عظمة اللّه تعالى في خلق هذا الخلق الكثير من آدم (عليه السلام) وحواء، وليست في مقام بيان كيفية التناسل منهما، فقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} لا يدل على الحصر، بل ظهور الآية في أنّ النسل بدأ منهما، أما كيفية ذلك فلا بيان له، فلا بد من مراجعة الروايات في ذلك، وقد دلت الروايات على أنّ اللّه تعالى زوج بعض أولاد آدم بحور عين أنزلهن من السماء، وبعضهم بنساء الجن فتوالدوا، ثم تزاوج أبناء العمومة فبذلك انتشر النوع الإنساني وتكاثر، وفي الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه ذكر له المجوس وأنهم يقولون نكاح كنكاح ولد آدم وأنهم يحاجّونا بذلك؟ فقال: «أما أنتم فلا يحاجونكم به، لمّا أدرك هبة اللّه، قال آدم: يا ربّ زوّج هبة اللّه، فأهبط اللّه له حوراء، فولدت له أربعة غلمة، ثم رفعها اللّه، فلمّا أدرك ولد هبة اللّه، قال: يا رب زوّج ولد هبة اللّه، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه أن يخطب إلى رجل من الجن - وكان مسلماً - أربع بنات له على ولد هبة اللّه فزوجهن»(1).

وأما ما روي من تزوج الإخوة والأخوات فيعارضه الروايات التي أنكرت ذلك أشد الإنكار، فلا بد من ردّ علمه إلى أهله أو حمله على التقية.

الرابع: قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}.

بعد الدعوة إلى تقوى اللّه؛ لأنه خالقكم، تأتي الدعوة إلى تقواه؛ لأنكم تعظمونه وتحلفون به، والمعنى أنه يسأل بعضكم بعضاً باللّه كأن يقول له: أسألك باللّه إلاّ ما فعلت كذا، وذلك دليل على تعظيمكم للّه تعالى، فكما

ص: 11


1- الكافي 5: 569.

تريدون الوصول إلى مطالبكم عبر القسم والسؤال باللّه كذلك ليكن فيالمقابل مراعاتكم لحقوقه تعالى بطاعته، لا أن تستغلّوا اسمه في منافعكم ومصالحكم فقط من دون مقابل.

وبعبارة أخرى: لتكن علاقتكم باللّه على أساس صحيح دائماً وفي السراء والضراء، لا أن تعظموه حين المصالح وتخالفوه حين الشهوات.

انقطاع الأنساب يوم القيامة إلا نسب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

وقوله: {وَالْأَرْحَامَ} عطف على (اللّه) أي اتقوا الأرحام فلا تقطعوها؛ لأن قطعها سيؤدي إلى ضرركم، فتقوى اللّه عدم عصيانه، وتقوى الأرحام عدم قطعها، وللآية مصداقان: رحم آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ورحم المؤمنين بعضهم مع بعض، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «إنّ رحم آل محمد - الأئمة (عليهم السلام) - لمعلقة بالعرش، تقول: اللّهم صل من وصلني واقطع من قطعني، ثم هي جارية بعدها في أرحام المؤمنين، ثم تلا هذه الآية»(1).

وعن ابن عباس: أنها نزلت في رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته، وذوي أرحامه، وذلك أنّ كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة، إلاّ ما كان من سببه ونسبه(2)، ولعل المعنى أنه لا أحد ينتفع بنسبه إلاّ النسب المتصل بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنه لا شفاعة تنفع إلا شفاعة الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام).

بيان ذلك:

1- أما النسب: فإنه قد دلّ القرآن على انقطاع الأنساب يوم القيامة، فقال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٖ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}(3)، وهذا إما

ص: 12


1- الكافي 2: 156.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 15.
3- سورة المؤمنون، الآية: 101.

بمعنى عدم نفع النسب مع بقائه، أي: الناس أنسباء إلاّ أنه لا نفع لذلك النسب،وإما بمعنى انتفاء النسب من أصله؛ وذلك لكون هذا النسب تكويناً خاصاً بالدنيا، فقد دلّت الأدلة على أنّ اللّه تعالى خلق الناس أجمع قبل هذا العالم من طينات مختلفة، فلا ارتباط بينهم ولا نسب في العوالم السابقة، وإنما في هذا العالم وبحكمته أخرج بعضهم من صلب بعض، فإذا قامت القيامة يحشر الناس بطيناتهم الأصلية، والتي لم يكن بينها ارتباط ونسب، فالنسب منتفٍ من أساسه، فقوله تعالى: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} على معناه الحقيقي.

ويستثنى من ذلك - بتخصيص الآية بالروايات - نسب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو نافع من جهة، وغير منقطع تكويناً، بمعنى بقائه واقعاً من جهة أخرى، وذلك لخلق أرواح المؤمنين من طينة عليين مع خلق أجسام الرسول والأئمة (عليه وعليهم الصلاة والسلام) من طينة عليين أيضاً، فكان هناك ارتباط بين الطينتين في أصل الخلق، ويحشرون بها، فيبقى الارتباط، وعليه فنسبه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الآخرة يكون خاصاً بالمؤمنين، سواء كانوا من الذرية في الدنيا أم لا، فتأمل.

2- وأما السبب: فإنه لا تنفع شفاعة إلاّ لو قرنت بشفاعة الرسول وآله، فتبدأ الشفاعة من المؤمنين، وتلك الشفاعة تجعل المشفوع قابلاً لشفاعة أهم، وهكذا تترقى الشفاعات إلى أن تصل إلى قابلية المشفوع له لينال شفاعة الرسول وآله، وبشفاعتهم يصير قابلاً لدخول الجنة، مثلاً مذنب يحتاج الى غفران ذنبه، فيأذن اللّه لجاره المؤمن أن يشفع له، وبهذه الشفاعة يترقى إلى قابلية شفاعة أعلى فيشفع له عالم متقٍ، فيترقى لقابلية شفاعة أهم فيشفع له نبي، فيترقى لقابلية الشفاعة الكبرى فيشفع له الرسول وآله مثلاً، وكذلك الشفاعة لرفع الدرجات، وما ذكرناه مقتضى الجمع بين الأخبار

ص: 13

الكثيرة في الشفاعة، وقد أشرنا إليه في شرح أصول الكافي فراجع.

وفي قوله: {وَالْأَرْحَامَ} احتمال آخر، وهو أن تكون عطفاً على محلّ الهاء في {بِهِ} أي تساءلون باللّه وبالأرحام فتقولون: نشدتك باللّه وبالرحم إلاّ ما فعلت كذا.

لكن أشكل بعض النحاة عليه بأن عطف الاسم الظاهر على الضمير المتصل المجرور من غير تكرار حرف الجر لغة ضعيفة!

وفيه نظر، وذلك لوروده في الكلام الفصيح كما ورد كثيراً في الصحيفة السجادية قوله (عليه السلام) : (صلى اللّه عليه وآله) من غير تكرار حرف الجر، وعليه فيجوز في اللغة العطف على لفظ الضمير، كما يجوز العطف على محله، فقوله: {وَالْأَرْحَامَ} بالنصب عطف على محل الهاء في {بِهِ} لأنها في محل نصب على المفعولية.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.

يدل على إشراف علمه تعالى على كل شيء، فيعلم بأعمال العباد كلها؛ لأنّ الرقيب هو الحفيظ الذي يراقب التصرفات، والغرض التحذير مما يوجب سخطه؛ لأنه عالم وسيجازي على ذلك العمل، وقيل: هو ليس مجرد الحفظ، بل حفظ الأعمال لإصلاح موارد الخلل والفساد أو ضبطها!

ص: 14

الآيتان 2-3

اشارة

{وَءَاتُواْ الْيَتَٰمَىٰ أَمْوَٰلَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَٰلِكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا 2 وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَٰمَىٰ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُواْ 3}

2- {وَءَاتُواْ} احفظوها لهم وانفقوها عليهم، {الْيَتَٰمَىٰ} الصغار الذين فقدوا آبائهم {أَمْوَٰلَهُمْ} التي ملكوها بإرث أو غيره.

ثم نهى اللّه تعالى عن أمرين:

الأول: {وَلَا تَتَبَدَّلُواْ} أي لا تستبدلوا {الْخَبِيثَ} من أموالكم، وهو الرديء الذي تعافه النفوس {بِالطَّيِّبِ} من أموالهم، وهو الجيد الذي ترغب إليه النفوس، فتأخذون جيد أموالهم وتعطونهم بدلاً منه الرديء من أموالكم.

الثاني: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰ} أي مع {أَمْوَٰلِكُمْ} بأن تخلطوا اموالهم بأموالكم فتأكلونهما جميعاً من غير تعويض لهم بشيء.

{إِنَّهُۥ} أي كل من التبديل والأكل {كَانَ حُوبًا} إثماً {كَبِيرًا} من حيث شناعته ومن حيث عقابه.

3- {وَإِنْ} كان النكاح باليتيمات مظنة أكل أموالهن وعدم إعطائهن حقوقهن بسبب ضعفهن وعدم وجود ناصر لهن، ف {خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ} لا

ص: 15

تراعوا العدل في أموالهنّ وحقوقهنّ {فِي الْيَتَٰمَىٰ} البنات اليتيمات، فعليكمأن لا تتزوجوهن، بل تزوجوا غيرهن {فَانكِحُواْ مَا} أي العدد الذي {طَابَ لَكُم} أحببتم {مِّنَ النِّسَاءِ} من غير اليتيمات {مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ} أي اثنين اثنين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع، أي بملاحظة المجموع من الرجال، فالمعنى كل واحد يحق له أن يتزوج اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، {فَإِنْ خِفْتُمْ} أي اطمأننتم {أَلَّا تَعْدِلُواْ} في القَسْم والنفقة {فَوَٰحِدَةً} اكتفوا بها، {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} لأنهن لا قَسم لهنّ، فمراعاة العدل فيهن سهل جداً عكس الحرائر، {ذَٰلِكَ} الاكتفاء بواحدة أو بملك اليمين {أَدْنَىٰ} أقرب {أَلَّا تَعُولُواْ} أي لا تميلوا إلى الباطل بأن تجوروا على النساء.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَءَاتُواْ الْيَتَٰمَىٰ أَمْوَٰلَهُمْ}.

الظاهر أنّ المراد بهذه الآية صرف أموال اليتامى عليهم بالمعروف، فالإيتاء هنا بمعنى الصرف والإنفاق، وأما قوله في الآية السادسة: {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ} فهو بمعنى تسليم تلك الأموال إليهم؛ لانتهاء الحجر عليهم، فلا تكرار في الآيتين، فاليتيم في صغره بحاجة إلى النفقة من مأكل ومشرب ومسكن ونحو ذلك، وحيث مات أبوه فنفقته من أمواله، ولا يصحّ التقتير عليهم أو عدم إنفاق أموالهم عليهم بحجة حفظ تلك الأموال أو التورع فيها! بل على الولي الشرعي أو الوصي أو القيم أن ينفق عليهم بالمعروف بلا إسراف ولا تقتير، وفي ذلك حفظهم ورعايتهم وحفظ أموالهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}.

ص: 16

بحيث إذا وجدتم أموالهم أجود وأحسن من أموالكم قمتم بعمليةالاستبدال، زاعمين أنكم لم تأكلوا أموالهم، بل عوضتموها!! وهذا خداع لليتيم أو الشهود بعد أن يصل إلى سنّ البلوغ والرشد، حيث قد يعلم بمقدار أمواله، فيعطى الرديء، على أنه ماله ولا يتمكن من المطالبة بشيء!

وقوله: {وَلَا تَتَبَدَّلُواْ} من باب (التفعّل) ولهذا الباب استعمالات متعددة، وبعضها يناسب المقام هنا(1):

1- فقد يستعمل في المطاوعة مثل: (التكسّر)، فلعلّ المراد هنا عدم صعوبة التبديل، بل يتمّ الأمر بكل سهولة؛ لكون المالك صغيراً لا يعي شيئاً ولا يمكنه إثبات حقّه في المستقبل.

2- وقد يستعمل في العمل المتكرّر في مهل ٍ، مثل: (التجرّع) أي الشرب جرعة بعد جرعة، فلعل التبدّل هنا يكون بالتدريج وشيئاً فشيئاً؛ نظراً لطول مدة الوصاية على اليتيم، واختلاف أملاك الوصي بالجودة أو الرداءة، مما يطمعه في التبديل.

3- وقد يستعمل بمعنى الاستفعال مثل: (التعظّم) فيكون المعنى ولا تستبدلوا أموالهم، أي لا تطلبوا البدل لها.

وقوله: {الْخَبِيثَ} بمعناه اللغوي، وهو الرديء الذي تعافه النفوس، ويقابله {الطَّيِّبِ} وهو الجيّد الذي تميل الطباع إليه وترغب فيه النفوس.

وقيل: المراد العمل الخبيث، وهو أكل تلك الأموال بالحرام، والعمل الطيب وهو حفظ تلك الأول، فالمعنى التحذير من أكل أموالهم! لكن المعنى الأول

ص: 17


1- راجع شرح النظام: 149-150.

أقرب إلى سياق الآية؛ لئلا يكون تكراراً لقوله: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَهُمْ...}.الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَٰلِكُمْ}.

أي: معها، وذلك بأن يضمّ أموالهم إلى أمواله فيأكلها بالتدريج، وهذا نهي عن أكل أموالهم، وإنما أضاف {إِلَىٰ أَمْوَٰلِكُمْ} لأنّ الحالة الشائعة هي التدريج في أكل أموالهم وبطريقة غير محسوسة، إذ أكل أموالهم دفعة واحدة ينكشف فوراً فيمكن مطالبة اليتيم به بعد بلوغه ورشده، لكن الأكل التدريجي يمنع انكشاف الأكل؛ وذلك لأنّ أولياء اليتامى لا يفرزون مصارف الأيتام عن النفقات المشتركة، لصعوبة ذلك جداً بأن يكون مأكل ومشرب وحوائج اليتيم منفصلة في كل شيء، فإنّ ذلك من الصعوبة بمكان، بل أجاز اللّه تعالى أن يشتركوا في المصارف المشتركة ويقتطع من أموالهم بمقدار نفقاتهم، مثلاً لو كانت أسرة من خمسة أشخاص واليتيم سادسهم، فإنه يقسّم المأكل الذي يطبخ في البيت على ستة أقسام وتكون حصة اليتيم من النفقة السدس مثلاً، ليكون اليتيم كأحد أفراد الأسرة، فلا يشعر باليتم والظلم والفرز، لكن هنا قد يخدع الشيطان بعض ضعاف النفوس فيقتطع من أموال اليتيم أكثر من نفقته، وبالتدريج يضم أموال اليتيم إلى أمواله تحت عنوان أنه يصرفها على اليتيم.

نعم هناك من يستولي على أموال الأيتام دفعة فيغصبها ويأكلها قبل بلوغهم، وهذا ما بيّنته الآية السادسة في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ}، فلا تكرار في الآيتين، بل بيان لحالتين مختلفتين في أكل أموال اليتامى.

ص: 18

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّهُۥ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}.الحوب: الإثم، قيل: وتسميته بذلك لكونه مزجوراً عنه(1)، وقد يؤخذ في مادة (ح و ب) الحاجة والمسكنة(2)، فلعلّ استعمال الحوب هنا بدلاً عن الذنب للإشعار بأنّ الآكل يضرّ نفسه من حيث يريد نفعها، فتبعة هذا العمل ستلحقه بفقره ومسكنته أو في ذريته، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ}(3)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}(4).

ويكثر الآن استعمال (الحوبة) حينما يُبتلى الظالم بمشاكل جمة، فكأنها أثر وضعي لأعماله، وعقوبة له عليها.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَٰمَىٰ...} الآية.

بعد أن بيّن اللّه تعالى في الآية السابقة حكم أموال الأيتام، يبيّن في هذه الآية حكم النكاح باليتيمات، وحيث إنهن لا أب لهن فاحتمال ظلمهن في النكاح والحياة الزوجية أكبر من غيرهن، فيحتمل تزويجها بغير الكفؤ لها، أو التزوج بها طمعاً في أموالها لأكلها، أو عدم مراعاة حقوقها بعد الزواج بها، فلذا بينت هذه الآية حكم النكاح باليتيمات.

فمن يعلم من نفسه أنه لا يظلمهن ويؤدي إليهن حقوقهن، فلا بأس عليه في أن يتزوجهن، وهذا ما يستفاد من مفهوم الآية.

ص: 19


1- مفردات الراغب: 261؛ معجم الفروق اللغوية: 204.
2- راجع مقاييس اللغة: 268.
3- سورة النساء، الآية: 9.
4- سورة النساء، الآية: 10.

وأما من يخاف عدم مراعاة حقهن فعليه أن يُعرض عن الزواج بهن، وذلكبأن يتزوّج غيرهن بالعدد الذي يطيب له، شرط أن لا يتجاوز الأربع مع مراعاة العدل في القَسم، وأما لو خاف من نفسه عدم مراعاة العدل فعليه أن يكتفي بواحدة، وكذا تجوز له الإماء، إذ لا قسم لهن ومراعاة العدل فيهن سهل.

قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} المراد الاطمئنان لا مجرد الاحتمال، وذلك بأن يعرف الإنسان من نفسه غلبة الهوى عليه وعدم قوة نفسه على مقاومة المغريات، فعليه أن يغلق على نفسه منافذ الشيطان، بأن يبتعد عن الشيء الذي قد يوقعه في الحرام، فقد يكون الشيء جائزاً في نفسه ولا تبعة في تركه، لكن لو أقدم الإنسان عليه فإنه تترتب عليه أحكام إلزامية بحيث يعصي اللّه تعالى لو لم يراعها، فعليه أن يحتاط ويترك ذلك الجائز إلى بديله، ولذا أفتى الفقهاء بكراهة النذر لمن يحتمل عدم وفائه به؛ لأنه قد يوقع نفسه في حرام ٍ كان في غنىً عنه، كمن ينذر التصدق بمال كثير ثم لا تطاوعه نفسه الوفاء به، فقد أوقع نفسه في حرام مخالفة النذر مع أنه كان يمكنه عدم الوقوع فيه بعدم النذر من أصله.

قوله: {أَلَّا تُقْسِطُواْ} من (القسط) بمعنى النصيب، فإذا استعمل من باب الإفعال كان المراد إعطاء ذي الحق نصيبه، لذا كان الإقساط عدلاً، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(1)، وإذا استعمل من المجرد كان بمعنى منع ذي الحق نصيبه فكان ظلماً، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}(2).

ص: 20


1- سورة المائدة، الآية: 42.
2- سورة الجن، الآية: 15.

وحيث يلزم إعطاء نصيب الأيتام من الأموال، كما يلزم إعطاء الزوجةنصيبها من القَسْم، لذلك كان استعمال كلمة (القسط) هنا أحسن من استعمال كلمة العدل.

قوله: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} قد كثر الكلام في ارتباط هذا المقطع بالشرط، فأي ربط بين الخوف من عدم مراعاة العدل في الأيتام وبين تعدد الزوجات؟ وللمفسرين هنا وجوه، منها:

1- أنّ في الآية إيجازاً بليغاً، وهو نهي عن الزواج باليتيمات خوفاً من غمطهن حقوقهن، بل استبدال ذلك بالزواج بغيرهن بالعدد الذي يرغب فيه الرجل إلى حدّ الأربع، فالمعنى إن خفتم عدم مراعاة حقوق اليتيمات إن تزوّجتم بهن، فلا تتزوجوهن، بل تزوجوا غيرهن من سائر النساء بالعدد الذي ترغبون فيه إلى أربع هذا اذا تمكنتم من مراعاة العدل بينهن، وإلا فاكتفوا بواحدة وبما شئتم من ملك اليمين.

2- أنها أمر بالزواج بهن لمراعاة العدل في أموالهن، بمعنى أنكم إذا خفتم أن تأكلوا أموال اليتيمات لو تزوجهن غيركم، فتزوجوهن أنتم؛ لتبقى الأموال تحت حوزتكم، إذ عادة الأملاك التي بحوزة أحد الزوجين يتصرف فيها الآخر أيضاً بطيب نفس المالك، مثلاً لو كان لليتيمة بيت فلو تزوجها رجل فلا مانع لها من أن يسكن معها في ذلك البيت، فإذا رأى الوصي مثلاً أنّ اليتيمة لو تزوجت غيره أغواه الشيطان بعدم تسليمها بيتها وأكله، فعليه أن يتزوجها ويسلّمها بيتها، لكن باعتبارها زوجته فلا تمانع من سكنه معها في ذلك البيت.

ص: 21

3- ويخطر بالبال وجه آخر على سبيل الاحتمال واللّه العالم، وهو أنّاليتيم لا تتمكن أمّه عادة من حفظ أمواله، فتكون تلك الأموال معرضة للنهب، فعلى المؤمنين السعي لحفظ تلك الأموال، وأفضل الطرق للحفظ هو الزواج من الأرملة أمّ اليتيم، فيكون اليتيم في رعاية زوج الأم، فيعتبره كأولاده، ويحفظ أمواله، والزواج بالأرامل يكون عادة الزواج الثاني أو الثالث أو الرابع، وقلّما تكون الزوجة الأولى أرملة، فعلى هذا الاحتمال يكون {الْيَتَٰمَىٰ} أعم من الذكور والإناث، فتأمل.

وقوله: {مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ} أي اثنتين اثنتين، أو ثلاثاً ثلاثاً، أو أربعاً أربعاً، أي نوع الرجال يتزوجون هكذا، فكل واحد من الرجال يتزوج اثنتين أو ثلاثاً أو اربعاً، وليس المراد أنّ كل واحد يتزوج هذا العدد حتى يتوهم أنه إباحة للزواج بثمانٍ مثلاً، كما يقال: دخل القوم الدار مثنى وثلاث ورباع، حيث معناه أنّ بعضهم دخل بصورة ثنائية وبعضهم بصورة ثلاثية وبعضهم بصورة رباعية، واستعمال (الواو) بدلاً من (أو) للدلالة على استمرار التخيير يعني من له زوجتان إذا شاء أن يتزوج بثلاث فيمكنه ذلك، وكذا من له ثلاث إذا أراد أن يتزوج الرابعة.

وقوله: {مَا طَابَ} «ما» موصولة، ومعناها العدد، ولذا استعمل (ما) دون (مَن) أي فانكحوا العدد الذي يطيب لكم، ثم بيّن موصوف ذلك العدد بقوله: {مِّنَ النِّسَاءِ}، فإن (مَن) تستعمل لذوي العقول، و(ما) لغيرهم عادة، ولو كان الموصول وصفاً لذوي العقول استعملت (ما) أيضاً، وهنا حيث كان المراد الوصف وهو العدد لذا جيء ب (ما)، وقيل: (ما) مصدرية

ص: 22

واستعمال المصدر بدلاً عن اسم الذات إنما هو لإفادة المبالغة كقولهم:(زيد عدل)، وهنا المعنى الطِيْب بمعنى الطَيِّب، ليكون إشارة إلى أنه لا ينحصر الاستلذاذ في نكاح اليتيمات.

ثم اعلم أنّ الحكم هنا إرشادي؛ لئلا يقع في حرام ظلمهن، فليس الزواج بهن مع خوف عدم مراعاة العدل حراماً، بل يمكنه الزواج، فإن لم يراع العدل كان ذلك حراماً، وقد ثبت في علم أصول الفقه أنّ مقدمة الحرام ليست بحرام إذا لم تكن مقدمة موصلة وكان الاختيار باقياً بعد فعل المقدمة، ومعنى الإرشاد هنا هو التحذير من الوقوع في الحرام بالتحذير عن مقدماته وإرشاد الإنسان إلى ترك تلك المقدمات؛ لئلا يصل به الأمر إلى الوصول إلى الحرام.

السادس: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً...} الآية.

العدل المطلوب بين الزوجات هو في القَسم، بمعنى تقسيم الليالي بينهن بالسوية، وأن ينفق عليهن بمقدار شأنهن مع قدرته، فلا يشترط التساوي في النفقة؛ لأن العدل هو إعطاء كل ذي حقٍ حقه، وحق المرأة النفقة بمقدار شأنها مع استطاعته، فلو كان له زوجتان فعليه أن ينفق عليهما بمقدار شأنهما، ولا يلزم التساوي بينهما، فقد يكون شأن إحداهما أعلى من شأن الأخرى، أو إذا أراد الزيادة عن النفقة، نعم الأفضل أن يراعي المساواة أيضاً، مضافاً إلى العدل في النفقة؛ وذلك لأنّ بين العدل والمساواة عموماً من وجه، فقد يقتضي العدل المساواة، وقد يكون العدل في التفضيل، فراتب المدير أعلى من راتب العامل مثلاً، وذلك من العدل رغم أنه ليس

ص: 23

من المساواة، وعليه فالفقير الذي لا يتمكن من الإنفاق على زوجته لا بأسبأن يتزوج الثانية مثلاً؛ لأنّ عدم إنفاقه عليهما ليس ظلماً، بل عجز عن الامتثال، والعجز بعدم القدرة من مسقطات التكليف، نعم هناك مسألة أخرى هي انشغال ذمته بالنفقة فتكون ديناً عليه يجب تسديدها متى ما تمكن، كحال كل مديون.

كما أن التساوي في المحبة القلبية ليس من مصاديق العدل، بحيث لو أحب إحداهما أكثر من الأخرى كان ظالماً، كلاّ، فقوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}(1)، يراد به العدل في المحبة(2)، وذلك ليس بلازم، بل غير ممكن عادة، فإن مقدار المحبة وشدتها ليست باختيارية عادة، نعم أصل المحبة قد تكون اختيارية باختيارية مقدماتها، لكن مقدارها ودرجتها ليست كذلك عادة.

وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} بمعنى أنّ الخوف من عدم العدل بين الحرائر سبب للاكتفاء بواحدة، لكن إن احتاج الرجل إلى الاستمتاع فيمكنه اتخاذ الجواري، إذ قد لا تكفيه الواحدة، وهو مع ذلك يخاف من عدم العدل لو تزوج بالثانية، فحينئذٍ يمكنه الاستمتاع بملك اليمين من غير خوف، وليس ذلك بمعنى ظلم الجواري، فاللّه تعالى منزّه عن تشريع حكم فيه ظلم للبشر، بل ذلك بسبب عدم وجود حق القَسم في الجواري، فمراعاة العدل فيهن سهل، والمراد هنا وطؤهنّ بالملك، وأما الزواج بهن فسيأتي حكمه في الآية

ص: 24


1- سورة النساء، الآية: 129.
2- وبذلك روايات راجعها في البرهان في تفسير القرآن 3: 18-19.

25، ثم بعد ذلك شرّع اللّه النكاح المنقطع من غير اشتراطه بالقَسم ولا بالنفقة،فيمكن لهذا اتخاذ الزوجات المنقطعات بما طاب له، وسيأتي تفصيله في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}(1).

السابع: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُواْ}.

قوله: {ذَٰلِكَ} أي الاكتفاء بالواحدة أو ملك اليمين.

وقوله: {أَدْنَىٰ} أي أقرب، بمعنى أنه لو اكتفى بواحدة فلا يقع في مظالم عدم العدل بين الزوجات، وذلك لأن القضية سالبة بانتفاء الموضوع، ومع ذلك يبقى احتمال ظلم الرجل لزوجته الوحيدة لذلك قال: {أَدْنَىٰ}.

وقوله: {أَلَّا تَعُولُواْ} من (العول) بمعنى الميل عن الحق، وأصله بمعنى النقصان، فكأن الظالم ينقص حق المظلوم.

حول تعدد الزوجات

ثم إنّ هناك بحوثاً متعددة حول تشريع تعدد الزوجات، وقد كثرت الكتابات حوله، ونشير باختصار إلى نقاط:

1- في تعدد الزوجات يشترك الرجل والمرأة، فالزوجة الثانية مثلاً امرأة تزوجت برغبتها، فلا يصح القول بأنّ التعدد ظلم للمرأة، فإنّ ذلك تخصيص اللوم بأحد المتشاركين في الفعل، وهذا أسلوب غير عقلائي.

2- المنتفع الأكبر في تشريع تعدد الزوجات هن النساء؛ لأن فُرَص الزواج للرجال متوفرة عادة وفي جميع ظروفهم وأحوالهم وأعمارهم، لكن ظروف الزواج لا تتوفر عادة للأرامل والنساء الكبار إلاّ بأن تُتَّخَذ زوجة ثانية عادة، فهذا التشريع خدمة لهن أكثر مما هو نفع للرجال.

ص: 25


1- سورة النساء، الآية: 24.

3- أنّ اللّه تعالى وإن دبّر أمور المواليد بحيث يتقارب عدد المواليد منالذكور والإناث، إلاّ أنّ تعرض الرجال للموت المبكّر أكثر من تعرّض النساء؛ نظراً لخطورة العمل وكثرة السفر والحروب والآفات وغيرها التي تقتل من الرجال أكثر، فلذا كانت نسبة النساء عادة أكثر من نسبة الرجال، والاقتصار على واحدة سبب بقاء الكثير من النساء من غير أزواج، فتشريع التعدد حلّ لمعظلتهن قبل أن يكون حلاً للرجال.

4- وحيث إنّ التعدد حاجة ضرورية للمجتمعات الإنسانية، فإنّ الدول التي تمنع عنه يكثر فيها اتخاذ الأخدان، وقد رأيت في إحصائية أنّ أكثر المتزوجين في إحدى الدول الأروبية لهم عشيقات، وفي ذلك ظلم لهنَّ من جهتين: من جهة أنهنَّ يقمن بوظائف الزوجة من غير حقوق الزوجية لهن، ومن جهة الشعور بالإثم ومخالفة الفطرة بالزنا والنظرة الدونية الاجتماعية!

5- وحيث إنّ مصلحة حفظ الأنساب أهم؛ لابتناء أهم الأمور الاجتماعية على الأنساب لذلك لم يشرّع اللّه تعالى تعدد الأزواج، مضافاً إلى منافاته لطبيعة تكوين الرجل والمرأة.

6- سوء تصرف بعض الرجال، وتجاوزهم للحدود الشرعية بالنسبة إلى الزوجة الأولى أو الثانية لا ربط له بالتشريع، فرب تشريع مفيد وصحيح يتمّ استغلاله من بعض ضعاف النفوس، فحتى العبادات قد يتخذها البعض وسيلة للدنيا بالرياء والسمعة، وهكذا في كثير من القوانين الوضعية، فاستغلال البعض لحكم صحيح لا يعني ضرورة إلغاء ذلك الحكم، بل لا بد من تربية المجتمع من جهة، وتطبيق القوانين الرادعة من جهة أخرى، بغية الوصول إلى مجتمع سليم يبتني على قوانين صحيحة وتطبيق سليم.

ص: 26

الآيات 4-6

اشارة

{وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٖ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِئًا مَّرِئًا 4 وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا 5 وَابْتَلُواْ الْيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا 6}

4- {وَءَاتُواْ} أعطوا أيها الأزواج وأيها الأولياء {النِّسَاءَ صَدُقَٰتِهِنَّ} مهورهن {نِحْلَةً} من غير توقع عوض، فإنّ ذلك حقهنَّ فرضه اللّه عطية لهنَّ، ولا يحق لكم ابتزازهن ليتنازلن عن مهورهن، {فَإِن طِبْنَ} رضين من غير جبر أو إكراه {لَكُمْ عَن شَيْءٖ مِّنْهُ} أي بعضه {نَفْسًا} تمييز ل «طبن» أي طابت نفوسهن بالتنازل عنه، وذلك لا يكون عادة إلاّ حين حسن المعاشرة ومراعاة حقوقهن، {فَكُلُوهُ} تصرفوا فيه {هَنِئًا} سائغاً وهو ما يستلذه الإنسان، {مَّرِئًا} من دون غصة، بل محمود العاقبة، كناية عن إباحته بلا ملامة في الدنيا ولا تبعة في الآخرة.

5- {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ} أي من قلّ عقله فيفعل ما لا ينبغي، فقد يكون سفيهاً في الأموال، بمعنى عدم معرفته بكيفية التصرف فيها، فيبذرها إلى أن

ص: 27

تفنى، وقد يكون سفيهاً في الدين، بمعنى انتهاكه لحرمات اللّه تعالى، فلا تعطوهم {أَمْوَٰلَكُمُ} أي الأموال التي يعود نفعها للجميع، سواءكانت أموالهم الخاصة أم أموالكم الخاصة، {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا} أي ما يقيم معاشكم {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} بإطعامهم {وَاكْسُوهُمْ} بإعطائهم الكسوة، فإن كانوا ممن تجب نفقته عليكم فمن أموالكم، وإلاّ فمن أموالهم بمقدار حاجتهم، {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} أي لاطفوهم في الكلام ولا تخاشنوهم كي لا ينكسر خاطرهم، ولعل من القول المعروف نصحهم وتعليمهم كيفية الإنفاق ليزول سفههم، وهذا يشمل حسن معاشرتهم أيضاً.

6- {وَابْتَلُواْ} أي اختبروا واستوضحوا {الْيَتَٰمَىٰ} بتتبع أحوالهم في حسن التصرف في المال، وكذا تربيتهم على ذلك قبل بلوغهم {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} السن الذي يصلح الإنسان للمباشرة {فَإِنْ ءَانَسْتُم} وجدتم عبر المخالطة والمراقبة {مِّنْهُمْ رُشْدًا} معرفة طريق الحياة عبرتمكنهم من حفظ أموالهم وتدبيرها {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} متجاوزين الشرع {وَبِدَارًا} مسرعين إلى الأكل، {أَن يَكْبَرُواْ} أي قبل أن يتمكنوا من منعكم.

وحيث إنّ حفظ مال اليتيم عمل، وقد يكون لذلك العمل أجر عرفاً فقد أجاز اللّه تعالى أخذ أجرة الحفظ {وَ} لكن {مَن كَانَ غَنِيًّا} يملك قوت سنته - ولو بالتدريج - {فَلْيَسْتَعْفِفْ} فالأفضل له عدم أخذ الأجر {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} بمقدار أجر عمله لا أكثر، {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ} بعد بلوغهم ورشدهم {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} ليكون أبعد عن

ص: 28

التهمة والخصومة {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا} محاسباً لأعمالكم وكافياً لكم، فلا تتعدوا حدوده.

بحوث الأول: قوله تعالى: {وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً}.

الخطاب عام فلا يقتصر على الأزواج، بل يشمل الأولياء أيضاً، فإنّ المهر دين على الزوج للزوجة، وكثيراً ما يظلمها بعدم إعطائها حقها والتسويف فيه، كما أنّ بعض الآباء يأخذون ذلك المهر لهم ولا يعطونه لبناتهم، فكأنها سلعة عندهم يبيعونها بالمهر جراء ما أنفقوا عليها من ولادتها إلى حين زواجها.

وقوله: {صَدُقَٰتِهِنَّ} سُمّي المهر صدقة وصداقاً؛ لأنه حق لازم(1)، أو هو مشتق من الصِدق المقابل للكذب، فلعله لأجل أنّ الرجل يعد المرأة بالمهر فيكون تصديق قوله بتسليمها ذلك المال.

وقوله: {نِحْلَةً} إما بمعنى عطية بلا توقع عوض(2)؛ وذلك لأنّ الاستمتاع مشترك بينهما، وليس المهر في مقابل ذلك، بل هو تكريم من اللّه تعالى للمرأة، ورفعها عن كونها بضاعة يتعامل بها، كما كان عليه أهل الجاهلية، فبناء الزواج في الإسلام على سكون النفس والمحبة والرحمة كما قال تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(3) وذلك لا يتنافى مع ثبوت حقوق لكل من

ص: 29


1- راجع مقاييس اللغة: 565.
2- انظر: مجمع البيان 3: 16، وفيه: النحلة عطية تكون على غير جهة المثامنة.
3- سورة الروم، الآية: 21.

الزوجين، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(1).أو بمعنى العطية من غير مطالبة(2)، أو العطية عن طيب النفس(3)، بمعنى أن يبادر الزوج لإعطاء المهر قبل أن تطالبه زوجته، فيكون أهنأ لها، وأنسب للزوج، عكس كثير من الأزواج حيث يسوّفون فيه ويتماطلون.

وقيل: (النحلة) اشتقاقها من النحل، فكأنها العسل لحلاوتها وعدم توقع شيء مقابلها.

الثاني: قوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٖ مِّنْهُ نَفْسًا...} الآية.

كونه حقاً لهنّ لا ينافي جواز تنازلهنّ عنه أو عن شيء منه؛ لأنّ الناس مسلطون على أموالهم، ويمكن لصاحب الحق إبراء ذمة المدين مهما كان سبب الدين.

ولعل الغرض من هذا المقطع الحث على الاحتياط في المهور وعدم الضغط على المرأة لتتنازل عنه، كما هو دأب بعض الأزواج، حيث يفتعلون أجواءً غير مناسبة تضطر المرأة معها للتنازل عن حقها في المهر، كمعاملتها بسوء الأخلاق ومنعها عن بعض الأمور المباحة، فيستغل الرجل قيمومته أو حقّه عليها في إكراهها على التنازل، فجاء النهي عن ذلك عبر بيان المشروع من تنازلهن، وهو ما إذا كان عن طيب نفس، وذلك لا يكون إلاّ حينما يُهيّئ الزوج أجواء المحبة والمودة ولا يبخل على المرأة بشيء من حقوقها، ويعاملها بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحسنة، وحيث شعرت المرأة بتعلق

ص: 30


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- راجع مقاييس اللغة: 980.
3- راجع الكشّاف 1: 359.

زوجها بها وتعلّقها به ورأت ضيق ذات يده فإنّ نفسها تطيب عادة عنمهرها أو جزء منه.

وأما لو أكرهها الزوج - ولو بالإكراه الأجوائي - بالتنازل عن مهرها، فلا يحل له شيء منه ويبقى في ذمته، وفي الحديث: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيبة نفس منه»(1).

وقوله: {عَن شَيْءٖ مِّنْهُ} أي بعضه، وهذه هي الحالة الغالبة، وإلاّ فيجوز لها التنازل عن كلّه؛ وذلك لأنّ الأغلب أن يُصرَف شيءٌ من المهر في تهيئة وسائل العيش وأثاث المنزل والعطايا للزوجة من الثياب والزينة ونحوها، أو لأنّ الغالب عدم طيب النفس عن كلّه وإنما عن بعضه، أو الغرض هو حث الأزواج على عدم قبول التنازل عن كلّه، بل إعطاؤها ولو بعضه حتى لو كانت راغبة عنه.

وقوله: {نَفْسًا} تمييز لقوله: {طِبْنَ}، وذلك لبيان أنّ الرضا القولي وباللسان غير نافع، بل لا بد من الرضا قلباً، ويمكن معرفة الرضا القلبي عن طريقة تعامل الزوج معها وعن طريقة تنازلها عنه.

وقوله: {هَنِئًا} أي سائغاً مستلذاً، وفي المفردات: هو كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقب وخامة، وأصله في الطعام، يقال: هنئ الطعام فهو هنيء(2).

وقوله: {مَّرِئًا} أي المحمود العاقبة والذي لا يضرّ ولا يؤذي، وأصله

ص: 31


1- الفصول المهمة في أصول الأئمة 2: 454.
2- مفردات الراغب: 846.

من مِرئَ الماء بمعنى انسيابه في المريء من غير غُصّة.

والكلمتان للدلالة على كونه مباحاً لا محذور فيه، فهما كناية عنترخيص بلا مذمة ولا تبعة، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

السفه المانع عن التصرف في الأموال

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ...} الآية.

هناك أصناف من الناس قليلو العقل، فلا يصح تسليمهم الأموال؛ لأنهم يفسدونها، كما لا يصح منعهم بشكل نهائي عنها؛ لحاجتهم في معيشتهم وأمورهم، فلا بد من مراعاة مصلحة الأموال ومصلحة السفهاء، فمصلحة الأموال تقتضي بقاءها بيد العقلاء ومنعها عن السفهاء؛ لأنّ قوام المجتمع بتلك الأموال، فلا يصح إهدارها، ومصلحة السفهاء تقتضي قضاء حوائجهم بتلك الأموال لا أكثر مع مراعاتهم أخلاقياً وحسن التعامل معهم.

وقوله: {السُّفَهَاءَ} من «السَفَه» بمعنى قلة العقل، وذلك بأن لا يكون للإنسان ملكة جلب المنافع ودفع المضار، فإنّ العقل هو القوة المعنوية في الإنسان تكون سبباً لجلب المنفعة لنفسه ودفع المضرّة عنه، فالمجنون هو الذي لا يملك هذه القوة، والحدّ المتعارف منه هو الحالة الشائعة في الناس، فإذا كانت القوة ضعيفة أقل من المتعارف كان السفه والحمق والخبل باختلاف الدرجات، وإذا كانت القوة أكثر من المتعارف كان الذكاء والفطنة ونحوه.

وقد يكون الخلل في العقل في جانب من الجوانب لا في كل شؤون الحياة، فلذا كان للسفيه مصاديق متعددة.

منها: السَفَه المالي، بمعنى أن لا يتمكن من التصرف الصحيح في الأموال

ص: 32

فيبذّرها ويتلفها على خلاف الموازين العقلائية، وهذا المصداق هو السفيه الفقهي، ويترتب عليه أحكام في الفقه، منها الحجر على أمواله، فلا يمكنهالتصرف فيها إلاّ بوليّ شرعيّ.

ومنها: السَفَه الديني، بمعنى ارتكاب المحرمات وعدم التورع عنها وهذا أشد أنواع السفه؛ لأنه جلب للشقاء الدائم ومنع النفس عن الرحمة الدائمة، قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥ}(1) وفي الحديث: «قيل: ما العقل؟ قال: ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان»(2).

والظاهر أنّ قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ} شامل لكلا الصنفين، ولذا تمّ الاستشهاد بالآية في روايات متعددة على كلا الصنفين، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسيرها أنه قال: «إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة وولده سفيه مفسد، لا ينبغي له أن يسلّط واحداً منهما على ماله»(3)، وعنه (عليه السلام) : «كل من يشرب المسكر فهو سفيه»(4)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد»(5).

وقوله: {أَمْوَٰلَكُمُ} أعم من كونها ملكاً لكم أو ملكاً لهم، فضمير الخطاب إمّا للتغليب، وإما لأنّ نفع المال عائد للمجموع، فالملكية الخاصة قرّرها الإسلام بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا

ص: 33


1- سورة البقرة، الآية: 130.
2- الكافي 1: 11.
3- تفسير القمي 1: 131.
4- تفسير العياشي 1: 220.
5- تفسير العياشي 1: 220.

تُظْلَمُونَ}(1)، لكن من الواضح أنّ نفع عموم المال يصل إلى عموم الناس،فلذا لا يجوز للإنسان أن يتلف أمواله بحجة أنها ملكه، فهو يتصرف فيها كما يشاء، وحتى في القوانين الوضعية قد تمنع الدول خروج الأموال؛ لأنّ ذلك يضرّ بالاقتصاد، فلذا نفع كل الأموال يصل إلى كل الناس، وإقرار الملكيات الفردية أيضاً يصب في هذا الاتجاه؛ لأنّ الملكيات الفردية تصب في اتجاه حفظ الأموال وتنميتها بما يعود نفعه للجميع، ولذا فشل الاقتصاد الشيوعي لمّا ألغى الملكيات الفردية بحجة أنّ المال للجميع، لكن ذلك الإلغاء أضرّ بالتنمية فخسر الجميع، كما أنّ الاقتصاد الرأسمالي يبالغ في الملكية الفردية حتى لو أضرّت وسببّت الدُولة بين الأغنياء، مع أنّ الاقتصاد الإسلامي يراعي كلا الجانبين، فمن جهة أقر الملكيات الفردية، ومن جهة أخرى شرّع قوانين تمنع الإضرار بالمجتمع، كمنع الربا مثلاً.

وعليه فإن كان المال لكم فلا تعطوه للسفهاء؛ لأنهم يتلفونه وبذلك تختل معيشتكم، وإن كان المال لهم فلا بد من الحجر عليها بحيث لا يتمكنون من التصرف فيها إلاّ بوليّ شرعيّ، فلذا لا تجوز معاملة هؤلاء إلاّ بعد إذن وليهم، والتفصيل يطلب من كتب الفقه باب الحجر.

وقوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ} (الجعل) تكويني وتشريعي، أي خلقها لمصلحة البشر، كما قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(2)، كما شرّع قوانين لحفظ الأموال وتنميتها ومنع فسادها.

وقوله: {قِيَٰمًا} مصدر لإفادة المبالغة ويراد به ما به القيام، أي ما يقيم

ص: 34


1- سورة البقرة، الآية: 279.
2- سورة البقرة، الآية: 29.

معاش الإنسان.

الرابع: قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}.

أي عدم إعطائهم الأموال لا يعني منعهم عنها نهائياً فذلك ضرر عليهم، بل لا بد من مراعاة حالهم أيضاً، وقضاء حاجتهم بتلك الأموال، فإن كان السفيه واجب النفقة عليكم، فعليكم أن تنفقوا عليه من أموالكم بمقدار حاجته، وإن لم يكن واجب النفقة فعلى وليّه أن ينفق عليه من أمواله التي حجر عليها، فهو لا يحق له أن يتصرف في أمواله لكن من حقه قضاء حوائجه منها.

وقوله: {ارْزُقُوهُمْ} الظاهر أنّ المراد إطعامهم، فإنّ الرزق وإن كان أعم، لكن كثر استعماله في الطعام، وفي هذه الآية يتعيّن المراد به بقرينة مقابلته بالكسوة، وذكر الرزق والكسوة هنا من باب المثال، وإلاّ فاللازم القيام بجميع نفقاتهم وحاجاتهم.

وقوله: {فِيهَا} قيل: لم يقل «منها» لإفادة أن لا يقتطع من المال قطعة قطعة حتى يفنى، بل يكون الرزق في المال بأن يبقى أصله بالتدبير والاتّجار ونحوه حتى لا ينقص منه.

وقوله: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} لأنهم لسفههم معرّضون للزجر والمخاشنة والإهانة، فينكسر خاطرهم، بل لا بد من ملاطفتهم وخاصة إذا كانوا صغاراً، ولعلّ منه الوعد الحسن، وكذا تعليمهم كيفية الإنفاق وحفظ الأموال رجاء زوال سفههم؛ لأنّ السفه قد يكون بسبب الجهل والطيش، فيزول بزوالهما، وما أكثر السفهاء الذين أدّبهم الزمان والتجارب، فقد يكون

ص: 35

الجهل من أسباب قلة العقل، ويزول بزوال سببه.

و(القول) لعلّه كناية عن حسن المعاشرة، وتمّ تغليب القول على الفعل؛ لأنّ حسن المعاشرة عادة يكون عبر الكلام الحسن.

و(المعروف) هو ما عرف من الشرع والعقل حسنه، ويقابله المنكر وهو ما لم يعرف منهما حسنه بل أنكراه.

الخامس: قوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ...} الآية.

كانت الآية الثانية في حفظ مال اليتامى كما مرّ، وهذه الآية في تسليمهم أموالهم إذا تحققت فيهم قابلية التصرف فيها، وقد اشترطت الآية لذلك شرطين:

1- البلوغ الشرعي، وهو عادةيتحقق بقابلية المواقعة، وذلك بالإمناء في الأولاد والحيض في النساء، نعم قد تكون هناك حالات قليلة يتأخر الحيض أو الإمناء فهنا دلت الروايات بتحقق البلوغ بالسِن.

2- الرشد، وهو الاهتداء إلى طريق حفظ الأموال، وأصل (الرشد) هو معرفة الطريق الموصل إلى الهداية.

وبتحقق هذين الشرطين يجب على من بيده أموال اليتامى تسليم تلك الأموال إليهم ليقوموا هم بشؤونها.

ثم تبيّن الآية عدم جواز المسارعة في أكل أموالهم بحيث لا يتمكنون من المطالبة بها بعد بلوغهم، لكن حيث إنّ القائم بشؤون الأموال يقوم بجهد وعمل في حفظها فلا بد من إقرار الأجرة له جرّاء عمله، لكن الأفضل أن لا يأخذ أجرة إن لم يكن محتاجاً، بل يحتسب أجر عمله على اللّه تعالى،

ص: 36

وإن كان محتاجاً فأيضاً يقتصر على مقدار حاجته ولا يستوفي أجره كاملاً.

قوله: {وَابْتَلُواْ} بمعنى الاختبار والامتحان، فلا يجوز إعطاؤهم الأموال أو منعهم عنها جزافاً وبالظنون، بل لا بد من الاختبار حتى يتبين منهم الرشد والقدرة على حفظها وحسن التعامل معها، وهذا الاختبار لا بد أن يكون من قبل البلوغ، ولذا كانت الغاية له قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ...}؛ وذلك لأنّ تسليم أموال البالغ الرشيد إليه واجب فوري، فلا يجوز التأخير بحجة الاختبار، فمن باب المقدمة العلمية يجب الاختبار قبل البلوغ حتى يتأكد من رشده بحيث لو بلغ سلّمه ماله فوراً ومن غير توانٍ.

وقوله: {ءَانَسْتُم} أي وجدتم وأبصرتم، قيل: إنما استعمل كلمة (الأنس) لأنّ ذلك فيه ظِلال الألفة والمخالطة والمحبة.

وقوله: {رُشْدًا} لا يخفى أنّ الأفعال مختلفة من حيث إدراك الإنسان لها، فالخروج من الصغر والحجر يختلف باختلافها، فلذا فرّق الإسلام بين الأعمال بجعل مقياسين للواجبات والحقوق:

أحدهما: البلوغ الشرعي، ويترتب عليه العبادات والعقوبات؛ لأنّ الإنسان في هذا العمر يدرك حسن تلك العبادات وقبح المحرمات والتي تستتبع العقوبات.

والآخر: الرشد مضافاً إلى البلوغ، وذلك في الأمور المالية؛ لأنّ غير الرشيد معرّض لأن يتلف ماله بنفسه بسوء تصرف أو أن ينخدع بالكلام المعسول من شياطين الإنس.

وقوله: {أَمْوَٰلَهُمْ} لأنّ وجوب الدفع خاص بأموالهم، فلا يجب دفع سائر

ص: 37

الأموال لهم، وأما قوله: {أَمْوَٰلَكُمُ} في الآية السابقة فلأنه كان نهياً عن الأعم، فلا تسلموا السفهاء أموالكم ولا أموالهم.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ}.

نهي عن أكل أموال الأيتام كلها، وهذا كالتوطئة لإباحة أخذ الأجرة من أموالهم، فالنهي عن الأكل إنما هو بالإسراف والبدار، وليس نهياً عن اقتطاع أجر على العمل.

وقوله: {إِسْرَافًا} الإسراف هو تجاوز الحد، ففي المال هو تجاوز الحد في الصرف، أي أكثر من اللازم الذي ينبغي، وفي العمل هو تجاوز الحدّ المباح إلى غير المباح، وفي الأكل هو تجاوز حدّ الشبع بالإفراط في تناول الطعام أو تهيئة الطعام الزائد بحيث يفسد الزائد، قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ}(1)، وقال: {يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}(2)، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ}(3).

وقوله: {بِدَارًا} أي مسرعين مبادرين إلى الأكل، ولعل ذلك لأنّ الذي يتقاضى أجراً على عمله يأخذه تدريجياً وحسب المتعارف، مثلاً يقتطع راتباً كل شهر، فلا يحق له أن يأخذ الأجر مقدماً وبخلاف المتعارف، أما الذي يأكل أموال الأيتام فيتسرّع إلى ذلك خوفاً من بلوغهم ومنعهم إياه عن أكل أموالهم.

وقوله: {أَن يَكْبَرُواْ} أي حذراً من كبرهم أو مبادرة كبرهم، فكانه في

ص: 38


1- سورة الأعراف، الآية: 31.
2- سورة الزمر، الآية: 53.
3- سورة الفرقان، الآية: 67.

سباق مع الكبر، فهو يسبق كبر الأيتام عبر أكل أموالهم، ولا يدعهم يسبقونه بكبرهم فيمنعونه.

السابع: قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ...} الآية.

هذا بيان لحكم أخلاقي وليس لإفادة الوجوب، فقوله: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} بقرينة قوله: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} يدل على الاستحباب، فكما لا يجب على الفقير الأكل بالمعروف، بل يمكنه العمل تطوعاً وبلا أجر، فكذلك لا يجب على الغني الاستعفاف بأن لا يتقاضى أجراً.

فالحكم الشرعي هو جواز أخذ الأجر المتعارف على العمل، وهو أجرة المثل، كما هو متعارف في صرف راتب للموظفين في مؤسسات رعاية الأيتام مثلاً، نظير سهم العاملين عليها في الزكاة حيث يصرف لهم راتبهم من الزكاة نفسها، وذلك لأنّ عمل الإنسان محترم، فمنع الناس عن أخذ الأجر سبب لعزوفهم عن الاهتمام بأمر أموال الأيتام، وفي ذلك ضرر كبير عليهم، كما أنّ إيجاب ذلك على الناس من غير أجر ضرر على الناس وتضييع لجهدهم وعملهم، فالتشريع الذي يراعي مصلحة الطرفين كان في جواز أخذ الأجر المتعارف، ولكن مع ذلك يحث القرآن على الأخلاق الفاضلة والأعمال الحسنة حتى لو لم تكن واجبة، فهنا يحث على فعل المعروف واحتساب الأجر على اللّه تعالى، فالغني ينبغي أن لا يتقاضى شيئاً، والفقير ينبغي أن يأخذ أقل من أجره وبمقدار قوته فقط.

و(الغني) هو الذي يجد مؤنة سنته ولو بالتدريج، بأن يكون قادراً علىاكتساب مؤنته ولو بالراتب الشهري أو العمل اليومي فيغطي حاجاته.

ص: 39

و(الفقير) هو الذي لا يملك قوت سنته ولو بالتدريج، كأن يكون له عمل لا يكفيه راتبه، فيضطر إلى إلغاء بعض حاجاته؛ لعدم امتلاكه المال لتغطية نفقاتها.

وقوله: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} من العفة، وهي منع البطن والفرج عن شهواتهما غير المشروعة، بل المشروعة التي لا تليق، وهنا لا يليق بالغني أخذ أجر على رعايته لأموال الأيتام.

وقوله: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أي القوت وذلك دون أجره، وإنما جاز له ذلك حتى أخلاقياً؛ لأنه بحاجة إلى كسب قوته وقوت عياله، فعليه أن يكدّ، فأمره بمراعاة مال اليتيم سبب لعدم تمكنه من العمل والاكتساب، وفي ذلك إضرار له لولا إباحة اقتطاع قوته من أموالهم، لكن مع ذلك ليحتسب الأجر عند اللّه فليقلل من أجره وليكتف بمقدار قوته، نعم الأفضل له أن ينوي إرجاع ذلك المقدار إليهم عند قدرته واستطاعته، بأن يحسبه قرضاً عليه، ليوفيه اللّه تعالى أجره كاملاً غير منقوص في يوم القيامة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية أنه قال: «المعروف هو القوت»(1)، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «من كان يلي شيئاً لليتامى وهو محتاج - ليس له ما يقيمه - فهو يتقاضى أموالهم، ويقوم في ضيعتهم، فليأكل بقدر حاجته، ولا يسرف، وإن كان ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يرزأنّ أموالهم شيئاً»(2).

الثامن: قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ فَأَشْهِدُواْ...} الآية.

ص: 40


1- الكافي 5: 130.
2- الكافي 5: 129، وقوله: (يتقاضى أموالهم) أي يطالب بديونهم على الناس وقوله: (يرزأنّ) بمعنى الاقتطاع والنقصان، أي لا يصيب من أموالهم شيئاً لنفسه.

إرشاد لسدّ باب التهمة والخصومة، فإنّ الأمور المالية يكثر فيها النزاع والاتهام، فلا بد من الإشهاد؛ لئلا يتمكن أحد من فتح باب النزاع سواء كان عن عمد وقصد أم عن جهل ونسيان، فالفاسق الذي يعلم بأنه لا حجة له، بل الحجة عليه لا يفتح باب نزاع خاسر عادة، كما أن الجاهل إذا خاصم يمكن إسكاته بالشهود العدول.

والحاصل أنه لا ينغّص معروف حافظ مال اليتيم باتهامه ومنازعته.

وقوله: {حَسِيبًا} إما من الحساب، بمعنى أنه تعالى يحاسب عباده على أعمالهم قال تعالى: {وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ}(1)، فيكون هذا كالتهديد لمن تسوّل له نفسه أكل مال اليتيم أو اتهام الوصي ومطالبته زوراً، وإما من (حَسْب) بمعنى الكفاية كما قيل، أي هو تعالى الكافي، وكأنه تحذير بأنّ الشهود لإثبات الحق الدنيوي، لكن اللّه تعالى شاهد وناظر إلى الأعمال فاحذروه فكفى به شهيداً وجازياً.

ص: 41


1- سورة الأنبياء، الآية: 47.

الآيات 7-10

اشارة

{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا 7 وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا 8 وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا 9 إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا 10}

7- ثم تنتقل الآيات إلى بيان أحكام الإرث {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ} حظ من الإرث {مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} فمدار الإرث النسبي على الولادة والأقربية في النسب {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} فلا تحرم المرأة من الإرث، والمراد مطلق الذكور والإناث، {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} وبيان ذلك لئلا يتهاون الناس في القليل أو يمنعوا النساء عن الكثير، {نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} أي مقطوعاً أوجبه اللّه تعالى فلا يجوز منع أحد عنه.

8- ولكن لأصحاب الحق - من الورثة - أن يتنازلوا عن بعض حقهم لآخرين ليسوا من الورثة {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} شهد وقت القسمة {أُوْلُواْ الْقُرْبَىٰ} وهم الأقرباء البعداء الذي لا يرثون، والأظهر أنّ المراد الفقراء منهم {وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينُ} من غير الأقرباء {فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} إعطوهم

ص: 42

شيئاً منه على سبيل الندب، وذلك فيما لو رضي الورثة الكبار من حصصهم، {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} بلطف، إذ قد يتوقعون شيئاً كثيراً أو يكونخاطرهم مكسوراً بعدم إرثهم أو يتمهم أو مسكنتهم، فإحسانٌ وقولٌ كريم.

9- ثم يحذر اللّه تعالى في إرث الصغار، لئلا يستغل ضعاف النفوس صغرهم فيمنعونهم حقهم {وَلْيَخْشَ} ليخافوا عاقبة عملهم {الَّذِينَ} يأكلون إرث الصغار، فكما يخافون على صغارهم من بعدهم ويتوقعون أن يتقي الناس اللّه فيهم، فليتقوا اللّه في صغار الناس، فهؤلاء {لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا} أي أيتاماً لا يتمكنون من حفظ أموالهم أو بنات ضعيفات {خَافُواْ عَلَيْهِمْ} من إجحاف الناس بهم {فَلْيَتَّقُواْ اللَّهَ} في أيتام الآخرين {وَلْيَقُولُواْ} لهم {قَوْلًا سَدِيدًا} سليماً مطابقاً للشرع والعقل.

10- {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا} من غير حق سيعاقبون في الدنيا والآخرة، أما الدنيا ف {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فكما النار تحرق لو أكلت كذلك هذه الأموال تضرّهم ولا تنفعهم، {وَ} أما في الآخرة ف {سَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} سيحترقون بنار جهنم الملتهبة .

بحوث

الأول: هذه الآيات شروع في حكم مالي آخر من أهم الأمور الاجتماعية، وهو الميراث، وحيث كان الجاهليون يمنعون النساء والأطفال من الإرث بحجة أنهم لا يكدّون ولا يحاربون، جاءت هذه الآيات لنقض حكم الجاهلية، فدلت الآية على أنّ النساء يرثن كما يرث الرجال، وأنّ الصغار يرثون كما يرث الكبار، مع تحذير شديد على منع الصغار إرثهم والوعيد

ص: 43

عليه بالنار، كما تتضمن بيان حكم مستحب في تنازل الورثة عن بعض الإرث لصالح الأقرباء الفقراء الذين لا يرثون وكذا اليتامى والمساكين من غيرالأقرباء، ليكون الأرث أهنأ لهم وأبعد عن الشخاء والبغض، ثم بعد ذلك تأتي الآيات الأخرى لبيان كيفية تقسيم الإرث ونصيب كل واحد من الورثة.

الثاني: قوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ...} الآية.

بيان أنّ الرجال والنساء لهم نصيب، وكي يتم إيضاح إرث النساء من غير شائبة تأويل أو حمل على خلاف الظاهر فقد تمّ التفصيل وتكرار الحكم، فكما للرجال نصيب كذلك للنساء نصيب.

قوله: {نَصِيبٌ} أي حظ وقسط، وتنكيره باعتبار أنّ هذه الآية في مقام بيان أصل الإرث خلافاً للجاهليين الذين كانوا يمنعون النساء من أصل الإرث، وأما مقدار هذا النصيب ففي آيات لاحقة.

وقوله: {مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} بيان أن الإرث هو بأحد أمرين: الولادة، والقرابة، وقوله: {تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ} بيان للمصداق الأكثر حيث يموت الآباء قبل الأبناء، والمصداق الآخر هو ما ترك الأولاد، أو لعلّهم داخلون في {الْأَقْرَبُونَ}.

وقوله: {الْأَقْرَبُونَ} بصيغة أفعل التفضيل، للدلالة على أن الأقرب يمنع الأبعد، فمع وجود ذي قرابة أقرب إلى الميت كالأولاد لا تصل النوبة إلى ذي القرابة الأبعد كالإخوة، وبمضمونه قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1)، وأما التي في سورة

ص: 44


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

الأحزاب، حيث قال تعالى أيضاً: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖفِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1)، فلا ترتبط بالإرث، بل هي في الولاية والخلافة بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما يتضح لمن راجع سياق الآيتين، وقد ذكرناه في شرح أصول الكافي.

وقوله: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} تأكيد آخر لكي لايتهاونوا في الأشياء الحقيرة، وكذا لا يمنعوا النساء من الأشياء الجليلة، فتارة: يتهاون الناس فيما تقلّ قيمته فلا يقسمونه على أصحابه، وذلك زيغ عن الحق؛ لأنّ الأمور الشرعية تقاس بمثقال ذرة وخاصة في حقوق الناس، وتارة تبخل أنفسهم في الأمور الجليلة فيمنعون صاحب الحق حقه، مع أنهم لا يمانعون من إيصال الحقوق الحقيرة إلى أصحابها، فجاءت الآية لبيان أنه لا بد من إعطاء صاحب الحق حقه سواء كان قليلاً أم كثيراً.

وقوله: {نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} تأكيد آخر للدلالة على أنه غير قابل للتبديل والتغيير، من (الفرض) بمعنى القطع، بمعنى أنّ اللّه تعالى قد اقتطع لهم هذا الحق فلا يحق المنع عنه، ويلازم هذا القطع الوجوب الأكيد، ولذا تمّ تفسير المفروض بالواجب وبالثابت، ونصب (نصيباً) إما على كونه مفعولاً مطلقاً أو على الحال.

وقوله: {مَّفْرُوضًا} يدل على أصل فرض الإرث، وليس فيه تعيين نسبة معينة بالخصوص، فيشمل كل موارد الإرث، سواء عيّن اللّه النسبة في جميع الحالات، كإرث الأمّ حيث عيّن لها الثلث تارة والسدس أخرى، أم لم يعيّن النسبة أصلاً، كإرث الأولاد الذكور، أم عيّن تارة ولم يعيّن أخرى، كإرث

ص: 45


1- سورة الأحزاب، الآية: 6.

الأب الذي يرث السدس أحياناً، ويرث الباقي أحياناً أخرى.

كما تشمل أنواع الإرث من الفرض والردّ، حيث تارة تستوفي السهام كل التركة، وأحياناً يفيض شيء من الإرث بعد تقسيم السهام فيرّد عليهم، كما لو كان للميت بنتان فترثان الثلثين بالفرض، والثلث الباقي بالردّ، كما سيأتي تفصيله.

بطلان التعصيب

وفي الآية إبطال التعصيب، بأن يرث الرجال دون النساء أحياناً، كما عليه العامة، مثلاً من مات وخلّف بنتاً وأخاً وأختاً، فعلى مذهب العامة ترث البنت النصف ويرث الأخ النصف الآخر، وذلك يتعارض مع هذه الآية من جهتين: الأولى: إرث الأخ مع وجود بنت الميت يتعارض مع قوله: {الْأَقْرَبُونَ} فالبنت أقرب فلا يرث معها الأخ شيئاً، الثانية: تخصيصهم النصف الثاني بالأخ دون الأخت، وهذا يتعارض مع قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ... وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ...}.

وغير خفي أنّ هذه الآية غير منسوخة بآيات تقسيم الفرائض (الآيات 11-12-176)؛ لعدم التنافي بين مضمونهما، بل هذه الآية في مقام بيان أصل الإرث وتلك الآيات في مقام كيفية التقسيم، فتكون مكملّة وموضحة، ولا يكون النسخ إلا بتغيير الحكم وبيان انتهاء أمده وتشريع حكم جديد، وما روى من النسخ لا بدّ من تأويله بأنه لا يراد منه النسخ المصطلح، بل يراد منه المعنى اللغوي الشامل للتوضيح والتفسير أيضاً.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَىٰ...} الآية.

هذا حكم ندبي استحبابي. الغرض منه تربية النفوس على العطاء وعلى

ص: 46

مراعاة مشاعر الضعفاء، فقد يجتمع الورثة لتقسيم تركة الميت وخاصة النقود، وقد يأتي آخرون من غير الورثة من فقراء الأقرباء وغير الأقرباء من اليتامي والمساكين، فلا بد من مراعاة حالهم، فإنّ اللّه تعالى تفضّل على الورثة بأن ملّكهم أموال الميت لمجرد قرابتهم معه، وكان سبحانه قادراً على تشريع حرمانهم من الإرث كما حرم القاتل من إرث المقتول، أو تشريع إرث غير الأقرباء كالجيران وسائر المؤمنين، لكنّه خصّ بعض الأقرباء بالإرث لحكمة في ذلك، فعليهم أن يتفضلوا على الضعفاء بأن يعطوهم شيئاً من حصصهم، وفي ذلك زيادة الترابط والتكافل الاجتماعي، ويكون إرثهم أهنأ وأبعد عن العين.

وقوله: {أُوْلُواْ الْقُرْبَىٰ} قيل: المراد الفقراء منهم بقرينة حضورهم القسمة وذكرهم مع المساكين واليتامى، ولحن الاستعطاف والاسترحام في قوله: {فَارْزُقُوهُم...}.

لكن الأظهر إبقاء الآية على إطلاقها، بأن يراد منها مطلق الأقرباء الذين يتوقعون أن يحصلوا على شيء من الإرث حتى لو لم يكونوا فقراء، مثل أحفاد الميت - والذين مات أبوهم قبل جدّهم - فإنهم لا يرثون مع وجود أبناء الميت، فالأقرب يمنع الأبعد، لكن من المحبّذ أن يخصصّ الورثة لهم شيئاً من الإرث، وقد تعارف في بعض الأماكن إعطاؤهم بمقدار سهم أبيهم لو كان حيّاً، فحضورهم القسمة قرينة على توقعهم الإرث لا على فقرهم، وجمعهم مع اليتامى والمساكين أيضاً لأجل اشتراكهم كلهم في التوقع لا في الفقر، فتأمل.

وقوله: {فَارْزُقُوهُم} قيل: الآية كانت على الوجوب، ثم نسخت مع بقاء

ص: 47

الاستحباب، لكن الأظهر عدم الوجوب من الأول وأنّ الآية غير منسوخة، وما روي في النسخ محمول على معناه اللغوي.

وقيل: الدلالة على الاستحباب بقرائن من نفس الآية منها: تعليق الإعطاء على الحضور، مع أنّ الوارث لا بد من إعطائه حقه سواء حضر أم لا، ومنها: عدم تعيين المقدار مع أنه في سائر الورثة قد تمّ التعيين، ومنها: إحالته إلى اختيار الورثة، مع أنه لا اختيار لهم فيما فرضه اللّه، ومنها: أمرهم بالقول المعروف، ولا يعبّر بمثل هذا التعبير عن صاحب الحق.

ولا يخفى أنّ صاحب الحق يمكنه التنازل عن حقه أو بعض حقه والتصدق به أو هبته، ولا يجوز له ذلك في حق غيره، فلذا يستحب للورثة الكبار التنازل عن بعض حقهم، ولا يجوز لهم إعطاء شيء من سهم الصغار مطلقاً أو من سهم الكبار غير الراضين بهذا التصدّق.

وقوله: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} جبراً لخاطرهم المكسور في عدم إرثهم مع كونهم قرابات الميت، أو جبراً ليتمهم ومسكنتهم، كما أنهم قد يتوقعون أكثر من اللازم أو يُلحّون فيضجر منهم الورثة فيخاشنونهم، فتأمر الآية بضبط النفس وعدم زيادة المخاشنة على حرمانهم، بل ليقولوا لهم قولاً حسناً يعرف حسنه الشرع والعقل.

الرابع: قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ...} الآية.

تحذير من أكل إرث الأيتام الصغار، ويكون هذا التحذير عبر مراحل:

1- تحريك العواطف الإنسانية، بأن يقال للذي يريد أكل مال الأيتام: إنك هل ترضى لأيتامك ذلك، وإذا أكلت مال أيتام الناس فذلك سيرغب الآخرين

ص: 48

بأكل أموال أيتامك في المستقبل، ولا يجدون حينذاك من يدافع عنهم!

2- بيان الضرر الدنيوي بأنه كأكل النار يضر ولا ينفع.

3- بيان الضرر الأخروي بنار جهنم وسعيرها.

وقوله: {وَلْيَخْشَ} الخشية: خوف من سبب الضرر أو المكروه، فالخشية من اللّه بمعنى الخوف منه؛ لأنه قادر على العقاب، والخشية من العمل؛ لأنه سبب نزول المكروه وقيل: هو خوف يشوبه تعظيم أو تهويل، والمراد الخشية من عملهم بأكل مال اليتيم؛ لأنه سبب المكروه على ذريتهم وعليهم.

ومفعول (ليخش) محذوف مدلول عليه بالكلام، أي ليخشوا عملهم بأكل مال اليتيم، وليس المراد خشيتهم من اللّه تعالى؛ لأنه مذكور في قوله بعد ذلك: {فَلْيَتَّقُواْ اللَّهَ}.

والآية في مقام تحريك عواطفهم تجاه الورثة الأيتام، فإنّ الإنسان قد لا ينزجر بالنهي ولا بالأدلة العقلية، لكنه قد ينزجر إذا تمّ تحريك عاطفته، فيقال له: هل ترضى أن يُظلم أيتامك من بعدك فتؤكل أموالهم؟ ألا تخاف عليهم من بعدك؟ فعليك أن يكون لك نفس الشعور لأيتام الآخرين، وخاصة أيتام قراباتك الذين ورثوا معك لكنك تريد هضمهم حقهم.

وعليه فالأثر الوضعي المترتب على ذلك بأن يكون من يظلم أيتام الناس سيظلم الآخرون أيتامه مستفاد من الروايات لا من نص هذه الآية، وقوله: {لَوْ تَرَكُواْ} قرينة على ما ذكرناه، إذ ليس كل آكل لمال اليتيم له ذرية، وقد لا تكون له ذرية ضعيفة، مع أن التحذير والتخويف يشمله أيضاً.

وقوله: {مِنْ خَلْفِهِمْ} تأكيد وزيادة تصوير لحالة أيتامه، والمراد بعد

ص: 49

موتهم حيث لا يكونون ليتمكنوا من الدفاع عن حقوق ذريتهم.

وقوله: {ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا} سواء كانوا أيتاماً أم نساءً أم كباراً لا يتمكنون من الدفاع عن حقوقهم، فشفقة الإنسان على ضعاف ذريته تحركه على مراعاة حقوق أيتام الآخرين، بل وضعاف الورثة مطلقاً.

وقوله: {خَافُواْ عَلَيْهِمْ} أي من إجحاف الناس لهم وهضمهم حقوقهم بعد موت كافلهم والمدافع عنهم.

الأثر الوضعي لظلم الأيتام

ثم إنّ الذي يظلم أيتام الناس لا يكون في مأمن من أن ينال الظلم أيتامه - ولو بالواسطة - في مستقبل الدهر، لجهتين:

1- إنّ المجتمع الذي يبتني على الظلم، سيعم الظلم فيه الجميع حتى الظالم نفسه، فإن لم يتمكنوا منه لقوته ومنعته فسينال الظلم ذريته الضعيفة أو سيناله هو حين ضعفه، كما أنّ الناس قد لا يتفاعلون مع ذرية الظالم ولا يتعاونون معهم في رفع الظلامة عنهم، وغير خفي أنّ بيان الأثر الوضعي التكويني للظلم لا يعني القبول التشريعي لذلك الأثر شرعاً، بل يجب دفع الظلم حتى عن الظالم أو ذريته تطبيقاً للنهي عن المنكر.

2- دلت الروايات على أنّ أثر الظلم تكويناً هو رجوع مثله إلى الظالم أو ذريته، فبالنسبة إلى الظالم قد يكون عقوبة إلهية دنيوية على ظلمه، وأما بالنسبة إلى الذرية فذلك عقوبة للظالم أيضاً وليس عقوبة لها، إذ لا يجوز عقوبة شخص بسبب فعل شخص آخر، قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}(1)، وحيث لم يكن عقوبة للذرية فلا ينافي العدل.

ص: 50


1- سورة فاطر، الآية: 18.

بيان ذلك: أنّ اللّه تعالى قد يُهيّئ الأسباب الظاهرية لكي ينصر المظلوم على الظالم في الدنيا أو يمنع ظلم الظالم، وقد تقتضي المصلحة أن لا يعجّل في نصر المظلوم في الدنيا، بل يتركه إلى الآخرة، وذرية الظالم الآكل لمال اليتيم يتركهم اللّه تعالى ولا يهيّئ الأسباب لمنع ظلمهم، ليس عقوبة لهم، وإنما لعدم المصلحة في تعجيل نصرهم، ولعل المصلحة أن يكون هذا الأثر التكويني رادعاً لكثير من الناس عن ظلم الأيتام، فجمع اللّه تعالى بين النهي والتهديد بعقاب الآخرة وبين الأثر التكويني الوضعي في الدنيا.

ظلم ذرية الظالم عقوبة له

مضافاً إلى أنّ اللّه تعالى قدّر عدم تساوي الناس في الرزق، بل فضّل بعضهم على بعض لمصالح متعددة، منها تنظيم أمور الحياة كما قال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}(1)، واختيار من يكون الفقير ومن يكون الغني بيده تعالى، فأي مانع في أن يختار إفقار ذرية الظالم؟ فإنّ ذلك جمع بين سنته تعالى في الحياة في فقر بعض الناس، وبين عقوبة الظالم بذلك، وبين تنبيه وتحذير الناس عن ظلم الأيتام.

والحاصل أنّ هذا التقدير عقوبة للظالم وليس عقوبة لذريته، فلا ينافي العدل، بل هو مطابق للحكمة الإلهية وللموازين العقلية، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من ظلم يتيماً سلّط اللّه عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه ثم تلا الآية»(2).

وقوله: {فَلْيَتَّقُواْ اللَّهَ} عطف على قوله: {وَلْيَخْشَ} أي ليخافوا من

ص: 51


1- سورة الزخرف، الآية: 32.
2- تفسير العياشي 1: 223.

مغبة عملهم على أيتامهم فليتقوا اللّه في أيتام الناس، هذا في جانب العمل.

وقوله: {وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} في جانب الكلام، أي لا يكتفوا بعدم الظلم فقط، بل أن يراعوا الأيتام حتى في الكلام.

والحاصل عليهم أن لا يجحفوا مع الأيتام لا في قول ولا في عمل، و(السديد) بمعنى السليم الصحيح، وأصله من سدّ الخلل في الجدار ونحوه، سُمّي به القول والعمل بالصحيح؛ لأنه لا خلل فيه، ولعل سبب ذلك أنّ الصغار قد لا يعرفون الموازين ويتكلمون بكلام غير مناسب أو يعملون أعمالاً غير سديدة، فالإنسان لا بد من أن يراعي صغرهم وعدم إدراكهم، وشفقة الإنسان على أولاده كثيراً ما يمنعه من مخاشنتهم، فليكن كذلك بالنسبة إلى الأيتام، فليشفق عليهم كما يشفق على صغاره.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ...} الآية.

هذا بيان عقوبة الظالم بأكل مال اليتيم، وهي عقوبتان:

1- دنيوية، بعدم انتفاعه بذلك المال، بل يتضرّر به، فهو كآكل النار حيث يريد الانتفاع لكن يتضرر باحتراق فمه وبطنه.

2- أخروية: بأن يلقيهم اللّه في جهنم وسيحترقون بسعيرها.

وقوله: {ظُلْمًا} قيد توضيحي لزيادة التشنيع على أكل مال اليتيم، أو هو قيد احترازي مقابل من يأكل بالمعروف بأخذ الأجر لعمله للأيتام كما مرّ في قوله: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}.

وقوله: {فِي بُطُونِهِمْ} هو تأكيد للأكل كما يقال: نظرت بعيني، وسمعت بأذني، ولعل الغرض زيادة التشنيع وبيان خساسة عملهم، حيث ينتهكون

ص: 52

الحقوق لأجل بطونهم وهذا غاية الضِعة والحقارة.

وقوله: {نَارًا} إمّا للتمثيل، أي يتضررون ولا ينتفعون كأكل النار، ويمكن أن يكون إشارة إلى مآل ومصير هذا المأكول فهو يتحول إلى نار في الآخرة، وحيث إنّ الأكل الآن لم يقل: سيأكلون، بل قال: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ}، فيكون المجاز في قوله: {نَارًا} أي ما يتحول إلى نار، نظير قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}(1)، فليس قوله: {نَارًا} من تجسّم الأعمال، بل من إحضار ما ظلموا فيه وعقابهم به، إذ المال المأكول هو من الأعيان عادة لا من الأعمال.

وقوله: {سَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} من صلى يصلي، أي شعر بحرارة النار وقاساها، وهذا قد يستعمل في الدفء المطلوب في البرد كما في قوله: {أَوْ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}(2).

وقد يستعمل في الاحتراق في النار كما في هذه الآية.

والإتيان بالسين في {سَيَصْلَوْنَ} وعدمها في {يَأْكُلُونَ} لأنّ الأكل في هذه الدنيا وإن كان التحول إلى النار في الآخرة، وأما الاحتراق بنار جهنم ففي الآخرة.

و(السعير): النار الملتهبة المؤججة.

ص: 53


1- سورة التوبة، الآية: 34-35.
2- سورة النمل، الآية: 7.

الآيتان 11-12

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَٰحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٌ وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُۥ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 11 وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٖ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٖ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُۥ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّٖ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ 12}

11- {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} يأمركم ويعهد إليكم، فوصية اللّه تعالى فرض في الإرث وكيفية تقسيمه، بما تقتضيه المصلحة والعدل:

فالطبقة الأولى النَسَبية:

(1) {فِي أَوْلَٰدِكُمْ} ذكوراً وإناثاً {لِلذَّكَرِ} منهم {مِثْلُ حَظِّ} نصيب

ص: 54

{الْأُنثَيَيْنِ} لأنّ الذكر مكلّف بالإنفاق والمصارف دون الأنثى، {فَإِن كُنَّ} كان الأولاد {نِسَاءً} ليس معهن ذكور {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} والمراد اثنتان فما فوق {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} الميت، وذلك بالفرض، {وَإِن كَانَتْ} البنت {وَٰحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} مما ترك بالفرض.(2) {وَلِأَبَوَيْهِ} أبوي الميت المباشرين، فلا يشمل الأجداد والجدات، حالتان:

أ - {لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} فيتساوى الأب والأم في الميراث {إِن كَانَ لَهُۥ} للميت {وَلَدٌ} سواء كان ذكراً أم أنثى.

ب - {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ} للميت {وَلَدٌ} سواء من صلبه أم من أحفاده {وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ} فقط حيث لم يكن له وارث نسبي آخر {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} إن لم يكن للميت إخوة، والباقي للأب.

{فَإِن كَانَ لَهُۥ} للميت {إِخْوَةٌ} من الأبوين أو من الأب دون الإخوة من الأم، فكانوا أخوين أو أخاً وأختين أو أربع أخوات {فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} والباقي للأب، فالإخوة يحجبون الأم لكنهم لا يرثون شيئاً، وفائدته أن خمسة أسداس التركة تكون للأب، وهو ينفق عليهم منها ويرثونها منه لاحقاً.

كل ذلك الإرث {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ} إلى حدّ الثلث {يُوصِي بِهَا} أي تكون وصية من الميت لا من غيره {أَوْ دَيْنٍ} في ذمة الميت حتى لو استوعب المال كله، وحيث عيّن اللّه تعالى مقدار الإرث وأصحابه فلا يحق لكم تغيير ذلك بزعم أنكم تورثون من ينفعكم - من الذكور والكبار دون الإناث والصغار أو الأبناء دون الآباء أو العكس - لأنكم لا تعلمون الواقع،

ص: 55

فربّ صغير أنفع لدنياكم وآخرتكم، ورب بنت أنفع من ابن وهكذا، ف {ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ} لا تعلمون {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} فلعلّ الكل ينفعكم لكن أيهم أكثر نفعاً من غيره؟ وهذه التوصية إنما فُرضت {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بالمصالح وغيرها {حَكِيمًا} في هذا التعيين وفي غيره، فلذا فرضه هذه الفرائض وبهذا المقدار لكل واحد عنعلم وحكمة.

12- وأما الإرث بالسبب، وهو الزواج:

(3) {وَلَكُمْ} أيها الرجال {نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ} أي زوجاتكم {إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} منكم أو من غيركم {فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ}، وكل ذلك {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ} إلى حدّ الثلث {يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٖ}.

(4) {وَلَهُنَّ} للزوجات {الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ} منهن أو من غيرهن، {فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم} وهذا الربع أو الثمن يقسّم بين الزوجات الدائمات إن كن متعددات {مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٖ}، والزوجان يرثان مع كل طبقات النسب، فلا يحجبهم عن أصل الإرث أحد، ولا يحجبون عنه أحداً.

وأما إرث الطبقة الثانية في النسب:

(5) {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} أي الميت الذي ترك الإرث حال كونه {كَلَٰلَةً} أي كان ذا كلالة، وهي القرابة غير الآباء والأبناء، {أَوِ} الميت ذو الكلالة {امْرَأَةٌ} فلا فرق في إرث الإخوة بين كون الميت رجلاً أو امرأة {وَلَهُۥ} للميت {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} من أم {فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ}

ص: 56

والباقي للإخوة من الأبوين أو الإخوة من الأب، {فَإِن كَانُواْ} الإخوة من الأم {أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ} أي أكثر من أخ أو أخت، بأن كانوا اثنين فما فوق {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} يقسّم بينهم بالسوية الأنثى مثل الذكر، كل ذلك {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} حال كون الوصية {غَيْرَ مُضَارّٖ} بأن لا تتعدى الثلث فيكون ضرراً على الوارث، {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ} لكم في كيفيةتقسيم الإرث وفي أصحابه {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} في تشريعه {حَلِيمٌ} عليكم فيمهلكم إن خالفتم لكن لا يُهملكم.

ثم إنّ إرث الإخوة من الأبوين أو الإخوة من الأب سيأتي في آخر السورة، وأما إرث الطبقة الثالثة وهم الأعمام والأخوال، وكذا إرث ضامن الجريرة والمعتق والإمام فقد بينته السنة المطهرة.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}.

الوصية منه تعالى فرض وعهد يجب تنفيذه، قال اللّه تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا...} الآية(1)، وقال: {وَأَوْصَٰنِي بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}(2)، وقال: {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ}(3).

ولعل استعمال كلمة {يُوصِيكُمُ} هنا، للدلالة على أنّ وصية اللّه أحق

ص: 57


1- سورة الشورى، الآية: 13.
2- سورة مريم، الآية: 31.
3- سورة الأنعام، الآية: 151.

بالاتباع من وصيتكم، ولذا أتم آيات الإرث بقوله: {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ}، وحتى وصيتكم إلى حدّ الثلث إنما جازت؛ لأنّ اللّه تعالى أمضاها وشرّع لكم ذلك، فهو المالك الحقيقي العالم بالمصالح والعادل الذي لا يجور، فلا بد لكم من اتّباع تشريعاته وترك عادات الجاهلية والأهواء السقيمة والمصالح الجائرة.

الآيتان 11-12

اشارة

ولا يخفى أن الإرث في القرآن إما بالنسب أو بالسبب، والسبب هو الزواج،فلكل من الزوجين نصيب من إرث الآخر، وأما النسب فالإرث فيه من جهتين: الفرض والقرابة، أما الفرض فهو تعيين نصيب كل وارث بنسبة معينة، والتي تكفلت ببيانه هاتان الآيتان والآية الأخيرة من السورة، وأما القرابة فهو فيما لو زاد الإرث عن السهام، فيُعطى الزائد للأقرب وهذا ما بيّنه اللّه تعالى بقوله في سورة الأنفال: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ}(1)، وبذلك يبطل التعصيب وهو نقل الفائض إلى غير الأقرب، فمثلاً لو مات رجل وخلّف بنتاً وأخاً وأختاً، فترث البنت كل المال، النصف الأول بالفرض لقوله: {وَإِن كَانَتْ وَٰحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ...}، والنصف الثاني بالردّ لقوله: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ...}، ولا يرث الأخ شيئاً؛ لأن البنت أقرب إلى الميت منه، كما أن الآية السابعة في قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ... وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} تبطل التعصيب أيضاً؛ لأن في التعصيب توريثاً الذكر دون الأنثى.

ثم لا يخفى أنّ الأقرباء من حيث حصص الإرث على ثلاثة أقسام:

1- من لم يعيّن له نسبة معينة، كالأولاد الذكور، فهؤلاء يرثون الباقي،

ص: 58


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

أي تعطى السهام المعينة لأصحابها ثم ما يبقى يعطى لهؤلاء.

2- من عُيّن له سهم واحد فقط، كالبنت الواحدة حيث إنّ سهمها النصف، ولم يعيّن لها سهم آخر، فيكون سهمها الثاني هو الباقي.

3- من عُيّن له سهمان: أعلى وأدنى، كالزوجة، فلها الربع إن لم يكن للميت ولد، ولها الثمن إن كان له ولد، فهذا لا يرث أكثر من السهم الأعلى ولا أقل من السهم الأدنى.

والبنت والبنتان من القسم الثاني، أي شُرِّع لهم سهم واحد هو النصف أو الثلثان، ولم يُعيَّن السهم الثاني، فلذا يكون السهم الثاني هو الباقي.

وبهذا البيان يبطل العول، وهو أن تكون السهام أكثر من التركة، كما لو ماتت امرأة وخلّفت زوجاً وأختين من الأبوين، فلو كان للزوج النصف وللأختين الثلثان نقصت التركة عن السهام! فهنا ليس سهم الأختين الثلثين، بل سهمهما هو ما تبقى؛ وذلك لأنّ اللّه عيّن للأختين سهماً واحداً ولم يعيّن السهم الثاني، فيكون السهم الثاني هو الباقي لا الثلثين.

وهذه هي القاعدة العامة في كل موارد الإرث، فلا تعول الفريضة أبداً، وقد بيّنه أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) بتفصيل، وفي الكافي عن ابن عباس أنه قال: سبحان اللّه العظيم، أترون أنّ الذي أحصى رمل عالج(1) عدداً، جعل في مالٍ نصفاً ونصفاً وثلثاً(2) فهذان النصفان ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصري: يا أبا العباس، فمن أوّل من أعال الفرائض؟

ص: 59


1- عالج: صحراء عريضة فيها الرمال، ولا يعلم عدد رملها إلاّ اللّه تعالى.
2- وذلك فيما لو خلفت الميتة زوجاً وأختاً لأبوين وإخوة لأم، فللزوج النصف وللإخوة من الأم الثلث. وزعموا أنّ للأخت من الأبوين النصف.

فقال: عمر بن الخطاب، لما التفّت الفرائض عنده، ودفع بعضها بعضاً فقال: واللّه ما أدري أيّكم قدّم اللّه، وأيّكم أخّر، وما أجد شيئاً هو أوسع من أن أقسّم عليكم هذا المال بالحصص! فأدخل على كل ذي حق ما دخل عليه من عول الفرائض، وايم اللّه، لو قدّم ما قدّم اللّه، وأخرّ ما أخر اللّه، ما عالت فريضة، فقال له زفر: وأيّها قدّم، وأيها أخّر؟ فقال: كل فريضة لم يهبطها اللّه عن فريضة إلاّ إلى فريضة فهذا ما قدّم اللّه، وأما ما أخّر فكل فريضة إذازالت عن فرضها لم يبق لها إلاّ ما بقي، فتلك التي أخّر، فأما الذي قدّم فالزوج له النصف، فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء، والزوجة لها الربع، فإذا زالت عنه صارت إلى الثمن، لا يزيلها عنه شيء، والأم لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس، ولا يزيلها عنه شيء، فهذه الفرائض التي قدّم اللّه. وأما التي أخّر ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان، فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلاّ ما بقي، فتلك التي أخّر، فإذا اجتمع ما قدّم اللّه وما أخّر بُدئ بما قدّم اللّه فأعطي حقه كاملاً، فإن بقي شيء كان لمن أخّر، وإن لم يبق شيء فلا شيء له(1)، وهذا المضمون أيضاً روته العامة عن ابن عباس أيضاً(2).

الثاني: قوله تعالى: {فِي أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}.

(الأولاد) هم الأبناء والبنات، وقد دلت السنة القطعية على أنّ الأحفاد يقومون مقام الأولاد في حال عدم وجود الأولاد، فيرثون حصتهم، فلذا ابن البنت يرث حصة أمه، وبنت الابن ترث حصة أبيها.

ص: 60


1- الكافي 7: 78؛ وعنه في وسائل الشيعة 26: 78-79.
2- المستدرك للحاكم النيشابوري 4: 340؛ وسنن البيهقي 6: 253.

وكان أهل الجاهلية الأولى يمنعون البنت من الإرث؛ لأنها لا تكتسب ولا تحارب ولا تغنم، وأهل الجاهلية المعاصرة يساوون في الإرث بين الأولاد والبنات، وكلاهما زيغ عن الحق وابتعاد عن العدل، فحرمانها عن الإرث ظلم لها، ومساواتها فيه ظلم على إخوتها.

نصيب الأولاد والبنات بين الإسلام وبين جاهليتين

وإنما العدل أن تعطى نصيبها من الإرث باعتبار قرابتها للميت، فكما لم يكدّ الأولاد في أموال أبيهم كذلك لم تكدّ البنات، فالميراث عطية ونحلةلهم جميعاً باعتبار قرابتهم إلى الميت، هذا من جهة أصل التوريث، وأما من جهة المقدار فإنّ اللّه تعالى أوجب نفقة النساء على الرجال فيجب على الزوج أن ينفق على زوجته مثلاً، ولم يوجب على المرأة أن تنفق على أحد، فمقابل هذا الحق الذي جعله للنساء على الرجال جعل سهم الابن ضعف سهم البنت، قال تعالى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(1)، كما أوجب اللّه تعالى الجهاد على الرجال بما يتضمن من مصارف، وجعل عليهم المعقلة، أي دفع العاقلة دية قتل الخطأ، كما جعل للنساء المهر، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة، وإنما ذلك على الرجال، ولذلك جعل للمرأة سهماً وللرجل سهمين»(2)، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) : «لأنّ المرأة إذا تزوجت أخذت والرجل يُعطي»، وقال: «لأنّ الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، وعليه أن يعولها، وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تُؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفّر اللّه تعالى على الرجال لذلك»(3).

ص: 61


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- الكافي 7: 85.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 98.

والحاصل أنّ العدل قد يكون في المساواة، وقد يكون في التفضيل، وهذا أمر جرى عليه العقلاء، فمدير الشركة مثلاً يتقاضى راتباً أعلى من راتب الموظف العادي حتى لو كان عمل الموظف أشق، وليس في ذلك ظلم، بل هو عين العدل، وحيث إنّ النظام الاقتصادي الإسلامي جعل على الرجل تكاليف مالية ولم يجعل تلك التكاليف على المرأة؛ مراعاة للمصلحة ولظروف كل واحد من الرجل والمرأة، في مقابل ذلك ضاعفإرث الابن على البنت.

والأساس في ذلك أنّ تكوين المرأة يختلف عن تكوين الرجل، فالمرأة تكويناً عليها الحمل والإرضاع وتربية الأولاد والاهتمام بأمورهم، فلذا حباها اللّه تعالى بزيادة العاطفة والرقة، ورفع اللّه عنها أثقال الكد والكسب، فأوجب نفقتها على الرجل الذي لم تكن مهمته التكوينية الحمل والإرضاع والتربية، فألزمه بالكدّ والعمل لتحصيل الرزق.

هذا في الحقوق المالية، وأما الحقوق الإنسانية، فالكل مشترك فيها كما أنّ الواجبات والمحرمات والوظائف مشتركة بين الجميع إلاّ فيما استثني، وهذا الاستثناء إنما هو لاختلاف التكوين والتركيبة في بعض الجوانب.

الثالث: قوله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ...} الآية.

الحكم هو للاثنتين فما فوق، والتعبير بقوله: {نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} عن الاثنتين فما زاد تعبير شائع، أو يقال: إنّ الآية دلت على حكم ثلاثٍ فما فوق وسكتت عن حكم الاثنتين، وقد تكفلت لبيانه السنة المطهرة، وقد أجمع المسلمون على أنّ حكمهما حكم الثلاث من غير فرق.

ص: 62

وأمّا حكم أصل التركة:

1- أنه قد تستوفي السهام التركة فهو المطلوب، كما لو كان معهن الوالدان، فلهن الثلثان وللوالدين السدسان.

2- وقد تفيض التركة، فهنا يتم ردّ الفائض على أصحاب السهام بنسبة سهامهم، كما لو خلف الميت أباً وبنتين، فللأب السدس، وللبنتين الثلثان، فيفيض سدس، فيرد عليهم بالنسبة، فإنه يجمع الثلثان مع السدس فيكونخمسة أقسام، فأربعة أخماس يرد على البنيتن والخمس يرد على الأب، مثلاً لو كانت التركة ستة دنانير، فللبنتين الثلثان، أربعة دنانير بالفرض، وللأب السدس دينار واحد بالفرض، فلتحصيل النسبة نجمع الأربعة مع الواحد وذلك سهامهم أجمع، فالدينار الزائد يقسّم خمسة أقسام، أربعة منه يرد على البنتين بالقرابة وواحد يرد على الأب بالقرابة.

3- ولا عول، فلا تنقص السهام عن التركة، فلو خلّفت الميتة زوجاً وأبوين وبنتين، فللزوج الربع، وللأبوين السدسان، وليس للبنتين الثلثان حينئذٍ كي تعول الفريضة، بل لهما الباقي كما وضحناه، فلو خلّفت اثني عشر ديناراً، فللزوج الربع وهو ثلاثة دنانير، وللأبوين السدسان وهو أربعة دنانير، وليس للبنتين الثلثان، وهو ثمانية دنانير كي تعول الفريضة، بل لهما الباقي وهو خمسة دنانير.

وهكذا القول في إرث البنت الواحدة.

الرابع: قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌ}.

ص: 63

المراد الأب والأم المباشرين، فلا تشمل الآية الأجداد والجدات؛ وذلك لقوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1)، ولدلالة السنة القطعية على أنّ الأجداد هم من الطبقة الثانية.

وقال البعض: إن عدم إرث الجد في الطبقة الأولى؛ لأنه لا يطلق عليه الأب إلاّ مجازاً! وهذا كلام ليس بصحيح، بل الجد أب حقيقة، وعدمشمول الآية له لما ذكرناه من أنّ الأقرب يمنع الأبعد ولدلالة السنة.

وقوله: {إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌ} لا فرق بين كونه ذكراً أم أنثى، واحداً أم أكثر؛ لأنّ (الولد) لفظ يطلق لغة على الذكر والأنثى، ولذا صدّر الآية بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}.

وقوله: {لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} ولم يقل لهما الثلث، حتى لا يتوهم أحد أنّ التقسيم على الأبوين كالتقسيم على الأولاد يأخذ الذكر ضعف الأنثى، بل هذه القاعدة لا تجري في الأبوين، بل قد يتساويان، وقد يزيد الأب، وقد تزيد الأم.

1- فالتساوي فيما لو كان للميت ولد، فللأب السدس، وللأم السدس والباقي للولد.

2- وزيادة الأب، فيما لو لم يكن للميت ولد، فلو لم يكن وارث آخر فللأم الثلث وللأب الباقي إن لم يكن حاجب، فإن كان الحاجب فللأم السدس والباقي للأب.

3- زيادة الأم، كما لو خلفت زوجاً وأبوين فقط، فللزوج النصف وللأم

ص: 64


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

الثلث بالفرض لقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٌ وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}، والباقي للأب وهو السدس.

والحاصل أنّ قاعدة (للذكر مثل حظ الأنثيين) لا تجري في الأبوين إطلاقاً، ولا يصح قول العامة بأنّ قوله: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} أي ثلث ما تبقى ليكون للأب ثلثا ما تبقى؛ لأنّ ذلك خلاف سياق الآيات، حيث إنّ السهام في قوله: (النصف) و(السدس) و(الربع) و(الثلث) هي من أصل التركة، لا مما تبقى.الخامس: قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٌ وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ...} الآية.

قوله: {وَلَدٌ} أعم من كونه ولداً للصلب أو حفيداً.

ولو خلف الميت أبوين من غير أولاد، فهنا حالتان:

1- أن لا يكون هناك حاجب، فيكون سهم الأم الثلث مما ترك الميت.

2- أن يكون هناك حاجب، فيكون سهم الأم السدس.

والحاجب هو إخوة الميت، فهم لا يرثون؛ لأنهم من الطبقة الثانية لكنهم يحجبون الأم عن الثلث فينزل سهمها إلى السدس، والسبب في هذا الحجب هو أن الأب يرث الباقي فيكون نصيبه أكثر، حيث إنه ينفق على أولاده - وهم إخوة الميت - والأولاد يرثونه بعد موته؛ فلأجل ذلك شرّع اللّه حجب الإخوة مع عدم إرثهم ليصل النفع إليهم عاجلاً بالإنفاق عليهم وآجلاً بإرثهم من أبيهم، ولهذا الحجب شروط مستفادة من القرآن ومن السنة سنذكرها قريباً.

وقوله: {وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ} هذا القيد لأجل شرط من شروط الحجب وهو

ص: 65

حياة الأب، فلو كان للميت أبوان فهنا يحجب الإخوة الأم عن الثلث إلى السدس، وأما لو كان الأب ميتاً فلا فائدة في الحجب؛ لأنّ الغرض كما ذكرناه أن يزاد إرث الأب لينفق على أولاده - إخوة الميت - وليرثوه، فإذا لم يكن حياً فلا فائدة لهم من حجب الأم عن الثلث إلى السدس.

وقوله: {فَإِن كَانَ لَهُۥ إِخْوَةٌ} فسرت الروايات الإخوة بأخوين أو أخ وأختين أو أربع أخوات، كما بينت الروايات أنّ الإخوة لا بد أن يكونوا منالأبوين أو من الأب، وأما الإخوة من الأم فلا يحجبون أمهم عن الثلث؛ لأنّ هذا الحجب بضررهم، حيث إنهم سيرثون أمهم بالمآل، والغرض من الحجب كان إيصال النفع إلى الإخوة، فلا يكون حجب لو كان عليهم ضررٌ منه.

وهناك شروط أخرى للحجب تطلب من الكتب الفقهية.

السادس: قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}.

التسلسل الشرعي في أموال الميت هو أداء الدَّين أولاً، ثم تنفيذ الوصايا إلى حدّ الثلث، ثم تقسيم الإرث على الورثة.

ولكن حيث كان الغرض من الآيات بيان الإرث وكيفية تقسيمه لذا قدّم الفرائض، ثم ذكر الوصية، ثم الدَّين، أي بدأ من الأخير إلى الأول، فلعل هذه هي جهة ذكر الوصية قبل الدَّين، مع أنَّ الدَّين مقدّم عليها، وقيل: لعلّ سبب ذلك هو تثاقل الورثة عن تنفيذ الوصية دون أداء الدَّين، أو لأنّ الموصى له لا يطالب أو لا يُلحّ على تنفيذ الوصية؛ لأنها فضل عليه، عكس صاحب الدَّين فهو يطالب ويلحّ؛ لأنّ ذلك حقه على الميت وليس فضلاً من الميت عليه، أو لأنّ المديونين غالباً يذكرون الديون في وصاياهم، فكانت

ص: 66

الوصية أعم، ثم أفرد ذكر الدين الذي لم يوصَ به.

وقوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ} دلت السنة المطهرة على أنّ للميت الحق في الوصية إلى حدّ الثلث، فإذا أوصى بما يزيد عليه كان أمر الزائد متروكاً إلى الورثة الكبار، إن شاؤوا تنازلوا عن حقهم دون حق الورثة الصغار فنفذوا ما زاد عن الثلث، وإن شاؤوا لم يتنازلوا فرجعت الوصية إلى الثلث.

وقوله: {يُوصِي بِهَا} تأكيد للوصية، بأن تكون إنشاءً من الميت،فليست مجرد رغبات الميت وصيةً، حتى لو سماها الناس بالتسامح وصيةً، فالوصية إيقاع أو عقد شرعي بحاجة إلى إنشاء من الموصي، وأحياناً قبول من الموصى له، فلو أوصى ببناء مسجد مثلاً كانت إيقاعاً، ووجب على الورثة إعطاء المال لذلك إن لم يتجاوز الثلث، وأما لو أوصى بإعطاء مال لزيد فيحق لزيد القبول أو الرفض، فإن رفض بطلت الوصية وعاد المال إرثاً، دلت عليه السنة المطهرة، ويستفاد أصل المطلب من قوله في الآية التالية: {غَيْرَ مُضَارّٖ} كما سيأتي.

وقوله: {أَوْ دَيْنٍ} الدين مقدّم على الإرث والوصية؛ لأنّ الدَّين حق للدائن، والإرث والوصية فضل من اللّه تعالى على الورثة وعلى الموصى له، فلذا يجب تسديد الدَّين من أصل تركة الميت حتى لو استوعب المال كلّه، بحيث لم يبق شيء للورثة.

ثم إنّ تكرار ذكر الوصية والدَّين لعلّه للتأكيد على أنّ حكم الوصية والدين ليس خاصاً بمجموعة من الورثة، بل هو عام لكل حالات الإرث سواء مع الطبقة الأولى أم الثانية، وسواء مع الإرث النسبي أم السببي، ففي

ص: 67

كل الحالات الدَّين وكذا الوصية إلى الثلث مقدمان على الإرث.

علة تعيين سهام الإرث

السابع: قوله تعالى: {ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ...} الآية.

هذا كالتعليل لتعيين هذه السهام، رداً على الجاهليين الذين كانوا يمنعون الإرث عمّن يزعمون أنه لا ينفعهم، ويوجبون الإرث لمن يزعمون أنه ينفعهم، أو كانوا يزيدون وينقصون في الإرث لهذه الجهة، فردّهم اللّه تعالى بأنكم لا تدرون النافع من الضار أو أيهم أكثر نفعاً من الآخر؛ وذلك لأنّالإنسان لا يعلم بالواقع وبالمستقبل ولا إلى ما تؤول إليه الأمور، لذلك لم يرتب اللّه تعالى الإرث على ما تزعمونه من النافع أو الأنفع، بل رتبه على المصالح الواقعية وعلى القاعدة الاقتصادية الحقيقية، وعلى الترابط والأقربية في النسب والسبب.

وقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} متعلق بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}، والنصب على كونه مفعولاً مطلقاً أو على الحالية، والمراد التأكيد على وجوب التزام هذا التقسيم وعدم تجاوز حدود اللّه تعالى؛ كي لا يتوهم أحد أنّ هذه وصية على نحو الاستحباب.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} لبيان أنّ هذا الحكم مبتن ٍ على علمه تعالى بالواقع وبما يصلحكم، وبأنه وضع الشيء في موضعه، فكل تقسيم آخر باطل، إذ لا تراعى فيه الحقوق ولا توضع الأموال في مواضعها.

الثامن: قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ...} الآية.

بعد ذكر إرث الطبقة الأولى من النسب - وهم الأولاد والأبوان - يذكر اللّه تعالى الإرث السببي بالزوجية، ثم بعد ذلك إرث الطبقة الثانية من

ص: 68

النسب، وهم الإخوة والأخوات، ولعل سبب ذكر الإرث السببي في وسط أحكام الإرث النسبي هو أنّ الغالب وجود أحد الزوجين مع الطبقة الأولى، وقلة حالات الطبقة الثانية، بأن لم يكن للميت أبوان ولا أولاد، فلذا قدّم الغالب على غيره، وبعبارة أخرى غالب الأموات لهم أقرباء من الطبقة الأولى وهم متزوجون، فتم تقديم ذكر الحالة الغالبة، ولذا ذكر النسب ثم السبب ثم عاد للنسب.وقوله: {أَزْوَٰجُكُمْ} هذا خاص بالزواج الدائم، وقد دلت السنة على عدم إرث الزوجة المتمتع بها، وكذا المطلقة البائنة؛ لأنها ليست بزوجة، وأما المطلقة الرجعية فهي زوجة ما دامت في العدة، كما لا يشمل الإرث الإماء؛ لأنهن لسن زوجات.

وقوله: {إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} سواء كان من زوجها الحالي أم من زوجها السابق، فالولد يحجب الزوج عن السهم الأعلى إلى السهم الأدنى وكذا قوله: {إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ} سواء أكان منها أم من غيرها.

وقوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ}، وقوله: {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} هذا سهم الزوجة سواء كانت واحدة أم أكثر، فيقسم بينهن بالسوية، ولو كان سهمهن أكثر لقال: «لكل واحدة منهن».

التاسع: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ امْرَأَةٌ...} الآية.

هذا بيان لإرث الطبقة الثانية من الأرحام، وذلك إذا لم يكن للميت أبوان ولا أولاد، بل كان له إخوة، فهم على صنفين:

1- الإخوة من الأم، بأن تكون أمهم واحدة، وهم من آباء مختلفين

ص: 69

فهؤلاء ذكر حكمهم في هذه الآية: إن كان واحداً فله السدس أخاً كان أم أختاً، وإن كانوا اثنين أو أكثر فنصيبهم الثلث يقسم بينهم بالسوية لا فرق بين الذكر والأنثى؛ لأن قرابتهم إلى الميت عن طريق أنثى هي أمهم.

2- الإخوة من الأبوين، أو الإخوة من الأب، وهؤلاء ذكر حكمهم في الآية الأخيرة من هذه السورة، فإن كانوا ذكوراً فكل المال لهم، وإن كانت أختاً واحدة فلها النصف بالفرض، وإن كانتا أختين اثنتين أو أكثر فلهماالثلثان بالفرض، وقد يرد عليهن الباقي أو جزء منه بالقرابة، وقد يكون لهن الباقي فقط لئلا تعول الفريضة، كما مرّ نظيره في البنت والبنتين.

قوله: {رَجُلٌ يُورَثُ} وقوله: {أَوِ امْرَأَةٌ} هذا التفصيل لبيان عدم الفرق بين كون الميت رجلاً أم امرأة.

وقوله: {يُورَثُ} فعل مجهول من وَرِثَ يَر ِثُ الثلاثي المجرد، والمعنى (يورث منه)، ف (رجل) و(امرأة) الميت الذي يترك الإرث لورثته، وليس الفعل المجهول من باب الإفعال أورث يُورِث، وإلاّ لزم التكرار؛ لأنه حينئذٍ يكون الرجل والمرأة هما نفس الأخ والأخت.

وقوله: {كَلَٰلَةً} النصب على الحال أو التمييز، أي حال كونه كلالةً أو من جهة كونه كلالة، وقيل: على كونه خبراً لكان، والمعنى كان قريباً للميت غير الآباء والأبناء، فالكلالة هي كل رحم ليس بولد ولا والد، فهو قريب من جهة العرض لا الطول، فلفظ (الكلالة) في اللغة يشمل الإخوة والأعمام والأخوال وأولادهم - ذكوراً وإناثاً - ، ولذا حين إرادة إرث الطبقة الثانية قيدّه بقوله: {وَلَهُۥ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ}.

ص: 70

وأصل الكلمة - على ما قيل - إما من الإكليل الذي يحيط بالرأس، أو من الكَلّ بمعنى الإعياء والتعب فكأنها تتناول الإرث بصعوبة(1).

وقوله: {وَلَهُۥ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} يراد بهما الأخوان من الأم، ودلت على ذلك السنة المطهرة، وأيضاً تساويهم في الإرث هنا، وتفاوتهم في الإرث في الآية الأخيرة مما يدل على أنهم صنفان، ففي هذه الآية الكلام حول كلالةالأم، حيث إن رابطهم بالميت عبر أنثى - هي أمهم - لذلك لا يتفاضلون في الإرث، فكان لهم سهم الأم - من السدس أو الثلث - بالشراكة، وفي الآية الأخيرة رابطهم بالميت عبر ذكر - هو أبوهم - لذلك تفاضلوا في الإرث فكان للذكر مثل حظ الأنثيين.

وقوله: {شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} لا يزادون بالفرض، لكن قد يردّ عليهم بالقرابة لو فاضت التركة عن السهام، والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية، وقوله: {شُرَكَاءُ} دليل على تساويهم فيه بمقتضى الشركة حين بيان تفاصيل السهام، ولولا ذلك لكان اللازم بيان سهامهم.

وقوله: {يُوصَىٰ بِهَا} بالمجهول، أي يوصّي الميت بها كما قال في الأزواج: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَا} و{مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَا}، ويحتمل أن يكون المراد يوصي اللّه بها، فكما أوصى اللّه بالإرث فكذلك أوصى بالوصية، فلا يحق للورثة المنع عن الوصية باعتبارهم أحق بأموال الميت، فمن الذي جعلهم أحق بأمواله؟ أليس اللّه تعالى حيث أوصى لأولاد الميت وقراباته بالإرث! فكذلك أوصى بتنفيذ وصايا الميت، ولو كان

ص: 71


1- انظر مجمع البيان 3: 47.

المناط الأحقية، فالميت أحق بأمواله، ولكن مع ذلك تفضّل اللّه على الورثة فحدّد حق الميت في الوصية إلى الثلث فقط!

وقوله: {غَيْرَ مُضَارّٖ} حال عن الوصية والدين، أي لا يكون الميت قد أضرّ الورثة بالوصية والدين، أما الوصية الضررية فهو أن يوصي بأكثر من الثلث حسب ما بينته الأحاديث، وأما الدَّين الضرري فهو أن يُقرّ بديون ليست على ذمته، وإنما يُقرّ بذلك ليضرّ الورثة أو يتحايل على تقييد الوصيةبالثلث، فلا يجوز له ذلك، ولو علم الورثة ببطلان إقراره لم يجب عليهم تنفيذه، وقيل: {غَيْرَ مُضَارّٖ} قيد للوصية فقط، وإنما ذكر الدَّين في الوسط رعاية للسياق في الآيتين حيث قرنهما معاً.

وقوله: {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ} لبيان أهمية تنفيذ الحكم وأنه أمر وعهد من اللّه، فكما بدأ الآية السابقة بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} كذلك ختم هذه الآية بقوله: {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ}.

ثم إنّ هناك قواعد وأحكاماً كثيرة وصوراً مختلفة في الفرض والرد، وشروط وموانع الإرث وغير ذلك تستفاد من هذه الآيات ومن الأحاديث الشريفة، فلتطلب من كتب الفقه.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} لعلّه كالتتمة لقوله: {غَيْرَ مُضَارّٖ} أي أنَّ اللّه تعالى يعلم بنواياكم وأفعالكم، فإذا أخّر العقوبة فإنما ذلك لحلمه، حيث لا يعاجل بالعقوبة إفساحاً للمجال لكم للتوبة أو استدراجاً وإملاءً.

ص: 72

الآيتان 13-14

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 13 وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدْخِلْهُ نَارًا خَٰلِدًا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِينٌ 14}

13- {تِلْكَ} الأحكام المذكورة في الآيات السابقة {حُدُودُ اللَّهِ} التي منع تجاوزها والتخطي عنها، فلا بد لكم من إطاعتها، فهو تعالى يثيب المطيع ويعاقب المتعدي، {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ} في هذه الحدود وغيرها بالائتمار بالأوامر والانزجار بالنواهي {يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ} ففوقها أغصان الأشجار وتحتها مياه الأنهار {خَٰلِدِينَ فِيهَا} فلا موت ولا إخراج، وبذلك تكمل النعمة من غير منغصات، {وَذَٰلِكَ} دخولها والخلود فيها {الْفَوْزُ} أي الظفر بالمراد {الْعَظِيمُ}، لا الاستيلاء على أموال الآخرين من غير حق والتمتع لأيام قلائل فيها.

14- {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ} بمخالفة الأوامر والنواهي {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ} الحدود التي عيّنها اللّه {يُدْخِلْهُ} اللّهُ {نَارًا خَٰلِدًا فِيهَا} أي يستحق الخلود بهذا التعدي {وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِينٌ} فيضاف إلى عذابه الجسدي عذاب نفسي بإهانته.

ص: 73

بحوث

الأول: قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}.

(الحدّ) هو طرف الشيء، بحيث يخرج عنه إذا تجاوزه، ولازمه الفصل بين شيئين، وقد يستلزم المنع عن تجاوزه بالدخول فيه أو الخروج عنه، والإنسان حرّ في تصرفاته يمكنه أن يفعل أي شيء أراد أو يترك، إلاّ ما أوجبه اللّه تعالى فلا يجوز له تركه، أو حرّمه تعالى فلا يجوز فعله، فكانت أحكام الشرع الإلزامية حدوداً عينها اللّه تعالى لأفعال الإنسان وتصرفاته، فعلاً أو تركاً.

والحدود على أنواع، منها حدود لا يمكن الخروج عنها، ومنها حدود لا يمكن الدخول فيها، مثلاً حدّ الشرع الزواج بأربع، فلا يمكن تجاوز العدد، فهو خروج عن الحدّ المرسوم، ولكن في داخل الحدّ يمكنه ما يشاء مثنى وثلاث ورباع أو واحدة، بل حتى اختيار العزوبة على كراهة، كما أنّ الشرع حرّم الزنا فهو من الحدود، فلا يجوز الدخول فيه بارتكاب الزنا.

والواجبات حدود لا يمكن الخروج عنها بتركها، والمحرمات حدود لا يمكن الدخول فيها بفعلها.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ...} الآية.

في البداية بيّن اللّه تعالى أنّ الحدود إنما هي حدود اللّه تعالى، فتكون مهمة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مهمة المبلغ، بل حتى التشريعات التي يصدرها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما هي تشريعات إلهية، وقد شرّف اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإصدارها، بمعنى أن اللّه تعالى قد يصدر الأحكام مباشرة وقد يفوّضها إلى

ص: 74

رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن بعد أن علّمه وأدّبه بآدابه، فلذا يصدر الرسول الحكم طبقاً لما يعلم من المصالح التي علّمه اللّه تعالى إياها، ففي الحقيقة كلّها أحكام إلهية، ففي الأحكام التي أصدرها اللّه مباشرة تجب طاعته تعالى، وفي الأحكام التي أصدرها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجب طاعة الرسول التي هي طاعة للّه تعالى، كما قال: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(1)، كما أنّ هناك أموراً تنفيذية ليست من الأحكام، لكنها لتنظيم أمور العباد والبلاد فللرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الولاية فيها وتجب إطاعته إذا قضى أمراً؛ لأنه معصوم عن الخطأ والزلل، وقد أمر اللّه بإطاعته، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٖ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(2).

وقوله: {يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ} بيان لجزاء الإطاعة وأثرها التكويني الذي جعله اللّه تعالى، وهو أن يكون في نعيم أبدي من غير منغصات، و{جَنَّٰتٖ} جمع جنة بمعنى البستان الكثيف الشجر بحيث تتشابك الأغصان من فوق.

وقوله: {تَحْتِهَا} بمعناه الحقيقي من غير حاجة إلى تقدير تحت أشجارها، وذلك لما مرّ أن الجنة خلقت كوحدة متكاملة، فالجزء العُلوي هو الأغصان والجزء السفلي هو الأنهار.

وقوله: {خَٰلِدِينَ فِيهَا} فضل من اللّه تعالى باستمرار النعيم، فإنّ الإنسان إذا علم باستمرار النعمة فلا يبقى شيء ينغّصها، بخلاف ما لو علم بزوالها فذلك منغّص لها، كالنعيم الدنيوي، حيث إنّ العلم بزواله منغص له رغم أن

ص: 75


1- سورة النساء، الآية: 80.
2- سورة الأحزاب، الآية: 36.

الإنسان يحاول تناسي الموت وزوال النعمة.

وقوله: {وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} كأنه حث على مراعاة حدود اللّه في الميراث والوصية والدين والأيتام - المذكورات في الآيات السابقة - فإنّ المتعدي قد يتوهم أنه فاز بدراهم ودنانير أزيد وأكثر فيفرح بذلك، فيقال له: هذا ليس فوزاً؛ لأنه قليل يتبعه عقاب، بل الفوز العظيم إنما هو النعيم الأخروي بلا زوال ولا انقطاع.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ...} الآية.

بيان جزاء العصاة وهو استحقاقهم الخلود في النار، فهو حث لعدم تجاوز حدود الشرع، ففي البداية ذكر ثواب المطيع ومن ثَمَّ ذكر عقاب العاصي؛ وذلك لأنّ غالب الناس لا يحرّكهم الثواب بل يحرّكهم العقاب، فلذا يشفع اللّه تعالى ذكر العقاب مع ذكر الثواب، و(العصيان) هو مخالفة الأوامر والنواهي وهو ضد الإطاعة.

وقوله: {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ} تأكيد؛ لأنّ كل عصيان هو تعدي حدود اللّه، وكل تعدٍّ لحدوده هو عصيان، ولا يخفى أنه في الآية السابقة - والتي ذكر فيها ثواب الإطاعة - لم يذكر مراعاة الحدود ولعل سببه أنه في صدر الآية قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} فلم يكن من المناسب ذكر الحدود مرة أخرى، فكأنّ المعنى تلك حدود اللّه فأطيعوه فيها، وأمّا الآية الثانية في العقاب حيث لم يذكر فيها الحدود فناسب ذكره تأكيداً للتحذير عن المعصية في تعديها.

وقوله: {خَٰلِدًا فِيهَا} ذكر الوصف مفرداً، وأما في الآية السابقة فقال: {خَٰلِدِينَ فِيهَا} بذكر الوصف بالجمع، فلعلّه تفنن في العبارة الذي هو نوع

ص: 76

بلاغة في الكلام، وقيل: لعله إشعار بتآلف أهل الجنة واجتماعهم، فخلودهمفي الجنة مجتمعين على سرر متقابلين وتلحق بهم ذريتهم المؤمنة وفي ذلك تمام للنعمة، وأما أهل النار فمتباغضون يتبرأ بعضهم من بعض فيزيد ذلك من عذابهم.

الآيتان 13-14

وقوله: {وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي من سائر أصناف العذاب غير النار، أو أنّ العذاب هو النار لكن باعتبار الوصفين ذكرها مرتين، فقوله: {نَارًا خَٰلِدًا فِيهَا} باعتبار الخلود في النار، وقوله: {وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِينٌ} باعتبار اشتمال النار على الإهانة.

سؤال: من صحت عقيدته إذا ارتكب معصية فقد يعاقب عليها في النار، لكن لا يخلد في نار جهنم كما دلت عليه آيات أخرى بالمغفرة والشفاعة، وأنّ اللّه لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فكيف في هذه الآية اعتبر تعدي حدود اللّه موجباً للخلود في جهنم؟

والجواب: هو أنّ معصية العظيم عظيمة، وكل معصية حتى لو كانت صغيرة لها اقتضاء الخلود في نار جهنم بذاتها، فلو كان اللّه يعاقب كل مذنب بالخلود في جهنم لم يكن مخالفاً للعدل، ولكنه تعالى بفضله ورحمته قضى بالمغفرة والشفاعة وقبول التوبة وتكفير الذنوب بالطاعات، وليس شيء من ذلك بواجب عليه عقلاً، خلافاً لما زعمه بعض المتكلمين من وجوب قبول التوبة عليه! فهل العقل يحكم بلزوم قبول توبة المجرم عن ارتكاب جريمته؟ بل قوانين عالم اليوم ولدى العقلاء أجمع هو عقاب المجرم حتى لو تاب وندم.

ص: 77

لكنه سبحانه حيث سبقت رحمته غضبه لذلك قضى بالعفو لمن يشاءممن له قابلية العفو، نعم من لا قابلية له للعفو أصلاً وهو المشرك فإنه لا يعفو عنه؛ لأنه سبحانه حكيم فلا يضع الأشياء إلاّ في مواضعها، وكذلك من لا تحصل له القابلية للعفو إلا بعد عقوبة - طالت أو قصرت - وهم بعض عصاة المؤمنين، فإنه سبحانه يعاقبه بمقدار حتى إذا حصلت له قابلية العفو عفا عنه.

فتحصل أنّ الآيات الدالة على خلود مرتكبي المعاصي في النار تدل على أنّ طبع تلك المعصية يقتضي الخلود، فإن لم يحصل مقتضي العفو - كما في المشرك - أثّر هذا المقتضي أثره، وإن حصل مقتضي العفو - كعصاة المؤمنين - فتسبق رحمته غضبه، فيؤثر مقتضي العفو - ولو بعد حين - دون مقتضي الانتقام، فتأمل.

ص: 78

الآيتان 15-16

{وَالَّٰتِي يَأْتِينَ الْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا 15 وَالَّذَانِ يَأْتِيَٰنِهَا مِنكُمْ فََٔاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا 16}

15- ثم يذكر اللّه تعالى بعض أحكام النساء بما تضمنه من حقوق مالية فقال: {وَالَّٰتِي يَأْتِينَ} يفعلن {الْفَٰحِشَةَ} أي الزنا {مِن نِّسَائِكُمْ} المتزوجات {فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ} اطلبوا الشهود ممن قذفهن {أَرْبَعَةً مِّنكُمْ} من الرجال المؤمنين لا غيرهم، {فَإِن شَهِدُواْ} عليهن بالزنا {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} عقوبة لهن {حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ الْمَوْتُ} حتى يَمُتْنَ {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} أي حكماً تشريعياً، وكان ذلك الرجم أو الجلد.

16- {وَالَّذَانِ} الرجل والمرأة غير المتزوجين {يَأْتِيَٰنِهَا} يأتيان الفاحشة {مِنكُمْ} من المسلمين لا الكفار {فََٔاذُوهُمَا} ردعاً وعقوبة لهما كالتعيير والضرب، {فَإِن تَابَا} عن زناهما {وَأَصْلَحَا} شأنهما فغيّرا حالهما ولم يعودا إلى الزنا {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} بترك الأذية، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} فلذا قبل توبتهما ورحمهما بالأمر بالإعراض عنهما، والآيتان منسوختان بحكم الجلد في سورة النور حيث أمر اللّه تعالى جلد الزانية

ص: 79

والزاني مائة جلدة(1).

بحوث

الأول: سياق الآيات هو في بيان الأحكام الاجتماعية والالتزامات المالية التي تترتب عليها، فبعد ذكر أحكام أموال الأيتام والسفهاء والمهر والإرث، يتم بيان أحكام النساء بدءاً من حكم الزنا والتوبة منه إلى معاشرتهن بالمعروف وعدم منعهن من الزواج أو إكراههن عليه، وإلى استبدال النساء وحكم مهورهن، وإلى المحرمات من النساء والمحللات منهن (الآيات 15-28)، وحيث انتهت الآيات السابقة إلى تعدي حدود اللّه تعالى ومصير المتعدي إلى النار والعذاب المهين، بدأ أحكام النساء بحكم الزنا وعقوبته وكيفية التخلّص منه.

ثم إنّ اللّه تعالى تدرّج في بيان حكم الزنا وعقوبته، وذلك لأجل تربية الناس والمجتمع وتهيئة النفوس، فإنّ الزنا كالخمر كان منتشراً في المجتمع الجاهلي، فتم بيان قبحه وشناعته أولاً في الآيات المكية، كقوله في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَىٰ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}(2)،

ثم تشريع عقوبة خفيفة هي إمساك المتزوجة في البيت وعدم السماح لها بالخروج، وإيذاء غير المتزوجين بالتعيير ونحوه، ثم تشريع الجلد مائة جلدة لغير المحصن والرجم للمحصن، ومن ذلك يتبيّن أنّ حكم الإمساك والإيذاء قد تمّ نسخه إلى حكم الجلد والرجم، كما دلت عليه الروايات الشريفة(3).

ص: 80


1- راجع سورة النور، الآية: 2.
2- سورة الإسراء، الآية: 32.
3- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 53-54.

الثاني: قوله تعالى: {وَالَّٰتِي يَأْتِينَ الْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ...} الآية.

قوله: {يَأْتِينَ} أي يفعلن، يقال: أتاه وأتى به أي فعله، ولعل في التعبير بالإتيان إشعاراً بأن الفعلة ارتكبت بقصد واختيار، إذ لا يقال للمكره والمضطر: إنه أتى بالفعل.

وقوله: {الْفَٰحِشَةَ} يراد بها الزنا، وأصل الكلمة بمعنى تجاوز الحدّ في القبح والشناعة، فالقبائح كلها قبيحة لكن بعضها شديدة القبح متجاوزة بقبحها قبح سائر القبائح، ولذا تطلق الكلمة على الزنا واللواط وعلى الكبائر الموبقة.

وقوله: {مِن نِّسَائِكُمْ} فيه إشعار بكونهن متزوجات، لغلبة استعمالها في هذا المعنى، فحينما يقال: نساء فلان مثلاً يتبادر إلى الذهن زوجاته.

وقوله: {فَاسْتَشْهِدُواْ} أي لا بد من طلب الشهود ممن قذفهن، فلا يجوز الاعتماد على الظنة والتهمة، وما أكثر من يريد هدم بيوت الزوجية أو لا يراعي اللّه تعالى، فيرمي المحصنات المؤمنات الغافلات، فلذا لا بد من طلب الشهود من المدعي، أو المعنى أنه لا يحق للزوج أن يعاقب زوجته باتهام الزنا، بل العقاب خاص بالحاكم الشرعي، وعليه يجب على الزوج إثبات مدعاه عبر إقامة الشهود.

وقوله: {مِّنكُمْ} أي من الرجال المسلمين، فلا اعتبار بشهادة غير المسلم في ذلك، كما لا بد أن يكون الشاهد عادلاً، فالفاسق لا يطلق عليه أنه {مِّنكُمْ}، أو يقال: إنّ سائر الشروط ومنها العدالة مستفادة من آيات أخرى ومن السنة المطهرة.

وقوله: {فَإِن شَهِدُواْ} لبيان أنّ طلب شهادتهم وحدها لا يكفي في

ص: 81

ثبوت الزنا وفي إجراء العقوبة، بل قيل: لا ينفع حتى علم القاضي غير المعصوم، فلا يجوز له أن يعمل بعلمه في هذه القضية، بل لا بد من شهادتهم، وبالشروط المذكورة في باب القضاء، فإن علم القاضي - غير المعصوم - لا ينفع في إجراء الحدود، وقد جعل اللّه تعالى للشهادة موضوعية فيها(1)، لأنّ مبنى الحدود على التخفيف، فلذا تمّ تصعيب شروط ثبوت المحرّمات الجنسية، فهذه العقوبات تشريعها رادع للمجتمع؛ لأنّ ترك الجريمة من غير تشريع عقوبة سبب تجري الناس عليها واستخفافهم بها، فكان لا بد من وضع عقوبة رادعة، وفي الوقت نفسه تصعيب طريقة إثباتها حفظاً للمجتمع وغلقاً للباب على من تسول له نفسه الكذب والافتراء، فتمّ الجمع بين الردع وبين حفظ أواصر المجتمع.

وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} بيان للعقوبة وهي عدم السماح لهن بالخروج من البيت، فهو عقوبة لهن من جهة، ومانع من تكرار الزنا من جهة أخرى.

وقيل: الإمساك أهون من الحبس، فالمراد عدم السماح لهن في الخروج مع كونهن حرائر في البيت، ولكن الحبس فيه إشعار بعدم حريتهن حتى داخل البيت، فتأمل.

وقوله: {حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ الْمَوْتُ} الإمساك في البيت هو منع لهن لكنه منع غير تام، ولكن الموت فيه المنع التام عن كل شيء، ولذا قال: {يَتَوَفَّىٰهُنَّ} أي يقبضهن قبضاً وافياً كاملاً، وبعبارة أخرى الإمساك قبض ناقص،

ص: 82


1- للتفصيل راجع جواهر الكلام 40: 88-90 (ط ج 41: 119-124).

والموت قبض تام كامل.

وقوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} أي إلى أن يجعل اللّه لهن سبيلاً بدلاً عن حكم الإمساك الدائم، وهذا إشعار بأن حكم الإمساك سينسخ، وفي قوله: {أَوْ} دلالة على أنّ السبيل هو عقوبة أخرى تختلف عن عقوبة الإمساك، وبها يتم نسخ عقوبة الإمساك في البيوت.

وقيل: الآية غير منسوخة؛ لأنها تبيّن لزوم النهي عن المنكر بحبس المرأة في البيت حتى لا تتمكن من معاودة المنكر، والنهي عن المنكر لا ينافي إجراء الحدّ، فهذه الآية دلت على النهي عن المنكر عبر الحبس وآية سورة النور دلت على الجلد بمائة جلدة ولا منافاة بينهما، مع أنه في النسخ لا بد من منافاة حكم الناسخ والمنسوخ!

وفيه نظر؛ لأنّ {أَوْ} دليل المغايرة، وأن هناك عقوبة بديلة.

وقوله: {سَبِيلًا} إمّا بمعنى الحكم الشرعي، وكان ذلك الحكم الجلد للمحصن والرجم لغير المحصن.

وإما بمعنى المَخْلَص، ومن المعلوم أنّ الجلد أهون من الحبس المؤبّد؛ لأنه ألم لدقائق تعقبه راحة من العقوبة، ولذا كان الحبس في الإسلام قليلاً جداً، وغالب العقوبات بالجلد والتعزير؛ لأنه روعيت في الجلد العقوبة والردع، مع عدم تعطيل العاصي عن أعماله وعياله، وعدم إلقاء كَلّه ونفقته على بيت المال.

وأما الرجم فهو قتل للمجرم عقوبة له فكيف يكون أهون؟

والجواب: أنه بانتهاء أمد حكم الحبس وتشريع حكم الجلد والرجم يتم

ص: 83

إطلاق سراحهن مع عدم تنفيذ العقوبة الجديدة عليهن، إذ ليس للقانون أثر رجعي كي يتمّ جلد النساء المحبوسات أو رجمهن، بل هذا الحكم هو بمعنى انتهاء عقوبة الحبس لهن مع عدم جلدهن أو رجمهن، فكان ذلك مخلصاً لهن.

ويمكن الجمع بين المعنيين - الحكم والمخلص - بأن حكم الجلد والرجم كما هو سبيل شرعي كذلك هو مخلص لمن ارتكبت الجريمة قبل هذا التشريع، فتأمل.

الثالث: قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَٰنِهَا مِنكُمْ فََٔاذُوهُمَا}.

الظاهر أنّ المراد الرجل مطلقاً - متزوجاً كان أم لا - والمرأة غير المتزوجة إذا زنيا فليست عقوبتهما الإمساك في البيوت كما كان حكم النساء المتزوجات، بل العقوبة هي (الإيذاء) وهو كل ما كرهه الإنسان ولم يكن ضرراً، وحيث لم تعيّن الآية ولا الروايات مصداق ذلك الإيذاء، كانت العقوبة تنطبق على التعيير والضرب غير المبرح ونحو ذلك.

ولعل سبب تفريق الحكم بين المتزوجات وغيرهن أنّ المرأة المتزوجة في عهدة زوج فيمكن تكليفه بإمساكها في البيت وعدم تركها تخرج منه حتى موتها، لكن هناك صعوبة بالغة بالحكم بحبس الرجل في البيت، فمن الذي يقوم بمهمة الحبس؟ وكذلك البنت غير المتزوجة، وخاصة إذا لم يكن أبوها حياً، فيكون في الحكم حرج ومشقة على الآخرين، فتمّ الاقتصار على إيذائهما بالكلام والعمل ليكون الردع والعقوبة معاً.

ثم نسخ هذا الحكم أيضاً، فكلتا الآيتين منسوختان بالجلد لغير المحصن رجلاً كان أم امرأة وبالرجم للمحصن كذلك.

ص: 84

سؤال: الرجم معلوم من السنة، فكيف تمّ نسخ القرآن به، وقد مرّ في سورة البقرة أنه لا تنسخ آيات القرآن إلاّ بآيات أخرى؟

والجواب: أنّ حكم الإمساك والإيذاء نسخ بآية الجلد في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٖ}(1)، ثم أضافت السنة الرجم، فليس الرجم ناسخاً وإنما إضافة للناسخ، فتأمل.

وقيل: هذه الآية في حكم اللواط كما أنّ الآية السابقة في حكم الزنا!

وفيه نظر:

أولاً: لأنّ الضمير في قوله: {يَأْتِيَٰنِهَا} ظاهر في كون هذه الفاحشة نفس الفاحشة في الآية السابقة، وإلاّ لزم الاستخدام وهو خلاف الظاهر.

وثانياً: يلزم عدم ذكر حكم الرجال الزناة؛ لأنّ الآية الأولى في زنا النساء والثانية في اللواط! وهذا أيضاً خلاف الظاهر.

فتحصل أنّ الجمع بين الآيتين والتدبر فيهما يقتضي أنّ الأولى في عقوبة زنا النساء المتزوجات، والثانية في عقوبة زنا مطلق الرجال والنساء غير المتزوجات.

الرابع: قوله تعالى: {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا...} الآية.

هذا فرق آخر بين الحكمين، فالمذكورات في الآية الأولى حكمهن الإمساك إلى حدّ الموت أو يجعل اللّه لهن سبيلاً، وأما المذكورون في الآية الثانية فحكمهم الإيذاء إلى حين التوبة والإصلاح، فإذا تابا وأصلحا سقطت عنهما العقوبة.

ص: 85


1- سورة النور، الآية: 2.

وقوله: {تَابَا} عن ما ارتكباه من الجريمة، وقوله: {أَصْلَحَا} بالالتزام بالأوامر والنواهي، فلا تكفي مجرد التوبة عن الذنب، بل لا بد من شفع ذلك بترك سائر الذنوب وبالالتزام بالأوامر، وذلك لأنّ ارتكاب الزنا إنما هو بسبب فساد في النفس وخلل في العمل، فلا يكفي مجرد الندم والعزم على عدم العود من غير إصلاح الباطن والعمل؛ لأنّ هذا الندم والعزم لا يكفيان في عدم الوقوع في شراك الشيطان مرة ثانية، فما أكثر من تاب توبة حقيقة عن ذنب لكنه سرعان ما رجع إليه؛ لأنّ الندم والعزم على عدم العود يرفعان الذنب السابق وأثره، لكن لا ضمانة في عدم تكرار الذنب؛ لأنّ ما كان سبباً في الذنب الأول سيكون سبباً لتكراره، فلا بد من قلع جذور الذنب من النفس وذلك عبر إصلاح الإنسان نفسه، ولذا شفع الإصلاح بالتوبة.

وقوله: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} أي بترك الإيذاء، فاللّه قد تاب عليهما فلا معنى لاستمرار العقوبة بإيذائهم.

وقوله: {تَوَّابًا} أي كثير الرجوع إلى عباده بلطفه وعنايته، وقوله: {رَّحِيمًا} أي يرحمهم برفع العقاب عنهم كما قبل توبتهم، إذ قد يقبل اللّه تعالى التوبة، لكن مع عدم رفع العقاب الدنيوي، وقد يقبلها مع رفعه، نظير المحارب، حيث قال عنه: {إِنَّمَا جَزَٰؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).

ص: 86


1- سورة المائدة، الآية: 33-34.

الآيتان 17-18

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 17 وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 18}

17- وحيث ذكر اللّه تعالى سقوط عقوبة مرتكب الفاحشة إذا تاب؛ لأنه تعالى تواب رحيم، ذكر شطراً حول التوبة فقال: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} أي حق جعله على نفسه برجوعه تعالى إلى العبد باللطف والرحمة وعدم المؤاخذة {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَٰلَةٖ} أي سفه منشؤه الجهل {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ} أي قبل حضور الموت {فَأُوْلَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ينفّذ ما وعده بقبول التوبة {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بالتائب الحقيقي وبمصلحة قبول التوبة {حَكِيمًا} في أفعاله ولذا يقبل التوبة من عباده.

18- {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} أي رجوع اللّه على عبده أو قبول توبة العبد {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ} متمادين في غيّهم ومصرّين عليها {حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} عاين أمر الآخرة حين احتضاره {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ} حيث انقطعت أسباب الدنيا وانتهى وقت الامتحان وحلّ وقت الجزاء، {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} من غير توبة لكنهم يندمون على

ص: 87

كفرهم، {أُوْلَٰئِكَ} الطائفتان {أَعْتَدْنَا} هيّئنا {لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} مؤلم لهمجسداً ونفساً.

بحوث

الآيتان 17-18

الأول: قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}.

أصل معنى التوبة بمعنى الرجوع، ثم إنّ بعض الأفعال تتعدى بحروف الجر، وقد يختلف المعنى باختلافها، والتوبة تتعدى ب (على) و(إلى) و(عن).

وفي (التوبة عليه) إشعار بالعلّو، فلذا كانت رجوع العالي إلى الداني فلذا يقال: {تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}(1)، أي رجع اللّه على العبد باللطف والرحمة والكرامة؛ لأن الذنوب سبب انقطاع بعض تلك الرحمات والألطاف، وفي (التوبة إليه) إشعار برجوع الداني إلى العالي، أي رجع إليه بعد انقطاعه عنه بسوء اختياره، وأما (التوبة عنه) فهي رجوع عن الذنب وعن المعصية إلى الطاعة.

و(توبة اللّه على العبد) قد تكون قبل الذنب وبعده، فاللّه تعالى يوفّق العبد للتوبة، ثم لمّا يتوب يطهّره عن دنس الذنوب بمحو آثارها، وقد تكون من غير ذنب فتكون بمعنى زيادة ألطافه ورحماته كما في قوله: {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ }(2)، وقال: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ} إلى قوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا

ص: 88


1- سورة المائدة، الآية: 71.
2- سورة التوبة، الآية: 117.

إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(1)، أي اعطف علينا باللطف والرحمة، فهيتوبة عليهم من غير ذنب اقترفوه، إلاّ أن يقال: إنه وإن لم يصدر منهم ذنب إلاّ أنّ اقتضاء إمكان الممكن وكذا الاضطرار إلى القيام بالأمور الاعتيادية من المأكل والمشرب ونحوهما بنفسها قد توجب بُعداً عنه تعالى، فأرادوا عدم قطع ألطافه في تلك الأحوال، فالرجوع إليهم يكون باستمرار العطف والرحمة والكرامة وكذا بزيادتها، ولذا قيل: توبته على العبد: جلب عباده إلى بابه بتعريف نفسه إليهم وبتحبيبه لهم أو بتخويفهم من سطوته أو بغير ذلك من الأسباب التي لا يحصيها ولا يعرفها غيره سبحانه(2).

ثم إنه لا أحد له حق على اللّه تعالى بالذات، فهو الغني وجميع الخلق فقراء إليه، ولكنه قد يَعِد بشيء لطفاً منه وكرامة، فيكون ذلك الشيء حقاً عليه باعتبار وعده، كما قال: {كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}(3)، وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(4)، وأما قول المتكلمين: (يجب على اللّه كذا) فلا يراد التكليف، بل يراد أنّ ذلك الفعل هو مقتضى عدله وحكمته؛ لأنّ خلافه قبيح وهو تعالى منزه عن فعل القبيح، فمثلاً لو وعد اللّه بشيء فعدم الوفاء به قبيح، واللّه يتعالى عن القبيح.

ثم إنّ قبول التوبة ليس واجباً عليه تعالى بالذات، فالمجرم لا وجوب عقلاً لقبول اعتذاره وندمه حتى لو أصلح ما أفسده، فلذا ترى العقلاء في أحكامهم

ص: 89


1- سورة البقرة، الآية: 127-128.
2- مناهج البيان 4: 317.
3- سورة يونس، الآية: 103.
4- سورة الروم، الآية: 47.

الوضعية يعاقبون المجرم حتى لو اعترف وندم، نعم قد يتم العفو عنه أو تخفيف العقوبة لكن ليس باعتبارهما واجبين، بل من باب الرحمة والعطف.وعليه: فقضاؤه سبحانه بالتوبة ووعده بها إنما هو تفضّل منه ورحمة على عباده؛ لأنه خلقهم ليرحمهم كما قال: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)، ورحمته سبقت غضبه، فما دام هناك قابلية للإنسان للرحمة فإن اللّه تعالى يرحمه، ومن ذلك قبول توبة العبد حتى لوتكرر الذنب منه، إلاّ لو فقد الإنسان القابلية لها، فحينئذٍ مقتضى الحكمة عدم الرحمة، وقد مرّ أنّ صفاته تعالى لا تتناقض، فمنشأ أفعاله هو صفاته الذاتية، والحكمة من صفات الذات؛ لأنّ مرجعها إلى العلم، وأما الرحمة فهي من صفات الفعل، فلذا تكون رحمته - على سعتها - مقيّدة بحكمته.

الثاني: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَٰلَةٖ}.

قوله: {السُّوءَ} بمعنى الذنوب والعمل الحرام؛ لأنه يُسيء إلى مرتكبه، ولا فرق في كونه معصية أم كفراً وشركاً، فالمشرك إذا ارتدع عن شركه وآمن دخل في زمرة المؤمنين، فأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}(2)، فالمراد من مات على الشرك فهذا غير مغفور له ألبتة ويخلّد في نار جهنم مهاناً، قال تعالى: {إِنَّهُۥ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَىٰهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ}(3)، أي ليس لهم شفعاء أبداً.

ص: 90


1- سورة هود، الآية: 119.
2- سورة النساء، الآية: 48.
3- سورة المائدة، الآية: 72.

وقوله: {بِجَهَٰلَةٖ} بمعنى السفه الذي منشؤه الجهل، فالذي يرتكب القبيح عامداً عالماً - بالموضوع والحكم - بسبب غلبة الهوى والنفس الأمّارةبالسوء - هو سفيه؛ لأنه يجرّ وبالاً عليه، كما أن منشأ سفهه الجهل، قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥ}(1)، وفي الحديث: «قيل ما العقل؟ قال: ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان»(2).

وحتى المعاند فإنّ عناده سفاهة عن جهل، وكان قوم لوط معاندين ومع ذلك قال عنهم: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(3)، وكذلك قال عن عاد: {وَلَٰكِنِّي أَرَىٰكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}(4)، ولذا لو تاب المعاند كانت توبته مقبولة.

وقيل: إنّ المعاند لا يتوب ولو تاب فتوبته كاذبة، فلذا ليس عمله عن جهالة، بل عن عناد!

وفيه نظر: لأنه قد يتوب توبة صادقة بزوال أسباب عناده، نعم ذلك قليل، فأكثر المعاندين يستمرون في عنادهم فلا يتوبون، مضافاً إلى أنّ منشأ العناد هو الجهل، إذ العلم نور فلا يكون منشأ للظلمة، نعم قد لا يؤثر العلم بسبب وجود موانع من النفس والهوى وحب الدنيا وغيرها كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(5)، فاتباع هذه الموانع وعدم اتباع العلم هو الجهل والسفه بعينه، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:

ص: 91


1- سورة البقرة، الآية: 130.
2- الكافي 1: 11.
3- سورة النمل، الآية: 55.
4- سورة الأحقاف، الآية: 23.
5- سورة النمل، الآية: 14.

«كل ذنب عمله العبد وإن كان عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه فيمعصية ربه»(1).

وعليه فالتقييد ب (الجهالة) لبيان سبب عملهم السوء، لا لإخراج المعاند، ولا هو قيد توضيحي، ولذا قيل: هو بيان أن الجهل سبب لعملهم السوء فلا عذر بهم فيه؛ لأنه جهل عن تقصير، مع بيان لطف اللّه تعالى في قبول توبتهم مع أنه كان يمكن مقاضاتهم وعقوبتهم وعدم قبول توبتهم.

والحاصل أنّ قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} ليست بمعنى كونها حقاً واجباً عليه بالذات؛ وذلك لكون عملهم بجهالة فكانوا مستحقين للعقاب، لكن اللّه تعالى تفضّل عليهم بالقبول.

الثالث: قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ}.

أي في وقت قريب لزمان المعصية، وذلك يستمر إلى قبل الاحتضار والمعاينة، فأمد الحياة قصير مهما طال، وفي ذلك حثّ على تسريع التوبة، إذ لا يعلم الإنسان متى يخترمه الموت، وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على وجوب المبادرة إلى التوبة، خروجاً عن المعصية والتزاماً بالعبودية ودفعاً للضرر العظيم بحضور الموت قبل التوبة، وقد تمّ - بقرينة المقابلة - بيان {مِن قَرِيبٖ} في الآية التالية بقوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ...} الآية.

وبذلك يتضح أنّ التوبة مهما تأخرت، فهي مقبولة قبل حضور الموت.

الرابع: قوله تعالى: {فَأُوْلَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.

ص: 92


1- تفسير العياشي 1: 228.

هذا ليس تكراراً لقوله في صدر الآية: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}، بل ما في صدر الآية بيان أنها حق عليه بوعده، وهذه لبيان تنفيذه لما وعده، كماتقول: وعدته بدينار فأعطيته إياه، فهو تعالى كتب على نفسه الرحمة بقبول التوبة ثم يفي بما كتبه.

أو أنّ الأولى بيان أنها حق لهم ولذا قال: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ}، والثانية بيان أنّ كونها حقاً لهم لا تنافي استعلاءه وتفضّله، ولذا قال: {عَلَيْهِمْ}، فصيرورتها حقّاً لهم - لأنه وعدهم بها - لا يخرجها عن التفضّل عليهم، كما لو وعدت إنساناً بمال، ثم وفيت بوعدك فسلمته له، فتسليمك المال إياه وإن كان حقاً له بسبب وعدك، إلاّ أن التفضّل فيه باق، فهو تفضّل عليه رغم وجوبه عليك، نعم لو لم يكن منشأ الحق التفضّل فلا يكون الوفاء به تفضلاً، كما لو سلّم المديون دينه إلى الدائن فهو حق عليه من غير تفضّل، ولا يكون من اللّه إلا التفضّل سواء جعله حقاً عليه أم لا.

وقوله: {عَلِيمًا} لبيان علمه بالتائب الحقيقي من غيره، فما أكثر من يتظاهر بالتوبة وليس بتائب، كما أنه عالم بحال عباده وقد علم أن التوبة تصلحهم، فلذا فتح باب التوبة، فليست التوبة إغراءً بالمعصية، بل سدّ لبابها، فإنّ العاصي إذا علم بأنه معاقب لا محالة تنتابه حالة اليأس، فلذا يتمادى في غيّه، أما لو علم بأنّ باب التوبة مشرعة أمامه فإنه قد يتوب ويصلح أمر نفسه.

وقوله: {حَكِيمًا} لبيان أنّ قضاءه بالتوبة وبقبولها هو وضع للشيء في موضعه، وإحكام لأمر العباد وتحبيب للطاعة.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ...} الآية.

ص: 93

بيان لعدم وعده التوبة لصنفين:

1- الذين يريدون التوبة حين الاحتضار ومعاينة الآخرة، فهؤلاء - حتىلو كانوا مؤمنين - ليس هناك وعد بقبول توبتهم وعدم عقابهم، بل إن كانوا مؤمنين فأمرهم متروك إلى مشيئة اللّه تعالى إن شاء عذبهم بذنوبهم وإن شاء غفر لهم برحمته، قال تعالى: {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}(1)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(2)، ولا يخفى أنّ غفرانه تعالى وإن كان رجوعاً إليهم بلطفه ورحمته، إلاّ أنه لا يُسمى توبةً، بل مغفرة ورحمة.

2- الذين يموتون وهم كفار، فلا وعد بالتوبة عليهم، بل إخبار عن عقابهم وعدم الغفران لهم أبداً.

ولا يخفى أنه يجوز عقلاً ترك الوعيد، بل قد يكون العفو وعدم العقاب مستحسناً، لكن لا يجوز الكذب فإنه قبيح، وبالنسبة إلى الكفار فقد أخبر اللّه بخلودهم في نار جهنم فيقبح العفو عنهم؛ لأنه يستلزم كذب إخباره واللّه منزه عن ذلك سبحانه وتعالى.

وقوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} بيان لعدم الوعد بها، ولم يقل: {عَلَى اللَّهِ} كما في الآية السابقة، إما لوضوحه اعتماداً على ذكره في القسم الأول، أو لبيان عدم الاعتناء بهم وبشأنهم.

وقوله: {السَّئَِّاتِ} سواء كانت كفراً أم سائر المعاصي، قيل: إنما جمع

ص: 94


1- سورة التوبة، الآية: 106.
2- سورة النساء، الآية: 116.

السيئات هنا مع إفراد السوء في الآية السابقة؛ لأنّ المؤمن لا يدع السيئات تتجمع فإذا عمل سوءاً استغفر اللّه، عكس غير المؤمن فهو يستمر فيالمعاصي فتتراكم عليه السيئات.

وقوله: {حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} أي عاين أمر الآخرة، فإنه لا توبة مع المعاينة، فإن المحتضر في آخر لحظات حياته وقبل موته ينكشف الغطاء عنه فيرى الآخرة قبيل موته، فيرى الملائكة، كما أنه يرى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ويرى الجنة والنار وغير ذلك مما هو مذكور في الروايات.

وقوله: {حَضَرَ أَحَدَهُمُ} ولم يقل: (حضرهم) لعله لأجل أنّ الباقين من أصدقاء السوء لا يعتبرون بموت صاحبهم فيستمرون في غيّهم، أما هو فيندم ولات حين مندم.

وقوله: {الْمَوْتُ} فاعل، أي جاء الموت ليأخذه، فهو كاره له، لكن للموت سلطان، وهو مجاز بمعنى مشارفة الموت، وقيل: هو بحذف المضاف أي ملائكة الموت.

وقوله: {الَْٰٔنَ} تأكيد على عدم توبته من قبل، بل يريد التوبة في تلك اللحظة، كما في فرعون حيث أراد التوبة حين موته، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَٰءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * ءَالَْٰٔنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(1).

ولعلّ سبب عدم قبول توبته حينئذٍ هو أنها ليست توبة حقيقية، بحيث لا

ص: 95


1- سورة يونس، الآية: 90-91.

يعزم على عدم العود إلى معصيته، بل هي ندم المضطر الذي يريد التخلص من العقاب، ولذا عبّر عنه بقوله: {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ} أي توبته لقلقة لسانوليست توبة حقيقية، عكس المذكورين في الآية السابقة حيث عبّر عنهم بقوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ}، ولذا تراه يعود إلى ذنبه فوراً لو أعيد إلى الدنيا، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(1)، وقد يشاهد ذلك في بعض المجرمين أصحاب السوابق يُظهرون ندماً في المحكمة ووعداً بإصلاح أمرهم، لكنهم يعودون إلى جرائمهم فور إطلاق سراحهم.

وإنما لم يعدهم اللّه بالتوبة؛ لأن الكافر لا قابلية له للرحمة، وأما العاصي غير التائب فقد تكون المصلحة في عقابه لتصفو نفسه ويتخلص من درن الذنوب، لذا تركه اللّه إلى مشيئته إن شاء غفر له وإن شاء عذّبه.

وأما ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إذا بلغت النفس هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة وكانت للجاهل توبة»(2)، فلعل المراد بالجاهل هو القاصر المعذور في جهله، فهذا يمتحن في الآخرة فإن نجح في امتحانه رجع اللّه عليه بالرحمة والمغفرة، أو المراد بالتوبة المغفرة، أي قد لا يغفر اللّه للعالم وقد يغفر للجاهل، أو يراد بالعالم من عاين أمر الآخرة فعلم بها حق اليقين، وبالجاهل الذي لا زال لم يُعاين؛ لأنّ بلوغ

ص: 96


1- سورة الأنعام، الآية: 27-28.
2- الكافي 2: 440.

الروح إلى الحلق أعم من المعاينة فقد تبلغ ولم يعاين، أو تبلغ وقد عاين، فتأمل.وقوله: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} أي شقوتهم كانت بحيث لم يتوبوا حين الاحتضار مع معاينتهم ما عاينوا، أو لم يمهلهم ملك الموت حتى بمقدار إظهار توبة.

وقوله: {أَعْتَدْنَا} أي هيئّنا لهم ذلك العذاب، قالت المعتزلة: إنّ هذه الآية وأمثالها تدل على عدم العفو عن مرتكب الكبيرة من المؤمنين.

والجواب: أنّ التهيئة غير التنفيذ، فقد يُهيِّئ الإنسان شيئاً للعقاب ثم لا ينفذه، هذا أولاً.

وثانياً: أنّ هذه الآية مقيّدة بآيات أخرى دالة على العفو كقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(1)، فقد تكون آية عامة أو مطلقة لكنها مقيدة أو مخصصة بآية أخرى، سواء في مجال الأحكام أم في غيره.

وثالثاً: هذا وعيد، ولا يجب عقلاً الوفاء به، بل قد يحسن العفو، فليس يراد به الإخبار كي يكون خلافه كذباً قبيحاً.

ص: 97


1- سورة النساء، الآية: 48.

الآيات 19-21

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَئًْا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا 19 وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٖ مَّكَانَ زَوْجٖ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَىٰهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَئًْا أَتَأْخُذُونَهُۥ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا 20 وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُۥ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا 21}

19- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} خاطبهم مع أنّ الحكم عام؛ لأنهم المنتفعون به، والمراد الأزواج، {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ} فالأزواج كانوا يحسبونها من غير أداء حقوقها طمعاً في إرثها بعد موتها، ومناط الحكم يشمل الأقرباء حيث كانوا يمنعون اليتيمة من الزواج كذلك لطمع إرثها، أو يرثون زوجة الميت فيتزوجونها من غير مهر أو يزوّجونها ويقبضون المهر دونها، فكل ذلك منهي عنه {كَرْهًا} أي على كره منهن.

{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} أي لا تعلّقوهن فتمسكونهن ضرارا بهن {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} أي المهر أو بعضه، فتضطر للتخلص من حالة التعليق وعدم أداء الحقوق للتنازل عن ذلك، {إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ} واضحة وظاهرة، والفاحشة أعم من الزنا وقبيح القول والفعال، فحينئذٍ يجوز

ص: 98

أخذ المال بالخلع مع رضاها بذلك، {وَعَاشِرُوهُنَّ} صاحبوا الزوجات {بِالْمَعْرُوفِ} ما يعرفه الشرع والعقل، وذلك بالقول الحسن والفعل المستحسن، {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} فلا تستعجلوا في الطلاق، بل اصبروا عليهن {فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَئًْا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} من منافع حتى مع الكره، أو من انقلاب الكره إلى حبّ.

20- {وَ} إذا وصل الأمر إلى الطلاق ف {إِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٖ مَّكَانَ زَوْجٖ} بتطليق زوجة ونكاح أخرى {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَىٰهُنَّ} إحدى الزوجات - سواء السابقة أو اللاحقة - {قِنطَارًا} ملء جلد ثور ذهباً ومجوهرات، كناية عن الكثرة، {فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ} منه القنطار أي المهر {شَئًْا} ولو قليلاً، ثم يوبّخ اللّه ويستنكر عليهم {أَتَأْخُذُونَهُۥ بُهْتَٰنًا} أي أخذاً بهتاناً {وَإِثْمًا مُّبِينًا}.

21- {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُۥ} بالبهتان والإثم {وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ} أي لامس الزوج زوجته كناية عن الوقاع، والغرض بيان شدة قربكم فكيف تبتزون حقوقهن مع ذلك {وَأَخَذْنَ} أخذت الزوجات {مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا} وهو العقد الذي مقتضاه كون المهر حقاً لهن.

بحوث

الأول: نظم الآيات هو في استمرار بيان أحكام الزوجية، فبعد أن ذكر حكم الزوجة العاصية بالزنا مع فتح باب التوبة، يأتي ذكر عصيان الزوج بالنسبة إلى زوجته بعدم أداء حقها - في المهر والنفقة والعشرة ونحو ذلك - فالخطاب للأزواج، ولكن مناط الحكم أوسع فهو ظلم القريب للنساء، ولذلك عمّمت الروايات الآية لتشمل الأقرباء الذين يمنعون النساء

ص: 99

حقوقهن، فتضمنت هذه الآيات ثلاثة حالات:

1- تعليق الزوجة فلا ينفق عليها ولا يؤدي سائر حقوقها؛ لأنه راغب عنها لا يريدها، لكنه لا يطلقها طمعاً في إرثها، والذي منه إرث مهرها.والمناط يشمل عدم إنكاح اليتيمة كذلك للطمع في إرثها؛ لأنها لو تزوجت صار مالها بيد زوجها وكان إرثها له بالمقدار الذي عيّنه الشرع.

كما يشمل المناط النهي عن فعلة كانت في الجاهلية بحيث يرث الرجل زوجة قريبه الميت إن شاء تزوجها من غير مهر، وإن شاء زوّجها لمن يشاء ويقبض هو المهر فيستولي عليه.

وقد وردت الروايات بالموارد الثلاثة(1)، وحيث إنّ سياق الآيات هو خطاب الأزواج، فالجمع بين هذا السياق وبين الروايات يقتضى حمل المورد الأول على أنه تفسير للآية، وحمل الموردين الثاني والثالث على أنهما تنظير وبيان الاشتراك في الحكم لوحدة المناط وهو ظلم المرأة في أمر يتعلق بالزواج أو المنع عنه طمعاً في مالها.

2- عضل الزوجة، وذلك بالتضييق عليها لتضطر إلى الخلع، فتهب مهرها أو بعضه لتخليص نفسها من ظلم زوجها.

3- منع مهر الزوجة، وغالباً يكون ذلك حين استبدال زوجة بأخرى، بأن يطلق الأولى ويتزوج بالثانية، فإما يمنع الأولى عن مهرها بأن يعطيه للثانية، أو يمنع الثانية عن المهر باعتباره قد أعطى مهراً للأولى، وهذه بدل عنها فلا تستحق مهراً.

ص: 100


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 58-59.

وكل ذلك ظلم، فلذا نهى اللّه تعالى عنه في هذه الآيات أشد النهي.

إلزام الكفار بما يعتقدون

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهًا}.

خطاب للمؤمنين تشريفاً لهم؛ ولأنهم المنتفعون بهذه الأحكام، إذ الأحكام الفرعية، وإن وجبت على الكفار أيضاً - لأنهم مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول - إلاّ أن المطلوب أولاً وبالذات من الكفار الإيمان وبعده الالتزام بلوازمه، فما دام الإنسان على الكفر ألزمه الإسلام بما ألزم به نفسه في حدود الأحكام الشخصية، نعم الأحكام الاجتماعية العامة لا بدّ للكافر من الالتزام بها، مثلاً لو أراد الكافر شرب الخمر فلا يمنع عنه بالقهر ولا يجري عليه الحدّ، لكن لا يجوز له التظاهر بذلك علناً في بلاد المسلمين، وفي الحديث: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»(1)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم»(2).

والمراد بهم الأزواج بقرينة السياق، حيث إنّ الحكم الثاني {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} والثالث {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٖ...} موجّهان إلى الأزواج، فكذلك هذا الحكم.

وقوله: {تَرِثُواْ النِّسَاءَ} أي تأخذوا إرثهن بعد موتهن، والمراد النهي عن السبب، وهو إمساكهن بغير المعروف فيبقين زوجات إلى حين موتهن

ص: 101


1- وسائل الشيعة 26: 320.
2- بحار الأنوار 10: 118.

حيث ترثونهن، فقوله: {كَرْهًا} لبيان حالة الإمساك، حيث إنّ الزوجة تكره بقاءها معلّقة من غير حقوق لطمع الزوج في إرثها، أما لو كان زوجها يعاشرها بالمعروف فعادة ترغب في استمرار العيش معه وترضى بأن يكونوارثها لو ماتت قبله.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ...} الآية.

(العضل) هو المنع الشديد، فالمعنى التشديد عليهن وإضرارهن ومنعهن حقوقهن وذلك بغية إبطال مهورهن بالتنازل عنه للتخلّص عن جحيم هذه الحياة، فهذه الحالة في الطمع في مهرها، والحالة السابقة في الطمع في إرثها.

وقوله: {لِتَذْهَبُواْ} أي بغرض الذهاب بحقها في المهر، بأن يطلقها الرجل فيذهب بمالها بدلاً من أن تذهب هي به.

وقوله: {بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} أي المهر أو بعضه؛ لأن الرجل يعطي زوجته أموراً متعددة كالنفقة والهدايا ونحوها، وعادة لا يريد استرجاع هذه، وإنما العادة الضغط للتنازل عن المهر، فالمهر هو بعض ما آتاها.

أو يقال: إنّ العادة تقتضي إعطاء بعض المهر للزوجة حين الزواج وبقاء البعض الآخر في ذمة الزوج، فالغالب يريد الزوج تنازلها عمّا في ذمته وهو بعض المهر.

أو يقال: إنّ بيان الأدنى يعلم منه حكم الأعلى، فإذا لم يجز الضغط لتتنازل عن البعض، فالضغط لتنازلها عن الكل أولى بالمنع، فيكون الغرض بيان أهمية تسليمها حقوقها كاملة غير منقوصة، بحيث لا يجوز العضل

ص: 102

للذهاب حتى ببعضه.

وقوله: {إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ} استثناء من العضل ليذهب ببعض ما آتاها، فالمعنى لا يجوز العضل بغية تنازلها عن مهرها أو عن بعضه إلاّ لوارتكبت فاحشة واضحة، فحينئذٍ يجوز التضييق عليها لتخالعه على بعض ما آتاها.

و(الفاحشة) كل معصية متجاوزة للحد كالزنا، وقوله: {مُّبَيِّنَةٖ} إما بمعنى المجاهرة بتلك الفاحشة بحيث اشتهرت عنها، أو قيد توضيحي، أي العمل الذي هو واضح أنه فاحشة لا كل معصية، ولذا أدخل بعض الفقهاء النشور في الفاحشة المبينة، أي معصية متجاوزة للحدّ بحيث يعرف الناس أنها متجاوزة للحد، وعلى كل حال فالقدر المتيقن من الفاحشة هو الزنا، وكلّما شك في كونه فاحشة مبينة فلا يكون داخلاً في الاستثناء.

قال في الشرائع: إذا أتت بالفاحشة جاز عضلها لتفدي نفسها، وقيل: هو منسوخ ولم يثبت.

وقال في الجواهر: إنّ المراد جواز إكراه المرأة الكارهة لزوجها التي هي موضوع الخلع إذا جاءت بالفاحشة، وهي نشوزها وخروجها عن طاعته لكراهتها له، بالتضييق عليها من الهجر وقطع النفقة وغير ذلك مما هو جائز لها، حتى تفدي نفسها منه بما يشاء منها، وهو في الحقيقة ليس إكراهاً بما لا يجوز له، بل هو إكراه بحق(1).

وإن شئت التفصيل فراجع موسوعة الفقه للوالد (رحمه اللّه) (2).

ص: 103


1- جواهر الكلام 33: 62، (34: 109، ط ج).
2- الفقه 71: 53-61.

ولعل سبب ذلك هو أنّ المرأة بعملها الفاحشة المبينة لم تدع مجالاً للزوج للبقاء معها، فهو يضطر إلى طلاقها بسبب سوء فعلتها، فكان عليها أن تتحمل تبعات هذا الطلاق بأن تحرم من مهرها أو جزء منه، لئلا يجتمع علىالزوج ضررها عليه بفاحشتها ودفع مال لها!

والحاصل أنها بسوء صنيعها استحقت التضييق عليها لتتنازل عن الالتزامات المالية التي كانت في ذمة الزوج، وهذا أمر متعارف عند العقلاء بأن يحمّلوا التبعات المالية على من يكون سبباً في الخلل في العقود.

الرابع: قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ...} الآية.

بعد أن نهى اللّه تعالى عن إرثهن كرهاً وعضلهن، أمر بأن تكون المعاشرة مع الزوجات بالمعروف - وهو الذي يعرف الشرع والعقل حسنه - وقد بيّن اللّه تعالى المعاشرة بالمعروف بقوله: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(1)،

ويكون ذلك بأداء حقوقهن في النفقة والقَسم والمهر ونحو ذلك. وبعدم ضربهن وإهانتهن، وبمعاملتهن بالمودة والرحمة، وأما في تفاصيل الأمور فالمرجع هو العرف، وذلك قد يختلف من مكان لآخر، ومن زمان لآخر، وقد يلاحظ العرف شأن الزوج والزوجة أيضاً فلا بد من الالتزام بما هو المعروف عرفاً بشرط عدم تعارضه مع الشرع الأقدس.

وقوله: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} تحبيب للاستمرار في الحياة الزوجية حتى لو كره الزوج زوجته، وأنه من الممكن المعاشرة بالمعروف حتى مع الكره

ص: 104


1- سورة الروم، الآية: 21.

القلبي، فقد يكره الرجل زوجته لبعض الأمور، لكن لو عاشرها بالمعروف قد يزول الكره أو يزول سبب الكره؛ لأن الحب والبغض وإن لم يكونا اختياريين بنفسيهما، إلاّ أن أسبابهما قد تكون اختيارية، فمثلاً قد تكرهشخصاً، لكنه لو واصل الإحسان إليك قد ينقلب بغضك إياه إلى محبتك له، أو قد تحب شخصاً لكن لو أساء إليك فقد تكرهه.

وقوله: {فَعَسَىٰ} هنا جزاء محذوف، وإقامة السبب مقام المسبب، أي فإن كرهتموهن فاصبروا ولا تستعجلوا في الطلاق، وسبب ذلك أنه قد يجعل اللّه خيراً كثيراً فيها.

وقوله: {خَيْرًا كَثِيرًا} من المحبة والوئام أو الثواب الأخروي أو الذرية الصالحة أو دفع بلاء ونحو ذلك، وربّ مكروه هو أنفع للدين والدنيا، ورب محبوب هو أضرّ على الإنسان من كل شيء.

وقوله: {شَئًْا} مع قوله: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ}، ولم يقل: (أن تكرهوا إنساناً) لعلّه لبيان أنّ منشأ الكره ليس هو ذات الزوجة، بل الأمور المحيطة بها من قبح منظر أو نحو ذلك، فكراهة الإنسان لهذه الأمور سرت إلى الزوجة فكرهها، لكن قد تكون في الزوجة نقاط إيجابية أخرى بحيث تغطي على الأمور المكروهة فيها، فقد تكون قبيحة، لكنها ودود ولود مطيعة ونحو ذلك مما تكون سبباً لزوال ذلك البغض، أو يقال: إنّ نفس سبب الكره قد يكون خيراً، فالدميمة مثلاً لا يطمع فيها الأجانب فتكون أقرب إلى العفة!

الخامس: قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٖ مَّكَانَ زَوْجٖ...} الآية.

ص: 105

هذا بيان حكم من قطع أمره على طلاق زوجته ويريد التزوج بغيرها، فحيث إنّ ذلك يكلّفه مهرين - مهر المطلقة ومهر الزوجة الجديدة - فقد يريد التخلص من أحد المهرين، والغالب منع الأولى حقها ليعطيه للثانية،وأحياناً منع الثانية مهرها باعتبار أنها بديلة للأولى وقد أمهرها!! ولذا عبّر عن الزوجتين بقوله: {إِحْدَىٰهُنَّ} أي إحدى الزوجات سواء الأولى أم الثانية، فهي تستحق المهر من غير نقصان لحقها، فحيث إنّ الزوج أراد الانفصال فلا بد له من تحمل جميع تبعاته، ومنها إعطاء الزوجة الأولى المطلقة حقها كاملاً غير منقوص، وهو الذي يريد النكاح بالثانية فكذلك لا بد من إعطائها حقها غير منقوص، نعم لو أرادت الزوجة الانفصال أمكنه أن يخالعها كما قال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَئًْا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}(1).

وقوله: {قِنطَارًا} قد مرّ أن القنطار هو جلد الثور المليء بالذهب والمجوهرات، وهو كناية عن الكثرة، فلا تحديد للمهر، بل إذا اتفقا على شيء لزم الزوج ذلك، نعم الأفضل هو مهر السنة، وهو المهر الذي أمهر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) زوجاته به، وهو خمسمائة درهم(2)، بما يعادل 5/262 مثقال صيرفي من الفضة(3).

وقوله: {فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَئًْا} أي ولو قليلاً، وهو حث بعدم التماهل

ص: 106


1- سورة البقرة، الآية: 229.
2- راجع وسائل الشيعة 21: 244-249.
3- وهو يقارب الكيلو والربع تقريباً.

والتساهل في موضوع المهر؛ لأنه حق في الذمة، لكن الغالب تماهل الناس فيه أو في القليل منه مستغلّين ضعف الزوجة وحاجتها.

قوله: {بُهْتَٰنًا} أي أخذاً بهتاناً، من البهت، إذ يُبهت صاحبه فلا يتمكنمن الكلام أو المطالبة بالحق، وعادة يطلق على الظلم الشنيع؛ لأن المظلوم يكلّ عن حجته ويبهت لشناعة ذلك الظلم، وقد يكون من مصاديق البهتان هو اتّهام الزوجة بالفاحشة لتضطر إلى أن تفدي نفسها بمهرها.

وقوله: {وَإِثْمًا مُّبِينًا} ليس عطفاً توضيحياً على {بُهْتَٰنًا}، بل البهتان يرتبط بالزوجة حيث تكلُّ عن حجتها، والإثم المبين يرتبط بمخالفة تشريع اللّه تعالى بحرمة هذا التصرف، ولذا قيل البهتان هنا بمعنى الظلم، والإثم المبين بمعنى المعصية، فهو ظلم محرّم فتأمل.

السادس: قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُۥ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ...} الآية.

الظاهر أنّ المعنى أنه بالمباشرة ثبت كل المهر للزوجة فلا يحق لكم أخذ شيء من المهر، بل لا بد من إعطائها كلّه، نعم لو لم يلامسها فلا يحق لها إلا نصفه، كما قال تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}(1)، ومن ذلك يتضح أنّ الإفضاء هنا بمعنى الجماع، وأصل الإفضاء هو الوصول إلى الشيء، وقد مرّ أنه في الكلام الفصيح يتم مراعاة الأدب، فلا يعبر عن ذلك إلا بالكناية كالجماع والوطء والملامسة والمباشرة والإفضاء ونحو ذلك دون اللفظ الصريح

ص: 107


1- سورة البقرة، الآية: 237.

الذي ينزه عنه كلام الحكيم؛ لأنه يستقبح ذكره.

وقوله: {مِّيثَٰقًا غَلِيظًا} أي العقد، فلم يكن المباشرة من دون عقد كالزنا حيث لا حرمة له، أو وطء شبهة حيث يجب مهر المثل فقط، بل كانتالمباشرة ضمن عقد شرعي وقد كان المهر في ضمن العقد فهو ميثاق غليظ لا يمكن التملّص منه، فهو التزام واجب الوفاء به.

والحاصل: كان هناك عقد شرعي وقد ثبت جميع المهر بذمة الزوج بإفضائه إلى زوجته فلذا لا يحق له أكل شيء منه.

وقوله: {بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ} ولم يقل: (وقد أفضيتم إليهن) لعلّه لأنّ الإفضاء قد يكون بمبادرته وقد يكون بمبادرتها، فتأمل.

ص: 108

الآيات 22-24

اشارة

{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا 22 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَٰلَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَٰئِبُكُمُ الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّٰتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا 23 وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24}

ثم ذكر اللّه تعالى المحرمات من النساء عن المحللات منهن فقال:

22- {وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ} «ما» موصولة، و«من النساء» بيان لها، فقد كان أهل الجاهلية إذا مات الأب تزوج الابن بزوجته إذا لم تكن أمّه، {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} قبل الإسلام، فإن الإسلام يَجُبّ ما قبله، فذلك ذنب مغفور ولا يترتب أثر الذنب بعد الإسلام، {إِنَّهُۥ} إن

ص: 109

نكاح زوجة الأب {كَانَ فَٰحِشَةً} قبيحاً متجاوزاً الحدّ في القبح؛ لكون زوجة الأب من المحارم {وَمَقْتًا} أي ممقوتاً، والمقت: شدة البغض، كان يمقته ذوو المروءات، كما أن اللّه يمقته أيضاً {وَسَاءَ سَبِيلًا} طريق سيّئ، وهذا مبالغة في ذمّ سالك هذا الطريق.

23- ثم يبيّن اللّه تعالى المحرمات من النساء وهن أصناف ثلاثة: المحرمات بالنسب، وبالرضاع، وبالسبب، فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ} أي حُرّم نكاحهن، والأم هي كل أنثى ولدت الإنسان - بالمباشرة أو بالواسطة - فتدخل الجدات كلهن، {وَبَنَاتُكُمْ} وهي كل أنثى ولدها الإنسان مباشرة أو بالواسطة، فتدخل جميع الحفيدات، {وَأَخَوَٰتُكُمْ} وهي كل أنثى جمعها مع الإنسان صلب أو رحم مباشرة، فتشمل الأخوات من الأبوين أو من الأب أو من الأم، {وَعَمَّٰتُكُمْ} وهي أخت لذكر يرجع نسب الإنسان إليه بواسطة أم بدونها، {وَخَٰلَٰتُكُمْ} وهي أخت لأنثى يرجع نسب الإنسان إليها مباشرة أم بواسطة، {وَبَنَاتُ الْأَخِ} ويشمل حفيداته، {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} ويدخل فيها حفيداتها، هؤلاء كلهنّ من النسب.

{وَ} أما المحرمات من الرضاع: ف {أُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ} أي النساء اللاتي أرضعنكم - بالشروط التي حدّدها الشرع - فِصرن أمهاتكم بالرضاعة، {وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ} بأن صارت الرضاعة سبباً للأخوّة، سواء كانت بنت المرضعة نسباً أو رضاعاً، أم ارتضعت من أمّك النسبيّة بشروط مذكورة في الكتب الفقهية، وكذلك تحرم بدلالة السنة سائر

ص: 110

القرابات الرضاعية، فإنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب.

{وَ} أما المحرمات بالسبب: فقد حرمت عليكم {أُمَّهَٰتُ نِسَائِكُمْ} فتحرم بمجرد العقد سواء دخل بالزوجة أم لا، {وَرَبَٰئِبُكُمُ} بنات زوجاتكم من غيركم {الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم} في أحضانكم كناية عن كونها في رعايتكم وتربيتكم {مِّن نِّسَائِكُمُ الَّٰتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} باشرتموهن، وبدونه لاحرمة ولا محرمية، {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ} بأن طلقتموهن أو متن قبل المباشرة {فَلَا جُنَاحَ} لا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ} في نكاح بناتهن، {وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ} زوجاتهم سواء دخلوا بهن أم لا {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ} لا الأدعياء وهم الأبناء بالتبنّي، فقد ألغى الإسلام التبنّي، {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} في وقت واحد، أما إذا انفصل عن إحداهما بموت أو طلاق أو فسخ جاز له النكاح بالأخرى، ولا فرق في عدم جواز الجمع بين أنواع النكاح أو ملك اليمين، {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} في الجاهلية قبل الإسلام، فهو معفو عنه ولا يترتب عليه آثاره، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} يستر الذنوب التي فعلتموها قبل الإسلام، {رَّحِيمًا} بالمؤمنين لذا لا يؤاخذهم بما سلف.

24- {وَ} كذا حرمت عليكم {الْمُحْصَنَٰتُ مِنَ النِّسَاءِ} اللاتي لهن أزواج {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} كسبايا دار الكفر، أو الإماء المتزوجات، حيث يجوز لمولاهن فسخ نكاحهن، فهذه جملة النساء المحرّمات، {كِتَٰبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي كتب اللّه هذا الكتاب عليكم، وهذا تأكيد لقوله «حرمت عليكم...».

ص: 111

{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا} «ما» موصولة، والمراد النساء اللاتي هن {وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ} أي غير المذكورات، ولكن حليتهن خاصة بالزواج بهن فقال: {أَن تَبْتَغُواْ} وهذا بدل اشتمال عن «ما» الموصولة، أي أُحِلّ لكم سائر النساء طلبهن بإحصان، أي الزواج منهن {بِأَمْوَٰلِكُم مُّحْصِنِينَ} أي أعفّاء، والعفة بأن تكون الأموال مهراً لهن {غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ} لا أجرة للزنا، فحاصل المعنى: أن سائر النساء هنّ حلال بالزواج وملك اليمين لا بالزنا.ويتفرع على ذلك جواز نكاح المتعة؛ لأنه ابتغاء الإحصان بالأموال {فَمَا} «ما» موصولة يراد بها النساء اللاتي {اسْتَمْتَعْتُم} تزوجتموهن متعة {بِهِ} يرجع إلى «ما» {مِنْهُنَّ} بيان ل «ما»، والمعنى النساء اللاتي تزوجتموهن متعة {فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {فَرِيضَةً} حال أو مفعول مطلق، أي حال كون الأجور فريضة أو فرضها اللّه فريضة، {وَلَا جُنَاحَ} لا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ فِيمَا} في الأجر الذي {تَرَٰضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} بأن تزيدوا المهر باستئناف عقد جديد بعد انتهاء المدة، فإنه لا بد من رضا الطرفين في العقد الجديد {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} يعلم ما هو المصلحة والمفسدة لكم {حَكِيمًا} في تشريعه الحرام والحلال.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ...} الآية.

شروع في بيان النساء اللاتي يحرم نكاحهن سواء حرمة أبدية أم موقتة،

ص: 112

وبدأ بزوجات الآباء؛ لأنه كان شائعاً في الجاهلية، مع أنّ ذوي المروءات منهم كانوا يمقتونه وينزّهون أنفسهم عنه، فكان قبحه معلوماً لديهم، فلذا كانوا يسمونه نكاح المقت، لكن مع ذلك كان يرتكبه بعضهم، فلذا استوجب تقريعهم والنهي عنه بالخصوص بآية مستقلة، عكس سائر المحرمات، حيث لم يكونوا يرتكبون نكاح المحارم أبداً، أو إذا كانوا يرتكبونه المحرّم كالجمع بين الأختين فلم يكن قبحه معلوماً عندهم، بل لا قبح في ذات النكاح، وإنما التحريم في الجمع.

وقوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} استثناء منقطع، والغرض منه بيان العفو عنذلك الذنب، وأيضاً عدم ترتيب آثار الزنا عليه، فأولاد تلك الزيجة لا يحكم عليهم بأنهم أولاد زنا، بل كل آثار الزواج تترتب عليه، وليس الاستثناء متصلاً، إذ لا معنى لاستثناء الماضي عن النهي؛ لأنّ الفعل الماضي قد تحقق ولا يتغيّر عمّا وقع عليه فلا معنى لتعلّق تكليف به أو استثنائه عن تكليف.

وقوله: {إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً} أي قبيحاً متجاوزاً في القبح، ولعلّ الغرض بيان أنه لم يكن جائزاً ثم نُسخ الجواز، بل كان من الأول فاحشة، واللّه تعالى لا يجوّز الفاحشة أبداً. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}(1)، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}(2)، ومن هنا يتضح سبب الإتيان ب {كَانَ} فلم يقل «إنه فاحشة» بل قال: {إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً}،

ص: 113


1- سورة الأعراف، الآية: 28.
2- سورة الأعراف، الآية: 33.

وهذا عكس بعض المحرمات التي لم تكن قبيحة بذاتها، وإنما حرّمها اللّه تعالى لبعض المصالح الأخرى، فلذا يمكن إباحتها لفترة ثم نسخ الإباحة إلى الحرمة، ولذا لا معنى للنسخ في القبائح الذاتية، بل هي محرّمة في جميع الشرائع، كالزنا والخمر ونحو ذلك.

وقوله: {مَقْتًا} أي سبباً للمقت، وهو شدة البغض ومن مصاديقه: البُغض عن أمر قبيح يرتكبه الإنسان، والمقت إما من اللّه تعالى، أي أنّ نكاح نساء الآباء موجب لغضبه، أي عذابه الشديد، وأما من ذوي المروءات منهم، فكانوا يمقتون هذا النكاح وينزهون أنفسهم عنه، فالمقصود كيف كنتمترتكبونه مع أنّ قبحه كان واضحاً لديكم ويمقته ذوو المروءات.

وقوله: {وَسَاءَ سَبِيلًا} هذا مبالغة في ذمّهم، أي سلوككم لهذا الطريق سيّئ، فإنه طريق الأراذل من الناس.

الثاني: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ...} الآية.

لا يخفى أنّ التحريم قائم بالطرفين بالملازمة العرفية الواضحة، أي كما تحرم عليكم أمهاتكم فكذلك تحرمون أنتم عليهن، وهكذا في سائر الفقرات، وإنما وجّه الخطاب للرجال؛ لأنهم المبادرون إلى الخطبة والزواج عادة.

وقوله: {حُرِّمَتْ} من المعلوم أنّ التكليف يتعلّق بفعل المكلّف، فيقال له: افعل كذا أو لا تفعل كذا، وحُرّم عليك الزنا وجاز لك الزواج، فإذا تعلّق التحريم بالأعيان فذلك مجاز ويراد به تحريم الفعل المقصود من ذلك الشيء، كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ...}(1)، أي حُرّم أكلها،

ص: 114


1- سورة المائدة، الآية: 3.

فالمقصود منها الأكل عادة، لذلك لا تحريم لسائر المنافع المحلّلة إلاّ لو دلّ دليل خاص، فيجوز مثلاً أن يطعم كلابه الميتة، وهكذا هنا فقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ} أي الزواج بهن، وليس المراد هنا الزنا، فالزنا حرام مطلقاً ولا يختص بمرأة دون أخرى، بل سياق الآيات في الزواج، وقيل: المراد الوطء بقرينة الاستثناء في الآية التالية في قوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} حيث إنّ المراد وطؤهنّ بملك اليمين دون النكاح! وفيه نظر؛ لأنّ الاستثناء هناك منقطع كما سيأتي توضيحه.

حكمة محرميّة النساء الأقارب

ولا يخفى أنّ محرمية النساء الأقارب بالنسب هو تسهيل للعوائل حيثيعيش الآباء والأبناء معاً عادة ويترابطون برابطة النسب والقرابة، فكان لا بد من عدم وجود حاجز بينهم، مضافاً إلى أنّ ذلك مانع عن الزنا؛ لأنّ كون المرأة في معرض جواز النكاح قد يطمع الرجال في النظر إليها بشهوة مما قد يكون مفتاحاً للزنا، عكس من ليست في معرض النكاح أصلاً، بل تربي الإنسان من أول أمره على حرمتها ومحرميتها، هكذا قيل.

ثم لو تحقق النسب ثبتت الحرمة، حتى لو كان من زنا؛ لأنّ النسب ثابت عرفاً، فالمخلوقة من الزنا يقال لها في العرف بنت الزاني مثلاً، نعم الشرع نفى الإرث فقط دون سائر آثار الزنا، كالقاتل الذي هو ممنوع عن الإرث مع ثبوت سائر آثار النسب.

الثالث: قوله تعالى: {وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ}.

أي المرضعة التي صارت أماً لكم بالرضاعة، فلا يكفي الإرضاع مع عدم

ص: 115

اعتبارها أمّاً شرعاً، والآية ليست في مقام كيفية تحقق الأمومة الرضاعية، بل في مقام بيان حرمة الأم الرضاعية، كما لم تكن في بيان كيفية تحقق الأمومة والأخوة والعمومة والخؤولة النسبيّة، بل في مقام تحريمهن، فالنسب أمر تكويني يعرفه الناس وقد أقرّه الشرع، وأما الأمومة الرضاعية فهو أمر اعتباري؛ لذلك لا بد من مراجعة الشرع لنعلم تحديد هذه الأمومة وشروطها، وقد دلت السنة الصحيحة على أن الأمومة الرضاعية لا تتحقق إلاّ بشروط، منها: أن يكون الرضيع دون السنتين، وأن يكون اللبن للفحل، بأن تكون المرضعة أنجبت لرجل طفلاً فدّر لبنها، وأن يلتقم الرضيع الثدي إلى حدّ الشبع، وأن يرتضع يوماً وليلة كاملة أو خمس عشرة رضعة متواليةعلى المشهور، أو عشر رضعات على غير المشهور، من غير إطعامه أو سقائه بشيء مدّة هذه الرضعات، وشروط أخرى تطلب من الكتب الفقهية.

وعليه فلا معنى لتمسك بعض العامة بإطلاق الآية بتحقق التحريم ولو بمصة واحدة! وذلك لأنه لا إطلاق للآية من هذه الجهة، فهي ليست في مقام بيان كيفية تحقق الأمومة الرضاعية، كما وضحّناه.

وقوله: {وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ} أي إذا تحققت الأخوّة الرضاعية - وكيفية تحققها بينتها السنة - فيحرم الأخوان من الرضاعة سواء ارتضع الرضيع من أمها، أم ارتضعت هي من أمه، أو ارتضعا من مرضعة لهما، كل ذلك بالشروط المذكورة في الفقه.

ثم لا يخفى أنّ محرمات الرضاع لا تنحصر في الأم والأخت، بل تشمل البنت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، وذلك بالسنة القطعية والتي

ص: 116

أجمع عليها المسلمون، ففي الحديث عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»(1)، وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الرضاع لحمة كلحمة النسب»(2)، ولعل اكتفاء الآية بذكر الأم والأخت إما لأجل أنه لمّا سمّى المرضعة أماً والمراضعة أختاً كان في ذلك إشعارٌ بأنّ الرضاع كالنسب، كذا قيل، وإما لأجل أنّ ذلك يفهم من السياق، أو لغير ذلك.

حكمة الأخوّة الرضاعية

ثم إنّ الأخوّة الرضاعية كانت قبل الإسلام، فأقرها القرآن وفصّل الإسلام في أحكامها، ولعل سبب ذلك أنّ الناس قد يتبنون أطفالاً صغاراًمن الأيتام أو اللقطاء أو من العوائل التي لا يمكنها إعالتهم، وحيث إنّ أولئك يكبرون في بيوتهم ويتعامل الآباء والأمهات والأبناء معهم كتعاملهم بعضهم مع بعض، فكان لا بد من تشريع يكون له تأثير نفسي على العائلة بأن هذا الرضيع ليس عنصراً غريباً عنهم، بل بالرضاع صار كأحدهم فهذه أمه وهذا أبوه وهؤلاء إخوته وهكذا، هذا من جهة، ومن جهة ثانية يرفع ذلك التشريع القيود بين الأجانب؛ لأن الاندماج في العائلة لا يمكن مع وجوب تستر النساء منه أو تسترهنّ من الرجال، فلعل ذلك من أسباب هذا التشريع، واللّه العالم.

الرابع: قوله تعالى: {وَأُمَّهَٰتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَٰئِبُكُمُ الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم...} الآية.

بيان للصنف الثالث من المحرمات، وهن المحرمات بالمصاهرة، أي كان زواج الرجل بامرأة سبباً لتحريم امرأة أخرى عليه أو تحريم تلك المرأة

ص: 117


1- الكافي 5: 442.
2- تفسير الصافي 1: 435.

على رجل آخر، وهن: أم الزوجة، وبنت الزوجة المدخول بها، وزوجة الابن، والأختان بالجمع بينها.

قوله: {وَأُمَّهَٰتُ نِسَائِكُمْ} سواء دخل الرجل بزوجته أم لم يدخل بها، فبمجرد العقد تحرم أمها حرمة أبدية؛ لأنّ التحريم في الآية مطلق ولم يقيّده اللّه بالدخول، عكس بنت الزوجة حيث قُيّدت اللّه الحرمة بالدخول.

قوله: {وَرَبَٰئِبُكُمُ الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم...} تبين الآية أن بنت الزوجة إنما تحرم إذا دخل بها، فإذا ماتت قبل الدخول أو طلقها أو فسخ النكاح فلا بأس بالزوج من بنتها.وقيل: لعل الفرق بين أم الزوجة، حيث تحرم بمجرد العقد، وبنت الزوجة حيث تحرم بالدخول لا بالعقد فقط، هو الاحتياج إلى مخالطة أم الزوجة والكلام معها في شؤون الزواج بمجرد العقد دون بنت الزوجة، حيث لا يخالطها إلا بعد الزواج! وقيل: لأجل أن لا تطمع أم الزوجة في زوج بنتها عكس الربائب، حيث إنهن صغار عادة، وقيل غير ذلك، والأولى ردّ علمه إلى الشرع، فلا نعلم نحن من ملاكات الأحكام التفصيلية إلاّ القليل.

وقوله: {الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم} قيد غالبي؛ لأنه الغالب أنّ المرأة التي تتزوج من زوج جديد لها أولاد صغار من زوجها السابق، وإلاّ فلا فرق في الحكم بتحريم بنت الزوجة المدخول بها بين كون البنت كبيرة أم صغيرة، من زوج سابق أو من زوج لاحق، كما لو طلقها فتزوجت وأنجبت بنتاً، فإنها تحرم على الزوج السابق لأمها.

ص: 118

ولعلّ سبب هذا التقييد حث الرجال على العطف على الربائب؛ لأنهن فقدن حنان الأب فلا بد من تعويضهن بحنان رجل آخر هو زوج أمهاتهن، فليتعامل معهن كما يتعامل مع بناته، وخاصة إذا كن أيتاماً كما هو الغالب.

وفي الصافي: الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن - وهن في أحضانكم أو بصدده - قوي الشبه بينها وبين أولادكم، وصارت أحقاء بأن تجروها مجراهم(1).

وقد يقال: إنّ المشرّع حينما يريد تشريع شيء قد يقيّد الحكم بالسبب،بمعنى أنه ما دام السبب موجوداً فالحكم موجود، فإذا زال السبب زال الحكم، وهذا ما يعبر عنه في الفقه بالعِلة، وقد تكون المصلحة سبباً لتشريع الحكم من غير تقييد للحكم بذلك السبب، بل يكون التشريع قانوناً عاماً، سواء كانت تلك المصلحة موجودة أم لا، وهذا ما يعبر عنه في الفقه بحِكمة الحكم، وذلك درءاً للّهرج والمرج أو لتسهيل الأمر على الناس، وخاصة في المصالح الخفيّة، مثلاً تشريع إشارات المرور إنما هو لتنظيم المرور ولانسيابية حركة السيارات، ومنعاً لحوادث السير، لكن القانون عام حتى لو لم تكن هذه المصلحة، كما لو وصل إلى الإشارة الحمراء في منتصف الليل والطرق فارغة، فلا بد له من انتظار الإشارة الخضراء.

ولعل قوله: {الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم} من هذا القبيل أي بيان سبب تشريع الحكم من غير تقييد الحكم به، وحسب الاصطلاح الأصولي: عِلة الجعل لا عِلة المجعول.

ص: 119


1- تفسير الصافي 2: 214.

ولا يخفى أنّ الأصل في القيد هو كونه احترازياً، بمعنى أن يكون الحكم دائراً مداره، إلاّ إذا قامت القرينة على كون القيد توضيحياً أو غالبياً، والقرينة هنا هو إجماع المسلمين وتواتر الروايات، مضافاً إلى في قوله: {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} حيث خصّ الجواز بعدم الدخول، ولم يذكر الجواز مع عدم كونها في حجوركم.

وقوله: {دَخَلْتُم بِهِنَّ} أي دخل معها إلى المخدع، كما يقال: بنى عليها، أي نصب قبة كالحجلة، كناية عن الملامسة.

وقوله: {وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ} أي زوجاتهم، من الحلول؛ لأنّ الزوجة تحلّفي بيت زوجها، أو من الحلال لأنها تحلّ له.

وقوله: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ} إما لإخراج الأبناء بالتبنّي، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}(1) وقال: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَٰجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا}(2)، وقيل: هو قيد غالبي؛ لأنّ الأدعياء ليسوا أبناء أصلاً، فكل من كان ابنا شرعاً فحليلته محرّمة، سواء كان ابناً من النسب أم من الرضاع.

والأول أقرب؛ لأنّ العرب كانوا يعتبرون الأدعياء أبناء، فكان لا بد من التقييد لبيان عدم حرمة حلائلهم، وأما الابن الرضاعي فحرمة حليلته دلت عليها السنة القطعية.

وقوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} أي وحرم عليكم الجمع بينهما، فهما

ص: 120


1- سورة الأحزاب، الآية: 4.
2- سورة الأحزاب، الآية: 37.

لستا محرمتين بالذات، وإنما المحرّم الجمع، فلذا يمكن الزواج بهما بالتناوب، كأن يتزوج إحداهما ثم بعد موتها أو طلاقها يتزوج الأخرى.

ولعل سبب التحريم هو وجود الغيرة والحسد والبغض بين الضّرات، فلم يكن من الصالح تشريع حكم يوجب قطع الأرحام، فلذا حرّم اللّه الجمع بينهما لئلا تُقطع الأرحام.

وقوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} في زمان الجاهلية، فرفع اللّه العقوبة عنه، وكذا الآثار الوضعية، كما مرّ، ولو أسلم رجل عن أختين أو خمس نسوة فدلت الروايات على تخييره بأن يختار إحدى الأختين وينفسخ نكاح الأخرى،وكذا يختار أربع وينفسخ نكاح ما زاد عليهن.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} علة العفو عمّا سلف وفي قوله: {رَّحِيمًا} إشعار بأن العفو خاص بالمؤمنين؛ لأنّ (الرحيم) صفة خاصة برحمته بالمؤمنين، عكس (الرحمن) التي هي صفة عامة للمؤمنين وغيرهم الدالة على رحمته الواسعة، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}(1)، وقال عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(2).

الخامس: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}.

(الإحصان) من الحصن بمعنى المنع، فالمحصنات بمعنى العفيفات، ويستعمل تارة في المتزوجة، حيث أحصنت نفسها ومنعتها عن الحرام

ص: 121


1- سورة الأحزاب، الآية: 43.
2- سورة التوبة، الآية: 128.

بسبب زواجها، وتارة في الخلية عن الزوج العفيفة، كقوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا}(1).

والمراد في هذه الآية هو الأول، أي وحرمت عليكم المرأة المتزوجة ما دامت في حبالة زوجها.

وقوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} استثناء منقطع، أي المرأة المتزوجة لا يجوز نكاحها إلاّ لو كانت أمة، فبفسخ نكاحها من زوجها يجوز لمولاها مباشرتها بملك اليمين، وهي حينئذٍ خلية عن الزوج لانفساخ نكاحها، وهذاالانفساخ تارة يكون بالسبي، فإذا سبيت الكافرة انفسخ زواجها من زوجها وحلّ لمالكها مباشرتها بعد استبرائها، وتارة بالانتقال من الملك، كأن يبيعها مولاها، فيجوز للمشتري فسخ نكاحها من زوجها، وتارة بإرادة المولى كما لو زوّج أمته من عبده فيحق له فسخ نكاحها وبعد استبرائها تحلّ له مباشرتها.

وقوله: {كِتَٰبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بنصب كتاب، إمّا على كونه مفعولاً مطلقاً، أي كتب اللّه كتاباً فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الفاعل، وإمّا على الحالية، أي حرّمهن عليكم حال كون التحريم كتاب اللّه عليكم، وهذا تأكيد للحكم؛ لأنّ المكتوب عند الناس آكد من غيره، وقيل: هو كناية عن عدم النسخ في هذه الأحكام.

السادس: قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُم...} الآية.

ص: 122


1- سورة الأنبياء، الآية: 91.

بعد ذكر المحرمات من النساء يأتي بيان حكم عام، هو حلية سائر النساء ولكن بالعفة لا بالزنا.

وقوله: {أُحِلَّ} يقابل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} في الآية السابقة، وقوله: {مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ} يقابل {أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ...} ف{مَّا} موصولة بمعنى النساء اللاتي سوى المذكورات و{وَرَاءَ} بمعنى سوى، وأصل الكلمة بمعنى الخلف فكأن هذه بذكرها صارت أمامك وبقيت خلفها غيرها و{ذَٰلِكُمْ} اسم اشارة إلى المحرمات المذكورات مع ضمير الخطاب للرجال.

ولا يخفى أنّ هذا الحكم عام، ويمكن تخصيصه بأدلة أخرى من القرآنأو السنة، كالمطلقة ثلاث مرات، حيث لا تحلّ قبل أن تنكح زوجاً غيره، والمطلقة تسعاً حيث تحرم أبداً، والكافرة من غير أهل الكتاب، وأم وأخت المفعول على الفاعل، والمنكوحة في العدة الرجعية، وغير ذلك مما هو مذكور في الكتب الفقهية مع بيان تفاصيل أحكامها وشروطها، فهذه الموارد تخصيص للآية، والغالب في أحكام القرآن هو ضرب القاعدة الكلية، وإيكال التخصيص أو التقييد إلى آيات أو أدلة أخرى، لبيان الحالة الغالبة، ولتكون المرجع حين الشك في بعض المصاديق.

وقوله: {أَن تَبْتَغُواْ...} أي تطلبوا نكاحهن، وهو بدل اشتمال من {مَّا وَرَاءَ}، كما يقال: سلبت زيداً ثوبه، فالمعنى أحلت النساء نكاحهن.

وقوله: {بِأَمْوَٰلِكُم} أي تجعلوا الأموال مهراً لهن في النكاح.

وقوله: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ} قيد احترازي، أي حلية سائر النساء

ص: 123

وطلبهن بالأموال إنما هو بالزواج لا بالسفاح.

و{الْمُحْصَنَٰتُ} في أول الآية كانت بمعنى غير المتزوجات و{مُّحْصِنِينَ} هنا بمعنى متزوجين؛ لأنّ الإحصان كما مرّ هو الحفظ عن الحرام والعفة، فغير المتزوجة العفيفة تحفظ نفسها عن الزنا، والمتزوج العفيف يحفظ نفسه بسبب زوجته عن السفاح.

ثم اعلم أنّ الآية بينت صنفين من الزواج الحلال، الدائم والمنقطع، أما الدائم فقوله تعالى: {مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ...}، وأما المنقطع - وهو نكاح المتعة - فقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم...}.

فحاصل المعنى: أحل لكم النساء بالدوام، فالنساء بالمتعة، والفاء للتنويعكما في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَٰتٖ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}(1)، فإن قوله: {فَمَن كَانَ} بيان للنوع الآخر، فالمعنى الصيام في شهر رمضان لمن حضر ولم يكن مريضاً، والصيام في غير شهر رمضان لمن كان مسافراً أو مريضاً، وإنما استعمل الفاء التي هي للترتيب؛ لأجل بيان أنّ الأصل هو الأول، وأنّ الثاني هو الحكم التابع والفرع، وهكذا في هذه الآية، فلما أراد اللّه تعالى بيان النوعين الجائزين من النكاح فقال: {وَأُحِلَّ لَكُم}، ثم ذكر النوعين فقدّم الأصل، وهو النكاح الدائم فقال: {مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ}، ثم ذكر النوع الثاني وهو الفرع فقال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ...}.

ص: 124


1- سورة البقرة، الآية: 183-184.

السابع: قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ...} الآية.

(الفاء) للتنويع كما ذكرنا، و(ما) موصولة بمعنى النساء و{بِهِ} عائد إلى الموصول، و{مِنْهُنَّ} بيان للموصول، والمعنى: ثم أحل لكم النساء اللاتي استمتعتم بهن من النساء المحلّلات.

وما ذكرناه متطابق مع تفسير أهل البيت (عليهم السلام) لهذه الآية(1)،

وكذا تفسير بعض الصحابة والتابعين على ما روته العامة، كابن عباس والسدّي وأبي سعيد(2)، بل قرأ أُبَيُّ بن كعب وابن مسعود وعبداللّه بن عباس هذه الآيةهكذا (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن)(3).

وعليه فلا يصح تفسير {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم} بأنّ الفاء لتفريع الحكم لا للتنويع، وبأنّ (ما) مصدرية زمانية، وبأن {اسْتَمْتَعْتُم} بمعنى الالتذاذ بالمباشرة!! لأنّ ذلك لا يتلاءم مع تفسير أهل البيت والأصحاب، كما لا يتلاءم مع تتمة الآية، حيث قال {فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}؛ لأنّ المهر لا يرتبط بالاستمتاع، بل يثبت بمجرد العقد، نعم يحق للزوج استرجاع نصفه لو طلقها قبل الدخول، ولذا يحق للمرأة أن لا تمكّن من نفسها إلاّ بعد قبضه كاملاً.

وقوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ...} تتمة لبيان حكم زواج المتعة، والمعنى أنه لو انتهت المدة وأردتم تجديد عقد المتعة فلا بأس بذلك، فإنه لا تحتاج

ص: 125


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 73-76.
2- راجع مجمع البيان 3: 85.
3- راجع مجمع البيان 3: 85؛ وتفسير الطبري والقرطبي والثعلبي في تفسير الآية ومستدرك الحاكم النيشابوري.

المرأة إلى عدة من زوجها، وإنما تعتد لو أرادت الزواج من آخر، وعليه فلو تراضى الزوجان في تجديد العقد المنقطع إلى أجل آخر وتراضيا بمهر جديد فلا مانع من ذلك، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما، يقول: استحللتك بأجل آخر، برضى منها، ولا تحلّ لغيرك حتى تنقضي عدتها، وعدتها حيضتان»(1).

وقيل: المعنى أن تهب المرأة مهرها أو بعضه، أو أن يزيد الرجل في المهر، فإذا كان بتراضٍ منهما فلا بأس بذلك، فمعنى كونه فريضة أنه واجب وحق ثابت على الزوج، لكن يمكن إسقاطه برضاهما، فهو دَينفرض على المديون تسديده، لكن يمكن للدائن إبراؤه، أو يتفقان على الزيادة، وعليه فما في الرواية بيان لمصداق من مصاديق المعنى العام، فتأمل.

عدم نسخ نكاح المتعة

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} حيث أحلّ النوعين من النكاح بالنساء المحلّلات، وحرّم النساء المذكورات، فهو عالم بما يصلحكم عمّا يفسدكم، كما أنه شرّع ذلك بحكمة، فقد وضع الشيء في موضعه.

ثم اعلم أنّ حكم جواز نكاح المتعة لم ينسخ، ولكنّ عمر حرّمه بقوله - حسب ما روى الفريقان - : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج!!(2) وحيث أرادوا تصحيح قولته اضطروا إلى القول بنسخ هذه الآية بآيات أخرى لا دلالة لها على النسخ أصلاً، وكذا نسبوا المنع إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لكن اضطربت

ص: 126


1- تفسير العياشي 1: 233.
2- راجع مسند أحمد 3: 325؛ السنن الكبرى 7: 206؛ وراجع مستدرك الوسائل 14: 483 وغيرها من المصادر.

رواياتهم في كيفية التحريم وزمانه، إلى ثمانية أزمنة.

فتلخص أنّ حاصل الآيتين المباركتين هما لبيان النساء المحرمات، وهن على أصناف: المحرمات بالنسب وبالرضاع وبالمصاهرة وبالحرمة المؤقتة لزواج الرجل بامرأة أخرى أو زواجها برجل آخر، ثم بيان النوعين المحلَّلين من النكاح: الدائم والموقت، مع ذكر ملك اليمين استطراداً وفي استثناء منقطع.

ص: 127

الآية 25

{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَٰتِ الْمُؤْمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ الْمُؤْمِنَٰتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُم بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٖ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَٰتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 25}

25- {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ} من المسلمين {طَوْلًا} أي من جهة الغنى فلم يجد مالاً يستطيع به {أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَٰتِ} أي العفيفات الحرائر {الْمُؤْمِنَٰتِ فَمِن} أي فليتزوج من {مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم} مما لم تكن ملكه، لكنها ملك سائر المسلمين {مِّن فَتَيَٰتِكُمُ} أي الإماء {الْمُؤْمِنَٰتِ}، فلا يجوز الزواج بالأمة المشركة، {وَ} لكن عليكم بالظاهر ف{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُم} فلا عليكم بقلبها وأنّ إسلامها عن قناعة أم نفاق، {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ} فالمسلمون كلهم كالجسد الواحد، فكونها أمة لا يضرّها ولا يضركم، واختلاف حكم الحرة والأمة، وكذا الحر والعبد إنما هو لمصالح خاصة، ولا تمنع تلك المصالح عن التناكح بينهم، {فَانكِحُوهُنَّ} أي الفتيات الإماء {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} مواليهن، {وَءَاتُوهُنَّ

ص: 128

أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن فلا فرق بين الأمة والحرة في ثبوت المهر {بِالْمَعْرُوفِ} ما عرف حسنه العقل والشرع،كأن يكون التسليم بلا مطل ولا إضرار مثلاً، فانكحوهن حال كونهن {مُحْصَنَٰتٍ} أي عفيفات {غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٖ} متجاهرات بالزنا {وَلَا} متسترات بالزنا بأن يكنّ {مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٖ} أصدقاء في السر، {فَإِذَا أُحْصِنَّ} بالزواج {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٖ} أي الزنا {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَٰتِ} الحرائر غير المتزوجات {مِنَ الْعَذَابِ} أي الحدّ، فعقوبتها خمسون جلدة، {ذَٰلِكَ} أي تسويغ الزواج بالإماء {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} أي المشقة {مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ} حين العنت فلا تتزوجوا بالأمة {خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنّ الأمة طوع مولاها، وقد يبيعها فيفسخ المشتري العقد وغير ذلك، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فمن اقترف ذنباً - يرتبط بهذه المسائل وغيرها - فلا ييأس، بل باب التوبة مفتوح.

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه تعالى تشريعه للزواج الدائم والمتعة وتحليله لملك اليمين، يذكر حكم من لم يتمكن من الزواج بالحرائر؛ لغلاء مهورهن أو كثرة نفقتهن، وهذا يلازم عدم قدرته على شراء الإماء أيضاً، فإذا كان في مشقة من عدم الزواج فيجوز له أن يتزوج بالإماء العفيفات المؤمنات، بشروط هي: عدم الطول، وخوف العنت، وإيمانها، وعفتها، وإذن مولاها، وإيتاؤها مهرها، وهذه الشروط على أنواع، فبعضها شرط صحة العقد، كإذن المولى، فإن لم يأذن كان العقد باطلاً، وبعضها شروط

ص: 129

واجبة لكن لا يتوقف عليها صحة العقد كإيتاء المهر، وبعضها شروط تنزيهية كعفّتها، والتفصيل يطلب من كتب الفقه.ولكن إن تمكن من الصبر فهو الأفضل، ثم يبيّن اللّه تعالى عقوبتها إن زنت، وهو نصف عقوبة الحرة، وإنما كان كذلك تخفيفاً من اللّه تعالى حيث لم يرد جمع الرقّية وعقوبة الحرائر عليهن.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا...} الآية.

(الطَول) في الأصل بمعنى الفضل والزيادة، والمراد هنا الغنى والثروة، ليجعلها مهراً للزواج من الحرائر، وقوله: {طَوْلًا} تمييز، فالمعنى عدم استطاعته من جهة الثروة، وهذا قيد غالبي؛ لأن عدم القدرة على الزواج الدائم - عادة - هو بسبب عدم امتلاك المال، لكن قد يكون هناك أسباب أخرى نادراً، كما لو كان وضيع النسب لا تتزوجه الحرائر، أو كان دميماً جداً لا يرغبن فيه أصلاً، فهؤلاء أيضاً حكمهم حكم من لا مال له، ويمكن تعميم (الطول) إلى هذه الحالات أيضاً.

وقوله: {أَن يَنكِحَ} مفعول {لَّمْ يَسْتَطِعْ} أي لا يقدر نكاح الحرائر.

وقوله: {الْمُحْصَنَٰتِ} أي العفيفات، ولا يخفى أنّ (المحصنة) اصطلاح في الحرة فقط؛ لأنها هي التي تتمكن من حفظ نفسها من الفحشاء، حيث إنّ أمرها بيدها، وأما الأمة فأمرها بيد مولاها ولا تتمكن من منعه لو أراد إكراهها على الفحشاء، وقد شاع ذلك حتى نهى اللّه تعالى عنه بقوله: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}(1)، ولذا قابلها بالأمة فقال:

ص: 130


1- سورة النور، الآية: 33.

{مِّن فَتَيَٰتِكُمُ الْمُؤْمِنَٰتِ}.

ثم إنّ المحصنة وإن كان أحد استعماليها في المرأة المتزوجة كما مرّ،إلاّ أنّ هذا المعنى غير مراد هنا؛ لأنّ المحصنة ذات الزوج لا يصح الزواج بها فالعقد عليها باطل، فالمراد بالمحصنة هنا الحرة غير المتزوجة.

وقوله: {الْمُؤْمِنَٰتِ} إما يراد به الإيمان في العقيدة بأن تكون مسلمة، ففي ذلك إشعار بأن نكاح الأمة المؤمنة أفضل من نكاح الحرة الكافرة، فإذا لم يتمكن من الحرة المؤمنة وتمكن من الحرة الكافرة أو الأمة المؤمنة فعليه اختيار الثانية، بل لا يجوز نكاح الحرة المشركة أبداً قال تعالى: {وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٖ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}(1)، وأما نكاح نساء أهل الكتاب فقد أباحه في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ}(2)، ثم اختلف في نسخ هذه الآية، فقيل: بأنها نسخت، وقيل: بأنها خصصت بالنكاح المنقطع، فلا يجوز نكاحهن دواماً ويجوز متعة، والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية.

أو يراد من {الْمُؤْمِنَٰتِ} الإيمان العملي بالتزامها بأحكام الشرع، وعدم الزنا - سراً أو جهراً - والأول أنسب بسياق الآية؛ لأنّ شرط عدم الزنا مذكور بعد ذلك في قوله: {غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٖ...}.

وقوله: {فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم} أي ما ملكتم، وإنما نسب الملك إلى اليد اليمنى؛ لأنّ الشراء والقبض يكون بها عادة، والمراد أيمان غيركم من

ص: 131


1- سورة البقرة، الآية: 221.
2- سورة المائدة، الآية: 5.

المؤمنين بقرينة قوله بعد ذلك: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}، ولأنه لا يصح زواج الرجل من أمة نفسه، بل هي حلال له بملكه إياها، وقد ذكروا فيالفقه أنّ أسباب الحلية لا تجتمع ولا تتبعّض، فلذا لو تزوج أمة ثم اشتراها انفسخ نكاحه وحلّت له بملك اليمين، وإذا كانت ملك اثنين بالشراكة فلا تحل لأيّ منهم أصلاً حتى تخرج من ملكهما أو ملك أحدهما، فلا يصح نكاح أحدهما إياها؛ لأنّ ذلك سبب تبعّض الحلية بأن يكون نصفها حلال بملك اليمين والنصف الآخر بالنكاح، وهذا ما لم يشرّعه الدين الحنيف.

وقيل: إنما نسب ملك اليمين إلى المؤمنين مع أن المالك واحد منهم عادة؛ لأن الدين جامعهم كلّهم فكأنهم شخص واحد، وعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد»(1).

وقوله: {مِّن فَتَيَٰتِكُمُ} جمع فتاة ويراد بها الإماء، وأصل الكلمة بمعنى المرأة الشابة، وإنما استعملها في الأمة احتراماً وجبراً لخاطرها حتى لا يتم تحقيرها أمام الناس، فقد شرّع اللّه تعالى ملك اليمين لمصالح، لكن مهما أمكن لا بد من حفظ كرامة الإنسان المؤمن حتى لو كان عبداً أو أمة، فالأصل هو الكرامة الإنسانية والكرامة الإسلامية، إلاّ لو أزال هو كرامته فاستحق العقوبة أو الاستخفاف، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ}(2)، وقال: {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ}(3)، وقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ * ثُمَّ رَدَدْنَٰهُ أَسْفَلَ سَٰفِلِينَ * إِلَّا

ص: 132


1- الكافي 2: 166.
2- سورة الإسراء، الآية: 70.
3- سورة العصر، الآية: 2-3.

الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ...}(1).الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُم بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ}.

هذا كالعلة لتشريع الزواج بالإماء... :

1- {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُم} بيان أنّ المناط هو الإيمان، وحيث إنّ هذه الأمة مؤمنة فلا بأس بالزواج بها، ولا اعتبار بالتفاضل الاجتماعي بالنسب والحسب والثروة ونحو ذلك من الأمور الاعتبارية، بل المهم الإيمان، فالمؤمن كفو المؤمنة، والمؤمنة كفو المؤمن، بل رُبَّ أمة خير من حرّة؛ لكون إيمانها أشد من إيمان تلك، وقيل: هو نهي عن التنقيب عن حقيقة إيمانهن، بل الاكتفاء بظاهر الإيمان؛ لأنّ رسوخ الإيمان في القلب وعدمه لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى.

2- {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ} إنّ نسب الجميع يرجع إلى آدم (عليه السلام) ، وفي الحديث: «الناس من آدم وآدم من تراب»(2).

والحاصل أنه لا فرق بين أمة وحرة، وبين عبد وحرّ من حيث النسب، كما أنهم مؤمنون والتفاضل في الإيمان لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى؛ لأنه المطلّع على القلوب، وهذان الأمران بيّنهما اللّه تعالى في آية أخرى، حيث قال: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(3).

وقيل: هو نهي عن عادة جاهلية بالطعن بابن الأمة.

ص: 133


1- سورة التين، الآية: 4-6.
2- الآثار الباقية: 149.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.

الرابع: قوله تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ...}الآية.

بيان بعض شروط وآداب زواج الإماء.

فلا بد من استئذان مالكها، إذ لا يجوز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه، ولذا العبد لا يتمكن من التصرف في نفسه كما قال تعالى: {عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٖ}(1)، وكل تصرف من غير إذن المالك باطل لا يترتب عليه أثر شرعي، فلو تزوج الأمة من غير إذن مولاها وقع باطلاً، نعم هناك بحث آخر وهو أنه يكفي الإذن اللاحق، وهذا ما يبحث في الفقه في مسألة العقد الفضولي.

وقوله: {أَهْلِهِنَّ} أي مولاهن، قيل: عبّر عن مولاها بذلك للدلالة على أنها واحدة من أهله فهذا تأكيد لقوله: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ} فلا بد للمولى أن يتعامل معها بلطف وإنسانية كما يتعامل مع سائر أهله.

وقوله: {وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} تأكيد لثبوت المهر في زواج الإماء، وأنه لا بد أن لا يستخف الزوج بها كونها أمة فيمنع المهر، بل هو حق لا بد من تسديده.

ثم لا يخفى أن كل ما للعبد والأمة إنما هو لمولاهما، وفي الحديث: «لأنّ مال المملوك لمولاه»(2) فهذا المهر أيضاً ملك للمولى، ولعلّ التعبير بقوله: {ءَاتُوهُنَّ} نوع تكريم لهن وإرشاد للمولى بأن يبيح ذلك المهر لهن،

ص: 134


1- سورة النحل، الآية: 75.
2- مستدرك الوسائل 15: 394.

صحيح أنه ملكه لكن الأفضل أن لا يأخذه لنفسه، بل يعطيه لها أويصرفه عليها جبراً لخاطرها.

وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} بما لا ينكره عقل ولا شرع، فلا يجوز التسويف أو النقصان أو الإضرار.

وقوله: {مُحْصَنَٰتٍ} أي عفيفات، وهو أحد المعنيين للمحصنات، وهو المناسب هنا، أي فانكحوهن حال كونهن عفيفات، أما لو لم تكن عفيفة فلا تتزوجوها فلا خير فيها، وهذا شرط إرشادي، فالزواج بالزانية أو إبقاؤها في حبالة الزوجية مع إصرارها عليه وعدم توبتها مكروه، بل ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جوازه في المشهورة بالزنا.

ولا فرق في اشتراط عدم الزنا بين كونه علناً أو سراً، ولذا وضّح قوله: {مُحْصَنَٰتٍ} بقوله: {غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٖ} والسفاح هو الزنا، وأريد به هنا الزنا علناً بقرينة المقابلة وبقوله: {وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٖ} والخدن هو الصديق، وذلك غالباً يكون سراً.

أو المقصود أنه لا فرق في الزنا بين كونه مع صديق أو مع غيره، رداً لتوهم أنّ اتخاذ الصديق ليس من الزنا، وأن الصداقة تجعل الصديق كالزوج، وهذا ما شاع في الجاهلية، وهو شائع في بعض الأمم، حيث يفرّقون بين الزنا والصداقة، وليس كذلك، بل كل ما لم يكن بزواج شرعي أو ملك يمين فهو زنا، سواء كان بصداقة أم حالة عابرة، وسواء كان مع واحد أم أكثر.

والحاصل أنّ الشرع أباح نكاح الأمة التي هي عفيفة، وأما غير العفيفة،

ص: 135

فالأولى أو اللازم التنّزه عنها.

وقيل: إن اللّه ذكر في الآية السابقة الرجال فقال: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ}، وذكر في هذه الآية الإماء فقال: {مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٖ} لأنّ الحرّة أبعد عن الفجور والرجل أقرب إليه؛ لذا احتاج إلى الإحصان بالزواج، وأما الأمة فهي أقرب إلى الفجور بسبب الموالي وإكراههم لها!

الخامس: قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٖ...} الآية.

بيان لأحد أحكام الإماء، وهو إجراء الحدّ عليهن لو ارتكبن الفاحشة، فليس كونها أمة يعفيها عن الحدّ، لكن ليس كحدّ الحرة، بل نصفه؛ لأنّ اللّه لم يجمع عليهن تقييد الرقّية وعقوبة الحرّية، وفي الحديث: «لأنّ اللّه رحمه أن يجمع عليه رِبق الرق، وحدّ الحرّ»(1) هذا في حقوق اللّه كالزنا، وأما حقوق الناس كالقذف فلا فرق بين الحرّ والعبد كما في الأحاديث(2)؛ لأنّ اللّه خفّف عن حق نفسه ولم يخفف عن حقوق الناس مراعاةً لهم، حيث دار الأمر بين مراعاة الجاني بالتخفيف عليه وبين مراعاة المجني عليه باستيفائه حقّه كاملاً، فكان الترجيح للمظلوم على الظالم.

قوله: {أُحْصِنَّ} والإحصان هنا بمعنى الزواج فالمعنى إذا اختار الرجل الأمة العفيفة فتزوجها ثم بعد ذلك ارتكبت الفاحشة، فلا بد من إجراء الحدّ عليها.

ولا يخفى أنه لا مفهوم للشرط في قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} فليس المعنى أنه

ص: 136


1- تفسير القمي 1: 136، والرِبق: حبل يوضع على العنق يجمع به الشياه، فاستعير للرقية.
2- راجع الكافي 7: 237.

إذا لم يتزوجن فلا حدّ عليهن لو ارتكبن الفاحشة، بل الحدّ يجرى عليهاسواء كانت ذات زوج أم لا، فيكون ذكر الشرط إما من باب المورد، حيث إنّ الكلام حول الإماء المتزوجات، وإما لبيان الحالة الأشد، وهي زنا ذات الزوج، فيكون الغرض بيان فرق آخر بين الحرة والأمة، حيث تُرجم الحرة المتزوجة إذا ارتكبت الفاحشة، وتجلد غير المتزوجة، وأما في الإماء فالمتزوجة تجلد أيضاً بنصف الحدّ.

وقوله: {مَا عَلَى الْمُحْصَنَٰتِ} أي غير المتزوجات، وحدّهن مائة جلدة، وليس المراد المتزوجات العفيفات، حتى نضطر إلى أن نقول: إنّ الكلام لا يشمل الرجم؛ لأنه غير قابل للتنصيف.

وقوله: {مِنَ الْعَذَابِ} أي الجلد، كما قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٖ} إلى قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

السادس: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ...} الآية.

قوله: {ذَٰلِكَ} أي الزواج بالإماء.

وقوله: {الْعَنَتَ}: المشقة، قيل: أصله انكسار العظم بعد الجبر ثم استعير لكل مشقة وضرر، والمعنى أن تسويغ نكاح الإماء إنما هو إذا لم يتمكن الرجل من الزواج بالحرة وصار بقاؤه بلا زوجة مشقة له، سواء من جهة الشبق أم من جهات أخرى، فالإسلام دين يسر وسماحة، فلذلك أجاز هذا النكاح رغم أنّ ضبط النفس وتحمّل المشقة أحسن، لكن مراعاة لحال

ص: 137


1- سورة النور، الآية: 2.

الناس أبيح لهم الحسن أيضاً، فالدين قد شرّع كلّما يوجب الرقيّ والكمالوحبّب إلى ذلك، لكن راعى الناس أيضاً فلم يحرّم إلاّ ما فيه المفسدة الشديدة، وحيث تختلف قابليات الناس وظروفهم فلذلك أجاز ما لا مفسدة فيه، لكن بيّن لهم الأفضل أيضاً، مثلاً الصلاة فيها مصلحة ملزمة لذلك كانت واجبة، لكن بعض مصاديقها أفضل، كالصلاة في المسجد جماعة، فلذا ندب إليها الدين وحث عليها، لكن أجاز الصلاة في المنزل أيضاً مراعاة لحال الناس، بل أجاز حتى بعض المصاديق التي يقلّ ثوابها مع وجود المصلحة فيها كالصلاة في الحمام، وهي مكروهة، بمعنى أقل ثواباً كما ذكره جمع من الأصوليين والفقهاء.

وليس معنى {الْعَنَتَ} الزنا، كما عن بعض المفسرين، إذ ليس فيه مشقة في الظاهر، نعم هو يوجب استحقاق الحدّ في الدنيا والنار في الآخرة؛ وذلك لأنّ الظاهر من (العنت) المشقة في الحال، لا ما يحتمل أن يوجب مشقة مستقبلية، فقوله: {خَشِيَ الْعَنَتَ} يراد به فعلية المشقة، لا مجرد خوف من الوقوع فيها في المستقبل، فتأمل.

وقوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} المراد تحمل المشقة والصبر على العزوبة بعدم تزوج الإماء، بل الصبر إلى حين القدرة على الحرائر، فصحيح أنّ الأمة من بني آدم ولا فرق عند اللّه بين مؤمنة وأخرى إلاّ بالتقوى، لكن باعتبارها ملكاً لشخص آخر، فأمرها بيده لا بيد الزوج، إلاّ في الأمور المرتبطة بالمباشرة، وأيضاً لا ضمان لاستمرارية هذا النكاح، فلعل مالكها باعها ثم فسخ المشتري العقد، كما أنه قد تكون هناك حزازة اجتماعية عند

ص: 138

الناس أو بعضهم، فلذلك فالأحسن أن يصبر الإنسان لاختيار الأفضل، فلايقال: كيف أباح اللّه هذا الزواج ثم ذكر أن الأفضل الصبر عنه؟! وذلك لما عرفت بأنّ بعض الأعمال أحسن من بعض، فيمكن إباحة الحسن والإرشاد إلى الصبر عنه للوصول إلى الأحسن، وهذا دأب العقلاء أيضاً في خطاباتهم.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لأنه قد يتجاوز الإنسان الأحكام المذكورة في هذه الآية، أو سائر أحكام اللّه تعالى، فقد فتح اللّه باب التوبة وأخبر بغفرانه للذنوب وأنّ ذلك خاص بالمؤمنين بقوله: {رَّحِيمٌ} كما مرّ.

ص: 139

الآيات 26-28

اشارة

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 26 وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا 27 يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا 28}

ثم بيّن اللّه تعالى حكمة هذه التشريعات في مسائل النكاح فقال:

26- {يُرِيدُ اللَّهُ} بتنزيل هذه الآيات {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الحلال عن الحرام في أمر النكاح أولاً، {وَيَهْدِيَكُمْ} يرشدكم {سُنَنَ} جمع سنة {الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء والأوصياء فهذه الأحكام عامة لجميع الشرائع؛ لأنها متطابقة مع الفطرة ثانياً، {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} فيعفو عمّا اقترفتموه في الجاهلية من انتهاك هذه الأحكام ثالثاً، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمصالحكم {حَكِيمٌ} في تشريعاته.

27- {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يرجع بلطفه عليكم بعد تطهيركم من دنس الجاهلية، {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ} فلا يهمّهم الحلال عن الحرام والطيب عن الخبيث {أَن تَمِيلُواْ} عن الصراط المستقيم وعن أحكام الشرع {مَيْلًا عَظِيمًا} بنكاح من حرّم اللّه نكاحهن.

28- {يُرِيدُ اللَّهُ} بتشريعاته {أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} فالشريعة سهلة

ص: 140

سمحاء، فلذا أحلّ لكم كل النساء إلاّ ما كان فيه الضرر، وكذا خفّف عليكم بقبولتوبتكم، {وَخُلِقَ الْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا} لذا كان لا بد من التخفيف عنه ليتطابق التشريع مع التكوين.

بحوث

الأول: تضمنت هذه الآيات بيان الغرض من هذه التشريعات في أمر النكاح وبيان الحلال عن الحرام فيه، فالآية الأولى والثانية تبيّن علة نزول هذه الآيات، والآية الثالثة بيان للغرض الأسمى من هذه التشريعات، فاللّه تعالى أنزل هذه الآيات...

أولاً: لإخراج الناس من الجهل، فهم لا يعرفون كثيراً من المصالح والمفاسد الواقعية وتزاحمها والأهم منها، فمن لطف اللّه تعالى بهم أن بيّن لهم الأحكام في آيات محكمة، ولذا ذكر في الآيات السابقة النساء اللاتي يحرم نكاحهن عن النساء اللاتي يحلّ، وبيّن أنواع النكاح وغير ذلك من أحكام.

وثانياً: بيان الطريقة الحسنة للماضين؛ لكي يقتدي بهم اللاحقون، كي لا يأتي أتباع الشهوات ويستدلون بفعل آبائهم وأنهم تابعون لآثارهم.

وثالثاً: التوبة عليهم، حيث إنهم حينما يعلمون بتشريعاته يتبعونها ويتركون ما كانوا يخالفون به هذه التشريعات، فيعفو اللّه عنهم ما اقترفوه من آثام في الجاهلية.

هذه الثلاثة هي أسباب تنزيل هذه الآيات.

وأما الغرض الأساسي من تشريع هذه الأحكام فهو التخفيف عن الناس؛

ص: 141

لأنّ اللّه خلق الإنسان ضعيفاً، ومن ضعفه جهله بمصالحه ومفاسده الواقعيةلذا كان لا بد من البيان له ليزول هذا الضعف، ومن ضعفه أنّ تركيبته كانت بحيث لا يصبر على الأحكام الشاقة، فلذلك جعل اللّه تعالى الشريعة سهلة سمحاء، وغير ذلك من أسباب الضعف كما سيجيء.

وفي المقابل هناك شياطين الإنس والجن محكومون بشهواتهم، فلا يريدون التقيّد بالأحكام الشرعية، بل يريدون الوصول إلى شهواتهم بأيّة كيفية كانت، ولو كان ذلك بضررهم عاجلاً أو آجلاً، فهؤلاء لا يفكرون بخير الإنسان ولا التخفيف عنه؛ فلذا يريدون إغواءه وإخراجه عن الصراط المستقيم، فكان لا بد من الحذر منهم.

الثاني: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ...} الآية.

مفعول {يُرِيدُ} إما التشريعات السابقة، فالمعنى يريد اللّه هذه الأحكام بإرادة تشريعيّة منه، فقوله: {لِيُبَيِّنَ} اللام للتعليل، وأن الناصبة مقدرة، وإمّا المفعول {لِيُبَيِّنَ} واللام للتأكيد، فالمعنى يريد اللّه البيان والهداية والتوبة، نظير إدخال حرف الجر على الفاعل في قوله: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا}(1)، وبعض حروف التأكيد اصطلح عليه النحاة بالحرف الزائد، بمعنى أنّ عدم ذكره لا يخلّ باللفظ ولا بالمعنى، لكن تفقد حينئذٍ فائدة التأكيد، فلا يصح الإشكال بأنه لا شيء في القرآن زائد، بل كل كلمة وحرف بحكمة؛ وذلك لما عرفت من أنّ قولهم: (زائد) اصطلاح.

وقوله: {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي ليخرجكم من الجهل إلى العلم، إذ الجهل

ص: 142


1- سورة النساء، الآية: 79.

سبب الكثير من الأفعال المضرّة التي يرتكبها الإنسان، بحيث لو علمبمضرّتها لتركها، وحيث إنّ تركيبة الإنسان دقيقة جداً بحيث يجهل الإنسان حقيقة جسمه وروحه ونفسه وعقله، كما أنّ ملاءمة أو عدم ملاءمة الأفعال والأشياء الخارجية للإنسان أيضاً غالباً مجهولة له، لذلك من لطفه تعالى على الإنسان أن أرسل الرسل ليبينوا للناس ما يصلحهم عمّا يفسدهم، بعد أن حبا اللّه الإنسان بوسائل المعرفة - من الفطرة والعقل والسمع والبصر والفؤاد - ، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ ءَايَٰتِ بَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(1).

وقوله: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (الهداية) هي الإرشاد ومنه إراءة الطريق، و(السنن) جمع سنة وهي الطريقة التي جرى عليها و{مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء والأوصياء ومن اتبعوهم من الصالحين، وهذا المقطع يدل على أنّ هذه التشريعات في محرمات النكاح ومحللاته مما كان في شريعة جميع الأنبياء الماضين، وبذلك يبطل توهم نكاح الإخوة في أولاد آدم (عليه السلام) كما مرّ، وكذلك ما قيل من جمع يعقوب (عليه السلام) بين الأختين، والروايات الضعاف الدالة على ذلك متعارضة مع هذه الآية الشريفة، فلا بد من الإعراض عنها.

وأما ما قيل من أنّ المراد السنن في الجملة! فغير صحيح، إذ الغرض بيان الاقتداء بهم، وذلك يقتضي المطابقة التامة، وإلاّ فالدعوة المجملة إلى الاقتداء ببعض ما كانوا عليه غير مفيدة، مضافاً إلى أن الغرض هو دحض

ص: 143


1- سورة الحديد، الآية: 9.

حجج أهل الجاهلية في نكاح زوجة الأب وفي الجمع بين الأختين، فلوكان المراد من اتباع سنن الماضين هو اتباعهم في الجملة لصح للجاهليين الاحتجاج بأنهم يتبعونهم في الجملة في تحريم نكاح المحارم بالنسب مثلاً!

وعليه فالآية فيها إشعار بأنّ هذه الأحكام أمور فطرية لا نسخ فيها ولا تغيير، فلذا جرت من آدم (عليه السلام) إلى رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما فيها دحض لحجتهم بأنّ آباءهم كانوا يفعلون ذلك مثلاً فيقال لهم: إنّ الصالحين من الماضين وفيهم إبراهيم واسماعيل‘ لم يكونوا على طريقتكم.

وقوله: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي يغفر لكم ما اقترفتموه في الجاهلية من تحليل بعض هذه المحرمات وارتكابها، فالإسلام يجُبّ ما قبله.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} لذا أحكامه صائبة وصحيحة؛ لأنها عن علم، وهو حكيم؛ لذا بينها لكم وشرّعها إليكم وأراد التوبة عليكم لتطهيركم.

الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ...} الآية.

بعد أن بين اللّه تعالى الغرض من تنزيل هذه الآيات - بالبيان والهداية والتوبة - بيّن أنّ هناك معوقاً أساسياً يقف دونكم ويصدّكم عن هذه الأحكام، وذلك شياطين الإنس والجن الذين يتبعون الشهوات، فيقفون لكم بالمرصاد ويحاولون إغواءكم عن الصراط المستقيم.

وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ليس تكراراً لما في الآية السابقة، بل الأولى في مقام التطهير من ذنوب الجاهلية بارتكاب محرمات النكاح، والثانية حثّ لعدم مخالفة حكم الشرع واتباع الشهوات وأصحابها،

ص: 144

وقد مرّ أنّ توبة اللّه على العبد بمعنى رجوعه إليه ولطفه به تارة، بعد ذنب العبد فتكون التوبة لتطهيره، وتارة من غير ذنب فتكون التوبة لرفع درجاته، فمعنىهذه الآية أنّ اللّه يريد بهذه الأحكام تزكيتكم ورفع درجاتكم، حيث إنّ إطاعتكم له سبب قابليتكم لألطافه المستجدة.

وقيل: بل هو تكرار بغرض بناء قوله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ...} عليه، أي لما أراد مقابلة إرادة هؤلاء بإرادة اللّه تعالى التوبة عليكم اقتضت المقابلة تكرار إرادته التوبة، وإلاّ لرجعت المقابلة إلى كل الثلاثة المذكورة في الآية السابقة، وذلك غير مراد.

وقوله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ...} بيان أنّ الذين يعارضون هذه الأحكام إنما هم أتباع الشهوات، لا أتباع العقل والمنطق والدين، فشهواتهم تسوقهم إلى كل ما يلبّيها من غير نظر إلى الحلال والحرام وإلى المصالح والمفاسد، وهذا نهاية التحذير عنهم والتسخيف لمطالبهم، فمن جهةٍ، اللّه تعالى يريد تطهيركم ورفع درجاتكم، ومن جهة أخرى أتباع الشهوات يريدون تحريفكم عن الصراط المستقيم.

وأتباع الشهوات هم الكفار وأهل المعاصي من منتحلي الإسلام.

فأما الكفار فيريدون بقاءكم على الكفر وعدم الإسلام؛ لئلا تتقيدوا بأحكامه، قال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً}(1)، وشهواتهم التي يتبعونها حبّ الرئاسة والجاه وكذا الشهوات الجسدية، فلذا كانوا يصدّون عن سبيل اللّه تعالى.

ص: 145


1- سورة النساء، الآية: 89.

وأما عصاة المسلمين فهم يريدون انتهاك حرمة أحكام اللّه تعالى اتباعاً لشهواتهم بالتمرد والعصيان، فيزينون معاصيهم للآخرين ليشاركوهم فيها؛لأنّ العصاة يألف بعضهم ببعض، وكذا لتخفيف اللوم والذم عنهم، فالذي يرتكب المعصية وَحدَهُ يواجه بذمّ الناس له، لكن لو شاركه الناس في معصية أو شاعت المعصية بينهم فيسلم من الذم واللوم، بل ينعكس الأمر على الملتزمين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَٰحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ}(1).

وقوله: {أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا} أي أن تنحرفوا عن طريق الاستقامة وعن الصراط المستقيم، بتعطيل العقل والشرع وبتحكيم الغرائز والشهوات، وهذا الميل العظيم قد يكون بالكفر للتخلص من قيود الدين، وقد يكون بالعصيان بارتكاب الفحشاء، ومن المعلوم أنّ الكفر والفحشاء من أعظم الآثام والمحرّمات.

التخفيف سبب التشريعات

الرابع: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا}.

هذا بيان لعلة تشريع هذه الأحكام، كما أنّ قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ...} كان علة لبيانها.

فسبب هذه التشريعات هو التخفيف عن الإنسان؛ لأنّ الإنسان ضعيف فاحتاج إلى المساعدة بتشريع أحكام تناسب تكوينه.

وقوله: {يُخَفِّفَ عَنكُمْ} كما قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ

ص: 146


1- سورة النور، الآية: 19.

الْعُسْرَ}(1)، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٖ}(2)، وقال: {وَيَضَعُعَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(3)، فعدم بيان الأحكام عبر إرسال الرسل وإنزال الكتب كان يدع الناس في حيرة وضلال، فكانوا يبتدعون لأنفسهم العادات والتقاليد التي تثقل كاهلهم وتقيّد حياتهم، كما حدث ذلك للذين رفضوا الرسالات ولم يؤمنوا باللّه ورسله، فأراد اللّه تعالى بلطفه ورحمته أن يخفف عن الناس، وذلك بهدايتهم وبيان ما يصلحهم عما يفسدهم مع فتح باب التوبة وقبولها لمن أراد أن يصلح ما أفسده على نفسه.

ولا يخفى أنّ القوانين الصحيحة وإن كانت تقيّد الإنسان، إذ لا يحق له مخالفتها وتجاوزها، لكنها تخفيف عليه، فإنّ للمحرمات آثاراً سلبيّة - دنيوية وأخروية - فالترخيص فيها يوجب ترتب تلك الآثار بما تصعّب حياة الإنسان، فالفوضى أكثر ضرراً على الإنسان من التقيّد بقوانين تمنعها، ومنع الناس عمّا يضرهم أنفع لهم من السماح لهم في ذلك وترتب الأضرار عليهم، فلذا كانت الشريعة سهلة سمحاء؛ لأنها قيود تخفيفيّة، وفك لقيود غير ضرورية، ولذا نشاهد أنّ مجتمع المؤمنين أفضل من مجتمعات العصاة والكفرة؛ لأنّ تقيّد أولئك بالدين منعهم مضرة المحرمات، كما أورثهم راحة نفسية بمراعاة حقوق اللّه وحقوق الناس، عكس مجتمع العصاة والكفرة، فإنه قد يكون أرفه وأغنى، لكنه مليء بالمشاكل النفسيّة والاجتماعية وعدم الشعور بالسعادة.

ص: 147


1- سورة البقرة، الآية: 185.
2- سورة الحج، الآية: 78.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.

كما أنّ فتح باب التوبة وقبولها لمن كفر أو عصى أيضاً تخفيف عن الناس، فهم يتمكنون من التخلص من آثار الكفر والعصيان ومن قيودهمابالتوبة الصادقة، وذلك تخفيف من اللّه تعالى على عباده، مع أنه كان يمكن أن لا يقبل التوبة، فقبولها ليس بواجب عقلاً، لكنه رحمة ولطف من اللّه تعالى على عباده كما مرّ.

وقوله: {وَخُلِقَ الْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا} هذا تتمة للتعليل، أي أنّ التخفيف مناسب لخلق الإنسان، فتركيبة الإنسان الضعيفة تقتضي أن يكون التشريع مناسباً لها، فكان التشريع بالتخفيف متطابقاً مع التكوين بالضعف.

وضعف الإنسان من جهات، منها:

1- من جهة الجهل، فقد خلقه اللّه الإنسان لا يعلم شيئاً، ولكن زوّده بأدوات المعرفة، وبيّن له التشريعات بواسطة رسله ليزول بذلك ضعفه.

2- ومن جهة الشهوات، التي تصارع الإنسان، فقد جعل اللّه تعالى في الإنسان الشهوات؛ لأنّ حياته تتوقف عليها، ولكن جعل اللّه تعالى لتلك الشهوات مسارات صحيحة، فيتم إشباعها وإرضاؤها بما فيه مصلحة الإنسان، فضعفه بالشهوات تمّ تلافيه بتشريعات مناسبة.

3- ومن جهة إغواء المضلين من شياطين الجن والإنس، وقد تمّ تلافي هذا الضعف بإعطاء الإنسان الفطرة والعقل وبإرسال الرسل وإنزال الكتب.

والحاصل أنّ الإنسان موجود ضعيف، لكن يمكنه جبر ضعفه وتقوية نفسه بالارتباط بمبدأ القوة والعزة، وهو اللّه تعالى، حيث يملك مقاليد السموات والأرض وهو الضار النافع، فبإطاعته للّه تعالى يأوي إلى ركن

ص: 148

شديد قال سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}(1)، وقال:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

فاتضح أنّ التخفيف المقصود هنا هو بيان كون الشريعة سهلة سمحاء، وليس المراد - واللّه أعلم - ما قيل من أنّ الشرائع السابقة كانت صعبة فخفف اللّه تعالى على هذه الأمة المرحومة!

وذلك لأنّ هذه الأحكام في محرمات ومحللات النكاح كلها كانت في الشرائع السابقة كما قال: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، فكانت تخفيفاً على الجميع سواء هذه الأمة أم الأمم السابقة.

كما أنّ التخفيف بشكل عام لا ينافي جعل عقوبات على المخالفين والعصاة كالقصاص والرجم والجلد ونحو ذلك، بل وحتى العقاب بتحريم بعض المحللات، فهذا كما كان في الأمم السابقة كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}(3)، كذلك موجود في هذه الأمة - وإن بشكل آخر - كغيبة الإمام (عليه السلام) عقوبة على عدم مراعاة الناس لحقوق الأئمة (عليهم السلام) ، أو كتحريم المرأة التي تزوج بها في العدة حرمة أبدية، بل يمكن أن يقال: إنّ العقوبة سواء كانت عامة أم خاصة هي تخفيف عن الأمة بأسرها، وذلك ليتطهروا من ذنوبهم، وبدلٌ عن العقوبة الأشد في الآخرة.

ولا يخفى أنّ التخفيف في الأحكام لا ينافي وجود نظائر تلك الأحكام

ص: 149


1- سورة فاطر، الآية: 10.
2- سورة المنافقون، الآية: 8.
3- سورة النساء، الآية: 160.

عند سائر الناس؛ لأنّ التخفيف إنما هو بمعنى تشريع الحكم السهل السمح، وليس معناه أنّ ذلك بعد تصعيب أو صعوبة، فنفس إمضاء عمل الناس أوتهذيبه هو تخفيف أيضاً.

ثم إنّ خلق الإنسان ضعيفاً لا ينافي قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ}(1)، وقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ}(2)، وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(3)؛ لأنّ ذلك الضعف طريق إلى القوة بالارتباط باللّه تعالى وبطاعته، ولكي يصح الامتحان الذي هو من أهم المصالح، فمن تكريم الإنسان وتفضيله وحسن تقويمه أن يكون ضعيفاً ضعفاً قابلاً للجبر، نعم لو لم يمكن جبر ذلك الضعف لكان هناك خلل، لكن اللّه تعالى عن ذلك فهو أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين تبارك وتعالى.

بل إنّ كون الإنسان مخلوقاً يلازم ضعفه وحاجته أبداً إلى الخالق الغني في كل شيء، فالممكن يستحيل أن لا يكون محتاجاً ضعيفاً، ولطف الخالق ورحمته به هو الذي كان السبب في أصل وجوده وفي استمرار حياته وفي قضاء حوائجه.

ص: 150


1- سورة التين، الآية: 4.
2- سورة الإسراء، الآية: 70.
3- سورة المؤمنون، الآية: 14.

الآيات 29-31

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَٰطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا 29 وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَٰنًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا 30 إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا 31}

بعد ذكر محرمات النكاح، ومنها عدم إعطاء المهور أو التماهل فيها، وكذا أكل مال اليتيم، وعدم تقسيم الإرث بشكل صحيح، يأتي القرآن لبيان القاعدة العامة في الأموال المحللّه والمحرمة فقال:

29- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} خصّ الخطاب بهم؛ لأنهم المنتفعون به ويصغون إليه {لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَٰطِلِ} بخلاف الحق وبغير الوجه الحلال {إِلَّا أَن تَكُونَ} الاستثناء منقطع، أي ولكن يجوز الأكل إذا كانت {تِجَٰرَةً} معاملة يقصد بها الربح {عَن تَرَاضٖ مِّنكُمْ} طيب نفس المتعاملين، {وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} بأن تعرضوها للقتل بسبب أكل الأموال بالباطل، فالكثير من حالات القتل بسبب الأموال، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} لذا شرّع هذه الأحكام، فالتزموا بها، ويكون ذلك لصالحكم في الدنيا، حيث تنالون فوائد العمل بها، وفي الآخرة حيث يجزيكم اللّه برحمته الجنة.

ص: 151

30- {وَ} لكن المخالفة بضرركم ف {مَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ} الأكل بالباطلوالقتل {عُدْوَٰنًا} بالتعدي والتجاوز على الآخرين وعلى حكم الشرع، وقوله: {وَظُلْمًا} تأكيد للعدوان، أو المراد أنّه لم يكن على وجه الخطأ {فَسَوْفَ} في الآخرة {نُصْلِيهِ نَارًا} نذيقه حرارتها {وَكَانَ ذَٰلِكَ} الإصلاء بالنار {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} سهلاً لا صارف عنه.

31- ثم رغّب اللّه في ترك هذه المعاصي فقال: {إِن تَجْتَنِبُواْ} تتركوا {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} والذي منه أكل الأموال بالباطل والقتل، والكبيرة هي كل ما وعد اللّه عليها النار، {نُكَفِّرْ عَنكُمْ} نغفر ولا نؤاخذكم على {سَئَِّاتِكُمْ} وهي الذنوب الصغيرة، {وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا} اسم مكان، أي محل الدخول {كَرِيمًا} أي مرتفعاً وجليلاً وهو الجنة.

بحوث

الأول: نظم الآيات مع ما قبلها، حيث إنّ الآيات الماضية كانت حول محرمات النكاح، وقد ذكر فيها المهور ولزوم إيتائها للزوجات من غير نقص، كما تضمنت الآيات التي قبلها النهي عن أكل مال اليتيم وحكم الإرث، فأراد اللّه تعالى بيان القاعدة العامة في حرمة أو حلية الأموال، كما بيّن القاعدة العامة في النكاح الحلال والحرام، وذلك لما بَيْن الأمرين - النكاح والمال - من الارتباط الوثيق، حيث إنّ بهما قوام المجتمع، وأيضاً حيث ترتبط بهما النفوس، فأكثر حالات النزاع التي تؤدي إلى القتل ترتبط بهما أيضاً؛ لذلك نهى اللّه تعالى عن القتل أيضاً، وكما قيل: فإنّ أهم الأمور عند اللّه تعالى بالنسبة إلى الناس ثلاثة: النفوس والأعراض والأموال،

ص: 152

فجمعتها هذه الآيات بالذكر والبيان لأحكامها.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَٰطِلِ}.

الحكم عام للمؤمنين ولغيرهم، وحتى للكفار، حيث إنهم مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، إلاّ أن المنتفع والمستفيد من هذه الأحكام الفرعية هم المؤمنون؛ لذلك خص الخطاب بهم تشريفاً لهم، كما مرّ مراراً.

وقوله: {لَا تَأْكُلُواْ} يراد به الاستيلاء والسيطرة على الأموال، وحيث إنّ عمدة الغرض من الأموال هو الأكل لتوقف الحياة عليه، لذلك استعيرت لفظة الأكل، أو هو تشبيه الاستيلاء بالأكل.

وقوله: {أَمْوَٰلَكُم} جمع الأموال يفيد أنه لا فرق بين مال ومال، ولا بين المال الجليل والحقير، فلا بد من مراعاة حق الناس وعدم الاستيلاء حتى على القليل من أموالهم، فبعض الناس يتهاونون في القليل الحقير، وبعضهم على العكس، حيث يراعون في القليل لكن يغلبهم الهوى في الكثير، فبالجمع تمّ تحذير كلتا الطائفتين.

والإضافة إلى (كم) وهو ضمير الجمع للدلالة على أنّ هذه الأموال هي بصالح المجتمع أجمع، فالملكية الفردية قد أقرها الإسلام لكن نفعها يعود للجميع، كما مرّ، وكأنّه اعتبر المؤمنين كلّهم وحدة واحدة وكأنّ الأموال للجميع، فالتصرف الحرام في تلك الأموال يعود ضرره على الجميع بما فيهم الآكل.

وقوله: {بَيْنَكُم} لعلّه للدلالة على أنّ الأكل يكون لأموال الآخرين؛

ص: 153

وذلك لأنّ أكل المال بالباطل قد يكون بأكل الإنسان مال نفسه بالباطل، كأن يحوّلعنبه خمراً فيشربه، أو يحوّل خشبه إلى آلات محرّمة فيلعب بها مثلاً، فهذا وإن كان حراماً إلاّ أنه ليس مقصوداً بالذكر في هذه الآيات، بل المقصود هو انتقال مال من شخص إلى آخر بالباطل، فيشمل المعاملات الباطلة والغصب والتماطل في إعطاء الآخرين أموالهم وأجورهم ونحو ذلك.

وقوله: {بِالْبَٰطِلِ} أي خلاف الحق، فكل ما لا واقع ثابت له هو باطل، والأكل للمال بالباطل هو ما لا يقرّه الشرع والعقل، فيدخل فيه التعامل بجميع ما نهى الشارع عنه، وكذا ما لا غرض عقلائي فيه، والحاصل أنّ كل ما سماه العرف باطلاً، وكذا كلّ ما نهى الشرع عنه فهو داخل في الباطل الذي نهى اللّه تعالى عن أكل المال به.

و(الباء) في قوله: {بِالْبَٰطِلِ} إما للإلصاق أو للسببيّة، أي أكلاً باطلاً كالغصب، أو أكلاً بسبب باطل كالربا والقمار.

وسبب ذلك أنّ الإسلام جعل حرمة واحتراماً للأموال وأصحابها، فلذلك شرّع أو أمضى كل طريقة صحيحة للاستيلاء على مال الغير، بحيث يكون ذلك في مصحلة المجتمع وفي مصلحة المال وتنميته، فيكون أكل المال حينئذٍ أكلاً بحق، ويدخل في ذلك المعاملات المشروعة التي ينتفع بها الطرفان، كالبيع والإجارة والمزارعة ونحوها، أو هي تقوية لأواصر المجتمع كالهبة والوصية والإرث ونحوها، أو هي لإدارة المجتمع كالضرائب المشروعة التي بها يتم خدمة المجتمع وتوفير الأمن والخدمات إليه.

وأما لو كان استيلاءً فيه فساد للأموال أو للمجتمع أو كان فيه إضرارٌ

ص: 154

لصاحب المال، كالربا والقمار والغصب ونحو ذلك، فذلك من الباطل الذييأباه العقل وحرّمه الشرع، ولو شاهدنا الناس يرتكبونها أو يستسيغونها فذلك تعطيل للعقول واستيلاء للشهوات، فليس تداول ذلك في المجتمعات وارتكاب بعض العقلاء لها دليلاً على مطابقتها للعقل، بل سبب ذلك إما عدم العلم بالمضار وتوهم المنافع فيها، أو لغلبة الشهوات على العقول، كالزنا الذي هو شائع في المجتمعات وقد يرتكبه بعض العقلاء، لكن ذلك بسبب تعطيل العقل، فلذا ما يرتكبه العقلاء لا بد من التدقيق فيه، فهل يرتكبونه بما هم عقلاء عالمون بالمصالح والمفاسد، أو يرتكبونه لجهلهم أو لشهوتهم، ولذا لمّا جاء الإسلام أمضى جميع المعاملات العقلائية، إلاّ أنّه شذّبها وهذّبها عن كل ما فيه المفسدة، ولذا رفض بعض المعاملات من أساسها كالربا والقمار، وهذّب بعضها الآخر بوضع شروط أو إلغاء شروط.

الثالث: قوله تعالى: {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمْ}.

هذا استثناء منقطع؛ لأنّ التجارة عن تراض ليست داخلة في الأكل بالباطل كي نحتاج إلى إخراجها عن حكمها بعدم الجواز، وسبب استعمال الاستثناء المنقطع بشكل عام هو دفع توهم اشتراك المستثنى مع المستثنى منه في الحكم بسبب...

1- تداخلهما خارجاً وشدة الارتباط بينهما.

2- أو بسبب عدم علم السامع بأنّ المستثنى ليس من أفراد العام المستثنى منه.

3- أو بسبب إرادة جعل حكم مشابه لفرد آخر اختصاراً للكلام.

ص: 155

فمن الأول قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ}(1) حيث كان مختلطاً مع الملائكة، حتى إنه يخال أنه أحدهم، ومن الثاني قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُۥ سَيَهْدِينِ}(2)، حيث كانوا يزعمون أنّ الآلهة متعددة ويحسبون اللّه أحدها سبحانه وتعالى عمّا يشركون، ومن الثالث قوله تعالى: {قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا}(3).

فمعنى الآية لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولكن تاجروا عن تراض فالأكل جائز حينئذٍ، فهو من النوع الأول أو الثاني من الاستثناء المنقطع، أي لاختلاط معاملاتهم وتصرفاتهم، حيث كانت التجارة عن تراض، والربا والقمار ونحو ذلك شائعة بينهم بحيث يعتبرونها بكيفية واحدة، كما قال: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوٰاْ}(4).

وقيل: لعل الغرض هو دفع توهم أنه لو لم يجز أكل المال بالباطل لتوقفت حياة الناس الاقتصادية، فجاء الجواب بشكل استثناء منقطع بأنه تجري الحياة بالتجارة عن تراض.

وحيث كان الاستثناء منقطعاً فلا مفهوم له في حصر التداول الجائز بالتجارة عن تراض، كي نضطر إلى تخصيصه بالهبة ونحوها، بل لا مفهوم للاستثناء المنقطع في الحصر، وإنما يدل على جواز التجارة عن تراض، وأمّا

ص: 156


1- سورة الحجر، الآية: 30-31.
2- سورة الزخرف، الآية: 26-27.
3- سورة آل عمران، الآية: 41.
4- سورة البقرة، الآية: 275.

سائر التداولات الجائزة غير التجارة فيستفاد جوازها من آيات أخرى كقوله: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٖ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِئًا مَّرِئًا}(1)، ومن متواتر الروايات، بل من صدر هذه الآية؛ لأن الهبة وأمثالها ليس من أكل المال بالباطل.

وقوله: {تِجَٰرَةً} هي بمعنى المعاملة في رأس المال طلباً للربح، فحتى لو خسر فإنها تجارة خاسرة؛ لأنه كان يقصد الربح.

وقوله: {عَن تَرَاضٖ} أي بطيبة النفس، فلا تنفع التجارة عن إكراه، إلاّ لو لحقها الرضا، فإنه لا فرق في الصحة وشمول الآية بين أن يكون الرضا سابقاً على العقد أو لاحقاً عليه، كالبيع الفضولي إذا أجازه المالك، وأما بيع المضطر فهو عن رضا فلذا كان صحيحاً، كمن يمرض ويحتاج إلى أموال للعلاج فيضطر إلى بيع بيته مثلاً، فهو وإن كان غير راض بالبيع لولا الاضطرار إلى العلاج، لكنه بالنظر إلى هذه الحالة وهي حالة الاضطرار فإنه راضٍ عن المعاملة، نعم لا يصح استغلال اضطراره في الشراء منه بثمن بخس.

و(تراض) من باب التفاعل، ويدل على لزوم رضا الطرفين فلا يكفي رضا أحدهما.

وقوله: {مِّنكُمْ} لعله للإشارة إلى عدم كفاية الرضا باللسان، بل لا بد من الرضا في القلب، ف (من) ابتدائية، للدلالة عن نشوء الرضا من القلوب، ولذا قيل: المأخوذ حياءً كالمأخوذ غصباً؛ وذلك لعدم الرضا القلبي حين الحياء.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.

ص: 157


1- سورة النساء، الآية: 4.

قد قرن اللّه تعالى حكم الأموال بحكم القتل في هذه الآية وفي قوله: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)، ولعل سبب ذلك هو أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين القتل وبين الفساد في الأموال، فالمال من أكثر أسباب القتل، سواء الطمع في المال، أو الدفاع عنه أو محاولة الاستيلاء عليه، فلعلّه لذلك تم النهي عنهما معاً.

وقيل: أراد اللّه تعالى بيان الأمور الثلاثة المهمة عنده، فالأموال والأعراض ذكرت في الآيات السابقة، فأتمّ ذلك بذكر النفوس بالنهي عن القتل.

وقوله: {أَنفُسَكُمْ} كقوله: {أَمْوَٰلَكُم} فكأن المؤمنين كلهم نفس واحدة؛ فلذا كان قتل مؤمن كقتل النفس، أو هو زيادة في التبشيع فكأن القائل قد قتل نفسه، أو هو لبيان رجوع الضرر على القاتل أيضاً؛ لأنه بقتل الغير يُسلّط أولياءه على قتله.

والنهي عن القتل بشكل عام يشمل الانتحار أيضاً، وعن التسبيب في قتل نفسه، كأن يهجم على المشركين وحده وهم الأكثر عدداً وعدة من غير استئذان من قائد الجيش فيقتلونه، فقد أعان على نفسه، وكأنه قتلها حيث صار سبباً لذلك، كما في بعض الروايات(2)، وذلك بيان لأحد مصاديق الآية أو لشأن نزولها.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} بيان سبب تشريعه لهذه الأحكام التي منها النهي عن أكل المال بالباطل والنهي عن القتل وإباحة التجارة عن

ص: 158


1- سورة البقرة، الآية: 195.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 83-84.

تراض فليس تحليله أو تحريمه لأجل نفع عائد إليه، سبحانه هو الغني عن الخلق أجمع، وكلهم فقراء إليه، وله رحمة خاصة بالمؤمنين إضافة إلى رحمته العامة التي وسعت كل شيء، فلذا بيّن الأحكام لحاجتهم إليها وإلى بيانها، إذ نحن {مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَىٰنَا اللَّهُ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَٰنًا وَظُلْمًا...} الآية.

كان الخطاب للمؤمنين، لكن حين ذكر العقاب التفت منهم فقال: {وَمَن يَفْعَلْ...} قيل: لعلّه لبيان أن من يفعله ليس بمؤمن، أو لبيان عموم الحكم، فإن الخطاب وإن كان خاصاً بالمؤمنين في قوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ...} لكن الحكم ليس خاصاً بهم، وعقوبة المخالفة مشتركة حتى الكفار والمنافقين والعصاة؛ لأنّ الجميع مكلّف بالفروع أيضاً ويعاقب على مخالفتها.

وقوله: {ذَٰلِكَ} إشارة إلى أكل المال بالباطل وإلى القتل، وهذا هو الظاهر من سياق الآية، وقيل: هو إشارة إلى خصوص القتل.

وقوله: {عُدْوَٰنًا وَظُلْمًا}، (العدوان) هو التعدي عن الحق، و(الظلم) هو وضع الشيء في غير موضعه، فالكلمتان متقاربتا المعنى، فالإتيان بهما معاً إما للتأكيد لزيادة الزجر ببيان قبح الفعل، أو يراد بالعدوان مقابل الخطأ، وبالظلم مقابل القصاص ونحوه، أو العدوان على الغير والظلم على النفس، أو الأول على حق اللّه والثاني على حق الناس.

والحاصل أنّ الوعيد بالعقاب خاص بالمتعمد الذي يأكل الأموال بالباطل ويقتل النفوس مع علمه بالموضوع، أما لو أخطأ أو سها أو نسي بما كان

ص: 159


1- سورة الأعراف، الآية: 43.

معذوراً فيها فذاك مرفوع عنه العقاب الأخروي والدنيوي، نعم يلزمه الضمان أو الدية، وذلك ليس عقوبة، بل إنصاف لصاحب الحق.

وقوله: {نُصْلِيهِ} من صَلى يصلي بمعنى قاسى حرارتها وذاقها، فالمعنى إدخاله في جهنم ليقاسي عذابها ولهيبها.

وقوله: {وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} بمعنى سهلٍ، ولعل المقصود بيان ضعف المعتدي والظالم، فهو يتجاوز على الحقوق؛ لأنّ له القوة أو يتصور أنه الأقوى عادة، لكن إن كان أقوى من المظلوم فهو لا قدرة له أمام اللّه تعالى، أو المقصود بيان أنه لا صارف عن هذا العذاب، خلاف ما يتصوره أهل الضلال بأن رحمة اللّه تعالى مانعة عن عذاب خلقه، وتأويلهم آيات العذاب بأنها لمجرد التهديد إنما هو تأويل لابتغاء الفتنة وتحريف الكلم عن مواضعه، فيقال لهم: إنّ العذاب على اللّه يسير لا قبح فيه، نعم قد يشاء تعالى العفو لمصالح أحياناً لا دائماً، بل الحكمة تقتضي عذاب المشركين وبعض العصاة وعدم العفو عن جميعهم.

السادس: قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ...} الآية.

حث على الالتزام بأحكام الشرع والنواهي الشرعية، وعدم اليأس والقنوط من رحمة اللّه تعالى؛ وذلك لأنّ غالب الناس لا يخلون عن ارتكاب بعض الذنوب، فكان غلق الباب عليهم سبباً لتماديهم وارتكابهم جميع أصناف المعاصي، ولذلك فتح اللّه تعالى لهم طريق الرجعة والتخلص من الذنوب وآثارها، فتارة بالنهي عن القنوط من رحمة اللّه تعالى، وتارة

ص: 160

أخرى بتشريع التوبة والقضاء بها، وثالثة بالتكفير عن صغائر الذنوب سواء بفعل الحسنات كما قال: {إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ}(1)، أم بتكفير الصغائر بترك الكبائر، ورابعة بالشفاعة في الآخرة ونحوها.

كل ذلك حثاً للطاعة والرجوع إليها لو زلت قدم الإنسان، وليس ذلك إغراء بالمعصية كما توهمه بعض الجهّال، بل حيث إنّ غالب الناس لا يخلون عن الذنوب، وهذا أمر واقع خارجاً، وحيث إنّ اللّه خلق الناس ليرحمهم لا ليعذبهم لذلك لطف بهم وفتح لهم الطريق واسعاً للرجوع إلى الطاعة وإصلاح ما أفسدوه بذنوبهم، فحيث علم الناس بذلك رجع الكثير منهم إلى الطاعة، ولولا ذلك ليئسوا من الرحمة وأيقنوا بالعذاب فصار داعيهم على التمادي في المعاصي أكثر، وكما قاله بعضهم: إنه ما دام من أهل النار فليتمتع بدنياه بأيّة كيفية كانت!

قوله: {تَجْتَنِبُواْ} من الاجتناب بمعنى الترك، فكأنه أدار جنبه عن المعصية، ولذلك كان في الاجتناب إشعار بالنفرة والكراهة أو الالتزام دائماً كذا قيل.

وقوله: {كَبَائِرَ} أي المعاصي الكبيرة، وهي المحرمات التي وعد اللّه عليها النار كما في الروايات(2)، ولا يخفى أنّ سبب النهي عن المحرمات هو وجود المفسدة فيها غالباً، وهذه المفاسد تختلف شدةً وضعفاً، فكلما كانت المفسدة أشد كانت المعصية أكبر، وبهذا الاعتبار صحّ تقسيم المعاصي إلى كبائر وصغائر، نعم من جهة كونها عصياناً للّه تعالى فكلّها

ص: 161


1- سورة هود، الآية: 114.
2- راجع الكافي 2: 284؛ والبرهان في تفسير القرآن 3: 85-89.

عظيمة، فمعصية العظيم عظيمة، بلا فرق بين معصية وأخرى، ولكن اللّه تعالى لفضله ورحمته بعباده وتسهيلاً لهم للرجوع إلى الطاعة لذلك قسّم الذنوب باعتبار نسبة بعضها إلى بعض من حيث مفسدتها.

وقوله: {مَا تُنْهَوْنَ} بيان أن كلّها - كبيرها وصغيرها - منهي عنه، لكن هناك تكفير عن الصغائر المنهي عنها لو ترك كبائرها، ولطف هذا التعبير هو التحذير من الصغائر أيضاً باعتبارها منهياً عنها، فالتكفير عنها بمعنى عدم العقوبة عليها فقط، لكن سائر آثار المعصية يترتب عليها، كالفسق مثلاً - على الأصح - وأيضاً حيث إنّ الصغائر منهي عنها والتكفير خاص بحالة اجتناب الكبائر، فلذلك لو لم يجتنب الكبائر فهو مؤاخذ بها وبالصغائر معاً.

وقوله: {نُكَفِّرْ عَنكُمْ} من التكفير بمعنى الستر، ويراد به غفرانها وعدم السؤال عنها، وعدم المؤاخذة عليها، والعفو عنها.

وقوله: {سَئَِّاتِكُمْ} أي الصغائر، وإنما عبّر عنها بالسيئات ليُعلم أنها سيئة، وأنه لا بد للإنسان من تنزيه نفسه عنها؛ لأنها وإن كانت مكفّرة إلاّ أنها تسوء صاحبها، ولو بتنزيل درجاته وبُعده عن المولى جلّ وعلا.

وقوله: {وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا} أي لا تؤثر تلك الصغائر في منعكم عن الجنة، نعم قد تؤثر في درجاتها.

والحاصل أنّ اجتناب الكبائر له أثران: التكفير عن الصغائر ودخول الجنة، وتقديم التكفير عن السيئات على دخول الجنة؛ لأنه لا يدخل الجنة أحد إلا بعد أن يتطهر من جميع ذنوبه، فلا قابلية للنفس المذنبة لدخول الجنة أبداً؛ لأنها دار سلام لا خبث فيها، فلا تناسبها النفس المذنبة إلا بعد

ص: 162

تطهيرها.

و(المدخل) بضم الميم اسم مكان بمعنى محل الدخول، أو مصدر ميمي أي دخولاً كريماً من غير معوقات، عكس مرتكب الكبائر من المؤمنين فقد يدخل الجنة بعد تطهيره عن كبائره بالعذاب الشديد.

وقوله: {كَرِيمًا} من (الكرم) بمعنى العلو والارتفاع، ولذا يقال للسخي كريم باعتبار علو نفسه، فالجنة عالية القدر مرتفعة المنزلة لذلك وصف المدخل بالكريم، أو هو وصف للجنة، لكن أريد به وصف أهلها، فهو وصف بحال المتعلق، فالمعنى يُكرم الإنسان فيه، أو إدخالاً مع كرامته.

ثم هناك بحوث كثيرة حول الكبائر والصغائر ذكرنا بعضها في شرح أصول الكافي فراجع.

ص: 163

الآيتان 32-33

اشارة

{وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَسَْٔلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا 32 وَلِكُلّٖ جَعَلْنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ فََٔاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدًا 33}

ثم بعد النهي عن أكل المال بالباطل، بيّن سبب اختلاف الناس في الثروات فقال:

32- {وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا} المال الذي {فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ} فإنّ تفضيله لحكمة، والتمني قد يجرّ إلى الحسد والتباغض والهمّ والغمّ، ثم قد يجرّ إلى الفساد والإفساد، وهذا التفضيل قد يكون اختيارياً بالعمل والكد ف {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ} بالتجارة ونحوها {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} فلا تطمعوا في أموالهم وأموالهن، لكن أطلبوا الرزق بالعمل {وَسَْٔلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} ليعطيكم ما أعطاهم، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} فتفضيله بعضكم على بعض لمصلحة وكذا تشريعه أن للإنسان كسبه هو عن علم، كما أنه عالم بسؤالكم وحقيقة دعائكم.

33- {وَ} قد يكون التفضيل لأمر غير اختياري وتشريعه لمصلحة كالإرث ف {لِكُلّٖ} من الرجال والنساء {جَعَلْنَا مَوَٰلِيَ} أي من هم أولى بهم من غيرهم،

ص: 164

فالمولى هنا بمعنى الوارث، فيرثون {مِمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} وهذاالإرث بالنسب، {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} أي عاهدتموهم وهذا الإرث بالسبب، وهم: الزوجان، والمُعتِق، وضامن الجريرة، والإمام (عليه السلام) ، {فََٔاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي أعطوا كل هؤلاء بحسب أولويتهم وحصتهم من الإرث، ولا تبخسوهم شيئاً ف {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدًا} شاهداً ثم يجازي على ما علمه.

بحوث

الأول: هاتان الآيتان حثّ للإنسان على الرضا بما قسّمه اللّه تعالى من الأموال ونحوها، فعلى الإنسان أن يرضى بذلك، فكما لا يجوز له أكل المال بالباطل إلا بالتجارة عن تراض، كذلك لا يصح له أن يمدّ عينه إلى أموال الآخرين، سواء حصلوا عليها بجهودهم أم حصلوا عليها بتشريع إلهي كالإرث، لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، بل على الإنسان أن يكدّ ويعمل مع الدعاء لكي يهيّئ اللّه تعالى له الأسباب فيزيده من فضله الواسع العميم، فيعطيه مثل ما للآخرين أو أحسن منهم، فسياق هاتين الآيتين وما قبلهما واحد في الحث على الصلاح في الشأن المالي، وبيان أمور أخرى ترتبط بذلك، مع بيان العلة.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ}.

(التمني) هو رغبة نفسية في الشيء المتعذر أو كالمتعذّر سواء مضى وقته أم لم يأتِ، وقد يُظهره الإنسان بألفاظ وضعت للتمني مثل: (ليت)، كقوله: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا يَٰلَيْتَ لَنَامِثْلَ

ص: 165

مَا أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(1).

وإنما نهى عنه؛ لعدم جدواه، فأيّة فائدة في الرغبة في الأمر المحال، مضافاً إلى أنه يكشف عن ضعف الإيمان واليقين إذا تمنّى ما للغير، فمن يعلم بحكمة اللّه وعدله يعلم بأنه لم يقدّر شيئاً اعتباطاً سواء كان في مجال التكوين أم التشريع، فهذا التمني هو نوع عدم رضا وعدم معرفة به سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}(2)، وقال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}(3).

وأيضاً قد يتحوّل هذا التمني إلى الحسد وبغض صاحب النعمة، وقد يجرّ ذلك إلى إظهار هذا الحسد بيد أو لسان والسعي لزوال نعمة المحسود بالطرق غير المشروعة.

وأيضاً لعلّ ذلك لم يكن من مصلحة الإنسان فرحمة من اللّه منعه عنه، وفي الدعاء: «ولعلّ الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور»(4)، وقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(5).

ص: 166


1- سورة القصص، الآية: 79.
2- سورة النحل، الآية: 71.
3- سورة الزخرف، الآية: 32.
4- بحار الأنوار 94: 339.
5- سورة طه، الآية: 131.

والحاصل أنّ الدنيا والآخرة لا تنالان بالتمني، سواء في الأموال أم غيرها، بل جزء منها بالكدّ والعمل، والجزء الآخر بالدعاء.

ثم لا يخفى أنه لا بأس بالغبطة، بأن يشتاق الإنسان إلى مثل ما لغيره من غير تمني زوالها عنه، فيسأل اللّه تعالى ذلك أو يعمل لتحصيله.

وقوله: {مَا فَضَّلَ اللَّهُ} للدلالة على أنّ التفضيل من اللّه تعالى فيما كان من الحلال، وأما لو كان من الحرام كالسرقة والغصب وابتزاز الحقوق فإنما هو بفعل الإنسان وليس من الرزق، كما مرّ أنّ الرزق إنما هو إذا كان من الحلال، فليس من الرزق ما إذا كان من الحرام، نعم اللّه قد يعاقب مرتكب الحرام بأن ينقص من رزقه بمقدار ما اكتسبه بالحرام، فهو يتحمل الوزر من غير أن يزيد في الرزق.

وعليه فإذا كان التفضيل من اللّه تعالى فلا معنى للتباغض، إذ لا ذنب للمفضَّل في ذلك.

وقوله: {بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ} قيل: فيه إثارة العاطفة بأنّ الذي فضّله اللّه هو منكم وبعضكم فلماذا الحسد منه، وهل يحسد العاقل بعضه أو من يهمّه أمره؟!

الثالث: قوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ...} الآية.

بيان لأحد سببي التفضيل وهو السبب الاختياري، فاللّه تعالى قد قدّر رزق جميع العباد، لكن أمرهم بطلبه، فمن طلبه وصل إليه، ومن لم يطلبه لم يصل إليه، لا لأنّ اللّه لم يرزقه، بل اللّه رزقه لكنه لم يطلبه، كالذي يبقى جائعاً إلى أن يموت وقريب منه الأطعمة، فلا يقال: إنه لم يرزق، بل يقال:

ص: 167

إنه لم يستفد من رزقه.

ثم إنّ اللّه قد جعل الأسباب مختلفة من حيث صعوبتها ومن حيث نتائجها، فقد يرزق شخصاً رزقاً كثيراً بجهد قليل، وقد يرزق آخر رزقاً قليلاً بجهد كبير.

وعليه فالرزق مقسوم - قلة وكثرة - مع أمرنا بطلبه، فمن طلبه وصل إليه، فعليه أن لا يتمنى رزق الآخر، بل يرضى ويقنع بما قسمه اللّه تعالى له.

وقوله: {نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ} أي جزء من كسبهم يكون لهم، فهؤلاء بجهدهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه، فأنتم أيضاً اجتهدوا، فلعلّ اللّه قدّر لكم مثل ما قدّر لهم أو أكثر لكن شرطه بجهدكم، ومن في قوله: {مِّمَّا} تبعيضية، أي بعض ما اكتسبوا؛ لأن بعضه الآخر قد تتعلّق به الحقوق الشرعية، كالخمس والزكاة أو حقوق الناس كنفقة واجبي النفقة، كما أنّ العادة أن يترك الناس بعض أموالهم لورثتهم، وقوله: {اكْتَسَبُواْ} من باب الافتعال الذي يفيد التكلّف والمشقة، ولعل استعماله هنا - مع أنّ بعض الرزق بالكسب بلا كلفة - للمقابلة مع الإرث الذي يأتي الإنسان بتشريع شرعي من غير طلب أصلاً.

وقوله: {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} حيث ذكر الرجال ذكر النساء أيضاً منعاً لعادة جاهلية بمنع النساء من جهود عملهن ومصادرة آبائهن أو أزواجهنّ له!

وقوله: {وَسَْٔلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} لبيان أنّ هناك تقدير أموال غير الأرزاق، وقد يعبّر عنها بالرزق المعلّق، حيث إنّ اللّه قسّم الرزق بين العباد، لكنه ترك كثيراً من ذلك بلا تقسيم، بل تركه للداعين حينما يدعون

ص: 168

فيستجيب دعاءهم، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ليس من نفس إلاّ وقد فرض اللّه لها رزقاً حلالاً يأتيها في عافية، وعرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن تناولت من الحرام شيئاً قاصّها به من الحلال الذي فرض اللّه لها، وعند اللّه سواهما فضل كثير»(1).

وقد مرّ فضل الدعاء وسبب تقدير اللّه تعالى إجابة الدعاء، وأنه كمال للإنسان بحيث يتقرب بالدعاء إلى اللّه تعالى، وأيضاً بذلك يرتقي فتصبح له القابلية لفضل اللّه عليه، بما لم يكن له قابليته قبل الدعاء، وفي الحديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ اللّه تعالى أحب شيئاً لنفسه وأبغضه لخلقه، أبغض عزّ وجلّ لخلقه المسألة، وأحب لنفسه أن يُسأل، وليس شيء أحب إليه من أن يُسأل، فلا يستحيي أحدكم أن يسأل اللّه عزّ وجلّ من فضله ولو شسع نعل»(2).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} كالتعليل للنهي عن التمني، فإنّ اللّه عليم؛ فلذلك فضّل بعضكم على بعض، وأيضاً لإيجاد حالة الرجاء في الداعي، فلمّا أمرهم بالسؤال من فضله رغّبهم فيه بأنه عالم بدعائهم فيستجيب لهم، وأيضاً عليم بما يضمرونه في قلوبهم من التمني والحسد أو الغبطة وصدق الدعاء.

الرابع: قوله تعالى: {وَلِكُلّٖ جَعَلْنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ...} الآية.

بيان للسبب الآخر من التفضيل، وهو السبب غير الاختياري، أي الإرث، فالمصلحة اقتضت بأن تقسّم تركة الميت بين ورثته من دون سعي لهم فيتلك الأموال، فلذا شرّع اللّه الإرث، وبيّن من يستحقه ، ومقدار ما يستحقه،

ص: 169


1- تفسير العياشي 1: 239.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 70.

فتارة الإرث بالنسب، وأخرى بالسبب، والآية بينت كلا النوعين بإجمال؛ لأنّ الغرض في بيان تفاضل الناس في الأموال وسبب ذلك التفاضل، وليس المقصود التفصيل في أحكام هذه الأسباب.

وقوله: {وَلِكُلّٖ} أي لكل من الرجال والنساء، وهذا تأكيد لحق النساء في أموال الإرث أيضاً لئلا يستولي عليها الرجال.

وقوله: {مَوَٰلِيَ} أي مَن هم أولى بأمواله من غيرهم، وكلمة (المولى) اسم مكان أو مصدر ميمي من مادة (و ل ي)، ومعناه الأولى بالشيء أو الشخص، ولذا يقال للعبد ولسيده؛ لأن السيد أولى بعبده من غيره، ويقال للناصر؛ لأنه أولى من غيره بالنصرة، ولابن العم؛ لأنه أولى بنصرة بني عمومته أو لأنه الأولى بالزواج ببنت عمّه، وللحاكم لأنه أولى بالتصرف بالحكومة من غيره، وفي حديث الغدير قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه»(1).

والورثة أولى بإرث الميت من غيرهم، قال: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَٰلِيَ مِن وَرَاءِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}(2).

وقوله: {مِمَّا تَرَكَ} متعلق ب {مَوَٰلِيَ} أي الذي له الأولوية من ما تركه الميت، أو متعلق بمحذوف، أي موالي يرثون ممّا ترك، و(من) للتبعيض، إذ جزء من أموال الميت تكون للدين والوصية ونحو ذلك.

ص: 170


1- الحديث متواتر رواه الفريقان، وكمثال: توحيد الصدوق: 212؛ مسند أحمد 1: 118؛ تفسير نور الثقلين 4: 237.
2- سورة مريم، الآية: 5-6.

وقوله: {الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} بيان للإرث بالنسب، فحاصل المعنى: وقد جعلنا لكل من الرجال والنساء من هم أولى به من غيرهم يرثون ما تركه والداهم وأقربوهم.

الإرث بالسبب

وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} بيان للإرث بالسبب، وهو يتحقق بالمعاهدة بين الطرفين، والأيمان جمع يمين إما بمعنى اليد اليمنى مقابل اليسرى؛ لأنهم كانوا يصفقون باليُمنى دلالةً على إبرام العقد، وإما بمعنى الحلف والقسم؛ لأنهم كانوا يحلفون للوفاء بالعقد.

والإرث السببي على أربعة أصناف:

1- الزوجان، وعهدهما في عقد النكاح، كما قال تعالى: {وَلَا تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ...}(1)، وقال: {أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}(2)، فهذا العهد بينهما أوجب حقاً لهما في إرث كل منهما عن الآخر، والزوجان يرثان مع جميع الطبقات، فلا يحجبان وارثاً ولا يحجبهما وارث.

2- المعتق، فمن أعتق عبداً ولم يكن للعبد وارث نسبي ورثه مولاه الذي أعتقه، والعتق كالعهد؛ لأنه إيقاع لازم الوفاء به فكأنه صار عهداً في ذمة المولى.

3- ضامن الجريرة، وهو الذي يتعاقد مع الإنسان على ضمان جناياته وبالعكس، فيثبت عليه الضمان حال وقوع الجناية، ويثبت له الإرث في حاللم يكن للميت وارث نسبي ولا معتق.

ص: 171


1- سورة البقرة، الآية: 235.
2- سورة البقرة، الآية: 237.

4- الإمام (عليه السلام) ، حيث إنّ اللّه تعالى أخذ العهد من الناس بالاعتقاد به وبطاعته، وهو وارث من لا وارث له، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) في هذه الآية أنه قال: «إنما عنى بذلك الأئمة (عليهم السلام) ، بهم عقد اللّه عزّ وجلّ أيمانكم»(1).

والتفصيل يطلب من كتب الفقه والحديث(2).

وقوله: {فََٔاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} الضمير يرجع إلى {كُلِّ} أي كل واحد من الرجال والنساء الذين هم أولى بالميت - سواء كان بالقرابة أم بالسبب - فلا بد من إعطائهم نصيبهم من الإرث من غير بخس، رغم أنهم لم يكتسبوا هذا المال بجهدهم، لكن اللّه تعالى تفضّل به عليهم لمصالح أمور العباد.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدًا}.

حيث أمرهم بإيتاء نصيب الورثة، حذّرهم عن التهاون في هذا الحكم، بأنّ اللّه تعالى شاهد لأعمالكم عالم بها، ويترتب على ذلك الجزاء بعقاب من بخسهم أو منعهم حقهم.

ولا يخفى الفرق بين هذه الآية حيث وصف اللّه بالشهادة، والآية السابقة حيث وصف بالعلم، مع أنّ مآل الشهادة إلى العلم أيضاً؛ وذلك لأنّ الغرض من الآية السابقة بيان صحة تشريعه واستجابته للدعاء فناسب وصفه بالعليم، وفي هذه الآية الغرض التحذير من بخس حق الورثة فناسب تهديدهم بالعقاب بوصفه بأنه الشاهد لأعماله، ففيه إشعار بأداء الشهادة وما يترتبعليها من الجزاء، واللّه العالم.

ص: 172


1- الكافي 1: 216.
2- كمثال راجع وسائل الشيعة 26: 233-257.

الآيتان 34-35

اشارة

{الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ فَالصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا 34 وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَٰحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا 35}

ثم بين اللّه تعالى سبب اختلاف نصيب الرجال والنساء من الإرث فقال:

34- {الرِّجَالُ} ومنهم الأزواج {قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ومنهن الزوجات، والقوامة هي أدارة شؤونهنّ، فإنّ الإسرة - ككل تجمع - بحاجة إلى مدير وإلاّ دبّت الفوضى، {بِمَا} الباء سببية وما مصدرية {فَضَّلَ اللَّهُ} أي بسبب تفضيل اللّه {بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ} فالرجال فضّلوا بغلبة عقولهم على عواطفهم، والنساء فُضّلن بغلبة عواطفهن على عقولهن، فهذا سبب ذاتي لإعطاء إدارة الأسرة للرجال، {وَبِمَا أَنفَقُواْ} على النساء {مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ} وهذا سبب وضعي، بمعنى أنه لا بد في الإرادة الناجحة من أن يكون قرار المال بيد المدير، وحيث وجب الإنفاق على الرجال جعلت الإدارة لهم، ولا بد للنساء من قبول هذه القيمومة؛ لأنها لمصلحتهن.

ص: 173

{فَالصَّٰلِحَٰتُ} أي غير الناشزات اللاتي سلّمن أمر اللّه تعالى {قَٰنِتَٰتٌ} أي مطيعات لأزواجهن {حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ} في حال غياب الزوج يحفظن عرضهوماله {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} أي بالطريقة التي جعلها اللّه للحفظ، أي حفظ حسب الموازين الشرعية.

ويقابل هؤلاء الصالحات الناشزات: {وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} بأن ظهرت علائمه، والنشوز هو التمرد وعدم الطاعة، فلإرجاعهن إلى الطاعة استعملوا ثلاثة طرق بالترتيب: {فَعِظُوهُنَّ} بمواعظ تؤثر فيهن ليرجعن إلى بيت الطاعة، {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} بالزعل منهن بعدم الإقبال عليهن في الفراش، أو عزل فراشه عن فراشها وعدم مباشرتها، {وَاضْرِبُوهُنَّ} إن لم تنفع الموعظة، ضرباً للتأديب لا للتشفي، فلذا لا بد أن يكون غير مبرّح وبغرض تنبيهها لكي تراعي الشرع، {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} بعد استعمال هذه الأساليب {فَلَا تَبْغُواْ} لا تطلبوا بالبغي {عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} في إيذائهن، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} تهديد للباغي بأنّ اللّه أعلى وأكبر فيمكنه عقابه، هذا في نشوز الزوجة، وأما نشوز الزوج فقد تم بيانه في الآيات 128-130 من هذه السورة.

35- {وَإِنْ} لم تنفع كل الطرق الثلاثة و{خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} بأن وصل الخلاف إلى مرحلة غير قابلة لعلاج الزوج له، أو لأنه لم يراعِ الشرع فكان هو المتمرد {فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} بغرض الإصلاح وحلّ الخلافات، فحكمان أقرب إلى مراعاة العدل، وهما أعرف ببواطن الزوجين؛ لأنهما من أهلهما {إِن يُرِيدَا} يريد الحكمان {إِصْلَٰحًا}

ص: 174

بأن كانت النية صادقة وعملهما صحيحاً لا بالعناد {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} بين الحكمين أو بين الزوجين، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بالسرائر وقصد الحكمين {خَبِيرًا} في كيفية التوفيق ورفع الشقاق.

بحوث

الأول: حيث إنّ الآيات السابقة جمعت بين أحكام النساء وأحكام الأموال، مع ارتباط الأمرين ارتباطاً وثيقاً، فتارة حكم مالي سببه الأمور الأسرية ونحوها وتارة العكس، لذلك جمعت هذه الآيات ذكر الأمرين بنسق بديع وتنظيم دقيق، وحيث إنّ الآية السابقة كانت بياناً للإرث وأن للنساء نصيباً منه، جاءت هاتان الآيتان لبيان سبب مضاعفة نصيب الرجال على نصيب النساء في الإرث، وذلك عبر ذكر قاعدة عامة هي أنّ إدارة شؤون الأسرة إنما هي للرجال بسبين ذاتي ووضعي، أما السبب الذاتي فهو التفاضل الموجود بين الجنسين، حيث إنّ الرجال أفضل من جهة والنساء أفضل من جهة أخرى خلقةً وتكويناً، وجانب تفضيل الرجال اقتضى جعل إدارة الأسرة لهن، وجانب تفضيل النساء اقتضى جعل التربية لهن، وأما السبب الوضعي فهو أنّ المال من أهم مقومات الإدارة، وهو عادة عند الرجال؛ فلذلك وجبت نفقة النساء عليهم، فكان لا بد من كون الإدارة بيدهم أيضاً.

قيمومة الرجال

الثاني: قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَبِمَا أَنفَقُواْ}.

(القيمومة) رعاية الشيء وحفظه وتدبير أمره، و(القَوّام) صيغة مبالغة بمعنى

ص: 175

الكثرة والدوام، والمراد إدارة شؤون النساء جعلت للرجال؛ وذلك لأنّ الإنسان مدني بالطبع، ولكل واحد من الناس أفكار ورغبات، فإذا اجتمعوا في مجتمع صغير كالأسرة أو كبير فلا بد لهم من مدير يكون اتخاذ القرار النهائيبيده، درءاً للفوضى ومرجعاً حين اختلاف الآراء، ولذا بيّن الإمام علي (عليه السلام) حكم خطأ الخوارج حينما زعموا عدم الاحتياج إلى الأمير فقال: «لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر»(1)، وفي عالم اليوم رغم كل التطور ازدادت الحاجة إلى المدراء، سواء في الأمور الاجتماعية أم الاقتصادية أم السياسية أم غيرها، وحيث كان لا بد من مدير لذلك جعل اللّه تعالى الولاية العامة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن بعده للمعصومين (عليهم السلام) ، ضمن ضوابط وقوانين، وحتى العالم الديمقراطي لم يستغن عن رأس للدولة، وإنما حلّوا مشكلة الاستبداد بجعل آليات لانتخاب الرأس وضوابط تتحكم في كيفية اتخاذه القرار.

وحيث إنّ الأسرة كيان اجتماعي يتكوّن من الزوجين في البداية ثم يضاف إليهما الأولاد، كان لا بد من جعل مدير لها، والحكمة الإلهية اقتضت في خلق الرجل بكيفية يصلح لهذه الإدارة، فجعله اللّه قوّاماً على الأسرة ضمن ضوابط حدّدها له؛ لئلا يظلم الرجل وليكون هناك طريق لرفع الظلم إن لم يراع الرجل الشرع.

فخلق اللّه الرجل والمرأة كاملين من جهة الجسم والمشاعر والعقل، وإنما كان الاختلاف في التركيبة الجسدية؛ لأجل أنّ المهام الموكلة لكل واحد منهما تختلف عن الآخر، وأما المشاعر والعقل فهما في الجنسين سواء، إلاّ

ص: 176


1- نهج البلاغة، الخطبة: 40.

أنّ مهمة المرأة في الحمل والإرضاع وتربية الأولاد اقتضت غلبة المشاعر والعواطف عليها، ومهمة الرجل اقتضت العكس، فلعلّ النقصان المذكور في بعض الروايات لا يراد به القِلّة، بل يراد به - بحسب الظاهر - غلبة أحدالجانبين على الآخر، فالمرأة أعطف من الرجل، مع أنّ عاطفة الرجل كاملة أيضاً، والرجل أعقل مع أنّ عقل المرأة كامل أيضاً، بمعنى أنّ تأثر المرأة بعاطفتها وإظهارها لها أكثر، وتأثر الرجل بعقله وإظهاره له أكثر، مع عدم التفاوت بينهما لا في عقل ولا في عاطفة، واللّه العالم.

وهذا الفرق التكويني استدعى فرقاً تشريعاً، بأن يكلّف الرجل بالعمل والكدّ لينفق على الأسرة، وتنشغل المرأة بأمور الحمل والرضاع والتربية وكذا سائر أمور المنزل، فكان المال غالباً بيد الرجال ووجبت عليهم النفقة، وهذا أيضاً يقتضي قيمومة الرجل، إذ لا تنجح إدارة من غير مال، ومن ليس بيده المال لايتمكن من إدارة من بيده المال إلاّ نادراً.

إذن فهذان صارا سبباً لجعل القيمومة للرجال على النساء، وهذه قضية طبيعية فطرية، وفي غالب القوانين تراعى الحالة الغالبة، ثم يتم وضع قانون عام يشمل حتى الحالة غير الغالبة، فلا يقال: إنّ بعض النساء أكثر تعقلاً من رجالهن وأحسن تدبيراً لأمور المنزل منهم، وإنّ بعضهن أكثر أموالاً، بل قد ينفقن على أزواجهن!! وذلك لأنّ القانون ينظر إلى الحالة العامة دون الحالات الاستثنائية، مع عدم إمكان تشريع خاص للحالات الاستثنائية هنا وخاصة في أمثال هذه الأمور الاجتماعية، حيث يمكن لكل رجل أو امرأة أن يدعي أنه من الحالة الاستثنائية، فكان لا بد من تشريع قانون عام مع

ص: 177

وضع ضوابط وآليات حلّ الخلافات الناتجة.

المساواة بين الرجال والنساء

وقوله: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ} فسرّه غالب المفسرين بأن المراد تفضيل الرجال على النساء، لكن استعمال كلمة البعض في المفضّل والمفضّل عليه قد يكون قرينة على إرادة تفضيل كل من الجنسين على الآخر من جهة، فاللّه تعالى فضّل الرجال على النساء من جهة قوة الجسم وغلبة التعقل ونحو ذلك، كما أنه سبحانه فضّل النساء على الرجال من جهة التربية وإظهار المشاعر الإنسانية النبيلة ونحو ذلك، وهذا الفارق التكويني يستتبع أحكاماً خاصة لكل من الجنسين، وأما في غير جهة الفرق فكلاهما مشتركان في كل الأحكام.

وحتى العالم الذي يسمّى بالمتحضر لما أراد رفع شعار المساواة من كل الجهات اصطدم بواقع الاختلاف التكويني، ولذلك ركّزوا على تحديد النسل - بما يستتبع ذلك من آفات ومحاذير على البشرية - لكي يرفعوا عن المرأة عبء الحمل والإرضاع والتربية، وكثروا الحضانات، بأن استبدلوا بالأم مرأة أخرى ترعى شؤون الأطفال، فالأم تركت طفلها لتذهب إلى وظيفتها، والحاضنة تركت أسرتها لترعى طفل غيرها!! وهل تقاس الحاضنة بالأم عطفاً وشفقة وحناناً، وهل تُحرم امرأة أخرى عن تكوين الأسرة أو عن رعاية أسرتها؛ لأنها تضطر إلى العمل لأطفال أسرة أخرى!! هذا فضلاً عن أن شعار المساواة في كل شيء لم يخدم إلاّ في تفكيك الأسر ونشر الفساد والأمراض النفسية وازدياد الطلاق ونحو ذلك، وليس هذا الشعار في الجانب الاجتماعي إلا كشعار الشيوعيين في المساواة في كل شيء في

ص: 178

الجانب الاقتصادي الذي لم يلحق بالبلدان الشيوعية إلا انهياراً اقتصادياً فضيعاً رغم كونه شعاراً كاذباً لم يتم تطبيقه إلاّ لمصادرة أموال الناس وابتزازهم حقوقهم.ثم لا يخفى أنّ هذا تفضيل دنيوي، وأما الآخرة فالتفاضل بالتقوى كما قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

والذي يدل على كون التفضيل للجانبين ما روي عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «جهاد المرأة حسن التبعّل»(2) فقد فضّل اللّه الرجال بالجهاد وثوابه لمناسبته تركيبتهم، وعوّض النساء عن ذلك بأمر آخر هو أسهل لهنّ مع مشاركته لثواب الجهاد.

وقوله: {وَبِمَا أَنفَقُواْ} بيان للسبب الآخر للقيمومة، وهو سبب تشريعي وضعي كما ذكرناه؛ فلأنهم وجب عليهم الإنفاق لذلك جعلت القيمومة لهم؛ لئلا يحصل خلل إداري تنهار بسببه الإدارة، إذ لا تستقيم الإدارة لو لم يكن الإنفاق بيد المدير، كما هو واضح.

كما أنّ الحقوق بين الزوجين متكافئة، فكما وجب على الزوج الإنفاق كذلك وجب على المرأة طاعته.

ثم إنّ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ} من دون أن يقول الأزواج والزوجات: لعلّه لبيان قاعدة عامة يكون الزوجان من مصاديقها، فكل ما فيه القيمومة فهو للرجال، فتدخل فيه الولاية والقضاء وذلك من

ص: 179


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الكافي 5: 507.

الأمور العامة.

ويستفاد من الآية أنّ القيمومة إنما هي فيما ترتبط بالحياة الزوجية أو الحياة العامة، لا بما ترتبط بأمرها الشخصي الفردي، فلذا حصرت الرواياتذلك بالفراش وبالخروج من المنزل، حيث إنهما يرتبطان بالحياة الزوجية، وأما أموالها وتجارتها الشخصية بما لا ينافي حقوق الزوج فلا قيمومة، بل لها الحرية فيها ضمن الضوابط الشرعية، هكذا قيل.

الثالث: قوله تعالى: {فَالصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}.

بعد بيان القيمومة، تمّ بيان أنّ النساء بالنسبة إلى قبولها ينقسمن إلى قسمين، فبعضهن صالحات، وأخريات ناشزات، وبيان حكم كل من القسمين.

وقوله: {فَالصَّٰلِحَٰتُ} مقابل الناشزات، أي اللاتي خضعن لقضاء اللّه وحكمه، فصلحت نفوسهن، وفيه إشعار بأنّ القيمومة عليهن ليست استهانة بهن ولا حطاً من كرامتهن، بل هو صلاح لهن، وهؤلاء يجب عليهن أمرين، ذكرهما اللّه تعالى بشكل الخبر، فهما إخبار بقصد إنشاء الوجوب.

الأمر الأول: قوله تعالى: {قَٰنِتَٰتٌ} أي مطيعات لأزواجهن فيما يرتبط بالقيمومة - أي جهة الاشتراك بينهما - في الفراش وفي الخروج من المنزل، فذلك من حقوق الزوجية، وكذا ينبغي لها أن تطيعه في غير ذلك على سبيل الاستحباب، ولو أحسن الرجل القيمومة وبنى الحياة على السكن والمودة والرحمة لأطاعته الزوجة طوعاً في كل شيء عادة، وقيل: المراد قنوتهن للّه تعالى في إطاعة أمره بقبولهن قيمومة الرجال عليهن.

ص: 180

الأمر الثاني: قوله تعالى: {حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ} أي لا تنحصر مراعاة حقوق الزوج في حالة حضوره، بل حتى في حال غيابه، تحفظ المرأة عرض الرجل، بأن تحفظ نفسها عن الفحشاء، كما تحفظ أموال الزوج وسائرأموره في حالة غيابه.

والحاصل صلاح يستتبع إطاعةً في حال الحضور وحفظاً في حال الغياب، وبذلك توصف المرأة المؤمنة السعيدة.

وقوله: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (الباء) سببية و(ما) موصولة، والعائد محذوف، أي بسب التشريع الذي أنزله اللّه تعالى، فحفظه اللّه بمعنى التشريع الذي أنزله حافظاً له من الزوال أو التحريف، فاستعمل الحفظ بمعنى التنزيل توسعاً، وقيل: (الباء) للاستعانة و(ما) مصدرية أي باستعانتهن بحفظ اللّه ورعايته تمكنت الصالحات من حفظ الغيب، فلولا هداية اللّه ولطفه لما اهتدى أحد قال: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَىٰنَا اللَّهُ}(1).

الرابع: قوله تعالى: {وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ...} الآية.

بيان للقِسم الثاني من النساء، وهن المتمردات اللاتي رفضن حكم الشرع بقيمومة الرجال عليهن، وهؤلاء لا بد من تأديبهن ليرجعن إلى رشدهن وإلى الصواب، وقد روعي التدرج في نهيهن عن المنكر.

وقوله: {تَخَافُونَ} أي ظهرت بوادر النشوز وعلائمه فأورث ذلك خوف الأزواج من تحقق النشوز فعلاً، والآية تشمل الناشزة فعلاً بالأولوية، وقيل:

ص: 181


1- سورة الأعراف، الآية: 43.

المراد علمتم نشوزهن وكثيراً ما يعبّر عن العلم بالخوف، بقرينة أنّ الهجران والضرب يختصان بصورة النشوز فقط، والأولى أن يقال: إنّ الخوف بمعناه الأعم، سواء ظهرت العلائم أم تحقق النشوز، والتدرج في الحكم منالموعظة إلى الضرب هو نتيجة التدرج من الخوف إلى اليقين.

وقوله: {نُشُوزَهُنَّ} أصل الكلمة بمعنى الارتفاع، والمراد ارتفاعها من الطاعة وعن تطبيق حكم الشرع.

وعليه فالناشز لا بد من تأديبها لترجع إلى حكم الشرع بثلاث طرق متدرجة قبل أن يصل الأمر إلى القضاء، فجعل حلول داخلية قد تحلّ بها أكثر المشاكل خير من إرجاع المشاكل فوراً إلى القضاء، وخاصة أنه بالرجوع إلى القضاء تقلّ فرص الحلّ، فالزوج عليه أن يتدرج في...

1- الموعظة، وهي كلام يرق له القلب فيه النصح وإراءة طريق تجاوز المشكلة.

2- الهجران في المضاجع، أي بالزعل منها، ويتحقق ذلك بعزل فراشه عن فراشها أو بإدارته ظهره لها، وهذه طريقة عملية عاطفية تثير عاطفة الزوجة، وقد تصير سبباً لرجوعها عن نشوزها، وقيل: قد يتحقق الهجران بترك مباشرتها!! لكن الغالب أنّ نشوزها هو بعدم تمكينها!!

3- والضرب، ضرباً تأديبياً لا ضرباً للتشفي، فلذا لا بد أن يكون غير مبرّح وبغرض التزامها بأحكام الشرع.

فإنّ الأمر يدور بين حفظ كيان الأسرة وحفظ أحكام الشرع من جهة، وبين الضرب غير المبرّح من جهة أخرى، والثاني أخف مؤونة وأحسن

ص: 182

للمجتمع وللأسرة وللمرأة نفسها.

وقد يتساءل بأنّ الضرب هل يناسب الكرامة الإنسانية؟

والجواب: أنّ هذا الضرب طريق إلى حفظ هذه الكرامة، فلم يشرّعاعتباطاً، بل حين مخالفة المرأة لحكم اللّه، مخالفة قد تؤدي إلى هدم كيان الأسرة، فالتأديب بهذه الكيفية إرجاع لها للطاعة وحفظ كيان الأسرة، وهذا هو عين الكرامة الإنسانية، بل كل تأديب هو حفظ لكرامة المؤدَّب، وكل عقوبة حفظ لكرامة المجتمع، بل أحياناً حفظ لكرامة الجاني لردعه عن التكرار أو المبالغة في الجريمة.

ضرب الناشز

وقوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} بيان أنّ الضرب خاصّ بحالة النشور، فلا يجوز الضرب اعتباطاً، أو في تركهن ما لا يجب عليهن، بل إن أطعن الأزواج فيما يجب - وهو الفراش والخروج - فلا يحق للأزواج ضربهن لأي سبب آخر.

وقوله: {فَلَا تَبْغُواْ} من البغي، ولهذه المادة معنيان: الطلب والظلم، والمراد هنا الأول أي فلا تطلبوا، ويمكن إرادة الثاني بنوع من التوسع.

وقوله: {سَبِيلًا} أي في ضربهن أو إيذائهن، أو طلب العِلل والحِجج الواهية لإيذائهن وتحقيرهن، وتنكير {سَبِيلًا} للتعميم أي لم يجعل اللّه لكم أي طريق للنيل منهن لو أطعنكم فيما وجب عليهن.

وقيل: معناه أنّ عليهن الإطاعة فلا تكلفونهن الحب القلبي، فعليكم بالظاهر ولا تتحججوا بالباطن.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} لعلّه نوع تهديد للأزواج الذين يخالفون هذا الحكم، فيقال لهم: إن تمكنتم من ظلم زوجاتكم لضعفهن

ص: 183

فاعلموا أنّ اللّه تعالى سيجازيكم وهو قادر على ذلك.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا...} الآية.بيان لحالة أخرى، وهي حالة الخلاف الشديد بينهما الذي قد يؤدي إلى الفرقة، فلو خاف الأقرباء والمحيطون بالزوجين حصول الفرقة بينهما فينبغي أن لا يتركوهما وحدهما، بل عليهم السعي في الإصلاح، وأفضل الأساليب هو اختيار حَكَم من أهل كل واحد من الزوجين، ومن المعلوم أنّ الناس يختارون للحكميّة الأوقر والأنضج والأكبر، وعادة يكون حكيماً مجرّباً، وغالباً يكونان مصلحين لا يريدان اللجاج والانفصال، كما أنّ كونهما من أهليهما أفضل؛ لأنهما أعرف ببواطنهما من الأجانب، كما أنه تسكن لهما نفوس الزوجين فيذكران سبب الخلاف وما يدور في الباطن، فيكون ذلك أقرب إلى حلّ سبب المشكلة وإصلاح الأمر، فهذان الحكمان إن سعيا لإصلاح الأمر فاللّه تعالى يوفق بين الزوجين؛ لأنه سبحانه رتب النتائج على الأسباب، فإذا تحققت الأسباب أوجد اللّه تعالى النتائج.

وحيث إنّ الغرض الإصلاح فلا يحق للحكمين الطلاق إلاّ إذا كانت لهما أو لأحدهما الوكالة من الزوج، وكذا لا يحق لهما الخلع إلا مع الوكالة من المرأة في البذل ومن الرجل في الطلاق.

وقوله: {خِفْتُمْ} أي بظهور بوادر الشقاق أو بتحقق الشقاق بينهما قبل الطلاق كما مرّ في الآية السابقة.

وقوله: {شِقَاقَ} بمعنى المخالفة والعداوة، كأنّ كل واحد منهما في شق

ص: 184

وجانب غير شق وجانب الآخر، وإضافة {شِقَاقَ} إلى {بَيْنِهِمَا} مجاز.

وقوله: {إِن يُرِيدَا} أي الحكمان إذا أرادا الإصلاح، فباعتبار كونهماحكمين وأيضاً من أهل الطرفين يكون علاجهما بحكمة وكلمتهما مسموعة.

وقوله: {إِصْلَٰحًا} لعلّ التنكير لأجل أنه عادة لا يمكن الإصلاح التام، بل أنصاف حلول ونوع من أنواع الإصلاح، وعليه فالإرادة تكون بمعنى العمل لأجل الإصلاح، وليس مجرد النية أو التمني!

وقوله: {يُوَفِّقِ اللَّهُ} من التوفيق، وهو بمعنى جعل الأسباب بعضها وفق بعض، فتكون متوافقة لحصول النتيجة، وقوله: {بَيْنَهُمَا} أي بين الزوجين؛ لأنّ الغرض هو إصلاح ما فسد من أمرها، وليس المراد التوفيق بين الحكمين، فكثيراً ما يتفق الحكمان من غير نتيجة بسبب مخالفة الزوجين أو أحدهما.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} تحذير للحكمين من الخيانة فهو يعرف قصدهما، كما أنه سبحانه خبير يعلم كيف يوفق ويهيّأ أسباب التوفيق.

ص: 185

الآيات 36-39

{وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا 36 الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا 37 وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَٰنُ لَهُۥ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا 38 وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا 39}

بعد ذكر أحكام الأسرة المالية والاجتماعية يتم بيان حكم العلاقات الاجتماعية بشكل عام، فقال تعالى:

36- {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ} أطيعوه فيما يأمركم وينهاكم {وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ} أي باللّه في طاعته {شَئًْا} كالشيطان والنفس، {وَ} أحسنوا {بِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَ} كذلك أحسنوا {بِذِي الْقُرْبَىٰ} سائر الأقرباء في النسب عبرصِلتهم واحترامهم وتقديم الهدايا لهم ونحو ذلك {وَالْيَتَٰمَىٰ} عبرحفظ أموالهم ومراعاة أحوالهم وغير ذلك، {وَالْمَسَٰكِينِ} بالصدقة عليهم والاهتمام بهم مثلاً، {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ} الجار الذي مسكنه قريب إليكم، {وَالْجَارِ

ص: 186

الْجُنُبِ} البعيد عنكم في الجوار بعدم إيذائهما وتحمل أذاهما وبسائر أنواع الإحسان، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} الذي يصاحبالإنسان ويكون في جنبه قريباً منه كرفيق السفر وزميل المدرسة ومن في المنزل معه، {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو من نفذت نفقته في السفر، بإعطائه ما يكفيه لرجوعه إلى وطنه، {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} أي العبيد والإماء بالعفو عن مسيئهم والتسهيل عليهم ونحو ذلك.

ويقابل الإحسان إلى هؤلاء الإساءة إليهم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ} أي لا يلطف أو لا ينزل الرحمة على {مَن كَانَ مُخْتَالًا} له خُيَلاء وتكبر فيستنكف عن الإحسان إلى هؤلاء {فَخُورًا} كثير الفخر عليهم بما عنده استطالة وتكبراً، وهؤلاء لا ينفقون على وجه الإحسان، بل يبخلون بذلك، لكن قد ينفقون لأجل الرياء، فبخلهم مخالفة لأمر اللّه، وإنفاقهم كذلك.

37- وصفة المختال الفخور{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بأموالهم {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي استمكنت في نفوسهم الرذيلة بحيث يريدونها من أنفسهم ومن غيرهم! {وَيَكْتُمُونَ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} أي ينكرون فضل اللّه عليهم في أموالهم، أو يخفون تلك الأموال كي لا يعرف الناس بذلك فيتوقعون منهم، مع أنها ليست لهم في واقعها، بل هي فضل من اللّه تعالى، ثم ذكر جزاءهم فقال: {وَأَعْتَدْنَا} هيئّنا {لِلْكَٰفِرِينَ} الذين يكفرون بنعمة اللّه تعالى عليهم ولا يطيعونه فيما أمرهم فيها {عَذَابًا مُّهِينًا} يهينهم ويذلّهم.

38- {وَالَّذِينَ} إذا أنفقوا فإنما {يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} لأجل

ص: 187

الرياء، فكبرياؤه تسوقه إلى أن يكون إنفاقه لسمعة نفسه لا للإحسان أو إطاعة اللّه، {وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ} فليس سبب إنفاقه طلبوجه اللّه تعالى أو رغبةً في ثواب أو خوفاً من عقاب، {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَٰنُ لَهُۥ قَرِينًا} مقترناً فينهاه عن الإحسان {فَسَاءَ قَرِينًا} أي هو قرين سيّئ؛ لأنه يزيّن له المعصية التي تسبب خسارة الدنيا والآخرة.

39- {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} ما كان يضرهم، وهذا توبيخ لهم وحث على الإيمان {لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} فأحسنوا طلباً لمرضاته تعالى ورغبة في ثوابه وخوفاً من عقابه {وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} وعيد لهم ووعد لمن أحسن لوجه اللّه، فاللّه عالم بكل التفاصيل فيجازيهم على أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا...} الآية.

بعد بيان جملة من الأحكام المالية والاجتماعية المرتبطة بالأسرة، يتم بيان الحالة العامة للمجتمع الإسلامي - والتي تكون الأسرة جزءاً منه - وهو مجتمع يبتني على الإحسان والإنفاق...

فأمّا الإحسان: فإلى القريب في النسب وإلى القريب في المكان وإلى المصاحب وإلى الضعفاء وإلى ذوي الحاجة وإلى من هم تحت سلطة الإنسان.

وأمّا الإنفاق: فالواجب والمستحب، حيث يتم التكافل الاجتماعي وخاصة لذوي الحاجات.

فالمجتمع السليم يبتني على هذين الأمرين، وبسلامة المجتمع تسلم الأسرة

ص: 188

أيضاً، والعكس أيضاً صحيح، فالمجتمع يتركب من مجموعة من الأسر.

ويبدأ اللّه تعالى هذه الأحكام بالأمر بعبادته وعدم اتخاذ شريك له، ثميأمر بالإحسان والإنفاق، وذلك أوقع وأكثر تأثيراً، حيث تتبيّن أهميتهما؛ لذلك قرنهما اللّه بأهم أمر ديني وهو العبادة وعدم اتخاذ الشريك، مضافاً إلى أنّ مخالفة هذه الأحكام إنما هي بسبب عدم إطاعته وإطاعة الشركاء سبحانه وتعالى عمّا يصفون.

وقوله: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ} أي أطيعوه، فإنّ العبادة في الأصل بمعنى شدة الخضوع وغاية التذلل، كقوله: {فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَٰبِدُونَ}(1)، والإطاعة في كل شيء ومن كل الجهات خاصة باللّه تعالى، ولا تجوز إطاعة أحد في كل شيء إلاّ لو أذن اللّه تعالى بذلك، فتكون إطاعته في حقيقتها إطاعة للّه تعالى كما قال: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(2)، وقال سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَٰبَنِي ءَادَمَ أَن لَّا تَعْبُدُواْ الشَّيْطَٰنَ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ}(3)، فيكون أمره تعالى بعبادته كالمقدمة لبيان لزوم إطاعته في الأحكام التي ستذكر.

وقوله: {وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا} سواء شرك في الألوهية أم شرك في الطاعة، فاتخاذ الشيطان شريكاً في الطاعة يكون سبباً لترك أحكام اللّه تعالى والانسياق وراء إغوائه، ومن ذلك الرياء الذي سيأتي ذكره في الإنفاق رئاء

ص: 189


1- سورة المؤمنون، الآية: 47.
2- سورة النساء، الآية: 80.
3- سورة يس، الآية: 60-61.

الناس، وقوله: {شَئًْا} أي أحداً من شياطين الإنس والجن والتعبير بالشيء تحقير لهم.

وقوله: {بِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا} أي أحسنوا بالوالدين إحساناً، والإحسان هو فعل الحسن زيادة على العدل، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَٰنِ}(1)، فلو ذكر الإحسان منفرداً شمل العدل أيضاً، ويكون الإحسان في القول والعمل والإنفاق في كل ما يصدر من الإنسان تجاه الآخر، فالآيات السابقة بينت العدل تجاه الوالدين وذوي القربى بإيتائهم نصيبهم، وهذه الآية تبيّن الإحسان زيادة على ما مضى؛ وإنما قدّم الوالدين لعظم حقهما على سائر المذكورين.

وقوله: {وَبِذِي الْقُرْبَىٰ} أي سائر القربات النسبيّة، وهو تعميم بعد تخصيص، لبيان مزية الوالدين على سائر القربات، فكأنه قال وأحسنوا بالقرابات وخاصة بالوالدين.

وقوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ} أي الجار القريب في مسكنه، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أي الجار البعيد في المسكن، حتى لا يتوهم الإنسان أنّ الحكم خاص بالجار القريب، وفي بعض الروايات الجوار إلى أربعين(2)، وقيل: المراد الجار القريب في النسب، فله حقان: حق القرابة وحق الجوار، الذي لا تربطه رابطة النسب، وقيل: الجار القريب هو المسلم والجار الجنب هو غير المسلم، والأول أظهر.

ص: 190


1- سورة النحل، الآية: 90.
2- الكافي 2: 669.

وقوله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} أي الذي يصحب الإنسان وهو في جنبه، كرفيق السفر، وزميل الدراسة، وشريك التجارة، بل حتى الزوجة، ومنيشترك في المنزل مع الإنسان.

وقوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو المنقطع في سفره والذي نفذت نفقته، فكأنه لا يُعرف عنه شيء سوى أنه سالك الطريق فكأنه ابنه.

وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} أي العبيد والإماء.

والحاصل ينبغي الإحسان إلى كل هؤلاء، فبعضهم للقرابة، وبعضهم لضعفهم أو حاجتهم، كاليتامى والمساكين وابن السبيل، وبعضهم للسكن أو العيش معهم كالجار والصاحب، وبعضهم لسلطة الإنسان عليهم كالعبيد والإماء، وهذا لا ينافي الإحسان إلى غير هؤلاء المذكورين، لكن محل الإحسان عادة هؤلاء، أما البعيد غير المحتاج فلا موضوع للإحسان إليه عادة، لكن إن صار مورداً لذلك فالإحسان إليه مطلوب أيضاً.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}.

هذا كالتعليل للأمر بالإحسان إلى هؤلاء، فإنّ الذي لا يحسن إنما سبب عدم إحسانه الاختيال وكثرة الفخر.

وقوله: {مُخْتَالًا} أي ذا الخيلاء، وهو الذي يأنف ويتكبر على غيره، والسبب المال وحبّه عادة فيبخل ويترك الإحسان، وذلك كفران للنعمة وعدم شكرها وعدم شكر منعمها.

وقوله: {فَخُورًا} صيغة مبالغة من الفخر، أي يفتخر على الغير تطاولاً وتكبراً، وسبب ذلك طلب الجاه عادة، ولذلك ينفق المال للرياء لكي

ص: 191

يحصل على الجاه أو يزيده.

نعم الفخر إذا لم يكن عن تطاول وتكبر، بل طريق لنشر الفضائل فلا بأسبه، والفرق يظهر في كثرة الفخر وقلّته، فمن يكثر الفخر فهو الذي يتطاول ويتكبّر، ولذا ذم القرآن في آيات متعددة الفخور الذي هو صيغة مبالغة.

وكذلك لا بأس بذكر النعمة إذا كان لشكرها، فليس ذلك من التطاول، قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(1).

الثالث: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ...} الآية.

بيان لأحد سببي ترك الإحسان وهو الاختيال، فإنه ينشأ من كفران النعمة عادة، فالنعمة التي عنده إنما هي من اللّه تعالى، فكان عليه أن يشكره سبحانه على نعمته فيطيعه ويُحسن إلى من أمر اللّه بالإحسان إليهم، لكنه كفر بالنعمة فلم يطع اللّه وبخل بها تكبراً على الآخرين، فكأنه زعم أنها من عنده، كقارون قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَىٰكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}(2).

وهؤلاء لكفرانهم النعمة يبخلون بأموالهم التي آتاهم اللّه إياها، بل الأسوأ من ذلك أنهم لا يتحملون إحسان الآخرين فينهونهم عن الإنفاق، وهذا يدل على انحراف في النفس، بحيث ينزعج من الإحسان حتى لو كان من غيره، أو ليرفع اللوم والذم عن نفسه كي لا يقال له: إنّ فلاناً قد أنفق فلماذا أنت لا تنفق.

ص: 192


1- سورة الضحى، الآية: 11.
2- سورة القصص، الآية: 77-78.

وقوله: {وَيَكْتُمُونَ} الأظهر أنّ المعنى أنهم يظهرون أنفسهم بمظهر الفقراء حتى لا يعلم الناس أنهم أثرياء فيتوقعون منهم، أو أنّ شدة بخلهمأوصلتهم إلى بخلهم حتى على أنفسهم، أو بمعنى ادّخار تلك الأموال وعدم إعطائهم الحقوق الشرعية كما قال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ}(1)، وأما ما قيل من أنّ الكتمان يشمل كتمان الحكم الشرعي أو كتمان العلم، فبعيد عن سياق الآية.

وقوله: {مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} بيان أنّ بخلهم إنما هو بشيء ليس لهم في واقعه، بل هو مال اللّه تفضّل به عليهم ثم أمرهم بإنفاق جزء منه، وهذا أكثر ايضاحاً لانحراف نفسياتهم.

وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ} المراد الكافرين بالنعمة، فبكفرانهم للنعمة استحقوا عذاباً فيه إهانة وإذلال لهم، فجُمِعَ عليهم عذابٌ جسديٌّ ونفسيٌّ جزاءً لسوء فعالهم.

الرابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ...} الآية.

بيان للسبب الآخر لترك الإحسان وهو كثرة الفخر، فإنه ينشأ من طلب الوجاهة عند الناس، فلا يهمهم طلب مرضاة اللّه تعالى، ولا ثواب الجنة؛ لعدم إيمانهم باللّه ولا بالقيامة.

فهؤلاء ينفقون لكن لا بإحسان، بل للرياء أمام الناس، فلذا يحوّلون إنفاقهم إلى إساءة للمنفَق عليه ويريقون ماء وجهه، بل لو لم يكن في الإنفاق رياء تركوه؛ لأن منطلقهم كان الرياء لا الإيمان، وكما قيل: فهؤلاء

ص: 193


1- سورة التوبة، الآية: 34.

هم أهل السرف، فقد ذمهم اللّه تعالى كما ذمّ البخلاء، وهدّدهم كما أوعد أولئك، وذلك لاشتراكهم في عدم الإنفاق كما ينبغي، تارة بترك الإنفاق منرأس، وأخرى بالرياء فيه.

وقوله: {وَلَا يُؤْمِنُونَ...} سواء كان عدم الإيمان من أساسه كالكافر والمنافق، أو كان مؤمناً من جهات أخرى غير مؤمن من هذه الجهة، إذ المؤمن يتحرك إطاعة لأمر اللّه أو رغبة في ثوابه أو خوفاً من عقابه، فمن ترك طاعة اللّه وعرّض نفسه لعقاب الآخرة فهو غير مؤمن باللّه ولا باليوم الآخر، ولو في هذه الجهة، فحينئذٍ يكون النفي إنما هو لنفي صفة الكمال؛ وذلك لأنّ الإيمان وكذلك عدمه درجات ودركات، يختلف الناس فيها.

وقوله: {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَٰنُ...} بيان منشأ الرياء وعدم الإيمان، أو بيان منشأ عدم الإحسان، وهو تسويل الشيطان، ويحتمل أن يكون المقصود بيان عذابه في الآخرة وهو اقترانه بالشيطان.

والحاصل أنه ذكر جزاء البخيل بالعذاب المهيمن، وذكر جزاء المرائي باقتران الشيطان به، قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُۥ شَيْطَٰنًا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَأَنفَقُواْ...} الآية.

ص: 194


1- سورة الزخرف، الآية: 36-39.

هذا حث وحض لهم على الإحسان، والذي يتوقف على الإيمان باللّه وبالقيامة في العقيدة، وعلى الإنفاق في العمل، ببيان أنّ إنفاقهم إنما هو مما آتاهم اللّه من فضله، فلا معنى لبخلهم فيه وتمردّهم على أمره تعالى، وأيضاًفإنّ ذلك لا ضرر فيه، بل إنما هو لصالحهم؛ لأن اللّه يضاعف إنفاقهم لهم، فكما تفضل عليهم بأن رزقهم إياه كذلك يتفضل عليهم بإنمائه ومضاعفته.

وفي التقريب: فإنه بالعكس مما يظنون من أنّ الإيمان والإنفاق يسببان أضراراً ومشاكل، إذ الإيمان يوجب الهدوء والسكينة والاطمئنان وخير الدارين، والإنفاق يوجب تقدم المجتمع وازدهاره مما يعود إلى المنفق بأكثر مما أنفقه(1).

وفي تفسير الصافي: توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه، وتحريض على التفكر لطلب الجواب لعلّه يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد والعوائد، وتنبيه على أنّ المدعوّ إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب له احتياطاً، فكيف إذا تضمن المنافع! وإنما قدّم الإيمان ههنا وأخرّه في الآية السابقة؛ لأن المقصود هنا التحضيض، وثمّة التعليل(2).

ص: 195


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 481.
2- تفسير الصافي 2: 237-238.

الآيات 40-42

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا 40 فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ بِشَهِيدٖ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا 41 يَوْمَئِذٖ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا 42}

40- ومن خسرانهم أنهم لم يؤمنوا ولم ينفقوا، إذ لو آمنوا وأنفقوا لم يعذبهم اللّه ولجازاهم اللّه أحسن الجزاء، وأما عدم العذاب: ف {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ} أي بوزنها، {وَ} أما الجزاء الحسن: ف {إِن تَكُ} الذرة التي عملها {حَسَنَةً} عملاً خيراً {يُضَٰعِفْهَا} أي يُنمّيها فيجدها حاضرة يوم القيامة مضاعفة كمية ومستمرة إلى ما لا نهاية، أو يضاعف ثوابها {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} من عنده زائداً على ما وعد {أَجْرًا عَظِيمًا} أي عطاءً جزيلاً من حيث مقداره وأوصافه ودوامه.

41- {فَكَيْفَ} سيكون حال هؤلاء الكفرة {إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ بِشَهِيدٖ} وهم أنبياؤهم وأوصياء الأنبياء {وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ} المكذبين وغيرهم {شَهِيدًا}؟

42- {يَوْمَئِذٖ} أي في يوم تلك الشهادات وهو يوم القيامة {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} باللّه {وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ} أي خالفوا أوامره {لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ}

ص: 196

«لو» مصدرية، أي يتمنون تسويتهم بالأرض بأن يصبحوا تراباً،{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} أي ولا يتمكنون في ذلك اليوم من إخفاء جرائمهم بل يعترفون بها.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو كالتعليل عن الاستفهام في الآية السابقة، حيث قال: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ...} الآية، فالمعنى لا يضرّهم الإيمان والإنفاق، فلا يعذّبون في الآخرة؛ لأنّ اللّه لا يظلم، وعذاب المؤمن العامل بالصالحات ظلم؛ لأنه لم يخالف أمراً أو نهياً كي يستحق عليه العقاب، بل يجازيهم اللّه تعالى أحسن الجزاء، فالحسنة الواحدة يضاعفها كما وعد حيث قال: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}(1)، بل يزيد على ما وعد إن شاء كما قال: {وَاللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَاءُ}(2).

الثاني: قوله تعالى: {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ...} الآية.

«الظلم» هو بخس الحق سواء بنقصانه أم بعدم إيصاله إلى صاحبه، وحيث إنّ فيه إيهام ضعف المظلوم فلذلك لا يطلق المظلوم على اللّه تعالى، فمن لم يؤدّ حق اللّه تعالى بالعبادة والطاعة فقد ظلم نفسه، واللّه أعزّ وأجلّ من أن يُظلم.

كما أن سبب ارتكاب الظلم إما الجهل أو الحاجة أو خبث الذات، واللّه تعالى منزّه على كل ذلك، فهو لا يظلم مع قدرته عليه لجلال ذاته عن كل

ص: 197


1- سورة الأنعام، الآية: 160.
2- سورة البقرة، الآية: 261.

نقص وقبيح.

وقوله: {مِثْقَالَ} بمعنى الثقل، وهو صفة لمحذوف، أي لا يظلم ظلماً يعادل وزن الذرة.

وقوله: {ذَرَّةٖ} الهباءة التي تُرى في شعاع النور الداخل من ثقب في مكان مظلم، أو النمل الصغار الذي يُرى بالعين بصعوبة، والمقصود نفي مطلق الظلم عنه تعالى حتى بالمقدار اليسير الذي قد يتساهل الناس فيه، لكنه سبحانه أجلّ من ذلك.

وقوله: {مِن لَّدُنْهُ} أي من عنده زائداً على ما وعد.

وقوله: {أَجْرًا عَظِيمًا} إنما سمّى الفضل أجراً؛ لأن أصله كان أجراً، فالتفضل إنما هو لمن استحق الأجر، وأما من لا يستحق الأجر فلا حكمة في التفضل عليه، ولا يخفى أنّ استحقاقه للأجر إنما هو لأن اللّه وعده بذلك فصار حقاً عليه كما مرّ.

وقوله: {عَظِيمًا} في مقابل كون الحسنة ذرة، للدلالة على كمال فضله تعالى فالذرة التي لا اعتبار بها إن كانت حسنة حولّها اللّه تعالى إلى أجر عظيم بفضله، كالبذرة الحقيرة التي يحولها إلى شجرة جليلة.

الثالث: قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ...} الآية.

الاستفهام للتهديد أو للتهويل، أي هؤلاء يختالون ويفتخرون ويراؤون ولا يؤمنون، لكن كيف سيكون حالهم في يوم القيامة، حيث يرون العذاب فبدلاً من تكبرهم في الدنيا يتمنون لو كانوا تراباً، وبدلاً من بخلهم وكتمانهم يضطرون إلى الاعتراف بذنوبهم بعد أن يشهد الأشهاد عليهم.

ص: 198

وقوله: {فَكَيْفَ} أي فكيف سيكون حال هؤلاء الكفرة من الهولوالفزع، والفاء للتفريع على عدم ظلمه، أي حيث إنه لا يظلم فكيف سيكون حالهم حينما يحاسبون على سوء أعمالهم بعدله تعالى؟!

وقوله: {مِن كُلِّ أُمَّةِ} أي من الأمم الماضية، وشهداؤهم أنبياؤهم وأوصياء أنبيائهم، فكل نبيّ يشهد على من عاصروه، ومن بعده يشهد أوصياؤه على من عاصروهم وهكذا.

وقوله: {بِشَهِيدٖ} أي شاهد لهم وعليهم، ولا تكون الشهادة إلاّ مع العلم، فلا بد من اطلاعهم على كل أحوال أممهم ليشهدوا.

قوله: {عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ} أي هؤلاء الكفار المذكورين في الآيات السابقة، فإنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصياءهُ (عليهم السلام) يشهدون على كل الأمة، إلاّ أنّ الكلام في هذه الآية حول الكفار منهم الموصوفين بأوصاف مخصوصة مذكورة في الآيات السابقة، وقد مرّ في سورة البقرة تفصيل شهادة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) فراجع.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا...} قال: «نزلت في أمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاصة في كل قرن منهم إمام منا شاهد عليهم، ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شاهد علينا»(1) والظاهر أنه تأويل للآية، أو تفسير للمقطع الأخير منها، أي قوله: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} فالمعنى حينئذٍ أنّ شهادة الرسول على عصاة الأمة بواسطة شهادة الأئمة وشهادة الرسول على الأئمة، ويؤيده ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «فتقام

ص: 199


1- الكافي 1: 190.

الرسل فتسأل، فذلك قوله لمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا...} وهو الشهيد على الشهداء،والشهداء هم الرسل»(1).

الرابع: قوله تعالى: {يَوْمَئِذٖ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ...} الآية.

نسبة عصيانهم إلى الرسول إما لأجل أنّ المراد به عصيان أوامره الولائية، وهي أحكام جزئية لقضايا خاصة كالتخلّف عن جيش أسامة، وإما تأكيد لكفرهم، فإنّ الرسول يأمرهم بالإيمان فيخالفون أمره، وإما المراد هو عصيان اللّه تعالى، لكن نسب عصيانهم إلى الرسول؛ لأنه الشاهد، كالذي يشهد في المحكمة فيقول: أمرته بالتزام القانون لكنه خالفني.

وقوله: {لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ} أي يصيرون تراباً، كما قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَٰبَا}(2) فإنّ التراب مستوٍ على الأرض.

وقوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} جملة استينافية، أي هم يتمنون أن يكونوا تراباً، لكن أنّى لهم ذلك، بل يضطرون إلى الاعتراف بذنوبهم، كما قال تعالى: {فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(3)، ولا يخفى أنّ مواقف الآخرة متعددة، ففي موقف يكذبون وينكرون كفرهم وعصيانهم قال: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}(4)، وفي موقف آخر يختم على أفواههم فتشهد جوارحهم، قال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَٰهِهِمْوَتُكَلِّمُنَا

ص: 200


1- تفسير العياشي 1: 242.
2- سورة النبأ، الآية: 40.
3- سورة الملك، الآية: 11.
4- سورة الأنعام، الآية: 23-24.

أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(1) وفي موقف آخر يضطرون إلى الاعتراف، كالمجرم الذي ينكر جرمه في المحكمة حتى إذا عرضت القرائن وأقيمت الشهادات اضطر إلى الاعتراف.

ص: 201


1- سورة يس، الآية: 65.

الآية 43

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا 43}

43- وحيث تقدم الدعوة للعبادة والنهي عن الكفر وبعض القبائح، يتم ذكر أهم مصادق للعبادة، وهي الصلاة مع النهي عن القبائح فيها فقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ} النهي عن الاقتراب إلى الشيء أبلغ من النهي عنه مباشرة؛ لأنه مبالغةً في التنزيه {وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ} أي سكر الخمر، والعلة تشمل سائر أنواع الغفلة، كحالة غلبة النوم {حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} أي حتى تفيقوا من سكرتكم وتنتبهوا، فإنّ الصلاة شرّعت للتوجه إليه تعالى وهي تنافي حالة السكر، {وَلَا} تقربوا الصلاة حال كونكم {جُنُبًا} أي في حالة الجنابة، وقوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} استثناء عن اللازم الغالبي، فإنّ لازم عدم اقتراب الصلاة هو عدم دخول مواضعها وهي المساجد، فالمعنى ولا تدخلوا المساجد إلاّ للعبور، بأن تدخلوا من باب وتخرجوا من آخر من غير مكث فيها، {حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ} غايه للنهي أي لا تجوز الصلاة ودخول المساجد في حال الجنابة إلى حين الغسل حيث

ص: 202

ترتفع الجنابة، {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ} فأصابكم الحدث الأكبرأو الأصغر، {أَوْ} لم تكونوا مرضى ولا على سفر لكن {جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} وهو المكان المنخفظ، كناية عن قضاء الحاجة بالحدث الأصغر {أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ} كناية عن الجنابة بالحدث الأكبر {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} للوضوء أو الغسل {فَتَيَمَّمُواْ} أي أقصدوا {صَعِيدًا} وهو ظاهر الأرض - سواء كان عليه تراب أم لا - {طَيِّبًا} طاهراً حلالاً {فَامْسَحُواْ} بيديكم المضروبتين على ذلك الصعيد {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} أي بعضها، بأن يمسح يديه على وجهه من قصاص الشعر إلى أعلى الأنف ثم يمسح اليسرى على ظاهر الكف اليمنى، ثم العكس، وإنّما أمركم اللّه بالتيمم تسهيلاً عليكم ف {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} فيعفو عن الذي له حرج في استعمال الماء ويغفر للمذنب.

بحوث

الأول: لمّا ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة الإحسان ونهى عن البخل وعن الإنفاق رياءً، وأمر بالإنفاق مما رزقهم لوجهه تعالى، بعد ذلك ذكر الصلاة، لاقتران الصلاة والإنفاق عادة فهما متلازمان، فلا يكون ذكر للصلاة إلاّ وذكرت الزكاة معه، وهكذا بالعكس، فكما أنّ للإنفاق مبطلات هي الرياء، كذلك للصلاة موانع منها السكر والحدث الأكبر والأصغر، فلا بد أن يكون جسم الإنسان وروحه طاهرين بالوضوء والغسل أو التيمم، وبعدم السكر الموجب للغفلة والبعد عن اللّه تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ...} الآية.

ص: 203

عدم الاقتراب إلى الشيء كناية بليغة في النهي عنه؛ لأنّ في ذلك المبالغةفي التنزيه، كقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ}(1)، وقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}(2)، وقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَىٰ}(3)، وفي الحديث: «فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه»(4).

قيل: إنّ الخمر كانت محرّمة قبل نزول هذه الآية، ولكن مع ذلك كان بعض المسلمين يشربها وكان يصلّى في حالة سكره فيغيّر في الآيات! فجاء هذا النهي لتوبيخهم وتأكيداً للتحريم السابق، فإنّ شربها فعل حرام ويستلزم ترك واجب هي الصلاة، نعم ورد في رواية: «إنّ هذا قبل أن يحرّم الخمر»(5) قيل: المراد قبل توضيح تحريمها، واللّه العالم.

وفي الحقيقة ليس هذا نهياً عن الصلاة، بل هو نهي عن السُكر، حيث إنه يمنع عن أهم عبادة، نظير قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}(6) حيث إنّ النهي عن السهو في الصلاة والرياء فيها لا عن الصلاة بنفسها، وكقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(7)، فهو توبيخ على عدم العمل بالقول لا عن القول.

والحاصل أنّ الصلاة وسيلة للتقرب إلى اللّه تعالى، فلا تناسب السكر

ص: 204


1- سورة الأنعام، الآية: 152.
2- سورة الأنعام، الآية: 151.
3- سورة الإسراء، الآية: 32.
4- وسائل الشيعة 27: 167.
5- تفسير العياشي 1: 242.
6- سورة الماعون، الآية: 4-7.
7- سورة الصف، الآية: 2.

الذي هو حالة غفلة ونتيجة معصية.

ثم إنّ الغرض هو عدم الغفلة عن الصلاة، ولذا علّله بقوله: {حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}، وهذه العلة عامة في كل سكرة، ولذا ورد في بعض الروايات تأويل {سُكَٰرَىٰ} بسكرة النوم(1)، وهي الحالة التي يغلب فيها النوم على الإنسان بحيث لا يعي ما يقول، فلا بد له من أن يزيل سكرة النوم أولاً ثم يدخل في الصلاة.

وقد يقال: إنّ للسكر درجات يفقد السكران فيها مشاعره بشكل جزئي، لذلك يصح نهيه لالتفاته إليه بهذا المقدار.

ولكن كما ذكرنا فإنّ المقصود النهي عن السكر، فيقال له: لا تسكر بحيث إذا حان وقت الصلاة لم تلتفت إلى أقوالك، فهذا نهي لغير السكران؛ لئلا يسكر لا نهي للسكران عن الصلاة، فتأمل.

الثالث: قوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}.

عطف على {لَا تَقْرَبُواْ}، أي ولا تقربوا الصلاة في حالة الجنابة، فإنها خباثة باطنية لا تنسجم مع الصلاة التي هي عبادة يُراد بها التقرّب إلى اللّه تعالى، فلذا كان كل خبث وحدث ظاهري أو باطني مانعاً لها، كنجاسة البدن أو اللباس، أو الثوب والمكان المغصوبين، أو الرياء، أو الحدث الأكبر والأصغر ونحو ذلك، بل كان الوضوء والغسل - وهما المزيلان للحدث - عبادة أيضاً يشترط فيهما قصد القربة.

وقوله: {جُنُبًا} منصوب على الحالية، ويستوى فيه المذكر والمؤنث

ص: 205


1- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 103-104.

والمفرد والتثنية والجمع، فالمعنى حال كونكم على جنابة.

وقوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} استثناء عن لازم الاقتراب إلى الصلاة، وهو دخول المساجد، فإنّ الغالب إقامة الفرائض في المساجد، فإذا نهي عن الصلاة فقد نهي عن دخولها بالملازمة، وهذه الملازمة وإن كانت خفية إلاّ أنّ الاستثناء يكشف عنها، فيكون المعنى: ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب، ولا تدخلوا المساجد إلاّ حال كونكم عابرين.

وقيل: المراد من الصلاة مواضعها، أي لا تقربوا مواضع الصلاة في حالة السكر والجنابة إلاّ إذا أردتم العبور، وبالملازمة تدل على عدم اقتراب الصلاة بنفسها.

وقيل: الآية على الاستخدام باستعمال اللفظ بمعنى واستعمال ضميره بمعنى آخر، أي لا تقربوا الصلاة بنفسها في حالة السكر ولا تقربوها في حالة الجنابة، بأن يرجع الضمير إلى مواضع الصلاة.

وقيل: معنى {عَابِرِي سَبِيلٍ}: مسافرين، فالمعنى ولا تصلوا بالجنابة إلاّ لو كنتم في سفر، حيث الغالب فقدان الماء فيه.

وقوله: {حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ} غاية النهي، فبعد الغسل تجوز أو تجب الصلاة.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ...} الآية.

بيان لبدلية التيمم عن الوضوء، فمن أحدث بالحدث الأكبر وجب عليه الغسل، أو أحدث بالحدث الأصغر وجب عليه الوضوء، لكنه إذا لم يجد ماءً وخاصة المريض والمسافر، فعليه أن يتيمم على أرض طاهرة، وبذلك يباح له الصلاة، بل يباح له كل ما يشترط فيه الطهارة من الحدث.

ص: 206

وقوله: {مَّرْضَىٰ} عدم وجدان المريض للماء أعم من فقدانه للماء أوضرر الماء عليه.

وقوله: {عَلَىٰ سَفَرٍ} لأنّ الغالب فقدان المسافر للماء الكافي للغسل، واستعمال (على) لأنّ المسافر كأنه راكب على السفر، وذلك لركوبه غالباً على الدابة ونحوها.

وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم...} هذا تعميم بعد تخصيص، بمعنى أنّ الآية ذكرت المريض المحدث والمسافر المحدث، ثم عممّت لكل محدث بالحدث الأصغر أو بالحدث الأكبر حتى لو لم يكن مريضاً أو مسافراً، فهؤلاء إذا لم يجدوا ماءً فعليهم بالتيمم.

وبذلك يتضح جواب سؤال أنّ المرض والسفر سبب لجواز التيمم، وأما الغائط والملامسة فهما سبب الحدث، فكيف عطفهما عليهما؟

وذلك لأنّ المراد بالمريض والمسافر: المريض المحدث والمسافر المحدث وذكرهما من بين سائر المحدثين لأجل غلبة فقدان الماء فيهما، ثم ذكر الحكم عاماً لكل محدث، فيكون تعميماً بعد تخصيص، وهذا أسلوب شائع لبيان خصوصية أو أهمية بعض المصاديق، كما يقال: (أكرم زيداً والضيوف) لبيان أهميته من بين سائر الضيوف.

وقيل: {أَوْ} في قوله: {أَوْ جَاءَ...} بمعنى الواو، فالمعنى: فمن كان مريضاً أو على سفر وأحدث بالحدث الأصغر أو الأكبر فعليه التيمم إن لم يجد الماء.

وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} (الغائط) هو المكان

ص: 207

المنخفض من الأرض، كانون يتسترون به لقضاء الحاجة، ثم كثر استعماله فيما يخرج،فالمعنى: أو رجع أحدكم من مكان التخلي، وهو كناية عن صدور الحدث الأصغر الموجب للوضوء.

وقوله: {أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ} كناية عن المجامعة، وهي سبب الحدث الأكبر الموجب للغسل، وقد مرّ أنّ القرآن الكريم يستعمل الكنايات فيما يستقبح ذكره بالصراحة، فعبر عن ذلك بالملامسة والمباشرة والإفضاء ونحو ذلك.

وقوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} أي لم يجد كل من المريض والمسافر والمحدث بالأصغر أو الأكبر، أما الثلاثة فواضح، وأما المريض فإنه قد لا يتمكن لمرضه من البحث عن الماء، أو الماء موجود لكنه غير قادر من الوصول إليه؛ لعجزه أو لضرره عليه فهذا أيضاً لم يجد الماء حتى لو كان بجنبه.

وقوله: {فَتَيَمَّمُواْ} أي اقصدوا، ثم كثر استعماله في ضرب اليدين بالتراب حتى صار حقيقة فيه.

وقوله: {صَعِيدًا} الصعيد هو مطلق وجه الأرض سواء كان تراباً أم حجراً، فالمعنى اقصدوا أرضاً سواء كان عليها تراب أم لا، وأصل الكلمة من الصعود؛ لأنّ وجه الأرض إنما هو فوق باطنها فكأنه صاعد عليه.

وقوله: {طَيِّبًا} أي حلالاً وليس بنجس؛ لأنّ التيمم عبادة فلا تناسبها الخباثة الظاهرية بالنجاسة والباطنية بالغصب.

وقوله: {بِوُجُوهِكُمْ} الباء للتبعيض، أي بعض الوجه واليدين، وقد بيّنت السنة مقدارهما، فالوجه من منابت الشعر إلى أعلى الأنف، واليدان من الزند

ص: 208

إلى نهاية الكف.

فائدة التيمم

سؤال: وما فائدة التيمم؟

والجواب: لعلّ ذلك لأهمية الصلاة، ولزوم الطهارة فيها، فلئن فقد الماء ولا يمكن التطهر به فقد جعل اللّه تعالى بديلاً له، وهذا إشعار للمصليّ بلزوم الطهارة وأهمية الصلاة، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى لعلّ اللّه جعل فيه سببيّة غيبيّة بنور باطني وإزالة حقيقية للحدث، كما جعل ذلك للوضوء والغسل، فليست الفائدة منحصرة في المنافع الظاهرية بزوال القذارات والأوساخ.

بل لعلّ في التيمم أيضاً بعضاً من تلك الفوائد، فالتراب معقمّ أيضاً من الجراثيم، فإنّ الحدث يلازم خروج القذارات كالبول والمني ونحوهما.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}.

المقصود أنه تعالى أمركم بالتيمم حين فقدان الماء؛ لأنه يريد بكم اليُسر، فهو الذي إن أذنبتم عفا وغفر، وإن صعب عليكم حكمٌ خفّف، فإنّ مَن دأبه العفو والغفران للمذنب، فهو للمطيع أرحم.

ص: 209

الآيات 44-46

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يَشْتَرُونَ الضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ 44 وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا 45 مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا 46}

ثم يأتي ذكر مصداق من مصاديق الكفار وهم اليهود وذكر بعض مخالفاتهم، وتذكر الآيات ثلاثة أنواع منها تبدأ كل مجموعة بقوله: «ألم تر»، الأول: في ضلالهم وعدم قبولهم الدين الحق، ويتمثل ذلك باستهزائهم بالرسول، والثاني: في تزكيتهم أنفسهم، والثالث: في أهم رذائلهم وهي خضوعهم للكفار وبخلهم وحسدهم.

44- أما الأول: فقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} استفهام للتعجب {إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا} حظاً وقِسماً {مِّنَ الْكِتَٰبِ} التوراة، فكان ينبغي عليهم مراعاة هذا العلم لكنهم {يَشْتَرُونَ الضَّلَٰلَةَ} بدلاً من الهداية، فهم أهل ضلال، {وَ} مضافاً إلى ذلك {يُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} الحق، مع أنّ الكتاب يأمرهم بأن يهتدوا ويهدوا غيرهم.

ص: 210

45- فهؤلاء أعداؤكم لذا يريدون سلبكم دينكم، فلا تغتروا بظاهرهم {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} فحيث أخبركم بعداوتهم لكم فاحذروهم ولاتتوقعوا منهم محبة ولا نصرة {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا} يلي أمركم فولايته تكفيكم عن ولايتهم، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا} فلا تحتاجون إلى نصرتهم.

46- هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب هم {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ} أي اتخذوا اليهودية ديناً، دأبهم إظهار ما لا يبطنون فهم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} أي يستعملون الكلام في غير مكانه إيهاماً للمؤمنين، {وَ} ومن أمثلة ذلك التحريف أنهم:

أ- {يَقُولُونَ سَمِعْنَا} قولك واحتجاجك {وَعَصَيْنَا} أي لم نقنع به ولم نؤمن به، مع أنهم علموا بالحق فكان اللازم أن يؤمنوا ويطيعوا.

ب- {وَ} يقولون {اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٖ} يظهرون أنهم يريدون من «غير مسمع» التوقير وأن قولهم «اسمع» ليس أمراً، كما يقال للكبار توقيراً لهم: «افعل كذا بلا أمرٍ عليك»، مع أنهم يريدون الشتم والإهانة، فيقصدون «لا سمعت» أو «غير مجاب في دعوتك» أو هو دعاء بالموت.

ج- {وَ} يقولون {رَٰعِنَا} يريدون به السب؛ لأنه كان شتيمة عندهم، وهو عند العرب من التأدب من طلب المراعاة، فاستغلوا ذلك ليشتموا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بوجهه.

وإنما فعلوا ذلك {لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي لأجل التواء في ألسنتهم فينطقون بالباطل مظهرين أنه الحق، {وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} أي وقيعة فيه واستهزاءً.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ} اتبعوا الحق بالإيمان وباستقامة اللسان فكان باطنهم كظاهر

ص: 211

كلامهم ف {قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} بدلاً عن «وعصينا»، {وَاسْمَعْ} من غير إضافة «غير مسمع»، {وَانظُرْنَا} أي انتظرنا لنفهم ما تقول بدلاً عن «راعنا» {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} في دنياهم وآخرتهم {وَأَقْوَمَ} أي أقرب لمرعاة العدلفي الكلام، {وَلَٰكِن} لم يقولوا ذلك لخبث سرائرهم ف {لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي بسببه {فَلَا يُؤْمِنُونَ} لأنّ الإيمان عطية من اللّه لا يعطيها إلاّ لمن أصلح سريرته، وأما من أفسدها بسوء اختياره فلا يهديه اللّه، وبذلك يستحق الإبعاد والطرد عن الرحمة {إِلَّا قَلِيلًا} منهم، وهذا استثناء من «لعنهم اللّه» أي إلاّ القليل الذين أصلحوا سرائرهم فهؤلاء يرحمهم اللّه ويوفقهم للإيمان.

بحوث

الأول: سياق الآيات حيث كان حول الإيمان والكفر، أراد اللّه تعالى ذكر مثالين من المنحرفين عن الإيمان، وهم اليهود (الآيات 44-56)، والمنافقون (الآيات 60-70)، وتضمنتها آيات حول المؤمنين وأوصافهم (الآيات 57-59)، مع ذكر مصير هؤلاء كلهم في الآخرة.

أما اليهود فمن أوصافهم الضلال والإضلال، وعداوة المؤمنين، وتحريف الكلام، وإيذاء الرسول، وتزكيتهم أنفسهم افتراءً على اللّه تعالى، وإيمانهم بالأصنام، وحسدهم الرسول والمؤمنين والصد عن سبيل اللّه تعالى، ثم بيان عاقبتهم بلعنهم، وطمس وجوههم، وعدم الغفران لهم، وإصلائهم النار وعذابها.

وأما المنافقون فستأتي أوصافهم وعاقبتهم.

ص: 212

الثاني: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ...} الآية.

الاستفهام للتعجب، فهؤلاء عندهم علم من التوراة فلا يجهلون الحقيقة بأنّ محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسول اللّه.وقوله: {نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ} أي حظاً وقسماً من الكتاب وهو التوراة، وهذا كان كافياً لهدايتهم لو كانوا يعقلون، وأما القسم الآخر - وهو الإنجيل والقرآن - فلم يؤتوه؛ لأنهم كفروا بعيسى (عليه السلام) وكذّبوا رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ولكنهم مع علمهم بالتوراة فقد خالفوا الحق عناداً، فأفعالهم:

1- {يَشْتَرُونَ الضَّلَٰلَةَ} أي يبيعون أنفسهم مقابل الضلالة، مع أنه كان يجب عليهم أن يجعلوا الهداية ثمناً لأنفسهم.

والحاصل أنهم ضلوا في أنفسهم.

2- {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} أي لم يكتفوا بضلالهم، بل يريدون إضلال غيرهم عن سبيل الحق، وهذا غاية في الخبث، فكانوا يستعملون مختلف الأساليب لتشكيك المسلمين بدينهم لتكذيب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإسلام، وغالب المنحرفين هكذا؛ لأنهم يحسدون المهتدين من جهة، ولأنهم يريدون تقوية موقفهم، إذ لو التفّ الناس حول الحق لضعفوا وانفضحوا، لذا لا يقبل الفاسدون عادة وجود صالح بينهم، فإما أن يُفسدوه فيكون واحداً منهم، وإما يكيدون له المكائد، فعلى الإنسان الابتعاد عنهم لئلا يصيبه شرّهم.

3- وعداوتهم للمؤمنين والذي بينته الآية التالية.

ص: 213

الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ...} الآية.

تحذير للمؤمنين عنهم، فحيث إنّ هؤلاء يريدون إضلالكم فهم أعدى أعدائكم، ولأجل الوصول إلى مبتغاهم يتظاهرون بالشفقة لكم والمحبةويزعمون أنهم ينصرونكم على أعدائكم!

لكن عليكم الحذر منهم، فهم الأعداء في ثوب الأصدقاء، فلا تنفعكم ولايتهم ولا نصرهم، فهما سراب لا حقيقة، واللّه سبحانه أخبركم بعداوتهم فعليكم تصديقه، وعليكم أن تستبدلوا ولايتهم بولاية اللّه تعالى فهو الذي يلي أمركم فلا يضركم كيدهم، وأن تستبدلوا نصرهم بنصره، فهو المالك لزمام الأمور القادر على كل شيء.

وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أي أعلم بهم منكم.

وقوله: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ} الباء للتقوية، والمعنى كفى اللّه.

وقوله: {وَلِيًّا} و{نَصِيرًا} تمييز، أي يكفيكم من جهة الولاية والنصرة.

الرابع: قوله تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}.

بيان قوله تعالى: {الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ}، والآيتان السابقتان بينتا أفعالهم بالضلال والإضلال والعداوة، وهذه الآية تبيّن أقوالهم:

فهؤلاء {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} أي يستعملون الكلام في غير مقامه وغير محلّه، والتحريف التبديل، فكلمة {سَمِعْنَا} موضعها موضع الطاعة، لكنهم يستعملونها في موضع الاستهزاء، وكلمة {غَيْرَ مُسْمَعٖ} موضعها التعظيم، لكنهم يقصدون بها الإهانة، وكلمة {رَٰعِنَا} موضعها موضع التوقير، لكنهم يستعملونها بقصد الشتم، وبذلك يتضح أنّ التحريف

ص: 214

هنا ليس بمعنى تبديل الكلام بآخر أو تغيير حكم من الأحكام، فإنّ هذا وإن كان دأبهم أيضاً إلاّ أنه ليس المقصود بالذكر في هذه الآية، ولذا أتمّه بقوله: {لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}، وحينما أراد اللّه تعالى بيان تغييرهم للكلاموللأحكام قال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}(1)، أي يبدلونه بعد ما شرّعه اللّه وبينه فجعله في مواضعه فينقلونه إلى مواضع أخرى، هكذا قيل.

الخامس: قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ...} الآية.

هذا عطف تفسيري لبيان تحريف الكلام عن مواضعه، ففي البداية بيّن اللّه تعالى كلامهم، ثم ذكر سبب ذلك التحريف، ثم بيّن المواضع الصحيحة للكلام.

1- فأما كلامهم: فمنه ما يرتبط بسمعهم فيقولون: سمعنا كلامك لكننا لا نقبله، ومنه ما يرتبط بسمع الرسول فيقولون: اسمع كلامنا لكنك لا تفهمه، ومنه ما يرتبط بشتمه بقولهم: راعنا.

وقولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا كلامك واحتجاجك لكننا لم نؤمن به ولم نقتنع به؛ لأنا لا نعتقد بنبوتك! فكان قولهم: (سمعنا) على سبيل الاستهزاء.

وقولهم: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٖ} أي غير مجاب في دعوتك، أو هو بمعنى (لا سمعت)، وهو دعاء عليه بالموت؛ لأنّ الميت عندهم لا يسمع، أو هو تحقير واستهزاء، مع أنّ الكلمة تستعمل مع العظماء للتوفير والاحترام، أي اسمع بلا أمرٍ عليك، وفي التقريب: اسمع غير مأمور بالسمع، فإنه يقال هكذا

ص: 215


1- سورة المائدة، الآية: 41.

للرجل العظيم احتراماً وإشعاراً بأنّ أمره ب {اسْمَعْ} ليس أمراً، فهو لا يؤمر بالاستماع؛ لأنه أجلّ من الأمر(1).وقولهم: {رَٰعِنَا} قد مرّ تفصيله في سورة البقرة فراجع، وحاصله أنّ هذه الكلمة كانت عند العرب من المراعاة، مثل أن يبيّن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأحكام والآيات إليه بالتأني ويجيب على أسئلتهم ليفهموا قوله، وأما عند اليهود فكانت شتيمة، قيل: هي شتيمة بالعبرية، وقيل: بل هي نفس الكلمة العربية لكن اصطلاحهم فيها كان للشتم.

2- وأما سبب كلامهم فهو أمران:

أحدهما: قوله: {لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي لنفاقهم كانوا يقولون بألسنتهم على خلاف ما في قلوبهم، وهذا من التواء النفس وانحرافها عن الحق، فأصل الالتواء في القلب لكن نسب إلى لسانهم؛ لأنه المظهر لذلك الالتواء. والحاصل أنّ كلامهم كان بشكل طبيعي وظاهره التوقير، لكن باعتبار عدم مطابقته لقلوبهم وقصدهم الاستهزاء به لذلك قال: {لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} من لوى يلوى لياً وأصله الفتل، فكأنّ الكلام على الجادة المستقيمة فينحرف به عنها.

والآخر: قوله: {وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} أي لإرادتهم الوقيعة في الإسلام؛ وذلك لأنّ الطعن في الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) طعن في ما جاء به من عند اللّه.

والحاصل أنّ هؤلاء في نفوسهم التواء، وهم يعارضون الدين فأظهروا ذلك بكلامهم عند الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فالمبطل يعارض الحق وأهله.

3- وأما المواضع الصحيحة للكلام فهو:

ص: 216


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 487.

قوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} إطاعة قولاً وعملاً، بأن قبلوا الدين حقيقة، فإنّ الإطاعة العملية تصلح النفس وتزيل انحرافها والتواءها، فإنّ لكل من الجسم والروح تأثيراً على الآخر، فمن نفسه ملتوية إذا أدام الطاعة صلحت، ومننفسه مستقيمة إذا أكثر من العصيان فسدت.

وقوله: {وَاسْمَعْ} من غير إضافة غير مسمع التي هي كلمة ذات وجهين فلا بد أن يتركوها، فليس من التوقير ذلك.

وقوله: {وَانظُرْنَا} بدلاً من راعنا، أي انتظرنا كي نفهم ما تقول، فإنّ في ذلك إيماناً وأدباً واستقامة اللسان.

السادس: قوله تعالى: {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن...} الآية.

أي مراعاة الأدب وعدم التواء اللسان، خير لهم وأقرب للعدل...

أما كونه خيراً لهم: فلأنه بالإيمان يفوز الإنسان بسعادة الدارين، بل حتى لو لم يكن مؤمناً لكنه جاء لطلب الحق فأصغى إلى داعي الحق فإنه يرجى هدايته وهو خير له.

وأما كونه أقوم: أي أقرب إلى الاستقامة والسداد، فإنّ احترام صاحب الحق والناطق به هو من الاستقامة حتى لو لم يهتدِ الإنسان.

والحاصل أنّ احترام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير لهم إن آمنوا، وهو أقرب للعدل حتى لو لم يؤمنوا.

وقوله: {وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} فيه اختصار بليغ، أي لكنهم خالفوا فكفروا فلعنهم اللّه بسبب ذلك الكفر.

وقوله: {فَلَا يُؤْمِنُونَ} أي أنّ اللّه خذلهم بلعنهم، فلذلك سوف لا

ص: 217

يوفّقون للإيمان أبداً؛ لأن الهداية من اللّه تعالى حصراً، وإنما يهدي اللّه من لم يكابر الحق، فهو بحسن اختياره جعل نفسه قابلة للّهداية فيتفضل اللّه عليه بها، وأما من كابر الحق بسوء اختياره فإنّ اللّه لا يهديه، نظير شخصين لهماأراضٍ، فأصلح الأول أرضه، فلما نزلت الأمطار أنبتت من كل زوج بهيج، وأفسد الثاني أرضه ولم يصلحها، فحين المطر لا تنبت إلاّ نكداً لا فائدة فيه، فزرع اللّه تعالى للأول لحسن عمله، ولم يزرع للثاني لسوء عمله.

والحاصل أنّ عدم إيمانهم متفرع على لعنهم وطردهم عن الرحمة.

وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} أي قليلاً منهم، وهو استثناء من {لَّعَنَهُمُ اللَّهُ}، فالمعنى لعنهم اللّه إلاّ القليل منهم الذين لم يلعنهم، بل هداهم فآمنوا.

وقيل: الاستثناء من {لَا يُؤْمِنُونَ}، ولكن بتأويل أنّ اللعن للمجموع بما هو مجموع، وهو لا ينافي إيمان بعض الأفراد وعدم لعنهم، فتأمل.

ص: 218

الآيات 47-50

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَٰبَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا 47 إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا 48 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا 49 انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا 50}

47- ثم يهدّدهم اللّه تعالى بسوء العاقبة إن لم يؤمنوا فيقول: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} أي نزل على نبيهم والكتاب بحوزتهم {ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} أي القرآن حال كونه {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} أي التوراة حيث ذكرت أوصاف الرسول محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ} وهو المحو وإزالة الأثر {وُجُوهًا} وجوه بعضكم، وبيّن كيفية الطمس بقوله: {فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا} أي نجعل الوجوه كهيئة القفا، كناية عن إضلالهم فلا يرون طريق الهداية، أو هو نوع عذاب لبعضهم {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} بطردهم من الرحمة {كَمَا لَعَنَّا أَصْحَٰبَ السَّبْتِ} حيث مسخوا قردة، {وَ} هذا ليس مجرد وعيد، بل {كَانَ أَمْرُ اللَّهِ} قضاؤه بالطمس واللعن {مَفْعُولًا} نافذاً.

48- ولا تتوهموا المغفرة، فذنبكم لا يغفر، حيث {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن

ص: 219

يُشْرَكَ بِهِ} لعدم قابلية المشرك للمغفرة إن لم يتب، وأنتم قد أشركتم، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ} سائر المعاصي {لِمَن يَشَاءُ} ممن آمن حيث يكونأهلاً للغفران بالشفاعة أو إذهاب السيئات بالحسنات أو لغير ذلك، {وَ} سبب عدم الغفران لمن أشرك أنّ {مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا} فلا مصلحة ولا حكمة في غفرانه.

49- ثم يذكر اللّه تعالى النوع الثاني من مخالفاتهم، وهي تزكية أنفسهم بالباطل: والعجب أنّ هؤلاء يزعمون عدم عذابهم؛ لأنهم يعتبرون أنفسهم أبناء اللّه وأحباءه {أَلَمْ تَرَ} استفهام للتعجب {إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم} بطهارتهم من الآثام مع شركهم وتحريفهم، {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي} يطهّر من الذنوب {مَن يَشَاءُ} ممن كانت له أهلية لذلك {وَ} أما هؤلاء المفترون في عدم تزكيتهم وفي تعذيبهم ف {لَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} بمقدار الخيط في شق النواة كناية عن عدم الظلم حتى القليل منه، فالتزكية وعدمها ليستا اعتباطاً، بل هما مطابقتان للعدل أو الفضل.

50- {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بنسبة تزكيتهم إلى اللّه {وَكَفَىٰ بِهِ} بالافتراء {إِثْمًا مُّبِينًا} يستحقون العذاب عليه.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ...} الآية.

على رغم شنيع أفعال أولئك اليهود والتي ذُكِرَ شطرٌ منها في الآيات السابقة، إلاّ أنّ اللّه تعالى يدعوهم إلى الإيمان مع بيان السبب والتحذير من العاقبة، لإتمام الحجة على أغلبهم، ولهداية من هو قابل للّهداية منهم ولو

ص: 220

كان قليلاً منهم.

فأما السبب فهو: أنّ القرآن يصدّق التوراة؛ لأنهما من عند اللّه تعالى، فنفس السبب في وجوب إيمانهم بالتوراة موجود في القرآن أيضاً، بل إنّالتوراة بشرّت بالنبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذكرت أوصافه، وقد انطبقت تلك الأوصاف والبشارات عليه، فتصديقهم للتوراة يقتضي إيمانهم برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعدم إيمانهم به تكذيب لها.

وأما التحذير: فإنّ عدم الإيمان به سبب للضلال، ومن ثم العقوبة الإلهية في الدنيا والآخرة.

والعاقل إذا علم بأن شيئاً حق وأن في تركه أشد الضرر، يؤمن به ويعمل على مقتضاه.

وقوله: {أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} أي نزل على نبيهم، فعلموا به وهو موجود بحوزتهم.

وقوله: {ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} أي القرآن، والإيمان به متفرع على الإيمان برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإنما ذكر الإيمان بالقرآن لمناسبته مع إيمانهم بالتوراة التي تُصدّقه.

وقوله: {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} بيان سبب وجوب إيمانهم بالقرآن.

وقوله: {نَّطْمِسَ} يراد به الإضلال، فإنّ اللّه تعالى يهدي الجميع ببيان الطريق الحق إليهم، فإن استحبوا العمى على الهدى وفقدوا قابلية الهداية تركهم وشأنهم، ومن يتركه اللّه ولا يوفقه يضلّ، فالطمس كناية عن عدم رؤيتهم الطريق الصحيحة، كالذي وجهه في قفاه لا يرى الصراط المستقيم

ص: 221

فينحرف عنه، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أن نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها في ضلالتها ذماً لها بأنها لا تفلح أبداً»(1).وأيضاً قد يكون هذا نوع عذاب لهم.

وقوله: {وُجُوهًا} بالتنكير تحقيراً لها، أو الإبهام لتخويفهم جميعاً.

وقوله: {فَنَرُدَّهَا} عطف تفسيري لبيان كيفية الطمس، بأن يتحول الوجه إلى القفا، بالمعنى الكنائي عن الإضلال بعدم رؤية الطريق، أو بالمعنى الحقيقي بعذابهم هكذا في الآخرة.

وقوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} أي نطردهم عن الرحمة بعذابهم في الدنيا.

وقوله: {كَمَا لَعَنَّا أَصْحَٰبَ السَّبْتِ} إما تشبيه في كيفية اللعن بالمسخ قردة، أو تشبيه في أصل اللعن وهذا أظهر.

ويحتمل كون كلا العذابين في الدنيا، أو كلاهما في الآخرة، أو أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة.

وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} لبيان أنّ هذا الطمس واللعن - إن لم يؤمنوا - قضاء حتمى وليس مجرد تهديد.

مطالب حول عدم غفران الشرك

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ...} الآية.

هذا بيان سبب تنفيذ الوعيد وحتميته، فإنّ هؤلاء أشركوا ومن يشرك لا يغفر له إن مات على شركه، وهنا مطالب:

1- أنّ أهل الكتاب مشركون، حتى وإن زعموا إنهم موحدون، فالشرك

ص: 222


1- مجمع البيان 3: 143.

في الألوهية قد يكون بزعم تعدد الآلهة، وقد يكون بزعم استقلال المخلوق في قدرته، وقد يكون بوصف المخلوق بصفات الخالق الخاصة به.

نعم كلمة «المشرك» اصطلاح في عبدة الأصنام، كما أنّ «أهل الكتاب»اصطلاح في اليهود والنصارى، و«الذين آمنوا» اصطلاح في المسلمين حتى المنافقين منهم.

وعليه فهذه الآية ترتبط بأهل الكتاب وإن كان معناها عاماً يشمل جميع من أشرك حتى ولم يكن منهم.

2- إنّ صدر هذه الآية تكرر في الآية 116 من هذه السورة، قيل: إن هذه الآية تهديد بالآثار الدنيوية للشرك، وتلك بالآثار الأخروية حسب ما يستفاد من سياق الآيتين وحسب الانطباق على المورد وإن كانتا عامتين لكل الآثار(1).

وقد مرّ أنه لا تكرار في القرآن، فذكر الدليل الواحد والاستدلال به على موردين مختلفين ليس من التكرار في شيء، كما لو قلنا: زيد يستحق المدح؛ لأنه محسن، وعمرو يستحق الجائزة؛ لأنه محسن، فقولك: (أنه محسن) ليس من التكرار في شيء؛ لأنه وإن كان دليلاً واحداً وبصورة واحدة إلاّ أنه في موردين مختلفين.

3- وعدم غفران ذنب الشرك إنما هو لمن مات عليه، وأما من تاب منه فهو مغفور له، كما قال اللّه تعالى: {قُلْ يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُۥ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *

ص: 223


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 4: 379.

وَأَنِيبُواْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(1).

ولذلك في هذه الآية يدعو اللّه اليهود إلى الإيمان بالقرآن وبالرسول وإلى ترك الشرك كيلا يصيبهم العذاب.

4- وسبب عدم غفران الشرك هو أنّ المشرك لتعديه على مقام الربوبيّة لا أهلية له لينال المغفرة، فهو سبب خبث الباطن بما لا يمحى أثره، فليس من الحكمة العفو عنه وغفرانه، فأثر الشرك لا يزول أبداً، عكس سائر الذنوب إذا صدرت عن مؤمن، فإنّ حسن باطنه يجعله أهلاً لإزالة المعصية وأثرها عنه، إما بسبب أعماله الصالحة الأخرى، حيث إنّ الحسنات يذهبن السيئات، أو بالشفاعة ونحوها، فمثلها كمثل ذهب علقت به قاذورات حيث تزول بجلائه، أو كمثل لحم فسد لا قابلية له للتنظيف وإزالة فساده إلاّ بإعدامه وصيرورته تراباً.

ولذا قيل: إنّ الرحمة الخاصة إنما تنال العابد، حيث قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، وتلك العبادة طريق إلى الرحمة كما قال: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(3)، ولا عبودية مع الشرك، فلا قابلية للرحمة حينئذٍ، فلا حكمة فيها.

5- الآية إنما هي فيمن لم يتب، فإذا كان مشركاً ومات عليه فلا غفران له، وإذا لم يكن مشركاً وعمل بسائر المعاصي فقد يغفر اللّه له إن شاء.

وهذه الآية صريحة في غفران الكبائر إذا شاء اللّه تعالى، خلافاً لما زعمته

ص: 224


1- سورة الزمر، الآية: 53-54.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- سورة هود، الآية: 119.

المعتزلة بخلود أهل الكبائر في النار، فأقحموا التوبة في هذه الآية، فاضطروا إلى تقدير عدم التوبة في الشرك، وتقدير التوبة في ما دون ذلك، ثم اضطروا إلى إخراج الصغائر من {مَا دُونَ ذَٰلِكَ} لأنها مغفورة حتماً معاجتناب الكبائر! مع استلزام ذلك ركاكة الكلام وعدم فصاحته.

والحاصل أنّ الآية في مقام بيان حالة عدم التوبة، فإن أشرك فلا يغفر له، وإن كانت سائر المعاصي فأمرها منوط بمشيئة اللّه إن شاء غفر بفضله، وإن شاء عذّب بعدله.

6- تعليق غفران سائر الذنوب على المشيئة يجعل المؤمن بين الخوف والرجاء، وذلك أدعى لعدم الاستخفاف بالذنب وعدم اليأس والقنوط من رحمة اللّه تعالى، قال تعالى: {إِنَّهُۥ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(1)، وقال: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَٰسِرُونَ}(2).

7- قيل: إنّ من الحكمة أن لا يغفر لكل مذنب، وإلاّ لغى الأمر والنهي وبطل التشريع وفسد أمر التربية الإلهية.

وفيه: أنّ هذا المحذور إنما يترتب مع العلم بمغفرة الجميع، وأما مع تعليقه على المشيئة وعدم العلم بالغفران فلا، فلا محذور عقلاً في بقاء المؤمن بين الخوف والرجاء إلى حين الموت وأن يغفر اللّه جميع ذنوب المؤمنين، ويخصص عذاب الذنوب بالمشركين فقط.

وقوله تعالى: {لِمَن يَشَاءُ} تعليق المغفرة بالمشيئة للدلالة على أنها

ص: 225


1- سورة يوسف، الآية: 87.
2- سورة الأعراف، الآية: 99.

مرتبطة به تعالى لا بتوهمات الناس وأمانيّهم، فمشيئته تعالى تعلو كل إرادة، مع أنها لا تكون إلا بحكمة، فالمغفرة من صفات الفعل ومنشؤها صفات الذات، فهو عالم قادر حكيم، ولذلك يعلم الذي يستحقها والذي الحكمةفي غفرانه، فينفذ ما شاء، وفي ذلك دلالة على أنّ المغفرة بالتفضل لا بالاستحقاق، وحتى التجاوز عن التائب كذلك، إذ ليس من الواجب عقلاً العفو عن المجرم حتى لو ندم، فلذا لا تسقط حقوق الناس بمجرد الندم، وكذلك أكثر الحدود.

والحاصل أنّ الشرك لا يقاس بسائر المعاصي كي يتوهموا المغفرة أو قلّة عذابهم كما قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}(1).

وقوله: {فَقَدِ افْتَرَىٰ} من الفرية، بمعنى الكذب في حق الغير بما لا يرتضيه(2)، فهو كذب على اللّه تعالى بزعم الشريك له، وأيضاً كذب عملي بزعمهم استحقاق غير اللّه للعبادة وبعبادتهم إياهم.

وقوله: {إِثْمًا عَظِيمًا} إما مفعول به ل {افْتَرَىٰ} بتضمينه معنى الارتكاب، أو نائب مناب المفعول المطلق، أي افترى افتراءً موصوفاً بكونه إثماً مبيناً. ولعل ذلك بيان لسبب عدم الغفران، فهو افتراء على اللّه وإثم عظيم فغفرانه خلاف الحكمة.

الثالث: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم...} الآية.

أيضاً استفهام للتعجب، وبيان لسبب عدم إيمانهم وكثرة معاصيهم، وهو

ص: 226


1- سورة البقرة، الآية: 80.
2- معجم الفروق اللغوية: 449.

أنهم كانوا يزعمون أنهم أبناء اللّه وأحباؤه، وأنه لا حريجة عليهم في المخالفات قال تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}(1)،فردّ اللّه عليهم بأن المزكّي هو اللّه، فهو الذي يحكم بطهارة المؤمنين ويطهّرهم من ذنوبهم بالمغفرة، وأما الكفار فلا يزكيهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم، قال اللّه تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَٰرَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(2)، وقال: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ}(3).

والحاصل أنه لا قرابة بين اللّه وبين أحد من الناس، والمناط ليست الأنساب، وإنما المعتقدات والأعمال، ومن العجب أنّ هؤلاء مع كفرهم وتحريفهم يزكّون أنفسهم!

وقوله: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي} أي يخبر عن طهارته، أو يطهره من الذنوب بالمغفرة.

وقوله: {مَن يَشَاءُ} ممن آمن وعمل صالحاً، فهو سبحانه العالم بالأسرار والمصائر، فلذا تزكيته بحق وليست كتزكيتهم بالأهواء.

والحاصل أنّ ميزان التزكية هو ما قرّره اللّه تعالى لا ما تمليه الأهواء السقيمة، وذلك الميزان هو الإيمان والعمل الصالح، فمن آمن وأطاع زكّاه اللّه تعالى، حتى وإن كان عبداً حبشياً، ومن كفر وعصى لم يزكّه اللّه سبحانه حتى لو كان من ذرية الأنبياء، فهذا ابن نوح عمل غير صالح فأخرجه اللّه

ص: 227


1- سورة آل عمران، الآية: 75.
2- سورة البقرة، الآية: 111.
3- سورة النساء، الآية: 123.

من أهل نوح (عليه السلام) بكفره.

وقوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} هذا كالتعليل لعدم التزكية، فذلك ليس هو بالاعتباط، بل عدم التزكية مطابق للعدل، فعدم غفران ذنوبهم ليس ظلماًلهم، بل بسبب سوء معتقدهم وسوء عملهم، كما أنّ تزكية المؤمنين بفضله تعالى لحسن اختيارهم.

الرابع: قوله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ...} الآية.

هذا بيان سبب آخر لعدم مغفرة ذنوبهم، وهو افتراؤهم الكذب على اللّه بتزكيتهم، كما أنّ في الآية 48 بيان افترائهم الكذب باتخاد الشريك، أي أنّ اللّه لا يغفر لهم بسبب افترائهم الشرك، ثم لا يغفر لهم بسبب افترائهم على اللّه بأنّه يزكيهم وما يلازمه من ارتكاب الذنوب والمعاصي، فإنّ الذنوب الكبيرة تُغفر بالتوبة أو بالشفاعة أو بسبب صالح الأعمال، وهؤلاء يفتقدون لكل ذلك فلا يتوبون حتى الموت إلاّ قليلاً، ولا يرتضيهم اللّه كي يأذن للشفعاء بشفاعتهم، ولا أعمال صالحة لهم لتُذهب سيئاتهم، فإنّ الكفر يحبط جميع الأعمال الصالحة.

ص: 228

الآيات 51-55

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا 51 أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا 52 أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا 53 أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَٰهِيمَ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَٰهُم مُّلْكًا عَظِيمًا 54 فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا 55}

ثم يذكر اللّه تعالى النوع الثالث من مخالفاتهم، وهي رذائلهم التي منعتهم عن قبول الحق والإيمان باللّه وبرسوله، وهي خضوعهم للكفار وبخلهم وحسدهم، فقال:

51- {أَلَمْ تَرَ} استفهام للتعجب {إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا} قسماً وحظاً {مِّنَ الْكِتَٰبِ} فكان المفروض أن يعملوا به، لكنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ} كل صنم {وَالطَّٰغُوتِ} كل طاغ ٍ من شياطين الجن والإنس {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} لأجلهم وفيهم: {هَٰؤُلَاءِ} الكفار {أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} المسلمين {سَبِيلًا} ديناً وطريقة.

52- {أُوْلَٰئِكَ} الجبت والطاغوت والكفار {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم من رحمته، {وَمَن يَلْعَنِ} أي يلعنه {اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا} ينصرهم من

ص: 229

بأس اللّه وعقابه، فلا فائدة في إيمان أهل الكتاب بهم ومحاولة كسب وُدّهم.

53- {أَمْ} منقطعة بتقدير استفهام إنكاري، بياناً لرذيلة ثانية من رذائلهم، أي بل هل {لَهُمْ} لأهل الكتاب {نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ} السلطة الدنيوية والدينية {فَإِذًا} أي لو كان لهم نصيب من الملك {لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ} لا يعطونهم {نَقِيرًا} أي النقرة في ظهر نواة التمر، ومَن هذه صفتهم كيف يرضون برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نبياً وحاكماً، فلذلك كفروا به.

54- {أَمْ} منقطعة بتقدير استفهام إنكاري أيضاً {يَحْسُدُونَ النَّاسَ} الرسول وآله والمؤمنين {عَلَىٰ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} النبوة لمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والإمامة لآله، والإيمان والعزة للمؤمنين، ولا وجه لحسدهم فإنّ ذلك فضل اللّه تعالى كما تفضّل على آل ابراهيم {فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَٰهِيمَ} أي إبراهيم وآله {الْكِتَٰبَ} جنس الكتاب والمقصود النبوة {وَالْحِكْمَةَ} الفهم والقضاء، وذلك بإيتائهم الشريعة {وَءَاتَيْنَٰهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} طاعة الناس لهم، فكان بعضهم أنبياء يجب على الناس إطاعتهم، وكان بعضهم ملوكاً فكان الناس يطيعونهم.

55- {فَمِنْهُم} من أهل الكتاب {مَّنْ ءَامَنَ بِهِ} أي بفضل اللّه على إبراهيم (عليه السلام) ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي أعرض ثم صدّ الناس عنه، {وَ} إن لم تعجّل عقوبتهم فإنها لا تفوتهم ف {كَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} مسعورة بمعنى اشتعالها ولهيبها.

ص: 230

بحوث

الأول: هذا المقطع لبيان ثلاثٍ من رذائلهم والتي كانت سبباً لكفرهم برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع علمهم بذلك، وهي خضوعهم للكفار وبخلهموحسدهم.

وكان من شأن نزول الآية الأولى أن بعض رؤساء اليهود ذهبوا إلى مكة فأرادوا استمالة المشركين ليحرّضوهم على الإسلام والمسلمين، فارتاب المشركون منهم؛ وذلك لأنهم رأوا مشتركات كثيرة بين المسلمين وبين أهل الكتاب، فلإزالة الريبة طلبوا منهم السجود لصنم لهم كان يسمّى الجبت، ففعلوا ذلك وخضعوا للمشركين فقالوا لهم: إنّ دينكم بعبادة الأصنام أفضل من دين محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وبذلك تمكنوا من كسب ودّ المشركين وتحريضهم على المسلمين، ولعلّ ذلك كان من أسباب غزوة الأحزاب، بتعاهد أهل الكتاب مع المشركين!

وهذا دأب المبطلين لما يجدون عدواً لهم حيث يحاولون صداقة عدو عدوّهم مهما كان الثمن حتى لو كان بالكفر قولاً وعملاً ليتمكنوا من القضاء على عدوهم المشترك! مع أنّ الحق هو أنّ المعاهدات يجب أن لا تكون سبباً لنقض الحق، فلا يطاع اللّه من حيث يعصى، والغاية لا تبرر الوسيلة، ولذا عاهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أهل الكتاب والمشركين بمعاهدات متعددة كلها كانت طريقاً للحق ولا تنازل في أيٍّ منها عن الشرع، وحتى في صلح الحديبية، فقد كانت هدنة يأخذ المسلمون حريتهم في دينهم بلا مزاحمة من أحد.

ص: 231

الثاني: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّٰغُوتِ...} الآية.

أي حيث إنّ لهؤلاء نصيب من الكتاب كان الأجدر بهم أن لا يطلبوارضا المشركين بسخط اللّه، لكنهم للوصول إلى مبتغاهم الباطل تركوا حتى هذا النصيب الباقي في أيديهم من الكتاب، وهذا أيضاً وجه آخر لبطلان تزكيتهم لأنفسهم وسبب عدم تزكية اللّه لهم، فكيف يتوقعون ذلك وهم يكفرون باللّه جهرة ويرجحون أعداء اللّه على أوليائه!

وقوله: {نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ} وهو ما تبقى منه، حيث ضيّع السابقون قسماً وحرّفوا قسماً آخر، لكن فيما تبقى كان نهيهم عن عبادة الأصنام وأمرهم بتصديق رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لكنهم انسياقاً لأهوائهم تركوا هذا النصيب، بل وحرّفوه أيضاً.

وقوله: {بِالْجِبْتِ} وهو كان صنماً لقريش، ثم أطلق على كل صنم، بل على كل ما يعبد من دون اللّه.

وقوله: {وَالطَّٰغُوتِ} كل طاغ يطاع من دون اللّه، سواء كان من شياطين الجن أم من فسقة الإنس، وهو صيغة مبالغة كالملكوت والجبروت ثم بالإعلال صار (طاغوت).

فأما الإيمان بالجبت فهو السجود له، وأما الإيمان بالطاغوت فهو إطاعته فيما يقول على خلاف ما أنزل اللّه تعالى.

وقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي يقولون حولهم أو فيهم، أو يقولون لهم، فقوله: {هَٰؤُلَاءِ} من باب الإلفات، نظير قوله تعالى: {وَقَالَ

ص: 232

الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}(1).

وقوله: {أَهْدَىٰ} أي أكثر هداية من المسلمين، إما بانسلاخه منالتفضيل، بمعنى أنتم مهديون وأولئك ضُلاّل، أو بمعنى أكثرية هداية فيكم منهم، باعتبار بعض أفعالهم الحسنة حسب زعمهم، مع أنّ المشركين أبعد عن أهل الكتاب من المسلمين الذين يؤمنون باللّه الواحد ويرفضون عبادة الأصنام ويؤمنون بجميع أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وغير ذلك.

وقوله: {سَبِيلًا} أي ديناً فزعموا أنّ دين المشركين خير من دين المسلمين!!

الثالث: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ...} الآية.

الظاهر أنّ {أُوْلَٰئِكَ} إشارة إلى الذين كفروا، وفي ذلك ردّ لكلام اليهود، فيقال لهم: كيف تقولون: إنّ الكفار أهدى سبيلاً مع أنهم ملعونون مطرودون من رحمة اللّه ومصيرهم إلى النار حيث لا ناصر لهم؟

ويحتمل كونه إشارة إلى أهل الكتاب وردّ لزعمهم، حيث كانوا يتوهمون أنهم بإيمانهم بالجبت والطاغوت وبكلامهم بما يرضي المشركين يتمكنون من جلب نصرهم لهم ليتمكنوا من القضاء على المسلمين، فيقال لهم: أنتم ملعونون فلا تنفعكم نصرة المشركين، كما حدث بالفعل حيث خسر اليهود أرواحهم ومساكنهم لمّا نقضوا العهد مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اعتماداً على نصر المشركين لهم.

ص: 233


1- سورة الأحقاف، الآية: 11.

الرابع: قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ...} الآية.

بيان لرذيلة أخرى منعتهم عن الإيمان باللّه ورسوله، وهي شدة بخلهم فيريدون لأنفسهم كل نوع سلطة سواء كانت دينية أم دنيوية، ولو كانتبأيديهم لم يعطوا غيرهم شيئاً منها ولو بمقدار قليل، فكيف يرضون بأن تكون النبوة والحكومة بيد رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟!

وقوله: {أَمْ} منقطعة بتقدير استفهام إنكاري، وقيل: بل متصلة فالمعنى: هل تنظر إلى إيمانهم بالجبت والطاغوت أم تنظر إلى عدم إيتائهم نقيراً أم تنظر إلى حسدهم!

وقوله: {الْمُلْكِ} أي السلطة، سواء دينية كالإمامة والخلافة، أم دنيوية قال تعالى: {لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ}(1).

وقوله: {لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ} كالمقدمة لقوله: {فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} فالإنكار على بخلهم، فيكون المعنى أم لا يأتون الناس نقيراً لو كان لهم نصيب من الملك.

وقوله: {نَقِيرًا} النقرة في ظهر النواة، وهو كناية عن شدة بخلهم حتى في الشيء الحقير فكيف بشيء جليل كالنبوة!

الخامس: قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...} الآية.

أي كفرهم بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما كان حسداً له، حيث آتاه اللّه النبوة

ص: 234


1- سورة الإسراء، الآية: 100.

والسلطة مع أنه لا وجه في حسدهم له، فإن ذلك فضل من اللّه تعالى، كما آتى فضله سابقاً لإبراهيم وآله (عليهم السلام) .

والحاصل أنّ تفضيل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من صنع اللّه تعالى، فكان الأجدر بهمالإذعان به والتسليم له، كما سلّموا هم لتفضيل اللّه إبراهيم وآله (عليهم السلام) وكان هناك آخرون رفضوا ذلك، فكما عمل أولئك باطل كذلك عمل هؤلاء.

وبتعبير آخر لمّا فضّل اللّه آل إبراهيم سلّم له اليهود ورفضه آخرون، فكان التسليم حقاً والرفض باطلاً، كذلك لمّا فضّل اللّه محمد وآله (عليهم السلام) كان لا بد لهم من التسليم له؛ لأن العلة واحدة هي فضل اللّه تعالى، لكنهم ابتليوا بنفس رذيلة مَن رفض إبراهيم وآله (عليهم السلام) .

وقوله: {النَّاسَ} يعني رسول اللّه محمداً وأهل بيته (عليهم السلام) والمؤمنين ممن اتّبعوهم، فخير الناس الرسول وآله ومن بعدهم المؤمنين.

وقوله: {ءَالَ إِبْرَٰهِيمَ} أي إبراهيم وآله.

وقوله: {الْكِتَٰبَ} أي جنس الكتاب ومنه صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى عليهم جميعاً الصلاة والسلام، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «النبوة»(1).

وقوله: {الْحِكْمَةَ} من الإحكام، ويلازمه وضع الشيء في موضعه، والمراد هنا الفهم والقضاء كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) (2)، وهما من لوازم العلم بالشريعة.

ص: 235


1- تفسير القمي 1: 140.
2- تفسير القمي 1: 140.

وقوله: {مُّلْكًا عَظِيمًا} هي الطاعة المفترضة كما في الأحاديث(1)، فجعل اللّه تعالى بعضهم أنبياء أمر الناس بطاعتهم، وبعضهم ملوكاً مطاعين.وقيل: لا يطلق العظيم في القرآن على الدنيا وملكها، لكن الدنيا إذا ارتبطت باللّه تعالى صارت عظيمة وإن كانت في نفسها حقيرة، أو العظيم باعتبار رؤية الناس، فملك سليمان (عليه السلام) كان عظيماً؛ لأنه كان من اللّه تعالى كما أنّ الناس يرونه عظيماً.

السادس: قوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ...} الآية.

الظاهر أنّ المراد فضل اللّه على آل إبراهيم (عليهم السلام) ، فالمراد تنبيه أهل الكتاب بأنه كما آمن البعض بفضل اللّه على آل إبراهيم (عليهم السلام) وكفر البعض الآخر، ولم يكن كُفر من كَفَر ضرراً على آل إبراهيم، بل ضرر على الكافرين، كذلك في فضل اللّه تعالى على رسوله محمد وآله، فلا يضرّه كفر اليهود به وقد آمن به المؤمنون، وكما أمهل اللّه أولئك وكان مصيرهم إلى جهنم، كذلك مهلته لهؤلاء المنكرين لنبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإذا رأوا أنهم قد أمهلوا فلا يغترّوا.

وقوله: {فَمِنْهُم} الضمير يرجع إلى ما يستفاد من الكلام، أي بعض الناس، وقيل: الضمير يرجع إلى اليهود، وقيل إلى آل إبراهيم مع تعميم الآل لكل ذريته، والأقرب ما ذكرناه.

والضمير في قوله: {ءَامَنَ بِهِ} و{صَدَّ عَنْهُ} يرجع إلى فضل اللّه تعالى على آل إبراهيم المستفاد من الكلام، وقيل: يرجع إلى إبراهيم (عليه السلام) ، وقيل:

ص: 236


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 120-127.

إلى رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأول أظهر وقوله: {وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} أي تكفيهم جهنم، ولذا لا ضرورة في تعجيل عقوبتهم، فإنّ اللّه تعالى قد يمهلالكفار في الدنيا إما رحمة منه لكي يتوبوا، وإما نقمة لهم ليزدادوا إثماً وتتم الحجة عليهم أكثر، وإما لمصلحة الامتحان التي تقتضي الإمهال ولو لا الإمهال لبطل الامتحان.

والحاصل أنّ الدنيا أصغر من أن تكون عقوبة لكافر، فحتى عقوباتها لهم إنما هي جزء بسيط مما يستحقون، كما أنّ الدنيا أصغر من أن تكون مثوبة للمؤمنين لحقارتها، وأما الآخرة فعذابها يعدل جرم الكفار والمنافقين بمقتضى العدل، وثوابها يفوق عمل المؤمنين بمقتضى الفضل.

ص: 237

الآيات 56-59

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا 56 وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا 57 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا 58 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا 59}

ثم يبين اللّه تعالى مصير من آمن به ومن صدّ عنه فقال:

56- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا} دلائلنا الواضحة على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما جاء به والأئمة (عليهم السلام) {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} من الإصلاء بمعنى مقاساة حرّ النار، ومن صفات هذه النار أنه {كُلَّمَا نَضِجَتْ} احترقت {جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} أي غيرها في الصورة ونفسها في المادة، بمعنى إعادة تركيب الجلد مرة أخرى، {لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} أي ليدوم إحساسهم به؛ لأن الجلد إذا احترق كاملاً زال الإحساس بألم الحرق، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا} لا يمتنع عليه إنجار ما هدّد به، {حَكِيمًا} في عذابهم.

ص: 238

57- {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} لا كالذين سجدوا للجبتوالطاغوت وقالوا ما قالوا وفعلوا ما فعلوا {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٖ} بساتين كثيفة الشجر {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} في أسفلها {الْأَنْهَٰرُ} حال كونهم {خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من القذارات المادية والمعنوية ومن المعايب، {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا} أي رحمة أو بمعنى لا شمس تؤذيهم، {ظَلِيلًا} مبالغة في الظل، بمعنى حُسن ذلك الظل فلا حرّ فيه ولا زمهرير.

58- ثم يوصي اللّه المؤمنين بأن لا يقعوا في المخالفات التي وقع فيها أهل الكتاب، فقد أوتوا نصيباً من الكتاب، لكنهم خانوا ما فيه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} تردوها تامة غير ناقصة، فأوفوا بعهد اللّه بما أنزله في الكتاب من الإيمان بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصيائه (عليهم السلام) ومن الأحكام، {وَ} أهل الكتاب لم يحكموا بالعدل، حيث اعتبروا الكفار أهدى من المؤمنين، لكنكم {إِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ} في أمور دينهم ودنياهم، فيأمركم اللّه {أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} سواء في الأصول أم الفروع، لا بالجور بأن تميلوا إلى الهوى بالرشوة والعاطفة ونحو ذلك، {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا} أي نِعم الذي {يَعِظُكُم بِهِ} لأنّ فيه خير دنياكم وآخرتكم، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا} عالماً بما تقولون {بَصِيرًا} عالماً بأفعالكم حيث يراكم.

59- وحيث تبيّنت الأمانة وتمّ الحكم بالعدل فعلى الناس الإطاعة ف {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ} بالائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} أصحاب الشأن الديني والدنيوي ولا بدّ من عصمتهم، إذ العاصي أو المخطئ لا تجب إطاعته إذا خالف أمر اللّه

ص: 239

ورسوله، وهؤلاء هم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) حصراً، {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ} أيها المأمورون فيما بينكم {فِي شَيْءٖ} من أمور دينكم فلم تعلموا حكمه{فَرُدُّوهُ} ارجعوا فيه {إِلَى} كتاب {اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، فالتشريع للّه وللرسول حصراً، والرجوع إلى الأئمة من أهل البيت رجوع إليهما؛ لأنهم يرشدون إليهما، فيفسرون القرآن ويبينون السنة الصحيحة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهذا الرجوع دليل الإيمان {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ ذَٰلِكَ} الرجوع {خَيْرٌ} لكم إذ فيه صلاح دينكم ودنياكم {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} مآلاً وعاقبة حيث المصير الجنة، عكس المخالفة التي مآلها إلى النار.

بحوث

الأول: ارتباط هذه الآيات بما قبلها، هو أنّ اللّه تعالى لمّا بيّن كفر الذين أوتوا الكتاب ومخالفاتهم العملية وأن هناك من آمن ومن صدّ، أراد بيان جزاء كلتا الطائفتين، فالكفار بآيات اللّه لهم جهنم مع ذكر كيفية عذابهم، والمؤمنون العاملون بالصالحات لهم جنات مع بيان بعض أوصافها.

ثم يبين اللّه أنّ سبب كفر أولئك هم أنهم خانوا الأمانة، حيث استأمنهم اللّه على الكتاب لكنهم كتموه وحرفوه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}(1)، كما أمرهم بأن يعملوا به ويحكمونه لكنهم جاروا، قال اللّه تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَىٰةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَمَا أُوْلَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ *

ص: 240


1- سورة آل عمران، الآية: 187.

إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَىٰةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} إلى قوله: {وَلَا تَشْتَرُواْ بَِٔايَٰتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ}(1).فيحذر اللّه المؤمنين من الوقوع فيما وقع فيه أولئك، فيعظهم بأداء الأمانة وبالحكم بالعدل، ثم يأمر بالإطاعة والإرجاع إلى اللّه والرسول حين التنازع لا إلى الأهواء والمصالح.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا...} الآية.

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ مصيرهم إلى جهنم حتى لو أمهلهم اللّه تعالى في الدنيا، فلم يؤاخذهم بكفرهم وعصيانهم فوراً، أراد اللّه تعالى في هذه الآية بيان بعض عذابهم، وهو احتراقهم بالنار مع عدم تخفيف العذاب عنهم، ومعنى الآية عام يشمل جميع الكفرة بالآيات، وإن كان شأن نزولها في هؤلاء.

وقوله: {بَِٔايَٰتِنَا} أي الدلائل الواضحة والبيّنة، فقد ذكرت أوصاف الرسول واسمه في التوراة بشكل جلي، وقد علموا بانطباقها على رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكذلك تجري الآية في الدلائل الواضحة على أوصياء رسول اللّه فقد قامت على إمامتهم البراهين والحجة التامة الواصلة.

وقوله: {سَوْفَ} استعملت في عذابهم، وفي الآية التالية السين في ثواب المؤمنين لعله للدلالة على أنّ الجنة أقرب إلى المؤمنين من النار إلى الكافرين، فإنّ الكفار حيث إنهم يقضون برزخاً مؤلماً يطول عليهم الأمد، بخلاف المؤمنين الذين يقضون برزخاً مريحاً، كذا في التقريب(2).

ص: 241


1- سورة المائدة، الآية: 43-44.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 494.

وقوله: {نُصْلِيهِمْ} من الإصلاء وهو مقاساة حرّ النار، وقد تستعمل في التدفئة والطبخ، والمراد هنا عذاب النار.

وقوله: {نَضِجَتْ} أصله بمعنى بلوغ النهاية في طبخ الشيء(1)، وبعد ذلك يبدأ التفحّم، وغير خفي أنّ النار إذا أصابت جسم الحيّ تبدأ بالتأثير في الجلد، وكلّما ازدادت قوة النار واستمر ملامسة الجلد لها ازداد تأثر الجلد فيزداد الألم، وتكون شده الألم حين الوصول إلى مرحلة النضج، وبعد ذلك تبدأ مرحلة التفحّم فتتلف الأعصاب فلا يشعر المحروق بالألم، وعن بعض الأطباء أنه قال: إذا كان المحروق يشعر بالألم الشديد فمعنى ذلك إمكان إنقاذه وعلاجه، فإن كان الحرق شديداً والمحروق لا يشعر بألمه، فمعنى ذلك انقطاع الأمل بعلاجه لتلف الأعضاء.

والحاصل أنّ مرحلة النضج هي مرحلة شدة الألم، فإذا تعدى النضج زال الإحساس.

وحيث إنّ هؤلاء الكفرة لا بد أن يستوفوا عذابهم بما يستحقونه وهم يحشرون إلى جهنم بأجسامهم هذه، فقدّر اللّه تعالى إرجاع جلودهم إلى حالتها الأولية، كلّما نضجت ليبقى شعورهم بالعذاب من غير تخفيف، جزاءً وفاقاً لما ارتكبوه من جرائم.

وقوله: {جُلُودًا غَيْرَهَا} أي غيرها في الصورة، وإن كانت هي نفسها في مادتها، قال ابن أبي العوجاء: هب هذه الجلود عصت فعُذبت فما بال الغير؟ فقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «هي هي، وهي غيرها... أرأيت لو أنّ رجلاً عمد

ص: 242


1- مقاييس اللغة: 994.

إلى لبنة فكسرها ثم صبّ عليها الماء وجَبَلها ثم ردّها إلى هيئتها الأولى، ألمتكن هي هي، وهي غيرها؟»(1).

وقوله: {لِيَذُوقُواْ} أي ليدوم لهم الإحساس به، وفي المجمع: ليبيّن أنهم كالمبتدأ عليه العذاب في كل حالة، فيحسون في كل حالة ألماً لكن لا كمن يستمر به الشيء فإنه يصير أخف عليه(2)، وهؤلاء {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ}(3).

الثالث: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٖ...} الآية.

كان الغرض الأصلي من الآيات بيان مخالفة الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، ومن ثم جزاؤهم بالنار، لتحذير المؤمنين من هذه الأفعال، فلإكمال المطلب تمّ ذكر ثواب أهل الجنة لزيادة الترغيب مضافاً إلى الترهيب.

ولا يخفى لطف الصفات المذكورة في الآيتين: فأولئك النار، وهؤلاء الجنة، ثم أولئك: نضج الجلود مع ما فيه من قيح وصدأ، وهؤلاء: ملامسة الأزواج المطهرة، ثم أولئك: ليذوقوا العذاب، وهؤلاء: الظل الظليل، ثم أولئك: تبديل الجلود باستمرار، وهؤلاء: خالدون في الجنة أبداً.

قوله: {مِن تَحْتِهَا} مرّ أنّ المراد من أسفلها فالجنة مركبة من أغصان الأشجار في أعلاها، والأنهار في أسفلها، فلا حاجة إلى تقدير من تحت أشجارها أو تحت قصورها.

ص: 243


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 129؛ عن أمالي الشيخ الطوسي.
2- مجمع البيان 3: 161.
3- سورة البقرة، الآية: 162.

وقوله: {ظِلًّا ظَلِيلًا} الظليل مبالغة في حسن ذلك الظل، وتأكيد له،والعرب قد تشتق من الكلمة للمبالغة، كقولهم ليل أليل، فالمراد أنه ليس كظل الدنيا قد يقي الشمس لكنه حارّ مثلاً، بل هو ظل حسن لا فيه حرّ ولا زمهرير.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا}.

موعظة للمؤمنين لئلا يكون مآل أمرهم إلى ما آل إليه أمر أهل الكتاب من خيانتهم لأمانة اللّه لهم وعهده وميثاقه، فمورد الآية خاص بعدم كتمان أصول الدين والحكم بالحق فيها، إلاّ أنّ معنى الآية عام شامل لكل أنواع الأمانة.

أ- فأهم الأمانات أمانة اللّه تعالى، قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(1)،

وقال سبحانه: {لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ}(2)، وقال: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ}(3)، ومن ذلك استئمان اللّه الرسل على أوصيائهم فعليهم أن يبلّغوا وصايتهم، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ}(4)، وكذا كل إمام عليه أن يؤدي إلى الإمام الذي بعده، لأنّ الإمامة بتعيين من اللّه تعالى، فالرسول يبلّغها وينصب الإمام من بعده وكذا كل إمام يبلّغ الناس الإمام الذي من بعده، ولا خيرة لأحد في ذلك قال

ص: 244


1- سورة الأحزاب، الآية: 72.
2- سورة الأنفال، الآية: 27.
3- سورة الأنفال، الآية: 71.
4- سورة المائدة، الآية: 67.

تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(1)،وقد دلت على هذا المصداق متواتر الروايات فراجعها في تفسير البرهان وغيره(2).

ب- ثم أمانات الناس بينهم، قال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُۥ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ...} الآية.

أيضاً موعظة للمؤمنين بأن يتعظوا من مخالفة أهل الكتاب، حيث حكموا بأنّ الكافرين أهدى سبيلاً من المؤمنين، بل على الإنسان الحكم بالعدل حتى لو كان ذلك بضرره، فالحق أحق أن يتّبع، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(4)، وقال: {كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَٰلِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ}(5).

قيل: إنما قدّم أداء الأمانة على الحكم بالعدل؛ لأنّ الحكم خاص حين التنازع، أما أداء الأمانة فهو عام، أو لأنّ أداء الأمانة يرتبط بالإنسان نفسه، وأما الحكم فهو بين الناس، فعلى الإنسان أن يصلح أمر نفسه أولاً ثم يصلح

ص: 245


1- سورة القصص، الآية: 68.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 130-134.
3- سورة البقرة، الآية: 283.
4- سورة المائدة، الآية: 8.
5- سورة النساء، الآية: 135.

بين الناس.

وقوله: {نِعِمَّا} أي نِعم ما، وما موصولة بمعنى الذي، والمخصوصبالمدح محذوف لدلالة الكلام عليه، أي نِعم الذي يعظكم هذا الأمر بالأداء والعدل، وقيل غير ذلك.

والموعظة هي الكلام الذي يرق له القلب فيخشع ويخضع للحق.

السادس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}.

هذه الآية إما تفصيل للآية السابقة ببيان أهم المصاديق، فأداء الأمانة هو بإطاعتهم، والحكم بالعدل هو الرجوع إليهم حين التنازع.

أو بيان تكليف كل طائفة، فأما الرسول والأئمة فتكليفهم هو أن يبلّغوا عن الأوصياء من بعدهم وأن يحكموا بين الناس بالعدل، وأما الناس فتكليفهم إطاعتهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في هذه الآية: «أمر اللّه الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده، وأمر اللّه الأئمة أن يحكموا بالعدل، وأمر الناس أن يطيعوهم»(1)، فهنا ثلاثة تكاليف: تكليف الإمام بالنسبة إلى الإمام الذي بعده هو أن يسلّمه مواريث الأنبياء وسلاح رسول اللّه والكتب، وقد ذكرنا تفصيلها في شرح أصول الكافي، وتكليف الإمام بالنسبة إلى الناس هو الحكم بالعدل، وتكليف الناس بالنسبة إلى الإمام هو طاعته.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أيها الناس، إنّ لي عليكم حقاً، ولكم عليّ حق، فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا

ص: 246


1- تفسير العياشي 1: 249.

تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأمّا حقيّ عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحةفي المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم»(1).

ثم إنّ إطاعة اللّه واجبة بالذات؛ لأنّه الخالق الرازق وزمام الأمور بيده، وأما إطاعة الرسول وأولي الأمر فوجوبها بأمر من اللّه تعالى، قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}(2)، ولذا فصل بتكرار أطيعوا، مع أنّ طاعتهم طاعته؛ لأنه هو الآمر بها قال تعالى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(3)، فلذا كان الأمر بطاعة الرسول بعد الأمر بطاعة اللّه في آيات متعددة تبجيلاً للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبيان أنّ أوامره كأوامر اللّه تعالى، كذا في التقريب(4).

معنى أولي الأمر

وقوله: {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} لا يراد بهم الحكّام وأمراء السرايا والعلماء ونحوهم، بل يراد بهم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) حصراً، فإنّ اللّه أمر بإطاعة أولي الأمر إطاعة مطلقة، وقرن طاعتهم بطاعة اللّه وطاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي طاعتهما لا قيد فيها، وذلك لا يعقل مع صدور العصيان أو الخطأ منهم، وإلاّ لتناقضت الآية فيما لو أمر غير المعصوم - عصياناً أو خطأً - بمعصية اللّه تعالى، فهل يطيع اللّه أم يطيع غير المعصوم!؟ قال اللّه تعالى: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}(5)،

فدلّت الآية على عصمة أولي الأمر، وقد أجمعت الأمة على عدم عصمة الخلفاء والحكّام

ص: 247


1- نهج البلاغة، الخطبة: 34.
2- سورة النساء، الآية: 64.
3- سورة النساء، الآية: 80.
4- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 495.
5- سورة يونس، الآية: 35.

والعلماء سوى الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، الذين ادعيت لهم العصمة دونغيرهم، وقد دلّت الأدلة القرآنية والروائية والعقلية على عصمتهم، ولو لم يكن دليل إلاّ هذه الآية لكفى بها دليلاً، إذ لولا أنّ اللّه عصمهم لم يكن لهذه الآية مصداق خارجي، تعالى اللّه سبحانه عن اللغو والعبث بالأمر بشيء لا مصداق له.

المرجع حين التنازع

السابع: قوله تعالى: {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}.

أي: تنازعتم فيما بينكم، لا النزاع مع اللّه أو مع الرسول أو مع أولي الأمر، إذ لا معنى للنزاع معهم بعد الأمر بطاعتهم إطاعة مطلقاً، فالمقصود النزاع الذي يقع بين المؤمنين في أمور دينهم فهنا المرجع كتاب اللّه وقول الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

سؤال: إذا وجبت إطاعة أولي الأمر أيضاً فلماذا لم يجعلهم المرجع في التنازع أيضاً؟

والجواب: أنّ الأئمة (عليهم السلام) ليسوا مشرّعين، فالتشريع تمَّ في حياة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث أنزل اللّه تعالى في يوم الغدير {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(1)، وعليه فلو اختلف المسلمون في حكم من الأحكام فلا بد من الرجوع إلى المشرّع، وهو اللّه تعالى بالذات، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإذن اللّه، وأما كيفية معرفة ذلك التشريع فالطريق هو سؤال الأئمة (عليهم السلام) حيث إنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر بالتمسك بهم فقال: «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي

ص: 248


1- سورة المائدة، الآية: 3.

أبداً»(1)،فأكثر سنن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصحيحة لم تصلنا إلاّ عبر الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، وفي اختلاف الناس في تفسير القرآن وتأويله فالصحيح هو ما قالوه (عليهم السلام) .

ومن ذلك يتبيّن أنّ التنازع المذكور في الآية ليس التنازع في القضايا الإدارية، إذ هي قضايا متجددة مستحدثة غير مذكورة في الكتاب والسنة، وإنما المقصود الأحكام الشرعية لتلك القضايا وغيرها، وهي التي تكفّل الكتاب والسنة ببيانها، وقد نقلها الأئمة (عليهم السلام) للناس.

ومن ذلك يتضح معنى كلام الرسول في حديث الثقلين، حيث خلّف القرآن وأهل البيت وأمر بالتمسك بهم، ولم يقل: (وسنتي) فإنه حديث موضوع لا سند له حتى عند غير الشيعة، فإنّ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) كانوا حفظة السنة، فلذا لا بد من التمسك بهم لمعرفة الصحيح منها عن السقيم الموضوع.

وبهذا يتضح معنى الأحاديث التي أضافت إطاعة أولي الأمر حين التنازع، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «ثم قال للناس {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فجمع المؤمنين إلى يوم القيامة {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} إيانا عنى خاصة، فإن خفتم تنازعاً في الأمر فارجعوا إلى اللّه وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم، هكذا نزلت، وكيف يأمرهم بطاعة أولي الأمر ويرخص لهم في منازعتهم، إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}» (2)، وقوله (عليه السلام) هكذا

ص: 249


1- وسائل الشيعة 27: 34.
2- تفسير العياشي 1: 247؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 145.

نزلت يراد به نزول تفسيرها، كما ذكرنا مراراً أنّ القرآن كما نزل لفظه على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذلك نزل تفسيره وتأويله، قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُۥ وَقُرْءَانَهُۥ * فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُۥ}(1).

والمقصود أنّ قوله: {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ} ليس التنازع مع أولي الأمر فذلك يناقض الأمر بطاعتهم مطلقاً، بل المعنى التنازع فيما بينكم، حيث إنّ الخطاب للمؤمنين لا لأولي الأمر، ثم بيان أنّ معنى الردّ إلى اللّه والرسول يشمل الرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) ؛ لأنهم يبينون التفسير الصحيح للقرآن والسنة الصحيحة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ثم يخطر معنى آخر للآية، وهو أنّ التنازع إذا كان في تشخيص من هم أولو الأمر؟ فلا بد من الرجوع إلى القرآن وسنة الرسول، حيث دلاّ على تعيين أولي الأمر في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام) ، وذلك لأنّ معرفة أولي الأمر المعصومين لا تتيسّر لعامة الناس إلاّ بدلالة من اللّه في كتابه والرسول في سنته، وقد نزلت آيات من القرآن فيهم من غير تسميتهم، وفسّرها رسول اللّه تعالى للمسلمين بأنّ المراد منها الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، وبذلك يرتفع النزاع لمن ألقى السمع وعقل.

الثامن: قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ...} الآية.

أي إطاعتهم والرد إليهم حين التنازع علامة الإيمان وكاشف عنه، فالإيمان إذعان بالقلب، وشرطه الإقرار باللسان، والكاشف عن صدقه العمل بالأركان، فمن يؤمن باللّه وباليوم الآخر يطيعهم ولا يعصي لهم أمراً ولا نهياً،

ص: 250


1- سورة القيامة، الآية: 17-19.

وحين الاختلاف يجعلهم الميزان، سواء طابق حكمهم هواه أم خالفه،قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(1).

وقوله: {ذَٰلِكَ خَيْرٌ} أي أفضل لكم من العصيان وعدم الإرجاع إليهم؛ لأنهم لا يرشدونكم إلاّ إلى الحق، وليس في ذلك إلاّ صلاح دينكم ودنياكم.

وقوله: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} من الأوْل بمعنى المرجع والعاقبة، أي أحمد عاقبة لكم، حيث إنّ المصير إلى الجنة ورضوان اللّه تعالى.

والحاصل أنّ الإنسان تتحكم فيه عوامل كثيرة، ولذا قد يخطئ أو ينجر إلى ما لا مصلحة له فيه، وأما المعصومون فلا تتحكم فيهم الأهواء ولا يخطئون، فأمرهم ونهيهم إنما هو عن مصلحة للإنسان ودفع مفسدة، فإطاعتهم والرد إليهم خير له وأحسن مصيراً.

ص: 251


1- سورة النساء، الآية: 65.

الآيات 60-63

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَٰلَا بَعِيدًا 60 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا 61 فَكَيْفَ إِذَا أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةُ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَٰنًا وَتَوْفِيقًا 62 أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلَا بَلِيغًا 63}

ثم بعد مثال الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يأتي ذكر مثال آخر من المنحرفين وهو المنافقون، فقال تعالى:

60- {أَلَمْ تَرَ} استفهام للتعجب {إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} حيث قالوا ذلك بألسنتهم وتأباه أعمالهم وقلوبهم {أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} القرآن، {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} كالتوراة والإنجيل، {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ} يترافعوا في نزاعاتهم {إِلَى الطَّٰغُوتِ} كحكّام الجور {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} بالطاغوت، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ} بما زيّن لهم من سوء عملهم فرأوه حسناً {أَن يُضِلَّهُمْ} عن الحق {ضَلَٰلَا بَعِيدًا} لا رجعة فيه.

61- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} لهؤلاء المنافقين {تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي

ص: 252

تشريعاته {وَإِلَى الرَّسُولِ} بقضائه العدل {رَأَيْتَ} يا رسول اللّه {الْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ} يعرضون ويمنعون {عَنكَ صُدُودًا} واضحاً.

62- لكن سيصيبهم وبال صدّهم وسيندمون {فَكَيْفَ} يكون حالهم {إِذَا أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةُ} عقوبة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بسبب إعراضهم وصدّهم {ثُمَّ جَاءُوكَ} غير تابئين، بل معتذرين بالأكاذيب ف {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ} نافية، أي ما {أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَٰنًا} إليك بالتخفيف عنك فلم نراجعك {وَتَوْفِيقًا} بين الخصوم، فلم نرد حملهم على مُرّ الحكم، بل على التصالح بينهم.

63- {أُوْلَٰئِكَ} المنافقون {الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} حيث يكذبون، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أتركهم ولا تُظهر قبولاً أو تكذيباً لقولهم، {وَعِظْهُمْ} ببيان الأحكام والذكرى، {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ} في شأنهم وحولهم {قَوْلَا بَلِيغًا} يبلغ الحق، أي يؤثر فيهم كتخويفهم بالعقوبات إن أظهروا ما في أنفسهم من النفاق.

بحوث

الأول: قد مرّ أنّ اللّه تعالى لما دعا الناس إلى الإيمان والعمل الصالح شفع ذلك بمثالين لمن خالفوا مع بيان مصيرهم، كان الأول حول اليهود (الآيات 44 فما بعد)، وهذه الآيات حول المثال الثاني، وهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان ولكن عملهم عمل الكفار، ويكشف عن سوء ما أضمروه، وكلّما عوقبوا على نفاقهم بدلاً من التوبة يعتذرون بأعذار كاذبة.

وحيث انتهت الآيات السابقة إلى أداء الأمانة والحكم بالعدل وإطاعة اللّه

ص: 253

والرسول وأولي الأمر، بدأت هذه الآيات ببيان رفضهم لحكم العدل ومخالفتهم لكتاب اللّه تعالى وعدم إطاعتهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع اختلاقهم الأعذار الواهية يريدون بها خداع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فيأمر اللّه تعالى رسولهبكيفية التعامل معهم بالإعراض أولاً، وبالموعظة ثانياً، وبالقول البليغ ثالثاً.

الثاني: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ...} الآية.

كما أنّ أولئك أوتوا نصيباً من الكتاب فلم يعملوا به ولم يفوا بالمواثيق التي فيه، كذلك هؤلاء نزل القرآن عليهم وهم يُظهرون إيمانهم به مع زعمهم الالتزام بكل لوازم الإيمان به، والتي منها الإيمان بالكتب السماوية السابقة، والقرآن وسائر الكتب تأمر بالكفر بالطاغوت لكن هؤلاء يتحاكمون إليه، وبذلك يتبيّن كذبهم في زعمهم الإيمان، إذ الإيمان بحقيقته يظهر على الأعمال، فعملهم يكذّب ادعاءهم الإيمان، وقد مرّ سابقاً أنّ الالتزام بالشريعة كاشف عن صدق الإيمان، وكلّما كان الإيمان أقوى كان العمل أشد، وكلّما ضعف الإيمان ضعف العمل، فالعصاة من المسلمين سبب عصيانهم هو ضعف إيمانهم.

وقوله: {يَزْعُمُونَ} الزعم هو حكاية القول أو الاعتقاد، ويستعمل غالباً فيما لم يكن مطابقاً للواقع، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أما علمت أنّ كل زعم في القرآن كذب»(1).

وقوله: {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} إنما أضاف هذا المقطع، باعتبار أنّ الكتب السماوية السابقة أيضاً أمرت بالكفر بالطاغوت.

ص: 254


1- الكافي 2: 342.

وهنا تشارك في الصفات بين الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، وبين هؤلاء الذين يزعمون الإيمان بالقرآن وبالكتب السابقة، فأولئك يؤمنون بالجبت والطاغوت، وهؤلاء يتحاكمون إلى الطاغوت، وأولئك يرجحون الكفارعلى المؤمنين ويزعمون أنهم أهدى سبيلاً، وهؤلاء يرجحون حكم الطاغوت ويصدون عن الرسول.

وقوله: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّٰغُوتِ} أي يتحاكمون إليه عملاً، وإنما ذكر الإرادة؛ لأنّ منشأ عملهم هو قلوبهم، فمن يُر ِد شيئاً سعى للوصول إليه، وإذا صنعه كشف ذلك عن نيته وما يدور في خلده، ولهذا السبب شاع استعمال الإرادة في الفعل؛ وإنما يريدون ذلك لأنّ الطاغوت يؤمِّن مصالحهم دائماً بأخذ الرشوة وبالحكم بالباطل، وأما الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقضاة العدل فإنهم يحكمون بالحق، وقد لا يتطابق العدل مع مصالح هؤلاء، نعم لو علموا بأنّ الحق معهم فيسرعون إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا لأجل الرضا بحكمه، بل لأجل مصلحتهم قال تعالى: {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}(1).

والحاصل أنّ اللّه أمرهم في الآية السابقة أن يرجعوا إلى اللّه ورسوله حين التنازع لكنهم يخالفون ويريدون التحاكم إلى الطاغوت.

وقوله: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} أما فيما أنزل إلى الرسول ففي قوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ}(2)، وأما فيما أنزل من قبله

ص: 255


1- سورة النور، الآية: 48-49.
2- سورة البقرة، الآية: 256.

فقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّٰغُوتَ}(1).

وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ...} بيان لسبب تحاكمهم إلى الطاغوت، وهو تزيين الشيطان الضلال لهم، فمع البراهين الساطعة على الحق ومع أمره تعالى في الكتب السماوية هؤلاء يعرفون الحق، لكن يضلّهم الشيطان بتزيين الباطل لهم.

وقوله: {ضَلَٰلَا بَعِيدًا} فيه دلالة على أنّ التحاكم إلى الطاغوت انحراف شديد عن الصراط المستقيم، أو أنه مقدمة إلى انحرافات أكبر، فالتحاكم إلى الطاغوت يجرّهم إلى الكفر، فالكثير لم يكن إيمانه في البداية عن نفاق، لكن لمّا تعارضت مصالحه مع بعض الأحكام خالفها فدبّ النفاق في قلبه قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(2)،

كالذين يسلمون تأثراً بالأجواء العامة من غير استمكان الإيمان في قلوبهم، فإن أحسنوا عملاً دخل الإيمان قلوبهم ورسخ فيها، وإن أساؤوا دبّ النفاق فيها، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمْ}(3).

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ...} الآية.

أي ليس تحاكمهم إلى الطاغوت مجرد غفلة عن أمره تعالى بالكفر به،

ص: 256


1- سورة النحل، الآية: 36.
2- سورة الروم، الآية: 10.
3- سورة الحجرات، الآية: 14.

بل عن عمد وإصرار، ولذا لو دعوا إلى حكم الشرع رفضوا ذلك.

وقوله: {إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي أحكامه التشريعية التي أنزلها في القرآن.

وقوله: {إِلَى الرَّسُولِ} أي قضائه وفصله بين المتنازعين، وبذلك لميطيعوا اللّه في تشريعه ولم يطيعوا الرسول في قضائه.

وقوله: {يَصُدُّونَ عَنكَ} أي لا يكتفون في عدم الرجوع إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل يصدون الناس عن ذلك وهو زيادة في كفرهم، ومن المعلوم أنّ الصد عن الرسول هو صدّ عن حكم اللّه تعالى؛ لأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو المنّفذ لحكمه تعالى، بل سبب صدّهم عن الرسول هو أنهم لا يريدون حكم اللّه تعالى، وبذلك يتبيّن علة عدم ذكر صدهم عن حكم اللّه والاكتفاء بذكر صدّهم عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

الرابع: قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةُ...} الآية.

هذه الآية تتضمن تهديدهم وبيان عاقبة أمرهم بأنّهم يتحاكمون إلى الطاغوت ويصدون عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بغية الوصول إلى مكاسب ومنافع لا يستحقونها، لكنهم من حيث لا يريدون يصيبهم الضرر البالغ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»(1) فإنّ العدل إذا عمّ تفتّقت الطاقات وظهرت الكفاءات وتبوّأ المناصب من هم لها أهل، وبذلك تعمر الديار وتكثر الثروات فيعيش الجميع بهناء، مع ما في ذلك من راحة الضمير واستتباب الأمن، ولكن مع شيوع الجور تقمع الكفاءات ويكون الترجيح بالكذب والزور، فتخرب

ص: 257


1- نهج البلاغة، الخطبة: 15.

الديار وتهدر الثروات، ودونك ما تشاهده في الدول الاستبدادية والدول التي تراعي شيئاً من حقوق الناس، قال اللّه تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْفَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(1).

وقوله: {فَكَيْفَ} عطف على قوله: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّٰغُوتِ}، والمعنى هذا حالهم وصنيعهم في الصد عن الرسول فكيف سيكون حالهم وصنيعهم حين المصيبة!

وقوله: {مُّصِيبَةُ} أي مشكلة دنيوية، مثل أن يظلمهم الطاغوت حتى فيما هو حقهم، فالذي يظلم غيرك لرشوتك، قد يظلمك لرشوة غيرك، أو لأنّ رشوته أعظم من رشوتك، أو لأنّ هواه كان في الطرف الآخر!!

وقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بسبب التحاكم إلى الطاغوت، أي كانت تلك المصيبة نتيجة ذلك التحاكم، فالباطل لا ينتج إلا الوبال والمشاكل.

وقوله: {ثُمَّ جَاءُوكَ...} أي لاستنقاذ حقهم أو للتخلص من مشاكل الحكم بالجور، أو اضطروا للرجوع إليك في قضية أخرى فيريدون تبرير عدم رجوعهم إليك في ذلك التحاكم.

وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ...} أي لم يكن رجوعهم إليك للتوبة والاستغفار كما سيأتي في الآية 64، بل للخداع وللتغطية على سوء فعالهم وللتبرير له، فلا يكتفون بالكذب فقط، بل يضيفون إليه اليمين الكاذبة.

ص: 258


1- سورة الأعراف، الآية: 96.

وقوله: {إِحْسَٰنًا وَتَوْفِيقًا} أي إحسان إليك والتوفيق بين الخصوم، أما الإحسان إليك فبالتخفيف عنك! وأما التوفيق بين الخصوم فلأجل أن يصطلحوا فيما بينهم من غير أخذ أحدهما بمرّ الحق، وهم في قولهم هذا كاذبون، إذ ليس في النفاق والتحاكم إلى الطاغوت إحسان إلىالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل كان عليهم الرجوع إليه وإطاعته، فلو كانوا يريدون التخفيف عنه كان عليهم العمل بالشرع، وبذلك تقلّ المنازعات، ولو كانوا يريدون التوفيق بين الخصوم لكان ذلك بالمصالحة من غير رجوع إلى الطاغوت، بل ضمن الإطار الشرعي وتنازل كل طرف عن بعض حقه مثلاً.

الخامس: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ...} الآية.

هذا تعليم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كيفية التعامل معهم، فيقال له: يا رسول اللّه أنت مكلّف بالعمل بالظاهر، وأما القلوب فأمرها إلى اللّه تعالى، فحتى المنافق إذا جاء ويحلف كذباً ليس عليك تكذيبه في قوله، بل اسكت عنه فلا تظهر تصديقاً ولا تكذيباً لقوله، لكن عليك أن تقوم بوظيفتك من الإرشاد والموعظة والتهديد العام ببيان العقوبات الدنيوية والأخروية للكفر والنفاق.

قوله: {يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي من النفاق، فليس من تكليفكم تكذيبهم حتى لو كانت القرائن دالة عليه، كذاك الذي أسلم حينما سلّط السيف عليه فقتله المسلمون فنزلت الآية: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}(1).

ص: 259


1- سورة النساء، الآية: 94.

لكن ليس ذلك بمعنى أن يترك الإنسان وظيفته، فهناك فرق بين منافق عمل عملاً ثم يريد التبرير لعمله لئلا ينكشف نفاقه فقط، وبين منافق يتخذ قوله وسيلة لطمس الحق والكيد على المؤمنين، ولذا رفض أمير المؤمنين (عليه السلام) طلب معاوية التحكيم؛ لأنه كان خدعة يريد بها كسب الوقتللتهرّب من الانصياع إلى الحق لمّا بانت الهزيمة في جيشه، لكن جهلة الخوارج انخدعوا بذلك فأجبروا الإمام على إيقاف الحرب، فإنّهم إن كانوا يريدون التحاكم إلى كتاب اللّه تعالى لتحاكموا إليه قبل المعركة لا أن يطلبوا التحاكم إليه فراراً من الهزيمة، ولو كانوا صادقين لرضخوا لحكم الإمام (عليه السلام) واستسلموا، ولذا في معركة الجمل قدّم الإمام أحد أصحابه قبل شروع الحرب يدعو أهل الجمل إلى حكم كتاب اللّه، لكنهم أبوا ورشقوه بالنبال وبيده كتاب اللّه فقتلوه.

والحاصل أنّ هناك فرقاً بين تبرير لفعل شخصي، وبين من يرفض الاستسلام للحق كيداً وخداعاً بأعذار واهية فهذا ينبغي مقارعته.

ثم إنّ اللّه تعالى يبيّن وظيفة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجاه هؤلاء المنافقين - المعتذرين كذباً - وهي ثلاثة أمور:

1- {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي اسكت عنهم لا تُبدِ قبولاً ولا رفضاً، أما القبول فهو سبب لتماديهم في غيهم، وأمّا الرفض فهو شق عمّا في قلوبهم وليس ذلك من وظيفة الرسول، بل وظيفته الظاهر.

2- {وَعِظْهُمْ} بالمواعظ العامة، فلعل هناك بارقة أمل في هدايتهم، فليس كل منافق مطبوعاً على قلبه، فلعل ذلك في بداية نفاقه ويمكن علاجه

ص: 260

بالموعظة.

3- {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلَا بَلِيغًا} قيل: هو تهديدهم تهديداً عاماً، كأن يقول لهم من أظهر كفره استأصلناه، ومن خالف الشرع عاقبناه بحدّ أو تعزير، ونحو ذلك.

وقوله: {فِي أَنفُسِهِمْ} متعلق بقوله: {قُل} أي قل حولهم وفي شأنهم، أو متعلق بقوله: {بَلِيغًا} أي قولاً يبلغ في أنفسهم فيؤثر فيها.

ص: 261

الآيات 64-68

اشارة

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا 64 فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا 65 وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا 66 وَإِذًا لَّأتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا 67 وَلَهَدَيْنَٰهُمْ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا 68}

ثم يبيّن اللّه تعالى أنّ الطاعة هي الغرض من إرسال الرسل فقال:

64- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ} فليس الرسول مجرد واعظ يرجع إليه الناس متى ما شاؤوا، بل عليهم أن يطيعوه في كل ما أمر ونهى، فما بالهم تركوه وتحاكموا إلى الطاغوت؟! {بِإِذْنِ اللَّهِ} بتوفيقه، فيوفّق اللّه لتلك الطاعة من كانت له القابلية، {وَلَوْ أَنَّهُمْ} المتحاكمين إلى الطاغوت {إِذ} في الوقت الذي {ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بذلك التحاكم {جَاءُوكَ} تائبين لا حالفين كذباً للتبرير {فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ} طلبوا غفرانه عن ظلمهم حيث خالفوا أمره {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} دعا اللّه ليغفر لهم لمّا وجدهم نادمين فشفع لهم، حينذاك {لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} أي علموا بقبوله توبتهم، أو هذا

ص: 262

وعد بالقبول، فاللّه تعالى تواب يقبل التوبة، ورحيم بهم فيزيدهم من فضله.

65- {فَلَا وَرَبِّكَ} أي ليس الأمر كما يزعمون بأنهم آمنوا بما أنزل إليكوما أنزل من قبلك ف {لَا يُؤْمِنُونَ} إيماناً حقيقياً خالصاً من الشرك والنفاق {حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ} يجعلونك حَكَماً بدلاً من التحاكم إلى الطاغوت {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فيما اختلفوا فيه وتخاصموا {ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ} في قلوبهم {حَرَجًا} ضِيقاً {مِّمَّا قَضَيْتَ} فلا يجدون صعوبة في قبول حكمك الذي لم يكن بصالحهم {وَيُسَلِّمُواْ} عملاً بالانقياد لحكمك {تَسْلِيمًا}.

66- {وَ} لكن أكثرهم غير مؤمنين، فلذا لا يطيعون اللّه تعالى في الأحكام الصعبة فضلاً عن طاعة الرسول ف {لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا} أوجبنا {عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} كتعريضها للجهاد {أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم} بالهجرة إلى غيرها {مَّا فَعَلُوهُ} الضمير يرجع إلى المكتوب، أو كل واحد من القتل أو الخروج، وذلك لما فيه من المشقة {إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} ممن تاب.

لكن الأحكام الإلهية حتى لو كانت صعبة فإنّ نفعها يرجع إليهم لو أطاعوا {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من إطاعة الرسول والتحاكم إليه وعدم الحرج من حكمه والتسليم له {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} أصلح لأمورهم {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} لإيمانهم، فكل طاعة تقوّي الإيمان، كما أنّ كل معصية تضعّفه.

67- {وَإِذًا} أي حينما يفعلون ما يوعظون به {لَّأتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّا} من عندنا {أَجْرًا عَظِيمًا} وهذا تأكيد للوعد وتشريف المؤمن بأنّ الثواب من عند اللّه تعالى.

ص: 263

68- {وَلَهَدَيْنَٰهُمْ} في مستقبل أمرهم كما اهتدوا فيما مضى {صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا} إما بمعنى البقاء على الهداية، أو الهداية إلى الجنة في الآخرة.

بحوثالأول: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}.

تأكيد لوجوب إطاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتحاكم إليه، ببيان أنّ الغرض من إرسال الرسل ليس مجرد الوعظ والتذكير مع اختيار الناس في الرجوع إليهم أو إلى غيرهم، بل الغرض هو إطاعة الناس لهم في كل ما أمروا به أو نهوا عنه أو حكموا به، فلذا يجب على الناس الرجوع إليهم وقبول ما قالوا، نعم هذا وجوب تشريعي تستتبع إطاعته الثواب ومخالفته العقاب الأخروي، من غير إكراه الناس على قبوله، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1) بمعنى لا يجبر أحد على قبول الإسلام، وقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(2)، نعم لو قبلوه باختيارهم فعليهم أن يلتزموا بلوازم هذا الاختيار، فإن خالفوا عوقبوا بالحدّ أو التعزيز، كمن لا يلزمه بيع داره، لكنه إذا أقدم على البيع باختياره فلا يحق له الامتناع عن تسليم المبيع، فإن امتنع أخذت منه قسراً، وقد مرّ البحث في قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.

والحاصل أنّ اللّه تعالى قد أوجب على الناس إطاعة الرُسل وجوباً تشريعياً، فلا يحق لهم التحاكم إلى غيرهم والصد عنهم.

وفي مجمع البيان: في هذه الآية إبطال مذهب المجبرة بأنّ اللّه يريد أن

ص: 264


1- سورة البقرة، الآية: 256.
2- سورة الغاشية، الآية: 21-22.

يعصي قوم أنبياءه ويطيعهم آخرون(1).

بل اللّه تعالى يريد إطاعة الجميع، لكن إرادة تشريعية، بمعنى أنه شرّعوجوبها، ولم تكن إرادة تكوينية بمعنى إكراه الناس عليها تكويناً، بل أراد تكويناً اختيارهم، فتحققت كلتا إرادتيه، فإنّ إرادة اللّه تعالى لا تنفك عن المراد أبداً، فأراد التشريع فصدر، وأراد الاختيار تكويناً فتحقّق، وأما قول البعض بأنه تعالى أراد الإطاعة باختيارهم! إن كان مقصودهم ما ذكرناه فهو، وإلاّ كان كلاماً متناقضاً أو كان بحاجة إلى تأويله!

وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} إمّا بمعنى بتوفيقه وتسهيله، فإنّ المؤمن إنما يطيع؛ لأنّ اللّه تعالى هداه بسبب حسن اختياره فأوجد القابلية في نفسه لهداية اللّه، والكافر إنما يعصي بخذلان اللّه تعالى له بسبب سوء اختياره، حيث أسقط نفسه عن الأهلية، وإمّا هو تأكيد؛ لأنّ إرساله ليطاع هو بمعنى إذنه في إطاعته، وإمّا ليطاع تشريعاً بإذنه تكويناً، وهذا يرجع إلى الأول.

وفي التقريب: فهو المأذون من قِبل اللّه سبحانه في أن يطاع، أي ليس لأحد أن يطيع أحداً جبراً إلاّ إذا كانت السلطة ناشئة من قبل اللّه وإذنه، وإلاّ فلا سيطرة لأحد على أحد، مع العلم أنّ الأشياء كلّها ملك اللّه سبحانه(2).

الثاني: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ...} الآية.

مقابل مجيئهم معتذرين بالكذب في قوله: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ...}، وفي هذا فتح باب التوبة عليهم فلعلّ البعض - ولو القليل - يهتدي بهذا

ص: 265


1- مجمع البيان 3: 174.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 500.

الإرشاد، فبدلاً من حلفهم كذباً يستغفرون اللّه، وبدلاً عن كذبهم بأنهم أرادوا التخفيف عن الرسول يطلبون منه أن يستغفر لهم، وبدلاً عن كذبهم بأنهمأرادوا التوفيق بين الخصوم يحكّمون الرسول ويقبلون حكمه قلباً وعملاً.

وقوله: {ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} للدلالة على أنّ تحاكمهم إلى الطاغوت لا يضرّ اللّه ورسوله شيئاً، بل يضرّهم حيث بخسوا أنفسهم حقها فأدخلوا عليها الضرر وفوّتوا عليها المنفعة سواء الدنيوية منهما أم الأخروية، ومصداق ذلك الظلم في هذه الآيات بالتحاكم إلى الطاغوت والمعصية والصد عن الرسول والحلف كاذباً.

وقوله: {فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ} أي بإخلاص؛ لأنهم لو لم يكونوا مخلصين لتذرعوا بالأعذار الكاذبة، لكن حيث يستغفرون فلا يكون استغفارهم إلا بإخلاص.

توسيط الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للتوبة

وقوله: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} حيث وجدهم نادمين فرآهم أهلاً للشفاعة، فلا يشفع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا لمن ارتضاه اللّه تعالى، والتائب مرضيّ له تعالى.

وقوله: {لَوَجَدُواْ اللَّهَ} هذا تقوية للوعد، والوجدان هنا بمعنى العلم، بمعنى لصدقهم اللّه وعده، كما يقال: وعدني فلان بكذا فلمّا ذهبت إليه وجدته عند وعده، فقبل رجوعهم كانوا يعلمون بأنه توّاب رحيم، لكن حين مراجعتهم وجدوا صدق الوعد بتحققه وإنجازه.

وقوله: {تَوَّابًا} لذنوبهم السابقة.

وقوله: {رَّحِيمًا} بفضله عليهم، كأن يبدّل اللّه سيئاتهم حسنات، أو يتقبل أعمالهم الصالحة حينما زال المانع عن قبولها وهو تلك المعاصي.

ص: 266

قال العمّ الشهيد في كتاب خواطري عن القرآن: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْأَنفُسَهُمْ} بارتكاب المعاصي، فإنهم بارتكابها قد خالفوا اللّه وخالفوك أيّها النبيّ وأساؤوا إلى المجتمع الذي ارتكبوا فيه الحرام؛ لأنّ المجتمع يتأثر بعمل كل فرد من أفراده، فتعلّق بهم حق اللّه وحقّك وحق المجتمع، فأصبحوا تحت طائلة الحق الخاص الذي هو حق أنفسهم، وتحت طائلة الحق العام الذي هو حق اللّه وحقك وحق المجتمع، فإذا استغفروا اللّه في خلواتهم يكونون قد أدّوا الحق الخاص، وبقي عليهم العام، وبما أنهم لا يبرأون من الذنب طالما لم يؤدّوا الحق، إضافة إلى أنّ الحق واحد لا يتجزأ، فإنّ اللّه قد لا يغفر لهم، فإذا {جَاءُوكَ} يا رسول اللّه تائبين {فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ} أمامك لأداء الحق الخاص، فاعتبر الرسول استغفارهم استغفاراً صادقاً {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} لأداء الحق العام {لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}. واشتراط الاستغفار أمام الملأ شرط الغفران؛ لأنّ الذي شجّع فكرة ارتكاب الحرام في المجتمع ذاته بالاستغفار أمام الملأ يكون قد صحّح ما أخطأ فيه... ولعل المهم من كل ذلك اشتراط الاستغفار أمام الملأ ليعرف من يمارس الحرام أنّ عليه أن يدفع ماء وجهه ثمناً لتوبته، فلا يتسرّع في الحرام لأقل نزوة تتحرك فيه، ولتصحيح ما أفسده من المجتمع بارتكاب الحرام حتى يعرف الناس أنّ لارتكاب الحرام ثمناً عليهم أن يدفعوه، فلا يتسرّعوا إلى اتباع مذنب يقترف سيئة(1).

كما أنّ اللّه تعالى جعل رسوله الواسطة في فيضه، فكما جعله الوسيط في

ص: 267


1- خواطري عن القرآن 1: 337-338.

تبليغ إرادته وشرعه، كذلك جعله الوسيط في غفران الذنوب بشفاعتهوقبولها، بل حيث إنّ اللّه تعالى حكيم، والجنة والرضوان لهما قيمة، فليس من الحكمة نيل الناس لهما إلاّ لو كانت لهم الأهلية، ولا تحصل هذه القابلية إلاّ بالشفاعة، فليست الشفاعة لغفران الذنوب فقط، بل لنيل الثواب في الآخرة أيضاً.

ثم اعلم أنّ هذه الآية تجري في أوصياء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنهم بعد رسول اللّه وسائط فيض اللّه تعالى، والشفعاء في هذه الأمة من بعده، وقد أمر اللّه تعالى بطاعتهم حيث قرنها بطاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو أنّ تأويل الآية فيهم، وعلى هذا تحمل الروايات الدالة على نزولها في أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) فإنها من الجري أو التأويل.

الثالث: قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ...} الآية.

نفي لزعمهم الإيمان باللّه مع تحاكمهم إلى الطاغوت، كما مرّ في الآية 60، فليس الإيمان بمجرد الزعم ولقلقة اللسان، بل لا بدّ من ضمّ القلب والعمل إليه، فالإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان.

وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} أي ليس إيماناً حقيقياً يخرجهم من الكفر الباطني، أو ليس إيماناً مرضياً به يستتبع الثواب والجنة، فالإيمان باللّه يتوقف على تحكيم الرسول والرضا بحكمه والتسليم به؛ لأنّ الرسول لا يحكم إلا بشرع اللّه تعالى، قال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ}(2)، وقال: {وَيَقُولُونَ

ص: 268


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 156 فما بعد.
2- سورة النساء، الآية: 105.

ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَمَا أُوْلَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُممُّعْرِضُونَ}(1).

وقوله: {حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ} يتخذوك حكماً يتحاكمون إليه في خلافاتهم بدلاً من التحاكم إلى الطاغوت، ولا يخفى أنّ المورد وإن كان خاصاً إلا أنّ معنى الآية عام بالرجوع إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمعرفة الحكم الشرعي ومن ثم العمل به بدلاً من الرجوع إلى غير الشرع.

وقوله: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} من الشجار بمعنى التنازع والخلاف، ومعنى الآية أيضاً عام حتى فيما لم يكن فيه شجار، وإنما تمّ ذكر الشجار بحسب مورد الآية، ولأنّ الرجوع حين الشجار أصعب، حيث تتضارب الأهواء والشهوات فيكون ظهور الإيمان من عدمه فيه أقوى.

وقوله: {حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ} الحرج هو الضيق في النفس، فمركز الإيمان القلب، فلو ضاق القلب عن حكم الشرع فمعنى ذلك عدم استمكان الإيمان فيه، وإلا فلا يضيق القلب عن أمر يعتقد به حتى لو كان خلاف الأهواء، فالمريض يستطيب الدواء الذي يعتقد أنّ فيه علاجه حتى لو كان مُرّاً، أما لو لم يعتقد بصحة كلام الطبيب أو كان شاكاً فيه فلا يستطيبه حتى لو كان الدواء حلواً!

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «لو أنّ قوماً عبدوا اللّه وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجّوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا

ص: 269


1- سورة النور، الآية: 47-48.

لشيء صنعه اللّه أو صنعه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية {فَلَاوَرَبِّكَ...} ثم قال: عليكم بالتسليم»(1).

والمراد الشرك الخفي الذي لا يُخرج عن الملّة، لكنه قد يحبط العمل أو يمنع قبوله؛ لأنّ في ذلك ترجيحاً لفهمه، فكأنّه أشرك نفسه في التشريع!

وقوله: {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} أي ينقادون عملاً، فعدم الحرج في القلب والتسليم في العمل، والحاصل لا بدّ من قبول الحكم بظاهرهم وباطنهم.

ثم إنّ من مصاديق ما تشاجروا فيه ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ، حيث عيّنه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه تعالى للخلافة من بعده، فعلامة الإيمان قبولها قلباً وعملاً، وبذلك وردت بعض الروايات(2).

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ...} الآية.

بيان لعدم إيمان الأكثر إلاّ القليل منهم، وفي هذه الآيات توبيخ على عدم التسليم، وترغيب للطاعة ببيان بعض فوائدها.

أما التوبيخ: فإنّ هؤلاء لا يطيعون اللّه تعالى في التكاليف الشاقة، فكيف يطيعون الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قضائه؟! وهذا توبيخ بليغ جداً لهم، وفيه إشعار بمقايستهم ببني إسرائيل، حيث إنهم مع شدة تمردّهم أطاعوا اللّه حينما أمرهم بقوله: {فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}(3)، كما أطاعوه حينما أمرهم بالخروج

ص: 270


1- الكافي 1: 390.
2- راجعها في البرهان في تفسير القرآن 3: 160-161.
3- سورة البقرة، الآية: 54.

من مصر، لكن هؤلاء المنافقين أسوأ حالاً منهم.

وقوله: {كَتَبْنَا} أي أمرناهم به وأوجبناه عليهم، ودلالة الكتابة على الأمرأبلغ.

وقوله: {أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي عرّضوها للقتل بالجهاد في سبيل اللّه تعالى، أو بمعنى أن يقتل بعضهم بعضاً، أو أن يقتل كل أحد نفسه.

وقوله: {أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم} أي هاجروا في سبيل اللّه تعالى، أو بمعنى ترك الديار مطلقاً.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ...} الآيات.

هذا ترغيب لهم بالطاعة ببيان فوائدها، تثبيتاً لهذا القليل وإتماماً للحجة على الأكثر، وكذا عسى أن يهتدي بعضهم.

وقوله: {مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من إطاعة الرسول والتحاكم إليه وعدم الحرج من قضائه والتسليم له، وإنما عبّر عن هذه الأوامر بالموعظة للإشارة إلى أنها لصالحهم، فالواعظ لا مصلحة له في الأمر، وإلاّ لم يكن وعظاً.

ثم يبيّن اللّه تعالى الفوائد الدنيوية والأخروية لطاعتهم.

1- {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} أي أصلح لهم؛ لأنّ جميع الأوامر والنواهي الشرعية إنما هي لمصلحة العباد، فاللّه تعالى غنيّ عن عباده، وإنما أرشدهم لما فيه منفعتهم وبه دفع مضرّتهم.

2- {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} أي لإيمانهم، فكل طاعة تقوية للدين، وكل معصية تضعيف له، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي

ص: 271

قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}(1)،وقال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأخِرَةِ}(2)، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ}(3).

3- {وَإِذًا لَّأتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} في الآخرة بالثواب الجزيل، وفي هذه العبارة تأكيد للوعد وتعظيمه بقوله: {مِّن لَّدُنَّا} فالذي وعد هو القادر والمالك لخزائن السماوات والأرض، وذلك الأجر عظيم كماً وكيفاً ودواماً.

4- {وَلَهَدَيْنَٰهُمْ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا} أي هديناهم إلى طريق الجنة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}(4).

ومن ذلك يتبيّن سبب فصل {إِذًا} بين هذه الأربعة، فالأوليان في الدنيا، والأخريان في الآخرة، وجزاء الآخرة يبتني على العمل في الدنيا، فما هو خير للدين وأشد تثبيتاً له سينتج الأجر والهداية إلى طريق الجنة.

ص: 272


1- سورة التوبة، الآية: 124-125.
2- سورة إبراهيم، الآية: 27.
3- سورة محمد، الآية: 17.
4- سورة محمد، الآية: 4-5.

الآيتان 69-70

{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا 69 ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا 70}

69- ثم ينتهي هذا المقطع من السورة ببيان جزاء جليل على الإطاعة ترغيباً لها، فقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} بامتثال الأوامر والنواهي والرضا بحكمهما {فَأُوْلَٰئِكَ} المطيعون في الآخرة {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} بأن حلاّهم بأجلّ الفضائل {مِّنَ} بيانية {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ} والمراد أربعة طوائف وإن كانت الصفات قد تجتمع في بعضهم، فكل نبي صديق وشهيد وصالح، لكن أريد من الصديقين غير الأنبياء، ومن الصالحين غير الشهداء وهكذا، و«النبي»: هو ذو منصب خاص للوساطة بين اللّه وبين الخلق ويوحى إليه، و«الصديق» كثير الصدق والتصديق للحق، ولا يكون كذلك إلاّ من تطابق قوله وفعله وقلبه، و«الشهيد» الذي يشهد على الخلق ولهم يوم القيامة، سواء قتل في سبيل اللّه أم لا، و«الصالح» الملازم لاستقامة الطريقة بحسن نيته وعمله، {وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا} لمن أطاع اللّه ورسوله فهؤلاء نِعم المرافقون المصاحبون لهم.

70- {ذَٰلِكَ} مرافقة هؤلاء {الْفَضْلُ} الأعظم فهو أكبر من الثواب

ص: 273

المادي بالحور والقصور ونحوهما {مِنَ اللَّهِ} فيليق بشأنه وبعظمته وحكمته، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا} بطاعتكم وبنياتكم.

بحوث

الأول: لما أمر اللّه تعالى الناس بإطاعة اللّه والرسول، وحذّر من الكفار والمنافقين والذين من أبرز صفاتهم عصيانهما، أكمل هذا المقطع من سورة النساء ببيان أعظم آثار الطاعة، وهي مرافقة أفضل عباد اللّه تعالى في الآخرة، ويا له من جزاء، فضلاً من اللّه تعالى، ولعلّه من مصاديق الرضوان، حيث قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1)، فإنّ اللّه تعالى ليس محلاً للحوادث، وهو منزّه عن الكيفيات النفسانية فرضاه نوع ثواب أيضاً، وهو فوق الثواب المادي، والمرافقة كذلك، حيث إنها نوع ثواب معنوي.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ...} الآية.

قيل: هو بيان للصراط المستقيم في الآية السابقة، كما في سورة الحمد، حيث قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَٰطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}(2).

وقوله: {فَأُوْلَٰئِكَ} الإشارة للبعيد لبيان علوّ شأنهم وعظمة منزلتهم.

وقوله: {مَعَ الَّذِينَ...} أي يحشر في زمرتهم، ويكون في الآخرة معهم،

ص: 274


1- سورة التوبة، الآية: 72.
2- سورة الحمد، الآية: 6-7.

أو {مَعَ} هنا بمعنى (من) أي بطاعته يترقّى فيُلحقه اللّه تعالى بهم حتىيصير منهم، كما قال إبراهيم (عليه السلام) : {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّي}(1).

وقوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} لبيان عظم منزلتهم، حيث كانت لهم الأهلية بأن ينعم اللّه عليهم بخير النعم، وهي النبوة والصدق والشهادة والصلاح، فلا يراد هنا النعم العامّة التي تنال الجميع من برِّهم وفاجرهم، بل النعم الخاصة.

وقوله: {وَالصِّدِّيقِينَ} الصديق صيغة مبالغة بمعنى الملازم للصدق في كل شؤونه، ولا يكون كذلك إلاّ لو توافق قوله وفعله وقلبه في كل شيء، فمن الكذب مخالفة القول الفعل، ومخالفة الفعل القلب، وهكذا، أما لو تطابقت من كل الجهات فذلك الصدق المستمر الذي لا كذب فيه، ولذا من مصاديقه من يكثر من قول الصدق، كما أنّ من مصاديقه من يُظهر تصديق الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) في كل ما قالوا، قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ}(2).

وقوله: {وَالشُّهَدَاءِ} أي الذين يشهدون يوم القيامة على الناس ولهم، وقد مرّ أنّ القرآن استعمل هذه الكلمة بمعناها اللغوي، وأما القتيل في سبيل اللّه فهو أحد مصاديق الشهداء يوم القيامة، وصارت كلمة الشهيد حقيقة عليه في اصطلاح المتشرعة، لكن لا تحمل ألفاظ القرآن على الاصطلاحات المتأخرة.

وقوله: {وَالصَّٰلِحِينَ} الملازمين للصلاح الذين استقامت أمورهم في

ص: 275


1- سورة إبراهيم، الآية: 36.
2- سورة الحديد، الآية: 19.

كل شيء، والصلاح درجات كثيرة، أرفعها درجة أنبياء أولي العزم، بحيثدعا يوسف (عليه السلام) أن يلحقه اللّه بهم، قال: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّٰلِحِينَ}(1).

ولا يخفى أنّ هذه الأوصاف كلها قد تنطبق على شخص واحد، فكل نبيّ صديق، لكن أريد من قوله: {الصِّدِّيقِينَ} الأعم من الأنبياء وغيرهم، وكذلك كل صديق شهيد، لكن أريد من {الشُّهَدَاءِ} الأعم وهكذا، ومن ذلك يتبيّن عدم منافاة الروايات المفسرة لهذه الأوصاف الأربعة(2)، فالأئمة من أهل البيت صديقون وشهداء وصالحون، فلذا صاروا مصاديق لهذه الأوصاف الثلاثة، ومثل حمزة سلام اللّه عليه صالح وشهيد، وهكذا.

وقوله: {وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا} لعل الغرض منه بيان أنّ المعيّة مع هؤلاء إنما هي بمعنى مصاحبتهم والكون معهم، لا بمعنى تساوي الثواب، فإنّ التساوي خلاف الحكمة، وإن كان كل الثواب فضل من اللّه تعالى.

قيل: هو بمعنى زيارة هؤلاء للمطيعين؛ لأنّ الأدنى درجة لا يرقى للدرجة الأعلى، وإنما الأعلى ينزل إلى الأدنى لزيارتهم، إذ لا قابلية لمن في الدرجة الدنيا إلى الصعود، أو لأنه يوجب حسرته لمّا يرى زيادة نعيم أصحاب الدرجات العالية.

وقيل: قد يكونون متجاورين لكن لا يلازم ذلك تساوي الثواب كقصر بجوار كوخ في مدينة واحدة ومحلة واحدة.

ص: 276


1- سورة يوسف، الآية: 101.
2- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 164-168.

وقيل: قد لا يشعر الأدنى بزيادة نعيم الأعلى حتى لو زاره في قصوره، إذيمكن أن يكون من الأجر زيادة الحواس أضعاف مضاعفة، فمن حباه اللّه بحسّ زائد يشعر بنعمة زائدة لا يشعر بها من فقد ذلك الحس، حتى وإن كانوا متجاورين في مكان واحد، كأعمى وبصير يعيشان معاً ويتشاركان في كل النعم، إلاّ أنّ البصير يلتذ بالمناظر الخلابة مما يفقدها الأعمى.

واللّه العالم فإنّ هذه الأمور من الغيب الذي طريقه ينحصر في النص، فإن وجد فهو، وإلاّ بقيت هذه الأقوال مجرد احتمالات لا يصح حمل القرآن عليها.

وفي قوله: {وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا} دلالة على الشعور بالراحة التامة في مجاورتهم، فقد يتصاحب اثنان يتعاملان معاً بالرفق، لكن نفوسهما متباعدتان فلا يشعران بالراحة.

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ}.

هذا تعظيم لهذا الثواب بمرافقة هؤلاء، فمع أنّ كل ثواب فضل من اللّه، لكن لا تقاس تلك بهذا الفضل.

وزعم بعض المعتزلة أنّ الثوابات الماضية هي عن استحقاق، أما المرافقة فهي لا عن استحقاق لذلك عبر عنها بالفضل!

ولكن قد مرّ مراراً أن لا حق لأحد على اللّه تعالى بأيّ ثواب، وإن أفنى عمره بالطاعة؛ لأنها لا تفي بشكر اللّه في أنعمه التي لا تعدّ على العباد، فلذا كان تسمية الثواب أجراً إنما هو فضل من اللّه تعالى من غير استحقاق، نعم لمّا وعد اللّه تعالى صار حقاً عليه؛ لأنّ خلف الوعد قبيح، ولكن الفضل

ص: 277

درجات، وحيث إنّ مرافقة هؤلاء فوق التنعم المادّي لذلك كأنه انحصرالفضل فيها.

الرابع: قوله تعالى: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا}.

فهو يعلم بالمطيع عن العاصي، وبنية المطيع، وبدرجة إخلاصه، وكل ذلك مؤثر في أصل الفضل ومقداره، فدرجات الإيمان متفاوتة، وأكثرها ترتبط بمقدار يقين الإنسان ورضاه وإخلاصه وغير ذلك، وهي أمور لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى، فعلمه يستتبع فضله؛ لأنّ صفات الفعل تابعة لصفات الذات.

والحاصل أنّ هذا تأكيد للوعد وإيقاظ للمطيع بأنّ إطاعته لا تذهب هدراً فاللّه عالم بها، وفي ذلك الكفاية.

ص: 278

الآيات 71-73

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا 71 وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا 72 وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُۥ مَوَدَّةٌ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا 73}

ثم يأتي الكلام حول مصداق من أهم موارد الطاعة، وهو الطاعة في الجهاد، فقال تعالى:

71- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي أسلموا، فيدخل في الخطاب حتى المنافقون {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} أي احترسوا عن الأعداء، ومن ذلك تهيئة السلاح، ثم بعد الحذر {فَانفِرُواْ} للجهاد {ثُبَاتٍ} جمع «ثُبة» أي سرية إثر سرية {أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا} مجتمعين في عسكر واحد، وذلك حسب حجم العدو وقوته، فقد يحتاج إلى خروج سرية واحدة، وقد يحتاج إلى خروجكم جميعاً.

72- وفي إطاعتكم للّه ولرسوله لا تهتموا بالمثبطات {وَإِنَّ مِنكُمْ} من هو في زمرتكم ظاهراً كالمنافقين {لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} يتثاقل عن الخروج للجهاد أو يثبّط الآخرين، ودليل ضعف إيمانهم أو فقدانهم له هو أنّ المحرّك الأساسي لهم الأمور المادية لا إطاعة اللّه ورسوله ورضاهما،

ص: 279

ويظهر ذلك في كلامهم {فَإِنْ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ} من هزيمة أو قتل أو جرحونحوها {قَالَ} مسروراً {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا} حاضراً المعركة، بدلاً من أن يغتم لما أصاب المؤمنين.

73- {وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ} بالفتح والغنيمة والسمعة الطيبة {لَيَقُولَنَّ} أي قال محزوناً على نفسه {كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُۥ مَوَدَّةٌ} جملة معترضة لبيان حاله كأنكم أجانب عنه، مع أنّ الذين بينهم مودة يفرحون إذا نال أصحابهم الخير، لكن هذا يقول: {يَٰلَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ} حاضراً في الجهاد {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} فمن الغنيمة مالاً ومن السمعة فخراً.

بحوث

الأول: بعد بيان لزوم عبادة اللّه وعدم الشرك به وذكر مَثَل من اليهود ومَثَل من المنافقين، وبعد الحث على طاعة اللّه ورسوله، يأتي بيان ذكر مصداق من أهم المصاديق التي يظهر فيها المؤمن من غيره، وهي إطاعة اللّه ورسوله في الجهاد، فإنه من أصعب الأمور، حيث مظنة القتل والأسر والجرح وفقدان الأهل والأموال، فلذا تظهر في أوقات الجهاد حقيقة إيمان الأشخاص، فهل آمنوا بألسنتهم فقط أم آمنوا بقلوبهم، وهل فكرهم في كسب رضا اللّه تعالى أم كسب المنافع الدنيوية الزائلة، فيظهر ذلك في أفعالهم وأقوالهم، فإن كانوا مؤمنين حقاً أطاعوا وجاهدوا، فإن انتصروا شكروا، وإن انهزموا صبروا، فالمحور عندهم أمر اللّه ورضاه لا أنفسهم، وأما إن كانوا منافقين أو ضعاف الإيمان فلم يطيعوا ولم يجاهدوا، فإن انهزم المجاهدون طعنوا عليهم، وإن غنموا تحسّروا على عدم مشاركتهم في

ص: 280

الجهاد، فالمحور عندهم أنفسهم ومصالحها.

وفي هذا تحذير للمؤمنين لئلا يكونوا من هذا الصنف، فليلتفتوا إلى نفوسهم حين الأوامر الشاقة، فإن وجدوا صعوبة لها عليهم فليحاولوا تقوية الإيمان في أنفسهم وليخالفوا هواهم ويرغموا أنفسهم على الطاعة، ثم ليضبطوا ألسنتهم، فلا يتكلمون إلاّ فيما فيه رضى اللّه سبحانه وتعالى، فإنه بالطاعة العسرة، وبمخالفة الهوى تُروّض النفس ويستمكن الإيمان فيها تدريجياً.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ...} الآية.

(الحِدز) بمعنى الاحتراس والتيقظ والتحفظ عن الأمر المخوف، وكأنّه منفصل عن الإنسان لغفلته عنه في الحالات الطبيعيّة، فكان لا بد من أخذه، فالأعداء دائماً متواجدون ولا يراعون إلاًّ ولا ذمةً، فإن وجدوا منكم ضعفاً وغفلة انقضّوا عليكم، فلا بد للمؤمنين من أن يكونوا أقوياء دائماً ومتهيئين للدفاع عن أنفسهم؛ لئلا يطمع فيهم العدو، قال اللّه تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ}(1).

وقوله: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} عام أي كونوا محترسين، ومن مصاديقه أخذ السلاح وتهيئته.

وقوله: {فَانفِرُواْ} تفريع على أخذ الحذر، أي بعد أن تأخذوا الحذر عليكم بالجهاد، إذ أحياناً لا يكفي الاحتراس، بل لا بد من الهجوم على العدو، وهو ما يسمّى الحرب الاستباقية، أي بدء الدفاع بكسر شوكة العدو

ص: 281


1- سورة الأنفال، الآية: 60.

ومكيدته في أرضه، وبعبارة أخرى تجفيف جذور إرهاب العدو ومكائده، وفي عالم اليوم لا يكتفون بتقوية البنية الدفاعية، بل يهاجمون الجماعات الإرهابية والتي تخطط لمهاجمتهم وهي في عقر دارها لاستئصال الخطر من جذره.

والحاصل أنّ الفاء في {فَانفِرُواْ} للتفريع على الحذر، أي احذروا ثم انفروا، ويمكن أن يكون العطف تفسيرياً، أي ليكن حذركم بالنفر.

وقوله: {ثُبَاتٍ} جمع (ثُبة) وهي الجماعة في فرقة، والمعنى ليكن خروجكم فرقة فرقة كما تخرج السرية إثر السريّة.

وقوله: {أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا} أي مجتمعين معاً في عسكر واحد، والترديد ب {أَوِ} بحسب مقتضى حال العدو من قوته وضعفه، فلذا نرى أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك أعلن النفير العام، وفي بعض السرايا كان عدد المجاهدين العشرات فقط.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ...} الآية.

تحذير من المنافقين وضعاف الإيمان لئلا يتأثر المؤمنون بهم، وأيضاً لتحذير المؤمنين لئلا يكونوا منهم، فإن لاحظوا في أنفسهم ذلك تذكروا أوامر اللّه تعالى بالطاعة فخالفوا هواهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}(1)، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَافَعَلُواْ

ص: 282


1- سورة الأعراف، الآية: 201-202.

وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(1).

والحاصل أنّ الآية تحذير وتربية، تحذير عن النفاق والمنافقين وعن ضعف الإيمان، وتربية للمؤمنين لئلا يقعوا في العصيان، أو أن ينقلعوا منه إن كانوا يرتكبونه غفلة.

وقوله: {مِنكُمْ} أي من الداخلين في زمرتكم بإظهار الإيمان، سواء كانوا منافقين أو من ضعاف الإيمان.

وقوله: {لَّيُبَطِّئَنَّ} البطء هو التثاقل عن الشيء، والإبطاء يستعمل بمعنى التثاقل في نفسه، وفي تثبيط الآخرين، وكلا المعنيين هنا محتمل، فهؤلاء كانوا يتثاقلون وكانوا يوهون عزيمة المؤمنين، كما حدث في غزوة أحد حيث انخزل عبد اللّه بن أبي في ثلاثمائة من المنافقين فرجعوا إلى المدينة، وثبّطوا طائفتين من المؤمنين كادوا أن يرجعوا لولا أن منّ اللّه عليهما، قال تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا مِنَ الْأخِرَةِ}(2)، وقال: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ}(3).

واللام في {لَمَن} للابتداء فهي تأكيد، وفي {لَّيُبَطِّئَنَّ} لجواب القسم المحذوف.

وقوله: {مُّصِيبَةٌ} في خروجكم إلى الجهاد كالهزيمة والقتل والجرح

ص: 283


1- سورة آل عمران، الآية: 135.
2- سورة التوبة، الآية: 38.
3- سورة التوبة، الآية: 46.

ونحو ذلك كما قالوا في معركة أحد، حيث قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ}(1).

وقوله: {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} وقولهم غاية في النفاق، حيث غلّفوا معصيتهم للّه تعالى بأنها نعمة منه عليهم، فلم يكتفوا بالعصيان حتى زادوا فيه الافتراء، وهكذا دأب أبناء الدنيا عادة، حيث يحاولون اختلاق الأعذار الدينية لمعاصيهم وشهواتهم، فيكونون قد نالوا أهواءهم في الدنيا وإظهار أنفسهم بمظهر المتدينين المطيعين للّه سبحانه، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «لو أنّ أهل السماوات والأرض قالوا: قد أنعم اللّه عليّ إذ لم أكن مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكانوا بذلك مشركين»(2) فليست معصيته نعمة، بل ما من نعمة أنعمها اللّه على الإنسان فلم يؤدّ حقها بطاعته إلاّ حوّلها إلى نقمة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}(3)، فالشكر العملي للنعمة هو الاستفادة منها فيما أمر اللّه تعالى، أو لا أقل من الاستفادة منها فيما أباحه!

الرابع: قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ...} الآية.

لو كان مؤمناً لفرح بما ينال المؤمنين من فضل اللّه تعالى، لكن هذا لمرض في قلبه يتمنى لو لم يعص اللّه بترك الجهاد لا لأنه معصية للّه، بل لفوات المنافع عليه، فندمه ليس للّه بل لنفسه، وبذلك يضيف رذيلة أخرى إلى رذيلة معصيته.

ص: 284


1- سورة آل عمران، الآية: 168.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 169.
3- سورة إبراهيم، الآية: 28.

والحاصل أنّ هؤلاء جعلوا أنفسهم وشهواتهم المحور بدلاً من رضى اللّه تعالى، فلذا لا يطيعون اللّه ورسوله فيما يخالف رغباتهم وأهواءهم، فإن أصاب المؤمنين ضرر بسبب طاعتهم حاول هؤلاء استغلال الموقف وتغطية عصيانهم بأنها نعمة من اللّه، وإن أصاب المؤمنين نفع يحزنون على فوات المنافع عليهم لا على معصيتهم!

وقوله: {فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ} نسب الفضل إلى اللّه؛ لأنه الحقيقة، فكل خير إنما هو من اللّه سبحانه، وأما في المصيبة فلم ينسبها إلى اللّه تعالى مع أنها بقضائه وقدره أيضاً، كما سيأتي في قوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}(1)، وذلك لتعظيمه تعالى وعدم نسبة شيء إليه يوهم النقص في أذهان الناس كما في قول الخضر: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} و{فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا} وقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُۥ عَنْ أَمْرِي}(2) فليس من المناسب نسبة العيب والخشية إليه تعالى، فلذا نسبهما الخضر إلى نفسه.

وقوله: {لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُۥ مَوَدَّةٌ} جملة معترضة بين القول والمقول، والغرض بيان أنّ هؤلاء ليسوا من زمرة المؤمنين واقعاً؛ لأنّ من كان منهم لا يقول هذا الكلام، بل يكون معهم عملاً فيشاركهم في المصائب والفضل، وحتى لو لم يتمكن من المشاركة معهم لعذر شرعي فلا يأسف لفوات الغنيمة، بل يفرح لما نال أصحابه من خير كما يفرح الأقرباء الأحباء بنجاح بعضهم، وحتى إن كان معذوراً في مشاركته معهم لمرض أو

ص: 285


1- سورة النساء، الآية: 78.
2- سورة الكهف، الآية: 79-82 .

عوق أو لطاعة أهم فإنه يأسف على فوت الجهاد عنه، لا أنه يفرح في المصيبة ويحزن على فوت المنفعة.

والحاصل أنّ قوله هذا يكشف عن عدم إيمانه وعدم ولايته للمؤمنين، فهو ليس محباً للمؤمنين، وإنما يريد أن يكون معهم لمجرد المنفعة والربح!!

وقوله: {فَوْزًا عَظِيمًا} (الفوز) الظفر بالخير مع السلامة(1)، وقولهم: {عَظِيمًا} يدلّ على عظمة الدنيا في أعينهم، مع أنّ الفوز العظيم إنما هو في الطاعة والجنة والرضوان وصرف العذاب قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(2)، وقال: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(3)، وقال: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٖ فَقَدْ رَحِمَهُۥ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}(4)، وقال: {لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ جَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(5).

ص: 286


1- مفردات الراغب: 647.
2- سورة الأحزاب، الآية: 71.
3- سورة المائدة، الآية: 119.
4- سورة الأنعام، الآية: 15-16.
5- سورة التوبة، الآية: 88-89.

الآيات 74-76

اشارة

{فَلْيُقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا بِالْأخِرَةِ وَمَن يُقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا 74 وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا 75 الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَٰنِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا 76}

ثم يحث اللّه تعالى المؤمنين على الجهاد بعدم الالتفات إلى المثّبطات، مع بيان آثاره وأسبابه، فقال تعالى:

74- {فَلْيُقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأجل أمره وإعلاء كلمته وتطبيق أحكامه {الَّذِينَ يَشْرُونَ} يبيعون {الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا} القريبة الفانية {بِالْأخِرَةِ} يأخذون بدلاً عنها ثواب الحياة الأخرى الباقية، {وَ} جزاء هؤلاء المجاهدين أنه {مَن يُقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا لغرض دنيوي {فَيُقْتَلْ} يستشهد {أَوْ يَغْلِبْ} بأن يظفر على الأعداء {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فهذا هو الذي أنعم اللّه عليه لا المثبّط.

75- ثم يؤكد اللّه تعالى الأمر بالجهاد ببيان سببه فيقول: {وَمَا لَكُمْ}

ص: 287

استفهام إنكاري، فأيّ عذر لكم في ترك الجهاد مع اجتماع أسبابه {لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ} لأجل {الْمُسْتَضْعَفِينَ} لإنقاذهم من المستكبرين،وهؤلاء المستضعفون {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ} الذين بقوا محصورين في أيدي المستكبرين، وهؤلاء يستغيثون بربهم حينما عجزوا عن تخليص أنفسهم، فهم {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} أي يسّر لنا الخروج {مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ} مكة {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} بالشرك والجور {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ} من عندك بألطافك ورحمتك {وَلِيًّا} يلي أمرنا فيسير فينا بالعدل والإحسان {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} على الظالمين فينقذنا منهم.

76- ثم يشجّع اللّه المؤمنين بأنهم أقوى؛ لأنّ اللّه ناصرهم، والكفار أضعف؛ لأنّ وليهم الشيطان، ف {الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وحتى جهادهم لإنقاذ المستضعفين فإنما هو لأجل اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّٰغُوتِ} الكثير الطغيان - الشيطان وحكام الجور والملأ من القوم - فهم بقتالهم يريدون تقوية الطغيان، وحيث علمتم غرض كل من الفريقين {فَقَٰتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَٰنِ} التابعين له {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا} فلا تخشوه ولا تتأثروا بالمبطّئين.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {فَلْيُقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ...} الآية.

حيث بيّن اللّه تعالى أنّ المنافقين جعلوا المحور مصالحهم، يحث المؤمنين على جعل محور أمورهم سبيل اللّه تعالى، فلا يكن غرضهم من الجهاد المغانم والمكاسب والجاه والفخر ونحو ذلك من الأغراض الدنيوية،

ص: 288

فإنّ كل ذلك يقطع العمل عن اللّه تعالى، فإن قتل أو انهزم كانت له خسارة دنيوية من غير ربح أخروي، وإن انتصر وغنم حصل على متاع قليل فانٍ لاقيمة له في الواقع، بل لا بد من ربط العمل باللّه الباقي الذي بيده خزائن السماوات والأرض ولا تنفد عطاياه، لا لحاجته تعالى إلى عمل مخلوقاته، بل لحاجتهم إلى رحمته ولطفه، وقد اقتضت حكمته أن يهب العطايا الثمينة لمن كان لها أهلاً بحسن اختياره العمل الصحيح والنية الخالصة.

وقوله {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي الطريق الذي أمر به والموصل إليه، بأن يكون الجهاد بأمره وأن تكون النية له، فإن لم يكن القتال بأمره أو كانت النية لغيره لم يكن العمل في سبيله، فلذا لو كان الجهاد تحت لواء الظالمين لم يكن في سبيله تعالى؛ لأنّ اللّه تعالى أمر بإطاعة حكّام العدل ونهى عن إطاعة حكام الجور، أو كان الجهاد تحت لواء حاكم العدل لكن لم تكن نية المجاهد إلاّ الأمور الدنيوية بالفوز بمغنم أو جارية أو رئاسة فكذلك لم يكن في سبيله سبحانه، وهكذا في سائر الأمور، فمن يبتدع عبادة من نفسه لم يأمر بها اللّه لا يثاب عليها، بل يعاقب لافترائه وتشريعه، أو صلّى الصلاة المفروضة لكن كانت نيته الرياء فكذلك لايثاب، بل له الويل والعقاب.

وقوله {يَشْرُونَ}: أي يبيعون، ومادة البيع والشراء تستعمل في كلا المعنيين، إلا أنّ (باع) و(شرى) في البيع أكثر، و(ابتاع) و(اشترى) في الشراء أكثر، والمقصود هنا أنهم يبيعون الحياة الدنيا، حيث إنّ المجاهد يعرّض نفسه للقتل فيفقد الدنيا بكل ما فيها من الأهل والمال والملذات، والمشتري هو اللّه تعالى، والعوض هو الجنة والرضوان كما قال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ

ص: 289

وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ} الى قوله:{فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1).

وقوله: {وَمَن يُقَٰتِلْ...} كالردّ على المبطّئين المثبطين الذين زعموا أنّ اللّه أنعم عليهم حينما يصاب المؤمنون، فيقال لهم: إنّ المجاهد في سبيل اللّه تعالى هو الذي أنعم اللّه عليه، سواء استشهد أم انتصر، فإن قُتل نال درجة الشهادة والثواب الجزيل، وإن انتصر نال المغنم والسمعة الطيبة مضافاً إلى ثواب عظيم في الآخرة، وإن كان ثواب المقتول في سبيل اللّه أعظم منه.

وقوله: {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ}، قيل: لم يذكر الشق الثالث وهو الهزيمة، إعلاماً بأنّ المؤمن لا ينهزم، بل يثبت في المعركة حتى يعزّ نفسه بالشهادة، أو يعزّ الدين بالظفر والغلبة.

وقوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ...} لعلّه إشارة إلى أنّ الغالب حتى وإن نال أجراً دنيوياً بالفتح والمغنم والسمعة، إلاّ أنّ ذلك لا يقاس بأجر الآخرة الذي هو الأجر العظيم، وكذلك السمعة الطيبة والذكر الحسن للشهيد، وإن كان نوع أجر له إلاّ أنّ أجر الآخرة أعظم.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ...} الآية.

حث آخر على إطاعة اللّه ورسوله في الجهاد ببيان بعض الأسباب الداعية للجهاد، فالآية السابقة كانت حثاً ببيان الثواب العظيم، وهذه الآية حثّ بتحريك العواطف الإنسانية بإنقاذ المظلوم من الظالم، وهذا وإن كان في

ص: 290


1- سورة التوبة، الآية: 111.

سبيل اللّه تعالى أيضاً لأنه سبحانه أمر به، إلاّ أنّ إفراده بالذكر ليكون أدعىوأقوى تحفيزاً للجهاد، نظير قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ}(1)، فعمل الفضائل مطلوب مطلقاً، فإن أتى بها امتثالاً لأمر اللّه تعالى فقد وعده سبحانه بالثواب الجزيل الأخروي، وإن عملها لحُسنها ولم يخالف بذلك حكماً شرعياً فهو لا بأس به، إلاّ أنه غير موعود على الثواب، نعم قد يتفضل اللّه تعالى به، وهذا نظير ما لو هجم لصّ على دار الإنسان ليقتله فقام صاحب الدار بالدفاع عن نفسه وأهله، فإن قصد امتثال أمر اللّه بالدفاع فعمله في سبيل اللّه، وإن لم يقصد إلاّ الدفاع فعمله حسن وفضيلة وقد ينال الثواب بذلك إن شاء اللّه تعالى.

نعم من يقصد بجهاده مجرد المغنم من دابة أو امرأة ونحو ذلك فليس عمله محموداً؛ لأنه ليس بفضيلة أن يقصد سلب الناس أموالهم، كما أنه لم يكن في سبيل اللّه، فلذا عمله مذموم، ومن ذلك شهيد الحمار وشهيد أم جميل.

نعم لا بد من إذن اللّه تعالى لأصل العمل حتى يكون مشروعاً، وقد أذن اللّه في القتال دفاعاً عن النفس أو عن المستضعفين، مع توفر سائر الشروط المذكورة في الفقه تفصيلاً.

ومن ذلك يتضح أنّ قوله: {الْمُسْتَضْعَفِينَ} معطوف على {اللَّهِ} أي في سبيل المستضعفين حتى لو لم يكن في سبيل اللّه، ولذا نجد أنه لا وعد بالثواب في هذه الآية، مع الوعد به في الآية السابقة.

وقيل: المستضعفين عطف على سبيل، وهو من عطف الخاص على

ص: 291


1- سورة آل عمران، الآية: 167.

العام؛ لأنّ القتال في المستضعفين بمعنى لأجلهم وهو مصداق من سبيل اللّهتعالى، حيث إنه سبحانه أمر به.

وقوله: {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ} هذا التفصيل أدعى للحث والتحريض وأقوى في إثارة العواطف، بأن يقال للمؤمنين: إنّ هؤلاء المستضعفين ليسوا رجالاً فقط كي تقولوا بأنهم رجال يتحملون الصعوبات ولا ينالهم أذى الظالمين إلاّ في أجسادهم، بل هؤلاء فيهم نساء وأطفال لا يتحملون الظلم لا جسداً ولا نفساً، كما أنه تشنيع على الكفار بظلمهم هؤلاء وتقبيح لهم في نظر المؤمنين، وذلك أحفز لهم وأكثر تأثيراً، ولبيان اشتراك هؤلاء في الدعاء أيضاً، وتعليم للمؤمنين بأن يأمروا نساءهم وصبيانهم بالدعاء حين المصائب استنزالاً للرحمة، حيث إنّ الأطفال لم يذنبوا والنساء ضعيفات، ودعاء هؤلاء أقرب للإجابة لبراءتهم أو لضعفهم.

وقيل: عطف المستضعفين على سبيل اللّه؛ لأنّ المؤمنين درجات، فالأقوى إيماناً يكفيه كونه في سبيل اللّه، أما مَن دونه فهناك تحريك لغيرته ولرجوع الجهاد في سبيل المستضعفين إلى سبيل اللّه تعالى لأنه بأمره.

وقوله: {الْمُسْتَضْعَفِينَ}: أي الذين كانوا ضعافاً لا يتمكنون من دفع الظلم عن أنفسهم، ولا يخفى أنّ (المستضعف) في الآيات والروايات قسمان:

1- المستضعف بالظلم والجور، فهو لا بد من إغاثته ورفع الظلم عنه.

2- المستضعف في العقيدة، وهو الذي لم يعرف الحق لقصوره أو لمنع الظالمين من وصول الحق إليه، وإلى هؤلاء تشير كثير من الروايات ببيان

ص: 292

أحكامهم ومصيرهم في الآخرة، بأنه لو كانوا قاصرين عن الوصول إلىالحق امتحنهم اللّه تعالى في الآخرة؛ لأنّ عذابهم مع قصورهم ظلم، وقد تعالى اللّه سبحانه عن ذلك.

وقوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا...} بيان أنّ هؤلاء مع استضعافهم لا يلتجئون إلاّ إلى اللّه تعالى ليرفع عنهم الظلم، وحتى إن طلبوا نصرة المؤمنين فإنما يطلبون من اللّه تعالى أن يقيّض لهم المتولّي لأمرهم الناصر لهم، وهكذا المؤمن حتى وإن احتاج إلى غيره فإنما يرجع إليه ويطلب حاجته منه باعتباره واسطة جعلها اللّه تعالى، فيكون التوجه في الحقيقة إلى اللّه تعالى، ويمكن أن تكون الآية بصدد بيان شدة ضعف هؤلاء بحيث لا يتمكنون من الاستغاثة إلاّ باللّه سبحانه وتعالى، حيث يعلمون بأن المسلمين في المدينة لا يتمكنون من نصرهم ولا تولي أمورهم لضعف المسلمين آنذاك وقوة المشركين فلا ملجأ لهم إلاّ اللّه تعالى، فهذه الآية تحثّ المسلمين بأن يعدوا ما استطاعوا من قوة لإنقاذ أولئك، وهذا أقوى في تحريك العواطف وتحريض المؤمنين بأن يقال له: فلان لا يرجو نصرة من أحد إلاّ اللّه فاذهب وأنقذه.

ودعاء هؤلاء المستضعفين من ثلاثة مقاطع:

1- {أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} وهذا دعاء استجابه اللّه تعالى لهم بعد فتح مكة حيث خرج الكثير منهم إلى المدينة المنوّرة، والمعنى هيّئ أسباب خروجنا منها، والدعاء مقيد بكون أهلها ظالمين بغرض النجاة من ظلمهم، وقوله: {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} تشريف لمكة فلم يقل القرية الظالمة، كما هو دأب القرآن في سائر القرى حيث نسب الظلم مجازاً إليها.

ص: 293

2- {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} أي هيّئ لنا من يلي أمورنا وقوله: {مِنلَّدُنكَ} للإشارة إلى أنه يسير فيهم بالعدل أو بألطافه ورحمته تعالى.

3- {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} أي ينصرنا على الظالمين، وإنما قدّم الولي على النصير مع أنه يتراءى أنّ الأمر بالعكس! لأجل أنّ الولي يمنع استمرار الظلم، وهذا ما حصل بالفعل، حيث إنه بعد فتح مكة ولي أمرها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وولاته وساروا بالعدل مع بقاء أولئك الظالمين ومع نفاق الكثير منهم، لكنهم كانوا منزوعي السلطة غير قادرين على الظلم.

أو يقال: إنّ ترتيب دعائهم كان هكذا أن يخرجوا من مكة إلى المدينة، حيث يلي الرسول أمرهم ثم يقاتل الظالمين وينتصر عليهم فيرجع جميع ظلامات أولئك المؤمنين نصراً لهم.

وفي الآية دلالة على أثر الدعاء، فهؤلاء دعوا واللّه استجاب لهم، ولولا أنه استجاب دعاءهم لما كان لذكر دعائهم معنى! كذا في مجمع البيان(1).

الثالث: قوله تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

حثّ آخر على الجهاد عبر بيان قوة المؤمنين وضعف الكفار، فالمؤمن يقاتل في سبيل اللّه والكافر يقاتل في سبيل الشيطان، وكيد الشيطان ضعيف في نفسه، وهو لا شيء إذا قيس بقوة اللّه تعالى.

سبب غلبة الكفار أحياناً

سؤال: كيف نرى غلبة الكفار أحياناً، كما حصل في غزوة أحد؟

والجواب: أنّ شرط الغلبة هو كون الجهاد في سبيل اللّه، ولا يكون قتالاً في سبيله إلاّ بخلوص النية وبإطاعته في كل ما أمر، أما مع عدم الإخلاص

ص: 294


1- مجمع البيان 3: 194.

أو مع مخالفة الأوامر وعدم الطاعة، كما حصل لبعض المسلمين في غزوةأحد فلا يكون قتالهم في سبيله تعالى، فحتى الكيد الضعيف قد يغلب عليهم لصيرورتهم أضعف، نعم قد يخسر المؤمنون المجاهدون في سبيل اللّه لأسباب أخرى مذكورة في محلّها.

وقوله: {سَبِيلِ الطَّٰغُوتِ} أي لأجل الطغاة والطغيان، وبذلك يكونون أولياء للشيطان، ولذا عطفه بقوله: {فَقَٰتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَٰنِ}، فمن مصاديق الطاغوت حكام الجور والأصنام والأنظمة الفاسدة والعقائد الباطلة والعادات السيئة، والجامع هو كل ما خالف دين اللّه تعالى.

وقوله: {كَيْدَ} هو السعي في فساد الحال على وجه الاحتيال.

وقوله: {كَانَ} قيل: إضافة كان تدل على أنّ الضعف لازم لهم في جميع الأوقات والأحوال سواء الماضي منها أو ما يستقبل.

وقوله: {ضَعِيفًا} أي ضعيف في نفسه، وبالقياس إلى نصرة اللّه تعالى للمؤمنين، نعم من اتبع هواه وخالف أوامر اللّه تعالى فإنّ كيد الشيطان بالنسبة إليه قوي، قال تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُۥ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُۥ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(1) وقال: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}(2).

ص: 295


1- سورة النحل، الآية: 100.
2- سورة المجادلة، الآية: 19.

الآيات 77-79

اشارة

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٖ قَرِيبٖ قُلْ مَتَٰعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا 77 أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا 78 مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٖ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا 79}

ثم يبيّن اللّه تعالى مصداق من ترك الطاعة في القتال وهم الذين آمنوا لكن في إيمانهم ضعف، فقال:

77- {أَلَمْ تَرَ} استفهام للتعجب {إِلَى الَّذِينَ} كانوا في مكة يستأذنون في قتال المشركين مع ضعف المسلمين لكن {قِيلَ لَهُمْ} وهم بمكة: {كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} عن القتال وكل ما يؤدي إليه ككفّ اللسان، فإنّ القتال حينذاك كان بضرر الدين {وَ} انشغِلوا بتقوية إيمانكم وتكافل بعضكم بعضاً بأن {أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ فَلَمَّا} هاجروا إلى المدينة وقويت

ص: 296

شوكة الإسلام ف {كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} فُرض عليهم {إِذَا فَرِيقٌ} جماعة {مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} الكفار أن يقتلوهم {كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} فيخافون اللّه تعالى في مخالفة أوامره؛ لما يترتب عليه من العقابوفي الوقت نفسه يخافون قتال الكفار؛ لما يترتب عليه من القتل، فبعضهم تتساوى فيه الخشيتين، وبعضهم خشيتهم من الكفار أكثر!

{وَقَالُواْ} محاولين الجمع بين عدم مخالفة اللّه وبين عدم تعريض أنفسهم للخطر! وذلك بطلب تأجيل الجهاد بقولهم: {رَبَّنَا لِمَ} لماذا {كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا} أي هلاّ {أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٖ قَرِيبٖ} أي مدة قريبة وذلك تسويفاً!

{قُلْ} يا رسول اللّه في جوابهم: {مَتَٰعُ الدُّنْيَا} أي ما يستمتع به فيها {قَلِيلٌ} كماً وكيفاً وسريع الانقضاء، فما الفائدة في هذا الاستمتاع مع مخالفة أمراللّه تعالى {وَالْأخِرَةُ} بثوابها الباقي {خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ} العصيان فأطاع اللّه {وَ} لا يضيع عند اللّه جهادكم إذ {لَا تُظْلَمُونَ} لا تنقصون حقكم الذي وعدكم اللّه به {فَتِيلًا} ولو بمقدار فتيل، وهو الخيط في شق النواة.

78- وهذا التسويف والعصيان لا ينفعكم إذ تنقضي الدنيا بسرعة ف {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ} يلاقيكم {الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٖ} حصون {مُّشَيَّدَةٖ} مرفوعة بإحكام.

ثم بيّن اللّه تعالى سبب خوفهم من الجهاد، وهو عدم معرفتهم باللّه وبالرسول، فلا معرفة لهم بقضاء اللّه وقدره، كما لا معرفة لهم بأن أوامر الرسول هي أوامر اللّه تعالى، فقال: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} نعمة {يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ} فهم يعرفون هذا المقدار بأنّ النِعم منه سبحانه، أو

ص: 297

قالوها تبجحاً بأنّ اللّه يحبهم لذا أنعم عليهم، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بلاء {يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ} تشاؤماً به أو لزعمهم سوء تدبيره! {قُلْ} في جوابهم: {كُلٌّ} من الحسنة والسيئة {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} بقضائه وقدره، فلا شيء في الكون من دون قضاء وقدر {فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ} استفهام تعجبي، أي ماشأنهم حيث {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ} لا يفهمون {حَدِيثًا} فهؤلاء بعيدون عن فهم القرآن، حيث يصرّح بأنّ اللّه هو القابض والباسط وأنّ كل الأمور بيده!

79- ثم يُعرض اللّه عن مخاطبتهم؛ لأنهم لا يفهمون فيخاطب سائر الناس: {مَّا أَصَابَكَ} أيها الإنسان {مِنْ حَسَنَةٖ فَمِنَ اللَّهِ} أي قضاؤه وقدره بالحسنة بسبب فضله ومنّه ولطفه، {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفْسِكَ} أي قضاء اللّه تعالى وقدره بالسيئة بسبب سوء فعل الإنسان.

والحاصل كل شيء بقضاء اللّه وقدره، لكن إنما يقضي ويقدّر اللّه الخير بسبب فضله تعالى، وإنما يقضي ويقدر الشر بسبب سوء فعل الإنسان.

وأما الرسول فهو واسطة فيض اللّه تعالى، فلا دخل له في سيئات تصيبهم بسوء أعمالهم {وَأَرْسَلْنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} ترشدهم إلى خيرهم فإن لم يطيعوك وأصابهم الشر فمن أنفسهم، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} يشهد على رسالتك وحسن تدبيرك وخيرك لهم لو أطاعوك.

بحوث

الأول: هذه الآيات حول طائفة أخرى - بعد بيان حالات أهل الكتاب والمنافقين - وهم ناس آمنوا ولم ينافقوا لكن في إيمانهم ضعف، لذلك قد

ص: 298

يصعب عليهم الامتثال للأوامر الشاقة، وإنما يريدون أن تكون الأحكام الشرعية متطابقة مع مشتهياتهم، فحينما لا أمر بالجهاد يجزعون من ظلم المشركين ويطلبون الإذن في قتالهم، وحينما يصدر الأمر بالجهاد يخشون الكفار ويطلبون تأجيل ذلك، فلا أنفسهم طابت حين الأمر بالكف، ولا حينالأمر بالقتال!

واللّه تعالى يعظهم لتقوية الإيمان في قلوبهم بتزهيدهم في الحياة الدنيا، ببيان أنها متاع قليل وأنّ الموت آتٍ لا محالة، وبترغيبهم بالآخرة وأنهم يوفّون أجورهم كاملة غير منقوصة، وببيان أنهم لو أطاعوا اللّه ورسوله لا تصيبهم السيئات الدنيوية.

والحاصل خيرهم في آخرتهم ودنياهم في الطاعة.

الثاني: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ...} الآية.

الأوامر والنواهي تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، وليست تابعة لأهواء الناس ومشتهياتهم، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ}(1) وذلك لأنّ الأهواء غالباً تتناقض مع الواقع قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(2).

حال المسلمين في مكة والمدينة

والمسلمون في مكة كانوا ضعافاً ولو قاتلوا المشركين حينذاك لاستأصلوا شأفة الدين من جذورها، فلم تكن مصلحة في القتال في مكة، ولذا أمرهم اللّه بكف اليد، وإنما كانت وظيفتهم في تقوية الإيمان والمؤمنين، أما تقوية الإيمان

ص: 299


1- سورة المؤمنون، الآية: 71.
2- سورة ص، الآية: 26.

والمؤمنين، أما تقوية الإيمان فبإقامة الصلاة، وأما تقوية المؤمنين فبإيتاء الزكاة حفظاً لضعفة المؤمنين من الاحتياج إلى المشركين، ذلك الاحتياج الذي قد يسوق بعضهم إلى الارتداد أو استذلال المشركين لهم، ولذا أمرهم اللّه تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.وأما في المدينة حيث قويت شوكة المسلمين لمّا آمن أهل المدينة فكثر عددهم وعدتهم مع عدم سيطرة من الكفار عليهم فكان في الجهاد مصلحة فلذلك أذن اللّه تعالى لهم بالجهاد فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(1).

لكن هؤلاء الذين كانوا يستأذنون في الجهاد في مكة شقّ عليهم الإذن فيه في المدينة، كدأب كثير من الناس حيث يحرّضون الآخرين على الإقدام من غير تفكير في الجوانب المختلفة، فلمّا أن أقدموا تخاذل المحرّضون، كما في قضية بني إسرائيل من بعد موسى لمّا سيطر عليهم الأعداء فطلبوا تعيين ملك لهم ليقاتلوا في سبيل اللّه وقد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، فلما كتب عليهم القتال تولى أكثرهم! وحتى الأقل سقط أكثرهم في امتحان الشرب من النهر!

وقوله: {كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} أي أمسكوا عن القتال وعن كل ما يؤدي إليه، ومن ذلك استفزاز المشركين بألسنتكم، فإنّ الحرب أولها كلام، فما ورد في الروايات(2) من أنه كف الألسن إنما هو بيان لمصداق من مصاديق

ص: 300


1- سورة الحج، الآية: 39.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 171 عن الكافي.

الكف، كما أنّ هذه الآية تجري في الأئمة (عليهم السلام) ، أي كما تجب إطاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمره بالكفّ كذلك تجب إطاعة الإمام في أمره بالكف، كما كف الإمام الحسن (عليه السلام) لمّا لم تكن مصلحة في قتال معاوية، فلما كانت المصلحة في القتال خرج الإمام الحسين (عليه السلام) فإذا نفس الذيناعترضوا على كف الإمام الحسن (عليه السلام) خذلوا الإمام الحسين (عليه السلام) ، فالآية شأن نزولها المسلمون في مكة والمدينة في طاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجرت في الأئمة (عليهم السلام) وطاعتهم، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «واللّه للذي صنعه الحسن بن علي‘ كان خيراً لهذا الأمة مما طلعت عليه الشمس، فواللّه لقد نزلت هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ} إنما هي طاعة الإمام، وطلبوا القتال {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} مع الحسين (عليه السلام) {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٖ قَرِيبٖ} [وقوله:] {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}(1)

أرادوا تأخير ذلك إلى القائم (عليه السلام) (2)».

وقوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} أي بعضهم، أما البعض الآخر فاستجاب للّه ولرسوله من غير اعتراض ولا تسويف، ويدل ذلك على أنّ الذين كانوا يستأذنون لأجل القتال في مكة لم يكن طلب كلّهم بسبب الانفعالات النفسانية والأهواء، بل بعضهم كان طلبه من منطلق ديني، ولا تنافي بين الطاعة المطلقة للّه وللرسول وبين بيان الاستعداد لتنفيذ الأمر بالقتال لو تمّ

ص: 301


1- سورة إبراهيم، الآية: 44.
2- الكافي 8: 330.

تشريعه، كما لا تنافي بينها وبين الاستعطاف، فلعلّ اللّه يأمرهم بالأمر الشاق مراعاة لهم، فيأتون ويترجون الإذن لهم، كما توسّل بعض شهداء كربلاء بالإمام الحسين (عليه السلام) كي يأذن لهم لمّا امتنع (عليه السلام) عن الإذن لهم بالقتال، فإن عدم الإذن كان مراعاة لهم وشفقة عليهم فتوسلوا ليأذن لينالوا الكرامةبالدفاع عنه (عليه السلام) ، فهم على كل حال مطيعون، سواء أذن أم لم يأذن، نظير الدعاء لتغيير القضاء الذي لا ينافي الرضا بقضاء اللّه تعالى.

وقوله: {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} أي هؤلاء مؤمنون ضعاف الإيمان، لذلك يخشون اللّه تعالى فلا يريدون مخالفة أحكامة، وفي الوقت نفسه يخشون سطوة الكفار، فلا يريدون قتالهم، فتارة كلتا الخشيتين متساويتان فيتحيّرون في ترجيح إحداهما على الأخرى، وتارة خشية الناس أقوى فلدى التزاحم يخالفون اللّه تعالى رغبة في متاع الدنيا! وهؤلاء وأمثالهم يحاولون التوفيق بين الأحكام وبين الأهواء، والطريق عندهم منحصر في تغيير الحكم، وحينئذٍ فهو تمتع برغباته ولم يخالف أمراً للّه تعالى! وهذا ما يشاهد كثيراً في بعض من يحبون الدين ويلتزمون به، لكنهم يحبون الدنيا ومتاعها كحبهم للدين أو أشد حباً، فكلما وجد تعارضاً بحث عن مخرج شرعي يضمن له تمتعه مع عدم مخالفته! فلذا نجد بعضهم يأتي ويناقش العلماء مع أنه ليس بعالم لعلّه يجد مخرجاً! أما المؤمن الحق الذي استمكن الإيمان من قلبه فهذا يجعل الطاعة أصلاً، فإن وافقت رغباته فقد آتاه اللّه في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وإن عارضت رجحّ الطاعة ولم يؤثر الحياة الدنيا!

وقيل: {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} في أن يميتهم، فهم يعلمون بأن مصيرهم الموت

ص: 302

لا محالة، فكما يخافون القتل بيد الكفار كذلك يخافون الموت بقضاء اللّه تعالى، لكن خوفهم من القتل أكثر من خوفهم من الموت وذلك لقوة احتماله حين القتال وللرعب الذي فيه!

لكن ما ذكرناه في معنى الآية أقرب، أي كما يخافون الناس كذلكيخافون اللّه تعالى، وذلك لإيمانهم على ضعف.

وقوله: {وَقَالُواْ رَبَّنَا} قرينة على عدم نفاقهم، فهم يعلمون بأنّ اللّه أمرهم بالجهاد، لكن حيث كان في إيمانهم ضعف لذلك يضمرون أو يظهرون الانزعاج من الحكم بالجهاد، كما مرّ في قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(1).

وقوله: {لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٖ قَرِيبٖ} أي وقت آخر ولو كان قريباً، وذلك تسويفاً منهم، فإنّ من لا يرغب في عمل ولكنه في الوقت نفسه يراه ضرورياً أو يعلم بأنه لا مناص منه، فإنّه يحاول التأجيل والتسويف، مع أنّ ذلك لا ينفعه غالباً، وليس معنى {أَجَلٖ قَرِيبٖ} الموت، بل بقرينة قولهم: {أَخَّرْتَنَا} يريدون التأجيل ولو لحين، عسى أن يتمتعوا أكثر بالحياة الدنيا، أو عساهم يتمكنون من التأجيل بعد التأجيل إلى أن يستوفوا حظهم من الحياة الدنيا!

وقيل: كانوا يتعذرون بعدم الاستعداد ويطلبون التأجيل كي يستعدوا، لكن لم يكن ذلك إلاّ فراراً، نظير قوله: {وَيَسْتَْٔذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ

ص: 303


1- سورة النساء، الآية: 65.

إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}(1)، وقال: {إِنَّمَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}(2).

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ مَتَٰعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ...} الآية.

هذا جواب عن طلبهم تأجيل الجهاد بأن يقال لهم: لا وجه لخشيتكم من الكفار، فإنما تخشون لأجل التمتع بالحياة الدنيا، ولكن لا قيمة لمتاعها فهو قليل كماً وكيفاً ومدةً، مع أنّ خشية اللّه بإطاعته خير لكم، حيث إنّ ثوابه عظيم لا انقطاع له، ولا تخافوا من عدم نيلكم ثواب الآخرة لو أطعتم اللّه تعالى، فإنه سبحانه لا يبخس أحداً حقه، وما دامه قد وعد بالثواب فإنه يفي بوعده لمن وفى للّه بشروطه.

وقوله: {مَتَٰعُ الدُّنْيَا} أي ما يتمتع به من حياة ومال وأهل ونحو ذلك.

وقوله: {قَلِيلٌ} في نفسه وفي قياسه مع ثواب الآخرة، فلا ينبغي لكم خشية الناس لأجله.

وقوله: {لِّمَنِ اتَّقَىٰ} أي حفظ نفسه من العصيان، وذلك بأن يخشى اللّه تعالى فيطيعه.

وقوله: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} أي حقكم في الآخرة لا تُبخسوه ولا تُنقصوه، فإنّ من الظلم نقصان الحق - بعضه أو كلّه - ، وقد مرّ أنه ليس لأحد حق على اللّه تعالى، وحتى الثواب هو فضل من اللّه تعالى، ولكن

ص: 304


1- سورة الأحزاب، الآية: 13.
2- سورة التوبة، الآية: 45.

حيث وعد اللّه بذلك الثواب صار حقاً عليه، وعدم الوفاء بالوعد ظلم؛ لأنه منع لصاحب الحق عن حقه، فالمقصود بيان أنّ اللّه يوفي بوعده إن أطعتموه ولم تخشوا الناس ولا يظلمكم ولو بمقدار الخيط في شق النواة.

الرابع: قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖ...} الآية.حث آخر على الإطاعة، ببيان أنّ تسويفهم للجهاد لا ينفعهم في دفع الموت عنهم، فحتى لو ذهبوا في أكثر الأماكن أماناً لهم فإن الموت يلاقيهم، كما قال في آية أخرى: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ}(1)، وقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

و(البروج) الحصون أو البناء الذي على الحصون.

و(المشيدة) أي المرفوعة من (الشَيد) بمعنى الرفع، قال تعالى: {وَقَصْرٖ مَّشِيدٍ}(3)، ويقال للجص: شِيد لأنّ البناء يرفع به، فالبروج المشيدة هي الحصون والقلاع المرتفعة التي لا تصلها أيدي الأعداء، لكنها لا تنفع في دفع الموت، قال الإمام الهادي (عليه السلام) للمتوكل:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غُلب الرجال فلم تنفعهم القللُ

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم *** وأسكنوا حُفراً يا بئسما نزلوا(4)

ص: 305


1- سورة آل عمران، الآية: 154.
2- سورة الجمعة، الآية: 8.
3- سورة الحج، الآية: 45.
4- بحار الأنوار 50: 211.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ...} الآية.

بيان لضعف إيمانهم وتحذير منه وجواب لشُبهتهم، فالمؤمن الحقيقي يعلم بأنّ كل شيء بقضاء اللّه وقدره سواء كان خيراً أم شراً، ويعلم بأنّالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منفّذ لأمر اللّه تعالى ولا يقول شيئاً ولا يصدر أمراً إلاّ بوحي من اللّه تعالى، فلذا يسلّم للّه في قضائه وقدره ولا يلوم الرسول في نازلة نزلت به.

أما ضعاف الإيمان فإنما إيمانهم على طرف وفي الرخاء، فإن أصابتهم شدة جزعوا كما قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(1).

وحيث إنهم يعتقدون باللّه ينسبون إليه ما أصابهم من نعمة، ولكن حيث لا يعرفونه ولا يعرفون رسوله فلذا ينسبون ما أصابهم من السيئات إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ! مع أنّ الذي يعرف اللّه تعالى يعلم بأن الكون أجمع في قبضته وما من شيء يحدث في الكون إلا بقضاء من اللّه وقدره، لكن مشكلة هؤلاء عدم فهمهم، حيث ينظرون إلى الأمور نظرة نفعية بحتة، فما كان في نفعهم اعتبروه من اللّه وما كان بضررهم لم يعتبروه منه سبحانه، كما لا يفهمون أنّ اللّه لا يختار لرسالته إلاّ من اصطفاه فهو معصوم ولا يأمر ولا ينهى عن شيء إلا بوحي اللّه تعالى، فمن جهلهم توهمهم الشؤم أو سوء التدبير في أوامر الرسول ونواهيه، مع أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين وخير ويُمن

ص: 306


1- سورة الحج، الآية: 11.

للناس أجمعين.

ويمكن أن يكون قولهم {هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ} تبجحاً وغروراً لبيان أنهم أحباء اللّه تعالى فلذا أنعم عليهم، كما قال: {فَأَمَّا الْإِنسَٰنُ إِذَا مَا ابْتَلَىٰهُ رَبُّهُۥفَأَكْرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}(1).

وقوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ...} كقوم فرعون حيث قال اللّه تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥ}(2)، وهذا دأب الجهلة حيث يغفلون عن الأسباب الواقعية ويبحثون عمّن يتهموه بأنه سبب الشر الذي أصابهم!

وقوله: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} أي بقضائه وقدره، فلا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بسبب من اللّه تعالى، ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر»(3) وذلك لأنّ القدرة للّه جميعاً والعالم بأجمعه ملكه وفي سلطانه، فلا يعقل تحقق شيء في الكون خارجاً عن حكمه التكويني، فمن زعم أنه استقل في أموره وأن لا دخل للّه في بعض أمور الكون فقد أشرك باللّه تعالى، لكن القضاء والقدر لا ينافيان اختيار الإنسان كما سيأتي.

وقوله: {فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ...} تقريع شديد لهم على اتهامهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنّ المصائب منه، فليس سبب ذلك إلا جهلهم وعدم فهمهم للقرآن الكريم، وسيأتي في الآية 82 الأمر بالتدبر فيه ليفقهوا ما بيّنه اللّه

ص: 307


1- سورة الفجر، الآية: 15.
2- سورة الأعراف، الآية: 131.
3- الكافي 1: 149؛ راجع شرح المؤلف على أصول الكافي 2: 467.

تعالى فتزداد معرفتهم باللّه وبالرسول.

السادس: قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٖ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنسَيِّئَةٖ فَمِن نَّفْسِكَ...} الآية.

بعد أن بيّن اللّه تعالى أنّ كل شيء - بخيره وشره - بقضاء وقدر من اللّه تعالى، يبيّن في هذه الآية أنه قد يكون للإنسان دخل في ذلك، بمعنى أنّ اللّه قد يقدّر ويقضي بالخير لمن آمن وعمل صالحاً بحسن اختياره بالنعيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وقد يقدر ويقضي بالشرّ لمن كفر وعصى بسوء اختياره بالمصائب في الدنيا والعقاب في الآخرة، فليس القضاء والقدر مما يسلب الإنسان اختياره، بل اختيار الإنسان من حكم اللّه تعالى التكويني، حيث خلق الإنسان مختاراً وأقدره على الأعمال - إن خيراً أم شراً - ، فكل ما يفعله الإنسان إنما يفعله بقضاء من اللّه وقدره مع كونه مختاراً في فعله.

والحاصل أنّ الآية السابقة بينت أنّ كل شيء من عند اللّه بقضائه وقدره، وهذه الآية تبيّن أنّ اللّه تعالى أراد أن يكون لاختيار الإنسان دخل في قضائه وقدره.

وقوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٖ فَمِنَ اللَّهِ} أي لم يكن الإنسان يستحق شيئاً من النِعم، ولكن اللّه تعالى بفضله خلق الإنسان وغمره بالنِعم التي لا تعدّ ولا تُحصى، وأحياناً يزيده اللّه نعمة إن أحسن وليس إحسانه سبباً لاستحقاقه للنعمة الزائدة إلاّ أن اللّه يتفضل عليه بها، قال سبحانه: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٖ فَمِنَ اللَّهِ}(1).

ص: 308


1- سورة النحل، الآية: 53.

وقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفْسِكَ} أي أنّ اللّه تعالى لا يقدّر السيئة إلاّ لو كان الإنسان بنفسه السبب لها، قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِيالْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}(1)،

وقال: {وَمَا أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ}(2).

والحاصل أنّ الحسنات جميعاً بفضل من اللّه تعالى حتى لو كانت مجازاة لأعماله الصالحة، وأما السيئات فكلها بسبب أفعال الناس مجازاة لهم على بعض سيئاتهم مع العفو عن كثير منها، ولولا العفو عن الكثير لما بقيت الحياة كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٖ}(3).

سبب ابتلاء الأنبياء والصالحين

سؤال: كثيراً ما نشاهد ابتلاء الأنبياء والأوصياء والصالحين بالمصائب ونحن نعلم بأنهم ليسوا السبب فيها، كإصابة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بجروح في غزوة أحد مع أنه أطاع اللّه في كل شيء!

والجواب: أنّ البلايا قد لا تكون سيئات إذا كانت لرفع الدرجات وزيادة الحسنات أو كفارة عن الذنوب أو للتمحيص، فكل ذلك يجعل الأمر حسناً حتى لو تصوره الإنسان سيئاً، هذا أولاً.

وثانياً: إذا لوحظ مجموع الناس فكل ما يصيبهم من السيئات فهو بسبب أفعالهم، حتى لو لم يكن للذي أصابته السيئة دخل في تلك الأفعال كما قال

ص: 309


1- سورة الروم، الآية: 41.
2- سورة الشورى، الآية: 30.
3- سورة فاطر، الآية: 45.

تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}(1).السابع: قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا}.

هذا لتنزيه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن زعمهم الباطل بأنه سبب ما أصابهم من سيئات، فالرسول هو واسطة فيض اللّه تعالى، فلذا هو رحمة للعالمين، كما أنه ينفذ أوامر اللّه تعالى فلا سوء في تدبيره، بل الأضرار تصيبهم بمخالفتهم إياه كما حدث في غزوة أحد، حيث أخلوا مواقعهم وانهزموا فأصيبوا بمكروه قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَٰبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ}(2).

والحاصل أنت رسول اللّه فلا شأن لك فيما أصابهم بسوء أعمالهم ولا بد لهم أن يطيعوك في كل شيء.

وقوله: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي شاهداً على رسالتك، وذلك عبر إجراء المعجزات على يديك وتأييدك بكتابه المنزل الناطق بالصدق فلا حاجة مع ذلك إلى برهان آخر.

ص: 310


1- سورة الأنفال، الآية: 25.
2- سورة آل عمران، الآية: 165-166.

الآيات 80-83

اشارة

{مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا 80 وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا 81 أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا 82 وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا 83}

ثم يؤكد اللّه تعالى أنّ السيئات ليست من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنه رسول من اللّه تعالى في كل ما يقول، فهو منشأ للخير، فقال:

80- {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ} في أوامره ونواهيه {فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} لأنه سبحانه أمر بطاعته ولأنّ الرسول مبلّغ عن اللّه فلا ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى إليه، فالآمر والناهي حقيقة هو اللّه تعالى.

{وَمَن تَوَلَّىٰ} أعرض فلم يُطع الرسول {فَ} لا تذهب نفسك عليهم حسرات ولا تهتم بهم، إذ {مَا أَرْسَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تحفظهم عن المخالفة، بل أرسلناك نذيراً وبشيراً.

81- ومن صفات هؤلاء الضعاف الإيمان أنهم قد لا يطيعون حتى لو

ص: 311

وعدوا بها {وَيَقُولُونَ}: شأننا {طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ} خرجوا {مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ} قررّوا في الخفاء، والتبييت تدبير الأمر ليلاً، وهنا كناية عن الخفاء{طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ} لا كلّهم {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} أنت لهم، أو غير الذي تقول تلك الطائفة لك، {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} في سجل أعمالهم ليحاسبهم ويعاقبهم، وهذا تهديد لهم، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تؤاخذهم ولا تهتم بهم، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فهو الذي ينصرك {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} معتمداً عليه فيُنجز أمورك ويحفظك ويكفيك شرهم.

82- ثم إنّ مشكلة هؤلاء التي صارت سبباً لضعف إيمانهم وعدم طاعتهم هي عدم فهمهم لكلام اللّه وكلام الرسول، فيعظهم اللّه تعالى بالتدبر في القرآن وبالرجوع إلى كلام الرسول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ} الاستفهام للحث والتحضيض، والتدبر: تأمل المعاني، ولو تدبروا لعلموا أنه الحق وأنه كلام اللّه وأنّ الرسول من عند اللّه، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا} مع أنهم لا يجدون في القرآن حتى اختلافاً واحداً، أما البشر فإنهم معرضون لتغير الفكر والرؤية والأسلوب وللخطأ والغلط والتناقض، فلا يخلو كتاب كتب في سنوات طوال وتناول مختلف المواضيع من اختلاف كثير، إلاّ القرآن، وهذا دليل على كونه من عند اللّه تعالى.

83- ولو رجعوا إلى الرسول في القضايا التي لم تذكر في القرآن لوجدوا صدقه، {وَ} لكن دأب هؤلاء أنه {إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ} خبر {مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} ما يوجب شعور الناس بالأمن أو الخوف {أَذَاعُواْ بِهِ} أشاعوه من غير علم بصدقه أو كذبه، {وَلَوْ رَدُّوهُ} أرجعوه بمعنى استفسروا عنه {إِلَى

ص: 312

الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} وهم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) {لَعَلِمَهُ} علم صدقه من كذبه، وعلم الصالح للنشر وغير الصالح منه {الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُۥ} يستخرجون وجه الصواب عن غيره وهؤلاء المستنبطون همالذين جاءهم أمر من الأمن أو الخوف، وإنّما يستنبطون {مِنْهُمْ} من الرسول وأولي الأمر، أي من كلامهم، وبصواب قراراتهم يعلمون صدقهم ووجوب طاعتهم. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَٰنَ} في عدم الطاعة بسبب عدم التدبر والإذاعة، وقوله:{إِلَّا قَلِيلًا} استثناء منقطع، والمعنى أنّ فضل اللّه ورحمته شملت القليل من هذه الجماعة الضعيفة الإيمان فلم يتبعوا الشيطان، أما أكثرهم فاتبعوه حيث قطع اللّه عنهم فضله ورحمته لسوء اختيارهم فدخلوا في زمرة المنافقين.

بحوث

الأول: هذه الآيات تكملة لبيان حالات هذا الصنف الثالث - وهم ضعاف الإيمان - يراد بها حثّهم على تقوية إيمانهم؛ لئلا ينحدروا إلى النفاق، فإنّ أمر هؤلاء بين الإيمان والنفاق، فإن أصلحوا أنفسهم رفعوها إلى درجة الإيمان، وإن غفلوا عنها واتبعوا الشيطان سقطوا في براثن النفاق...

فأولاً: يأمرهم اللّه تعالى بطاعته وطاعة رسوله، ويحذرهم من أنّ وبال عدم طاعتهما يرجع إليهم؛ لأنه ليس من مهمة الرسول أن يكون حفيظاً عليهم.

وثانياً: يحذرهم عن عدم الطاعة بأنّ اللّه يكتب أعمالهم حتى وإن أظهروا الطاعة باللسان، ويحذرهم بأن الرسول لا يحتاج إليهم بل اللّه كفيله.

ص: 313

وثالثاً: يحثهم على طاعة اللّه، ببيان أنّ القرآن من عند اللّه تعالى ويظهر ذلك لهم بالتدبر.

ورابعاً: يحثهم على طاعة الرسول وأولي الأمر، ببيان علمهم بالأموروبالأصلح، ويظهر ذلك لهؤلاء بإرجاع قضايا الأمن والخوف إليهم حيث سيعلمون حُسن تدبيرهم، مما يقتضي إطاعتهم.

وخامساً: يبيّن أنّ فضل اللّه تعالى ورحمته صارتا سبباً لنجاة القليل منهم، وأما أكثر هؤلاء - الضعاف الإيمان - حيث رفضوا فضل اللّه ورحمته فلذلك اتبعوا الشيطان فسقطوا في النفاق!

الثاني: قوله تعالى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...} الآية.

هذا كالتتمة للآيات السابقة، حيث زعم هؤلاء أنّ إصابة السيئة بسبب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فيقال لهم بأنه لا يقول شيئاً من عند نفسه، بل كل ما عنده فهو من اللّه، فكل أمر يأمر به إنما هو أمر اللّه، وكل نهي ينهى عنه فإنما هو نهي اللّه، فهو المبلّغ لرسالات اللّه تعالى، وعليه فطاعة الرسول هي إطاعة للّه تعالى فلا تكون سبباً للشرّ، بل هي سبب للخير الدائم، مضافاً إلى أنّ اللّه تعالى هو الذي أرسله وأمر بطاعته، فمن لم يطعه فقد عصى اللّه في الأمر بطاعته، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ الْقُوَىٰ}(1).

وقوله: {فَمَا أَرْسَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي الحافظ لأعمالهم عن الانحراف وقلوبهم عن الزيغ، فقد شاء اللّه اختيار الإنسان؛ فلذا لم يقهر تكويناً أحداً

ص: 314


1- سورة النجم، الآية: 3-5.

على الإيمان، ولم يجعل هذه السلطة لرسوله، بمعنى أنّ اللّه ورسوله لا يتصرفان تكوينياً لإيمان الناس وصحة عملهم، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْمُؤْمِنِينَ}(1)، وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(2)، وليس معنى هذا عدم إجراء الحدود والتعزيرات وعدم إجبار الناس على مراعاة القوانين، فإن ذلك من مقتضيات الحكومة ولولاه لدبّ الهرج والمرج، بل معنى ذلك أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس مسؤولاً عن أعمالهم ولا يكرههم على الإيمان والعمل الصالح، ولذا كان في المدينة منافقون، ومع علم الرسول بهم كان يعرض عنهم ولا يحاسبهم على نفاقهم.

ولا يخفى أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر بإطاعة الأئمة (عليهم السلام) ، فإطاعتهم إطاعة للرسول، وإطاعة الرسول إطاعة للّه، فإطاعة الأئمة إطاعة للّه.

الثالث: قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ...} الآية.

تهديد لهم على عدم إطاعتهم، ببيان أنّ هؤلاء الضعاف الإيمان لا يجرؤون على إظهار المعصية، أو أنهم يحبون الطاعة فلمّا تعرض عليهم يقبلونها، لكن لمّا يجدون صعوبة فيها يتحيّرون بين تركها لمتاع الدنيا وبين فعلها لثواب الآخرة، فهم لضعف إيمانهم مذبذبون، ولذا قسم منهم يغلب الإيمان عليه فلا ينوي المعصية، وقسم منهم يغلب الكفر عليه فيضمر المعصية، واللّه تعالى لتقوية جانب الإيمان فيهم يذكّرهم بأنه يكتب ما

ص: 315


1- سورة يونس، الآية: 99.
2- سورة الغاشية، الآية: 21-22.

يقولون كتابةً تستتبع محاسبة ثم ثواباً أو عقاباً.

ثم يسلّي اللّه رسوله ويأمره بالإعراض عنهم، وذلك لاختلاف الطائفتين وعدم التمييز بينهما ظاهراً، وعدم ضررهم على الرسول وعلى الإسلام، فاللّهتعالى يؤيد رسوله بما يشاء وكفى به ناصراً ومعيناً.

قوله: {طَاعَةٌ} خبر لمبتدأ محذوف أي شأننا طاعة، أو نحن طاعة أي مطيعون فجعل المصدر مكان اسم الفاعل مبالغة.

وقوله: {فَإِذَا بَرَزُواْ...} قرينة على أنّ هؤلاء ليسوا منافقين، بل ضعاف الإيمان، فإن المنافق من الأول يقول بلسانه ما لا يريد تطبيقه، أما هؤلاء فيقولون شيئاً ثم لما يخرجون يفكرون في مشقة الأمر فينقسمون إلى طائفتين.

وقوله: {بَيَّتَ} من التبييت هو تدبير الأمر في البيات أي الليل، والمراد هنا الكناية عن تغيير رأيهم بالخفاء فكأنه قرار اتخذوه في ظلام الليل.

وقوله: {طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ} بيان لانقسامهم قسمين، فبعضهم يضمر المخالفة، والبعض يغلبه الإيمان فيستمر في قصده الطاعة.

وقوله: {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} أي تقول أنت يا رسول اللّه من الأوامر والزواجر، أو ما تقول تلك الطائفة من الطاعة.

وقوله: {يَكْتُبُ} أي يأمر الحفظة بكتابة ما يضرمون فضلاً عن أقوالهم وأفعالهم، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ * كِرَامًا كَٰتِبِينَ}(1)، وقال: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2)، وقال: {وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا

ص: 316


1- سورة الانفطار، الآية: 10-11.
2- سورة الجاثية، الآية: 29.

الْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَىٰهَا}(1).

وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي لا تهتم به فلا يضروك شيئاً، وقيل: لا تؤاخذهم بأعمالهم كيلا تنشق صفوف المسلمين، فإنهم إن ظهرت خباياهمشقوّا الصفوف وتمردوا، والفاء للتفريع، أي حيث علمت بأنّ اللّه سبحانه يكتب ما يبيتون، فأعرض عنهم لعدم حاجتك لنصرهم، بل توكل على اللّه فهو ناصرك كما قال: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}(2).

وقوله: {وَكِيلًا} الوكيل هو الذي يتولى الأمر بدلاً عن الشخص، والمعنى اعتمد على اللّه؛ لأنه يتولى أمرك وينصرك.

عدم اختلاف القرآن

الرابع: قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ...} الآية.

هذه الآية والآية التي بعدها كأنّهما لتفنيد سبب ضعف إيمانهم وعدم طاعتهم، فقد يكون سبب عدم طاعتهم للّه تعالى هو ترددهم وريبهم في كون القرآن من عند اللّه تعالى، وقد يكون سبب عدم طاعتهم الرسول ومن بعده أولي الأمر هو عدم الإذعان بصحة أوامرهم ونواهيهم، ولتقوية إيمانهم يؤمرون بالتدبر في القرآن ليعلموا أنه من اللّه تعالى، ويُنبّهون على صحة قرارات الرسول وأولي الأمر لمّا يدققون فيها، وذلك يكون سبباً لزوال ريبهم مما ينتج إطاعة اللّه والرسول وأولي الأمر.

وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} استفهام للتحضيض والحث، و(التدبر) هو

ص: 317


1- سورة الكهف، الآية: 49.
2- سورة التوبة، الآية: 40.

التأمل في عواقب الأمور ثم استعمل في كل تأمل، وتدبر القرآن: تأمل معانيه كذا في الكشّاف(1)، وفرقه عن التفكر هو أنّ التدبر النظر في العواقب، والتفكرهو النظر في الدلائل كذا في مجمع البيان(2).

والحاصل أنّ عليهم أن يتأملوا في القرآن ليعلموا أنه إعجاز وأنه كلام اللّه تعالى، وفي الآية دلالة على حجية ظاهر القرآن لكل أحد وأنه قد يسّره اللّه للفهم وأنه بالتأمل فيه يظهر وجه إعجازه لكل أحد، حتى ضعاف الإيمان الذين هم شأن نزول الآية، وأما من لا يتدبر فيرتاب فلا يطيع، وهذا تكون الحجة تامةً عليه؛ لأنه أغلق قلبه بسوء اختياره قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(3).

وقوله: {لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا} وذلك لأنّ الإنسان في تغيّر مستمر فيتطوّر وتنكشف له حقائق كانت غائبة عنه وتزداد تجاربه بمرور الزمن، فلذا يختلف فكره وقوله وعمله باستمرار، لكن من يتدبر في القرآن لا يجد فيه اختلافاً واحداً فضلاً عن الكثير، لا في فصاحته، ولا في معانيه، ولا في مخالفته للواقع، ولا أي نوع اختلاف آخر، مع أنه نزل في مدة ثلاثة وعشرين عاماً، وفي ظروف متفاوتة بشدة من سلطة المشركين إلى سلطة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي السلم والحرب، والفقر والغنى وغير ذلك، وتناول مختلف المواضيع من المظاهر الكونية، إلى خلق الإنسان والحيوان والنبات، وإلى التشريعات المختلفة، وإلى الأمور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية

ص: 318


1- الكشّاف 1: 284.
2- مجمع البيان 3: 250.
3- سورة محمد، الآية: 24.

والأخلاقية والفقهيّة وغير ذلك، مع كل ذلك لا نرى فيه اختلافاً واحداً! فهذا دليل على أنه ليس كلام البشر، بل هو من الخالق القادر العالم بكل الأمور.سؤال: كلام المعصومين (عليهم السلام) أيضاً لا اختلاف فيه؟

والجواب: أنّ سبب عدم اختلاف كلامهم إنما هو لأنّ اللّه تعالى عصمهم، فكلام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحي من اللّه، وكلام الأئمة مأخوذ من كلام الرسول، فبالنتيجة كان كلامهم من عند اللّه تعالى، فلذا لا اختلاف فيه أيضاً.

سؤال: هناك نسخ للأحكام وتدرج فيها، فبعض الآيات نسخت وبعض الأحكام تغيّرت بزيادة أو نقيصة!

والجواب: أنّ النسخ ليس اختلافاً، بل بيان انتهاء أمد الحكم، فالحكم كان موقتاً بوقت انتهى بانتهاء وقته، كما أنّ التدرج ليس اختلافاً، بل هو مراعاة الظروف في التشريع المتدرّج.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ}.

بيان سبب عدم إطاعتهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو أنهم لا يذعنون بصواب قراراته، فلذا يتصرفون هم بحسب ما يرونه في الأمور الهامة فيقال لهم: حتى تعلموا صواب قرارته مما يسوقكم إلى طاعته، فعليكم أن ترجعوا إليه في الأخبار الهامة وحينذاك ستعلمون صحة قراراته وحكمتها.

وفي الوقت نفسه الآية ترشد المؤمنين إلى عدم بث الإشاعات وعدم نقل الأخبار في الأمور الهامة بمجرد سماعها مع عدم التبيّن في صحتها وخطئها، فلعلّ الذي جاء بها فاسق، أو هي أخبار يبثّها الكفار والأعداء

ص: 319

لتضعيف الإسلام والمسلمين أو ليجدوا فيهم غِرة للقضاء عليهم.

وقوله: {جَاءَهُمْ أَمْرٌ} أي سمعوا خبراً.

وقوله: {الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} أي ما يوجب الأمن كخبر انهزام المشركين أو تشتت كلمتهم، أو ما يوجب الخوف كخبر قوة المشركين وعددهم وعدتهم.

وقوله: {أَذَاعُواْ بِهِ} أي أفشوه ونشروه، والباء في {بِهِ} سببيّة لا للتعدية، إذ لا تجتمع التعدية بالهمزة والباء في كلمة واحدة، ومفعول أذاعوا محذوف لقرينة الكلام عليه، ولعل المقصود أذاعوا الأمن والخوف بين الناس بسبب ذلك الخبر.

السادس: قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ...} الآية.

أي لو تريثّوا في الأخبار التي يسمعونها ولم يفشوها، بل أرجعوها إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلى الأئمة حينذاك يبيّن الرسول والأئمة الصدق من الكذب، والصالح للإذاعة من غير الصالح، وهؤلاء الضعاف الإيمان حينما يدققون في كلام الرسول والأئمة يعلمون صدقه، أما لو لم يدققوا في كلامهم فيكون حالهم كما لو لم يتدبروا القرآن.

والحاصل أنّ اللّه تعالى كما أمر بالتدبر في القرآن، كذلك أمر بالاستنباط في كلام الرسول والأئمة، ومن هذا يتبيّن أنّ المراد من {الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُۥ} نفس الذين يذيعون، فالمعنى أنّ هؤلاء يذيعون، لكن لو أرجعوه إلى الرسول والأئمة فإن استنبطوا من كلامهم علموا وجه الصواب،

ص: 320

وإن لم يستنبطوا لم يعلموا.وقوله: {وَإِلَىٰ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} هؤلاء هم نفس المذكورين في الآية 59 الذين أمر اللّه بطاعتهم، وسبب وجوب طاعتهم هو صحة كلامهم دائماً، وذلك يتبيّن للإنسان بالدقة في كلامهم.

سؤال: لماذا لم يذكر الرد إلى اللّه تعالى وخص الردّ بالرسول وأولي الأمر مع أنه في الآية 59 أمر بالرد إلى اللّه وإلى الرسول ولم يذكر الردّ إلى أولي الأمر؟

والجواب: يتضح مما سبق، وهو أنّ تلك الآية كانت في التشريع، وهو خاص باللّه وبالرسول، فليس الأئمة مشرعين، وإنما كلامهم في الأحكام يرجع إلى حكم اللّه وحكم الرسول، وأما هذه الآية فهي في القرارات الإدارية والحوادث الواقعة، وهي في العادة لم تذكر في القرآن الكريم، وإنما هي قرارات يتخذها الرسول والأئمة، وحيث هي غير مذكورة في القرآن فلا معنى لذكر ردّها إلى اللّه تعالى، وهي قرارات كما يتخذها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حياته، كذلك يتخذها الأئمة (عليهم السلام) من بعده.

وقوله: {لَعَلِمَهُ} أي علم وجه الصواب عن الخطأ، والصالح للإذاعة من غير الصالح، والضمير راجع إلى {أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ}.

وقوله: {الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ} أي هؤلاء ضعاف الإيمان حينما يرجعون إلى الرسول والأئمة ويستمعون إلى كلامهم ينقسمون إلى قسمين: فبعضهم يدققون في كلامهم ويتبيّن لهم وجه صواب كلامهم، والبعض الآخر لا يدقق فلا يفهم، فالذين يستنبطون من كلام الرسول والأئمة هم

ص: 321

هؤلاء المدققون، وضمير {مِنْهُمْ} إلى الرسول وأولي الأمر، أي منكلامهم (عليهم السلام) .

و(الاستنباط) هو استخراج النَبَط، وهو الماء يخرج من البئر أول ما تحفر، وهكذا كلام الرسول والأئمة من يستمع إليه لا بد له من التدقيق فيه حتى يعرف الحق فيه، كما أنّ القرآن لا بد من التدبر فيه، ولولا تدبر القرآن واستنباط كلام الرسول والأئمة لما وصل الإنسان إلى وجه الصواب فيهما.

وللآية تأويل، وهو أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) يستنبطون وجه الصواب، أي لمّا يرجع إليهم في الأخبار - بما حباهم اللّه من العلم - يعرفون الحق من الباطل، وعليه لم يقل: (لعلموه) وذلك لبيان سبب علمهم وهو استنباطهم من القرآن الكريم، فما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في هذه الآية: «يعني آل محمد، وهم الذين يستنبطون من القرآن ويعرفون الحلال والحرام»(1) تأويل للآية على الأظهر، واللّه العالم.

السابع: قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا}.

بيان أنّ من ينجون من هؤلاء الضعاف الإيمان إنما ينجون بفضل اللّه ورحمته عليهم حيث وفقهم لتدبر القرآن واستنباط كلام الرسول والأئمة (عليهم السلام) ، وبذلك يقوى إيمانهم وتكمل طاعتهم، لكن هؤلاء أقلية منهم، أما الأكثر فلا يوفقون لا للتدبر ولا للاستنباط بسبب سوء اختيارهم وإقفالهم قلوبهم.

ص: 322


1- تفسير العياشي 1: 260؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 179.

وقوله: {فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ} من أعظم فضله ورحمتهالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام) وولاية الأئمة (عليهم السلام) ، وبذلك وردّت بعض الروايات(1).

وقوله: {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَٰنَ} بيان أنّ الإذاعة وعدم الرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر هو اتباع للشيطان، وهو الموجب للدخول في النفاق أو الكفر بالارتداد.

وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} استثناء منقطع، فالمعنى: من دون فضل اللّه ورحمته أنتم اتباع الشيطان غير أنّ القليل شملهم الفضل والرحمة من اللّه، فليسوا اتباعاً للشيطان! وليس الاستثناء متصلاً حتى يتوهم أنّ القليل لا يتبع الشيطان من غير فضل اللّه ورحمته! فذلك باطل قطعاً، إذ لا أحد ينجو من غير فضله ورحمته سبحانه وتعالى، كما أنّ من خلاف الظاهر إرجاع الاستثناء إلى الإذاعة، واللّه العاصم.

ص: 323


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 181-182.

الآيات 84-87

اشارة

{فَقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا 84 مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُۥ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ مُّقِيتًا 85 وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا 86 اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا 87}

ثم بعد ذكر الطوائف الثلاث - من أهل الكتاب والمنافقين وضعاف الإيمان - عطف الخطاب إلى الرسول والمؤمنين، فقال اللّه تعالى:

84- لا تهتم يا رسول اللّه بعدم طاعة المنافقين وضعاف الإيمان وتثبيطهم عن الجهاد، {فَقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لرفع كلمة اللّه في الأرض {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} فأنت لست مسؤولاً عن الآخرين إلا بمقدار التبليغ، {وَحَرِّضِ} التحريض هو الحثّ {الْمُؤْمِنِينَ} على القتال فهم لإيمانهم يطيعونك، واللّه يكفي بهم شر الكفار ف {عَسَى اللَّهُ} المرجوّ منه {أَن يَكُفَّ} يمنع بكم {بَأْسَ}شدة وسطوة {الَّذِينَ كَفَرُواْ} فينصركم عليهم وبكم يكسر شوكتهم، {وَ} لا تخافوا من بأس الكفار إذ {اللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا} من الكفار {وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} عقوبة لهم، فهو الأقوى والأشد عقوبة فلا يُخشى

ص: 324

معه أحد.

85- والرسول وإن لم يكن مكلّفاً بفعل الآخرين لكنه بتبليغه ينال الأجرحينما يعمل المؤمنون، وهكذا كل من كان واسطة خير، فإنه {مَّن يَشْفَعْ} بأن يساهم في فعل الآخر بالتحريض والتسبيب والإعانة {شَفَٰعَةً حَسَنَةً} بأن كان المشفوع لأجله حسناً شرعاً، وكان التسبيب بالطريقة المشروعة {يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٌ مِّنْهَا} أي من ثوابها، {وَمَن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً سَيِّئَةً} بأن توسط أو حرّض على قبيح شرعاً أو بالطريقة غير المشروعة {يَكُن لَّهُۥ كِفْلٌ مِّنْهَا} أي حصة من وزرها ووبالها، {وَ} اللّه تعالى قادر على ذلك، إذ {كَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ مُّقِيتًا} أي يجازي عليه، و«المقيت» من القوت فكأنه يعطي زاد كلٍ من عامل الحسنة أو السيئة بما يناسبه.

86- {وَ} وأنتم - الرسول والمؤمنين - مأمورون بالجهاد، لكن {إِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ} أي تحية الصلح بأن جنح الكفار إلى السِلم {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} أي أرجعوا الجواب بمثلها، والمعنى اقبلوا جنوحهم إلى السِّلم أو أضيفوا الإحسان إليهم زيادة على القبول، والآية عامة وموردها الصلح، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} يحسب أعمالكم بحفظها ليجازيكم عليها، فردّ التحية بمثلها أو بأحسن منها محسوبة ومسجلة وستجازون عليها.

87- وذلك لأنّ الحساب والثواب على اللّه تعالى إذ هو {اللَّهُ} الذي {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فلا أحد قادر على المجازاة سواه {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} في يوم القيامة؛ لأنّ اللّه وعد به {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} استفهام للنفي، أي لا أحد أصدق منه!

ص: 325

بحوث

الأول: سياق الآيات في إطاعة اللّه ورسوله، وبعد ذكر الذين أوتوا نصيباً من الكتاب في كفرهم، والمنافقين في عصيانهم، وضعاف الإيمان فيتذبذبهم، يأتي ذكر المؤمنين في طاعتهم، وأنهم يستجيبون للّه ولرسوله ويطيعونهما.

وتبدأ الآيات بأمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالجهاد لزيادة حث المؤمنين عليه، كما يأمره اللّه تعالى على تحريض المؤمنين تسهيلاً عليهم في الطاعة، مع بيان قوة اللّه تعالى وثواب المجاهدين، ثم بيان وظيفتهم تجاه المنافقين وتجاه الكفار، سواء المحاربون منهم أم المعتزلون أم المتربصون.

الثاني: قوله تعالى: {فَقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ...} الآية.

بيان لوظيفة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الجهاد وأنه مكلّف بعمل نفسه وليس مسؤولاً عن عمل الآخرين، وإنما وظيفته تجاههم التبليغ ليحيى من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وتبليغه ليس مجرد إعلام الناس بتكليفهم، فليس الرسول كساعي بريد فقط، وإنما تبليغه يتضمن استعمال الأساليب المختلفة لإقناع الناس، بدءاً من تصرفاته شخصاً، كحسن أخلاقه وسعة صدره، وإلى استعمال أساليب البلاغة الإقناعية، وإلى استثمار الحالات النفسية للمخاطبين كإثارة حميّتهم، وإلى إعانتهم مالياً وتقديم الهدايا لهم تأليفاً لقلوبهم، وإلى التحبّب إليهم بإستشارتهم في الأمور الإدارية ونحو ذلك، ومنه التحريض.

وفي المفردات: التحريض: الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل

ص: 326

الخطب فيه، كأنه في الأصل إزالة الحَرَض، نحو مرّضته وقذّيته أي أزلت عنه المرض والقذى(1)، والحَرَض هو ما لا يعتد به ولا خير فيه.

وقوله: {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} التكليف من الكُلفة وأصلها المشقة، وإنما سميت الأحكام تكاليف لمشقتها على الكثير من الناس، والمعنى أنك مكلّف بنفسك، فما دام الجهاد واجباً فعليك أن تخرج إليه سواء عمل باقي الناس بتكليفهم أم لا.

وقيل: نزلت الآية في غزوة بدر الصغرى، حيث تواعد أبو سفيان مع المسلمين بعد غزوة أحد في أن يتقابلوا في العام القادم في بدر، حيث كان موسماً للتجارة في ذي القعدة، فخرج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يتبعه سوى سبعين رجلاً من المسلمين، وقد مرّ تفصيلها في سورة آل عمران.

وقوله: {عَسَى اللَّهُ} أي لعلّ اللّه يصنع ذلك، ولعلّ بمعناها، وهو إنشاء الترجي، وقد يختلف الداعي إلى استعمالها، فغالب الناس داعيهم الجهل بالعاقبة مع محبتها، وأما في عالم الغيب والشهادة فالداعي بيان محبوبية ذلك مع إبقائه على الإبهام على السامعين، وإن كان لا يخلو عن إشعار بالوعد إذا صدر من الكريم القادر.

وقوله: {يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي يمنع شدتهم ويكسر سورتهم، إما بقتالكم معهم وإما بجبنهم عن لقياكم، وهذا ما حصل في غزوة بدر الصغرى، إذ إنه بعد غزوة أحد انكسرت شوكة المسلمين، وتجرأ عليهم الكفار وتجبجب ضعاف الإيمان، لكن بعد عام حينما خرجوا إلى بدر

ص: 327


1- مفردات الراغب: 228.

الصغرى وقد أخلف المشركون الموعد انعكس الأمر، وبذلك قويت شوكة المسلمين وضعفت شوكة الكفار.

وقوله: {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا} أي قوةً، والمؤمنون يركنون إلى قوته، إذ هوناصرهم.

وقوله: {وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} أي تعذيباً، وهذا تهديد لمن لم يتبع الرسول ولم يستجب لتحريضه، و(النكال) هو ما يمتنع به من الفساد خوفاً من مثله من العذاب(1)، أي عقوبة تمنع العاصي من تكرار عصيانه، كما أنها تجعله عبرة للآخرين.

الثالث: قوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٌ مِّنْهَا...} الآية.

لبيان أمرين:

1- أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن لم يكن مسؤولاً عن أعمالهم، لكنه له نصيب من ثواب إطاعتهم؛ لأنه كان سبباً لها، وهكذا كل واسطة وسبب لعمل ما.

2- تحذير للمؤمنين من التوسط في إعفاء بعض الناس عن الجهاد أو تثبيطهم عنه، فإنّ ذلك يكون سبباً للمشاركة معه في الوزر.

و{شَفَٰعَةً} هي ضم شيء إلى آخر، من الشِفع الذي يقابل الوَتر، وإنما يقال للشفيع شفيع؛ لأنه ينضم إلى العامل فبهما يتم إنجاز العمل، وهي إمّا حسنة إذا كان العمل حسناً وكانت بالطريقة المشروعة، كمن يتوسط في عفو أولياء المقتول عن القاتل، حيث إنّ العفو حسن وهو أقرب للتقوى،

ص: 328


1- مجمع البيان 3: 210.

والتوسط بكلام حسن أيضاً مشروع، وإمّا سيئة إذا لم يكن العمل حسناً أو كانت بطريقة غير مشروعة، كما لو توسط في قتل بريء، أو هدّد أولياء المقتول ليضطروا إلى العفو مثلاً.

مشاركة السبب في الثواب أو العقاب

ومشاركة الواسطة والسبب في ثواب أو عقاب العمل أيضاً واضح، وذلك لأنه قد شارك فيه، والمشاركة في الأمر الحسن مأمور بها، كما قال: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(1) وامتثال المأمور به فيه ثواب، كما أنّ المشاركة في الأمر القبيح منهي عنها في قوله: {وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ}(2) وعصيان النهي فيه عقاب، وفي الحديث: «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»(3).

والحاصل أنّ الشفاعة الحسنة في مورد الآية تدعو إلى طاعة اللّه بالجهاد، فهي حسنة ومآلها إلى ثواب الشافع والمشفوع له، والشفاعة السيئة تدعو إلى عصيانه ومخالفته بترك الجهاد، ومآلها إلى وزر الشافع والمشفوع له.

ثم إنّ الشفاعة قد تكون في الدنيا وقد تكون في الآخرة، وشفاعة الآخرة إما لرفع الدرجات أو لحطّ السيئات، ولا تكون إلاّ لمن ارتضى اللّه تعالى عنه، فأراد أن يغفر له فجعل الشفاعة وسيلة لذلك، وقد مرّ بعض الكلام حول الشفاعة في سورة البقرة فراجع.

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ مُّقِيتًا} بيان لسبب النصيب أو الكفل

ص: 329


1- سورة المائدة، الآية: 2.
2- سورة المائدة، الآية: 2.
3- هداية الأمة 5: 579.

للشافع ببيان أنّ رزق الجميع على اللّه تعالى وأنه القادر على ما يشاء، فلذا وعد بالنصيب وأوعد بالكفل، ومن ذلك يتضح سبب اختيار كلمة (المقيت) دون المقتدر أو الحافظ أو المهيمن، فإنّ المقيت بمعنى الذي يُعطي القوت،فالمعنى أنه يجزي على كل عمل ويعطي قوت صاحب العمل بما يناسب عمله، وهذا يلازم الهيمنة والقدرة والحفظ والوفاء بالوعد.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا...} الآية.

معنى الآية عام يشمل كل أنواع التحية حتى السلام وتسميت العطاس، وسواء كانت بفعل أم قول، من مسلم أو كافر، والمقصود هنا هو ما يخص الجهاد، حيث أمر اللّه تعالى الرسول والمؤمنين إلى القتال في سبيل اللّه تعالى، ثم يبين لهم أنّ الكفار إذا جنحوا للسلم فلا بد من قبول جنوحهم بأحسن من صنعهم، أو لا أقل من كونه مثيلاً له، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(1) بشرط أن يكون عملهم تحية لا خداعاً، فإن أرادوا الخداع أو معارضة أحكام اللّه فلا دعوة للسلم معهم ولا قبول لها.

و(التحية) في الأصل الدعاء بالحياة ثم صارت اسماً لكل دعاء وثناء، والمراد هنا السِلم بل مطلق البر.

وقوله: {بِأَحْسَنَ مِنْهَا} أي قبولها بتحية مثلها مع زيادة، كالإحسان إلى أولئك، وبذلك يتم تزيين الإيمان في قلوبهم عسى اللّه أن يهديهم، فقد كانت معاهدات المسلمين مع الكفار والتزام المسلمين بها من أسباب دخول الناس في الإسلام؛ لأنها كانت تزيل حالة الحرب وتسبب لقاء الطرفين من

ص: 330


1- سورة الأنفال، الآية: 61.

غير خوف، فكان الكفار يرون حسن الإسلام وأخلاق المسلمين فينجذبون إلى الإسلام.

وقوله: {أَوْ رُدُّوهَا} أي أرجعوا الجواب بمثله، إن كانت بعضالمحاذير في الأحسن، أو لم تقدروا عليه، أو لأي سبب آخر.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} أي يحسب الأعمال، والمقصود بيان أنّ أعمالكم محفوظة عنده، فهو الرقيب عليكم فيجازيكم عليها، فلا تسول لكم أنفسكم الغدر ونقض العهد بزعم أنّ هؤلاء كفار!

الخامس: قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ...} الآية.

هذه الآية كالتعليل لقوله: {مُّقِيتًا} و{حَسِيبًا}، فهو جامع الناس إلى يوم القيامة، وهو القادر على الجزاء دون سواه، ولا إله غيره يتمكن من معارضته أو يلتجئ العصاة إليه، كما أنه وعد بالمحاسبة والثواب أو العقاب وهو الصادق فيما يقول، فهو المقيت والحسيب فعليكم أن تحذروه.

وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي جمعاً منتهياً إلى يوم القيامة، ولذا كانت التعدية ب {إِلَىٰ} فكأنّ الجمع يبدأ من موت الناس، فكل إنسان يموت يجمعه اللّه إلى سائر الأموات، حتى إذا اكتملوا كلهم في البرزخ حشرهم للحساب، وفي نهج البلاغة: «تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بأولكم آخركم»(1)، وقيل: {إِلَىٰ} بمعنى (في)، و{الْقِيَٰمَةِ} من القيام كما قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(2).

ص: 331


1- نهج البلاغة، الخطبة: 167.
2- سورة المطففين، الآية: 6.

وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي لا مجال للريب فيه؛ لأنه حقيقة يقينية.

وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ...} استفهام تقريري أو إنكاري، أي لا أحد أصدق من اللّه، فكلامه مطابق للواقع ولعلمه، وهو القادر على تنفيذ ما وعد،ولا يعمل القبيح أبداً.

فإنّ الكاذب في قوله إنما يكذب لجهل أو خبث أو عجز، وقد تعالى اللّه عن ذلك وعن كل نقصٍ.

و(الحديث) يطلق على الخبر والإنشاء، ويشمل الوعد والوعيد أيضاً.

ص: 332

الآيات 88-91

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا 88 وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا 89 إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَٰتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا 90 سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا 91}

بعد ذكر حكم قتال الكفار وعدم الشفاعة فيه، يبيّن حكم قتال المنافقين فيقول:

88- {فَمَا لَكُمْ} أيها المؤمنون، والاستفهام إنكاري {فِي} شأن {الْمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ} فرقتين: فرقه تريد قتالهم لإبطانهم الكفر، وأخرى لا تريد قتالهم لإظهارهم الإسلام، مع أنه على الجميع إطاعة اللّه فيما يأمر تجاههم، {وَاللَّهُ}

ص: 333

أي والحال أنّ اللّه {أَرْكَسَهُم} أي ردّهم إلى حكم المشركين في قتالهم {بِمَا كَسَبُواْ} أي بسبب سوء صنيعهم، كارتداد بعضهم، ولحوق البعض الآخر بالمشركين المحاربين، وتربص البعض بكم ليقاتلوكم، ثم يتوجه الخطابللفئة التي تُعذرهم فيقال لهم: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ} تحكموا بهداية {مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي حكم بضلاله، {وَ} الحال أنّ {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ} يحكم بضلاله {فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا} إلى الحكم بهدايته وإنقاذه.

89- وكيف تنازعون فيهم مع أنهم {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} فزادوا على كفرهم تمني كفركم {فَتَكُونُونَ} أنتم وهم {سَوَاءً} في الكفر، فهؤلاء لا ينبغي الاختلاف في شأنهم لظهور ضلالهم، {فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} أخلاّء وأصدقاء {حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيصيرون مثلكم، وأما المنافق الذي يكون مع الكفار المحاربين فهو منهم.

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الهجرة وبقوا مع الكفار الحربيين فحكمهم كحكم أولئك {فَخُذُوهُمْ} بالأسر {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} لأنّ الكافر الحربي ومن يلتحق به من المنافقين مهدورو الدم {وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا} خليلاً وصديقاً {وَلَا نَصِيرًا} بأن تزعموا أنهم ينصرونكم على الكفار! كلاّ فهم كفار باطناً ومع الكفار ظاهراً فيشملهم حكمهم.

90- {إِلَّا} استثناء طائفتين من المنافقين فلا يجوز قتالهم، الأولى: الذين يلتحقون بالكفار المعاهدين، والثانية: الذين يعتزلون القتال رأساً. أما الأولى: {الَّذِينَ يَصِلُونَ} يتّصلون وينتهون {إِلَىٰ قَوْمِ} من الكفار {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ} معاهدة، فإنّ انضمام المنافق إلى المعاهد يوجب الكفّ

ص: 334

عنه، {أَوْ} عطف على يصلون وهم الطائفة الثانية وهم الذين {جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ضاقت من {أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ} فلا هم لكم ولا عليكم فيعتزلون جانباً، ثم يبيّن اللّه تعالى أنّ اعتزالهم بفضل منه، حيث ألقىرعبكم في قلوبهم {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} مشيئة تكوينية بتقوية قلوبهم {لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} أي أقدرهم على قتالكم {فَلَقَٰتَلُوكُمْ} وكان ذلك بضرركم، لكنه تعالى سلّم، فبشرطين لا يحق لكم قتال هؤلاء، الشرط الأول: الاعتزال بعدم القتال عملاً، والشرط الثاني: التصريح بالسلم لفظاً، {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} تنحّوا عنكم ولم يتعرضوا لكم {فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ} بل بقوا محايدين {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي صالحوكم وسالموكم باللسان {فَ} لا يحق لكم قتالهم، إذ {مَا جَعَلَ اللَّهُ} لم يُشرّع {لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} في القتال.

91- أما لو لم يتحقق الشرطان فهؤلاء قد شرّع اللّه قتالهم {سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ} من المنافقين الذين لم يهاجروا إلى المؤمنين {يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ} فيظهرون عندكم الإسلام {وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} فيظهرون عندهم الشرك، {كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ} كالشرك وقتال المسلمين {أُرْكِسُواْ فِيهَا} انقلبوا وسقطوا في الفتنة، {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} لم يعتزلوا عن محاربتكم {وَ} لم {يُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} الصلح والانقياد {وَ} لم {يَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ} بأن صاروا بصدد محاربة المؤمنين {فَخُذُوهُمْ} بالأسر {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي في أيّ مكان وجدتموهم، {وَأُوْلَٰئِكُمْ} المنافقون

ص: 335

{جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ} في قتالهم {سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} عذراً ودليلاً واضحاً، بفضحهم وتشريع قتالهم.

بحوث

الأول: سياق الآيات في ذكر طوائف الناس، فبعد ذكر أهل الكتاب والمنافقين وضعاف الإيمان، وبعد تحريض المؤمنين على القتال وعدمالشفاعة السيئة، يأتي الكلام حول قتال المنافقين، المشروع منه وغير المشروع، فالمنافق الذي يعيش بين المسلمين ولا يقاتلهم لا تجوز مقاتلته، بل له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.

وأما المنافقون الذين يتركون المسلمين فهؤلاء طائفتان:

الطائفة الأولى: من يلتحق بالكفار الحربيين - سواء ارتد أم لا - فهذا حكمه حكم الحربيين، فتجوز مقاتلته إلاّ إذا ترك الكفار ورجع إلى المسلمين.

الطائفة الثانية: من التحق بالكفار المعاهدين، فهذا حكمه حكمهم، فما داموا على عهدهم فلا يجوز مقاتلته كما لم يجز مقاتلتهم.

وأما المنافقون الذي يتركون المسلمين ولم يلتحقوا بالكفار فهؤلاء لا بد من أمن المسلمين من شرّهم، وهم قسمان:

القسم الأول: الذين اعتزلوا قتال المسلمين وصرّحوا بالانقياد لهم ومسالمتهم فلا تجوز مقاتلتهم.

والقسم الثاني: الذين يتربصون بالمسلمين فلم يعتزلوا عن القتال ولم يصرحوا بالمسالمة فهؤلاء لا بد من قتالهم، كأصحاب الجمل وصفين

ص: 336

والنهروان.

ويمكن أن تكون الآيتان 88-89 في أحكام المرتدين، فهم كانوا منافقين ثم ارتدوا فالتحقوا بالكفار! والآيتان 90-91 في الكفار بحمل الاستثناء على كونه منقطعاً.

الثاني: قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم...} الآية.حث للمؤمنين على إطاعة اللّه ورسوله في شأن القتال، وعدم الاختلاف في حكمه تعالى، فالتقريع والإنكار في الآية يراد به الفئة التي كانت تدافع عنهم وتشفع لهم، وتأييد للفئة التي كانت تذمهم ولا تعذرهم.

ويمكن أن يكون التقريع لكلتا الفئتين، حيث كان اختلافهم من دون رجوع إلى اللّه ورسوله، فحتى الفئة التي لم تكن تعذرهم ما كان ذلك إلا عن رأي دون استقاء الحكم من الشرع، ولا يجوز في أحكام الشرع إبداء الرأي من دون استناد إلى الشرع حتى لو فرض إصابة الرأي للواقع، فإن ذلك تجرٍّ على اللّه ورسوله، وفي حديث تعداد القضاة من أهل النار: «ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم»(1)،

والاحتمال الأول أظهر.

وقوله: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم} من الركس بمعنى قلب الشيء على رأسه وردّ أوله إلى آخره(2)، والمقصود ردّهم إلى الكفر، وذلك بحكمه بكفرهم باطناً في آيات متعددة، وتصريحه على كفر المرتد منهم في آيات أخرى، فمع حكم اللّه لا بد لكم جميعاً من إطاعته لا الاختلاف فيهم.

ص: 337


1- الكافي 7: 407.
2- مفردات الراغب: 364.

وقوله: {بِمَا كَسَبُواْ} الباء سببيّة، أي حكمه بكفرهم إنما هو بسبب سوء أعمالهم، بترك الجهاد والتحاقهم بالمشركين وبارتدادهم.

وقوله: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ...} أي هل تريدون أن تعارضوا حكم اللّه تعالى باختلافكم هذا؟

وقوله: {مَنْ أَضَلَّ} أي حكم اللّه بضلاله، فإنّ من معاني الهدايةوالإضلال: الحكم بهما.

ويمكن أن يكون المعنى أنّ مقصود الفئة التي كانت تختلق الأعذار لأولئك المنافقين هو إيجاد طريق إلى هدايتهم! فيقال لهم ما دام اللّه قد خذلهم وتركهم وشأنهم حتى ضلوا فلا فائدة في سعيكم لهدايتهم، بل عليكم أن تمتثلوا أمر اللّه إن حكم بقتالهم.

الثالث: قوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً}.

لعلّه لبيان عدم قابليتهم للّهداية لذلك أضلهم اللّه تعالى، فهؤلاء قد نفذ حب الكفر في قلوبهم، حتى إنهم يحبّون إضلال المسلمين، أو المقصود كيف تريدون هدايتهم مع أنهم يودّون كفركم، أو كيف تختلفون في شأنهم مع وضوح كفرهم بحيث يظهرون محبتهم لكفركم كي تكونوا معهم سواء في الكفر!

وقوله: {كَمَا كَفَرُواْ} دليل على أنّ المراد بهؤلاء المنافقون الذين ارتدوا منهم.

وقوله: {فَتَكُونُونَ سَوَاءً} تأكيد لحبهم كفركم، فإنّ المبطل لا يتمكن من رؤية المحق حتى وإن علم أنّ الحق مع المحق، بل يريد دخوله فيما

ص: 338

دخل فيه من الباطل إما حسداً، أو لئلا يعيّر على باطله لمّا يقاس بالمحق، أو لتخفيف الشعور بالذنب في نفسه لمّا يرى الآخرين يشاركونه، أو لغير ذلك.

الرابع: قوله تعالى: {فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ...} الآية.

بعد النهي عن الاختلاف في شأنهم، وبيان أنّ اللّه تعالى قد حكم بضلالهم، وبعد أن علمتم بأنهم يريدون شرّكم بإضلالكم فلا معنىلاتخاذهم أصدقاء، إذ لا وجه في صداقة من يريد الإضرار بك، كما لا معنى في صداقة أعداء اللّه تعالى.

وقوله: {حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بيان أنهم لو تركوا النفاق فهاجروا هجرة تكشف عن إيمانهم لكونها في سبيل اللّه، فحينذاك قد دخلوا في زمرة المؤمنين، فلهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فلا بد من اتخاذهم أولياء؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(1).

سؤال: كيف نعلم بأن هجرتهم في سبيل اللّه، فلعلها لمال أو مصلحة دنيوية؟

والجواب: هو أنّ القرائن كثيراً ما تكشف المنويات، قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(2)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه(3)»، مضافاً إلى أنه لو لم نعلم بالباطن فعمل المسلم يحمل على الصحة.

وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الهجرة، أو أعرضوا عن الإيمان بعد

ص: 339


1- سورة التوبة، الآية: 71.
2- سورة محمد، الآية: 30.
3- نهج البلاغة، الحكمة: 26.

ارتدادهم.

وقوله: {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} في أيّ مكان؛ لأنّ هؤلاء حكمهم حكم الكافر الحربي، حيث إنهم التحقوا بالكفار المحاربين، فلحقهم حكمهم.

وقوله: {وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} أي لا تزعموا أنّ هؤلاء سينفعونكم فلا تولّوهم عليكم ولا تستنصروا بهم، إذ لو كانوا يريدوننصركم لبقوا معكم ولم يرجعوا إلى الكفار مرتدين!

والظاهر أنه لا تكرار في قوله: {فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} وقوله: {وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا}، فالأول بمعنى الأخلاء والأصدقاء، والثاني بمعنى المتولي للأمور المسيطر على زمامها، ويحتمل كونهما بمعنى واحد كرّره تأكيداً أو توطئة لقوله: {نَصِيرًا}، فتأمل.

والمروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أنها نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الإسلام، ثم رجعوا إلى مكة؛ لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال بعضهم: لا نفعل فإنهم مؤمنون، وقال آخرون: إنهم مشركون، فأنزل اللّه فيهم الآية»(1).

الخامس: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ}.

استثناء من جواز قتال المنافقين الملتحقين بالكفار، وذكرت الآية استثناءين، أولهما: المنافقون الذين يلتحقون بالكفار المعاهدين، فيلزمهم

ص: 340


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 190 عن مجمع البيان.

حكمهم، ومن هذا يتبيّن أنّ حكم المنافق بالذات ليس هو القتال، بل جواز قتاله تابع لمحاربته للإسلام، فالذي التحق بالمحاربين صار محارباً، والذي التحق بالمعاهدين لم يصبح محارباً؛ لأنه لا يتمكن من مخالفة المعاهدة فلا يكون حينئذٍ خطراً على الإسلام.

وقوله: {يَصِلُونَ} من الوصل، والمعنى يتصلون بهم وينتهون إليهم، و{مِّيثَٰقٌ} المعاهدة، فلا يجوز نقضها.

السادس: قوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ...} الآية.

وهذا الاستثناء الثاني، وهم مجموعة من الناس كانوا يريدون الحياد بين المسلمين والكفار، وذلك لضعفهم عن المسلمين ولرابطتهم النسبية مع المشركين، فجاؤوا إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يريدون الموادعة وكانوا صادقين في طلبهم، فأجاز اللّه تعالى ترك قتالهم وقبول موادعتهم من غير معاهدة، وذلك لكثرة الأعداء حينذاك، فكلّما قلّ من يقاتل المؤمنين كان ذلك لصالحهم، ولا يخفى أنّ هؤلاء لم يكونوا منافقين بل كانوا كفاراً علناً، فاستثناؤهم إمّا منقطع كما مرّ، أو أنّ المراد من ظاهر الآية المنافقون حسب سياقها، وتأويلها بهؤلاء الكفار، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «نزلت في بني مُدلج؛ لأنهم جاءوا إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد أنك رسول اللّه، فلسنا معك ولا مع قومنا عليك... قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب ثم يدعوهم، فإن أجابوا وإلاّ قاتلهم»(1).

ص: 341


1- الكافي 8: 327.

وقوله: {حَصِرَتْ} بمعنى ضاقت، فإنّ من يصيبه الهمّ والانفعال النفسي يحتاج إلى هواء أكثر فتنتفخ رئتاه لاستيعاب أكبر كمية من الهواء، وذلك يسبب الضغط على القلب، فيشعر الإنسان بضيق في الصدر.

وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ...} لبيان مِنّة اللّه على المؤمنين، حيث إنّ الأمور كلّها بيده، فلو شاء مشيئة تكوينية بالتصرف في قلوب هؤلاء الكفار بتقويتها على المؤمنين لكانوا ينضمون إلى صفوف الكفار المحاربين، لكن اللّهتعالى قذف في قلوبهم رعب المسلمين فطلبوا الهدنة منهم، وقوله: {لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} أي على قتالكم أو بمعنى غلبتهم عليكم.

سؤال: كيف نجمع بين قوله هذا وبين قوله: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(1)؟

والجواب: أنّ هذه الآية في السلطة التكوينية، وتلك الآية في التشريعية، بمعنى أنّ اللّه لم يشرّع حكماً فيه سلطة للكفار على المؤمنين، فلا يجوز نكاح المسلمة بالكافر، ولا ولاية للأب الكافر على أولاده المسلمين، ولا ولاية للكفار على حكم المسلمين وغير ذلك من أحكام تشريعية، وهذا لا ينافي سلطة تكوينية للكفار على بعض المسلمين، كأسر الكفار بعض المسلمين أو التغلّب على بلادهم.

مضافاً إلى أنّ هذه الآية تبيّن قدرة اللّه تعالى على جعل السلطة، فإنّ عدم جعل السبيل ليس بمعنى عدم قدرته سبحانه عليه.

وقوله: {فَلَقَٰتَلُوكُمْ} جواب عن شرط محذوف، أي ولو فعل اللّه ذلك

ص: 342


1- سورة النساء، الآية: 141.

بأن سلطهم عليكم بإزالة الرعب، فحينذاك كانوا يقاتلونكم.

وقوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} بيان للشرط الأول لعدم قتالهم، وهو الاعتزال ثم شرح الاعتزال بقوله: {فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ} فهما أمر واحد.

وقوله: {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} بيان للشرط الثاني لعدم قتالهم وهو تصريحهم بأنهم لا يريدون القتال، بل يريدون السِّلم.

وقوله: {سَبِيلًا} أي حكماً تشريعياً في قتالهم.السابع: قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ...} الآية.

تحذير للمسلمين بأن لا ينخدعوا بكل من تنحّى وأظهر السِلم، فإن البعض يريد أن يأمن الجانبين - المسلمين والكفار - لكنه في الوقت نفسه يتربص بالمسلمين، فيأتي إلى المسلمين فيظهر الإسلام ويذهب إلى المشركين ويظهر الشرك، فهذا لا تؤمن بوائقه، فهذا حكمه القتال، إلاّ لو تنحّى وألقى السلم وكف يده عن القتال.

وقوله: {ءَاخَرِينَ} أي من المنافقين تجدون قوماً آخرين.

وقوله: {الْفِتْنَةِ} أي الشرك وقتال المسلمين، أي كلما حانت لهم الفرصة للغدر فعلوا ذلك.

وقوله: {أُرْكِسُواْ فِيهَا} بمعنى الانتكاس والانقلاب والسقوط كما مرّ، وفرق هؤلاء عن الطائفة السابقة هي أنّ تلك لم يظهر منها الغدر، أما هؤلاء فظهر منهم ذلك.

قوله: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ...} للإشارة إلى كذب نواياهم وخبث أفعالهم، والمعنى حيث إنّ هؤلاء نقضوا الموادعة التي وعدوا بها فلم يعتزلوا القتال

ص: 343

وجاهروا به لساناً وعملاً فلا بد من مقاتلتهم، وفي تلك الآية قال: فإن {اعْتَزَلُوكُمْ...} لبيان صدق نواياهم.

وقوله: {سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} أي عذراً وحجةً واضحة في قتالهم؛ وذلك لأنهم غدروا وأظهروا العداوة بارتكاسهم في الفتنة، و(السلطان) من السلطة، وهي إما سلطة بالقهر والقوة وإما سلطة بالحجة، أي تغلب حجتكم حجتهم، أو لأنّ الحجة بالبرهان صارت سبباً للسلطة عليهم بأسرهم وقتلهم لذلك سميت سلطاناً.

ص: 344

الآيات 92-94

اشارة

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَٔا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَٔا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّٖ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 92 وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا 93 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 94}

بعد ذكر حكم قتال الكفار والمنافقين تذكر الآيات حكم قتال المؤمنين، فتنهى عن قتلهم مطلقاً في قتال أو غيره، وتبيّن ما يستتبعه قتلهم حتى لو كان خطأً، فقال تعالى:

92- {وَمَا كَانَ} لا يجوز ولا يستقيم {لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} في أية حالة ولأجل أية علّة {إِلَّا خَطًَٔا} إي باستثناء حالة الخطأ أو لعلة الخطأ، فالإنسان غير المعصوم معرّض للخطأ، {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَٔا} سواء كان

ص: 345

القاتل مؤمناً أم لا، فهذا وإن لم يذنب؛ لأنه أخطأ لكن عليه جبر خطئه {فَ} كفارته {تَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ} وهذا ما بين القاتل وبين اللّه تعالى، {وَ} أما ما بينه وبين أولياء المقتول ف {دِيَةٌ} وهي مقدار من المال عيّنهالشرع {مُّسَلَّمَةٌ} يعطيها {إِلَىٰ أَهْلِهِ} ذوي المقتول، {إِلَّا أَن يَصَّدَّقُواْ} يتصدّق أولياء المقتول على القاتل بالعفو عنها.

{فَإِن كَانَ} القتيل خطأً {مِن قَوْمٍ عَدُوّٖ لَّكُمْ} أي كفار محاربين {وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَ} كفارته {تَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ} فقط، ولا دية لأهله لكفرهم، والدية في حكم الإرث، ولا يرث الكافر المسلم.

{وَإِن كَانَ} القتيل - مؤمناً كان أو غير مؤمن - {مِن قَوْمِ} كفار {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ} كمعاهدة أو ذمة {فَ} تجب {دِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ} فإنّ للميثاق حرمة.

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الرقبة المؤمنة في الصور الثلاث {فَ} يجب عليه بدلاً منها {صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً} تخفيفاً {مِّنَ اللَّهِ} أي بدلية الصوم عن التحرير إنما هو تخفيف من اللّه على المسلمين، أو بمعنى تشريع الدية والتحرير والصيام رجوع من اللّه عليكم بلطفه وكرمه، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بمصالحكم {حَكِيمًا} في تشريعاته، هذا كله في قتل الخطأ.

93- {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} قاصداً لقتله {فَجَزَاؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ} طرده من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُۥ} هيّأ له {عَذَابًا عَظِيمًا} هذا مضافاً إلى حق قصاص أولياء المقتول منه.

94- ولو اختلط الأمر عليكم فلم تعلموا المؤمن المحقون الدم من

ص: 346

الحربي المهدور الدم فعليكم التثبّت، وكل من أظهر الإسلام لا بد من القبول منه ف {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ} سافرتم {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} للجهاد {فَتَبَيَّنُواْ} ميّزوا بين الحربي والمسلم ولا تتسرعوا في القتل، {وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَٰمَ} أظهر الإسلام وحياكم بتحية الإسلام:{لَسْتَ مُؤْمِنًا} اتهاماً له بأن إسلامه لقلقة لسان خوفاً من القتل، فإنّ الذي يدعوكم إلى التسرّع في الحكم بالكفر هو أنكم {تَبْتَغُونَ} تطلبون {عَرَضَ} أي الحطام الذي لا ثبات له من {الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}، لكن عليكم طلب ثواب اللّه بالالتزام بأحكامه {فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ} جمع مغنم، أي فوائد {كَثِيرَةٌ} تغنيكم عن عرض الحياة الدنيا، {كَذَٰلِكَ} أي كالذي ألقى إليكم السلام ولم تقبلوا إسلامه {كُنتُم مِّن قَبْلُ} كنتم كفاراً {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بأن هداكم للإسلام، فقبل منكم إسلامكم مع عدم علم أحد إلاّ اللّه بحقيقة قلوبكم! وحيث علمتم أنّ الحكم هو قبول الإسلام {فَتَبَيَّنُواْ} تأكدوا في إسلام وكفر من تقاتلونه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فلا تبتغوا عرض الحياة الدنيا بالتهاون في القتل.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو حكم القتال المستلزم للقتل عادة، فبيّن اللّه تعالى حكم قتال الكفار والمنافقين أولاً، ثم عطف الكلام إلى حكم قتال المؤمنين ببيان الحكم العام في قتل المؤمن - سواء من ثبت إيمانه أم من أظهر الإسلام بلسانه - ، فإنه إذا لم يجُز قتله فلا يجوز قتاله الذي يؤدّي إلى القتل عادة، فبينت الآيات عدم جواز قتل المؤمن، ثم بينت جزاء القتل

ص: 347

وكفارته، وحيث إنّ الإنسان غير المعصوم معرّض للخطأ فيمكن القتل بالخطأ لذلك بينت الآية حكمه أيضاً.

والمحصّل هو أن نفس الإنسان المؤمن محترمة، وفيها حقّ اللّه وحق الناس.

أما حق اللّه تعالى فلم يُسقطه سبحانه لا في قتل العمد ولا في قتل الخطأ،من غير فرق بين كون ذوي المقتول مسلمين أو كفار، فلذا أوجب سبحانه تحرير رقبة مؤمنة في كل أنواع القتل.

الحقوق في القتل

وأما حق الناس فهو حق المقتول وحق أولياء دمه...

أما حق المقتول: فبعذاب قاتله في الآخرة انتقاماً له إن كان القتل عمداً، وبنقل ذنوبه إلى قاتله، ونقل أعمال القاتل الصالحة إليه، كما يظهر من بعض الروايات.

وأما حق أهله: فبالدية في الخطأ، وبالقصاص في العمد.

وهذه الآيات لم تذكر العقوبة الدنيوية لقاتل العمد، وقد بينتها آيات أخرى في سورة البقرة وسورة المائدة، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ}(1)، وقال: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}(2).

ومن ذلك يتضح أنّ النفس محترمة جداً بحيث قال تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(3) وبسبب احترامها الشديد تترتب على إزهاقها

ص: 348


1- سورة البقرة، الآية: 179.
2- سورة المائدة، الآية: 45.
3- سورة المائدة، الآية: 32.

آثار كبيرة حتى على الخطأ منها بالدية وتحرير رقبة أو صيام شهرين متتابعين، كما أنّ تحديد الدية في الشرع يمنع استغلال ذوي المقتول، وأيضاً مراعاة للقاتل لفقره أحياناً ولذوي المقتول، حيث إنّ فقر القاتل قد يمنعهم عن الوصول إلى حقهم في الدية، وأيضاً لأجل التكافل الاجتماعي... لذلك شرّع اللّه الدية في قتل الخطأ على العاقلة، وهم ذووالقاتل من جهة أبيه، وللدية أحكام كثيرة تُطلب من كتب الفقه.

ولا يخفى أنّ (الدية) هي المال الذي يُعطى بدلاً عن الجناية، وليست ثمناً للمقتول أو لدمه، فالنفس لا تقدّر بثمن مادي، ولذا كان إزهاقها من غير وجه حق يعادل إزهاق جميع الأنفس، وإنقاذها من الهلاك يعادل إحياء جميع الناس.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَٔا}.

مفهوم {مَا كَانَ} هو نفي خبرها عن اسمها، وهذا المفهوم له مصاديق متعددة تكوينة أو تشريعية، فمنها عدم الإمكان كقوله تعالى: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا}(1) أي لا تقدرون على ذلك، ومنها: عدم التشريع كقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}(2) أي لم يوجب اللّه ذلك عليهم، ومنها: النهي كقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ اللَّهِ}(3)، ومنها: عدم الحكمة فيه كقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}(4)، والحاصل أنّ

ص: 349


1- سورة النمل، الآية: 60.
2- سورة التوبة، الآية: 122.
3- سورة التوبة، الآية: 17.
4- سورة آل عمران، الآية: 179.

{مَا كَانَ} إخبار والداعي له مختلف ولكن اختلاف الداعي لا يغيّر من معناها، والمقصود في هذه الآية النهي، فهو إخبار يقصد به إنشاء النهي.

وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} مع أنّ التحريم عام للجميع، ولكن حيث إنّ المخاطبين أو المنتفعين بهذا الحكم هم المؤمنون لذلك خصّهم بالذكر، أو لبيان أنّ المؤمن لا يقتل، ومن يقتل ظلماً فليس بمؤمن.وقوله: {أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} إنما خصّ المقتول بكونه مؤمناً مع أنه لا يجوز قتل الكافر غير الحربي؛ لأنّ قتل المؤمن مطلقاً غير جائز، أما قتل غير المؤمن فقد يجوز إذا كان محارباً أو قاتلاً ونحو ذلك، وقد لا يجوز إذا كان محقون الدم.

وقوله: {إِلَّا خَطًَٔا} استثناء منقطع، والمعنى لا يجوز القتل في غير حالة الخطأ، وقيل: الاستثناء متصل بناء على تفسير {مَا كَانَ} بأنه «لا يمكن» فالمعنى لا يمكن أن يقتل المؤمن مؤمناً إلاّ في حالة الخطأ فإن ذلك ممكن.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَٔا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ}.

بيان القسم الأول من أقسام قتل الخطأ، وهو قتل المؤمن خطأً، مع كون أهله مسلمين.

فحق اللّه بتحرير رقبة مؤمنة، وهذا ليس عقوبة للقاتل؛ لأنّ الخطأ مرفوع، وإنما لأجل حرمة الدماء كي يحتاط المؤمنون أشد احتياط، ولئلا يكون القتل أمراً اعتيادياً عند الناس، مضافاً إلى احتمال أن يكون للقتل آثار وضعية يمحوها اللّه بهذه الكفارة، فإنّ لبعض الأعمال آثاراً تكوينية تترتب حتى لو لم يكن الفاعل قاصداً أو مختاراً، فمن يشرب الخمر خطأً يسكر،

ص: 350

ومن يشرب السُمّ جهلاً يموت، حتى وإن لم يكونا مذنبين بسبب الخطأ والجهل، ولذلك اشترط إيمان الرقبة كإيمان المقتول، وقيل: لعلّ ذلك بسبب أن التحرير كالإحياء؛ لأنّ الرق كالميت في عدم سلطته على نفسه، فما دام أزهق نفساً فعليه إحياء نفسه، واللّه العالم.وقوله: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ} بيان لحق الناس، أي حق ذوي المقتول فإنهم فقدوا عزيزاً وقد يكون معيلاً، فتكون الدية كتعويض ماديّ لهم.

وقوله: {مُّسَلَّمَةٌ} قيل: كناية عن تعجيلها وعدم المطل فيها، وعن كونها تامة غير منقوص منها شيئاً، فإنه لا يقال: سلّمها لو أخذوها من المديون قهراً أو نقصهم حقّهم.

وقوله: {إِلَىٰ أَهْلِهِ} أي ورثته الذين هم أولياء دمه، وتقسّم بينهم كتقسيم الإرث.

وقوله: {إِلَّا أَن يَصَّدَّقُواْ} أي يتصدقوا، بأن يعفوا عن القاتل، فهذا حقهم ويجوز لهم أن يتنازلوا عنه، و(الصدقة) كل عمل فيه تصديق للّه تعالى وغلب استعماله في المال وخاصة للفقراء، وكأنّ في الآية تلميحاً إلى حُسن إبراء ذمة القاتل إذا كان فقيراً.

الرابع: قوله تعالى: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّٖ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ...} الآية.

بيان القسم الثاني من أقسام قتل الخطأ، وهو قتل المؤمن خطأً مع كون أهله كفاراً حربيين، وهنا لا دية لأهله؛ لكونهم غير محترمي المال والنفس، نعم دلت السنة على وجوب دفع ديته إلى الإمام، فإنه وارث من لا وارث له، كما يبقى حق اللّه بتحرير الرقبة المؤمنة.

ص: 351

وقوله: {عَدُوّٖ لَّكُمْ} أي كفار حربيين، فالمعاهد والذمي ليسوا بأعداء لدخولهم في العهد أو الذمة.

وقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} تأكيد، وللتفريق بين هذا المقتول وبين المقتولفي القسم الثالث فإنّ ذاك له الدية سواء كان مؤمناً أم كافراً.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ...} الآية.

بيان القسم الثالث من أقسام قتل الخطأ، وهو قتل من كان أهله في ميثاق مع المسلمين، ولا فرق بين كون المقتول مسلماً أم لا، ولذلك أطلقت الآية في هذا القسم مع تقييدها في القسمين الأولين بالمؤمن.

وقوله: {مِّيثَٰقٌ} أعم من كونهم أهل ذمة، أو كونهم معاهدين.

وقوله: {إِلَىٰ أَهْلِهِ} أي ذويه الذين يرثون منه، فإن كان القتيل كافراً وجميع أهله كفاراً فالدية لهم، وإن كان بعض أهله مسلمين فالدية لهم خاصة.

وقوله: {فَدِيَةٌ...} لا يخفى أنه في القسم الأول قدّم التحرير على الدية فقال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ}، وفي هذا القسم قدّم الدية على التحرير فقال: {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ}، ولعلّ ذلك تفنن في العبارة وهو نوع بلاغة، وقيل: قدّم ذكر حقهم رعاية للميثاق الذي بينهم وبين المسلمين.

السادس: قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ...} الآية.

حيث ذكر الدية والتحرير، ذكر حكم العجز عن التحرير، بأن لم يجد مالاً ليحرر به الرقبة أو لم يجد رقبة، فحينئذٍ عليه صيام شهرين متتابعين بدلاً عن التحرير، ولم يذكر حكم العجز عن الدية، ولعل سبب ذلك أنّ دية

ص: 352

الخطأ على العاقلة، الذين هم أقرباء القاتل من جهة أبيه، ومن النادر عجز جميعهم عن ذلك، وحتى لو عجزوا فإنّ هناك سهماً للغارمين - أي المديونين - في الزكاة، وعليه فالدية تدفع من بيت المال حينئذٍ، فقوله:{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي لم يجد الرقبة.

وقوله: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} دلت السنة على أنه يكفي في التتابع صوم شهر وصوم يوم من الشهر الثاني؛ لأن الشهر الثاني اتصل بالشهر الأول، ويمكنه أن يفرّق بين ما تبقّى.

وقوله: {تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ} الظاهر هذا تعليل لبدلية الصيام عن التحرير، والتوبة هنا يراد بها التخفيف، فإنّ أصل التوبة بمعنى الرجوع، واللّه يرجع إلى عبده بلطفه تارة بغفران الذنب، وتارة بالتخفيف على العبد، فلذا صحّ إطلاق التوبة حتى لو لم يكن ذنب، فإنّ حكم اللّه بالتحرير كان صعباً على العبد فيرجع اللّه لطفه إلى العبد بالتخفيف عنه بجعل الصيام بدلاً عنه.

ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {تَوْبَةً...} تعليل لكل الأحكام المذكورة في قتل الخطأ، فإنه كانت في الجاهلية عادات ثقيلة جداً، فخفّف اللّه تعالى عن الأمة بتشريع هذه الأحكام.

السابع: قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُۥ جَهَنَّمُ...} الآية.

بعد ذكر أحكام القتل الخطأ، تذكر الآية القتل العمد، وقد ذكرت جزاء القاتل الأخروي ولم تذكر الآية الحدّ الدنيوي بالقصاص، ولعل ذلك لأنّ سياق الآيات حول ما شرّع اللّه تعالى في القتال وما لم يشرعّه، وليست الآيات بصدد بيان العقوبات أو المثوبات الدنيوية، وذكر الدية في قتل

ص: 353

الخطأ كان بالعرض! وأما حدّ القاتل عمداً فقد بُيِّنَ في سورتي البقرة والمائدة.

وقوله: {مُّتَعَمِّدًا} من العمد بمعنى الإتيان بالفعل بقصد القتل، فلو لميقصد الفعل كما لو دهس إنساناً في حادث مروري فهو من القتل الخطأ، أو قصد الفعل لا بنية القتل كما لو ضربه للتأديب بآلة غير قتّالة فمات، فهو ليس من العمد لكنه خطأ شبيه بالعمد، وهذان ليس لهما حكم قتل العمد وإن كان بينهما فروق مذكورة في الفقه.

وروي أن (المتعمد) هو الذي يقتله على دينه(1)، والظاهر أنه بيان لأظهر المصاديق.

ثم إنّ الآية الكريمة ذكرت أربع عقوبات لقاتل العمد وهي:

1- {جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا}، فكل معصية كبيرة لها اقتضاء خلود صاحبها في النار، والقتل من أكبر الكبائر، لكن اللّه تعالى بلطفه استثنى موردين:

المورد الأول: فيما لو تاب مرتكب الكبيرة - مع وفائه بشروط التوبة، فإنّ توبة كل شيء بحسبه - ، والقاتل لو كان قتله في حال كفره ثم أسلم وحسن إسلامه غفر اللّه له، فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وكذا لو تاب توبة نصوحاً بأن أدّى حق ذوي المقتول وحق اللّه تعالى، فعسى اللّه أن يتوب عليه وقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}(2).

المورد الثاني: فيما لو غفر اللّه تعالى، وقد قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ

ص: 354


1- تفسير العياشي 1: 267.
2- سورة الزمر، الآية: 53.

بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(1) وقد مرت الآية أنفاً بتفسيرها، وقد دلت الروايات على أنّ من كانت عقيدته صحيحة ومات عليها فإنه لايخلّد في نار جهنم، فهذا استثناء من الخلود في هذه الآية، كاستثناء التائب المقبولة توبته.

2- {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} وغضبه عذابه؛ لأنه سبحانه ليس محلاً للحوادث وهو منزه عن الكيفيات النفسانية.

3- {وَلَعَنَهُۥ} أي طرده من رحمته، فالغضب إنزال العذاب، واللعن منع الرحمة.

4- {وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا} غير جهنم والغضب عليه، فجهنم عذاب، وغضبه عذابه، ويضاف إليهما عذاب آخر أيضاً.

ويحتمل أن يكون قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ} بياناً للعقوبة الدنيوية وذلك بتشريع القصاص عليه من غير تخفيف من اللّه تعالى عليه، وقوله: {وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا} للعقوبة الأخروية، واللّه العالم.

ولا يخفى أنّ القتل العمد من أكبر الكبائر، لكن إن تاب القاتل توبة نصوحاً فعسى اللّه أن يغفر له؛ لأنه سبحانه يغفر الذنوب جميعاً بالتوبة، وأما عدم ذكر التوبة في هذه الآية فلعلّه لأجل أن لا يستخف الناس بقتل العمد على أمل التوبة بعد ذلك، وأما ما روي من أنّ القاتل المتعمد لا توبة له، فالمراد أنه لا يوفق لها، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لا يوفق قاتل المؤمن متعمداً للتوبة»(2) أو إذا قتله لإيمانه كما عنه (عليه السلام) أنه قال: «إن كان

ص: 355


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- تفسير العياشي 1: 267.

قتله لإيمانه فلا توبة له»(1).الثامن: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ...} الآية.

تدل الآية على لزوم الاحتياط في أمر الدماء، وقبول إسلام كلّ من أظهره حتى لو ارتبتم في إسلامه، فلا بد من التبيّن بأنه خدعة ومجرد لقلقة لسان أم أنه دخول في الإسلام ولو نفاقاً، فإنّ المنافق محكوم بالإسلام ظاهراً، فيكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.

والحاصل أنّ التبيّن واجب، فلا يكفي مجرد وجوده في دار الحرب، فلعلّه مسلم متخفٍّ بينهم، وخاصة مع إظهاره الإسلام أمام المجاهدين، فليس على المسلم إلاّ العمل بالظاهر مع أخذ الحيطة لئلا يكون خدعة، وأما القلوب فأمرها إلى اللّه تعالى.

وفي تفسير القمي: «إنها نزلت لمّا رجع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من غزوة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، وكان رجل من اليهود يقال له: مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلمّا أحسّ بخيل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جمع أهله وماله وصار في ناحية الجبل، فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فمرّ به أسامة بن زيد فطعنه فقتله، فلمّا رجع إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخبره بذلك، فقال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : قتلت رجلاً شهد أن لا إله إلاّ اللّه وأني رسول اللّه؟ فقال: يا رسول اللّه، إنّها قالها تعوّذاً من القتل! فقال رسول

ص: 356


1- تفسير العياشي 1: 267؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 202.

اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فلا كشفت الغطاء عن قلبه، ولا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان في نفسه علمت! فحلف أسامة بعد ذلك أن لا يقتل أحداً شهد أن لا إله إلاّاللّه وأنّ محمداً رسول اللّه، فتخلّف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حروبه»(1).

أقول: ولم يكن معذوراً في تخلّفه عنه (عليه السلام) لمخالفته لصريح قوله تعالى: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَىٰهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَٰتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ}(2)، ويبطل القَسم إذا خالف القرآن الكريم.

وقوله: {ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الضرب في الأرض كناية عن السفر؛ لأنّ المسافر يضرب الأرض برجله، وسبيل اللّه هنا يراد به الجهاد، وهذا الحكم وإن كان عاماً سواء في سفر أم لا، في جهاد أم غيره، لكن الابتلاء به في السرايا الجهادية أكثر.

وقوله: {فَتَبَيَّنُواْ} أي اطلبوا بيان حقيقة الأمر، والمقصود ترك الاستعجال في الحكم بالكفر، ولزوم التمييز بين المؤمن والكافر.

وقوله: {أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَٰمَ} أي أظهر الإسلام سواء بنطق الشهادتين أو بالتحية الإسلامية، أي قوله: سلام عليكم مما يكشف عنه إسلامه.

وقوله: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ...} حال، أي لا تقولوا: لست مؤمناً حال كونكم تريدون غنيمة ماله، وذلك يصير سبباً لتسرّعكم في الحكم بكفره، وقيل: هذا استفهام إنكاري، أي هل تريدون بالتسرع في القتل عرض الحياة الدنيا، والغرض من الاستفهام الإنكاري هو النهي عن تكرار ذلك.

ص: 357


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 204 عن تفسير القمي.
2- سورة الحجرات، الآية: 9.

و(العرض) هو ما لا ثبات له، وكل شيء يقلّ لبثه، وهكذا غنائم الدنيا.

وقوله: {فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} وعد للملتزمين بحكم اللّه تعالى بأنهسيقدّر لهم مغانم كثيرة سواء في الدنيا أم في ثواب الآخرة.

وقوله: {كَذَٰلِكَ} أي كهذا الذي رفضتم إسلامه، كنتم أنتم كفاراً ثم أظهرتم الإسلام ولم يعلم أحد عن قلوبكم، لكن مع ذلك منّ اللّه عليكم بقبول إسلامكم.

وقيل: كذلك أي كطلبكم عرض الحياة الدنيا في قتل هذا الرجل كنتم من قبل تطلبون عرض الحياة الدنيا! لكنه بعيد عن ظاهر الآية وسياقها.

وقوله: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} المنِة والمنّ كما مرّ هو الإنعام بالنعمة العظيمة، وقد يكون بالتذكير بالنعمة على وجه الاستطالة، فاللّه منّ عليكم بقبول إسلامكم ولم يأمر النبي والمؤمنين بالبحث عن نواياكم.

وقوله: {فَتَبَيَّنُواْ} تأكيد لما ذكره في صدر الآية، وذلك لأهمية حقن دماء المسلمين وعدم إراقتها من غير وجه حق، ولعل سبب التكرار هو أنّ الحكم لا يعني عدم الاحتياط والإهمال، بل عليهم أخذ الحيطة والحذر.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي أنّ المسلمين مكلّفون بالعمل بالظاهر وليس من شأنهم شق القلوب، وأما القلوب فهي ترتبط باللّه تعالى فيجازي عليها، وكذلك هو ناظر إلى أعمالكم ويعلم بواطنها - أي نياتكم منها - فاحذروه.

ص: 358

الآية 95-96

اشارة

{لَّا يَسْتَوِي الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ عَلَى الْقَٰعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا 95 دَرَجَٰتٖ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا 96}

ثم بعد بيان أنواع القتال والقتل وبيان أحكامها، يحثّ اللّه تعالى المؤمنين على الجهاد والهجرة إعلاءً لكلمته، فقال في الجهاد:

95- {لَّا يَسْتَوِي} لا يعتدل في المنزلة {الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن الجهاد؛ لأنه واجب كفائي فلم يخرجوا إليه ولم يضرّ ذلك بإيمانهم {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} أصحاب العذر كالأعمى والأعرج والمريض، {وَالْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} فإنّ الواجب الكفائي إذا قام به من بهم الكفاية سقط عن الباقين، ثم بيّن سبب عدم الاستواء بأنه {فَضَّلَ اللَّهُ} بحكمته {الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً} وهذه الدرجة هي درجة الجهاد، فهي منزلة العامل على غير العامل، فالقاعد عامل بالصالحات إلاّ الجهاد، والمجاهد عامل بها كلها مع الجهاد، {وَكُلًّا} من المجاهد والقاعد من غير ضرر {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ} لكونهم مؤمنين عاملين

ص: 359

بالصالحات، {وَ} لكن {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ عَلَى الْقَٰعِدِينَ أَجْرًاعَظِيمًا}.

96- ثم بيّن ذلك الأجر العظيم، وهو أنه تعالى فضّلهم عليهم {دَرَجَٰتٖ مِّنْهُ} من اللّه {وَمَغْفِرَةً} لذنوبهم {وَرَحْمَةً} لهم بالثواب الجزيل {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} لذا يغفر ذنوب المجاهدين ويرحمهم برحمته.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {لَّا يَسْتَوِي الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ...} الآية.

هذا حث للمؤمنين على اختيار الجهاد على القعود عنه حتى لو لم يجب عليهم، بأن كان واجباً كفائياً وعلم بتطوّع أناس فيهم الكفاية، فالكلام في هاتين الآيتين حول المؤمنين حصراً، ولا تشمل العصاة الذين يتخلفون عن الجهاد إذا كان واجباً عينيّاً عليهم، أو لم يكن متطوعون فيهم الكفاية، أو أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شخصاً بعينه للجهاد، فهؤلاء تخلّفهم معصية كبيرة أوعدوا عليها بالنار، قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ}(1)، وقال: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمْ} إلى قوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(2)، وأما المذكورون في هاتين الآيتين فهم مؤمنون ملتزمون، جاءتهم فرصة الجهاد من غير حاجة إلى جميعهم،

ص: 360


1- سورة التوبة، الآية: 120.
2- سورة الفتح، الآية: 16.

فبادر البعض لينالوا السبق كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ}(1)، وقال: {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ...}(2)، واللّه تعالى في هذه الآية يبيّن فضيلة المجاهدين حثاً للجميع على الجهاد.

وقوله: {لَّا يَسْتَوِي} أي لا يعتدل ولا يتساوى، وهذه الطريقة أشدّ حثاً وتحريضاً من مجرد بيان الثواب العظيم، وذلك بإثارة حسّ التنافس بين الناس، ولذا حين التنافس تكون النتائج أفضل، فإنّ الإنسان قد يقنع بالنتيجة الحسنة، لكن لو رأى غيره سبقه تتحرك فيه الدواعي النفسانية لئلا يتأخرّ، قال تعالى: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(3).

وقوله: {الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بيان أنّ قعودهم لم يضر بإيمانهم؛ لسقوط الوجوب عنهم لمّا قام به من به الكفاية، أما القعود مع الوجوب فذلك معصية كبيرة قد تلحقهم بالنفاق قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} إلى قوله: {وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ}(4).

وقوله: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} استثناء من القاعدين، والمعنى أنّ الآية في مقام التفاضل بين القاعد من غير عذر وبين المجاهد، وأما القاعد مع عذر فليست الآية في مقام مقايسته مع المجاهد، وإن كان يستفاد من الأدلة

ص: 361


1- سورة البقرة، الآية: 148.
2- سورة آل عمران، الآية: 133.
3- سورة المطففين، الآية: 26.
4- سورة التوبة، الآية: 45-46.

الأخرى أنه لو كان ينوي الجهاد لو لم يكن له عذر بنية صادقة أعطاه اللّه أجراً على ذلك، وفي الحديث: «نية المؤمن خير من عمله»(1)، قال سبحانه: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}(2)، و{أُوْلِي الضَّرَرِ} في الآية أعم من العوق كالعرج، ومن المرض، ومن عدم امتلاكهم آلة الحرب ونحو ذلك مما يمنعهم عن الجهاد.

كيفية الجهاد الحق

وقوله: {وَالْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قيّد الجهاد بكونه في سبيل اللّه، أما الجهاد في سبيل الطاغوت فالقعود خير منه، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لقي عباد البصري علي بن الحسين صلوات اللّه عليهما في طريق مكة، فقال له: يا علي بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينه، إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(3) فقال له علي بن الحسين‘ أتم الآية، فقال: {التَّٰئِبُونَ الْعَٰبِدُونَ الْحَٰمِدُونَ السَّٰئِحُونَ الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ الْأمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(4) فقال علي بن الحسين‘: «إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم

ص: 362


1- الكافي 2: 84.
2- سورة التوبة، الآية: 91.
3- سورة التوبة، الآية: 111.
4- سورة التوبة، الآية: 112.

أفضل من الحج»(1).

الثاني: قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ...} الآية.

بيان لعلة عدم الاستواء، بأنّ اللّه تعالى هو الذي فضّل المجاهد بتوفيقه للجهاد، وليس ذلك التفضيل عبثاً، بل لحسن اختيار هذا الإنسان لذلك وفقه اللّه لمزيد من الفضل.

ولم يذكر هنا في سبيل اللّه؛ لأنّ التفضيل من اللّه إنما يكون لمن كان مجاهداً في سبيله، فإنه تعالى لا يفضّل إلاّ بالإيمان والعمل الصالح، فلم يكن حاجة إلى ذكر كلمة {سَبِيلِ اللَّهِ}، عكس صدر الآية، حيث كانت في مقام عدم الاستواء فكان لا بد من تقييد الجهاد بكونه في سبيل اللّه، وأما تكرار كلمة أموالهم وأنفسهم فلعلّه لبيان عِلة التفضيل وأنه الجهاد بالمال والنفس، فكأنه قال: المجاهد في سبيل اللّه بماله ونفسه أفضل من القاعد؛ وذلك لأنه جاهد بماله ونفسه!

وقوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} قدّم المال على النفس؛ لأنه الحالة الطبيعية، فعادة المجاهد ينفق للجهاد ثم يذهب هو بنفسه إليه، ولكن في آية أخرى قدّم النفس على المال فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}(2)، وذلك لأنّ المقام لبيان المقايضة وفيها يتقدم ذكر الأفضل والأكثر نفاسةً.

وقوله: {دَرَجَةً} أي منزلة، والظاهر أنّ المعنى أنّ اللّه وفقهم للجهاد دون

ص: 363


1- الكافي 5: 22.
2- سورة التوبة، الآية: 111.

القاعدين، فالمجاهدون والقاعدون مؤمنون مشتركون في جميع الفضائل من الصلاة والصيام والحج وسائر الطاعات، إلاّ أنّ المجاهدين فضّلهم اللّه بزيادة درجة الجهاد، فالمراد بالدرجة هنا الجهاد وليس الثواب، فإنه سيذكر بعد هذا.

والحاصل أنّ اللّه وفقهم لدرجة الجهاد، وذلك يستتبع الأجر العظيم والدرجات الأخروية، ومن ذلك يتضح أنه لا تكرار في قوله: {دَرَجَةً} وقوله: {دَرَجَٰتٖ}، كما لا تناقض، كما نقول: فلان نال درجة العلم وبها سبق غيره بدرجات من المناصب والمزايا.

وبهذا يتضح أنه لا تكرار بين قوله: {لَّا يَسْتَوِي...} وقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ...} بل في البداية يبين اللّه تعالى عدم التساوي، ثم يفصّل بأنّ اللّه فضّل المجاهدين بدرجة الجهاد أولاً، وبالأجر العظيم الذي هو الدرجات الأخروية والمغفرة والرحمة ثانياً.

وقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ} قيل: هو لدفع تخيّل أنه لا ثواب للقاعد، فيقال: إنّ القاعد قد سقط وجوب الجهاد عنه بقيام من به الكفاية، فلم يكن عاصياً بتركه، وقد كان مؤمناً عاملاً بالأوامر تاركاً للنواهي، فلذلك هو أيضاً موعود بالثواب.

فأفضلية بعض الناس على بعض ليست بمعنى عدم الثواب للمفضول إذا آمن وعمل صالحاً واهتدى.

وقوله: {وَكُلًّا} قيل: أي كلاً من المجاهد والقاعد لا عن ضرر والقاعد عن ضرر! وهذا المعنى وإن كان صحيحاً في نفسه إلاّ أنه خلاف ظاهر

ص: 364

الآية، حيث إنها في مقام المقايسة بين القاعد من غير ضرر والمجاهد، وليس القاعد من ضرر داخلاً في المقايسة.

وقوله: {الْحُسْنَىٰ} صفة لموصوف محذوف، أي الخصلة الحسنى ونحوها؛ لأنّ كلاً منهم صحت عقيدته وخلصت نيته وقُبل عمله.

الثالث: قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ عَلَى الْقَٰعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَٰتٖ مِّنْهُ...} الآية.

بعد بيان تفضيل المجاهد على القاعد بالتوفيق للجهاد يأتي ذكر تفضيل المجاهد على القاعد في الثواب، فإن كان الفرق بينهما في درجة واحدة هي درجة الجهاد، لكن الفرق بينهما في الثواب كبير جداً بدرجات أخروية لا يعلم مقدارها إلاّ اللّه تعالى، وكذا مغفرة خاصة زيادة على مغفرة عامة المؤمنين، وكذا رحمة خاصة زيادة على رحمتهم.

وقوله: {الْمُجَٰهِدِينَ} من غير ذكر قيد سبيل اللّه ومن غير ذكر المتعلّق وهو المال والنفس؛ لأجل أنّ الألف واللام للعهد.

وقوله: {أَجْرًا عَظِيمًا} أي الأجر الأخروي، وفي هذا حث كبير للمؤمنين على الجهاد بأنكم قد لا ترون إلاّ فرقاً واحداً بدرجة واحدة، لكن نتيجة الفرق بدرجة في الدنيا هو الأجر العظيم الذي هو درجات في الآخرة مضافاً إلى الرحمة والمغفرة، وبعبارة أخرى: وإن كان كلاهما موعوداً بالحسنى لكن لا مقايسة بين الحُسنيين.

ثم بيّن اللّه تعالى ذلك الأجر العظيم وأنه ثلاثة أمور.

قوله: {دَرَجَٰتٖ مِّنْهُ} أي من اللّه تعالى، وهذا سبب عظمة الأجر، فإنّ

ص: 365

الثواب المنسوب إلى اللّه تعالى عظيم؛ لأنه القادر الكريم، فلا يمكننا تصوّر حدود هذه الدرجات، مضافاً إلى دوامها إلى الأبد.

ثم إنه في هذه الآية قال: {دَرَجَٰتٖ مِّنْهُ} وفي الآية السابقة {دَرَجَةً} من دون (منه)، ولعل السبب أنّ ثواب الآخرة تفضّل بحت من اللّه تعالى، وأما نيل درجة الجهاد وإن كان بتوفيق من اللّه تعالى إلاّ أنّ لاختيار الإنسان دخلاً في ذلك؛ لأنه سبحانه شاء أن يخلق الإنسان مختاراً.

وقوله: {وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} قيل: قدّم المغفرة على الرحمة؛ لأنّ الرحمات الخاصة لا تكون إلاّ بعد زوال الموانع.

فليس من الحكمة إنزال الرحمة مع وجود المانع لها، والذنب مانع، فأولاً يزيل اللّه سبحانه المانع عبر المغفرة ثم ينزل الرحمة، كما لو كانت لك ضيافة محترمة فجاء ضيف وقد اتسخ بالطين فتدخله الحمام وتغسل ملابسه ثم تدخله إلى دار الضيافة مع سائر الضيوف.

ص: 366

الآيات 97-100

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا 97 إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا 98 فَأُوْلَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا 99 وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا 100}

بعد ذكر الجهاد يأتي ذكر الهجرة وبيان أنه كما هناك قاعدون عن الجهاد كذلك هناك قاعدون عن الهجرة فقال تعالى:

97- {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ} تقبض أرواحهم {الْمَلَٰئِكَةُ} ملك الموت وأعوانه، حال كونهم {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} بخسوها حقها في الإيمان والعمل الصالح {قَالُواْ} الملائكة لهم توبيخاً: {فِيمَ} في ماذا {كُنتُمْ} من أمر دينكم؟! {قَالُواْ} قال هؤلاء المقبوضة أرواحهم: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} عاجزين عن إقامة الدين وشعائره لاستضعاف الكفار لنا، {قَالُواْ} الملائكة تكذيباً لهم وتوبيخاً: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً} لا تنحصر بمكان سيطرة الكفار {فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} في الأرض من دار الكفر إلى دار

ص: 367

الإسلام، فكنتم تتمكنون من الخروج عن الاستضعاف لكنكم خلدتم إلى الأرض وتكاسلتم فلا عذر لكم، {فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ} مرجعهم إليهابسبب كفرهم أو نفاقهم أو تركهم شعائر الدين {وَسَاءَتْ} جهنم {مَصِيرًا} لعذابها وأهوالها!

98- لكن هناك مستضعفون عاجزون حقيقة فاستثناهم اللّه تعالى {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} الاستثناء منقطع {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ} وهذا التفصيل لبيان العجزة وأنها تشمل الرجال الضعاف أيضاً، وهؤلاء هم الذين {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} مخرجاً لإقامة الدين وشعائره بالتقية مثلاً {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} إلى الهجرة فلا يعرفون كيفيتها ولا يقدرون عليها، وفي الحديث بيان بعض المصاديق بقوله: «لا يهتدي حيلة إلى الكفر فيكفر ولا يهتدي سبيلاً إلى الإيمان»(1).

99- {فَأُوْلَٰئِكَ} هم المستضعفون الحقيقيون و{عَسَى اللَّهُ} يُرجى {أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} بأن يمحو أثر كفرهم أو أعمالهم فيرحمهم بالثواب تفضلاً منه، {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا} كثير العفو {غَفُورًا} يستر الذنوب وآثارها.

100- ما مضى كان حال القاعد عن الهجرة {وَ} أمّا {مَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأجل دينه تعالى ف {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ} التي هاجر إليها {مُرَٰغَمًا كَثِيرًا} تحولاً ومفارقة عن الكفار ترغم أنوفهم بإقامة الدين {وَسَعَةً} في رزقه.

ثم يبين اللّه تعالى ثواب المهاجر في سبيله فيقول: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ} بكل ما يتضمنه من عواطف ومصالح، حال كونه {مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ

ص: 368


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 206.

وَرَسُولِهِ} أي بقصد إقامة أحكام اللّه ونصرة رسوله، كناية عن الذهاب إلىدار الإسلام {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} سواء مات في الطريق أو بعد الوصول إلى دار الهجرة {فَقَدْ وَقَعَ} ثبت {أَجْرُهُۥ عَلَى اللَّهِ} أي جزاؤه على اللّه، وهذا وعد مع تعظيمه وتفخيم الموعود له، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لذنوبه {رَّحِيمًا} له بإعطائه الثواب الجزيل.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو أنه بعد تصنيف الناس إلى مجاهد وقاعد عن الجهاد وحكم كلا الصنفين، يأتي الكلام إلى تصنيفهم إلى مهاجر وقاعد عن الهجرة، وإنما ذكر الجهاد والهجرة مقترنين؛ لأنّ إقامة الدين تكون بهما عادة، إذ يهاجر المؤمن من دار الشرك إلى دار الإيمان ثم يجاهد في سبيل اللّه لإعلاء كلمته.

فتذكر هذه الآيات ثلاثة أصناف من الناس:

1- القاعدون عن الهجرة مع استطاعتهم عليها مع عدم تمكنهم من إقامة الدين، فهؤلاء لا عذر لهم في كفرهم أو تركهم شعائر الدين، ومأواهم جهنم.

2- القاعدون مع عجزهم عن الهجرة وعدم تمكنهم من إقامة الدين، فهؤلاء معذورون وعسى اللّه أن يعفو عنهم.

3- المهاجرون في سبيل اللّه وهؤلاء أجرهم على اللّه تعالى.

ويبقى هنا صنفان آخران يستفاد حكمهما من الآية بالملازمة:

أولهما: القاعد عن الهجرة مع تمكنه من إقامة الدين في بلاد الكفر، فهذا لا بأس بعدم هجرته، فإنّ الهجرة طريقيّة إلى إقامة الدين، وهذا قد تمكن

ص: 369

منه من دونها.

وثانيهما: المهاجر بطمع مال أو منصب أو نحو ذلك مما لم يكن في سبيل اللّه، فهذا لا أجر له في هجرته.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ...} الآية.

غير خفي أنّ الأمور كلها ومنها الوفاة بيد اللّه تعالى، ولكنه جعل ملائكة يدبرون الأمر بإذنه، فأوكل قبض الأرواح إلى ملك الموت وجعل له أعواناً من الملائكة وهم رسل اللّه تعالى إلى الناس في قبض أرواحهم، وهذا من حكمته أن جعل الأمور - طبيعية كانت أم غيبيّة - بالأسباب والمسببات، لكن مرجع الأمر كله إليه تعالى، ولذا قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ}(1) وقال: {قُلْ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}(2)، وقال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}(3).

وقوله: {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي حال كونهم ظالمين لأنفسهم؛ لأنهم منعوها حقها من الإيمان والعمل الصالح بسوء اختيارهم، مع قدرتهم على ذلك بالهجرة.

وقوله: {فِيمَ كُنتُمْ} سؤال توبيخي مقدمة للعذاب، أو هو جزء من العذاب، ولكي تنقطع حجتهم ويعلموا استحقاقهم للعذاب، وكذا لتحذير الأحياء لمّا تنقل لهم وقائع الأموات، والمعنى: في أيّ شيء كنتم من أمر دينكم؟! أي لماذا كنتم هكذا كفرة أو تاركي الفرائض؟

وقوله: {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} تجاوزوا الجواب عن السؤال

ص: 370


1- سورة الزمر، الآية: 42.
2- سورة السجدة، الآية: 11.
3- سورة الأنعام، الآية: 61.

إلى بيان سبب عملهم، إذ الجواب هو: كنا كفاراً أو تاركينللفرائض، لكن لما استقبحوا الإقرار بذلك أجابوا عبر ذكر سبب سوء صنيعهم، لعلّه يكون عذراً لهم، وذلك بإلقاء الذنب على عاتق الكفار الذين كانوا يستضعفونهم ويمنعونهم عن الإيمان وفرائض الدين.

والحاصل الاعتذار بضعفهم وقوة الكفار، ولعلّ إضافتهم {فِي الْأَرْضِ} مع كفاية قولهم: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ}! لأجل الاسترحام بأنا كنا في الدنيا ضعفاء فارحمونا في الآخرة فلا قوة لنا بكم!

قوله: {قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً} تبكيت لهم ودحض لحجتهم بأنكم كنتم تتمكنون من الخروج عن استضعاف الكفار لكم بأن تهاجروا إلى أراضٍ أخرى تقيمون فيها الدين وشعائره حتى لو كانت بلاد كفر، كما هاجر بعضكم إلى الحبشة، أو إلى دار الإسلام، كما هاجر بعضكم إلى المدينة المنوّرة.

والحاصل أنّ أرض اللّه لا تنحصر في مسقط رأسكم حيث يستضعفكم الكفار، بل هي واسعة كنتم تتمكون من الهجرة إليها، فالاستضعاف كان بسوء اختياركم، فلا عذر لكم في عدم إقامة الدين وشعائره.

في قوله: {أَرْضُ اللَّهِ} إشعار بأنّ اللّه خلق الأرض للأنام ليقيموا فيها الدين، فكلّما ضاقت بهم أرض عن ذلك تحولوا إلى غيرها، كما يهاجر الناس لمّا تجدب أرضهم إلى الماء والكلأ، ومن بقي إلى أن مات جوعاً لا يعذرونه.

الثالث: قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ...} الآية.

ص: 371

بيان لصنف آخر من القاعدين، وهم العاجزون عن الهجرة مع عدمتمكنهم من إقامة الدين في بلدهم، فهؤلاء معذورون لقصورهم فلذا عسى اللّه أن يعفو عنهم.

قوله {إِلَّا...} الاستثناء منقطع؛ لأنّ هؤلاء ليسوا داخلين في الظالمين لأنفسهم، وذلك لقصورهم، فمعنى الآية الظالمون لأنفسهم ممن يزعمون أنهم مستضعفون مأواهم النار وأما المستضعفون الحقيقيون فمعذورون.

وقوله: {مِنَ الرِّجَالِ...} هذا التفصيل لدفع توهم أنّ الاستضعاف خاص بالنساء والأولاد، فيقال: إنه يمكن أن يكون الرجال مستضعفين أيضاً، فالمناط العجز، وهو وإن كان الغالب في النساء والولدان لكن يمكن عجز الرجال أيضاً.

وقوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ...} تعريف للمستضعفين الحقيقيين فهؤلاء لا يتمكنون من إقامة الدين في بلدهم ولا يتمكنون من الهجرة إلى بلد آخر لهم فيه الحرية.

وقوله: {حِيلَةً} أي المخرج والعلاج، وأصل هذه الكلمة وإن كانت أعم من المخرج والعلاج بحق أو باطل إلاّ أنه غلب استعمالها في العرف بالعلاج بالباطل، والمراد هنا الطريقة والعلاج لإقامة الدين، بأن يؤمن ويعمل بالشريعة بالتقية أو بالاتصال بقوة من عشيرة أو مال أو حِلف أو نحو ذلك.

وقوله: {سَبِيلًا} أي لا يهتدون إلى سبيل الهجرة لضعفهم، ولذلك مصاديق سيأتي ذكرها بعد قليل.

الرابع: قوله تعالى: {فَأُوْلَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ...} الآية.

ص: 372

أي يرجى أن يعفو اللّه عن كفرهم أو عن تركهم الفرائض والشريعة.سؤال: الجاهل القاصر يقبح عذابه فكيف الآية تقول: {عَسَى...}؟

والجواب: دلت الروايات على أنّ الجاهل القاصر إن كان كافراً فإن اللّه تعالى يمتحنه في الآخرة بنار يخلقها ويأمره بدخولها فإن أطاع فهو من الناجين، وإن عصى فهو من أهل النار، وعليه فليس هناك ضمان للمستضعف، بل يرجى أن ينجح في امتحان الآخرة فيعفو اللّه عنه.

وفي التبيين: إنّ قصورهم مشوب بالتقصير(1).

وفي التقريب: ودخول (عسى) في مثل هذه الآية للدلالة على كون الأمر بيد اللّه سبحانه، وأنه كان قادراً أن يأمرهم بما يحرجهم من وجوب خروجهم وإظهار دينهم، وإن بلغ بهم الأمر ما بلغ(2).

وقيل: إنّ للكفر وترك الشريعة آثاراً وضعية حتى لو لم تكن عقوبة، وهي منع الإنسان عن نيل الثواب والرحمة في الآخرة، فعفوه تعالى هنا بمعنى محو الأثر الوضعي لعملهم، وبذلك يرتفع المانع عن ثوابهم في الآخرة، وهذا العفو ليس بواجب على اللّه تعالى، بل هو فضل منه لذلك يرجى منه هذا الفضل!

وقوله: {عَفُوًّا غَفُورًا} العفو هو محو أثر الذنب حتى لو لم يستر عليه، والغفران هو ستر الذنب، فالجمع بينهما بمعنى إزالة آثار الذنوب مع الستر عليهم.

ص: 373


1- تبيين القرآن: 105.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 530.

كلام حول المستضعف

المستضعف لغة هو كل من اعتبره الآخرون ضعيفاً فأكرهوه على ما لا يريد، والاستضعاف قد يكون بمعنى الظلم والجور عليهم ومنعهم حقوقهم الدنيوية كما في قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ}(1)، وهذا القسم غير مراد في ما نحن فيه، وقد يكون الاستضعاف دينياً بالمنع عن الإيمان وعن إقامة شعائر الدين، وهذا هو المقصود في هذه الآيات، وهناك روايات كثيرة في تفسير أو تأويل أو بيان مصاديق هذه الآيات، مع بيان أنواع المستضعفين وأحكام كل صنف ومصيرهم في الآخرة، نذكرها باختصار(2).

1- أما تعريف المستضعف: فهو العاجر عن الإيمان أو شعائره مع عدم تمكنه من رفع عجزه، وقد بينت الروايات مصاديق له، وقد تكون متداخلة:

منها: الذي لا يهتدي حيلة إلى الكفر ولا يهتدي سبيلاً إلى الإيمان.

ومنها: الصبيان وأشباه عقول الصبيان من الرجال والنساء.

ومنها: البلهاء في خدرها، والخادمة لا تدري إلاّ ما قلت لها، والكبير الفاني.

ومنها: من لم يكن من أهل القبلة ناصباً فهو مستضعف.

ومنها: من لا يُحسن سورة من سور القرآن وقد خلقه اللّه خلقة ما ينبغي له أن يحسن، أي عدم معرفته للسورة إنما هو لقلة عقله وضعف استيعابه خلقة.

ومنها: قوم يلتزمون بالواجبات وترك المحرمات، ولا يرون أنّ الحق في

ص: 374


1- سورة القصص، الآية: 4.
2- راجع تفصيل الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 205-210.

غير أهل البيت، وهم آخذون بأغصان شجرة الولاية وإن لم يعرفوا ذلك،بمعنى محبتهم لأهل البيت (عليهم السلام) وإن لم يعرفوا إمامتهم.

والجامع لكل ذلك من كان قاصراً لقلة عقله أو لعدم وصول الحق إليه مع عدم تمكنه من الوصول إليه، لكن مع التزامه بما يعرفه من الواجبات والمحرمات.

2- من ليس بمستضعف، فهو الذي يعرف الحق ولكنه ينكره، أو عرف اختلاف الناس، لكنه لم يحقق فيه واكتفى باتباع آبائه في دينه، فمن عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف(1)، وكذلك الناصب ليس بمستضعف(2)؛ لأنّ العادة كونه عن عناد مع وصول أدلة فضيلة أهل البيت (عليهم السلام) إلى الجميع.

3- حكم المستضعف المسلم، هو حكم سائر المسلمين في المناكحة والموارثة والمخالطة، وأما المستضعف الكافر فحكمه حكم الكفار في هذه الأمور.

4- وأما مصير المستضعف في الآخرة: فإن نجح في الامتحان كان من أهل النجاة وهو منعّم، لكن منزلته دون منزلة المؤمنين، والروايات صنفان: فبعضها دلت على عدم دخول الجنة إلاّ من مات مؤمناً(3)، وبعضها دلت على دخول المستضعف الجنة بفضل اللّه تعالى(4)، والجمع بينها ما قيل: من أنّ مؤمني الجن والمستضعفين الناجين يخلدون في الأعراف ونعيمها فوق

ص: 375


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 210.
2- راجع معاني الأخبار: 200.
3- الكافي 2: 298.
4- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 208.

نعيم الدنيا ودون نعيم الجنة، وحيث إنهم في الأعراف منعمون عبّر عنهابالجنة، واللّه العالم.

5- تأويل الظالمين لأنفسهم المدعين للاستضعاف بالذين لم ينصروا الإمام علياً (عليه السلام) واعتزلوه ولم يقاتلوا معه معتذرين بأنهم لا يعلمون مع من الحق، مع أنّ دين اللّه وكتابه واسع وقد بيّن فضل أمير المؤمنين ووجوب نصرته(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ...} الآية.

فوائد الهجرة

حث على الهجرة ببيان فوائدها وآثارها، وهنا تذكر ثلاثة أمور:

1- فلئن استضعفكم الكفار في وطنكم فلم تتمكنوا من الإيمان أو شعائره! ففي الهجرة ترغمون آنافهم بإقامة الدين وفرائضه.

2- ولئن كانت بيوتكم تؤويكم ولكم مكاسب في أوطانكم! ففي الهجرة سعة من الرزق.

3- ولئن كنتم تخافون الموت في الهجرة! فالأجر على اللّه تعالى مع الغفران والرحمة، ولا ثواب أجلّ من ذلك.

وقوله: {مُرَٰغَمًا} بمعنى المتحوّل والمنقلب، وأصله من الرّغام بمعنى التراب، فكأنه متحولٌ يُرغم أنوف الكفار، أي يلصقها بالتراب كناية عن الإذلال، فكما أذله الكفار باستضعافه كذلك هو يذلّهم بإقامة الدين بهجرته.

وقوله: {وَسَعَةً} أي في الرزق، وهكذا كان حال المهاجرين فأكثرهم كانوا فقراء، ثم فتح اللّه لهم أبواب رزقه بالغنائم والمتاجر ونحوها.

وقوله: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} بدلاً عن أن يقول «ومن يهاجر»،

ص: 376


1- راجع نص الرواية في تفسير القمي 1: 149.

لعلّه لأجل ذكر كلمة «البيت»، للإشارة إلى صعوبة الهجرة حيث بيت الإنسان بكل ما يعنيه من عواطف وذكريات وصداقات وقرابات ومصالح ومكاسب، فيكون ذلك حثاً وتمهيداً لذكر عظيم الثواب، أو لعلّه لأجل أن تشمل الآية من قصد الهجرة فمات في الطريق.

وقوله: {إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} كأنه قايض بيته باللّه وبالرسول، فتخلّى عنه لأجلهما، فهو كناية عن الهجرة إلى دار الإسلام حيث يمكن العمل بأوامر اللّه ونواهيه، ونصرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} الآية عامة أي سواء كان إدراك الموت له وهو في الطريق أو بعد وصوله إلى دار الهجرة، وأما ما روي من شأن نزولها فيمن أراد الهجرة من مكة فمات في بداية مكة في التنعيم، فعلى فرض صحته فهو شأن النزول، ولا تقيّد الآيات بشأن نزوله إذا كانت ألفاظها عامة.

وقوله: {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ} الوقوع هنا كناية عن الثبوت، فكأنه صار حقاً على اللّه تعالى، ولكن بسبب وعده هذا الثواب، وإلاّ فقد مرّ أنّ الثواب كله فضل، ولا حق لأحد على اللّه تعالى شيئاً، إلاّ بما وعده اللّه تعالى وجعله حقاً على نفسه.

ص: 377

الآيات 101-104

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَوٰةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا 101 وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوٰةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَٰحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا 102 فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوٰةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ إِنَّ الصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَٰبًا مَّوْقُوتًا 103 وَلَا تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 104}

لما ذكر اللّه تعالى الجهاد والهجرة بيّن كيفية الصلاة فيهما، فإنّ الجهاد والهجرة إنما هما لإقامة الدين والصلاة عموده فلا تترك بحال، فقال:

101- {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} سافرتم {فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} إثم وحرج {أَن تَقْصُرُواْ} تقلّلوا {مِنَ الصَّلَوٰةِ} بإسقاط ركعتين من الصلوات

ص: 378

الرباعية {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ} يعذّبكم بالهجوم والمباغتة {الَّذِينَ كَفَرُواْ} فلذا أراد اللّه أن يقلّ أمد الصلاة حتى يقلّ احتمال المباغتة، وهذا الشرط غالبي، إذ القصر شُرِّع في كل سفر - بشروطه - حتى لو لم يكن خوف، {إِنَّ الْكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} فلذا لا يراعون حرمة صلاتكم فإذا انشغلتم انتهزوا الفرصة.

102- {وَإِذَا كُنتَ} يا رسول اللّه {فِيهِمْ} في المجاهدين {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوٰةَ} جماعةً، وأراد كل المجاهدين نيل ثواب الجماعة فعليهم أن ينقسموا قسمين: بعضهم يصلّي معك وبعضهم يحرسكم ويجاهد العدو {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} في صلاة الجماعة {وَلْيَأْخُذُواْ} هؤلاء المصلّون في حال الصلاة {أَسْلِحَتَهُمْ} بما لا تشغلهم عن الصلاة {فَإِذَا سَجَدُواْ} أكملوا سجودهم معك جماعة {فَ} ليكملوا الركعة الثانية فرادى ثم {لْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ} أي ليذهبوا بعد الفراغ من الصلاة إلى الحراسة والجهاد، والرسول لا زال قائماً في ركعته الثانية منتظراً {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ} لأنهم كانوا في الحراسة والجهاد {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} بأن يلتحقوا بالرسول في ركعته الثانية فيركعون ويسجدون معه ويقومون للركعة الثانية والرسول منتظر لهم في تشهده فلما يكملون ركعتهم الثانية فيسلّمون مع الرسول {وَلْيَأْخُذُواْ} في حالة الصلاة {حِذْرَهُمْ} تيقّظهم {وَأَسْلِحَتَهُمْ} كالطائفة الأولى، وإنما شرع اللّه صلاة الخوف بهذه الكيفية إذ {وَدَّ} تمنّى {الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} لتوجهكم إلى الصلاة {فَيَمِيلُونَ} يهجمون {عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَٰحِدَةً}

ص: 379

يطحنونكم طحناً، ثم بيّن اللّه تعالى أنّ حمل السلاح في حالة الصلاة ليس بواجب وإنما لأجل التحرز والاحتياط {وَلَا جُنَاحَ} لا إثم ولا حرج {عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى} مشقة وصعوبة {مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ} صار سبباً لصعوبة الجمع بين الصلاة وحمل السلاح، {أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ} فلا تحملوها {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} إذ لا مشقة فيه، {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًامُّهِينًا} فيه مهانة لهم وذلّ، وهذا تسكين للمؤمنين بأن الصعوبة التي أوجدها الكفار لهم في صلاتهم سيقابلها اللّه بعذاب مهين لهم.

103- {فَإِذَا قَضَيْتُمُ} أدّيتم وأكملتم {الصَّلَوٰةَ} صلاة الخوف {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا} جمع قائم وقاعد {وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ} في حالة الاضطجاع، بمعنى أنّ ذكره ليس خاصاً بوقت الصلاة، بل عليكم ذكره على كل حال، هذا حكم صلاة المسافر وصلاة الخوف، {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} بالاستقرار في الوطن وزوال الخوف {فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} تامة من غير قصر {إِنَّ الصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَٰبًا مَّوْقُوتًا} أي مكتوبة ومفروضة عليهم ولا تترك بحال.

104- {وَ} حيث علمتهم قاسيتم مشقة الجهاد حتى في عبادتكم ف {لَا تَهِنُواْ} من الوهن أي لا تضعفوا {فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} الكافرين، أي طلبهم للقتال، فلا تمنعنّكم مشقة الجهاد عنه، فإنّ القتال على الكفار أشق، {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} من صعوبات القتال {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} من النصر والثواب، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بأعمالكم ونياتكم {حَكِيمًا} في أمره إياكم بالجهاد.

ص: 380

بحوث

الأول: لما ذكر اللّه تعالى الجهاد والهجرة وأحكامهما وحث عليهما، بيّن حكم صلاة المسافر والمجاهد، ولعلّ ذلك لبيان أنّ الجهاد والهجرة إنما هما طريق لعبادة اللّه تعالى وإعلاء لكلمته سبحانه، فمع كل أهمية الجهاد فالصلاة أهم منه، ولذا جعل اللّه تعالى في فصول الأذان «حيّ على خير العمل»، ولكن ألغاها عمر من الأذان زعماً بأنها تثبط الناس عن الجهاد!وهل الجهاد إلاّ لإقامة الصلاة؟! قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ} (1)، وفي الحديث: «إنّ أول ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن قبلت قبل ما سواها»(2) وفي حديث آخر: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة»(3).

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ...} الآية.

بيان لحكم صلاة المسافر بقصر الصلاة في حالة السفر، وقد بينّت السنة كيفيته وشرائطه، فالقصر في الصلوات الرباعية فقط دون صلاة الصبح والمغرب، وذلك تخفيفاً من اللّه على المسافر لانشغاله بالسفر وصعوبته، والسفر الشرعي يتحقق بقطع ثمانية فراسخ - ولو ملفقة من الذهاب والإياب - قاصداً له، وفيه شروط مذكورة في السنّة.

وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي سافرتم أعم من كون قصدكم الجهاد أو التجارة أو أي غرض مباح.

ص: 381


1- سورة الحج، الآية: 41.
2- الكافي 3: 286.
3- بحار الأنوار 79: 202.

وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي لا إثم عليكم من القصر، ولا يخفى أنّ القصر واجب، والتعبير بعدم الجناح لأجل توهم الناس الحظر والمنع، كما مرّ في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(1).

وقوله: {أَن تَقْصُرُواْ} القصر يضاد الطول، والاقتصار على الشيءالاكتفاء به، وأصل الصلاة المفروضة ركعتان، إلاّ أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإذن اللّه أضاف ركعتين على الظهر والعصر والعشاء وركعة على المغرب، فهذه الركعات من سنة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما في الأحاديث(2)، ولذا صلاة القصر ليست ناقصة، وإنما هي الفريضة التامة ولذا عبّر عنها بالقصر.

وقوله: {إِنْ خِفْتُمْ...} قيد غالبي، وليس قيداً احترازياً، فلا مفهوم للشرط، نظير قوله تعالى: {وَرَبَٰئِبُكُمُ الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّٰتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ}(3) فقيد «في حجوركم» غالبي والحكم ليس متوقفاً عليه، فالآية عامة لكل مسافر، وإنما علمنا بكون القيد غالبياً من السنة، فالآية عامة، لا أنها خاصة والتعميم استفيد من السنة.

وقوله: {أَن يَفْتِنَكُمُ} أي يهجم عليكم وينكّل بكم بالقتل والجرح، وأصل الفتنة هو الإلقاء في النار، ثم استعمل في الاختبار وفي أنواع الضرر.

وقوله: {إِنَّ الْكَٰفِرِينَ كَانُواْ...} كالتعليل للتقصير في حالة الخوف، بأن

ص: 382


1- سورة البقرة، الآية: 158.
2- راجع وسائل الشيعة 4: 45.
3- سورة النساء، الآية: 23.

الكفار أعداؤكم فيريدون منكم غرة ليقضوا عليكم، فلذا لا يراعون حرمة لصلاتكم، فلذا خفّف اللّه عنكم بقصر الصلاة تقليلاً من احتمال هجومهم.

الثالث: قوله تعال: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوٰةَ...} الآية.

ندب إلى الجماعة ولو في حالة الحرب، فإنها أجمع للمسلمين وأكثرها إظهاراً لعبوديتهم وأوضحها شعارية، وكيفية صلاة الخوف كما صنعه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبينته الروايات هو أن ينقسم المقاتلون إلى صنفين، صنف يصلّّيوصنف يحرس ويقاتل، والصنف الأول يصلي ركعة واحدة في الجماعة، فلما أن يكملوا سجود الركعة الأولى ينفردون ويكملون الركعة الثانية فرادى، ثم يأخذون مواقعهم في الحراسة والقتال، فيأتي الصنف الثاني ويلتحق بالجماعة والإمام لا زال واقفاً في ركعته الثانية فيركعون معه ويسجدون، ثم يقومون للركعة الثانية والإمام جالس منتظراً لهم فيلتحقون به في السلام فيسلمون معه، وبذلك ينال كل المجاهدين فضيلة صلاة الجماعة.

وقوله: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} الحكم في صلاة الخوف عام سواء كان الرسول معهم أم لا، ولعل تخصيص الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالذكر تشريف له وربط لقلوب المجاهدين بأنّ الرسول لو كان معهم لصلّى بهم صلاة الخوف مع أنه معرّض للخطر أكثر من سائر المصلين؛ لطول صلاته بحيث تأتم به كلتا الطائفتين مع إضافة فترة تبادلهم مواقعهم.

وقوله: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوٰةَ} لبيان أهمية الصلاة وأنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أولى بإقامتها، والمؤمنون يتبعونه في الإقامة، أو لبيان أنّ هذا الحكم خاص بصلاة الجماعة، وأما لو صلّوا فرادى فيصلونها بكيفيتها المعهودة، فإن كانوا

ص: 383

في سفر فقصراً وإن كانوا في وطنهم فتماماً، وأما لو كانت الحرب شديدة ولا مجال للصلاة فيها فصلاتهم بالتكبير والتهليل والتسبيح وهم في حالة القتال، كما صنع أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) في معركة صفين في يوم وليلة الهرير، حيث استمر القتال من الظهر إلى أواخر الليل من غير وقفة(1) كما قال اللّه تعالى: {حَٰفِظُواْ عَلَى الصَّلَوَٰتِ وَالصَّلَوٰةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِقَٰنِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}(2).

وقوله: {وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ} أي نفس الطائفة الأولى التي في البداية تصلّي مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {فَإِذَا سَجَدُواْ} أي سجدتي الركعة الأولى، فيكملون الصلاة فرادى.

وقوله: {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ} «الوراء» قد يكون بمعنى خلف وأمام وبعد، والمقصود هنا المعنى الكنائي، أي يحرسونكم من خلفكم، وضمير {وَرَائِكُمْ} بالجمع يراد به من وراء العسكر لا خصوص الطائفة الثانية فإنهم لم يأتوا بعدُ.

وقوله: {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وفي التقريب: ولعلّ إضافة كلمة {حِذْرَهُمْ} هنا بخلاف الجملة الأولى، أنّ هجوم العدو على هؤلاء أقرب من هجومهم على الطائفة الأولى؛ لأنه بمجرد الانقسام إلى طائفتين

ص: 384


1- راجع تفسير العياشي 1: 273؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 3: 221.
2- سورة البقرة، الآية: 238-239.

وانسحاب طائفة من الحرب لأجل الصلاة لا يدرك العدو الأمر، ولذا لا يأخذ استعداده الكامل للّهجوم بظن كون الجميع في حال القتال، بخلاف الأمر إذا طال الأمد وتبيّن الأمر وأنّ قسماً من المسلمين رفعوا أيديهم عن الحرب لأجل الصلاة(1).

وقوله: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ...} تعليل للانقسام وإقامة الصلاة بهذه الكيفيّة.

قوله: {عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} لعلّ إضافة الأمتعة هنا لبيان شدة رغبةالكفار في الهجوم، فالغفلة عن الأسلحة تُطمعهم في الهجوم عليكم، والغفلة عن الأمتعة تدعوهم إلى قتالكم لاغتنامها.

وقوله: {مَّيْلَةً وَٰحِدَةً} أي هجوماً واحداً يقضي عليكم؛ لأن المقاتلين إذا كانوا غافلين عن سلاحهم أمكن القضاء عليهم بحملة واحدة بعكس ما لو كانوا حذرين ومعهم أسلحتهم، فالقضاء عليهم قد يحتاج إلى تكرار الهجوم والقتال.

وقوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ...} بيان أنّ أخذ الأسلحة في حالة الصلاة ليس بفرض دائماً، بل هو لأجل زيادة الاحتياط، لذا أجيز للذي يتأذى بحمله لأجل المطر، أو المريض الذي يؤذيه ثقله أن يضعه بجنبه.

وقوله: {أَذًى مِّن مَّطَرٍ} الأذى كل ما يكرهه الإنسان في بدنه أو نفسه ما لم يصل إلى حدّ الضرر، والمطر يكون سبباً لبلل الثياب والبدن، وقد يكون حمل السلاح في تلك الحالة في حالة الصلاة مزعجاً وسبباً لإضافة ثقل إلى

ص: 385


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 535.

ثقل.

وقوله: {أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} إذ لا منافاة بين عدم حمل السلاح وبين التحذّر، كأن يضعوا سلاحهم أمامهم مع حدّة في السمع والبصر ليعرفوا تحركات العدو، فإذا اقترب منهم حملوا السلاح فوراً.

الرابع: قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوٰةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ}.

تعليم للمجاهدين بأنّ ذكر اللّه لا ينحصر في الصلاة وأوقاتها، بل عليكم أن تكونوا في ذكره دائماً وفي جميع الحالات، فإنه بذكره تسكن النفوس كماقال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(1)، فتقوى العزيمة في الجهاد، والمنتصر قبل سلاحه سبب نصره عزيمته وقوة قلبه، و{قِيَٰمًا وَقُعُودًا} جمع قائم وقاعد، وقيل: مصدر للمبالغة، ومن مصاديقه القيام في حالة الضرب بالسيف والجثو على الركب في حالة الرمي، والتمدد على الأرض في حالة الجرح.

الخامس: قوله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ...} الآية.

الظاهر أنّ هذا عطف على قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ...} فالغرض بيان حالة عدم السفر، وهو أن يكون الإنسان مستقراً في بلده، فهنا عليه أن يصلي الصلاة المعهودة من غير قصر، ويمكن أن يكون عطفاً على {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ...} بمعنى أنّ صلاة الخوف إنما شرعت في حالة الحذر من العدو، فإذا اطمأن الإنسان فلا موضوع لها.

وقوله: {فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} أي بحدودها وشروطها المتعارفة.

ص: 386


1- سورة الرعد، الآية: 28.

وقوله: {كِتَٰبًا مَّوْقُوتًا} أي مكتوبةً مفروضةً عليكم، وأصل (الموقوت) من (الوقت) أي الصلاة ذات وقت، ولازم ذلك كونها ثابتة فذكر الملزوم وأريد به اللازم، ولعل في ذلك إشعاراً بعلة وجوب صلاة الخوف وصلاة المسافر، فإنها مفروضة لا يجوز تأخيرها لوقت آخر بعذر الخوف أو السفر.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ...} الآية.

في ختام آيات الجهاد حثّ آخر للمؤمنين على الجهاد، فبعد أمرهم بالحذر يأمرهم باقتفاء أثر الكفار، مع إثارة حميّتهم بقياسهم بالكفار، فليس صعوبة الحرب عليكم بأزيد من صعوبتها عليهم، وهم مع ذلك جادّون فيقتالكم، مع أنهم لا يرجون ثواباً من اللّه، فإذا صبروا في قتالكم فأنتم أولى منهم بالصبر.

وفي هذا إتمام للحجة على المؤمنين وإلزامهم على الجهاد والصبر فيه، روي أنّ هذه الآية نزلت في معركة حمراء الأسد - وقد مرّ تفصيلها في سورة آل عمران - حيث رجع المسلمون من غزوة أحد مثخنين بالجراح فأمر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يخرج في أثر القوم وأن لا يخرج معه إلاّ من كانت به جراحة(1)، إرعاباً للمشركين وصرفاً لهم عن عزمهم الرجوع لاستئصال شأفة المسلمين.

ص: 387


1- راجع تفسير القمي 1: 124.

الآيات 105-109

اشارة

{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا 105 وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا 106 وَلَا تُجَٰدِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا 107 يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا 108 هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا 109}

بعد ذكر الكفار والمنافقين وضعاف الإيمان يذكر اللّه تعالى العصاة، كما أنه يذكر العدل، فإنّ الجهاد في الآيات السابقة مقدمة لإقامة العدل، فقال تعالى:

105- {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ} إنزالاً بالحق أو الكتاب مع الحق لا باطل فيه، {لِتَحْكُمَ} تقضي {بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ} بما أعلمك وعرّفك به من الشريعة الحقة العادلة، {وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ} لأجلهم ولصالحهم {خَصِيمًا} على الأبرياء، فإنّ العدل الذي أراك اللّه يقتضي الحكم للمحق لا للخائن.

106- {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} اطلب غفرانه وستره، فإنّ القاضي قد يزل لولا

ص: 388

ستر اللّه تعالى، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}.

107- {وَلَا تُجَٰدِلْ} لا تحتج لهم وتدافع {عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَأَنفُسَهُمْ} يخونونها بالمعصية، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ} أي يُبغض، والمقصود أنّه يعذّب {مَن كَانَ خَوَّانًا} كثير الخيانة {أَثِيمًا} منهمكاً في العصيان، فلذا لا وجه للدفاع عنهم.

والحاصل لا تقض لصالحهم ولا تدافع عنهم.

108- وإنما لا تجادل عنهم لأنهم أهل باطل ف {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} يكتمون معاصيهم عنهم حياءً أو خوفاً {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} بأن يتركوا المعصية، إذ إيمانهم ضعيف فيزعمون أنّ اللّه لا يراهم {وَهُوَ} أي والحال أنّ اللّه تعالى {مَعَهُمْ} محيط بهم علماً وقدرة، {إِذْ} في الوقت الذي {يُبَيِّتُونَ} أي يدبرون ليلاً، بمعنى التخطيط في الخفاء لأفعالهم اللاحقة وهي {مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ} كاتهام البريء والحلف الكاذب وشهادة الزور ونحوها، {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} إحاطة علم وقدرة.

109- لكن من يجادل عنهم لا ينفعهم ف {هَٰأَنتُمْ} الهاء للتنبيه وأنتم مبتدأ {هَٰؤُلَاءِ} خبره، أي أنتم الذين {جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ} دافعتم عن الخائنين {فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} في المحكمة عند القاضي لتغطية جرائمهم كي يظنّهم الناس محقّين، {فَمَن} الاستفهام للإنكار والنفي {يُجَٰدِلُ اللَّهَ} يدافع {عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} حيث تبلى السرائر وينكشف المستور؟ {أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} يتوكل أمرهم لدفع العذاب؟

ص: 389

والحاصل لا مدافع عنهم بالحجة ولا منقذ لهم من العذاب!

بحوث

الأول: سياق الآيات هو أنّ اللّه تعالى لما ذكر الكفار والمنافقين وضعافالإيمان في موضوع الجهاد، يذكر في هذه الآيات العصاة الذين يخالفون أحكام الشريعة بالسرقة والبهتان وشهادة الزور ونحوها، كما أنه لمّا ذكر الجهاد يبيّن أنه إنما شُرّع لإقامة الحق والعدل، فكما أن الرسول والمؤمنين يجاهدون الكفار والمنافقين لإعلاء كلمة اللّه، كذلك يحكمون بالعدل وطبقاً للموازين التي عيّنها اللّه تعالى في شرعه.

وكان شأن نزول هذه الآيات وما بعدها أنّ أبا طعمة سرق طعاماً وسيفاً ودرعاً ثم اتهم بريئاً بتلك السرقة، وجاء قومه يدافعون عنه ويشكون المسروق منه بأنه اتهم صاحبهم، ثم لمّا تبين براءة من اتهموه وصدق المسروق منه وانكشف السارق هرب إلى مكه وارتدّ(1).

فهذه الآيات تعليم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنّ المدار في القضاء إنما هو على الموازين الشرعية التي أنزلها اللّه تعالى في القرآن، فيحكم بالحق ولا يدافع عن الخائن، فإنّ الخائن غير مرضي للّه تعالى فلا وجه للدفاع عنه.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ...} الآية.

بيان أنّ اللّه تعالى أرى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأحكام فيما أنزله عليه من القرآن الكريم، وأنّ على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تطبيق تلك الأحكام على المصاديق في حكمه في النزاعات وغيرها، وذلك يقتضي اتباع الحق، وعدم الحكم

ص: 390


1- لتفصيل القصة راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 225-227.

لصالح الخائنين، وعدم الدفاع عنهم، أما الحكم لصالحهم فقد ذكر في هذه الآية، وأما الدفاع عنهم فذكر في الآية 107.

وقوله: {بِالْحَقِّ} إما بمعنى إنزالاً بالحق، أي كان إنزال الكتاب حقاً،وذلك لما في الإنزال من الحكمة والمصلحة، وكان اختيارك لذلك بحق؛ لأنّ اللّه اصطفاك فكنت أهلاً لذلك، وإما الباء للمصاحبة، أي هذا الكتاب مع الحق، فأحكامه وشرائه لا باطل فيها.

وقوله: {لِتَحْكُمَ...} اللام للتعليل، أي الغرض من إنزاله هو الحكم بين الناس بهذه الأحكام، لا أنها مجرد تبرك أو للتخيير بينها وبين غيرها، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}(1)، وشأن النزول وإن كان في القضاء إلاّ أن الحكم أعم منه فيشمل السياسة وسائر الأمور التي فيها أحكام.

وقوله: {بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ} أي بما علّمك من الأحكام التي في الكتاب، وعليه فقوله: {لِتَحْكُمَ} أي لتطبق الأحكام الكلية التي أراكها اللّه تعالى على القضايا الجزئية التي تحتاج إلى حكمك فيها، فالآيات تبيّن الأحكام الكلية، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يطبقها على مصاديقها الجزئية، مثلاً تدل الآية على إجراء الحدّ على الزاني بشهادة أربعة شهود عدول، فهذا حكم كلي، والقاضي حينما ترد عليه واقعة اتهم فيه أحد بالزنا ينظر إلى الشهود ويحقق عن عدالتهم وبعد اكتمال الشروط يطبق حكم اللّه تعالى بالقضاء بحدّ الزاني.

وقوله: {وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} أي لأجل الخائنين لا تخاصم الأبرياء وتنهرهم وتتكلّم ضدهم، والظاهر أنّ المراد إصدار الحكم لصالح

ص: 391


1- سورة الأنعام، الآية: 57.

الخائنين ضد الأبرياء، فهذه الآية تنهى عن الحكم لصالحهم، كما أنّ الآية 107 تنهى عن الدفاع عنهم، فكما لا يجوز الحكم بالجور كذلك لا يجوز الدفاع عن المبطل ولو لم يكن هناك حكم، وعليه فلا يجوز للمحامي أنيدافع عن متهم يعلم بأنه على باطل، كما لا يجوز للقاضي الحكم لصالحه خلافاً لموازين الشرع، كذلك لا يجوز للناس إعذار الخائنين والدفاع عنهم، وفي الحديث: «من أعذر ظالماً بظلمه سلط اللّه عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له ولم يؤجرهُ اللّه على ظلامته»(1) فإن إبطال الحق يبدأ برؤية الباطل حقاً ثم الدفاع عن الباطل ثم الحكم لصالحه، وفي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) : «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»(2)، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}(3).

في استغفار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

الثالث: قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}.

المقصود أنّ الحكم بالحق في القضاء يحتاج إلى تأييد اللّه تعالى بقمع الدواعي النفسانية والهوى التي تسوق الإنسان إلى الحكم بالباطل، وذلك يتحقق بالالتجاء إليه وذكره سبحانه وتعالى، وهنا استغفار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس عن ذنب فإنه معصوم، وإنما لحاجة الرسول إلى اللّه تعالى، فاللّه سبحانه هو الذي عصمه واصطفاه ويسدّده ويؤيّده، فاستغفاره طلب استمرار التسديد من اللّه تعالى.

وقيل: إنّ الغفران هو الستر، فكما يستر اللّه تعالى الذنوب بمحوها والعفو

ص: 392


1- الكافي 2: 334.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 47.
3- سورة المائدة، الآية: 48.

عنها، كذلك يستر الدواعي النفسانية بضبطها ومنعها عن تجاوز الشرع، فيكون المعنى اطلب من اللّه تعالى الغفران بأن تتحّكم في نفسك لتسير طبق أوامر اللّه ونواهيه.وفي التقريب: كون النهي للرسول لا ينافي مقام العصمة، إذ النواهي تتوجه إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما تتوجه إلى سائر المسلمين، والأوامر تعنيه كما تعني غيره(1).

والحاصل أنّ استغفار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كطلبه الهداية إنما يعني استمراره على ما يريده اللّه تعالى؛ لأنّ الاستمرار أيضاً بيد اللّه تعالى، فكما عصمه في الماضي كذلك يعصمه في المستقبل.

ثم إنّ العصمة ملكة نفسانية تمنع صاحبها من ارتكاب القبيح اختياراً، وذلك يلازم العلم بقبح القبيح إلى حد الإذعان بحيث تشمئز النفس منه، فكما لا يفكر أحدنا في أكل القاذورات فضلاً عن أكلها لانكشاف قبحها واشمئزاز النفس منها، فكذلك جميع القبائح لدى المعصومين.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا تُجَٰدِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ...} الآية.

أي لا تدافع عنهم ولا تُعذرهم في خيانتهم، لا فرق في الخائن بين القويّ والضعيف، والمسلم والكافر، والغني والفقير، والشريف والوضيع وغيرهم، فلا بد للإنسان من الدفاع عن الحق لا الباطل، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه»(2).

ص: 393


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 539.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 37.

وقوله: {يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} أي يخونونها، وذلك لأنّ كل معصية هي ظلم وخيانة للنفس، فالنفس كالوديعة عند الإنسان سلّمها اللّه له ليصرفها في طاعاته، فلو صرفها في معاصيه كانت خيانة، أو لأنّ الضرر يعود للخائنحتى لو كانت الخيانة لغيره، أو لأنّ المجتمع كنفس واحدة فكل إحسان أو إساءة تكون للنفس، كما قال: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}(1).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ...} هذا تعليل للنهي عن المجادلة لهم، فما دام اللّه يُبغضهم - ولا يبغضهم إلاّ لأجل سوء أعمالهم - فلا بد للمؤمن أن يبغضهم، فالمؤمن يحب أولياء اللّه ويبغض أعداءه، وعليه فلا يدافع عن باطل ارتكبوه.

وقوله: {لَا يُحِبُّ} مرّ أنّ اللّه ليس محلاً للحوادث، وليس له كيفيات نفسانية، فحُبّه ثوابه وبغضه عقابه، والإنسان إما سعيد وإما شقي ولا واسطة بينهما، فلذا لا واسطة بين حب اللّه وبغضه للناس، وأما الأفعال فهي لا تنحصر في الحسن والقبيح ولذلك قد تكون واسطة بين حبها وبغضها.

وقوله: {خَوَّانًا} صيغة مبالغة في الخائن، واستعمالها في كثير الخيانة، أو فيمن ارتكب خيانة بشعة تعادل خيانات كثيرة.

وقوله: {أَثِيمًا} صفة مشبهة في الآثم، وتدل على الاستمرار في الإثم.

قيل: إنما ذكر الوصفين - الخوّان والأثيم - لأنه أريد خيانة النفس والإثم على الغير.

ص: 394


1- سورة الإسراء، الآية: 7.

الخامس: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ...} الآية.

بيان لوصف هؤلاء الخائنين بضعف الاعتقاد باللّه تعالى أو هتكهم لحرمته تعالى، وتعليل لعدم حبّ اللّه لهم، مما يستدعي عدم الدفاع عنهم.وحاصله أنّ هؤلاء لضعف عقيدتهم باللّه يرتكبون المعاصي، فكأن اللّه تعالى ليس ناظراً لأعمالهم فلذلك لا يستخفون منه، لكنهم يحاولون كتمان جرائمهم من الناس حياءً أو خوفاً أو دفعاً للفضيحة، فكأنهم جعلوا اللّه تعالى أهون الناظرين لهم وأخفّ المطلعين عليهم.

والحاصل أنّ سبب خيانتهم وإثمهم ضعف اعتقادهم باللّه، فقد أضافوا إلى المعصية العملية ضعف العقيدة، وأمثال هؤلاء لا يستحقون الدفاع عنهم، قال تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَٰرُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَىٰكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَٰسِرِينَ}(1).

وقوله: {يَسْتَخْفُونَ} أي يطلبون الخفاء، بمعنى يكتمون جرائمهم، فيرتكبونها خفية، وإذا ظهرت حاولوا تبرئة أنفسهم باتهام الغير بها.

ولو كانت عقيدة هؤلاء صحيحة وقوية لعلموا أنه لا يمكن إخفاء شيء من اللّه تعالى، فلو أرادوا كتمان شيء عنه كان عليهم أن يتركوا ذلك الشيء فلا يفعلوه، كي يكون من السالبة بانتفاء الموضوع نظير قوله: {أَتُنَبُِّٔونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}(2).

ص: 395


1- سورة فصلت، الآية: 22-23.
2- سورة يونس، الآية: 18.

وقوله: {وَهُوَ مَعَهُمْ...} ردّ لزعمهم بعدم علمه، وبيان أنّ اللّه تعالى عالم بنواياهم فضلاً عن أفعالهم، ومعيّة اللّه لمخلوقاته ليست زمانية أو مكانية؛ لأنه تعالى خالق الزمان والمكان فلا يحيطان به، بل المقصود إحاطته بعلمه وقدرته.وقوله: {إِذْ يُبَيِّتُونَ...} مرّ أنّ التبييت هو التدبير ليلاً، والظاهر أنّ المراد هنا ما يفكرون فيه وينوونه من أكاذيب يلفقونها لكي يبررّوا بها أفعالهم أو يتهموا بها غيرهم.

وقوله: {مِنَ الْقَوْلِ} أي يخططون لأكاذيب يلفقونها وهي أقوال، كشهادة الزور، واتهام البريء، والحلف الكاذب ونحو ذلك مما يفعله المجرمون لكتمان جرائمهم من الناس، وقيل: القول هنا بمعنى الفعل كالسرقة ونحوها.

وقوله: {مُحِيطًا} الإحاطة هي احتواء الشيء من كل جهاته، كالجدار يحيط بالبيت من كل جوانبه، وإحاطة اللّه ليست مادية، بل بمعنى أنّ علمه للأشياء شامل لجميعها ومن كل جهاتها بحيث لا يفوته شيء، وكذا قدرته على الأشياء عامة لا نقص فيها.

السادس: قوله تعالى: {هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا...} الآية.

تحذير لشهود الزور والذين يريدون التغطية على الجرائم بالكذب والتوسط والرشوة ونحو ذلك، بأنكم إذا تمكنتم من كتم الحق واتّهام البريء وشهادة الزور وخدعتم الناس وزوّرتم على القضاة، فذلك متاع قليل

ص: 396

لكم في الدنيا؛ لأنّ اللّه تعالى سيعاقبكم في الآخرة حيث لا مدافع عنكم ولا منقذ لكم من العذاب.

قوله: {هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ} قد مرّ إعرابها في سورة البقرة، والأقرب أن (أنتم) مبتدأ، و(أولاء) خبره وهو موصول بمعنى الذين، والهاء فيهما للتنبيه أيأنتم الذين جادلتم...

والفرق بين {جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ} و{يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} أنّ الجدال عنهم هو الدفاع عنهم بتعذيرهم، وهذا لا يوجد في الآخرة؛ لأنّ كل إنسان هناك له شأن يُغنيه وهو مشغول عن الآخرين، وأما الشهود فهم الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والملائكة وهؤلاء لا يشهدون إلا بالحق، وأما الوكيل عنهم فبمعنى من ينقذهم من العذاب بالشفاعة مثلاً، فإنّ الوكالة هي القيام بالأمر، فلا أحد يقوم بإنقاذهم من نار جهنم.

ولا يخفى أنّ اللّه تعالى وكيل على الناس، بمعنى تدبيره لأمورهم وهيمنته عليهم، وليس وكيلاً لهم، وأما نيابة الناس بعضهم عن بعض في أعمالهم فهي وكالة لهم لا عليهم.

ص: 397

الآيات 110-113

اشارة

{وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا 110 وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 111 وَمَن يَكْسِبْ خَطِئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا 112 وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٖ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا 113}

ثم يبيّن اللّه تعالى فتح باب التوبة لهؤلاء وغيرهم ويتوعدهم في التمادي في معصيتهم وغيّهم فيقول:

110- {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا} عصياناً يتعدى إلى الغير ويسوؤه كالسرقة {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ} بعصيان لا يتعدى الغير كترك الصلاة {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} يطلب منه الغفران بالتوبة {يَجِدِ اللَّهَ} يلقاه وهو كناية عن سرعة الإجابة {غَفُورًا} لذنبه {رَّحِيمًا} بتفضله عليه بالثواب.

111- {وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا} يرتكب معصية {فَإِنَّمَا} ضرره يعود عليه فقط إذ {يَكْسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفْسِهِ} فالوبال عليه لا يتعداه، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بما يكسبه من الإثم {حَكِيمًا} في عقابه.

112- {وَمَن يَكْسِبْ خَطِئَةً} معصية لا عن تعمّد {أَوْ إِثْمًا} معصية

ص: 398

عن تعمد {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِئًا} ينسبها فكأنه رماه بأن يفترى عليه به {فَقَدِ احْتَمَلَ} أي تحمل على ذمته {بُهْتَٰنًا} أي الكذب الشديد على البريء، {وَإِثْمًامُّبِينًا} واضحاً لا شك فيه.

113- ثم إنّ المجرم وأصحابه كانوا يحاولون خداع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتبرئة المجرم أولاً، وبإلقاء الجرم برقبة بريء ثانياً، وذلك عبر شهادة الزور، لكن اللّه سدّده بالعصمة والعلم فأظهر له الواقع {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ} بالنبوة {وَرَحْمَتُهُۥ} بالتسديد لتعرف الحق {لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ} من الخائنين، والمقصود لتأثّرت بما همّوا به، فهؤلاء همّوا بالخداع لكن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يتأثر بهم، {أَن يُضِلُّوكَ} عن القضاء بالحق لإخفائهم المجرم وشهادتهم الزور ضد البريء، {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} يعني وبال عملهم يرجع إليهم {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٖ} بسبب كيدهم، {وَ} كيف يضلونك ويضرونك والحال أنه {أَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} والذي منها علم الشريعة، وهذان في الأحكام العامة الكليّة، {وَ} أمّا تطبيقها على الجزئيات الخارجية فقد {عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} فكل علم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما هو بتعليم من اللّه تعالى، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ} بهذا الإنزال والتعليم وغيرهما {عَظِيمًا}.

بحوث

الأول: بعد مذمّة الخائنين وبيان خيانتهم لأنفسهم وإثمهم وعدم مراقبتهم اللّه تعالى وأقوالهم غير المرضية، يفتح اللّه تعالى باب التوبة عليهم، ويحثّهم

ص: 399

عليها ويبين أنّ ضرر إثمهم يرجع إليهم، وخاصة لو اتهموا البريء بها حيث يضاف إليهم إثم آخر، ثم يقطع اللّه تعالى طمعهم بأنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا ينخدع بهم؛ لأنّ اللّه تعالى ناصره فهو يعرف الأحكام ويعرف كيفيةتطبيقها، وهذا حث آخر لهم على التوبة أو عدم التمادي في العصيان.

ولا يخفى أنّ هذه الآيات عبرت عن المعصية بألفاظ مختلفة مثل: السوء والظلم والإثم والخطيئة، وهذه الكلمات لها معانٍ مختلفة مع أنّ مصاديقها قد تكون متحدة، ولكن حينما تعطف بعضها على البعض الآخر يُراد منها معانيها أو مصاديقها المختلفة، ويمكن معرفة ذلك بمعونة السياق، ف «الخطيئة» مشتقة من الخطأ فهي - هنا - المعصية من غير تعمّد، كما لو ارتكبها لغلبة الشهوة من غير عناد، و«الإثم» في الأصل البُطؤ(1) أو التقصير(2) واستعملت في المعصية مع تعمّد وفي المعصية الكبيرة، و«الظلم» هو نقصان الحق(3)

أو مجاوزته(4) ويلازمه وضع الشيء في غير موضعه، فظلم النفس بخسها حقها، وظلم الغير بالجور عليه وبخس حقه، و«السوء» القبيح التي تكرهه النفس.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ...} الآية.

«السوء» هنا هو ظلم الغير، بأن يرتكب معصية تسوؤه، بقرينة المقابلة مع

ص: 400


1- انظر مقاييس اللغة: 45.
2- معجم الفروق اللغوية: 15.
3- معجم الفروق اللغوية: 172.
4- مفردات الراغب: 537.

ظلم النفس، وإلاّ فكل سوء ظلم للنفس، وكل ظلم للنفس سوء، فلا فرق في فتح باب التوبة بين كون المعصية في حق اللّه تعالى، وبذلك يظلم الإنسان نفسه، أو في حق الناس وبذلك يسوؤهم، نعم تختلف أجزاء أوشروط التوبة، فإن كان العمل مما يمكن جبره بردّ الحق أو بالقضاء والكفارة ونحو ذلك فلا بد منه، وإن لم يمكن جبره فلا بد من الترضية، مع لزوم الندم وعزم عدم العود والاستغفار باللسان، وقد مرّ تفصيل ذلك.

وقوله: {يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} أي يطلب غفرانه بالفعل والقول، فليس الاستغفار هنا مجرد قول استغفر اللّه، إذ ذلك جزء في طلب الغفران.

وقوله: {يَجِدِ اللَّهَ} الوجدان بمعنى اللقاء والإدراك والعلم، والمقصود يلقى اللّه قابلاً لتوبته، قيل: هو كناية عن سرعة قبول التوبة، أو كناية عن ترتب الأثر، بمعنى تحقق الغفران، كما تقول: ذهبت إلى زيد فوجدته مضيافاً، أي نالتني ضيافته.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفْسِهِ...} الآية.

حث على التوبة بلسان بيان أنّ ضرر الإثم إنما يرجع عليه، فما باله يرتكب ما يضرّه، فالمعصية بُطؤ وتقصير عن كسب الخيرات وسرعة في اكتساب الأضرار، فلا عاقل يفعل ذلك بنفسه، وإضرار الغير بسرقة ماله مثلاً إذا لوحظ فيه أنّ اللّه يعوّض المظلوم، وأن الظالم يلقى وبال ظلمه، فكأنه كالعدم مقابل ضرر الظالم.

وقوله: {يَكْسِبْ إِثْمًا} الكسب هو جرّ نفع أو دفع ضرر، وفي المعصية

ص: 401

قد يستعمل باب الافتعال كما قال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}(1)،وقال: {لِكُلِّ امْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ}(2)، ولكن باعتبار المنافع الدنيوية التي يتمتع بها العاصي من معصيته لذلك كثر إطلاق الكسب على المعاصي كقوله: {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(3) فقوله: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا} بجلب منفعة دنيوية له في معصيته، كما في شأن نزول الآية في سرقة أبي طعمة.

وقوله: {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفْسِهِ} تقليل لشأن المنافع الدنيوية؛ لأنها تعقب غضب اللّه وعذابه، فلا تقاس به.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِئًا...} الآية.

بقرينة تقابل الإثم بالخطيئة، فالمراد به المعصية عمداً، وبها المعصية من غير تعمّد، بمعنى قصد المعصية لغلبة الشهوة مثلاً لا عناداً وتمرداً وفي دعاء أبي حمزة: «إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيّتك جاحد ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي وغرّني سترك المرخى عليّ»(4).

وقوله: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِئًا} نسبة الذنب إلى الغير كأنه رمي به عليه فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.

ص: 402


1- سورة البقرة، الآية: 286.
2- سورة النور، الآية: 11.
3- سورة البقرة، الآية: 79.
4- الدعاء والزيارة: 321.

وقوله: {احْتَمَلَ} أي حمل على عاتقه وسجّل في سجل أعماله، وغالباً يستعمل حمل الوزر من الثلاثي المجرد كقوله: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةًيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(1)، وقوله: {اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَٰيَٰكُمْ}(2)، ولكن أتى هنا من باب الافتعال، وكذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}(3).

ولعلّ (الاحتمال) في الدنيا؛ لأنه خلاف فطرة الإنسان وعقله فيحتاج إلى ضغط وتعمّل، وأما (الحمل) ففي الآخرة فلأنّ حمل المذنب ذنوبه هناك على مقتضى طبيعة الذنب والمذنب في الآخرة، فتأمل.

وقوله: {بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} الظاهر أنّ البهتان والإثم المبين راجعان إلى رمي البريء، فالآية في مقام بيان أنّ اتهام الآخرين عمل قبيح جداً حيث إنه بهتان، وأنه معصية واضحة، وأما عاقبة ارتكاب الإثم فقد ذكر في الآية السابقة حيث قال: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفْسِهِ}.

وقيل: {بُهْتَٰنًا} يرجع إلى الرمي ويراد به إثم البهتان، و{إِثْمًا مُّبِينًا} يرجع إلى كسب الخطيئة والإثم، فيكون المقصود تضاعف ذنبه بارتكاب المعصية كالسرقة، وبرمي الغير بها! لكن يرد عليه أنه يستلزم أن يكون المعنى من يكسب خطيئة أو إثماً فقد احتمل إثماً مبيناً! وهذا لا معنى له!

وعليه فالمقصود أنّ اتهام البريء ليس بالأمر الهيّن، بل هو بهتان وإثم

ص: 403


1- سورة النحل، الآية: 25.
2- سورة العنكبوت، الآية: 12.
3- سورة الأحزاب، الآية: 58.

واضح لا شك فيه، فعلى الإنسان أن لا يستخف بذلك، وقد مرّ في الآية 20 أنّ ذلك ليس عطفاً توضيحياً، بل البهتان يرتبط بالبريء حيث يكلّ عنالحجة، والإثم المبين يرتبط بتشريع اللّه بحرمة هذا التصرف، ولذا قيل: البهتان هنا بمعنى الظلم والإثم المبين بمعنى المعصية، فهو ظلم محرّم، فتأمل.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ...} الآية.

بيان أنّ هؤلاء لا يكتفون بالمعصية وبرميها على الغير، بل يحاولون خداع الحاكم أيضاً؛ لأنّ الذنوب حلقات متواصلة كل ذنب يجر ذنباً آخر، فالسرقة جرّت البهتان، وهو جرّ شهادة الزور، وهي جرّت إلى الارتداد ومشاققة الرسول، وهي جرّت إلى الشرك، وهو جرّ إلى اتباع الشيطان، وهو يجرّ إلى الخسران المبين ونار جهنم، كما سيأتي في الآيات اللاحقة.

وفي ذلك تحذير للقضاة بالتيقظ وتحرّي الحق ودراسة القضايا الواردة من مختلف الجهات ليتبيّن لهم الحق فيحكمون به، ولا بد في ذلك من معرفة القرآن والشريعة ومن معرفة كيفية تطبيق تلك الأحكام على القضايا الخارجية وحسب الموازين الشرعية، فأما رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد علّمه اللّه الأحكام بوحي الكتاب والحكمة عليه، وعلّمه كيفية التطبيق وذلك من فضل اللّه ورحمته عليه فلا ينخدع ولا يتضرّر، وأما سائر الحكّام فعليهم أن يتعلّموا ويجتهدوا ليتمكنوا من استنباط الأحكام أولاً، ومن تطبيقها ثانياً، كما عليهم مراعاة الموازين الشرعية لئلا ينخدعوا.

ص: 404

وقوله: {فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ} الفضل والرحمة هنا عامان فيشملان الاصطفاء والنبوة والعصمة والعلم وسائر عطايا اللّه تعالى لرسوله، ويمكن أنيراد بالفضل النبوة وبالرحمة التسديد حين الحكم.

وقوله: {لَهَمَّت} المراد تأثير ما قصدوه، أي لولا فضل اللّه ورحمته لأثّر فيك خداعهم، فهؤلاء حاولوا ذلك لكن اللّه منع عنه، فقوله: {لَوْلَا} نفي تأثير ما قصدوه لا نفي أصل الهمّ.

وقوله: {أَن يُضِلُّوكَ} أي عن الحكم بالحق أو أن تحكم لهم بما اشتهوه، ولا يخفى أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكلّف في القضاء بالحكم حسب الموازين الشرعية من الأيمان والبينات، فقال: «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»(1) ولم يوجب اللّه عليه أن يحكم بعلمه الواقعي الحاصل له من الأسباب الغيبية؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى أراد أن يكون أسوة، ولا يمكن أن يكون أسوة إلاّ لو عمل بالأسباب الطبيعية المتعارفة بين الناس، فمثلاً لو ادّعى أحد على شخص ديناً ولم تكن له بينة، فميزان القضاء الشرعي هو توجيه القسم إلى المنكر، فلو حلف المنكر سقط ادعاء المدعي، مع أنّ المدعي قد يكون صادقاً، والمنكر كاذباً في إنكاره ويحلف بيمين فاجرة غموس! فهنا يحكم القاضي لصالح المنكر حسب يمينه، وهو حكم بحق وعلى حسب الموازين الشرعية والوزر على المنكر الكاذب.

كيفية قضاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كيفية قضاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

والحاصل أنّ قوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ} بمعنى الحكم حسب الموازين القضائية الشرعية التي شرّعها اللّه تعالى، نعم يجوز للنبي أن

ص: 405


1- الكافي 7: 414.

يحكم حسب علمه الواقعي الذي علمه بطريقة غيبيّة، لكن الأصل هو ظاهر الشرع للأسوة.وهذه الآية تحتمل الأول، بمعنى أنّ اللّه تعالى أعلم رسوله بالسارق الواقعي، وهو أبو طعمة بطريقة غيبيّة بالوحي فلم تنفعهم تمويهاتهم وشهادتهم الزور، وتحتمل المعنى الثاني، أي لولا فضل اللّه ورحمته لمال إليهم في الحكم بخلاف الموازين الشرعية نظير قوله: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَئًْا قَلِيلًا}(1).

وقوله: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} أي وبال ذلك يرجع إليهم، فمن حاول خداع القاضي بشهادة الزور مثلاً أو باليمين الكاذبة فهذا لم يُضل القاضي؛ وذلك لأنّ القاضي إذا حكم حسب الموازين الشرعية فهو مهتد وغير ضال، وله أجر عمله، وإنما الوزر يكون على الكاذب وشهود الزور.

وقوله: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٖ} لأنّ اللّه تعالى ناصرك ويبيّن لك الحقائق، بل القاضي إذا حكم طبقاً للموازين الشرعية فلا وزر عليه حتى لو لم يكن ما حكم به مطابقاً للواقع.

وقوله: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ...} هذا بيان لسبب عدم تمكنهم من إضلال الرسول والإضرار به؛ وذلك لأنه عالم مسدّد.

وقوله: {وَالْحِكْمَةَ} هي كل حكم ليس في ظاهر الكتاب، ومنها الشريعة، وقد مرّ أنّ الحكمة من الإحكام ويلازمه وضع الشيء في موضعه، فالشريعة التي هي تفسير للقرآن وبيان تأويلاته مع القرآن يتضمنان جميع

ص: 406


1- سورة الإسراء، الآية: 74.

الأحكام العامة التي شرّعها اللّه لخلقه وتكون ميزاناً في القضاء.

وقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} الظاهر أنّ المراد به العلم بالتطبيق،وذلك لأنّ الأحكام كلها في القرآن والحكمة، ويبقى تطبيقها وهذا يحتاج إلى علم، ولذا لا يكفي في القاضي العلم النظري بالقوانين، بل لا بد له من أن يكون قد تعلّم تطبيقها على القضايا الجزئية.

ويحتمل أن يكون المراد أنّ اللّه كما أنزل عليك الكتاب والحكمة كذلك عرفك معانيهما. واللّه العالم.

ص: 407

الآيات 114-116

{لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا 114 وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا 115 إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا 116}

وحيث إن هذه الطائفة كانوا يبيّتون ما لا يرضى اللّه تعالى من القول بين اللّه تعالى أقسام النجوى وحكمها فقال:

114- {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ} أي تناجيهم وهي المحادثة سراً، وإنما قال «كثير» لأنّ القليل من النجوى فيها الخير، {إِلَّا} استثناء منقطع، أي ولكن هناك خير في نجوى {مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} وهي العطية المالية المتبرع بها {أَوْ مَعْرُوفٍ} وهو ما يعرف العقل والشرع حسنه كالقرض {أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ} أي التأليف بينهم، والأولان جلب منفعة للناس، والثالث دفع مضرّة، فهذه من الخير، لكن لا ثواب فيها إلاّ إذا كانت بقصد القربة {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ} الأمر بهذه الثلاثة {ابْتِغَاءَ} أي طلب {مَرْضَاتِ اللَّهِ} رضاه تعالى {فَسَوْفَ} في الآخرة {نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ومن عظمته أنه دائم ولا منغص فيه ومتقارن مع التعظيم.

ص: 408

115- {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} يخالفه فيكون هو في شقّوالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في شق آخر، ومن ذلك أن يتناجى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ} حيث إنّ هذا معاند ولا يُرجى له التوفيق للتوبة {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} طريقتهم وما هم عليه من إطاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهذا إما تأكيد للمشاقة، أو هي في الدين وهذا في الطاعة، وعليه فهذا يخالف في الأصول والفروع، فيعاقب في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: ف{نُوَلِّهِ} نخلّي بينه وبين {مَا تَوَلَّىٰ} أي ما أراد وأتبع من الغواية، أي نخذله فلا نهديه، {وَ} أمّا في الآخرة: ف{نُصْلِهِ} من الإصلاء بمعنى مقاساة حريق {جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} مرجعاً يصير إليه هذا المشاقق.

116- ثم بيّن تعالى أنّ هذا المشاقق لا يغفر له؛ لأنه أشرك و{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} إذا لم يتب {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ} الشرك {لِمَن يَشَاءُ} ممن اقتضت الحكمة والرحمة غفرانه سواء تاب أم لم يتب. {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا} أي ابتعد كثيراً عن الهداية فلا يُرجى نجاته، بسبب سوء اختياره.

بحوث

الأول: أنّ العصاة وشهود الزور لإحباك خطتهم يتشاورون فيما بينهم سراً في كيفية تنزيه المجرم واتهام البريء ليخدعوا القاضي، وقد ذكر اللّه هؤلاء في الآية 108 {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ}، فهذه الآيات لبيان السيّئ من المناجاة عن

ص: 409

الحسن منها، فيتم بيان أنّ الأصل فيها السوء؛ لأنّ مدخل الشيطان حينها أقوى، وهذه الحالة الغالبة في النجوى، ثم يبيّن أنّ موضوعالنجوى إن كان خيراً فلا بأس بها، بل قد تكون مطلوبة، كما قال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَٰجَوْاْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَٰجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَٰنِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ}(1) أي إنما النجوى بالإثم والعدوان والمعصية من الشيطان، ثم تبين الآيات أنّ النجوى في الخير إذا اقترنت بقصد القربة ففيها أجر عظيم، وأنّ النجوى بالشر إذا كانت في مشاقة الرسول وعدم طاعته ففيها الخذلان وجهنم!

الثاني: قوله تعالى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا...} الآية.

قوله: {لَّا خَيْرَ} يراد به وجود الشر، فإنه وإن كان هناك واسطة بين الخير والشر إلا أنّ كلمة {لَّا خَيْرَ} تستعمل في وجود الشر.

وقوله: {كَثِيرٖ} لأنّ طبيعة النجوى وخاصة من غير المؤمنين هكذا، فهي مليئة بالمحرمات وخاصة الغيبة والبهتان والكذب والتخطيط للسوء.

وقوله: {نَّجْوَىٰهُمْ} الضمير يرجع إلى الطائفة التي همّت بالإضلال، وهم قوم أبي طعمة، و(النجوى) هي الكلام السري بين اثنين فما فوق.

وقوله: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ...} الاستثناء منقطع؛ لأنّ هذا ليس داخلاً في المستثنى منه وهو {كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ}، ولو كان يقول: «لا خير في نجواهم إلاّ من أمر» لكان استثناءً متصلاً.

ص: 410


1- سورة المجادلة، الآية: 9-10.

وقوله: {مَنْ أَمَرَ...} أي إلاّ نجوى من أمر، ولم يقل إلاّ من فعل هذه الثلاثة؛ لأنه حين النجوى تخطيط ومشورة ولا فعل حينها، وإنما يكون الفعل بعد ذلك، ولذا لمّا أراد ذكر الأجر قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ}.ثم إنّ الخير إما جلب منفعة مادية أو معنوية وإما دفع مضرة...

فقوله: {بِصَدَقَةٍ} للنفع المادي، فإنّ معنى الصدقة وإن كان عاماً لكل عمل خير يُصدّق الإنسان به ربّه تعالى إلاّ أنه يكثر استعمالها في العطية المالية من غير عوض إذا اقترنت بقصد القربة، وتنصرف غالباً إلى عطية الفقراء، وهنا أريد بها ذلك لقرينة التقابل مع المعروف.

وقوله: {أَوْ مَعْرُوفٍ} لمطلق النفع غير الصدقة، ومعنى المعروف عام لكل ما يعرف العقل أو الشرع حسنه، فتشمل كل أبواب البِرّ، إلاّ أنّ المراد به في هذه الآية غير الصدقة، ومن مصاديقه القرض، فهو ليس بصدقة، لكنه معروف من أعمال البر، وقد فسرت بعض الروايات المعروف بالقرض(1) وهو من باب بيان المصداق.

وقوله: {أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ} لدفع المضرّة عنهم.

وإنما استثنى هذه الثلاثة في التناجي؛ لأنه قد يلزم الإسرار بها حفظاً لماء وجه المحتاجين، أو لتكون في موقعها، أو لئلا يمنع عنها مانع لو أعلن عنها، أو لغير ذلك من أغراض شرعية أو عقلائية.

وقوله: {يَفْعَلْ ذَٰلِكَ} مرجع الإشارة إما إلى النجوى؛ لأنها مصدر ويجوز تذكير الإشارة العائدة إلى المصدر حتى لو كان مؤنثاً، أو إلى الأمر

ص: 411


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 230؛ عن تفسير القمي وتفسير العياشي.

بها، أو بتقدير كل واحد منها.

وقوله: {مَرْضَاتِ اللَّهِ} لأنّ الأجر الموعود إنما هو على العمل المشروع إذا كان خالصاً لوجه اللّه، وأما إذا لم يكن لوجه اللّه، فإن كان عبادةكالصلاة والصيام فهو رياء محرّم، وإن لم يكن عبادة وكان من الأمور التوصلية الحسنة فهذا لا بأس به لكن لا وعد بالثواب عليه، كمن يصلح بين الناس لكسب جاه بينهم أو لتكون له يد عليهم، وقد مرّ أنّ الداعي العقلي في غير العبادة لا بأس به، بل قد يكون حسناً لكن حيث لم يكن العمل للّه فلا وعد بالأجر فيه.

وقوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أي في القيامة؛ لأنّ أجر الآخرة هو الأجر العظيم، ولا يخفى أنّ الأعمال الصالحة لها آثار دنيوية أيضاً، لكنها ليست أجراً للصالحات لقصور الدنيا عن أن تكون ثواباً للمؤمن كما في الروايات(1)، فهي رحمة منه تعالى لكنها ليست بأجر، وإن صح إطلاق الأجر عليها مجازاً.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ...} الآية.

معنى الآية عام لكل كفر وعدم طاعة، وإن كان شأن نزولها في قصة سرقة أبي طعمة كما مرّ، وارتباطها بما قبلها من آيات هو بيان قسم آخر من التناجي الذي يكون من مصاديق المشاقة والمعصية، وأيضاً لبيان عاقبة المخالفة، فقد ذكرت الآيات السابقة أنه لا مدافع ولا وكيل عنهم في

ص: 412


1- ورد في الكافي 8: 47 «... يا موسى الدنيا نطفة ليست بثواب للمؤمن ولا نقمة من فاجر...».

الآخرة، وأنّ كاسب الإثم إنما يكسبه على نفسه وأن الضرر يرجع اليه وأنه لا خير في عمله، وأما هذه الآية فتفصّل في بيان عاقبة السوء بخذلان اللّه له في الدنيا وبمصيره إلى جهنم مع عدم غفرانه في الآخرة.وقوله: {يُشَاقِقِ} بمعنى يخالف، بأن يكون الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في طرف وهو في طرف آخر، والمقصود كفره وضلاله بقرينة قوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ}، وأيضاً شأن نزولها في أبي طعمة حيث ارتد ولحق بالمشركين في مكة ومات على شركه.

وقوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ} أي تمت عليه الحجة فلم يكن جاهلاً قاصراً، وأما الجاهل القاصر فقد مرّ ذكره في قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ}(1).

وقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} أي طريقتهم، وهي طاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهذا يرتبط بالفروع كما أنّ المشاقة ترتبط بالأصول.

وقيل: هو عطف تأكيدي؛ لأنّ اتباع غير سبيل المؤمنين هو مشاقة للرسول.

ولعلّه لأجل النظر لفعله من جهتين: جهة مخالفة الرسول وجهة مخالفة المؤمنين.

وقد يستدل بهذه الآية على حجية الإجماع، ويرد عليه إشكالات متعددة، منها: أنّ بعض المسائل المجمع عليها خاصة جداً أو غير محل

ص: 413


1- سورة النساء، الآية: 98-99.

الابتلاء، فلا يقال في مخالفتها: إنها اتباع لغير سبيل المؤمنين، نعم المسائل الضرورية والمعروفة لدى الجميع كوجوب طاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي من سبيل المؤمنين.وقوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ} هذا بيان نتيجة عمله في الدنيا، بمعنى أنّ اللّه تعالى يقطع ألطافه عنه، وبهذا الخذلان يضلّ ولا يهتدي أبداً، كما قال: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٖ}(1) وقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَٰوَةٌ}(2)، ومعنى {نُوَلِّهِ} نجعله والياً أي تابعاً، ومعنى {مَا تَوَلَّىٰ} أي ما اتّبعه من الضلال.

ولازم الآية هو عدم الجبر فإذا أراد المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين لا يمنعه اللّه تعالى عن ذلك تكويناً، وإلاّ لبطل الامتحان، وهو خلاف الحكمة، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

وقوله: {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} بيان نتيجة عمله بعقوبته في الآخرة، والإصلاء هو مقاساة حرارة النار والمراد هنا الإحراق.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ...} الآية.

هذا كالتعليل لإصلاء هذا المشاقق المخالف، وأيضاً تهديد له، وأيضاً ترغيب في التوبة، وهذا ليس تكراراً للآية 48، بل سيقت الآيتان لغرضين كما مرّ.

وقوله: {ضَلَٰلَا بَعِيدًا} كالتعليل لعدم غفرانه، كالذي ضل عن الجادة

ص: 414


1- سورة الجاثية، الآية: 23.
2- سورة البقرة، الآية: 7.

فإن كان قليلاً كان المرجو رجوعه إليها، أما إذا ابتعد كثيراً فلا رجاء، وهكذا المذنب غير المشرك لم يبتعد عن طريق الحق كثيراً، فلذا يمكن هدايته إلى طريق الجنة بالشفاعة والغفران، وأما المشرك فقد ابتعد كثيراً عنطريقها فلا يهتدي إليها أبداً؛ لعدم المصلحة في غفرانه ذنوبه والشفاعة له، وكلما استعمل الضلال البعيد في القرآن أريد به الكفر والشرك، كقوله: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَٰلُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٖ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَٰلُ الْبَعِيدُ}(1)، وكقوله: {يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُۥ وَمَا لَا يَنفَعُهُۥ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَٰلُ الْبَعِيدُ}(2)، وكقوله: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَٰلِ الْبَعِيدِ}(3).

ص: 415


1- سورة إبراهيم، الآية: 18.
2- سورة الحج، الآية: 12.
3- سورة سبأ، الآية: 8.

الآيات 117-122

{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَٰثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَٰنًا مَّرِيدًا 117 لَّعَنَهُ اللَّهُۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا 118 وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الْأَنْعَٰمِ وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا 119 يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا 120 أُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا 121 وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا 122}

ثم يحذّر اللّه تعالى عن الشرك وعن سببه ونتائجه فيقول:

117- {إِن} نافيه أي ما {يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِهِ} من دون اللّه سبحانه {إِلَّا} أصناماً {إِنَٰثًا} كاللات والعزى ومناة، وهذا تسخيف لعقولهم، {وَإِن يَدْعُونَ} لا يطيعون عبر عبادتها {إِلَّا شَيْطَٰنًا} موصوفاً بكونه {مَّرِيدًا} متمرداً خارجاً عن طاعة اللّه.

118- كما أنه موصوف بأنه {لَّعَنَهُ اللَّهُۘ} طرده عن رحمته فكيف يرجون الفوز باتباع مطرود عن رحمته؟ {وَ} أما خطته لإغواء الإنسان فإنه {قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ} عباد اللّه {نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} مقطوعاً، فهو يقتطعهم عن عبادة اللّه تعالى.

ص: 416

119- ثم بعد اقتطاعه إياهم يتدرج معهم مراحل ليُرديهم، عداوةً لهموحسداً فيقول: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} عن عبادة اللّه وطاعته، {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} بالأماني الباطلة الموجبة لاتباع الهوى كي يستمروا في ضلالهم ولا يعودوا إلى فطرتهم، {وَلَأمُرَنَّهُمْ} عبر الوسوسة بتشريع البدعة {فَلَيُبَتِّكُنَّ} التبتيك هو القطع من الأصل {ءَاذَانَ الْأَنْعَٰمِ} وهذا كمثال للمخالفة العملية المتضمنة للتشريع المبتدع، {وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} أي دينه وما أمر به.

{وَ} أما العاقبة فإنه {مَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا} يتولاه ويتبعه {مِّن دُونِ اللَّهِ} بأن يؤثر طاعة الشيطان على طاعة اللّه سبحانه {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} ظاهراً حيث خسر نفسه فأبدلها من رضى اللّه ونعيم الجنة إلى غضبه وعذاب جهنم.

120- وإنما خسروا لأنّ الشيطان {يَعِدُهُمْ} بالوعود الكاذبة، {وَيُمَنِّيهِمْ} بالأماني الباطلة، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا} خداعاً بإظهار ما يضرهم على أنه ينفعهم، وإظهار ما ينفعهم على أنه يضرّهم.

121- {أُوْلَٰئِكَ} الذين اتخذوا الشيطان ولياً {مَأْوَىٰهُمْ} مرجعهم {جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} مخلصاً ومهرباً فهم خالدون فيها أبداً.

122- {وَ} في المقابل {الَّذِينَ} أتخذوا اللّه ولياً ف {ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ} أي وعد وعداً {حَقًّا} ثابتاً لا خلف فيه، {وَمَنْ} استفهام تقريري {أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} أي قولاً، فلا أحد أكثر صدقاً منه؛ لأنه العالم القادر الحكيم، فإذا وعد أنجز وعده حتماً، فما بال أولئك تركوا عبادة اللّه وطاعته

ص: 417

إلى عبادة الشيطان؟!

بحوث

الأول: قوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَٰثًا}.

بعد أن ذكر اللّه تعالى مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، وأخبر بأنه سبحانه لا يغفر أن يشرك به، أراد تسخيف الشرك وبيان أسبابه ونتائجه، تحذيراً للناس عنه وإيقاظاً لهم ليعرفوا أسبابه فيجتنبونها ويعرفوا نتائجه بالخسران وجهنم فينجون بأنفسهم عنها.

وقوله: {إِن يَدْعُونَ} ذكرها مرتين: الأولى في دعاء الأصنام والمقصود عبادتها، والثانية في دعاء الشيطان والمراد إطاعته، فإنّ أصل الدعاء طلب الفعل، واستعمل كثيراً في النداء، والإنسان ينادي معبوده لقضاء حوائجه؛ فلذلك استعمل الدعاء في العبادة التي هي غاية الخضوع والتذلل بقصد التأليه، كما أنّ الإنسان يستجيب لمعبوده برفع صوته بالتلبية؛ فلذلك استعمل الدعاء في الطاعة.

وقيل: {يَدْعُونَ} استعمل في كليهما بمعنى العبادة، فهؤلاء يعبدون الأصنام إلاّ أنهم في الحقيقة يعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمرهم بذلك وأغواهم في عبادتها.

وقوله: {إِنَٰثًا} هذا تسخيف لعقولهم بأنهم يعتقدون بأنّ الأصنام إناث ويسمّونها تسمية الأنثى ومع ذلك يعبدونها!

فقوله تعالى: {إِنَٰثًا} إنما هو باعتبار أسمائها، وإلاّ فالأصنام جمادات فلا ذكر ولا أنثى فيها.

ص: 418

وقال الراغب: المنفعل يقال له: أنيث... ولما كانت معبوداتهم من جملة الجمادات التي هي منفعلة غير فاعلة سمّاها اللّه تعالى أنثى، وبكتهم بها،ونبّههم على جهلهم في اعتقاداتهم فيها أنها آلهة، مع أنها لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر، بل لا تفعل فعلاً بوجه(1).

وفيه نظر: إذ الأنثى مقابل الذكر، والتوسع في الكلمات واستعمال اشتقاقات منها لبعض الاعتبارات لا يضرّ بظهورها في معناها الأصلي إذا لم تكن قرينة على إرادة غير ذلك.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَٰنًا مَّرِيدًا * لَّعَنَهُ اللَّهُۘ}.

بيان أنّ شركهم إنما هو بإغواء من الشيطان، فهو الذي سوّل لهم عبادة الأصنام ومعصية اللّه تعالى، عداوةً للإنسان وحسداً، قال تعالى: {قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥ إِلَّا قَلِيلًا}(2)، وقال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ}(3).

ثم تبيّن الآيات وصف الشيطان، وخطته لإغواء بني آدم، وعاقبة اتّباعه:

1- أما وصفه: فهو مريد وملعون.

2- وأما خطته فهي: اقتطاع قسم من بني آدم لنفسه عبر إضلالهم عن عبادة اللّه، ثم إغفالهم بالتمني لئلا ينتبهوا، ثم أمرهم بالمعاصي بتزيين

ص: 419


1- مفردات الراغب: 94.
2- سورة الإسراء، الآية: 62.
3- سورة الأعراف، الآية: 16-17.

المحرمات لهم، ثم أمرهم باتخاذ الدين الباطل وعدم إطاعة اللّه في أوامره.

3- وأما العاقبة: فهي الخسران المبين باتّباعه؛ لأن وعوده وأمانيه كلّها خداع وغرور.وقوله: {مَّرِيدًا} وأصل (مرد) بمعنى التجرّد والخلوّ، فالمارد والمريد بمعنى المتعري عن الخير، ولا يكون ذلك إلاّ بالعتوّ والخروج عن الطاعة.

وقوله: {لَّعَنَهُ اللَّهُۘ} إخبار، وهو وصف ثانٍ للشيطان، أي هو مطرود عن رحمة اللّه تعالى، وقيل: هذا إنشاء، أي الدعاء على الشيطان! لكن ما ذكرناه أقرب إلى سياق الآية، وهذا تسخيف ثانٍ للمشركين، بعد التسخيف بدعاء الإناث، فهل هناك خير في اتّباع المتمرد المطرود عن الرحمة؟!

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ...} الآية.

بيان لخطة الشيطان وتحذير منها، وهي:

1- {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} أي أقتطع منهم جزءاً لي مع أنهم عباد اللّه تعالى، خلقهم ليعبدوه فيرحمهم بالجنة والرضوان، لكن حيث خلقهم مختارين وأمهل الشيطان إلى يوم الوقت المعلوم، فلذلك طمع الشيطان في أن يستحوذ على بعضهم بعد علمه بعدم تمكّنه من الاستحواذ على جميعهم، قال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(1).

أما كيف علم الشيطان بأنه يتمكن من إغواء بني آدم؟ فلعلّه حينما أزلّ

ص: 420


1- سورة ص، الآية: 82-83.

آدم (عليه السلام) فترك الأولى حسب ما يذهب إليه المشهور، أو ترك الأمر الإرشادي الذي لم يكن تركه أولى حسب الأظهر، عند ذاك علم الشيطان بتمكنه من إغواء الذرية التي ليست بمعصومة! أو قال كلاماً بالظن، فأخبرهاللّه بصدق ظنّه حيث قال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}(1)،

أو قاسهم على نفسه لما رأى تمكنه من العصيان، واللّه العالم.

2- {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} عن عبادة اللّه تعالى، فلما استحوذ عليهم الشيطان واقتطعهم لنفسه عند ذاك يبدأ بإضلالهم، كما قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}(2)، وقال: {إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُۥ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُۥ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(3).

3- {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} للإبقاء على ضلالهم، فإنّ الأماني الكاذبة تجعل غشاوة على بصر الإنسان وعقله، فلا يرى الحقائق، كأن يمنّي نفسه ببُعد الموت منه، وكذا التسويف بالتوبة ونحو ذلك، قال تعالى: {وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}(4)،

وهذا ما يشاهد في بعض العصاة حينما يمرضون بمرض لا علاج له ويستيقنون بالموت يتوبون إلى اللّه تعالى ويحاولون إصلاح ما أفسدوه، وذلك لليأس الذي يعتريهم من استمرار الحياة، وإلاّ فالأماني تمنع الأكثر عن رؤية الحق.

ص: 421


1- سورة ص، الآية: 85.
2- سورة المجادلة، الآية: 19.
3- سورة النحل، الآية: 100.
4- سورة الحديد، الآية: 14.

4- {وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الْأَنْعَٰمِ}، فبعد إضلالهم عن عبادة اللّه وإغوائهم بالأماني تبدأ مرحلة العصيان، وهي مرحلتان:

أما الأولى فهي التشريعات الباطلة خلافاً لحكم اللّه تعالى بأن يزيّن الشيطان لهم بعض المحرمات فيلتزمون بها، ومن ذلك قطع آذان الأنعام،فقال: {وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الْأَنْعَٰمِ}، ويكون أمره عبر الوسوسة، و(التبتيك) استئصال العضو أو الشعر، وتبتيك الآذان قطعها من أصلها، قيل: كانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن - والخامس ذكر - حرّموا على أنفسهم الانتفاع بها(1).

5- {وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}، وهذه المرحلة الثانية من العصيان بإغوائهم بترك الدين الحق، وكذا مخالفة أوامر اللّه تعالى، فالأمر بالتبتيك مخالفة المحرمات بالالتزام بها، والأمر بالتغيير مخالفة الواجبات عبر تركها، و(تغيير خلق اللّه) هو تغيير دينه وأوامره؛ لأنّ خلق اللّه هي الفطرة كما قال سبحانه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(2)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال في خلق اللّه: «أمر اللّه بما أمر به»، وقال أيضاً: «دين اللّه»(3).

ولعلّ تقديم الأمر بالتبتيك على الأمر بالتغيير؛ لأنّ الإغواء بارتكاب المحرمات هي كالمقدمة للإغواء بترك الأوامر وتغيير الدين.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ...} الآية.

ص: 422


1- تفسير الصافي 2: 319.
2- سورة الروم، الآية: 30.
3- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 233؛ عن تفسير العياشي.

بيان عاقبة الشرك وهو الخسران المبين.

وقوله: {يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا} أي يتولاه ويتّبعه ويطيع أمره، فإنه لا سلطة للشيطان على أحد إلاّ إذا سلطه على نفسه قال اللّه تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَٰنُ}إلى قوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}(1)، وقال تعالى: {إِنَّهُۥ لَيْسَ لَهُۥ سُلْطَٰنٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُۥ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُۥ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(2).

وقوله: {مِّن دُونِ اللَّهِ} قيد توضيحي لزيادة التشنيع، أي اتخاذه ولياً لم يكن بأمر اللّه تعالى، وإنما اغتر الإنسان فآثر طاعة الشيطان على طاعة اللّه تعالى.

وقوله: {خُسْرَانًا مُّبِينًا} لأنه خسر نفسه بفعل ما يوجب خلودها في نار جهنم فقد أعطى نفسه وكسب العذاب، قال تعالى: {إِنَّ الْخَٰسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا}.

هذه الآية وما بعدها كالتعليل لقوله: {خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}؛ إذ الشيطان لا يعطيهم مقابل اتّباعهم له إلاّ الوعود والأماني الكاذبة، وبذلك يخدعهم بما يكون مصيرهم الخلود في نار جهنم.

ومن ذلك يتضح أنه لا تكرار في قوله: {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} وقوله:

ص: 423


1- سورة إبراهيم، الآية: 22.
2- سورة النحل، الآية: 99-100.
3- سورة الزمر، الآية: 15.

{وَيُمَنِّيهِمْ}؛ فإن الأول بيان لصنع الشيطان بهم، والثاني لبيان علة خسرانهم، نظير ما لو قلت: خدع الشيطان فلاناً فخسر بسبب هذا الخداع.

فحاصل المعنى: من يتبع الشيطان يخسر خسراناً واضحاً؛ لأنّ الشيطانيخدعه بالوعود الكاذبة والأماني الباطلة.

وهنا الأماني فرع الوعود فلذا اكتفى بذكر الوعد في قوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا}، ولذا قيل: وعد الشيطان هي وساوسه التي يلقيها مباشرة، وأما الأماني فهي متفرعة على الوساوس مما تتطابق مع الهوى.

وقوله: {غُرُورًا} أي خداعاً، وذلك بإظهار النفع فيما فيه الضرر وبالعكس.

السادس: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا}.

بيان الغرور في وعود الشيطان، فإنه يخدعهم بمواعيده لكن حقيقة الأمر أنه ساق هؤلاء إلى الخلود في جهنم حيث اتخذوه ولياً فأطاعوه وانخدعوا به، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَا۠ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1).

وقوله: {مَحِيصًا} أي مهرباً وتخلصاً منها، بمعنى خلودهم في نار جهنم حيث إنّ الشرك لا يغفر ألبتة.

السابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ...} الآية.

ص: 424


1- سورة إبراهيم، الآية: 22.

دأب القرآن كلّما ذكر العذاب وأسبابه حث الناس على الإيمان والطاعة بتذكيرهم بثوابهما.

وفي الآية تقابل الثواب وأسبابه بالعذاب وموجباته: فالإيمان والعملالصالح يقابلان الإضلال والتمني والأمر بالتبتيك وتغيير خلق اللّه، وتقابل الخسران وجهنم بالجنات والأنهار، وكذا عدم محيص أولئك عن جهنم بخلود هؤلاء في الجنة، وكذلك وعد الشيطان وأمانيه الغرور بوعد اللّه تعالى الذي هو الأصدق قيلاً.

وقوله: {وَعْدَ اللَّهِ} أي وعد اللّه ذلك وعداً.

وقوله: {حَقًّا} حال أو وصف للوعد، أي وعداً ثابتاً لا خلف فيه.

وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ...} استفهام تقريري، أي هل هناك من هو أصدق من اللّه؟! وهذا تأكيد لتنجيزه الوعد؛ وذلك لأنّ الذي يخلف الوعد إما الكاذب أو الجاهل أو العاجز، فتارةً يريد الخداع فيعد بما لا يريد إنجازه، وتارةً يعد بما لا يتمكن من إنجازه لجهله بالمستقبل أو لعدم قدرته حين التنجز، واللّه تعالى منزه عن كل ذلك، فهو الصادق العالم القادر الحكيم في كل شؤونه.

وقوله: {قِيلًا} بمعنى القول، ونصبه على التمييز.

ص: 425

الآيات 123-126

{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُۥ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا 123 وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا 124 وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَٰهِيمَ خَلِيلًا 125 وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٖ مُّحِيطًا 126}

ثم يبين اللّه تعالى القاعدة العامة في الثواب والعقاب، سواء في الدنيا أم في الآخرة، وأنها بالعمل دون الأماني فلا يتوقعن أحد من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يحكم لصالحه مع بطلان عمله، ولا ينتظرنّ أحد من اللّه تعالى الثواب من دون عمل صالح، فقال:

123- {لَّيْسَ} هذا الوعد بالثواب والعقاب والقضاء {بِأَمَانِيِّكُمْ} جمع أمنية، وهي ما تتمناه النفس وترغب إليها {وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} بأنّ اللّه يغفر لهم لزعمهم أنهم أبناؤه وأحباؤه! بل {مَن يَعْمَلْ سُوءًا} أي عملاً سيّئاً {يُجْزَ بِهِ} عاجلاً أم آجلاً {وَلَا يَجِدْ} عامل السوء {لَهُۥ} لنفسه {مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا} يلى أمره بما يُحب {وَلَا نَصِيرًا} من عذاب اللّه.

124- {وَ} في المقابل {مَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ} من جنسها {مِن

ص: 426

ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ} «من» بيانية لإفادة العموم {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} سليم العقيدة، فالطاعة وحدها من دون إيمان لا تنفع {فَأُوْلَٰئِكَ} المؤمنون العاملون بالصالحات{يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} وهي النقرة في ظهر النواة، كناية عن القِلة، فلا ظلم حتى القليل منه.

125- ثم يرغّب اللّه تعالى في الإيمان والعمل الصالح {وَمَنْ} استفهام تقريري، أي لا يوجد أحد {أَحْسَنُ دِينًا} أي طريقة في العقيدة والعمل {مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ} أي أخضع نفسه وذاته {لِلَّهِ} هذا في العقيدة، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله بإطاعته وانقياده، {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ} طريقة {إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا} حال من إبراهيم وهذا في رفض العقائد والأعمال الباطلة.

{وَ} أما لزوم اتباع ملة إبراهيم فلأنه {اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَٰهِيمَ خَلِيلًا} أي حبيباً، وذلك لطاعته للّه، فما يمنعكم عن اتباع ملّته كيما يحبكم اللّه ويرضى عنكم؟!

126- {وَ} أما لزوم إسلام الوجه للّه تعالى فلأنّه {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فكل النفع بيده لمن يريد النفع، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٖ مُّحِيطًا} بعلمه وقدرته، فهو المالك لكل شيء والعالم بكل أحد وفعل والقادر على ما يريد فاطلبوا مرضاته لتنالوا ثوابه.

بحوث

الأول: في ختام هذا القسم من سورة النساء يبيّن اللّه تعالى القاعدة العامة في الثواب والعقاب، بأنّ الميزان في ذلك العقيدة والعمل لا بالأماني الزائفة التي لا واقع لها، فالتوهمات هي في عالم الذهن ولا تأثير لها في عالم الخارج، مع ارتباط هذه الآيات بما قبلها وبشأن نزولها كما سيأتي بيانه.

ص: 427

1- فالعمل السيّئ لا فرق فيه بين من صحّت عقيدته أم فسدت، فينال من ارتكبه جزاءه، ولا أحد من دون اللّه ينقذه عن ذلك الجزاء، نعم لو شاء اللّهمغفرته غفر له وأذن للشفعاء بأن يشفعوا له، وقد ذكر في الآيات السابقة أنه مع بطلان العقيدة لا مغفرة أبداً فيجازى على كل أعماله السيئة بلا استثناء، وأما من صحت عقيدته وزلّ في بعض الأعمال فلا أحد يلي أمره وينصره من دون اللّه، إلاّ أنّ اللّه قد يغفر له بمحو ذلك السوء فينتفي العقاب بانتفاء موضوعه.

ويحتمل - بقرينة المقابلة - أن يكون المراد من (السوء) الشرك.

2- وأما العمل الصالح إذا صدر عن مؤمن فجزاؤه الجنة، ولا يبخسون من ثوابهم الموعود شيئاً.

وبعد ذلك يتم بيان الميزان في الإيمان والعمل الصالح، وحاصله: الخضوع والانقياد التام للّه تعالى، ورفض كل انحراف سواء في العقيدة والعمل، ثم الإحسان في الأعمال.

الثاني: قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ...} الآية.

أما ارتباط الآية بما قبلها فقد قيل: حيث كان الكلام حول قضاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحكمه وأن قوم أبي طعمة طمعوا في أن يحكم النبي لصالح صاحبهم السارق، فإنّ البعض يتوهمون أنّ لهم حقاً على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإسلامهم أو بسابقتهم أو بخدماتهم فيزعمون أنه لا بد من مراعاتهم سواء كانوا على حق أم باطل! بيّن اللّه تعالى بأنّ الحكم إنما يكون بالحق لا بالمحسوبيات والمنسوبيات، فلا يُمنينّ أحد نفسه بالأماني الخادعة بالجور!

قوله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} اسم ليس الضمير المقدّر الراجع إلى الوعد

ص: 428

المذكور في الآية السابقة، ويمكن تقدير الاسم بما يناسب سياق الكلام مثل: ليس الأمر والشأن في الثواب والعقاب، ونحو ذلك.وقوله: {بِأَمَانِيِّكُمْ} خبر ليس، ويتعلق ب (كائن) أو (ينال) ونحو ذلك مما يناسب السياق، فيكون حاصل المعنى: ليس ما وعدناه يُنال بالأماني، والأماني جمع أمنية من مادة (م ن ي) ومنه التمني، والمراد منها رغبات النفس ومشتهياتها، والخطاب للمسلمين، وقيل: الخطاب للمشركين!

وقوله: {وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} حيث كانوا يزعمون أنهم أبناء اللّه وأحباؤه وأنه لن تمسهم النار إلاّ أياماً معدودة، ونحو ذلك من المزاعم الباطلة.

وقوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا} إنما خصّ الكلام بالعمل دون العقيدة؛ لأنّ المقصود في هذه الآية العمل، وأما العقيدة السيئة فقد ذكرت في الآية 116 في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}.

وقوله: {يُجْزَ بِهِ} أي بذلك العمل لا بغيره، كما أنّ المُجازى هو العاصي دون غيره، وهذا من عدل اللّه تعالى.

ثم إنه إن كان الخطاب في (أمانيكم) إلى المشركين فالجزاء واضح؛ لأنّ المغفرة لا تناله لشركه، فيعاقب على شركه وعلى جميع معاصيه الكبيرة والصغيرة، فإنّ الكافر مكلّف بالفروع كتكليفه بالأصول، كما مرّ، وأما لو كان الخطاب للمسلمين فالجزاء بالسوء مقيّد بما إذا لم يرض اللّه عنه؛ إذ لو رضي عنه أذن في شفاعته وغفر له فلا يُجازى على سوئه.

والحاصل أنّ الوعيد بالعقاب يشمله، ولا ضمان له بالمغفرة؛ لأنه علّقها

ص: 429

على المشيئة.

وقوله: {مِن دُونِ اللَّهِ} أي من غيره سبحانه ومستقلاً عنه، أما لو شاء اللّهالمغفرة والشفاعة فهذا يجد له بإذن اللّه ولياً ونصيراً.

والفرق بين الولي والنصير قد مرّ، فالولي هو في الجانب الإيجابي، أي يلي أمره بما يُحب، والنصير في الجانب السلبي بدفع العذاب عنه.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ...} الآية.

حيث كان الكلام حول العمل فلذلك ذكر جزاء العمل بالصالحات، فقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ذُكر عرضاً لبيان أنّ الأعمال وحدها غير كافية للثواب، بل لا بد من صدورها من المؤمن، وأما الكافر فعمله محبط لا ثواب فيه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَلِقَاءِ الْأخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ}(1)، وقال: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(2).

وقوله: {مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ} «من» تبعيضيّة، فإنّ اللّه تعالى إذا قبل حسنة واحدة أدخل صاحبها الجنة كما ورد هذا المعنى في بعض الأحاديث(3).

وقوله: {مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ} «من» بيانية لإفادة العموم، دفعاً لتوهم أهل

ص: 430


1- سورة الأعراف، الآية: 147.
2- سورة الفرقان، الآية: 23.
3- المحاسن: 253 «عن إسماعيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إنّ ربكم لرحيم يشكر القليل، إنّ العبد ليصلي ركعتين يريد بهما وجه اللّه فيدخله اللّه الجنة، وإنه ليتصدق بالدرهم يريد به وجه اللّه فيدخله اللّه به الجنة».

الجاهلية بأنّ أعمال النساء الحسنة ينال الرجال ثمرتها! فيقال لهم: إنّ موازين اللّه تعالى هي أنّ جزاء العمل للعامل، إن خيراً أو شراً، وأنه لا تزر وازرةوزر أخرى، فإنّ من الظلم أن يكون العامل شخصاً وأن ينال الثواب أو العقاب شخص آخر لا دخل له في ذلك العمل، نعم قد مرّ أنّ الإنسان قد يظلم غيره فيكافأ بنقل حسناته إلى المظلوم أو نقل سيئات ذاك إليه، فصار العمل عمله ولذلك يجازى عليه، فراجع.

وقوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} أي لا يبخسون حقهم الذي صار حقاً لهم بوعد اللّه تعالى لهم، فإنّ من الظلم عدم الوفاء بالوعد، وإن كان أصل الوعد تفضلاً.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلَّهِ...} الآية.

هذا كالتعليل لجزاء المؤمن العامل بالصالحات الجنة، كما أنّ فيه حثاً عليهما.

وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ} في التقريب: وإنما لم يكن أحد أحسن ديناً من هذا الإنسان؛ لأنّ الإيمان اعتراف بالحقيقة الكبرى، والإحسان عمل بما هو الأصلح، إذ ما يقرّره الإله العليم الحكيم أحسن ممّا يقرره الإنسان الجاهل ذو الطيش والسفه(1).

والآية تتضمن ثلاثة مقاطع:

1- {أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلَّهِ} أي أخضع وأخلص ذاته للّه تعالى، و(الوجه) كناية عن الذات؛ لأنها أشرف مواضع الجسد وفيها يُرى غاية الخضوع،

ص: 431


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 552.

وهذا الجانب الإيجابي من العقيدة بالخضوع للّه خضوعاً مطلقاً.

2- {وَهُوَ مُحْسِنٌ} هذا في الجانب العملي، بأن يأتي بالأعمالالصالحة، وذلك إحسان للنفس، في مقابل من يظلم نفسه بعمل السيئات.

3- {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا} هذا في الجانب السلبي بعدم العقيدة الباطلة وعدم ارتكاب الأعمال السيئة، وملة إبراهيم (عليه السلام) وإن كانت أعم، إلاّ أنّ الظاهر أنّ المراد هنا جانب النفي منها لذا قيده بقوله: {حَنِيفًا}، أي مائلاً من الباطل إلى الحق، فتأمل.

الخامس: قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَٰهِيمَ خَلِيلًا}.

هذا كالتعليل للزوم اتباع ملة إبراهيم (عليه السلام) ، فإنّ إبراهيم انقاد للّه تعالى في كل شيء لذا صار خليلاً له، فأنتم أيضاً اتبعوا طريقة إبراهيم ليحبكم اللّه تعالى ويجازيكم الجنة والرضوان، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُۥ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُۥ}(1)، وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}(2).

وقوله: {خَلِيلًا} من الخلة بمعنى الصداقة العميقة التي تنفذ في القلب، والمقصود هنا أنّ اللّه أحبه كما يحب الخليل خليله، واختصه بكرامة ككرامة الخليل عند خليله.

ص: 432


1- سورة الممتحنة، الآية: 4.
2- سورة آل عمران، الآية: 31.

وفي الروايات بيان أسباب اتخاذه خليلاً(1)، منها: كثرة سجوده، وصلاته بالليل والناس نيام، وأنه لم يسأل أحداً إلاّ اللّه، وكثرة صلاته على محمد وأهل بيته، وإطعامه الطعام، وأنه لم يرد سائلاً.السادس: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ...} الآية.

هذا كالتعليل لوجوب إسلام الوجه للّه تعالى، فإنه الخالق والمالك لكل شيء والعالم بكل شيء، والقادر على كل شيء، فهو الرب الذي لا بد من الخضوع له والانقياد إليه وعبادته.

والحاصل الأحسن هو اتباع دين اللّه المالك لكل شيء عرفاناً بالجميل وشكراً له، كما أنّ من يبتغي النفع فعنده تعالى كل النفع، ومن يُرد التخلص من الضرر فكل الأمور بيده سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}(2)، وقال: {لَهُۥ مَقَالِيدُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ}(3)، وقال: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ}(4)، وغيرها من الآيات.

وقوله: {بِكُلِّ شَيْءٖ مُّحِيطًا} أي إحاطة علم وقدرة، إذ المحيط عالم بالمحاط به وقادر عليه، وليست إحاطة جسمانية؛ لأنه سبحانه ليس بجسم ولا حدّ له.

ص: 433


1- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 226.
2- سورة فاطر، الآية: 10.
3- سورة الشورى، الآية: 12.
4- سورة النساء، الآية: 134.

الآيات 127-130

اشارة

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى النِّسَاءِ الَّٰتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا 127 وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 128 وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا 129 وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمًا 130}

وحيث أمر اللّه رسوله أن يحكم بما أراه اللّه ولا يتبع أهواء الناس، بيّن مثالاً آخر حيث كانوا يريدون من الرسول تغيير أحكام اللّه في النساء، وكذلك كما أمر الرسول بالحكم بالعدل كذلك يأمر الناس بالعدل فقال:

127- {وَيَسْتَفْتُونَكَ} أي يسألونك عن الفتوى {فِي} أحكام {النِّسَاءِ} وكأنَّ مقصودهم تغيير الأحكام فيهن، {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} يبيّن حكمهن في الميراث وفي غيره، لا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، حتى تتوقعوا منه التغيير، {وَ} كذلك اللّه يفتيكم في سائر الأحكام من {مَا يُتْلَىٰ} يقرأ {عَلَيْكُمْ فِي

ص: 434

الْكِتَٰبِ} حيث ذكر أحكامهن في أوائل هذه السورة وفي سورة البقرة وذلك {فِي يَتَٰمَى النِّسَاءِ} أي اليتيمات اللاتي بلغن سن النكاح {الَّٰتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} أي مواريثهن {وَتَرْغَبُونَ أَنتَنكِحُوهُنَّ} حيث كان الرجل يربّي اليتيمة، فإذا بلغت وكانت جميلة تزوجها وأكل إرثها، وإن كانت دميمة عضلها وتربص موتها لأكل أموالها، {وَ} كذلك يفتيكم اللّه في {الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَٰنِ} كما مرّ في أوائل السورة، حيث كان الجاهليون يمنعونهم الإرث بزعم أنهم لا يقاتلون والإرث خاص بالحامي المقاتل حسب زعمهم، {وَ} يفتيكم اللّه تعالى في {أَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ} عامتهم سواء من النساء أم المستضعفين أم غيرهم، وسواء في أموالهم أم أنفسهم {بِالْقِسْطِ} أي بالعدل، {وَ} كل ذلك من الخير الذي هو في صالحكم فكل {مَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} فيجازيكم عليه أحسن الجزاء.

128- ومع أنّ اللّه تعالى حدّ حقوق كل طائفة، لكن يمكن صاحب الحق أن يتنازل عن حقه لمصلحة أهم، {وَ} من ذلك: {إِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا} زوجها {نُشُوزًا} ترفعاً وتجافياً عنها بمنع حقها في القَسم والنفقة {أَوْ إِعْرَاضًا} عنها بأن يهملها فلا يتكلم معها ولا يؤانسها أو يتعامل معها بجفاء {فَلَا جُنَاحَ} لا إثم {عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} أيَّ نوع من أنواع الصلح المشروع كأن تهب المرأة بعض حقوقها، {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} لهما من الطلاق، ومن ارتكاب المحرّم بمنع الحقوق، {وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ} أي جُبلت على طبيعة الشُح، فالشُح حاضر لديها ولا ينفك عنها،

ص: 435

والمقصود بيان صعوبة الصلح عليهما؛ لأن النفوس شحيحة على حقوقها، هذا بالنسبة إلى المرأة، {وَ} أما الرجل ف {إِن تُحْسِنُواْ} بأن تعاشروهن بالمعروف وتصبروا على ما تكرهونه منهن {وَتَتَّقُواْ} عن المحرمات بأن تؤدوا حقوقهن {فَإِنَّ اللَّهَ} يجازيكم أحسنالجزاء؛ لأنه {كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} يعرف بواطنكم ونواياكم.

129- ثم المطلوب من الرجال العدل بين الزوجات في القَسم والنفقة، وأما العدل حتى في الميل القلبي فذلك غير ممكن لهم فلذا لم يكلّفوا به، {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ} عدلاً في كل شيء حتى في المساواة في المحبة {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} وحاولتهم بشدة؛ لأن ميل القلوب غير اختياري غالباً، فالقلب يميل إلى الجميلة المطيعة حسنة الأخلاق وينفر من الدميمة المتمردة السيئة الأخلاق مثلاً {فَلَا تَمِيلُواْ} عن إحداهن التي لا ترغبون فيها {كُلَّ الْمَيْلِ} أي الميل في كل شيء حتى القَسم والنفقة {فَتَذَرُوهَا} أي تتركونها {كَالْمُعَلَّقَةِ} أمرها غير محسوم فلا هي مستريحة بالزوج ولا هي غير ذات زوج، والمرأة التي لا يمرّ عليها زوجها ولا ينفق عليها تبقى معلقة حائرة، فلا هي تعيش حياة الأزواج ولا حياة العازبات، {وَإِن تُصْلِحُواْ} ما فسد بينكم وبين زوجاتكم {وَتَتَّقُواْ} اللّه في أحكامه بإيتائهن حقوقهن {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} لما ليس في اختياركم أو لما مضى منكم من جفاء {رَّحِيمًا} بالثواب حيث أصلحتم وأطعتم.

130- {وَ} إن لم يمكن الإصلاح أو كانا لا يريدانه ف {إِن يَتَفَرَّقَا} بالطلاق {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا} من الزوجين {مِّن سَعَتِهِ} وفضله بزوج وزوجة

ص: 436

آخرين وبعيش أهنأ ورزق أوسع، {وَكَانَ اللَّهُ وَٰسِعًا} عطاءً {حَكِيمًا} في تقديراته.

بحوث

الأول: لعل وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها هو أنّ الكلام كان في أنّعلى الرسول أن يحكم بما أراه اللّه تعالى، وأن لا يميل إلى الذين يختانون أنفسهم وما مرّ من تفاصيل أدت إلى ارتداد بعضهم مع بيان سبب ذلك بأنهم اتخذوا الشيطان ولياً من دون اللّه، وعاقبتهم إلى النار ولا تنفعهم أمانيهم...

بعد كل ذلك يبيّن اللّه تعالى مصداقاً آخر من أحكامه التي لم تكن تُعجبهم، وكانوا يرغبون في أن يغيّرها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي أحكام تتعلق بالأيتام والنساء، حيث أنزل اللّه في أوائل سورة النساء أحكاماً في الإرث والحقوق الأخرى كانت خلاف دأب الجاهليين، فجاؤوا إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) آملين أن يغيّر تلك الأحكام، فهذه الآيات تبيّن أنه لا تغيير لحكم اللّه تعالى، فالفتوى من اللّه ولا بد من الالتزام بها.

ويمكن أن يكون وجه الربط هو أنّ الرسول يحكم بالعدل بما أراه اللّه تعالى، فكذلك يلزم عليكم الحكم بالعدل فيما في أيديكم وفي المحكومين بحكمكم كالأيتام والنساء.

وكان سؤالهم عن النساء فضمّ اللّه تعالى التأكيد على الأحكام النازلة في يتامى النساء والأولاد المستضعفين وفي عامة اليتامى؛ لأنهم لم يكونوا يرغبون في كل هذه الأحكام، وإن كان مورد كلامهم في خصوص حقوق

ص: 437

النساء، لكن في نيتهم أو ممارستهم هضم حقوق كل ضعيف من النساء والولدان واليتامى!

ثم بعد ذلك يبيّن اللّه سبحانه كيفية حل الخلاف بين الزوجين، وذلك بتنازل كل طرف عن بعض حقوقه، وإلاّ فالطلاق أسلم بهم!الثاني: قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}.

هذه الآية ناظرة إلى الآيات النازلة في أول سورة النساء في أحكام النساء وحقوقهن، وقال القمي في تفسيره في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَٰمَىٰ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ}(1)، قال: نزلت مع قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ...} الآية(2) يعني نزلت متصلة بتلك الآيات وبعدها حيث ثقل على الناس أحكامها فجاؤوا مستفتين فنزلت هذه الآية.

وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ} أي يطلبون منك الفتوى، و(الفتوى) هي تبيين الحكم وخاصة المشكل منه، وليس كونه مشكلاً داخلاً في مفهوم الفتوى، بل كل بيان للحكم فتوى، نعم الاستفتاء غالباً فيما أشكل عليهم، إذ لا يستفتى الناس عادة في الواضحات عندهم.

وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} يظهر أنهم كانوا يريدون من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يغيّر أحكامهن، إذ كان قبولها صعباً عليهم جداً، فيجيبهم اللّه بأن الفتوى لم تكن من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل كانت من اللّه سبحانه، فهو الذي شرّع هذه

ص: 438


1- سورة النساء، الآية: 3.
2- تفسير القمي 1: 127.

الأحكام فلا حق لأحد في تغييرها، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن فوّض اللّه تعالى إليه التشريع لكنه يشرّع بما ألهمه اللّه تعالى وحسب المصلحة الواقعية، ولا يعقل أن يعارض تشريع اللّه تعالى أو أن يشرّع حسب أهواء الجاهليين!

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى النِّسَاءِ...}الآية.

الظاهر أنّ {وَمَا يُتْلَىٰ} عطف على ضمير {فِيهِنَّ} فالمعنى يفتيكم اللّه في النساء وفي ما يتلى عليكم في يتامى النساء، أي في الآيات السابقة في أول سورة النساء، وعلى هذا فالمعنى واضح، أي اللّه تعالى هو الذي يفتيكم في ثلاثة مواضيع: في النساء، وفي يتامى النساء، وفي عامة اليتامى، فالحكم هو حكم اللّه تعالى ولا تبديل له، وهذا من عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور من غير تكرار حرف الجرّ، نظير قولنا: صلى اللّه عليه وآله، وهذا ما أجازه بعض النحاة وهو الصحيح، فيكون حاصل المعنى: أن ما ذكرناه لكم سابقاً وهو يتلى الآن غير منسوخ، بل هو حكم اللّه.

لكن حيث إنّ بعض النحاة لم يجيزوا ذلك فاختلفت كلماتهم في المعطوف عليه، فقيل: {وَمَا يُتْلَىٰ...} عطف على {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} فيكون المعنى أنّ اللّه والقرآن يفتيان! فيكون نظير قولك: سمعت من زيد ولسانه، وقولك: أضافني زيد وكرمه.

وقيل: {مَا يُتْلَىٰ...} عطف على {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} بتقدير أنزل، أي اللّه يفتى في النساء وقد أنزل أحكام اليتامى في القرآن، وقيل: غير ذلك، وما ذكرناه أظهر وأقرب إلى ظاهر الآية.

ص: 439

وقوله: {فِي الْكِتَٰبِ} أي الآيات النازلة في أول سورة النساء (الآية 4) والنازلة في سورة البقرة (الآية 216).

وقوله: {فِي يَتَٰمَى النِّسَاءِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي النساء اللاتي كنّ يتامى فبلغن الآن، كما يقال: الرجل اليتيم، أي الذي كان يتيماً.وقوله: {مَا كُتِبَ لَهُنَّ} من الميراث في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ...}(1).

وقوله: {تَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} رغب إن تعدّى ب (في) كان بمعنى المحبة يقال: رغب فيه، أي أحبه وأراده، وإن تعدّى ب (عن) كان بمعنى الإعراض عن الشيء، والظاهر أنه أريد هنا المعنيين لذلك لم يذكر حرف الجر، فترغبون في نكاحهن إن كن جميلات، وترغبون عن نكاحهن إن كن دميمات، وليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل يراد بالرغبة المعنى العام الجامع لهما، بل قد ذكرنا في الأصول أنه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

وقوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَٰنِ} الظاهر أنّ المراد بهم اليتامى من الأطفال حيث كانوا يمنعونهم حقهم في الإرث بزعم أنهم لا يتمكنون من القتال وحماية القبيلة فلا إرث لهم، مع أنّ الإرث ليس في مقابل القتال والدفاع، بل هو حق مالي، لا فرق فيه بين المقاتل وغيره، وبين الرجل والمرأة، وبين الكبير والصغير.

وقوله: {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِالْقِسْطِ} عطف على ضمير {فِيهِنَّ}

ص: 440


1- سورة النساء، الآية: 11-13.

فالمعنى قل اللّه يفتيكم في النساء وفي يتاماهن، وفي مطلق اليتامى بأن تقوموا فيهم بالقسط.

وقيل: هو عطف على {فِي يَتَٰمَى النِّسَاءِ} أي وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي قيامكم في عامة اليتامى بالقسط.وقوله: {بِالْقِسْطِ} أي العدل، وأصله بمعنى القسمة والنصيب، فإنّ من العدل إعطاء كل صاحب نصيب نصيبه، ولا يخفى أن {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِالْقِسْطِ} أبلغ من (أن تقسطوا).

والحاصل أنه لا مطمع لهم في تغيير هذه الأحكام وعليهم الإطاعة والتسليم لها.

وقوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ...} هذا تسكين لهم وحث لهم على الإطاعة في هذه الأحكام، ببيان أنها خير للجميع حتى إنها خير لهم، فالمجتمع الذي يُبنى على العدل وعلى حفظ حقوق الضعفاء مجتمع سليم يتمتع بأمنه وسلامته الجميع حتى الكبار والأقوياء، وعكسه المجتمع الذي يبنى على هضم الحقوق وسلب الأقوى لحق الأضعف، فإنه مجتمع سقيم وضرره يرجع إلى الجميع بما فيهم الأقوى، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»(1).

الرابع: قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا...} الآية.

لمّا أمر اللّه تعالى الرجال بوجوب مراعاة حقوق النساء التي فرضها اللّه تعالى لهن أراد بيان كيفية التعامل مع حالتين:

ص: 441


1- نهج البلاغة، الخطبة: 15.

الحالة الأولى: حالة الشح بأن لا يريد الرجل إعطاء حق المرأة من النفقة، ولا تريد المرأة التنازل عن حقها، فهنا يبين اللّه حكمهما:

أما المرأة: فالأفضل أن تتصالح مع الرجل بأن تتنازل عن حقها أو بعضه لإبقاء عش الزوجية، لكن هذا ليس بواجب عليها، وإنما هو خير لهما ولاإثم عليها فيه.

وأما الرجل: فعليه أن يحسن إليها ويتقي اللّه بإعطائها حقها إن لم تتنازل عنه.

والحاصل أنه الأفضل للمرأة التنازل والصلح مع الزوج، وإن لم تتنازل فلا بد للرجل من إعطائها حقها كاملاً غير منقوص.

الحالة الثانية: حالة عدم المحبة القلبية، بأن كان للرجل زوجتان أو أكثر فمال قلبه إلى إحداهن، فهنا لا يكلّف بتساوي المحبة فإنها غالباً غير اختيارية، ولا يكلّف اللّه بما لا يطاق، وإنما يجب على الرجل أن يعدل في الأمور الظاهرية من القَسم - أي المبيت عند الزوجة - والأمور المالية، فعليه أن يُصلح عمله ويتقي اللّه سبحانه بأداء جميع ما وجب عليه، ولو كان الرجل يكره المرأة ولا يحب إعطاءها حقها في القسم والنفقة فيمكنه طلاقها، فهو وإن كان أبغض الحلال إلى اللّه تعالى كما في بعض الأحاديث(1) إلاّ أنه أولى من ارتكاب الحرام في حقوق الزوجة.

وقوله تعالى: {خَافَتْ} بأن رأت أمارات النشوز فيه، فإنّ حلّ المشكلة من أوان ظهور علائمها أفضل من تركها حتى تستفحل وتتجذّر.

ص: 442


1- الكافي 6: 54.

وقوله تعالى: {بَعْلِهَا} أي زوجها، قيل: في مادة البعل نوع استعلاء وقيمومة!

نشوز الزوج

وقوله تعالى: {نُشُوزًا} من نشز بمعنى ارتفع، أي تجافى وترفع عن أداء حقوقها في الفراش والنفقة، ولا يخفى أنّ الآية 34 بينت حكم نشوزالزوجة، حيث قال تعالى: {وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، وهذه الآية تبيّن حكم نشوز الزوج، وقد ذكر بعض الفقهاء أنّ الموعظة والهجران والضرب مشترك بين النشوزين، كما أنّ التنازل عن الحق أو بعضه والصلح أيضاً مشترك، إلاّ أنّ الآيتين بينتا الغالب الممكن فالزوجة لا يمكنها غالباً من الهجران والضرب، بل قد لا ينفعها الهجران إذا كان له زوجة ثانية، والزوج عادة لا يتنازل عن حقه، فلذلك ذكر في كل نشوز الحالة الغالبة والتي يمكن أن تصلح الأمر بينهما.

وقوله تعالى: {أَوْ إِعْرَاضًا} أي في غير الحقوق الواجبة كالمودة والرحمة والإحسان إليها، بل وإرادة طلاقها أيضاً داخل في الإعراض عنها.

وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي يجوز بأن يصلحا وليس بواجب، وهذا الصلح يكون عادة بتنازل المرأة عن حقوقها أو بعضها، لكن لا ينفع التنازل إلاّ لو وافق الزوج عليه ولذا كان الصلح بينهما.

وقوله: {صُلْحًا} مفعول مطلق للتأكيد، والغرض منه التعميم لكل نوع من أنواع الصلح المشروع.

وقوله: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} هذه قاعدة عامة تشمل العلاقات الاجتماعية والعقود وغيرهما، فهو أفضل من الخصومة في كل شيء، فيكون كالتعليل

ص: 443

لتشريع الصلح ههنا، فيقال: لا بأس بأن يتصالح الزوجان؛ لأنه خير دائماً.

وقوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ} بيان لصعوبة الإصلاح الذي يتوقف على التنازل عن الحقوق، فطبع الإنسان أنه شحيح بحقوقه لا يرغب في التنازل عنها، ولعل المقصود هو الحث على الإصلاح ببيان المانع عنه، فإنّالإنسان لو عرف السبب المانع عن المعروف لعلّه يتداركه ويتجاوزه، فالتذكير بأن النفوس جُبلت على الشُح وأن طبيعتها ذلك يسهل على الإنسان تجاوزه وصولاً إلى الإصلاح، كما لو رأينا شخصاً لا ينفق ماله في سبيل اللّه، فقلنا له: إنّ سبب ذلك البخل، فإنّ لذلك تأثيراً كبيراً في قراره بالإنفاق، واللّه العالم.

و{الشُّحَّ} هو الإفراط في الحرص على الشيء، ويكون بالمال وبغيره من الأغراض، فيقال: شحيح بمودتك، أي حريص على دوامها ولا يقال: بخيل، فإن البخل يكون بالمال خاصة(1)، وقيل: الشُح في نفس الإنسان ليس بمذموم؛ لأنها طبيعة خلقها اللّه تعالى في النفوس، وإنما المذموم أن يستولي سلطانه على القلب فيطاع، وقيل: إذا انتهى سلطانه إلى القلب واستولى عليه عرّى القلب عن الإيمان؛ لأنه يشح بالطاعة فلا يسمح بها ولا يبذل الانقياد لأمر اللّه تعالى.

وقوله: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ} هذا خطاب للرجل خاصة، فالآية في البداية أرشدت المرأة التي تخاف نشوز زوجها بأن تتصالح معه بالتنازل، ثم بعد ذلك تبيّن الآية تكليف الزوج بأنه لا يجوز له أن ينشز على المرأة

ص: 444


1- معجم الفروق اللغوية: 296.

بمنعها حقها كما يقبح عليه أن يعرض عنها، بل عليه أن يحسن إلى المرأة فإنها كالأسيرة لديه، والإحسان بالمودة والرحمة ونحوهما، كما عليه أن يتقي اللّه في حقوقها فلا يبخس منها شيئاً.

وقوله: {خَبِيرًا} لأنه يعرف البواطن والنوايا، فقد يمكر أحدهما بالآخرفي ظاهر إصلاح أو إحسان، لكن ذلك لا يخفى على اللّه تعالى، فعليهما أن يطيعاه في كل ما أمر ونهى بل وما ندب وكره.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ...} الآية.

علاج لأحد أهم أسباب المشاكل الزوجية، حيث إنّ المحبة القلبية ليست في اختيار الإنسان عادة، فقد يميل لزوجة دون أخرى لجمالها أو حسن أخلاقها أو توافق طبيعتهما أو لغير ذلك من الأمور، وحتى الذي له زوجة واحدة قد لا يحبها، فهنا يبيّن اللّه تعالى أنّ الحقوق لا ترتبط بالمحبة القلبية، بل على الزوج أن يؤدي حق الزوجة وإن كان كارهاً لها أو مفضلاً أخرى عليها، وبأداء الحقوق ترتفع غالب أسباب المشاحنة والبغضاء وتستقر الحياة الزوجية، بل قد تكون حسن المعاشرة منفذاً للمحبة، ولو استقر الكره في القلب بحيث خشي الزوج عدم أداء الحقوق فالحلّ الأخير هو الطلاق عسى اللّه سبحانه أن يقدر لكل منها عيشاً أهنأ وزواجاً أوفق.

وقوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ} بمعنى عدم القدرة عليه؛ لأنّ أسباب المحبة غالباً غير اختيارية.

وقوله: {أَن تَعْدِلُواْ} أي في كل شيء حتى في المحبة القلبية، وفي

ص: 445

تبيين القرآن: ولا يخفى أنّ هذه الآية تلائم الآية الأخرى، وهي قوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً}(1)، فإنّ تلك الآية لبيان وجوب العدل الميسور، وهذه الآية لبيان أنه فيما لا يمكن العدل بقول مطلق فعليكم بالعدل بالقدر الميسور، فالآيتان هكذا: إذا لم يتمكن الرجل من العدالة أصلاً فليأخذ واحدة، وإن تمكن من العدالة الممكنة فليعدل ولا يترك إحداهما بدون نصيب لها من العدل(2).

وقوله: {فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ} الظاهر بقرينة ما بعده هو الميل عنها، أي فلا تميلوا عن التي لا تحبونها كل الميل، أي في كل شيء حتى فيما تستطيعون من العدل فيه كالقَسم والنفقة، فإنهما لا يرتبطان بالقلب، فيمكن الإنسان أن يبيت عند من يكرهها وأن ينفق عليها كما يبيت وينفق على التي يحبّها.

وقوله: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي أمرها غير محسوم، فهي لها زوج لكنها كأنها لا زوج لها، فهي في عذاب مستمر.

وقوله: {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ} أي تصلحوا ما أفسدتموه فيما مضى، وذلك بأداء حقوقهن المالية التي في ذمتكم والتوبة والاستغفار في غيرها، وتتقوا بمراعاة حقوقهن فيما سيأتي، أو المعنى تصلحوا أمر العائلة بحسن معاشرة الجميع وتتقوا اللّه في تصرفاتكم معهن.

وقوله: {غَفُورًا رَّحِيمًا} قيل: الغفور هنا بمعنى أنه يستر عليكم ما لا

ص: 446


1- سورة النساء، الآية: 3.
2- تبيين القرآن: 110.

تتمكنون منه، وذلك بعدم العقاب وعدم الآثار الوضعية، والرحيم بمعنى أنه يوفق بينكم برحمته أو يثيبكم على مراعاة الحقوق.

السادس: قوله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ...} الآية.

بيان لحالة أخرى وهي عدم التصالح وصعوبة العيش معاً مع كراهةالزوج لها أو كراهتها له، فوصل الأمر إلى الشقاق، فهنا لو دار الأمر بين الوقوع في الحرام بعدم أداء الحقوق الواجبة وبين الطلاق، فالثاني أولى رغم أنه أبغض الحلال، وذلك لأنّ الوقوع في الحرام أشد بغضاً للّه تعالى.

وقوله: {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ} وعد لهما بحياة أحسن، فإذا كانت الكراهة موجودة وهي مستمكنة في النفوس فالعيشة غير هنيئة، فإذا انفصلا ملك كل منهما أمره في الزواج، وعسى أن تكون الزوجة الأخرى أوفق له، وكذا الزوج الجديد، بل نفسياً بعد فشل زيجة فإنّ كلاً من الزوجين يحاول إنجاح الزيجة الجديدة، فلذا قلّما تطلب الزوجة الطلاق من زوجها الثاني، بل تحاول الانسجام معه مستفيدة من تجربتها الأولى الفاشلة، وهكذا بالنسبة إلى الزوج.

والإغناء من سعته تعالى كما يشمل الحالة النفسية بزيجة جديدة، كذلك الأمر المادي وغيره.

وقوله: {وَٰسِعًا حَكِيمًا} وصفه بالسعة مجاز بمعنى كونه غنياً مقتدراً فهو واسع في إغنائه ورزقه، كما أنّ من حكمته هذه التشريعات والتقديرات.

ص: 447

الآيات 131-134

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا 131 وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا 132 إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بَِٔاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرًا 133 مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَا بَصِيرًا 134}

131- {وَ} يُستدل على كونه تعالى واسعاً حكيماً بأن {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فكل خزائنها له ولا مالك غيره، فهو القادر على إغناء كلٍ من الزوجين بفضل رحمته.

{وَ} حيث علمتم بهذه الأحكام فعليكم مراعاتها ف {لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} أصحاب الشرائع السماوية {مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} أي وكذلك وصيناكم {أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ} احفظوا أنفسكم من عقابه فأطيعوه في كل ما أمركم ونهاكم، ومن ذلك أحكامه في العِشرة الزوجية، {وَإِن تَكْفُرُواْ} كفراً في العقيدة أو كفراً في العمل بمعنى عدم الطاعة {فَ} لا يضر كفركم اللّه تعالى لعدم حاجته إليكم ف {إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا} عنكم وعن عبادتكم وطاعتكم {حَمِيدًا} محموداً

ص: 448

في ذاته وأفعاله سواء حمدتموه أم لا.

132-133- {وَ} إن اللّه قادر على تبديلكم بغيركم إن لم تطيعوه، إذ{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} حافظاً ومدبراً وقيوماً على خلقه ف {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يبدلكم {أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بَِٔاخَرِينَ} ناس آخرين يطيعون سواء بإفنائكم وخلقهم، أو بتأخيركم وتقديم غيركم ممن يطيعونه {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ} الإذهاب والإتيان {قَدِيرًا}.

134- ثم يحثّهم اللّه تعالى على الطاعة فيقول: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي خيرها {فَ} ليطلبها من اللّه تعالى إذ {عِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ} تُنال بالطاعة، وأما من لا يطيع فلا ينال الثوابين فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة! {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَا} لأقوالهم {بَصِيرًا} بأعمالهم، فيجازيهم عليها.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}.

ذكر هذا المقطع في هذه الآيات ثلاث مرات، بأغراض ثلاثة:

1- فحيث ذكر أنّ اللّه يغني الزوجين من سعته وأنه واسع بيّن أن سبب ذلك أنه مالك للسموات والأرض.

2- وحيث أمر بالتقوى ذكر أنّ كفرهم لا يضرّه تعالى؛ لأنه سبحانه مالك للسموات والأرض وهو غنيّ عنهم وعن إيمانهم.

3- وحيث أراد بيان أنه سبحانه الوكيل على خلقه وأنه قادر بتبديلهم بغيرهم ذكر سببه بأنه مالك للسموات والأرض.

ص: 449

والحاصل أنه تعالى قادر على الإغناء ولا يضرّه كفر خلقه ويمكنه استبدالهم؛ لأنه الخالق القادر على كل شيء، فقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِوَمَا فِي الْأَرْضِ} ليس من التكرار في شيء، وإنما تعليل لثلاثة أمور، وإنما لم يجمعها معاً للتأكيد ولأهمية كل واحد من الأمور الثلاثة التي علّلها بملكيته لهما، وغير خفي أنّ الوجود بأسره مجتمع في السموات والأرض يحيط بهما كرسيه وعرشه، فمعنى ذلك أنه لا مفرّ لهم ولا ملجأ لهم سوى اللّه تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ...} الآية.

بيان بأنّ الأمر بالتقوى حقيقة ثابتة غير قابلة للتغيير، لذلك كانت من الوصايا الدائمة في جميع الكتب السماوية، وليست من الأمور القابلة للتأخير لشرائع لاحقة، كما أنها ليست قابلة للنسخ؛ لأن (التقوى) من الوقاية بمعنى حفظ النفس من عقابه سبحانه، ويلازمها الخوف منه تعالى ولا يكون ذلك إلاّ بطاعته.

وقوله: {وَإِن تَكْفُرُواْ} بعدم الطاعة، ويكون ذلك تارة كفراً في العقيدة بترك عبادته وجحده أو الإشراك به، وتارة كفراً عملياً بعدم الامتثال في فروع الدين، ويدخل فيه كفران النعم بعدم شكرها.

وقوله: {فَإِنَّ لِلَّهِ...} من وضع السبب مكان المسبب اختصاراً، أي وإن تكفروا فلا يضرّه شيئاً؛ وذلك لأنه سبحانه مالك للسموات والأرض فلا يحتاج إليكم.

ص: 450

وقوله: {غَنِيًّا} هذا للتعميم، أي هو غني عنكم وعن غيركم، فكما لا يضرّه كفركم كذلك لا ينفعه إيمانكم، وإنما أمركم بالتقوى لحاجتكم لا لحاجته.

وقوله: {حَمِيدًا} لبيان أنّ أفعاله وأوامره إنما هي بحسب الحكمة، لذلك فغناه عنكم لا يعني العبث في الخلق أو الأمر تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، بل هو المحمود في أفعاله، بمعنى استحقاقه للحمد سواء حُمِد أم لم يُحمد، وسواء كان هناك حامد أم لم يكن.

الثالث: قوله تعالى: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ...} الآية.

أي وكيل عليكم، بمعنى القيّوم الحافظ والمدبر، فإنّ الوكالة إن تعدت ب (على) أفادت ذلك، وإن تعدت باللام أفادت البدلية، واللّه سبحانه مهيمن على خلقه، ولا مهيمن غيره؛ لأنه المالك للسموات والأرض فلذا لو أراد أن يستبدل بكم غيركم فهو قادر عليه، والاستبدال تارة يكون بالإفناء وإيجاد البديل - سواء كان من الإنس أم من غيرهم - كما أفنى النسناس وجعل الناس بديلاً عنهم في الأرض فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}(1)، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٖ جَدِيدٖ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٖ}(2). وتارة أخرى يكون الاستبدال بالتأخير والتقديم، بأن يؤخّر أناساً ويقدّم آخرين قال: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا

ص: 451


1- سورة البقرة، الآية: 30.
2- سورة إبراهيم، الآية: 19-20.

غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَٰلَكُم}(1).

الرابع: قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَاوَالْأخِرَةِ...} الآية.

لعل ربط الآية بما قبلها أنّ الكلام كان حول حكم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بما أراه اللّه وأنه لا ينخدع بمن يريد تغيير الأحكام بصالحه، وأنّ على المسلمين عدم تجاوز أحكام اللّه تعالى، بل العمل بها، وتمّ ذكر مثال لذلك هو محل ابتلاء عامة الناس، وهو أحكام النساء واليتامى، بعد ذلك يذكرهم اللّه تعالى بأنّ الذين يخالفون أحكامه إنما يقصدون المنافع الدنيوية من المال والرئاسة والراحة ونحو ذلك، فيقال لهم: إنّ الالتزام بأحكام اللّه تعالى سبب منفعتكم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنّ أحكامه تابعة للمصالح والمفاسد فأمر بما فيه المصلحة ونهى عمّا فيه المفسدة فطاعته جلب للمنفعة ودفع للمفسدة، وأما في الآخرة فجزاء المطيع بالجنة والرضوان وجزاء العاصي بالذل والنيران.

والحاصل أنّ العاصي يخسر الدنيا والآخرة حتى لو التذّ بالدنيا بسبب عصيانه، فليست كل لذة وشهوة نافعة، وأما المطيع فهو يفوز بهما حتى لو واجه صعوبات الدنيا، فليس خير الدنيا في مجرد لذة عابرة، فلذا المؤمن فائز بالدنيا؛ لأنه استفاد منها أحسن استفادة حيث ضمن فيها السعادة الأبدية حتى لو واجه المشاكل، كالتلميذ المُجدّ الذي يترك شهواته وينشغل بالدراسة ويقاسي صعوبتها، فهو الفائز دون التلميذ الذي صرف وقته في

ص: 452


1- سورة محمد، الآية: 38.

اللّهو واللذات، قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْأخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(1)، وأما الكافر فهو يتمتع بالدنيا، لكنمتعته ليست ثواباً له قال تعالى: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُۥ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(2)، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَٰمُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}(3).

ص: 453


1- سورة البقرة، الآية: 201.
2- سورة البقرة، الآية: 126.
3- سورة محمد، الآية: 12.

الآيات 135-138

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَٰلِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُۥاْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 135 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا 136 إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلَا 137 بَشِّرِ الْمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 138}

135- وحيث كان الكلام حول الحكم بين الناس بالحق وحول مراعاة حقوق الضعفاء بين اللّه سبحانه القاعدة العامة فقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} ليظهر إيمانكم على عملكم ف {كُونُواْ قَوَّٰمِينَ} أي دائمي القيام {بِالْقِسْطِ} أي العدل فلا تتركوه أبداً، وكونوا {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} أي اشهدوا بالحق لأجل مرضاة اللّه تعالى {وَلَوْ} كانت الشهادة {عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ} بضررها، وذلك بالإقرار بالحق الذي عليه {أَوِ} الشهادة على {الْوَٰلِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فاللّه أحق أن ترضوه، فلا تميلوا عن الحق لمصلحة أنفسكم أو قراباتكم، {إِن يَكُنْ} كل واحد من هؤلاء وغيرهم {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَ}

ص: 454

لا يمنعكم غناه من الشهادة عليه طلباً لرضاه، أو من الشهادة له بزعم عدم حاجته، ولا يمنعكم فقره من الشهادة عليه شفقة له، أو من الشهادة لهاستهانة به، وذلك لأنّ {اللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا} من أنفسهما، أي أنظر لهما وأرحم بهما حينما أمر بالشهادة بالحق والعدل، فوصول ذي الحق إلى حقه ومنع المبطل من الوصول إلى الباطل أصلح لهما وأحسن، وحيث علمتم أنّ الميزان الحق لا القرابات ولا الاعتبارات الأخرى {فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ} بالشهادة الباطلة، {أَن تَعْدِلُواْ} أي لأجل أن تقوموا بالعدل، أو مخافة العدول عن الحق، {وَإِن تَلْوُۥاْ} ألسنتكم بتبديل الشهادة بأن تحرفوها عن الحق إلى الباطل {أَوْ تُعْرِضُواْ} عن الشهادة بكتمانها، يجازيكم اللّه على ذلك {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

136- ولا يمكن القيام بالقسط والشهادة للّه إلاّ بعد الإيمان الحقيقي النافذ في القلب ف {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} إيماناً بألسنتهم أو إيماناً إجمالياً {ءَامِنُواْ} بقلوبكم أو بالتفصيل {بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ} وهو القرآن {وَالْكِتَٰبِ} نوع الكتاب فيشمل جميع الكتب السماوية {الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ} فلا يجوز التفريق بين الأنبياء وكتبهم غير المحرّفة، والإيمان بها يستلزم الإيمان بسائر الرسل وبالملائكة وبيوم القيامة، {وَمَن يَكْفُرْ} بالجحد أو بالمعاداة {بِاللَّهِ وَمَلَٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَقَدْ ضَلَّ} عن طريق الهداية والجنة {ضَلَٰلَا بَعِيدًا} فلا يرجى له الفوز أبداً، إذ اللّه تعالى لا يغفر الشرك أبداً إلاّ لو تاب توبة صادقة.

137- ولا بد من ترسخ حالة الإيمان في القلب، وإلاّ فالإيمان السطحي

ص: 455

معرض للزوال في كل هزّة ف {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} مذبذبين بين الإيمان والكفر {ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا} بأن تجذّر الكفر والنفاق في قلوبهم {لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وذلك لكفرهم الباطني مععدم نفع إيمانهم الظاهري أو إيمانهم ببعض الأصول المذكورة دون بعض {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلَا} وذلك بقطع ألطافه عنهم في الدنيا لعدم قابليتهم، وبعدم سوقهم إلى الجنة؛ لأنه حرّمها على الكفار لحكمته سبحانه.

138- وأما عاقبة هؤلاء فإلى النار ف {بَشِّرِ الْمُنَٰفِقِينَ} أي أنذرهم، والبشارة هنا للتهكم بهم {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.

بحوث

الأول: لعل وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها هو أن اللّه تعالى لمّا أمر رسوله (في الآيات 105-115) بالحق حيث قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ...} الآيات، ولمّا أمر الناس بمراعاة حقوق الضعفاء (في الآيات 127-134)، بعد ذلك أراد بيان القاعدة العامة لهم وهي: القيام الدائم بالقسط والشهادة لوجه اللّه ولو كان فيها ضرر النفس أو الأبوين أو الأقرباء، ولا يمكن ذلك إلا بتجذّر الإيمان في أعماق القلب بحيث يكون ذلك الإيمان هو الذي يُسيّر الإنسان في فكره وعمله، مع بيان أنّ الإيمان بالأصول وحدة واحدة، فلا يتحقق إلا بالإيمان بجميع أصول الدين، بحيث لو لم يؤمن بواحد منها فقد كفر، ومع تحذير المؤمنين من صداقات مع الكفار ومن الجلوس في مجالس السوء التي يستهزأ فيها بآيات اللّه ويكفر بها، فإنّ الصداقات والمجالس تؤثر في الإنسان أثراً كبيراً،

ص: 456

فعلى الإنسان إيجاد الأجواء الإيمانية المناسبة له ليتعمق الإيمان في قلبه بحيث لا يبقى مجالٌ للّهوى، وحينئذٍ فيقوم بالقسط ويشهد للّه ومن كان كذلك لا يجور ويؤدّي الحقوق.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ...} الآية.

قد مرّ أنّ الجميع مكلّف، وإنما خصّ الخطاب بالمؤمنين تشريفاً لهم ولأنهم المنتفعون به، ويأمرهم اللّه تعالى بأمرين:

1- {قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ} أي ليكن قيامهم بالقسط دائماً وفي جميع القضايا، ف (قوّام) صيغة مبالغة بمعنى الكثرة، ولا يخفى أنّ قولهم: «صيغة مبالغة» اصطلاح ويقصدون الدلالة على الكثرة، وليس المقصود المبالغة بمعنى التهويل والتكثير من غير واقع كي يقال: إنّ كلام اللّه وأوليائه كلّه واقع ولا مبالغة فيه.

و(القسط) هو العدل وأصله من إعطاء كل ذي نصيب نصيبه غير منقوص.

2- {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} أي لتكن شهادتكم شهادة حق لوجه اللّه وطلباً لمرضاته، وحيث إنّ اللّه حق لا باطل فيه فلا يرضى إلا بشهادة الحق، واللام في {لِلَّهِ} للغاية أي لأجل اللّه سبحانه، كما أنّ الأقرب أنّ قوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} خبر ثانٍ، وقيل: هو حال.

وقوله: {وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ} بأن تكون الشهادة بضرركم، والمراد الإقرار بالحق الذي عليه، فمراعاة الحق أولى من العمل بالباطل بكتمان الشهادة، بل الباطل الذي يرغب إليه الإنسان - وقد يصل إليه بعدم الشهادة

ص: 457

على نفسه - هو في الحقيقة وبال وضرر عليه في الدنيا قبل الآخرة، فالهوى لا حقيقة له وهو مجرد نزوة وباطل زهوق.

وقوله: {أَوِ الْوَٰلِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فمن برّ الوالدين وصلة الأرحام عدمإيقاعهم في المعصية أو الباطل عبر شهادة الزور لهم أو كتمان شهادة الحق عليهم.

سؤال: المشهور هو عدم قبول شهادة الولد ضد والده، وفيه رواية مذكورة في كتاب الشهادات(1)؟

والجواب: أنّ للشهادة مفهوم أوسع من الشهادة في باب القضاء، فتشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشهادات في القضايا الاجتماعية والأسرية ونحوها إذا توقف الحق عليها، مضافاً إلى أنّ وجوب الشهادة لا يلازم وجوب القبول، بل قد تكون قرينة صدق لشهادة الآخرين، فتأمل.

الثالث: قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا}.

أي كما أنّ النفس والقرابة يلزم أن لا تعيقكم عن شهادة الحق، كذلك حالات المشهود له أو المشهود عليه أيضاً يجب أن لا تقف دون الشهادة للّه تعالى، فحق اللّه تعالى فوق جميع ذلك، وتشريعاته لصالح الجميع سواء المشهود له أم المشهود عليه، فإنّ منع المبطل عن الباطل خير له من الحكم له بالباطل حيث سيكون وباله عليه بما يورثه الندم، فألم الحكم ضده أهون من ألم النار وألم الجور في المجتمع.

وقوله: {إِن يَكُنْ} الضمير يرجع إلى كل واحد من هؤلاء وغيرهم، أو

ص: 458


1- راجع وسائل الشيعة 27: 369.

يرجع إلى ما يفهم من الكلام، أي المشهود له أو عليه.

وقوله: {فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا} في الكلام اختصار، أي فلا يكن فقره أو غناه مانعاً عن شهادة الحق، وذلك لأنّ اللّه أولى بهما، والمعنى أنّ اللّه أولى بهمامن أنفسهما فحكمه مقدم على مصلحتهما، ويمكن أن يراد بالأولى أنه أرحم وأنظر لهما منكم، ومن رحمته لهما أمركم بالشهادة الحق، ولو كانت ضدهما كالأب الحنون الذي يمنع طفله عن أكل ما يضرّه وإن كان فيه هواه، وقيل: المعنى أولى بغنى الغني وفقر الفقير؛ لأن ذلك بتقديره سبحانه، فكما قدّر الفقر والغنى كذلك قضى بالشهادة بالحق.

والحاصل أنّ الناس قد يراعون الغني لغناه أو الفقير لفقره، لكن اللّه يأمر بمراعاة الحق أينما كان سواء مع الغني أم الفقير.

الرابع: قوله تعالى: {فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ...} الآية.

هذا تأكيد من زاوية النهي، كما أنّ الأمر بالقيام بالقسط والشهادة للّه من زاوية الأمر، وقد يأمر المولى وينهى عن الطرفين تأكيداً كما يقول الوالد لولده: اذهب للمدرسة ولا تبق في البيت.

وفي هذا التأكيد تحذير عن سبب عدم القيام بالقسط وعدم الشهادة للّه، وذلك السبب هو الهوى فإنه سبب الضلال، كما قال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(1)، وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}(2).

ص: 459


1- سورة ص، الآية: 26.
2- سورة النازعات، الآية: 40-41.

وقوله: {أَن تَعْدِلُواْ} إمّا من العدل، أي لا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا، فالتعليل للنفي، وإما من العدول بتقدير مخافة أو كراهية ونحوهما، فالمعنى لا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق إلى الباطل فالتعليل للمنفيّ.وقوله: {وَإِن تَلْوُۥاْ أَوْ تُعْرِضُواْ...} تهديد لمن يتبع الهوى فلا يشهد بالحق إما مع شهادته بالباطل أو مع كتمانه الحق، فيقال له: إنّ اللّه سبحانه خبير بأفعالك ونواياك فيجازيك عليها.

و{تَلْوُۥاْ} من لوى يلوي لياً، وهو إمالة الشيء، و(لوى لسانه بكذا) كناية عن الكذب، قال تعالى: {يَلْوُۥنَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَٰبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَٰبِ}(1).

وقوله: {أَوْ تُعْرِضُواْ} أي عن الشهادة بكتمانها، قال تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ}(2)، وقال: {وَلَا تَكْتُمُواْ الشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُۥ ءَاثِمٌ قَلْبُهُۥ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...} الآية.

لعل ارتباط الآية بما قبلها سببه أنّ القيام بالقسط والشهادة للّه وعدم اتباع الهوى إنما يتيسّر للمؤمن حقاً لا لمن لم يؤمن إلا بلسانه أو من لم يعرف معنى الإيمان، فيدعو اللّه المسلمين إلى الإيمان الحقيقي التفصيلي ليظهر

ص: 460


1- سورة آل عمران، الآية: 78.
2- سورة البقرة، الآية:282.
3- سورة البقرة، الآية: 283.

ذلك على جوارحهم بالعدل وبشهادة الحق.

ثم إنّ الأمر هو بالإيمان باللّه ورسوله والكتب السماوية، وأما النهي فعن الكفر بها بالإضافة إلى النهي عن الكفر بالملائكة وسائر الرسل ويومالقيامة، ولعل سبب ذلك أنّ الإيمان بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن لا ينفك عن الإيمان بالملائكة وبالرسل وباليوم الآخر، وذلك لتضمن القرآن لها، وأما الكفر فيمكن الانفكاك فيها بأن يكفر بجميعها وبواحد منها أو بأبعاضها، كأن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، أو يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض، أو يؤمن باللّه دون الإيمان باليوم الآخر، أو يؤمن باليوم الآخر دون الإيمان بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

حول أصول الدين

ثم لا يخفى أنه قد اشتهر أنّ أصول الدين خمسة: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، وغير خفي أنّ الإيمان بالكتب والملائكة أيضاً من أصول الدين لكن أدرجوهما في النبوة، فإن الكتب للأنبياء والملائكة واسطة الوحي، وقد مرّ أنّ كل واحد من هذه الأصول الخمسة عنوان لأجزاء كلها من أصول الدين، فيدخل في التوحيد الاعتقاد باللّه وبعلمه وقدرته وحياته وتنزهه عن الشريك والنقص ونحو ذلك، ويدخل في الإمامة ولاية الأئمة من أهل البيت جميعاً والاعتقاد بإمامتهم والبراءة من أعدائهم، ويدخل في المعاد الاعتقاد بالمعاد الجسماني وبالجنة وبالنار ونحو ذلك، وهكذا النبوة، وقد مرّ في تفسير سورة البقرة بعض الكلام حول أصول الدين فراجع.

السادس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ

ص: 461

ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا...} الآية.

لما بيّن اللّه تعالى لزوم الإيمان الحقيقي بأن لا يكتفي المسلمون بالإيمان باللسان حذّر من الإيمان السطحي غير المستقر في القلب، وهو إيمان يتبعالظروف والأسباب، فإن كانت في صالح المؤمنين كان مؤمناً، وإلاّ كان كافراً، فتارة هو مؤمن وأخرى هو كافر، وهذه الحالة تؤدي تدريجياً إلى استقرار الكفر في القلب والختم على القلب بعلامة النفاق، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةَ}(1).

وفي التقريب: بيّن حالة أولئك الذين لا يؤمنون إلاّ إيماناً سطحياً ولذا يميلون مع كل جانب قوي، فإذا قوي الإسلام آمنوا، وإذا ضعف كفروا، وهكذا يراوحون بين الإيمان والكفر حتى يموتوا وهم كفار لتغلّب الطبيعة الكافرة فيهم(2).

وقد يكون سبب ذلك المعاصي، فإنها قد تؤدي بالإنسان إلى الكفر؛ وذلك لأنّ بعض الأحكام لا تعجب الإنسان؛ لأنها تتعارض مع شهواته وهواه، فتؤدي به إلى الكفر، وفي الرواية: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا}: «من زعم أنّ الخمر حرام ثم شربها، ومن زعم أنّ الزنا حرام ثم زنا، ومن زعم أنّ الزكاة حق ولم يؤدها»(3)، قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ

ص: 462


1- سورة الحج، الآية: 11.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 562.
3- تفسير العياشي 1: 281؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 250.

وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(1)، وقال سبحانه: {وَمِنْهُم مَّنْ عَٰهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَىٰنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّٰلِحِينَ * فَلَمَّا ءَاتَىٰهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُۥ بِمَاأَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ}(2).

ونتيجة هذا التذبذب أمران:

1- قوله: {لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وذلك لاستقرار الكفر في قلبهم، وقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(3).

2- قوله: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلَا} أما في الدنيا: فبقطع الألطاف عنهم والختم على قلوبهم، وذلك لأنّ تكرر الكفر منهم واستقراره في قلوبهم صار سبباً لعدم أهليتهم لتلك الألطاف فيقطعها اللّه عنهم بحكمته، وأما في الآخرة: فبعدم تعريفهم الجنة وطريقها، بل يهدونهم إلى الجحيم قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}(4).

نعم لو فرض أنّ البعض القليل منهم تاب توبة نصوحاً وآمن إيماناً حقيقية فهؤلاء كسائر التائبين موعودون بالمغفرة والهداية، لكن هذا فرض مستبعد تحققه، ولو تحقق فإنما هو استثناء من الطبيعة العامة.

ص: 463


1- سورة الروم، الآية: 10.
2- سورة التوبة، الآية: 75-77.
3- سورة النساء، الآية: 116.
4- سورة النساء، الآية: 168-169.

السابع: قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.

يدل على أنّ المقصود في الآية السابقة من {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ...} هم المنافقون، أي المذبذبون بين الإيمان والكفر حسب المصالح والأهواء، فهؤلاء لا تنالهم المغفرة والهداية ومصيرهم في الآخرة إلى جهنم وبئس المصير، فلئن نفعهم إيمانهم الظاهري في الدنيا بمشاركتهم المؤمنين في المنافع فلا ينفعهم في الآخرة، بل هم في الدرك الأسفل من النار يقاسون العذاب الأليم.

ص: 464

الآيات 139-141

اشارة

{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا 139 وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا 140 الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَٰفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا 141}

139- ثم إنّ للمنافقين علائم كثيرة، ومعرفتها سبب حذر المؤمنين منها، ومعرفة المنافقين بها، فمنها: أنّ المنافقين هم {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ} أصدقاء وناصرين {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} حيث لا يتخذونهم أولياء حقيقيين، بل في الظاهر فقط، وهم يفعلون ذلك حفظاً لدنياهم، فيستنكر اللّه عليهم ذلك بقوله: {أَيَبْتَغُونَ} استفهام إنكاري {عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} أي الغلبة والمنعة! كلا ليس العزة عندهم {فَ} إن كانوا يطلبونها فليطلبوها من اللّه، إذ {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} كلها سواء في الدنيا أم الآخرة، واللّه لا يعز إلاّ المؤمنين.

ص: 465

140- ومنها: مجالستهم للكفار المستهزئين بآيات اللّه {وَقَدْ} حذّر اللّه من ذلك إذ {نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون {فِي الْكِتَٰبِ} القرآن في سورة الأنعام:{أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} بجحدها {وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} لا تجالسوهم {حَتَّىٰ يَخُوضُواْ} يدخلوا {فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غير الكفر والاستهزاء، {إِنَّكُمْ} إذا قعدتم معهم {إِذًا} حين الكفر والاستهزاء {مِّثْلُهُمْ} تشاركونهم في فعلتهم، فإن رضيتم بقولهم فمثلهم في الكفر، وإلاّ فمثلهم في الإثم، فهذا العمل نفاق و{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} لعدم فائدة الإسلام باللسان مع إبطان الكفر.

141- ومن علائم المنافقين أنهم هم {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} ينتظرون النتيجة {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ} بالظفر على الكفار {قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يريدون بذلك أن يشاركوا في فوائد الفتح كالغنائم ونحوها، {وَإِن كَانَ لِلْكَٰفِرِينَ نَصِيبٌ} من الغلبة {قَالُواْ} للكفار الغالبين: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي نستولي عليكم بمعنى إرشادكم إلى مواقع صلاحكم {وَنَمْنَعْكُم مِّنَ} بأس {الْمُؤْمِنِينَ} بالإرجاف فيهم وإلقاء رعبكم في قلوبهم، يريدون بذلك حفظ أنفسهم من بأس الكفار والمشاركة معهم في فوائد غلبتهم.

لكن إذا لم يعاقب المنافقون في الدنيا على نفاقهم بسبب إظهارهم الإسلام {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} فيميّز المؤمن عن المنافق ويجازي كلاً منهما بما يستحق.

{وَ} لئن كان للكفار نصيب من الغلبة لكن العاقبة في الدنيا والآخرة

ص: 466

للمؤمنين إذ {لَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} أي طريقاً للغلبة الكاملة، فكل غلبة لهم إنما هي غلبة مؤقتة زائلة والنصر للمؤمنيندائماً حتى لو غلبهم الكفار في بعض الحالات.

بحوث

الأول: لمّا أمر اللّه تعالى المؤمنين بالقيام بالقسط والشهادة للّه، وبيّن أنّ المؤمن الحقيقي هو الذي يمتثل هذه الأوامر، وأما المذبذب بين الإيمان والكفر فليس بمؤمن ولا يمتثل الأوامر، وذلك يؤدي به إلى عدم المغفرة وعدم الهداية ومن ثمّ إلى عذاب النار...

علائم المنافقين

بعد كل ذلك يبيّن اللّه تعالى في هذه الآيات وما بعدها مجموعة من علائم المنافقين، لتحذير المؤمنين منها، فلئن وجدوا بعضها في أنفسهم أو أعمالهم حاولوا إصلاح شأنهم لئلا تتجذّر تلك الصفات فيهم، إذ النفاق مرض قابل للعلاج إن لم يتجذّر، فإن تجذر صعب علاجه هذا أولاً، وثانياً لكي يتمكن المؤمنون من تمييز المنافقين من غيرهم لمّا يجدون هذه العلائم فيهم فيحذرونهم، والمذكور منها هنا ستة: فمنها:

1- اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.

2- ومجالسة الكفار المستهزئين بالآيات.

3- والتربص بالمؤمنين.

4- ومخادعة اللّه وهو خادعهم.

5- والكسل والرياء في الصلاة وعدم ذكر اللّه إلا قليلاً.

6- والتذبذب بين المؤمنين والكفار.

ثم يحذرهم بأنهم في الدرك الأسفل من النار، ثم يفتح اللّه باب التوبة

ص: 467

لهم مع تبيان كيفيتها.

الثاني: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِالْمُؤْمِنِينَ...} الآية.

الولي هنا بمعنى الخليل والناصر والمعين، ولا سنخية بين المؤمن والكافر كي يتخذ أحدهما الآخر ولياً، نعم قد تكون صداقة ظاهرية أو محبة عاطفية، وهذه غير منهي عنها كما قال تعالى: {لَّا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ}(1)، وأما الولاية بالمحبة الحقيقية والنصرة والسلطة فهي خاصة بالمؤمنين.

وقوله: {الْكَٰفِرِينَ} و{مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} بمعنى ميل قلوبهم إلى الكفار، ولذا يتولونهم ولا يتولون المؤمنين، ولو كانت مجرد محبة عاطفية لم يكن فيها فرق بين المؤمن والكافر، فمثلاً من كان أبوه كافراً وأمه مؤمنة فإنّ الحب العاطفي يكون لكليهما، وأما من تولّى الكفار دون المؤمنين فذلك يكشف عن توجهه الفكري وميل قلبه إلى الكفر، فهذا إبطان للكفر، فيكون إظهار الإسلام باللسان نفاقاً.

وقوله: {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ...} حلّ جذري لمشكلة النفاق، إذ من أهم أسبابه طلب الدنيا، فإنّ مصالح الإنسان تؤثر على اتجاهه الفكري، فحيث يزعم أنّ العزة مع الكفار لذلك يميل قلبه إليهم، لكن واقع مصلحته في الدنيا والآخرة مع الإيمان؛ لأنّ العزة كلها للّه تعالى فهو المالك المهيمن القادر ولا ضد ولا نِدّ له، فكل عزة منه تعالى كما قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ

ص: 468


1- سورة الممتحنة، الآية: 8.

وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1)، وقال: {مَن كَانَ يُرِيدُالْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}(2).

و{الْعِزَّةَ} بمعنى المنعة والقوة بحيث لا يغلبه أحد، وجذرها بمعنى القِلّة؛ لأن القوي ذا المنعة قليل.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ...} الآية.

من دأب الكفار الاستهزاء بالدين وأهله وجحده، فإن وجدوا أمامهم مؤمناً قوياً أمسكوا خوفاً منه، لكن إذا استضعفوا المؤمن أو كان منافقاً فلا يحتشمونه، ويصرحون بجحدهم ويجاهرون بالاستهزاء، فلما كان المسلمون في مكة ضعفاء كان الكفار يتعمدون التنقيص من الدين ومن الرسول أمامهم، فأمر اللّه المؤمنين بمغادرة تلك المجالس فأنزل في سورة الأنعام - وهي مكية - قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَٰتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَٰنُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ}(3)، ولكن في المدينة قويت شوكة المسلمين حيث كان الحاكم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعامة الناس مسلمين، فلذا لم يكن الكفار يجرؤون على الجحد والاستهزاء إلاّ عند المنافقين الذين يوافقونهم قلباً فجاءت هذه الآية لتحذير المنافقين عن ذلك، وبيان أنّ المجالسة حين التنقيص علامة للنفاق وأن المصير إلى النار.

ص: 469


1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- سورة فاطر، الآية: 10.
3- سورة الأنعام، الآية: 68.

وقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} آية سورة الأنعام خطاب للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومع ذلك نُزّلت على المسلمين؛ وذلك لأن أحكام اللّه تعالى عامة للرسول ولغيرهإلاّ فيما استثني، فكل تكليف للرسول من أمر أو نهي تكليف للمسلمين أيضاً.

وقوله: {ءَايَٰتِ اللَّهِ} يشمل جميع علائمه، كالقرآن والرسول والأئمة والأحكام الشرعية، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنما عنى بهذا إذا سمعت الرجل الذي يجحد الحق ويكذب به ويقع في الأئمة، فقم من عنده ولا تقاعده كائناً من كان»(1)، وفي رواية أخرى عن الإمام الرضا (عليه السلام) : «يقع في أهله»(2)، أي أهل الحق.

وقوله: {فِي الْكِتَٰبِ} يعني الحكم واضح غير خفي عليكم؛ لأنه آية قرآنية تتلى عليكم آناء الليل وأطراف النهار، فلا عذر لكم في عدم العمل بها.

وقوله: {يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} المراد بالكفر بها هو جحدها بإنكارها، وقد لا يكون الإنكار مع استهزاء ولذا أضاف {وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} وهذان تفصيل لقوله في سورة الأنعام: {يَخُوضُونَ فِي ءَايَٰتِنَا}، ومن المعلوم أنّ هذا يختلف عن المجادلة معهم فإنّ ذلك مطلوب لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإنما أحياناً في غير الجدل يتم الجحد والاستهزاء فذلك مجلس مبغوض للّه تعالى فالمؤمن الضعيف يغادر ذلك المجلس، والمؤمن القوي يمنع عن الجحد والاستهزاء.

وقوله: {حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} بمعنى جواز الكلام مع الكفار

ص: 470


1- الكافي 2: 280.
2- تفسير العياشي 1: 281.

في مختلف المواضيع فإنها ليست تنقيصاً من الدين ولا ضرر عليه منها.وقوله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} يعني إذا جالستموهم حين كفرهم بالآيات واستهزائهم بها فذلك علامة كونكم مثل أولئك، فإن كنتم راضين بقولهم فذلك الكفر بعينه، وإن لم تكونوا راضين فذلك إثم ومعصية، فإن النفاق درجات مختلفة فقد يكون المنافق كالكافر في كل شيء إلاّ أنه يزيد الكافر بخداع المؤمنين بإظهار الإسلام، وقد يكون كالكافر في بعض الأمور.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ...} بيان نتيجة كونهم مثلهم، أي هم مثلهم قلباً في الدنيا ولذا يجمعهم اللّه تعالى معاً في نار جهنم.

الرابع: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ...} الآية.

صفة أخرى من صفات المنافقين، وهي أنهم يميلون مع مصالحهم فيريدون حفظها سواء كانت الغلبة للمؤمنين أم للكفار، فلذا يحاولون حفظ العلاقة مع الطرفين، فهم يعملون بكيفية خاصة حتى يحسبهم الطرفان عليهم، فحينما يأتون إلى المسلمين يظهرون الإيمان، وحينما يلتقون بالكفار يظهرون الكفر قال تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ}(1)، وحين الجهاد لا يقاتلون أياً من الطرفين، بل يقفون على طرف من المعركة أو يتهربون منها بحجج واهية، بحيث لا يتضررون، سواء انتصر المسلمون أم غلب الكفار،

ص: 471


1- سورة البقرة، الآية: 14.

ومع ذلك يحاولون أن يشاركوا الغالب في اقتطاف ثمرة الانتصار.و(التربص) هو طول الانتظار(1)، والتربص بكم بمعنى انتظار ما سيؤول إليه أمركم مع الكفار.

وقوله: {فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ} عبّر عن انتصار المسلمين بأنه فتح من اللّه، وعن غلبة الكفار بقوله: {نَصِيبٌ} وذلك لتشريف انتصار المسلمين بأنه فضل من اللّه عليهم، وأما الكفار فذلك نصيب لهم في الدنيا؛ لأن اللّه تعالى جعل الأيام مداولة، إمعاناً في الامتحان وحثاً للمؤمنين على العمل وعدم التواني والكسل، لكن هذا النصيب ليس له قيمة، فلذا لم يُنسب إلى اللّه تعالى، مع أنّ كل شيء بقضاء من اللّه تعالى وقدره.

وقوله: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} الاستحواذ بمعنى الاستيلاء والسيطرة، ومرادهم هنا هو: إرشادهم إلى مواقع صلاحهم.

وقوله: {وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي من بأسهم، والمقصود إرشادهم إلى أسرار المسلمين بحيث تحذرون منهم فلم يتمكن المسلمون من الغلبة.

وقيل: الجملتان إشارة إلى موضوع واحد، وهو أن المسلمين أسروا الكفار ثم أطلقوا سراحهم، فيكون مقصود هؤلاء المنافقين المنّ على الكفار بأننا لم نقتلكم حين الحرب حينما استولينا عليكم، بل منعنا المسلمين من قتلكم.

وقوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ...} كأنّ هنا شرطاً محذوفاً للاختصار، وهو أنّ هؤلاء إن تمكنوا أن يفلتوا من العقاب في الدنيا بسبب إظهارهم

ص: 472


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 122.

الإسلام واختلاطهم مع المسلمين لكن في الآخرة تظهر السرائر والحاكم هو اللّهتعالى الذي لا يخفى عليه شيء، فهناك يظهر المخلص من المنافق ويتم الفصل بالحق وهم لا يُظلمون.

معنى عدم سبيل الكافرين على المؤمنين

الخامس: قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}.

هذا قانون عام ومورد الآية مصداق له.

فالقانون التكويني والتشريعي في الدنيا والآخرة هو عدم تمكن الكفار من الاستيلاء والسيطرة على المؤمنين...

1- أما في الحجة: فحجة المؤمنين هي الغالبة في الدنيا والآخرة، وأما الكفار فحجتهم داحضة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُۥ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ}(1)،

وقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}(2)،

وقال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ}(3).

2- وأما في التشريع: فلم يُشرّع اللّه حكماً فيه استيلاء لكافر على مسلم، فلذا لا يجوز زواج المسلمة من كافر، ولا إمارة الكافر على المسلمين، ولا يملك الكافر عبداً مسلماً، ولا ولاية للأب الكافر على ابنه المسلم، وغير ذلك من أحكام مذكورة في الفقه.

3- وأما في التكوين: فاللّه تعالى جعل العاقبة في الدنيا والآخرة للمؤمنين، وجعل الباطل زهوقاً زائلاً، فلا طريق للكفار لأن يغلبوا المؤمنين غلبة تامة ينقرض بها الدين وأهله زوالاً كاملاً، فلئن غلبوا أحياناً فهي غلبة

ص: 473


1- سورة الشورى، الآية: 16.
2- سورة البقرة، الآية: 150.
3- سورة الأنعام، الآية: 149.

في بعض الجهات وبشكل مؤقت، كما كان يصنع الكفار مع المسلمين فيمكة كتعذيبهم عماراً وأبويه، وكغلبتهم في غزوة أحد فلم تكن غلبة تامة، وكذلك حينما يستولي الكفار على بلاد المسلمين كما حصل في العصر الحاضر.

أو بمعنى أنّ اللّه تعالى لم يقدّر سلطة الكفار على المؤمنين ابتداءً، إلاّ أنه لو خالف المؤمنون أوامر اللّه ونواهيه وخذلوا الحق فعند ذلك قد يقدّر سلطة الكفار لسوء عمل المسلمين كما حصل في غزوة أحد.

والمقصود في الآية المصداق الثالث، أي إذا كان للكفار نصيب من الغلبة فهي غلبة منقوصة وعسكرية، وليست غلبة تامة من جميع الجهات، إذ لم يقدرها اللّه تعالى أبداً، بل على العكس قدّر غلبة المؤمنين نهائياً ولو بعد حين قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}(1).

ص: 474


1- سورة التوبة، الآية: 33؛ سورة الصف، الآية: 9.

الآيات 142-147

اشارة

{إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا 142 مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا 143 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا 144 إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا 145 إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا 146 مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا 147}

142- ثم ذكر اللّه تعالى صفة أخرى من صفاتهم ف {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ} أي يفعلون فعل من يريد الخداع، وذلك بإظهار الإيمان وإبطان الكفر {وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ} أي يجازيهم على خداعهم، كما أنهم ملزمون بأحكام المسلمين في الدنيا وجزاؤهم جزاء الكفار في الآخرة.

{وَ} من صفاتهم أنهم {إِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ} جمع كسلان، أي متثاقلين لعدم اعتقادهم بها، وإنما يصلّون؛ لأنهم {يُرَاءُونَ النَّاسَ} حتى يتصوروا أنهم مؤمنين، {وَ} لكن ذلك في العلن؛ إذ {لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} فلا يصلون في الخلوة، ولا أي نوع آخر من أنواع ذكر اللّه.

ص: 475

143- ومن صفاتهم كونهم {مُّذَبْذَبِينَ} مترددين ومضطربين {بَيْنَذَٰلِكَ} الإيمان والكفر {لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ} أي ليسوا منسوبين إلى المؤمنين؛ لأنهم لا يضمرون الإيمان كالمؤمنين {وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ} الكفار؛ لأنهم لا يظهرون كفرهم كالكفار، وذلك التذبذب هو الضلال {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} يخذله حتى يضلّ بسوء اختياره {فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا} إلى الهداية.

144- ثم إنّ المؤمنين منزهون عن هذه الصفات فلا يتربصون ولا يخادعون ولا يكسلون ولا هم مذبذبون، لكن يمكن أن يتولوا الكفار، وذلك قد يجرّهم إلى النفاق لذلك حذرهم اللّه تعالى فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ} أنصاراً يتولون شؤونكم {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فإنّ ذلك فعل المنافقين ويجركم إلى النفاق، {أَتُرِيدُونَ} استفهام إنكاري {أَن تَجْعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} أي حجة واضحة على عذابكم؛ لأن اتخاذ الكفار أولياء معصية، وتجرّ إلى النفاق، وبعد البيان والنهي لا عذر لأحد في المخالفة.

145- ثم زاد اللّه تعالى تحذير المؤمنين ببيان عاقبة المنافقين فقال: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} أي الطبقة الأخيرة السفلى {مِنَ النَّارِ} حيث العذاب أشد ولا منجى ومهرب؛ وذلك لأنهم ضموا إلى الكفر خداعاً وغشاً {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} ينجيهم من العذاب، فكيف تتولونهم وتطلبون النصرة منهم؟!

146- ولكن باب التوبة مفتوح ولذا استثنى التائب فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ} رجعوا إلى اللّه، {وَأَصْلَحُواْ} ضمائرهم وما أفسدوه، {وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ}

ص: 476

التزموا بالشرع بالتمسك بكتاب اللّه وأوليائه، {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ}من غير رياء ولا شرك {فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي في عداد المؤمنين في الدنيا والآخرة فيكون ثوابهم كثوابهم، {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.

147- ثم يؤكد اللّه تعالى وعده بقبول توبتهم ببيان أنه منزّه عن الدواعي النفسانية للانتقام، وإنما العذاب نتيجة أفعال الناس، فلذا إن أحسنوا ارتفع العذاب عنهم ف {مَّا} استفهام إنكاري {يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} فلا نفع له فيه، ولا ضرر عليه في تركه {إِن شَكَرْتُمْ} نعمة اللّه {وَءَامَنتُمْ} به تعالى، بل بالعكس اللّه تعالى خلقكم ليرحمكم، فإذا لم تخرجوا أنفسكم عن قابلية الرحمة بسوء أعمالكم جازاكم أحسن الجزاء {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا} أي يشكر شكركم وإيمانكم عبر الثواب، {عَلِيمًا} بحالكم لا يخفى عليه شيء من إيمانكم وعملكم.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ}.

لما بيّن اللّه تعالى خداع المنافقين للمؤمنين بقوله: {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} بيّن أنهم أيضاً يريدون أن يخدعوا اللّه تعالى، إمّا إرادة حقيقية للخداع كأن يزعموا أنّ اللّه لا يراهم في خلواتهم ولا يعلم بما في قلوبهم كما قال: {وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ}(1)، وهذا عادة في المنافق الذي يعلم بصحة الدين لكنه يرفضه

ص: 477


1- سورة فصلت، الآية: 22.

بقلبه، وإما فعل المخادع بإظهار شيء وإخفاء خلافه فهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر،وهذا في المنافق الذي يتوهم عدم صحة الدين، لكنه يظهر الإسلام لمصالحه!

وقوله: {وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ} أي يجازيهم على خداعهم، وإنما عبّر عن الجزاء بالخدعة للمشاكلة، أو بمعنى يقبل إسلامهم في الدنيا، وذلك بأن يعاملهم في الدنيا معاملة المسلمين في حقن دمائهم وفي مناكحهم وتوارثهم وغير ذلك، ويعذبهم في الآخرة عذاب الكافرين بل أشد، فكأنه يخدعهم بذلك، وقد مرّ شطر من الكلام في سورة البقرة، فراجع.

وقيل: إنه يخدعهم بنفس ما يخادعونه به، فهم يخادعون بإظهار الإسلام واللّه يخدعهم فيه بقبوله منهم.

وإنما قال عنهم: {يُخَٰدِعُونَ} بالمفاعلة، وعنه {خَٰدِعُهُمْ} بالمجرد؛ لأنهم يكثرون من الخداع بكل فعل يفعلونه من أفعال المسلمين، لكنه يخدعهم بشيئين: قبول إسلامهم وعذابهم! هكذا قيل.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ...} الآية.

إذ الإنسان إذا لم يعتقد بشيء لا ينشط فيه، بل يتركه إلاّ إذا اضطر إلى فعله فإنه يفعله حينئذٍ بتثاقل، والمنافقون حيث لا يعتقدون بالإسلام فلا يعتقدون بالعبادات، ولكنهم في الوقت نفسه يرون أنفسهم مضطرين للقيام بها حتى لا يكتشف المسلمون نفاقهم، وذلك يؤدي بهم إلى أمور ثلاثة:

1- التثاقل في الصلاة، فإن الصلوات اليومية وإن كانت لا تستغرق وقتاً

ص: 478

كثيراً، إلاّ أن تكرارها في كل يوم وفي أوقات متعددة أوجب ثقلها علىمن لا يعتقد بها، فلذا تجد كثرة في تاركي الصلاة من ضعاف الإيمان، مع أنك قد تجد بعضهم يلتزمون بعبادات أصعب لكنها غير متكررة!

2- الرياء فيها، لأنّ غرضهم من صلاة لا يعتقدون بها هو أن يراهم الناس عليها، حيث إنّ إسلامهم كان في الظاهر لينالوا منافعه أو ليدفعوا مضار الكفر، فلذا يخادعون المؤمنين أيضاً كما قال تعالى: {يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(1)، وذلك يسوقهم إلى الرياء.

3- عدم ذكر اللّه في الخلوات وحينما لا يراهم الناس، فلذا يكون ذكرهم للّه بالصلاة وغيرها قليلاً، عكس المؤمن الذي يذكر اللّه في الغيب والشهود، سواء رآه أحد أم لم يره، وفي الحديث: «من ذكر اللّه في السر فقد ذكر اللّه كثيراً»(2)، وكذا لا ذكر باطني للمنافقين وإنما أحياناً يتظاهرون بذلك للرياء، عكس المؤمن الذي يكون اللّه في ذكره قلباً ولساناً.

الثالث: قوله تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ...} الآية.

بيان لصفة أخرى للمنافقين، وهي أنهم مطرودون من كلا الجانبين، وذلك لميلهم تارة إلى المسلمين وتارة إلى الكفار، حيث إنهم يريدون مصلحتهم، فتارة مصلحتهم مع الإسلام وأخرى مع الكفر، فلذا يترنحون بين المسلمين والكفار، فظاهرهم مع الإسلام وباطنهم مع الكفر، ولذا لم ينتفعوا

ص: 479


1- سورة البقرة، الآية: 9.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 255، عن الكافي.

بعملهم بل ضلوا سواء السبيل.

وهكذا حال كل من لم يحسم أمره في القضايا ويترتب عليه خسارته لكلا الطرفين والفوائد المرتبة عليهما.

وقوله: {مُّذَبْذَبِينَ} أصله من الذب بمعنى المنع والطرد، فكأن المنافق كلّما مال إلى جانب ذُبّ وطرد عنه.

وقوله: {بَيْنَ ذَٰلِكَ} أي الكفر والإيمان، أو بين المؤمنين والكفار، والمشار إليه مستفاد من الكلام.

وقوله: {لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ} بيان تفصيلي للتذبذب، وكأنه أراد بيان شناعة عملهم وخسارتهم بحيث يرفضهم الكفار والمسلمون.

وقوله: {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ...} بيان لسبب تذبذبهم وهو أنّ اللّه تعالى أضلّهم، بمعنى أنه خذلهم وتركهم وقطع عنهم ألطافه؛ فلذلك ضلوا الطريق فلا يهتدون إلى سبيل نجاتهم.

الرابع: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ...} الآية.

بعد بيان المنافقين وأوصافهم، يحذّر اللّه المؤمنين من السقوط في هاوية النفاق، وهو ولاية الكفار من دون المؤمنين، فإنها تؤدي بالنتيجة إلى حالة النفاق نتيجة التأثر بهم وبكلامهم، فقد يُسلم أحدهم حقيقة من غير قصد النفاق، ولكن حيث إنّ الإيمان غير مستمكن في قلبه فلذا يخشى زواله، فعلى الإنسان الابتعاد عن الأجواء السلبية والتواجد في الأجواء الإيجابية، فإنّ كلاً منهما مؤثر على الإنسان، وخاصة إذا كان في بداية أمره، ومن أهم

ص: 480

العوامل التي توجد الأجواء - سلبية أم إيجابية - ولاية الآخرين، فمن يتولى المؤمنين بالصداقة والمحبة والنصرة يقوى فيه الإيمان، وعكسه من يتولى الكفار.

ولو اتخذ المؤمن الكفار أولياء فتأثر بهم ونافق فلا عذر له؛ لأنه خالف أمر اللّه تعالى بسوء اختياره حتى تأثر قلبه، فلا يقال: إنّ القلب وميله ليس بيد الإنسان فلا تكليف فيه! إذ يقال: إنّ تأثر القلب تحت قدرة الإنسان عبر إيجاد المقدمات، وما بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وقوله: {أَتُرِيدُونَ...} أي عملكم هذا يؤدي إلى النفاق، وهو ما لا تُعذرون فيه؛ لأنه كان بعد البيان والنهي وعصيانه عمداً وبسوء الاختيار.

و{سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} بمعنى الحجة الواضحة على عذابكم، وهذا يدل على أنّ اللّه لا يعذب أحداً إلاّ بعد إتمام الحجة عليه، كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(1).

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}.

تحذير آخر للمؤمنين، وذلك ببيان عاقبة المنافقين، فحيث كان للّه تعالى سلطان مبين في العذاب فلا منجى لهم منه ولا عذر يُقبل منهم، فحاصل المعنى هو: لا تتخذوا الكفار أولياء من دون المؤمنين، وإن فعلتم ذلك نافقتم، فقامت ضدكم الحجة الواضحة في عذابكم الذي هو الدرك الأسفل من النار.

ص: 481


1- سورة الإسراء، الآية: 15.

و{الدَّرْكِ} بمعنى الطبقة، وإنما سميت دركاً؛ لأن بعضها فوق بعض فكأن كل واحد منها يدرك الآخر، وقيل: الدركات في الهبوط، والدرجات في الصعود، لذا كانت جهنم دركات كما أنّ الجنة درجات.

وإنما كانوا في الدرك الأسفل؛ لأنهم أسوأ حالاً من الكفار، إذ ضموا إلى الكفر خداعاً وغشاً، وضررهم على المسلمين أكبر كما قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}(1).

سبب قبول إسلام المنافق

سؤال: إذا كان حال المنافقين هكذا فلماذا يقبل إسلامهم الظاهري فيجري لهم وعليهم ما يجري على سائر المؤمنين ولهم؟

والجواب: أنّ نفاق أكثرهم غير معلوم ولا توجد ضابطة عامة معلومة يميّز الناس المنافق عن غيره! وفي التقريب: لعلّ السبب في قبول المنافق بعد العلم بباطنه رجاء زوال نفاقه، وأنه لو وكل الأمر إلى الناس لأخذوا كثيراً من المؤمنين بأنهم منافقين(2).

وقوله: {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} كأنه ردّ لتوليهم الكفار حيث يزعمون أنهم ينصرونهم، فيقال لهم: لا ينفعكم أولئك الكفار من بأس اللّه تعالى، إذ لا ناصر للمنافقين من عذاب اللّه وبأسه.

السادس: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ...} الآية.

من لطف اللّه ورحمته أنه لم يغلق باب التوبة بوجه أحد، بل يحثّ الناس

ص: 482


1- سورة المنافقون، الآية: 4.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 568.

عليها حتى وإن عظمت جرائمهم؛ لأن اللّه خلقهم ليرحمهم فلذا هيّأ لهم كل أسباب نيلهم للرحمة، ومنها فتح باب التوبة، فعظم الجريمة التي عقابها الدرك الأسفل من النار لا تمنع عن رجوعهم إلى طريق الهداية، لكن لا بد أن يكون تناسب بين توبتهم وبين عملهم، فالتوبة في كل شيء بحسبه، فلا يكفي مجرد لقلقة اللسان، بل لا بد من اقتلاع جذور النفاق من أنفسهم، مع تدارك ما أفسدوه كي تكون توبة نصوحاً تمحي آثار نفاقهم وعذابه، وتؤدي إلى دخولهم في زمرة المؤمنين بحيث يشاركونهم في الثواب، وذلك يستدعي أربعة أمور:

1- التوبة، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ} أي رجعوا عن نفاقهم.

2- إصلاح النفس، فقال: {وَأَصْلَحُواْ} أي ضمائرهم؛ لأن منطلق النفاق النفس المريضة، فلا بد من معالجتها بقلع حذور النفاق فيها، أو بمعنى أصلحوا ما أفسدوه من أمور المسلمين، وقيل: تابوا عن الماضي وأصلحوا في المستقبل.

3- الاعتصام باللّه فقال: {وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ} أي التزموا بالشريعة التي أنزلها اللّه تعالى، فلا يكفي مجرد حسن النفس، بل لا بد من ضمّ الإطاعة عملاً، قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(1).

4- الإخلاص في أعمالهم وعقائدهم فقال: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ} أي خالياً عن الشرك في المعتقد وعن الرياء ونحوه في العمل.

كيفية توبة المنافق

والحاصل: المنافق يمكنه التوبة بإصلاح قلبه وعمله وحينئذٍ يقبل اللّه

ص: 483


1- سورة آل عمران، الآية: 103.

توبته فيجعله مع المؤمنين وينال ثوابهم.

وقوله تعالى: {فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي معهم في الثواب، ولم يقل: (من المؤمنين) لأنهم كانوا في الظاهر منهم في الدنيا، لكن مآلهم كان إلى الدرك الأسفل، وبتوبتهم يكون مآلهم إلى الجنة مع المؤمنين.

وقوله: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ...} بيان أنّ معيّتهم مع المؤمنين إنما هي في الثواب الأخروي الذي يناله المؤمنون جميعاً وهو الأجر العظيم.

السابع: قوله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ...} الآية.

حث على التوبة وتطمين بقبولها، فإنّ اللّه تعالى ليس كالمخلوقات، فليس له كيف نفساني بحيث يريد التشفي ممن عصاه، كما أنه هو الغني فلا يحتاج إلى عقاب لجلب نفع أو دفع ضرر، فلذا لا داعي له للعقاب، وإنما العقاب هو نتيجة عمل الإنسان، فإن أصلح عمله زال سبب العقاب وإن تمادى في غيّه بقي سبب العقاب، عكس الإنسان الذي قد تتحكم فيه الدواعي النفسانية فقد لا يعفو عن من عصاه حتى لو ندم؛ لأنه يريد التشفي، أو يرى أن في العقاب جلب نفع له أو دفع ضرر عنه.

وفي تفسير الصافي: إنما يعاقب المصرّ على كفره؛ لأنّ إصراره عليه كسوء المزاج يؤدي إلى المرض، فإذا زال بالإيمان والشكر ونقّى نفسه عنه تخلّص من تبعته(1).

والحاصل أنّ اللّه خلق ليرحم كما قال: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ

ص: 484


1- تفسير الصافي 2: 342.

خَلَقَهُمْ}(1)، فلذا يرحم الجميع ما دام لم تكن الرحمة خلاف الحكمة، والتائب لا مانع من إنزال الرحمة عليه فلذا يرحمه، وقد سبقت رحمته غضبه، مع أنه لا يجب عقلاً قبول التوبة، لكنه لطف ورحمة وفضل منه سبحانه وتعالى.

وقوله: {إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ} قيل: «قدّم الشكر على الإيمان؛ لأنّ الناظر يدرك النعمة أولاً، فيشكر شكراً مبهماً ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به»(2)،

ويمكن أن يقال: إنّ مورد الكلام في المنافق التائب، وهو قد كان آمن بلسانه فلم يبق إلاّ أن يشكر بقلبه - والشكر القلبي هو عرفان المنعم والإذعان له كما مرّ - وهذا الشكر ينقله من النفاق إلى الإيمان، فتأمل.

وقوله: {شَاكِرًا} في وصف اللّه بمعنى المجازي على الشكر، أي يفعل فعل الشاكر من تكريم المشكور له.

وقوله: {عَلِيمًا} بمعنى علمه بما في الضمائر وما يفعله الناس فلا يخفى عنه تائب أو مخادع.

ص: 485


1- سورة هود، الآية: 119.
2- نقله في تفسير الصافي 2: 342.

الآيتان 148-149

اشارة

{لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا 148 إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا 149}

148- وحيث إنّ النفاق أمر قلبي وهو أمر يكثر الخطأ في تشخيصه فلا يجوز اتهام أحد به إذ {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ} أي لا يجوز {الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} أي إعلان القول السيّئ بالنسبة إلى الناس، سواء كان غيبة أم تهمة أم شتماً أم دعاءً عليهم ونحو ذلك {إِلَّا مَن ظُلِمَ} فيجوز له أن يشكو ظالمه أمام الناس، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا} لما يجهر به {عَلِيمًا} بالصادق والكاذب فيجازي كلاً منهما على حسب عمله.

149- لكن مع جواز جهر المظلوم فإنّ إبداء الخير والعفو عن السوء أفضل ف {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا} تظهروه {أَوْ تُخْفُوهُ} أي تأتوا بالخير على كل حال سواء في العلن أم في السر {أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ} لا تجهروا ولا تنتقموا {فَ} هو أحسن لكم؛ لأنه تخلّق بأخلاق اللّه تعالى ف {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} كثير العفو {قَدِيرًا} فيعفو عن مقدرة.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}.

حيث ذكر اللّه تعالى المنافقين وصفاتهم وحذر المؤمنين منهم ومن

ص: 486

التخلّق بأخلاقهم، يذكر أنه لا يجوز اتهام أحد بالنفاق بمجرد الظن، بل حتى مع القطع به؛ لأنّ النفاق أمر قلبي قد يشتبه فيه الناس كثيراً، وقد تتدخل الدواعي النفسانية والعداوات الشخصية فيقطع الإنسان بذلك مع خطئه من حيث لا يشعر؛ ولأنّ اللّه تعالى ستّار العيوب ولا يريد إشاعة الفحشاء بين المؤمنين، ولذا يذكر سبحانه في هذه الآية القاعدة العامة وهي عدم جواز الجهر بالقول السيّئ في الناس، ويدخل في ذلك: الغيبة وهي إفشاء العيب المستور بما يكره صاحبه، والتهمة وهي نسبة الباطل إلى الغير بما ليس فيه، والسب وهو شتم الغير، والفحش وهو الكلام القبيح المتجاوز للحد سواء كان سباً أم لا، والدعاء على الناس علناً كلعنهم وطلب الشر من اللّه عليهم ونحو ذلك من الكلام الذي يسوء الناس.

وقوله: {لَّا يُحِبُّ} كناية عن عدم الجواز والعقاب عليه، وقد مرّ أن الحب من الكيفيات النفسانية، واللّه سبحانه منزه عنها، فحبّه بمعنى الأمر به والثواب عليه، وعدم حبه أو بغضه أو غضبه بمعنى النهي عنه والعقاب عليه.

وقوله: {الْجَهْرَ} هو ظهور الشيء بشكل واضح سواء كان ظهوراً للسمع أم للبصر كقوله: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}(1)، أي عياناً، والجهر في الصوت رفعه بحيث يسمعه الآخرون، فيشمل الجهر حتى لو كان الصوت منخفضاً، ويقابله الإخفات بمعنى خفض الصوت بحيث لا يسمعه أحد، وليس ارتفاع الصوت داخلاً في مفهوم الجهر، بل هو أحد مصاديقه كما قال: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا

ص: 487


1- سورة النساء، الآية: 153.

تُخَافِتْ بِهَا}(1) أي لا تصيح في القراءة ولا تخفض بحيث لا تسمعه حتى أنت بأن يكون مجرد تحريك اللسان والشفتين.

وقوله: {بِالسُّوءِ} أي ما يوجب الامتعاض ويسوء الناس.

وقوله: {مِنَ الْقَوْلِ} إما بيان للسوء، أي القول الذي يسوء الناس استماعه، أو بيان للجهر، أي الجهر القولي بالسوء، وأما الهمز واللمز ونحوهما فهو وإن كان منهياً عنه إلاّ أنه ليس مورد الكلام في هذه الآية.

ثم إنّ الروايات قد بينت بعض المصاديق كقوله (عليه السلام) : «أن يذكر الرجل بما فيه»(2) فإنّ بعض الناس يتصور أنّ ذلك من قول الحق؛ لأنه قال صدقاً، غافلاً عن أنّ الغيبة هي ذكر ما فيه، فإن لم يكن فيه فهو من البهتان.

جهر المظلوم بظلامته

الثاني: قوله تعالى: {إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}.

ثم يستثني اللّه تعالى جهر المظلوم فقال: {إِلَّا مَن ظُلِمَ} وهذا الاستثناء منقطع، إذ ليس شكوى المظلوم قولاً سيئاً، فالمعنى لا يجوز الجهر بالقول السيّئ لكن يجوز للمظلوم الجهر بظلامته والشكوى من الظالم، قال تعالى: {وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ}(3).

ثم إنّ القاعدة هي أنّ تعليق الحكم على الوصف يُشعر بالعِلية، فحينما يقال: (أكرم العالم) فيه إشعار بأنّ سبب الإكرام هو العِلم، وهكذا في هذه الآية تمّ تعليق الحكم بجواز الجهر بقوله: {ظُلِمَ} أي أنّ ظلمه صار سبباً

ص: 488


1- سورة الإسراء، الآية: 110.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 258.
3- سورة الشعراء، الآية: 227.

لجواز جهره.

قيل: يستفاد من الآية أنّ جواز الجهر إنما هو في خصوص ذلك الظلم، فلا يجوز التشهير به في غير ظلمه كأن يذكر عيوبه الأخرى.

وفيه تأمل: لأنّ الظلم علة جواز الجهر، لا أنه تقييد له، وبعبارة أخرى هو حيث تعليلي لا حيث تقييدي، نعم يمكن أن يقال: إنّ الآية في مقام بيان أصل جهر المظلوم لا في مقام بيان كيفيته فلا إطلاق لها من جهة الكيفية، فلا بد من التمسك فيها بالقدر المتيقن، وهو الجهر فيما ظلمه فيه دون غيره فتأمل.

وفي بعض الروايات بيان لمصداق من مصاديق الظلم، قال (عليه السلام) : «إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح فلا تقبله منه وكذّبه فقد ظلمك»(1).

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} تحذير للظالم والمظلوم، فهو يعلم بالظالم ويسمع لجهره بالسوء، كما يعلم بالمظلوم ويسمع قوله، فعليه أن لا يتعدى الشرع، فُربَّ مظلوم بتعديه الحدود الشرعية صار ظالماً.

الثالث: قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ...} الآية.

من دأب القرآن بيان البديل للمنهيات؛ لأنّ اللّه إنما ينهى عن بعض الأمور لما فيها من المفسدة، لكن يمكن وجود بديل لا مفسدة فيه، بل قد تكون فيه المصلحة، بل أحياناً يشرّع بديلاً أفضل من المباحات، لذا غالباًعند ما ينهى عن شيء يشرّع بديلاً له، فالربا حرام والبيع حلال، والزنا حرام

ص: 489


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 258.

والنكاح مثنى وثلاث ورباع وبالدائم أو التمتع حلال، ونحو ذلك، وهنا حينما نهى عن السوء من القول، جعل بديلاً له فعل الخير، قولاً أم فعلاً، وحينما نهى عن الجهر به حبّذ إبداء الخير أو خفاءه، وحينما أباح جهر المظلوم بمظلمته بيّن أنّ العفو أفضل، وذلك لأنّ المظلوم إن هتك الظالم عبر الجهر بظلامته فقد اقتص منه فلا يرجى له ثواب على مظلوميته؛ لأنه أخذ حقه، وأما لو عفا فإنه قد أوكل الأمر إلى اللّه تعالى فلذا هو موعود بالثواب كما قال: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}(1)، كما أنّ الذي يقتص يتجاوز الحدود المشروعة غالباً فينقلب ظالماً بعد أن كان مظلوماً فيكون الحق عليه بعد أن كان له، ولذا يقول اللّه تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).

وقوله: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ} المقصود إيتاؤه على كل حال، كما قال: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}(3) فتارة الإظهار أفضل إن كان فيه تشجيعٌ للناس على فعله أو كان أمراً عاماً لا يحتمل فيه الرياء، وتارة الإخفاء أفضل ليكون أبعد عن الرياء، لذا كان الأفضل الإتيان بالصلوات المفروضة في المسجد؛ لأنّ الجميع يصليها فلا رياء في الإتيان بها عادة، والإتيان بالنوافل في المنزل لاحتمال الرياء فيها بعد عدم إتيان الكثيرين بها.

وقوله: {أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ} بأن لا تجازوا المسيء على إساءته، والعفو

ص: 490


1- سورة النور، الآية: 22.
2- سورة البقرة، الآية: 237.
3- سورة البقرة، الآية: 271.

بمعنى إمحاء أثر الشيء كما مرّ، فالعفو عن السوء بعدم ذكره وعدم ذكر الظالم، والعفو وإن كان من الخير الذي قد يبديه بأن يعلن العفو أو يخفيه فلا يقول شيئاً، إلاّ أنه ذكره بالخصوص؛ لأنّ مورد الكلام فيه، بل قيل: إن قوله: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ} كالمقدمة وإنما الغرض في هذه الآية الحث على العفو.

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} نائب مناب الجزاء، فكأنه قال: إن تبدوا الخير أو تخفوه أو تعفو عن سوء فهو أحسن؛ وذلك لأنه من التخلّق بأخلاق اللّه، حيث إنه عفوٌّ قدير، فهو يعفو عن كثير من المجرمين مع قدرته على الانتقام، فكونوا كذلك.

وقوله: {قَدِيرًا} كأنه فيه إشعار بأن يكون عفوكم عن مقدرة لا عن ذلة، فالعفو عن جبن وضعف ليس محبذاً؛ لأن منطلقه ليس كرائم الأخلاق وإنما الذلة والعجز، والإسلام لا يشجع على ذلك، وإنما ليكن العفو عند المقدرة فهو الذي منطلقه العزة وحسن الخُلق وطاعة اللّه تعالى، لذا كان هذا العفو حسناً، بل أحسن من الانتقام، وأما العفو عن ذلة فلعلّ فيه تشجيعاً للظالمين على الاستمرار في الظلم فلا خير فيه، واللّه العالم.

ص: 491

الآيات 150-152

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا 150 أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا 151 وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ أُوْلَٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا 152}

150- وحيث تمّ ذكر المنافقين وصفاتهم، يأتي ذكر الكفار وأفعالهم ف {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وذلك بكفرهم برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ الكفر به كفر باللّه الذي أرسله، وكفر بالرسل الذين بشروا به، {وَ} ذلك لأنهم {يُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} عبر تكذيب بعض الرسل، {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ} من الرسل كموسى والأنبياء قبله (عليهم السلام) {وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ} منهم، كرسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ} أي بين الإيمان التام والكفر التام {سَبِيلًا} طريقاً ابتدعوه بأهوائهم.

151- {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ حَقًّا} لأنّ الكفر بالبعض كفر باللّه الذي أرسل، وكفر بالرسل الذين بشّروا، {وَأَعْتَدْنَا} هيّأنا {لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} مُذِلاًّ لهم.

152- {وَ} في المقابل {الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ} فأطاعوه فيما أمر

ص: 492

{وَرُسُلِهِ} فصدّقومهم جميعاً {وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ} فآمنوابجميعهم {أُوْلَٰئِكَ} هم المؤمنون حقاً، وجزاؤهم أن {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ} اللّه {أُجُورَهُمْ} التي وعدهم، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لذنوبهم بسبب إيمانهم {رَّحِيمًا} بهم فيزيدهم من فضله.

بحوث

الأول: بعد ذكر المنافقين وصفاتهم، يذكر اللّه تعالى الكفار وصفاتهم، لتنبيههم وإرشادهم ليقتلعوا عنها وعن كفرهم، ولتحذير المؤمنين منهم ومن أن يتصفوا بتلك الصفات.

وهذه الآيات وما بعدها (الآيات 150-175) أولاً: تذكر الكفار وبشكل عام بأنهم يريدون التفرقة بين اللّه ورسله وذلك عبر تكذيبهم رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وثانياً: تذكر اليهود بأنهم سألوا موسى (عليه السلام) أكبر مما سألوا الرسول محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث طلبوا رؤية اللّه جهرة، وعبدوا العجل، ونقضوا العهد، وقتلوا الأنبياء، وأساؤوا العمل، بحيث طبع اللّه على قلوبهم، وكفروا بعيسى (عليه السلام) ، وقالوا على مريم (عليها السلام) بهتاناً عظيماً، وكذبهم بادعائهم قتل عيسى (عليه السلام) ، وظلمهم وأكلهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل.

وثالثاً: تؤكد على رسالة النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنه امتداد للأنبياء الذين أرسلهم مبشرين ومنذرين مع بيان الغرض من إرسالهم، ثم بيان شهادة اللّه بصدق رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ورابعاً: بيان مصير الكفار إلى جهنم مع بيان عدم حاجة اللّه إليهم ولا إلى

ص: 493

إيمانهم.

وخامساً: تذكر النصارى وغلوّهم، وبيان حقيقة المسيح (عليه السلام) فهو رسول اللّه وكلمته وروح منه، وليس إلهاً وولداً للّه سبحانه، وأنّه لا يستنكف عن عبادة اللّه تعالى.

ثم ختام الآيات ببيان عذاب الكفار وثواب المؤمنين، وحثهم على الإيمان باللّه والاعتصام به.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ...} الآية.

الظاهر الآية تذكر أهل الكتاب بشكل عام وهم الذين يكذبون الرسول محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتبيّن أنّ الكفر به هو كفر باللّه تعالى وكفر بجميع الرسل، ولا ينفعهم اعتقادهم باللّه وببعض الرسل، وذلك لأنّ إنكار أصل من أصول الدين كفر، ولا يجدي معه الإيمان بسائر الأصول، فلا يتحقق الإيمان إلا بالإيمان بالجميع، مع تحقق الكفر بالكفر بالبعض، والآية تذكر ثلاثة أمور:

1- {يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أما كفرهم باللّه فلرفضهم رسوله محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث لم يطيعوا اللّه تعالى فيه، فتكذيب الرسول تكذيب للّه تعالى، والكفر به كفر به سبحانه، كما أن إبليس لعنه اللّه كفر لمّا عصى أمر اللّه تعالى في نبيّه آدم فلم يسجد له واستكبر عليه وكفر به، وأما كفرهم بالرسل فلأنّ جميعهم بشّروا برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فتكذيبه تكذيب لهم جميعاً ولا ينفعهم قولهم بأنهم يؤمنون بموسى أو عيسى‘ مع عدم تصديق بشارتهما برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 494

2- {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} هذا عطف تفسيري، أيكفرهم باللّه ورسله كان عبر تفرقتهم بين اللّه ورسله، وهذه التفرقة إنما هي بتكذيب رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكأن اللّه سبحانه والرسل جميعاً جهة واحدة، فتكذيب واحد منهم هي تفرقة بينهم، فليس المعنى أنهم يؤمنون باللّه ويكفرون بالرسل كي يقال: إنّ أهل الكتاب يؤمنون بجميع الرسل إلاّ اليهود الذين يكفرون بعيسى (عليه السلام) وبمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والنصارى الذين يكفرون بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو يقال: إنّ هؤلاء فرقة أخرى تؤمن باللّه وتكذب بجميع الرسل، إذ هو خلاف الظاهر، بل المراد ما ذكرناه من تكذيبهم لرسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذا إرادة التفرقة في جهة اللّه والرسل، حيث إنهم مجموعة واحدة، حيث إنّ اللّه المرسل، وهم الرُّسُل، فإرادة فصل أحد الرسل عن هذه المجموعة هي تفرقة بينهم.

وإنما قال: {يُرِيدُونَ} لأنهم لا يتمكنون من التفرقة بينهم واقعاً، لكن هؤلاء بكفرهم يريدون ذلك.

3- {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ} عطف تفسيري لتوضيح المراد من إرادتهم التفرقة بين اللّه ورسله.

وقوله: {أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ} الإشارة إلى الإيمان والكفر، أي يبتدعوا طريقاً بين الإيمان والكفر، مع أنّ إنكار بعض الأصول هو الكفر حتى لو آمنوا ببعضها.

ولا يخفى أنّ هناك واسطة بين الإيمان التام والكفر التام، ويعبّر عنها بالضلال - بأحد معانيه - وهو فيما لو آمن الإنسان بجميع أصول الدين، لكن

ص: 495

جحد بعض المعتقدات التي ليست من الأصول الأصلية، وأما إنكار بعضأصول الدين فهو من الكفر الصريح، ومن ذلك إنكار نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في شرح أصول الكافي فراجع.

الثالث: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}.

تأكيد على كفرهم، وبيان أنّ كفرهم أسوء من كفر سائر الكفار ولذلك جاء بضمير الفصل بعد المبتدأ وهو دالٌّ على الحصر، وأكده بقوله: {حَقًّا}، إذ الذي يجحد اللّه وينكر الرسل جميعاً قد يكون عن قصور أو عن تقصير، لكن الذي يؤمن ببعض الرسل ومع ذلك ينكر البعض الآخر فهو غالباً ما يكون معانداً؛ لأنّ الدليل عليهم واحد وهو ما ظهر منهم من المعجزات فكيف آمن ببعضهم وبمعاجزهم وأنكر بعضهم الآخر ومعاجزهم؟!

الرابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ...} الآية.

كدأب القرآن حين ذكر الكفار وعذابهم يذكر المؤمنين وثوابهم، ليكون الإنذار مقترناً بالبشارة، وحثاً للناس على الإيمان بإراءة الصراط المستقيم إليهم، فالذي يؤمن باللّه وجميع الرسل هو المؤمن حقاً ويؤتيه اللّه الثواب الذي وعده ويغفر ذنوبه ويزيده من فضله.

فقوله: {يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} ما وعده لهم من التضاعف عشرة أمثالها، ومن الجنات والقصور والحور ونحو ذلك، وإنما سماه أجراً لأنه قد وعد به فصار حقاً عليه، وإلاّ فلا أحد يستحق على اللّه شيئاً كما مرّ مراراً.

ص: 496

الآيتان 153-154

{يَسَْٔلُكَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّٰعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا 153 وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا 154}

وأهل الكتاب هم من الذين فرقوا بين الرُسل، حيث كذّبوا رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، مع زعمهم بتصديقهم بموسى ومن قبله، ولأنهم كانوا يريدون التكذيب لذلك كانت طلباتهم تعنتاً، ومن ذلك:

153- {يَسَْٔلُكَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ} اليهود {أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ السَّمَاءِ} يدل على صدقك، وكما نزلت التوراة جملة على موسى (عليه السلام) ! والجواب: أنهم متعنتون فحتى لو نزل الكتاب ما آمنوا، مع أنّ اللّه أنزل القرآن معجزةً وفيه الكفاية.

وأما تعنتهم: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ} أي من تنزيل الكتاب عليك {فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} عياناً {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّٰعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} أي بسبب ظلمهم، حيث تجرّأوا على اللّه تعالى وجسّموا وتعنتوا بطلب المحال، {ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ} للعبادة، وكان ذلك {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ}

ص: 497

الأدلة الواضحة على التوحيد واستحالة الرؤية، لكنهم تعنتوا وعاندوا{فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ} الظلم بإحياء الذين أصابتهم الصاعقة وبقبول توبة عبّاد العجل شرط أن يقتلوا أنفسهم، {وَءَاتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} حجة واضحة على التوحيد ونفي التجسيم.

154- {وَ} مع وجود هذه الحجة زدناهم تأكيداً بأن {رَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} الجبل {بِمِيثَٰقِهِمْ} أي بسبب أخذ الميثاق منهم على الإيمان والطاعة، {وَ} أمرناهم حيث {قُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا} أي ادخلوا بيت المقدس من باب حطة حال كونكم ساجدين شكراً للّه، {وَ} نهيناهم بأن {قُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ} لا تتجاوزوا إلى الحرام في صيد السمك في هذا اليوم، {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا} عهداً مؤكداً على كل ذلك! لكنهم خالفوا، مع أنّ موسى (عليه السلام) كان منهم وتعنتوا عليه! فلذا لا غرابة من تعنتهم على رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في طلبهم بتنزيل الكتاب!

بحوث

الأول: نظم هذه الآيات وما بعدها هو أنّ اللّه تعالى يبيّن تعنت اليهود في طلبهم تنزيل كتاب من السماء عليهم ليعلموا بزعمهم صدق رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما نزلت ألواح التوراة على موسى (عليه السلام) دفعة واحدة، ثمّ يجيبهم اللّه سبحانه بجوابين:

الجواب الأول: لبيان تعنتهم في طلبهم، وذلك عبر التذكير بتعنتهم مع نبي اللّه موسى (عليه السلام) وهو منهم وكان منقذاً لهم وهم يزعمون تصديقهم له وقبولهم بنبوته، وكان تعنتهم معه في الأصول والفروع.

ص: 498

أما في الأصول: فكانوا مجسمة ولذلك طلبوا المحال من رؤية اللّه سبحانه عياناً، فعاقبهم اللّه بالصاعقة، ثم عفا عنهم فأحياهم كرامة لنبيهموسى (عليه السلام) ، ثم بعد ذلك تمادوا في غيّهم بأن أظهروا مكنون قلبهم في التجسيم بعبادة العجل، مع أنهم لم يكونوا معذورين في ذلك؛ لأن البينات قد جاءتهم، ثم عفا اللّه عنهم مشروطاً بأن يقتلوا أنفسهم، ولكن بقوا مصرين على غيّهم.

وأمّا في الفروع: فقد أمرهم اللّه بأوامر ونهاهم عن مناهٍ فعصوا، فكان ممّا أمرهم أن أوجب اللّه عليهم دخول بيت المقدس من باب حطة حال كونهم ساجدين، فاستهزؤوا بحكم اللّه وخالفوه فكفروا بنعمته عليهم، وكان من نهيه أن نهاهم عن الصيد في يوم السبت، فاحتالوا على النهي، فعصوا نهي اللّه، فعاقبهم بأن مسخهم قردة.

ومع كل ذلك فقد أخذ اللّه منهم العهد الأكيد على الإيمان والطاعة، لكن كما خالف الأسلاف كذلك سار على خطاهم الأخلاف راضين بفعل أسلافهم، فهل يتوقع من هؤلاء إطاعة اللّه تعالى في التصديق برسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو ليس منهم!

ثمّ يعدّد اللّه تعالى مخالفاتهم بنقض العهد والكفر وقتل الأنبياء وعدم استماعهم إلى قول الحق وكفرهم بعيسى (عليه السلام) وبهتانهم على مريم (عليها السلام) وكذبهم بادّعاء قتل المسيح وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل، ثم يذكر أنّ اللّه عاقبهم في الدنيا بتحريم طيبات أحلت لهم وسيعاقبهم في الآخرة.

الجواب الثاني: ما سيأتي في الآيات 162-166 بأنّ اللّه قد أنزل القرآن

ص: 499

معجزةً، وفيه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، حيث يدلعلى أنّ محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسول اللّه سبحانه وتعالى.

الثاني: قوله تعالى: {يَسَْٔلُكَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ السَّمَاءِ...} الآية.

هذا بيان لتفريقهم بين الرسل حيث تعنتوا مع رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فطلبوا طلباً تعنتياً، وهو أن يأتيهم كتاب من السماء يدل على صدقه...

إمّا بأن تكون ورقة مكتوبة من اللّه فيها شهادة على ذلك! كما طلب المشركون نظير ذلك: {أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَٰبًا نَّقْرَؤُهُۥ}(1)،

لكنهم جميعاً كانوا كاذبين كما قال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰبًا فِي قِرْطَاسٖ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(2)، ومن المعلوم أنّ المعاجز والآيات ليست لعبة للكفار بحيث يقترحون ثم لا يؤمنون، بل هي للحجة عليهم، وتكفي معجزة واحدة لهم، فإن لم يؤمنوا بها فهم متعنتون لا يستحقون استجابة طلبهم معاجز أخرى، قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَٰتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْأيَٰتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا۠ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(3).

وإمّا أن ينزل القرآن كله جملة واحدة مكتوباً كما نزلت التوراة في

ص: 500


1- سورة الإسراء، الآية: 93.
2- سورة الأنعام، الآية: 7.
3- سورة العنكبوت، الآية: 50-51.

ألواح مرّة واحدة! لكن يقال لهم: إنه يكفي الكتاب المنزل تدريجاً في كونه حجة عليهم لإعجازه.وقوله: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ...} هو الجواب الأول عن سؤالهم، وهو بيان تعنتهم.

وقوله: {أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ} لأنّ التجسيم بطلب رؤية اللّه والشرك بعبادة العجل أسوأ بكثير من طلب كتاب من السماء، فالتوحيد وتنزيه اللّه تعالى عن صفات المخلوقين هما ركيزتا الدين وأهم الأصول.

وقوله: {جَهْرَةً} حال من الرؤية أي نراه عياناً بأم أعيننا، والظاهر أنهم كانوا مجسمة لطول لبثهم في عبدة الأصنام في مصر، ولذلك أول طلب لهم بعد النجاة كان قولهم: {اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ}(1)، وردعهم موسى (عليه السلام) لكن بقي حب الأصنام في مكنون قلوبهم حتى طلبوا من موسى رؤية اللّه تعالى عياناً! ثم لما غاب عنهم موسى أربعين ليلة اتخذوا عجلاً ليعبدوه! ولم تنفعهم جميع الآيات في قلع جذور الشرك والتجسيم من قلوبهم.

وقوله: {بِظُلْمِهِمْ} إنّ الطلب التعنتي أو الذي منطلقه انحراف في العقيدة كالتجسيم ظلم للنفس ببخسها حقها من الإيمان والثواب الذي يترتب عليه.

وقوله: {فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ} أي عن ظلمهم بطلب رؤية اللّه وعن اتخاذهم العجل، وذلك بإحياء من أصابتهم الصاعقة، وبقبول توبة عبدة العجل مشروطاً بقتلهم أنفسهم، وقد مرّ تفصيل كل ذلك في سورة البقرة،

ص: 501


1- سورة الأعراف، الآية: 138.

وقيل: إنّ اللّه نسخ حكم القتل لما استعدّوا لذلك وشهروا سيوفهم ليقتل بعضهم بعضاً، فلذا فالعفو لم يكن عن عقوبة الآخرة فحسب، بل عن عقوبة الدنيا أيضاً،كنسخ ذبح إسماعيل (عليه السلام) لما استعد إبراهيم (عليه السلام) لذلك، وقيل: بل كان رفع الحكم بعد أن قتل بعضهم بعضاً حيث تبين صدقهم فرفع اللّه الحكم عن الباقين، واللّه العالم.

الثالث: قوله تعالى: {وَءَاتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمْ...} الآية.

بيان لتعنتهم مع موسى (عليه السلام) ، وذلك في الأصول والفروع:

فأولاً: قوله تعالى: {وَءَاتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} أي آتاهم الحجج الواضحة على التوحيد والتنزيه بالأدلة العقلية وبالمعجزات التي كانوا يشاهدونها، و{سُلْطَٰنًا} بمعنى الحجة التي يتسلط بها على الخصم، وقد تكون بمعنى الغلبة والقهر، وغالب استعمالها في القرآن بمعنى الحجة والبرهان.

وثانياً: قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمْ} أي قد آتوا اللّه موثقهم وعهدهم الأكيد بالإيمان والطاعة، وذلك حينما خالفوا، فأراد اللّه عقابهم إلاّ أن يتوبوا ويجدّدوا العهد، بأن رفع فوقهم الجبل أو قطعة منه ليقع عليهم فيقتلهم عقوبة لهم على سوء صنيعهم، لكنه رأفةً ورحمةً فتح لهم باب التوبة، بأن يؤتوا الميثاق مرّة أخرى على الإيمان والطاعة فيرتفع عنهم العقاب، فآتوه موثقهم لكن بعد ذلك خالفوا مرّة أخرى!

وثالثاً: قوله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا} أي أمرناهم بفروع،

ص: 502

ومن أهمها دخول بيت المقدس من باب حطة ساجدين، وذلك شكراً للّه تعالى على إنجازه وعده بدخولهم الأرض المقدسة التي كتبها اللّه لهم،لكنهم بدلاً عن الشكر كفروا بالنعمة واستهزؤوا بها.

ورابعاً: {وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ} أي نهيناهم عن أمور ومن أهمها صيد يوم السبت، لكنهم احتالوا وصادوا ولم ينهوا عن المنكر فعذبهم اللّه بأن مسخهم.

والحاصل أن الحجة كانت واضحة وقد أخذ منهم الميثاق وأمرهم اللّه ونهاهم، لكنهم تعنتوا على نبيهم موسى (عليه السلام) ، فكيف لا يتعنتون مع رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيطلبوا أموراً تعنتاً لا طلباً للحقيقة!

وقوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا} تأكيد ومقدمة للآية اللاحقة حيث يقول: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ...} الآية.

ص: 503

الآيات 155-161

{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّٖ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفُ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا 155 وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَٰنًا عَظِيمًا 156 وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا 157 بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 158 وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا 159 فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا 160 وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوٰاْ وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 161}

155- ولكن مع هذا الميثاق الغليظ فقد خالفوا فاستحقوا عقوبة الدنيا والآخرة {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ} أي بسبب نقضهم، و«ما» للتأكيد، {وَكُفْرِهِم بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} الحجج والبراهين التي جاء بها موسى (عليه السلام) ولذا طلبوا الرؤية وعبدوا العجل، {وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ}، وقوله: {بِغَيْرِ حَقّٖ} تأكيد، إذ لا يكون قتل الأنبياء إلاّ بغير حق، {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفُ} حيث كفروا بآيات اللّه في رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، و«غلف» جمع أغلف، أي كأنها

ص: 504

في غلاف فلا نعي ما تقول، وكأنهم أرادوا نسبة كفرهم إلى اللّه تعالى حيث جعل قلوبهم لا تعي، وقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} الى آخر الآية جملة اعتراضية لبيان أنّ إضلال اللّه لهم إنما كان بسوء صنيعهم، وذلك أنهمكفروا باللّه عناداً فخذلهم اللّه بتركهم وشأنهم، وقد مرّ أن ختم اللّه على قلب المعاند إما بطريقة غيبيّة بجعل علامة عليها يعرفها الملائكة والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، وإما بمعنى أنّ طبيعة أعمال المعاند تؤدي إلى إغلاق قلبه على الهداية، وإما مجاز بمعنى الخذلان. {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا} جمعاً {قَلِيلًا} منهم، والاستثناء إما منقطع، أي فيؤمن غير المعاند منهم وهم أقلية، أو متصل بمعنى إمكان تخلّصهم عن كفرهم إن رجعوا عن العناد لكن لا يرجع منه إلاّ القليل.

156- {وَبِكُفْرِهِمْ} أي وبسبب كفرهم بعيسى (عليه السلام) {وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَٰنًا عَظِيمًا} حيث رموها (عليها السلام) مع رؤيتهم للآيات بتكلم عيسى (عليه السلام) منزِّهاً لها.

157- {وَقَوْلِهِمْ} تبجحاً واجتراءً على اللّه سبحانه {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وقوله: {رَسُولَ اللَّهِ} تشنيع عليهم بأنهم أرادوا قتل رسول اللّه، {وَ} لكن كذبوا في ادعاء قتله إذ {مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ} أي اشتبهوا فقتلوا رجلاً آخر ظناً منهم أنه عيسى (عليه السلام) ، ولذلك وقع الاختلاف بينهم في قتله {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ} في المسيح أنه قتل أم لا {لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ} أي تردد وحيرة من قتله {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} أي لكنهم يتبعون الظن في أنه (عليه السلام) قُتل، {وَ} لكن ظنهم

ص: 505

باطل إذ {مَا قَتَلُوهُ يَقِينَا}.

158- {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} إلى محل كرامته في السماء حياً، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} ذا منعة فأراد حياته فلم يقدروا على قتله {حَكِيمًا} في إبقائهحياً ورفعه.

159- {وَ} هؤلاء اليهود قالوا: إنهم قتلوه لكن {إِن} نافية، أي وليس أحد {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} اليهود {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} بعيسى (عليه السلام) {قَبْلَ مَوْتِهِ} قبل أن يموت عيسى (عليه السلام) ، وذلك إمّا بالمعاينة حين احتضارهم فينكشف الغطاء عن أعينهم فيرون الحقيقة حيث لا ينفعهم الندم، وإمّا بالإيمان به حين نزوله إلى الأرض وصلاته خلف المهدي، {وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكُونُ} عيسى (عليه السلام) {عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} يشهد عليهم بأنهم آمنوا أم لا.

160- كل ما ذكر - من نقضهم الميثاق إلى ادّعائهم قتل عيسى (عليه السلام) - كان ظلماً منهم لأنفسهم {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ} أي بسبب ظلمهم عاقبناهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فقد {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقد ذكر بعضها في سورة الأنعام.

كما أنهم ظلموا الناس {وَ} ذلك {بِصَدِّهِمْ} منع اليهود الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} بتحريف التوراة وبإلقاء الشبهات على نبوة عيسى (عليه السلام) ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

161- {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوٰاْ} زيادة عن أصل القرض {وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} عن الأخذ، {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ} كأخذ الرشوة والاستيلاء على أموال الناس من غير وجه حق، وكل ذلك صار سبباً لعقوبتهم في الدنيا

ص: 506

بتحريم طيبات عليهم.

{وَ} أما عقوبة هؤلاء في الآخرة بظلمهم أنفسهم والآخرين فقد {أَعْتَدْنَا} هيّأنا {لِلْكَٰفِرِينَ مِنْهُمْ} دون من تاب وأصلح {عَذَابًا أَلِيمًا}.

بحوثالأول: نظم هذه الآيات هو أنهم لمّا سألوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، أجابهم اللّه أولاً بأنّ هؤلاء متعنتون فقد سألوا نبيّهم موسى (عليه السلام) تعنتاً أكبر مما سألوا رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكفروا بالتجسيم وعبادة العجل، ثم إنّ اللّه أخذ المواثيق منهم فأمرهم ونهاهم، لكنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الناس:

أما ظلمهم لأنفسهم: فبنقضهم المواثيق وذلك بمخالفتهم الشريعة وبكفرهم بآيات اللّه التي أراهم موسى إياها، وبقتلهم الأنبياء التي أرسلوا لهدايتهم من بعد موسى (عليه السلام) ، وبعدم قبولهم البراهين التي أقامها رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث زعموا أنّ قلوبهم غلف، وبكفرهم بالمسيح (عليه السلام) وزعمهم قتله واتهامهم لأمه (عليها السلام) ، ويجمع ذلك كفرهم باللّه تعالى وبأنبيائه (عليهم السلام) .

وأما ظلمهم للناس: فبصدّهم ومنعهم عن سبيل اللّه تعالى سواء باتباع شريعة موسى (عليه السلام) في زمانه، أم بالإيمان بعيسى (عليه السلام) ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبابتزاز أموال الناس بأخذ الربا منهم وبأكل أموالهم بالباطل.

ومن ذلك يتضح سبب الفصل بقوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} بين أسباب عقوبتهم، إذ نقض الميثاق إلى زعم قتل المسيح يرتبط بظلمهم

ص: 507

أنفسهم بالكفر باللّه وأنبيائه، وأما الصد عن سبيل اللّه إلى أكل أموال الناس بالباطل فيرتبط بظلمهم الناس.

وكان نتيجة كل ذلك أن عاقبهم اللّه بعقاب دنيوي بتحريم طيبات أحلت لهم وعقاب أخروي بالعذاب الأليم.الثاني: قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ...} الآية.

كان من المواثيق عليهم هو الإيمان باللّه ورسله والعمل بشريعته قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ}(1)،

وقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}(2).

ولا يخفى أنّ الإيمان بالأنبياء والعمل بالشريعة داخلان في الميثاق، والكفر بهم وعدم العمل بها من نقض العهد، إلاّ أنّ اللّه تعالى فصّل فيهما من باب عطف الخاص على العام لزيادة بيان شناعة عملهم.

وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم} «الباء» سببيّة، و«ما» للتأكيد، أي بسبب نقضهم، والجملة وما بعدها متعلقه... بقوله تعالى في الآية 160: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}، فالمعنى: أنه قد حرّم عليهم ذلك بسبب نقض العهد

ص: 508


1- سورة البقرة، الآية: 83.
2- سورة آل عمران، الآية: 187.

والكفر... الخ.

وقوله: {وَكُفْرِهِم بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} كأن المراد كفرهم بموسى (عليه السلام) حيث أراهم الآيات الباهرات من فلق البحر وضرب الحجر بالعصا وإنزال المنّ والسلوى وإيتائهم التوراة وغيرها، لكنهم عصوا وعتوا فجسّموا وعبدوا العجل.وقوله: {وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ} من بعد موسى كزكريا ويحيى وغيرهما (عليهم السلام) ، فقتلهم أسلافهم ورضوا هؤلاء بفعلهم، ومن رضي بفعل قوم أشرك معهم، وذلك في المسائل المرتبطة بأصول الدين، والمقصود أنهم كفروا بالأنبياء من بعد موسى (عليه السلام) أيضاً، وقد مرّ بيانه في سورة البقرة.

وقوله: {بِغَيْرِ حَقّٖ} تأكيد، إذ لا يكون قتل الأنبياء إلاّ بغير حق، ولعل المقصود بيان عنادهم وعدم عذرهم وعدم حصول شبهة لهم في قتلهم، قال سبحانه: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}(1).

وقوله: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفُ} كأنه لبيان كفرهم برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث كان يحاججهم بالبينات لكنهم لمّا لم يتمكنوا من دحضها كانوا يقولون: لا نفهم كلامك؛ لأن اللّه أغلق قلوبنا على الحق!

وقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ...} جملة معترضة لردّ زعمهم، فيقال لهم: إنكم تفهمون ما يقال لكم وتعلمون أنه الحق، لكنكم تعاندونه فتكفرون به، ولذا طبع اللّه على قلوبكم بعلامة الكفر، وذلك بخذلانكم وترككم وشأنكم فلا

ص: 509


1- سورة المائدة، الآية: 70.

تنفذ الهداية في قلوبكم.

وقوله: {بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم عناداً.

وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} استثناء منقطع، أي من لم يعاند يمكن أن يؤمن لمّا يشاهد الآيات، وهؤلاء هم أقلية منهم، أو استثناء متصل بمعنى عدم استحالة توبة المعاند، فإنه بعناده يطبع اللّه على قلبه، فإذا ترك العناد رفع اللّه الطبعفيهديه، والأول أقرب.

الثالث: قوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَٰنًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ...} الآية.

بيان كفرهم بالمسيح (عليه السلام) بعد كفرهم بموسى (عليه السلام) والأنبياء الذين كانوا بينهما وبدأ كفرهم بعيسى (عليه السلام) ببهتان مريم (عليها السلام) إلى مؤامرة قتله ثم التبجّح كذباً بأنهم قتلوه! وذلك تجرؤاً على اللّه تعالى بالكفر برسوله (عليه السلام) وإنكار دلائل نبوته مع أنها آيات باهرات ومعجزات ظاهرات.

وقوله: {وَبِكُفْرِهِمْ} بقرينة ذكر البهتان والتبجح بقتل عيسى كذباً يظهر أنّ المراد من كفرهم هو كفرهم بالمسيح (عليه السلام) ، وقيل: هو مطلق الكفر، فالتكرار للتأكيد وللتمهيد بأن ذلك الكفر استلزم البهتان ومحاولة القتل.

وقوله: {بُهْتَٰنًا عَظِيمًا} البهت والبهتان هو الكذب والافتراء الذي من شناعته يبهت المفترى عليه بحيث لا يدري ما يقول! فكل بهتان عظيم من حيث شناعته، إلاّ أن بهتان مريم (عليها السلام) كان أشنع؛ لأنهم رأوا وسمعوا الآيات بتكلم عيسى (عليه السلام) في المهد، لكنهم مع ذلك استمروا فيه فكان بهتاناً بعناد وكفر باللّه وآياته.

ص: 510

وقوله: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ...} لا يخفى أنهم لم يكونوا يعتقدون بأنه المسيح ولا أنه رسول اللّه، بل كانوا يتبجحون بقتل عيسى (عليه السلام) مكذبين له في رسالته وكونه المسيح الموعود، لكن اللّه تعالى ذكر الوصف الحقيقي لعيسى (عليه السلام) حين نقل قولهم؛ لأنّ هذه الأوصاف تنطبق على الذي ادعوا قتله حتى مع عدم اعترافهم بها، وهذا أسلوب متعارف في نقل كلامالخصم، وقيل: هذا كلامهم نصاً قالوه تهكماً نظير قوله: {وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}(1) وكقوله: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}(2).

الرابع: قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ}.

حيث زعموا أنهم قتلوا عيسى بالصلب كذّبهم اللّه تعالى في زعمهم بأنهم لم يتمكنوا من قتله؛ لأن اللّه تعالى أراد حياته، بل قتلوا شخصاً آخر ثم اختلفوا بأنه هل كان عيسى أم لا وتردّدوا في ذلك ولم يتبعوا إلاّ الظن.

وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} أي لم يقتلوه بصلب ولا بغيره، فنفي الصلب تأكيد لنفي القتل، وقيل: زعم بعضهم أنهم قتلوه بغير صلب، وزعم آخرون أنهم قتلوه بالصلب فأراد اللّه تعالى نفي مزاعم كلتا الطائفتين.

وقوله: {وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ} أي التبس الأمر عليهم فاشتهبوا بين المسيح وشخص آخر، ونائب الفاعل في {شُبِّهَ} هو الشأن والأمر.

وكان من قصته أنّ اليهود لمّا ضاقوا ذرعاً بعيسى (عليه السلام) أرادوا التخلّص

ص: 511


1- سورة الحجر، الآية: 6.
2- سورة الشعراء، الآية: 27.

منه، فوشوا عليه عند السلطة الرومانية الحاكمة، فأرسلت جنوداً ليقتلوا عيسى، فرفع اللّه تعالى عيسى (عليه السلام) إلى السماء، فأخذوا شخصاً آخر وصلبوه، فقيل: إنّ اللّه تعالى ألقى شبه المسيح (عليه السلام) على وجه هذا الشخص، وقيل: بل كان اشتباه الجنود لعدم معرفتهم بعيسى ولأنّ الصلب كان قبل تبلّج نور الصباح، فاعتقلوا ذلك الشخص متوهمين أنه المسيح (عليه السلام) فالاشتباهفي خطئهم لا في إلقاء الشبه.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إنّ عيسى (عليه السلام) وعد أصحابه ليلة رفعه اللّه إليه، فاجتمعوا عند المساء - وهم اثنا عشر رجلاً - فأدخلهم بيتاً ثم خرج عليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه من الماء، فقال: إنّ اللّه أوحى إليَّ أنه رافعي إليه الساعة ومطهري من اليهود، فأيكم يُلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي، فقال شاب منهم: أنا يا روح اللّه، قال: فأنت هو ذا - إلى أن قال - ثم رفع اللّه عيسى (عليه السلام) إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه. ثم قال: إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم... وأخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسى (عليه السلام) ، فقتل وصلب»(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ...} الآيتين.

لأنّ المقتول لم يكن عيسى (عليه السلام) وقد أخبر الحواريون أنّ اللّه رفعه إلى السماء، لذلك اختلفت اليهود والنصارى وغيرهم في أصل قتله أولاً، ثم في كيفية القتل، فعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «بعث اللّه عيسى بن مريم واستودعه

ص: 512


1- تفسير القمي 1: 103.

النور والعلم والحكمة وجميع علوم الأنبياء قبله وزاده الإنجيل - إلى أن قال - حتى طلبته اليهود، وادّعت أنّها عذّبته ودفنته في الأرض حياً، وادّعى بعضهم أنهم قتلوه وصلبوه، وما كان اللّه ليجعل لهم سلطاناً عليه، وإنّما شُبّه لهم، وما قدروا على عذابه ودفنه ولا على قتله وصلبه»(1).وقوله: {اخْتَلَفُواْ فِيهِ} أي في عيسى، والمقصود الاختلاف في قتله، هل قتل أم كان المقتول غيره، وهل كان قتله بالصلب أم بطريقة أخرى، والذين اختلفوا هم اليهود والنصارى.

وقوله: {لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ} أي من القتل، والمقصود تردّدهم في ذلك، وهذا التردد قد يجامع الظن، كما أنّ الظن قد يكون بمعنى الوهم أو الشك.

وقوله: {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} تأكيد لشكّهم، أو المقصود أنه شك لم يرقَ إلى درجة العلم.

وقوله: {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} استثناء منقطع، أي ليس لهم به علم لكنهم يتبعون الظن في أصل قتله وفي كيفية القتل.

وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا} نفي قاطع لزعمهم، وهذا تأكيد آخر.

ولعل كثرة التأكيد والنفي هنا لأن متأخري النصارى واليهود صار قتله عندهم عقيدة جازمة، بل بنى النصارى دينهم على الفداء، بمعنى أنهم زعموا أنّ المسيح (عليه السلام) قتل فداءً للبشرية لكي لا يعاقبوا بذنب آدم (عليه السلام) وبذنوبهم، قيل: زعموا أنّ في ذلك جمعاً لعدل اللّه ورحمته، فعدم جزاء المذنبين ظلم حسب زعمهم وجزاؤهم يُنافي الرحمة، فبالفداء تحمّل

ص: 513


1- كمال الدين 1: 225.

المسيح (عليه السلام) جزاء جميع المذنبين حسب زعمهم، وأما متأخرو اليهود فكانوا يتبجحون دائماً بقتلهم عيسى (عليه السلام) مع الافتراء عليه وعلى أمه، قيل: يريدون بذلك إبطال رسالته، بأنه إن كان رسول اللّه لم يُقتل!! واللّه سبحانه في هذه الآية يؤكد تأكيداً بليغاً بعدم قتله، وأنّ الذين يدعون ذلك لا علم لهم بل مجرد اتباع للظن!

وقوله: {يَقِينَا} يرتبط بالنفي، فالمعنى عدم تمكنهم من قتله أمر يقيني لا مرية فيه.

وقوله: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} أي إلى محل كرامته في السماء الرابعة، والآية نص في رفعه حياً بروحه وجسده، إذ لو كان المراد رفع الروح فقط لم يكن ذلك خاصاً بعيسى (عليه السلام) إذ أرواح المؤمنين ترفع أيضاً، ولم يكن ردّاً على زعمهم بقتله وصلبه، فالإضراب ب {بَل} إنما يصح لو كان الرفع بجسمه وروحه.

وقوله: {عَزِيزًا حَكِيمًا} أي له المنعة والغلبة لذلك غلبت إرادته إرادة من أراد قتله، وكان ذلك بحكمة من اللّه تعالى، حيث أراد أن تكون حياة عيسى (عليه السلام) من أولها إلى آخرها آيات من آياته من ولادته من غير أب مروراً بمعاجزه، وانتهاءً برفعه حياً إلى السماء، وأيضاً أراد اللّه ادّخاره ليوم ظهور المهدي، حيث ينزل من السماء ويصلي خلف المهدي، فيؤمن حينذاك اليهود والنصارى بالإسلام؛ لأنّ اليهود ينتظرون المسيح والنصارى يؤمنون به، فلما ينزل بآيات باهرات يعلم الجميع أنه المسيح ويدعوهم إلى الإسلام عند ذاك يؤمنون.

ص: 514

السادس: قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}.

{إِن} نافية، والنفي مع الاستثناء يفيد العموم، والضميران في {بِهِ} و{مَوْتِهِ} يرجعان إلى عيسى (عليه السلام) أي جميع أهل الكتاب - والمراد هنا اليهود منهم - يؤمنون بعيسى (عليه السلام) قبل أن يموت بعد نزوله إلى الأرض، أما الذين يكونون حين نزوله فيؤمنون به إيماناً صحيحاً مقبولاً حيث يدخلونالإسلام ببركته، وأما الذين يموتون قبل نزوله، كاليهود الذين ماتوا من حين رفعه إلى يومنا هذا وإلى يوم نزوله، فهؤلاء حين الاحتضار ورفع الغطاء تنكشف لهم الحقيقة ويؤمنون به حيث لا ينفع الإيمان، كما مرّ في قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ}(1).

وقيل: ضمير {قَبْلَ مَوْتِهِ} يرجع إلى الكتابي، وهو خلاف ظاهر الآية بعود الضمائر قبله وبعده إلى عيسى (عليه السلام) ، وإن كان لا يختلف المعنى بذلك، بل حيث إنّ الكلام حول زعمهم قتل عيسى وصلبه ونفي اللّه تعالى ذلك باليقين فذكر موت عيسى (عليه السلام) بعد ذلك أنسب.

وغير خفي أنّ الروايات الكثيرة دلت على حضور الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأمير (عليه السلام) عند كل محتضر، فيبشران المؤمن بالجنة والكافر بالنار(2)، وحينئذٍ تنكشف الحقائق لجميعهم، ومن ذلك حياة عيسى وحقانية الإسلام،

ص: 515


1- سورة النساء، الآية: 18.
2- بحار الأنوار 6: 191.

فكلهم يؤمنون بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبما جاء به - والذي منه حياة عيسى (عليه السلام) - حيث لا ينفعهم هذا الإيمان، لكن ليعلموا سبب عذابهم مذعنين بكفرهم، ومن ذلك يتضح أنّ الروايات التي أرجعت ضمير {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} إلى رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1) إنما هي من التأويل وبيان أنّ إيمانهم بحياة عيسى (عليه السلام) إنما هو بعد إيمانهم برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

السابع: قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}.

أي في يوم القيامة يكون عيسى (عليه السلام) شاهداً على جميع أهل الكتاب، فيشهد على إيمان مؤمنهم وعلى كفر كافرهم وعلى سائر أعمالهم، وهذا لا ينافي قوله تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ}(2)؛ وذلك لأنّ آية المائدة إنما هي في شهادته عليهم في هذه الدنيا، وهي بمعنى الرقيب عليهم؛ لئلا تنحرف عقائدهم، وهي شهادة خاصة بفترة وجوده معهم وعلى من عاصرهم، وأما هذه الآية فهي الشهادة في الآخرة وهي الشهادة على الجميع؛ لأنّ اللّه تعالى يُريه أعمالهم جميعاً.

الثامن: قوله تعالى: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}.

لمّا أراد بيان متعلق قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ...}، وقد طال الفاصل، كرّر الكلام موجزاً بقوله: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ} لأنّ النقض والكفر

ص: 516


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 262؛ عن تفسير العياشي.
2- سورة المائدة، الآية: 117.

وتكذيب الأنبياء وسائر ما ذكر كلها من ظلمهم لأنفسهم، فأوجزها في هذه الكلمة، ثم ذكر المتعلق بقوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وهذه عقوبتهم الدنيوية، نظير حبس المجرم، حيث تقيّد حريته بسبب ارتكابه للجرم، فكانت القاعدة فيه حريته واختياره لكن لما أجرم تغيّرت المصلحة إلى تقييده وحبسه، وهكذا في الجرائم الاجتماعية العامة تحدث مصلحة في حكم جديد يشمل حتى البريء، مثلاً لما تكثر حوادث السيارات في بعض الطرق بسبب سوء سياقة بعض السواق يتمُّ غلق الشارع على الجميع مثلاً؛ لأنّ منع الحوادث أهم من السماح للسياقة، وهنا لما ظلم أكثرهم بالظلم المذكور لذلك عمّهم اللّه تعالى بتشريع تحريم بعض الطيبات، ومنها ما ذكرها في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٖ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ}(1).

و(الطيّب) لغةً هو ما ترغب النفس إليه، وشرعاً هو ما حلّله الشرع، وقد مرّ تفصيله في سورة البقرة الآية 267 فراجع.

التاسع: قوله تعالى: {وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوٰاْ وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ...} الآية.

هذه أيضاً من أفعالهم التي استوجبوا بها عقوبة الدنيا بتحريم طيبات عليهم وعقوبة الآخرة بالعذاب، ولعلّ الفصل بين هذه وبين أفعالهم السابقة لأجل أنّ أفعالهم صنفان: صنف هي ظلم لأنفسهم ذكرت قبل قوله:

ص: 517


1- سورة الأنعام، الآية: 146.

{فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ}، وصنف ظلمهم للناس ذكرت بعده، أو أنّ الأولى في أصول الدين وهذه في فروعه بعد حمل الميثاق على الأصول وسبيل اللّه على الفروع!

وقوله: {وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} عبر تحريف التوراة وإثارة الشبهات الفكرية والمؤامرات السياسية وجحد نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحو ذلك.

وقوله: {وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} قيل: من تحريفاتهم أنهم غيرّوا النهي، ولذاأكد اللّه تعالى أنّ الربا كان منهياً عنه في شريعة موسى (عليه السلام) ومع ذلك خالفوا النهي فأخذوا الربا من الناس، وقد مرّ تفصيل الربا في سورة البقرة الآية 275، وسورة آل عمران الآية 130، فراجع.

وقوله: {بِالْبَٰطِلِ} لأنّ الأكل إن كان بحق فلا إشكال فيه كمن يقبل الهدية، إلاّ أنّ هؤلاء كانوا يأخذون الرشوة لتغيير حكم اللّه، وكانوا يفرضون على الناس ضرائب ما أنزل اللّه بها من سلطان ونحو ذلك، وقد مرّ في سورة البقرة الآية 188 الكلام حول أكل المال بالباطل فراجع.

وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} بيان للعقوبة الأخروية بعد عقوبة الدنيا بتحريم بعض الطيبات عليهم، وإنما قيّده بالكافرين؛ لأنّ البعض منهم تاب وآمن، والبعض القليل من الأول لم يخالف، وكان ملتزماً بالشريعة، ولأنّ العقوبة الدنيوية بتحريم الطيبات كانت عامة على الجميع فبيّن أن العقوبة الأخروية خاصة بالكفار منهم.

ص: 518

الآيات 162-166

اشارة

{لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوٰةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أُوْلَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا 162 إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٖ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيْمَٰنَ وَءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ زَبُورًا 163 وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا 164 رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 165 لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُۥ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَٰئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا 166}

162- المتعنتون الكفرة من أهل الكتاب يسألونك أن تنزل عليهم كتاباً من السماء {لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أي الذين لهم ثبوت فيه فمعرفتهم حقيقية {مِنْهُمْ} من أهل الكتاب {وَالْمُؤْمِنُونَ} من أهل الكتاب أو عامة المؤمنين منهم ومن غيرهم، هؤلاء {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} القرآن {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} من الكتب السماوية جميعاً، لا كاليهود الذين يزعمون إيمانهم بالتوراة مع كفرهم بالإنجيل والقرآن، {وَ} أعني بالراسخين والمؤمنين: {الْمُقِيمِينَ الصَّلَوٰةَ} والنصب على المدح، {وَ} هؤلاء هم

ص: 519

{الْمُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ} فيعبدون اللّه ويؤدون الحق المالي الذي عليهم، {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} إيماناً حقاً، فرسوخهم في العلم والتزامهم بالصلاة والزكاة وإيمانهم كان سبباً في اتّباع الحق ولذا آمنوا بماأنزل على الأنبياء جميعاً فصدقوا رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {أُوْلَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ} في الآخرة {أَجْرًا عَظِيمًا}، لا كالمكذبين الذين إيمانهم نفاق وصلاتهم رياء ويبتزون الناس أموالهم بالربا والباطل والرشوة ونحو ذلك.

163- وأما الجواب الثاني عن سؤالهم إنزال كتاب من السماء فهو أنّ النبوة لا تتوقف على ذلك، بل هو أحد الطرق، والوحي والتكليم طريقان آخران، ف {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٖ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} أي الأنبياء من ذرية يعقوب {وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيْمَٰنَ} فكل هؤلاء لم ينزل اللّه عليهم كتاباً من السماء، فشأن رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كشأنهم فكيف آمن أهل الكتاب بهم ولم يؤمنوا به؟ {وَءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ زَبُورًا} من غير إنزاله عليه دفعة بل أنزل عليه بالوحي تدريجاً وقد آمنوا به.

164- {وَ} أرسلنا {رُسُلًا قَدْ قَصَصْنَٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} في القرآن {وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} فقد أرسلناهم بالوحي لا بكتاب من السماء، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا} بخلق الصوت فسمعه موسى (عليه السلام) بلا واسطة، فلم تكن إثبات نبوة موسى (عليه السلام) منحصرة في إنزال كتاب من السماء، بل كانت هناك طرق أخرى ومنها تكليم اللّه تعالى له.

165- ومهمة أولئك الرسل كمهمة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقد أرسل

ص: 520

اللّه {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} لطفاً من اللّه تعالى للناس {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ} بأنه تعالى إن كان خلقهم ليرحمهم فلماذا لم يدلّهم على الطريق؟ وحيث إنّ الرسل بيّنوا كل ما يقرّب الناسإلى الجنة ويبعّدهم عن النار فلا حجة بعد إرسالهم على اللّه، بل له الحجة البالغة، فلا حجة للمتعنتين من أهل الكتاب بعد إرسال محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} غالباً بالحجة وقادراً على الثواب والعقاب {حَكِيمًا} في إرسال الرسل ومنهم رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

166- وهذه البراهين والحجج لم تنفع المتعنتين من أهل الكتاب ولا ضرر في ذلك على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فهؤلاء لم يشهدوا {لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} عبر إعجاز القرآن {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} أنه الحق؛ وذلك لأنه {أَنزَلَهُۥ بِعِلْمِهِ} بعلم اللّه بما يجهله الناس فلا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن، {وَالْمَلَٰئِكَةُ يَشْهَدُونَ} أيضاً وإن لم يعلم الناس بشهادتهم، أو إنّ اللّه أخبر عنها في كتابه المعجز، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} فلا حاجة إلى شهادة أهل الكتاب، إذ لا نفع من شهادتهم ولا ضرر من كتمانهم الشهادة.

بحوث

الأول: بعد الانتهاء من الجواب الأول عن سؤالهم تنزيل كتاب من السماء بأنّ سؤالهم تعنتي ولا يريدون الإيمان...

بعد ذلك يأتي الجواب الثاني الذي حاصله أنّ القرآن وحي من اللّه تعالى كما أوحى إلى سائر الأنبياء وفيه دلالة الصدق بإعجازه، كما أنهم يصدّقون بالزبور وكان تنزيله كتنزيل القرآن بوحي وبالتدريج، فإذا كانت الطريقة

ص: 521

واحدة فلماذا يفرّقون بين الأنبياء؟! كما أنّ دلائل نبوة موسى (عليه السلام) لم تنحصر في تنزيل التوراة عليه دفعة، بل كلّمه اللّه تعالى أيضاً في مواطن متعددة.

والحاصل أنّ اللّه أرسل الرسل مع الحجة التامة على صدقهم، ومع وجود حجة كافية لا معنى للإجابة على طلبهم التعنتي بمعجزة خاصة مع العلمبأنها لا تنفعهم، إذ لو كانت المعاجز تنفعهم لنفعهم إعجاز القرآن الكريم كما قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَٰتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْأيَٰتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا۠ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(1).

الثاني: قوله تعالى: {لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ...} الآية.

لمّا ذمّ اللّه تعالى الكافرين من اليهود وأنذرهم بالعذاب، بيّن أنّ هناك علماء ومؤمنين فيهم قد آمنوا وعملوا الصالحات وبشّرهم بالأجر العظيم، وهذا كالتمهيد للجواب الثاني.

قوله: {الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} الرسوخ: الثبات، والمقصود الذين كان علمهم علماً حقيقياً وهو الذي يظهر أثره على أعمال الإنسان، فهؤلاء لرسوخهم في العلم يؤمنون بجميع ما أنزله اللّه على أنبيائه من غير فرق بينهم، ولا تؤثر فيهم الشهوات والمصالح، وروي أنّ: «العلم نور يقذف في القلب»(2)، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(3)، وأما العالم

ص: 522


1- سورة العنكبوت، الآية: 50-51.
2- منية المريد: 167.
3- سورة فاطر، الآية: 28.

غير العامل فليس بعالم حقيقة، بل جامع معلومات.

وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ} المقصود إما المؤمنون من أهل الكتاب، وعطفه على {الرَّٰسِخُونَ} لبيان أنّ الذين يصدّقون الرسول من أهل الكتاب صنفان: علماؤهم الراسخون، والمؤمنون منهم الذين صدقوا في إيمانهمحتى وإن لم يكونوا من علمائهم، وإما المؤمنون أعم من أهل الكتاب ومن غيرهم، فلبيان أنّ معرفة صدق الرسول لا يحتاج إلى رسوخ في العلم؛ لأنّ دلائله واضحة وظاهرة للجميع.

وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ...} خبر لقوله: {الرَّٰسِخُونَ} أي الراسخون والمؤمنون يصدقون بالقرآن وبالكتب السماوية السابقة عليه.

وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوٰةَ...} نصب (المقيمين) على المدح؛ وذلك لأنه سبحانه لمّا ذكر الراسخين والمؤمنين أراد بيان أوصافهم التي بسببها آمنوا بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واستحقوا الأجر العظيم بها، يقابل بتلك الأوصاف أوصاف الكفار منهم، فذكرهم بمدح أوصافهم، والمعنى: وأمدح المقيمين الصلاة وهم المؤتون للزكاة... الآية، فيكون عطفاً على الخبر أي قوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ...}، ولو كان يرفع فيقول: (والمقيمون) لكان ظاهره أنه عطف على {الرَّٰسِخُونَ} وهو يفيد تغاير هؤلاء مع الراسخين والمؤمنين، مع أنّ المقصود وصف الراسخين والمؤمنين بهذه الأوصاف، فتأمل.

والحاصل أنّ عملهم بالصالحات وإيمانهم القلبي صارا سبباً لتصديقهم لرسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا رأوا الآيات في القرآن الكريم، فأولئك يصدون عن سبيل اللّه وهؤلاء يقيمون الصلاة، وأولئك يأكلون الأموال بالباطل

ص: 523

ويأخذون الربا وهؤلاء يؤتون الزكاة، وأولئك يكفرون باللّه وبأنبيائه وهؤلاء يؤمنون باللّه وبما أنزل إلى الأنبياء جميعاً، ومصير أولئك إلى العذاب الأليم وهؤلاء إلى الأجر العظيم.

وحيث كان الغرض هو بيان تصديقهم للقرآن الكريم لذلك قدّم أعمالهمبتصديق القرآن والصلاة والزكاة وأخّر ذكر إيمانهم باللّه وباليوم الآخر.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٖ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ...} الآية.

بيان أنّ رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس ببدع من الأنبياء، فكما أوحى اللّه إليهم كذلك أوحى إليه، وكما أنزل الكتاب على بعضهم بالوحي وتدريجاً كذلك أنزل القرآن على رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكما كلّم موسى تكليماً كذلك كلّمه في المعراج! فكيف آمنوا بهم وجحدوه؟!

ثم إنّ اللّه تعالى ذكر أسماء أنبياء يعترف اليهود بنبوتهم، وذكر في عدادهم إسماعيل وعيسى‘ وإن كانت اليهود لا تعترف بنبوتهما، وذلك لبيان عدم الفرق بين أنبياء اللّه كلهم سواء اعترفوا بهم أم لا.

وقوله: {وَءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ زَبُورًا} والزبور كتاب داود أنزله اللّه عليه بالوحي وبالتدريج ولا تزعم اليهود أنّه نزل في ألواح وأوراق مجتمعة، بل نزل بالوحي ونجوماً، فلا فرق بينه وبين القرآن من هذه الجهة، وأصل الكلمة من (زَبَرَ) بمعنى كتب، قيل: وأصلها من الكتابة على الحجر ثم استعملت في كل كتابة(1).

ص: 524


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 265.

الرابع: قوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ...} الآية.

أي غير هؤلاء المذكورين هناك رسل ذكرهم اللّه في القرآن الكريم كيوسف ولوط‘، ورسل لم يذكرهم اللّه في القرآن لعدم وجود سببإلى ذكرهم، فإنّ الرسل ثمانية آلاف، ففي بني إسرائيل أربعة آلاف، والباقون في سائر الناس، كما أنّ الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً حسب بعض الروايات(1)، ولم يكن هناك داعٍ لذكرهم في القرآن جميعاً؛ لأنّ القرآن كتاب هداية وفي ذكر من ذكروا من الأنبياء والرسل فيه وفي قصصهم الكفاية، والمقصود أنّ هؤلاء جميعاً لم ينزّلوا مكتوباً من السماء ومع ذلك كانت لهم المعاجز الدالة على صدقهم!

وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا} لعل المقصود أنّ بدء رسالة موسى (عليه السلام) كان بتكليم اللّه إياه وهو في طريق عودته من مدين إلى مصر، ولما جاء إلى بني إسرائيل وإلى آل فرعون بالعصا واليد البيضاء وغيرهما كان ذلك آية نبوته، فصدّقه بنو إسرائيل مع أنّ ذلك لم يكن كتاباً من السماء، وإلى أن خرجوا من مصر وعبروا البحر كانوا يرون الآيات والمعاجز الأخرى، وفي أواخر حياة موسى نزلت التوراة في ألواح! فلم تكن نبوته ورسالته في بداياتها متوقفة على إنزال الكتاب!

وقيل: إنّ المقصود بيان أنّ طريقة تعليم الأنبياء كانت إما بالوحي عبر ملك أو مباشرة أو بوحي الكتاب أو بالتكليم، وكل ذلك قد جمعه اللّه في

ص: 525


1- راجع بحار الأنوار 11: 41.

رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلا وجه لإنكار نبوته مع تصديق نبوتهم.

في حجية العقل والرسل

الخامس: قوله تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ...} الآية.

لعل المقصود بيان أنّ الحجة تامة على هؤلاء المكذبين المتعنتين، إذ إنّاللّه أرسل رسله بالآيات وهؤلاء الرسل يحذرون الناس من مغبة الكفر والعصيان ويبشرونهم إن آمنوا وأطاعوا، فلا تبقى حجة لأحد بعد إرسال الرسل، فلا يتمكن هؤلاء المتعنتون من الاعتذار عن عدم إيمانهم بأنهم طلبوا المكتوب فلم ينزل، إذ يقال لهم: لقد جاءتكم الآيات الكافيات فلم تؤمنوا عتواً وظلماً لا لنقصان الحجة!

وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ} بيان سبب الإرسال؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى خلق الناس ليرحمهم، وطريق الرحمة التامة متوقف على عبادتهم عبادة صحيحة، ولا يمكنهم ذلك إلا بتعليم من اللّه تعالى عبر رسله، ولولا إرسال الرسل لم يعرفوا فيكون عذابهم على عدم المعرفة عقاباً من غير بيان، وهو قبيح عقلاً واللّه سبحانه منزه عنه، قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَٰهُم بِعَذَابٖ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ}(1)، فأتم اللّه الحجة كما قال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ }(2).

سؤال: العقل حجة اللّه تعالى أيضاً، وهو يدل على اللّه وعلى قبح الظلم

ص: 526


1- سورة طه، الآية: 134.
2- سورة الأنعام، الآية: 149.

وحسن العدل فهو حجة قبل الرسل، إذ من خالف عقله لا حجة له ولا محذور في عقوبته!

والجواب:

أولاً: أنّ من لطف اللّه تعالى عدم العقاب بمخالفة العقل قبل إرسالالرسل فعدم العقاب لا لعدم الحجة، بل للرحمة.

وثانياً: أنّ أكثر التفاصيل لا يصل إليها العقل، فلا بد من بيانها عبر الرسل، ففي هذه التفاصيل لا حجة قبل إرسالهم والعذاب على المخالفة فيها قبيح، فالعقل يدل على وجود اللّه وعلى كماله وعدم نقصه، وعلى صدق الرسول الذي جاء بالمعجزة، وعلى قبح الظلم وحسن العدل، لكنه يضلّ كثيراً في معرفة اللّه التفصيلية وكذا في مصاديق العدل والظلم، وبعد أن دلّ العقل النظري على وجود اللّه وعلى إرساله الرسل وصدق هذا الرسول عبر المعجزة، يدل على لزوم أخذ التفاصيل منه واتباعه كاملاً.

السادس: قوله تعالى: {لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُۥ بِعِلْمِهِ...} الآية.

بعد ذكر الاحتجاج على أهل الكتاب ودحض سؤالهم وبيان الواقع يتم بيان أنّ هؤلاء متعنتون معاندون لا تنفعهم الحجج، وإنما تذكر لإتمام الحجة عليهم ولدفع شبهاتهم التي قد تخدع بعض الناس، ولمّا لم تنفعهم الحجج ولم يشهدوا على نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقال لهم: لا حاجة إلى شهادتكم بعد شهادة اللّه وملائكته.

وشهادة اللّه تعالى هي بإجراء المعجز على يد رسوله، فقوله: {أَنزَلَهُۥ

ص: 527

بِعِلْمِهِ} إشارة إليه، وفي الكشاف: أنزله متلبساً بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة؛ لأنه بيان للشهادة، وأنّ شهادتهبصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة(1).

والمقصود: أنّ القرآن إنما هو من علم اللّه تعالى - لأنّ منشأ صفات الفعل هي صفات الذات - وعلم اللّه تعالى لا حدّ له فخلق القرآن بكيفية هي فوق قدرة البشر بأن يأتوا بمثله.

ويحتمل أن يكون الغرض تسلية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى وإن لم يعلم الناس بالشهادة، بأنه يشهد اللّه الخالق وتشهد الملائكة الذين هم أفضل من هؤلاء الكفار، ومع شهادتهم لا تحتاج إلى شهادة هؤلاء الكفرة، بل يكفيك شهادة اللّه تعالى لك.

وقوله: {وَالْمَلَٰئِكَةُ يَشْهَدُونَ} في التقريب: لعل ذكر الملائكة تشريفي، أي بشهادة واقعية، وإن لم يكن لها أثر، إنّ الأثر نصرة الملائكة كما رأوا في يوم بدر، وكما ظهر بعض الآثار لنزول الملائكة(2).

وقيل: إنّ شهادتهم تعرف عبر إخبار اللّه تعالى، فقد علمنا أنّ القرآن كلام اللّه حيث إنه معجز، والقرآن يدل على شهادتهم! والأقرب ما ذكرناه بأنّ ذكرهم تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 528


1- الكشّاف 1: 455.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 586.

الآيات 167-170

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَٰلَا بَعِيدًا 167 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا 168 إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا 169 يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فََٔامِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 170}

167- وحيث علمتم أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حق وقد شهد اللّه بما أنزل إليه ف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} من أهل الكتاب {وَصَدُّواْ} منعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وهو رسالة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما أنزل عليه {قَدْ ضَلُّواْ ضَلَٰلَا بَعِيدًا} عن طريق الحق حيث عاندوا بعد تمام الحجة.

168- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر أو ظلموا الناس بالصدّ، أو ظلموا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعدم تصديقه وظلموا آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو كل ذلك {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} كفرهم وعصيانهم لعدم قابليتهم لذلك فلا حكمة فيه {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} إلى الإيمان باللطف بهم، أو إلى الجنة في يوم القيامة.

169- {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} استثناء منقطع، أي يخذلهم بالاستمرار في طريق الضلالة، أو يسوقهم إلى طريق النار يوم القيامة {خَٰلِدِينَ فِيهَا} في

ص: 529

جهنم {أَبَدًا} دائماً، {وَكَانَ ذَٰلِكَ} خلودهم في النار {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لايتمكنون من النجاة منهم لقدرته وسلطانه.

170- ثم يوجه اللّه تعالى الخطاب لعامة الناس لئلا ينحرفوا كما انحرف أكثر أهل الكتاب {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ} أي بدين الحق أو مجيئاً بالحق {مِن رَّبِّكُمْ}، ومن الحق أمره بولاية الأئمة (عليهم السلام) ، {فََٔامِنُواْ} وأتوا {خَيْرًا} أو آمنوا إيماناً خيراً {لَّكُمْ} بصالحكم، {وَإِن تَكْفُرُواْ} فلا تضروا اللّه شيئاً، إذ لا يحتاج إليكم {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} وأنتم في قبضته وقد شاء اختياركم فلا يضره كفركم، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بما يصلحكم عمّا يفسدكم وكذا بأعمالكم، {حَكِيمًا} في خلقكم واختياركم وتكليفكم وجزائكم.

بحوث

الأول: الظاهر أنّ هذه الآيات كالتتمة للفصل الذي يذكر فيه اليهود وأحوالهم وتلخيص لأفعالهم، ثم بيان جزائهم في الدنيا والآخرة، وتحذير عامة الناس عن الاقتداء بهم، ففي الآية الأولى بيان لسوء صنيعهم بالناس عبر صدهم عن سبيل اللّه، وفي الثانية بيان لظلمهم أنفسهم بكفرهم، أو أنّ الآية الأولى بيان جزائهم الدنيوي بالضلال عن طريق الحق بأن يخذلهم اللّه فيتركهم لعنادهم، والثانية مصيرهم في الآخرة بالخلود في جهنم، أو الثانية تأكيد للأولى وتعليل لها بأن يكون الظلم هو الصد، وأنهم ضلوا؛ لأنّ اللّه لم يغفر لهم ولم يهدهم الصراط المستقيم.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

ص: 530

أي جمعوا بين الضلال والإضلال، فكفروا في أنفسهم وصدوا غيرهمعن الإيمان، والصد تارة يكون بالمنع مباشرة بإثارة الشبهات والأكاذيب وتحريف الكتاب ونحو ذلك، وتارة يكون بطريق غير مباشر، كأن يكون مقتدى للناس فلا يتبع الحق فيتوهم الناس أنّ عدم إيمانه دليل على بطلان الحق، أو بتزيين أعمالهم الباطلة، أو بتخويف الناس ونحو ذلك.

وقوله: {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} بيان أنّ رسالة الرسول وما أنزل إليه هي طريق اللّه تعالى الذي ارتضاه لخلقه وأمرهم باتباعه.

وقوله: {ضَلَٰلَا بَعِيدًا} أي عن طريق الحق؛ لأنّ المعاند لا يرجى له الرجوع إلى الطريق السوي المنجي.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا}.

إن كان المقصود بالظلم هنا هو الصد عن سبيل اللّه، حيث إنه ظلم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وظلم للناس المصدودين وظلم لأنفسهم، فالآية تأكيد للآية السابقة، وهذا التأكيد للتحذير الشديد عن عدم الإيمان بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمنع عنه، مع تفريق الجزاء في الآيتين ببيان الضلال ثم عدم الغفران والخلود في النار.

وإن كان المقصود من الظلم ظلم النفس، فالآيتان لبيان مطلبين، فالأولى لبيان ما صنعوه بالناس بصدهم عن سبيل اللّه وضلالهم في الدنيا، والثانية لبيان ما صنعوه بأنفسهم حيث بخسوها حقها ومصيرهم في الآخرة.

وقوله: {كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} أي جمعوا بين الوصفين: الكفر والظلم، وأما

ص: 531

لو ظلموا من غير كفر كعصاة المسلمين فهؤلاء قد يغفر اللّه لهم بالشفاعة أوبفضله أو بأعمالهم الصالحة حتى وإن لم يتوبوا، وقد مرّ بعض الكلام في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(1)، وأما الكفر من غير ظلم فغير متصور، إذ كل كفر ظلم للنفس، نعم قد لا يكون ظلماً للغير إن لم يتعد إلى غير الكافر.

وقوله: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} إما بمعنى طريقاً إلى الإيمان كما قال: {وَقَالَ الَّذِي ءَامَنَ يَٰقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}(2)؛ وذلك لأنّ المعاند يختم اللّه على قلبه ويتركه حتى يضل ولا يلطف به الألطاف التي تؤدي به إلى الهداية، قال سبحانه: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(3)، وإما بمعنى طريقاً إلى الجنة كما قال: {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}(4).

الرابع: قوله تعالى: {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا...} الآية.

استثناء منقطع؛ لأن قوله: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} يراد به طريق الإيمان أو الجنة، فالمعنى لكن يسوقهم إلى طريق جهنم كما قال: {احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَٰجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ

ص: 532


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- سورة غافر، الآية: 38.
3- سورة آل عمران، الآية: 86.
4- سورة محمد، الآية: 4-5.

الْجَحِيمِ}(1)، وفي المفردات: الهداية: دلالة بلطف... إن قيل: كيف جعلتالهداية دلالة بلطف وقد قال اللّه تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ الْجَحِيمِ}، {وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ}(2)؟ قيل: ذلك استعمل فيه استعمال اللفظ على التهكم مبالغةً في المعنى(3).

وقوله: {خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} إنّ الخلود في جهنم وعذابها يساويان كفرهم وسيئاتهم، فهما مثلها من غير زيادة، وقد تمّ بيان وجه ذلك مراراً، وفي التقريب: وقد يتساءل البعض: ولِمَ العذاب الدائم مقابل العمل الذي كانت له مدّة محدودة؟

والجواب: أنّ العذاب للشر الكامن الذي كان له مظهر، وذلك باقٍ أبداً، ولذا قال سبحانه: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}(4).

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ...} الآية.

تعميم للخطاب إلى جميع الناس بعد كون الكلام مع أهل الكتاب، بإرشادهم وهدايتهم إلى الصواب؛ لئلا يتأثروا بأفعال أهل الكتاب ولا يسلكوا سبيلهم.

وقوله: {بِالْحَقِّ} فليس باطلاً لتُعذروا في تركه، إذ لا يعقل أن يصدر الباطل من اللّه سبحانه وتعالى فهو الحق ومنه الحق، و{بِالْحَقِّ} إما بمعنى

ص: 533


1- سورة الصافات، الآية: 22-23.
2- سورة الحج، الآية: 4.
3- مفردات الراغب: 835.
4- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 587. والآية: 28 في سورة الأنعام.

الدين الحق، أو متعلق بمحذوف أي مجيئاً بالحق، فليس إرساله بالباطل.

وقوله: {مِن رَّبِّكُمْ} تأكيد، إذ لا يكون رسولاً ولا يكون بالحق إلاّ إذاكان من اللّه سبحانه، واختيار كلمة الرب لعلّه لبيان سبب الإرسال وبيان أنّ اللّه تعالى يريد صلاحكم.

وقوله: {خَيْرًا لَّكُمْ} النصب إما على المفعول المطلق، أي آمنوا إيماناً خيراً، أو مفعول لمحذوف، أي آمنوا وأتوا خيراً، ويحتمل أن يكون مفعول لآمنوا بنزع الخافض، أي آمنوا بالخير، وقوله: {لَّكُمْ} للدلالة على أنّ نفع الإيمان إليكم، فإنّ اللّه تعالى غني عنكم.

وقوله: {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ...} قائم مقام الجزاء وتعليل له، أي فإن تكفروا فلا تضروا اللّه شيئاً؛ لأنه مالك كل شيء ولا يحتاج إليكم، فإن أمهلكم ولم يؤاخذكم بكفركم فوراً فلا تفوتونه، إذ هو عليم بكم، وإن عاقبكم على كفركم فهو حكيم بذلك وبغيره.

ص: 534

الآيات 171-175

اشارة

{يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥ أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ سُبْحَٰنَهُۥ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٌۘ لَّهُۥ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا 171 لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا 172 فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا 173 يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا 174 فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ وَفَضْلٖ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا 175}

171- بعد اليهود يأتي ذكر النصارى ودعوتهم إلى الدين الحق ف {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ} النصارى {لَا تَغْلُواْ} لا تتجاوزوا الحد {فِي دِينِكُمْ} في عقيدتكم وعملكم {وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} ذلك الحق الذي هو أنّ اللّه واحد لا شريك له ولا ولد ولا تجوز عبادة غيره، وأما الغلو في المسيح فباطل ف {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وليس ابناً للّه سبحانه، بل

ص: 535

هو {رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥ} أي مخلوق بقوله تعالى: «كن» {أَلْقَىٰهَا} ألقى الكلمة {إِلَىٰ مَرْيَمَ} أي خلقه فيها {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أي روح شرّفها ونسبها إلى نفسه، فهو ليس إلهاً ولا ولداً للّه سبحانه، وحيث علمتم ذلك {فََٔامِنُواْبِاللَّهِ} الواحد {وَ} آمنوا ب{رُسُلِهِ} جميعاً ومنهم عيسى (عليه السلام) ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ} أي الآلهة ثلاثة أو: إنّ اللّه سبحانه ثلاثة! الأب والابن وروح القدس! {انتَهُواْ} عن هذا الكلام الباطل، وأتوا {خَيْرًا لَّكُمْ} في دنياكم وآخرتكم بالعقيدة الصحيحة، {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} ليس ثلاثة ولا مركب من ثلاثة {سُبْحَٰنَهُۥ} أي أنزهه تنزيهاً عن {أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٌۘ} بل ذلك محال، إذ كل ما سوى اللّه مخلوق له، ولا سنخية بين المخلوق والخالق ليكون ولداً له ف {لَّهُۥ} للّه {مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي الوجود بأسره، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} أي حافظاً ومدبراً لأمور الكون، فلا يحتاج إلى اتخاذ ولد أو شريك ليعاونه، بل هو الغني القدير.

172- ثم يُبرِّئ اللّه تعالى المسيح عن ما قاله النصارى ف {لَّن يَسْتَنكِفَ} أي لن يأنف {الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ} فهو قد أقرّ بالعبودية من ولادته إلى رفعه فالنصارى يخالفونه، {وَلَا} يستنكف {الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} عن عبادة اللّه، فكيف تدعون أنّ روح القدس - وهو جبرئيل - أحد الثلاثة وشريك للّه تعالى؟!، {وَ} كيف يستنكف هؤلاء عن عبادة اللّه مع علمهم بالمصير في الآخرة، إذ {مَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} قلباً {وَيَسْتَكْبِرْ} عنها عملاً، وكذا من لم يستنكف ولم يستكبر

ص: 536

{فَسَيَحْشُرُهُمْ} يجمعهم في يوم القيامة {إِلَيْهِ} أي إلى حكمه وجزائه {جَمِيعًا} فلا يستثني منهم أحداً حتى الرسل، ومنهم المسيح (عليه السلام) .

173- {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} باللّه الواحد {وَعَمِلُواْ} الأعمال {الصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} يعطيها لهم كاملة غير منقوصة {وَيَزِيدُهُم} علىالأجور الموعودة {مِّن فَضْلِهِ}.

{وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} يماثل استنكافهم واستكبارهم بلا زيادة {وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا} يلي أمورهم بما يحبون {وَلَا نَصِيرًا} ينقذهم من بأس اللّه تعالى.

174- وبعد الانتهاء من إرشاد أهل الكتاب والمحاججة معهم ودحض حججهم يتم توجيه الخطاب إلى عامة الناس بدعوتهم إلى الحق ف {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمْ} دليل واضح على التوحيد والرسالة، ومنه إرسال محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} أي هادياً واضحاً كالقرآن وكخلفاء الرسول (عليهم السلام) .

175- {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ} إيماناً صحيحاً يستلزم إيماناً بجميع العقائد الحقة {وَاعْتَصَمُواْ بِهِ} أي تمسّكوا باللّه عبر العمل بشريعته {فَسَيُدْخِلُهُمْ} في الآخرة {فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ} أي الثواب الذي استحقوه بوعده إياهم {وَفَضْلٖ} زيادة أقلّها عشرة ولا حدّ لكثرتها، إذ اللّه يضاعف لمن يشاء، {وَيَهْدِيهِمْ} في الدنيا {إِلَيْهِ} أي إلى نفسه أو إلى الحق حال كونه {صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا} أي يوفقهم لإصابة الحق والوصول إليه.

ص: 537

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ...} الآية.

بعد ذكر اليهود ومحاجتهم، يأتي ذكر النصارى ودحض حُججهم وإبطال معتقدهم.فأولاً: يتم بيان غلوهم مع النهي عنه فقال: {لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} والغلو في الدين ارتفاع فيه، بمعنى رفع بشر إلى منزلة الإله، أو إثبات فضائل لأحد من غير برهان ولا دليل، والمقصود في الآية رفعهم عيسى (عليه السلام) وروح القدس إلى مرتبة الألوهية، وكأن هذه الكلمة من براعة الاستهلال معهم لبيان أنّ دينهم مبني على الغلو.

وقيل: الخطاب عام لليهود والنصارى؛ لأنّ اليهود أيضاً غلوا فيه، حيث اتهموه وأمّه! وفيه نظر: لأنّ ذلك من التقصير، وليس من الغلو في شيء لا لغة ولا اصطلاحاً.

وثانياً: بيان افترائهم على اللّه تعالى، حيث جعلوا له شريكاً أو قالوا بتركيبه مع غيره تعالى عما يقولون علواً كبيراً، ولا يخفى أنّ غلوهم وقولهم على اللّه تعالى إنما هو في معتقد واحد، لكن حيث إنّ جانباً منه يرتبط برفع عيسى (عليه السلام) وجبرئيل (عليه السلام) إلى مرتبة الألوهية، وجانباً آخر منه تنقيص في حق اللّه تعالى بزعم الشريك ونحوه، لذلك أفردهما بنهيين اثنين، فلا ترفعوا المخلوق ولا تقولوا بالباطل في الخالق.

وثالثاً: بيان حقيقة السيد المسيح (عليه السلام) وأنه...

ص: 538

1- {ابْنُ مَرْيَمَ} وليس ابناً للّه، وغالب الآيات التي ذكرت عيسى (عليه السلام) ذكرته مع نسبته إلى أمه إبطالاً لنسبته إلى اللّه سبحانه.

2- {رَسُولُ اللَّهِ} فلذا كانت له معاجز، وكل رسل اللّه تعالى جاؤوا بالمعاجز لإثبات صدقهم، فليس لإبرائه الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى ونحو ذلك دلالة على ألوهيته، بل هو مما أنعم اللّه به عليه كما أنعم علىسائر الرسل، قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَٰهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ}(1).

3- {وَكَلِمَتُهُۥ أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ} فليس في ولادته من غير أب دلالة على ألوهيته، بل هو مخلوق أراد اللّه خلقه في رحم مريم، ولو كان ذلك دليلاً على ألوهية لكان آدم (عليه السلام) أولى، قال سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ}(2)، و(الكلمة) هي القول الملقى من الفم، شُبِّه بها المسيح (عليه السلام) لأنّ اللّه سبحانه أوجده بقوله: (كن)، ولا يخفى أنّ المخلوقات جميعها كلمات اللّه تعالى، كما قال: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي}(3)، لكن خص المسيح (عليه السلام) بها لأنّ خلقه كان على خلاف جريان العادة.

4- {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أي روح خلقها وشرّفها بأن نسبها إليه، وليس في النسبة دليل على الألوهية، بل هي تشريف، كما يقال: بيت اللّه، وكتاب اللّه

ص: 539


1- سورة الزخرف، الآية: 59.
2- سورة آل عمران، الآية: 59.
3- سورة الكهف، الآية: 109.

ونحو ذلك.

حقيقة السيد المسيح (عليه السلام)

ثم إنّ كلمة {الْمَسِيحُ} كلمة معربة من (مشيحا) بالعبرية كما قيل، وقد مرّ أنّ في التعريب قد تلاحظ معاني الكلمات العربية أيضاً، وإنما عرب (مشيحا) إلى (المسيح) لأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص بإمرار يده والمسح على موضع العيب، كما أنه كان يسيح في الأرض، كما أنه كان ممسوحاًعن العيوب والنقائص، أي لم تكن فيه، ولذا فسّر البعض المسيح بالمبارك.

وأما تسمية الدجال بالمسيح فلا عين له ولا أثر في روايات أهل البيت (عليهم السلام) ، بل هو من الإسرائيليات التي تسرّبت في كتب العامة عبر بعض اليهود الذين تظاهروا بالإسلام، وذلك نكاية بالسيد المسيح (عليه السلام) .

الثاني: قوله تعالى: {فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ...} الآية.

بعد بيان حقيقة المسيح (عليه السلام) ، يأتي الكلام حول توحيد اللّه تعالى.

فأولاً: دعوتهم إلى التوحيد بقوله: {فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} حيث إنّ اللّه أرسل جميع أنبيائه بالتوحيد، ونفي الشريك والولد، فالإيمان بهم يستدعي التوحيد الخالص.

وثانياً: النهي عن التثليث بقوله: {وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ}، ولا يخفى أنّ عقيدة النصارى في التثليث ضبابيّة ليس لها معنى محصّل، وهم متحيرون أيضاً في تفسيرهم لها، فتارة يقولون: إنّ اللّه واحد في نفس الوقت الذي هو ثلاثة! وهذا من التناقض الواضح الذي يدل العقل على بطلانه.

وتارة يقولون: إنه واحد مركب من أجزاء ثلاثة! وهذا أيضاً باطل؛ لعدم معنى للوالد والولد حينئذٍ، كما أنّ التركب على اللّه تعالى محال؛ لاستلزامه

ص: 540

الحاجة إلى الأجزاء وتأخر الكل رتبة عن أجزائه، ومن كان كذلك كان مخلوقاً لا خالقاً.

وتارة يقولون: إنه ثلاثة منفصلة كل واحد منهم إله، وهذا من الشرك الواضح، ويستحيل تعدد الآلهة؛ لاستلزامه تعدد القدماء وذلك محال، وهذه أدلة تم بيانها بالتفصيل في كتب الكلام والمعارف.وثالثاً: دعوتهم إلى التوحيد بقوله: {انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ} أي انتهوا عن التثليث إلى الخير الذي هو في صالحكم وهو التوحيد، و{خَيْرًا} إما مفعول لفعل محذوف اختصاراً، أي انتهوا وأتوا خيراً، أو منصوب بنزع الخافض، أي انتهوا إلى خير، أو مفعول لانتهوا بتضمين الانتهاء معنى الطلب، أي اطلبوا خيراً، والأول أشهر والثاني أقرب.

ورابعاً: الاستدلال على التوحيد بأنه {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} أي له الوحدة الحقيقية من كل الجهات، إذ لولا ذلك للزم التركب، وهو يستلزم الحاجة، ولا يعقل حاجة الخالق إلى شيء.

وخامساً: بطلان الولد؛ لأن الولد إما حقيقي وإما اتخاذي جعلي، وكلاهما باطل.

أما الولد الحقيقي فهو قطعة منفصلة عن الوالد، وهو يستلزم التركب والتغيّر، وهما محالان على القديم، فاللّه منزه عن ذلك، ولذا قال: {سُبْحَٰنَهُۥ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٌۘ} أي منزه عن ذلك تنزيهاً.

وأما الولد الاتخاذي الجعلي: فهو ليس بولد على الحقيقة، بل هو مخلوق، واللّه لا يحتاج إلى اتخاذ ولد من مخلوقاته؛ لأنه المالك لكل شيء

ص: 541

فقال: {لَّهُۥ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي الوجود بأسره مخلوق وملك للّه ولا يحتاج إليهم أبداً، ولأنه الغني عن كل شيء فقال: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} أي حافظاً ومدبراً كما مرّ.

الثالث: قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ...} الآية.لعلّه لبيان أنّ البنوّة الجعلية الاتخاذية قد تكون لحاجة الأب، وهذا قد تمّ دحضه في الآية السابقة، وقد تكون لأجل الابن وهذه الآية لبيان أنّ شرف المسيح (عليه السلام) في عبوديته للّه تعالى، فلا حكمة في تشريفه بجعله ابناً، فيتحصل أنّ الولادة الحقيقية محال، والولادة الاتخاذية الجعلية خلاف الحكمة، فتكون محالاً أيضاً، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ردّ لمزاعم النصارى، حيث يقال لهم: كيف تتخذون المسيح ابناً للّه، مع أنه كان يعبد اللّه ولا يرى في نفسه الألوهية لكي يستنكف عن عبادة اللّه تعالى.

و(الاستنكاف) بمعنى الأنفة وهو الامتناع في القلب، وفي كتاب العين: هو الامتناع والانقباض عن الشيء حميةً وعزةً(1)؛ وذلك لأنّ الإنسان يستنكف عن شيء يراه ذلاً له، وعبودية اللّه تعالى شرف للمخلوق، وأيضاً فإنّ اللّه يصطفي الرسل والملائكة المقربين، وهؤلاء باصطفاء اللّه لهم يكونون أول العابدين له سبحانه وتعالى لعلمهم بعظمته وحقه، ولعل اختيار اسم المسيح ووصف الملائكة بالمقربين للإشارة إلى ذلك.

ص: 542


1- العين 5: 383.

وقوله: {وَلَا الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} لعل ذكرهم هنا لأنّ النصارى يعتبرون جبرئيل (عليه السلام) - وهو روح القدس - أحد الثلاثة، وحيث نهاهم اللّه عن التثليث بقوله: {وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ} بيّن أنّ الملائكة المقرّبين - وجبرئيل أقربهم - لا يستنكفون عن عبادة اللّه تعالى.

وزعم بعض المعتزلة أنّ الآية تدل على أفضلية الملائكة المقربين علىالمسيح (عليه السلام) لذا عطفهم عليه، إذ لا بلاغة في الترقي من الأعلى إلى الأدون، فلا يقال: أنا لا أخاف من الأمير ولا من حاجبه! بل لو ذكر الأعلى أولاً لا يذكر الأدون؛ لأنّ ذلك يعلم بالأولوية، أما لو ذكر الأدون فلا بأس بالترقي إلى الأعلى!

وفيه نظر: إذ قد يعكس الأمر كما يقال: لا تظلم المسلم ولا الذمي مع أنّ المسلم أشرف، بل قد يعطف المساوي على المساوي من غير أفضلية للثاني كما يقال: لا تهن زيداً ولا عمراً مع تساويهما في الفضيلة.

والوجه في الآية أنّ الكلام حول السيد المسيح (عليه السلام) فهو المقصود بنفي التأليه عنه وإثبات العبودية له، ونفي الألوهية عن روح القدس إنما هو بالعرض، حيث نهى اللّه عن التثليث، ولذا قدّم المسيح عليهم في الذكر.

وقوله: {وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} أي وكيف يستنكف المسيح والملائكة المقربون مع علمهم بأنّ الجميع يحشر إلى اللّه ويكون جزاء المستنكف النار وجزاء العابد الجنة!

وقوله: {عَنْ عِبَادَتِهِ} لعل تبديل «عبداً للّه» إلى «عبادته» لأنّ المخلوق عبد اللّه سواء استنكف أم لا، فاستنكافه لا يغيّر الواقع أبداً، لكن المخلوق

ص: 543

يتمكن من ترك عبادة اللّه فإذا استنكف عنها تركها، وإذا لم يستنكف قد يأتي بها وقد لا يأتي بها، فلذا ذكر في الآية اللاحقة {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} بدلاً عن أن يقول: فأما الذين لم يستنكفوا!

وقوله: {وَيَسْتَكْبِرْ} لعل عدم ذكر الاستكبار حين ذكر المسيح والملائكة المقربين؛ لأن الكلام هناك كان حول زعمهم التثليث وليسالكلام هناك عن العبادة العملية، بل عن العبودية، فيقال لهم: أنتم تزعمون الألوهية في الثلاثة! وليس كذلك إذ المسيح والملائكة يذعنون بأنهم عبيد للّه تعالى.

وأما الكلام هنا ففي العبادة، فكما قد يستنكف المخلوق عنها قلباً قد يستكبر عنها عملاً، وإنما نقل الكلام عن العبودية إلى العبادة ليعمّ التحذير للجميع، فيكون حاصل المعنى: أنّ عبادة اللّه واجبة، وإذا أحد لم يرض بها قلبه أو تركها عملاً استكباراً فهو في النار وبطريق أولى من يستنكف عن العبودية، فتأمل.

فتحصل أنّ الاستنكاف قلبي والاستكبار عملي.

وقيل: الاستنكاف يرتبط بالعبادة، والاستكبار عن الطاعة!

وقيل: قيّد الاستنكاف بالاستكبار؛ لأن مجرد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهي إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء والمستضعفين، وأما المسيح والملائكة فإنّ فرض استنكافهم لا يكون إلاّ عن استكبار؛ لكونهم عالمين بمقام ربهم، ولذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم! وفيه نظر، بل الأقرب أنّ الأول قلبي والثاني عملي كما ذكرنا، مضافاً إلى أنّ

ص: 544

استنكاف الجهلاء والمستضعفين إن كان عذراً لهم فاستكبارهم كذلك.

وأما ما قيل: من أنّ الاستنكاف لا يكون إلاّ من غير استحقاق، عكس التكبر حين يكون عن استحقاق كتكبّر اللّه تعالى! ففيه إشكال، إذ قد يكون الاستنكاف عن استحقاق كمن يستنكف عن الذل والهوان، كما أنّ الكلام ليس في التكبر، بل في الاستكبار!ثم إنّ الآية لم تذكر الشق الثاني وهو: (من لم يستنكف ولم يستكبر) إيجازاً في الكلام واكتفاءً بذكره في الجزاء، حيث قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ...}.

الرابع: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}.

بعد الانتهاء من محاججة اليهود والنصارى ودحض حججهم ببيان الحق، يتوجه الخطاب إلى عامة الناس بدعوتهم إلى الإيمان وذلك...

أولاً: ببيان قيام الحجة على رسالة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: {قَدْ جَاءَكُم بُرْهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمْ} و(البرهان) هو الدليل والحجة على الحق، فلا يطلق على المغالطات ولا حجج الباطل وأهله، والمقصود الأدلة العقلية والنقلية كالمعاجز وبشارات الأنبياء الماضين.

وقوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} تأكيد بأنه حق لا باطل فيه، وأنه لأجلكم ولأجل هدايتكم.

وقوله: {نُورًا مُّبِينًا} أي ما يهديكم في حياتكم من العقائد والأحكام، شُبّهت بالنور لإنارتها درب الإنسان، وغير خفي أنّ للبرهان والنور مصاديق

ص: 545

متعددة، فهي تشمل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة والقرآن والشريعة ومعاجز الرسول ونحو ذلك.

الخامس: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ...} الآية.

الإيمان قلبي والاعتصام عملي؛ لأنّ الاعتصام هو الامتناع عن الشر ولايكون ذلك إلاّ بالعمل بكتاب اللّه وسنة رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واتباع الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وقوله: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ وَفَضْلٖ} يرتبط بالآخرة، ولذا دخلت السين على سيدخلهم، أي الرحمة الموعودة من الثواب، وزيادة عليه من فضله، وقوله: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا} يرتبط بالدنيا لذا قال: يهديهم بدون سين، أي يستمرون على الهداية بلطف من اللّه تعالى كما قال: {اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ}(1)، وهو دعاء بالاستمرار على الهداية.

ثم إنّ الشق الآخر معلوم أيضاً، أي الذين لم يؤمنوا ولم يعتصموا ففي العذاب والضلال، قيل: إنما لم يذكره مع أنّ دأب القرآن في ذكر الثواب والعقاب معاً! لأجل أن يكون ختم السورة بالوعد الحسن!

ص: 546


1- سورة الفاتحة، الآية: 6.

الآية 176

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَٰلَةِ إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُۥ وَلَدٌ وَلَهُۥ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ 176}

176- في ختام السورة يتم اللّه ذكر فرائض الإرث {يَسْتَفْتُونَكَ} يطلبون منك بيان الحكم والفتوى، {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} فالحكم فرض منه لا من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {فِي} حكم {الْكَلَٰلَةِ} وهم أقرباء الميت بالنسب غير الوالدين والأولاد، ف {إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ} مات {لَيْسَ لَهُۥ وَلَدٌ} وأما لو كان له ولد فلا تصل النوبة إلى إخوته {وَلَهُۥ أُخْتٌ} من الأب أو الأبوين، وأما الإخوة من الأم فقد مضى حكمهم في أوائل السورة {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} بالفرض، {وَهُوَ يَرِثُهَا} الأخ يرث أخته جميع المال {إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ}.

{فَإِن كَانَتَا} الوارثتان أختين {اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} بالفرض {مِمَّا تَرَكَ} أخوهما.

{وَإِن كَانُواْ} الورثة {إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً} بعضهم ذكور وبعضهم إناث {فَ} كل الإرث لهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}.

ص: 547

وإنما {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} الأحكام ومنها أحكام الإرث كراهية {أَنتَضِلُّواْ} عن الحق وعمّا هو في صالحكم، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} لذلك أحكامه صائبة وهي الهدى.

بحوث

الأول: غالب أحكام الإرث ذكرت في الآيتين 11 و 12، ومنها إرث كلالة الأم، فلعلّ وضع هذه الآية في آخر سورة النساء، لأجل أنّ السورة بدأت بأحكام الأرحام والأقرباء وأموالهم، فأراد اللّه تعالى ختم السورة بذلك، فترتيب السورة هو ذكر الأحكام المالية لهؤلاء، ثم ذكر الكفار والمنافقين واليهود والنصارى، ثم عود في النهاية إلى الأحكام المالية للأرحام فتأمل، أو لما ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة أصول الدين أردفها بذكر حكم يصعب عليهم وهو إرث الأخوات، ولعلّه لذلك قدّم ذكر إرثهن على ذكر إرث الإخوة، حيث لم يكن الجاهليون يورّثون الإناث إطلاقاً، بل الرجال الأقارب كانوا يستولون على الميراث كلّه، وتقويةً للحكم صدّر اللّه تعالى أحكام الإرث بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَٰدِكُمْ...} الآية، وبقوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} مع أنهم استفتوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

الثاني: قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَٰلَةِ}.

أي يستفتونك في الكلالة واللّه يفتيكم فيها، و(الاستفتاء) هو طلب الفتوى والسؤال عن الحكم الشرعي.

و{الْكَلَٰلَةِ} كما مرّ أقرباء الميت بالنسب غير الآباء والأبناء؛ لأنهم يحيطون بالنسب، فليس أحدهما يرجع إلى الآخر في نسبه، بل يجتمع

ص: 548

نسبهما في ثالث، فالإخوة يجمعهم الأب والأم أو أحدهما.والمقصود من الاستفتاء هنا كلالة الأبوين وكلالة الأب، وأما كلالة الأم فقد مضى حكمها في الآية 12 حيث قال تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُۥ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} حيث إنّ نصيبهم لا يقل عن السدس ولا يزيد على الثلث، ولا فرق بين الذكر والأنثى، بل يقسم النصيب بينهم بالتساوي كما مرّ.

وأما كلالة الأبوين أو كلالة الأب فالتفصيل في إرثهما أكثر، وقد بينت هذه الآية أربعة فروض.

الفرض الأول: الميت أخ، والوارث أخت واحدة ولا وارث آخر حيث قال: {إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُۥ وَلَدٌ وَلَهُۥ أُخْتٌ} فهنا نصيبها بالفرض نصف الإرث، ويردّ عليها النصف الثاني؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1)، وقد مرّ أنّ هذا هو مقتضى الجمع بين الآيتين، فلا يصح التعصيب بإعطاء النصف الثاني للرجال من الطبقة اللاحقة، فإنّ هذا يخالف آية (أولو الأرحام).

فإن كان للميت ورثة آخرون، فهنا حالتان:

1- أن يزيد الإرث على السهام، فهنا يرد الزائد إلى الأخت، وذلك لآية (أولو الأرحام) ولدلالة السنة، كما لو كان للميت زوجة وأخت من الأم وأخت من الأبوين أو الأب، فللزوجة الربع، وللأخت من الأم السدس،

ص: 549


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

وللأخت من الأبوين أو الأب النصف بالفرض، والزيادة لها بالردّ كما لوترك اثني عشر درهماً، فللزوجة ثلاثة، وللأخت الأميّة اثنان، وللأخت من الأبوين أو الأب ستة بالفرض والزائد - وهو واحد - بالردّ.

2- أن يكون سهام الآخرين أكثر من النصف، فهنا لا عول، إذ هو باطل كما مرّ، بل سهم الأخت من الأبوين أو الأب هو ما تبقى وليس النصف، إذ هذه الآية إنما ذكرت صورة عدم وجود وارث آخر، وأما مع وجوده فالآية ساكتة والمرجع إلى السنة، بعد استحالة كون إرثها النصف؛ لاستلزامه عول الفريضة والجهل سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، كما لو ترك الميت زوجة وإخوة من الأم وأختاً من الأبوين أو الأب، فللزوجة الربع (3 في المثال)، وللإخوة من الأم الثلث (4 في المثال) وذلك لدلالة الآية 12، ويبقى أقل من النصف (5 في المثال) فهو نصيب الأخت من الأبوين أو الأب.

الفرض الثاني: أن يكون الميت أختاً والوارث أخاً ولا وارث آخر، فهنا كل الإرث له؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ}.

فإن كان هناك وارث آخر أعطي نصيبه ويكون للأخ الباقي، كما لو كان لها زوج، فللزوج النصف بالفرض، والباقي للأخ، مثال آخر: لو كان لها زوج وإخوة من الأم وأخ من الأبوين أو الأب، فللزوج النصف، وللإخوة من الأم الثلث بالفرض، والباقي للأخ من الأبوين أو الأب.

الفرض الثالث: لو كان الميت أخاً أو أختاً ولهما أختان من الأبوين أو الأب فقط ولا وارث آخر، فنصيبهما الثلثان بالفرض، حيث قال تعالى:

ص: 550

{فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}، وأما الباقي فيردّ عليهما بآية(أولو الأرحام)، وهكذا لو كان للميت أخوات أكثر من اثنتين ولا وارث آخر.

فإن كان للميت ورثة آخرون فالآية ساكتة عن نصيب الأختين، فقد دلت السنة على أنّ سائر الورثة يعطون نصيبهم ويكون الباقي للأختين أو للأخوات، فليس فرضهن حينئذٍ الثلثين، بل الفرض الباقي، كما لو كان للميتة زوج وأختان، فللزوج النصف، والباقي - وهو النصف - للأختين يقسم بينهما بالسوية.

مثال آخر: لو كان للميتة أخت من الأم وأختان من الأبوين أو الأب، فللأخت من الأم السدس بالفرض، والباقي وهو خمسة أسداس للأختين من الأبوين أو الأب.

الفرض الرابع: إن كان الميت أخاً أو أختاً ولهما إخوة ذكور وإناث، من غير فرق في عددهم، كما لو كان أخ وأخت، أو إخوة وأخت أو أخوات وأخ ونحو ذلك، فهنا لا سهم معيّن لأحدهم، بل للذكر مثل حظ الأنثيين، حيث قال تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}.

الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُۥ وَلَدٌ}.

ذكرنا أنّ معنى {الْكَلَٰلَةِ} الأقرباء في النسب من غير العمودين، أي لا يرجع نسب أحدهما إلى الآخر، بل يجتمع نسبهما في ثالث، وعليه فقد يقال: إنّ الكلام فيما لم يكن للميت لا والد ولا ولد، فقوله: {لَيْسَ لَهُۥ

ص: 551

وَلَدٌ} تأكيد، وحيث إنّ الغالب موت الآباء قبل الأبناء ولذا لم يكن حاجة إلىالتأكيد بأنه ليس له والد.

ويمكن أن يقال: إنّ الكلالة تطلق على هؤلاء الأقرباء سواء كان والد وولد أم لا، فقوله: {لَيْسَ لَهُۥ وَلَدٌ} ليس تأكيداً وإنما بيان لفرض إرث الكلالة، وعليه فعدم وجود الولد تكفلت به الآية، وعدم وجود الوالد تكفلت به السُنة، وهذا هو الأظهر.

و(الولد) باتفاق أهل اللغة يطلق على الذكر والأنثى، فالمعنى أنّ الأخت إنما ترث إذا لم يكن للميت مولود، فلو كان له ابن أو بنت فلا ترث الأخت، ولذا صارت من الطبقة الثانية.

الرابع: قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ}.

الآية ظاهرة في أنّ إرثه هو كل ما تركته أخته حيث لم يعيّن مقدار نصيبه.

وقوله: {إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ} ظاهر في أن لا يكون للميتة مولود لا ذكر ولا أنثى، وبذلك يبطل التعصيب، مضافاً إلى آية أولي الأرحام كما مرّ في أوائل السورة، فلو كان للميتة بنت فلها ولد فلا يرثها أخوها.

قيل: ذكرت الآية إرث الأخت من أخيها، والأخ من أخته، ومن ذلك يظهر إرث الأخت من أختها والأخ من أخيه، إذ لو كان لهما نصيب آخر في هذين الفرضين لبيّنته الآية؛ لأنها في مقام جواب عن السؤال، والسؤال عام عن كل الفروض، أو يقال: إنّ هذين الفرضين ذكرت السنة حكمهما.

وكذا يظهر حكم إرث الأخوين أو الإخوة الذكور؛ لأن الأخ الواحد إن كان يرث الجميع فهؤلاء كذلك يرثون الجميع بطريق أولى.

ص: 552

الخامس: قوله تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ}.أي كانت الأختان اثنتين، أو كان مَن يرث اثنتين، فمرجع الضمير يستفاد من سياق الكلام، وهكذا لو كنّ نساءً أكثر من اثنتين، ويستفاد الحكم إما من الآية لو كانت ظاهرة في أنّ قوله: {اثْنَتَيْنِ} بيان للأقل، أو من السنة.

وقيل: لم يذكر الميت هنا - وفي الصورة التالية - لبيان أنّ الذكورة والأنوثة لا دخل لها في السهام، فسواء كان الميت أخاً أم أختاً وقد خلّف أختين فنصيبهما الثلثان بالفرض.

السادس: قوله تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}.

أي إن كان من يرث الميت إخوة بعضهم ذكور وبعضهم إناث فسهام الذكور ضِعف سهام الإناث.

ولا فرق في ذلك بين تعدد الذكور والإناث أم تعدد أحدهما أو عدم تعددهما، بأن كانوا إخوةً وأخواتٍ، أو كانوا أخاً وأخوات أو أختاً وإخوةً، وغير ذلك من الفروض، وتعميم الحكم لجميع الصور هو ظاهر الآية، أو يقال: إنّ باقي الصور استفيدت من السنة.

ولا يخفى أنّ للذكر مثل حظ الأنثيين ليست قاعدة عامة، بل ذكرت في القرآن في موردين: أحدهما في الأولاد كما مرّ في الآية 11، والآخر في الإخوة من الأبوين أو الأب في هذه الآية، ولذا في سائر الموارد المتبّع الدليل من السنة، فإن دلّ على ذلك فهو كما في الأعمام والعمات، وإن لم يكن دليل خاص فالمنصرف من إطلاق دليل الإرث هو التساوي في

ص: 553

السهام، كما مرّ.قال في مجمع البيان: وقد تضمنت الآية التي أنزلها اللّه في أول هذه السورة بيان ميراث الولد والوالد، والآية التي بعدها ميراث الأزواج والزوجات، والإخوة والأخوات من قِبل الأم، وتضمنت هذه الآية التي ختم بها السورة بيان ميراث الإخوة والأخوات من الأب والأم، والإخوة والأخوات من قبل الأب عند عدم الإخوة والأخوات من الأب والأم. وتضمّن قوله سبحانه: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1) أنّ تداني القربى سبب استحقاق الميراث، فمن كان أقرب رحماً وأدنى قرابة كان أولى بالميراث من الأبعد(2).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

19 / شوال / 1438 ه

ص: 554


1- سورة الأنفال، الآية: 75.
2- مجمع البيان 3: 370.

الفهرس

الإطار العام للسورة ... 5

الآية 1 ... 6

كيفية تناسل أولاد آدم (عليه السلام) ... 11

انقطاع الأنساب يوم القيامة إلا نسب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 12

الآيتان 2-3 ... 15

حول تعدد الزوجات ... 25

الآيات 4-6 ... 27

السفه المانع عن التصرف في الأموال ... 32

الآيات 7-10 ... 42

بطلان التعصيب ... 46

الأثر الوضعي لظلم الأيتام ... 50

ظلم ذرية الظالم عقوبة له ... 51

الآيتان 11-12 ... 54

بطلان العول ... 58

نصيب الأولاد والبنات بين الإسلام وبين جاهليتين ... 61

ص: 555

علة تعيين سهام الإرث ... 68

الآيتان 13-14 ... 73

معنى الخلود في جهنم بسبب المعاصي ... 77

الآيتان 15-16 ... 79

الآيتان 17-18 ... 87

معنى الحق على اللّه ... 89

الآيات 19-21 ... 99

إلزام الكفار بما يعتقدون ... 101

الآيات 22-24 ... 110

حكمة محرميّة النساء الأقارب ... 115

حكمة الأخوّة الرضاعية ... 117

عدم نسخ نكاح المتعة ... 126

الآية 25 ... 129

الآيات 26-28 ... 140

التخفيف سبب التشريعات ... 146

الآيات 29-31 ... 152

الآيتان 32-33 ... 165

الإرث بالسبب ... 171

الآيتان 34-35 ... 174

قيمومة الرجال ... 175

ص: 556

المساواة بين الرجال والنساء ... 178

ضرب الناشز ... 183

الآيات 36-39 ... 186

الآيات 40-42 ... 196

الآية 43 ... 202

فائدة التيمم ... 209

الآيات 44-46 ... 211

الآيات 47-50 ... 220

مطالب حول عدم غفران الشرك ... 222

الآيات 51-55 ... 229

الآيات 56-59 ... 239

معنى أولي الأمر ... 247

المرجع حين التنازع ... 248

الآيات 60-63 ... 252

الآيات 64-68 ... 262

توسيط الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للتوبة ... 266

الآيتان 69-70 ... 273

الآيات 71-73 ... 279

الآيات 74-76 ... 288

سبب غلبة الكفار أحياناً ... 294

ص: 557

الآيات 77-79 ... 296

حال المسلمين في مكة والمدينة ... 299

سبب ابتلاء الأنبياء والصالحين ... 309

الآيات 80-83 ... 311

عدم اختلاف القرآن ... 317

الآيات 84-87 ... 324

مشاركة السبب في الثواب أو العقاب ... 328

الآيات 88-91 ... 334

الآيات 92-94 ... 346

الحقوق في القتل ... 348

الآية 95-96 ... 359

كيفية الجهاد الحق ... 362

الآيات 97-100 ... 367

كلام حول المستضعف ... 374

فوائد الهجرة ... 376

الآيات 101-104 ... 378

الآيات 105-109 ... 388

في استغفار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 392

الآيات 110-113 ... 399

كيفية قضاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 405

ص: 558

الآيات 114-116 ... 409

الآيات 117-122 ... 416

الآيات 123-126 ... 426

الآيات 127-130 ... 434

نشوز الزوج ... 443

الآيات 131-134 ... 448

الآيات 135-138 ... 455

حول أصول الدين ... 461

الآيات 139-141 ... 465

علائم المنافقين ... 467

معنى عدم سبيل الكافرين على المؤمنين ... 473

الآيات 142-147 ... 475

سبب قبول إسلام المنافق ... 482

كيفية توبة المنافق ... 483

الآيتان 148-149 ... 486

جهر المظلوم بظلامته ... 488

الآيات 150-152 ... 492

الآيتان 153-154 ... 498

الآيات 155-161 ... 504

الآيات 162-166 ... 519

ص: 559

في حجية العقل والرسل ... 526

الآيات 167-170 ... 529

الآيات 171-175 ... 536

حقيقة السيد المسيح (عليه السلام) ... 539

الآية 176 ... 547

الفهرس ... 555

ص: 560

التفكر في القرآن (سورة المائدة) المجلد 6

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفكر في القرآن (سورة المائدة) المجلد 6 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دار الفكر، 1439ق = 1397ش.

الشجرة الطيبة

التفكر في القرآن

--------------------

آية اللّه السيّد جعفر الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1439ه.ق

ص: 1

اشارة

التفكر في القرآن

سورة المائدة

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدين

الإطار العام للسورة

لعلّ محور هذه السورة المباركة هو الطهارة والنزاهة والتي منها الوفاء بالعهود والمواثيق سواء كانت مع اللّه سبحانه أم مع الناس، فلا بد مِن صحة المعتقد وصحة العمل في كل شيء، سواء في العبادات أم في المعاملات أم في المأكل والمشرب أم في الارتباطات الاجتماعية، وتتضمن السورة أمثلة من نقض العهد مع اللّه ومع الأنبياء ومع الناس، بذكر الكتب السابقة والهداية فيها، والنهي عن اتّباع الكفار والمنافقين والتحذير منهم ومن الارتداد، مع مناقشة العقائد الباطلة لليهود والنصارى ومخالفتم للكتب والرسل، مع التذكير بنعم اللّه سبحانه، ثم الحث على تبليغ الدين وإقامة الكتاب، والتحذير من تحليل الحرام وتحريم الحلال، ثم بيان جملة من عهود اللّه تعالى في أحكامه من حلال وحرام، كالقتل والسرقة والخمر وأكل المال بالباطل، وكذا أحكام القسم وكفارته، وأحكام الصيد والوصية والشهادة،

ص: 5

ثم الحث على الطاعة وترك المعصية، ثم الوعد والوعيد، وبيان مصير المؤمنين والكفار في الآخرة.

والحاصل: يكون المحور هو الوفاء بالعهود مطلقاً، والذي من أهم مصاديقه صحة العقيدة وطهارة ونزاهة العمل.

ص: 6

الآيتان 1-2

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ 1 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَٰئِدَ وَلَا ءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰنًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 2}

{بِسْمِ اللَّهِ} الابتداء والاستعانة باسمه، {الرَّحْمَٰنِ} برحمة عامة للجميع، {الرَّحِيمِ} بالمؤمنين برحمة خاصة.

1- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} الخطاب لهم؛ لأنهم المنتفعون بهذه الأحكام مع عموم الحكم للجميع {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} أي العهود التي بينكم وبين اللّه، كالإيمان به وبرسله وأوصيائهم وبالعمل بأحكامه، وكذلك بينكم وبين الناس، ومن جملة عهود اللّه تعالى الحلال والحرام في الطعام، فقد {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ} وهي الإبل والبقر والغنم وكذلك أجنّتها {إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} تحريمه في الآية الثالثة، حال كونكم {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي في حالة الإحرام، وهذا استثناء ثانٍ من الحليّة، فلا يجوز للمحرم

ص: 7

الاصطياد ولا أكل الصيد.

وإنما كان هذا الحكم في الحلال والحرام، حيث {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَايُرِيدُ} على حسب الحكمة في التحليل أو التحريم.

2- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} لا تتهاونوا بحرمات اللّه ف- {لَا تُحِلُّواْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ} بأن تتعدوا عليها ولا تراعوها، {وَلَا} تحلّوا {الشَّهْرَ الْحَرَامَ} بأن تقاتلوا فيه وقد نهاكم اللّه عنه، {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَٰئِدَ} أي لا تحلوهما بأن تمنعوا وصولها إلى محلّها في مكة أو منى، والهدي: ما يُهدى إلى الكعبة من الأنعام، والقلائد: ما جعل عليها علامة - كتقليدها بنعل في عنقها - ليُعلم أنها سيقت للبيت الحرام، {وَلَا} تحلّوا {ءَامِّينَ} أي قاصدين {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} للحج أو العمرة بأن تصدوهم عن بلوغه حال كونهم {يَبْتَغُونَ} يطلبون {فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ} بالثواب أو الرزق {وَرِضْوَٰنًا} رضىً من اللّه تعالى، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} خرجتم عن الإحرام بأداء مناسك الحج أو العمرة {فَاصْطَادُواْ} يجوز لكم الصيد في خارج الحرم.

{وَ} إذا خالف بعض الناس الأحكام الشرعية فلا يجوز الاعتداء عليهم إلاّ بمقدار العقوبة التي شرّعها اللّه تعالى، ف-{لَا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملنّكم {شَنََٔانُ قَوْمٍ} البُغض الشديد لهم {أَن صَدُّوكُمْ} أي بسبب أن منعوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} على {أَن تَعْتَدُواْۘ} عليهم بخلاف حكم اللّه تعالى، بل عليكم أن تُعينوهم على طاعة اللّه بالحج أو العمرة {وَتَعَاوَنُواْ} أي عليكم التعاون {عَلَى الْبِرِّ} الطاعات {وَالتَّقْوَىٰ} ترك المعاصي، فاعفوا عن

ص: 8

هؤلاء وتغاضوا عنهم، {وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ} المعصية {وَالْعُدْوَٰنِ} التعدي على الآخرين وظلمهم للتشفي منهم، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} احفظوا أنفسكم عن غضبه بترك العصيان ف-{إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ}.

قد مرّ أن هذه العبارة يراد بها من أسلم بلسانه - سواء آمن بقلبه أم لا - ويقابله أهل الكتاب والمشركون، ومع أن الأحكام عامة للجميع إلاّ أن تخصيص هؤلاء بالخطاب؛ لأنهم المنتفعون به ولأنهم الملزمون بالعمل به، وأما الكفار فيتم إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم، ولا يجبرون على وظائف المسلمين إلاّ في الأمور العامة التي لا بد للجميع من الالتزام بها.

وفي تفسير العياشي عن ابن عباس قال: «ما أنزلت آية {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} إلاّ وعليّ شريفها وأميرها، وقد عاتب اللّه أصحاب محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) في غير مكان وما ذكر علياً (عليه السلام) إلاّ بخير»(1)، والمقصود أنه (عليه السلام) شريف المؤمنين وأميرهم فهو أشرف من خوطب بها من المؤمنين، لكنه (عليه السلام) غير مقصود بالآيات التي ذمّت المسلمين كقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(2) فإن أحكام الشريعة عامة للجميع إلاّ أن الذم في مخالفتها خاص بالمخالفين ولا يشمل المعصومين (عليهم السلام) .

الثاني: قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}.

ص: 9


1- تفسير العياشي 1: 289؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 280.
2- سورة الصف، الآية: 2.

وَفَى ووفَّى وأوفى بمعنى واحد بأن كان تاماً لا نقص فيه، والوفاء بالعقود هو الالتزام بها وبجميع لوازمها وعدم نقضها.

و(العقود) كل عهد بين طرفين، وأصله من عقد الحبل ونحوه حيثيرتبط الطرفان بإحكام، وشُبّه به المواثيق المعنوية للإحكام فيها وعدم جواز نقضها عقلاً وشرعاً.

وتشمل العقود العهود مع اللّه تعالى في الالتزام بها بأن يطيعوه سبحانه ويعوّضهم الجنة فهو عهد من الطرفين، قال سبحانه: {أَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}(1) في العقائد والأحكام، ومن العقائد الالتزام بولاية الأئمة (عليهم السلام) ، حيث أمر اللّه تعالى بها، وعن الإمام الجواد (عليه السلام) قال: «إن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عقد عليهم لعلي (عليه السلام) بالخلافة في عشرة مواطن ثم أنزل {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين (عليه السلام) »(2).

كما تشمل عقود الناس فيما بينهم فلا يجوز لأحد نقضها؛ لأن قوام الحياة الاجتماعية بالعهود والمواثيق ولولا وجوب الالتزام بها لم يستقر حجر على حجر ولعمّ الهرج والمرج حياة الناس، ولذا كان الأصل في المعاملات اللزوم، وقد يستثنى من ذلك بعض الحالات، كما لو اتفق الطرفان على الفسخ، أو دلّ الدليل الخاص على عدم لزوم عقد بعينه؛ لعدم توقف الحياة على الالتزام به، كالوكالة، حيث يجوز لكل واحد من الموكِّل أو الوكيل الخروج منها، وحيث لا ضرر في ذلك أجازه الشرع

ص: 10


1- سورة البقرة، الآية: 40.
2- تفسير القمي 1: 160؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 280.

بدليل خاص.

ولا يخفى أن العقد والعهد بمعنى واحد إلاّ أن الملاحظ في العهد المتعاهدان، والملاحظ في العقد عملهما.

الثالث: قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ}.

ابتدأ اللّه تعالى بذكر أحد عهوده مع خلقه وهو حفظ حرماته تعالى في حجّ بيته الحرام، ولعل سبب الشروع فيه هو أن الحج جامع للأصول والفروع، فيبدأ بالتلبية التي هي إجابة للّه تعالى في كل ما شرعه مع نفي الشريك عنه، مروراً بترك المحرمات أجمع، مضافاً إليها تروك الإحرام خاصة، مع اشتمال الحج على أهم الفروع كالصلاة والقربان والرمي ونحو ذلك.

ومن براعة الاستهلال أن قدّم اللّه تعالى ما أحلّه على ما حرّمه، فحيث أراد بيان تحريم الصيد في حالة الإحرام بيّن أنه تعالى أحلّ الأنعام بشكل عام إلاّ أنواعاً منها ذكرها في الآية الثالثة، مع بيان أن تحريم الصيد خاص بحالة الإحرام - التي هي فترة وجيزة - وبعد الخروج عن الإحرام يجوز الصيد، وهذا من عهود اللّه تعالى على الناس الذي لا بد لهم من الالتزام به، ثم أتبع ذلك بذكر مجموعة من الحرمات التي ترتبط بالحج غالباً وستأتي في الآية التالية.

ثم إن اللّه تعالى كلّما حرم شيئاً لحكمة، أحلّ شيئاً يماثله لحكمة أيضاً، فلمّا حرم الربا أحلّ البيع، ولمّا حرّم الزنا أحل النكاح، ولمّا حرّم طعاماً أحلّ غيره، نعم لو لم يكن للشيء نفع مطلقاً، بل كان فيه الضرر مطلقاً حرّمه بشكل عام كالقتل، أما ما كان للإنسان فيه حاجة فحرّم ما أضر منه وحلّل ما لم يكن فيه ذلك الضرر.

ص: 11

وقوله: {أُحِلَّتْ} بجواز جميع الانتفاعات والتي أهمها الأكل.

سؤال: إن البهائم تحب الحياة وتشعر بذلك، فكيف أجيز قتلها لانتفاع الإنسان وتلذذه مع إمكان اقتصاره على الأطعمة النباتية، ورحمة اللّه تعالىعامة، فكيف ينسجم ذلك مع رحمته؟

والجواب: إن الرحمة من صفات الفعل وهي محكومة بالحكمة التي هي من صفات الذات، فالحكمة مطلقة ودائمة، وأما الرحمة فهي تجري ما لم تكن خلاف الحكمة، فلذا لا رحمة في إنزال العقوبة بالمجرم؛ لأنها خلاف الحكمة حينئذٍ، وحيث إن اللّه تعالى خلق الكون لأجل الإنسان فقال: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(1) لذا كان من الحكمة خلق حيوانات ينتفع بها الإنسان بأكلها وباستخدامها، فقد خلقت لذلك فلا معنى للمنع عمّا خلقت له، وهكذا يقال في إجراء التجارب الطبيّة على بعض أنواع الحيوان مع أنه يتضمن إيلامها وقتلها، نعم لا يجوز القتل من غير سبب عقلائي وشرعي، كالصيد اللّهوي أو تعذيب الحيوانات والتمثيل بها من غير غرض عقلائي، فإن ذلك من الظلم المنهي عنه.

وقوله: {بَهِيمَةُ} من البهم وهو عدم التمييز، وهي كل ذات أربع من دواب البر والبحر، و{الْأَنْعَٰمِ} جمع نِعَم وهو جمع نعمة، وتطلق على البقر والإبل والغنم، ولا تطلق على البقر منفردة ولا على الغنم منفردة، والإضافة في {بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ} بيانية ولعلّ ذكر {بَهِيمَةُ} مع إمكان الاستغناء عنها لأجل بيان علة الحكم، أي أن اللّه تعالى إنّما أحلّها؛ لأنها لا عقل ولا تمييز

ص: 12


1- سورة البقرة، الآية: 29.

لها فلم تخلق لكمال آخر، وإنما خلقت لانتفاع البشر بها.

ولا يخفى أن {بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ} لفظ عام يشمل أجنّتها؛ لأنها أيضاً بهيمة ومن الأنعام، وما في بعض الروايات إنّما هو لبيان هذا المصداق الذيقد يخفى على البعض، فعن محمد بن مسلم قال: «سألت أحدهما‘ عن قول اللّه عزّ وجلّ {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ} فقال: الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه، فذلك الذي عنى اللّه عزّ وجلّ»(1).

وقوله: {إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} أي ما يقرأ عليكم تحريمه، وذلك في الآية الثالثة من هذه السورة، فهي أنعام لم تُذكَّ بالتذكية الشرعية لذلك حرّمت، وهذا من عهود اللّه تعالى الذي لا بد لكم من مراعاته، كما أن تحليل بهيمة الأنعام يشمل كل أجزائها، فهي حلال إلاّ ما استثني منها كالدم المذكور في الآية الثالثة وبعض محرمات الذبيحة المذكورة في الروايات.

الرابع: قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ...} الآية.

بيان لعهد اللّه تعالى بحفظ حرماته في الحج والذي منه عدم الصيد في حال الإحرام، وهذا هو المقصود من تقديم حلية البهائم، وهذا الاستثناء الثاني بعد قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ}، فلا يجوز الصيد مادام مُحرماً، فإن الإنسان بالإحرام يخصص نفسه ووقته للّه تعالى، فلا ينشغل بالدنيا وإنما يأخذ منها في حالة الإحرام ما فيه الضرورة له، فلذا لم يُبَح له الصيد اكتفاءً بطعامه بالنباتات والبهائم، كما أنه نوع أمن للصيد فلا يصل إليه أذى ممّن اختص وقته وحالته للّه تعالى، كما يحرم بالإحرام زينة الدنيا من العطر

ص: 13


1- الكافي 6: 234؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 281.

والنساء والتمشط والنظر في المرآة وغير ذلك مما هو مذكور في الكتب الفقهية لأجل ما ذكر، وأيضاً لامتحان الخلق في أيام معدودة لتروض أنفسهم للطاعة والابتعاد عن المعصية.

وقوله: {غَيْرَ} حال، أي أحلت الأنعام حال كونكم لا تحلّون الصيد، فكأنه نوع مقايضة، أي أحلّ هذا لتمتنعوا عن ذاك، وهو نفي بمعنى النهي.

وقوله: {مُحِلِّي} أي محليّن حذفت النون للإضافة، وعدم إحلال الصيد يشمل صيده وأكل لحمه والإمساك به ونحو ذلك مما هو مذكور في الكتب الفقهية.

وقوله: {الصَّيْدِ} هو الحيوان الممتنع غير الأهلي، ويراد به صيد البرّ، وأما صيد البحر فجائز كما سيأتي في الآية 96.

وقوله: {حُرُمٌ} جمع محرم، وهو الذي بدأ بالحج أو العمرة بالتلبية بشروطها المذكورة في الفقه.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} لبيان علة التحليل والتحريم، وهي إرادة اللّه تعالى، والتي لا تكون إلاّ بحكمة بأن تكون المصلحة في الحكم، فلا يصح أن يعترض أحد بأنه ما الفرق بين الصيد حال الإحرام وحال الإحلال، وأنه لماذا حُرّم الأول وأُحل الثاني؟، أو يقول: لماذا أحلت بهيمة الأنعام؟ أو غير ذلك من الاعتراضات على أحكام اللّه تعالى، فيجاب بأن اللّه تعالى هو المالك الحكيم فلا يسأل عن فعله - التكويني أو التشريعي - نعم يحق للإنسان الاستفهام ليزداد علماً ويقيناً والتزاماً، لكن إن لم يفهم الحكمة أو لم يقتنع بها فذلك لقصور فيه لا لإشكال فيها.

ص: 14

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ...} الآية.

لعل تكرار قوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} لأجل الفرق بين سنخ الحكم،ففي الآية الأولى أمر بالوفاء بالعهد، وفي الثانية نهي عن نقض العهد، فاستدعى ذلك تجديد الخطاب تأكيداً.

وقوله: {لَا تُحِلُّواْ} أي تبيحوا لأنفسكم ما حرّمه اللّه تعالى، وحرمة كل شيء بحسبه، ففي الآية بيان مجموعة من عهود اللّه تعالى المرتبطة بالحج وإن كان الحكم عاماً للحج وغيره، وهي:

1- {شَعَٰئِرَ اللَّهِ} جمع شعيرة، وهي بمعنى علائم الشيء ومعالمه، وأصل اشتقاقها من الشَعر، فكأنها تلازم الشيء كتلازم الشعر للجسد، أو من الشعار وهو الثوب الذي يلي الجسم ويلتصق به، وكذلك علائم الشيء ومعالمه ملتصقة به ودالة عليه، وفي التقريب: «والشعائر - لكونها مطلقة - تشمل كل شيء كان أو أصبح من الأمور المرتبطة باللّه تعالى ما لم ينهَ عنه، فمعالم الحج من الشعائر، كما أن تشييد القباب على أضرحة الأئمة الطاهرين من الشعائر»(1).

وبعبارة أخرى كل ما دلّ عليه الدليل الشرعي - بنحو الخصوص أو بنحو العموم وكان مصداقاً له - وصار علامة للدين فهو من الشعائر، فالصلاة من شعائر الدين لدلالة الدليل الخاص عليه، وبناء القباب على الأضرحة من شعائر الدين؛ لأن اللّه تعالى أمر بمودّتهم وإحياء أمرهم وتعظيمهم، وهذه

ص: 15


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 597.

القباب من مصاديق ما أمر اللّه تعالى به.

2- {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} وإحلاله هو بانتهاك أمر اللّه تعالى حيث حرّم القتال فيه، والشهر هنا اسم جنس يشمل الأشهر الأربعة، وهي ذو القعدةوذو الحجة والمحرّم ورجب، وقد مرّ تفصيلها في سورة البقرة.

3- {وَلَا الْهَدْيَ} جمع (هَدْيَة) وهو ما يُهدى إلى الكعبة، وإحلاله هو المنع عن بلوغه إلى محلّه في مكة أو منى، قال سبحانه: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}(1).

4- {وَلَا الْقَلَٰئِدَ} جمع قلادة، ويراد بها - بعلاقة المجاورة - الإبل التي يعلّق على عنقها نعل علامة على كونها مخصصة للنحر في الحج، وهي بعد تقليدها تكون للّه تعالى فلا يجوز الرجوع فيها، نعم يجوز الانتفاع بركوبها وبلبنها إذا لم يكن مضراً بها، قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَٰفِعُ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}(2).

5- {وَلَا ءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (آمّين) جمع آمّ، أي القاصدين لمكة، وإحلالهم هو صدّهم عن المسجد الحرام أو مقاتلتهم ونحو ذلك، ولا يخفى أن المقصود بهم المسلمون بقرينة قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰنًا} والمشرك وإن كان يبتغي ذلك أيضاً إلاّ أنه ليس من دأب القرآن التعبير عنهم هكذا، وأيضاً لأن هذه السورة نزلت بعد سورة التوبة، حيث نهى اللّه تعالى عن دخول المشركين إلى المسجد الحرام، قال سبحانه: {إِنَّمَا

ص: 16


1- سورة الفتح، الآية: 25.
2- سورة الحج، الآية: 33.

الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا}(1)، فلا يصح ما ذكره بعض المفسرين من أن قوله: {وَلَا ءَامِّينَ الْبَيْتَالْحَرَامَ} منسوخة بقوله: {فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ}، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة، نسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء»(2)، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «إنما أنزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة»(3).

وقوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰنًا} حال وهو كالتعليل لعدم جواز الصد، فهؤلاء قصدوا اللّه تعالى إلى بيته فلا يجوز منعهم عنهم، وفي الآية إشعار بجواز صدّ من قصد مكة للإفساد فيها.

وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} بيان أن حرمة الصيد مؤقتة بمدة الإحرام، فإذا أحلّ جاز له الصيد في خارج الحرم، وأما الشعائر والشهر الحرام والهدي والقلائد وآمين البيت الحرام فحرمتها مستمرة غير موقتة بوقت، والأمر في {فَاصْطَادُواْ} للإباحة؛ لأن الأمر بعد الحظر لا يدل على أزيد من ذلك، وهو كما يدل على جواز الصيد يدل على حلية لحم المصيود إن كان من الحيوانات المحلّلة اللحم كالضبي والنعامة ونحوهما.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ...} الآية.

بيان أن حرمات اللّه تعالى لا بد أن تراعى، ولا يجوز للإنسان أن يُحكّم عواطفه ونفسياته في الأحكام الشرعية، فلا يجوز الانتقام اعتباطاً، وإنما

ص: 17


1- سورة التوبة، الآية: 28.
2- تفسير العياشي 1: 288؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 278.
3- تهذيب الأحكام 1: 361؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 278.

ضمن الدائرة التي حدّدها الشرع، ومن ذلك مشركو مكة حيث صدّوا المسلمين عن مكة في السنة السادسة في الحديبيّة، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} إلى قوله: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(1)، ففعلتهم هذه لا تسوِّغ لكم التعدي عليهم بخلاف الحق، بل اللّه تعالى هو الذي يعيّن الاستحقاق للعقوبة ومقدارها.

والحاصل: أنه لا فرق في وجوب مراعاة هذه الحرمات بين من اعتدى عليكم وبين من لم يعتد!

وقوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} من الجُرم بمعنى الذنب، أي لا يحملنّكم الشنآن على ارتكاب الجريمة، وقيل: هو بمعنى القطع كأنّ عملهم قطعكم عنهم وقطعهم عنكم فانتقمتم منهم، والأول أقرب(2).

قوله: {شَنََٔانُ} هو شدة البغض، وقيل: أصله طلب العيب على فعل الغير لما سبق من عداوته، وليس هو من العداوة في شيء، وإنما أجري على العداوة لأنه سببه، وقد يسمّى المسبب باسم السبب(3).

وقوله: {أَن صَدُّوكُمْ} تعليل، أي سبب الشنآن هو الصدّ، فالمعنى البغض والعداوة للصد أو بسبب الصدّ.

وقوله: {أَن تَعْتَدُواْۘ} مفعول {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ} فالمعنى لا يحملنّكم

ص: 18


1- سورة الفتح، الآية: 25.
2- راجع مفردات الراغب مع ملاحظات العاملي: 209.
3- معجم الفروق اللغوية: 353.

الشنآن على الاعتداء.

السابع: قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ...}الآية.

بعد أن نهى عن تحكيم العواطف والأمور النفسية لانتهاك حرمات اللّه تعالى يترقى بالأمر بالتعاون - حتى مع الذين تبغضونهم - على البر والتقوى، فما دام هؤلاء القوم قد قصدوا المسجد الحرام بنية صادقة حيث يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً فلا بد لكم أن تتعاونوا معهم على ذلك، ولا يخفى أن الآية عامة والتعاون مع هؤلاء مصداق لها، فمن البرّ العفو عنهم، ومن التقوى عدم صدّهم عن المسجد الحرام.

وقوله: {وَتَعَاوَنُواْ} أصل التعاون هو أن يعين كل طرف الطرف الآخر، لكنه يدخل فيه الإعانة عرفاً، وهي من طرف واحد، فلا فرق في المتفاهم العرفي بين التعاون والإعانة، وإن كان هناك فرق دقةً.

وقوله: {الْبِرِّ} هو التوسّع في عمل الخير سواء كان واجباً أم مستحباً ومن ذلك إطاعة اللّه تعالى.

وقوله: {التَّقْوَىٰ} هي حفظ النفس عن المعاصي فيعين بعضكم بعضاً في ترك المعاصي، ومن ذلك إيجاد الأجواء الملائمة للإيمان والعمل الصالح وترك السيئات، فهو نوع تعاون أيضاً.

وقوله: {وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ} أيضاً يشمل الإعانة، ومن ذلك التعدّي على من قصد المسجد الحرام أو إحلال الشعائر والشهر الحرام والهدي والقلائد، والمراد بالإثم هنا مطلق العصيان، فقوله: {وَالْعُدْوَٰنِ} هو خصوص التعدي على الغير وظلمه فيكون تخصيصاً بعد تعميم، أو يخصّ

ص: 19

الإثم بما لا يتعدى على الغير والعدوان بما يتعداه.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} تحذير من عقابه تعالى، فمن أحلّ المحرمات وانتهكها وتعاون على الإثم والعدوان فهو يستحق العذاب واللّه سبحانه قادر عليه وقد أوعده، فلا بد من أن يتقيه بترك المعصية والتزام الطاعة.

ثم بيّن سبب التقوى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} عقاباً يساوي الجريمة، لذلك كان شديداً، فإنه مؤلم وطويل بقاؤه جزاءً وفاقاً، فقد يكون العمل قليلة مدته إلاّ أنّ عقابه بما يساوي الجرم يكون شديداً.

ص: 20

الآية 3

اشارة

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالْأَزْلَٰمِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثْمٖ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 3}

3- ثم يذكر اللّه تعالى عهدين من عهوده، أحدهما يرتبط بالفروع والآخر بالأصول.

أما الأول: فمحرمات البهائم التي تُتلى، وهي {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهي كل حيوان مات من غير تذكيته شرعاً، {وَالدَّمُ} سواء كان مسفوحاً أم لا، {وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} خصّه بالذكر لتعارف أكله وزعم الناس طيبه، {وَمَا أُهِلَّ} أي رفع الصوت بالتسمية {لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} بأن ذكرت الأصنام مثلاً، {وَالْمُنْخَنِقَةُ} التي ماتت خنقاً، {وَالْمَوْقُوذَةُ} التي ماتت بالضرب أو بمرض، {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} التي ماتت بالسقوط من جبل أو في بئر ونحوهما، {وَالنَّطِيحَةُ} ماتت بنطح حيوان آخر كما في تناطح الكباش، {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} افترسه ذئب ونحوه حتى مات، {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} استثناء من

ص: 21

المنخنقة فما بعد، أي التي أدركتموها ولها حياة كعين تطرف أو أذن تتحرك أو ذنب يمعص فأجريتم عليها التذكية الشرعية، ثم يكمّل اللّهسبحانه بقية المحرمات: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وهي أحجار كانوا يعبدونها ويقدسونها ويذبحون لأجلها ويلطخونها بدماء الذبائح، {وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ} تطلبوا القسمة وإفراز النصيب {بِالْأَزْلَٰمِ} جمع زلم، وهي سهام كانوا يقامرون بها، وكانت عشرة أسهم لسعبة منها نصيب معلوم وثلاثة لا نصيب فيها، فكان أصحاب الثلاثة يدفعون ثمن الذبيحة، {ذَٰلِكُمْ} كل المذكورات من المحرمات {فِسْقٌ} خروج عن طاعة اللّه تعالى؛ لأنه نهى عنها.

وأما الثاني: وهو ما يرتبط بالأصول ف-{الْيَوْمَ} يوم الغدير {يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} لأنهم كانوا يتربصون المنون برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى يموت دينه بموته، فلما نصب علياً (عليه السلام) للخلافة من بعده بأمر اللّه تعالى يئسوا، حيث امتدت النبوة بالإمامة، {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} لا تخافوهم بأن يزول الدين بهم، {وَاخْشَوْنِ} خافوا اللّه تعالى بأن تكفروا بنعمته فتخالفوا أمره في الإمامة، فبعد يوم الغدير لم يكن خوف من الكفار، بل من المسلمين أنفسهم فعليهم أن يخشوا اللّه فيطيعونه ولا يعصونه. {الْيَوْمَ} يوم الغدير حيث يئس الكفار {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فالولاية كانت آخر فريضة ولم يُفرض بعدها شيء، وبذلك كمل الدين {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فقد أنعم اللّه عليهم بالرسالة وأتم النعمة بالولاية وما بينهما نعم كثيرة، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا} من بين جميع الأديان.

ص: 22

ثم يبين اللّه تعالى استثناء في العهد الأول - الذي كان في الفروع - ، ويلازمه عدم الاستثناء من العهد الثاني - الذي هو في الأصول - فقال: {فَمَنِاضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} مجاعة توجب خمص البطن وضموره، حال كونه {غَيْرَ مُتَجَانِفٖ} غير مائل ومنحرف {لِّإِثْمٖ} بالأكل التذاذاً وأكثر من الاضطرار {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لا يعاقب على هذا الأكل {رَّحِيمٌ} بالمؤمنين حيث أباح لهم ذلك.

بحوث

الأول: حيث ذكر اللّه تعالى في الآيتين الأوليين وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق والتي أهمها عهود اللّه سبحانه وتعالى، وهي عهود في العقائد وفي الأحكام، وذكر أن من عهوده حلية بهائم الأنعام إلاّ ما يتلى، ففي هذه الآية تُتلى موارد الاستثناء، وأيضاً الاستثناء من الاستثناء والتي تتضمن حالة الاضطرار، كما أنه تعالى يذكر عهداً من عهوده في العقائد وهو الولاية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) حيث أمر رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) بإعلان خلافته في حجة الوداع وبأخذ البيعة له في يوم غدير خم، وبذلك تمّ جميع عهود اللّه تعالى مع هذه الأمة في الأصول والفروع وكمل الدين وتمت النعمة ورضي اللّه بالإسلام ديناً.

وبذلك يتضح سبب وضع آية الولاية في وسط آية أحكام اللحوم - من حرمة وحليّة - فإنه ابتدأ الآية بتتمة عهده في حكم بهيمة الأنعام وذلك حكم في الفروع ثم انتقل إلى بيان عهده في الولاية التي هي من أصول الدين، وإنما خصّها بالذكر دون سائر الأصول؛ لأن الخطاب للمؤمنين

ص: 23

الذين آمنوا باللّه ورسوله وباليوم الآخر فلم يبق من الأصول إلاّ الولاية فذكرت هيهنا، وبعد الانتهاء من ذكر عهده في الفروع والأصول يتم بيانالاستثناء في الفروع فقط دون الأصول إذ لا استثناء فيها.

هذا مضافاً إلى أن اللّه تعالى أراد حفظ كتابه من التحريف بطريق طبيعي، ولذا أنزل الآيات وعيّن مواطنها بحيث لا يكون للظالمين داع ٍ لتحريفها، مع وضوح المقصود بها عبر سياقها وعبر الروايات الدالة عليها لتتم الحجة على الناس أجمعين.

الثاني: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ...} الآية.

قال السيد الوالد رضوان اللّه عليه في موسوعة الفقه: «إن هناك [في اللحم] خمس ملاحظات:

الأولى: ملاحظة الطيب والخبث في ذات اللحم، حسب قوله سبحانه: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ}(1).

الثانية: ملاحظة الارتباط باللّه، وهو أمر نفسي، وذلك بالتسمية، مثل اشتراط الطهارات الثلاث بالنية، حيث إن طهارة الجسم تحصل بدون ذلك، وإن كان لا يبعد تأثير عدم النية في عدم النظافة أيضاً، وكذلك تأثير عدم البسملة في عدم الطيب، وذلك لاقتراب الشيطان الموجب لذينك الأمرين... .

الثالثة: ملاحظة الآداب الإنسانية، ولذا روي كثير من ذلك في الأكل والشرب والجلوس والمشي والنوم والنكاح وغيرها.

ص: 24


1- سورة الأعراف، الآية: 157.

الرابعة: عدم المقارنات الضارة، أمثال الترف في صيد الفهد والعقاب وعدم إضرار الناس بسببهما... .

الخامسة: عدم أذية الحيوان بقتله بالسكين غير الحديدة أو بقتل الحيوانصيداً بما هو أكبر منه... الخ»(1).

والحاصل: أن التحريم قد يكون لأجل الضرر وقد يكون لأجل مراعاة القوانين العامة من عقائد وأحكام وآداب ونحوها.

وقوله: {حُرِّمَتْ} قد مرّ أن الحرمة في كل شيء بحسبه، فلذا لا بد من معرفة المنفعة التي تقصد من الشيء فتلك هي التي تراد بالتحريم، والمنفعة المقصودة من هذه المذكورات هي الأكل فهو المحرّم، وأما سائر الانتفاعات فلا يشملها التحريم إلا بدليل خاص، وبعبارة أخرى: متعلّق الحرمة هو فعل الإنسان؛ لأن التكليف عليه، فإذا أضيفت الحرمة إلى الأعيان كان لا بد من إضافة الفعل المقصود منها، فمثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ}(2) أي نكاحهن، و{حَرَّمَ الرِّبَوٰاْ}(3) أي أخذه، وهكذا {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...} أي أكلها.

وقوله: {الْمَيْتَةُ} كل حيوان حلال اللحم مات من غير تذكية شرعية، فلو ذبحت الإبل كانت ميتة؛ لأن ذكاتها نحرها، وكذا لو نحر الغنم وهكذا كل حيوان لم يذك تذكيته الشرعية، والتي هي النحر في الإبل، والإخراج من الماء حياً في السمك، وذكاة الأم في الجنين، والآخذ باليد في الجراد،

ص: 25


1- الفقه 75: 221-222.
2- سورة النساء، الآية: 23.
3- سورة البقرة، الآية: 275.

والصيد بالرمي أو بالكلب في المصيود، وبفري الأوداج الأربعة في سائر الحيوانات، كل ذلك بشروطه، والتفاصيل تطلب من الكتب الفقهية.

وقوله: {وَالدَّمُ} مطلقاً لا يجوز سواء كان مسفوحاً أم غير مسفوح، قليلاً أم كثيراً، نعم الدم الذي يتخلل في اللحم - بل لا ينفك منه اللحم عادة - جائز بالدليل الخاص، بل لولا حليته لم يكن معنى لتحليل لحم الأنعام أصلاً، وأما الدم المتبقى في الذبيحة فهو طاهر لكن لا يجوز شربه لو جمعه في إناء إلاّ المقدار المتخلل في اللحم والكبد ونحوهما.

وقوله: {وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} ذكر الخنزير بالخصوص مع تعدد الحيوانات المحرّمة، وكذلك ذكر خصوص لحمه مع حرمة جميع أجزائه لأجل تعارف أكل لحمه بين الناس وزعمهم طيبه، لذلك تمّ التأكيد على حرمته وخباثته.

وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الإهلال) هو رفع الصوت وكذلك ابتداء الشيء، والمراد رفع الصوت حين الشروع في الذبح أو النحر، وكانوا يذكرون أسماء أصنامهم وغيرها، فتمّ تحريم كل لحم ذُبح على غير اسم اللّه تعالى، وليس المهم الغرض من الذبح فقد يكون الغرض القربان للّه تعالى أو النذر له أو شكره تعالى على نعمه أو العقيقة أو احترام شخص أو سدّ جوع ونحو ذلك من الأغراض، إنما المهم أن يكون الذبح مصحوباً باسم اللّه سبحانه تعالى.

وقوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} كان من دأب الجاهليين وبعض الأديان الأخرى خنق الحيوانات وفي ذلك إيذاء لها مع بقاء الدم في جسمها فنهاهم اللّه عن

ص: 26

ذلك، وأحياناً كانت تُحشر بين أغصان ونحوها فتموت خنقاً، أو تختنق في حبالة الصائد، فلا فرق في كل ذلك في الحرمة.

وقوله: {وَالْمَوْقُوذَةُ} وهي التي تموت بضربها أو برميها بالحجارة، ومن مصاديقها التي وقذها المرض حتى لم تكن بها حركة، ولا يخرج لها دم ولا تضطرب ولا تجد ألم الذبح كما في بعض الأحادث(1).

وقوله: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} أي ماتت بأثر السقوط من شاهق أو في بئر ونحو ذلك.

وقوله: {وَالنَّطِيحَةُ} كان من دأبهم إغراء الكباش بالتناطح فإذا مات أحدها أكلوه، وكذلك كل حيوان مات بأثر النطح.

وقوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي افترسه، وخاصة فرائس الذئب، حيث يدخل القطيع ويفترس كل الغنم، وكان من دأب الجاهليين إذا وجدوا سبعاً على فريسة هجموا عليه وابتزوه فريسته.

وقوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} استثناء من قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ...} الخ، أما الميتة والدم والخنزير وما أهل لغير اللّه به فلا تذكية فيها؛ لأن الموت مانع عن قبول التذكية كما أنّ الخنزير لا تذكية له فهو نجس العين حياً وميتاً، وعدم التذكية في الدم واضح، وأما المنخنقة وما بعدها فإن لم تكن قد ماتت وبها حركة في عينها أو أذنها أو ذنبها فيمكن تذكيتها بحيث يكون موتها مستنداً إلى الذبح أو النحر، فتخرج عن كونها منخنقة وموقوذة ومتردية ومأكول السبع إلى كونها مذكاة، قيل: أصل التذكية هو تمام الشيء، وفي الحيوانات

ص: 27


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 286 و 289.

إجراء السنن الشرعية عليها.

وقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} إما مفرد جمعه أنصاب، أو جمعومفرده نصاب، وهي حجارة كانوا قد نصبوها قرب الكعبة ويقدّسونها ويعبدونها ويذبحون عليها ويلطخونها بدماء ذبائحهم، وقد يقال: إن المراد بذلك عموم الأصنام، حيث كانوا يذبحون أمامها كالقبلة، ومع عدمها يذكرون أسماءها، فالأول هو {مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} والثاني هو {مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.

وقوله: {وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالْأَزْلَٰمِ} (الاستقسام) هو التقسيم وفرز نصيب كل شخص، و(الأزلام) جمع زلم وهو القدح، أي سهم القمار وكان من دأبهم أن يضعوا عشرة سهام في كيس، سبعة منها كتب عليها النصيب من واحد إلى سبعة، فلسهم نصيب، ولسهم ثان نصيبان، ولثالث ثلاثة أنصباء، إلى السابع فله سبعة أنصباء، وثلاثة سهام لا شيء عليها، وكانوا يقسمون الذبيحة إلى ثمانية وعشرين قسماً، فلكل سهم من السبعة نصيبه، ويدفع ثمن الذبيحة الثلاثة الذين لا نصيب على سهامهم.

وقد مرّ سبب تحريم القمار وأنه أكل للمال بالباطل بلا سعي له، وما يورثه من المشاكل والخلافات وانهيار الأسر، فراجع.

وقوله: {ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ} أي كل المذكورات من أكل الميتة إلى الاستقسام بالأزلام.

سبب يأس الكفار في يوم الغدير

الثالث: قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}.

هذا القسم الثاني من الآية المرتبط بعهد اللّه تعالى في أصل من أصول

ص: 28

الدين وهو الولاية، وهو يوم بعينه، وكان في الثامن عشر من ذي الحجة فيالسنة العاشرة من الهجرة حيث أخذ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) البيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في غدير خم، وليس المراد يوم نزول آية تحريم الميتة والدم... الخ، فإن تحريمها قد نزل مرات متعددة في سور مختلفة وكان الكفار غير يائيسين ويحاولون إطفاء نور اللّه تعالى بعد ذلك، كما أن تحريم بعض الأطعمة بمجرده لا يوجب يأساً للكفار أصلاً كما هو أوضح من أن يخفى، قال سبحانه في سورة النحل وهي مكية: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1)، وفي سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2)، وفي سورة الأنعام: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(3)،

وفي مكة وإلى فترة طويلة من المدينة لم يكن الكفار قد يئسوا من إطفاء نور اللّه، وعليه فمعنى الآية يقتضي أن لا يكون {الْيَوْمَ يَئِسَ...} مرتبطاً بتحريم اللحوم المذكورة، بل هو أمر آخر أهم وأجلى، ولا يكون ذلك إلاّ بأمر يوجب امتداد النبوة بعد رحيل

ص: 29


1- سورة النحل، الآية: 115.
2- سورة البقرة، الآية: 173.
3- سورة الأنعام، الآية: 145.

الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فإن أقوى الحكام يموت منهجهم بموتهم إذا لم يكن لهم من بعدهم من يستمر عليه، وهكذا كان طمع الكفار في الإسلام حيث كانوايتربصون الموت برسول اللّه تعالى، حيث لا أولاد ذكور له من بعده، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}(1) وقال سبحانه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(2)، فلا يكون يأس للكفار إلا بنصب خليفة من أهل بيت الرسول يسير على منهجه وهذا ما حصل بالفعل.

وقوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} أي لا تخافوا من أن يظهروا على دينكم ويمحو أثره، والمعنى لا موجب للخشية منهم بعد يوم الغدير، حيث إن الدين يستمر ولو كره الكافرون.

وقوله: {وَاخْشَوْنِ} أي إن الإشكال سيكون منكم أيها المسلمون، حيث يمكن أن تنقلبوا على الأعقاب كما قال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ}(3)، فلذا عليكم أن تخافوا اللّه فلا تعصوه فيما أمر ونهى وترضوا بما حكم به من خلافة الإمام علي (عليه السلام) .

والحاصل: ليست الخشية من الكفار، بل منكم، فعليكم أن تخشوا اللّه وتراعوا أحكامه لتكونوا من الشاكرين له نعمته عليكم.

إكمال الدين بولاية علي (عليه السلام)

الرابع: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

ص: 30


1- سورة الطور، الآية: 30.
2- سورة الكوثر، الآية: 3.
3- سورة آل عمران، الآية: 144.

نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}.

هو نفس اليوم الذي يئس الكفار من دينكم، لتلازم الأمرين معاً؛ لأن إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب تلازم يئس الكفار عن الدين، ومن المعلوم أن إكمال الدين كان بعد حجة الوداع، حيث لم ينزل بعدها شيئ من الأصول والفروع سوى ولاية أمير المؤمنين وأخذ البيعة له (عليه السلام) . وفي الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ثم نزلت الولاية، وإنما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة، أنزل اللّه عزّ وجلّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقال عند ذلك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : أمتي حديثو عهد بالجاهلية، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمّي يقول قائل ويقول قائل، فقلت في نفسي من غير أن ينطق لساني، فأتتني عزيمة من اللّه عزّ وجلّ بتلة أوعدني إن لم أبلّغ أن يعذبني، فنزلت: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(1)، فأخذ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بيد عليّ (عليه السلام) - إلى أن قال - ثم قال: يا معشر المسلمين هذا وليكم من بعدي فليبلّغ الشاهد منكم الغائب» ... الحديث(2).

والأخبار هنا كثيرة ومتعددة وكل واحد منها ذكر جانباً من القصة، ومقتضى الجمع بينها هو ما ذكرناه في شرح أصول الكافي(3)، وحاصله: أن

ص: 31


1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- الكافي 1: 290.
3- شرح أصول الكافي 4: 344-347.

رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج ثم أنزل اللّه عليه{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ}(1) فأمر المؤذّنين أن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول اللّه يحج في عامه هذا، فعلم من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب واجتمعوا لحج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأما من بَعُد عن المدينة فقد كتب إليهم كتاباً يخبرهم بذلك، فاجتمع في الحج مائة وعشرون ألف أو أكثر، وكان الوحي قد نزل على رسول اللّه تعالى في يوم عرفة بأن ينصب أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير توقيت له، فقد أوكل اللّه زمانه إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليختار الزمان الأنسب، والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أخبر الناس في يوم عرفة بأنه على وشك الرحيل وأنه يخلّف فيهم الثقلين كتاب اللّه وعترته أهل بيته، وأخبرهم بمنزلة أمير المؤمنين (عليه السلام) كدأبه من يوم الإنذار وفي مواطن شتى في المدينة حيث كان يخبرهم من غير أخذ البيعة منهم، فلم يأخذ منهم البيعة في الحج؛ لخوفه من الاختلاف ولانشغالهم بأعمال الحج ولأن المهم كان أخذ البيعة من أهل المدينة وأطرافها حيث إنها العاصمة، وعليه فقد نزلت آية الولاية في يوم عرفة ولم يُعلن عنها الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ؛ لأن اللّه تعالى قد وسّع عليه ذلك وفوّض إليه اختيار الوقت المناسب لإعلانها، حتى إذا رجع من حجه ووصل في الثامن عشر من ذي الحجة إلى الجحفة انتهى الوقت فنزلت آية: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(2) فجمع الرسول جميع من بقى معه - وهم أهل

ص: 32


1- سورة الحج، الآية: 27.
2- سورة المائدة، الآية: 67.

المدينة وأطرافها ومن أهل مكة - وكانوا عشرةآلاف وروي اثنا عشر ألف - وتلا عليهم آية الولاية وأمرهم بالبيعة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، وقد عصمه اللّه تعالى من أن يتمكن المنافقون من التخريب، فتمت البيعة كما أراد اللّه تعالى ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فتمت الحُجّة عليهم مع عدم تمكن أحد من إنكار الواقعة؛ لأنها كانت خاصة لأخذ البيعة في منتصف الطريق.

وقوله: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الإكمال والإتمام متقاربا المعنى، والفرق بينهما أن الشيء ذا الأجزاء إن لوحظ بجميعه قيل: كامل وأكلمه، وإن لوحظ باعتبار الجزء الأخير منه قيل: تام وأتمّه، قال أبو هلال: الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به، والتمام اسم للجزء الذي يتم به الموصوف به(1)، والدين وحدة واحدة والولاية من أصوله فبأخذ بيعة يوم الغدير كمل الدين، وأما نعمة اللّه على الناس فهي كثيرة كما قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}(2)، لكنَّ جزءها الأخير كان في الولاية، ولذا تمت النعمة بها، ويا لها من نعمة عظيمة تستوجب شكراً عظيماً.

وقوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} والنعمة هي الخير الذي يلائم الطبع من غير امتناعه كما قيل، ونعمة الإسلام من غير نعمة الولاية ناقصة.

ثم إن الدين كما ينسب إلى اللّه تعالى باعتبار تشريعه له كذلك ينسب إلى أهله باعتبار التزامهم به، قال تعالى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ

ص: 33


1- معجم الفروق اللغوية: 15.
2- سورة إبراهيم، الآية: 34.

أَفْوَاجًا}(1)، وقال: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ}(2)، ولعل الإضافة إليهم هنا لأجل أن دين اللّه تعالى كامل - سواء أنزله إليهم أم لا - فلا يناسب القول بأنه تعالى أكمل دينه، وأما ما كانوا يلتزمون به فقد نزل عليهم بالتدريج فلذا ناسب أن يقول: و{أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وأما النعمة فقد أخذ في مفهومها الفعليّة، فلا تكون نعمة إلاّ بإنزالها عليهم، ولا تنسب إلاّ إلى اللّه تعالى فلذا ناسب إضافته إليه فقال: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.

وقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا} رضاه سبحانه بمعنى ثوابه عليه، وهو نتيجة إكماله للدين، فلا تكرار بين الفقرة الأولى والثالثة، فالمعنى: حيث إنه أكمل الدين وأتم النعمة لذلك يثيبهم على الإسلام دون غيره، قال سبحانه: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ}(3)، وفي التقريب: «فإن الإسلام ذو درجات، واليوم رقيتم الدرجة القصوى، فرضي اللّه عن المسلمين بالحال التي وصلوا إليها، والرضى هنا ليس في مقابل السخط، بل مقابل النقص الأثري، كما أن من يريد بناء دار إذا بلغ منتصفها يقول: لم أرض بعد، أي لم يكمل رضاي، وإنما يقول: رضيت الآن إذا تم بناء الدار»(4).

ص: 34


1- سورة النصر، الآية: 2.
2- سورة البقرة، الآية: 217.
3- سورة الزمر، الآية: 7.
4- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 603.

الخامس: قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثْمٖ...}الآية.

استثناء من الاستثناء، فبعد أن ذكر عهده تعالى في حِليّة بهيمة الأنعام استثنى الميته والدم... الخ ثم أباحها للمضطر رحمة منه، إذ كان من الممكن أن يأمر الناس عن الامتناع عن الأكل حتى لو أدّى إلى هلاكهم، كما نهى عن الفرار عن الزحف حتى لو كان فيه الحتف، لكن حيث إن مصلحة حفظ الحياة أهم من مفسدة أكل المذكورات فلذا أباحها لهم برحمته تعالى، وقوله: {اضْطُرَّ} من الضرر بمعنى شدة الاحتياج إلى الشيء بحيث لو تركه كان عليه ضررٌ بالغٌ.

وقوله: {فِي مَخْمَصَةٍ} أي مجاعة وأصلها من (الخمص) بمعنى ضمور البطن بسبب الجوع.

وقوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٖ} من (الجَنَف) أي الميل عن الحق والانحراف عنه.

وقوله: {لِّإِثْمٖ} بأن يأكل أكثر من المقدار الذي يرتفع به الاضطرار كأن يفرط في الأكل أو يمتلئ منه، وأن لا يكون باغياً ولا عادياً، كما مرّ في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1).

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الغفران كما يكون في ستر الذنب وعدم المؤاخذة عليه، كذلك يكون في عدم تشريع الحرمة فيما فيه المفسدة لحكمةٍ فينتفي العقاب على ارتكابها لانتفاء الحرمة، ومنشأ هذا الغفران

ص: 35


1- سورة البقرة، الآية: 173.

رحمته تعالى لذا أتم الآية بقوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

ومن كل ما ذكرنا يتبيّن أن قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} إلى قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا} كالجملة المعترضة بين تحريم المذكورات وبين استثناء حالة الاضطرار، نظير آيات البقرة والأنعام والنحل وقد مرّ ذكرها، واللّه العالم.

ص: 36

الآيتان 4-5

اشارة

{يَسَْٔلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ 4 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الْمُؤْمِنَٰتِ وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٖ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ 5}

4- ولمّا تلا عليهم ما حرّم سألوه عمّا أحل: {يَسَْٔلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} في المأكولات {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ} وهو كل ما يلائم طبع الإنسان من غير ضرر ومنع وهذا يقابل تحريم الميتة والدم... الخ، {وَ} كذا أحلّ لكم صيد {مَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ} التي تجرح الصيد وهذا يقابل تحريم ما أكل السبع {مُكَلِّبِينَ} أي حال كون الجوارح كلاب صيد دون غيرها من الجوارح {تُعَلِّمُونَهُنَّ} تعلمون تلك الكلاب {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} أي الكيفية التي شرّعها اللّه تعالى للحليّة، بأن تعلّموا كلاب الصيد أن تسترسل حين إرسالها وتتوقف حين زجرها وأن لا تأكل من الصيد وسائر شروط

ص: 37

الحليّة، {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي صادوه لكم لا لأنفسهن، {وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} على الصيد حين إرسال الكلاب، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ}لئلا تنالوا من صيد محرّم أو لا يكن صيدكم لهواً وبطراً {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فيؤاخذكم بتناول المحرّمات.

5- وبعد ذكر محلّلات المأكولات يأتي التعميم ف-{الْيَوْمَ} الذي كمل فيه الدين {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ} عامة سواء في المأكل والمشرب والمنكح والعمل وغير ذلك، {وَ} حيث يئس الكفار من دينكم ولا خشية عليكم منهم فجاز لكم مخالطتهم بالأكل والنكاح ف- {طَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} غير اللحوم كالحبوبات {حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} أي يجوز لكم إطعامهم {وَ} كذا أحل لكم نكاح {الْمُحْصَنَٰتُ} العفيفات {مِنَ الْمُؤْمِنَٰتِ} المسلمات {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} أعطيتموهن {أُجُورَهُنَّ} مهورهن حال كونكم {مُحْصِنِينَ} بالزواج ثم أكد الإحصان بقوله: {غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ} والسفاح هو ما يُعلم كونه زنا كالزنا من غير انفراد بها {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٖ} والخدن الصديق والصديقة وذلك زنا قد يخفى على البعض لانفراده بها، ثم يحذرهم اللّه تعالى من انتهاك حرماته فيقول: {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَٰنِ} أي بدلاً عن الإيمان، كفراً عملياً بالإصرار على المعاصي أو كفراً عقائدياً {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} لأنه غير متقٍ فعمله غير مقب--ول {وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِ-نَ الْخَٰسِرِينَ} حيث خس-ر نفس-ه ب--استحق-اق العذاب.

ص: 38

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ}.

دأب القرآن عادة هو أن يقرن المحرّمات بالمحلّلات، فكلّما ذكر حرامأردفه بذكر حلال من جنسه، وهذا مقتضى الشريعة السهلة السمحاء ليتسنى للناس الفرار من الحرام إلى الحلال، وتارة يبتدئهم بذلك، وأخرى يحفزّهم على السؤال ليكون الجواب أوقع في النفوس وأشدّ ظهوراً لمنته تعالى عليهم، فكأنه استجاب لطلبهم وسهّل عليهم وذلك أدعى للالتزام والطاعة، ولمّا حرّم تعالى في الآية السابقة من الحيوانات ما مرّ ذكره ومن ذلك ما أكل السبع، بيّن في هذه الآية حليّة كل طعام طيب من اللحوم وغيرها، كما بيّن حلية صيد الكلاب المعلّمة.

وقوله: {الطَّيِّبَٰتُ} المراد خصوص الطيبات في المأكولات؛ لأن سؤالهم كان في قبال تحريم بعضها في الآية السابقة، وأما التعميم لجميع الطيبات في كل شيء فسيأتي بيانه في الآية اللاّحقة، وفي ذلك إشعار بسبب تحريم المذكورات في الآية السابقة بأنها من الخبائث، وأن سبب حلية غيرها هو كونها من الطيبات، و(الطيّب) لغة هو كل شيء يلائم الطبع المستقيم من غير ضرر ولا عاقبة سيئة، ويقابله (الخبيث) الذي ينفر الطبع منه أو كان فيه ضرر أو عاقبة وخيمة كالطعام المسموم اللذيذ، والطيب والخبيث شرعاً هو بهذا المعنى، إلاّ أن الشرع قد يكشف عن ضرر أو وخامة قد لا يعلمها الإنسان كالخمر ولحم الخنزير.

والحاصل: أن بين الطيب واللذيذ عموماً من وجه فقد يكون طيباً غير

ص: 39

لذيذ كالأدوية المرّة، وقد يكون لذيذاً غير طيب كاللحوم المحرّمة، وقد مرّ بعض التفصيل في سورة البقرة والنساء فراجع.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ...}الآية.

أي وأحل لكم صيد الكلاب المعلّمة، وقيل {مَا عَلَّمْتُم} في قوة الشرط، وجزاؤه {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ...}، فلمّا حرّم تعالى ما أكل السبع لأنه لم يستند قتله إلى الإنسان ولا ذكر اسم اللّه عليه ولأنه رزق السبع فلا وجه لابتزازه رزقه ولجهات أخرى بعد ذلك بيّن حلية صيد الكلاب المعلّمة؛ لأن القتل مستند إلى الإنسان بإرساله الكلاب ولذكر اسم اللّه عليه وليس هو من رزق تلكم الكلاب؛ لأن صاحبها يطعمها أو يرسلها لتصيد لنفسها.

وقد ذكرت الآية أربعة شروط - جامعة لجميع الشروط - لحلية المصيود وهي: أن يكون الصيد بالكلب، وأن يكون معلّماً، وأن يمسك الصيد لصاحبه لا لنفسه، وأن يذكر اسم اللّه عليه.

وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُم} أي علّمتموهن على الصيد.

وقوله: {مِّنَ الْجَوَارِحِ} أي بعضها، والجوارح هي التي تجرح الحيوانات الأخرى عبر صيدها.

وقوله: {مُكَلِّبِينَ} حال من الجوارح وتقييد لها بكونها من الكلاب فلا يحلّ صيد غير الكلب كالفهد والصقر ونحوها حتى لو كانت معلّمة، و(كلّب) بمعنى علّم الكلب بتربيته على الصيد أو نحوه.

ص: 40

وقوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} الظاهر أن المعنى أن يكون التعليم بالكيفيّة التي شرّعها اللّه تعالى، فإن الكلاب تتعلّم بما ربّاها عليه أصحابها، لكن الشرع اشترط كيفية خاصة وقد بينتها السنة، منها: أن يعلّمه أن يسترسل حين إرساله وأن يتوقف حين زجره فالتعليم هناتشريعي، وقيل: المعنى علّمكم اللّه بإلهامكم كيفية التربية فالتعليم تكويني، والأول أقرب.

وقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} بيان لشرط آخر من شروط الحلية وهو أن لا يأكل الكلب من الصيد بل يحفظه لصاحبه، فلو أكل منه لم يحلّ لأنه صاد لنفسه لا لصاحبه، و{مِّنَ} في قوله: {مِمَّا} للتبعيض فليس كل مصيد حلال بل لا بد أن يكون من الحيوانات المحلّلة اللحم، كما لا يحلّ كل أجزاء الصيد، بل ما كان حلالاً فلا يشمل الدم والمثانة والمرارة وسائر محرمات الذبيحة، ولعلّ فيه إشعاراً بأن لا يستأثر بكل الصيد بل يخصص قسماً منه للكلب، كما فيه دلالة على حليته لو مات بعقر الكلب، و{عَلَيْكُمْ} أي لأجلكم لا لنفسها.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} إذ يكثر الحرام في هذا النوع من الصيد، فتارة الصيد للّهو والترف وأخرى عدم استجماع شروط الحلية فيحرم الصيد، فكان لا بد من التحذير من مراعاة حرمات اللّه تعالى وعدم انتهاكها.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} علة للزوم التقوى فهو سبحانه يحاسبكم على جميع أعمالكم مع سرعة المحاسبة؛ لأن أيام الدنيا قصيرة جداً، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فكأنّهم لو يكونوا للدنيا عمّاراً وكأنّ الآخرة

ص: 41

لم تزل لهم داراً»(1).

الثالث: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...} الآية.

الظاهر أن المراد بقوله: {الْيَوْمَ} هو نفس يوم إكمال الدين، إذ لمّا ذكر أنه في ذلك اليوم يئس الكفار من دينكم فلا داعي للخشية منهم، بيّن جواز الاختلاط مع أهل الكتاب في المأكل والمنكح وذلك لعدم الخشية منهم بل هذا النوع من اختلاط القوي بالضعيف يكون سبباً لهداية الضعيف إلى دين القوي وطريقته، كما يُرى من تأثر الأمم المغلوبة بثقافة الأمم الغالبة، ومن ذلك يتبين أن قوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} ليس تشريعاً لحكمٍ لأهل الكتاب كي يقال: هؤلاء لا يعترفون بالإسلام فلا معنى لتشريع حكم لهم، بل المقصود بيان الاختلاط بهم بحيث تأكلون من طعامهم ويأكلون من طعامكم.

وقوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ} كالتمهيد والتوطئة لبيان حلية طعام ونكاح أهل الكتاب؛ لأن ذلك من الطيبات، مضافاً إلى أنه تعميم لحلية الطيبات سواء كانت في المأكل أم المنكح أم العمل أم أيّ شيء آخر.

حلية طعام أهل الكتاب

وقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...} أي كل نوع من طعامهم الذي يعدّونه لأنفسهم، لكن بشرط أن لا يكون من المحرمات، كالميتة والخنزير والنجاسات وكذا اللحوم؛ لأن اللّه اشترط في حلية اللحوم شروط خاصة ذكرت في الكتاب والسنة كالتسمية والقبلة وإسلام الذابح وفري الأوداج

ص: 42


1- نهج البلاغة، الخطبة: 188.

الأربعة أو النحر وغير ذلك مما لا تتوفر في ذبائح أهل الكتاب، وليست هذه الآية ناسخة أو مخصصة لتلك الشروط ولا لتلك المحرمات.

ومن ذلك يتبيّن أن الروايات التي فسرت الطعام بالحنطة أو الحبوب أوالبقول كالحمص والعدس(1) أنما هي بيان لمصاديق الطعام المحلّل، فلا يشمل اللحوم والمحرمات والنجس ونحو ذلك مما دلت الأدلة الشرعية على عدم جواز أكلها أو شربها.

وقيل: الطعام منصرف إلى الحنطة، وعن لسان العرب: القمح خاصة(2)

ولحد الآن يقال لبائع الحنطة: بائع الطعام.

وما رجحناه أنسب وإلى الروايات أقرب.

ولا يخفى إشعار الآية بطهارة أهل الكتاب بالذات وإن كانوا يتنجسون بالعرض بعدم اجتناب النجاسات.

سؤال: الطعام الخالي عن المحرمات حلال من غير فرق بين كونه طعام أهل الكتاب أم طعام سائر الكفار والمشركين، فلماذا تمّ تخصيص طعامهم بالذكر؟

والجواب: يُعلم مما سبق حيث أراد اللّه بيان إباحة الاختلاط بأهل الكتاب مع طهارتهم فحلّ طعامهم، وأما سائر الكفار فليسوا بطاهرين ذاتاً ولا ينفك طعام يصنع من ملامسة يد الطباخ عادة، فطعامهم نجس عادة، أو يقال: إن الحكم وارد مورد الغالب لاختلاط المسلمين بأهل الكتاب عادة

ص: 43


1- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 330-332.
2- لسان العرب 12: 364.

ويقلّ اختلاطهم بسائر الكفار، فتأمل.

الرابع: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الْمُؤْمِنَٰتِ وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...} الآية.أي وأحل اليوم لكم نكاحهن.

وقوله: {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الْمُؤْمِنَٰتِ} أي العفيفات أو غير المتزوجات، وقد مرّ في سورة النساء أن المحصنة تطلق على المتزوجة وعلى العفيفة غير المتزوجة؛ لأنه من (الإحصان) بمعنى الحفظ، فالمتزوجة محفوظة بزوجها، وغير المتزوجة محفوظة بعفتها، وهذا أيضاً كالتمهيد والتوطئة لبيان حلية المحصنات من أهل الكتاب.

وقوله: {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} سواء كانت حرّة أم أمة، وسواء بالعقد الدائم أو المنقطع، وبعض الفقهاء خصّ الجواز بالنكاح المنقطع، ولكن مقتضى الجمع بين الروايات هو حليّة النكاح الدائم مع كراهته لو لم يكن مضطراً أو خشي على ولده منها(1)، منها ما عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الرجل المؤمن يتزوج اليهودية والنصرانية؟ فقال: «إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية! فقلت له: يكون له فيها الهوى! قال: إن فعل فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، واعلم أن عليه في دينه غضاضة»(2).

واعلم أن سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ولم ينسخ منها

ص: 44


1- راجع الروايات في وسائل الشيعة 20: 353-542.
2- وسائل الشيعة 20: 536؛ عن الكافي 5: 356.

شيء كما مرّ، فأما ما ورد من نسخ هذه الآية(1) بقوله: {وَلَا تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}(2) بقوله: {وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ}(3)، وهما آيتاننزلتا قبل هذه الآية فلعل المراد بالنسخ معناه اللغوي، أي التخصيص على نحو التنزيه لا على نحو الحرمة، والمسألة محل خلاف بين الفقهاء والاحتياط سبيل النجاة، والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية(4).

وقوله: {إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن، ولعل وجه ذكره هنا هو بيان أن كونهن من أهل الكتاب لا يعني غمطهن حقوقهن، وحتى لو لم يعتقدوا بالمهر في دينهم فإنه لا بد من إعطائهن ذلك ولا يجري فيه قاعدة الإلزام؛ لأن معنى القاعدة هو إلزام الكفار بما يعتقدون، لا التزام المسلم بأحكامهم بل على المسلم الالتزام بأحكام الإسلام والذي منه ثبوت المهر على الزوج في النكاح دائماً كان أم منقطعاً، ولا يخفى أن الأجر في القرآن أطلق على المهر في النكاح الدائم والمنقطع، وللحرة والأمة، فلا وجه لأخذه قرينة على أن المقصود في الآية النكاح المنقطع أو نكاح الإماء، كقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَٰجَكَ الَّٰتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}(5)، وكقوله: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(6).

ص: 45


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 332.
2- سورة الممتحنة، الآية: 10.
3- سورة البقرة، الآية: 221.
4- راجع الفقه 65: 91-101.
5- سورة الأحزاب، الآية: 50.
6- سورة النساء، الآية: 25.

وقوله: {مُحْصِنِينَ} تأكيد بأن يكون مباشرة المحصنات من أهل الكتاب بالنكاح لا بالسفاح أو الصداقة، ولعل ذلك لدفع توهم أن أهل الكتاب قد يجوز عندهم سفاح غير المتزوجة أو مباشرتها بالصداقة، فيقال: إن شريعتهم الفاسدة لا تجري عليكم، بل عليكم الالتزام بأحكام شرعالإسلام.

وقوله: {غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ} السفاح هو الزنا الظاهر سواء كان علناً أم كان سراً مع معلومية كونه زنا.

وقوله: {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٖ} جمع خدن وهو الصديق أو الصديقة، وقد يخفى على البعض كونه زنا باعتبار انفراد المرأة بالرجل وعدم زناها بغيره وعدم زناه بغيرها، إلاّ أنه لا فرق في الزنا بين السفاح أو الصداقة فكلاهما فاحشة نظير تزوج الجاهليين بزوجة الأب حيث قال: {وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ...} الآية.

حيث إن الاختلاط بأهل الكتاب والنكاح بهن مظنة التأثر بهن سواء بالارتداد أو بعدم الالتزام بأحكام الشرع، حذّر اللّه تعالى من ذلك، فالغرض من الأحكام السابقة هو تقريب أولئك الكفار إلى الإسلام، لا العكس.

وقوله: {يَكْفُرْ} يشمل كفران نعمة الأحكام الشرعية وذلك بتركها وعدم الالتزام بها وهذا ما يعبّر عنه بالكفر العملي، وكذا يشمل الكفر الاعتقادي بالارتداد.

وقوله: {بِالْإِيمَٰنِ} الظاهر أن الباء للبدلية أي الكفر بدلاً عن الإيمان

ص: 46


1- سورة الأنعام، الآية: 151.

الذي كان عليه.

وقوله: {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} أي إسلامه وطاعاته السابقة تبطل، والحبط أنما يكون بالكفر أو بالإصرار على المعاصي، وأما ارتكابها أحياناً من غير إصرارفلا يوجب الحبط، بل قد تكفّر الحسنات تلك السيئات قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ}(1)، وقد مرّ بحث الحبط والتكفير مفصلاً فراجع.

وقوله: {وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ} وذلك نتيجة الحبط؛ لأنه خسر نفسه باكتسابه العذاب بسوء اختياره.

وقد بينت الروايات مصاديق لكلا الأمرين - الكفر الاعتقادي والعملي - فمنها: عن الإمام الصادق أو الباقر‘ في قول اللّه: {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} قال: «هو ترك العمل حتى يدعه أجمع، قال: منه الذي يدع الصلاة متعمداً لا من شغل ولا من سكر» يعني النوم(2)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) تفسيرها في بطن القرآن: «ومن يكفر بولاية علي، وعلي هو الإيمان»(3)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أدنى ما يخرج به الرجل من الإسلام أن يرى بخلاف الحق فيقيم عليه»، وقال: «الذي يكفر بالإيمان الذي لا يعمل بما أمر اللّه به ولا يرضى به»(4).

ص: 47


1- سورة هود، الآية: 114.
2- تفسير العياشي 1: 297.
3- بصائر الدرجات: 77؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 334.
4- تفسير العياشي 1: 297.

الآيتان 6-7

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 6 وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَٰقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ 7}

6- ثم يذكر اللّه تعالى عهداً من عهوده في عبادته وهي الصلاة فيقول: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ} أي أردتم القيام {إِلَى الصَّلَوٰةِ} من النوم، فلكم حالات ثلاث:

الحالة الأولى: في الحدث الأصغر مع وجدان الماء {فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} كل الوجه {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وهو المفصل الجامع بين عظام الساعد والعضد، و«إلى» لتحديد المغسول أي حدّ اليد المغسولة هو المرفق، إذ اليد تطلق على ما دون الزند، وما دون المرفق، وما دون المنكب، فكان لا بد من تحديد اليد فليس هو تحديد للغسل بأن يكون نهاية الغسل

ص: 48

إلى المرافق، {وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ} أي بعضها {وَأَرْجُلَكُمْ} أي وامسحوا أرجلكم {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قبة القدم وهي العظم الناتئ في أعلى القدم.

الحالة الثانية: في الحدث الأكبر مع وجدان الماء {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًافَاطَّهَّرُواْ} بغسل الجنابة.

الحالة الثالثة: عدم وجدان الماء في الحدث الأصغر أو الأكبر {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ} حيث يضركم الماء، {أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ} حيث لا يوجد الماء، {أَوْ} كنتم أصحاء غير مسافرين لكن صدر الحدث الأصغر بأن {جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} وهو الأرض المنخفضة تقضى فيها الحاجة لسترها، {أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ} كناية عن الوطء {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} للوضوء أو الغسل {فَتَيَمَّمُواْ} أي أقصدوا {صَعِيدًا} ظاهر وجه الأرض {طَيِّبًا} بأن يكون طاهراً غير مغصوب، {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ} أي بعضها {وَأَيْدِيكُم} أي بأيديكم وهو بعضها {مِّنْهُ} أي من ذلك الصعيد بأن تضربوا يديكم عليه ثم تمسحوا الوجه والأيدي.

ثم يبين اللّه الحكمة في هذه التشريعات ف- {مَا يُرِيدُ اللَّهُ} في أمركم بالوضوء والغسل والتيمم {لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٖ} تضييق وتشديد، و«من» لتأكيد النفي، {وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} من الأقذار ومن الذنوب والأحداث، {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} لأن تشريعاته نعمة عليكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تلك النعم، حيث هداكم لما فيه مصلحتكم فتنالون بالشكر المراتب العالية.

ص: 49

7- ثم يؤكد اللّه تعالى على أن تشريعه هذا من عهوده ومواثيقه فقال: {وَاذْكُرُواْ} بالعمل لتشكروها {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بهدايتكم للإسلام {وَمِيثَٰقَهُ} أي اذكروا ميثاقه وهو عهده الأكيد {الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ} أي عاهدكم عليه بأن تطيعوه فيُثيبكم {إِذْ} في الوقت الذي {قُلْتُمْ سَمِعْنَاوَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ} فلا تخالفوا الميثاق ف- {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي بنواياكم في الوفاء أو النقض، و«ذات» بمعنى صاحبة والمراد بها القلوب والنوايا.

بحوث

الأول: حيث كان الكلام في الوفاء بالعهود وقد ذكر اللّه تعالى بعض مصاديق عهوده التي يجب الوفاء بها، ذكر في هذه الآية عهداً آخر من عهوده في عبادته فذكر تفصيلاً في الطهارة للصلاة عبر الوضوء والغسل والتيمم، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى حيث ذكر الطهارة في المأكل والمنكح بذكر الطيبات والخبائث، أتمَّ ذلك بذكر طهارة الجسم والروح من القذارات المادية والمعنوية والتي تحصل بالحدث الأصغر والأكبر وذلك بالتطهر بالماء أو التراب.

ومن جهة ثالثة: حيث ذكر الطيبات الجسمانية، انتقل إلى ذكر الطيبات الروحية والتي من أهمها الصلاة ومقدماتها، ثم في نهايه الآية يبيّن أن الالتزام بذلك سهل لا حرج فيه وهو في صالحكم من كل الجهات، إذ هو تطّهر ونعمة فهو خير لكم تكويناً وتشريعاً.

ص: 50

كيفية الوضوء

الثاني: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ...} الآية.

تتضمن الآية بيان إحدى أهم مقدمات الصلاة وشرائطها وهي الطهارة، إذ إن الصلاة عمود الدين وهي وقوف بمحضر الرب تبارك وتعالى، فكانلا بدَّ من اجتماع الطهارة المادية والمعنوية لتكون للنفس قابلية العروج إلى قرب اللّه تعالى ومرضاته، وحيث إن الحدث أصغر وأكبر، والماء قد يوجد وقد لا يوجد فذكر اللّه تعالى حكم جميع هذه الحالات، فلرفع الحدث الأصغر لا بد من الوضوء، ولرفع الحدث الأكبر لا بد من الغسل هذان مع وجود الماء، وأما مع فقدانه فالتيمم بالتراب بدلاً عن الوضوء والغسل.

وقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ} أي أردتم القيام إليها، فإنه يكثر استعمال الفعل بمعنى الإرادة وكذا العكس، ولعلّ النكتة في ذلك هو بيان شدة العزيمة بحيث يتحقق الفعل بمجرد إرادته من غير تردد أو تسويف، أو لجهة عدم انفكاك العمل الاختياري عن قصده فكأن العمل وقصده شيء واحد.

وفي بعض الروايات بيان أن هذا القيام هو من النوم(1)

وهو لا ينافي ما ذكرناه من أنّ القيام إلى الصلاة هو إرادتها؛ لأن الروايات ذكرت الشروع وهو القيام من النوم وقوله: {إِلَى الصَّلَوٰةِ} ذكر المنتهى والغاية التي هي الصلاة فيكون حاصل الآية والروايات: إذا قمتم من النوم إلى الصلاة... .

وقوله {فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} (الغَسل) هو إجراء الماء على الشيء، و(الوجه) معروف وهو في الرأس ما يقابل به الإنسان غيره، وحدّه من

ص: 51


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 336 عن تهذيب الأحكام 1: 7؛ وتفسير العياشي 1: 297.

قصاص الشعر إلى الذقن طولاً، وما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضاً، فليست الآذان وما استرسل من اللحية من الوجه، وأما شعر الحاجب والشارب والمقدار المتعارف من اللحية فهو داخل في الوجه، فيجب غسل ظاهرها، ولا يلزم تخليل الماء إلى البشرة إن كان الشعر كثاً، إذ بغسلهايصدق غسل الوجه، وحيث لم يحدّد اللّه تعالى الوجه لذلك يجب غسله كلّه ولا يكفي غسل بعض الوجه، وهذا هو الاستعمال المتعارف والمتبادر.

وقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أي واغسلوها، وحيث إن اليد تطلق على ما دون المنكب وما دون المرفق وما دون الزند وما دون مفاصل الأصابع لذلك كان لا بد من تحديد المقدار اللازم غسله فقال: {إِلَى الْمَرَافِقِ} فالتحديد لليد وهو المغسول، وليس تحديداً للغسل حتى يكون نهاية الغسل إلى المرفق، كي يستفاد منه لزوم الابتداء من الأصابع والانتهاء إلى المرفق، وفي التقريب: «فإن الغسل يستثنى منه غسل العضد، ولذا لا يستفاد من {إِلَى} هذه كونها غاية للغَسل، بل المستفاد كونها غاية للمغسول، فإنك لو قلت لمصاب بالمرض: (ادهن رجلك إلى الركبة) لم يستفد منه عرفاً لزوم كون التدهين من الإصبع إلى الركبة، بل استفيد كون الفخذ خارجاً من التدهين»(1)، وعليه فالآية تدلّ على المقدار المغسول، وأما وجوب الابتداء من الأعلى فلأنّ الكلام مُلقى إلى العرف وهو حسب الطبيعة - لو خُلّي عن عادته ومذهبه - يغسل من الأعلى إلى الأسفل، فلو كان شخص يده قذره فأمره والده بأن يغسلها فلا تجده يغسل منكوساً بل

ص: 52


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 610.

يبدأ من الأعلى إلى الأسفل، هذا مضافاً إلى ما دلّت عليه السنة الصحيحة عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) (1).

وقوله: {وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ} المسح هو إمرار اليد على الشيء، وقددلت السنة على لزوم كونها مبلّلة بماء الوضوء من دون جريان الماء على الرأس فذلك غسل وليس بمسح، والباء في {بِرُءُوسِكُمْ} للتبعيض فلا يجب مسح كل الرأس بل بعضها فيكفي مُسمّى المسح، وقد دلت السنة على لزوم كونه في الناصية أي الربع المقدّم من الرأس، ولا يكفي مجرد وضع اليد على الرأس فإنه ليس بمسح، بل لا بد من إمراره قليلاً ليصدق المسح.

وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} عطف على رؤوسكم، أي وامسحوا أرجلكم والقراءة الصحيحة هي بفتح اللام في {أَرْجُلَكُمْ} وهو عطف على محل {بِرُءُوسِكُمْ} لأنه مفعول للمسح، وإنما لم يعطفه على اللفظ لاستلزامه تكرار التبعيض، حيث إن الباء تدل على التبعيض، وقوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أيضاً تحديد يدل على التبعيض فاستغني عن الباء وذلك لدلالة التحديد على التبعيض ولذا تم العطف على المحلّ، وأما ما رُوي من أن القراءة على الخفض(2)

- أي كسر أرجلكم - فهو إما بيان للمعنى أو للاحتجاج على العامة بهذه القراءة، وإلاّ فقد مرّ أن القراءة الصحيحة واحدة، وهي المشتهرة بين المسلمين قديماً وحديثاً وعليها رواية حفص عن عاصم، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «القرآن واحد نزل من عند الواحد ولكن

ص: 53


1- راجع وسائل الشيعة 1: 388 فما بعد.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 336؛ عن تهذيب الأحكام 1: 71.

الاختلاف يجيء من قبل الرواة»(1).

وأما ما تقوله العامة من عطف {أَرْجُلَكُمْ} على {وُجُوهَكُمْ} حتى يكون المعنى (وأغسلوا أرجلكم) فهو يستلزم ركاكة الكلام وعدم فصاحته، بل لوكان الواجب غسل الر ِجل للزم تكرار اغسلوا في اللفظ، ولذا اضطر بعضهم كالزمخشري(2) إلى تأويل المسح بما يشمل الغسل أيضاً! فأفسد اللفظ والمعنى، كما أن بعضهم اضطر أن يعترف بدلالة الآية على مسح الرجل إلا أنه ادّعى نسخها بالسنة! وهو كلام باطل، إذ لا ينسخ الكتاب بالسنة، لقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٖ مِّنْهَا}(3)، وليست السنة خيراً من الكتاب، مضافاً إلى أن سورة المائدة لم ينسخ منها شيء كما مرّ.

وقوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} الكعب هو قبة القدم، أي العظم المرتفع في ظاهر القدم، وهذا التحديد كتحديد اليد بقوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ}، لأن الر ِجل أيضاً تطلق على القدم وعلى ما دون الركبة وعلى ما يشتمل على الفخذ، وحيث كان الحكم المسح على ظاهر القدم فقط فلذا حدّده بقوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ}. وأما التثنية في قوله: {الْكَعْبَيْنِ} دون الجمع كما في {الْمَرَافِقِ} فلعلّه لأجل أن لا يتوهم أن الكعب هو نهاية عظم الساق حيث عظمتان ناتئتان في طرف كل رِجل، فيكون لكل إنسان أربعة كعاب، فبقوله: {الْكَعْبَيْنِ} علمنا أن في كل رِجل كعب واحد فيكون هو قبة القدم كما ذكرنا، هكذا قيل.

ص: 54


1- الكافي 2: 630.
2- راجع الكشّاف 1: 597.
3- سورة البقرة، الآية: 106.

الوضوء في سورة النساء والمائدة

وقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ} بيان للحالة الثانية وهي حالة الجنابة مع وجدان الماء فالواجب هو التطهر بالماء بقرينة التقابل مع قوله: {أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} وأيضاً لدلالة آية سورة النساء حيث قال:{وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ}(1)، و(الجنب) أصله بمعنى البعد على ما قيل؛ لأنه يبتعد عن الصلاة وعمّا يشترط فيه الطهارة، أو للبعد عن الطهارة فهو قذارة معنوية.

ويستفاد من الآية عدم لزوم الوضوء مع غسل الجنابة؛ لأن المعنى إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم جنباً فاطهروا وكذلك قوله في سورة النساء {حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ}.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم...} الآية.

قد مرّ توضيحها في سورة النساء الآية 43 فراجع، ولا تكرار بين الآيتين لاختلاف الغرض فيهما وإن كان اللفظ والحكم واحداً، ففي سورة النساء {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}(2).

فأما الفرق بين الآيتين فإن...

ص: 55


1- سورة النساء، الآية: 43.
2- سورة النساء، الآية: 43.

1- آية النساء ذكرت الجانب السلبي {لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ} لذا جعلت لعدم الاقتراب غاية، وأما آية المائدة ففي الجانب الإيجابي {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ} لذا لم يجعل غاية بل تفريع.

2- وإن آية النساء لم تذكر الوضوء أصلاً، بل ذكرت الغسل فقط، لكنفي التيمم أدخلت الحدث الأصغر عرضاً، وأما آية المائدة فعامة للوضوء والغسل فذكر التيمم لحالة الحدث الأصغر والأكبر بالأصالة لا بالعرض.

3- وفي آية النساء ذكر للجنابة الاغتسال، وفي آية المائدة ذكر التطهر.

4- وفي آية النساء المحور هو الصلاة وأهميتها لذلك نزهها عن السكر وعن الجنابة، وأما آية المائدة فالمحور تكليف المكلّف.

وحيث اتضح الفرق نقول: إن الغرض في الآيتين مختلف، فالغرض هو بيان أن التيمم كما هو نهاية النهي بعدم الاقتراب إلى الصلاة كما في سورة النساء، كذلك هو سبب طهارة العبد بحيث يؤهله للصلاة كما في سورة المائدة فاختلف الغرض، وباختلافه ينتفي التكرار؛ لأن مجرد التشابه ليس تكراراً إذا اختلف الغرض.

كما أنه في سورة المائدة تمّ التأكيد على الطهارة؛ لأن الغرض هو بيان تكليف المكلف فقال: {فَاطَّهَّرُواْ}، {لِيُطَهِّرَكُمْ} فناسب الآيتين كلمة {مِّنْهُ} لبيان أن الصعيد سبب الطهارة، أي فامسحوا مسحاً مبتدءاً وناشئاً عن الصعيد؛ لأن اللّه يريد أن يطهركم، وفي ذلك دلالة على أن الصعيد مطهّر عكس ما كان يتصوره بعض الناس، وعليه فكلمة {مِّنْهُ} وإن لم تزد شيئاً في الحكم الفقهي، إلاّ أنه جيء بها لبيان كون الصعيد طهوراً، وذلك

ص: 56

يناسب سياق آية المائدة دون آية النساء، فتأمل، واللّه العالم بحقائق كتابه.

علة الطهارات الثلاث

الرابع: قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٖ...} الآية.

تعليل لتشريع الطهارات الثلاث وهو الطهارة وإتمام النعمة، ثم بيان الغرض الأقصى وهو الشكر.إذ إن الحكمة تقتضي أن لا يكون هناك حكم إلاّ بغرض صحيح تارة في متعلّق الحكم، بأن يكون في الشيء مصلحة ملزمة فيجب، أو مفسدة ملزمة فيحرم، وتارة في الحكم نفسه كما في الأوامر الامتحانية، حيث إن المصلحة في امتحان العبد عبر تكليفه بشيء - ابتلاءً أو تمحيصاً أو تمييزاً - لينظر كيف يعمل.

والطهارات الثلاث تطهير للإنسان من القذارة المادية؛ لأنه بالوضوء والغسل يحصل التنظيف، كما أن التراب النظيف معقّم وقاتل للجراثيم، وكذلك تطهره من القذارة المعنوية، وهي الحدث الذي يحصل بأسبابه المعروفة المذكورة في الفقه، ولذا كانت الطهارات نوراً وتوجب طهارة باطن الإنسان مما يجعله قابلاً للتقرب إلى اللّه تعالى، وهذه إرادة تشريعيّة.

كما أنها من تشريعاته تعالى وكلها نعمة من اللّه تعالى للناس؛ لأنها تنظم حياتهم وتقرّبهم إلى الفضائل وإلى الجنة وتبعدّهم عن الرذائل وعن النار، فكل تشريع نعمة وكان تمام النعمة بتشريع يرتبط بأعظم الطاعات والعبادات ألا وهي الصلاة ومقدماتها، وإتمام النعمة أمر تكويني كسائر النعم التكوينية لكن يمكن للإنسان أن يكفر بالنعمة تكويناً بعدم شكرها كما قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ

ص: 57

الْبَوَارِ}(1).

وإنما أراد اللّه هذين الأمرين - التطهير وإتمام النعمة - للغرض الأقصىوهو شكر الناس ليستحقوا بذلك الرحمة الخاصة التي خلقهم لأجلها، حيث قال: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(2).

وقوله: {مِّنْ حَرَجٖ} الحرج هو أشد الضيق، وأصل معناه الضيق في النفس وقد شاع استعماله في العسر والضرر البدني أيضاً، والحرج قسمان:

فقد يكون في ملاك الحكم بأن يكون تشريع الحكم موجباً للحرج، ففي هذه الحالة لا يشرّع اللّه هذا الحكم كقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(3)، فأصل تشريع الحكم فيه المشقة لذلك لم يصدر إلزام به، وقد لا يكون في تشريع الحكم حرج إلاّ أنه قد يبتلى بعض المكلفين بالحرج لبعض الأسباب الخاصة فهنا يتمّ تشريع الحكم لكن مِنّة على العباد يرتفع الحكم عن كل من كان عليه حرج فقط كتشريع الصوم لوجود مصلحة في التشريع من غير كون التشريع حرجياً، إلاّ أنه أحياناً يبتلى بعض الناس بالحرج أو الضرر فيرتفع الحكم عنهم مِنّةً.

ولا حرج في ملاك الوضوء أو الغسل لذا شرّعها اللّه تعالى، إلاّ أنه أحياناً يكون التكليف بهما حرجياً أو ضررياً كما لو لم يجد الماء أو كان في استعماله الضرر فحينئذٍ شرّع اللّه البدل وهو التيمم، فهو حكم واقعي لكنه

ص: 58


1- سورة إبراهيم، الآية: 28.
2- سورة هود، الآية: 119.
3- الكافي 3: 22.

ثانوي حين عدم وجدان الماء.

وقوله: {وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} يدل على أن أصل التطهر لا حرج فيه لذلك أراده اللّه لعباده حيث إن فيه المصلحة لهم.

الخامس: قوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَٰقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ...} الآية.

لمّا بيّن في الآية السابقة أن الغرض الأقصى هو شكرهم فقال: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} حثّهم في هذه الآية على شكر النعمة عبر تذكيرهم بميثاقهم وتحذيرهم عن نقضه.

وقوله: {وَاذْكُرُواْ} بالشكر والعمل، فإن الإنسان إذا غمره اللّه بالنعمة وطال عليه الأمد نسي فضل اللّه عليه، فكان لا بد من تذكيره باستمرار.

وقوله: {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} الظاهر أن المراد النعمة بهدايتهم إلى الإسلام وهي أعظم النعم عليهم.

وقوله: {وَمِيثَٰقَهُ} أي عهده الأكيد عليهم بالعمل بالأوامر والانزجار عن النواهي.

وقوله: {الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ} تذكير لهم بأنهم قبلوا الميثاق، فإن مواثيق اللّه يجب العمل بها سواء رضوا أم كرهوا، إلاّ أنه مع رضاهم ومعاهدتهم يكون وجوب الالتزام بها أشد ومخالفتهم أسوء، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) «المراد بالميثاق ما بيّن حجة الوداع من تحريم المحرمات وكيفية الطهارة وفرض الولاية»(1).

ص: 59


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 346؛ عن مجمع البيان.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} تحذير من نقض الميثاق، وحتى التبييت والنية في ذلك، إذ إنه تعالى {عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي القلوب لأن الصدور صاحبة القلوب، أو النوايا التي تستولي على قلوب الناس، وفي تفسير القمي: «لمّاأخذ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الميثاق عليهم بالولاية، قالوا: سمعنا وأطعنا، ثم نقضوا ميثاقهم»(1).

ص: 60


1- تفسير القمي 1: 163.

الآيات 8-11

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ 8 وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ 9 وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ 10 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 11}

8- بعد ذكر بعض عهود اللّه تعالى في الفروع والأصول يذكر عهداً آخر من أهم عهود اللّه تعالى وهو العدل فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ} مبالغة في القيام أي كونوا دائمي القيام {لِلَّهِ} لأجله تعالى وابتغاء مرضاته، حال كونكم {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} تشهدون بالعدل، {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملكم {شَنََٔانُ} شدة بغض {قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ} تتركوا العدل بالنسبة إليهم فتعتدوا عليهم بما لا يجوز، بل {اعْدِلُواْ} فيهم، إذ {هُوَ} العدل {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} أي مخافة اللّه، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في سائر أموركم بالتزام طاعته وترك معصيته، {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيجازيكم عليه.

9- ومن جزائه أنه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} ويلازمه

ص: 61

ترك السيئات {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} من ذنوبهم {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} على طاعاتهم، وهو حتماً سيفي بوعده.

10- {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} دلائلنا وبراهيننا الواضحة {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ} ملازمون لها خالدون فيها.

11- ثم يحثّهم اللّه على الطاعة والوفاء بالعهد بتذكيرهم بنعمة عظيمة من نعمه فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ} ذكراً يستتبع عملاً {نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ} في الوقت الذي {هَمَّ} قصد {قَوْمٌ} الكفار {أَن يَبْسُطُواْ} يمدّوا {إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالفتك بكم {فَكَفَّ} منع {أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} فردّ ضررهم، بل نصركم عليهم، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} احذروا مخالفته {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي يكلوا أمورهم إليه، بأن يعملوا بتكليفهم ويعتمدوا على اللّه في أمورهم، وبذلك ينصرهم ويدفع الشرور عنهم.

بحوث

الأول: هذه الآيات تذكر عهداً آخر من عهود اللّه تعالى، وتحث على الوفاء به، ألا وهو العدل والذي من أصعب مصاديقه مراعاة العدل مع الأعداء وعدم تجاوز حدود اللّه تعالى فيهم، إذ من طبيعة الإنسان تجاوز الحدود مع أعدائه بالانتقام والتشفّي منهم، ثم يكمل اللّه تعالى ذكر هذه العهود بوعده المغفرة والجنة لمن التزم بها، ووعيده النار لمن خالف، مع تذكيره بنعمة اللّه عليهم، حيث ردّ كيد أعدائهم إلى نحورهم.

فيكون حاصل الآيات من أول السورة أنه تعالى يأمر المؤمنين بالوفاء بالعهود ثم يذكر عهوده في المأكل والمنكح، وعهوده في عبادته في الحج

ص: 62

والصلاة، وعهده في الولاية، ثم في هذه الآيات عهده في مراعاة العدل مع الناس وفي جميع الشؤون، ثم يبيّن أن العهد من الطرفين، ولذا وعدهمالثواب على الالتزام بعهوده كما حذّرهم من مغبّة المخالفة، وبيّن أنه قد أنعم عليهم بكفّ أعدائهم عنهم ليكون ذلك أدعى لوفائهم بعهوده سبحانه وتعالى.

الثاني: قوله تعالى: {كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}.

بيان لعهده في مراعاة العدل مع الناس بأن لا تكون عداوتهم سبباً لتجنب مراعاة العدل معهم وعدم إعطائهم حقوقهم، وهذا كالتتمة لما مرّ في الآية الثانية حيث قال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْۘ} فهناك نهي عن الاعتداء عليهم، وهنا أمر بملازمة العدل مع الأعداء، وهذه الآية تشبه قوله تعالى في سورة النساء: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ} إلى قوله: {فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ}(1) ففي تلك الآية حذّر اللّه من ترك العدل لحبّ النفس والأقرباء، وفي هذه الآية حذّر من تركه لبغض الأعداء، فإن العدل مطلوب مطلقاً والظلم مذموم دائماً، والقيام للّه هو دائماً بالقسط، كما أن الشهادة للّه هي دائماً بالقسط، إلاّ أنه في هذه الآية لما كان الغرض الوفاء بعهد اللّه تعالى ومتعلقهُ شهادة العدل لذلك قال: {كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}، وأما في آية النساء فحيث كان محور الكلام مراعاة العدل لذلك قال: {كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}، فتأمل.

ص: 63


1- سورة النساء، الآية: 135.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ...} الآية.

قد مرّ شبيه هذه الآية في الآية الثانية، وكان الكلام هناك في عهده تعالى في الحج، وكان سبب البغض هو صدهم عن المسجد الحرام فنبّه اللّه تعالى المؤمنين على أن جريمة الكفار بصدكم عن المسجد الحرام لا تكون مبرّراً للتعدي عليهم، وفي هذه الآية الكلام عام حول العدل وسبب البغض غير منحصر في أمر معين، فالمعنى أن أيّ عداوة يجب أن لا تمنع عن العدل و(يَجرم) يتعدى إلى المفعول الثاني تارة بنفسه وتارة بحرف الجر، ولذا في الآية الثانية عدّاه بنفسه وفي هذه الآية عدّاه بحرف الجر (على).

وقوله: {اعْدِلُواْ} تأكيد لتحذيره من عدم العدل عبر الأمر بالعدل، ولعلّه لبيان أنه لا يكفي ترك الظلم فقط بل لا بد من ضمّ العمل بالعدل إليه أيضاً.

وقوله: {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} أفعل التفضيل هنا منسلخ عن معنى التفضيل والمقصود منه أن مراعاة العدل تقربكم إلى تقوى اللّه تعالى، أو يقال: إن التقوى مجموعة التزامات والعدل من أهم تلك الالتزامات فكل التزام يقرب الإنسان إلى التقوى، والعدل أكثر الأعمال تقريباً إليها من سائر الطاعات، ولذا أكمل الكلام بقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي في سائر أحكامه فكون العدل أقرب لا يعني ترك سائر الطاعات.

وقوله: {خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ} كالتمهيد للآيتين اللاحقتين حيث الوعد والوعيد، فالمعنى إنه يعلم بأعمالكم فيجازيكم عليها.

الرابع: قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ...}

ص: 64

الآيتين.

الإيمان قلبي بالاعتقاد بأصول الدين، والعمل الصالح جوارحي بالعملبالفروع، ويلازمه ترك السيئات؛ لأن العامل بها غير عامل بالصالحات، وحيث إن عهود اللّه - والتي ذكرت الآيات الماضية بعضها - كانت في الأصول وفي الفروع لذا بيّن تعالى أن هذه العهود من الطرفين فأنتم تلتزمون بالطاعات وفي المقابل يغفر اللّه لكم ويرزقكم الجنة، وأما إذا نقضتم العهد فتستحقون العقاب، ويكون نقض العهد بالكفر - سواء بالكفر الاعتقادي أو بكفران النعمة بالعصيان - وبالتكذيب لآيات اللّه تعالى، قيل ضمّ التكذيب إلى الكفر لإخراج المستضعفين الذين كفرهم ليس عن تكذيب، بل عن قصور حيث لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك أمرهم إلى اللّه تعالى فعسى أن يعفو عنهم إن نجحوا في امتحان الآخر أو يعذّبهم إن سقطوا فيه، وقد مرّ تفصيله، وقيل: التكذيب بالآيات معناه الجحود عن علم وعمد؛ لأن الآيات دلائل واضحة دليلها معها فمن شاهدها يعلم بصدقها فلا موجب للتكذيب إلاّ العناد، والمعاند لا يستحق إلاّ الخلود في النار.

وقوله: {أَصْحَٰبُ} بمعنى الملازمين، وهو يفيد معنى الخلود.

وقوله: {الْجَحِيمِ} من الجُحمة وهي شدة تأجح النار، وتستعمل في شدة الغضب وشدة الحرب، يقال: جحم وجهه من شدة الغضب، ويقال: جحمت الحرب أي مركز شدتها، واستعملها القرآن في نار جهنم لشدة حرارتها وسعيرها(1).

ص: 65


1- راجع مفردات الراغب: 187؛ ومفردات الراغب مع ملاحظة العاملي: 202.

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ...} الآية.

بيان لجانب من وفاء اللّه تعالى بعهده حيث وعدهم النصر والتأييد، وفي ذلك تأكيد لهم وحث على وفائهم بعهود اللّه تعالى بالطاعة وترك المعصية لينالوا المزيد، ويحتمل أن يكون الغرض بيان أن وعده لهم بالمغفرة والأجر العظيم لا خلف فيه؛ لأنه سبحانه يبتدؤهم بالنعم من غير استحقاق ومن دون وعد، فكيف إذا وعد فهو أحق بالتنفيذ والوفاء؛ لأنه سبحانه لا يخلف الميعاد.

وقوله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} قيل: الآية عامة تشمل جميع الحروب والمؤامرات التي شنّها المشركون والكفار ضد المسلمين، وما ذكره المفسرون هنا لعلّه بيان لبعض المصاديق أو لشأن النزول حسب زعمهم.

ويحتمل أن يكون المقصود ما حصل في صلح الحديبيّة - كما في تفسير القمي(1) - لأن قوله: {قَوْمٌ} ظاهره أنهم أناس بعينهم، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}(2).

وقوله: {أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} (البسط) هو المدّ، وبسط الأيدي بالأذية والقتال، وبسط الألسن بالسب ونحوه قال تعالى: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ

ص: 66


1- تفسير القمي 1: 163.
2- سورة الفتح، الآية: 24.

تَكْفُرُونَ}(1).

وقوله: {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ} أي منعها اللّه تعالى عنكم تارة بالطرق الغيبيّةكإرسال الملائكة في بدر وإرسال جنود لم تروها في الأحزاب، وإلقاء الرعب في قلوبهم وغير ذلك. وأخرى بالطرق الطبيعية عبر شدّ عزيمتكم بالقتال وعبر حُسن تخطيط الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في الحرب وفي السِلم ونحو ذلك.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي حيث علمتم بفضله عليكم بكف أيدي أعدائكم فاتقوه بترك عصيانه وبطاعته.

وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوكل) هو الاعتماد على اللّه تعالى في الأمور، وفي المقاييس: «هو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك»(2)، ومعناه أن يعمل الإنسان بتكليفه ويلتجئ إلى اللّه تعالى فيما هو خارج عن قدرته، قيل: التوكل يشمل الأمور التشريعيّة والتكوينية جميعاً، أو ما يختص بالتشريعات، بمعنى أن اللّه يأمر المؤمنين بأن يطيعوا اللّه ورسوله في أحكامه الدينية وما آتاهم به وبيّنه لهم رسوله، ويكلوا أمر الدين والقوانين الإلهية إلى ربّهم ويكفّوا عن الاستقلال بأنفسهم، كذلك يأمرهم أن يطيعوه فيما سن لهم من الأسباب والمسببات فيجروا على هذه السنة من غير اعتماد عليها وإعطاء استقلال لها، ومن ثَمّ ينتظرون ما يريده اللّه ويختاره لهم من النتائج بتدبيره ومشيئته(3).

ص: 67


1- سورة الممتحنة، الآية: 2.
2- مقاييس اللغة: 1063.
3- انظر: الميزان في تفسير القرآن 5: 344.

الآيات 12-14

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ 12 فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ لَعَنَّٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٖ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 13 وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ 14}

12- ثم يذكر اللّه تعالى أمثلة من العهود التي أخذها من الأمم السابقة وعاقبة نقضهم لها تحذيراً للمؤمنين فقال: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} عهدهم الأكيد، {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ} أمّرنا عليهم {اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} كفيلاً، لكل سبط كفيل ليراقبهم على عهودهم، {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} أي عالم بأعمالكم ونواياكم في الوفاء أو النقض:

أما مع الوفاء بالمواثيق: ففي الفروع {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوٰةَ} وهما أهم فروع الدين، {وَ} في الأصول ف-{ءَامَنتُم بِرُسُلِي} الذين يأتون

ص: 68

من بعد كعيسى (عليه السلام) ورسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} بالتعظيم والتوقير أو بمنع الأعداء عنهم {وَ} كذا ترك شح النفوس بأن {أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ} أي أنفقتم في سبيل اللّه {قَرْضًا حَسَنًا} لا مَنّ ولا أذى ولارياء فيه، وإنما ذكره بالخصوص؛ لأن أهم سبب لانحرافاتهم هو بخلهم وحبهم للمال، فإن التزمتم بهذه المواثيق {لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ} بمحوها {وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ}.

وأما مع نقض المواثيق: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} بعد أخذ الميثاق {مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي الطريق السويّ وهو الصراط المستقيم، فيكون مصيره يوم القيامة إلى النار.

13- لكن نقض أكثرهم الميثاق فعاقبهم اللّه تعالى {فَبِمَا} أي بسبب {نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ} فلم يعملوا به وذلك بترك الصلاة والزكاة وعدم الإيمان بالرسل وعدم نصرهم {لَعَنَّٰهُمْ} طردناهم من رحمتنا، بالمسخ وبالتشتيت في الأرض وبالذلة والمسكنة وغير ذلك، {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً} أي قطعنا ألطافنا عنهم فلم نهدهم حتى قست قلوبهم فلا تخشع لذكر اللّه ولا تقبل الحق، ومن مصاديق قساوة قلوبهم: أنهم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} كلمات اللّه في التوراة وغيرها {عَن مَّوَاضِعِهِ} عن أماكنها التي جعلها اللّه فيه، مع أنه كان في تلك الكلمات هدايتهم فأبدلوها بما فيه ضلالهم، {وَ} نتيجة ذلك أنهم {نَسُواْ حَظًّا} نصيباً وافراً {مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} مما أنزله اللّه عليهم ليكون تذكرة لهم إذ بالتحريف تُهمل الحقائق وتترك حتى تُنسى، {وَ} هذه الحالة مستمرة فيهم ف-{لَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٖ مِّنْهُمْ} أي نفس خائنة

ص: 69

حيث كانوا يهمّون بنقض عهودهم من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) {إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} ما داموا في عهدك، والعفو هو عدم المؤاخذة، والصفح هو الإعراض، فذلك إحسان و{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

14- {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ} كاليهود بالصلاةوالزكاة والإيمان بالرسل {فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} تركوا العمل بالإنجيل وحرّفوه حتى نسوه {فَ-} عاقبناهم بأن {أَغْرَيْنَا} ألزمنا وحرّضنا {بَيْنَهُمُ} بين النصارى {الْعَدَاوَةَ} في الأفعال {وَالْبَغْضَاءَ} في القلوب {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي ماداموا موجودين وهم على نصرانيتهم، ثم يشير اللّه إلى مصيرهم في الآخرة فيقول: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ} يخبرهم للمجازاة {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} من الكفر والمعاصي.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو أن اللّه تعالى بعد أن ذكر جملة من مواثيقه مع المسلمين ووعده الجنة لمن وفى والنار لمن نقض، أتبع ذلك بذكر مثالين من الأمم السابقة من الذين نقضوا عهود اللّه تعالى وبيان الضرر الدنيوي الذي ابتلوا به نتيجة ذلك النقض، حثاً للمؤمنين على الوفاء بالعهد.

والعاقبة التي يشاهدها الإنسان أوقع في نفسه من بيان عاقبة غائبة عن حواسه، فلذا تم التركيز في هذه الآيات بما يراه المسلمون من مصير أهل الكتاب المناقضين للعهد.

الثاني: قول-ه تعال-ى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ...} الآية.

ص: 70

في البداية يتم ذكر الميثاق إجمالاً، ويذكر أن اللّه أكّد الميثاق بأن جعل نقباء يراقبون أعمالهم، ثم ذكر أهم تلك المواثيق، ووعد اللّه لهم إن وفوا بها، ووعيده إن نقضوا، ثم في الآية التاليه يتم بيان أنهم نقضوها عملاً مع بيان عاقبة أمرهم.

وقوله: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ} بيان أن اللّه تعالى هو الذي اختار النقباء، وأنهم كانوا منهم ليكون أدعى للوفاء.

وقوله: {نَقِيبًا} أي كفيلاً، وأصله من «النقب» وهو الكشف أو الثقب في الأرض أو الجدار، فكأنّ النقيب يكشف عن ضمائرهم ليسير بهم بالسيرة المحمودة، وكان نقباء بني إسرائيل من خيارهم لكل سبط من أسباطهم الاثني عشر نقيباً، لا ما قاله بعض المفسرين من أن أكثر أولئك النقباء خالفوا أمر موسى (عليه السلام) ! فإن هذا لا ينسجم مع سياق الآية؛ لأن الآية في مقام بيان توكيد الميثاق لئلا يبقى لهم عذر في نقضه فكان لا بد من كون النقباء الذين يراقبونهم في أعمالهم من أخيارهم، وفي بعض الأحاديث تشبيه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بنقباء بني إسرائيل، فكما جعل اللّه تعالى نقباء في بني إسرائيل يحفظون المواثيق ويحثونهم على الالتزام بها ويبيّنون الحق كذلك جعل في هذه الأمة الأئمة (عليهم السلام) حفظة للدين(1).

وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} الظاهر أن المعيّة هنا بمعنى العلم والاطلاع كما في قوله تعالى: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ}(2)، وقال:

ص: 71


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 517.
2- سورة النساء، الآية: 108.

{وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ}(1)،وذلك لأن الآية فرّعت على هذه المعية الوعد والوعيد حيث قال: {لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ...} وقوله: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ...}.ويحتمل أن تكون المعيّة معية نصرة كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}(2) فترتبط بالشق الأول، أي الوعد، فيكون الغرض حينئذٍ الحث والتحريض على الوفاء بأن يقال لهم: إن اللّه ناصركم إن وفيتم بالميثاق.

وقوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوٰةَ} لعلّه لم يذكر عهوده بأصول الدين؛ لأنهم كانوا قد أقرّوا بها، وإنما كان اللازم عليهم الالتزام العملي، فذكر أهم عبادة في تطهير النفس وهي الصلاة، ثم أهم عبادة في تطهير المال وهي الزكاة، وهذا ما كان محل ابتلائهم حين أخذ الميثاق، وأما الإيمان بالرسل فكان تكليفهم اللاحق حين بعثهم فتم مراعاة الترتيب الزماني في المواثيق - هكذا قيل - ، أو نقول: إنه كما ذكر في صدر الآية المواثيق مع المسلمين في بعض الفروع ثم عقبها بالميثاق بالولاية كذلك بالنسبة إلى ميثاق بني إسرائيل.

وقوله: {ءَامَنتُم بِرُسُلِي} أي صدقتموهم أو اعتقدتم بهم، والظاهر أن المراد الرسل اللاحقين كعيسى (عليه السلام) والنبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ويمكن أن يكون ميثاقاً عاماً بالإيمان بجميع الرسل حتى موسى وهارون‘، والأول أقرب.

ص: 72


1- سورة المجادلة، الآية: 7.
2- سورة النحل، الآية: 128.

قوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} التعزير هو التعظيم والاحترام، وقد يكون بمعنى التأديب كتعزير العصاة عقوبة لهم، ولعلّه يرجع إلى تعظيم الدين وأحكامه عبر عقوبة من انتهكها، وليس معناه النصرة للعطف في قوله تعالى: {فَالَّذِينَءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ}(1)، نعم التعظيم والتوقير يلازم النصرة عادة، وقيل: هو بمعنى المنع فتعزير الرسل هو منع الناس من أذاهم وتعزير العصاة منع لهم ولغيرهم من ارتكاب المعاصي.

وقوله: {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي أنفقتم في سبيل اللّه، وإنما سمّاه قرضاً لأن اللّه تعالى يُرجعه بالثواب الجزيل، وكونه حسناً بأن يكون خالياً عن المنّ والأذى والرياء ونحو ذلك من مبطلات الصدقة، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}(2).

ولا يخفى أن الصدقة مستحبة، فذكرها في مواثيقهم لأجل بيان وعده لثوابها، فإن المواثيق قد تكون في الواجبات والمحرمات فيكون للوفاء بها الثواب وفي مخالفتها العقاب، وقد تكون في المستحبات فتكون في الثواب فقط، ويحتمل وجوب القرض الحسن في شريعتهم.

ولعل ذكر القرض الحسن من دون سائر الأحكام لوجود حالة الشح في أنفسهم ولأن الكثير من المعاصي التي ارتكبوها كانت لأجل المال، والتعود على الإنفاق يزيل هذه الحالة، واللّه العالم.

ص: 73


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة البقرة، الآية: 264.

وقوله: {لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ} التكفير هو التغطية والمراد محوها، وإنما قدّمها على دخول الجنة؛ لأنه لا بد من قابلية الإنسان للجنة، ولا يكون مؤهلاً لها إلاّ بعد تصفيته من كل القبائح والقذارات.

وقوله: {بَعْدَ ذَٰلِكَ} أي بعد الميثاق، والكفر قبله وإن كان ضلالاً إلاّ أن الكفر بعد الميثاق إنما هو عن عناد وإصرار فيكون أقبح وأشد عقوبة، وأما الكفر قبل الميثاق فلعلّه لا يمنع النفس عن قبول الإيمان وقد يكون عن قصور أو شبهه وفي مثله يرجى الرجوع إلى طريق الهداية.

وقوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الطريق السوي الذي هو الصراط المستقيم، قال اللّه تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}(1)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة عليها باقي الكتاب وآثار النبوة ومنها منفذ السنة وإليها مصير العاقبة»(2).

الثالث: قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ لَعَنَّٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً...} الآية.

بعد ذكر الميثاق والوعد والوعيد عليه، ذكر أنهم نقضوا الميثاق فعاقبهم اللّه بعقوبات مختلفة ذكرت الآية بعضها، ثم بيان أن هذا النقض مستمر فيهم ولذا يتم بيان في كيفية التعامل معهم.

وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم} (الباء) سببيّة، و(ما) للتأكيد ولتقوية الكلام، أي

ص: 74


1- سورة الأنعام، الآية: 153.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 16.

وبسبب نقضهم.

وقوله: {مِّيثَٰقَهُمْ} هو ميثاق اللّه معهم؛ لأن الميثاق من الطرفين، ولعل إضافته إليهم لبيان شناعة عملهم؛ لأنهم وافقوا على الميثاق ثم نقضوه.وقوله: {لَعَنَّٰهُمْ} واللعن هو الطرد من الرحمة، وقطع الرحمة عنهم هي أساس كل شرّ ابتلوا به؛ لأن كل نقمة هي نتيجة عدم الرحمة، وكان اللعن بمسخهم قردة، وبإنزال العذاب عليهم، وبالذلة والمسكنة، وتقطيعهم في الأرض، وغير ذلك.

وقوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً} أي غير رقيقة، فلا تنفذ فيها المواعظ والإنذار ولا تخشع لذكر اللّه تعالى، والمعنى عاقبناهم بقطع ألطافنا عنهم مما سبّب عدم قبول قلوبهم للّهداية؛ لأن الهداية من اللّه لا يمنحها للمعاند، وهذا أمر غيبي كما أنه طبيعي؛ لأن الإنسان إذا عاند وخالف الحق تعوّد عليه وتطبّع به، ومن تعوّد على شيء استساغه حتى لو كان عقله وفطرته على خلافه فيصعب عليه تركه، ونتيجة قساوة القلب عدم الخشوع، قال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَٰسِقُونَ}(1).

وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} هذا من مصاديق قسوة القلب، والتحريف هو التبديل بالزيادة أو النقيصة تارة، وبالتأويل الباطل تارة أخرى، و{الْكَلِمَ} هو كلام اللّه تعالى، والمقصود التوراة التي أنزلها اللّه

ص: 75


1- سورة الحديد، الآية: 16.

تعالى على موسى نوراً وهدى، قال سبحانه: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}(1). وفي آية أخرى: {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}(2).

وقوله: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} هذا كالنتيجة للتحريف فإنهم لمّا حرّفوا تركوا الأحكام التي حرفوها ثم نسوها بطول الزمان، فالنسيان هنا يشمل كلا المعينين، أي تركوا حتى نسوا، و(الحظ) هو النصيب وتنكيره لتعظيمه، أي حظاً عظيماً، و{مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي من الأحكام والعقائد التي علمهم اللّه تعالى، و(من) في {مِّمَّا} للتبعيض لأنهم تركوا ما لا يوافق هواهم، وأما الأحكام التي فيها مصالحهم فتمسكوا بها لا لكونها أحكام اللّه تعالى، بل لأجل تأمينها للمصالح!

وقوله: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٖ مِّنْهُمْ} أي حالة نقض العهود حالة مستحكمة في نفوسهم ولذا استمرت مع أجيالهم، فلذا حرفوا التوراة في أوصاف رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقوله: {خَائِنَةٖ} الأظهر أنها وصف لنفوسهم أي نفس خائنة؛ لأن ذلك أنسب لقوله: {تَطَّلِعُ} لاشعاره بأمر مخفي، ولقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}، وأما الذين نقضوا العهد عملاً فلا معنى للعفو عنهم، بل تمّت معاقبتهم بالإجلاء تارة كبني النضير، قال اللّه تعالى: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا}(3)، وبالسبي

ص: 76


1- سورة الأنعام، الآية: 91.
2- سورة المائدة، الآية: 41.
3- سورة الحشر، الآية: 3.

والقتل أخرى كبني قريظة، قال تعالى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}(1).

وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ} الظاهر أنه استثناء من قوله: {خَائِنَةٖ مِّنْهُمْ} أيأكثرهم ذو نفوس خائنة يهمّون بنقض العهود إلاّ القليل الذين استسلموا لواقعهم ولم تحدّثهم أنفسهم بالخيانة.

وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} أي ما داموا على العهد فلا تعاقبهم بتحريفاتهم في الكتاب ولا بما يهمّون من الخيانة، ومن ذلك يتبيّن أن الآية ليست منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}(2)، إذ المعنى لا يقتضي النسخ، كما أن سورة المائدة لا منسوخ فيها كما مرّ، إلاّ لو أريد من النسخ التخصيص، وقد مرّ أن (العفو) هو عدم المؤاخذة، و(الصفح) هو الإعراض عنهم وأصله من صفحة الوجه كأنه يحوّلها عنهم بالإعراض.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} تعليل للعفو والصفح بأنه إحسان وإن اللّه سيجازي على الإحسان.

الرابع: قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ...} الآية.

مثال ثانٍ من نقض الأمم السابقة للعهود ومعاقبة اللّه لهم على ذلك.

وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ} قيل لم يقل (من النصارى) مع أنه أوجز؛ لأن النصارى مشتقة من النصرة حيث قال اللّه تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ

ص: 77


1- سورة الأحزاب، الآية: 26.
2- سورة التوبة، الآية: 5.

نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(1)، فيقال للنصارى أنتم الذين تزعمون أنكم أنصار اللّه ولذا تسمّون أنفسكم بالنصارى فلماذا تنقضون عهد اللّه تعالى؟! فذلك أشنع.

وقد يقال: إن النصارى مشتقة من (الناصرة) مدينة في فلسطين، فلعل الوجه في التعبيرين هو أن كونهم من بني إسرائيل بالنسب فلا يحتاج إلى قولهم بأنهم من بني إسرائيل، وأما النصارى فلا يكون الرجل نصرانياً إلاّ باتباعه ذلك الدين فلا بد من تصريحه بأنه من النصارى، فتأمل.

وقوله: {أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ} لم يذكر تفاصيل ذلك الميثاق؛ لأنه كالميثاق من بني إسرائيل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة... الخ.

وقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ...} الإغراء هو الإلزام والإلصاق، ويكون ذلك بالحثّ والتحريض عادة، فالمعنى عاقبناهم في الدنيا بأن ألقينا بينهم العداوة والبغضاء ماداموا على نصرانيتهم ونقضهم للعهد، وإلقاؤهما غيبي بقضاء اللّه ذلك، وطبيعي لأن من طبيعة أهل الباطل الاختلاف فيما بينهم؛ لأن المهمّ عندهم الدنيا ومصالحها وهي مفرِّقة بين الناس دائماً، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2)، وعن بعض المفسرين المراد إغراء العداوة بين اليهود والنصارى! وهذا بعيد عن سياق الآية، و{الْعَدَاوَةَ} في العمل و{وَالْبَغْضَاءَ} في القلب.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي إنّ هذا التقدير مستمر ماداموا على

ص: 78


1- سورة آل عمران، الآية: 52.
2- سورة الأنعام، الآية: 129.

نصرانيتهم، فهو أثر لا يتغير بمرور الزمان.

وقوله: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ...} بيان موجر لعقوبتهم في الآخرة جرّاء نقضهم للميثاق، والإنباء هو الإخبار وذلك لأجل المحاسبة ومن ثَمّ العقاب بالنار.ومن ذلك يتم تحذير المسلمين من هذه العواقب إن نقضوا عهودهم مع اللّه تعالى، لذلك نجد من نقض العهد منهم ملعوناً قاسي القلب، ولئن لم يتمكن من تحريف ألفاظ الكتاب إلاّ أنه حرّف المعاني وحرّف في السنة وأورث العداوة بين المسلمين وما جرّته من ويلات عليهم، وبهذا يتضح جواب سؤال أن المسلمين أيضاً مبتلون بهذه الأمور فيقال: إنه نتيجة نقضهم عهود اللّه ورسوله إلاّ القليل منهم، وإليه يشير حديث الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) «ستفرّق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة»(1).

ص: 79


1- بحار الأنوار 28: 13.

الآيات 15-19

اشارة

{يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ 16 لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 17 وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ 18 يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٖ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 19}

15- لما بيّن اللّه تعالى نقض أهل الكتاب للميثاق، فتح الطريق أمامهم للتوبة والرجوع فقال: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ} عبر التحريف أو الكتمان فيُذكِّركم بحظكم الذي نسيتموه {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ} أي لا يُبيّنها

ص: 80

لكم لنسخها أو لأنه يكفي في الاحتجاج والدلالة بيان البعض، وكان هذا البيان في القرآن ف- {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ} هو الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) {وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ} يبيّن الحقائق وهو القرآن الكريم وبذلك سنحت لكم الفرصة للتوبة والوفاء بالمواثيق.

16- {يَهْدِي بِهِ} أي بكل واحد من النور والكتاب {اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ} بالإيمان فاللّه لا يكره الناس على الهداية، وإنما يهدي من أرادها، ويُضِلُّ من رفضها {سُبُلَ السَّلَٰمِ} مفعول يهدي، أي يهديهم اللّه إلى طرق السلامة في الدين والدنيا والآخرة {وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ} ظلمات الكفر والضلال والعصيان {إِلَى النُّورِ} نور الإيمان والعمل الصالح {بِإِذْنِهِ} أي بلطفه وإرادته وقدرته {وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ} فكل سُبل السلام تصب في الصراط المستقيم الذي لا انحراف فيه.

17- وبعد الدعوة إلى اتباع رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه يهدى إلى الصراط المستقيم يتم بيان لزوم اتِّباعه؛ لأن عقائدهم باطلة خارجة عن الصراط المستقيم ومثّل مثالين، المثال الأول قوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وهذا عقيدة بعضهم حيث ينفون التثليث ويزعمون اتّحاد المسيح مع اللّه سبحانه وتعالى، وهؤلاء يزعمون أنه مادام المسيح هو اللّه فلا يعذب أحداً؛ لأنه رحمة فقط! {قُلْ} في إبطال زعمهم: إنكم تزعمون أن المسيح قد صلب ونحن نقول بأنه سيموت فليس هو اللّه، بل اللّه مالك المسيح وخالقه وهو قادر على إهلاك الجميع {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا} أي من يتمكن من منعه عن قدرته وإرادته {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ

ص: 81

الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} فكلّهم يهلكهم اللّه وهذا دليل على اشتراك المسيح وغيره في كونه مخلوقاً مربوباً، {وَ} ذلك لأنه {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فكلهم مخلوقون مقهورون، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} لذلك خلق المسيح من غير أب وأعطاه المعاجز، كما خلق آدم من غير أبوين، وكما يخلق سائر الناس من أب وأم، وكذلكأعطى سائر الأنبياء المعاجز، فذلك ليس دليلاً على ألوهية عيسى (عليه السلام) {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} ومن قدرته خلق المسيح ومعاجزه.

18- المثال الثاني: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ} أي زعموا أن فيهم أبناء اللّه، حيث قالت طائفة أخرى من النصارى بأن المسيح ابن اللّه سبحانه، وطائفة من اليهود بأن عزيراً ابن اللّه تعالى، وزعموا أن جميعهم أحباء اللّه ولذلك لا يعذبون على نقضهم للمواثيق! {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} حيث يعترفون بإنزال العذاب الإلهي على مجموعات منهم بالمسخ وغيره كأصحاب السبت؟ {بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} لا فرق بينكم وبين غيركم فيجري على الجميع حكمه على السواء، {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} ممّن آمن، {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} ممّن كفر أو عصى لا كما تشاؤون حسب أمانيكم الباطلة، {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فلا ابن له، بل الجميع عباد له، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فيحاسب الجميع على حدّ سواء لا كما تزعمون.

19- ثم يبيّن اللّه تعالى أن الحجة قد كملت عليهم بإرسال رسوله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فلا يمكنهم ادعاء القصور وعدم العلم ف- {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ

ص: 82

جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فهو رسول من اللّه يلزمكم اتباعه {يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٖ} أي فتور وانقطاع {مِّنَ الرُّسُلِ} إذ لا رسول بين عيسى (عليه السلام) وبين محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {أَن تَقُولُواْ} أي كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا يوم القيامة {مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖ} تحتجون بذلك! {فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} هو رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فتمت الحجة عليكم، {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} ومن قدرته إرسال الرسول بعد الفترة وبذلك تدحض حججهمبأنه لا نسخ لشريعتهم، حيث إن اللّه كما هو قادر على إنزال شريعة وإرسال رسول كذلك قادر على نسخ الشريعة وإرسال رسول آخر.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو أنه تعالى بعد أن بيّن نقض اليهود والنصارى للمواثيق وأن اللّه تعالى عاقبهم في الدنيا بما ذكرته الآيات السابقة وأنه سيحاسبهم يوم القيامة على ما اقترفوه، بعد ذلك أراد بيان أنهم يتمكنون من تدارك ما فات بالتوبة والإيمان بالرسول وبالقرآن والالتزام بتعاليمه، فإنه الصراط المستقم، وأما عقائدهم الباطلة فهي خارجه عن الصراط المستقيم ومن ذلك زعمهم أنهم لا يعذبون حتى وإن نقضوا المواثيق لأنهم أحباء اللّه! فإن الأدلة تدحض عقائدهم الباطلة وأمانيهم الزائفة، وقد تمت عليهم الحجة بإرسال رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بالمعاجز والبراهين التي جاء بها.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ...} الآية.

ص: 83

حث وتحريض لهم بالإيمان برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ؛ لأنه:

أولاً: يبيّن كثيراً من حقائق التوراة والإنجيل مما كانوا يخفونها خوفاً على مصالحهم أو تهرباً من الأحكام وصعوبتها، وفي ذلك إتمام للحجة على عوامهم الذين لم يكونوا يعلمون الكتاب إلا أماني، فلئن لم يكونوا يعلمون ذلك فيما سبق لكنهم علموه ببيان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلا يبقى لهم عذر.

وثانياً: لأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) دلائل صدقه معه فهو نور ظاهر بنفسه وهادٍلغيره، كما أن معه القرآن الكريم الذي هو واضح الدلالة والإعجاز، وبهذين الأمرين تتم الحجة على جميع أهل الكتاب.

وقوله: {رَسُولُنَا} إضافة الرسول إلى ضمير المتكلم مع الغير تأكيد على أن اللّه تعالى هو المرسل مع تفخيم شأن الرسول بجمع الضمير، فإنه كما يكون تعظيم للّه تعالى بجمع الضمير كذلك هو تعظيم للرسول حيث أضيف إليه.

وقوله: {كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ} تذكير لهم بالمواثيق التي واثقهم اللّه تعالى عليها حيث ذكر نسيانهم لها في قوله: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} فأراد بيان تذكيرهم بتلك المواثيق عبر بيان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ} أي لا يُبَيِّنُها لهم لعدم الحاجة إلى بيانها لنسخها؛ لأنهم كانوا يخفون بعض ما ليس بصالحهم من الأحكام، لكنها نسخت في الشريعة الإسلامية فلم يكن هناك داع ٍ لبيانها، ولأن الحجة تتم عليهم بتذكيرهم بالأحكام التي استمرت في هذه الشريعة أيضاً.

وقوله: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ} ظاهر العطف أن الجائي

ص: 84

من اللّه شيئان فالنور هو الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، والكتاب هو القرآن، والغرض بيان صدق مقالة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لأن آثار الصدق لائحة من قوله وفعله، كما أن القرآن دليل صدقه معه فهو الكتاب المعجز المبيّن للحقائق، وقد أطلق النور على الرسول في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(1) كما أن الأئمة (عليهم السلام) امتداد لنورالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فهم نور من نوره لذا تنطبق الآية عليهم تأويلاً أو مصداقاً.

وقوله: {مُبِينٌ} أي واضح الدلالة تام الحجة ظاهر الإعجاز.

مراحل الهداية الثلاث

الثالث: قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ...} الآية.

أي يكفيكم الرسول والكتاب لهدايتكم إن اخترتموها، فإن الهداية من اللّه لمن أرادها، وأما من يرفض الهداية بعناد فلا يهديه اللّه تعالى كما قال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ}(2)،

وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَٰذِبٌ كَفَّارٌ}(3)، وقال: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}(4)، وقد مرّ تفصيل بحث الهداية.

ثم تبيّن الآية أن المراحل في الهداية ثلاث:

المرحلة الأولى: الهداية إلى سبل السلام، أي الطرق التي تؤدي إلى

ص: 85


1- سورة الأحزاب، الآية: 45-46.
2- سورة المائدة، الآية: 108.
3- سورة الزمر، الآية: 3.
4- سورة الرعد، الآية: 27.

السلامة في الدنيا والآخرة، وهي الطرق التي شرّعها اللّه تعالى، كالصلاة والصوم وأداء الأمانة ونحوها قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1)، وقال: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنَا سُبُلَنَا}(2).

المرحلة الثانية: الإخراج من ظلمات الكفر والجهل والعصيان إلى نور الإيمان والعلم والطاعة.المرحلة الثالثة: الإيصال إلى المطلوب من الجنة والرضوان وهو الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.

وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} الضمير يرجع إلى النور والكتاب المبين، وإفراده باعتبار كل واحد منهما، أو لاتحاد حقيقتهما في جانب الهداية، ولذا عُبّر عن الرسول وأوصيائه بأنهم القرآن الناطق، وفي ذلك بيان أن الهداية إنما هي من اللّه وحده، وإنما الرسول والقرآن وسيلة وسبب أراده اللّه تعالى، كما قال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(3).

وقوله: {اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ} أي كان هدفه كسب رضا اللّه تعالى لا أهوائه وشهواته ومصالحه، بأن كان طالب حقيقة قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَاهُمْ}(4) وقال: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ

ص: 86


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.
2- سورة إبراهيم، الآية: 12.
3- سورة القصص، الآية: 56.
4- سورة محمد، الآية: 17.

وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ}(1) وقال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٖ}(2).

وقوله: {سُبُلَ السَّلَٰمِ} مفعول يهدي، أي الطرق التي توجب السلامة في الدين لا البدع والأباطيل، والسلامة في الدنيا بحياة سعيدة خالية عن الضنك، وبالسلامة في الآخرة عن النار والعذاب بل الجنة والرضوان.وإنما جمع (السُبل) لأن مصاديق طاعة اللّه تعالى كثيرة فالصلاة سبيل، والصوم سبيل آخر، والحج سبيل ثالث، وهكذا، وكلّها جميعاً تصب في الصراط المستقيم، فلا يصح زعم البعض أن جميع العقائد والأعمال صحيحة؛ لأنها سبل إلى اللّه! فهو من زخرف القول غروراً، فلا سبل إلاّ ما شرّعها اللّه تعالى، ولا عقيدة إلاّ ما قرّرها اللّه سبحانه.

وقوله: {بِإِذْنِهِ} أي بلطفه التكويني، أو بإرادته وقدرته التكوينية.

وقوله: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ} تكرار الهداية لاختلاف الهداية إلى سبل السلام عن الهداية إلى الصراط المستقيم، فتلك هداية في الفروع وهذه هداية في الأصول، وقيل: إن الأولى سبب الثانية، وقيل: إنه لما تمّ الفصل بين الهدايتين بالإخراج من الظلمات لزم تكرار الهداية ليستقيم اللفظ.

الرابع: قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ...} الآية.

بيان لزوم اتّباع رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنه لا ينفعهم نقضهم للمواثيق

ص: 87


1- سورة محمد، الآية: 28.
2- سورة الروم، الآية: 29.

باعتقادهم عقائد باطلة تؤدي إلى زعمهم أنهم لا يعاقبون على نقضهم الميثاق، نظير قوله تعالى: {وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَٰسِرِينَ}(1).

ولعلّه في هذه الآية يذكر اللّه تعالى انحرافهم عن الصراط المستقيم، باعتقاد مجموعة من النصارى بأن عيسى هو اللّه تعالى وأنه جاء إلى الأرض بصورة بشر ليخلّص الناس من العذاب! وعليه فلا يرون عذاباً كي يتحذّرواعن القبائح والتي منها نقض العهد!

أو لعلّه لمّا ذكر الهداية إلى الصراط المستقيم أراد بيان مثال من أهل الكتاب في الانحراف عنه مع دحض حجتهم في ذلك.

ولا يخفى أن النصارى طوائف، فمنهم: من يقولون بأن المسيح هو اللّه تعالى، ومنهم: من يقولون بالتثليث، أي الأب والابن وروح القدس، وقد ردّ اللّه على كلا الطائفين في الآيات 72-74 من هذه السورة، وهذه الآية تردّ الطائفة الأولى، والآية التالية ترد الطائفة الأخرى وكذا اليهود.

وقوله: {ابْنُ مَرْيَمَ} بيان لعدم ألوهيته؛ لأنه ابن مريم (عليها السلام) فلا يكون إلا بشراً من نوعها.

وقوله: {يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا} أي من يتمكن من منعه عمّا يريد ولو بمقدار بسيط ضئيل؟ لأن من يقدر على المنع فقد ملكه، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

وقوله: {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ} هذا جواب لهم بما يعتقدون وبما

ص: 88


1- سورة فصلت، الآية: 23.

هو الواقع، فالمسيح قد صُلب بزعمهم، وفي الواقع إنّه سيموت بعد نزوله من السماء وصلاته خلف المهدي، فكيف يكون من يجري عليه الموت إلهاً؟ فمقتضى الألوهية هو القدرة على كل شيء، فإرادته التكوينية نافذة في كل شيء ولا أحد يتمكن من مخالفة إرادته التكوينية، فلا أحد يتمكن من إهلاكه، وهذا غير موجود في المسيح (عليه السلام) لأنه هلك بزعمكم، وسيموت حسب الواقع الذي نقول به.

وقوله: {وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} لبيان عدم الفرق بين المسيحوغيره من الناس في أنهم يموتون، فكيف صار المسيح من بينهم إلهاً؟ مع أن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.

وقوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ...} بيان لألوهية اللّه تعالى حصراً دون غيره؛ لأن جميع الكون ملكه ومخلوقات له، فلا يعقل ألوهية غيره ولا يمكن الشريك له.

وقوله: {مَا بَيْنَهُمَا} قيل: لأن المسيح ليس من السموات ولا هو الأرض، بل هو على الأرض تحت السماء فكان بينهما.

وقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} كأنّه رد لزعمهم أن المسيح لو لم يكن إلهاً فكيف وُلد من غير أب؟ والجواب: أن اللّه يخلق من دون أبوين كآدم (عليه السلام) ، ويخلق من أم من غير أب كعيسى (عليه السلام) ، كما يخلق عامة الناس من الأبوين، قال سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(1).

ص: 89


1- سورة آل عمران، الآية: 59.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} كأنّه ردّ لما زعموه من أن معاجز عيسى (عليه السلام) دليل ألوهيته! فيقال لهم: إن اللّه قادر على أن يعطي أحد خلقه المعجزات كما أعطى أنبياء آخرين كموسى (عليه السلام) المعجزات الباهرات باعتراف النصارى أنفسهم.

الخامس: قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ...} الآية.

بيان بطلان مزاعم طائفة أخرى من النصارى - وهي أكثرهم - الذينزعموا أن المسيح ابن اللّه تعالى وكذلك اليهود الذين زعموا أن عزيراً ابن اللّه، وأنهم أتباع لهما فهم أحبّاء اللّه، فلذا لا يعذّبهم اللّه وحتى لو عذّبهم فإنما هو أياماً معدودات، لأن الحبيب لا يعذب حبيبه مع كونهم متَّصلين بأبنائه!!

وقوله: {نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ} الظاهر أن مرادهم البنوة الحقيقة لعزير وللمسيح وهم أشياعهما وأتباعهما، فقولهم: {وَأَحِبَّٰؤُهُ} أرادوا بهم أنفسهم، وهذا أسلوب متعارف بأن ينسب الناس إلى أنفسهم أمراً يكون في أحدهم أو بعضهم، كقول أفراد من القبيلة لم يشاركوا في القتال: لقد غلبناهم أو انتصرنا عليهم، وقد مرّ بعض الكلام في قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...}(1)، بأن المراد الأئمة (عليهم السلام) وإنما كان الكلام حول الجميع لاشتمال الأمة الإسلامية عليهم (عليهم السلام) .

ص: 90


1- سورة البقرة، الآية: 143.

وقيل: هو على المعنى المجازي للبنوة، أي أبناء بالكرامة والعز فلا يعذبنا اللّه تعالى!

وقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم...} ردّ لزعمهم، فإنّ عذابكم دليل على عدم كونكم أحبّاءَهُ وذلك باعترافكم.

والظاهر أن المراد عذاب الدنيا، حيث يعترفون هم بزوال العذاب على أمم منهم كأصحاب السبت حيث مسخوا قردة، أو بما يشمل عذاب الآخرة أيضاً حيث يعترفون بعذاب قليل لهم كما قال: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّاأَيَّامًا مَّعْدُودَةً}(1) وقد مرّ أن كتبهم خالية عن ذكر الحياة الآخرة - على ما قيل - إلاّ أنهم بفطرتهم يعتقدون بها فلذا كانوا يقولون لا يمسّهم العذاب إلاّ قليلاً، واعترافهم هذا يكفي في بطلان زعمهم بأنهم أحباء اللّه تعالى.

ولا يخفى أنّ الآية في مقام بيان العذاب عقوبةً، فلا ترتبط بالابتلاءات التي يبتلى بها المؤمنون أيضاً كي نحتاج إلى بيان الفرق بين العذاب عقوبةً وبين ابتلاءات المؤمنين التي هي لرفع الدرجات أو للتمحيص ونحوه، كما صنعه بعض المفسرين!

وقاله: {بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} بعد أن أبطل كونهم أبناء اللّه وأحباءه بإثبات عذابهم، أثبت عدم الفرق بينهم وبين الآخرين، فالكل بشر مخلوق للّه تعالى لا نسب بينهم وبينه، وإنما ينظر إلى أعمالهم فمن آمن وعمل الصالحات غفر له، ومن كفر وعصى عذّبه، قال سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا

ص: 91


1- سورة البقرة، الآية: 80.

وَلَا نَصِيرًا}(1).

وقوله: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} في مجمع البيان: «وإنما علّق العذاب بالمشيئة مع أنه سبحانه لا يشاء العقوبة إلاّ لمن كان عاصياً، لما في ذلك من البلاغة والإيجاز بردّ الأمور إلى العالم الحكيم يجريها على وجه الحكمة»(2).

وقوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ...} كالتعليل بأنه لا بنوة بين اللّه وبين خلقه؛وذلك لأن الجميع ملك للّه تعالى، ونسبته إليهم واحدة بأنهم المخلوقون وهو الخالق.

وقوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} بيان أن الآخرة بيده، لا بيد غيره، فلا مرجع سواه، فالجزاء عنده، وهو كما عذب المخالفين منكم في الدنيا كذلك يعذبكم في الآخرة إن لم تؤمنوا.

السادس: قوله تعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٖ...} الآية.

بيان لإكمال الحجة عليهم فلا عذر لهم في نقض عهد اللّه تعالى، حيث إنه تعالى قد أرسل رسوله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) بالآيات وبالكتاب المبين، فبشّر المطيعين وأنذر الكفار والعصاة فلم يبق لكم عذر في مخالفته.

وقوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ} لم يذكر المفعول؛ لأنه قد ذكره في الآية 15 في قوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ}، أو بمعنى يبيّن لكم ما يحتاج

ص: 92


1- سورة النساء، الآية: 123.
2- مجمع البيان 3: 437.

إلى البيان.

وقوله: {عَلَىٰ فَتْرَةٖ مِّنَ الرُّسُلِ} أي فتور وانقطاع، إذ لم يكن بين عيسى (عليه السلام) وبين رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) رسولٌ، وإنما استمرت الحجة بالأوصياء وبقليل من الأنبياء الذين لم يكونوا رسلاً، وهؤلاء كانوا مغمورين، ولذلك شاع الكفر والتحريف والانحراف، فلئن كان هناك عذر لأهل الفترة لمن كان قاصراً منهم، إلاّ أنه لا عذر لمن عاصر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وشاهد الآيات، وفي التقريب: «ولعلّ سرّ تبيين الأمر وبوضوح أن الدنيا لا تستقيم إلاّ بهدي السماء، فإنه لمّا انقطع الوحي في الفترة ساد العالم خرابوفوضى لا مثيل لها وبذلك تكون تجربة عملية»(1).

وقوله: {أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا...} أي إنما أرسلنا رسولنا محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) لإتمام الحجة عليكم كما قال: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}(2) وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(3)، وفي ذلك دلالة على أن من كان في الفترة أو غيرها وكان جاهلاً قاصراً فهو معذور، وقد دلت الأحاديث على أنه يمتحن في الآخرة وقد مرّ بيانه، و{أَن تَقُولُواْ} أي كراهية أن تقولوا، أو لئلا تقولوا والمقصود حتى لا يبقى لكم عذر وحجة على كفركم.

وقوله: {فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} تأكيد وحث على اتّباعه، وذكر أن

ص: 93


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 624.
2- سورة النساء، الآية: 165.
3- سورة الإسراء، الآية: 15.

بيان الرسول يشتمل على البشارة والإنذار.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} تعليل لإرساله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فإنه سبحانه قادر على إرسال الرسل بمصلحة، فلا يبقى وجه لاعتراض أحد.

ص: 94

الآيات 20-26

{وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ 20 يَٰقَوْمِ ادْخُلُواْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ 21 قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ 22 قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَٰلِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 23 قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَا إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ 24 قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ 25 قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْۛ أَرْبَعِينَ سَنَةًۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ 26}

20- ثم يذكر اللّه تعالى قصة من قصص بني إسرائيل في نقضهم للعهد وما ابتلوا به عقوبة لذلك، حثّاً للمسلمين على الوفاء بالعهد وتسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من نقص أهل الكتاب عهودهم معه فقال: {وَإِذْ} أذكر الوقت الذي {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ} وكان ذلك بعد نجاتهم من فرعون {اذْكُرُواْ} وذكرها هو مقابلتها بالإطاعة، وكان ذلك تمهيداً لأمرهم بدخول الأرض المقدسة، {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ} يهدوكم إلى سواء السبيل وهذا أعظم

ص: 95

النعم، {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} أي مالكين أمر أنفسكم بعد أن كنتم رعايا وعبيداً لدى آل فرعون، {وَءَاتَىٰكُم} من الكرامات {مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ} من بدأالخلق إلى زمانكم، كالمن والسلوى وتظليل الغمام وغير ذلك.

21- وبعد التمهيد بذكر نعمه تعالى عليهم أمرهم بقوله: {يَٰقَوْمِ ادْخُلُواْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} التي باركها اللّه باختيارها لأنبيائه وطيّب ماءها وهواءها وزراعتها {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قضاها لكم تشريعاً وتكويناً، {وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ} عن دينكم بعصيان أمر اللّه تعالى في قتال الجبابرة {فَتَنقَلِبُواْ} ترجعوا {خَٰسِرِينَ} من غنيمة الدنيا وثواب الآخرة.

22- {قَالُواْ} معترضين ومظهرين العصيان: {يَٰمُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} شديدي البأس والبطش فلا نقدر على قتالهم، {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا} أي الأرض المقدسة {حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا} من غير قتال منّا، كأنهم أرادوا إخراجهم بالإعجاز! {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ} فيها!

23- {قَالَ رَجُلَانِ} من النقباء وكانوا {مِنَ} المجموعة {الَّذِينَ يَخَافُونَ} اللّه تعالى وقد {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بأن هداهما ووفّقهما إلى العمل الصالح وإطاعة اللّه ورسوله: {ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ} على الجبارين {الْبَابَ} باب مدينتهم، أي باغتوهم، أو بمعنى أن تكون الحرب في المدينة لا في الصحراء، {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ} دخلتم الباب {فَإِنَّكُمْ غَٰلِبُونَ} لأن الغلبة عادة لمن أغار، ولصعوبة الكرّ عليهم، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ} فلا تعتمدوا على خطّتكم وقوتكم فقط {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

ص: 96

24- لكن القوم اعرضوا عن الرجلين ووجهوا الخطاب لموسى (عليه السلام) ف-{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا} فخافوا الجبارين ولم يثقوا بوعد اللّه بنصرهم! {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَا} قالوه استخفافاً واستهانةباللّه ورسوله {إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} لعلّهم أرادوا بذلك قطع الموعظة والحوار وإيجاد حالة اليأس في موسى من دعوتهم.

25- فلما يئس موسى (عليه السلام) منهم التجأ إلى اللّه شاكياً ومعتذراً {قَالَ} موسى: {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ} لنصرة دينك وتطبيق أوامرك {إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} وهذا لا يكفي لفتح المدينة {فَافْرُقْ} أي افصل واحكم {بَيْنَنَا} أنا وأخي {وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ} الخارجين عن طاعتك.

26- {قَالَ} اللّه تعالى: ما دامهم قد عصوا {فَإِنَّهَا} الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْۛ} لا يتمكنون من دخولها ولا يملكونها {أَرْبَعِينَ سَنَةًۛ} حال كونهم {يَتِيهُونَ} يتحيرون ضائعين {فِي الْأَرْضِ} الصحراء بين مصر وفلسطين، {فَلَا تَأْسَ} لا تحزن {عَلَى الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ} لأن التيه كان عقوبة لهم على خروجهم عن الطاعة.

بحوث

الأول: يبيّن اللّه تعالى ميثاقاً من مواثيقه في بني إسرائيل وعصيانهم وعقوبتهم عليه، وذلك تحذيراً لأهل الكتاب من مخالفتهم أمر اللّه تعالى في التصديق برسوله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنه سيعاقبهم إن رفضوا هذه النعمة، كما أن في ذلك تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كي لا يحزن على تكذيبهم إياه، وكتمانهم صفاته في كتبهم، وإثارتهم المؤامرات والحروب عليه، ونقضهم لعهودهم

ص: 97

معه، فإن نقض العهد صفة ملازمة لهم حتى مع أنبيائهم الذين شاهدوا معاجزهم والذين أنقذهم اللّه بهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِعَلَيْكُمْ...} الآية.

إن موسى (عليه السلام) لمّا أراد أمرهم بدخول الأرض المقدسة مع استلزام ذلك للحرب مع الجبابرة، مهّد لذلك بيان ثلاثة من أعظم نعم اللّه عليهم، حيث شاهدوها بأعينهم، مما تستدعي إطاعة اللّه تعالى وعدم عصيانه، بل أراد بيان نعمة رابعة لهم - وهي كتابة الأرض المقدسة لهم - إن أطاعوا، وقد ذكر اللّه تعالى تلك النعم إجمالاً في قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَٰرِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ}(1)، وبيّنها في هذه الآية تفصيلاً، وتلك النعم هي:

1- {جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ} وهذه أعظم النعم المعنوية؛ لأنها هداية إلى الطريق القويم بما يضمن سعادة الدنيا والفوز بالجنة، وفي التقريب: «سبعون نبيّاً في عهد موسى (عليه السلام) ، ولعل سرّ كثرة الأنبياء (عليهم السلام) في تلك الأزمنة كون البشر في مثل حال الأطفال الذين يحتاجون إلى عدد من المربين، بخلاف عهدي عيسى (عليه السلام) والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث نضج البشر أكثر فأكثر، كالكبار الذين لا يحتاجون إلاّ إلى مرشد واع ٍ»(2).

ص: 98


1- سورة القصص، الآية: 5-6.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 625.

2- {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} وهذه أعظم النعم المادية، حيث يكون الإنسان حراً طليقاً مالكاً لأمر نفسه، وكان ذلك بعد طول العبودية لآل فرعون، حيث يسومونهم سوء العذاب ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، فبنوإسرائيل بأجمعهم ملكوا أمر أنفسهم وسادوا بعد الخروج من مصر ولذا قال: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} ولم يقل: «وجعل فيكم ملوكاً»، وأما النبوة فكانت خاصة بالبعض ولذا قال: {جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ}.

وقال بعض المفسرين: إن المعنى جعل فيكم الملوك ولكن عمّم ذلك باعتبار اشتمال بني إسرائيل على الملوك!

لكن هذا المعنى لا ينسجم مع حالة بني إسرائيل حين قال لهم موسى (عليه السلام) هذا الكلام، إذ كانوا في الصحراء ولم يكن عليهم ملك، بل كان موسى (عليه السلام) يسير فيهم بالعدل من غير أن يكون ملكاً، فالصحيح ما ذكرناه أولاً من أن المعنى أنكم نلتم الحرية فلم تعودوا رعايا لغيركم.

3- {وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ} أي الكرامات التي نلتموها حيث لم يقدرها اللّه لغيركم إلى زمانكم، كالمن والسلوى وتظليل الغمام والحجر التي انبجست منها اثنتا عشرة عيناً وغير ذلك، و{الْعَٰلَمِينَ} أي الناس إلى زمانهم؛ لأن ظاهر أمثال هذا الكلام هو ذكر ما تحقق منذ الماضي إلى الحال الحاضرة فلا يكون ناظراً إلى المستقبل.

الثالث: قوله تعالى: {يَٰقَوْمِ ادْخُلُواْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ...} الآية.

بعد التمهيد بذكر النعم الثلاث الماضية يذكر نعمة رابعة، وهي أنه تعالى

ص: 99

قدّر وقضى لهم الأرض المقدسة، ونيلهم هذه النعمة كان بحاجة إلى جهاد منهم، وحيث كان موسى (عليه السلام) يعلم تمردّهم وجبنهم لذلك حذّرهم من أن عصيان أمر اللّه تعالى سبب الخسارة لهم؛ لأنهم إن جاهدوا ملكوا الأرضالمقدسة بما فيها من الخيرات، لكن إن عصوا عوقبوا في الدنيا وفي الآخرة، فإن اللّه قد قضى لهم هذه النعمة مشروطة بالصبر على الطاعة وعن المعصية، فحينما يطيعون ينالونها، وماداموا عصاة لا يصلون إليها، فوعده تعالى كان بشرط، كما دلّ على الشرط قوله تعالى: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(1) إلى قوله: {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}(2)، فلما خالفوا الشرط ابتلاهم اللّه بالتيه كما أخبرهم موسى (عليه السلام) في هذه الآية حيث قال: {وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ}، ثم لما أطاعوا أنجز اللّه ما وعدهم حيث قال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَٰرِقَ الْأَرْضِ وَمَغَٰرِبَهَا الَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ}(3).

فاتضح بذلك أنه لا منافاة بين قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وبين قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْۛ أَرْبَعِينَ سَنَةًۛ} بل الثانية تؤكد الأولى، حيث إن الخطاب للأمة، فقد كتبها وأنجز وعده بعد أربعين سنة لما وفوا بالشرط.

كما اتضح أن ما ورد في بعض الروايات من البداء في كتابة الأرض

ص: 100


1- سورة الأعراف، الآية: 128.
2- سورة الأعراف، الآية: 129.
3- سورة الأعراف، الآية: 137.

المقدسة لهم يراد به ما ذكرناه من عدم تحقق الوعد لعدم تحقق شرطه، أو يقال: إنه كان التقدير أن يكون وعداً بلا شرط ثم محا اللّه تعالى التقدير السابق وقدّره وعداً بشرط، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «كتبها لهم ثممحاها، ثم كتبها لأبنائهم فدخلوها، واللّه يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب»(1).

وقوله: {الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} هي بيت المقدس وما حوله، وإنما كانت مقدسة - أي طاهرة - لأن اللّه بارك فيها كما قال: {سُبْحَٰنَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ}(2) وقال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَٰرِقَ الْأَرْضِ وَمَغَٰرِبَهَا الَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا}(3)، وهذه القداسة والبركة معنوية باختيارها محلاً للأنبياء، ومادية بالخيرات المختلفة فيها من طيب مائها وهوائها وزراعتها قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}(4).

وقوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الكتابة هي قضاؤه تعالى تكويناً كما قال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي}(5)، أو تشريعاً كما قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}(6)، والظاهر أن المراد هنا الكتابة التكوينية والتشريعية، أي

ص: 101


1- تفسير العياشي 1: 304؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 354.
2- سورة الإسراء، الآية: 1.
3- سورة الأعراف، الآية: 137.
4- سورة الأعراف، الآية: 58.
5- سورة المجادلة، الآية: 21.
6- سورة البقرة، الآية: 183.

قدّرها وأباحها لكم.

وقوله: {وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ} الظاهر أن المراد هو التحذير من العصيان فإنه نكوص بعد طاعة ورجوع عنها بالعصيان، وحيث إن الأمر كانبدخول الأرض المقدسة فالارتداد بعدم الطاعة كان بعدم دخولها.

وقوله: {فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ} بيان لنتيجة العصيان وهو الخسارة في الدارين، وكانت خسارتهم الدنيوية هي ابتلاءهم بالتيه أربعين سنة حيث مات أكثرهم، بل جلّهم من غير أن يتنعموا بسكن الأرض المقدسة.

الرابع: قوله تعالى: {قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا...} الآية.

قولهم هذا كان عن اعتراض وتمرّد على أمر اللّه تعالى، كما أنه يكشف عن ضعف إيمانهم وجبنهم، حيث رفضوا الدخول لاستلزامه الحرب مع الجبارين فخافوهم، وأما ضعف إيمانهم فلأنّ موسى (عليه السلام) أخبرهم بأن اللّه كتبها لهم ومعنى ذلك غلبتهم عليهم، كما أن العصيان يكشف عن قلة الإيمان.

وقيل: إنهم كانوا يتوقعون الإعجاز في إخراج الجبارين لينالوا الأرض المقدسة من غير عناء حرب!

وقوله: {جَبَّارِينَ} أي شديدي البأس والبطش، وأصله من الجبر بمعنى الإكراه - لا الجبر بمعنى سدّ الخلة - لأن ذا البطش يجبر الآخرين على ما يريد، وهو صفة ذم للإنسان، لكنه صفة مدح للّه تعالى، فمن أسمائه الحسنى الجبار؛ لأن إرادته غالبة على كل إرادة وبما فيه المصلحة وإذا كان الجبر

ص: 102

كذلك كان ممدوحاً.

وقولهم: {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا} ثم تكرار هذا المعنى بقولهم: {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ} لعلّه للتأكيد على عدماستعدادهم للحرب، أو أرادوا بيان طاعتهم المشروطة تخفيفاً من وقع رفضهم لأمر اللّه ورسوله!

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ...} الآية.

بيان أن القليل من بني إسرائيل كانوا مؤمنين مطيعين للّه ولرسوله وهؤلاء هم الذين كانوا يخافون اللّه تعالى لا الجبارين، لكن هؤلاء لم يكونوا بالمقدار الكافي لفتح المدينة، فلذا انتصروا لموسى (عليه السلام) ببيان سهولة الغلبة على الجبارين بالكيفية التي بيّنوها، وهؤلاء كانوا مجموعة - من النقباء وغيرهم - لكن اثنين منهم تكلّما؛ لأنّ الأمر بالمعروف واجب كفائي إذا قام به البعض ممّن فيه الكفاية سقط عن الباقين.

وقوله: {رَجُلَانِ} كانا من النقباء، وهما يوشع بن نون وصيّ موسى (عليه السلام) وكالب بن يافنا كما في بعض الأحاديث(1).

وقوله: {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} (من) للتبعيض، ومتعلق يخافون هو اللّه تعالى، فالمعنى أن هناك كانت مجموعة يخافون اللّه وهم النقباء وغيرهم، لذا أطاعوا اللّه ورسوله لكن لم يكن في عددهم الكفاية لفتح المدينة، فانبرى اثنان منهم لوعظ الناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر،

ص: 103


1- تفسير العياشي 1: 303؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 353.

ولعلّه لم يذكر المتعلّق اكتفاءً بقوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا}.

وقوله: {ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ} إما بمعنى باغتوهم بالدخول من الباب عليهم، وفي ذلك دلالة على ضعف الجبارين وأن خوف بني إسرائيل منهملم يكن في مورده، أو بمعنى عدم محاربتهم في الصحراء، بل في المدينة لئلا تكون لهم قدرة المناورة، أو لأن الغلبة عادة هي لمن أغار.

وقوله: {فَإِنَّكُمْ غَٰلِبُونَ} إما بيان للسبب الطبيعي؛ لأن من هاجم وملك باب المدينة يتمكن من فتحها، أو لأنهم علموا من وعد اللّه ذلك، أو لأن موسى (عليه السلام) أخبرهم بذلك، أو لأن اللّه أوحى لهما، أو لغير ذلك.

وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ...} هذا لإزالة الخوف عنهم، بأنكم تأخذون بالسبب الطبيعي وهو الهجوم عليهم من الباب، وبالسبب الغيبي عبر التوكل على اللّه تعالى.

السادس: قوله تعالى: {قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا...} الآية.

كأنهم أعرضوا عن جواب الرجلين إلى خطاب موسى بخطاب تعنّتي، إما لأنهم توهموا أن موسى (عليه السلام) هو الذي بعث الرجلين لوعظهم، أو لأنهم جعلوا كلامهم هذا تمهيداً إلى قولهم: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَا} وفي ذلك بيان زيادة عنادهم وتعنّتهم.

قوله: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ} هذا استهانة بموسى (عليه السلام) وقلة مبالاة بأمر اللّه تعالى وذلك من ضعف إيمانهم، كأنهم يريدون أن يقولوا: مادام ربك هو أوحى لك الأمر بالقتال فلماذا لا تذهبان أنتما إلى القتال! بل تريدان منّا

ص: 104

أن نقاتل!، ولا يخفى شدة تأكيدهم على عصيانهم بنفي التأبيد ب-{لَن} والتأكيد بقولهم: {أَبَدًا} وكذلك بتوجيه الخطاب إلى اللّه ورسوله {أَنتَ وَرَبُّكَ} وبقولهم: {إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ}!السابع: قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا...} الآية.

لمّا يئس موسى (عليه السلام) منهم توجّه إلى اللّه تعالى شاكياً قومه ومعتذراً عن عدم تمكنه من تنفيذ أمر اللّه تعالى؛ لأنهم عصوه ولا رأي لمن لا يطاع.

وقوله: {لَا أَمْلِكُ} أي لا أملك التصرف، بمعنى أني لا أتمكن من جبر وإكراه الآخرين على إطاعة أمرك.

وقوله: {إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} الظاهر عطف (أخي) على (نفسي) فالمعنى لا أملك إلا اثنين هما نفسي وأخي، وأما ما قيل من عطف (أخي) على الضمير في (إني) حتى يكون المعنى: أني لا املك إلا نفسي، وإن أخي لا يملك إلا نفسه! فبعيد عن ظاهر الآية.

سؤال: الرجلان - يوشع وكالب - كانا مطيعين أيضاً، كما أن سائر النقباء وجملة من بني إسرائيل كانوا مطيعين ينفذون أمر موسى (عليه السلام) فلماذا لم يذكرهم، بل حصر الأمر في نفسه وأخيه؟

والجواب: لعلّه لأجل أن هارون (عليه السلام) لعصمته كان من المؤكد إطاعته لأمر موسى (عليه السلام) ، فكان يمكنه أن يقول بضرس قاطع إنه يملك أخيه، وأما سائر المؤمنين فكان يمكن انقلابهم على الأعقاب فلذا لم يكن قاطعاً بملكه أمرهم.

ص: 105

أو لأن أولئك المؤمنين كانوا عاجزين عن القتال فكانوا معذورين فلم يكن موسى (عليه السلام) يملك أمرهم بالقتال لعدم استطاعتهم.

أو في الكلام اختصار لأن قوله: {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} دليل علىإطاعتهم لموسى (عليه السلام) ، وأما هارون (عليه السلام) فلم يتم ذكره في الآيات السابقة فناسب ذكره هنا. أو لغير ذلك، واللّه العالم.

وقوله: {فَافْرُقْ} لعلّ المقصود هو عدم عقوبتنا بفعلة الفاسقين نظير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰيَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}(1)، وذلك لأنا قد فعلنا ما بوسعنا لتنفيذ أوامرك، لكن عدم تمكننا إنما هو لأجل خذلان هؤلاء الفاسقين فلسنا مقصرين في ذلك، أو لعلّه لما علم موسى أن اللّه سيعاقبهم بعصيانهم تضرّع إلى اللّه تعالى أن لا تشمله هذه العقوبة، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}(2)، ولذا قيل: إنه من الممكن أن اللّه تعالى قد سهّل عليهما الحياة فترة التيه فكانا مع بني إسرائيل لكن لم يقاسيا ما قاسوه من صعوبات التيه وكذلك المؤمنون المطيعون، كما أن اللّه جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم.

وفي تفسير القمي: «فلمّا أراد موسى أن يفارقهم فزعوا، وقالوا: إن خرج موسى من بيننا نزل علينا العذاب، ففزعوا إليه وسألوه أن يقيم معهم ويسأل اللّه أن يتوب عليهم، فأوحى اللّه تعالى إليه: أني تبت عليهم على أن يدخلوا مصر، وحرمتها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض عقوبة لقولهم:

ص: 106


1- سورة الأعراف، الآية: 155.
2- سورة الأنفال، الآية: 25.

{اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَا}(1).

ويحتمل أن يكون معنى {فَافْرُقْ} أعم من الدنيا والآخرة فيكونالمعنى احكم بيننا وبينهم، وبذلك يفترق المطيعون عن العاصين. فتحكم عليهم بما يستحقون بعدلك وتحكم علينا بما نستحق بفضلك.

وقوله: {الْفَٰسِقِينَ} الفسق هو الخروج عن الطاعة، وكأنّ وصفهم بذلك لبيان إطاعته لأمر اللّه تعالى وسعيه لتنفيذ أمره لولا عصيانهم وعدم تمكنه من حملهم على الطاعة.

والظاهر أن موسى (عليه السلام) لم يكن في مقام الدعاء عليهم ليعاقبهم اللّه على عصيانهم، بل كان في مقام الاعتذار لنفسه وتضرعه إلى اللّه؛ لئلا يصيبه من عقابهم أو فتنتهم شيئاً، ويشعر بهذا قوله تعالى في الآية التالية: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ} فكأنه كان يعزّ عليه عقوبتهم وكان يحزن عليهم وهذا لا يناسب دعاءه عليهم بالعقوبة.

الثامن: قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْۛ أَرْبَعِينَ سَنَةًۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ...} الآية.

بيان لعقوبتهم على عصيانهم واستهانتهم باللّه ورسوله، وحيث إن اللّه كان يريد تربيتهم؛ لأنه اختارهم ليكونوا حملة دينه لذلك عاقبهم بعقوبة تتناسب مع معصيتهم ومع تربيتهم، وهي التحيّر والضياع في الصحراء، فإنها من جهة تناسب عصيانهم بعدم دخول الأرض المقدسة التي فيها راحتهم ورفاههم واستقرارهم، فعوقبوا بالضياع في الصحراء وعدم استقرارهم، فكانوا أسوأ

ص: 107


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 356؛ عن تفسير القمي 1: 165.

حالاً من البدو الرُحّل؛ لأنهم يصنعون ذلك باختيارهم عكس من يريد أن يصل إلى المدينة ويتحرك باتجاهها في الصحراء، لكنه لا يصل إليها، ومن جهة أخرى تربية لهم ليعلموا عياناً نتيجة عصيانهم، وأما اختيار أربعين سنة فلعلّه لأجل أن يتبدّل الجيل إلى جيل آخر فتتغيّر طباع الأمة، فإن الذينخرجوا مع موسى (عليه السلام) من مصر ماتوا في التيه إلا القليل منهم وحلّ محلّهم من ولدوا في التيه من أبنائهم وأبناء أبنائهم(1)، وهؤلاء نشأوا في ظل الحرية وتعاليم موسى (عليه السلام) لذلك اختلف حالهم عن حالة آبائهم من التمرد وضعف الإيمان، لذلك دخلوا مع يوشع (عليه السلام) الأرض المقدسة ونجّز اللّه لهم ما وعده.

وقوله: {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْۛ} أي تكويناً بأن منعهم اللّه عن دخولها ثم بيّن كيفية التحريم بقوله: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ}.

وقوله: {أَرْبَعِينَ سَنَةًۛ} متعلّق بقوله: {مُحَرَّمَةٌ} أي مدة التحريم كانت أربعين سنة.

وقوله: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} من (تاه) بمعنى ضل وتحيّر، فلم يهتدِ إلى الطريق، وهو حال من {مُحَرَّمَةٌ} فالمعنى محرمة عليهم حال كونهم يتهيون.

وقوله: {فَلَا تَأْسَ} أي لا تحزن على ما أصابهم؛ لأن موسى (عليه السلام) كان شفيقاً عليهم فكان يحزن لما أصابهم، وهذا نظير قوله تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا يَصْنَعُونَ}(2)، وقد بيّن اللّه سبب عدم الحزن عليهم بقوله: {عَلَى الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ}.

ص: 108


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 352؛ عن تفسير العياشي 1: 304 وغيره.
2- سورة فاطر، الآية: 8.

الآيات 27-32

اشارة

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 27 لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ 28 إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَٰبِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَٰؤُاْ الظَّٰلِمِينَ 29 فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَٰسِرِينَ 30 فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَٰرِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَٰوَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّٰدِمِينَ 31 مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ 32}

27- ثم يذكر اللّه تعالى عهداً من أهم عهوده وهو النهي عن القتل، ويتبعه بنقض أهل الكتاب له، فيقدّم له بذكر قصة ابني آدم فقال: {وَاتْلُ} اقرأ يا رسول اللّه {عَلَيْهِمْ} على أهل الكتاب؛ لأن حال أكثرهم كحال قابيل {نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ} هابيل وقابيل، {بِالْحَقِّ} أي اتل تلاوةً بالحق، أو النبأ بالحق، {إِذْ} في الوقت الذي {قَرَّبَا} للّه تعالى {قُرْبَانًا} وهو ما يُهدى للّه

ص: 109

تعالى بقصد التقرب إليه، {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} وهو هابيل؛ لأنه أخلص النية والعمل فقدّم أحسن ما عنده، {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ} وهو قابيل؛ لأنه لم يخلص النية ولا العمل فقدّم أسوأ ما عنده، {قَالَ} قابيل:{لَأَقْتُلَنَّكَ} حسداً، ف-{قَالَ} هابيل: لا ذنب لي في عدم قبول اللّه عملك؛ لأنه كان بسبب عدم تقواك و{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} وهذا حثّ له على التقوى ليتقبل اللّه منه، ولم يكن تبجحاً بأني متقٍ!

28- ثم قال له: {لَئِن بَسَطتَ} مددت {إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} ظلماً {مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} ظلماً {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ} وليس معناه أني لا أدافع عن نفسي ولكن معناه أني لا أقتلك ظلماً أو قصاصاً قبل الجناية.

29- ثم حذّره من عاقبة القتل فقال: {إِنِّي أُرِيدُ} بعدم قتلي لك مع قتلك إياى {أَن تَبُوأَ} ترجع {بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} فجميع ذنوب المقتول تسجل في أعمال القاتل عقوبة له على القتل مضافاً إلى آثام القاتل نفسه والذي منها القتل {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَٰبِ النَّارِ} الملازمين لها {وَذَٰلِكَ جَزَٰؤُاْ الظَّٰلِمِينَ} فهو عقاب بعدل لا اعتباط وتجاوز للحدّ.

30- لكن لم تنفعه الموعظة {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} أي حملته نفسه الأمّارة بالسوء على الانقياد لها بأن سوّلت له {قَتْلَ أَخِيهِ} فأطاعها {فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَٰسِرِينَ} في الدنيا بطرده وندمه وفي الآخرة بعذاب النار.

31- ثم أراد اللّه أن لا تبقى جثته من غير دفن كرامةً له {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} أي يحفرها كمن يبحث فيها {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَٰرِي} يستر {سَوْءَةَ أَخِيهِ} أي جثته؛ لأنه ساءه أن يراه قتيلاً، {قَالَ

ص: 110

يَٰوَيْلَتَىٰ} «الويلة» الهلاك وهي كلمة تقال عند التعجب أو الندم {أَعَجَزْتُ} استفهام للتعجب {أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّٰدِمِينَ} على قتله، وندمه لم يكن عن توبة، بل لعلّه عن هول الجريمة.

32- {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ} أي بسبب شناعة القتل وكونه ظلماً وأنه يؤدي إلى خسارة الدارين {كَتَبْنَا} شرّعنا أيضاً {عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} المنع عن القتل وتحريمه وبيّنا لهم {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي لم يكن قصاصاً {أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ} بمحاربة اللّه ورسوله {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} وهذا تشنيع للقتل؛ لأن القتل قتل - سواء قتل واحداً أم قتل الكل - وإن كان العقاب يتضاعف بتكرار القتل، وتأويل ذلك بالإضلال، {وَمَنْ أَحْيَاهَا} بأن أنقذها من الهلكة {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} لبيان أهمية إنقاذ النفس، وإن كان الثواب يتضاعف بتكرار الإنقاذ، وتأويل ذلك بالهداية، {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ} جائت بني إسرائيل {رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَٰتِ} الآيات الواضحة يحذرونهم من القتل والحسد وغيرهما من نقض العهود {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ} بعد الكتاب ومجيء الرسل بالبينات {فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} متجاوزون الحد باستحلال المحارم وبسفك الدماء.

بحوث

حول القتل وعاقبته

الأول: هذه الآيات تذكر عهداً من أهم مواثيق اللّه مع بني آدم وذلك هو تحريم القتل ظلماً من غير سبب شرعي - كالقصاص والحدّ ونحوهما - مع

ص: 111

بيان عاقبة ذلك، ولمّا كانت الآيات السابقة حول بني إسرائيل ونقضهم لعهودهم ناسب تذكيرهم بحرمة الدماء، لكثرة هتكهم لها وكثرة قتلهم للأنبياء وأولياء اللّه تعالى ومؤامراتهم لقتل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والمسلمين، ولبيان شناعة القتل وشدة الميثاق فيه قدّم اللّه قصة ابني آدم التي احتوت على تعاليم مختلفة ترتبط بشرع اللّه وبالقتل.

فقد بينت الآيات أن أحد أهم أسباب القتل هو الحسد وحذرت منه، وأن المؤمن لا بد أن يجتنبه خوفاً من اللّه تعالى، وأنه لا ينفع أحد الاجتناب عن الحق وعدم اتباعه؛ لأن اللّه لا يتقبل إلاّ من المتقين الذين أطاعوه فامتثلوا أمره ونهيه، وأنه لا يشرع القتل ظلماً حتى لمن يريد القتل، نعم لا بد من ردعه لكن لا بقتله، وأن القتل يكون سبباً لخسارة الظالم في الدنيا والآخرة وأنه يورث الندم، ومن عقوبته أن تسجّل آثام المقتول في سجل أعمال القاتل، وأن من شناعة القتل أن قتل الواحد كقتل الجميع وعكسه في إنقاذ الواحد فإنه كإنقاذ الجميع.

ثم إن كلام هابيل يتضمن مقاطع ثلاثةً:

1- أن شرط قبول الأعمال التقوى، فلا عمل يقبل إذا لم يكن خالصاً لوجه اللّه تعالى خالياً عن مبطلات العمل.

2- أنه لا يجوز البغي على من يريد البغي، نعم يجوز ردعه، وأما ظلمه فلا، ولذا لم يشرّع القصاص قبل الجناية، ولا العقوبة قبل الجريمة.

3- بيان عاقبة القاتل فهو يعاقب بأمرين:

أ: كتابة جميع ذنوب المقتول عليه مضافاً إلى ذنوبه نفسه، وذلك من العدل لأنه جزاء ظلمه.

ص: 112

ب: خسارته في الدنيا والآخرة.

حول القربان وسببه

الثاني: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا...} الآية.

أي اقرأ على اليهود هذه القصة تحذيراً لهم؛ لأن فيها يتبيّن شناعة القتلوأسبابه وعاقبته، عسى أن يتعظوا بذلك فيرتدعوا، فإن لم يرتدعوا يتبين للجميع سوء أعمالهم ليحذروهم.

وقوله: {نَبَأَ} النبأ والخبر بمعنى واحد، وليس في معناه العظمة كما قاله البعض، بل هو الخبر وإنما سُمّي نبأ ً لأنه ينقل من مكان إلى مكان كما في المقاييس(1) وأما عظمة النبأ كما في قوله تعالى: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}(2) فإنما استفيدت من الوصف لا من كلمة النبأ.

وقوله: {بِالْحَقِّ} إما متعلق بالتلاوة أي قراءة القصة بغرض صحيح لا بغرض باطل، أو متعلق بالنبأ، أي القصة الصحيحة لا بالخرافات والباطل؛ لأن من عادة الناس إضافة الخرافات والأساطير إلى القصص فيخرجونها عن واقعها.

وقوله: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} والقربان هو ما يُهدى بقصد التقرب إلى اللّه تعالى، وقد يكون بالأعمال الصالحة كالصلاة، وفي الحديث: «الصلاة قربان كل تقي»(3)، أو بتقديم الهدايا والتي ينتفع بها عباد اللّه تعالى، لكن قصد بها

ص: 113


1- مقاييس اللغة: 973.
2- سورة النبأ، الآية: 2.
3- الكافي 3: 265.

اللّه تعالى كهدي الحج حيث قال سبحانه: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}(1)، وقال: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}(2)، ثم قال: {لَنيَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ}(3)، وأما في زمان ابني آدم فلم يكن هناك فقير لذلك جعل اللّه تعالى علامة القبول ناراً تأكل القربان وجرت على ذلك السنة قبل نسخه في الإسلام قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٖ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَٰتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(4).

وكان سبب القربان أن آدم أراد جعل الوصية في أحدهما فأمرهما بذلك ليجعل الوصية فيمن يقبل اللّه قربانه، وسأل سليمان بن خالد الإمام الصادق (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، إنهم يزعمون أن قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما! فقال له: «يا سليمان تقول هذا؟! أما تستحيي أن تروي هذا على نبيّ اللّه آدم»؟! فقلت: جعلت فداك، ففيم قتل قابيل هابيل؟ فقال: «في الوصية»، ثم قال لي: «يا سليمان، إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم اللّه الأعظم إلى هابيل، وكان قابيل أكبر منه، فبلغ ذلك قابيل فغضب، فقال: أنا أولى بالكرامة والوصية، فأمرهما أن يقرّبا قرباناً بوحي من اللّه إليه، ففعلا، فقبل اللّه قربان هابيل، فحسده قابيل، فقتله»(5).

ص: 114


1- سورة الحج، الآية: 28.
2- سورة الحج، الآية: 36.
3- سورة الحج، الآية: 37.
4- سورة آل عمران، الآية: 183.
5- تفسير العياشي 1: 312؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 370-371.

وقوله: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} لأنه أخلص النية وظهر ذلك في أنه قدّم خير غنمه للقربان.

وقوله: {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ} لأنه لم يخلص النية ولذلك ظهر ذلك فيعمله حيث قدّم أردأ زرعه، وفي الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «ثم إن آدم (عليه السلام) أمر هابيل وقابيل أن يقربا قرباناً، وكان هابيل صاحب غنم، وكان قابيل صاحب زرع، فقرّب هابيل كبشاً من أفاضل غنمه، وقرّب قابيل من زرعه ما لم يُنَقّ»(1).

وقوله: {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} أوعده بالقتل حسداً منه، ولعلّه لم يتمكن من إخفاء قصده لشدة غيظه وحسده.

معنى القبول من المتقين

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.

هذه الموعظة الأولى من مواعظ هابيل الثلاث، وليس قول هابيل هذا تبجّحاً بأنه متقٍ وذماً بأن قابيل ليس بمتقٍ، ولعلّه قصد بذلك أمرين:

1- أنه لا ذنب له في قبول اللّه عمله، فلذلك لا مبرّر لقتله؛ لأن أفعال اللّه تعالى ليست من مسؤولية الناس.

2- حث قابيل على التقوى ليتقبل اللّه منه أعماله الآتية؛ لأن عدم القبول مرة لسبب معلوم لا يعني عدم القبول مرات أخرى لو زال السبب، فإن جاهد نفسه وروّضها على التقوى ثم أخلص النية والعمل قبل اللّه تعالى منه أعماله الآتية.

ولا يخفى أن التقوى درجات، كما أن القبول درجات أيضاً، وظاهر

ص: 115


1- الكافي 8: 113.

الآية أن عدم التقوى في عمل سبب لعدم قبول ذلك العمل، وهذا لا ينافي قبول أعمال المذنبين إذا كانت بإخلاص وصحة، كغالب عصاة المسلمين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة قربة إلى اللّه تعالى، ومع ذلك لا تخلوأعمالهم من الذنوب، فهؤلاء متقون بدرجة معينة لذا قد تقبل أعمالهم تلك، نعم لو خلا من الذنوب أجمع لكانت تقواه في الدرجة العالية فيكون القبول بدرجة أرفع، وقد تكون الذنوب كثيرة جداً بحيث تحيط به فلا يكون متقياً أصلاً فلا قبول لأي عمل من أعماله، وقد مرّ في بعض بحوث الحبط أن الكفر يُحبط جميع الأعمال، كما أن التوبة تكفّر عن جميع الذنوب، وأن المؤمن الذي جمع بين الطاعات والذنوب يجازى بطاعاته ويستحق العقوبة بذنوبه، فراجع.

الرابع: قوله تعالى: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ...} الآية.

هذه الموعظة الثانية لهابيل، بأن عليه أن يترك القتل مخافة اللّه تعالى الذي حرّم القتل.

وليس معنى الآية عدم دفاعه عن نفسه وعدم تحذّره من ذلك كما زعمه بعض المفسرين؛ لأن ذلك لا يظهر من الآية ولا من الروايات، بل في رواية دلالة على أن القتل كان غيلة، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «فلم يزل يرصده ويتبع خلواته حتى ظفر به متنحياً عن آدم (عليه السلام) فوثب عليه فقتله»(1).

فقول هابيل: {مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} يتضمن الوعظ لذلك

ص: 116


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 364؛ عن تفسير العياشي 1: 306.

أتمّه بقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ}، بل لعلّ هكذا تعبير هو تحريك لعاطفة الأخوة بأني لا أريد شرّك ولا أهمّ بضررك، وهكذا تعبير يتضمن الجانب العاطفي مضافاً إلى الجانب الشرعي، كما يقول أحدهم لأخيه وهويريد ضرره: لماذا تريد أن تضرني مع أني لا أريد ضررك بل أريد خيرك.

فحاصل معنى الآية: أني لا أريد قتلك ظلماً حتى وإن كنت أنت تريد قتلي ظلماً فلا دلالة لها على عدم جواز الدفاع عن النفس حين اعتداء المعتدي كي نحتاج إلى تأويل ذلك بأنه لعلّه كان كذلك في شريعة آدم!

من الآثار الوضعية للقتل

الخامس: قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ...} الآية.

هذه الموعظة الثالثة من مواعظ هابيل وهي تتضمن بيان عقوبة من عقوبات القاتل وهي جمعه بين آثام المقتول وآثام نفسه، ومن ثَمَّ عقوبته في الآخرة بالنار.

أما العقوبة الأولى: فهي تحصل فور تحقق القتل، بأن تنتقل جميع ذنوب المقتول إلى صحيفة أعمال القاتل، فيلقى المقتول ربه تعالى طاهراً خالياً من الذنوب، ويلقى القاتل ربّه بذنوب نفسه وذنوب المقتول جميعاً، وهذا لا ينافي قوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}(1)، وقوله: {وَمَا هُم بِحَٰمِلِينَ مِنْ خَطَٰيَٰهُم مِّن شَيْءٍ}(2). وذلك لأن القتل يجعل ذنوب المقتول أعمالاً للقاتل ثم يعاقب القاتل عليها لكونها أعماله، وهذا نظير عدم منافاة قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا

ص: 117


1- سورة الأنعام، الآية: 164.
2- سورة العنكبوت، الآية: 12.

سَعَىٰ}(1)، مع ثبوت الدية على الجاني والضمانات على المعتدي؛ لأن العامل الذي عمل لسنين طويلة حتى جمع أموالاً من سعيه إذا جنى علىأحد لزمته الدية، فتنقل منه إلى المجني عليه أو ورثته، كذلك إذا أتلف مال الغير لزمه الضمان فتنتقل أمواله إلى المضمون له، فتصير تلك الأموال أموال المجني عليه أو المضمون له حقيقة، وبعبارة أخرى من طبيعة القتل نقل ذنوب المقتول إلى القاتل فتصير أعماله حقيقة فيعاقب عليها، كما أن طبيعة الجناية وإتلاف مال الغير نقل أموال الجاني والمتلِف إلى غيره حقيقة فيملكها ويتصرف فيها تصرف المالك، وقد مرّ شطر من الكلام في بحث الحبط فراجع، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «من قتل مؤمناً متعمداً أثبت اللّه على قاتله جميع الذنوب وبرّأ المقتول منها»(2).

وأما العقوبة الثانية: فهي العقوبة في الآخرة، وهو أن يكون من الخالدين في النار، قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(3).

وأما العقوبات التشريعية بالقصاص وغيره فلم يذكرها هابيل، إما لأنها لم تشرّع حينذاك، أو لأنه لم يكن لذكرها فائدة لعدم احتمالها الرادعيّة، ولذا ذكرها اللّه تعالى بعد آيات في الآية 45 من هذه السورة فكأنها تتمة لبيان العقوبات في هذه القصة.

ص: 118


1- سورة النجم، الآية: 39.
2- المحاسن 1: 105.
3- سورة النساء، الآية: 93.

وقوله: {إِنِّي أُرِيدُ} الظاهر أن هنا تقدير، أي لو قتلتني فإني أريد، كما لو هدَّدك أحد بالقتل فتقول: إذاً أريد قصاصك، وقيل: الإرادة هنا مجازية للمقابلة كما يقال: أردت أن يفعله غيري لا أنا، وقيل: حينما يدور أمران بينشخصين يقول أحدهما: إني أريد كذا، كناية عن اختياره.

وقوله: {أَن تَبُوأَ} من باء بمعنى رجع، كأنه يذهب إلى القتل فيرجع بالإثم.

وقوله: {وَذَٰلِكَ جَزَٰؤُاْ الظَّٰلِمِينَ} يتضمن بيان أن رجوعه بالإثمين ليس ظلماً له، بل هو جزاء له على ظلمه فهو من العدل.

السادس: قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}.

أي لم تنفعه المواعظ؛ لأن نفسه الأمّارة بالسوء قد تحكّمت عليه فحملته على القتل فاستجاب لها، فلم تنفعه تلك النفس ولا نفعه التنفيس عن حسده، بل أصبح خاسراً في دنياه وآخرته.

أما خسارته الدنيوية: فإن معصية القتل جرّته إلى معاصٍ أخرى إلى أن انتهى به المطاف إلى الكفر، كما أن أباه طرده، ونفسه اللوامة أوخزته، وقد بينت الروايات جانباً من الخسارات التي مُني بها.

وأما خسارته الأخروية: فهي ما ذكرته الآيات السابقة، وفي بعض الروايات بيان جانب من عقوبته البرزخية كتعليقه من قرونه في عين الشمس(1) ونحو ذلك، ولا وجه لإنكارها ورميها بالوضع! لأن كيفية عذاب

ص: 119


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 363-370.

البرزخ من الغيب الذي لا طريق له إلا الوحي، ومجرد استبعاد كيفيته لا يكون دليلاً على عدم صحتها، قال تعالى: {وَحَاقَ بَِٔالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(1).

وقوله: {فَطَوَّعَتْ} مادة (ط و ع) تدل على الانقياد، والمعنى حملته نفسه على الانقياد لها وإطاعتها، ولذا فسرها البعض ب-(سهّلت) أو (شجّعت) ونحو ذلك، فالمعنى أن نفسه الأمارة بالسوء حملته على الانقياد لها وإطاعتها، كما يقال في عكسه: (أبت نفسه كذا) أي منعته عنه، فكأن المراد أن هذه المواعظ كانت كافية لتحجزه عن القتل، إلاّ أن نفسه غلبته فسهّلت له أمر القتل.

وقوله: {فَقَتَلَهُ} أي نتيجة تطويعها أنه ارتكب المعصية بالقتل، وفي ذلك تحذير من الاستجابة للنفس ولزوم ترويضها والحذر منها.

السابع: قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ...} الآية.

الظاهر أن سبب بعث الغراب هو كرامة هابيل على اللّه تعالى، فما أراد أن يبقى جثمانه على الأرض، ولعله أراد أيضاً بيان خسة قابيل بحيث لم يكن قابلاً لأن يلهمه اللّه تعالى ذلك، بل ألهمه اللّه للغراب ثم بعثه إلى حيث يراه قابيل ليتعلم منه الدفن.

وقوله: {يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} البحث والفحص متقاربا المعنى إلاّ أن الأصل في البحث أن يكون في التراب عادة(2)، والغراب يحفر برجله

ص: 120


1- سورة غافر، الآية: 45-46.
2- راجع مقاييس اللغة: 99 عن الخليل: «البحث طلبك شيئاً في التراب».

الأرض ويخزن فيها طعامه، وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: «فلما قتله لم يدرِ ما يصنع به، فجاء غرابان، فأقبلا يتضاربان حتى اقتتلا، فقتل أحدهماصاحبه ثم حفر الذي بقي الأرض بمخالبه، ودفن فيها صاحبه»(1)، وقد أثبت علم الحيوان الحديث أنه أحياناً تقتل الغربان أصحابها لخيانة ثم تدفنها في التراب.

وقوله: {سَوْءَةَ أَخِيهِ} أي جثته، والسوءة كل ما يكرهه الإنسان أو يكره ظهوره، وإنما سماه سوءة لأن الحي يسوؤه أن يرى الميت، وقابيل ساءه أن يرى هابيل مقتولاً.

وقوله: {يَٰوَيْلَتَىٰ} (الويلة) و(الويل) كلمة توجّع تقال لمن وقع في هلكة، وقيل: هي الهلكة، ثم أطلقت على وادٍ في جهنم، وقد تضاف إلى ياء المتكلم وقد تبدل الياء ألفاً، وتستعمل في التعجب والتفجّع والتحسر والتشنيع.

وقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّٰدِمِينَ} الظاهر أن الفاء ليست تفريعاً على عمل الغراب والتعلّم منه، بل على أصل القتل، فكأنّ المعنى فلمّا دفن أخاه ندم على قتله، وهذا دأب كثير من المجرمين يندمون بعد ارتكاب الجرم؛ لأنهم يرجعون إلى فطرتهم أو إلى عقولهم بعد زوال غشاوة الغضب أو الشهوة فيتنبهون إلى سوء صنيعهم، وأما الشيطان الذي أغواهم فإنه يخذلهم في هذه الساعات، وأما النفس الأمارة بالسوء فإنها بعد نيلها مبتغاها لا تهتم بصاحبها، بل تتحول إلى نفس لوّامة!

ص: 121


1- تفسير القمي 1: 165؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 361-362.

الثامن: قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا...} الآية.

أي بسبب سوء القتل وعاقبته الوخيمة - التي ذكرت في الآيات السابقة - شرّع اللّه على بني إسرائيل حرمة القتل وقدّر عقوبة شديدة له في الدنيا والآخرة، وبهذا يتبيّن أن معنى الآية واضح فلا حاجة لكثير من تكلفات بعض المفسرين في تفسيرها.

فقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ} (أجْل) بمعناه المتبادر وهو التعليل والتفريع، واسم الإشارة يعود إلى ما ذكر في الآيات السابقة، وليس إلى آية بحث الغراب، فليس معنى الأجل الجناية ولا الجزاء على الجريمة كما ذكره بعض اللغويين وتبعهم بعض المفسرين!

وقوله: {كَتَبْنَا} قد مرّ أن الكتابة قد تكون تشريعية وقد تكون تكوينية، وهنا أريد المعنيان، فقد كتب اللّه بشرعه حرمة القتل، وكتب بقضائه العقوبات الشديدة له بحيث ساوى قتل إنسان واحد قتل جميع الناس، وساوى إحياء واحد إحياء الجميع.

وقوله: {عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} إنما خصهم بالذكر؛ لأنهم مورد الخطاب في هذه الآيات والغرض هو وعظهم أولاً وبالذات ثم وعظ غيرهم، وللتشنيع عليهم بمخالفاتهم وقتلهم الأنبياء والأولياء، أو لأنهم كانوا أول أمة لها شريعة مكتوبة، عكس الشرائع السابقة التي كان يتبعها ناس محدودون، أو لغير ذلك.

وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ} لبيان استثناءين من حرمة القتل،

ص: 122

حيث يجوز القتل قصاصاً، كما يجوز القتل حداً؛ عقوبة لمن أفسد في الأرض، والإفساد في الأرض موارد خاصة بينها الكتاب والسنة،كالمحارب والباغي وقاطع الطريق ومرتكب بعض الجرائم الخاصة، ولا يجوز التعدي عن هذه الموارد المنصوصة فلا عموم للإفساد في الأرض، وسيأتي بحثه في الآية التالية.

وقوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} هذا تشنيع للقتل ببيان أن قتل الواحد كأنه قتل الجميع، وبالنتيجة بيان أن قاتل الواحد يعاقب بعقوبة قاتل الجميع، فلو قتل اثنين فكأنه قتل جميع الناس مرّتين، ولو قتل ثلاثة فكأنه قتل الجميع ثلاث مرات وهكذا، وسأل حمران الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «قلت: وكيف {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} فإنما قتل واحداً! فقال: يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدة عذاب أهلها، لو قتل الناس جميعاً إنّما كان يدخل ذلك المكان. قلت: فإنه قتل آخر؟ قال: يضاعف عليه»(1).

وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) أنه قال: «له في النار مقعد لو قتل الناس جميعاً لم يرد إلاّ إلى ذلك المقعد»(2).

وقوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أي يعطى ثواب إحياء الجميع - حسب ما بيناه في المقطع السابق - فلو أحيا اثنين فكأنما أحيا جميع الناس مرتين فيعطى ثواب إحيائهم مرتين وهكذا، والمراد من (الإحياء) هو الإنقاذ من الموت بالحرق أو الغرق أو السبع أو العدو ونحو ذلك.

ص: 123


1- الكافي 7: 271.
2- الكافي 7: 272.

ثم إن للآية تأويلاً - هو التأويل الأعظم - وهو إهلاكها عبر إضلالها، وإحياؤها عبر هدايتها، وقد استعملتا بهذا المعنى في الآيات والأحاديث،كقوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا}(1)، وقال: {اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(2)، وقال: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ}(3)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في تأويل هذه الآية قال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنّما أحياها ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها»(4)، وسأل فضيل بن يسار الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية فقال (عليه السلام) : «من حرق أو غرق، قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هُدى؟ قال: ذلك تأويلها الأعظم»(5).

التاسع: قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم...} الآية.

بعد ذكر تشريع حرمة القتل على بني إسرائيل وبيان عاقبة القتل، تمّ بيان أن اللّه تعالى لم يكتف بمجرد التشريع، بل أرسل رسلاً تترى من بعد موسى (عليه السلام) والتوراة، وأراهم الآيات والبينات الكثيرة؛ لئلا يبقى مجالٌ للاعتذار، لكنهم مع ذلك عتوا وخالفوا أوامر اللّه تعالى في القتل وغيره، بل تعدوا ذلك إلى قتل الأنبياء أنفسهم.

ص: 124


1- سورة الأنعام، الآية: 122.
2- سورة الأنفال، الآية: 24.
3- سورة الأنفال، الآية: 42.
4- الكافي 2: 210.
5- الكافي 2: 210.

وقوله: {بَعْدَ ذَٰلِكَ} أي بعد الكتابة وبعد إرسال الرسل بالبينات.

وقوله: {لَمُسْرِفُونَ} من الإسراف بمعنى تجاوز الحدّ، وعن الإمامالباقر (عليه السلام) : «المسرفون هم الذين يستحلون المحارم ويسفكون الدماء»(1).

ص: 125


1- مجمع البيان 3: 462.

الآيتان 33-34

اشارة

{إِنَّمَا جَزَٰؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَٰفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 33 إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 34}

33- نهى اللّه تعالى في الآيات السابقة عن القتل وشنّع فيه وكان قد استثنى القتل قصاصاً أو للفساد في الأرض، ففي هذه الآية يتم بيان الاستثناء، فقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَٰؤُاْ} أي العقوبة الدنيوية {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} بمخالفة أحكامه {وَرَسُولَهُ} بمعارضة ولايته {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} بالإخلال بالأمن عبر شهر السلاح أن يعاقبوا بإحدى العقوبات الأربع المذكورة، وإلإمام مخير بينها، وإن كان الأفضل {أَن يُقَتَّلُواْ} إن قَتَلوا، {أَوْ يُصَلَّبُواْ} أي يشنقوا إن قَتَلوا وسَرَقوا، {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَٰفٍ} بقطع اليد اليمنى والر ِجل اليسرى إن نهبوا الأموال، {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ} بإبعادهم من بلدهم إلى بلد آخر إن شهروا السلاح فقط ولم يقتلوا ولم ينهبوا، {ذَٰلِكَ} الجزاء {لَهُمْ خِزْيٌ} أي ذُلّ بهوان {فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لعظم جرمهم فلا يسقط عذاب الآخرة بعقاب الدنيا.

ص: 126

34- {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ} وهذا استثناء خاص بالحدّ الذي هو حق اللّهتعالى، وأما القصاص فهو موكول إلى أولياء المقتول {مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} قبل القبض عليهم، وفي ذلك حث لهم على ترك المحاربة والتوبة، {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لذا رفع الحدّ عنهم، وأما عذاب الآخرة فيرفع بالتوبة سواء كانت قبل اعتقالهم أم بعده.

بحوث

الأول: تضمت الآيات السابقة بيان شناعة القتل وأنه يوجب خسارة الدارين وشدة عقابه في الآخرة إذا كان {بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ}، فأراد اللّه بيان الاستثناء بجواز قتل من ارتكب أحد الأمرين فذكر جريمة جامعة بين الأمرين - أي القتل ظلماً والإفساد في الأرض - وهي جريمة قطع الطريق؛ لأنها إفساد يتضمن القتل كثيراً ما، وهذه الجريمة لها درجات من حيث الجرم، ولذلك تعددت العقوبة بحسب مقدار الجريمة وشناعتها، وحيث إن اللّه لم يشرّع الأحكام والعقوبات على مخالفتها إلاّ لتربية الناس وإصلاحهم وإصلاح شؤونهم ولأنه خلقهم ليرحمهم وقد سبقت رحمته غضبه لذلك يرحمهم كلّما لم يكن العفو والغفران على خلاف الحكمة، وقاطع الطريق إن كان يائساً عن العفو عنه استمر في جريمته، وكثيراً ما يصعب الوصول إليه والقضاء على شرّه لتحصنه بالجبال ونحوها، وفي ذلك نقض للغرض من إحلال الأمان للناس، لذا شرّع اللّه تعالى قبول توبته وإسقاط الحدّ عنه ليرجع عن غيّه فتأمن السبل للناس، مضافاً إلى نيله رحمة اللّه تعالى عبر تلك التوبة التي تجعله قابلاً لها فيرتفع

ص: 127

عنه عذاب الآخرة، هذا إذا لم يكن قد ارتكب قتلاً،فإنه حينئذٍ تعلق به حق الناس بالقصاص ولا مجال للتنازل عن حقوق الناس إلاّ أن يتنازلوا هم عنها، ويمكن إرسال وسائط بين أولياء المقتول وقاطع الطريق ليعفوا عنه أو ليرضوا بالدية فيكون ذلك جمعاً بين حقهم وبين فسح المجال له للتوبة وبين تأمين الطرق.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَٰؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا...} الآية.

ظاهر الآية أن اجتماع هذه الثلاثة معاً هي السبب لهذه العقوبات، فوجود أحدها لا يكفي فيها كما في كلّ جزاء كان شرطه مركباً من عدة أمور.

ومحاربة اللّه إنما تكون بمخالفة أحكامه، فكل معصية حرب له، كما قال في الربا: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٖ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}(1)، ومحاربة الرسول إنما تكون في مخالفة أوامره الولائية أو مخالفته فيما له الولاية فيه بنقضها، والإفساد في الأرض يتحقق عادة عبر الإخلال بالأمن وهو يلازم عادة شهر السلاح، فمن استجمع هذه الأمور الثلاثة كانت عقوبته ما هو مذكور في هذه الآية.

وقوله: {إِنَّمَا} للحصر، بمعنى أنه لا عقوبة أخرى، فلا يُعاقب بالسجن أو الغرامة أو نحو ذلك.

وقوله: {جَزَٰؤُاْ} يراد به الجزاء الدنيوي، وأما الجزاء الأخروي فمذكور في آخر الآية بقوله: {وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

وقوله: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} قيل: محاربة اللّه قد تكون بمحاربة أوليائه نظير

ص: 128


1- سورة البقرة، الآية: 279.

قوله: {يُؤْذُونَ اللَّهَ}(1)، لكن الظاهر أن محاربة اللّه هي بمعناها الحقيقي بمعنى نصب الحرب له بمخالفة أحكامه، وعدم قدرتهم وعجزهم وقدرة اللّه تعالى الغالبة لا يخرج عملهم عن معنى الحرب، نعم محاربة أولياء اللّه تستلزم محاربة اللّه تعالى؛ لأن اللّه أمر بموالاتهم فمعاداتهم مخالفة لأمره تعالى، ثم إن (المحاربة) مفاعلة، وباب المفاعلة وإن كان يستعمل أحياناً بين الاثنين إلاّ أن استعماله شائع فيما لو كان من طرف واحد، مثل سافر، وفي هذه الآية كلاهما ممكن، فهم الذين يحاربون اللّه، أو كما يحاربونه فإنّ اللّه يعاقبهم في الدنيا والآخره فذلك حربه لهم.

وقوله: {وَرَسُولَهُ} أي يحاربون الرسول، ومحاربة اللّه وإن كانت محاربةً للرسول أيضاً كالعكس، حيث إن محاربة الرسول محاربة للّه تعالى، إلاّ أن الظاهر أن في محاربة الرسول خصوصية لذلك عطفه على محاربة اللّه، وذلك بأن تكون مخالفة لما فوّض اللّه إليه من الولاية والسلطة، فإن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مفوّض من قبل اللّه في الحكومة والسلطة وإحلال الأمان فقطع الطريق محاربة له (صلی الله عليه وآله وسلم) من هذه الجهة أيضاً.

وقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} لعل اختيار هذه الجملة على (يفسدون في الأرض) مع أنها أكثر اختصاراً لأجل أنه يكفي قطع الطريق وشهر السلاح حتى لو لم يقتل ولم ينهب مالاً، فينطبق على المتمردين الذين يشهرون السلاح بوجه الحاكم العادل وبوجوه الناس حتى لو لم يفعلوا شيئاً سوى ذلك، فتأمل.

ص: 129


1- سورة الأحزاب، الآية: 57.

عقوبة المحارب

وقوله: {أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ...} باب التفعيل لأجل الحث والتحريض؛ لأن التفعيل يدل على التكثير، وقد يستعمل للتكثير بغرض الحث أو التشنيع كقوله: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَٰبَ}(1)، فكأن المقصود عدم الرأفة بهم نظير قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}(2)، أو المقصود قتلهم جميعاً حتى لو كانوا متعددين.

وقوله: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ} بالإبعاد من مدينتهم إلى مكان آخر لمدة سنة ويضيّق عليهم في مكان إبعادهم بنهي الناس عن مناكحتهم ومعاملتهم ومجالستهم ومواكلتهم ونحو ذلك كما في بعض الأحاديث(3)، ثم إنه قد ورد في رواية حبسهم، فعن الإمام الجواد (عليه السلام) : «فإن كانوا أخافوا السبيل فقط ولم يقتلوا أحداً ولم يأخذوا مالاً أمر بإيداعهم الحبس، فإن ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل»(4)، ولعل ذلك فيما لو كان إبعادهم لا يردعهم فيحتمل رجوعهم إلى قطع الطريق مرّة أخرى.

ثم إنه قد وردت روايات في تخيّر الحاكم الشرعي بين هذه العقوبات الأربع، ودلت بعض الروايات على أن معنى ذلك هو التفويض إليه في أن يختار منها ما هو الأنسب إلى مقدار الجريمة؛ لأن قطع الطريق أنواع

ص: 130


1- سورة يوسف، الآية: 23.
2- سورة النور، الآية: 2.
3- راجع الكافي 7: 246؛ وتهذيب الأحكام 10: 134.
4- تفسير العياشي 1: 315؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 383-384، ويمكن حمله على التقية لموافقته العامة، وكان الكلام للمعتصم العباسي بمحضر فقهاء العامة.

ودرجات، وفي بعض الروايات تعيين نوع الجريمة مع عقابها، فمن قتل يقتَّل، ومن قتل ونهب يصلَّب، ومن سرق تقطَّع يده ورجله من خلاف، ومن شهر سلاحاً من غير قتل ولا نهب يُنفى(1)، ولذا اختلف الفقهاء في أن {أَوْ} في الآية للتخيير أو للترتيب حسب نوع الجريمة، وإن كان الأقرب هو كونها للتخيير حسب ظاهر كلمة (أو)، وأن الترتيب بالكيفية المذكورة مستحب إذا رآه الإمام صلاحاً، وسأل جميل بن دراج الإمام الصادق (عليه السلام) : «فقلت: أي شيء عليهم من هذه الحدود التي سمّى اللّه عزّ وجلّ؟ قال: ذلك إلى الإمام إن شاء قطع، وإن شاء صلب، وإن شاء نفى، وإن شاء قتل»(2)، وللتفصيل راجع موسوعة الفقه للسيد الوالد رضوان اللّه عليه(3).

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

أي إنّ هذا الجزاء هو خزي لهم في الدنيا، و(الخزي) هو ذلّ مع هوان، ولذا قيل: إنه ذل مع افتضاح، وقيل: هو الانقماع لقبح الفعل(4)، فهذه العقوبة خزي لهم، ولا يخفى أن هذا ليس علة تشريع الحكم، بل بيان عاقبته ومآله بالنسبة إلى المجرم، وأما سببها فهو الانتصار للمظلوم وتأمين الطرق وقطع شأفة المعصية وردع من تسوّل له نفسه بارتكاب مثله، لكن هذه العقوبة تلازم خزيه.

ص: 131


1- راجع الروايات في كتاب وسائل الشيعة 28: 307-313.
2- الكافي 7: 245.
3- الفقه 88: 227-232.
4- مجمع الفروق اللغوية: 215.

ثم إن غالب العقوبات الدنيوية هي كفارة للذنب وبذلك لا يعاقب عليه في الآخرة، وفي الحديث: «فاللّه أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين»(1)، وظاهره أنه كذلك حتى لو لم يتب، إذ لا إشكال في محو العقوبة الأخروية بالتوبة النصوح، إلاّ أن بعض الذنوب لبشاعتها وشناعتها لا يمحوها الجزاء الدنيوي، بل لا بد من ضميمة التوبة إليه، ومن ذلك قطع الطريق، ولذا أكمل الآية بقوله: {وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وكأنّ وصف العذاب بالعظمة للدلالة على شدة الجريمة وعدم كفاية الجزاء الدنيوي لمحوها.

الرابع: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

هذا فسح المجال لهم للتوبة؛ لأن المجرم الذي لا أمل له يستمر في جرمه بل قد يضاعفه، خلاف من فسح له المجال للرجوع، وهذه الحكمة تنحصر فيما لو جاء هو تائباً قبل اعتقاله، وأما لو اعتقل فلا تجري هذه الحكمة، بل كل مقبوض عليه يظهر الندم ظاهراً فراراً من العقوبة فلو قبلت منه لم يكن هناك معنى لتشريع العقوبات، وهكذا في الذنوب، فإن الإنسان مادام في الحياة الدنيا تقبل توبته فسحاً للمجال له للتوبة لئلا يقنط من رحمة اللّه فيتمادى في غيه، أما بعد موته وحين المعاينة فكل العصاة يندمون فلا يرتفع العقاب عنهم بذلك قال سبحانه: {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَٰلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُواْيَعْمَلُونَ}(2).

ص: 132


1- الكافي 2: 443.
2- سورة سبأ، الآية: 33.

ولا يخفى أن قبول التوبة قبل الاعتقال حكم عام لجميع الجرائم وتسقط به الحدود التي هي من حقوق اللّه، وأما حقوق الناس فلا تسقط فلا بد من ردّ ما سرقه، وكذا لو كان قاتلاً لم يسقط حق أولياء الدم في القصاص، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «السارق إذا جاء من قبل نفسه تائباً إلى اللّه عزّ وجلّ ردّ سرقته على صاحبها فلا قطع عليه»(1).

وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ...} استثناء من العقوبتين - عقوبة الدنيا والآخرة - فإن التوبة قبل القدرة عليه حقيقية عادة لا صورية، وبذلك تسقط عقوبة الدنيا كما ذكرناه، وعقوبة الآخرة كما هو واضح وعليه فقوله: {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بيان سبب إسقاطه للعقوبتين وليس مجرد سبب لإسقاط الجزاء الدنيوي، فالخزي الدنيوي بالحد والعذاب الأخروي يسقطان بالتوبة قبل المقدرة بسبب أن اللّه غفور يستر ذنوب عباده، وفوق ذلك أنه يرحمهم بالثواب بسبب التوبة ولسائر أعمالهم الصالحة، أو يستر ذنوب عباده لرحمته بهم.

ص: 133


1- الكافي 7: 220.

الآيات 35-37

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 35 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 36 يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ 37}

35- لمّا ذكر القتل وحكم المحارب وتوبته، يتوجه الكلام إلى المؤمنين لوعظهم وإلى الكفار لتحذيرهم فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ} احذروه فاحفظوا أنفسكم من عقابه، {وَابْتَغُواْ} اطلبوا {إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وهي السبب الذي يقرّب إلى اللّه تعالى كالأعمال الصالحة والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، {وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} بمحاربة أعداء اللّه الخارجين عن طاعته سواء الأعداء الظاهرة أم الباطنة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تنالون الخير والنفع الباقي.

36- وفي المقابل {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فلم يتقوا ولم يبتغوا الوسيلة ولم يجاهدوا، فهؤلاء مصيرهم إلى النار و{لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} من الأمور المادية كالثروة والقدرة {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} هذا للتكثير {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} ليجعلوه فدية وبدلاً {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} كعادتهم في الدنيا بدفع الرشوة أو الغرامة {مَا تُقُبِّلَ} ذلك الفداء {مِنْهُمْ} والغرض بيان عدم

ص: 134

نجاتهم من العذاب، وفي ذلك دلالة على عظمة وأهمية الوسيلة فإنها المنجاة دون ما في الأرض ومثله، {وَ} بعد عدم قبول الفداء ف-{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} موجع.

37- {يُرِيدُونَ} يريد الذين كفروا أي يحاولون أو يتمنون {أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنْهَا} لا يتمكنون أو لا تتحقق أمنيتهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم لا يزول.

بحوث

الأول: لمّا ذكر القتل وآثاره وذكر المحاربين وعقوبتهم وذكر التوبة وشرطها، بعد ذلك يتوجه الكلام إلى المؤمنين والكفار موعظةً لهم وتحذيراً، وذلك لتربية الناس وتعليمهم كيفية الفوز والنجاة، كدأب القرآن في الموعظة والتحذير حين ذكرحالات الناس والأحكام، ففي البداية يتم الخطاب للمؤمنين بتعليمهم وموعظتهم بأن طريق الفلاح هو التقوى والوسيلة والجهاد، ثم تحذير الكفار من عذاب الآخرة وعدم نفع الأموال والماديات في النجاة منها، فقابل بين الوسيلة وبين ما في الأرض ومثله، فالوسيلة نيلها ليس بالأمر الصعب لكنها سبب الفلاح، وأمّا ما في الأرض ومثله فنيله مستحيل لكنه لو كان للإنسان فلا ينفعه في النجاة من النار، كما قابل بين الجهاد وبين إرادة الخروج من النار، فالجهاد أمر فيه صعوبة لكن نتيجته الفلاح، وأما ما يريده الكفار من الخروج من النار ففيه عظيم المشقة مع عدم نفعه، فكيف حال الكافر الذي يترك الأسهل المُنجي إلى الأصعب غير المُجدي، وهل ذلك من العقل في شيء، قال سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا

ص: 135

نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(1) كما أن في ذلك تعليم طرق إصلاح النفس والعمل لتحترم المواثيق مع اللّه تعالى.

من أسباب الفلاح

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ...} الآية.

في هذه الآية يتم بيان أن سبب الفلاح أمور ثلاثة:

1- {اتَّقُواْ اللَّهَ} وهذا في أصله أمر نفسي، أي خافوه واحفظوا أنفسكم من غضبه وعذابه، كما أنه شاع استعمال التقوى في ترك المعصية، وكذا في فعل الطاعات، إلاّ أن المراد هنا بقرينة المقابلة مع طلب الوسيلة والجهاد هو الأمر النفسي، فإن منطلق الطاعة أو المعصية هو النفس بترويضها وكبح جماحها، فمن كانت نفسه تقيّة ظهر ذلك في أعماله، وكذلك من لم تكن كذلك.

2- {وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} الابتغاء من البغي بمعنى الطلب، ومن معاني باب الافتعال المعاناة في تأثير الشيء والمبالغة والاحتيال فيه(2)، وفي المفردات: «وأما الابتغاء: فقد خُص بالاجتهاد في الطلب»(3).

الوسيلة هم الرسول وآله (عليهم السلام)

و{الْوَسِيلَةَ} السبب الذي يتخذ إلى الشيء، أصله من وسّل إلى كذا إذا تقرّب إليه، والوسيلة قد تكون بالعمل وهي طاعته سبحانه، وقد تكون بالشفعاء كما قال سبحانه وتعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ

ص: 136


1- سورة الملك، الآية: 10.
2- راجع شرح النظام: 151.
3- مفردات الراغب: 137.

الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}(1) حيث أراد بالوسيلة النبي والأئمة (عليهم السلام) ولذلك أرجع إليها ضمير ذوي العقول، ولو أريد بها الأعمال لقال: (أيّها)، ولو فرض أن الوسيلة منحصرة في العمل فيقال بأن ولاية الرسول والأئمة قلباً وإطاعتهم عملاً هي من أهم وسائل التقرب إلى اللّه تعالى؛ لأنه سبحانه قرن ولايتهم بولايته وطاعتهم بطاعته، وفي بعض الأحاديث: «إن الوسيلة هي درجة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في الجنة لها ألف مرقاة»(2)، وفي حديث آخر: «إن الوسيلة أعلى درج الجنة»(3)، ولعلّ هذا من إطلاق السبب على المسبب، أي أن الرسول وآله هم الوسيلة؛ لأن لهم أرفع الدرجات عند اللّه تعالى، وعن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية أنه قال: «الأئمة من ولد الحسين (عليهم السلام) ، من أطاعهم فقد أطاع اللّه، ومن عصاهم فقد عصى اللّه عزّ وجلّ، هم العروة الوثقى والوسيلة إلى اللّه عزّ وجلّ»(4)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الآية أنه قال: «أنا وسيلته»(5).

3- {وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} لما ذكر الأعمال الصالحة بذكر الوسيلة، ذكر ترك العصيان والانتهاء بنواهيه بالأمر بالجهاد، وهو جهاد النفس بمنعها عن المعصية وهي راغبة فيها، أو لما كانت الآيات السابقة حول حدّ المحاربين ذكر جهاد الأعداء بالخصوص لأهميته، ويمكن عموم الجهاد

ص: 137


1- سورة الإسراء، الآية: 57.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 388؛ عن معاني الأخبار: 116؛ وعلل الشرائع 1: 165.
3- الكافي 8: 24.
4- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 3: 58.
5- البرهان في تفسير القرآن 3: 387؛ عن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 3: 75.

لكلا المعنيين، جهاد النفس والأعداء.

ثم إن ضم {إِلَيْهِ} في قوله: {وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}، وضم {فِي سَبِيلِهِ} في قوله: {وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} لأجل أن الوسيلة لا تنفع إلاّ إذا كانت إلى اللّه تعالى، فلا ينفع الغلاة مودتهم للرسول وآله؛ لأنهم لم يتخذوهم سبباً إلى اللّه تعالى، بل أشركوا فتبرّأ الرسول وآله منهم، وكذلك جهاد النفس وجهاد الأعداء لا بد أن يكون الغرض منه التقرب إلى اللّه، فلذا الرياضات غير المشروعة والأذكار المبتدعة هي جهاد في سبيل الطاغوت لا في سبيل اللّه، وكذلك مقاتلة الأعداء لا بغرض القرب إلى اللّه، بل بغرض الغنيمة مثلاً لا ينفع.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الرجاء إنّما هو باعتبار العامل، فإنه بعمله الصالحات يرجو الفلاح، أو هو من اللّه بمعناه المجازي بغرض حثّ المؤمنين على الصالحات، وأما الرجاء بمعناه الحقيقي فهو محال على اللّه تعالى لاستلزامه الجهل تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا...} الآية.

لما بين أن الوسيلة إلى اللّه هي النافعة في الفلاح قابله بأن وسيلة الكافر لا تعدو الماديات وهي لا تنفع في خلاصه من النار، فجميع ثروات الأرض لا تنفع في الفلاح والنجاة حتى لو ضم إليها مثلها، فالناس بثرواتهم وجاههم وقدرتهم قد يتخلصون من العقوبات الدنيوية بدفع رشوة أو غرامة، لكن ذلك لا ينفع في الآخرة؛ لأنهم أولاً: لا يملكون هناك شيئاً، إذ ملكيتهم في

ص: 138

الدنيا كانت اعتبارية وقد انقطعت عنهم بموتهم، وثانياً: لو فرض ملكهم للدنيا بأسرها فهي لا تعادل جريمة من جرائمهم والتي أشدها كفرهم وشركهم، وفي الآية تحذير شديد لهم بأن لا يستبدلوا بوسيلة اللّه السهلة شيئاً آخر فإنه لا ينفعهم قطعاً.

وقوله: {مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أعم من الثروات وسائر الأمور كالجاه والقدرة ونحوهما.

وقوله: {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} هذا للتكثير لا للتحديد، فالمراد لو كان لهم كل الأشياء المادية.

وقوله: {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} أي ليجعلوه فداءً لهم، أي بدلاً عن عذابهم.

وقوله: {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} لعدم صلاحيتهم وعدم صلاحية فدائهم للقبول، إذ إن اللّه يتقبل من المتقين وهم لم يكونوا بمتقين، كما أنه يقبل الأعمال الصالحة وليس هذه منها، فإن الإنفاق في الدنيا إنما يكون عملاً صالحاً إذا أريد به وجه اللّه تعالى، وهؤلاء في الآخرة لا يريدون وجهه، وإنما يريدون خلاص أنفسهم من مغبة جرائمهم التي لا بد أن يعاقبوا عليها.

وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هذا نتيجة عدم قبول الفداء منهم، كما كان الفلاح نتيجة قبول ابتغاء الوسيلة والتقوى والجهاد.

الرابع: قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنْهَا...} الآية.

الظاهر أن الإرادة هنا بمعنى القصد مع المحاولة أي يحاولون الخروج منها كما قال سبحانه: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَىٰهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن

ص: 139

يَخْرُجُواْ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}(1)،

وقال: {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}(2)، وقد يكون من مصاديق إرادة الخروج هو استغاثتهم واصطراخهم قال سبحانه: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}(3)، وقال: {وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ}(4)، وكأنّ ذكر إرادتهم الخروج من النار للمقابلة مع جهاد المؤمنين في سبيل اللّه، فالخروج للجهاد وإن كان شاقّاً لكنه وسيلة للفلاح، وهؤلاء تركوا الجهاد فابتلوا بعمل أشق مع كونه غير نافع لهم وهو محاولتهم الخروج من النار، وفي بعض الأحاديث دلالة على أن الكافر يلقى به في نار جهنم حتى إذا بلغ قعرها تحرك إلى أعلاها لينجو بنفسه وهو مع ذلك في عذاب شديد حتى إذا بلغ أعلاها قمع مرّة أخرى ليهوي إلى قعرها وهكذا حاله(5).

ص: 140


1- سورة السجدة، الآية: 20.
2- سورة الحج، الآية: 22.
3- سورة فاطر، الآية: 37.
4- سورة الزخرف، الآية: 77.
5- راجع البرهان في تفسير القرآن 5: 530؛ عن تفسير القمي 2: 81.

الآيات 38-40

اشارة

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءَ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 38 فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 39 أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 40}

38- بعد ذكر عقوبة قطاع الطريق وهم الذين يسلبون الناس جهراً يتم ذكر حكم السرّاق وهم الذين ينتهبون الأموال سراً، فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} اليد اليمنى من أصول الأصابع، حال كون القطع {جَزَاءَ} أو لأجل الجزاء {بِمَا كَسَبَا} بما صنعا من السرقة {نَكَٰلًا} أي ردعاً له ولغيره {مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب على أمره لذا شرّع حكم القطع {حَكِيمٌ} فيما شرّعه لأنه مطابق المصلحة.

39- {فَمَن تَابَ} عن سرقته {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} عمله، ومنه ردّ المال المسروق إلى صاحبه {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} يقبل توبته ولذا يسقط عنه القطع لو تاب قبل اعتقاله، وكذلك يسقط عنه عقاب الآخرة بتوبته، وسبب قبول التوبة حيث {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} يستر ذنوب عباده {رَّحِيمٌ} بهم.

40- وإنما شرّع اللّه هذا الحكم؛ لأنه مالك كل شيء فله الملك وإليه الحكم {أَلَمْ تَعْلَمْ} أيها السامع {أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ}

ص: 141

يتصرف فيها كما يريد بحكمته {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} في الدنيا والآخرة ممناستحق العذاب {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} بفضله تعالى لمن كانت له قابلية المغفرة {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} سواء بتشريع الأحكام أم بالتكوين عبر الخلق والتصرف.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءَ بِمَا كَسَبَا...} الآية.

سياق الآيات كان حول القتل وعقوبة المحارب وهو المستولي على أموال الناس جهراً، فأتم اللّه ذلك بحكم السارق وهو المستولي على أموالهم سراً، فجمع بين حكم النفوس والأموال، كما أن عدم التعدي على أموال الناس من مواثيق اللّه تعالى، كما أن حفظ النفوس وعدم التعدي عليها من مواثيقه.

وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} أضاف السارقة لتعميم الحكم ولئلا يتوهم أحد أن الحكم خاص بالرجال، وقد مرّ أن الأصل هو اشتراك الجميع في جميع الأحكام إلاّ ما دلّ الدليل على تخصيصه ببعضهم، قيل: إنما قدّم السارق لأن أكثر السراق من الرجال، عكس آية الزنا حيث قدّم الزانية لأجل امتهان الزنا عند البغايا، ولأن الزنا منهن أشنع.

وقوله: {فَاقْطَعُواْ} الخطاب وإن كان عاماً إلاّ أن المقصود منه الحكّام الذين يلون أمر الناس في القضاء، وهكذا في الأحكام الجزائية الأخرى.

وقوله: {أَيْدِيَهُمَا} لم يقل يديهما لأنه من البلاغة إذا أضيف التثنية إلى

ص: 142

مثلها أن يجمع المضاف، نظير قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}(1)، وقد حددَّت الأحاديث اليد هنا من مفاصل الأصابع مع ترك الإبهام والراحة، لأن الراحة من المساجد السبعة في السجود وقد قال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَٰجِدَ لِلَّهِ}(2) وما كان للّه لا يقطع.

ثم إن اللّه تعالى بين لحكم القطع سببين:

1- قوله: {جَزَاءَ بِمَا كَسَبَا} أي أنّ القطع إنما هو لأجل المكافاة، فهو يماثل الجريمة لذلك كان عقوبتها، وفي المفردات: «الجزاء ما فيه الكافية من المقابلة إن خيراً فخير وإن شراً فشر»(3)، وقد مرّ حديث أن اللّه أكرم من أن يجمع عقوبتين على عبد إلاّ فيما استثني مما لم تكن العقوبة الدنيوية مساوية للجريمة.

وقوله: {بِمَا كَسَبَا} الكسب والعمل والفعل والصنع متقاربة المعنى، ولعل اختيار كلمة الكسب على سواها؛ لأن الكسب يكثر استعماله في السعي لتحصيل المال.

2- قوله: {نَكَٰلًا مِّنَ اللَّهِ} والنكال هو العقوبة الرادعة، وأصلها بمعنى المنع قال الخليل: «والنكال: اسم لما جعلته نكالاً لغيره، إذا بلغه أو رآه خاف أن يعمل عمله»(4).

سبب التشديد في عقوبة السارق

فالغرض الثاني من تشديد هذه العقوبة هو ردع الآخرين عنها لمّا يرون

ص: 143


1- سورة التحريم، الآية: 4.
2- سورة الجن، الآية: 18.
3- مفردات الراغب: 195.
4- كتاب العين 5: 372.

شدة عقوبتها كما قال: {فَجَعَلْنَٰهَا نَكَٰلًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا}(1).

وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وصف اللّه بهذين الوصفين عند العقوبة أنسب، فهو تعالى الذي حكم لعزته، وليس حكمه إلا طبق المصلحة وذلك بحكمته.

الثاني: قوله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ...} الآية.

فسح الطريق للسارق لكي يتوب مع وعده بقبولها، ولقبول التوبة مصداقان:

1- إسقاط العقوبة الدنيوية عنه، وذلك لو تاب قبل رفع أمره إلى الإمام واعتقاله، كما دلت عليه الأحاديث، وأما بعد اعتقاله فلا، نظير ما مرّ في حدّ المحارب.

2- إسقاط العقوبة الأخروية عنه فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

وقوله: {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي من بعد السرقة، فإنها ظلم للنفس بانتهاك الحرام وظلم لصاحب المال بسلبه ماله.

وقوله: {وَأَصْلَحَ} أي أصلح أمر نفسه وأصلح ما أفسده وذلك عبر إرجاع المال إلى صاحبه، ولا يخفى أن مفهوم التوبة يتضمن إصلاح ما أفسده، وقد مرّ أن التوبة وشروطها هي: الندم على الفعل، والعزم على عدم العود، وأداء حق اللّه وحق الناس إن كان، والاستغفار باللسان، فلذا تتضمن التوبة معنى الإصلاح، إلاّ أن ذكره بالخصوص تنبيه على لزوم إرجاع المال

ص: 144


1- سورة البقرة، الآية: 66.

وتأكيد عليه، أو الإصلاح هنا بمعنى ظهور الصلاح عليه بحيث يعلم بعدم عزمه على العود إلى السرقة، وفي الكافي عن الإمام الباقر أو الصادق‘ في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنا فلم يُعلم ذلك منه ولم يؤخذ حتى تاب وصلح؟ فقال: «إذا صلح وعرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحد»(1).

وحيث إن العقوبة هنا للتربية وللردع لذلك قبلت التوبة مع الإصلاح لتحقق الغرض حينئذٍ، فليس الحدّ في الدنيا والعذاب في الآخرة لمجرد التشفي، فإنّ اللّه منزه عن الكيفيات النفسانية، قال اللّه تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}(2).

الثالث: قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ...} الآية.

بيان أن التشريع للّه تعالى لأن التكوين له، فهو الخالق لكل شيء فله الحق في التصرف في مخلوقاته كما يشاء، ومن ذلك تشريعاته، ولذا قيد النكال في الآية السابقة بقوله: {نَكَٰلًا مِّنَ اللَّهِ} وقيد التوبة بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}، ولا معنى لأن يكون الخلق من اللّه والتشريع من غيره! وقد مرّ بحثه في أوائل سورة آل عمران، فراجع.

وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ} الخطاب لكل سامع يمكن أن يتلقى الخطاب، وهو استفهام تقريري لبيان انحصار التشريع وقبول التوبة به تعالى.

وقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} أي التصرف في كل شيء،

ص: 145


1- الكافي 7: 250.
2- سورة النساء، الآية: 147.

و(المِلك) بالكسر بمعنى الاستيلاء على الشيء، و(المُلك) بالضم بمعنى التصرف - كما قيل - وحيث إن المقصود بيان حقه في التشريع والتوبة لذلك ذكر تصرفه في كل شيء لأنها مخلوقاته.

وقوله: {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} بحكمته سبحانه ممن استحق ذلك العقاب، ولذا شرّع قطع يد السارق جزاءً ونكالاً.

وقوله: {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} بفضله تعالى ممن له القابلية للمغفرة.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} تأكيد وتعليل لتشريعه وتكوينه، أي إنما شرّع هذه الأحكام لقدرته، كما أنه يتصرف في السموات والأرض بمشيئه لقدرته أيضاً، فهو الخالق لكل شيء المالك له، والجميع داخرون وخاضعون له سبحانه وتعالى.

ثم إن هناك تفاصيل كثيرة حول أحكام السرقة بينتها الأحاديث، فلإجراء حدّ السرقة شروط كثيرة، منها بلوغ المسروق ربع دينار - أي ربع مثقال شرعي من الذهب - وكونه من حرز، أي محفوظاً بحيث كسر السارق الحرز، وأن لا يكون في مخمصة، وغير ذلك من الشروط أنهاها السيد الوالد رضوان اللّه عليه في كتاب الصياغة إلى أربعين شرطاً.

ولا يخفى أن العقوبات هي آخر المطاف من الأحكام، بمعنى أن الإسلام يهيئ فرصة الحياة الكريمة للناس عبر أحسن القوانين فيهتمّ بالروح عبر تزكيتها وتربية الناس على ذلك، وعبر توفير فرص العمل مع رعاية الفقراء بحيث لا يبقى محتاج، وبعد ذلك لا يحتاج أحد إلى السرقة أصلاً، فمن يريد السرقة بعد ذلك فإنما هو لاعوجاج في نفسه، فلا بد من ردعه

ص: 146

وردع غيره بتشريع أشد العقوبات، ولذا في صدر الإسلام إلى فترة طويلة لم يطبق هذا الحكم إلا قليلاً؛ لقلّة السرقات جداً، ولمعرفة تفاصيل أحكام السرقة وحدها الشرعي وشروطه وغير ذلك راجع موسوعة الفقه للسيد الوالد أعلى اللّه درجاته(1).

ص: 147


1- الفقه 88: 55 فما بعد.

الآيات 41-43

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 41 سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُ-مْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَ-ن يَضُرُّوكَ شَئًْا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 42 وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَمَا أُوْلَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ 43}

41- ومن مواثيق اللّه تعالى، الإيمان والعمل بالكتاب فقال: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ} لا يُسبّبوا حُزنك {الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أي يبادرون إلى الأعمال الكفرية {مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَٰهِهِمْ} بألسنتهم {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْۛ} حيث بقيت على كفرها وهم النافقون {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْۛ} فكلا الصنفين يسارعون في الكفر وذلك دليل عدم إيمانهم، وهؤلاء المنافقون واليهود {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ} أي كثيرو الاستماع له بمعنى

ص: 148

قبولهم للافتراءات وخضوعهم لها، فهؤلاء لا يستمعون إليك بل هم {سَمَّٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ} وهم أحبار اليهود الذين {لَمْ يَأْتُوكَ} تكبراً وغيظاً وحسداً، والذين {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} كلام اللّه تعالى في التوراة {مِنبَعْدِ} أن وضع اللّه ذلك الكلم في {مَوَاضِعِهِ} أي أماكنه من التوراة فحرفوا بعض الأحكام بحذفها أو الزيادة والنقيصة فيها، وهم الذين {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا} أي إن حَكَم الرسول بهذا الحكم المحرّف {فَخُذُوهُ} اعملوا به، {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} أي حَكَم الرسول بخلاف هذا الحكم المحرّف {فَاحْذَرُواْ} عن قبوله، أي لا تقبلوه.

ثم يسلّي اللّه رسوله ببيان علّة النهي عن حزنه عليهم فقال: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} أي خَذَله اللّه بأن تركه حتى ضلّ بسبب سوء اختياره {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا} أي لا تقدر فعل شيء له، بل قضاء اللّه ماضٍ فيهم، {أُوْلَٰئِكَ} الأصناف الثلاثة وهم المنافقون واليهود السماعون واليهود المحرّفون {الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} عن دنس الكفر والنفاق؛ لأنهم رفضوا هداية اللّه بسوء اختيارهم فعاندوا بعد الدلائل، وعاقبة أمرهم {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي ذلّ بهوان حيث افتضح المنافقون لمّا بان للمسلمين نفاقهم وخسر اليهود أنفسهم وأهليهم وديارهم لمّا حاربوا المسلمين، {وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يوازي عظم جريمتهم.

42- ثم يبين اللّه لرسوله كيفية التعامل معهم فقال: {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ} يقلبون الكذب دون الحق، {أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِ} الحرام الشديد ممّا لا يحل أكله كالرشوة، وهذا كالمقدمة لبيان سبب عدم قبولهم لحكم

ص: 149

الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إذا خالف مصالحهم، {فَإِن جَاءُوكَ} لتحكم بينهم فأنت مخيّر وحسب المصلحة {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ} بحكم الشرع {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} بأن لا تحكم بينهم، {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَئًْا} لا في دينك ولا في دنياك، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} بالعدل لا بما تهوىأنفسهم وما حرّفوه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الذين يحكمون بالعدل.

43- ثم يبين اللّه أنهم لا يريدون حكمك بالقسط وإلاّ لعملوا بما في التوراة، {وَ} إنما جاؤوك لتحكم لهم بما يطابق هواهم، إذ {كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} والاستفهام للتعجيب فهؤلاء لا يؤمنون بك {وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} وهم يُقرّون بأنها أحكام اللّه تعالى ولو أرادوا العدل لعملوا بها من غير مراجعة من لا يؤمنون به، لكنهم إنما يريدون الفرار من حكم اللّه فيعلمون بأحكام التوراة {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} يعرضون عنها {مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ} الحكم المذكور فيها، {وَمَا أُوْلَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} بل إيمانهم كذب وإلاّ لعملوا بما في التوراة، فعُزوفهم عنها دليل على عدم إيمانهم وإنما هم يتبعون أهواءهم ومصالحهم حتى لو استلزمت تحكيم من لا يؤمنون به!

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه تعالى مجموعة من مواثيقه يبيّن ميثاقاً آخر منها، وهو ميثاقه بالعمل بأحكام الكتاب وعدم تحريفه، وذكر مثالاً من اليهود الذين يُعرضون عن أحكام التوراة لمخالفتها لمصالحهم مع أخذهم الرشوة لتحريفها، حتى إنهم مستعدون لتحكيم من لا يؤمنون به وقبول حكمه إذا

ص: 150

طابق هواهم، لكن اللّه تعالى يأمر رسوله بأنهم إن راجعوه فإمّا أن يعرض عنهم فلا يحكم في أمورهم، وإمّا إن أراد الحكم فليحكم بالعدل لا بما تمليه أهواؤهم، ثم يذكر اللّه تعالى مجموعة من أحكام التوراة غير المحرفة مما ترتبط بمباحث الآيات السابقة.

ثم إن هذه الآيات تقسّم المسارعين في الكفر إلى أصناف ثلاثة:

1- المنافقون وهم الذين لم يؤمنوا بقلوبهم، لذلك يرفضون الأحكام التي تخالف أهواءهم، بل يقبلون الافتراءات على اللّه فيما يتطابق مع مصالحهم.

2- عوام اليهود الذين هم كالمنافقين في قبولهم الكذب والأباطيل.

3- أحبار اليهود الذين يفترون على اللّه الكذب ويحرفون الكتاب ويخدعون الصنفين الأولين.

وفي الآيات تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبشارة له بعدم تمكن هؤلاء من الإضرار به، وتتضمن مجموعة تعاليم وإشارات للمسلمين.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ...} الآية.

المسارعة تتعدى ب-(إلى) و(في) فالمسارعة إلى الشيء هو طلبه لتحصيله، وأمّا المسارعة فيه فهي بمعنى شدة العمل بمقتضيات الشيء، فالمسارعة إلى الكفر هو طلب الكفر، والمسارعة في الكفر هو العمل بما هو مقتضى الكفر، فحاصل المعنى أنهم يبادرون إلى الأعمال الكفرية مع زعمهم أنّهم مؤمنون، كالمنافقين الذين يزعمون أنهم مسلمون، وكاليهود الذين يزعمون

ص: 151

إيمانهم بالتوراة مع عدم عملهم بها.

وقوله: {لَا يَحْزُنكَ} لم يذكر متعلق الحزن، فإمّا الحزن عليهم لأنهم يدخلون النار بسبب أعمالهم كما قال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا يَصْنَعُونَ}(1)، وإما الحزن بسبب المشاكل التي يثيرونها نظير قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(2)، والمعنى الأول أنسب بالتعليل في قوله: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ...} الخ.

وقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا...} أي المنافقين، وإنما ذكر هذه العبارة للدلالة على سبب مسارعتهم إلى الكفر وهو نفاقهم، كما أن قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْۛ} كذلك سبب مسارعة أولئك هو أنهم هادوا فصار الكفر والمسارعة إليه كالجِبِلّة والطبيعة فيهم، ومن هذا يتبيّن أن المراد من المسارعة في الكفر هي مخالفة أحكام اللّه تعالى.

وقوله: {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ} وصف لكلا الصنفين، والسماع هنا بمعنى القبول، أي يكثرون قبول ما سمعوه من أكاذيب وافتراءات، وهذا نتيجة كفرهم ومسارعتهم إليه، وقد يكون العكس، أي كثرة استماع وقبول الكذب تؤدي إلى الكفر والمسارعة فيه.

وقوله: {سَمَّٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ} تفصيل لقوله: {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ}،

ص: 152


1- سورة فاطر، الآية: 8.
2- سورة الأنعام، الآية: 33.

فالمعنى يستمعون إلى قول الأحبار الذين يحبكون الأكاذيب، وقد وصف اللّه أولئك الأحبار بمجموعة من الأوصاف هي:

1- {لَمْ يَأْتُوكَ} لشدة تكبرهم وغيظهم وحسدهم، أو لأنهم يكيدون المؤامرات في الظلام، وليسوا مستعدين لمقابلة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث يجبههمبالحجج والبراهين التي تقطع جميع احتجاجاتهم!

2- {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي يحرفون أحكام التوراة تارة بالزيادة أو النقيصة، وتارة بالتأويل الباطل، و{مِن بَعْدِ مَّوَاضِعِهِ} للتشنيع عليهم بأن اللّه وضعها في أماكنها من الكتاب، لكنهم يخالفون اللّه بتغييرها عن أماكنها.

3- {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا...} أي لا يكتفون بالتحريف، بل يضيفون إليه إضلال العوام، فيموّهون عليهم بأن هذا المحرّف هو حكم اللّه سبحانه ويحثونهم على قبوله وعلى رفض حكم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لو خالفه، ولعل قولهم: {فَاحْذَرُواْ} يريدون احذروا عقاب اللّه في العمل به.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا...} الآية.

كالتعليل للنهي عن الحزن في قوله: {لَا يَحْزُنكَ} أي إنما نهيناك عن الحزن عليهم لعدم نفع حزنك عليهم؛ لأنهم رفضوا الهداية التي تلطّف اللّه بها عليهم فاستحقوا الخذلان منه، فهم أرجاس لا سبب للحزن عليهم.

وقوله: {فِتْنَتَهُ} الظاهر أن المراد من الفتنة هنا العذاب، قال سبحانه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ

ص: 153

تَسْتَعْجِلُونَ}(1)، أي هؤلاء يريد اللّه عذابهم كما قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا}(2).وقيل: الفتنة هنا بمعنى الامتحان، أي أراد اللّه امتحانهم وذلك عبر تحكيمهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على أمل أن يحكم بأهوائهم ليظهر بذلك عنادهم وغيهم وكذبهم في ادعائهم الإيمان واتّباع الكتاب.

وقوله: {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا} أي لا تقدر أنت من فعل شيء لإنقاذه من العذاب، فلا سبب لحزنك عليهم؛ لأنه لا ينفعهم ولا ينجيهم من عذابه تعالى؛ لأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لا يريد شيئاً خلاف إرادة اللّه، بل ولا يشفع إلاّ لمن ارتضاه اللّه فأذن في شفاعته.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} كالعلة لإرادته عذابهم، أي إنّ اللّه أراد عذابهم لأنه لم يرد تطهير قلوبهم، وذلك بسبب سوء اختيارهم حيث عاندوا، قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ}(3) وقال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(4)، وقد مرّ بحث الهداية والضلال، وأن الهداية من اللّه بمعنى إرائة الطريق للجميع، فمن قبلها زاده اللّه هداية، ومن رفضها وعاند حتى فقد القابلية تركه اللّه حتى يضل بنفسه، فعدم إرادة اللّه تطهير هؤلاء إنما هو لعنادهم وعتوّهم، وحيث لم يطهر القلب صار رجساً وسبباً لكل رجس.

ص: 154


1- سورة الذاريات، الآية: 13-14.
2- سورة التوبة، الآية: 85.
3- سورة المائدة، الآية: 108.
4- سورة البقرة: الآية: 258.

وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ...} بيان عاقبة أمرهم، فتحصّل أن الآية تبيّن سبب مسارعتهم إلى الكفر وهو عدم إيمان قلوبهم وكفرهم، مما ينتج عن ذلك قبولهم الكذب والافتراء، واللّه ينهى رسوله عن الحزن عليهم؛ لأنهسبحانه يريد عذابهم حيث لم يطهر قلوبهم، وذلك العذاب هو الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.

الرابع: قوله تعالى: {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِ}.

الغرض في هذه الآية بيان وظيفة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فيما لو جاؤوا يحكّمونه، فأراد اللّه تعالى تذكير الرسول بأن هؤلاء ناس يقبلون الباطل ويأكلون الحرام ولم يرجعوا إليه إلا ليحكم لهم بالباطل، فلا يفرح بتحكيمهم إياه، بل مادموا رجعوا إليه فليعمل بالمصلحة من القبول أو الرفض، وعليه فقوله تعالى: {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ} ليس تكراراً لما في الآية الماضية مع إضافة {أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِ} بل ذكره لغرض التذكير والتنبيه، وقد مرّ أنه لو اختلف الغرض فلا يكون في الكلام تكرار حتى لو تشابهت الكلمات.

وقيل: هذا جامع للأصناف الثلاثة فإن السّماعين هم المنافقون وعوام اليهود وإن الأكّالين هم الأحبار المرتشون.

وقوله: {لِلسُّحْتِ} السحت هو الحرام الشديد من المال، وأصله بمعنى الاستئصال، والمال الحرام لا بقاء له كما أنه يستأصل دين آكله، وللسحت مصاديق كثيرة، ومن أشده أخذ الرشوة لتحريف الكتاب وتغيير حكم اللّه.

كيفية الحكم بين أهل الكتاب

الخامس: قوله تعالى: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ...} الآية.

ص: 155

تخيير للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في قبول الحكم أو رفضه:

1- أما لو أراد الحكم بينهم فلا بد أن يحكم بالعدل، ولا يخفى أن هذا لا ينافي قانون الإلزام؛ لأن إلزام الكفار والمخالفين بالأحكام التي يعتقدونبها هو حكم بالقسط، وأما لو التزموا بشيء وأرادوا أن نحكم بخلاف حكم الشرع وبخلاف ما التزاموا به فليس هذا من القسط في شيء، وهنا هؤلاء اليهود كان الحكم في توراتهم بشيء فأرادوا مخالفته ورجعوا إلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على أمل أن يكون حكمه بما يتطابق مع هواهم!

2- كما له أن يختار عدم الحكم بينهم وذلك فيما لو رأى عدم المصلحة فيه ولم يكن ذلك الإعراض طمساً لحكم الشرع؛ لأنهم كانوا يعلمون بحكم التوراة كما أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كان قد بيّن الأحكام الشرعية، فلذا لم يكن إعراض الرسول عن الحكم بينهم مُخِلّاً ببيان الأحكام، كما أنهم لم يكونوا يريدون تطبيق حكم توراتهم فلم تكن فائدة في بيانه لهم إلاّ تنفيذ الحكم بالقهر والقوة وهو أمر مفوّض إلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إن رأى صلاحاً نفّذ الحكم فيهم بالقهر وإلاّ تركهم.

وقوله: {فَلَن يَضُرُّوكَ شَئًْا} لأن المسألة لم تكن مرتبطة بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لا من قريب ولا من بعيد، بل هي قضيّة داخلية بينهم احتاجت إلى تحكيم شخص وهم يتمكنون من تحكيم أحبارهم ولا أحد يجبرهم على الرجوع إلى غيرهم، فعدم قبول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الحكم بينهم لم يكن سبباً لضررهم عليه.

السادس: قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ

ص: 156

اللَّهِ...} الآية.

هذا تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن رفضهم لحكمك إنما هو بسبب عدم إيمانهم، ولذلك رفضوا حتى حكم التوراة التي يقبلونها، فإنهم لم يرجعوا إليك إلاّ فراراً من حكمها مع أنهم لا يعترفون بنبوتك، فالكفر فيهم مستحكم فلا تحزن عليهم ولا على رفضهم لحكمك.

وقوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} استفهام للتعجب، أي عملهم يثير التعجب برفضهم حكم ما يقبلونه ورجوعهم إلى من لا يؤمنون به، وكل ذلك بسبب عدم إيمانهم وإنما اتباعهم مصالحهم وأهوائهم.

وقوله: {يَتَوَلَّوْنَ} أي يعرضون فيرفضون.

وقوله: {مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ} أي بعد تحكيمك، أو بعد حكم اللّه في التوراة.

وقوله: {وَمَا أُوْلَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} لا هم مؤمنون بتوراتهم ولا هم مؤمنون بك!

وأما شأن نزول الآيات - والتي لا تحدّد مفهومها ولا مصاديقها - فهو أن بني النضير وبني قريظة - من اليهود - حكموا في الجاهلية على عقوبة القتل بخلاف حكم التوراة، حيث إن بني النضير كانوا أكثر عدداً ومالاً وكانوا حلفاء لعبد اللّه بن أبيّ، فغلبوا بني قريظة، فاتفقوا على أنه إن قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة فعقوبته أن يقعد على جمل معكوساً ويلطخ وجهه بالسواد ويدفع نصف الدية، ولو قتل رجل من بني قريظة رجلاً من بني النضير فعقوبته أن يدفع دية كاملة ويُقتل به.

فلما هاجر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة ودخلت الأوس والخزرج في

ص: 157

الإسلام ضعف أمر اليهود، فقتل رجل من بني قريظة رجلاً من بني النضير، فطالبت بنو النضير بالقاتل ليقتلوه وبدية كاملة، فقالت قريظة: ليس هذا حكم التوراة وإنما هو شيء غلبتمونا عليه، فإما الدية أو القتل، وإلاّ فهذامحمد بيننا وبينكم فهلّموا نتحاكم إليه.

فوسّطت بنو النضير عبد اللّه بن أبي، فقال لهم: إني ذاهب إلى محمّد وابعثوا معي رجلاً يسمع كلامنا، فإن حكم بما تريدون فاقبلوا منه، وإلاّ فلا ترضوا به، فنزلت هذه الآيات(1).

وروى الطبرسي في مجمع البيان شأن نزول آخر حيث أراد يهود خيبر تغيير عقوبة الزنا في التوراة فكتبوا إلى يهود المدينة أن يسألوا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عن ذلك طمعاً في أن يأتي لهم برخصة(2)،

ولا منافاة بين شأني النزول، إذ يمكن أن تنزل الآيات مرات متعدة بتعدد القضايا، أو تتعدد القضايا فتنزل الآيات دفعة في جميعها.

ص: 158


1- لتفصيل القصة راجع تفسير القمي 1: 168؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 395.
2- راجع مجمع البيان 3: 477.

الآيات 44-47

اشارة

{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُواْ بَِٔايَٰتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ 44 وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ 45 وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَءَاتَيْنَٰهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ 46 وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ 47}

44- بعد أن شنّع على اليهود إعراضهم عن حكم اللّه في التوراة، بيّن أوصافها وميثاق اللّه تعالى بالعمل فيها فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ} والمقصود التوراة غير المحرّفة {فِيهَا هُدًى} دلالة على الأحكام {وَنُورٌ} ضياء يكشف المبهمات وما اشتبه عليهم، {يَحْكُمُ بِهَا} بالتوراة {النَّبِيُّونَ} وهذا تعظيم لشأنها {الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} انقادوا للّه سبحانه وأذعنوا لحكمه، وكان حكمهم {لِلَّذِينَ هَادُواْ}، فما بال هؤلاء اليهود يعرضون عن حكمها؟

ص: 159

{وَ} من بعد الأنبياء يحكم بها {الرَّبَّٰنِيُّونَ} وهم الأئمة الأوصياء، ورباني منسوب إلى الرب والذي يربّي الناس بعلمه، {وَ} يحكم بها من بعد الربانيين {الْأَحْبَارُ} وهم العلماء، وإنما يحكم بها هؤلاء {بِمَااسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ اللَّهِ} أي بسبب ما كلّفهم اللّه من حفظ كتابه؛ وذلك لأنه ائتمنهم عليه وأمرهم بأن يحكموا بحكمه، {وَكَانُواْ عَلَيْهِ} على الكتاب {شُهَدَاءَ} يشهدون بأنه حق وصدق فكانوا حافظين له بشهادتهم هذه.

وحيث علمتم منزلة التوراة غير المحرّفة وأهميتها {فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ} لا تخافوهم في إظهار أحكامها والعمل بها، {وَاخْشَوْنِ} فلا تبدلوا حكم اللّه أو تكتموه، فإن اللّه أحق أن يخشى منه، {وَلَا تَشْتَرُواْ بَِٔايَٰتِي} أي لا تستبدلوها {ثَمَنًا قَلِيلًا} عَرَض دنيوي من رشوة وجاه ونحو ذلك فهو قليل مقابل عذاب الآخرة وخسارة الجنة والثواب، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} سواء كتم الحكم أو حرّف وحكم بغير حكم اللّه {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ} إما بمعنى كفران النعمة، أو الكفر الاعتقادي إن كان عن جحود.

45- {وَ} حكم القصاص - الذي أرادوا تحريفه - هو مما ذكر في التوراة، فقد {كَتَبْنَا} فرضنا {عَلَيْهِمْ} على اليهود {فِيهَا} في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي تعادله وتقابله في القصاص، فمن قتل عمداً اقتص منه حتى لو كان القاتل شريفاً - نسباً ومالاً وجاهاً - وكان المقتول وضيعاً، {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إن فقأها، {وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ} إن جدعه، {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} إن صلمها، {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} إن قلعها، {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي ذات قصاص بمعنى أنها متقاصّة بعضها يقابل بعض، وفي هذا يدخل سائر

ص: 160

الأعضاء، {فَمَن} المجني عليه أو أولياؤه {تَصَدَّقَ بِهِ} بالقصاص أي أسقط القصاص وعفا عن الجاني {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} أي لذنوب من عفا، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ} يظلمون المجني عليه بغمطه حقه،وأحياناً يظلمون الجاني بزيادة العقوبة، بل والمجتمع بعدم العمل بما فيه المصلحة له، كما يظلمون أنفسهم بمعصية اللّه.

46- ثم يتبع اللّه ذكر الإنجيل فيقول: {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم} أي أرسلنا من بعد الأنبياء من بني إسرائيل {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} حال كونه {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} للكتاب الذي قبله، وبيّنه بقول: {مِنَ التَّوْرَاةِ} فهو (عليه السلام) صدّق بها وعمل بها إلاّ فيما نسخ منها، {وَءَاتَيْنَٰهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ} في الإنجيل {هُدًى} إراءة للطريق {وَنُورٌ} يجلو المبهمات والشبهات، {وَ} كما عيسى (عليه السلام) صدّق بالتوراة كذلك الإنجيل حال كونه {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى} إيصال للمطلوب {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} فالهداية بمعنى إراءة الطريق عامة للجميع، وأمّا الهداية بمعنى الإيصال للمطلوب فهي خاصة بالمتقين.

47- {وَ} حيث علم أهل الإنجيل بمنزلته ف-{لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ} مَن نزل عليهم الإنجيل {بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} مما لم ينسخ ومن ذلك البشارة برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والأمر باتّباعه، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ} المتمردون الخارجون عن طاعة اللّه.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ...} الآية.

ص: 161

لما شنّع اللّه تعالى على اليهود تركهم لحكم التوراة في قصة القتل والزنا وإرادتهم تحريف أحكام اللّه تعالى فيها، بيّن وجوب عمل الجميع بكتب اللّه المنزلة، إلاّ المقدار الذي ثبت نسخه بحكم اللّه تعالى، فذكر في هذهالآيات الكتب الثلاثة - التوراة والإنجيل والقرآن - فإنها كتب منزلة من قِبل اللّه تعالى وقد عمل بها الأنبياء والأوصياء والعلماء فلا مهرب من العمل بها في زمانها وكذلك بعد زمانها في الأحكام التي لم تنسخ.

أما التوراة فيذكر اللّه أوصافها والحاكمون بها وسبب حكمهم بها وسبب عدم حكم البعض بها، ونتيجة عدم الحكم:

أوصاف التوراة

1- أما أوصافها: فهي أن اللّه أنزلها وأن فيها الهدى والنور... .

وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ} فهي ليست أهواء أو اجتهادات، فالتوراة الأصلية أنزلها اللّه على موسى (عليه السلام) ، لكن اليهود حرفوا في أجزاء منها بزيادة ونقيصة، إلاّ أن غير المحرّف منها واجب الاتّباع فيما لو لم ينسخ قال سبحانه: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ}(1).

وقوله: {فِيهَا هُدًى} أي إراءة للطريق الحق كما قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ}(2) أي أرشدناهم إلى الصراط المستقيم عبر النبي صالح (عليه السلام) لكنهم أبوا سلوك الطريق.

وقوله: {وَنُورٌ} الهداية والنور وإن كانا متلازمين الاّ أن الظاهر أن المراد

ص: 162


1- سورة الأعراف، الآية: 145.
2- سورة فصلت، الآية: 17.

من النور هنا هو رفع الشبهات والإشكالات، فإن الإنسان كما يحتاج إلى إراءة طريق الحق كذلك يحتاج إلى رفع الإشكالات التي تعرض على ذهنه، فلذا كان المسلمون يسألون الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) عن مختلف جوانبالأحكام الشرعية والأمور العقدية لترتفع الإشكالات.

ويمكن أن يقال: إن الهداية هي العلم، والنور هو البصيرة.

الحاكمون بالتوراة

2- وأما الحاكمون بالتوراة: فهم الأنبياء والأوصياء والعلماء، وهذا تعظيم لشأنها.

وقوله: {الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} في وصف النبيين بمعنى انقادوا للّه تعالى وأذعنوا لحكمه، فهم على عظمتهم لم يخالفوا أحكامها فما بال هؤلاء اليهود يستكبرون على أحكامها؟! كما أن رسول اللّه محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) من النبييّن فلا معنى لأن يتوقعوا منه أن يخالف طريقتهم.

قيل: إن وصف النبييّن بالإسلام مدح لهم، وقيل: إن الإسلام صفة عامة وهو وإن كان من أجلّ الأوصاف لكن ليس من البلاغة المدح بوصف يعمّ الجميع، بل هو مدح للإسلام بأنه من الأهمية بحيث اتصف الأنبياء به، ومثّل له بعضهم بقول الشاعر:

فلئن مدحت محمداً بقصيدتي *** فلقد مدحت قصيدتي بمحمّد

وقوله: {لِلَّذِينَ هَادُواْ} أي كان حكم النبيين بين اليهود، وإنما خصوا بالذكر إمّا لأن غير اليهود لم يكونوا يراجعون أنبياء بني إسرائيل، أو تشنيع على اليهود المعاصرين للنبي حيث رفضوا حكم التوراة فيقال لهم: إن الأنبياء كانوا يحكمون بها بين أسلافكم!

ص: 163

وقوله: {وَالرَّبَّٰنِيُّونَ} (الرباني) نسبة إلى الرب بإضافة الألف والنونومادة (رب ب) بمعنى إصلاح الشيء والقيام عليه(1)، ولذا قد يفسّر بالتربية؛ لأن المعنى متقارب مع اختلاف المادة، والمراد بالربانيين في هذه الآية الأئمة الأوصياء فهؤلاء بعد الأنبياء أيضاً كانوا يحكمون بالتوراة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربّون الناس بعلمهم، وأما الأحبار فهم العلماء دون الربانيين»(2)، قال سبحانه: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٖ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَٰهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(3).

وقوله: {الْأَحْبَارُ} جمع حبر - بفتح الحاء وكسرها - وأصله بمعنى الأثر في حسن وبهاء(4)، والعلم زينة وبه بهاء الإنسان وحسنه.

سبب حكمهم بالتوراة

3- وأما سبب حكمهم بها: فلأنّ اللّه أمرهم بحفظها وأمرهم بالشهادة عليها.

وقوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ اللَّهِ} أي أمرهم اللّه بحفظ كتابه، ومن المعلوم أن حفظ الكتاب إنما هو بالعمل به لا مجرد اقتنائه، ولذا لم يقل: (بما حمّلوا منه) لأن التحميل قد يكون مع عدم العمل كما قال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَا}(5).

ص: 164


1- راجع مقاييس اللغة: 378.
2- تفسير العياشي 1: 322؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 406.
3- سورة السجدة، الآية: 23-24.
4- مقاييس اللغة: 273.
5- سورة الجمعة، الآية: 5.

وقوله: {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} أي يشهدون بأنه الحق، وهو يتضمنمعنى الرقابة لئلا يُحرّف، فالأنبياء والربانيون والأحبار كما كانوا يحكمون بالكتاب كذلك كانوا رقباء على الناس لئلا يحرّفوه، وإنما استغلّ المحرّفون انقطاع الأنبياء والأوصياء وفساد الأحبار فحرفوا التوراة.

ثم إن قوله: {مِن كِتَٰبِ اللَّهِ} دون أن يقول: (من التوراة) أو (منها) لعلّه لأجل أن وظيفة هؤلاء الحكم بكل كتاب أنزله اللّه والشهادة عليه سواء من الكتب السابقة على التوراة، كصحف إبراهيم أو اللاحقة عليه كالزبور، فسبب حكمهم بالتوراة هو الأمر العام لهم بحفظ جنس الكتاب والذي منه التوراة.

سبب إعراض بعضهم عن التوراة

4- وأما سبب عدم حكم البعض بها: فهو إمّا الخوف من الناس، وإمّا طلب أمر دنيوي، فيحذّر اللّه من كلا الأمرين... .

وقوله: {فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ} بيان للسبب الأول، فإن البعض يخاف من سلطان أو ظالم أو قرابة أو جوّ اجتماعي ضاغط، فيحكم بخلاف حكم اللّه تعالى، فيقول اللّه تعالى: إن اللّه أحق بالخشية؛ لأنه النافع الضار، ولا يعدل الضرر الذي يتحمله الإنسان من الناس بالضرر الذي يلحقه بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة لمخالفة أحكام اللّه تعالى، وفي التقريب: «وحيث بيّن سبحانه أن التوراة يحكم بها أولئك الصفوة وأنهم محل وديعة والشهداء على صحته، بيّن أن مقتضى ذلك أن يكون الإنسان المتصف بهذه الصفات شجاعاً في إظهار أحكامه فلا يخون ولا يكتم ولا يخشى الناس»(1).

ص: 165


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 645.

وقوله: {وَلَا تَشْتَرُواْ...} بيان للسبب الثاني، حيث يخالف البعض حكم اللّه تعالى جلباً لمال أو جاه أو أيّ أمرٍ دنيوي آخر، فيقال له: إنه ثمن قليل زائل لا يعدل ثواب اللّه العظيم الدائم فيما لو حكم بالحق.

عاقبة عدم الحكم بما أنزل اللّه

5- وأما عاقبة عدم الحكم بما أنزل اللّه: فهو ما قاله سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ}، وعدم الحكم أعم من الكتمان أو الحكم بخلافه، كما أنه لو كان الحكم بخلاف حكم اللّه أو كتمانه مجرد عصيان لا عن عقيدة باطلة فهو كفران للنعمة - التي هي معرفة أحكام اللّه - وهي من أعظم المعاصي لكنها لا تخرجه عن الملّة، أمّا لو كان عن جحود وإنكار وتكذيب فهو كفر مخرج عن الملّة.

الثاني: قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ...} الآية.

لمّا كان شأن نزول الآيات هو قضية قتل أرادوا فيها مخالفة حكم اللّه تعالى في التوراة، لذلك في هذه الآية ذكر حكم القتل مثالاً لما كتبه اللّه تعالى مع بيان عاقبة المخالفة.

أما الحكم فهو القصاص إن أراد صاحب الحق ذلك، وأما المخالفة للحكم فهو ظلم وعاقبة الظلم معلومة.

وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} أي شرعناه لهم، والكتابة أبلغ في التأكيد على الحكم من أن يقول: (وأمرناهم)؛ لأنه إذا زاد الاهتمام بشيء تمت كتابته توثيقاً وتأكيداً.

وقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الباء للمقابلة، أي النفس بمقابلة النفس، فالقاتل يقتل مقابل قتله المقتول، لا فرق بين شريف ووضيع، ولا بين رجل

ص: 166

وامرأة، نعم لو قتل رجلٌ امرأةً اقتص منه بدلالة هذه الآية مع ردّ نصفالدية إلى أوليائه بدلالة السنة، ومن ذلك يظهر أن هذه الآية ليست منسوخة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ}(1)، بل آية سورة البقرة مبيّنة وموضحة لآية سورة المائدة.

وقوله: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى قوله: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} لعلّه ذكر الجنايات على الرأس بالخصوص؛ لأنها أشنع ويصعب كتمانها، ثم أدرج سائر الجنايات بقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}؛ لأن قطع سائر الأعضاء من الجروح ففيها القصاص.

وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} القصاص إمّا مصدر بمعنى المفعول، أي الجروح متقاصَّة، ومادة (القصّ) بمعنى اتباع الأثر كأن المجروح يتبع أثر الجارح فيجرحه، وإمّا بتقدير مضاف، أي الجروح ذات قصاص، وهذا فيما يمكن فيه القصاص، وأما فيما لا يمكن - كالمأمومة، وهي الضرب بآلة حادة حتى تبلغ أمّ الرأس - فلا قصاص، بل الأمر ينحصر في الدية خوفاً من موت القاتل فيكون العقاب أكبر من الجناية، وتفاصيل أحكام القصاص تطلب من الكتب الفقهيّة.

وقوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} أي أسقط حقه في القصاص، تصديقاً لما حبّذ إليه اللّه تعالى كما قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَٰنٖ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}(2).

ص: 167


1- سورة البقرة، الآية: 178.
2- سورة البقرة، الآية: 178.

وقوله: {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} أي عفوه سبب غفران ذنوبه، فعن الإمامالصادق (عليه السلام) أنه قال: «يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره»(1). وهذا نظير قوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}(2).

الثالث: قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ...} الآية.

حول الإنجيل وأوصافه

بعد ذكر التوراة يأتي ذكر الإنجيل وبيان حقيقته وحث أهل الإنجيل على العمل به - إلاّ فيما نسخ منه - فيتم:

أولاً بيان أن عيسى (عليه السلام) رسول كالنبيين الذي أرسلهم اللّه تعالى إلى بني إسرائيل، وأنه ابن مريم فليس ابناً للّه كما تزعم النصارى، وأن عيسى (عليه السلام) يصدّق بالتوراة فكان يعمل بها ويأمر بالعمل بها، إلاّ فيما نسخ كما قال: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}(3).

وثانياً يتم بيان أن الإنجيل كتاب من عند اللّه لا بد من العمل به، فإن الشرائع والكتب السماوية كلّها من عند اللّه والدين واحد هو الإسلام، فلا بد من العمل بجميعها إلا المقدار الذي نسخ فلا بد من العمل بالناسخ دون المنسوخ، وهذا يجري حتى في الكتاب الواحد والشريعة الواحدة، فما جاء في القرآن وفي الشريعة الإسلامية إن نسخه اللّه لا بد من عدم العمل بالمنسوخ، وأما فيما سوى ذلك فيجب العمل به، ولذا ذكر بعض الأصوليين أنه لا حاجة إلى استصحاب

ص: 168


1- الكافي 7: 358؛ وتفسير العياشي 1: 325.
2- سورة النور، الآية: 22.
3- سورة آل عمران، الآية: 50.

أحكام الشرائع السابقة، بل الدليل القرآني يدل على استمرارها إلا بالمقدارالذي ثبت نسخه فلا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة.

وقوله: {قَفَّيْنَا} أي أرسلناه على قفاهم بمعنى من بعدهم، وأصل (التقفية) بمعنى اتّباع الأثر.

ثم إن اللّه تعالى يذكر مجموعة من أوصاف الإنجيل غير المحرّف، وهي:

1- {وَءَاتَيْنَٰهُ الْإِنجِيلَ} أي أعطيناه وأنزلنا عليه، نعم الأناجيل الأربعة الموجودة الآن ليست هي الإنجيل الذي أنزله اللّه سبحانه على عيسى (عليه السلام) بل هي كتابات بعض النصارى وقد تضمنت بعض مطالب الإنجيل المنزل ولكن كثيراً منها تحريفات كتّابها.

2- {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} مرّ بيانه في الآية 44، فالهدى إراءة للطريق، والنور رفع الشبهات والإشكالات.

3- {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} فهو مكمل لها وناسخ لبعض أحكامها حسب المصلحة، حيث إن اللّه أنزلهما فلا يعقل تكذيب أحدهما للآخر.

وقوله: {بَيْنَ يَدَيْهِ} أي يسبقه، هو تشبيه للسابق الزماني بالسابق بالمكان الذي هو مقابل الإنسان كذا قيل.

4- {وَهُدًى} ليس تكراراً لقوله: {فِيهِ هُدًى} بل الأول بمعنى إراءة الطريق ولذا قال: {فِيهِ هُدًى}، وأما هذا فبمعنى الإيصال إلى المطلوب نظير قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن

ص: 169

يَشَاءُ}(1)،وبعبارة أخرى: الهداية قد تكون شأنية وقد تكون فعلية، والإنجيل فيه هدى، بمعنى أنه يُري طريق الحق للناس أجمع، والإنجيل هدى بمعنى يهدي فعلاً ولذلك قيّده بقوله: {لِّلْمُتَّقِينَ}.

5- {وَمَوْعِظَةً} الوعظ هو الكلام الذي يرق له القلب، والموعظة المؤثرة فعلاً خاصة بالمتقين، وأما غيرهم فلا ترق قلوبهم؛ لأنها قاسية، نعم الموعظة الشأنية عامة للجميع كقوله: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(2).

الرابع: قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ...} الآية.

أي وحيث علمتم أنّ الإنجيل كتاب أنزله اللّه تعالى فلا بد لكم من العمل به ومن لم يعمل به فهو فاسق خارج عن طاعة اللّه؛ لأن اللّه أنزله ليعمل به.

وقوله: {أَهْلُ الْإِنجِيلِ} أي من نزل عليهم الإنجيل، وهم جميع الناس؛ لأن شريعة عيسى (عليه السلام) كانت شريعة عامة للجميع - كما مرّ - نعم خصوص النصارى حيث يدعون اتّباع عيسى فهم أولى بالعمل به، ومما أنزله اللّه في الإنجيل البشارة برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ}(3)، وقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٖ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا

ص: 170


1- سورة القصص، الآية: 56.
2- سورة الأعراف، الآية: 164.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.

جَاءَهُم بِالْبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(1).

وقوله: {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ} أي الخارجون عن طاعة اللّه؛ لأن مادة الفسق هي بمعنى الخروج عن الشيء.

ثم إن التعبير عن من لم يحكم بما أنزل اللّه تارة بأنه كافر، وأخرى بأنه ظالم، وثالثة بأنه فاسق:

1- إمّا باعتبار اختلاف عدم الحكم، فتارة عن جحود فهو كفر، وتارة عن جهل تقصيري فهو ظلم، وتارة عن عمد من غير جحود فهو فسق.

2- وإمّا لاجتماعها فالذي لا يحكم بما أنزل اللّه هو كافر بالنعمة وظالم لنفسه وغيره وفاسق عن طاعة اللّه تعالى، فتفريق الثلاثة في آيات ثلاث أوقع في النفوس وأكثر تأثيراً، كما لو قال المولى لعبيده: من لم يُطعني أضربه، ومن لم يطعني أحبسه، ومن لم يطعني أغرّمه.

3- وإمّا لأنه في الآية الأولى ذكر ما يستلزم الكفر، وهو الشراء بآيات اللّه ثمناً قليلاً فناسب ذكر أنهم كافرون، وفي الآية الثانية ذكر حكم فرعي هو القصاص في حق الناس ومن لم يودّ للناس حقوقهم فهو ظالم لهم، وفي الآية الثالثة لم يذكر شيئاً من الأصول والفروع، وإنما كان أمراً عاماً بالحكم بما في الإنجيل فناسب ذكر الفسق بالمخالفة؛ لأن كل من يخالف حكم اللّه فهو خارج عن الطاعة، فتأمل.

ص: 171


1- سورة الصف، الآية: 6.

الآيات 48-50

اشارة

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 48 وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَٰسِقُونَ 49 أَفَحُكْمَ الْجَٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ 50}

48- بعد ذكر التوراة والإنجيل يأتي ذكر القرآن فقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ} القرآن {بِالْحَقِّ} يتضمن الحق أو إنزالاً بالحق، حال كونه {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ} الكتب السماوية السابقة {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} مسيطراً ورقيباً على الكتب السابقة بالتكميل وببيان مواضع التحريف، {فَاحْكُم} إن حكمت {بَيْنَهُم} بين الناس، ومنهم أهل الكتاب {بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} في القرآن، {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أي ما يشتهون من أحكام باطلة تخالف حكم اللّه بدلاً {عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} في القرآن.

ص: 172

ثم يذكر اللّه تعالى سبب تعدد الشرائع والكتب المنزلة فيقول: {لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ} من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأنبياء السابقين (عليهم السلام) {شِرْعَةً} شريعة تتضمن الأحكام الفرعية {وَمِنْهَاجًا} طريقاً واضحاً ولعلّه الكتاب المنزلعلى نبيّ كل شريعة، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} بمشيئة تكوينية أو تشريعيّة {لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً} بأن ينزل كتاباً واحداً وشريعة واحدة على الجميع ويجبرهم تكويناً على الإيمان بهما، {وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ} من الكتب المتعددة والشرائع المختلفة، وحيث علمتم أنه امتحان لكم اقتضاه التدريج {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ} بادروا إليها، ومن ذلك الإيمان برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والعمل بشريعته؛ لأنها نسخت الشرائع السابقة وكتابه مهمين على كل الكتب.

ثم بعد الامتحان {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} سواء استبقتم أم قصّرتم {فَيُنَبِّئُكُم} يخبركم إخبار من يريد الجزاء {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمر الكتاب والشريعة.

49- ثم يؤكد اللّه لزوم الحكم بما أنزل اللّه بقوله: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم} بين الناس، ومنهم أهل الكتاب {بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} ما يشتهون خلاف الحق {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} يضلّوك ويصرفوك {عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} مما لا ينسجم مع مصالحهم وأهوائهم، {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن حكمك طبقاً لما أنزل اللّه {فَاعْلَمْ أَنَّمَا} قد خذلهم اللّه فلم يهدهم بسبب ذنبوهم، ف-{يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم} يعاقبهم {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} في الدنيا وأما العقاب على جميع الذنوب فالدنيا قاصرة عنه لذلك

ص: 173

يؤخرهم اللّه إلى يوم القيامة، {وَإِنَّ} سبب إرادتهم عقابهم؛ لأن {كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} خارجون عن الطاعة لذلك استحقوا العقاب في الدنيا والآخرة.

50- ثم يوبّخهم اللّه على توليهم وإعراضهم بقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَٰهِلِيَّةِيَبْغُونَ} يطلبون وحكمها بالأهواء والظلم، {وَمَنْ} استفهام إنكاري، أي لا يوجد أحد {أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} أي من جهة الحكم {لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ} لهم اليقين باللّه تعالى فيعلمون أن حكمه الحق الذي لا باطل فيه فيتبعونه.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ...} الآية.

لما ذكرت الآيات السابقة نبوة موسى وعيسى‘ وكتابيهما التوراة والإنجيل وأمرت أهل الكتاب بالحكم بما فيهما، تُبيّن هذه الآية أن محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً رسول من اللّه سبحانه وأن القرآن كتاب منزل منه تعالى، مع إضافة أن القرآن مهمين على جميع الكتب السابقة، فهو يكملها ويبيّن مواقع تحريف اليهود والنصارى في كتبهم، فلذا لا بد لهم جميعاً من العمل بالقرآن فقط فيما نسخه من أحكام الكتب السابقة وأيضاً فيما بيّنه من التحريف فيما موجود بأيديهم، مع حث الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن لا يحكم بأهوائهم، بل إذا أراد أن يحكم بينهم فليحكم بما أنزل اللّه تعالى.

أوصاف القرآن الكريم

ثم يذكر اللّه ثلاثة أوصاف للقرآن:

1- {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ} أي القرآن، واللام للعهد، كما أن اللام في

ص: 174

قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ} للجنس، أي جميع الكتب السماوية السابقة، فالقرآن كتاب أنزله اللّه تعالى، وهذا كالتعليل لوجوب العمل به.

2- {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ} وهذا دليل آخر على كونه حقاً؛ لأن الذي أنزل جميع الكتب السماوية هو اللّه العالم الحكيم القادر، فلايعقل التكاذب بينها، بل يبشّر اللاحق منها بالسابق، ويصدق اللاحق منها بالسابق، كما أن الأنبياء كذلك لا تفرقة بينهم ولا تناقض.

3- {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} والهيمنة بمعنى السيطرة، ولازم ذلك كونه مكمّلاً لتلك الكتب ناسخاً لبعض أحكامها ومبيناً التحريفات التي طالتها، فإن القرآن يبيّن الدين الذي هو أصول العقائد وكليات الأخلاق والأحكام - في العبادات والمعاملات وغيرها - ، وهذه أمور ثابتة لا تتغيّر، لذلك كان الدين واحداً كما مرّ، فكل ما خالفه باطل.

ولذا يتبيّن بذلك مواقع الباطل والتحريف من عقائد وأعمال أهل الكتاب وغيرهم، كما أن القرآن قد يشير إلى بعض تحريفاتهم بالخصوص.

مضافاً إلى أن بعض الأحكام الحقة انتهى زمانها فكان لا بد من بيان نسخها، وهذا نظير كتاب الصف الأول الابتدائي وكتاب الجامعة، فإن كتاب الجامعة يصدّق كتاب الصف الأول مع تكميل وزيادة وتغيير حسب تطور الإنسان من طفل جاهل إلى بالغ عالم.

وفي التقريب: «لما كان المقام يوهم اتحاد الديانات من جميع الحيثيات، حيث إنّ الآيات السابقة أفادت تصديق كل نبيّ وكتاب لما سبقه فأية حاجة إذاً لإيمان اليهود والنصارى بالنبي والقرآن؟! تعرّض السياق إلى

ص: 175

اختلاف الشرائع والمناهج في الخصوصيات والمزايا، وإن اتحد الجميع في الأصول والجوهر»(1).

وأما أصل كلمة (المهيمن) فقد قيل: إنها من الأمن قلبت الهمزة هاءً، لأنالمسيطر يوجب الأمن والأمان!

وقوله: {فَاحْكُم بَيْنَهُم} أي بين الناس لا خصوص اليهود، فإنه وإن كان شأن نزول الآيات في قضية قتل أو زنا راجع فيها اليهود رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) طمعاً في أن يحكم بما تهوى أنفسهم خلافاً لحكم التوراة كما مرّ، إلاّ أن خصوصية المورد لا تخصص الوارد.

وقوله: {بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي في القرآن، والمعنى إن أردت أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل اللّه، ولذا فهي لا تنافي قوله في الآية 42: {فَاحْكُم بَيْنَهُ-مْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}، كما لا وجه لتوهم نسخ هذه الآية لتلك؛ لمّا قد مرّ من أن سورة المائدة لا منسوخ فيها، كما أن هذه الآيات سياقها يدل على أنها نزلت دفعة واحدة فلا معنى للنسخ فيها.

وقول: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يدل على أن عدم الحكم بما أنزل اللّه هو حكم بالأهواء فإما حكم اللّه وإما حكم الهوى ولا شق ثالث، وأما ما شاع الآن عند البعض بأنه يحكم حسب العقل وإن خالف حكم اللّه فهذا من المغالطات المفضوحة، إذ العقل لا يخالف حكم اللّه، كيف والعقل حجة باطنة للّه تعالى، نعم قد تلبس الأهواء والاستحسانات الزائفة بلباس العقل فيختفي الهوى بظاهر من التعقل وحينذاك يغوي الشيطان أولياءه.

ص: 176


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 650.

وقوله: {عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أي بدلاً عن الحكم النازل من اللّه تعالى والذي هو الحق، وفي ذلك بيان بطلان الحكم الذي لم ينزله اللّه، إذ لا واسطة بين الحق والباطل قال سبحانه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَٰلُ فَأَنَّىٰتُصْرَفُونَ}(1).

تعدد الشرائع والحكمة فيه

الثاني: قوله تعالى: {لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ...} الآية.

هذا كالتعليل لتعدد الشرائع والكتب.

فأولاً: يتم بيان تعدد الشرائع.

وثانياً: بيان قدرة اللّه على أن يجعل الجميع على نمط واحد، وإنما لم يفعل ذلك بحكمته.

وثالثاً: بيان الحكمة في التعدد وهو الابتلاء.

ورابعاً: الدعوة إلى اختيار الإسلام وقبول أحكامه؛ لأنه الناسخ للشرائع الماضية.

وخامساً: التحذير بأن مرجع الجميع إلى اللّه فيجازيهم على أعمالهم.

1- قوله: {لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أي من اليهود والنصارى والمسلمين، أو لكل من موسى وعيسى‘ ورسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ}(2).

ص: 177


1- سورة يونس، الآية: 32.
2- سورة الشورى، الآية: 13.

وقوله: {شِرْعَةً} أصل الكلمة من شريعة الماء وكذا الطريق إليها، والشريعة هي موضع على شاطئ النهر يهيّأ للشرب، ثم شُبّه به أحكام الدين؛ لأنها المنهل العذب الذي يرتوي منه الناس طريقة عيشهم وفي ذلكحياتهم، ومنها أحكام القتل والزنا في شأن نزول هذه الآيات.

وقوله: {وَمِنْهَاجًا} وهو الطريق الواضح، والظاهر بقرينة السياق أن المراد بالمنهاج هو الكتاب؛ لأن الكتب السماوية واضحة تبين الطريق كما قال: {تِلْكَ ءَايَٰتُ الْكِتَٰبِ الْمُبِينِ}(1)،

وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(2)، فحاصل المعنى لكلٍ من الأنبياء أو الطوائف الثلاث جعلنا أحكاماً وجعلنا عليها منهاجاً هو الكتاب الدال عليها، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «والشرعة والمنهاج سبيل وسنة»(3)، والظاهر أن السنة شرح للشرعة، والسبيل بيان للمنهاج، من اللف والنشر غير المرتّب.

2- وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً} بيان أن اختلاف الشرائع والكتب إنما هو لحكمة وإلاّ فإن اللّه تعالى قادر على أن يجعل الناس كلهم على طريقة واحدة: إما تكويناً بأن يجبرهم على الإيمان كما قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(4)، وإما تشريعاً بأن كان ينزل شريعة واحدة وكتاباً

ص: 178


1- سورة يوسف، الآية: 1.
2- سورة الدخان، الآية: 58.
3- الكافي 2: 29.
4- سورة يونس، الآية: 99.

واحداً، لكن كانت الحكمة تقتضي اختيار الإنسان، لذا لم يجبر أحداً على الإيمان، ولما كانت تقتضي التدرج في الشريعة لذلك أرسل شرائع متعددة ثم نسخ كل سابقة بلاحقتها، بل حتى الشريعة الواحدة تدرج فيها فأنزل أحكاماً في البداية ثم نسخها لمّا انتهى أمدها، حتى كانت شريعة الإسلام خاتمة الشرائع، فلمّا أكملها بالولاية أنزل قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(1).

ولا يخفى أن قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً} تكويناً وتشريعاً فيما يخص بالشريعة بالإكراه عليها أو بعدم تعددها، وهذا لا ينافي خلق الإنسان بكيفية واحدة وبتركيب جسدي ونفسي وعقلي واحد.

3- وقوله: {وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ} بيان وجه الحكمة في تعدد الشرائع والكتب وهو اختبار الناس.

فأولاً: الامتحان يقتضي أن يكون بما هو يناسب الإنسان فيحّمل ما له الطاقة فيه، وأما الامتحان في ما لا طاقة له فيه فليس من الحكمة.

وثانياً: يظهر بالتعدد المؤمن الذي يقبل الشريعة اللاحقة عن الفاسق الذي يرفضها، فكما أنّ كل حكم فيه اختبار كذلك مجموعة الشريعة فيها الاختبار.

4- وقوله: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ} أي وحيث علمتم أن اللّه يختبركم في الشرائع فبادروا إلى قبول الإسلام الذي يتضمن آخر الشرائع، لتنجحوا في الاختبار الإلهي، ولعل جمع الخيرات لأجل أنّ شريعة الإسلام كل حكم

ص: 179


1- سورة المائدة، الآية: 3.

منها خير.

5- وقوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ...} لمّا أمر بالمبادرة إلى قبول الشريعة، وعد وأوعد ببيان أن الجميع مرجعهم إلى حكم اللّه تعالى فيجازيهم على أعمالهم.

وقوله: {فَيُنَبِّئُكُم} أي يخبركم إخبار من يريد الجزاء، وبذلك يفصل بين المبادر المحق والمقصّر المبطل.

الثالث: قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ...} الآية.

تكرّر الأمر بالحكم بما أنزل اللّه والنهي عن اتباع أهوائهم في هذه الآية والآية السابقة، قيل: لعل الفرق أنّ في الآية الأولى حثّاً على العمل بالشريعة الإسلامية؛ لأنها الخيرات التي لا بد من الاستباق إليها، وفي الآية الثانية بيان أن الذين يرفضون الشريعة الإسلامية إنما يضلّهم اللّه بسبب بعض ذنوبهم وفسقهم.

وقوله: {أَنِ احْكُم} استئناف، أو عطف على الكتاب في الآية السابقة، أي أنزلنا إليك الكتاب وأنزلنا إليك أن احكم بينهم، وقيل غير ذلك.

وقوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} أي أن يضلوك، ولا يخفى أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مكلّف بالعمل بجميع الأحكام - إلاّ فيما استثني من اختصاصاته - فأمر اللّه سبحانه ونهيه وتحذيره للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هو لبيان الحكم له، ولذا قيل: إن العصمة وعدم ارتكابه للذنوب لا تعني عدم قدرة المعصوم عليها وعدم تكليفه بتركها، كما أن بيان تكاليف المعصوم له ليس لغواً؛ لأنه

ص: 180

لولا البيان لم يكن هناك تكليف، كما أنه تعليم لسائر الحكّام ولجميع المسلمين الذين يشتركون مع المعصومين في جميع التكاليف، إلاّ فيما استثني بدليل خاص.

وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ...} هذا تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ولذا قال: {فَاعْلَمْ} أي إنّ إعراضهم عن حكمك الحق سببه أن اللّه أراد أن يعاقبهم ببعض ما ارتكبوه من الذنوب الموجبة لفسقهم، فلذا خذلهم ولم يلطف بهم لطفاً يهديهم ليعملوا بما أنزله، وكما قال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ}(1).

وقد مرّ مراراً أن الهداية من اللّه بألطافه بعباده، وأما الضلال فبسبب خذلانه وقطع ألطافه عمّن تمادى في غيّه وعاند، ولا أحد يهتدي من غير هداية اللّه كالأعمى في الطرق الجبليّة الوعرة يجيئه الدليل البصير ويقول له: اعمل كما أقول لك لكي لا تقع في المهالك، فإن أطاعه استمر معه إلى أن يوصله إلى برّ الأمان، وإن رفض الاستماع إليه حاول معه فإن عاند تركه، وبذلك يسقط بسوء اختياره في المهالك ولا ينجو قطعاً.

وقوله: {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} إما بمعنى أن بعض الذنوب كافية للخذلان نظير قوله: {بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَٰطَتْ بِهِ خَطِئَتُهُ فَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(2)، أو بمعنى أن الإضلال نتيجة بعض الذنوب الكبيرة لا كلّها، فإن الذنوب عن غير عناد قد لا توجب قطع ألطاف اللّه

ص: 181


1- سورة المائدة، الآية: 108.
2- سورة البقرة، الآية: 81.

تعالى، أو بمعنى أن سائر الذنوب عقابها في الآخرة والإضلال عقوبة دنيوية تستتبع عقوبات أخروية!

وقوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} بيان أن فسق هؤلاء هو سببإضلالهم، وأن المؤمنين قليلون، فلا ينبغي الأسف على الفساق كما قال تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ}(1).

الرابع: قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا...} الآية.

توبيخ لهم على توليهم وإعراضهم عمّا أنزل اللّه تعالى، ببيان أن الحكم لا يخلو عن أحد أمرين: إما حكم اللّه وإما حكم الجاهلية، فإذا رفضوا حكم اللّه الذي هو الأحسن فقد طلبوا حكم الجاهلية، وفي ذلك تشنيع لأهل الكتاب، فإنهم أولى الناس بترك الجاهلية إلاّ أن أهواءهم أنزلتهم إلى دركات الجهل والجاهلية، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا * أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}(2).

وقوله: {الْجَٰهِلِيَّةِ} أي الملّة الجاهلية؛ لأن الحكم الذي أنزله اللّه هو العدل الملائم لحياة الإنسان، فتركه من الجهل الذي يقدّم فيه القوي لقوته ويظلم فيه الضعيف لضعفه، وهكذا سائر المفاسد المترتبة على الأحكام

ص: 182


1- سورة المائدة، الآية: 26.
2- سورة النساء، الآية: 51-52.

المخالفة لحكم اللّه تعالى.

وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا...} استفهام إنكاري، أي لا حكم أحسن من حكم اللّه.

وقوله: {لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ} أي إنما يعلم الموقنون أن حكم اللّه أحسن الأحكام، وأما غيرهم فالأهواء غطّت على عقولهم فأعمت بصائرهم فيزعمون أن الأحكام التي تكون طبقاً لأهوائهم هي الأحسن، مع أن الأمر ليس كذلك، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»(1)، وفي الآية تعريض بهم بأنهم ليسوا بمؤمنين ولذا لا يوقنون، و(اليقين) نقيض الشك كما أن العلم نقيض الجهل(2)، وأهل الجاهلية في شك من حكم اللّه ويقابلهم المؤمنون قال سبحانه: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَٰبَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ مُرِيبٖ}(3)، ولذا قيل: إن غالب استعمال اليقين في الروايات يراد به العلم المستتبع للعمل دون ما لم يستتبعه، وإن كان المعنى اللغوي أعم.

ص: 183


1- نهج البلاغة، الخطبة: 15.
2- راجع لسان العرب 13: 457.
3- سورة الشورى، الآية: 14.

الآيات 51-53

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ 51 فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٖ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَٰدِمِينَ 52 وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَٰسِرِينَ 53}

51- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} حيث علمتم أن أهل الكتاب يبغون حكم الجاهلية وأنهم ضُلاّل فسّاق ف-{لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ} تحبونهم وتستنصرون بهم وتتبعونهم، إذ {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ} في مقابل المسلمين، وإن كان بينهم أنفسهم عداوة وبغضاء، {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} من المسلمين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يعتبر منهم ويحشر معهم، وذلك ظلم و{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون المسلمين بمولاتهم للكفار.

52- والمنافقون كذلك {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {يُسَٰرِعُونَ فِيهِمْ} يبادرون إلى موالاة اليهود والنصارى، ويعتذرون بأنّهم {يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} من دوائر الدهر فتكون الدولة للكفار

ص: 184

فننتفع حينذاك بمولاة اليهود والنصارى!

لكن لا تنفعهم تلك المولاة {فَعَسَى اللَّهُ} وهذا إيجاد أمل في المؤمنين{أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} النصر للمؤمنين {أَوْ أَمْرٖ مِّنْ عِندِهِ} غير الفتح يُعز به المؤمنين كإجلاء اليهود {فَيُصْبِحُواْ} يصبح الذين في قلوبهم مرض {عَلَىٰ مَا أَسَرُّواْ} أخفوا {فِي أَنفُسِهِمْ} كتمني غلبة الكفار {نَٰدِمِينَ} ندماً على فوات مصالحهم، إذ فاتهم أولياؤهم من الكفار وقد افتضحوا بين المسلمين.

53- {وَيَقُولُ} حينذاك {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} إيماناً حقيقياً والاستفهام للتعجب: {أَهَٰؤُلَاءِ} المنافقون {الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ} أي بالأيمان المغلّظة {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} مع المؤمنين، أي كيف يحلفون بأنهم مع المسلمين والحال أنهم يتولّون الكفار؟ {حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ} موالاتهم للكفار لم تنفعهم في الدنيا وسائر أعمالهم بطلت بسبب نفاقهم في الآخرة {فَأَصْبَحُواْ خَٰسِرِينَ} في الدارين.

بحوث

معنى النهي عن ولاية غير المسلمين

الأول: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ...} الآية.

المعنى حيث علمتم أن هؤلاء لا يريدون الحكم بما أنزل اللّه، بل يطلبون حكم الجاهلية - والذي منه الحكم بصالح الأقوى حتى لو كان مبطلاً - فلذا عليكم الحذر منهم؛ لأنهم لا يريدون إلاّ مصالحهم، فلا يمنعهم مانع من الغدر بكم ونقض عهودكم، فلا تتولوهم قلباً وعملاً؛ لأن التولي القلبي يؤدي إلى التأثر بهم وبالمآل يقودكم إلى النفاق أو الكفر وإلى المعاصي

ص: 185

والفسق، وكذلك التولي العملي يؤدي إلى الخسارة وإلى الندم، فأي نفع فيموالاتهم؟

وهذا لا ينافي التعاهد معهم ضمن اتفاقيات ومواثيق واضحة بعدم التعدي، وكذلك قبولهم في ذمة الإسلام؛ لأن ذلك ليس من التولي الذي هو محبتهم قلباً والتحالف معهم عملاً، بل هو لدفع شرّهم مع كون اليد العليا للمسلمين، ولذا تعاهد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مع اليهود القاطنين في أطراف المدينة، وكذلك صالح المشركين في الحديبية، إذ للمعاهدة إحدى الحسنيين إما يوفون بها وبذلك يأمن شرّهم، وإما ينقضونها فتكون للمسلمين الحجة في إجلائهم أو قتالهم، كما حصل مع بني النضير وبني قريظة حيث نقضوا العهد فتم إجلاء الأولى ومقاتلة الثانية، وكذلك أقر الإسلام الذمة لهم؛ لأن السيطرة تكون للمسلمين مع إيجاد الأمان لأهل الذمة، وفي ذلك تقريبهم إلى الإسلام ولو بعد حين كما حصل لأكثر أهل الذمة حيث أسلموا بالتدريج من غير إكراه لمّا رأوا حسن الإسلام.

والحاصل: أن الولاية بالمحبة والاستنصار تختلف عن المعاهدة وقبول الذمة منهم.

وقوله: {لَا تَتَّخِذُواْ} الاتخاذ من باب الافتعال من الأخذ، فيدل على شدة الأخذ.

وقوله: {أَوْلِيَاءَۘ} أعم من الولاية القلبية ومن الولاية العملية بأن تكون لهم السيطرة والسلطة، وأصل الولاية من القرب، فالناصر والمحب والأقرباء في النسب والحاكم والصديق وأهل الدين الواحد كلهم قريبون للإنسان

ص: 186

من جهة النصرة أو المحبة أو النسب أو السلطة أو الصداقة أو الدين.وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ} أي في مقابلة المسلمين كلّهم يد واحدة مع شدة العداوة بين اليهود والنصارى من جهة وبين اليهود أنفسهم وبين النصارى أنفسهم من جهة ثانية، ولذا نشاهد اتحادهم الآن ضد المسلمين رغم اختلافاتهم الشديدة فيما بينهم.

وقوله: {يَتَوَلَّهُم} من التولي بمعنى أخذ الولي، فيتولاّهم بمعنى يتخذهم أولياء.

وقوله: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي يكون منهم عملاً ونتيجةً، أما عملاً فإنه لا فرق بين المنافق والكافر في كونهما خطراً على المسلمين بل المنافق أخطر؛ لأنه عدو باطني ينخر من الداخل، وكل من يتولى جمعاً فإن هواه معهم لا مع قومه ومجتمعه وأهل دينه، وأما نتيجةً فلأنه كافر باطناً ويحشر معهم إلى النار.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} بيان لأن هؤلاء بتوليهم ظلموا أنفسهم ببخسها حقها في الإيمان والجنة، وظلموا الآخرين بتوجيه الخطر إليهم، ولذلك فإن اللّه لا يهديهم بسبب سوء عملهم.

الثاني: قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}.

نقض لما يعتذر به الذين يتولون اليهود والنصارى! وبيان أن منشأ ذلك هو مرض قلوبهم وذلك بالشك والكفر، وفي ذلك تحذير للمؤمنين منهم وأيضاً تحذير من مرض القلب، فعلى الإنسان أن يراقب نفسه لئلا يبتلى به،

ص: 187

فإن الانحرافات العملية تنشأ من الانحراف في القلب، وأما عذرهم فهو أخذالحيطة بمصادقة كلا الطرفين حتى إذا تغلّب أحدهما كانوا في أمان، وأما نقضه فإنه لا معنى للمداهنة على حساب الحق، فعلى الإنسان أن يتبع الحق حتى لو كان فيه الضرر وأن يترك الباطل حتى لو كان فيه النفع، قال سبحانه: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}(1)، هذا مضافاً إلى أن التذبذب سبب لفقدان المصلحة والخسارة قال تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}(2).

معنى مرض القلب

وقوله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} وذلك المرض هو الشك أو الكفر، ويقابله القلب السليم قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(3)، وقال: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٖ سَلِيمٍ}(4)، وكلّما أطلق مرض القلب أريد به المنافقون، وأحياناً يعطف المنافق على مريض القلب، فهناك يراد بالمرض ضعف الإيمان، وكأن المنافق ميّت القلب، قال سبحانه: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ}(5)، وقال: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(6).

ص: 188


1- سورة يونس، الآية: 35.
2- سورة النساء، الآية: 143.
3- سورة الشعراء، الآية: 89.
4- سورة الصافات، الآية: 84.
5- سورة الأنفال، الآية: 49.
6- سورة الأحزاب، الآية: 12.

وقوله: {يُسَٰرِعُونَ فِيهِمْ} لأنهم منهم فالمسارعة فيهم ولذا لم يقل(يسارعون إليهم)؛ لأن المسارعة إن كانت من الخارج كانت إليهم، وإن كانت من الداخل كانت فيهم، وفيه تأكيد لقوله: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.

وقوله: {يَقُولُونَ} أي هذا وجه اعتذارهم للمسارعة فيهم.

وقوله: {دَائِرَةٌ} أي دوران الحال وصروف الزمان، فقد تكون الدولة للكفار، سواء كانوا أهل الكتاب فنأمن جانبهم لأنا أولياؤهم، أم كانت الدولة لكفار آخرين فنستقوي بهؤلاء.

الثالث: قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٖ مِّنْ عِندِهِ...} الآية.

هذا نقض لعذرهم وإبطال له.

وقوله: {فَعَسَى} قد مرّ أن المعنى الحقيقي للرجاء يستلزم الجهل ولذا فاللّه تعالى منزه عنه، فلا يراد بالإرادة الجدية هذا المعنى الحقيقي، بل هو إبهام لغرض إيجاد الأمل في قلوب المؤمنين وتخويف المنافقين، ولعل الغرض من الإبهام هو أن لا تخور عزيمة المؤمنين فيتركوا العمل أو يتماهلوا فيه.

وقوله: {بِالْفَتْحِ} أي النصر للمسلمين على الأعداء، وهذا عادة يطلق فيما لو كان انتصاراً عسكرياً سواء بحرب أم باستسلام العدوّ، ومن مصاديقه فتح حصون بني قريظة وخيبر.

وقوله: {أَوْ أَمْرٖ مِّنْ عِندِهِ} أي من غير الفتح، كإعزاز المسلمين وتكثير عددهم بدخول الناس في دين اللّه أفواجاً وجلاء الكفار، ومن مصاديقه

ص: 189

إجلاء بني النضير من أطراف المدينة.

وقوله: {عَلَىٰ مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ} كأنّ المقصود موالاة الكفار قلباً؛ لأن هؤلاء المنافقين كانوا يتولونهم قلباً لكن يغلفون ذلك بأنهم يحتاطون خوفاً من أن تصيبهم دائرة، ككل مبطل يخفي في نفسه أموراً ولكي لا يفتضح يعتذر بأعذار واهية.

وقوله: {نَٰدِمِينَ} ليس ندماً عن توبة، بل ندماً لأنهم فاتتهم مصالحهم، فبانتصار المسلمين وعزتهم يخسر المنافقون الطرفين؛ لأن الكفار انهزموا، ولأن المسلمين عرفوهم بالنفاق.

الرابع: قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ...} الآية.

أي حين الفتح أو أمر من عند اللّه وافتضاح المنافقين حينذاك يقول المؤمنون هذا الكلام، ولعل غرضهم أولاً بيان أهمية اتّباع حكم اللّه تعالى حيث يتبيّن في الدنيا قبل الآخرة أنه كان صحيحاً ومطابقاً للحكمة، وثانياً: تقوية لإيمان المؤمنين وتضعيفاً لجانب النفاق، فإن الإيمان درجات كما أن النفاق دركات، فكلّما ظهرت صحة الأحكام ازداد المؤمنون إيماناً وهدى، ولعل بعض ضعاف الإيمان يزول الريب والشك من قلوبهم.

وقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} الظاهر أن هذا القول في ما بينهم، أي يقول بعضهم لبعض وكأنه من قبيل التواصي بالحق والتحدث بنعمة اللّه على أنفسهم.

وقوله: {أَهَٰؤُلَاءِ} الاستفهام للتعجب من سوء عاقبة المنافقين حيث

ص: 190

كان حتفهم في تدبيرهم، حيث أرادوا أن يأمنوا الجانبين فإذا بهم قد خسروهما،وكذلك جرأتهم على اللّه تعالى بالحلف الكاذب.

وقوله: {جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى أيمانهم المغلّظة، فالمنافقون يحلفون كذباً أنهم مع المؤمنين لكنهم قلباً وعملاً مع الكفار، وحين نصر المؤمنين يتبيّن كذب المنافقين على اللّه تعالى وأنهم كانوا مع الكفار.

وقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ} إما من تتمة كلام الذين آمنوا، فالمعنى توليهم للكفار لم ينفعهم في الدنيا، أو استئناف من اللّه تعالى، أي أعمال المنافقين تبطل في الآخرة بسبب نفاقهم.

وقوله: {فَأَصْبَحُواْ خَٰسِرِينَ} أما في الدنيا فبافتضاحهم، وأما في الآخرة فبالنار، ولا يخفى أن حبط العمل هو سبب تلك الخسارة ولذا استعمل فاء الترتيب، وبعبارة أخرى فإن حبط العمل وإن كان هو خسارة إلاّ أن الخسارة الكبرى هي ما يترتب على الحبط.

ص: 191

الآيات 54-56

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ 54 إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ 55 وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَٰلِبُونَ 56}

54- ثم يبيّن اللّه تعالى أن النهي عن موالاة اليهود والنصارى إنما هو إرشاد للمسلمين، وإلاّ فالدين لا يحتاج إليهم ف-{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ}يرجع وينقلب {عَن دِينِهِ} سواء ارتداداً بالكفر أم بالنفاق عبر تولي الكفار، فلا يضر دين اللّه شيئاً، إذ لا يخلي اللّه دينه عن أنصار ينصرونه {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ} جماعة موصوفين بالأوصاف التالية:

أ- {يُحِبُّهُمْ} اللّه تعالى بسبب طهارة قلوبهم وصحة أعمالهم.

ب- {وَيُحِبُّونَهُ} قلباً فيظهر ذلك في أعمالهم بطاعته.

ج- {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ذلّا ليس عن هوان وإنما عن تواضع وخفض الجناح.

د- {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ} أشداء عليهم لا يخضعون لهم.

ص: 192

ه- {يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لنصر دينه حتى مع قراباتهم الكفار فلا ولاية لهم مع الكفار تمنعهم عن جهادهم.

د- {وَلَا يَخَافُونَ} في اللّه ودينه والجهاد {لَوْمَةَ لَائِمٖ} بل يمضون في دينهم وجهادهم امتثالاً لأمر اللّه تعالى فلا يهتمون بما يثبّط عن ذلك.

{ذَٰلِكَ} أي الاتّصاف بهذه الصفات {فَضْلُ اللَّهِ} تفضّل عليهم وهداهم إليها {يُؤْتِيهِ} يؤتي اللّه ذلك الفضل {مَن يَشَاءُ} ممن اهتدى بحسن اختيار فأطاع اللّه فصار قابلاً لذلك الفضل، {وَاللَّهُ وَٰسِعٌ} عطاءً فلا تنقص خزائنه ليبخل بها {عَلِيمٌ} بالموضع الذي يجعل فضله فيه، فليس منعه بخلاً ولا عطاؤه اعتباطاً.

55- وحيث نُهيتم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ف-{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ} بالولاية التامة تكويناً وتشريعاً {اللَّهُ} فولايته بالذات {وَرَسُولُهُ} حيث إن ولايته بجعل من اللّه، {وَ} من بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} الإمام علي (عليه السلام) والأئمة من ذريته (عليهم السلام) وهم موصوفون بأنهم {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ} أي بإعطاء الصدقة في حال الركوع.

56- {وَمَن} يتخذهم الولي دون غيرهم ف- {يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} المذكورين في الآية السابقة {فَ-} هو من حزب اللّه و{إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} الجماعة المرتبطة باللّه {هُمُ الْغَٰلِبُونَ} على سواهم لا من اتخذ الكفار أولياء ليأمن؟!

بحوث

الأول: حاصل هذه الآيات أنه لما نهى اللّه تعالى عن اتخاذ اليهود والنصارى

ص: 193

أولياء بيّن أن من يخالف هذا النهي فإنما يضرّ نفسه فلا يتضرر دين اللّه بذلك؛ لأن اللّه ناصر دينه فإن رفضه هؤلاء فاللّه يقيّض أناساً آخرين يكونون حملةالدين وأنصاراً له كما قال: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ}(1) وقال: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَٰلَكُم}(2)، ثم يذكر اللّه تعالى أوصاف أولئك القوم تحريضاً وحثاً للمؤمنين كي يتصفوا بها، وبعد ذلك يبيّن اللّه أن الولاية التامة له تعالى وقد جعلها لرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وللإمام علي (عليه السلام) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، ثم يأمر باتخاذهم أولياء ليكونوا من حزب اللّه الغالب، إذ إنهم الذين يرثون الأرض ثم يرثون الفردوس، لا ما توهمه المنافقون من غلبة الكفار فتولّهم ليأمنوهم!

معنى الارتداد ومصاديقه

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ}.

(الارتداد) من باب الافتعال من الرد، وهو بمعنى الرجوع عن الطريق الذي ذهب فيه، فالذي أظهر الإسلام دخل في الصراط المستقيم لكنه بالنفاق أو الكفر يخرج عنه ويرجع على قفاه، بل حتى بارتكاب المعاصي، قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّٰصِرِينَ}(3)، وقال سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَ-ن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ}(4).

ص: 194


1- سورة الأنعام، الآية: 89.
2- سورة محمد، الآية: 38.
3- سورة آل عمران، الآية: 149-150.
4- سورة آل عمران، الآية: 144.

وقال: {يَٰقَوْمِ ادْخُلُواْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ}(1)، وغير خفي أن الارتداد كما يحصل بالكفركذلك يحصل بالنفاق؛ لأن النفاق كفر باطني وإن كان المنافق محكوماً بالإسلام ظاهراً، وقد روى المسلمون حتى المخالفون في صحاحهم ارتداد الأصحاب، ففي البخاري في باب الحوض: أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي! فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى»(2)، فالارتداد معناه أعم كما ظهر من الآيات السابقة، نعم في عرف المتشرعة صار حقيقة متشرعية في الخروج عن الإسلام وإظهار الكفر، لكن لا تحمل ألفاظ القرآن على الاصطلاحات المتأخرة، وعليه فمفهوم هذه الآية المباركة أعم من الارتداد عن الإسلام إلى الكفر أو النفاق أو المعصية، وإن كان شأن النزول في من اتخذوا اليهود والنصارى أولياء وبذلك صار منهم.

الثالث: قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ}

هذا جزاء الشرط في قوله: {مَن يَرْتَدَّ}، وهو في الواقع تعليل للجزاء المقدّر، فالمعنى من يرتد فلا يضرّ اللّه شيئاً؛ لأنه القادر على نصر دينه بأن يأتي بقوم ينصرونه، فما دام التكوين بالخلق بيد اللّه تعالى ومادام الدين الذي ارتضاه اللّه هو الإسلام حصراً فلذلك كان من الحكمة نصر ذلك الدين بخلق ناس ينصرونه،

ص: 195


1- سورة المائدة، الآية: 21.
2- البخاري 7: 208.

قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1)، وقال: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(2)،وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَئًْا}(3).

الذين يأتي اللّه بهم بدلاً عن المرتدين

وقوله: {فَسَوْفَ} للمستقبل البعيد يدل على أن هناك فاصلة زمنية بين الارتداد وبين إتيان اللّه بالقوم، فلا تنطبق الآية على الحروب التي حدثت في زمن أبي بكر؛ لأنه تمت محاربة الذين ارتدوا وغيرهم فوراً ومن غير فاصل زماني، بل الآية أكثر انطباقاً على الارتداد الذي حصل عن ولاية الإمام علي (عليه السلام) ، بل السياق يدل عليه حيث اتبع هذه الآية بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ...}(4)، كما دلّ على هذا الارتداد حديث الحوض الذي ذكرناه قبل قليل، وبفاصل زمني جاء اللّه تعالى بقوم من المؤمنين نصروا الإمام علياً (عليه السلام) في الجمل وصفين والنهروان، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال يوم البصرة: «واللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم»(5)،

وعن الإمام الباقر والصادق‘ أنهما قالا: «هم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين

ص: 196


1- سورة التوبة، الآية: 33.
2- سورة الصف، الآية: 8.
3- سورة النور، الآية: 55.
4- سورة المائدة، الآية: 55.
5- التبيان 3: 555-556؛ مجمع البيان 3: 513.

والمارقين»(1).

سؤال: إن بعض من قاتل مع أمير المؤمنين (عليه السلام) خالفه بعد ذلك،كالخوارج فلا تنطبق عليهم الأوصاف المذكورة في الآية؟

والجواب: إنّ الآية لا تدل على أن كل من حارب مع الإمام علي (عليه السلام) هو مؤمن مستجمع للصفات، بل ذكرت أن اللّه سيأتي بقوم يتصفون بهذه الصفات ويكفي في انطباق الآية وجود مجموعة مؤمنة مخلصة في أصحابه الذين قاتلوا معه، فالمعنى أنّ اللّه سيأتي بقوم هكذا أوصافهم ويكفي في صحة المعنى انطباق الأوصاف على مجموعة من أنصاره (عليه السلام) ، كما أن اللّه تعالى مدح أنصار النبي المتصفين بمجموعة من الصفات التي ذكرها مع وجود منافقين في المدينة فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...}(2)، فالآية لا تنطبق إلاّ على المؤمنين لا المنافقين فيهم.

ثم إن شأن نزول الآية في أنصار الإمام علي (عليه السلام) ، وهذا لا ينافي شمول الآية وعمومها، فكلّما ارتد الناس في زمان أتى اللّه تعالى بقوم ينصرون دينه في زمان آخر، ولذا كان من مصاديق الآية أنصار الإمام المهدي، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن صاحب هذا الأمر محفوظ له أصحابه، لو ذهب الناس جميعاً أتى اللّه له بأصحابه، وهم الذين قال اللّه عزّ وجلّ: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ}(3) وهم الذين قال اللّه عزّ

ص: 197


1- مجمع البيان 3: 512؛ التبيان 3: 555.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- سورة الأنعام، الآية: 89.

وجلّ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ...}»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «الموالي» (2)، وهذا مصداق آخر فلمّا ارتد بعض العرب جاء اللّه بغيرهم لنصرة دينهم.

أوصاف المؤمنين

الرابع: قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ...} الآية.

هذا تعريض بأولئك المرتدين وبيان سبب ارتدادهم، كما هو توصيف للمؤمنين الحق وحث للناس على الاتصاف بأوصافهم وتلك الأوصاف هي:

1- قوله: {يُحِبُّهُمْ} وحب اللّه لهم وإن كان خارجاً عن اختيارهم، إلاّ أن أسبابه بيدهم، وذلك بصالح الأعمال، فإن اللّه لا يحب أحداً اعتباطاً وإنما يحبّه لحسن عمله قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(3)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين}(4)، وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(5)، وقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(6)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(7)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(8) وغيرها، وفي المقابل إن اللّه لا يحب من

ص: 198


1- الغيبة للنعماني: 316؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 416.
2- تفسير العياشي 1: 327؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 417.
3- سورة البقرة، الآية: 195.
4- سورة البقرة، الآية: 222.
5- سورة آل عمران، الآية: 76.
6- سورة آل عمران، الآية: 146
7- سورة آل عمران، الآية: 159
8- سورة الحجرات، الآية: 9.

يتصف بصفات السوء قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٍ}(1)،وقال: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(2)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(3)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}(4)، وقال: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(5)، ثم بيّن القاعدة العامة في حب اللّه فقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}(6)، ولا يخفى أن اللّه ليس محلاً للحوادث ولا للكيفيات النفسانية، فحبُّه بمعنى تقريبه للعبد وإثابته كما مرّ مراراً.

2- قوله: {وَيُحِبُّونَهُ} محبتهم له في القلب ثم تظهر في العمل، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(7)، فراجع(8).

3- قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، الذل قد يكون عن هوان وذلك مرفوض للمؤمن مطلقاً، وقد يكون عن تواضع للمؤمنين وهو محبوب ومطلوب، قال سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}(9)، وقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ

ص: 199


1- سورة الحديد، الآية: 23.
2- سورة الشورى، الآية: 40.
3- سورة القصص، الآية: 77.
4- سورة الأنفال، الآية: 58.
5- سورة الأعراف، الآية: 55.
6- سورة آل عمران، الآية: 31.
7- سورة البقرة، الآية: 165.
8- التفكر في القرآن 2: 204-206.
9- سورة الحجر، الآية: 88.

اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(1)، وقال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}(2)، والحاصل: هؤلاء يتواضعون للمؤمنين بالعطف عليهم واحترامهم وأداء حقوقهم.

4- قوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ} أي مترفعين عليهم لا يخضعون لهم، وهذا لا ينافي غلبة الكفار أحياناً واستهانتهم بالمؤمنين كقتلهم الأنبياء والأوصياء؛ لأن الانهزام لا يعني الذلة، ولذا يقال: قُتِل بعزة وكرامة حيث لم يخضع للظالمين.

قال سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(3)، وهذا لا ينافي المعاهدات مع الكفار ولا أداء حقوق أهل الذمة؛ لأن تلك المعاهدات التي تؤمّن مصالح المسلمين عزة لهم لا ذلة، كما أن أهل الذمة خاضعون للمسلمين، نعم المعاهدات التي تسلب المسلمين حقوقهم وتجعل للكفار سيطرة عليهم مرفوضة وباطلة.

5- قوله: {يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قيل: إنما ذكر الجهاد بخصوصه مع كثرة الطاعات كالصلاة والزكاة بل هو داخل في {يُحِبُّونَهُ}، لأجل مناسبة الجهاد للمقام، حيث إنه بيان انتصار اللّه تعالى لدينه عبر هؤلاء، ولا يكون ذلك إلاّ بالجهاد عادة.

6- قوله: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ} الظاهر أنه راجع إلى كل الصفات

ص: 200


1- سورة الشعراء، الآية: 215.
2- سورة الإسراء، الآية: 24.
3- سورة الفتح، الآية: 29.

الماضية؛ لأن المثبّطين كثيرون وقد يلومون المؤمنين على طاعتهم للّه، إذ قد يكون في الطاعة تحمل المكاره وإنفاق الأموال والمخاطرة بالنفوس وخاصةفي الجهاد فالمثبّطون يلومون وخاصة حين الأضرار، وبعض الناس قد لا يهمّه صعوبة الطاعات لكن يتأثر بلوم الناس؛ لأن العامل النفسي قد يكون أكبر أثراً من العامل الجسدي والمالي، لكن الناجحين هم الذين يختارون الطريق الصحيح ثم لا يبالون بالقيل والقال وبالمثبطات التي لا منشأ لها إلاّ الخوف على المصالح الدنيوية مع عدم مراعاة الحقائق الشرعية، ثم إن هذا اللوم قد يكون من الكفار وقد يكون من المنافقين وقد يكون من المسلمين.

الخامس: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}.

بعد أن يبيّن أن اللّه تعالى ينصر دينه بهؤلاء يبين أنهم إنما اتصفوا بتلك الصفات لفضل اللّه عليهم لما أخلصوا النية وأحسنوا العمل، فإن كل خير منه تعالى إلاّ أنه قد اشترط بعضه بحسن الإنسان نفسه فيما جعله فيه مختاراً، بل كل نتيجة لا تترتب على مقدماتها إلاّ بإذن اللّه تعالى كما مرّ مراراً.

و{فَضْلُ} هو زيادة الخير، فإن للّه عطاءين: عطاء عام للجميع كأصل الخلق والرزق والسمع والبصر ونحو ذلك مما يشترك فيه عامة الناس، وعطاء خاص للبعض كزيادة الرزق والإيمان ونحو ذلك، وفضله في الإيمان والعمل الصالح يشترط بحسن اختيار الإنسان، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَاهُمْ}(1).

ص: 201


1- سورة محمد، الآية: 17.

وقوله: {وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} لبيان أن فضل اللّه غير منحصر ولا محدود فلا بخل فيه، وإنما حكمة اللّه تعالى اقتضت تخصيصه، فاللّه واسع عطاءً وهوكريم جواد ولا تنفد خزائنه؛ لأنه يخلق ما يشاء كيفما يشاء فقوله: {عَلِيمٌ} لبيان أنه يعلم موارد ذلك الفضل فيعطيه بحكمة، فإن منع فليس إلاّ لعدم قابلية الإنسان له، أو لعدم المصلحة.

المقصود بآية (إنما وليكم اللّه...)

السادس: قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ...} الآية.

لمّا نهى اللّه تعالى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وحذر عن الارتداد الذي من مصاديقه تولي الكفار، بعد ذلك بيّن أن الولي الحقيقي الذي هو أولى بالمؤمنين ويتولى شؤونهم تكويناً وتشريعاً هو اللّه سبحانه بولاية ذاتية، والرسول والأئمة بولاية من اللّه تعالى.

وقوله: {إِنَّمَا} للحصر فتدل على أن المقصود من الولاية في هذه الآية هي الولاية التامة من جميع الجهات، أي ولاية السلطة والنصرة والمحبة مجتمعة خاصة بهؤلاء، فلا بد للمؤمنين من اتخاذهم أولياء دون غيرهم، وأما الولاية الجزئية بالنصرة والمحبة فهي عامة لكل المؤمنين كما قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(1)، وق--ال: {وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(2)، وعليه فالحصر في الآية دليل على اختصاص اللّه ورسوله والأئمة بولاية لا توجد لغيرهم وليست إلا الولاية

ص: 202


1- سورة التوبة، الآية: 71.
2- سورة الأنفال، الآية: 72.

التامة كما ذكرنا.

الولاية التكوينية

ثم إن ولاية اللّه هي ولاية بالذات؛ لأنه الخالق المهمين فالجميع تحتسلطته من كل الجهات، فولايته تكوينية بمعنى خلقه وتدبيره بما يشاء، وتشريعية بمعنى إنزاله الكتب وإرساله الرسل وتقنين القوانين.

ثم إن اللّه سبحانه شاء أن يجعل ولاية لرسوله وللأئمة، فولايتهم إنما هي بإذن اللّه تعالى فهي في طول ولايته؛ لأنه عباد مكرمون، وقد جعل لهم الولاية التكوينية، بمعنى أنه أذن لهم في التصرف في الكون بإظهار المعاجز تارة وبغيرها أخرى، فإن كل قدرة لأي إنسان إنما هي من اللّه تعالى، إذ لا حول ولا قوة إلاّ باللّه، ولكن الحكمة اقتضت محدودية قدرة عامة الناس بالمقدار المعلوم إلاّ أنه أراد أن يعطي للرسول والأئمة قدرة في التصرف في الكون أكثر مما أعطاه لغيرهم، كما أنه تعالى جعل لهم الولاية التشريعية، أما الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فقد أدّبه اللّه بآدابه وعصمه وكشف له الحقائق ففوّض إليه التشريع تشريفاً له، وأما الأئمة (عليهم السلام) فحيث قد كمل الدين ولا تشريع بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فولايتهم التشريعية بمعنى التفويض إليهم في الحكم بظاهر الشريعة أو بعلمهم الذي ألهمه اللّه إليهم، كما فوّض إليهم بيان العلوم والأحكام بما أرادوا وحسب الحكمة والمصلحة، وقد ذكر تفصيل ذلك العلامة المجلسي رضوان اللّه عليه في مرآة العقول(1)، وقد أشرنا إلى شطر منه في شرح أصول الكافي(2)، فراجع.

ص: 203


1- مرآة العقول 3: 145-146.
2- شرح أصول الكافي، للمؤلف 4: 193-194.

التصدق بالخاتم

وقوله: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} شأن نزولها الإمام علي (عليه السلام) لمّا تصدّق وهو في الصلاة بحلّته مرّة وبخاتمه مرّة أخرى فنزلت هذه الآية، وقد تواتر حديث التصدق بالخاتم، فقد روته العامة والخاصة في أحاديث كثيرة(1)، منها: عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إن رهطاً من اليهود أسلموا - وذكر بعضهم - فأتوا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا نبي اللّه، إن موسى (عليه السلام) أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيّك يا رسول اللّه؟ ومن وليّنا بعدك؟ فنزلت هذه الآية، ثم قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : قوموا، فقاموا فأتوا المسجد، فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل أما أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم هذا الخاتم، قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلّي، قال: على أيّ حالٍ أعطاك؟ قال: راكعاً، فكبّر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وكبّر أهل المسجد، فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : عليّ بن أبي طالب وليّكم بعدي، قالوا: رضينا باللّه رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد (صلی الله عليه وآله وسلم) نبياً، وبعليّ بن أبي طالب صلوات اللّه وسلامه عليه ولياً، فأنزل اللّه {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...} الآية(2).

وأما جمع {الَّذِينَ} مع أن شأن النزول واحد، فلأن الآية تشمل سائر الأئمة (عليهم السلام) من ذرية الإمام علي (عليه السلام) من الإمام الحسن (عليه السلام) إلى الإمام المهدي فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الآية، وصيّر نعمة أولاده بنعمته، فكلّ من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، فيتصدقون وهم راكعون»(3).

ص: 204


1- راجع روايات الشيعة في البرهان في تفسير القرآن 3: 418-435، وروايات غير الشيعة في الدر المنثور 2: 293.
2- أمالي الشيخ الصدوق: 124.
3- الكافي 1: 289.

شمول الآية لجميع الأئمة (عليهم السلام)

وأما إشكال البعض بأن علياً (عليه السلام) واحد والآية ذكرت {الَّذِينَ} فباطل... .أولاً: لكثرة استعمال الجمع مع إرادة الواحد تعظيماً أو لجهة أخرى كقوله: {فَإِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن تُرَابٖ}(1)، مع أنه لا خالق إلا اللّه قال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَٰلِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}(2)، وكقوله: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}(3) مع أن القائل واحد هو عبد اللّه بن أبيّ، وكقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}(4) والقائل واحد هم نعيم بن مسعود.

وثانياً: إنه شاع استعمال العام مع كونه ينطبق على واحد لغرض من الأغراض، هذا فضلاً عمّا ذكرناه من دخول سائر الأئمة في الآية تنزيلاً لا مجرد تأويل.

وقوله: {يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ} إنما ذكرهما بالخصوص؛ لأن واقعة التصدق بالخاتم كانت في حال الصلاة، مع أنهما أفضل عبادتين قرنهما اللّه عادة معاً، فإحداهما تطهر النفس والأخرى تطهر المال، ثم إن قوله: {الزَّكَوٰةَ} لأن الإنفاق هو زكاة، فالزكاة في القرآن لا تختص بالزكاة المصطلحة، فإن القرآن أطلق عليها الصدقات فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا...} الآية(5)، بل الزكاة تشمل كل إنفاق سواء كان الزكاة المتعارفة أم الخمس أم الصدقات المستحبة، ولذا كثر ذكرها

ص: 205


1- سورة الحج، الآية: 5.
2- سورة فاطر، الآية: 3.
3- سورة المنافقون، الآية: 8.
4- سورة آل عمران، الآية: 173.
5- سورة التوبة، الآية: 60.

في الآيات المكية مع أن الزكاة المصطلحة لم تشرّع إلا في المدينةالمنوّرة، ولذا تجد الفقهاء الأوائل كانوا يدمجون بحث الخمس في كتاب الزكاة، وقد شاع بين الفقهاء قولهم ببدلية الخمس عن الزكاة، ولذا أجروا أحكام الزكاة على الخمس، إلاّ فيما استثني بالدليل الخاص.

وأما ما قيل من أن الإمام (عليه السلام) دفع الخاتم عن الزكاة الواجبة عليه فبعيدٌ جداً؛ لأنه آنذاك لم يكن له شيء من الأعيان الزكوية.

وقوله: {وَهُمْ رَٰكِعُونَ} حال عن {وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ} أي إعطاؤهم الزكاة كان في حال الركوع.

وأما محاولة البعض صرف الآية عن ظاهرها - إنكاراً لفضل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وولايته - بجعل الواو عاطفة! فباطل جداً، إذ لا معنى لذكر الركوع بعد ذكر الصلاة مع وضوح أنه لم يشرع الركوع بنفسه ومنفصلاً عن الصلاة، كما أنه خلاف الظاهر وخلاف الأحاديث المتواترة في نزول الآية في تصدق الإمام علي (عليه السلام) بخاتمه في حالة الركوع.

السابع: قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَٰلِبُونَ}.

بعد أن ذكر في الآيات السابقة أن من يتول اليهود والنصارى يكون منهم وأنه ظالم وأنه يورث الخسارة حيث قال: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} وقال: {حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَٰسِرِينَ}، بعد ذلك يبيّن أن تولّي اللّه ورسوله والأئمة يكون سبباً لدخول الإنسان في حزب اللّه تعالى فلا يكون من الكفار ولا يكون ظالماً، وإن الدخول في حزب اللّه هو سبب

ص: 206

الغلبة فلا يكون خاسراً كأولئك.

وقوله: {يَتَوَلَّ} أي يتخذه ولياً من باب التفعّل الذي يدل على المطاوعة فإن اللّه ورسوله والأئمة هم الولي شاء الإنسان أم أبى، لكنه قد يقبل هذه الولاية قلباً وعملاً فهو تولّيهم، وقد يرفضها ويقبل ولاية غيرهم فهو تولّي أولئك.

وقوله: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} المذكورين في الآية السابقة الموصوفين بتلك الأوصاف.

معنى حزب اللّه

وقوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} أي من يتولاهم فهو من حزب اللّه، وإن حزب اللّه هم الغالبون، ولذا لم يقل: (فإنهم الغالبون) بل أقام الاسم الظاهر مقام الضمير - إذ لو كان الخبر أو الجزاء جملة لزم اشتماله على ضمير يعود للمبتدأ أو الشرط - لأجل بيان العلة في الغلبة وللاختصار في الكلام، وتعظيماً لشأن هؤلاء بأنهم مرتبطون باللّه تعالى.

قال الخليل: «الحزب أصحاب الرجل على رأيه وأمره، والمؤمنون حزب اللّه، والكافرون حزب الشيطان، وكل طائفة تكون أهواؤهم واحدة فهم حزب»(1)، وليس في معنى الحزب الغلظة كما زعمه بعضهم.

ثم إن تولّي اللّه تعالى هو الاعتقاد به والائتمار بأوامره والانتهاء بزواجره، وتولي الرسول والأئمة (عليهم السلام) كذلك بإضافة التأسي بهم والقبول بسلطتهم وعدم منازعتهم فيها.

وقوله: {الْغَٰلِبُونَ} في الآخرة واضح، وفي الدنيا بكون العاقبة لهم،

ص: 207


1- كتاب العين 3: 164.

وهذا لا ينافي سيطرة الكفار أحياناً فإنها سيطرة ظاهرية زائلة قليلة المدة، قالسبحان-ه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1)، وقال سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(2)، وقال تعال-ى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}(3)، وقال سبحانه: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَٰنِ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(4).

ص: 208


1- سورة الصف، الآية: 8-9.
2- سورة المجادلة، الآية: 21.
3- سورة آل عمران، الآية: 12.
4- سورة المجادلة، الآية: 19.

الآيتان 57-58

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 57 وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ 58}

57- ثم ينهى اللّه تعالى عن اتخاذ المنافقين وسائر الكفار أولياء فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ} المنافقين {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا} فآمنوا بلسانهم وكفروا بقلوبهم، وذلك استهزاؤهم بالدين {وَلَعِبًا} بأن تهاونوا فيه واتخذوه ملعبة {مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ} أي كانوا أهل كتاب ثم أسلموا نفاقاً، {وَالْكُفَّارَ} أي لا تتخذوا سائر الكفار كالمشركين {أَوْلِيَاءَ} يتولون أموركم بالسلطة والنصرة وكذا المحبة، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في نهيه عن ولايتهم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} حقاً، فاتخاذهم أولياء عدم تقوى يكشف عن عدم إيمان.

58- وكيف تتخذونهم أولياء مع أنهم يسخرون من أهم عباداتكم، بل لا بد من أن تقابلوا ذلك بمعاداتهم لا بولايتهم، {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ} أذّن المؤذنّ لها {اتَّخَذُوهَا} اتخذوا الصلاة أو النداء {هُزُوًا} يتغامزون ويتضاحكون منها {وَلَعِبًا} وسيلة للّعب فيما بينهم، {ذَٰلِكَ} الاستهزاء واللعب {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} أي سفهاء، وسفههم أدّى

ص: 209

بهم إلى الجهل بالحق، ولو كانوا ذوي عقول لمنعهم عقلهم عن ذلك، فكيفتتخذون السفيه ولياً؟!

بحوث

الأول: الظاهر أنّ هاتين الآيتين كالمكمّل للآيات السابقة، فإن تلك قد نهت عن ولاية اليهود والنصارى وحذرت من الارتداد وأمرت بتولي اللّه ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، فهاتان الآيتان تذكران المنافقين وسائر الكفار وتنهيان عن ولايتهم، وهذا هو الأقرب بقرينة وصفهم بالنفاق في الآية 61.

وقيل: هما تعميم بعد تخصيص، أي تمّ النهي عن تولي اليهود والنصارى في الآيات السابقة، وفي هاتين يتم النهي عن تولّي عموم أهل الكتاب حتى لو لم يكونوا يهوداً أو نصارى وكذلك عامة الكفّار.

ويحتمل أن تكون الولاية في الآيات السابقة هي ولاية السلطة، وأما الولاية هنا فولاية المحبة.

كما يحتمل أن يكون تأكيداً لما مضى بإضافة علة للنهي، وهي الاستهزاء واللعب بالدين والصلاة.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا...} الآية.

(الهزء) هو السخرية، سواء كان بقول أم فعل، في مزح أو جدّ، خفية أم علانية، وأما تعريف الراغب له بأنه: «مزح في خفية»(1)، فليس بصحيح البتة.

ص: 210


1- مفردات الراغب: 841.

و(اللعب) واللّهو متقاربا المعنى، إلاّ أن اللعب هو العمل الذي لا غرضعقلائي فيه وغالباً ما يؤتى للّذة، واللّهو هو العمل الموجب للغفلة فيشغل الإنسان عما يهّمه.

فالمعنى أن بعض أهل الكتاب أسلم نفاقاً، والمنافق لا يعتقد بالدين فيستهزئ به، كما أنه يتخذ إسلامه ملعبة، قال تعالى عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ}(1)، وهذا لعبهم بالدين لأن إسلامهم ليس لغرض صحيح عقلائي، وقال سبحانه: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ}(2)، وذلك بإظهار الإيمان للمسلمين من دون واقع.

والحاصل: هؤلاء اتخذوا دينكم هزواً ولعباً فلا يستحقون منكم إلاّ البراءة منهم قلباً وعملاً لا التولي بالمحبة وقبول سلطتهم عليكم.

وقوله: {وَالْكُفَّارَ} بالفتح، أي لا تتخذوا سائر الكفار أولياء حتى لو لم يستهزؤوا بدينكم، إذ لا وجه لسيطرة كافر على مسلم وقد قال اللّه تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(3)، كما لا وجه لمحبة كافر يعاديكم ويعادي دينكم، نعم لو لم يعادِ الدين وأهله جازت محبته العاطفية، وهي لا يعبّر عنها بالولاية كما قال تعالى: {لَّا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ

ص: 211


1- سورة البقرة، الآية: 8-9.
2- سورة البقرة، الآية: 14.
3- سورة النساء، الآية: 141.

إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَٰتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ}(1)، انظر إلى الآية الأولى حيث أجاز اللّه برّهم والعدل بالنسبة إليهم ولم يعبّر عنها بالولاية، ثم لمّا نهى في الآية الثانية نهى عن تولّي الأعداء منهم.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} تأكيد على مراعاة هذا الحكم، بأن يحفظ الإنسان نفسه من غضب اللّه وعذابه بعدم مخالفة نواهيه.

وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بيان أن غير المتقي ليس بمؤمن حقيقة، فمن يتولى الكفار فهو منهم كما قال في الآيات السابقة: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.

والحاصل: أن الدين مركب من الولاية والبراءة، الولاية للّه ولأوليائه والبراءة من أعداء اللّه وأعداء أوليائه، بل البراءة من أعداء الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) من أصول الدين؛ لأن أصل النبوة والإمامة هما بمعنى الاعتقاد بنبوة رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وإمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ، مع البراءة من أعدائهم، نعم ولاية المؤمنين والبراءة من أعدائهم من فروع الدين، والمقصود ولاية المؤمنين بما هم مؤمنون والبراءة من أعداء المؤمنين بما هم أعداء للمؤمنين، وهذا لا ينافي العداوات الشخصية كبُغض قاتل أبيه حتى مع توبته والعفو عنه، وللكلام تفصيل لا يسعه المقام.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا}.

ص: 212


1- سورة الممتحنة، الآية: 8-9.

بيان لعلامة أخرى لنفاقهم أو لعداوتهم لكم، فكما اتخذوا دينكم هزواًولعباً، كذلك اتخذوا أهم عباداتكم هزواً ولعباً، ولعل ذكر هذا بالخصوص لأنه بتكرار الأذان والصلاة يتكرر استهزاؤهم ولعبهم وبذلك ينكشف نفاق المنافق منهم وعداوة الكافر منهم، قال سبحانه: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}(1)، أي تهاونوا به كأنه ألعوبة وأداة لهو، وقال سبحانه: {قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَٰفِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا}(2) كانوا يلهون باسم الدين ويجعلونه ألعوبة في أيديهم، بل حتى الجلوس معهم حين استهزائهم منهي عنه قال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ}(3).

الرابع: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}.

أي سبب استهزائهم بالصلاة وبالمناداة بها هو سفههم، وعدم استعمالهم لعقولهم، فإن العقل هو القوة الباطنة التي تمنع الإنسان عن المضرّات وتدعوه إلى جلب المنافع، وعكسه السفه، وأيّ سفه أشد من اكتساب غضب اللّه والنار وخسران رضوانه والجنّه! قال سبحانه: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}(4)، وقال سبحانه: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ

ص: 213


1- سورة الأنعام، الآية: 70.
2- سورة الأعراف، الآية: 50-51.
3- سورة النساء، الآية: 140.
4- سورة البقرة، الآية: 130.

وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ}(1)، وقال سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّافِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(2).

ص: 214


1- سورة البقرة، الآية: 13.
2- سورة الملك، الآية: 10.

الآيات 59-63

اشارة

{قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَٰسِقُونَ 59 قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّٰغُوتَ أُوْلَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ 60 وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ 61 وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَٰرِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 62 لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ الرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ 63}

59- لما ذكر استهزاء أهل الكتاب بالدين والصلاة بيّن سبب ذلك فقال: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ هَلْ} استفهام إنكاري، أي لا {تَنقِمُونَ مِنَّا} والنقمة هي إنكار من يريد العقاب، فالمعنى ليس إنكاركم علينا قاصدين إيذائنا {إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ} وأشركتم، {وَ} أمنا ب-{مَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} وكذّبتم، {وَ} آمنا ب-{مَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} التوراة والإنجيل، وقد حرفتم التوراة وكذبتم الإنجيل، {وَ} سبب هذه النقمة {أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَٰسِقُونَ} خارجون عن طاعة اللّه فلذا حسدتمونا على إيماننا وطاعتنا وما خصّنا اللّه به.

60- {قُلْ} إن إيماننا خير وكفركم هو الشر ف-{هَلْ أُنَبِّئُكُم} أخبركم

ص: 215

{بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ} أي أسوأ من نقمتكم علينا {مَثُوبَةً} أي جزاءً {عِندَ اللَّهِ} فبعض الذنوب أسوء من بعضها وأكثر عقاباً، فالأسوء هو {مَن لَّعَنَهُاللَّهُ} طرده من رحمته، {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} عذّبه، {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} مسخهم على أشكالهما، {وَعَبَدَ الطَّٰغُوتَ} أي العجل، {أُوْلَٰئِكَ} اليهود المتصفون بهذه الصفات {شَرٌّ مَّكَانًا} في جهنم فمقعدهم أسوأ من مقاعد سائر العصاة {وَأَضَلُّ} أكثر ضلالاً {عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي وسط الطريق الذي هو الصراط المستقيم.

61- {وَ} من صفاتهم السيئة النفاق ف-{إِذَا جَاءُوكُمْ} أي منافقو اليهود {قَالُواْ ءَامَنَّا} ليأمنوا جانبكم، {وَ} الحال أنهم {قَد دَّخَلُواْ} مجلسكم {بِالْكُفْرِ} الذي في قلوبهم، {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} فلم ينتفعوا بمواعظ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد نافقوا بادّعاء أنهم آمنوا، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} من الكفر في قلوبهم، وهذا وعيد لهم.

62- {وَ} من صفاتهم أنك {تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَٰرِعُونَ فِي الْإِثْمِ} المعصية {وَالْعُدْوَٰنِ} التعدي على الآخرين بظلمهم {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} المال الحرام كالرشوة والربا، {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إذ هي أعمال توجب خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

63- {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ} أي لماذا لا ينهاهم {الرَّبَّٰنِيُّونَ} المنسوبون إلى الرب والمراد عبّادهم {وَالْأَحْبَارُ} أي علماؤهم {عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ} النطق بالإثم كالشرك والتحريف {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ} هؤلاء الربانيون

ص: 216

والأحبار {يَصْنَعُونَ} بعدم نهيهم عن المنكر، فكلّهم سواء في الجريمة، وهي أسوأ الأمور، ومع ذلك يستهزؤون بالدين وعباداته وينقمون على أهله!

بحوث

الأول: لما نهى اللّه تعالى في الآيات السابقة عن اتخاذ أولياء من منافقي أهل الكتاب وبيّن أنهم يهزؤون بالدين وأهم عباداته التي هي الصلاة ويتخذونهما لعباً! أراد في هذه الآيات بيان سبب انحرافهم، وفي ذلك موعظة لهم عسى أن يرتدع البعض منهم أولاً، ولتسلية المؤمنين بأن هؤلاء المستهزئين هم شرّ الناس وأفعالهم أسوأ الأفعال في حين أن اعتقادات وأعمال المؤمنين هي أحسنها ثانياً، ولتحذير الناس عن الاتصاف بأوصافهم ثالثاً.

فأما المؤمنون فمن حُسن صنيعهم أن آمنوا باللّه وبالكتب التي أنزلها، وأما أهل الكتاب فأكثرهم خارجون عن طاعة اللّه، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بهم؟ كما أنهم ملعونون معاقبون منافقون يسارعون في المعصية والظلم وأكل السحت لا ينهون عن المنكر فهل هذه أمور توجب الاستهزاء أم قبول دين اللّه وعبادته بالصلاة له؟!

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ...} الآية.

(النقمة) هي إنكار من يريد العقاب(1) قال سبحانه: {وَمَا نَقَمُواْ إِلَّا أَنْ أَغْنَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}(2)، ولهذا سمي العقاب انتقاماً والعقوبة

ص: 217


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 84.
2- سورة التوبة، الآية: 74.

نقمة، فالمعنى لا تنكرون علينا ديننا وعبادتنا إلاّ لأنكم تريدون إيذاءنا بسبب حسدكم أن اختار اللّه تعالى محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) للرسالة وفضّلنا عليكم بذلك وأمرنا بالإيمان بجميع الكتب السماوية التي منها الإنجيل الذي تنكرونه بغياً!

أسباب النقمة على المسلمين

فما ينقمونه على المسلمين أمور ثلاثة:

1- {ءَامَنَّا بِاللَّهِ} إيماناً خالصاً من الشرك والتنقيص، وأنتم لا تريدون إلاّ الإيمان بإله تفصّلونه على مقياسكم فتنسبون إليه كل نقص! تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، أو بمعنى أنهم كانوا يرجحون بقاء المسلمين على الشرك حسداً وليكون الدين خالصاً لليهود قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا}(1)، وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ }(2).

2- {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} القرآن الكريم، إذ لم يكونوا يريدون الإيمان برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ؛ لأنه لم يكن منهم، ولأن القرآن بيّن الحقائق وفضح تحريفاتهم ومنع أكلهم المال بالباطل فخافوا على دنياهم ورئاستهم، ولذلك أنكروه ونقموا على المسلمين إيمانهم بالقرآن، قال سبحانه: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ}(3).

ص: 218


1- سورة النساء، الآية: 51.
2- سورة البقرة، الآية: 109.
3- سورة البقرة، الآية: 90.

3- {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} التوراة غير المحرفة، والإنجيل الذي أنزله اللّه على عيسى (عليه السلام) فلم يكونوا يريدون الإيمان إلاّ بالتوراة المحرفة، حيث إن التحريف أمّن مصالحهم وأهواءهم.

وقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَٰسِقُونَ} كأنه للتعليل، أي سبب نقمتكم هوخروجكم عن طاعة اللّه تعالى، إذ لو كنتم تطيعونه لآمنتم كما آمنا ولم تنقموا بل تسلّمون، فيكون العطف على مقدّر كالحسد ونحوه كأنه قال: لحسدكم ولأن أكثركم فاسقون.

وقيل: هو عطف على قوله: {أَنْ ءَامَنَّا} أي لا تنقمون منا إلاّ إيماننا وفسقكم.

كما يقال: لا تغضب مني إلاّ لأني عفيف وأنت فاجر، أو إلاّ لأنّي كريم وأنت بخيل، فهو من باب الازدواج يحسن في الكلام لتعميم المقابلة.

وقيل: هو عطف على قوله: {اللَّهِ} فالمعنى لا تنقمون إلاّ إيماننا باللّه وإيماننا بفسقكم، أي اعتقادنا بذلك.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ...} الآية.

لما ذكر فعل المسلمين وذلك بالإيمان باللّه وكتبه أراد أن يقابله بأفعالهم حتى يتبيّن أيّ الفريقين أهدى وأيهما أضلّ! فكان هنا مقايسة بين الفعلين مقايسة عقلية وبها يتّضح مَن يستحق عقاب اللّه تعالى، وكأنه جعل اللّه تعالى حاكماً بين الفريقين يجازي، فمن طرفٍ المسلمون الذين يؤمنون باللّه وبجميع ما أنزل من الكتب، ومن طرف آخر اليهود الذين عبدوا العجل

ص: 219

فعذبهم اللّه في الدنيا باللعن والغضب والمسخ، هذا مع نفاقهم ومسارعتهم في المحرمات وتركهم النهي عن المنكر!

وقوله: {بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ} (شر) هنا أفعل التفضيل.

و{ذَٰلِكَ} إما إشارة إلى نقمتهم فالتفضيل بمعناه الحقيقي، أي أن نقمتكمعلينا سيئة والأسوأ هو مَن لعنه اللّه... الخ.

وإما إشارة إلى الإيمان باللّه وكتبه المنزلة فهنا (شر) منسلخ عن معنى التفضيل، وهو استعمال شائع كما يقال: النار شر من الجنة، والإيمان خير من الكفر، وموسى (عليه السلام) أفضل من فرعون.

وقيل: هو من باب إنصاف الخصم بأن يقال له: إن كان عملنا سيّئاً فعملكم أسوأ.

وقيل: التفضيل هنا بمعنى الزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى المؤمنين.

وقوله: {مَثُوبَةً} من الثواب وأصله بمعنى الرجوع، فالثواب هو ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله، ويقال في الخير والشر لكن الأكثر المتعارف في الخير - كذا في المفردات(1)

- قال تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(2)، وقال: {فَأَثَٰبَكُمْ غَمَّا بِغَمّٖ}(3)، وقيل: هو من باب المشاكلة كاستعمال البشارة في الإنذار.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} كأنه لجعل الحَكَم هو اللّه تعالى لا الناس الذين قد

ص: 220


1- مفردات الراغب: 180.
2- سورة المطففين، الآية: 36.
3- سورة آل عمران، الآية: 153.

تميل بهم الأهواء فيرجحون الباطل على الحق، فيقال: هاهنا الحاكم بيننا وبينكم هو اللّه ولننظر ماذا صنع بكم في الدنيا حتى يتبيّن من هو أحق بالنقمة وبالاستهزاء، والظاهر أن الأمور المذكورة كلّها عقوبات دنيوية أصابتهم وهم معترفون بها، وهي:

من عقوبات كفار أهل الكتاب

1- {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} أي طرده من رحمته، كانت المقايسة بين العملين، لكن اللّه تعالى جعلهم طرفاً في المقايسة، فكأن المقصود أن شرور أعمالهم انتقلت إلى ذواتهم فجعلتها شراً محضاً، نظير قوله تعالى: {وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَالْمَلَٰئِكَةِ...} (1)، فأما لعنهم في الدنيا فعلى لسان الأنبياء كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ...}(2).

2- {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} الغضب من اللّه بمعنى عقوبته، فاللعن منع رحمة والغضب إنزل عذاب، واليهود يعترفون بأن اللّه أنزل عليهم عذابه، قال سبحانه: {فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفًا} إلى قوله: {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي}(3).

3- {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} أي مسخهم على هذه الهيأة، وهذا وإن كان نوع غضب من اللّه إلاّ أنه خصّه بالذكر لزيادة التشنيع عليهم.

ومن الذين مسخوا قردة أصحاب السبت.

ص: 221


1- سورة البقرة، الآية: 177.
2- سورة المائدة، الآية: 78-81.
3- سورة طه، الآية: 86.

ومن الذين مسخوا خنازير بعض كفار بني إسرائيل بعد إنزال مائدة عيسى (عليه السلام) ، فإن جماعة انضموا إلى الحواريين عند سؤال المائدة، فأنزلها اللّه تعالى وأكلوا منها ثم كفر بعضهم فمسخوا خنازير(1).

وروي أن القردة والخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت(2)، وفي تفسير القمي حول كفّار المائدة: «ومسخوا قردة وخنازير»(3).

4- {وَعَبَدَ الطَّٰغُوتَ} عطف على {لَّعَنَهُ}، وقيل: عطف على القردة بتقدير (مَن) الموصولة، أي جعل منهم من عبد الطاغوت، وليس المعنى أنه أراد منهم عبادته أو أكرههم عليه قال اللّه تعالى: {وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}(4)، بل بمعنى خلقهم مختارين فعبدوا الطاغوت بسوء اختيارهم، أما ما توهمته المفوّضة من تحقق ما لا يريده اللّه، وما توهمته المجبّرة من إرادة اللّه الكفر فلذلك تحقق فكلاهما باطلان، والسبب عدم معرفتهم الفرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية، وعدم معرفتهم بأنه لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين، وقد فصلنا في ما مضى ذلك فراجع، و{الطَّٰغُوتَ} صيغة مبالغة بمعنى كثير الطغيان، ويراد به العجل الذي عبدوه بتزيين من الشيطان فكأنهم عبدوا الشيطان بعبادتهم العجل.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا} تأكيد وبيان لقوله: {بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً} أي مكانهم في جهنم، واستعمال أفعل التفضيل إما لبيان أن مكان هؤلاء في

ص: 222


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 509؛ عن تفسير العياشي 1: 351.
2- الكافي 6: 246.
3- البرهان في تفسير القرآن 3: 510؛ عن تفسير القمي 1: 190.
4- سورة الزمر، الآية: 7.

النار أسوأ من مكان بقية العصاة، أو أنها منسلخة عن معنى التفضيل، أي مكان هؤلاء هو الشر عكس مكان المؤمنين الذي هو الجنة، وهذا بيان دركاتهم في الآخرة، وقيل: الشرّ لأهل المكان وقد جعلت للمكان للمبالغة.

وقوله: {وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} وهذا لبيان منزلتهم في الدنيا، أيهم ضالون عن الصراط المستقيم عكس المؤمنين الذين هداهم اللّه للإيمان به وبكتبه.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ...} الآية.

بيان وصف آخر من صفاتهم إما لبيان كونهم الأشر، أو هو تعليل آخر للنهي عن اتّخاذهم أولياء.

وقوله: {وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ} أي دخلوا إلى مجلسكم متلبسين بالكفر كأن الكفر شيئاً يحملونه.

وقوله: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} أي لم تنفعهم مواعظ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ولا استماعهم لآيات اللّه تعالى؛ لأن على قلوبهم غشاوة وقد طبع اللّه عليها بعنادهم وفسقهم، فلذلك قولهم: {ءَامَنَّا} ليس إلا كذباً ونفاقاً، فكيف توالونهم والحال أن هذه صفتهم جمعوا كذباً إلى كفر.

وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} هذا كالوعيد لهم بأن اللّه محيط بهم علماً وسيجازيهم على نفاقهم.

الخامس: قوله تعالى: {وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَٰرِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ...} الآية.

ص: 223

كأن المقصود بيان علامة نفاقهم، فإن اللّه عالم بنواياهم لكنكم أيضاً تتمكنون من معرفة نفاقهم عبر أعمالهم؛ لأن هذه الأعمال ليست أعمال من يؤمن باللّه وباليوم الآخر، وإنما هي عمل من أنكر الإيمان بقلبه حتى لو تظاهر به بلسانه، وفي ذلك أيضاً تحذير للمسلمين من الاتصاف بهذهالصفات لئلا يدخلوا في زمرة المنافقين، كما أنه موعظة لمن يتصف بها من المسلمين ليحاول قلع النفاق عن قلبه.

وقوله: {يُسَٰرِعُونَ} يبادرون وبسرعة؛ لأن النفاق مستحكم في قلوبهم، عكس المؤمن إذ هو قد يعصي على تردد وخوف ووجل ثم يتوب إلى اللّه تعالى لما يتنبّه.

وقوله: {الْإِثْمِ} مطلق المعصية سواء كانت ظاهرة أم باطنة، قولية أم فعلية، قال اللّه تعالى: {وَذَرُواْ ظَٰهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}(1)، وقال: {فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ}(2).

وقوله: {وَالْعُدْوَٰنِ} أي التعدي على الناس وحقوقهم بظلمهم، لا يحجزهم عن ذلك مانع من تقوى وورع.

وقوله: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ}: أي يسارعون في أكل المال الحرام كالرشوة والربا ونحو ذلك.

وقيل: إنما ذكر هذه الثلاثة لأن ذنوبهم إما بالقول وهو الإثم، وإما بالفعل سواء بظلم الغير وهو العدوان، أم بأكل الحرام وهو السحت.

ص: 224


1- سورة الأنعام، الآية: 120.
2- سورة البقرة، الآية: 283.

السادس: قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ الرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ...} الآية.

بيان أن عبّادهم وعلماؤهم مشاركون معهم في الجريمة بعدم النهي عن المنكر، فلذا لا فرق بينهم وبين العصاة منهم فكلاهما ظالم، ولذا في عذابأصحاب السبت عذب اللّه الصائدين والساكتين عنهم ونجّى الناهين عن المنكر.

وقوله: {لَوْلَا} أصلها للتحريض والحث إن دخلت على المضارع، والتقريع والذم إن دخل على الماضي، والإتيان بفعل المضارع هنا مع أن القصد التقريع لعلّه لفسح المجال لهم بالتوبة ولحثهم على القيام بفريضة النهي عن المنكر.

وقوله: {الرَّبَّٰنِيُّونَ} مرّ أنه منسوب إلى الرب بإضافة الألف والنون على غير قياس، والمراد منهم هنا عبادهم المتوقع منهم التقوى.

وقوله: {الْأَحْبَارُ} مرّ أنه جمع حبر - بالفتح والكسر - والمراد علماؤهم.

وقوله: {قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ} في الآية السابقة أطلق الإثم، وفي هذه الآية خصّه بالإثم القولي، ولعل سبب ذلك أن اللّه تعالى أراد التشنيع عليهم بسكوتهم عن أبشع المعاصي، فيكون سكوتهم عن سائر المعاصي بطريق أولى؛ لأن قول الإثم يتضمن الشرك والتحريف والاستهزاء بالدين وبالصلاة وهذه من أسوأ المعاصي.

وأما ذكر العدوان في الآية السابقة وعدم ذكره في هذه الآية فلعلّه لأجل الأولوية أيضاً، فإنه لو وجب النهي عن القول الباطل فالنهي عن العمل

ص: 225

الباطل أولى، فكان في الآية إيجاز بليغ.

وقوله: {يَصْنَعُونَ} أي بئس العمل عدم نهيهم عن المنكر، وقيل: لمّا عبر عن الواقع المذموم من مرتكبي المناكير في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وعبر عن ترك الإنكار عليهم بالصناعة في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْيَصْنَعُونَ} كان هذا الذم أشد، لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء وحرفة لازمة هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم، فإن مرتكب المعصية له شهوة في ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة له في فعل غيره، فإذا أفرط في الإنكار كان أشد حالاً من مرتكب المعصية، واللّه العالم.

ص: 226

الآيات 64-66

اشارة

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 64 وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ النَّعِيمِ 65 وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ 66}

64- {وَ} كيف تتولونهم مع سوء عقيدتهم في اللّه وفي دينكم وسوء عملهم بإثارة الحروب وبالفساد؟

أما سوء عقيدتهم في اللّه: فقد {قَالَتِ الْيَهُودُ} تبريراً لبخلهم ونقضهم للمواثيق {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} مقبوضة فلا هو يتصرف في الكون بعد خلقه ولا ينسخ شريعة موسى ولا ينفق رزقاً! {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بالذلة والمسكنة، {وَلُعِنُواْ} طردوا من رحمة اللّه {بِمَا قَالُواْۘ} أي بسبب هذه العقيدة الفاسدة التي فاهوا بها، فلا معنى لتوليهم بعد ذلك، إذ لا يرجى نفع لكم منهم، ويقال في ردّ زعمهم: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} كناية عن قدرته

ص: 227

التامة وكمال جوده، فالكون تحت تصرفه ويقدّر ما يشاء ويمحو ما يشاء و{يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} حسب الحكمة.

{وَ} أما سوء عقيدتهم في الدين: فإنه {لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم} أكثرهم {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} القرآن والآيات {طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا} أي كلّما نزلت آية زادوا في الطغيان والكفر؛ لأن حسدهم يزداد كلما زاد فضل اللّه على رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والمسلمين.

{وَ} أما سوء عملهم بإثارة الخلافات والحروب: فقد {أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} عقوبةً لهم {الْعَدَٰوَةَ} في العمل {وَالْبَغْضَاءَ} في القلب {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي ماداموا موجودين على كفرهم، ويترتب على ذلك {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ} أشعلوا {نَارًا لِّلْحَرْبِ} حرب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والإسلام {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} بغلبة الإسلام والمسلمين، {وَ} أما سوء عملهم بالإفساد فإنهم {يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} بالتحريف والتكذيب والمعصية ومحاولة طمس الدين وأهله، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لذا تذهب محاولاتهم للفساد أدراج الرياح فلا يجازيهم إلاّ شراً.

65- ثم يحثهم اللّه على الإيمان ليهتدي من هو قابل للّهداية ولتتم الحجة على الجميع فيقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَٰبِ} الأعم من اليهود والنصارى {ءَامَنُواْ} باللّه وبما أنزل {وَاتَّقَوْاْ} تجنبوا المعاصي {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ} أي محونا ذنوبهم السابقة {وَلَأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ النَّعِيمِ} فاللّه كريم يعفو عمن تاب وأصلح.

66- {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} غير المحرفين {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم

ص: 228

مِّن رَّبِّهِمْ} سائر الكتب المنزلة كالزبور، أي عملوا بما فيها؛ لأن الحقائق الإيمانية والأخلاقية وأصول الشرائع الموجودة فيها هي حقائق ثابةلا تنسخ، ومن ذلك أمرهم فيها بولاية رسول اللّه محمد وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، وإنما المنسوخ بعض أحكام الشريعة، فلو أقاموا كتب اللّه المنزلة {لَأَكَلُواْ} أي تنعّموا {مِن فَوْقِهِمْ} من خيرات السماء {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} خيرات الأرض، {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} لها استواء في عملها بلا إفراط وتفريط وهم الذين آمنوا برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ} قبح {مَا يَعْمَلُونَ} بعدم إقامة الكتب المنزلة إليهم.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ...} الآية.

بعد أن نهى اللّه تعالى عن اتخاذ منافقي أهل الكتاب أولياء؛ لأنهم يتخذون الدين والصلاة هزواً ولعباً وأنهم ينافقون حيث يقولون كذباً بأنهم آمنوا وتكشف كذبهم مسارعتهم إلى الموبقات، بعد ذلك يذكر ما هو كالعلة لجميع هذه المفاسد التي ارتكبوها، وهي فساد عقيدتهم في اللّه وفي الدين وسوء عملهم بإثارة الخلافات والحروب وبالإفساد في الأرض.

أما فساد عقيدتهم باللّه تعالى فإنهم يزعمون أن الأمر قد فرغ منهم فلا شريعة جديدة ولا كتاب جديد ولا تغيير لتفضيل اللّه تعالى لهم على العالمين، فلذا يرتكبون كل موبقة آمنين من سخط اللّه تعالى وعذابه.

لكن اللّه تعالى يبيّن أن الأمر لم يفرغ منه كما قال: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي

ص: 229

شَأْنٖ}(1)، ولذا الحكمة اقتضت نسخ الشرائع السابقة والإتيان بشريعة الإسلام وإرسال محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) رسولاً، واختيار المسلمين خير أمة أخرجتللناس، وكذلك إيجاد تقديرات جديدة وتغيير ما يشاء بالبداء منها كما قال: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَٰبِ}(2).

وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ...} أي زعموا أن اللّه لمّا خلق السموات والأرض قدّر كل شيء واستراح، فلا يرتبط استمرار الكون بوجوده وتدبيره ولا تغيير في شيء منه تكويناً ولا تشريعاً! ومن ذلك زعمهم أنه لا تنسخ شريعة موسى (عليه السلام) ! فلذا كذبوا بعيسى (عليه السلام) وبالنبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وزعمهم أنهم الشعب المختار أبداً ودائماً وأن اللّه لا يعذبهم، وإن عذّبهم فأياماً معدودة، وأنه لا يفضّل غيرهم عليهم وغير ذلك من المزاعم، وقد مرّ أن طريقة تفكير الإنسان ومعتقده يؤثر تأثيراً بليغاً على كيفية عمله، وهذا من أسباب التركيز على العقيدة والأهمية القصوى لها.

وقولهم {مَغْلُولَةٌ} أي مقبوضة كأنها أحكمت بالأغلال، ويلازمه العجز، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعا عليهم بأن يعجزوا عمّا يريدون من الباطل، وهو إنشاء بقصد الإخبار، أي أنّ اللّه أفشل مخططاتهم ومؤامراتهم سواء في إثارتهم الحروب أم في إفسادهم في الأرض، أو هو دعاء بعذابهم في جهنم.

وقوله: {وَلُعِنُواْ} أيضاً دعاء وإنشاء بقصد الإخبار، أي طردوا عن رحمة

ص: 230


1- سورة الرحمن، الآية: 29.
2- سورة الرعد، الآية: 39.

اللّه تعالى لذلك هم في ذلة ومسكنة دائماً، وبذلك يتبيّن الفرق بين الدعاءين، فغلّ أيديهم فشل لأعمالهم، ولعنهم طردهم عن رحمته، فالأول يرتبط بأعمالهم والثاني بأنفسهم.

وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ردّ لقولهم {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} و(اليد) في اللغة هي الجارحة ولكن شاع استعمالها مجازاً في القدرة والملك والحضور، وحيث إن اللّه تعالى منزّه عن الجارحة، فلذلك معنى يده قدرته، وقيل: إنهم استعملوا المفرد فقالوا: {يَدُ اللَّهِ} وردّهم اللّه بالتثنية فقال: {يَدَاهُ} ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدلّ على غاية قدرته ونفي العجز عنه، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له هو أن يعطيه بيديه جميعاً، فبُني المجاز على ذلك.

وقوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} لمّا كان المقصود هو بيان كمال قدرته وعدم تقييدها بشيء، ذكر مثالاً لذلك وهو إنفاقه كما يشاء، ولا يشاء إلا بحكمة، فإن منع فلا يمنع لعجز وإنما لحكمة، وبعبارة أخرى: إن الفيض من اللّه تعالى لا حدّ له لكن لا بد من قابلية القابل لذلك الفيض، فإن لم يكن قابلاً له فاللّه يقبضه لحكمته، فهو سبحانه الباسط القابض.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا}.

بيان سوء عقيدتهم في الدين وهو عدم اهتدائهم بالقرآن، بل ازدياد كفرهم وطغيانهم بنزوله؛ وذلك لأن اللّه طبع على قلوبهم بسبب سوء أعمالهم فخذلهم فضلّوا، قال سبحانه: {بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا

ص: 231

يُؤْمِنُونَ}(1)، وقال: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَٰرَهُمْ}(2)؛لأن من أصرّ على الرذيلة استمكنت من نفسه فتورثه الحسد والبغي فلا يخضع للحق، وخاصة إذا رأى فضل اللّه على غيره فيزيده ذلك عناداً وبغياً، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}(3)، وقال سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا} إلى قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}(4).

وقوله: {لَيَزِيدَنَّ} قيل: ذكرت هذه الكلمة لرفع الاستبعاد عن كلمتهم هذه.

وقوله: {كَثِيرًا مِّنْهُم} المفعول الأول ل- (يزيدن)، و{مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} الفاعل، و{طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا} المفعول الثاني، قيل: إنما قدّم المفعول على الفاعل لأن محور الكلام هو اليهود وحسب العادة يقدّم محور الكلام.

وقوله: {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي القرآن والأحكام.

وقوله: {طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا} والطغيان تجاوز الحدّ في العصيان، وهو عملي، والكفر قلبي، أي ازداد الرجس في قلوبهم وأعمالهم، وفي الصافي: «كلّما أنكروا آية أو حكماً ازدادوا كفراً وستراً للحق، كما يزداد المريض مرضاً

ص: 232


1- سورة البقرة، الآية: 88.
2- سورة محمد، الآية: 23.
3- سورة الإسراء، الآية: 82.
4- سورة التوبة، الآية: 124-125.

بأكل طعام الأصحاء»(1).

الثالث: قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِكُلَّمَا أَوْقَدُواْ...} الآية.

بيان للصفة الثالثة فيهم وهي إثارتهم الخلافات والحروب مع غيرهم.

وقوله: {وَأَلْقَيْنَا} بسبب غيبي وكذلك بسبب طبيعي؛ لأن اللّه هو الذي سبّب الأسباب، فمن فسدت عقيدته أورثته حب الذات وطلب تفوّقها على الغير في المال والجاه والمنصب حتى بالأسباب الباطلة، فيكون ذلك سبباً للنزاع وللحسد، وهما مما يورث العداوة والبغضاء قال سبحانه: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}(2).

وقوله: {الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} العداوة: هي إرادة السوء بالغير، والبغضاء: نفرة وكراهة في القلوب، ولعلّ تقديم العداوة على البغضاء؛ لأنهم إن تمكنوا تعدّوا على أقرانهم وإلاّ أبغضوهم.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} كناية عن استمرارها وعدم انقطاعها، وبعبارة أخرى ماداموا موجودين فالعداوة والبغضاء بينهم موجدتان.

وقوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ...} من غير واو عاطفة كأنه لبيان النتيجة، فالمعنى لأنهم أعداء متباغضون فلذلك مؤامراتهم فاشلة.

وقوله: {نَارًا لِّلْحَرْبِ} حرباً ضد الإسلام.

وقوله: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} وذلك بغلبة المسلمين عليهم، وخسارتهم.

ص: 233


1- تفسير الصافي 2: 443.
2- سورة الحشر، الآية: 14.

سبب اغتصاب فلسطين

سؤال: نشاهد غلبة اليهود في فلسطين في حروبهم ضد العرب والمسلمين منذ مدة طويلة فكيف ذلك؟!

والجواب:

أولاً: إنهم تمسكوا بحبل من الناس وهي القوى الغربية التي أسست دولتهم وعاونتهم منذ ذلك الوقت وإلى الآن، وقد قال اللّه تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ}(1).

وثانياً: إنّ الأمور تنظر بعواقبها، وعاقبة دويلتهم اللقيطة هو الزوال، فالحرب سجال، كما أن المسلمين انهزموا في أحد، لكن لم يكن ذلك إلاّ فترة مؤقتة انتصروا بعدها على المشركين نصراً نهائياً.

وثالثاً: إنّ المسلمين ابتعدوا عن أحكام اللّه تعالى فلذا خرجوا عن مدلول هذه الآية، إذ معناها كلّما أوقدوا حرباً ضد الإسلام، ولذا هم فشلوا في حربهم ضد الإسلام وإن غلبوا في حربهم ضد المسلمين الذين ترك أكثرهم تعاليم الإسلام.

وفي التقريب: «كلما أرادوا محاربة المسلمين هزمهم اللّه ونصر المسلمين عليهم، وقد دلّ التاريخ على ذلك، فقد تغلّب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) على يهود بني قريظة والنضير وخيبر وفدك وغيرهم مع كثرة عَددهم وعُددهم، وبعد ذلك لم يتمكن اليهود من محاربة المسلمين، حتى في يومهم هذا في فلسطين إنما يستندون إلى «حبل الناس»، ثم ما هي إلاّ فترة تراها قد انقشعوا انقشاع الضباب»(2).

ص: 234


1- سورة آل عمران، الآية: 112.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 666.

الرابع: قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.

بيان لرابع صفاتهم السيئة التي تمنع من تولّيهم، وهي إفسادهم فيالأرض؛ وذلك لأن ما يريدونه من العلو والاستيلاء على الأموال لا يتسنى لهم إلاّ عبر الفساد بتكذيب الرسل وتحريف الكتاب ومعصية اللّه تعالى ونشر الفرقة والرذيلة ونحو ذلك مما هم معروفون به.

وقوله: {وَيَسْعَوْنَ} السعي هو المشي وقد يطلق على المحاولة الجادة أو سرعة المضي في الشيء، وقد مرّ أن الإفساد قد يكون بإفساد معيشة الناس الاقتصادية والاجتماعية، وقد يكون بارتكاب الذنوب والموبقات، وقد يكون بمحاربة الدين أو تحريفه، قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}(1).

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} معنى عدم حبه هو عقابهم أولاً بفشل إفسادهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}(2)، وثانياً سوء عاقبتهم في الدنيا، قال سبحانه: {وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ فِي الْكِتَٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَٰكُم بِأَمْوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْأخِرَةِ لِيَسُُٔواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا

ص: 235


1- سورة البقرة، الآية: 205.
2- سورة يونس، الآية: 81.

عَلَوْاْ تَتْبِيرًا}(1)، وأمّا عذاب الآخرة فواضح قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2).الخامس: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ...} الآية.

لما ذكر في الآية السابقة أن كثيراً منهم طغاة كفرة، أراد حث الباقين على الإيمان والتقوى ببيان أن ذلك لصالحهم في الآخرة والدنيا، أما في الآخرة فما هو مذكور في هذه الآية بتكفير ذنوبهم أي محوها، فإن الإسلام حسنة تزيل جميع السيئات، وفي الحديث: «الإسلام يَجُبُّ ما قبله»(3)

أي يقطعه عن صاحبه فلا يلحقه مغبّته وعقوبته، وحيث محيت السيئات صار الإنسان أهلاً لأن يناله فضل اللّه بالجنة.

والوعد إنما هو لمن آمن واتقى، وأما من آمن ولم يتق ِ المعاصي فهو غير موعود بذلك وإن كان أمره معلقاً على المشيئة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(4)، نعم لو مات صحيح العقيدة فمآله إلى الجنة حتماً، إما بغفران يجنبه العذاب أو بعد أن يُصفّى من ذنوبه بعذاب القبر أو القيامة أو جهنم، وقد مرّ بحثه، أو يقال: إن الجنات متعددة كجنة الفردوس والخلد والنعيم والمأوى وعدن، وليست كلها لكل المؤمنين، فلعل جنة النعيم خاصة بالمتقين، فتأمل.

ص: 236


1- سورة الإسراء، الآية: 4-7.
2- سورة القصص، الآية: 83.
3- غوالي اللئالي 2: 54.
4- سورة النساء، الآية: 48 و 116.

وقوله: {النَّعِيمِ} هي النعمة الكثيرة(1)، والنعمة هي الحالة الحسنة.

السادس: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ...} الآية.هذا لبيان جزائهم في الدنيا لو آمنوا واتقوا.

وقوله: {أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ...} الإقامة بمعنى المحافظة، وذلك بأن يجعلوا هذه الكتب نصب أعينهم ويعملوا بها من دون تحريف ويذيعوها بين الناس، وغير خفي أن جميع الكتب السماوية تتضمن المعارف التوحيدية وأصول الدين والأخلاق وأصول الشريعة مضافاً إلى المواعظ والحِكم، وكل هذه حقائق ثابتة غير قابلة للنسخ، وأما المنسوخ منها فبعض أحكام الشريعة، ولذا فالدين واحد هو الإسلام، والشرائع متعددة مع اشتراك الشرائع في أصول الأحكام، ونسخ بعض الأحكام لا ينافي كون تلك الكتب هدىً ونوراً، كالقرآن نفسه فيه آيات منسوخة وذلك لا ينافي كونها نوراً وهدىً كسائر القرآن، وعليه فلو أن أهل الكتاب جاؤوا بالتوراة والإنجيل غير المحرفين وعملوا بما فيهما، والذي منه البشارة برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لكانوا من المؤمنين الأتقياء الموعودين بالجنة.

وقوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ} قيل: هو القرآن لأنه أنزل على المؤمنين، وأهل الكتاب إن آمنوا فهم من المؤمنين، فالكتاب نازل إليهم أيضاً، وقيل: هو سائر الكتب التي أنزلت عليهم كزبور داود (عليه السلام) ، وكل هذه الكتب أمرت بولاية الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ، وذلك بالاعتقاد بهم

ص: 237


1- مفردات الراغب: 815.

وبطاعتهم وقبول سلطتهم، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) في الآية قال: «الولاية»(1)، وهذا المصداق مناسب جداً لسياق الآيات، حيث إنها حول النهي عن ولايةالكفار والمنافقين والأمر بولاية الرسول والأئمة.

وقوله: {لَأَكَلُواْ} الأكل كناية عن الرفاه والتنعم والتوسعة في الأرزاق.

وقوله: {مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} كأنه كناية عن غمرهم بالنعيم، كالذي له بستان يأكل من ثمار أشجاره من فوق، ويأكل من ثمار أرضه، ولعلّ منه نزول الأمطار وكثرة المياه وخصوبة الأرض، قال تعالى: {اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٖ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرًا}(2)، وفي مجمع البيان: «وقيل: المراد لأكلوا ثمار النخيل والأشجار من فوقهم، والزرع من تحت أرجلهم، والمعنى: لتركوا في ديارهم ولم يُجلوا عن بلادهم ولم يقتلوا، فكانوا يتمتعون بأموالهم وزروعهم وثمارهم وما رزقهم اللّه من النعم»(3)، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(4).

وقوله: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} القصد: استقامة الطريق(5)، والاقتصاد: هو

ص: 238


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 442؛ عن الكافي 1: 413؛ وبصائر الدرجات: 76؛ وتفسير العياشي 1: 330.
2- سورة نوح، الآية: 10-12.
3- مجمع البيان 3: 543.
4- سورة الأعراف، الآية: 96.
5- كتاب العين 5: 54.

الاستواء في العمل بلا إفراط وتفريط، فالأمة المقتصدة هي التي لا غلو فيها ولا تقصير في دينها، وهم الذين آمنوا برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} بغلوهم أو بتقصيرهم فهم متطرفون أقاموا على الجحود والكفر، وفي الآية إنصاف لأهل الكتابحيث بيّن أن بعضهم مؤمنون، وإنما الذم لأغلبهم بسبب سوء أعمالهم.

ص: 239

الآية 67

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ 67}

67- بعد النهي عن تولي الكفار والمنافقين والأمر بتولي اللّه ورسوله والأئمة، يأمر اللّه رسوله بتبليغ الولاية من بعده فقال: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} أوصل إلى الناس {مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} في ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقد أنزلها اللّه تعالى وكلّف رسوله بإعلامها للناس وأخذ البيعة منهم لعلي (عليه السلام) في غدير خم، {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} ما أمرك اللّه من تبليغ ولاية علي (عليه السلام) {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي كأنك لم تؤدّ شيئاً من رسالات اللّه تعالى؛ لأن عدم تبليغ أصل من أصول الدين يساوق عدم تبليغ أصل الدين، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ} يحفظك {مِنَ النَّاسِ} من أن يفشلوا رسالتك وأن يمنعوك عن التبليغ؛ وذلك لأن مكرهم لا يجدي ف-{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ} ومعنى عدم هدايتهم عدم تعليمهم أساليب إفشال رسالتك.

بحوث

الأول: إن هذه الآية ترتبط بالسياق العام للآيات التي سبقتها ولحقتها فإن هذه الآيات (51-71) إنما هي حول الولاية العامة الشاملة لتولي الأمر والسلطة، فقد نهى اللّه تعالى عن تولي اليهود والنصارى، ثم حذرت الآيات

ص: 240

عن الارتداد عن الولاية التي يعيّنها اللّه، ثم بينت أن تلك الولاية هي للّه وللرسول وللأئمة، ثم حذرت من ولاية المنافقين من أهل الكتاب ومن ولاية الكفار بشكل عام مع ردّ كلام اليهود بأن يد اللّه مغلولة فلا يعيّن أولياء له، بعد كل ذلك يأمر اللّه رسوله بأن يبلّغ للناس ولاية الإمام علي (عليه السلام) ، وأنها نازلة من اللّه تعالى، ولأهميتها فإن عدم إبلاغها يجعل الدين بلا محتوى، إذ هو بمعنى عدم إبلاغ رسالة اللّه أصلاً، ثم كان الوعد بأن تتم البيعة لعلي (عليه السلام) بحفظ اللّه تعالى ومنع اللّه الكافرين من تخريب موقف أخذ البيعة، ثم بعد ذلك لكي يعتبر المسلمون بأهمية الخضوع لأمر اللّه في ولاية أمير المؤمنين يذكر لهم حال بني إسرائيل بأنهم إن لم يعملوا ببعض أحكام الكتب السماوية فهؤلاء ليسوا على دين يعتد به، مع أن اللّه قد أخذ ميثاقهم بالإيمان بالرسل وتصديقهم في كل ما جاؤوا به لا أن يكذبوهم فيما لا تهوى أنفسهم أو يقتلوهم، وهكذا حال المسلمين إذا رفضوا بعض ما أنزله اللّه وكذّبوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فيه والذي منه رفضهم ولاية الإمام علي (عليه السلام) .

وبذلك يتضح شدة ربط الآية بما قبلها وما بعدها، كما أن الآيتين اللتين تحيطان بهذه الآية متناسبتان جداً معها، إذ ما قبلها تدل على أن إقامة ما أنزله اللّه سبب للخيرات والبركات، وما بعدها تدل على أن عدم إقامة ما أنزله اللّه سبب أن لا يكون الإنسان على دين يعتد به، وهكذا الولاية، ولذا قالت فاطمة الزهرا (عليها السلام) في خطبتها: «ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرّسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الوحي الأمين، والطّبين بأمر الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين، وما نقموا من أبي الحسن؟ نقموا واللّه منه نكير

ص: 241

سيفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات اللّه عزّ وجلّ، واللّه لو تكافّوا عن زمام نبذه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لاعتلقه ولسار بهم سيراً سجحاً، لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفّتاه، ولأصدرهم بطاناً قد تخيّر لهم الرّيّ، غير متحل منه بطائل إلاّ بغمر الماء وردعه سورة الساغب، ولفتحت عليهم بركات السماء والأرض، وسيأخذهم اللّه بما كانوا يكسبون»(1)، وأن السياق - مضافاً إلى الروايات المتواترة - يدلنا على أن المراد بهذه الآية تبليغ ولاية الإمام علي (عليه السلام) .

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}.

الخطاب ب-(يا أيها النبي) و(يا أيها الرسول)

عامة خطاب اللّه هو بقوله: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ} إلاّ في هذه الآية وفي قوله: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ...}(2)، حيث خاطبه ب-{يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ} ولعل السبب أن له (صلی الله عليه وآله وسلم) جهتين: جهة تلقيه الوحي من اللّه تعالى، وهو نبأ من اللّه له فلذا كان الخطاب بالنبوة، وجهة إيصاله الوحي للناس وهو رسول من اللّه إليهم، لذا كان الخطاب بالرسالة، وفي هاتين الآيتين كان هناك خشية وحزن بسبب سوء تصرف الناس الذين أ ُرسل لهم فلذلك خاطبه بالرسالة لبيان أنه مكلّف بإبلاغهم كائناً ما كان.

وقوله: {مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} يتضمن العلة لوجوب التبليغ، فإن اللّه تعالى حكيم لا ينزل شيئاً عبثاً، فمادام أنزله عليك لغرض هداية الناس ولم ينزله عليهم مباشرة، لعدم قابليتهم لتلقّي الوحي بلا واسطة، فلذلك لا بد لك من

ص: 242


1- معاني الأخبار: 355.
2- سورة المائدة، الآية: 41.

أن تبلّغه إليهم.

وقوله: {رَّبِّكَ} لعلّ اختيار كلمة الرب دون سائر أسماء اللّه تعالى لأجل بيان أن اللّه تعالى هو الذي أصلحك وربّاك حيث اصطفاك لهذه المهمة فأنت جدير بها.

عدم فائدة الدين من غير ولاية

الثالث: قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.

هذا لبيان أهمية تبليغ أمر الولاية، وبيان أن عدم الاستخلاف يؤدي إلى ضياع جميع جهوده التي بذلها لإقامة الدين وإشادته، وفي ذلك إشعار بعدم نفع الإسلام من دون ولاية، فمن أسلم واعتقد بسائر أصول الدين والتزم بالطاعات وترك المعاصي، لكنه لم يعتقد بالولاية فكأنه لم يؤمن برسالة اللّه تعالى، فيكون من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وفي الحديث: «ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية»(1)، ومن ذلك يتبيّن أن الروايات الدالة على عدم نفع الأعمال من غير ولاية، وأنها من أصول الدين جذرها وأصلها من هذه الآية الشريفة.

وقوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} استعمل الفعل في مقام التبليغ الذي هو قول؛ كأنه لأن تبليغه كان متضمناً لأخذ البيعة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) فاختصرت الآية الأمرين بنحو فصيح بذكر التبليغ أولاً ثم أخذ البيعة ثانياً، فكأن المعنى (يا أيها الرسول بلّغ وخذ البيعة فإن لم تبلغ ولم تأخذ البيعة فما بلغت شيئاً) فذكر القول أولاً والفعل بأخذ البيعة ثانياً.

وهذا وإن كان في صورة تهديد، إلاّ أن المقصود والمراد الجدي هو

ص: 243


1- الكافي 2: 18.

بيان أهمية الولاية، نظير قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}(1)، فإن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أجلّ من أن يحتمل فيه المخالفة حتى يحتاج إلى تهديد، بل هو عبد مطيع للّه لا يتوانى في أي أمر أراده اللّه تعالى.

معنى العصمة من الناس

الرابع: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

(العصمة) هي المنع ويلازمها الحفظ، وهي تتعدى ب-(من) و(الباء)، ومدخول (الباء) هو الحافظ المعتصم به، ومدخول (من) هو الخطر المعتصم منه.

وهنا وعد من اللّه تعالى بأن يحفظه من الناس، والظاهر أن المقصود هو أن يتم تبليغه بأحسن وجه بحيث لا يتمكن أحد من إفشاله، وهذا ما تحقق حيث إن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بلّغهم بولاية علي (عليه السلام) وأخذ البيعة منهم في غدير خم من غير تخريب ولا مشاكل، إذ أحياناً يخطط الإنسان لأمر مهم ويهيئ المقدمات لكن يطرأ طارئ وقد يكون كلمة أو موقف جزئي يكون سبباً لذهاب تخطيطه ومقدماته هباءً منثوراً، ولا يتحقق ما أراد بحيث يضطر إلى إلغاء ما خطط له، كما حدث في رزية الخميس قبل رحيل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث طلب دواةً وكتاباً ليكتب لهم كتاباً، والذي كان يريد فيه التوصية بالثقلين بقرينة قوله: (لا تضلوا بعده أبداً)، فقال قائلهم: إن الرجل ليهجر(2)،

ص: 244


1- سورة الحاقة، الآية: 44-46.
2- رويت رزية الخميس بألفاظ متقاربة، كمثال راجع كشف الغمة 1: 420؛ نهج الحق: 273، 332؛ والبخاري 1: 17 و 5: 134.

والعياذ باللّه، وكانت هذه الكلمة كافية في انصراف الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) عن كتابة الكتاب؛ لأنه لو كتبه لفتح القوم باباً ووضعوا روايات في هذيان الأنبياء والعياذ باللّه ليتملّصوا من الكتاب ويتركوا العمل به، وكان ذلك باب شر يفتح منه التشكيك في كل أقوال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مما لا يعجبهم.

حول زرية يوم الخميس

ولا يخفى أن في رزية يوم الخميس وإن لم يكتب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الكتاب إلاّ أنه وصل إلى ما أراده.

أولاً: باتضاح تأكيده على حديث الثقلين؛ لأنه استعمل نفس عبارة (لن تضلوا بعده أبداً) وهي عبارة حديث الثقلين حيث قال: (ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً).

وثانياً: تبيان حقيقة الذين اتهموه بالهجر، ولذا اضطرب أولياؤه في توجيه عبارته أيّما اضطراب، ولا زالوا متورطين بها مع عدم تمكنهم من إنكارها؛ لورودها في أصحّ الكتب عندهم.

وثالثاً: في طرد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هؤلاء من بيته بعد هذه العبارة وهو في أواخر حياته، ما يكشف حقائق لأولي الألباب، وبذلك تمت الحجة على الجميع.

والحاصل: أنه في يوم الغدير كان يمكن أن يقول قائل منهم قولاً يخرّب به برنامج أخذ البيعة، ولكن اللّه تعالى حافظ دينه وهيّأ الأسباب لنجاحه، لذلك وعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن يعصمه من الناس ليتم تبليغ الولاية وأخذ البيعة، وقد كان ما أراد فلا رادّ لحكمه.

وخشية الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من عدم تمام ما أمر بتبليغه كخشيته في قصة

ص: 245

زواجه من زينب بنت جحش حيث قال اللّه تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}.

هذا في مقام التعليل في عصمته من الناس، فإن القوم الكافرين يخططون لإفشال مهمة النبي، لكن اللّه تعالى لا يهديهم لما أرادوا بسبب كفرهم، وقد مر أن الهداية قد تكون بمعنى إراءة الطريق، وهذا هو المقصود هنا، كما قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ}(2)، وقال سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ}(3)، وقال: {وَمَا دُعَٰؤُاْ الْكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٍ}(4)، كما في الآية دلالة على كفر من جحد ما أنزله اللّه على رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) من أمر الولاية كما فيمن كفر بالحج قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(5)، نعم من لم يكن جاحداً وقد تشهد الشهادتين جرت عليه أحكام الإسلام في دار الدنيا تسهيلاً من اللّه تعالى للمؤمنين، حيث يكثر اختلاطهم بالمخالفين وأن عسى اللّه أن يهديهم بهم.

ص: 246


1- سورة الأحزاب، الآية: 37.
2- سورة محمد، الآية: 8-9.
3- سورة محمد، الآية: 1.
4- سورة غافر، الآية: 50.
5- سورة آل عمران، الآية: 97.

السادس: وكان من شأن نزول الآية أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) خرج إلى حجة الوداع بعد أن كتب للمسلمين أن يحضروا الحج، فحضر منهم مائة وثمانون ألفاً فأمره اللّه بتبليغ ولاية علي (عليه السلام) وكان الأمر موسعاً ليختار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الزمان والمكان المناسبين، فخطب (صلی الله عليه وآله وسلم) في منى وأمر الناس بالتمسك بالثقلين وبيّن فضل أمير المؤمنين بشكل عام، فلما انصرف من الحج وبلغ الجحفة وكان معه عشرة آلاف - وفي رواية اثنا عشر ألفاً - وكانوا من أهل المدينة ومكة نزل جبرئيل بأن وقت تبليغ الولاية قد تضيّق فلا يمكن تأخيره، فجمع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الناس وأبلغهم ولاية علي (عليه السلام) وأخذ منهم البيعة له خلال ثلاثة أيام، وقد تمّ الأمر بكل يسر وسلامة فأحكمت البيعة وتمت الحجة، وقد مرّ بعض الكلام في تفسير الآية 3 من هذه السورة، فراجع.

وأما حديث الغدير وقول رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» فحديث متواتر عند الفريقين، فراجع موسوعة الغدير للعلامة الأميني لمعرفة مصادره الكثيرة المتواترة.

ص: 247

الآيات 68-71

اشارة

{قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ 68 إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّٰبُِٔونَ وَالنَّصَٰرَىٰ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 69 لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ 70 وَحَسِبُواْ أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ 71}

68- ثم يعود اللّه تعالى إلى دعوة أهل الكتاب إلى الخضوع للّه في كل شيء والذي منه أمره بولاية الرسول وآله ف-{قُلْ} يا رسول اللّه: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ} فدينكم من غير ولاية باطل فكأنه لا شيء {حَتَّىٰ تُقِيمُواْ} بالاعتقاد والعمل من غير تحريف ولا كتمان {التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} من سائر الكتب والتي تتضمن البشارة برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَ} لكن بدل أن يهتدوا {لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم} إلاّ القليل منهم {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} القرآن وأحكامه الذي منه الولاية {طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا} فأصل عدم إقامتهم للدين كان طغياناً وكفراً ثم تكذيبهم

ص: 248

بالقرآن وبرسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) زادهم في ذلك، وحيث علمت يا رسول اللّه بأنهم معاندون {فَلَا تَأْسَ} لا تحزن {عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ}.

69- وهؤلاء إن آمنوا وأصلحوا فاللّه يقبله منهم ف-{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أسلموا بألسنتهم {وَالَّذِينَ هَادُواْ وَ} كذلك {الصَّٰبُِٔونَ وَالنَّصَٰرَىٰ مَنْ ءَامَنَ} منهم {بِاللَّهِ} اعتقاداً حقيقياً في القلب {وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من عذاب اللّه في الآخرة {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم في ماضي أمرهم.

70- لكن أكثر اليهود ليسوا كذلك لا أسلافهم ولا أخلافهم ف-{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ} العهد الأكيد {بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} بالإيمان والعمل الصالح {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} كثيرين ليهدوهم، لكن {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ} أحكام تخالف شهواتهم {فَرِيقًا كَذَّبُواْ} كعيسى (عليه السلام) {وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} كيحيى وزكريا‘.

71- {وَحَسِبُواْ} زعموا {أَلَّا تَكُونَ} لا تصيبهم {فِتْنَةٌ} بلاء وعذاب بسبب التكذيب والقتل، {فَعَمُواْ} عن رؤية الحق {وَصَمُّواْ} عن سماعه، فلذلك ارتكبوا الموبقات كعبادة العجل ونحوه، {ثُمَّ} تابوا ف-{تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أو بمعنى أن اللّه لم يقطع ألطافه عنهم فأرسل أنبياء آخرين {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} حيث نقضوا توبتهم بارتكاب المعاصي والانحرافات، إلا أن توبة اللّه كانت قد نفعت القليل منهم {وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ} عالم به فيجازيهم عليه.

ص: 249

بحوث

الأول: كان الكلام حول الولاية وقد أمر اللّه بولايته وولاية الرسول والأئمة وأمر رسوله بتبليغ الولاية، بعد ذلك يوجّه الخطاب إلى أهل الكتاببأن هذه الولاية واجبة عليهم أيضاً، إذ دينهم بدونها باطل.

فكما أن الرسول إذا لم يبلغها لم يكن قد بلغ شيئاً من رسالة اللّه كذلك هم إن لم يقبلوها، فليسوا على شيء من الدين أصلاً، فكل عقائدهم الأخرى لا تنفع وكل أعمالهم باطلة، فعليهم أن يعملوا بما أمروا به في التوراة والإنجيل وسائر الكتب من ولاية رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين.

لكنهم بدلاً من ذلك كذبوا وطغوا وكفروا فزادوا كفراً إلى كفرهم وطغياناً إلى طغيانهم، مع أنهم لو كانوا يؤمنون لكان خيراً لهم؛ لأن اللّه يقبل إيمان الجميع مهما كان دينهم سابقاً.

ثم يسلّي اللّه تعالى رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن هذا هو دأبهم حتى مع أنبيائهم حيث كذّبوا البعض وقتلوا آخرين، إلاّ القليل منهم الذي تاب توبة نصوحاً.

وقد زعم أولئك أن اللّه لا يعاقبهم، كلاّ، فكما عاقبهم فيما مضى بما فعلوه بأنبيائهم كذلك يجازيهم بتكذيبهم رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ومؤامراتهم عليه.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ...} الآية.

أي دينكم باطل وعملكم حابط، فقوله: {شَيْءٍ} أي على شيء يُعتدّ به

ص: 250

من أمر الدين؛ لأن الدين وحدة متكاملة إذا نقص أصل من أصوله انتفى كاملاً، كما أن رسالة الرسول تتوقف على تبليغ جميع الأصول وغيرها، فإذا لم يبلغ أصلاً من الأصول فكأنه لم يبلغ شيئاً، وبهذا يتبين وجه ارتباط آخربين هذه الآية وبين الآية السابقة، فكما أن الرسول مأمور بتبليغ الجميع كذلك المكلفون مأمورون بقبول الجميع.

وقوله: {حَتَّىٰ تُقِيمُواْ} الإقامة المحافظة كما مرّ في الآية 66.

وقوله: {مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} أي سائر الكتب السماوية، وكلّها أمرت بولاية الرسول وأهل بيته.

والفرق بين هذه الآية والآية 66 أن تلك كانت في بيان فائدة الإقامة في الدنيا بخيرات السماء والأرض، وهذه الآية لبيان فائدتها في الدين بحيث لولاها كان دينهم كالعدم.

وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم...} وهذا ليس تكراراً لما في الآية 64، وذلك لاختلاف الغرض في الآيتين، فهناك كان المقصود بيان فساد عقيدتهم في اللّه، حيث زعموا أن يده مغلولة فبنزول القرآن ازدادت عقيدتهم فساداً، وفي هذه الآية الغرض بيان عدم عملهم بكتبهم السماوية والتي فيها البشارة برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فبنزول القرآن عليه ازدادوا كفراً وطغياناً، وقد مر أن اختلاف الغرض يخرج الكلام عن التكرار حتى لو كانت الألفاظ والمعاني متشابهة.

وقوله: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ} تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن هؤلاء كافرون معاندون، فزيادة طغيانهم وكفرهم بتكذيبك إنما هو من طبيعتهم

ص: 251

وعنادهم فلا مبرّر للحزن عليهم، نظير من أصرّ على الإجرام فلو ارتكب جرماً جديداً لا يحزن عليه أحد؛ لأنه زاد جرماً إلى جرمه وأضر نفسه، والحاصل: أن المنهي عنه هو الحزن عليهم وهذا لا ينافي الحزن على وقوعالمعصية، كالذي يقتل مظلوماً فلا يحزن أحد على المجرم، إنما يحزن على المقتول وعلى انتهاك القانون.

سبب رفع (والصابئون)

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّٰبُِٔونَ وَالنَّصَٰرَىٰ...} الآية.

الآية تأكيد، حيث ذكرت الآيات السابقة أن على أهل الكتاب إقامة التوراة والإنجيل، وذلك بصالح دنياهم وآخرتهم، فتذكر هذه الآية أن النجاة في الإيمان والعمل الصالح مهما كانت سابقة الإنسان، وأن مجرد ادعاء الإيمان لا ينفع.

وفي التقريب: «حيث تقدم أنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين، مما يوهم أنّ الكفار غير قابلين للّهداية، ذكر سبحانه أنهم إن آمنوا - الملازم لإمكان الإيمان منهم - كان لهم ما لغيرهم من المؤمنين من الأجر والمثوبة»(1).

وقوله: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي أسلموا بألسنتهم، فهذا لا ينفعهم إلاّ بالإيمان القلبي والعمل الصالح قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}(2).

وقوله: {وَالصَّٰبُِٔونَ} هم الصابئة، وأما رفعه فقد يقال: إنه إما باعتبار

ص: 252


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 669.
2- سورة البقرة، الآية: 8.

العطف على المحل؛ لأن اسم إنّ مبتدأ قبل دخولها، وإما بالقطع بأن يكون الصائبون مبتدأ وخبره محذوف أي والصائبون كذلك، وقد وقع بين اسم إنّ وخبرها.

وقد أطال النحاة والمفسرون الكلام هنا حيث أرادوا تطبيق الآية على القواعد النحوية، مع أن الصحيح هو العكس، إذ إن قواعد العربية إنّما انتزعت من ملاحظة كلام العرب، والقرآن أصدق الحديث، وهو أصحّ وثيقة مدونة باللسان العربي، فمنه تستنبط القواعد، وبذلك نعلم أنه يجوز العطف على اسم إن بالرفع، وأما توجيه ذلك بالعطف على المحل أو بالقطع أو بغير ذلك فصناعة نحوية، نعم المتعارف هو النصب، بل نزلت نظير هذه الآية بالنصب في سورة البقرة حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَٰرَىٰ وَالصَّٰبِِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(1)، وقد يقال في الجواب: «إنّه للإلفات إلى أن الصابئي الذي لا يُرجى فيه خير، إن آمن قُبل، فكيف بغيره؟!»(2)، ففي الرفع نوع إلفات إلى المستمع وتنشيط ذهنه، وهكذا كل أمر جاء على خلاف أنس الأذهان فهو يجرّ الالتفات والانتباه.

وقوله: {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} أي التسميات والادّعاءات والإقرار باللسان لا تنفع إذا لم يكن إيمان قلبي وعمل صالح، فقوله: {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} أي إيماناً حقيقياً نابعاً عن اعتقاد في القلب، وغير خفي أن الايمان باللّه يلازم

ص: 253


1- سورة البقرة، الآية: 62.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 669.

الإيمان برسله؛ لأن عدم الإيمان بهم تكذيب له سبحانه.

وقوله: {فَلَا خَوْفٌ} أي من عقاب اللّه تعالى؛ لأن الخوف يستعمل فيما يحذره الإنسان في المُستقبل.

وقوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من أمر الدنيا، إذ بالإيمان قد يفقدون بعض مصالحهم ويُمنعون عن بعض أهوائهم وشهواتهم، والحزن أنما هو على ما فات الإنسان في الماضي.

وقد ذكرنا بعض ما يرتبط بهذه الآية في سورة البقرة الآية 62، فراجع.

الرابع: قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا...} الآية.

كأنه استمرار لتسلية الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث كذّبوه وأرادوا قتله وتآمروا ضدّه، فيقال له: إن هذا هو دأبهم حتى مع أنبيائهم، وكذلك سابقتهم في نقض عهودهم مع اللّه ورسله، فليس نقضهم لعهدهم مع رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) منهم ببعيد!

وقوله: {مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} أي عهدهم الأكيد عبر موسى (عليه السلام) وسائر الأنبياء، فقد أخذ اللّه عهدهم ومع ذلك نقضوها.

وقوله: {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} لكي يهدوهم إلى الحق ويراقبوا المواثيق فاجتمع أمران: أخذ المواثيق وإرسال الرسل، وهما كافيان للّهداية لمن أراد أن يهتدي، لكن المعاند لا علاج له إلاّ أن الحجة تتم عليه.

وقوله: {لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ} قيل: إن (الهوى) ما تطلبه النفس، و(الشهوة) ما يرغب إليه الجسم، ففي معجم الفروق اللغوية: «الهوى يختص بالأداء

ص: 254

والاعتقادات، والشهوة تختص بنيل المستلذات، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ}(1) أي لا تتبع ما يميل إليه طبعك ويقتضيه رأيكمن غير أن يسند إلى دليل شرعي، ويدل على الثاني قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ}(2) حيث بيّن مراتب المشتهيات بعدها وفصّل أصول المستلذات عقيب ذلك»(3).

وقوله: {وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} لعل الإتيان بالقتل بصيغة المضارع والتكذيب بصيغة الماضي؛ لأن كل تكذيباتهم قد سبقت حتى إنهم كذّبوا آخر الأنبياء محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأما قتلهم فكان مستمراً؛ لأنهم أرادوا قتل رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وكانوا يتربصون به، وفي الكشاف: «جيء يقتلون على حكاية الحال الماضية استفضاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها»(4)، وقد يضاف إلى ذلك: أنه لمراعاة فواصل الآيات.

الخامس: قوله تعالى: {وَحَسِبُواْ أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...} الآية.

بيان عقابهم في الدنيا قبل عقابهم في الآخرة، فهؤلاء بأفعالهم الشنيعة كانوا يريدون نيل ما يهوون ويشتهون فكانوا يزعمون أن أعمالهم تمرّ من غير أثر عليهم، وفي التقريب: «شأن كل من يقدم على جرم كبير يظن أن الأوضاع تبقى على ما يشتهي، منتهى الأمر أن ما صدر عن بعض شهواته

ص: 255


1- سورة ص، الآية: 26.
2- سورة آل عمران، الآية: 14.
3- معجم الفروق اللغوية: 562.
4- الكشاف 1: 634.

يزول ويُمحى عن الوجود! مع أن الأمر بالعكس، فإن بقاء المجتمع سليماً عن الأخطار والآفات، إنما هو بانتهاج تعاليم الأنبياء، فإذا أزيح النبي عن القيادة والتوجيه - إمّا بقتله أو تكذيبه - فإنه سوف تحلّ بالمجتمع أشدّالكوارث وتقع أعظم الفتن»(1).

وقوله: {وَحَسِبُواْ} من الحُسبان - بالضم - أي زعموا أن القتل والتكذيب لا يؤدي إلى فتنتهم.

وقوله: {فِتْنَةٌ} أصل الفتنة هي بمعنى الإلقاء في النار كما قال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}(2)، ثم استعملت في الامتحان لصعوبته وأيضاً في ارتكاب المحرمات والموبقات؛ لأنها كالنار تأكل الحسنات وعاقبتها إلى النار، والمراد في هذه الآية العقوبة، أي زعموا أنهم لا يعاقبون على تكذيبهم وقتلهم؛ لأنهم زعموا بأنهم أبناء اللّه وأحبابه فلا يعذبهم.

وقوله: {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} بيان أن عملهم الباطل بالقتل والتكذيب وعقيدتهم الفاسدة بأنهم لا يعاقبون صارا سبباً لعدم رؤيتهم الحق وعدم سماعه.

وقوله: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي تاب على الأمة وعلى نوعهم، وهذا لا ينافي عدم توبته على قتلة الأنبياء، فالمعنى أن هؤلاء ارتكبوا الموبقات لكن الكثير منهم تاب فتاب اللّه عليهم، كما أنهم عبدوا العجل فتابوا فتاب اللّه عليهم، وهذا لا ينافي عدم توبة السامري وعدم توبة اللّه عليه قال تعالى:

ص: 256


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 671.
2- سورة الذاريات، الآية: 13.

{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَٰلِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(1).

بل قد ذكرنا في بعض مباحث الحبط وغيره أن المذنب الذي يتوب إن علم اللّه تعالى بأنه سيموت على الكفر فإن توبته باطلة من الأول، بمعنى أن اللّه تعالى لا يقبلها، لا أنه يقبلها ثم يحبطها حين الكفر، فلذا كل عاص إذا تاب ثم كفر ومات على الكفر فإن اللّه يؤاخذه على عصيانه؛ لأن توبته لم تكن مقبولة من أساسها؛ وذلك لأن شرط قبول العمل هو الموت على الإيمان، والتوبة من أفضل الأعمال وهي كذلك مشترطة، وعن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر»(2).

ويحتمل أن تكون توبة اللّه عليهم بالمعنى اللغوي، أي رجوعه إليهم باللطف بأن أرسل أنبياء آخرين إليهم، وليس بمعنى غفران الذنب كي تثار شبهة التوبة على قتلة الأنبياء.

والحاصل: إما التوبة على نوعهم مما لا ينافي عدم التوبة على البعض، أو بمعنى استمرار اللطف.

وقوله: {عَمُواْ وَصَمُّواْ} أي لم تنفعهم توبة اللّه على مجتمعهم.

وقوله: {كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} بدل عن كل ما مضى في قوله: {جَاءَهُمْ} و{وَحَسِبُواْ} و{فَعَمُواْ} و{وَصَمُّواْ} و{عَمُواْ} و{صَمُّواْ}، وليس بدلاً

ص: 257


1- سورة البقرة، الآية: 51-52.
2- الكافي 2: 461.

عن خصوص الجملة الأخيرة، أو خبر لمبتدأ مقدر، أي أولئك كثير منهم، والمقصود بيان أن نسبة هذه الأمور الشنيعة إليهم إنما هو باعتبار أن أكثرهم هكذا، وهذا لا ينافي وجود قلة مؤمنة فيهم لم ينقضوا المواثيق وصدقواالرسل ونصروهم.

وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ} تهديد لهم بأن يرى أعمالهم فيجازيهم عليها.

والحاصل: أنهم حسبوا ألاّ تكون فتنة، لكن اللّه يرى أعمالهم ويجاز بهم عليها في الدنيا، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(1)، وأما جزاؤهم في الآخرة فقد دلت عليه آيات كثيرة.

ص: 258


1- سورة الأعراف، الآية: 152.

الآيات 72-77

اشارة

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ 72 لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 73 أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 74 مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْأيَٰتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ 75 قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 76 قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٖ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ 77}

72- بعد بيان جملة عقائد اليهود الفاسدة يتم بيان بعض عقائد النصارى الفاسدة تأكيداً على عدم اتخاذهم أولياء ف-{لَقَدْ كَفَرَ} النصارى فلا يدخلون في من «آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحاً»، وهم طوائف، فمنهم: {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وبعض هؤلاء قالوا بالاتحاد، وبعضهم قالوا بأن اللّه ظهر بهذا الشكل للناس، {وَ} لكن هذا زعم رفضه المسيح بنفسه فقد {قَالَ الْمَسِيحُ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ} ولا تعبدوني،

ص: 259

فإن اللّه {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فجميعنا عبيده لا فرق بيني وبينكم في المخلوقيّة، {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ} فإن تأليه غير اللّه شرك حتى لو اعتقد بأنه هو اللّه {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَىٰهُ النَّارُ} وهذا لإبطال زعمهم الفداء بأن المسيح فدىبنفسه فكل ذنوب النصارى مغفورة! {وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالشرك {مِنْ أَنصَارٖ} يشفعون لهم وينقذونهم من النار، فالمسيح لاينقذهم.

73- ومنهم: من يقول بالتثليث وهؤلاء أيضاً كفار ف-{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ} فبعضهم زعم أنه الأب والابن وروح القدس، وبعضهم زعم أنه الأب والأم والابن، {وَ} هذا زعم باطل إذ {مَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} هو اللّه تعالى لا غيره.

{وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ} لم يكفّ النصارى - بطوائفهم - {عَمَّا يَقُولُونَ} من الشرك {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} بأن لم يتوبوا {عَذَابٌ أَلِيمٌ} فسبب عذابهم هو كفرهم.

74- ثم يحثّهم اللّه على التوبة بقوله: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} يرجعون إليه ويعتقدون بما أمر به {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} عمّا أشركوا به، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيقبل التوبة، فما بالهم لا يتوبون ولا يستغفرون؟!

75- ثم يبيّن اللّه تعالى برهان مخلوقية المسيح (عليه السلام) بقوله: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} فهو ابن إنسانة لا ابن اللّه {إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} لا فرق بينه وبين سائر الرسل (عليهم السلام) في أن اللّه أجرى على أيديهم المعجزات، فكما كانوا مخلوقين فكذلك المسيح (عليه السلام) ، {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} صدّقت باللّه

ص: 260

وبالرسل كسائر الصديقات لا فرق بينها وبينهم فكيف صارت إلهاً دونهم؟! هذا أولاً.

{كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} كناية عن الاحتياج وقضاء الحاجة، وهما من صفات المخلوق لا الخالق الغني، وهذا ثانياً.

ومن العجيب أن النصارى يسمعون هذه البراهين الفطريّة ومع ذلك لا يؤمنون {انظُرْ} نظر تعجب {كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْأيَٰتِ} البراهين بأيسر وجه يتعقلها كل عاقل، {ثُمَّ انظُرْ} متعجباً {أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} يُصرفون عن اتباع الحق.

76- وثالثاً: {قُلْ} في مقام الاحتجاج عليهم: {أَتَعْبُدُونَ} الاستفهام إنكاري {مِن دُونِ اللَّهِ} غير اللّه {مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} والمسيح كذلك لا يملك الضر والنفع إلاّ بالمقدار الذي أذن اللّه به، لا فرق بينه وبين سائر الأنبياء في المعاجز، ولا بينه وبين سائر الناس في سائر الأمور، بل لم يتمكن من دفع الضرر عن نفسه فقد انقذه اللّه برفعه إلى السماء، وقد زعتم أنه قُتل! فكيف يدفع عنكم الضرر أو يجلب لكم النفع دون إذن اللّه تعالى؟! {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم الشركيّة {الْعَلِيمُ} بعقائدكم الفاسدة، وهذا كالتهديد لهم.

77- ثم يبين اللّه سبب شركهم ويحذرهم منه وفيه نقض لحجة من حججهم بأنهم يتبعون أسلافهم، ف-{قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} لا تتجاوزوا الحدود التي حدّها اللّه تعالى {غَيْرَ الْحَقِّ} تأكيد أو عطف بيان، إذ كل غلو هو باطل، {وَلَا تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٖ} أسلافكم وأئمة

ص: 261

النصرانية، أو الوثنيين الذين أخذتم عقائدكم منهم {قَدْ ضَلُّواْ} في الألوهية والعبادة {مِن قَبْلُ} أي قبل بعثة الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) {وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا} من الناس ممن انخدع بهم، {وَ} إنما ضلوا في الألوهية والعبادة وأضلوا؛ لأنهم {ضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} وسط الطريق الذي هو الصراط المستقيم. فكلمنحرف عن الطريق يبتدع ويغوي من اتّبعه.

بحوث

الأول: قد نهت الآيات السابقة عن تولي اليهود والنصارى، ثم ذكرت جملة من عقائد اليهود وأعمالهم الفاسدة التي ترشد إلى سبب النهي عن تولّيهم، بعد ذلك جاءت هذه الآيات لبيان بعض العقائد الفاسدة للنصارى، مع التأكيد على أن هذه عقائد تُدخلهم في زمرة الكفار الذين يستحقون عذاب النار، فلا يكونون من مصاديق الآية 69 حيث أخبر اللّه عن أن النصارى الذين آمنوا باللّه وباليوم الآخر وعملوا صالحاً لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

فتذكر هذه الآيات عقائد بعض طوائفهم - وهي أشهرها وأكثرها أتباعاً - وتنقضها بأنها تخالف تعاليم السيد المسيح (عليه السلام) حتى في الأناجيل المحرّفة الموجودة بين أيديهم، وأنهم بذلك يحرمون الجنة ويدخلون النار، ثم يحثهم اللّه على التوبة لينجوا من العذاب.

كما أن تلك العقائد - مضافاً إلى مخالفتها لتعاليم السيد المسيح (عليه السلام) - هي فاسدة في نفسها، ويذكر اللّه في مقام الاحتجاج ثلاثة أدلة، ويمكن زيادة الأدلة.

ص: 262

ثلاثة أدلة لبطلان عقيدة النصارى

فأولاً: لا فرق بين المسيح وبين سائر الرسل، فإن كانت له معاجز فلهم معاجز، فلا دليل في معاجزه على ألوهيته، وإلاّ لزم القول بألوهية سائر الرسل أيضاً، وهذا لا يلتزمون به، وكذلك حال أمه السيدة مريم (عليها السلام) فهي صديقة كسائر الصديقات فلا وجه لزعم ألوهيتها دونهم.

وثانياً: أنّ المسيح وأمه‘ تعرضهما حالات بشرية كالاحتياج إلى أكل الطعام ثم قضاء الحاجة، ومن كان كذلك لا يعقل كونه إلهاً؛ لأن الحاجة دليل على الإمكان ولا بدّ في الإله من الغنى المطلق، وإلاّ فلا فرق بين محتاج وآخر فلماذا صار أحدهم إلهاً دون غيره؟

وثالثاً: أنّ المسيح (عليه السلام) من دون إذن اللّه لا يملك نفعاً ولا ضراً لكم، فما الفائدة في عبادته؟

ولعل الفرق بين هذه البراهين أن الأول استدلال بقاعدة حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، والثاني استدلال بالحاجة الدالة على الإمكان، والثالث استدلال بالعجز من دون إذن اللّه.

من طوائف النصارى الكافرة

الثاني: قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}.

بيان لكفرهم وأنهم ليسوا بمؤمنين حتى يكونوا أهل النجاة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلا وجه إذاً في اتخاذهم أولياء إذ في ذلك الهلكة.

من أقول السيد المسيح (عليه السلام) في العقيدة

وهؤلاء طائفة من النصارى زعموا أن اللّه ظهر في الأرض على شكل إنسان فهم لا يقولون بالتثليث ولا بالحلول، ونقل عنهم أنهم يزعمون أن اللّه

ص: 263

أراد إنقاذ البشرية فلم يجد طريقاً إلاّ بأن يهبط إلى الأرض بصورة إنسان؟! تعالى اللّه عما يقولون علواً كبيراً، فكلامهم باطل عقلاً ونقلاً ولا دليل لهم عليه سوى كلام سفسطة لا يفهمه لا عوامهم ولا حتى خواصهم، ولمّا تنقصهم الحجة يقولون: إن هذه المعتقدات فوق مستوى العقل! وهو كلامسخيف جداً، إذ إنه ضد العقل، بمعنى أن العقل السليم يدرك بطلانه، مضافاً إلى أنه لو فسح المجال للادعاءات التي لا يدركها العقل من غير دليل ولا برهان لكان ذلك فتحاً لباب الادعاءات الباطلة، حيث يمكن لكل أحد أن يدعي أنه اللّه سبحانه فلما يطالب بالدليل؟ يقول: إن ذلك فوق مستوى عقولكم!! وهل هذا إلا تعطيل للعقل!

وقوله: {ابْنُ مَرْيَمَ} كأنه للتأكيد على أنه ليس إلهاً؛ لأنه ابن إنسانة نما في رحمها ووُلد منها وشبّ وكبر كسائر الأبناء، والإعجاز بولادته من غير أب وسائر معاجزه لا يخرجه عن كونه ابن إنسانة ولا يرقيه إلى مرتبة الإله.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ...} الآية.

يتضمن نقض كلامهم بأقوال السيد المسيح (عليه السلام) الذي ادعوا ألوهيته، وهذه الكلمات موجودة حتى في الأناجيل المحرفة، فهي من الكلمات التي لم يطلها التحريف، وقد ذكرت هذه الآية أربعاً من كلماته (عليه السلام) الدالة على بطلان زعم ألوهيته وهي:

1- قوله: {يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ} وقد مرّ أن عيسى (عليه السلام) بعث في بني إسرائيل وأمضى حياته كلّها قبل رفعه فيهم، كما قال: {وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي

ص: 264

إِسْرَٰءِيلَ}(1)، لكن شريعته كانت عامة للجميع(2).

وقد أمر عيسى بني إسرائيل بعبادة اللّه تعالى ولم يأمرهم بعبادة نفسه، ولوكان هو اللّه كما يزعمون لدعا إلى عبادة نفسه.

2- قوله: {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} هذه كلمة عيسى (عليه السلام) الثانية، وهي دليل على أنه لا فرق بينه وبين سائر الناس من جهة كونهم عبيداً للّه تعالى وأن اللّه ربهم جميعاً، فلا معنى لزعم ألوهية عيسى (عليه السلام) .

3- قول--ه: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَ-رَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} ثالث كلماته (عليه السلام) وفيها دلالة على أن من الشرك زعم أنه هو اللّه، إذ لا فرق في الشرك بين الاعتقاد بإله آخر يشترك مع اللّه سبحانه في الألوهية، وبين زعم غير اللّه إلهاً أو اعتقاد أن غير اللّه هو اللّه سبحانه؛ لأن في ذلك نسبة ما هو خاص باللّه تعالى إلى غيره فقد أشركه في الصفات الخاصة باللّه حتى وإن زعم أنه هو اللّه تعالى.

وقوله: {حَرَّمَ اللَّهُ} تحريماً تكوينياً، أي منعه عن الجنة أبداً؛ وذلك لأن اللّه تعالى حكيم، ومرتبة الجنة مرتبة سامية لا تكون إلاّ لمن كانت له قابليتها، ولا أهلية للمشرك، فإدخاله الجنة خلاف الحكمة، وخلاف الحكمة قبيح لا يصدر من اللّه تعالى، فليس هناك نقص في رحمة اللّه وإنما النقص في عدم قابلية المشرك.

4- قوله: {وَمَأْوَىٰهُ النَّارُ} أي مصيره ومحله الذي يأوي إليه هو نار

ص: 265


1- سورة آل عمران، الآية: 49.
2- راجع التفكر في القرآن 4: 177-178.

جهنم، وفي ذلك إبطال لعقيدة الفداء التي تزعمها النصارى بأن المسيح صلب فكان ذلك كفارة ذنوب الناس! وهذا مضافاً إلى مخالفته لكلام السيد المسيح (عليه السلام) نفسه، يخالف العقل والحكمة؛ لأنه ترخيص وإباحة لارتكاب الناس للمنكرات والموبقات؛ لأنهم مغفور لهم! وقد مرّ أن اللّه تعالى لم يعدالجنة ولا النجاة من النار إلاّ لمن آمن وعمل صالحاً، فلم يقطع وعداً على أناس بعينهم إلاّ للمعصومين (عليهم السلام) ، ولذا لمّا ذكر أصحاب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وزوجاته قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَا}(1)، وقال: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَٰلِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ...}(2).

كفر طائفة أخرى من النصارى

وقوله تعالى: {وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ} إما من كلام السيد المسيح (عليه السلام) فتكون خامس كلماته، وإما بيان من اللّه تعالى تكميلاً وتقريراً لكلام السيد المسيح (عليه السلام) ، أي لا تنالهم الشفاعة لأنهم ظالمون، أو هو كالتعليل لتحريم الجنة عليهم وكون النار مأواهم بأنهم ظالمون فلا يشفع لهم أحد لسوء فعلهم الذي استحقوا به هذا الجزاء.

الرابع: قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ}.

هؤلاء طائفة أخرى من النصارى يقولون بالأقانيم الثلاثة وأكثرهم يقولون بالأب والابن وروح القدس، وبعضهم كان يقول بالأب والابن

ص: 266


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة الأحزاب، الآية: 31.

والأم قال اللّه تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}(1).

وقيل: إن هاتين الآيتين إشارة إلى طائفة واحدة التي هي أكثرهم وهميناقضون أنفسهم، إذ يقولون: إن اللّه في الوقت نفسه واحد وثلاثة فهي وحدة في عين الكثرة! وهم كثيرو التخبط في بيان هذا المعتقد؛ لأن الشيء الواحد لا يكون ثلاثة إلاّ إذا كان مركباً من ثلاثة أشياء بحيث يكون كل واحد منها جزءاً، والنصارى لا يقولون بالجزئية فلا يرجع كلامهم إلى معنى معقول.

ولا يخفى أن بعض القائلين بوحدة الوجود أسوأ حالاً من هؤلاء النصارى؛ لأن النصارى يقولون بأنه ثلاثة وواحد، وهؤلاء يقولون باتحاده مع كل شيء! تعالى اللّه ما يقولون علواً كبيراً.

وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} هذا بيان لكفرهم، فالمعنى عقيدة هؤلاء القائلين بالتثليث تخالف الواقع، إذ لا يوجد إلاّ إله واحد، وبتعبير آخر هؤلاء يقولون بآلهة ثلاثة أحدها اللّه سبحانه وتعالى مع أن كلامهم باطل يخالف الواقع، إذ لا يوجد إلاّ إله واحد وهو اللّه تعالى، ومن ذلك يتبيّن سبب قوله: {إِلَّا إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} حيث لم يقل: «إلاّ اللّه» كما هو المتعارف في كلمة التوحيد (لا إله إلاّ اللّه)، وذلك لأن هؤلاء يزعمون بآلهة ثلاثة فيقال لهم: لا يوجد إلاّ إله واحد، ومن المعلوم أنه منحصر في اللّه تعالى،

ص: 267


1- سورة المائدة، الآية: 116.

وإدخاله (من) بعد (ما) النافية لتأكيد الاستغراق كما تقول: ما من أحد في الدار، تريد تأكيد النفي واستغراقه لكل الأفراد.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

هذا تهديد لهم عن قولهم هذا، وفي الآية التالية وعظ لهم بالتوبةوالاستغفار، فإن البدء بالتهديد ثم الوعظ أوقع في النفوس وأكثر تأثيراً من العكس؛ لأن عامة الناس خوفهم من العقاب يحركهم أكثر من طمعهم في الثواب أو من وعظهم بإصلاح حالهم، لذا بيّن أولاً مآل كفرهم بالتثليث ليخافوا ثم وعظهم بالتوبة والاستغفار ليصلحوا حالهم.

وقوله: {يَنتَهُواْ} من الانتهاء الذي هو بمعنى الكف والتوقف بسبب النهي، أي الانزجار عمّا نُهي عنه، والمعنى عدولهم عن هذه العقيدة الفاسدة التي نهى اللّه عنها.

وقوله: {عَمَّا يَقُولُونَ} القول أعم من الاعتقاد، وإنما سُمّي الاعتقاد قولاً؛ لأنه سبب للكلام طبقاً له، فالمراد الانتهاء عن هذا الاعتقاد لا مجرد السكوت عنه مع استمرار الاعتقاد به.

وقوله: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} أي ليمسنهم، وإنما أظهر الضمير تأكيداً على كفرهم وأن كفرهم هو سبب عذابهم، و(من) في قوله: {مِنْهُمْ} للتبعيض، أي الذين بقوا منهم على الكفر؛ لأن بعضهم تابوا وآمنوا وأصلحوا فدخلوا في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَٰرَىٰ وَالصَّٰبِِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ

ص: 268

وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1).

السادس: قوله تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

حث وتحريض لهم للتوبة؛ لأن اللّه غفور رحيم يقبل توبة عباده، فإنهخلقهم ليرحمهم فلذا هيّأ لهم أسباب الرحمة، ولأن الرحمة الخاصة لا تنال إلاّ من كان قابلاً لها وليس إلاّ المؤمن، لذلك فسح اللّه المجال لهم ليتوبوا فيدخلون في زمرة المؤمنين فينالون رحمته بالرضوان والجنة، فالاستفهام يراد به العرض والحث كما يقوله القائل: (ألا تنزل بنا)، وقيل: هو بداعي التعجب والذي يراد منه الإنكار عليهم، والأول أقرب.

وقوله: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} التوبة بمعنى الرجوع، ورجوع العبد إلى اللّه هو بترك معصيته وبطاعته، وماهية التوبة وشرائطها شرعاً هي: الندم على ما صدر، والعزم على عدم العود، وأداء الحقوق التي ضيّعها، سواء كانت حقوق الناس أم حقوق اللّه تعالى، ثم الاستغفار باللسان، ويظهر من هذه الآية ومن بعض الروايات أن الاستغفار باللسان خارج عن ماهية التوبة، وإنما هو أمر مستقل ينضم إليها، وقيل: هو من شرائط قبول التوبة، وأن ماهية التوبة هي الندم ويلازم ذلك عزم عدم العود وأداء الحقوق.

وقد ذكرنا فيما مضى بعض البحوث حول التوبة، كما ذكرنا جملة منها في شرح أصول الكافي(2)، وللتفصيل راجع موسوعة الفقة كتاب الشهادات

ص: 269


1- سورة البقرة، الآية: 62.
2- شرح أصول الكافي، للمؤلف 11: 480 فما بعد.

للسيد الوالد رضوان اللّه عليه(1).

وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} أي يتضرعون ويدعون ليغفر اللّه لهم، ويراد به الاستغفار باللسان؛ لأن توبتهم رجوعهم إلى اللّه وأمّا استغفارهم فهو طلبهم رجوعه إليهم، إذ قد يتوب الإنسان إلى اللّه لكن اللّه لا يتوب عليه، وقديتوب اللّه عليه بمعنى رجوع لطفه لكن لا يتوب الإنسان، قال سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ}(2)، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}(3).

والحاصل: إذا طلبوا من اللّه المغفرة مع كون توبتهم حقيقية وجدوا اللّه تواباً ولذا أتمّ الآية بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

من أدلة كون المسيح (عليه السلام) بشراً

السابع: قوله تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ...} الآية.

بعد أن ذكر في الآية 72 أن كلامهم مخالف لكلام المسيح (عليه السلام) ، وبين في الآية 73 عاقبة كفرهم، وفي الآية 74 وعظهم بالتوبة والاستغفار، بعد كل ذلك في هذه الآية والتي بعدها يتم ذكر بطلان كلامهم بالحجة:

الدليل الأول: أنه لا فرق بين المسيح وبين سائر الرسل فلماذا صار إلهاً دونهم، وكذلك لا فرق بين مريم (عليها السلام) وسائر الصديقات فلماذا خصّوها بالألوهية دونهن.

ص: 270


1- الفقه 86: 180-194.
2- سورة التوبة، الآية: 118.
3- سورة آل عمران، الآية: 90.

وقوله: {إِلَّا رَسُولٌ} حصر المسيح (عليه السلام) في الرسالة للدلالة على أنه ليس إلهاً، بل هو رسول للإله، وبعبارة أخرى هو رسول اللّه وليس هو اللّه أو إله مع اللّه تعالى، وكونه رسولاً يقتضي إجراء المعجزات على يديه، وهكذا حال كل رسول من رسل اللّه تعالى، إذ لولا المعجزة لما أمكن لعامة الناس تمييز الرسول من منتحل الرسالة.

وقوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إنما خص الرسل السابقين بالذكر مع أن أفضل الرسل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) جاء بعد عيسى (عليه السلام) ؛ لأنه في مقام الاحتجاج يذكر من يعترفون برسالته كإبراهيم وموسى‘ وغيرهما ممن يعترف به النصارى، فلماذا لم تقولوا بألوهية موسى مع أنه حوّل العصا الميتة إلى ثعبان يسعى، وفلق البحر، وغير ذلك من معاجزه التي لا تقصر عن معاجز عيسى (عليه السلام) .

وقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} الصدّيق والصدّيقة صيغة مبالغة بمعنى كثرة وشدة تصديق اللّه ورسله وآياته، والصدّيق هو من لم يخالف عملُه قولَه، ولا قولُه قلبَه في أي أمر من الأمور، وذلك لا يتوفر إلاّ في المعصومين (عليهم السلام) ومن يتلو تلوهم، ولعلّ ذكرها هنا أولاً لبيان أن عيسى ابن إنسانة فلا يعقل أن يكون اللّه تعالى أو ابن اللّه سبحانه، وثانياً ردّ على من زعم من طوائف النصارى أنها إحدى الثلاثة.

الدليل الثاني: احتياج المسيح وأمه‘ وعروض الحالات البشرية عليهما، ومَن كان محتاجاً لا يكون إلهاً، إذ لا فرق بينه وبين سائر الممكنات، فكما تحتاج هي كذلك يحتاج هو فما الذي جعله إلهاً دونها؟!،

ص: 271

كذلك وجود الأعضاء والجوف والحاجة إلى الأكل وقضاء الحاجة إنما هي من صفات الممكن وينزّه عنها الإله سبحانه وتعالى، وكل ذلك موجود في عيسى وأمّه‘ فليسا إلهين.

وقوله: {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْأيَٰتِ...} تعجيب بأن اللّه يذكر الدلائل الواضحة التي يفهمها كل من استعمل عقله لكن هؤلاء لا يقبلونها؟

وقوله: {أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} من الإفك الذي هو بمعنى الصرف عن الحق، ثم إنه قيل في تكرار (النظر): «إنه بيّن لهم الآيات بياناً عجيباً، وأن إعراضهم عنها أعجب منه»(1).

الثامن: قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا...} الآية.

وهذا في جوهره دليل ثالث على نفي ألوهية عيسى (عليه السلام) ، وإن كان يفترق عن الدليلين الأولين بأنهما دلّا على استحالة ألوهية عيسى (عليه السلام) ، وهذا من جهة عدم انتفاعهم بعبادته، إذ تارة الإنسان يعلم بكون شيء باطلاً، لكنه يرتكب رجاء نفع أو دفع ضرر، فيقال لهؤلاء ما فائدة عبادتكم للمسيح (عليه السلام) ، وهو لا يملك لكم ضراً حتى تريدون بعبادته إرضاءه لئلا يضركم، ولا يملك لكم نفعاً كي تجلبوه بعبادته، وبعبارة أخرى كما احتج اللّه عليهم ببطلان ألوهية عيسى (عليه السلام) كذلك احتج عليهم ببطلان عبادتهم له، بل إن عيسى يتبرأ عن عبادتهم إياه يوم القيامة حيث يقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ

ص: 272


1- الكشاف 1: 635.

فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1).

والحاصل: أن الإنسان إنما يعبد من بيده كل النفع والضرر، وأما من ليس بيده شيء من النفع ولا الضرر فلا معنى لعبادته، بل هو سفاهة ليس فوقها سفاهة، فكل من يتمكن من نفع أو ضرر إنما هو بإذن اللّه تعالى فلا قوة إلاّبه، والآيات تارة قدّمت الضر على النفع كهذه الآية، وتارة عكست كقوله: {لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}(2) ولعلّه لخصوصية في كل مورد، أو أنه لا فرق من حيث المعنى لذلك قدّم هذا تارة وذاك تارة أخرى بلاغةً وتفنناً في العبارة.

وقوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} كأنّه وعيد لهم بأن اللّه يسمع أقوالهم الشركية ويعلم بأعمالهم ونواياهم الكفرية فلا مفرّ لهم من عذابه.

التاسع: قوله تعالى: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ...} الآية.

كأنه نقض لحجة أخرى من حججهم بأنهم يتبعون أسلافهم، فيكون كالدليل الرابع على نفي ألوهية عيسى (عليه السلام) ، وحاصله: أن سبب غلوهم في المسيح (عليه السلام) بحيث ألّهوه وعبدوه هو أنهم ورثوا هذه العقيدة الفاسدة من أسلافهم، والإنسان كالمجبول على حب اتّباع آبائه قال سبحانه: {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم مُّقْتَدُونَ * قَٰلَ أَوَلَوْ

ص: 273


1- سورة المائدة، الآية: 117-118.
2- سورة الرعد، الآية: 16.

جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَٰفِرُونَ}(1)، وقال سبحانه: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِمْ يُهْرَعُونَ}(2).

وقوله: {لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} الغلو هو تجاوز الحد، وللدين حدود رسمها اللّه تعالى، فكل تجاوز إلى الزيادة غلو، فإن كان إلى النقيصة فهوتقصير، ومن الدين أن رسل اللّه سبحانه عباد له مكرمون وأنه لا تجوز عبادتهم، فكل رفع لهم إلى مستوى الألوهية أو عبادتهم غلو.

وقوله: {غَيْرَ الْحَقِّ} حال للتأكيد على أن كل غلو لا يكون حقاً وإنما هو من الباطل.

وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٖ} بيان أن سبب غلوهم هو اتّباعهم لأسلافهم، وأولئك لم يكن ما اعتقدوه عن برهان وحجة من اللّه، وإنما تحكمت بهم أهواؤهم فابتدعوا العقائد الزائفة والعبادات الباطلة.

ويحتمل أن سبب أهوائهم هذه أنهم كانوا وثنيين في الأصل فكان هواهم مع الوثنية، لذا اقتبسوا منها بعض عقائدها وطقوسها فأدخلوها في النصرانية.

وقوله: {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} أي من قبل بعثة رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أو من قبل هؤلاء المخاطبين بهذه الآية، أو من قبل أولئك القوم من الوثنيين، وكان ضلالهم في اعتقاد ألوهية عيسى (عليه السلام) وعبادته.

ص: 274


1- سورة الزخرف، الآية: 23-24.
2- سورة الصافات، الآية: 69-70.

وقوله: {وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا} حيث اتّبعهم الناس على ضلالتهم، فكانوا أولئك سبباً لضلال الكثير من الناس، والنصرانية من أكثر الأديان أتباعاً في العالم، وإثم إضلال هؤلاء المليارات من الناس على من نصّروا النصارى، فمن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها وزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فكيف بمن سنّ عقيدة باطلة هي الشرك بعينه.

وقوله: {وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} لعله ليس تكراراً لقوله: {قَدْ ضَلُّواْ} بل هو كالعلة لضلالهم في التثليث والعبادة وإضلالهم الناس، ببيانأنهم قد ضلوا الصراط المستقيم ولذلك ضلوا في الألوهية والعبادة وأضلوا الناس فيهما، نظير قولك: فلان انحرف فاعتقد بالكفر فخدع الناس، فهؤلاء ضلوا عن سواء السبيل لذلك ضلوا في العقيدة وأضلوا الناس فيها، فتأمل.

وقيل: هو تأكيد.

وقيل: {ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} بعثة الرسول {وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} من بعد بعثته فيكون المراد الرهبان والقساوسة، واللّه العالم.

ص: 275

الآيات 78-81

اشارة

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ 78 كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ 79 تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَٰلِدُونَ 80 وَلَوْ كَانُواْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَٰسِقُونَ 81}

78- ثم يتابع اللّه تعالى ذكر سيئاتهم والتي منها ولاية الكفار فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} دعاء بالطرد عن الرحمة {عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إنما خصهما بالذكر لأن لعنتهما استجيبت، حيث مسخ أصحاب السبت بدعاء داود (عليه السلام) ومسخ كفار المائدة بدعاء عيسى (عليه السلام) {ذَٰلِكَ} اللعن إنما استحقوه {بِمَا عَصَواْ} أي بسبب عصيانهم، {وَ} بسبب ما {كَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي عداونهم أو تعديهم حدود اللّه تعالى.

79- ثم بينّ مصداقين من عصيانهم واعتدائهم: {كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ} لا ينهى بعضهم بعضاً أو لا يتركونه {عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُ} فكان بعضهم يرتكب المنكر وبعضهم لا ينهاهم عنه {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} من فعل المنكر وعدم النهي عنه.

ص: 276

80- ومصداق آخر أنك {تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ} من كفار بني إسرائيل {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يتخذون المشركين أولياء {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ}إلى الآخرة {أَنفُسُهُمْ} لأن أفعالهم كانت عن هوى النفس {أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أن مصدرية، والمعنى بئس المقدَّم إلى الآخرة سخطُ اللّه، والمقصود ما يوجب سخطه، فحاصل الجملة بئست الأعمال الموجبة لسخط اللّه التي قدّموها لآخرتهم {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَٰلِدُونَ} جزاءً على تلك الأعمال السيئة.

81- {وَلَوْ كَانُواْ يُؤْمِنُونَ} إيماناً صادقاً حقيقياً {بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} موسى (عليه السلام) {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} إلى النبي، أي التوراة غير المحرّفة {مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} لأن الإيمان يقطع الصلة بالكفار {وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَٰسِقُونَ} غير مؤمنين فخرجوا عن طاعة اللّه فاتخذوا الكفار أولياء.

بحوث

الأول: بعد التأكيد على كفر اليهود والنصارى ترجع الآيات للتأكيد على موضوع الولاية، فتبيّن لعن بعض بني إسرائيل على لسان أنبيائهم (عليهم السلام) بسبب عصيانهم واعتدائهم حيث كان بعضهم يرتكب المحرمات وبعضهم لم ينههم عن المنكر، بل تولّاهم ولم يتبرأ منهم، وكذلك كثير منهم يتولون سائر الكفار، مع أنهم لو كانوا مؤمنين حقاً لم يتخذوهم أولياء، وتتضمن الآيات الكشف عن فسقهم وعن بعض سيئاتهم وعن جزائهم في الدنيا بالمسخ وفي الآخرة بالخلود في النار.

لعن الأنبياء لكفار بني اسرائيل

الثاني: قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}.

ص: 277

لعلّه خص لعنهم بداود وعيسى‘ مع أنهم لعنهم كل نبي كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَٰئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}(1)، لأجل ظهور استجابة لعن داود (عليه السلام) في أصحاب السبت، واستجابة دعاء عيسى (عليه السلام) في كفّار المائدة حيث مسخ الفريقان، فكان منهم القردة والخنازير.

ثم إن القرآن دلّ على مسخ أصحاب السبت قردةً كما قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْاْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ}(2)، كما دلّ على أن عذاب كفّار المائدة لم يعذبه اللّه أحداً من العالمين، حيث قال: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ}(3)، وفي بعض الروايات بيان أن أصحاب السبت مسخوا قردة وخنازير، وفي بعضها أنهم مسخوا خنازير، وفي بعضها أنهم مسخوا قردة، كما أنه ورد في بعض الروايات حول كفار المائدة مسخهم قردة، وفي بعضها مسخهم خنازير، وفي بعضها مسخهم جريثاً وضباً(4)،

ولعل وجه الجمع بينها بما لا يخالف القرآن الكريم هو تحقق كل ذلك فيهم وإنما ذكرت الآيات ما غلب عليهم، وذكرت كل رواية بعض أنواع عذابهم، وإن لم نهتد إلى وجه الجمع أخذنا بما يدلّ عليه القرآن ورددّنا علم تلك الروايات إلى أهلها (عليهم السلام) ، واللّه المستعان.

ص: 278


1- سورة البقرة، الآية: 161.
2- سورة البقرة، الآية: 65.
3- سورة المائدة، الآية: 115.
4- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 456-457 و 3: 510-511.

ثم لعلّ الغرض من ذكر لعنهم على لسان داود وعيسى‘ بيان سوء عمل اليهود والنصارى بحيث استحقوا لعن أنبيائهم فلا يستبعد منهمتكذيبهم لرسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وتحريفهم للكتاب وغلوهم وضلالهم وإضلالهم وغير ذلك من موبقات ارتكبوها.

سبب لعنهم

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}.

بيان سبب اللعن وهو أمران: العصيان والاعتداء، وذكرهما معاً إمّا تأكيد، فإنّ كل معصية هي تعدي حدود اللّه تعالى، وإمّا العصيان بمخالفة اللّه والاعتداء على الناس، أو المعصية بترك الأوامر والاعتداء بارتكاب المناهي، أو أن الاعتداء من أصحاب السبت كما قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْاْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ}(1)، والعصيان من كفّار المائدة، أو أن العصيان للرسل والتعدي لحدود اللّه، أو لغير ذلك واللّه العالم.

والحاصل: أن لعنهم لم يكن إلا بسبب ما اقترفت أيديهم، فاستحقوا اللعن ولم تكن من الحكمة رحمتهم ومغفرتهم، وما ربك بظلام للعبيد، قال سبحانه: {وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ}(2)، وقال: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ لَعَنَّٰهُمْ}(3)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ}(4)، وقال: {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ}(5)، وغير ذلك من الآيات الدالة على

ص: 279


1- سورة البقرة، الآية: 65.
2- سورة النساء، الآية: 46.
3- سورة المائدة، الآية: 13.
4- سورة الأحزاب، الآية: 57.
5- سورة المائدة، الآية: 64.

أفعال توجب اللعن، وقد جمعتها هذه الآية بأنها العصيان والاعتداء.

الرابع: قوله تعالى: {كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْيَفْعَلُونَ}.

إما بيان لما في الآية السابقة، أي الاعتداء والعصيان، فمن مصاديقه هذا، أو هو بيان للاعتداء بأنهم كانوا يفعلون المنكر ولا يتناهون عنه، ولعل تقديم عدم التناهي على فعل المنكر لأنه أشنع، حيث إن فعل المنكرات من عوامهم عادة وترك التناهي من علمائهم، وذنوب العلماء أشد من ذنوب العوام، وفي الحديث: «يُغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(1)، وفي حديث آخر: «لأحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم»(2)، وذلك لأن العلماء أحق بخشية اللّه من غيرهم كما قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(3).

وقوله: {لَا يَتَنَاهَوْنَ} التناهي إما بمعنى نهي بعضهم بعضاً عن المنكر، وإما بمعنى الانتهاء والترك، والأول أنسب بقصة أصحاب السبت حيث جمعوا بين فعل المنكر وبين عدم النهي عنه بل تثبيط الناهين.

وعبارة {كَانُواْ...} ظاهرة في أن عدم النهي عنه كان أمراً مستمراً، وتنكير {مُنكَرٖ} مع وقوعه في سياق النفي يفيد العموم، أي لم يكونوا ينهون عن أيِّ منكر حتى لو كان عظيماً، وكل الجملة ظاهرة في تفشّي المنكرات فيهم.

ص: 280


1- الكافي 1: 47.
2- الكافي 8: 162.
3- سورة فاطر، الآية: 28.

وفي الآية إشعار بأن النهي عن المنكر واجب حتى لمن يرتكبه أويرتكب منكرات أخرى، وأما قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(1)، فالنهي على عدم الفعل لا على القول وقد مرّ بحثه.

وفعل المنكر قد يكون مكرّراً أو المنكر هو من الأمور المستمرة أو له آثار مستمرة تجب إزالتها فلذا يلزم النهي عنه، فلا يقال: إذا قد فعلوه وانتهى فما معنى النهي عنه؛ حيث إن النهي للانزجار، ولا معنى للزجر عن أمر قد تحقق في الماضي؟! إذ قد عرفت أن النهي عن التكرار وعن الاستمرار وعن الآثار.

وفي الآية دلالة على شدة حرمة ترك النهي عن المنكر، حيث استحقوا بذلك اللعن على لسان داود وعيسى‘.

وقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي فعلهم في ترك التناهي عن المنكر، وهذا تقبيح لفعلهم وتعجيب منه، أي اعجبوا لسوء فعلهم، وفي الآية دلالة على أن ترك النهي عن المنكر إنما هو فعل سيّئ وليس مجرد عدم ٍ، فإن البعض قد يتوهم أن التروك ليست من الأفعال فلا تكليف له تجاهها، فيقال له: إن الترك إنما هو بكفّ النفس وهو من أفعال القلب التي يتعلّق بها التكليف، فالذي يرى المنكر ثم لا ينهى عنه إنما يكف نفسه عن الاعتراض على القبيح الذي هو أمر فطري، فإن الإنسان بفطرته يستنكر ما يدرك قبحه، بل فطرته تسوقه إلى المنع عن تحقق القبائح حتى من غيره، فمخالفته لمقتضى فطرته هو كف للنفس وهو فعل، هذا مضافاً إلى إمكان تعلّق

ص: 281


1- سورة الصف، الآية: 2.

التكليف بالعدم، لأن القدرة تتعلّق بطرفي الوجود والعدم، وحيثتعلقت بالعدم صحّ التكليف به، فتأمل.

الخامس: قوله تعالى: {تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ...} الآية.

بيان لمصداق آخر من عصيانهم أو اعتدائهم وهو ولايتهم للكفار، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا * أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}(1).

وفي الآية إشعار بأن ولاية الكفار توجب اللعن، كما أنها تدل على أن ولايتهم موجبة لسخط اللّه تعالى وعذاب الآخرة، فإن بئس الزاد ما يسخط اللّه كما أن نعم الزاد التقوى.

وقوله: {قَدَّمَتْ لَهُمْ} أي قدّمت إلى الآخرة؛ لأن أعمال الإنسان تسبقه إلى الآخرة إمّا بتجسّمها أو بكتابتها، قال تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا}(2)، وإما هو كناية؛ لأن الجزاء يتبع العمل فكأن الجزاء هو العمل من باب تسمية الشيء باسم سببه، وإمّا هو مجاز عن الفعل؛ لأن أفعال الإنسان المادية عادة تكون بيده فتقع قُدّامه.

وقوله: {أَنفُسُهُمْ} دلالة على أن أعمالهم كانت بالهوى والشهوات فالنفس هي التي قدّمت تلك الأعمال لا العقل والدين، وأما لو كانت

ص: 282


1- سورة النساء، الآية: 51-52.
2- سورة الكهف، الآية: 49.

الأعمال صالحة فالإنسان هو الذي يقدمها فتنتفع بها النفس قال سبحانه:{وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٖ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}(1) فتارة الإنسان يقدم لنفسه الصالحات، وتارة النفس تقدم للإنسان العذاب.

وقوله: {أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} هذا هو المخصوص بالذم كما يقال: (بئس الرجل فلانٌ) ففلان هو المخصوص بالذم، فالمعنى بئس المقدَّمُ سخطُ اللّه، أي العمل الموجب لسخطه، و(السخط) الغضب الشديد المقتضي للعقوبة(2).

وقوله: {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَٰلِدُونَ} سخط اللّه عذابه فهذا المقطع إمّا تأكيد، أو أن السخط إثبات لأصل شدة العذاب، وهذا المقطع إثبات لعدم انقطاعه، أو يقال: إن السخط وإن كان عذاباً - لأن معناه الحقيقي يستلزم التغيّر والكيف النفساني وكلاهما مستحيل على اللّه تعالى - إلاّ أنه عذاب يختلف عن سائر العذابات، فهو عدم لطف اللّه بهم وعدم النظر إليهم ونسيانهم كما قال: {إِنَّا نَسِينَٰكُمْ}(3)، كما أن رضوانه للمؤمنين وإن كان ثواباً أيضاً إلاّ أنه ثواب أعظم من الجنة ونعيمها كما قال: {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}(4)، وذلك بلطفه ونظره وعدم خذلانه إياهم، واللّه العالم.

السادس: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُواْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ...} الآية.

ص: 283


1- سورة المزمّل، الآية: 20.
2- مفردات الراغب: 402.
3- سورة السجدة، الآية: 14.
4- سورة التوبة، الآية: 72.

الظاهر أن المراد بالنبي هنا موسى (عليه السلام) ، وبما أنزل إليه التوراة؛ لأن الكلاممع أهل الكتاب من بني إسرائيل، فيقال: إن هؤلاء إن كان إيمانهم إيماناً صادقاً - وهو يقتضي العمل به حتى لو خالف الأهواء والمصالح فيصدّق العملُ اللسانَ - لم يكونوا يتخذون الكافرين أولياء.

ويحتمل أن يراد بالنبي رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وبما أنزل إليه القرآن، فيكون بياناً لشدة خسارتهم، حيث كفروا برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وبالقرآن، فاستبدلوا الباطل بالحق، وأذلوا أنفسهم بحيث تصاغروا أمام المشركين الذين هم أبعد ما يكون عنهم لئلا يوالوا رسول اللّه وكتابه المنزل الذي يصدّق بكتابهم وأنبيائهم، لكن البغي والحسد أدّى بهم إلى الخروج عن طاعة اللّه سبحانه وتعالى.

وفي الآية دلالة على أن اتخاد الكافرين أولياء فسق وعدم إيمان باللّه وبالنبي وبالكتاب المنزل.

ص: 284

الآيات 82-86

اشارة

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ 82 وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ 83وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّٰلِحِينَ 84 فَأَثَٰبَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ 85 وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ 86}

82- ثم بعد نهي اللّه عن تولّي الكفار يبين حالهم مع المسلمين فقال: {لَتَجِدَنَّ} يا رسول اللّه {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي للمسلمين {الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أما اليهود فلعنصريتهم، وأما المشركون فلجهلهم وغلظتهم {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً} أي إظهاراً للحب القلبي {لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ ذَٰلِكَ} أي أقربية المودة {بِأَنَّ} بسبب أن {مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} علماء {وَرُهْبَانًا} زهاد عبّاد {وَأَنَّهُمْ} أن النصارى {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عن اتباع الحق لو عرفوه، والمقصود بيان أن طبيعتهم عدم الاستكبار وهذا لا ينافي وجود معاندين ومستكبرين فيهم.

ص: 285

83- {وَ} من صفاتهم رقة قلوبهم ف-{إِذَا سَمِعُواْ} هؤلاء النصارى {مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} بأن قُرئ عليهم القرآن وخاصة ما يتعلق بعيسىومريم‘ {تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ} تسيل من شدة الامتلاء {مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ} أي بسبب الذي عرفوه {مِنَ الْحَقِّ} حال كونهم {يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا} بالحق {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ} بتسجيل أسمائنا معهم وحشرنا معهم، والشاهدون هم المسلمون الذين شهدوا بأن الإسلام والرسول حق.

84- {وَ} من صفاتهم رغبتهم في أن يكونوا في زمرة الصالحين فيقولون: {مَا لَنَا} بمعنى أيّ عذر لنا بأن {لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} الإسلام ورسالة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَ} الحال أنا {نَطْمَعُ} والطمع الرغبة الشديدة في الشيء {أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّٰلِحِينَ} في الجنة والرضوان.

85- ولمّا كانوا صادقين فيما قالوا حيث صدقت نياتهم وأعمالهم {فَأَثَٰبَهُمُ اللَّهُ} جزاهم {بِمَا قَالُواْ} بسبب قولهم {جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ} الثواب {جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا قلباً وقولاً وعملاً.

86- {وَ} لكن ليس كلهم كذلك ف-{الَّذِينَ كَفَرُواْ} باللّه {وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} دلائلنا ومنها الرسل {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ} النار الشديدة الاتّقاد.

بحوث

الأول: في ختام آيات الولاية، بعد أن نهى اللّه المسلمين عن ولاية

ص: 286

الكفار والمنافقين وذكر سبب ذلك مع بيان جملة من عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الباطلة، بعد ذلك يبيّن حالة اليهود والمشركين والنصارى مع المسلمين، مع بيان الفرق بين اليهود والمشركين من جهة والنصارى منجهة أخرى.

فأما اليهود والمشركون فهم أشد الناس عداوةً للمؤمنين في قلوبهم مع إظهارها في أعمالهم.

وأما النصارى فلهم محبة ويظهرونها للمسلمين، ثم يذكر اللّه تعالى سبب مبحتهم لهم، ولعلّ الغرض من هذه الآيات حثّ المسلمين على الاتصاف بهذه الصفات؛ لأنها المنجية كما نجّت هؤلاء النصارى حيث آمنوا إيماناً صادقاً، هذا أولاً، وثانياً: حثّهم على السعي لهداية النصارى - من غير أن يتخذوهم أولياء قبل إيمانهم - بأن يعرّفوهم الحق ويتلوا عليهم آيات اللّه تعالى.

كما أن الآيات لما ذكرت تولى اليهود للكفار ذكرت في المقابل عداوتهم للمؤمنين.

سبب شدة عداوة اليهود والمشركين للمسلمين

الثاني: قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ}.

أما اليهود: فبسبب عنصريتهم، حيث إنهم حصروا الدين بقومية بني إسرائيل ويرفضون دخول الآخرين في دينهم، حيث يزعمون أنهم شعب اللّه المختار وأن دين اللّه خاص بهم، ومن كان هكذا دأبه أشتد تمسكه بباطله فلذا يعادي غير قوميّته، وإن رأى فيهم تقدّماً وفضلاً من اللّه تعالى

ص: 287

حسدهم، وإذا علم بأنهم على حق حقد عليهم؛ لأنه يريد الحق لنفسه خالصاً دون غيره، وهذه العنصرية قادتهم إلى معاداة جميع الأقوام والمجتمعات، لكن عداءهم للإسلام والمسلمين أشد؛ لأن اللّه اختار نبيّهممن غير بني إسرائيل ولفشل مؤامراتهم ضد الإسلام والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وخسارتهم في حروبهم مع المسلمين، يضاف إلى ذلك طبيعتهم الخشنة التي ورثوها عن أسلافهم فأورثتهم شدة عدم الانقياد وتضاعف الكفر والانهماك في اتّباع الهوى واستمرارهم على قتل الأنبياء وتكذيبهم ومعاداتهم.

وأما المشركون: فلشدة جهلهم وجفائهم وغلظتهم واستمكان الحسد والحقد في قلوبهم وشدة تكبرهم واستكبارهم وانغماسهم في الشهوات وشدة اتباعهم لطريقة آبائهم وقبولها في حق أو باطل.

ولعل سبب عدم ذكر أوصافهم هو أنها تُعلم من المقابلة مع النصارى، فالنصارى أقرب مودة لوجود الأوصاف المذكورة فيهم، وأما اليهود والمشركون فهم أشد عداوة لعدم وجود تلك الأوصاف، بل وجود أضدادها فيهم.

وقوله: {عَدَٰوَةً} المراد العداوة القلبية التي تظهر في العمل ولذا قيل: «إن العداوة هي إرادة السوء لما تعاديه»(1).

وقيل: إن في تقديم اليهود على الذين أشركوا إشعاراً بأن معاداة اليهود أشد من المشركين.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا

ص: 288


1- مجمع الفروق اللغوية: 352.

نَصَٰرَىٰ...} الآية.

سبب أقربية مودة النصارى للمسلمين

و(المودة) هي المحبة القلبية التي تظهر على الجوارح، قال سبحانه:{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}(1)، ولعل سبب ذلك هو أن دينهم ليس عنصرياً فيتكوّن من خليط من الأقوام، كما أن المحبة من تعاليم السيد المسيح (عليه السلام) والتي لم يطلها التحريف، مما أورثهم عدم الاستكبار ورقة القلب والرغبة في الصلاح والصالحين، وقد ذكرت هذه الآية والآيات التي بعدها مجموعة هذه الصفات، ونجمعها في أربعة أمور:

1- وجود علماء وعبّاد زهاد فيهم.

2- عدم استكبارهم.

3- رقة قلوبهم بحيث لو عرفوا الحق بكوا شوقاً إليه.

4- شدة رغبتم في أن يكونوا مع الصالحين وأن يحشروا في زمرتهم.

وقوله: {أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً} هذا يقابل قوله: {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً} يعني لو قايسنا بين الناس لوجدنا الأشد عداوة اليهود والأقرب مودة النصارى، فتكون الأقربيّة نسبيّة، وفيه إشعار بأن مودتهم ليست تامة، لكن هذا المقدار منها يسوقهم إلى قبول الحق إن عرفوه.

وقوله: {قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ} قيل: إن (نصارى) من النُصرة قال سبحانه: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}(2)، فالمعنى هو أنهم يقولون: إنهم نصارى! ولكن ليس

ص: 289


1- سورة الحديد، الآية: 27.
2- سورة الصف، الآية: 14.

كذلك لأنهم ليسوا أنصاراً لعيسى (عليه السلام) حيث إن دينهم محرّف.

وقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} الصفة الأولى من صفاتهمالتي جعلتهم أقرب الناس مودة للمؤمنين هي وجود علماء وعباد زهاد فيهم، والقوم الذين فيهم علماء وعباد يكونون أقرب إلى الحق وقبوله؛ لأن العلم يكشف الواقع، والعبادة والزهد تجنب الإنسان عن حب الدنيا وزخرفها، وبذلك يُقرّب الناس إلى الحق وقبوله، وأما اليهود فلم يكن فيهم العبّاد الزهاد، وأما علماؤهم فإن عنصريتهم وحبهم للدنيا جعل علمهم غير نافع، بل أضرّهم لأنه صار مطيتهم إلى الدنيا فحرفوا الكتاب وأكلوا السحت وارتكبوا الموبقات الأخرى.

والقس وجمعه قسيسون وقساوسة بمعنى عالم النصارى، وهي كلمة معرّبة، وإن حاول البعض جعلها من أصل عربي من قَسّ الشيء إذا تتبّعه بالليل أو بمعنى نشر العلم!

والراهب وجمعه رهبان، كلمة عربية من الرهبة، وهي بمعنى الخوف مع تحرز واضطراب(1)، ويلازم التحرز والاضطراب استمرار الخوف عادة ولذا فسرت الرهبة بطول الخوف واستمراره(2)، قال سبحانه: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}(3)، وقد شرّع اللّه لهم الرهبانية لكنهم حروفها قال سبحانه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَٰهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَٰنِ اللَّهِ فَمَا

ص: 290


1- راجع مفردات الراغب: 366.
2- معجم الفروق اللغوية: 261.
3- سورة الأعراف، الآية: 154.

رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}(1).

وقوله: {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عطف على قوله: {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ...} أي أن النصارى لا يستكبرون، والاستكبار هو طلب الكبر والعلو على الحق وذلك لا يكون إلا بإنكار الحق وجحده، فالمعنى أنهم لو عرفوا الحق اتّبعوه، وعليه فيخرج من هذه الآية من لم يكن من النصارى كذلك.

وفي التقريب: «إن اليهود طبيعتهم العامة العناد والاستكبار والعداوة، وإن النصارى ليسوا بتلك المثابة، إذ فيهم بعض المنصفين من العلماء، وما أصدق قوله سبحانه فإننا نرى ذلك إلى اليوم، فقد نجد كثيراً من المسيحيين يسلمون ولا نجد إلاّ الشاذ النادر من اليهود يسلمون»(2).

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ...} الآية.

هذه صفة ثالثة للذين قالوا: إنّا نصارى وهي رقة القلب، عكس اليهود الذين أصيبوا بقسوة القلب لسوء أعمالهم قال سبحانه: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}(3).

وقوله: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الفيضان هو امتلاء الإناء ونحوه بالماء وسيلانه، والعين قد تغرورقت بالدمع من غير جريانه على الخد، وقد تفيض

ص: 291


1- سورة الحديد، الآية: 27.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 678.
3- سورة البقرة، الآية: 74.

لزيادة الدمع فيسيل على الخد، وذلك يكون عادة حين شدة التأثر.

وقوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} أي البكاء بسبب معرفتهم الحق، فهوبكاء شوق، ولا يكون البكاء شوقاً إلاّ بعد أن يريد الإنسان الشيء فلا يجده إلاّ بصعوبة أو بعد حين، وفي ذلك دلالة على كونهم طلّاب حق.

وقوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا} هذا نتيجة رقة قلبهم، فإنهم لمّا عرفوا الحق اتبعوه عكس قساة القلب حيث {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَٰفِرُونَ}(1) وقال: {فَوَيْلٌ لِّلْقَٰسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ}(2).

وقوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ} بمعنى قبول إيمانهم، إذ لا ينفع عمل إلا بقبول اللّه تعالى، ومقصودهم أن إيمانهم صادق، لذلك يأملون بقبول اللّه تعالى له، والكتابة إمّا بمعناها الحقيقي بتسجيل أسامي المؤمنين في سجل مخصوص، أو بمعناها المجازي بمعنى حسابهم في زمرة المؤمنين، والشهادة بمعنى شهادتهم على كون الإسلام حق وأن محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) رسول اللّه، قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ كِتَٰبَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}(3).

ثم إن الشهادة إنشاء، والغرض منها تارة إبراز ما في الضمير، كما يقول القائل: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وتارة إثبات شيء بصالح أو ضد شخص آخر وهي شهادة الأداء، والظاهر أن شهادتهم من قبيل الأول، وأما الشهادة بالمعنى الثاني فهي في يوم القيامة خاصة بالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كما مرّ في

ص: 292


1- سورة النحل، الآية: 83.
2- سورة الزمر، الآية: 22.
3- سورة المطففين، الآية: 18.

قوله تعالى: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(1).

وفي شأن نزول هذه الآيات عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أولئك كانوا قوماً بين عيسى ومحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ينتظرون مجيء محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) »(2)، وفي تفسير القمي أنها نزلت في ثلاثين قسيساً بعثهم النجاشي فلمّا وافوا المدينة دعاهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ} إلى قوله: {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(3)، فلما سمعوا ذلك من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بكوا وآمنوا، ورجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقرأوا عليه ما قرأ عليهم، فبكى النجاشي وبكى القسيسون، وأسلم النجاشي(4)، ولا منافاة بين شأني النزول، فالنجاشي وقساوسته كانوا في آخر الفترة بين عيسى (عليه السلام) وبين الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد أدركوا الرسول، ولا يخفى أن كلام الإمام الصادق (عليه السلام) يقصد به أن الآية خاصة بالنصارى الذين اتصفوا بهذه الصفات ولا يشمل النصارى المعاندين، كما يظهر من صدر الحديث حيث ذكر بعض أصحابه النصارى وعداوتهم فأجابه الإمام بهذا الجواب.

الخامس: قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ...} الآية.

ص: 293


1- سورة البقرة، الآية: 143.
2- تفسير العياشي 1: 335.
3- سورة المائدة، الآية: 110.
4- تفسير القمي 1: 176؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 460-461.

بيان لصفة رابعة من صفات النصارى الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا وهي رغبتهم في أن يكونوا صالحين ليحشروا معهم، فإن الإنسان إذا أحب قوماً أو أحب صفات قوم فإنه يحاول أن يلتحق بهم وأن يتحلّى بصفاتهم،فإن الإنسان إذا رغب في شيء حاول الوصول إليه فكيف إذا طمع في الشيء، ولذا أكثر مهالك الناس الطمع في الدنيا وزخرفها، وأكثر نجاتهم بقطع الطمع عنها، فإن الأمور القبيحة إنما يرتكبها الإنسان لرغبة وشهوة، فإذا لم يرغب فيها لم يرتكبها، وأكثر الأمور الحسنة يتركها لعزوف نفسه عنها، فإذا طمع فيها قام بها أحسن قيام.

وقوله: {وَمَا لَنَا} استفهام إنكاري وبيان أنه لا عذر لهم لو تركوا الإيمان مع طمعهم في أن يكونوا مع الصالحين وهم يعلمون أن الإيمان طريق إلى ذلك.

وقوله: {مِنَ الْحَقِّ} بيان ل-(ما) في قوله: {وَمَا جَاءَنَا}.

وقوله: {وَنَطْمَعُ} حال أي والحال أنا نطمع، وحاصل المعنى أنه لا يجتمع عدم الإيمان مع الطمع في الحشر في زمرة الصالحين، فمن لا يؤمن يكشف ذلك عن عدم طمعه بذلك، ومن طمع فيه يؤمن حتماً.

وقوله: {يُدْخِلَنَا} في الدنيا بأن نكون على طريقتهم وفي الآخرة بأن نحشر معهم.

السادس: قوله تعالى: {فَأَثَٰبَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ...} الآية.

أي كلامهم كان صدقاً فقد صدّقه قلبهم بعدم الاستكبار وبمعرفة الحق،

ص: 294

وصدّقته جوارحهم بالبكاء، فكان قولهم قد انطلق من عقيدة وإخلاص، كما أن طمعهم بأن يكونوا مع القوم الصالحين يلازمه عادة الطاعة وترك المعصية، فقد اجتمعت فيهم أركان الإيمان وشرائطه فلذلك استحقوا الثواب بفضل اللّه تعالى.

فقوله: {بِمَا قَالُواْ} قولاً صادقاً لا كقول المنافقين الذين يكذّب عملُهم قولَهم.

وقوله: {الْمُحْسِنِينَ} الإحسان هو إيصال النفع الحسن بشرط كونه خالياً عن وجوه القبح كذا قيل.

السابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ}.

المتعارف في القرآن أنه كلّما ذكر الجنة يذكر النار، وكذا العكس ليكون هنالك توازن بين الخوف والرجاء، كي لا يأمن الإنسان من مكر اللّه تعالى حينما يرى آيات الثواب، وكي لا يقنط من رحمة اللّه حينما يرى آيات العذاب.

ثم إن الجمع بين الكفر والتكذيب بآيات اللّه مع أن أحدهما يلازم الآخر عادة، لعلّه لأجل المقابلة مع الإيمان باللّه وبما جاء من الحق المذكورة في صفات المؤمنين، كما أن كونهم أصحاب الجحيم يقابل الجنات التي تجري من تحتها الأنهار.

وقوله: {الْجَحِيمِ} من الجحمة وهي النار الشديدة الإيقاد.

ص: 295

الآيات 87-89

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 87 وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ 88 لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَٰنَ فَكَفَّٰرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَٰنَكُمْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 89}

87- ثم يذكر اللّه جملة من مواثيقه في الفروع وأكثرها في المأكولات وما يرتبط بها فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ} على أنفسكم بالامتناع عن {طَيِّبَٰتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} والإضافة بيانية، أي طيباتٍ أحلّها اللّه لكم، وفيه إشعار بعلة النهي فمادام اللّه أحلها فلا معنى للامتناع عنها، {وَلَا تَعْتَدُواْ} حدود اللّه سبحانه فتحرموا الحلال، أو تعتدوا من الحلال إلى الحرام، بل اقتصروا على الحلال {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} الذين يتجاوزون حدوده.

88- {وَ} حيث علمتم أنه لا ينبغي الامتناع عن الطيبات ف-{كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} حال كونه {حَلَٰلًا} أي مباحاً {طَيِّبًا} لا خبث فيه،

ص: 296

{وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في أوامره ونواهيه فلا ترتكبوا الحرام الخبيث ولا تمتنعوا عن الحلال الطيب، {الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن إيمانكم به يقتضي إطاعتكم إياه في كل شيء ومن جملته في المأكولات.

89- ومن مواثيقه تعالى الوفاء باليمين المعتبرة، وعدم فائدة اللغو من اليمين، فمن حلف على ترك طعام حلفاً لغواً ليس على شيء. فقال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ} بالعقاب والكفارة {بِاللَّغْوِ} وهو ما جرى على اللسان ولم يكن فيه قصد جدّي {فِي أَيْمَٰنِكُمْ} جمع يمين بمعنى القَسم والحلف، {وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم} بالعقاب والكفارة {بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَٰنَ} أي قصدتم قصداً جدياً ثم حنثتم، {فَكَفَّٰرَتُهُ} التي تكفِّر الذنب بمعنى تستره وتمحوه {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ} فقراء {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي طعاماً وسطاً في الكيفية والكميّة وهو مدّ - ثلاثة أرباع الكيلو - من الحنطة، {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} أي إكساؤهم بثوب كامل، {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٖ} عتقها سواء كان عبداً أم أمة، صغيراً أم كبيراً، {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أحد هذه الثلاثة لفقره {فَ-} كفارته {صِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ ذَٰلِكَ} الذي ذكر من الثلاثة ثم الصيام {كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} ثم حنثتم الحلف، {وَاحْفَظُواْ أَيْمَٰنَكُمْ} أي الالتزام بها واجب، وإنما الكفارة عقوبة للتكفير فلا يظن أحد بأنه يجوز مخالفة اليمين مع دفع الكفارة، بل لا يجوز مخالفته، فإن عصى بالمخالفة وجبت عليه الكفارة عقوبةً، {كَذَٰلِكَ} كما بيّن لكم حكم اليمين وكفارته {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ} تشريعية وتكوينية يوضّحها لكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هدايته وإرشاده لكم.

ص: 297

بحوث

الأول: سياق هذه الآيات أنه بعد أن انتهت آيات الولاية، تبدأ آيات أخرى (87-105) في مواثيقه في المأكل والمشرب، وفيه رجوع إلى ما بدأت به السورة المباركة وتكميل لتلك الآيات، فمن مواثيقه قد أحل اللّهتعالى الطيبات وأباح الانتفاع بها، فلا معنى لتحريمها على النفس بالامتناع عنها، كما أن الإنسان قد يحلف على ترك طعام أو شراب فإن كان اليمين من غير قصد، بل جرى على اللسان جرياً فهو لغو وباطل ولا يترتب عليه شيء، ولكن لو كان مع قصد جديّ فلا بد من الالتزام به بشروطه - وسيأتي بعضها - ولا يحق للإنسان مخالفة اليمين فإنه عصيان، فلو خالف لزمته الكفارة.

كما أنه لمّا تمّ ذكر الرهبان وهم يمتنعون عادة عن النكاح وعن طيبات الطعام لذلك أرشد اللّه المؤمنين إلى عدم صحة أسلوبهم هذا، وأن مدحهم لأجل إيمانهم وعدم استكبارهم لا يعني صحة عملهم بالترهّب.

النهي عن تحريم الطيبات

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ...} الآية.

(الحرام): هو الممنوع سواء تكويناً أم تشريعاً، والتحريم هو منع الغير أو النفس، و(الحَلّ) هو الفتح(1)، ومنه حلّ العقدة أي فكّها، ومنه الحلال بمعنى عدم المنع عنه.

وتحريم ما أحلّ اللّه قد يكون بتشريع بدعة باعتبار الحلال حراماً، أو

ص: 298


1- مجمع البحرين 5: 353.

الإفتاء بذلك خلافاً لما أنزله اللّه، وهما من أشدّ المحرمات؛ لأن ذلك افتراء عليه تعالى، وقد يكون بالامتناع عن الشيء وهذا تارة يكون لسبب طبعي كمن لا يأكل نوع خاص من الطعام؛ لأنه لا يحبه ولا يعجبه طعمه فهذا ليس تحريماً للشيء وإنما ترك له ولا مانع منه، وتارة يكون لسبب دينيكأن يريد التزهد عن الدنيا كمن يترك الزواج وأكل الطيبات زهداً! وهذا مذموم شرعاً؛ لأن اللّه يحب أن يأخذ الناس برُخَصه كما أحب أن يأخذوا بعزائمه، بل إنه تعالى خلق هذه الطيبات للمؤمنين قال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَٰتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(1)، نعم قد تكون هناك حالات استثنائية يحبذ فيها ترك بعض هذه الأمور لعنوان ثانوي، كما لو كان حاكماً لا بد له من أن يساوي نفسه مع أضعف الناس، أو أن التمتع ببعض الطيبات يمنعه عن الأهم كالجهاد في سبيل اللّه تعالى، وقد مرّ أن الزهد إنما هو بمعنى عدم تعلّق القلب بالدنيا لا عدم الانتفاع بها وخاصة مع جعلها قنطرة للآخرة.

والمراد في هذه الآية حسب الظاهر هو الامتناع عن الطيبات لا التشريع المحرّم، كما تؤيده الروايات الواردة في شأن نزول الآية، فيكون نظير قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَ}(2).

وقوله: {طَيِّبَٰتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الإضافة بيانية أي الطيبات التي

ص: 299


1- سورة الأعراف، الآية: 32.
2- سورة التحريم، الآية: 1.

أحلّها اللّه لكم، أو المراد معناها اللغوي أي المستلذات المحلّلة، إذ الحلال قد يكون لذيداً وقد لا يكون لذيداً، فالامتناع عن غير اللذيذ لأجل عدم رغبة النفس إليه لا بأس به، إلاّ أنه لا يحبذ الامتناع عن اللذيذ الذي ترغب النفس فيه وهو حلال من غير محذور.

وقوله: {وَلَا تَعْتَدُواْ} أي لا تتجاوزوا حدود اللّه تعالى، فإن الإنسان أحياناً يمتنع عن الحلال ويؤدي ذلك إلى الوقوع في الحرام، كالذي امتنع عن مباشرة أهله وهذا قد يؤدي به إلى عدم العشرة بالمعروف معها وعدم أداء حقوقها، وكأنَّ في الآية إشعاراً بأن تحريم الحلال الطيب قد يؤدي بالإنسان إلى ارتكاب المحرمات، كما يكثر ذلك في الكنائس حيث يمتنع الرهبان والراهبات عن الزواج فيقعون في العلاقات غير الشرعية، فإن اللّه تعالى جعل في الإنسان رغبات لمصلحة النوع ثم جعل طرقاً لتلبية تلك الرغبات، فقمع الرغبات وعدم سلوك طرقها المشروعة تؤدي بالإنسان أحياناً إلى الوقوع في حبائل الشيطان والوقوع في الطرق غير المشروعة والعياذ باللّه، فمثلاً قد ورد في الحديث: «من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق اللّه في النصف الباقي»(1)، لأن الغريزة الجنسية من أقوى غرائز الإنسان وهي من أهم مداخل الشيطان، فإذا تزوج فقد أشبعها بالحلال فيُغلق على نفسه باب الحرام ويقطع حبالة الشيطان.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} عدم حبه بمعنى كرهه وبغضه والذي هو بمعنى عقابه كما مرّ مراراً.

ص: 300


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 518.

الثالث: قوله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}.

لمّا بيّن اللّه في الآية السابقة الكبرى العامة، ذكر في هذه الآية صغراها في الأكل، فما دام قد نهى عن تحريم الطيبات طبّق ذلك على الأكل، أو أنالآية السابقة نهت عن الامتناع وهذه الآية حثَّت على الأكل تأكيداً.

وقوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ} مفعول، وقوله: {حَلَٰلًا طَيِّبًا} حال، فالمعنى كلوا رزق اللّه حال كونه حلالاً طيباً، وقد مرّ أن اللّه لا يرزق إلاّ الحلال وإنما الإنسان قد يحوّله إلى حرام كما قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا}(1)، كأن يبدّل عنبه خمراً فيشربه، أو يباشر زوجته في حال المحيض ونحو ذلك.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في تبديل ذلك الرزق الحلال الطيب إلى حرام، أو اتقوا اللّه في أكل الحرام وقد رزقكم اللّه الحلال الطيب.

وقوله: {الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} هو استدعاء للتقوى بألطف الوجوه كما قيل، وكأنه يقول مادامكم آمنتم باللّه فعليكم بتقواه، وفيه إشعار بعدم إيمان من لم يتق اللّه.

الرابع: قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم...} الآية.

كأنّ وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها هو أن البعض قد يحلف بترك

ص: 301


1- سورة إبراهيم، الآية: 28.

الطيبات فيقال له: إن حلفك إن كان من دون قصد فهو لغو، وإن كان مع قصد فلا بد لك من الالتزام به - بشروطه - وعليك أن تحفظ يمينك فلا تحنثها، وأن من يحنث فهو عاص وعليه الكفارة، وهذا نظير ما مرّ في آيات الإيلاء حيث قال: {لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَاكَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٖ...} الآيات(1).

فتبيّن أن الآية في مقام بيان عدم اعتبار الحلف من غير قصد، وأن الحلف مع القصد ينعقد ويجب على الإنسان حفظه، ثم بينت السنة أن متعلّق الحلف إن كان حراماً أو مكروهاً أو مرجوحاً فالحلف لا ينعقد ولا كفارة عليه كمن يحلف بشرب الخمر وبترك صلاة الليل، وإنما ينعقد الحلف إذا كان متعلقه راجحاً أو متساوي الطرفين، وليست الآية في مقام جواز الحنث مع دفع الكفارة، بل ظاهر قوله: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَٰنَكُمْ} هو عدم جواز الحنث مع انعقاد اليمين.

وقوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ} لا بالعقاب ولا بالكفارة، فإن هذا النوع من الحلف الذي يجري على اللسان من غير قصد وإن كان فيه المنقصة كما قال: {وَلَا تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَٰنِكُمْ}(2)، إلاّ أنه ليس بحرام، لكن ينبغي للإنسان أن يجلّ اسم اللّه تعالى عن ذلك، وهذا من اللّه امتنان على عبيده برفع آثار الحلف - من الكفارة والعقاب - حينئذٍ.

ص: 302


1- سورة البقرة، الآية: 225-226.
2- سورة البقرة، الآية: 224.

وقوله: {اللَّغْوِ} هو الكلام الهذر الذي لا فائدة فيه، والمقصود هنا هو عدم قصده بالإرادة الجدية، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «اللغو: قول الرجل: لا واللّه، وبلى واللّه، ولا يعقد على شيء»(1).

وقوله: {وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم} أي إن حنثتم، وإلاّ فلو وفى بالقسم والتزم به فلا مؤاخذة عليه، وهذا خاص بالحلف الذي أجازه اللّه تعالى.

وقوله: {عَقَّدتُّمُ} أي قصدتم، وإنما استعمل باب التفعيل للدلالة على المبالغة لغرض بيان أهمية ذلك العمل، فإن المبالغة في الفعل قد تكون للتكثير وقد تكون للتشنيع وقد تكون لبيان الأهمية، فالأول كقوله: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ}(2)، والثاني كقوله: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَٰبَ}(3)، والثالث كهذه الآية.

كفارة حنث اليمين

الخامس: قوله تعالى: {فَكَفَّٰرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ...} الآية.

أي فإن حنثتم فعليكم الكفارة، وقد خيرّهم اللّه بين ثلاثة أمور مالية فإن عجزوا لفقرهم فعليهم الصيام ثلاثة أيام.

وقوله: {فَكَفَّٰرَتُهُ} وهي التي تكفِّر الذنب بمعنى تستره، وقد مرّ سابقاً أن الأصل هو عدم اجتماع عقوبتي الدنيا والآخرة إلاّ فيما استثني وفي الحديث: «فاللّه أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين»(4)، فإن دفع الكفارة غفر اللّه له

ص: 303


1- الكافي 7: 443.
2- سورة الأعراف، الآية: 141.
3- سورة يوسف، الآية: 23.
4- الكافي 2: 443.

إن شاء، وإلاّ فقد ضاعف ذنبه بالحنث أولاً وبعدم دفع الكفارة ثانياً.

وقوله: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ} وهو مخير بين أن يدعوهم إلى مأدبه فيأكلوا حتى يشبعوا أو أن يعطيهم الطعام فلا بد حينئذٍ من إعطاء كل واحد مداً من الطعام.

وقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي طعاماً وسطاً في الكيفية والكميّة، فأما في الكيفية: فلا يجب أجوده ولا يجوز أدناه، بل المتوسط منه، وأما في الكميّة فبمقدار أكل متعارف الناس لا الأكول ولا القليل الأكل، وقد بيّنت الروايات كفاية المدّ - وهو ثلاثة أرباع الكيلو - من الحنطة، فإن المدّ هو الأوسط كمّاً، والحنطة هي الأوسط كيفاً، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إنه يكون في البيت من يأكل أكثر من المدّ، ومنهم من يأكل أقل من المدّ، فبين ذلك، وإن شئت جعلت لهم أ ُدماً، والأُدم أدناه الملح، وأوسطه الخل، وأرفعه اللحم»(1)، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «كفارته إطعام عشره مساكين مداً مداً(2)، من دقيق أو حنطة...»(3).

وقوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} أي إكساؤهم والظاهر لزوم كونه ثوباً كاملاً ولا فرق بين كونه من قطعتين كالمأزر والقميص، أو من قطعة واحدة كالثوب الذي يستر جميع البدن مثل الدشداشة. و{أَوْ} هنا للتخيير، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أن {أَوْ} في القرآن للتخيير(4).

ص: 304


1- الكافي 7: 453.
2- أي لكل واحد منهم مدّ.
3- الكافي 7: 453.
4- الكافي 4: 358؛ مجمع البحرين 1: 38.

وقوله: {ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} لعل سبب المجيء بهذا المقطع - مع أنه قد ذكره في أول الآية بقوله: {فَكَفَّٰرَتُهُ} - هو أن اليمين قد تكون من غير حلف، وذلك بأن يتعاهد جمع ويتصافقون من غير حلف باللّه، ونقض هذا وإن كان قبيحاً إلاّ أنه لا كفارة فيه، وإنما الكفارة فيما لو حلف باللّهتعالى، وفي المعجم: «واليمين اسم مستعار للقسم وذلك أنهم كانوا إذا تقاسموا على شيء تصافقوا بأيمانهم، ثم كثر ذلك حتى صار القسم يميناً»(1)، أو أن الكفارة إنما هي فيما لو كان متعلق اليمين معلوماً غير مردد، أما لو كان مهبماً أو مردداً فلا يتحقق الحنث عادة، فيكون الحلف بمعنى القطع كما عن بعض اللغويين(2)، فتأمل، أو أنه لما قال: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ} أراد من لم يجد الإطعام والإكساء والعتق، ولم يكن المراد الذي عجز عن الوفاء بيمينه، فلدفع هذا التوهم قال: {ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} واللّه العالم.

وقوله: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَٰنَكُمْ} أي إنّ تشريع الكفارة ليس لأجل إباحة مخالفة اليمين، كما قد يتوهمه البعض بأنه كل من أراد حلّ يمينه دفع الكفارة! بل يجب الوفاء بالأيمان والالتزام بها، فإن خالف فقد عصى ويؤاخذه اللّه بالكفارة.

وقوله: {ءَايَٰتِهِ} يدل على أن تشريعات اللّه من آياته، كما أن خلق السموات والأرض آياته التكوينية؛ لأن كلاً من التشريع والتكوين يدلّ على

ص: 305


1- معجم الفروق اللغوية: 429.
2- المصدر نفسه.

خالق عالم حكيم.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لأن الإنسان لما يرى الآيات ويتفكر فيها تدله على صانع قادر حكيم لطيف بعباده حيث غمرهم بالنعم - تكوينية وتشريعية ببيانه الأحكام - وذلك يستوجب شكراً من العبيد له، وبشكرهم يستحقونالرحمة الخاصة بفضل من اللّه تعالى.

ص: 306

الآيات 90-93

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَٰنِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 90 إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوٰةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ 91 وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ 92 لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 93}

90- بعد أن أباح اللّه الطيبات نهى عن الخبائث فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ} وه-و ك-ل م-ا أسكر من الشراب {وَالْمَيْسِرُ} وهو القمار {وَالْأَنصَابُ} وهي الأصنام المنصوبة التي كان يُذبح لها أو تُلطخ بدماء الذبائح {وَالْأَزْلَٰمُ} وهي سهام القمار {رِجْسٌ} قذر وخبيث {مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَٰنِ} أي العمل الذي يأمر به الشيطان بل هو أول من صنعها ليضلّ الناس بها {فَاجْتَنِبُوهُ} أي ابتعدوا عنها، ومرجع الضمير الرجس أو كل واحد من المذكورات {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تنالون خير الدنيا والآخرة.

91- ثم أكد النهي بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ} بوسوسته {أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةَ} عملاً {وَالْبَغْضَاءَ} قلباً {فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أي بسببهما؛

ص: 307

لأنهما منبع الشرور، {وَيَصُدَّكُمْ} يمنعكم {عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوٰةِ} لأنهما يوجبان الغفلة عن الذكر والصلاة أما الخمر فلزوال العقلوأما الميسر فلشدّة الانشغال، {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} تطيعون النهي أو تاركون لهما؟ وهذا نهي شديد بصيغة الاستفهام، أي فأيّ عذر بقي لكم في ارتكابهما بعد هذا البيان الواضح الشديد!

92- {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} في التكاليف التي منها حرمة الخمر والميسر {وَاحْذَرُواْ} عقاب اللّه لو خالفتم، {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن طاعتهما بأن اقترفتم النواهي {فَاعْلَمُواْ} أن الحجة تامة عليكم واستحققتم بذلك العقوبة إذ الرسول قد بلّغ و{أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ} الواضح، فلا تضره مخالفتكم بل تضرّكم.

93- وأمّا الذين شربوا الخمر قبل إسلامهم أو قبل إعلان تحريمها ف-{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٌ} إثم ومؤاخذة {فِيمَا طَعِمُواْ} أي أكلوا أموال الميسر وشربوا الخمر قبل إسلامهم أو قبل إعلان تحريمهما {إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} أي إذا أسلموا وأطاعوا اللّه في أوامره ونواهيه، {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ} بأن استمروا على ترك المحرمات وعلى الإيمان، {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} بأن استمروا على ترك المحرمات وعمل الصالحات {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا إلى أنفسهم، كرر الاتقاء ثلاث مرات، الأولى: في أصل إسلامهم، والثانية: الاستمرار فيه مع الإيمان، والثالثة: الاستمرار فيه مع عمل الصالحات.

ص: 308

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه إباحة الطيبات أراد النهي عن الخمر والميسر اللذين هما من أخبث الخبائث، وقد أكّد حرمتهما بأشد تأكيد، ذلك لأنهما كانا ولازالا يتغلغلان في المجتمعات البشرية مع شدة ضررهما، إلاّ أن الهوى مانع عن الاستجابة لنداء العقل، فلذا لزم تأكيد النهي بشدة، فمن ذلك قرنها بالأصنام فكلها في سلك واحد، ومنها: بيان أنها رجس، مع حصرها فيه بأداة الحصر التي هي (إنما)، ومنها: بيان حقيقة أنها من عمل الشيطان، ومنها: تقيد الفلاح بالاجتناب عنها، ومنها: بيان أضرارها الدنيوية بأنها توقع العداوة والبغضاء، وبيان أضرارها الدينية بأنها تصدّ عن ذكر اللّه وعن الصلاة، ومنها: النهي المؤكد بصيغة الاستفهام التقريري، ومنها: التحذير، ومنها: التهديد على تولّيهم عن الإطاعة في تركهما، ثم التأكيد على اتقاء اللّه في تركهما ثلاث مرات، كل ذلك تشديد في تحريم الخمر والميسر عسى ولعل الناس ينتهون عنهما.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَٰمُ...} الآية.

{الْخَمْرُ} هو كل شراب مسكر سواء اتخذ من العنب أم سائر الفواكه أم الحبوب أم غيرها، وليس خاصاً بالمتخذ من العنب، فإن وقت نزول الآية لم يكن في المدينة من شراب العنب إلاّ القليل جداً وإنما كان للناس شراب التمر المسمّى بالفضيخ(1)؛ لأن المدينة فيها النخيل دون كرم العنب.

و{الْمَيْسِرُ} هو كل ما تُقومر به سواء كان آلة قمار كالنرد والشطرنج،

ص: 309


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 469 عن الإمام الباقر (عليه السلام) .

أو كانت فيه مراهنة بالمال حتى لو كان بمثل الجوز.

و{الْأَنصَابُ} الأوثان التي كانوا يعبدونها، وكانوا يذبحون لها أو يلطخونها بدماء ذبائحهم، وقد يراد بالأنصاب الذبائح التي ذُبحت لها، وقدسئل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عنها: «قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم»(1).

وقوله: {وَالْأَزْلَٰمُ} هي سهام القمار، وقد مرّ تفصيلها في الآية 3، فراجع، وقيل: إنما ذكرها بالخصوص مع دخولها في الميسر، لاشتهارها في الجاهلية أو لاقترانها بالأنصاب عادة؛ لأنهم كانوا يقتسمون الذبيحة بالقمار ويلطخون دمها على الأنصاب.

وقوله: {رِجْسٌ} هو كل ما يستقذر مادياً كان أم معنوياً، والرجس والرجز بمعنى واحد، بل في المقاييس: «فأما الرجز الذي هو العذاب والذي هو الصنم في قوله جل ثناؤه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}(2) فذلك من باب الإبدال لأن أصله السين»(3).

قيل: إن الغالب استعمال الرجز في العذاب، والرجس في فعل الإنسان.

وقوله: {مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَٰنِ} الإضافة بمعنى (من) أي هو عمل ناشئ عن الشيطان بوسوسته، وروي أن الشيطان هو الذي ابتدعها حقيقة وعلّمها الناس ليغويهم(4).

وقوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} إفراد الضمير مع أن الأمر بالاجتناب راجع إلى

ص: 310


1- الكافي 5: 122.
2- سورة المدثر، الآية: 5.
3- مقاييس اللغة: 422.
4- مجمع البحرين 4: 74.

الأربعة، إما لأنه يرجع إلى الرجس أي فاجتنبوا الرجس الذي هو هذه الأربعة، وإما باعتبار المعنى أن اجتنبوا كل واحد منها، وإما لأنها في واقعها شيء واحد لا فرق بينها.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الفلاح هو الفوز، وقيل: هو نيل الخير والنفع الباقي أثره(1)، وفي هذا إعطاء الرجاء والأمل بأن تركها مظنة النجاة، وقد مرّ أن (لعلّ) من اللّه واجب أو هو إبهام مع إعطاء الأمل لئلا يغترّ الإنسان بذلك الوعد إذا كان جازماً.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ...} الآية.

قيل: لمّا كان الغرض من الآية السابقة تحريم الخمر والقمار، وإنما ذكر الأنصاب لأجل زيادة التشنيع عليهما، ولمّا كانت الأزلام نوعاً من أنواع القمار، لذلك خصّ هذه الآية بالخمر والميسر.

وقوله: {يُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ} وفاءً لقسمه حيث قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(2)، وقال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ}(3).

ص: 311


1- معجم الفروق اللغوية: 321.
2- سورة الحجر، الآية: 39-40.
3- سورة الأعراف، الآية: 16-17.

والحاصل: أن الشيطان لا يريد خير بني آدم حسداً وتكبراً، بل يريد شرّهم فلذا فكل ما يريده هو من الباطل والمحذورات التي يجب على الإنسان اجتنابها.

من أضرار الخمر والقمار

ثم ذكرت الآية ضررين شديدين يترتبان على الخمر والميسر أحدهمادنيوى والآخر ديني:

1- قوله: {أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} قد مرّ أن البغضاء في القلب والعداوة ما ظهر منها على الجوارح عادة، فأما الخمر فلأنه يزيل العقل، فيرتكب شاربها أنواع المآثم والتعدي على الغير مما يوجب العداوة والبغضاء، وأما الميسر فلأن فيه ابتزاز أموال الناس وأكلها بالباطل، بل قد يخسر المقامر ما له وعرضه وكل ما يتعلّق به من غير وجه حق، وهذا يورث العداوة والبغضاء وأحياناً ارتكاب الجرائم، هذا في الضرر الدنيوي.

2- قوله: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوٰةِ} هذا الضرر الديني، وما أشدّه من ضرر، أمّا الخمر فواضح لأن السكران لا يعي شيئاً فيغفل عن الذكر فيرتكب الموبقات في تلك الحال كما أنه يغفل عن الصلاة، وأمّا الميسر فلأجل أن المقامر يلهو لهواً شديداً فحيث لا يريد الخسارة أو يريد الربح لا يترك اللعب بالميسر حتى تفوته الصلاة.

ثم إن ذكر الصلاة بخصوصها مع أنها من ذكر اللّه تعالى إمّا لأجل أهميتها أو لأن اللّه قد نهى في آية سابقة عن الصلاة في حال السكر فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}(1).

ص: 312


1- سورة النساء، الآية: 43.

وقوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} هذا تشديد للنهي بصيغة الاستفهام، كأن المعنى بعد هذا التشديد والتصريح والبيان فهل بقي لكم عذر في ارتكابهما، وفي تفسير الصافي: «ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتباً على ما تقدّم من أنواع الصوارف، إيذاناً بأن الأمر بالمنعوالتحذير بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت»(1)، وفي مجمع البيان: «صيغة استفهام، ومعناه النهي، وإنما جاز في صيغة الاستفهام أن يكون على معنى النهي؛ لأن اللّه ذمّ هذه الأفعال وأظهر قبحها، وإذا ظهر قبح فعل للمخاطب ثم استفهم عن تركه لم يسعه إلاّ الإقرار بالترك، فكأنه قيل له: أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما ظهر؟ فصار النهي بقوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} في محل من عقد له عليه ذلك بإقراره، وكان هذا أبلغ في باب النهي من أن يقال: انتهوا ولا تشربوا»(2).

تحريم الخمر في جميع الشرائع

ثم اعلم أن الخمر لم يحلّها اللّه قط، ولم يبعث نبياً إلاّ بتحريمها(3)، لكن في أوائل البعثة كان سكوت عنها لا تحليل لها ثم نسخه.

ثم إن اللّه تدرّج في بيان تحريمها بأن ألمح في آيات مكية كقوله في سورة النحل: {وَمِن ثَمَرَٰتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}(4) حيث قابل الخمر بالرزق الحسن إيذاناً بأنه ليس بحسن.

ثم نهى في المدينة عن الصلاة في حال السكر فقال: {لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ

ص: 313


1- تفسير الصافي 2: 487.
2- مجمع البيان 3: 588.
3- راجع الكافي 6: 395.
4- سورة النحل، الآية: 67.

وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}(1)، ومن المعلوم أن الصلاة لا تترك بحال فكان نهياً عن شرب الخمر في أكثر الأوقات لئلا تفوت الصلاة.

ثم أنزل نهياً صريحاً في سورة البقرة حيث قال: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِننَّفْعِهِمَا}(2)، لكن بعض المسلمين استمروا بشربها حتى أنزل اللّه هذه الآية التي فيها تقريع شديد، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في سورة البقرة، فراجع(3).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ما بعث اللّه عزّ وجلّ نبيّاً قط إلاّ وفي علم اللّه تعالى أنه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم تزل الخمر حراماً، وإنما ينقلون من خصلة ثم خصلة، ولو حُمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين»، وقال (عليه السلام) : «ليس أحد أرفق من اللّه تعالى، فمن رفقه تبارك وتعالى أن ينقلهم من خصلة إلى خصلة، ولو حمل عليهم جملة لهلكوا»(4).

الرابع: قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ...} الآية.

كأنه تشديد لتقريعهم حيث لم يطيعوا التحريم فيما أنزله اللّه في سورة البقرة والنساء، فيأمرهم اللّه بإطاعته وإطاعة رسوله، ثم يحذرهم عن مغبة المخالفة، وفيه تهديد صريح وواضح لهم، فإن التحذير إنما يكون عن الخطر، وعدم الإطاعة يوجب خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فأخذهم الحذر

ص: 314


1- سورة النساء، الآية: 43.
2- سورة البقرة، الآية: 219.
3- التفكر في القرآن 3: 107-109.
4- الكافي 6: 395؛ تهذيب الأحكام 9: 102.

يدعوهم إلى ترك السيئات والعمل بالواجبات، والذي مورد الكلام هو الانتهاء عن شرب الخمر ولعب الميسر.

وقوله: {فَاعْلَمُواْ} تهديد آخر بلفظ شديد، أي إن أعرضتم عن الإطاعة واستمررتم في ارتكابهما فاعلموا... الخ، وهذا أسلوب تهديدي متعارفلإتمام الحجة ولعدم إبقاء أي عذر يعتذرون به، إذ الرسول قد أدّى مهمته بأحسن وجه حيث قد بلّغ إليكم ما أمره اللّه، وكان تبليغه واضحاً لا لبس فيه، ويمكن أن يكون تلميحاً بأن الضرر لا يرجع إليه؛ لأنه لم يقصّر وأدّى ما عليه بأحسن وجه، وإنما الضرر يعود عليكم.

الخامس: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ...} الآية.

في معنى الآية احتمالان:

1- أن تكون تتمة لما سبقتها، وفي مجمع البيان: «لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة: يا رسول اللّه! ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر؟ فأنزل اللّه هذه الآية»(1)، فالمعنى لا مؤاخذة عليهم على ما أكلوه وشربوه قبل إسلامهم أو قبل علمهم بالتحريم، لكن بشرط كون إسلامهم لا عن نفاق، بل عن إيمان وعمل صالح واتقاء للمحرمات ثم استمرارهم على الاتّقاء والإيمان ثم استمرارهم على الاتقاء والعمل الصالح.

2- أن يكون اللّه قد أباح للمؤمنين الطيبات دون غيرهم من الكفار

ص: 315


1- مجمع البيان 3: 590.

والمنافقين - الذي يأكلون حراماً وغصباً - كما يظهر من بعض الروايات(1)، فالمعنى أنّ اللّه قد أباح للمؤمنين كل طعام وشراب بشرط اتقاء المحرمات - التي هي أقل القليل - فيكون ارتباطه بما قبله من الآيات بأن اللّه وإن حرّمعليكم الخمر والميسر إلاّ أنه أباح لكم عامة الأشياء بشرط اتقاء المحرمات.

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أُتي عُمر بقدامة بن مضعون وقد شرب الخمر، وقامت عليه البينة، فسأل علياً (عليه السلام) ، فأمره أن يضربه ثمانين، فقال قدامة: يا أمير المؤمنين، ليس عليّ حدّ، أنا من أهل هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} فقال علي (عليه السلام) : لست من أهلها، إن طعام أهلها حلال، ليس يأكلون ولا يشربون إلاّ ما أحلّ اللّه لهم»(2)، وهذا الخبر يحتمل المعنيين؛ لأن قدامة قد شرب الخمر بعد إسلامه وبعد التحريم والآية فيمن شربها قبلهما بناءً على الاحتمال الأول، كما أنه لم يتق حيث شرب ما حرّمه اللّه والآية فيمن اتقى بناء على الاحتمال الثاني.

وقوله: {جُنَاحٌ} أي حرج وإثم ومؤاخذة.

وقوله: {فِيمَا طَعِمُواْ} أي أكلوه من أموال الميسر وشربوه من الخمر، والطعم قد يأتي بمعنى الأكل فاستعماله في الشرب للتغليب، وقد يأتي بمعنى التذّوق فيعم الأكل والشرب كقوله: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي

ص: 316


1- راجع شرح أصول الكافي، للمؤلف 6: 156-173.
2- تهذيب الأحكام 10: 93؛ وقريب منه في تفسير العياشي 1: 341.

وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي...}(1).

ثم إن تكرار التقوى ثلاث مرات لعلّه لأجل التأكيد ولبيان أهمية الاتقاء عن المحرمات، ففي المرة الأولى جمع الاتقاء مع الإيمان والعمل الصالحفقال: {إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ}، وفي المرة الثانية ذكر الاتقاء مع الإيمان فقال: {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ}، وفي المرة الثالثة ذكر الاتقاء مع الإحسان - الذي هو العمل الصالح - فقال: {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ}، وغير خفي أنه كرر الإيمان والعمل الصالح في هذه الآية ثلاث مرات أيضاً حيث ذكرهما في صدر الآية أيضاً، فقال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٌ}، وعليه فتم ذكر الإيمان والعمل الصالح والاتقاء ثلاث مرات في هذه الآية.

ولعل السر في ذلك أنه لمّا أراد أن يبين العفو عنهم فيما ارتكبوه في الجاهلية أو قبل علمهم بالحرمة أراد أن لا يكون عفوه ذريعة لهم في التكرار، أو لمّا أراد أن يبيح كل شيء لهم أراد أن لا يتخذوه وسيلة للتعدي إلى المحرمات فكرر الإيمان والعمل الصالح والتقوى، نظير آية الربا حيث قال: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(2)، وقال سبحانه: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}(3).

ص: 317


1- سورة البقرة، الآية: 249.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- سورة الأنفال، الآية: 38.

والحاصل: أن التكرار في الاتقاء والإيمان والعمل الصالح إنما هو لبيان لزوم الاستمرار عليها دائماً، وقد ذكر المفسرون ههنا للفرق بين هذه الثلاثة أموراً لكن الآية لا تدل عليها بخصوصها، واللّه العالم.

وقوله: {وَّأَحْسَنُواْ} كأن المراد به - بقرينة السياق - هو إحسانهم إلى أنفسهم، وذلك بعملهم بالصالحات قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}(1).

ص: 318


1- سورة الكهف، الآية: 30.

الآيات 94-96

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٖ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ 94 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ هَدْيَا بَٰلِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّٰرَةٌ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ 95 أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَٰعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 96}

94- ومن جملة المحرّمات في المأكولات: الصيد حالة الإحرام، فنهى اللّه تعالى عنه فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} من البلاء بمعنى الامتحان {بِشَيْءٖ مِّنَ الصَّيْدِ} أي المصيد، وهو كل حيوان ممتنع وحشي {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} تتمكنون من أخذه بسهولة، كالفراخ والبيض {وَرِمَاحُكُمْ} تحتاجون إلى سلاح لصيده، وإنّما يمتحنكم {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} أي ليظهر ما علمه أزلاً {مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} أي حال كون اللّه غائباً عن حواسه، أو بمعنى ليميّز اللّه الخائف عن العاصي، {فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ} أي بعد النهي والابتلاء {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة إلاّ أن يكفّر عن

ص: 319

ذنبه، ثم بيّن الكفارة في الآية التالية.

95- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ} المصيد ويراد به البرّيّ منه{وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي حال كونكم داخلين في الإحرام أو في الحرم، {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا} أي قاصداً إلى قتله مع تذكره لحرمته {فَ-} عليه {جَزَاءٌ} أي كفارة {مِّثْلُ مَا قَتَلَ} أي حيوان مثل المصيد في الحجم {مِنَ النَّعَمِ} أي الجزاء من الأنعام الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، فمثلاً في النعامة بعير، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الظبي شاة، {يَحْكُمُ بِهِ} أي بكونه مِثْلاً {ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ} أي رجلان عادلان وهما الرسول والإمام، وفيما لم يحكما به فكل عادلين من أهل الخبرة، والكفارة تهدى {هَدْيَا بَٰلِغَ الْكَعْبَةِ} أي يبلغ الحرم فإن كان في العمرة يذبح أو ينحر في مكة، وإن كان في الحج ففي منى، {أَوْ} عليه {كَفَّٰرَةٌ طَعَامُ مَسَٰكِينَ} أي إن لم يتمكن من الهدي أطعم المساكين إلى حدّ الشبع أو اشترى بقيمته حنطة يوزعها على الفقراء كل فقير مدّ، {أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ} أي ما يساوي الطعام لو لم يتمكن منه يصوم {صِيَامًا} بدل إطعام كل مسكين يوماً، وإنما جعلت هذه الكفارة {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي عقوبة فعله بقتل الصيد، وأما صيدهم زمان الجاهلية أو قبل النهي فقد {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} فلا مؤاخذة ولا كفارة، {وَمَنْ عَادَ} إلى الصيد بعد النهي مرة ثانية {فَ-} لا كفارة عليه في الدنيا لشناعة عمله بل {يَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} بأن يعاقبه في الآخرة، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب على أمره {ذُو انتِقَامٍ} يعاقب من خالف لحكمته تعالى، هذا كلّه في عملية الصيد.

ص: 320

حرمة الصيد البري حالة الإحرام

96- وأما أكل المصيد فهو بحريّ وبرّىّ، أما البحري فقد {أُحِلَّ لَكُمْ} أكل {صَيْدُ الْبَحْرِ} أي الطريّ منه {وَطَعَامُهُ} أي المجفّف المملّح منه{مَتَٰعًا لَّكُمْ} تلتذّون بأكله في محلّ استقراركم وهذا في الطريّ غالباً {وَلِلسَّيَّارَةِ} أي المسافرين وهذا في المجفّف غالباً، {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أكل {صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} في حالة الإحرام، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} احفظوا أنفسكم عن عقابه على المخالفة {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازيكم ولا مفرّ منه.

بحوث

الأول: لما كان الكلام حول الحلال والحرام من المأكولات، يذكر اللّه تعالى في هذه الآيات حكم الصيد في حالة الإحرام، وبيان أن لحمه من الخبائث، إذ الخبائث قد تكون بالذات كالخمر وقد تكون بالعرض كميتة الحيوان الحلال اللحم.

فبدأ أولاً بذكر أن اللّه تعالى يختبر عباده مطلقاً، وفي حال عبادتهم على الخصوص، وحيث إن الحج والعمرة من أهم العبادات فقد جعل اللّه فيهما الاختبار أيضاً، وذلك ليظهر ما علمه أزلاً من المطيع والعاصي، إذ العقوبة إنما تكون بعمل العبد لا بعلم اللّه تعالى، كما أن الثواب وإن كان كلّه تفضلاً إلاّ أن بعض درجاته لا تكون إلاّ بعمل العبد حيث لم تكن من الحكمة نيله تلك الدرجات اعتباطاً.

ثم ثانياً: يذكر أن من خالف الحكم وصاد استحقّ عذاب اللّه تعالى، إلاّ أن اللّه للطفه بعباده جعل الكفارة بديلاً، فهي تكفّر الذنب أي تمحوه، وهي تكون بتعظيم الكعبة بإرسال هدي إليها ليذبح بمكة أو منى، فإن عجز عن

ص: 321

الهدي أطعم مساكين بقيمته، فإن عجز صام بدلاً عن الإطعام، مع بيان أنهذه الكفارات إنما هي نتيجة مخالفته، ثم تبين الآية أن اللّه عفا عن صيدهم أيام الجاهلية أو قبل إعلامهم بالنهي فلا عقوبة عليه ولا كفارة، وأما من صاد بعد النهي فعليه الكفارة، فإن صاد مرة أخرى فهذا مصرّ على الذنب فلا تنفعه الكفارات الدنيوية بل عقوبته في الآخرة.

ثم ثالثاً: يتم بيان حكم أكل الصيد، فإن كان صيد البحر فيجوز أكله طرياً - مما يلازم صيده من الماء - أو قديداً، وأما لحم صيد البر فحرام سواء الطري منه أم القديد، نعم بعد الإحلال والخروج من الحرم يجوز أكل لحم صيد البرّ، وأما في حالة الإحرام فلا يجوز أكل لحمه حتى لو صاده مُحِلّ في خارج الحرم.

ثم رابعاً: في الآيات اللاحقه (97-100) يتم بيان علّة الحكم وسيأتي.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٖ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ...} الآية.

هذه الآية كالمقدمة لبيان حكم الصيد، ببيان أن اللّه تعالى يختبركم به مع سهولته وحاجتكم، فترغب النفس إليه، فيكون فيه الامتحان، وأما ما تعافه النفس فلا امتحان في تركه عادة، كما أنه لا امتحان في فعل ما ترغب النفس إليه كأن يقال إن الطعام الشهي اللذيد حلال لامتحانكم به. والحاصل: أن الامتحان إنما يكون فيما يصعب على الإنسان، وفي الأسفار الطويلة - وخاصة فيما مضى - لم يكن زادهم إلاّ الطعام المجفف ونحوه وأما اللحم الطريّ من أصناف الحيوانات المحلّلة فلم يكن يتوفر لهم عادة

ص: 322

إلاّ بالصيد الذي لا يكلّفهم مالاً ولا سفراً مع مرورهم بمواطن الحيوانات،فكان في ذلك الامتحان، كما أن اللّه تعالى قد يسهّل الشيء مزيداً في الامتحان فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «حُشرت لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في عمرة الحديبيّة الوحوش، حتى نالتها أيديهم ورماحهم»(1)، كما حصل لأصحاب السبت حيث قال تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}(2)، ولذا قيل: إن اللّه اختبر بني إسرائيل بصيد البحر واختبر أمة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بصيد البر في حالة الإحرام.

وقوله: {بِشَيْءٖ مِّنَ الصَّيْدِ} قيل: من للتبعيض لإخراج صيد البحر كما يأتي، و{بِشَيْءٖ} للتحقير أو للتكثير، و{الصَّيْدِ} هنا بمعنى المصيد، أي الحيوان الذي يُصاد.

وقوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} لبيان سهولة صيده وقُربه، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «تناله أيديكم: البيض والفراخ، ورماحكم: الأمّهات الكبار»(3).

وقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} أي ليظهر ما علمه أزلاً، وقد مرّ الكلام فيه، أو ليميّز اللّه.

وقوله: {بِالْغَيْبِ} أي في حال غياب اللّه تعالى عن حواسه، فإن اللّه منزّه

ص: 323


1- الكافي 4: 396.
2- سورة الأعراف، الآية: 163.
3- تفسير العياشي 1: 342.

عن الجسم ولا تدركه الأبصار والحواس، أو بمعنى في الخلوات حيث لايراه سائر الناس فقد يتمكن الإنسان من الصيد في الصحراء في القوافل الكبيرة خفيةً، والأول أظهر.

وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ} أي اعتدى على حدود اللّه بأن تجاوزها، أو اعتدى على الصيد، والأول أظهر.

وقوله: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي يستحق عذاب الآخرة، وهذا كالمقدمة لبيان لطف اللّه تعالى بتبديل العذاب بالكفارة في الآية التالية.

كفارة الصيد

الثالث: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ...} الآية.

هذه الآية في النهي عن الصيد بالمعنى المصدري، أي عملية الصيد وفي كفارته، وأما حكم أكله ففي الآية اللاحقة.

وقوله: {لَا تَقْتُلُواْ} لا يخفى أن الصيد حرام حتى لو لم يستلزم القتل كأن يأخذه بيده حياً أو ينصب له شبكة يقع فيها حياً، إلاّ أن قتله أشنع، كما أن الغرض من هذه الآية بيان الكفارة، ولا كفارة في أخذه حياً وإنما يجب عليه إرساله، فلذلك ذكر حكم القتل، وترك حكم غير القتل إلى السنة.

وقوله: {الصَّيْدَ} هو كل حيوان وحشي ممتنع فلا يمشل الحيوان الأهلي كالغنم.

وقوله: {حُرُمٌ} جمع حرام وهو بمعنى المُحر ِم(1)، وهو بمعنى الداخل في الحرم وبمعنى الداخل في الإحرام بأن أهلّ بالحج أو العمرة، وعليه

ص: 324


1- راجع مجمع البيان 3: 596.

فيحرم الصيد لمن كان محرماً حتى لو كان خارج الحرم، ولمن كان داخلالحرم حتى لو لم يكن محرماً.

وقوله: {مُّتَعَمِّدًا} أي قاصداً للصيد مع علمه بالحرمة، وأما مع الخطأ والنسيان فهو وإن كانا تجب فيه الكفارة بدلالة السنة إلاّ أن الخطأ والنسيان مرفوع فلا امتحان فيه ولا عقوبة أخروية فيكون خارجاً عن الغرض في هذه الآية، وبعبارة أخرى إن قوله: {مُّتَعَمِّدًا} لا مفهوم له لأنه من اللقب - حسب اصطلاح الأصوليين - وإنما خصّه بالذكر مع عموم الحكم؛ لأن الغرض في هذه الآية بيان حكم المتعمّد فقط، ويعرف حكم غيره بالسنة، مضافاً إلى فرق حكم الخطأ والعمد في تكرار الكفارة، فإن المتعمد لا تتكرر عليه الكفارة بل ينتقم اللّه منه، وأمّا المخطئ فهي تتكرر كما دلت عليه السنة(1).

وقوله: {مِّثْلُ مَا قَتَلَ} أي مثله في الحجم، و{مِنَ النَّعَمِ} بيان للجزاء، فالمعنى فعليه جزاء من الأنعام الثلاثة بحجم الصيد الذي قتله، فالكبير فيه بعير، والمتوسط فيه بقرة، والصغير فيه شاة.

وقوله: {ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ} أي يحكم بكونه مِثل الصيد رجلان عادلان من المؤمنين، وقد ورد في الروايات المعتبرة أنهما الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الإمام (عليه السلام) (2) فيكفي أحدهما، وإنما ثنّى ليدل على كفاية الإمام (عليه السلام) بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فإن قول الإمام هو قول الرسول، وقد أخطأت العامة حيث ظنوا أنه لا بد من اثنين دائماً فلا يكفي حكم الإمام وحده، وعلى هذه

ص: 325


1- للتفصيل راجع الفقه 43: 268.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 487-489.

المعنى يُحمل ما ورد من التخطئة، فعن زرارة قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عنقول اللّه عزّ وجلّ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ}؟ قال: العدل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام من بعده، ثم قال: هذا ممّا أخطأت به الكُتّاب»(1)، والظاهر أن المقصود الخطأ في تفسير معنى قوله: {ذَوَا عَدْلٖ} حيث زعموا أنه لا بد من اثنين مع أنه يكفي الرسول وحده ومن بعده الإمام وحده، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «فإذا علمت ما حكم به اللّه، من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام فحسبك، ولا تسأل عنه»(2).

نعم لو لم يصلنا في صيد شيء فلا بد من الرجوع إلى عدلين ليُعرف مثله، عملاً بإطلاق الآية، قال الوالد رضوان اللّه عليه في موسوعة الفقه: «قد تحقق في موضعه عدم تحريف القرآن، والتفسير بالنبي والإمام من باب أنهما الفرد الأظهر من ذوي عدل، فإذا حكما بشيء لم يبق مجال لذوي عدل؛ لأنهما أعرف بمراد اللّه سبحانه، وأعرف بالمماثلة العرفية، وإذا لم يحكما بشيء كان مجال حكم ذوي عدل... فما في بعض الروايات من أنه من خطأ النُسّاخ لا بد أن يراد به الخطأ باعتبار القراءة المفسّرة، لا في أصل القراءة، وهذا وإن كان خلاف المنصرف إلى الذهن في بادي النظر إلاّ أنه لا بد من الذهاب إليه لبعض القرائن الداخلية، مثل قوله تعالى: {مِّنكُمْ}، والخارجية المذكورة في مسألة عدم تحريف القرآن»(3).

ص: 326


1- الكافي 4: 397.
2- تهذيب الأحكام 6: 314.
3- الفقه 43: 115 باختصار.

وقوله: {هَدْيَا} إما حال أي مثله حال كونه هدياً، أو مفعول مطلق أييهدي هدياً.

وقوله: {بَٰلِغَ الْكَعْبَةِ} أي لا بد من إرسال الهدي إلى الحرم، أو شرائه منه وذبحه أو نحره فيه، وقد دلت السنة على أنه إن كان في إحرام الحج نحره أو ذبحه في منى(1)، وفي إحرام العمرة في مكة، ولعل قوله: {بَٰلِغَ الْكَعْبَةِ} لبيان أن الكفارة هي لحرمة الكعبة، أو اختصاراً بعد معلومية أن الهدي لا يضحى به في الكعبة ولا في المسجد الحرام.

وقوله: {أَوْ كَفَّٰرَةٌ طَعَامُ مَسَٰكِينَ} أو للترتيب لدلالة السنة على ذلك، أي فإن لم يتمكن من جزاء المثل فعليه أن يكفّر عن ذنبه بأن يدفع قيمة البدنة أو البقرة أو الشاة لتكون طعاماً للمساكين إما بأن يطعمهم إلى حدّ الشبع، أو يعطي كل واحد منهم مُدّاً من الحنطة، والأفضل مدّين اثنين(2).

وقوله: {أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا} أي فإن عجز عن كفارة الطعام فلا بد أن يصوم بما يعادل الإطعام، وقد روي أنه يصوم بدل إطعام كل مسكين يوماً، كما روي أنه يصوم بدل كل نصف صاع يوماً(3)، والمعنى واحد إذ كل مسكين الأفضل إطعامه بمدّين وذلك نصف صاع(4)، ثم إن في عدد المساكين وعدد أيام الصيام روايات وبحوث فقهية كثيرة تطلب من كتب الفقه.

ص: 327


1- وسائل الشيعة 13: 6.
2- راجع الفقه 43: 110.
3- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 485-488.
4- لأن المدّ ثلاثة أرباع الكيلو تقريباً، والصاع ثلاثة كيلوات تقريباً.

وقوله: {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} (ليذوق) متعلق ب-(جزاء) وهو بيان لعلة هذاالجزاء، و(الوبال) في الأصل بمعنى ثقل الشيء في مكروه، ولذا قيل: إن الوبال هو المكروه والضرر الذي يناله مَن عمل سوءاً لثقله عليه.

وقوله: {أَمْرِهِ} أي عمله وشأنه حيث صاد.

العفو عن المخالفات قبل التحريم

وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} كأن المقصود عفوه عما مضى في الجاهلية أو قبل بيان تحريم الصيد.

سؤال: كيف يكون عفواً مع أنه لا عفو إلا بعد تشريع ومخالفة، وحيث لا تشريع فلا مخالفة فلا معنى للعفو؟

والجواب: أنّ العفو كما يكون عن مخالفة التكليف، كذلك يكون بمعنى عدم ترتب الآثار الوضعية، ولا مانع عقلاً من ترتب الآثار الوضعيّة، كأن يقال له: إن صيدك في زمان الجاهلية وإن كان قبل تشريع الحرمة إلاّ أنك ضامن له، لكن اللّه لرحمته ولطفه رفع الضمان، كما عفا عن الآثار الوضعية للربا في الجاهلية، ويحتمل أن يكون العفو باعتبار أنهم كانوا يحرّمونه في الجاهلية أيضاً ومع ذلك كانوا يخالفون فلا مانع في إلزامهم بذلك، وهنا احتمال آخر وهو أن يكون (ما سلف) بمعنى الصيد المتعمّد الذي دفع كفارته حيث تكون ماحية للذنب، إذ لا مانع عقلاً من الجمع بين عقوبة الدنيا والآخرة إلاّ أن لطف اللّه يشمل المؤمنين بعدم الجمع غالباً إلاّ أن بعض الذنوب لشناعتها لا تدع للمجرم مجالاً للرحمة، قال تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْأخِرَةِ وَالْأُولَىٰ}(1)، وقد مرّ بعض الكلام في عقوبة

ص: 328


1- سورة النازعات، الآية: 25.

المحارب، فراجع.

وقوله: {وَمَنْ عَادَ} أي صاد متعمداً مرة ثانية؛ لأن الآية ذكرت حكم صيد الجاهلية وكذلك حكم الصيد المتعمد بالكفارة، فلا يكون العود إلاّ بتكرار الصيد مرة أخرى بعد التحريم.

وقوله: {فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} أي في الآخرة، وظاهره عدم لزوم الكفارة عليه مرة أخرى، وذلك لأن الكفارة لتكفير الذنب ومحوه فمن تعمّد مرة واحدة لا يقطع اللّه لطفه عنه، بل جعل له جزاءً يكفّر ذنبه، إلاّ أن تكرار التعمّد لا يبقي له مجالاً للرحمة فلا كفارة له في الدنيا وإنما يؤخره اللّه لعقوبة الآخرة.

حلية صيد البحر حالة الإحرام

الرابع: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَٰعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ...} الآية.

في هذه الآية يتم بيان حكم أكل لحم الصيد، كما أن الآية السابقة كانت حول عمليّة الاصطياد.

وحاصله: أنه لا بأس بأكل الحيوان البحري طريّاً طازجاً بأن يصيده المحرم من الماء أو يأكل ما صادوه له، كما لا بأس بأكله قديداً، وهو المجفّف المملّح، وأما صيد البر فلا يجوز أكله لا طرياً ولا قديداً حتى لو كان صيده حلالاً بأن صاده إنسان غير محرم في الحل أو اشتراه المحرم مثلاً من بلده فلا يجوز له أكله فور إحرامه.

ومن ذلك يتضح أن الآية ليست في مقام بيان حلية جميع الحيوانات البحرية، ولا في حلية جميع الحيوانات البرية بعد الإحرام، بل هي في مقام

ص: 329

بيان جواز أو عدم جواز الأكل، لا في مقام تحليل أو تحريم المأكول.وعليه فلا بدّ من مراجعة السُنة لمعرفة الحلال والحرام من الحيوانات، وقد دلّت على حلية السمك ذي الفلس فقط من الحيوانات البحرية فلا يحلّ غير السمك كالأخطبوط ولا السمك الذي لا فلس له(1).

وقوله: {صَيْدُ الْبَحْرِ} أي مصيد البحر، وهو شامل للنهر والبِركة وغيرهما، فالمقصود ما يعيش في الماء، والمراد منه الطري، وقوله: {وَطَعَامُهُ} أي القديد منه وذلك بقرينة قوله: {مَتَٰعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}.

ويحتمل أن يراد من {صَيْدُ الْبَحْرِ} المعنى المصدري أي عملية الصيد، ومن {طَعَامُهُ} أكله، فيكون المعنى يجوز اصطياده وكذلك يجوز أكله، لكن الأول أقرب بقرينة المقابلة مع صيد البرّ مع عدم ذكر طعامه فيه، وقد دلّت بعض الروايات على ذلك(2).

وقوله: {مَتَٰعًا لَّكُمْ} أي تتمتعون به والخطاب للمُحرمين الذين ليسوا في سفر كالذين وصلوا إلى مكة فأقاموا فيها.

وقوله: {وَلِلسَّيَّارَةِ} أي المسافرين يتزوّدون به في الطريق، وهؤلاء يتزوّدون بالمجفّف عادة إذ يصعب ذبح الأنعام للمسافر وكذلك انتظار صيد السمك الطري، فيتزودون بالسمك المجفف يحملونه معهم ويأكلونه.

ويحتمل أن قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ...} خطاب لعامة المؤمنين حتى غير المحرمين منهم بأن اللّه قد أباح لكم صيد البحر وطعامه سواء كنتم في

ص: 330


1- للتفصيل راجع نبراس الأحكام: 268 و 273 (للمؤلف).
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 492.

إحلال أم إحرام، وأما صيد البرّ فقد أباحه لكم في غير حالة الإحرام.وقوله: {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تهديد على المخالفة بأنه لا يفوت منكم أحد على اللّه فتحشرون جميعاً فيؤاخذ العاصي بعصيانه.

ص: 331

الآيات 97-100

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَٰئِدَ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 97 اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 98 مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ 99 قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 100}

97- ثم يذكر اللّه تعالى سبب تشريع حرمة الصيد في الحرم وفي حالة الإحرام فقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} بجعل تكويني وتشريعي، {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} له الحُرمة والاحترام، جعلها {قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ} أي قِوام لهم يقوم به أمر دينهم ودنياهم، {وَ} جعل {الشَّهْرَ الْحَرَامَ} ذا الحجة أو جنس الشهر الحرام وثلاثة منه - ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم - ترتبط بالحج إلى الكعبة، {وَ} جعل {الْهَدْيَ} ذبائح مكة تهدى إليها {وَالْقَلَٰئِدَ} وهي الأنعام التي تجعل عليها علامة بأنها للبيت لتنحر أو تذبح فيه، والقلائد داخلة في الهدي إلاّ أنه خصّها بالذكر لأهميتها ولظهور بهاء الحج فيها.

{ذَٰلِكَ} أي جعل هذه الأمور وتشريع هذه الأحكام هي طريق إلى هدايتكم ف-{لِتَعْلَمُواْ} عبر التفكر في هذه التشريعات واللام للعاقبة: {أَنَّ

ص: 332

اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي لتعلموا حكمته التكوينية فيهما، {وَ} لتعلموا {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} حتى لو لم يكن فيالسموات والأرض فعلمه تعالى لا حدود له.

والحاصل: حكمته التشريعية تدل على حكمته التكوينية، والعلم بذلك يورث الإيمان والطاعة.

98- ولا يزعمنَّ أحد أنه لو خالف لا يعاقب، ولا يزعمنَّ المخالف أن طريق التوبة مغلق ف-{اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن لا قابلية له للعفو {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن كان أهلاً للغفران والرحمة.

99- ولا عذر لأحد بعد إتمام الحجة عليه إذ {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ} أي أن يبلّغ وقد صنع ذلك فلم يبق لكم عذر في المخالفة، {وَ} لا يعتذرنَّ أحد بعدم تعمده مثلاً إذ {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} تظهرون من أقوال وأعمال {وَمَا تَكْتُمُونَ} من نوايا.

والحاصل: لم يبق لأحد عذر؛ لأن الرسول بلّغ واللّه عالم بالأعمال والنوايا فلا يمكن الاعتذار بالأكاذيب.

100- ثم يبين اللّه أن تحليله لأكل بعض الأشياء وتحريمه لبعضها كالخمر وصيد البر ليس اعتباطاً، بل لخبث ما حرّمه وطيب ما أحلّه ف-{قُل} يا رسول اللّه {لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} فها يفترقان ذاتاً ولذا افترقا حكماً {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} أيها السامع {كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} فإن الميزان هو الجودة لا الكثرة، فقليل من الطعام المقوّي خير من كثير من السُمّ المهلك، {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} احفظوا أنفسكم من مخالفته فاختاروا الطيب الذي أمر به واجتنبوا

ص: 333

الخبيث الذي نهى عنه {يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ} أصحاب العقول الخالصة عن الأهواء والشبهات والوساوس {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تفوزون بما هو خير لكم في العاجل والآجل.

بحوث

الأول: لما ذكر حكم الصيد للمحرم - حلاله وحرامه - أتبع ذلك ببيان سبب التشريع وأنه لأجل حرمة الكعبة وما يرتبط بها من المكان والزمان والأشياء؛ لأن اللّه تعالى جعلها لتستقيم حياة الناس مادياً ومعنوياً لدنياهم وآخرتهم، وليسترشدوا بذلك إلى علم اللّه تعالى بكل شيء ومنه أعمالهم، فيحذروا مخالفته وليرغبوا في طاعته، إذ لا يبقى بعد ذلك عذر لهم ليعتذروا به، فالرسول قد بلغ فتمت الحجة وأعمالهم ونواياهم مكشوفة.

الثاني: قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ...} الآية.

الجعل تكويني وتشريعي، فأما التكويني فهو جعل خصوصيات للكعبة تختصّ بها من دحو الأرض منها وإنزال الملائكة إليها وغير ذلك، وأما التشريعي فهو تشريع أحكام ترتبط بها لحرمتها فلا يجوز دخول مكة إلا بإحرام ولا يجوز صيد الحرم وقلع نباته ويجب الحج والعمرة لمن استطاع وغير ذلك من أحكام.

وقوله: {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي له حُرمة، وأصله من المنع؛ لأن ما له حُرمة يمنع عنه ويمنع فيه ما لا يمنع في غيره.

قيل: هو عطف بيان على جهة المدح والتعظيم أو لأن المشركين ابتدعوا

ص: 334

كعبات مختلفة ليواطئوا الكعبة المشرفة، فأراد اللّه بيان أن كعبته إنما هي البيت الحرام لا الكعبات المبتدعة والتي هدمها المسلمون بعد ذلك، فيكون {قِيَٰمًا} المفعول الثاني للجعل.

ويحتمل أن يكون {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} المفعول الثاني، و{قِيَٰمًا} حال أو مفعول له، فالمعنى جعل الكعبة بيته المحرّم حال كونها قياماً أو للقيام.

فعلى الأول يكون تعليل الحكم بقوله: {ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُواْ...}، وعلى الثاني تكون هناك علّتان مترتبتان، أي جعل الكعبة بيته المحرم لقيام الناس وليعلموا أن اللّه...، فإن قيام الناس هو غرض في طريق غرض أهم هو صحة اعتقادهم وعملهم.

وقوله: {قِيَٰمًا} أصله قِواماً والمراد ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم، قال سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ * فِيهِ ءَايَٰتُ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}(1)، فمن ذلك جعلها قبلة للصلاة وللذبح ولدفن الأموات، وللحج والعمرة إليها مع ما فيهما من الفوائد المادية والمعنوية في حفظ الدين وترابط المسلمين وعبادة اللّه تعالى وعدم الشرك به وما يترتب على ذلك من الغفران والثواب والأمن في الآخرة، ولذلك كان الحج من أهم أركان الإسلام، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك.

وحيث جعلها قياماً للناس أحاط ذلك بسلسلة من التشريعات التي تحفظ الحرمة، ومنه محرّمات الإحرام والحرم والذي منه أحكام الصيد.

ص: 335


1- سورة آل عمران، الآية: 96-97.

وقوله: {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي وجعل الشهر الحرام، والمراد منه إما ذو الحجة حيث يقع الحج، أو جنس الشهر فيراد ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم؛ لأن هذه الأشهر ترتبط بالحج - ذهاباً وإياباً - ، وكذلك رجبيرتبط بالعمرة.

وقوله: {وَالْهَدْيَ وَالْقَلَٰئِدَ} أي وجعلهما، وقد مرّ ذكرهما في أوائل السورة، وقيل: القلائد وإن كانت داخلة في الهدي لكن خصّها بالذكر لأنها من البُدن، فهي أهم والثواب فيها أكثر وبهاء الحج معها أظهر.

والحاصل: جعل حرمة للمكان وللزمان ولما يرتبط بهما من أمور.

وقوله: {ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُواْ...} لعل المقصود أن هذه التشريعات تزيد من إيمانكم وطاعتكم فهي طريق إلى هدايتكم، ولذلك شرّعها اللّه تعالى فيكون قوله: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ...} كناية عن ألوهيته، إذ إن الذي يعلم بالذات كل شيء لا يعقل كونه محدوداً مخلوقاً، ولعل ذكر خصوص علمه لأنه يرتبط بالعقاب والثواب والطاعة.

والحاصل: أن تشريع هذه الأحكام وجعل هذا الاحترام للبيت إنما هو طريق لهداية الناس ليؤمنوا باللّه فيحذروا من مخالفته ويرغبوا في طاعته.

ويحتمل أن يكون المقصود هو بيان أن الذي يضع أفضل الأحكام التي لا عوج ولا خلل فيها هو الذي يعلم بكل شيء، إذ من لا يحيط بكل شيء تخرج تشريعاته ناقصة لغفلته عن كثير من الأمور حيث يجهل بها، وفي التقريب: «فإنه عالم بأحوال الإنسان وما يكتنفه من العداء والشر، وأنه يحتاج إلى هدوء وسكينة في المكان وفي الزمان، وأن الناس يحتاجون إلى

ص: 336

ما يقيم معاشهم ومعادهم، ولذا جعل هذه المحرمات للاستراحة والاستجمام ولعل ذكر السماوات استطراداً، فإن ما ذكر مرتبط بالأرض،لكن لو ذكرت وحدها لأوهم عدم علمه سبحانه بما في السماوات»(1).

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قيل: هذا تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق، فإن علمه سبحانه لا ينحصر بما في السماوات والأرض، بل يعلم بما هو خارج عنهما كالعرش وغيره، ويعلم بما لم يوجد أصلاً كما يعلم بالمعاني التي هي ليست بأجسام، ولعل الغرض من ذكر علمه مرتين تارة علمه بما في السماوات والأرض، وتارة علمه بكل شيء هو التعظيم والتوقير ليزداد خشوع السامع وخضوعه فيرغب في طاعته وترك معصيته.

فتحصل أن معنى الآية: هو أن اللّه جعل الكعبة قياماً للناس أو جعل الكعبة بيته الحرام لقيام الناس، وكذا الشهر الحرام والهدي والقلائد لكي يكون طريقاً لهدايتهم إلى اللّه تعالى فيطيعوه ويحذروا مخالفته.

الثالث: قوله تعالى: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

هذه الآية كالتتمة أو التعليل لما ذكر من جزاء الصيد، وكذا تهديد لمن يهتك حرمة الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد، فاللّه تعالى لا يُحابي أحداً ولا يعمل إلاّ بحكمته تعالى فلذلك حيث كان الحكمة العقاب عاقب، وحيث كانت في الغفران غفر، فهو شديد العقاب لمن لا قابلية له للعفو ومنه المعاند الذي يعود إلى الصيد، كما أن من كفّر عن ذنبه وتاب له أهلية أن

ص: 337


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 22.

يشمله الغفران فيغفر اللّه تعالى، فالآية تتضمن وعيداً ووعداً لكلتا الطائفتين، وإنما قدّم الوعيد لأن الكلام حول هتك حرماته فمن هتك يستحق العقابإلاّ لو تاب فيتفضل اللّه عليه بالرحمة والغفران.

الرابع: قوله تعالى: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}.

كأن هذه الآية لبيان عدم عذر لهم في مخالفة أوامر اللّه وهتك حرماته، فإن العذر إما عدم علمهم بالتكليف أو تمكنهم من إخفاء جرمهم عن اللّه، فيقال لهم: إن الرسول قد بلّغ فأدّى مهمته كاملة بنجاح تام فلا عذر لكم بعده، كما أن اللّه يعلم نواياكم وأقوالكم وأفعالكم فلا تتمكنون من أن تخدعوه قال سبحانه: {يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}.

بيان للقاعدة العامة والتي مسألة حلية وحرمة الطعام وصيد المحرم ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، فتحريم الخمر والميسر وما ذبح على الأنصاب والتقسيم بالأزلام وصيد البر في حالة الإحرام كلّها من الخبيث الذي لا بد من الاجتناب عنه، وأما سائر الطعام مما أحلّه اللّه وكذا الأعمال والأقوال والاعتقادات وغيرها مما أمر اللّه بها فهي من الطيب، لكن قد يكثر الخبيث ويعتاده الناس عليه فينبهر بعض الناس به، فيقال لهم: لا تنخدعوا بكثرة

ص: 338


1- سورة البقرة، الآية: 9.

الخبيث فإن كثرته لا تخرجه عن حقيقته، فعليكم إزاحة الشبهات والأهواء عن عقولكم لتروا بخالص العقل أن الخير في الطيب وإن قلّ، والشر فيالخبيث وإن كثر؛ وذلك لأن توهمات الناس وحبهم لشيء بالشهوات والعادات لا تغيّر حقائق الأشياء عن واقعها، فالطعام اللذيذ المسموم خبيث حتى وإن استلذ به آكله، والدواء المرّ طيب حتى وإن رغبت النفس عنه.

وقوله: {لَّا يَسْتَوِي} المقصود بيان أن الطيب خير من الخبيث وأنه لا يعقل تساويهما من أية جهة من الجهات، فإذا لم يتساويا فبطريق أولى لا يكون الخبيث أفضل، وهما قد يكونان في الناس كالمؤمن والمنافق، أو في الطعام كالماء والخمر ولحم الغنم ولحم الخنزير، أو في الأشياء كالأرض الصالحة للزراعة وغيرها، أو في الاعتقادات كالإيمان والكفر، أو في الأخلاق كالأمانة والخيانة، أو في الأقوال كالصدق والنميمة، أو في الأعمال كالعدل والظلم، أو في الأموال كربح التجارة والربا وغير ذلك، قال سبحانه: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}(1)، وقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ}(2)، وقال: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}(3)، وغيرها من الآيات.

وأما معنى الخبيث والطيب فقد مرّ، وحاصله أنهما أمران واقعيان قد

ص: 339


1- سورة آل عمران، الآية: 179.
2- سورة الأعراف، الآية: 157.
3- سورة الأعراف، الآية: 58.

يدركهما الإنسان وقد لا يدركهما لكن كشف عنهما الشرع، فكل ما وافق طبع الإنسان ولم يكن فيه ضرر واقعي فهو الطيب حتى لو لم يستسيغهالإنسان كالأدوية المرّة، وكلّ ما خالف طبعه مما كان فيه الضرر دنيوياً أو أخروياً فهو الخبيث حتى لو استساغه الإنسان كالخمر.

قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} أي حتى لو راق لك الخبيث وأثار إعجابك بسبب كثرته، فالكثرة لا تغيّر حقيقة الشيء عما هو عليه، كذلك القلة، فالميزان الجودة لا الكثرة، وفي التقريب: «كما نرى اليوم كثيراً من الناس يتناولون المحرمات مدعين عدم الفرق بينها وبين المحلّلات... ولعلّ قوله: {لَوْ} لدفع استبعاد بعض الناس: أنه كيف يمكن أن يكون هذا الشيء الكثير حراماً»(1).

السادس: قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

أي حيث علمتم أن المناط في الحلال والحرام ليس الكثرة والقلة، بل الطيب والخبث، فاتقوا اللّه ولا تعرّضوا أنفسكم لسخطه وعذاب بارتكاب الخبيث، بل آثروا الطيب القليل على الخبيث الكثير.

وقوله: {يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ} حثّ على إزالة ركام الشهوات والعادات واتّباع الآباء لتنظروا إلى الأمر بخالص العقل لتدركوا صحة ما يقال لكم فتتقوا اللّه تعالى وذلك يقودكم إلى الفوز في الدنيا باجتنابكم أضرار الخبيث، وفي الآخرة بإبعاد أنفسكم عن عذاب اللّه الذي يكون نتيجة ارتكاب الخبيث.

ص: 340


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 23.

الآيتان 101-102

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسَْٔلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسَْٔلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ 101 قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ 102}

101- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} حيث إن اللّه قد بين لكم أن كل مأكول حلال إلاّ بعض ما حرّمه، فلا معنى للسؤال عن حلية أو حرمة أشياء من المأكولات، فالقاعدة العامة هي {لَا تَسَْٔلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ} تظهر {لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} توجب لكم السوء كالحزن أو الصعوبة أو العصيان، أمّا السؤال عمّا لا يوجب المساءة فهو مطلوب.

{وَ} ليس النهي لأجل عدم العلم بها ف-{إِن تَسَْٔلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ} أي حين وجود النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بين أظهركم {تُبْدَ لَكُمْ} إذ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) سيُجيبكم عنها بالتلقي عن الوحي.

وإنما لا تُبَيّن لكم قبل السؤال لأنه {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي لا يؤاخذكم على عدم العلم بها فلا تتكلفوها، {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} لذلك يريد التسهيل عليكم لكي لا يقال لكم أمور تنكرونها أو تخالفونها.

102- {قَدْ سَأَلَهَا} أي سأل المسألة التي تسوؤهم {قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} لعلّهم بنو إسرائيل {ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ} لم يقبلوها فكفروا فعُوقبوا.

ص: 341

بحوث

الأول: في ارتباط هاتين الآيتين بما قبلهما وما بعدهما احتمالات، منها:

1- إن اللّه تعالى لما ذكر جملة من أحكام المأكولات وقد بيّن في الآية 93 القاعدة العامة بعدم الجناح فيما أكلوا إلاّ ما نزل تحريم خاص فيه، فعليه لا معنى للسؤال عن المحلّلات والمحرمات من المأكولات، فإنه لغو ويرهق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

2- أو أنه تعالى لمّا أتمّ حكم الصيد للمحرم ببيان منزلة الكعبة وأنها قيام للناس وكذا ما يرتبط بها من الشهر الحرام والهدي، وبيّن اللّه تعالى ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وجوب الحج، عند ذلك سأله بعضهم عن وجوب الحج في كل عام أو في العمر مرّة واحدة(1)، مع أن إطلاق الأمر يقتضي الإتيان بطبيعة الحج - وهو يحصل بالمرة الواحدة - ، ولو كان هناك إطلاق فلا معنى للسؤال عن القيود؛ لأن اللّه تعالى حكيم فإذا كان هناك حاجة للمؤمنين لبيان القيود لهم لبيّنها، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح، واللّه عزّ وجلّ يتعالى عن القبيح، فعدم بيانه لقيد يدل على عدم أخذه في الموضوع والحكم.

3- أو هما آيتان مستقلتان عمّا قبلهما وبعدهما، إذ لا يشترط ارتباط الآيات، بل حتى الآية الواحدة كما روي ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (2)، وقد يقال: إنه قد يطول الموضوع الواحد فيتم بيان أمر آخر في وسطه لرفع

ص: 342


1- راجع مجمع البيان 3: 612.
2- راجع مجمع البيان 3: 612.

الملل وللتنبيه ولتنشيط الأذهان.

فقد قيل: إن بعض الناس سأل عن صحة نسبه إلى أبيه، وآخر عن مكان أبيه المشرك في الجنة أو في النار(1)، وهذه أسئلة لا ينبغي السؤال عنها بعد القاعدة الشرعية العامة بأن الولد للفراش، وبعد ثبوت أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فإن الشارع لم يجعل طريقاً إلى معرفة حقائق هذه الأمور إلاّ القواعد الشرعية الظاهرية ولا يراد للناس مخالفتها، فما الفائدة إذا علم الإنسان بعدم صحة نسبه إلى أبيه أو علم بمكان أبيه في النار إلاّ التكذيب أو الحزن؟!

معنى النهي عن السؤال

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسَْٔلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.

ليس النهي عن مطلق السؤال بل النهي عن السؤال الذي يكون جوابه سبباً للمساءة، وأما السؤال للتعلّم فهو مطلوب مأمور به سواء كان في الأصول أم الفروع أم الموضوعات قال تعالى: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(2)، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}(3)، بل هناك مجموعة من الآيات صُدّرت ب-(يسألونك) وقد أجاب اللّه عن سؤالهم كقوله: {يَسَْٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}(4)، وقوله: {وَيَسَْٔلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}(5)، وقوله: {وَيَسَْٔلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ

ص: 343


1- راجع مجمع البيان 3: 612.
2- سورة النحل، الآية: 43.
3- سورة البقرة، الآية: 186.
4- سورة البقرة، الآية: 219.
5- سورة البقرة، الآية: 222.

عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا}(1)، فإن سؤال المستفهم إذا كان هناك فائدة في استفهامه مطلوب، وأما سؤال المتعنت أو سؤال من لا حاجة له في الجواب لمعلوميته فهو لغو لا ينبغي صدوره عن عاقل، وفي الحديث: «سل تفقّهاً ولا تسأل تعنتاً»(2)، قال سبحانه: {يَسَْٔلُكَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّٰعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ}(3) وكان كلا السؤالين تعنتاً، فسؤالهم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان بعد ما رأوا المعجزات الباهرات وبعد ما وجدوه في كتبهم، وسؤالهم موسى (عليه السلام) بعد عملهم بأن اللّه لا يُرى.

وقوله: {إِن تُبْدَ لَكُمْ...} جمله شرطية في مقام الوصف للأشياء، فالنهي مقيد بالسؤال عمّا يكون هذا وصفه.

وقوله: {تُبْدَ} من البداء أي الظهور، سواء كان عن جهل أو عن إخفاء، فقد يجهل الإنسان شيئاً ويريد أن يعلم به، وقد يُخفي شيئاً مع علمه به، لكنه يسأل عنه لغرض من الأغراض، كأن يريد إظهار جهله أو يريد معرفة علم الآخرين به ونحو ذلك.

وقوله: {تَسُؤْكُمْ} أي توجب مساءتكم، وفي المفردات: «السوء: كل ما يغمّ الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية، ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجة»(4) فيدخل فيه كل ما يوجب الغم أو الصعوبة والمشقة ونحو ذلك.

ص: 344


1- سورة الكهف، الآية: 83.
2- نهج البلاغة، الحكمة: 320.
3- سورة النساء، الآية: 153.
4- مفردات الراغب: 441.

الثالث: قوله تعال: {وَإِن تَسَْٔلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ}.

1- أما في الأمور الشخصية: فقد كانت المصلحة في إبدائها لئلا يتّهموا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وعدم تهمته مصلحة أهم من مفسدة مساءتهم، أما مع عدم سؤالهم فقد يجمع بين الأمرين عدم الاتهام وعدم المساءة.

2- وأما في الأحكام الشرعية: فإن اللّه قد بيّن قواعد عامة من غير ذكر قيود، فلو كان يريدها لبيّنها لئلا يكون تأخير للبيان عن وقت الحاجة كما ذكرنا، ولم يشرّع أحكاماً أخرى فلا معنى للسؤال عنها، إذ لو كان يريد تشريعها لم ينتظر سؤالهم.

سؤال: من المعلوم أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فكيف يشرّع اللّه حكماً تبعاً لسؤالهم؟

والجواب: أن من أهم المصالح مصلحة التسهيل، كما قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(1)، لكن أحياناً يلزم معاقبة المتعنّت عبر عدم التسهيل له، كما حدث في بقرة بني إسرائيل لما أمرهم اللّه بذبح بقرة ولم يقيّدها بوصف خاص، لكنهم تعنتوا فسألوا عن الأوصاف فعاقبهم اللّه بأن قيّد الحكم بأوصاف متعددة حتى لم يجدوا إلا بقرة واحدة متصفة بها، فاضطروا أن يشتروها بثمن غالٍ جداً، وقال تعالى: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا}(2).

وقوله: {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ} أي حين اتصال الوحي وعدم انقطاعه،أي

ص: 345


1- سورة البقرة، الآية: 185.
2- سورة النساء، الآية: 160.

في زمان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أما في التشريعات فإنها كانت مستمرة إلى يوم الغدير حيث كمل الدين فكان يحتمل تشريع جديد، أما بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلا تشريع وفي التقريب: «إن المصالح التشريعية قد كملت في زمن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى أنه لا تشريع جديد بعده، ولذا فلم يكن الأئمة (عليهم السلام) بمثابة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في إمكان تشريع الحكم، وإن كان من الممكن التشريع لو حدث في زمن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) شيء، وهذه المصلحة - وهي انسداد باب التشريع حتى لا يكون لأحد ذلك بعد الرسول - وإن كان مفوتاً لمصالح واقعية مثلاً، لكنها أقوى في الاعتبار من مراعاة مصالح لأحكام جديدة»(1).

وفي الحديث «حلاله - أي حلال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) - حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(2)، فحينئذٍ لا يكون في السؤال عن الأحكام الشرعية للموضوعات المختلفة محذور إلاّ لو كان السؤال لغواً أو تعنتاً، وأما في سائر الأمور فإنه لا معنى للسؤال عن المغيبات وقد جعل اللّه تعالى طرقاً طبيعيّة أو ظاهرية لمعرفتها، والأئمة (عليهم السلام) وإن كانوا يعلمونها بتعليم من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنهم لم يكونوا مأمورين ببيانها ولا الجواب عن السؤال عنها إلاّ فيما كانوا يرونه صلاحاً لهداية الناس أو لغرض آخر وتلك حالات استثنائية.

الرابع: قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.

ص: 346


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 25.
2- المحاسن 1: 270.

أي لا يؤاخذكم على عدم علمها وعدم العمل بشيء منها، فمثلاً في بقرة بني إسرائيل لو لم يلاحظوا لوناً خاصاً وأوصافاً خاصة للبقرة لكان كافياً ومجزياً لهم لامتثال أمره تعالى في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}(1)، فإن العفو كما يكون عن ذنب كذلك يكون في فعل شيء لم يُشرّع فيه حكم خاص كقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}(2)، وكذا قد يكون في عدم تشريع أمر مع وجود مصلحة في المتعلّق إلاّ أن هناك مصلحة أهم في عدم التشريع كمصلحة التسهيل نظير قوله (عليه السلام) : «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(3)،

وقد يكون في التنازل عن حق حتى لو لم يكن ذنب كقوله: {أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}(4).

وقيل: إن الضمير في {عَنْهَا} يرجع إلى المسألة، أي لا يعاقبكم على الأسئلة السابقة التي سألتم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عنها، فإن أسئلتهم السابقة وإن كانت غير مناسبة وهم يعلمون قبحها إلاّ أنها كانت قبل النهي، واللّه تعالى بفضله لا يعاقب قبل النهي حتى لو كان العقاب جائزاً عقلاً، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(5) وهذا من فضل اللّه تعالى على الناس، فإنه يقبح العقاب بلا بيان لكن لا فرق عقلاً بين كون البيان عن طريق العقل أم

ص: 347


1- سورة البقرة، الآية: 67.
2- سورة التوبة، الآية: 43.
3- الكافي 3: 22.
4- سورة البقرة، الآية: 237.
5- سورة الإسراء، الآية: 15.

عن طريق الشرع، فمن يعلم عقلاً بقبح شيء لا مانع عن عقابه عقلاً إلاّ أن اللّه وعد أن لا يعذبه إن لم يكن قد أرسل الرسل.

وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} فإن غفرانه وحلمه صارا سبباً لعدم المؤاخذة عليها.

الخامس: قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ}.

الضمير في {سَأَلَهَا} يرجع إلى المصدر، أي سأل المسألة ولذا لم تكن التعدية ب-(عن)، وهؤلاء القوم قد يراد بهم قوم بعينهم لكن لم تذكرهم الآية لعدم الحاجة إلى تعيينهم، أو يراد منه الإطلاق فيشمل الذين سألوا الناقة ثم عقروها، والمشركين الذين سألوا الآيات ثم كذبوها، وبني إسرائيل الذين سألوا المائدة ثم كفروا بها، وأصحاب طالوت الذين سألوا نبيهم ملكاً يقاتلون معه في سبيل اللّه ثم عصوا إلا القليل منهم، وكذا غيرهم.

وهذا كالتعليل للنهي عن السؤال الموصوف بأنه يسوؤهم جوابه؛ لأن من يسوؤه الشيء فغالباً ينكره قلباً وقد يكذبه لساناً وقد يرفض العمل به، وهذا نظير الذي ينذر الأمور الصعبة فيُلزم نفسه بالنذر، لكن لمّا يرى صعوبته يخالف، فقبل نذره لم يكن عليه في مخالفته شيء لكن لمّا أوجبه على نفسه ألقى نفسه في العصيان بالمخالفة، لذلك يكره النذر إلاّ لمن يطمئن بوفائه به، قال سبحانه: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسَْٔلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}(1)، ثم إن التشريعات

ص: 348


1- سورة البقرة، الآية: 108.

الإلهية لا تروق لكثير من الناس؛ لأنها تخالف هواهم، وهذا المقدار لا بد منه، إذ الحق لا يتبع الأهواء، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}(1)، وقال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}(2)، لكن الكلام هو فيما اقتضت المصلحة الأهم عدم التشريع فلا وجه للسؤال لتتبدل المصلحة إلى مصلحة التشديد عقوبة ونكالاً، كما عرفت، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إن اللّه افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها»(3).

ص: 349


1- سورة البقرة، الآية: 87.
2- سورة المؤمنون، الآية: 71.
3- نهج البلاغة، الحكمة: 105.

الآيات 103-105

اشارة

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٖ وَلَا سَائِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ 103 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَئًْا وَلَا يَهْتَدُونَ 104 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 105}

103- بعد أن ذكر اللّه المحلّلات والمحرمات ونهى عن السؤال عمّا سكت عنه، بيّن بعض افتراءاتهم فيما حرّموه فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ} لم يشرع تحريم هذه المذكورات {مِن بَحِيرَةٖ} نوع من النياق تُشق آذانها {وَلَا سَائِبَةٖ} نوع منها تُترك فتجري على الأرض من غير انتفاع بها {وَلَا وَصِيلَةٖ} الناقة أو الشاة الموصولة بأخيها التوأم {وَلَا حَامٖ} البعير الذي حمى نفسه باستيلاده عشرة، كان الجاهليون يحرّمون هذه الحيوانات فيجعلونها محرّرة لا يركبونها ولا يأكلونها ولا يمنعونها عن ماء أو كلأ ونحو ذلك، كل ذلك لم يجعله اللّه {وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فيقولون إن اللّه حرّمها افتراءً عليه سبحانه {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} ليس لهم عقل يميّز بين الحق والباطل، والحلال والحرام،

ص: 350

والصدق والافتراء.

104- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} لهؤلاء المفترين الذين لا يعقلون {تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَاأَنزَلَ اللَّهُ} من أحكام شرعية في القرآن {وَإِلَى الرَّسُولِ} في سنّته وقضائه {قَالُواْ حَسْبُنَا} يكفينا {مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا} فنقلّدهم في كل شيء ومنه الحلال والحرام فقل في جوابهم: {أَوَلَوْ} الهمزة للاستفهام الإنكارى، والواو عاطفة، ولو وصلية، أي هل يتبعونهم حتى لو {كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَئًْا وَلَا يَهْتَدُونَ} فإن تقليد الجاهل الضال باطل بضرورة العقل وإنما يصح رجوع الجاهل إلى العالم المهتدي فقط.

105- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} حيث علمتم ضلال هؤلاء وافتراءهم على اللّه ف-{عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي احفظ-وها والزم-وا صلاحها {لَا يَضُرُّكُم} نهي بمعنى لا يسبب ضرركم {مَّن ضَلَّ} حتى لو كانوا من آبائكم، {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إلى الصراط المستقيم عقيدة وعملاً، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} سواء الضالون والمهتدون {فَيُنَبِّئُكُم} يخبركم ليجازيكم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فكل واحد يتحمل وزر نفسه ولا ينفعه ولا يضرّه آباؤه وأبناؤه.

بحوث

الأول: لمّا بيّن اللّه ما أحلّه وما حرّمه، ونهى عن السؤال عمّا سكت عنه، بعد ذلك بيّن افتراءاتهم على اللّه تعالى بتحريم بعض ما أحلّه اللّه، ومن ذلك يستفاد قاعدة عامة هي أن التحليل والتحريم تشريع خاص باللّه تعالى، فلا يجوز أن يشرع الناس تحريماً أو تحليلاً ثم ينسبونه إلى اللّه تعالى، فإن ذلك افتراء وكذب وعدم تعقّل، بل لا بد من الرجوع إلى اللّه تعالى فإنه المشرِّع،

ص: 351

وإلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه المبلِّغ عن اللّه تعالى كما أن اللّه سبحانه قد فوّض التشريع إليه حصراً، وليست طريقة الآباء دليلاً على التشريع، إذ يمكن أن يكونوا ضالّين، نعم لو كانت طريقتهم ناشئة من علم وهداية فلا مانع مناتباعهم، ثم يذكر اللّه تعالى إن اتباعهم من غير حجة لا ينفع، إذ إن اللّه تعالى هو المحاسب يوم الجزاء وهو الذي لا يخفى عليه شيء ولا يقبل منهم شيئاً إلاّ بحجة من عقل أو شرع حصراً.

من بدع الجاهلية في تحريم الحلال

الثاني: قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٖ وَلَا سَائِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ}.

كان الجاهليون يحرّمون هذه الأنواع من النياق والشياه وينسبون التحريم إلى اللّه سبحانه، من غير حجة وبرهان، فيذمهم اللّه على ذلك، ومن ذلك يستفاد قاعدة عامة هي عدم صحة نسبة شيء إلى اللّه تعالى إلاّ بحجة صحيحة.

وقد اختلف المفسرون في معاني هذه الأصناف الأربعة، إلاّ أن ذلك لا يضرّ بأصل المسألة حيث حرموا أنواعاً من النياق والشياه وبيّن اللّه عدم حرمتها وأن تحريمها بدعة، فكل النياق والشياه محلّلة إلاّ ما ورد في الشرع حرمته.

وقيل: لعلّ كل المعاني المذكورة كانت بين الجاهليين وكل طائفة تفسر الكلمة بما يحلو لها أو ما اعتادت عليه شأن العادات الهمجيّة المنتشرة بين الأقوام البدائية، فتختلف من حي إلى حي ومن منطقة إلى منطقة ومن قبيلة إلى أخرى.

ص: 352

لكل العمدة في معناها ما ورد في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) (1).

قوله: {مِن بَحِيرَةٖ} من البحر بمعنى الشق، حيث كانوا يشقون أذنها، فقد روي: «أن البحيرة: الناقة إذا انتجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بَحَروا أُذُنها أي شقُّوها، وكانت حراماً على النساء والرجال - لحمها ولبنها - ، فإذا ماتت حلّت للنساء»، وروي: «البحيرة إذا وَلدت ووَلَدَ وَلَدُها بحرت».

وقوله: {وَلَا سَائِبَةٖ} من السَيب بمعنى الجريان، يقال: انساب الماء إذا جرى على الأرض، وهي الناقة تترك، وروي: «إذا ولدت عشرة جعلوها سائبة، ولا يستحلون ظهرها ولا أكلها»، وروي: «البعير يسيّب بنذر يكون على الرجل إن سلّمه اللّه عزّ وجلّ من مرض أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك».

وقوله: {وَلَا وَصِيلَةٖ} من الصِلة وهي إما بمعنى الواصلة أو الموصولة وروي: «إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن واحد قالوا وصلت، فلا يستحلون ذبحها ولا أكلها»، وروي: «الوصيلة من الغنم: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن فإن كان السابع ذكراً ذُبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم تذبح، وكان لحمها حراماً على النساء، إلاّ أن يموت منها شيء فيحلّ أكلها للرجال والنساء».

وقوله: {وَلَا حَامٖ} الحامي هو الذي حمى نفسه وظهره، وروي: «الحام: فحل الإبل»، وروي أنه: «الفحل إذا رُكب ولد ولده، قالوا: قد حمى ظهره،

ص: 353


1- راجع معاني الأخبار: 148؛ والبرهان في تفسير القرآن 3: 495-496.

وقد يروى أن الحام هو من الإبل إذا أنتج عشرة أبطن، قالوا: قد حمى ظهره، فلا يُركب، ولا يُمنع من كلأ ولا ماءٍ».

والحاصل: أن هذه أنواع من الإبل والغنم كانوا يطلقونها ولا ينتفعون بها وينسبون ذلك إلى اللّه سبحانه افتراءً عليه.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.

كأنّه جواب عن سؤال: بأنه إذا لم يشرّع اللّه سبحانه هذه الأحكام فمن أين أتى بها هؤلاء؟

والجواب: أنهم يفترون على اللّه الكذب، وفي ذلك دلالة على أن نسبة شيء إلى اللّه تعالى يدور بين أمرين: إما حجة هي قول اللّه في القرآن أو قول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وإما افتراء على اللّه تعالى.

وأما كلام الأئمة فهو مأخوذ من القرآن ومن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب اللّه»(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث رسول اللّه، وحديث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قول اللّه عزّ وجلّ»(2).

وقوله: {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، قيل: الافتراء أخص من الكذب؛

ص: 354


1- بحار الأنوار 89: 91.
2- الكافي 1: 53.

لأنه نسبة باطل إلى أحد وهو لا يرتضيها، وضم الكذب إلى الافتراء زيادة في التشنيع عليهم، أو الكذب هنا بمعنى المكذوب، فالمعنى ينسبون زوراًإلى اللّه التشريع الباطل.

وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} لعل المعنى أنهم لا يميزون الحق عن الباطل ولا الحرام عن الحلال فهم من الجهلة الضُلّال التابعين للمُضلّين، وهؤلاء أكثرهم، وهناك أقلية تعرف الحق ولكنها تنكره ولذا عبرّ عن الكفار بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} بهذا الاعتبار، وأما باعتبار عدم استعمالهم لعقولهم فكلهم لا يعقلون قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(1)، وقيل: الذين يفترون الكذب هم المضلّون المتبوعون، والذين لا يعقلون هم الضالون التابعون وهؤلاء هم الأكثر.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ...} الآية.

افتراؤهم على اللّه سبحانه - حيث لا حجة لهم - يقابله الصدق عليه بأن تكون الحجة قائمة وهي ما أنزل اللّه تعالى في القرآن، أو ما شرّعه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بتفويض من اللّه تعالى، فهنا قد أذن اللّه بأن ينسب إليه الحكم، وما سوى ذلك باطل كتبريرهم بأنهم يتبعون آباءهم، ويردهم اللّه تعالى بأنه لا يصح اتباع من لا علم له ولا هداية حتى لو كان الآباء، فأبوّتهم ليست حجة لنسبة فعلهم إلى اللّه تعالى.

ويمكن أن يكون {مَا أَنزَلَ اللَّهُ} إشارة للتكاليف، و{إِلَى الرَّسُولِ} في

ص: 355


1- سورة الملك، الآية: 10.

القضايا والموضوعات، أو ما أنزل اللّه في كتابه وإلى الرسول في تفسيرهوبيانه.

وقوله: {لَا يَعْلَمُونَ شَئًْا وَلَا يَهْتَدُونَ} عدم العلم جهل وعدم الاهتداء ضلال، أي حتى لو كان آباؤهم جهلة وضُلاّلاً، فإن العلم وحده لا يكفي، بل لا بد من ضمّ الهداية له قال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَٰفِرُونَ}(1)، وقال: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(2)، وفي ذلك دلالة على جواز اتباع العالم المهتدي قال اللّه تعالى: {وَقَالَ الَّذِي ءَامَنَ يَٰقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}(3)، وقال: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(4).

ولذا اشترط في صحة الاتبّاع في فروع الدين أن يكون المتبوع عالماً عادلاً؛ لأن الفاسق غير مهتدي فلا يصح تقليده في أمور الدين.

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ...} الآية.

بعد أن نهى عن تقليد الآباء إذا كانوا جهلة ضُلاّلاً، بيّن اللّه للمؤمنين أن ضلال أولئك لا يضرّهم إذ لا تزر وازرة وزر أخرى، كما أن إيمانهم لا ينفعهم قال تعالى: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(5)، وقال في ابن نوح:

ص: 356


1- سورة النحل، الآية: 83.
2- سورة النمل، الآية: 14.
3- سورة غافر، الآية: 38.
4- سورة التوبة، الآية: 122.
5- سورة المدثر، الآية: 38.

{قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٖ}(1)، فالآية في مقام الحث على عدم اتباع أهل الضلال وليست في مقام ترخيص ترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف وإرشاد الجاهل.

وقوله: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي الزموها واحفظوها، و(عليك) اسم فعل بمعنى الزم.

وقوله: {لَا يَضُرُّكُم...} الظاهر أنه نهي أي لا تضروا أنفسكم باتباع أهل الضلال، أو لا تحسب كفره ضرراً عليك فإن المطيع لا يُؤخذ بذنب العاصي، ويحتمل كونه نفياً فالمعنى بيان عدم الضرر من الكفار على المهتدين.

وقوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أما مع عدم الاهتداء فأهل الضلال يضرون الذين اتّبعوهم؛ لأنهم يضلونهم فيوردونهم النار قال تعالى: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ لَا يُنصَرُونَ}(2)، وغير خفي أن من شروط الاهتداء القيام بجميع الواجبات والتي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل ونحو ذلك من وظائف اجتماعية.

وليس معنى الآية تركها كما زعم البعض أنها نزلت في التقية، أو ذلك بعد عدم نفع الأمر والنهي والإرشاد، أو أنها في تتبع عوارت الناس، فكل ذلك لا يرتبط بالآية، واللّه العالم.

وقوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

ص: 357


1- سورة هود، الآية: 46.
2- سورة القصص، الآية: 41.

هذا كالتعليل لقوله: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم...} فالمعنى حينئذٍ أن الرجوع إلى اللّه تعالى العالم بحالكم والعادل الذي لا يظلم، فعنده لا تزر وازرة وزر أخرى ويثيب ويعاقب كل إنسان حسب أعماله لا أعمال الآخرين وإن كانوا من أقاربه.

وقوله: {مَرْجِعُكُمْ} مصدر ميمي، وهذا نظير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ}(1)، وقال: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(2).

وقوله: {فَيُنَبِّئُكُم} والغرض من الإخبار الجزاء، أي ينبئكم ليجازيكم، فإن ذلك أظهر للعدل، فالآخرة ليست كالدنيا حيث قد يختلط الأمر فيُعاقب البريء بجرم المذنب أو العكس.

ص: 358


1- سورة النور، الآية: 64.
2- سورة آل عمران، الآية: 55.

الآيات 106-108

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَوٰةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلَا نَكْتُمُ شَهَٰدَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْأثِمِينَ 106 فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فََٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَٰنِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّٰلِمِينَ 107 ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَٰنُ بَعْدَ أَيْمَٰنِهِمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ 108}

106- ثم بعد ذكر الحلال والحرام في المأكولات يذكر اللّه تعالى الحلال والحرام في الأموال فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ} خبر يراد به الإنشاء أي استشهدوا {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي قرب موته بأن ظهرت عليه أماراته كمرض شديد أو هرم، وتكون تلك الشهادة {حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} أي شهادة اثنين {ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ} من المسلمين والعدالة هي الاستقامة على جادة الشرع ناشئة عن ملكة نفسانية {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} غير المسلمين، و«أو» للترتيب، أي مع فقد الشاهدين المسلمين

ص: 359

فشاهدان من أهل الذمة {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي سافرتم، وهذا الشرط غالبي، حيث إن فقدان الشاهدين المسلمين يكثر في الأسفار {فَأَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} أي اقترب أجلكم.

والحاصل: أن عليكم أن تستشهدوا للوصية عادلين من المسلين فإن لم يكونا فاثنان من الكفار وشهادة الكافرين مقبولة من غير حلف إن لم يكن هناك ريبة، لكن مع الريبة فيضم إلى ذلك القسم ف-{تَحْبِسُونَهُمَا} أي توقفون الكافرين {مِن بَعْدِ الصَّلَوٰةِ} حيث اجتماع الناس ليكون أبعد عن كذبهما حيث هيبة الاجتماع ورعب الكاذب {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}، ويكون القسم {إِنِ ارْتَبْتُمْ} والريبة شك مع تهمة، ويكون المقسم عليه: {لَا نَشْتَرِي بِهِ} أي بما نُدلي من الشهادة {ثَمَنًا} هو تحصيل دنيا زائلة ومال حرام {وَلَوْ كَانَ} الذي نُقسم لصالحه {ذَا قُرْبَىٰ} فإن الإنسان يميل إلى الشهادة لقريبه ولو كانت كاذبة {وَلَا نَكْتُمُ شَهَٰدَةَ اللَّهِ} أي الشهادة التي أمر اللّه بها {إِنَّا إِذًا} لو اشترينا بها ثمناً قليلاً أو كتمنا الشهادة {لَّمِنَ الْأثِمِينَ} العصاة، وبعد شهادتهما وحلفهما حين الارتياب تقبل الشهادة.

107- {فَإِنْ} تبيّن بعد ذلك كذبهما بأن {عُثِرَ} ظهر {عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي كذباً وبكذبهما ثبت عليهما الذنب والعقوبة، {فَ} فحينئذٍ تبطل شهادتهما ويردّ قسمهما ويُرجَع اليمين إلى أقرباء الميت وهما شاهدان {ءَاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} أي مقام الذميّين في الشهادة والحلف، وهذان الآخران هما {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي وجبت الوصية عليهما؛ لأنهما من أقرباء الميت وكان عليهما تنفيذها، وهما {الْأَوْلَيَٰنِ} تثنية أولى، أي

ص: 360

هما أولى بالميت من غيره {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَا} أي ما ندعيه ونحلف عليه {أَحَقُّ} أصدق {مِن شَهَٰدَتِهِمَا} شهادة الكافرين {وَمَا اعْتَدَيْنَا} لم نتجاوز الحق فيما نقول {إِنَّا إِذًا} في حال الاعتداء {لَّمِنَ الظَّٰلِمِينَ} حيث بالحلف الكاذب نظلم أنفسنا ونظلم أولئك.

108- {ذَٰلِكَ} الحكم بأن يحلف الكافريَن بعد الصلاة وردّ اليمين على أولياء الميت {أَدْنَىٰ} أقرب {أَن يَأْتُواْ} الأوصياء {بِالشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا} طريقتها المشروعة؛ لأن الأداء في الجمع العام يمنع من الكذب غالباً {أَوْ يَخَافُواْ} الفضيحة بأن {أَن تُرَدَّ أَيْمَٰنُ} تُرجع الأيمان إلى أولياء الميت {بَعْدَ أَيْمَٰنِهِمْ} أيمان الكفار.

ثم يعظ اللّه المؤمنين فيقول {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} احذروا عقابه {وَاسْمَعُواْ} أطيعوا اللّه تعالى، وإلاّ أصبحتم فاسقين {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ} فيخذلهم ويقطع عنهم ألطافه مما يسبب عدم هدايتهم.

بحوث

الأول: لعل ارتباط هذه الآيات بما قبلها هو أن اللّه تعالى لما ذكر جملة من أحكام المأكورات طيّبها وخبيثها، أتمّها بذكر حكم جملة من الأموال حلالها وحرامها، ومن ذلك ما يوصيه الميت فهو حلال للموصى له وحرام على الورثة - بشروطه المذكورة في الفقه - لكن لا بد من وجود شهود يشهدون بالوصية، فإن كانا مسلمين عادلين فتكفي شهادتهما، وإلاّ فمع فقدانهما ونظراً لأهمية الوصية قد شرّع اللّه قبول شهادة أهل الكتاب ويحلّ المال للموصى له ويجب على الورثة قبول الوصية، لكن قد يرتاب الورثة

ص: 361

في شهادتهما فحينئذٍ شرّع اللّه ضميمة القَسم إلى الشهادة، وفي اجتماع من الناس بعد الصلاة ليكون أهيب للقلوب وأبعد عن الكذب، فإن حلفا نفذت الوصية، لكن لو بعد ذلك تبيّن كذبهما فهنا يحق لأولياء الميت طلب نقض الحكم وعلى اثنين منهما الحلف، فتبطل شهادة الذميين ويقبل ادعاء الورثة.وأما شأن نزول هذه الآيات فإنه روي: أن ثلاثة - مسلم ونصرانيّين - سافروا، فمرض المسلم ولما قرب موته سلّم أمتعته إلى الكافريَن ليوصلاها إلى ورثته، فلما مات سرقا منها آنية منقوشة بالذهب وقلادة، وأوصلا سائر الأمتعة إليهم، فافتقد الورثة الآنية والقلادة، فشكوهما إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فنزلت الآية الأولى، فأوجب عليهما اليمين، فحلفا، فخلّى سبيلهما، ثم عثروا على الآنية والقلادة فجاؤوا إلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ليحكم بينهم، فنزلت الآية الثانية(1).

ثم إن المفسرين قد أطالوا الكلام في إعراب هاتين الآيتين، وفي مجمع البيان: «وهذه الآية مع الآية التي قبلها من أعوص آيات القرآن إعراباً ومعنى وحكماً»(2)، إلاّ أنك ستعرف وضوح المعنى والحكم بجلاء، وأما الإعراب فاختلاف النحاة في تركيب جملة إنما هو بسبب قواعدهم التي وضعوها، وليست هي الحاكمة على اللغة، بل العكس هو الصحيح.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ...} الآية.

ص: 362


1- راجع الرواية في الكافي 7: 5؛ وتفسير القمي 1: 189.
2- مجمع البيان 3: 636.

الشهادة في الوصية

قوله: {شَهَٰدَةُ} مبتدأ، وقوله: {اثْنَانِ} الخبر، وحيث لا بد من مطابقة المبتدأ للخبر في كونهما معاً اسمي ذات أو اسمي معنى، فلا بد إما من تقدير مضاف في الخبر، أي (شهادة بينكم شهادة اثنين)، أو تأويل المبتدأ إلى اسم ذات، أي (الشهود بينكم اثنان)، وهذه جملة خبرية يراد بهاالإنشاء، أي استشهدوا اثنين للوصية.

وقوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} قيل: حضور الموت كناية عن ظهور أماراته وذلك بمرض شديد أو هرم ونحو ذلك.

وقوله: {حِينَ الْوَصِيَّةِ} قيل: بدل عن {إِذَا حَضَرَ...}، وقد استفيد من ذلك تأكّد الوصية حين ظهور علائم الموت.

ويحتمل أن قوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} يراد به أداء الشهادة بعد موت الموصي، وقوله: {حِينَ الْوَصِيَّةِ} يراد به تحمل الشهادة حينما يريد الإنسان الوصية، فلا بد من استشهاد اثنين للوصية ولا بد من أن يؤدّيا كلاهما الشهادة بعد الموت، فتأمل.

وقوله: {اثْنَانِ} فلا تثبت الوصية كاملة إلاّ بشاهدين عادلين، وفي ثبوت بعض الوصية لو كان شاهد واحد أو كنّ نساءً - واحدة إلى أربع - تفصيل ذكرته السنة، فليراجع إلى الفقه.

وقوله: {ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ} أي من المؤمنين؛ لأن الخطاب لهم بقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ}، والعدالة هي ملكة نفسانية تجعل الإنسان مستقيماً على جادة الشرع مع الالتزام العملي بالواجبات وترك المحرمات، ويكشف الملكة حسنُ الظاهر كسائر الصفات النفسانية التي تدل عليها الأعمال

ص: 363

والأقوال، فمن لم تكن له الملكة فليس بعادل، ومن كانت له الملكة لكنّه ارتكب كبيرة صار فاسقاً إلاّ أن يتوب فترجع، والتفصيل يطلب من الفقه، وعليه فلا تقبل شهادة الفاسق حتى وإن كان ثقة.

وقوله: {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي غير المؤمنين والمراد أهل الكتابويلحق بهم المجوس، وأما ما قاله البعض من أن {مِّنكُمْ} بمعنى من عشيرتكم و{غَيْرِكُمْ} من غير عشيرتكم! فغير صحيح؛ لأن الخطاب للمسلمين كما ذكرنا، وغير المسلمين هم الكفار، وقد بينت السنة انحصارهم في اليهود والنصارى والمجوس(1)، فلا تقبل شهادة المشركين ولا سائر الكفار على المسلمين، نعم شهادة بعضهم على بعض مقبولة بتفصيل مذكور في الفقه، و{أَوْ} للترتيب أي فإن لم يوجد ذوا عدل منكم فآخران من غيركم.

وقوله: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ...} هذا الشرط خاص بالشاهدين الكافرين، فإن شهادة المسلمين العادلين مقبولة مطلقاً في سفر أو حضر، وأما شهادة الذميين على المسلم فمقبولة في خصوص الوصية وفي حال عدم وجود المسلمين العادلين، وأما تقييده بالسفر فاختلف الفقهاء فيه فقال بعضهم: إن القيد غالبي فالمعنى حين فقدان المسلمين ولا فرق في كونه في سفراً أو حضراً إلاّ أن الغالب وجدان المسلمين في الحضر لذلك قيّده بالسفر، و(الضرب في الأرض) بمعنى السفر؛ لأن المسافر يكثر ضرب رجله في الأرض.

ص: 364


1- راجع وسائل الشيعة 27: 390.

وقوله: {فَأَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} ليس تكراراً لقوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}، بل لمّا ذكر شقّين قيّد كل واحد منهما بهذا القيد، فالشق الأول هو قوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ}، والشق الثاني هو قوله: {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِفَأَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ}.

وقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا} والحبس هو المنع من الانبعاث، فالمراد يوقفان ليؤديّا الشهادة بعد الصلاة.

وقوله: {فَيُقْسِمَانِ} ومتعلق القسم أمران: عدم الكذب وعدم الكتمان.

وقوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} هذا قيد للحبس والقسم فالمعنى شهادتهما مقبولة مطلقاً، لكن مع ارتياب الورثة بهما لا بد من ضمِّ الحلف إلى الشهادة.

وقوله: {لَا نَشْتَرِي بِهِ} أي لا نريد بهذه الشهادة كسب دنيا، وإنما نريد بيان الحقيقة، وضمير {بِهِ} راجع إلى الشهادة، وهو أظهر من إرجاع الضمير إلى القسم؛ لأن القسم إنما هو لإثبات صدق الشهادة، لا أن القسم لإثبات صدق القسم، وهذا المتعلّق الأول للقَسَم.

وقوله: {ثَمَنًا} أي متاع الدنيا سواء كان له أو لغيره.

وقوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ} أي ولو كان المقسم له - الذي يحلف لصالحه - قريباً، فإن الإنسان يميل إلى أقربائه ولو عبر الشهادة الكاذبة، ولا يخفى أن شأن النزول لم تكن الشهادة لصالح قريب، ولكن حيث إن شأن النزول لا يخصص الحكم، بل يبقى الحكم عاماً لسائر الموارد لذلك ذكر هذا القيد.

لو تبيّن كذب شهود الوصية

وقوله: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَٰدَةَ اللَّهِ} هذا المتعلّق الثاني للقَسم، إذ أحياناً

ص: 365

الإنسان لا يكذب في شهادته ولكن يكتم حقيقة مما يؤدي إلى ضياعها وعدم وصول الحق إلى أهله، فإن من تحمّل شهادة يجب عليه أداؤها إذا دُعي إلى الشهادة، بل حتى إذا لم يُدعَ إليها لكن علم بضياع الحق لو لميؤدّها، وفي إضافة الشهادة إلى اللّه تعظيم لقدرها وبيان أهميتها والمعنى الشهادة التي وجب أداؤها بأمر اللّه تعالى.

وقوله: {إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْأثِمِينَ} أي اشترينا بها ثمناً أو كتمناها نكون من العصاة، وهذا نوع تغليظ في اليمين وليلتفت الشاهد بأن الكذب أو الكتمان في الشهادة إثم يكون وباله عليه.

الثالث: قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فََٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا...} الآية.

بيان لحكم آخر في المسألة، وهو أنه بعد قبول شهادة الكافرين الذميين في الوصية وقسمها حين ارتياب الوارث، لو تبيّن كذبهما، فهنا يمكن للوارث المطالبة بنقض الحكم السابق وإصدار حكم جديد لصالحه، لكن حيث إنه لا يصح الحكم إلا بعد الشهادة أو اليمين فلا بد من حلف اثنين من أقرباء الميت على ما يدّعون وبذلك ينقض الحكم السابق ويثبت ادعاء الورثة، قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان» (1).

وقوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ...} عثر عليه بمعنى وجده، يقال ضاع فرسي فعثرت عليه، والمراد هنا إذا ظهر كذبهما، ولعلّ التعبير بالعثور عليه لأجل أن في شأن النزول تمّ العثور على الآنية وبذلك ثبت كذب الشاهدين

ص: 366


1- الكافي 7: 414.

الذميين.

وقوله: {اسْتَحَقَّا إِثْمًا} كناية عن كذبهما، فإن الكذب في الشهادة والخيانة في الأمانة إثم يستوجب العقوبة.

فيكون حاصل العبارة: فإن عثر على المتاع فتبيّن أنهما كذبا وخانا فاستحقا العقوبة على إثمهما، وغير خفي وجوه البلاغة في العبارة بالاختصار وبإقامة السبب مقام المسبب وغير ذلك.

وقوله: {فََٔاخَرَانِ} أي فشاهدان آخران غير الذميين.

وقوله: {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} أي مقام الذميّين في الشهادة والحلف، فإن الشهادة كانت لهما باعتبارهما سمعا الوصية من الميت، إلاّ أن ظهور كذبهما صار سبباً لأن يُعطى ذلك للورثة.

وقوله: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي الورثة الذين استحقت الوصية عليهم، إذ لولا الوصية لكان المال لهم، لكن مع الوصية ثبت عليهم تنفيذها، وقيل: المعنى استحق عليهم الإثم بأن كانت الشهادة الكاذبة بضررهم.

وقوله: {الْأَوْلَيَٰنِ} تثنية أولى، أي هما أولى بالميت باعتبار قرابتهم كما قال: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1)، فقوله: {الْأَوْلَيَٰنِ} عطف بيان أو بدل عن قوله: {فََٔاخَرَانِ}.

وقوله: {لَشَهَٰدَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا} سمّى ادّعاءهم مع يمينهم شهادة؛ لأنها واقعة موقع الشهادة، و{أَحَقُّ} بمعنى أصدق، والحاصل مع ثبوت كذب الشاهدين الذميين تكون شهادة أولياء الميت هي الحق فيقسمان على

ص: 367


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

ذلك.

وقوله: {وَمَا اعْتَدَيْنَا} تأكيد أنهما يعلمان كذب الذميين، وأنهما لا يريدون الاعتداء على الوصية، وإنما يطلبان حق الورثة.

وقوله: {إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّٰلِمِينَ} بيان بأن المعتدي ظالم لنفسه بالإثم، وظالم لغيره بمنع حقه.

الرابع: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ...} الآية.

بيان سبب تشريع يمين الذميين بعد الصلاة وكذا نقض الحكم وإرجاع اليمين إلى أولياء الميت حين كذبهما، فإن الشاهد إذا اطمأنّ بأن الحكم لا ينقض حتى لو ثبت كذب الشهادة، فإن ذلك يجرّئهُ على شهادة الزور، لكن إن علم بأنّه لو ظهر كذبه نقض الحكم - فيجمع بين فضيحة الخيآنة وبين فضيحة ردّ شهادته ونقض الحكم الذي كان بصالحه - فحينئذٍ قد يتوقف عن شهادة الزور.

وقوله: {ذَٰلِكَ} أي الحكمان المذكوران في الآيتين، أما اليمين بعد الصلاة فِعلة تشريعها هو قوله: {أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا}، وأما نقض الحكم وحلف الورثة فسبب تشريعه هو قوله: {أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَٰنُ بَعْدَ أَيْمَٰنِهِمْ}.

وقوله: {أَدْنَىٰ} أي أقرب، فإن الكاذب في مجمع الناس يرتبك غالباً فلذا يضطر إلى الشهادة بالصدق أو ارتباكه يفضحه.

وقوله: {عَلَىٰ وَجْهِهَا} أي الشهادة المطابقة للواقع، فإن أداء الشهادة

ص: 368

يكون باتجاه ما تحمّله منها، فإن لم يكن كذلك لم يكن على وجهه.

وقوله: {أَن تُرَدَّ أَيْمَٰنُ...} ردّ اليمين هو إرجاعها إلى الغير، وهنا إرجاع اليمين إلى أولياء الميت.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاسْمَعُواْ} موعظة بليغة كدأب القرآن حينما يذكر حكماً يحث الناس على الالتزام به، فالتقوى بترك العصيان والسماع بالإطاعة بامتثال الأوامر.

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ} بيان أن الكذب في الشهادة أو كتمانها فسق، ثم بيان عقوبة الفاسق بأن اللّه يخذله مما يؤدي به إلى نار جهنم.

ص: 369

الآيات 109-111

اشارة

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ 109 إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَئَْةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَٰتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ 110 وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ 111}

109- وحيث ذكر في الآيات السابقة افتراءات الكفار في التحليل والتحريم وكذلك شهادتهم الكاذبة، انتقل الكلام إلى افتراءاتهم في أصول الدين وشهادة الأنبياء الصادقة عليهم يوم القيامة، فقال: {يَوْمَ} أي اذكر يا رسول اللّه اليوم الذي {يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} جميعاً للشهادة على أممهم، {فَيَقُولُ} اللّه لهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} أي كيف كانت إجابة أممكم لكم هل بالتصديق والطاعة أم بالتكذيب والمعصية؟ وهذا استفهام تقريري يراد به توبيخ كفار الأمم ومنافقيهم، {قَالُواْ} الرسل: {لَا عِلْمَ لَنَا} أي لا نعلم العلم المحيط بكل الجوانب حيث لم نر منهم إلاّ الظاهر، وأما العلم المحيط

ص: 370

الشامل للباطن فللّه وحده إذ {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ} ما غاب عن حواسنا، وهذا لا ينافي شهادتهم على ما علموه منهم.

110- ثم يبين اللّه كفر طائفة من بني إسرائيل وإيمان أخرى، ويصدّر ذلك بذكر بعض معجزات عيسى (عليه السلام) إتماماً للحجة على الطائفة الكافرة، {إِذْ} أي أن جمع الرسل يكون في الوقت الذي {قَالَ اللَّهُ} عبّر عن المستقبل بالماضي؛ لأنه متحقق الوقوع {يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} نوع النعمة أي كلّها، والمقصود بهذا الخطاب الاحتجاج على أمته، {وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ} باصطفائها على نساء العالمين وعفافها وردّ التهم عنها.

ثم يذكر اللّه تعالى مجموعة من آياته ومنها:

(1): {إِذْ أَيَّدتُّكَ} قوّتيك {بِرُوحِ الْقُدُسِ} روح طاهرة، وهو جبرئيل أو غيره، وكان هذا التأييد حال كونك {تُكَلِّمُ النَّاسَ} رضيعاً {فِي الْمَهْدِ وَ} تكلمهم {كَهْلًا} وهو ما بين الشباب والشيب، وكان كلامه في كلا الحالين بالإعجاز، أمّا في المهد فواضح، وأمّا في حالة الكهولة فبظهور المعاجز بكلامه (عليه السلام) ، فكأنّ كلامه في الحالين كان بتسديد روح القدس.

(2): {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَٰبَ} نوع الكتب السماوية أي كلّها، {وَالْحِكْمَةَ} وهي الإحكام في الأمور ووضعها مواضعها، ومنها الشريعة، {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} خصّهما بالذكر مع دخولهما في الكتاب؛ لأنه (عليه السلام) كان يأمر الناس بالعمل بهما.

(3): {وَإِذْ تَخْلُقُ} تصنع {مِنَ الطِّينِ كَهَئَْةِ الطَّيْرِ} مثل شكله وصورته {بِإِذْنِي} التشريعي بإجازة ذلك، والتكويني بصنع الهيئة بالإعجاز {فَتَنفُخُ}

ص: 371

الروح {فِيهَا} في مثل الهيئة {فَتَكُونُ طَيْرَا} أي فتتحول إلى طيرحيّ {بِإِذْنِي} التكويني، {وَتُبْرِئُ} تعالج {الْأَكْمَهَ} الأعمى بالولادة {وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي}.

(4): {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ} من قبورهم أحياءً {بِإِذْنِي}.

(5): {وَإِذْ كَفَفْتُ} منعتُ {بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} الكفار منهم {عَنكَ} حيث أرادوا قتلك {إِذْ} في الوقت الذي {جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَٰتِ} الأدلة الواضحة {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} من بني إسرائيل {إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح، هذا بالنسبة إلى كفارهم.

111- {وَ} أما مؤمنوهم فاذكر {إِذْ} الوقت الذي {أَوْحَيْتُ} بالإلهام {إِلَى الْحَوَارِيِّۧنَ} وهم خواص أصحاب عيسى (عليه السلام) {أَنْ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} عيسى (عليه السلام) أي استمروا بالإيمان باللّه وبرسوله، {قَالُواْ} قال الحوارين: {ءَامَنَّا} بهما {وَاشْهَدْ} يا ربنا {بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.

بحوث

الأول: لعل وجه ارتباط هذه الآيات وما قبلها هو أنه سبحانه لمّا ذكر التحليل والتحريم من المأكولات ثم ذكر الشهادة الكاذبة والصادقة وكان كل ذلك في فروع الدين، بعد ذلك انتقل الكلام إلى أصول الدين وشهادة الرسل على أممهم بشهادة صادقة، حيث انقسمت الأمم إلى من آمنوا بالآيات فصدّقوا الرسل، وإلى من كذّبوها وكذّبوهم.

كما أن هذه الآيات إلى آخر السورة تتضمن الجزاء الدنيوي والأخروي لكلتا الطائفتين - المؤمنين والكفّار - وبيان أن الرسل قد أدّوا المهمة الملقاة

ص: 372

على عاتقهم على أحسن وجه، مع تبرئتهم عن كفر وعصيان من ينتحلون اتّباعهم.

الثاني: قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لَاعِلْمَ لَنَا...} الآية.

إنما يجمع الرسل في يوم القيامة للشهادة على أممهم قال سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ بِشَهِيدٖ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا}(1)، وقال: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}(2)، وقال: {وَيَقُولُ الْأَشْهَٰدُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ}(3)، وقال: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا}(4)، وغير خفي أنه لا تكون شهادة إلاّ مع علم وإلاّ كانت شهادة زور، وقد مرّ تفصيله في سورة البقرة، فالأنبياء يشهدون على أممهم بما يعلمون به وهي الأمور المحسوسة بالحواس، وأما الأمور الغيبية التي لا يمكن علمها بالحواس فلا بد من أن يظهرهم اللّه عليها حتى يعلموا بها كما قال: {عَٰلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ}(5)، وعليه فلو سئلوا عن الأمور الغيبية التي لم يطلعهم اللّه عليها أجابوا بعدم العلم.

من هذا يتضح أن سؤالهم بقوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} سؤال عن أمر غيبي مثل

ص: 373


1- سورة النساء، الآية: 41.
2- سورة النساء، الآية: 159.
3- سورة هود، الآية: 18.
4- سورة القصص، الآية: 75.
5- سورة الجن، الآية: 26-27.

صدق إيمان الأمم أم نفاقهم فهذا يرتبط بالقلوب الذي هو من الغيب، وحيث إن اللّه لم يُخبر غالب الرسل عن البواطن لذلك كان جوابهم بأن ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلاّ اللّه ولم يُطلعهم عليه فقالوا: {لَا عِلْمَ لَنَاإِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ}، وإلاّ فالإجابة الظاهرية بالإيمان باللسان والتزام الطاعة وترك المعصية علناً هو مما يعلم به عامة الناس فضلاً عن الرسل الذين كانت مهمتهم التبليغ.

وقوله: {يَوْمَ} ظرف متعلق بمقدر أي اذكر اليوم الذي... الخ، وقيل يتعلق بقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاسْمَعُواْ} أو بقوله: {لَا يَهْدِي} في الآية السابقة! لكن لا ينسجم ذلك مع المعنى إذ يوم القيامة ليس يوم العمل والهداية بل يوم الجزاء والمحاسبة.

وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} في يوم القيامة يجمع اللّه الناس جميعاً كما قال: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٖ لَّا رَيْبَ فِيهِ}(1)، وقال: {ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ}(2)، وقال: {وَحَشَرْنَٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}(3)، وإنما خص الجمع في هذه الآية بالرسل؛ لأن الغرض هو بيان توجيه السؤال إليهم.

وقوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} السؤال عن كيفية إجابة الناس وليس عن قول الناس، ولذا لم يقل: «بماذا أجبتم» على ما ذكره بعض المفسرين، ولذا كان

ص: 374


1- سورة آل عمران، الآية: 9.
2- سورة هود، الآية: 109.
3- سورة الكهف، الآية: 47.

جواب الرسل بعدم العلم، فهل الإجابة صادقة أم كاذبة؟ وهل آمنوا حقاً أم نافقوا؟ وهذا علمه يرتبط بالغيب عادة، وأما جواب الناس بالتصديق أو التكذيب فمعلوم للجميع فضلاً عن الأنبياء والرسل (عليهم السلام) .

ثم إن هذا الاستفهام إنما وُجّه للرسل مع عدم علمهم به ومع عدم مسؤوليتهم عن أعمال الناس لأجل توبيخ الكفار، نظير قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(1)، وإلاّ فالناس أجمع يسألون عن أعمالهم قال سبحانه: {فَلَنَسَْٔلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}(2).

ومن أهم الأسئلة سؤالهم عن إجابة الأمم في أوصيائهم كما في ورد في الأحاديث(3).

وقوله: {قَالُواْ لَا عِلْمَ لَنَا} أي بكيفية الإجابة هل بإيمان حق صادق أم بنفاق فإن ذلك من علم الغيب، كما اتضح مما سبق، ولذا علّلوا عدم علمهم بقولهم: {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ}.

وزعم البعض: أن جوابهم هذا عن ذهول لهول الموقف أو تواضعاً للّه!

وفيه نظر، إذ لا معنى للتواضع بكلام خلاف الواقع، وإنما التواضع إما عملي كجلوس النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) على التراب، أو قولي بما هو صدق كأن يقول العالم بأن علمه قليل مثلاً، كما أن نقل اللّه تعالى لكلامهم من غير نكير أو

ص: 375


1- سورة التكوير، الآية: 8-9.
2- سورة الأعراف، الآية: 6-7.
3- راجع تفسير القمي 1: 190 عن الإمام الباقر (عليه السلام) ؛ والكافي 8: 338 عن الإمام الصادق (عليه السلام) .

تصحيح هو تصديق له.

وقال البعض: إنّ المراد إجابتهم من بعده، كما قال عيسى (عليه السلام) : {فَلَمَّاتَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ}(1)!

لكن السؤال عام فيشمل حتى زمان تواجدهم بين ظهراني أممهم ولا وجه لتخصيص الآية بما بعد وفاتهم.

وقيل: قولهم {لَا عِلْمَ لَنَا} نفي نسبي، أي علمنا مقابل علمك لا يعتبر علماً؛ لأن علمنا عرضي وعلمك ذاتي محيط بكل شيء.

وقوله: {عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ} علّام صيغة مبالغة يراد بها الكثرة، أي علمك لا حدّ له فتعلم جميع الغيوب بكل خصوصياتها، ولا يخفى أن قولنا: صيغة مبالغة يراد به المعنى الاصطلاحي في علم الصرف، وأما المبالغة اللغوية بتكثير شيء من غير أن يكون كثيراً فهذا غير مراد هنا، ولا ورد في القرآن.

الثالث: قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ...} الآية.

الظاهر أن هذا المقطع استمرار لسؤاله تعالى عن كيفية إجابة القوم، ويقدّم لذلك مقدمة لنفي ألوهية عيسى (عليه السلام) وإثبات رسالته للاحتجاج على النصارى الذين ألّهوه، وعلى اليهود الذين كذبوه وبهتوا أمّه، وبعد المقدمة يذكر انقسام بني إسرائيل فمنهم من كفر وكذّبه ومنهم من آمن وصدّقه.

وأما مقاطع هذه الآية فقد مرّ أغلبها في سورة آل عمران الآية 46، ونذكرها هنا مختصراً.

ص: 376


1- سورة المائدة، الآية: 117.

قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ...} {إِذْ} بدل عن {يَوْمَ يَجْمَعُ...}، ولمّا كان ذلك متحقق الوقوع استعمل لفظ الماضي، وقيل: يتعلق ب-{اذْكُرْ} مقدراً! لكن لوكان كذلك لاستعمل واو العطف أو الاستيناف.

وقوله: {نِعْمَتِي عَلَيْكَ} أي جنس النعمة فتشمل جميع النعم، أو أن المقصود معاجزه التي ذكرها في هذه الآية ومرجعها جميعاً إلى أمر واحد جامع لها هو اختياره للرسالة، فإنّ كل هذه المعاجز لازمة كونه رسولاً فالرسالة نعمة جامعة للنِعم.

وقوله: {وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ} لعل الغرض من ذكر نعمة اللّه تعالى على مريم (عليها السلام) هو نفي ألوهية عيسى (عليه السلام) أيضاً، فإن ولادته من غير أب نعمة من اللّه على أمه؛ لأنه اصطفاها على نساء العالمين بذلك فليس ولادته من غير أب دليلاً على ألوهيته وإنما من نعمة اللّه على أمّه.

من نعم اللّه على عيسى (عليه السلام)

ثم إن اللّه تعالى ذكر ستة من أعظم نعمه عليه وكلها ترجع إلى معاجزه:

1- التأييد بروح القدس

وقوله: {أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي قويتك به، وروح القدس إما جبرئيل (عليه السلام) ، أو ملك من الملائكة، أو من نوع آخر غير الملائكة، وهناك روايات متعددة حول تأييد الأنبياء والأئمة بروح القدس ذكرناها في شرح أصول الكافي، فراجع(1).

وقوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ...} كأنه بيان للتأييد بروح القدس، ولذا لم يستعمل حرف العطف، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «فالسابقون هم رسل

ص: 377


1- شرح أصول الكافي 4: 236.

اللّه (عليهم السلام) وخاصة اللّه من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس فبهعرفوا الأشياء...» الحديث(1)، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «فبروح القدس - يا جابر - عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى»(2)، فظهر أن كلامه في المهد وكهلاً إنما هو بما تعلّمه من اللّه تعالى بواسطة روح القدس، وبذلك يتضح أن ذكر كلامه في حالة الكهولة أيضاً كان إعجازاً حيث تكلّم بما لا يعلم به الناس كإخباره بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم وبما كان مفتاحاً للمعاجز.

وقوله: {وَكَهْلًا} مرّ أن الكهل هو ما بين الشباب والشيب وقيل: هو الذي بلغ أربعاً وثلاثين سنة.

2- العلم والحكمة

قوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَٰبَ} أي نوع الكتب السماوية والمقصود جميعاً فإن تلك الكتب وإن نسخ بعض أحكامها إلاّ أنها تتضمن المعارف وأصول الشرائع والأخلاق والمواعظ ونحوها مما لا تُنسخ؛ لأنها حقائق ثابتة.

وقوله: {وَالْحِكْمَةَ} من الإحكام والإتقان وذلك يلازم وضع الشيء في موضعه، ومنها الشريعة.

وقوله: {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} هما من الكتب إلاّ أنه خصّهما بالذكر؛ لأن عيسى (عليه السلام) كان مأموراً بقرائتهما وأمر الناس بالعمل بها إلاّ بالمقدار الذي نُسخ من التوراة.

ص: 378


1- الكافي 1: 271.
2- الكافي 1: 272.

3- الخلق والعلاج

وهذا المقطع يتضمن المعاجز في أفعاله (عليه السلام) قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ...} الخلق بمعنى التقدير والصنع، لا الإيجاد من العدم فإن هذا خاص باللّه تعالى ولم يفوضه لغيره وقد ذكرناه في شرح أصول الكافي، فراجع(1).

وقوله: {بِإِذْنِي} الإذن هنا تشريعي وتكويني.

أما التشريعي: فلأنه لا يجوز صنع مجسمة ذوي الأرواح، وقد اختلف الفقهاء في أن الحرمة مطلقة أم مقيدة بما إذا أريد منها العبادة، ولعلّه في شريعة عيسى (عليه السلام) كانت الحرمة مطلقة إلاّ أن اللّه تعالى أجازها لعيسى (عليه السلام) بشكل خاص.

وأما التكويني: فإن صنع المجسمة يحتاج خبرة ومهارة، فلعل عيسى (عليه السلام) كان يصنعها بلمسة يد أو بإشارة من غير عملها بالطرق المتعارفة عند صُنّاع المجسمات والنّحاتين.

وقوله: {فَتَنفُخُ فِيهَا} فإن اللّه تعالى كان يخلق الروح ثم بنفخ عيسى (عليه السلام) كانت تدخل الروح في هيكلها.

وقوله: {فَتَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِي} الإذن هنا تكويني، أي تتحول المجسمة إلى حيوان ذي لحم وعظام وحياة فيطير.

وقوله: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} ولم يقل: (وإذ تبرئ...) فكأنه اعتبر خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص من نوع واحد، فحياة بنفخة وإبراء بلمسة، فتأمل.

ص: 379


1- شرح أصول الكافي 4: 193-194.

4- إحياء الأموات

وهذا المقطع يتضمن الإعجاز بكلامه (عليه السلام) قوله: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي} فكان (عليه السلام) يتلفظ بكلمات من الدعاء(1) فكان الميت يخرج من قبره حيّاً، وكان ممن أحياه يحيى بن زكريا‘(2)، وسام بن نوح(3)، وغيرهما.

5- منع السوء عنه

قوله: {وَإِذْ كَفَفْتُ...} أي منعت بني إسرائيل من أن يصلوا إليك بسوء، طيلة حياتك، ولعلّ المراد كفّهم عن اتهامه واتهام أمّه لمّا تكلّم وهو في المهد فأخرس ألسنتهم بهذه الآية، وكذلك عدم تأثير تكذيبهم لرسالته لمّا ظهرت المعجزات على يده وغير ذلك.

الرابع: قوله تعالى: {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ}.

هذا المقطع والآية التالية كأنه ذي المقدمة لما يقوله اللّه سبحانه وتعالى لعيسى (عليه السلام) حيث يذكّره بنعمته عليه؛ لأن الغرض - كما مرّ قبل قليل - هو توبيخ الذين كذّبوا عيسى فذكروا في هذه الآية، والذين صدّقوه قد ذكروا في الآية التالية، وأما الغلاة فيه فسيُذكرون في الآية 116 فما بعد.

وفي الآية إشعار بأن كفرهم صار سبباً لتكذيبهم بالآيات ونسبتها إلى السحر، مع أن طبيعة الآيات هي كونها سبباً لهداية الناس، لكن سوء باطنهم أدّى بهم إلى عدم الإيمان بها ومن ثَمّ رميها بالسحر.

ص: 380


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 506-507.
2- راجع الكافي 3: 260.
3- تفسير العياشي 1: 174.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّۧنَ أَنْ ءَامِنُواْ بِيوَبِرَسُولِي...} الآية.

هؤلاء كانوا قد آمنوا باللّه وبعيسى قبل ذلك، لكن لما كفر أكثر بني إسرائيل بتلك الآيات أخذ اللّه المواثيق من الحواريين، كما قال: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ}(1).

وقوله: {أَوْحَيْتُ} الوحي هو الإشارة بخفاء، وقد يراد به الإلهام، الذي هو الإلقاء في الروع، كقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ}(2)، وقوله: {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}(3)، والحواريون لم يكونوا أنبياء فلم يوح إليهم وحي الأنبياء، وإنما ألهمهم اللّه إلهاماً، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ألهموا»(4)، وقد ذكرنا بعض المطالب حول الحواريين في سورة آل عمران في الآيتين 52-53، فراجع(5).

ص: 381


1- آل عمران، الآية: 52-53.
2- سورة القصص، الآية: 7.
3- سورة النحل، الآية: 68.
4- تفسير العياشي 1: 350؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 508.
5- التفكر في القرآن 4: 190.

الآيات 112-115

اشارة

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 112 قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّٰهِدِينَ 113 قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ 114 قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ 115}

112- وكان ذلك الوحي إلى الحواريين بأن يؤمنوا باللّه ورسوله {إِذْ} في الوقت الذي {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} خاطبوه هكذا ليُعلم أنه ليس بإله {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} الاستطاعة بحسب الإرادة والمصلحة، أي هل يريد أو هل يرى من المصلحة، وإنما قالوا هكذا ليُعلم أنه مربوب {أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً} سفرة عليها طعام {مِّنَ السَّمَاءِ} بطريقة الإعجاز؟ {قَالَ} عيسى (عليه السلام) لهم: {اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي لا يكن طلبكم للمعجزة عبثاً أو لغرض فاسد.

113- {قَالُواْ} لبيان غرضهم الصحيح: {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} من المائدة، وهذا غرض عقلائي صحيح، {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} تندفع خطرات

ص: 382

الفكر بأن المعاجز سحر، إذ بعد لمس المعجز ورفع الحاجة به لا تعرض الوساوس، {وَنَعْلَمَ} نزداد علماً ويقينا {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} في ما قلتَوعملتَ، {وَنَكُونَ عَلَيْهَا} على المائدة {مِنَ الشَّٰهِدِينَ} نشهد عند من لم يرها ولم يحضرها.

114- فلمّا علم صدقهم وصحة أغراضهم، دعا اللّه تعالى، وقد غيّر في الطلب بما يتناسب مع مقام عبوديته ف-{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} بيّن أنه مربوب للّه تعالى {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ} وقد عدّ لها ثلاثة أغراض: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} سروراً وفرحاً، ويكون ذلك العيد {لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} المعاصرين لعيسى وللأجيال القادمة، {وَءَايَةً} معجزة {مِّنكَ} لأن سائر المعاجز على عظمتها كان يعملها عيسى (عليه السلام) بإذن اللّه، أما هذه فهي فعل اللّه مباشرة من غير واسطة، {وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ} فهي رزقك الذي يأكلون منه كما رغبوا.

115- {قَالَ اللَّهُ} استجابة لدعاء عيسى (عليه السلام) {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} على عيسى (عليه السلام) والحواريين وسائر بني إسرائيل {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} أي بعد إنزالها {مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا} شديداً وذلك لانتهاء المهلة بعد نزولها {لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ} عالمي ذلك الزمان؛ لأنه كفر بعد إيمان وبعد رؤية المعجزة بطلب منه، وهذا أسوأ من الاستمرار في الكفر والعناد فيه حتى مع رؤية الآيات، فمُسخ المكذِّبون خنازير.

بحوث

الأول: لمّا ذكر اللّه تعالى وحيه إلى الحواريين بأن يؤمنوا به وبرسوله

ص: 383

وبيّن استجابتهم حيث قالوا آمنوا وأشهدوا اللّه على إسلامهم، بعد ذلك بيّن وقت ذلك، حيث كان حينما طلبوا المائدة مع بيانهم لغرضهم منها، فدعاعيسى (عليه السلام) واستجاب اللّه تعالى مع إنذاره لكل من يكفر بها.

والحاصل: أنه حينذاك كان وحيه تعالى للحواريين ولعلّه لتثبيت قلوبهم لئلا يكفروا، فيكونوا مثل بلعم بن باعورا حيث قال اللّه تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ}(1)،

فيكون وحيه تعالى لهم من باب تثبيت قلوبهم لمّا علم اللّه صدقهم قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأخِرَةِ}(2)، حيث دعوا اللّه تعالى فقالوا: {رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ}(3)،

وقد قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فََٔامَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَٰهِرِينَ}(4).

وقيل: {إِذْ} يتعلق بقوله: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ}، وقيل: استئناف متعلق بمقدر أي اذكر، وما ذكرناه أوفق بالسياق بعد عدم استعمال حرف العطف.

ص: 384


1- سورة الأعراف، الآية: 175-176.
2- سورة إبراهيم، الآية: 27.
3- سورة آل عمران، الآية: 53.
4- سورة الصف، الآية: 14.

كيفية سؤال الحواريين للمائدة

الثاني: قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ...} الآية.

في كيفية خطاب الحواريين كلام طويل، حيث قيل: إن فيه نوعاً منسوء الأدب حيث خاطبوا عيسى (عليه السلام) باسمه واسم أمّه، ثم سؤالهم عن استطاعة اللّه تعالى، ثم تعبيرهم عن اللّه ب-{رَبُّكَ}، ولذلك وبّخهم عيسى (عليه السلام) فدعاهم إلى التقوى، ثم لمّا دعا (عليه السلام) غيّر صيغة الطلب إلى ما فيه غاية الأدب!

لكن الأظهر أن كلامهم لم يكن فيه سوء أدب، والحال أنهم من خاصة عيسى (عليه السلام) وقد مدحهم اللّه تعالى في آيات أخرى وكان منهم شمعون الصفا وهو وصي عيسى (عليه السلام) ، نعم إن دعاء عيسى (عليه السلام) ألطف وأحسن وأنسب بمقام العبودية، لكن هذا لا ينافي أدبهم في طلبهم:

فأما خطابهم لعيسى (عليه السلام) بقولهم: {يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} فلعلّه كان متعارفاً عندهم، أو لعلّ عيسى (عليه السلام) هو الذي أمرهم به إظهاراً لمقام عبوديته نظير غسله لأقدامهم تواضعاً - كما في الحديث(1) - وأيضاً لأن طلبهم كان لإعجاز مباشر من اللّه تعالى من غير صنع شيء من عيسى (عليه السلام) إلاّ الدعاء - كما سيأتي بيانه قريباً - فكان الأنسب خطاب عيسى (عليه السلام) بمقام يناسب العبودية.

ومن ذلك يظهر علة قولهم: {رَبُّكَ} حيث لم يقولا ربنا، فلعلهم أرادوا تأكيد عبوديته (عليه السلام) .

وأما قولهم {هَلْ يَسْتَطِيعُ} فليس شكاً في قدرة اللّه تعالى، وإنما هو

ص: 385


1- راجع الكافي 1: 37.

بمعنى الإرادة أو المصلحة؛ فالمعنى هل يريد ربك أو هل يرى المصلحة في ذلك، وذلك لأن استعمال الاستطاعة تارةً بمعنى الاستطاعة بحسب القدرة كقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٖ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَايَسْتَطِيعُونَ}(1) أي لا يقدرون، وتارةً بمعنى الصعوبة كقوله: {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}(2)، وتارةً بمعنى الإرادة أو المصلحة كقولك لابنك: (هل تستطيع أن تأتي معي؟) بمعنى هل تريد، وكقولك: (العالم لا يستطيع أن يبوح بكل ما يعلم) بمعنى لا مصلحة في ذلك، وكأنّ مراد الحواريين من قولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} هو هذا، وكأنّ غرضهم الاستعطاف كما في قول المحكوم للحاكم: (هل تستطيع أن تتجاوز عنّا) فهو بمعنى هل تريد أو هل ترى فيه المصلحة، يقولونه استعطافاً وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «معنى الآية: هل تستطيع أن تدعو ربّك»(3).

وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إن عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوماً، ثم اسألوا اللّه تعالى ما شئتم يعطيكموه فصاموا ثلاثين يوماً. فلما فرغوا قالوا: يا عيسى، إنا لو عملنا لأحد من الناس فقضينا عمله لأطعمنا طعاماً، وإنا صُمنا كما أ ُمرنا، وجُعنا، فادع اللّه أن ينزّل علينا مائدة من السماء...»(4).

وقوله: {مَائِدَةً} وهي السفرة إذا كان عليها الطعام(5)، وأصلها من (ماد)

ص: 386


1- سورة القلم، الآية: 42.
2- سورة الكهف، الآية: 67.
3- البرهان في تفسير القرآن 3: 509.
4- البرهان في تفسير القرآن 3: 509-510؛ عن مجمع البيان 3: 651.
5- تفسير الصافي 2: 513.

بمعنى تحرك واضطرب، وفي المقاييس: «المائدة: الخِوان؛ لأنها تميد بما عليها، أي تحركه وتزحله عن نضده»(1).

وقوله: {مِّنَ السَّمَاءِ} أرادوا الإعجاز فيها بأن تكون بطريقة خارقة للعادة.

وقوله: {قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ...} أراد (عليه السلام) تنبيههم بأن لا يكون طلبهم طلباً تعنّتياً أو عبثاً ولغواً، فإنهم قد رأوا آيات أكبر منها كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، بل تكلّم عيسى (عليه السلام) في المهد وغير ذلك من آيات، وفيها الكفاية، فيكون طلب آية أخرى إما للتعنت، كما كان يطلب المشركون آيات بعد ما رأوا آيات أخرى، لا ليعلموا صدق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بل اتخذوها لعباً وسخرياً وهزواً، وإما لغرض معقول مشروع فهذا لا بأس به، فدعوة عيسى إياهم للتقوى لأجل أن لا يكون طلبهم من النوع الأول، فأجابوه بأن لهم أغراضاً مشروعة، فاستجاب لهم ودعا اللّه تعالى فوعدهم بها ثم أنزلها عليهم.

غرضهم من سؤال المائدة

الثالث: قوله تعالى: {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا...} الآية.

بينّوا أن غرضهم مشروع وهو ثلاثة أمور:

1- قوله: {أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} وذلك بعد أن صاموا وجاعوا - كما مرّ - كما كان موسى (عليه السلام) يسقي قومه ويطعمهم المنّ والسلوى، ولم يكن ذلك إلاّ كرامة من اللّه لبني إسرائيل ولموسى (عليه السلام) ، فلا بأس بمثل هذا الطلب ليكونوا كأسلافهم في الكرامة، إذ قد يكون الغرض من المعجزة تكريم قوم

ص: 387


1- مقاييس اللغة: 935.

مؤمنين.

2- وقوله: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} الاطمئنان هو سكون النفس واندفاع الخطرات والوساوس، ولعل ذلك لأن سائر معاجز عيسى (عليه السلام) كانوا يرونهابأعينهم، وكان المبطلون يقولون: إنها سحر كما مرّ في الآية 110 وتهريجهم قد يسبب اضطراب القلب، لكن لمس الإنسان المعجزة في نفسه يكون سبباً لاطمئنان القلب، أو لعلّهم أرادوا اطمئنان قلوبهم بكرامتهم عند اللّه تعالى، وقيل: الطعام السماوي الطاهر الطيب مؤثر في قلب الإنسان كما أن الطعام الحرام أو المشبوه مؤثر في بُعد القلب عن الرحمن، وقيل: لعل ذلك الطلب كان في أوائل الأمر قبل أن يروا الآيات الأخرى! واللّه العالم، وقد مرّ في الآية 260 من سورة البقرة ما ينفع المقام، فراجع.

3- وقوله: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} إما بمعنى نزداد يقيناً بصدقك كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَاهُمْ}(1)، وقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(2).

وإمّا بمعنى تنجيز الوعد كما في قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}(3) وذلك لأنه قد كان وعدهم فقال: «صوموا ثلاثين يوماً ثم اسألوا اللّه ما شئتم يعطيكموه...» الخ، وقد مرت الرواية قريباً.

ص: 388


1- سورة محمد، الآية: 17.
2- سورة التوبة، الآية: 124.
3- سورة آل عمران، الآية: 152.

4- وقوله: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّٰهِدِينَ} أي نشهد على هذه المعجزة لمن لم يشاهدوها.

فهذه أهداف أربعة ذكروها تبريراً لطلبهم، ولمّا كانت أغراض مشروعةوعقلائية لذلك استجاب لهم عيسى (عليه السلام) فدعا اللّه تعالى، لكن غيّر الطلب بما يكون أنسب فقدّم وأخّر وزاد كما سيتضح.

الرابع: قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ...} الآية.

لمّا توجه عيسى (عليه السلام) إلى اللّه بالدعاء عمّم الطلب، إذ طلب الحواريون المائدة لهم لكن عيسى (عليه السلام) أرادها عامة للجميع سواء السابقون واللاحقون، وهم أرادوها لاطمينان قلوبهم وليعلموا أن قد صدقهم وهو (عليه السلام) أرادها آية للجميع، وهم أرادوها للأكل وهو (عليه السلام) أرادها رزقاً.

قوله: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا} جمع بين النداء ب-{اللَّهُمَّ} وهو يا اللّه - الذي هو النداء بأعظم أسماء اللّه سبحانه الجامع لكل الكمالات - وبين {رَبَّنَا} الدال على ربوبيته فإن مادة (ر ب ب) تدلّ على إصلاح الشيء والقيام به، فالرب المصلح لأحوال خلقه(1)، ولذا فسروها بالتربية، فإنها وإن كانت من مادة (ر ب ي) إلاّ أن المعنيين متقاربان.

وقوله: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} أي تكون كرامة لنا بالسرور والفرح، فإن (العيد) هو اليوم الذي يقع فيه حدث مفرّح فيُتّخذ مناسبة كل عام للسرور والفرح تذكرة لذلك الحدث، فيكون المعنى تكون المائدة يوم سرورنا

ص: 389


1- مقاييس اللغة: 378.

لكرامة اللّه لنا، ويوم سرور لأجيالنا القادمة بتذكرهم هذه النعمة كل عام، وأصل (العيد) من العود؛ لأنه يعود في كل عام.

وقوله: {لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} بدل عن قوله: {لَنَا} ليتبيّن أن دعاءه ليسلخصوص الحواريين بل للجميع، وظاهر أولنا وآخرنا هم المعاصرون والأجيال اللاحقة، كما اتخذ اللّه يوم إنزال الكبش فداءً لإسماعيل (عليه السلام) يوم عيد هو عيد الأضحى، وقيل: أولنا وآخرنا بمعنى جميع بني إسرائيل للرؤساء والمرؤوسين.

والحاصل: أنهم طلبوها لهم لكن عيسى (عليه السلام) دعا لأن تكون للجميع فمن عاصرها يُعيِّد ويأكل منها ومن لم يعاصرها يتخذها عيداً.

وقوله: {وَءَايَةً مِّنكَ} إما بمعنى أن تكون آية مباشرة من اللّه من غير توسط عيسى (عليه السلام) إلاّ بالدعاء وذلك نفياً لألوهيته، إذ إن سائر معاجزه كانت أفعالاً له (عليه السلام) لكن بإذن اللّه، أما المائدة فكانت من صنع اللّه مباشرة ومن غير واسطة، وإما لأنهم لما طلبوها لأنفسهم ليشهدوا بها لغيرهم أراد عيسى (عليه السلام) شهادة الجميع من غير توسيط الحواريين فيه، بمعنى أن يشاهدها جميع بني إسرائيل فتكون آية عامة من غير حاجة إلى شهادتهم.

وقوله: {وَارْزُقْنَا} هم قدموا الأكل، وعيسى (عليه السلام) أخرّه وبدّل لفظه إلى الرزق فيكون النظر إليها باعتبارها رزقاً من اللّه لا باعتبارها أكلاً لهم.

وقوله: {وَأَنتَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ} لأن رزقه غير محدود إلا بحدود المصلحة، وهو بتفضل منه جوداً وكرماً ولا يريد منهم عوضاً، بخلاف الناس فإنهم لو أعطوا شيئاً كان عطاؤهم محدوداً مع توقع وإرادة مكافأة.

ص: 390

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ...} الآية.

أي فاستجاب اللّه تعالى دعاء عيسى وأخبره بأنه ينزّلها أو وعده بذلك،وهذا دليل على إنزالها لأن اللّه لا يخبر إلا صادقاً، ولا يخلف الميعاد، فلا يصغى إلى ما ذكره البعض من عدم نزولها، هذا مضافاً إلى الروايات المستفيضة التي دلت على نزولها وعلى كيفيتها ونوع طعامها والعذاب الذي أصاب الكافرون بها.

وقوله: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} أي فالمؤمن الذي يكفر بعد إنزال المائدة، وهذا الكفر أشنع ممن استمر في كفره بعد تواتر الآيات عليه، فإن المؤمن الذي طلب الآية فاستجاب اللّه له وأنزلها لا بد أن يزداد إيماناً، أما لو انقلب على أعقابه فكفر، فكفره أسوأ وأشنع، ولذا استحق عقوبة أشد من عقوبة الكافر الأصلي المعاند، فقوله: {لَّا أُعَذِّبُهُ} ظاهر في شدته، أي عذابه أشدّ من عذاب سائر الكفار سواء الذين كانوا في ذلك العصر، ولذا كان المنافق أسوأ من الكافر؛ لأنه كفر بعد إيمان قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}(1).

والظاهر أن المراد تعذيبهم بعذاب دنيوي موصوف بأنه أشد أنواعه، فالمراد نوعية العذاب بما يشمل شدّته أيضاً وهو مسخهم خنازير، فإنه عذاب لم يعذّب به أحد في زمانهم مع كونه أسوأ أنواع المسخ، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: «كانت الخنازير قوم من القصارين كذبوا بالمائدة،

ص: 391


1- سورة النساء، الآية: 145.

فمُسِخُوا خنازير»(1)، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) «والجريث والضب فرقة من بني إسرائيل لم يؤمنوا حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم (عليه السلام) فتاهوا...»(2)،

ولعلّ المكذبين مسخوا خنازير والذين لم يؤمنوا مسخوا جريثاً وضبّاً، فتأمل.

وقد مرّ بعض الكلام في الآية 60 من هذه السورة، فراجع.

ص: 392


1- تفسير العياشي 1: 351.
2- الكافي 6: 246.

الآيات 116-120

اشارة

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ 116 مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ 117 إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 118 قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 119 لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرُ 120}

116- {وَ} اذكر {إِذْ} الوقت الذي {قَالَ اللَّهُ} أي سيقوله يوم القيامة وحيث إنه متحقق الوقوع عبّر عنه بالماضي، مخاطباً المسيح لتبرئته ولإلقاء الحجة على النصارى في ذلك الوقت {يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ} استفهام تقريري للمسيح (عليه السلام) وتوبيخ وإنكار للنصارى {قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} أي شركاء للّه تعالى؟ {قَالَ} المسيح (عليه السلام) {سُبْحَٰنَكَ} أنزهك تنزيهاً عن الشريك {مَا يَكُونُ لِي} لا يجوز لي {أَنْ

ص: 393

أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي قولاً ليس ذلك القول حقاً، أو ليس مقول القول حقاً، وهذا نفي للقول بنفي سببه، ثم يؤكد النفي بنفي لازمه فيقول: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وحيث تعلم عدمه فهذا معناه عدم قولي ذلك القول؛ لأن علمكمحيط بكل شيء لا يعزب عنه شيء ف-{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي ما أ ُخفيه فكيف بأقوالي؟ {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} في ذاتك، قال هذا الكلام تضرعاً وإخباتاً للّه تعالى، ف- {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ} لذا تعلم ما في نفسي، حيث إنك تعلم الغيب ولا أعلم ما في نفسك؛ لأنه من الغيب الذي لا أعلمه.

117- وبعد أن نفى عيسى (عليه السلام) إدعاء الألوهية أثبت أنه حثّهم على العبودية فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} للناس {إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} بأن أقوله لهم وهو {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فأنا مثلكم في العبودية، {وَ} لم يكن هذا مجرد كلام، بل {كُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} أشهد أقوالهم وأعمالهم فأمنعهم عن الانحراف {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} معهم في الأرض، {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أخذتني أخذاً وافياً بروحي وجسدي حينما رفعتني إلى السماء {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي المراقب لأعمالهم وأقوالهم واعتقاداتهم وذلك بعلمك بها وبنصبك الدلائل والبراهين الدالة على الحق، {وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ} حاضر بعلمك وقدرتك.

118- وبذلك ترتفع مسؤولية عيسى (عليه السلام) عن غلوهم، بل هم المسؤولون عنه ف-{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} تملك أمرهم وقد خالفوك فاستحقوا العقاب، ومعنى ذلك هو أن عذابهم عدل، {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} لو كانوا

ص: 394

قاصرين فذلك لعزتك وحكمتك {فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

119- وحيث قد تبين براءة عيسى (عليه السلام) عن غلوهم ف-{قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ} كما انتفع عيسى (عليه السلام) بصدقه فله الوجاهة والقرب والمنزلة الرفيعة، وكذلك من اتّبعه اتّباعاً حقاً، ونتيجةً لذلك ف-{لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وهذه نعمة مادية، وأعظم منهاالنعمة المعنوية حيث {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بصدقهم قولاً وعملاً، {وَرَضُواْ عَنْهُ} لأنه عاملهم بفضله وأثابهم، {ذَٰلِكَ} الجنة والرضوان {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} لا فوز أعظم منه، والفوز هو الظفر والنجاة.

120- {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} من الناس والملائكة وسائر الماديات، فهو الإله لا إله غيره {وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرُ} ومنه الثواب والعقاب، فلذا عليكم الالتزام بمواثيقه وعدم مخالفتها.

بحوث

الأول: هذه السورة سورة المواثيق كما مرّ سواء في الفروع أم في الأصول، فكان ختام السورة في أصل التوحيد الذي هو أهم المواثيق، كما بدأت السورة بمواثيقه في الفروع حيث قال: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ...} الآية، وفي هذا المقطع يتم بيان توحيد اللّه تعالى مع ذكر دليله وتبرئة رسل اللّه تعالى عن مخالفته، ويذكر فيها عيسى (عليه السلام) كمثال لذلك، حيث إن طائفة كبيرة من بني آدم غلوا فيه وألّهوه، فيذكر اللّه تعالى حواراً بينه وبين عيسى (عليه السلام) في يوم القيامة ليتضح للجميع عدله تعالى حينما يعذّب من غلا، فإن يوم القيامة هو يوم المحكمة الإلهية الكبرى لتبيان الحقائق

ص: 395

لكل الناس؛ ليعلم أهل الجنة أنهم دخلوها بفضله؛ وليعلم أهل النار أنهم دخلوها بسوء أعمالهم من غير التباس الحقيقة بالباطل كما يكثر ذلك في دار الدنيا، ثم نقل هذا الحوار الذي سيقع يوم القيامة؛ ليكون هداية لمن أراد أن يهتدي وحجة يحتج بها عليهم فللّه الحجة البالغة.

فأولاً: يتم توجيه السؤال لعيسى (عليه السلام) ، والغرض بيان براءته من غلوهم حينما يبيّن (عليه السلام) الحقيقة، وليتضح لهم أنهم اتبعوا أهواءهم فليسعيسى (عليه السلام) مسؤولاً عن باطلهم؛ لأنه لم يقل لهم إلا الحق وقد راقبهم أحسن مراقبة لئلا ينحرفوا فقد أدّى ما عليه بأحسن وجه.

وثانياً: يبيّن أن أمرهم إلى اللّه تعالى - بالعذاب أو المغفرة - لكيلا يتوقعوا شفاعة عيسى (عليه السلام) من غير إذن اللّه تعالى، وبذلك يبطل الفداء أيضاً حيث زعموا أن ذنوبهم كلها مغفورة بفداء عيسى (عليه السلام) نفسه!

وثالثاً: بيان مصير المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فوفوا بمواثيقه.

ورابعاً: ختم السورة بأنه لا بد من الوفاء بالمواثيق؛ لأن الناس عباد مربوبون وكل شيء للّه وهو قادر على كل شيء كالعذاب والثواب، فلا خيار آخر لهم، مع أن الوفاء بصالحهم من كل الجهات.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ}.

بعد أن قسّم اللّه تعالى بني إسرائيل بالنسبة إلى دعوة عيسى (عليه السلام) إلى من كفر وقال إن معاجزه سحر (الآية 110)، وإلى من آمن كالحواريين (الآية 111)، بعد ذلك يذكر الصنف الثالث وهم الذين غلوا فيه، وهؤلاء إنما غلوا

ص: 396

بعد رفعه إلى السماء وقد زعموا أنه (عليه السلام) هو الذي أمرهم بذلك بما حرفوا في الإنجيل، فكان لا بد من الاحتجاج عليهم ومن تبرئة عيسى (عليه السلام) عن غلّوهم، فكان بيان هذا الحوار في الآخرة لينتفع به الآن من يريد أن يهتدي، وليظهر عدل اللّه وصدق المسيح (عليه السلام) في الآخرة.

وقوله: {وَإِذْ قَالَ} أي سيقوله، وإنما استعمل الماضي لكون هذا الحوار متحقق الوقوع كقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِيالْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ}(1)، وفي ذلك تأكيد بليغ وإخبار عن الوقوع حتماً.

وقوله: {ءَأَنتَ قُلْتَ} الاستفهام عن عيسى (عليه السلام) تقريري، وعن الغلاة فيه توبيخي، فإن معنى الاستفهام واحد إلاّ أن الداعي له يختلف، ولا بأس باجتماع داعيين أو دواع ٍ مختلفة في استعمال لفظ واحد.

وقوله: {لِلنَّاسِ} لأن دعوة الأنبياء عامة وليست خاصة لمن اتبعهم، فكانت دعوة عيسى (عليه السلام) للجميع، لكن زعم النصارى أنهم هم الذين استجابوا لها.

وقوله: {اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ} الاتخاذ افتعال بمعنى أخذ الشيء للنفس سواء كان بحق أم باطل، ويشمل الاعتقاد والعمل، وقد يكون بقصد أو لا بقصد، واتخاذهما إلهين بمعنى الاعتقاد بألوهيتهما وعبادتهما، وأكثر النصارى على تأليه المسيح (عليه السلام) ، وبعضهم على تأليه مريم (عليها السلام) زعماً منهم أن أم الإله إلهة.

وقوله: {مِن دُونِ اللَّهِ} أي سوى اللّه، ليس بمعنى أنهم لا يعتقدون

ص: 397


1- سورة الزمر، الآية: 68.

بألوهية اللّه سبحانه، بل بمعنى اتخاذهما شريكين للّه تعالى، فإنه لما كان يجب عليهم حصر الألوهية في اللّه فاتخاذ الشركاء هو اتخاذ غير اللّه إلهاً منضماً إلى اللّه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ...} الآية.

وأما جواب عيسى (عليه السلام) عن سؤال اللّه تعالى فهو جواب في غايةالخضوع والعبودية وبأفضل أدب.

فأولاً: قوله: {سُبْحَٰنَكَ} يبدأ بتنزيه اللّه تعالى عن الشريك، وقد مرّ أن أصل الكلمة أسبحك سبحاناً، ثم حذف الفعل وأضيف المصدر إلى الضمير، وهذا من حسن الابتداء بالكلام قبل الدفاع عن النفس.

وثانياً: قوله: {مَا يَكُونُ لِي...} نفي كلامهم عبر ذكر علة النفي، فإنه حينما لا يحق له قول شيء فلا يقوله قطعاً؛ لأنه رسول ومعصوم لا يقول إلاّ ما يحق له أن يقوله، و{مَا يَكُونُ} بمعنى لا يجوز لي.

وقوله: {مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} (ما) الموصولة إما بمعنى الألوهية، أي الألوهية التي ليست حقاً لي، وإما بمعنى القول، أي الكلام الذي لا يحق له أن أقوله.

وثالثاً: قوله: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ...} نفي كلامهم عبر نفي لازمه، فإن من يقول كلاماً فإن اللّه يعلم به، وحيث إن اللّه تعالى يعلم بعدمه فلم يكن ذلك الكلام صادراً عن عيسى (عليه السلام) ، وقيل: هو من السالبة بانتفاء الموضوع، أي لا يعلمه اللّه لعدم وجوده! إلاّ أن الأصح أن معناه هو علمه بالعدم.

ص: 398

وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي...} هذا تعليل لقوله: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} مضافاً إلى أنه دليل لنفي ألوهية عيسى (عليه السلام) ؛ لأن الألوهية تستلزم العلم بلا حدود، وليس عيسى (عليه السلام) كذلك، إذ لا يعلم الغيب فهو محدود محتاج في علمه إلى اللّه تعالى فلا يكون إلهاً، وأيضاً تأكيد لنفي ادّعائه الألوهية بأن اللّه يعلم حتى ما يخفيه عيسى (عليه السلام) في نفسه - والذي علمه من الغيب - فلا يخفى عليه أقواله التي ليست من الغيب.

ثم إن قوله: {نَفْسِكَ} إما بمعنى الذات فلا مجاز هنا، أي أنت تعلم ما في ذاتي ولا أعلم ما في ذاتك، إذ علمه تعالى عين ذاته، ولا يعلم كنه ذاته إلاّ هو، وإما من باب المشاكلة فإن اللّه تعالى منزّه عن النفس، سواء كانت بمعنى الروح أم كانت أمراً غير الروح.

وقول--ه: {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ} حصر لعل-م الغيب باللّه - والحصر عبر التأكيد بضمير الفصل - فلا أح--د يعلم الغيب إلاّ اللّه فليس هناك إل-ه غيره سبحانه وتعالى، وأما ما يعلمه الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) فهو بتعليم من اللّه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}.

بعد أن يبرِّئ عيسى (عليه السلام) نفسه من ادعاء الألوهيّة، يبيّن أمرين: أحدهما ما قاله لهم، والآخر ما صنعه فيهم، فقد بيّن واقع ما قاله، وذلك إقراراً وخضوعاً منه ولتبكيت الغلاة أيضاً، قطعاً لطريق ادعاء مدع بأنه لم يقل شيء وإنما اجتهدنا فأخطأنا! فيقول: إنه قد بلّغهم ما أمر اللّه به من حصر العبادة والألوهية في اللّه لكنهم غلوا فتمت الحجة عليهم.

ص: 399

وقوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} أي ما أمرتهم، إلاّ أنه عدل عن لفظة الأمر إلى لفظة القول خضوعاً وتذلّلاً للّه تعالى، حيث ما أراد مقابلة أمره تعالى فلذا عبر عن كلامه بالقول وعن كلام اللّه بالأمر.

وقوله: {مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} أي ما أمرتني أن أقوله لهم.

وقوله: {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} (أن) مفسرة لما أمره اللّه تعالى به؛ لأنها تتضمن معنى القول، والمراد حصر العبادة في اللّه دون غيره.

وقوله: {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي أنا متساوٍ معكم في كوننا مخلوقين مربوبين فلست إلهاً، فلا تكون أمي إلهاً أيضاً؛ لأن من زعم ألوهيتها كان منشأ زعمه أنها أم الإله، فإذا انتفت ألوهية الابن انتفت ألوهية الأم بطريق أولى.

الخامس: قوله تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ...} الآية.

هذا المقطع لبيان ما صنعه معهم، وهو كونه شهيداً عليهم مدة بقائه فيهم، وليس الشهيد مجرد ناظر لأعمالهم ليشهد عليهم يوم القيامة فحسب، بل شهادة تقويم ومنع عن الانحراف.

وبعبارة أخرى: كان (عليه السلام) يتابع أقوالهم وأفعالهم ويقوّمها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الحقائق ومنع التحريف، نظير قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ}(1)، وكقوله: {لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ}(2)، فليست مجرد إنشاء قول، بل هي إقامة الدلائل والبراهين وإرسال

ص: 400


1- سورة آل عمران، الآية: 18.
2- سورة النساء، الآية: 166.

الآيات والبينات، فشهادة عيسى (عليه السلام) هي شهادة حفظ ومراقبة ولذلك عدّاها بقوله: {عَلَيْهِمْ}.

وقوله: {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} (ما) مصدرية زمانية، لبيان عدم تقصيره في أداء الرسالة وحفظها إلى أن رفعه اللّه تعالى حيث انتهت مهمته.

وقوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} قد مرّ أن التوفّي هو أخذ الشيء كاملاً، وهو غيرالموت قال تعالى: {حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ الْمَوْتُ}(1)، وقال: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}(2)، نعم الموت يلازم التوفّي؛ لأنه قبض للروح كاملاً، إلاّ أن التوفي أعم منه ولذا قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}(3)، فوفاة عيسى (عليه السلام) بمعنى أخذه أخداً كاملاً بروحه وجسده، فهو حيّ إلى أن يُنزله اللّه مرة أخرى بعد ظهور الإمام المهدي، وقد مرّ قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}(4).

وقوله: {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} الرقيب والشهيد متقاربا المعنى، فكل رقيب شهيد وكل شهيد رقيب، ولعلّ تغيير اللفظ نوع تأدّب أو فصاحة في الكلام، فالمعنى كنت أنت المراقب لأعمالهم حيث نصبت لهم الدلائل والبينات وعيّنت الأوصياء، ليستمر بيان الحق لهم لئلا ينحرفوا.

ص: 401


1- سورة النساء، الآية: 15.
2- سورة الأنعام، الآية: 61.
3- سورة الزمر، الآية: 42.
4- سورة النساء، الآية: 159.

وقوله: {وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ} لعلّ ذكر هذا لأجل دفع توهم أن رقابة اللّه تعالى هي بدل عن شهادة عيسى (عليه السلام) بل إن اللّه هو الشهيد عليهم قبل عيسى (عليه السلام) ومعه وبعده؛ لأنه الحاضر بإحاطة علمه وقدرته على كل شيء فشهادة عيسى (عليه السلام) شهادة بإذن اللّه تعالى.

السادس: قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

بعد أن برّأ عيسى (عليه السلام) نفسه عن غلّوهم وأخبت وتضرع إلى اللّه تعالى، يتوجه إلى اللّه تعالى بأنه سبحانه هو المالك لأمرهم فيما يريد... .

1- فإن أراد تعذيبهم فهو عدل؛ لأنهم عبيده وقد تجاوزوا العبودية فأشركوا وبذلك يستحقون العذاب.

2- وإن أراد أن يغفر لهم فهو فضل منه ولا يكون ذلك إلا لعزته وحكمته. وفي التقريب: «وفي هذا تسليم الأمر لمالكه وتفوض الأمر إلى مدبّره، وهذا التعبير لا ينافي علم عيسى (عليه السلام) بأنهم معذّبون، فإنه كما يقول أحدنا لمالك الأمر: إنه بيدك إن شئت فعلت وإن شئت تركت، حتى مع علمنا أنه يفعل أحدهما لا محالة، هذا بالإضافة إلى أن بعضهم - وهم القاصرون - قابلون للغفران»(1)،

وفي التبيين: «ولعلّ اللّه سبحانه يمتحن قسماً من القاصرين من الكفار في يوم القيامة ليغفر لهم إذا نجحوا في الامتحان، كما أشارت إلى ذلك بعض الأحاديث»(2).

ص: 402


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 41.
2- تبيين القرآن: 139.

وقوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قيل: ولم يقل: فإنك غفور رحيم؛ لأن سطوع آية العظمة والسطوة الإلهية الغالبة على كل شيء لا يدع للعبد إلاّ أن يلتجئ إلى اللّه بذلّة العبودية عند هذا الذنب العظيم، وأما قول إبراهيم (عليه السلام) : {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1)،فإنه في مقام الدعاء واستعطاف للرحمة الإلهية، فتأمل.

السابع: قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ...} الآية.

لمّا ذكر عيسى (عليه السلام) أن أمرهم بيد اللّه إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، عند ذاك يقول اللّه تعالى: إن الصادقين في الدنيا - بأن صدّقت أفعالُهم وأقوالُهم قلوبَهم فكانت أعمالهم ومعتقداتهم وأقوالهم بحسب ما يرد اللّه تعالى - فهؤلاء ينتفعون في الآخرة بصدقهم، قال سبحانه: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ}(2).

وأما الكفار والمنافقون فهم قد كذبوا في الدنيا كما يكذبون في الآخرة، وإن اضطروا في بعض مواقفهم بالاعتراف بذنوبهم، قال سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}(3)، واعترافهم في بعض مواطن

ص: 403


1- سورة إبراهيم، الآية: 36.
2- سورة الأحزاب، الآية: 23.
3- سورة الأنعام، الآية: 22-24.

الآخرة لا يجعلهم صادقين، بل هم كاذبون اضطروا إلى الصدق أحياناً.

ثم يذكر اللّه تعالى جزاء الصادقين مادّياً ومعنوياً، أما الماديّ فهو جنات الخلود، وأما المعنوي فرضا اللّه عنهم ورضاهم عنه.

أما رضاه عنهم: فلأن أعمالهم وعقائدهم وأقوالهم الصادقة صارت سبباًلطهارة ذواتهم، فلذلك يرضى اللّه عنهم كما رضي عن أعمالهم، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «فمن خلقه اللّه سعيداً لم يبغضه أبداً، وإن عمل شراً أبغض عمله ولم يبغضه، وإن كان شقياً لم يحبه أبداً، وإن عمل صالحاً أحبّ عمله وأبغضه لما يصير إليه»(1).

وأما رضاهم عنه: فلتكريمهم بفضله ورحمته وغفرانه وعفوه، وهذه منزلة عظيمة لهم، حيث إن اللّه يذكر رضاهم عنه وهو المالك لهم المتفضل عليهم بكل شيء.

وقوله: {ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الفوز هو الظفر بالمقصود والنجاة من المهالك، وفيه حث للناس على سلوك طريق الحق حتى لو خسروا الدنيا؛ لأنهم بذلك يربحون الربح الدائم الأبدي الذي لا يمكن وصف عظمته.

الثامن: قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرُ}.

كأنه تأكيد لتوحيد الألوهية في اللّه عز وجل وتكذيب من ألّه عيسى (عليه السلام) ، فإن الإله هو المالك لكل شيء والقادر على كل شيء وليس عيسى (عليه السلام) إلاّ عبد مربوب للّه تعالى قد أكرمه بأن أقدره على بعض المعاجز

ص: 404


1- الكافي 1: 152. ولشرح الحديث راجع شرح أصول الكافي، للمؤلف 2: 487.

ولا تصدر منه إلاّ بإذن اللّه تعالى، كما أن في هذه الآية حثاً على الوفاء بعهود اللّه تعالى في الفروع والأصول؛ لأنه المالك لكل شيء القادر على الثواب والعقاب.

خاتمة: في ثواب قراءة السورة

خاتمة

عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «من قرأ سورة المائدة في كل يوم خميس لم يُلبس إيمانه بظلم، ولم يشرك بربّه أحداً»(1)، ولعلّ المقصود تعاهد قراءتها بتدبر وفهم، فإن ذلك يكون سبباً لقوة الإيمان عملاً وعقيدة، كما أن للقراءة بنفسها آثاراً غيبيّة توجب لطف اللّه تعالى بهدايته.

سبحان ربك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه رب العالمين، وصلّى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

14 / شوال / 1439

ص: 405


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 277؛ عن ثواب الأعمال: 105.

ص: 406

الفهرس

الإطار العام للسورة ... 5

الآيتان 1-2 ... 7

الآية 3 ... 21

سبب يأس الكفار في يوم الغدير ... 29

إكمال الدين بولاية علي (عليه السلام) ... 31

الآيتان 4-5 ... 37

حلية طعام أهل الكتاب ... 43

الآيتان 6-7 ... 48

كيفية الوضوء ... 51

الوضوء في سورة النساء والمائدة ... 55

علة الطهارات الثلاث ... 57

الآيات 8-11 ... 61

الآيات 12-14 ... 68

الآيات 15-19 ... 80

مراحل الهداية الثلاث ... 85

ص: 407

الآيات 20-26 ... 95

الآيات 27-32 ... 109

حول القتل وعاقبته ... 112

حول القربان وسببه ... 113

معنى القبول من المتقين ... 115

من الآثار الوضعية للقتل ... 117

الآيتان 33-34 ... 126

عقوبة المحارب ... 130

الآيات 35-37 ... 134

من أسباب الفلاح ... 136

الوسيلة هم الرسول وآله (عليهم السلام) ... 137

الآيات 38-40 ... 141

سبب التشديد في عقوبة السارق ... 143

الآيات 41-43 ... 148

كيفية الحكم بين أهل الكتاب ... 156

الآيات 44-47 ... 157

أوصاف التوراة ... 162

الحاكمون بالتوراة ... 163

سبب حكمهم بالتوراة ... 164

سبب إعراض بعضهم عن التوراة ... 165

ص: 408

عاقبة عدم الحكم بما أنزل اللّه ... 166

حول الإنجيل وأوصافه ... 168

الآيات 48-50 ... 172

أوصاف القرآن الكريم ... 174

تعدد الشرائع والحكمة فيه ... 177

الآيات 51-53 ... 184

معنى النهي عن ولاية غير المسلمين ... 186

معنى مرض القلب ... 188

الآيات 54-56 ... 192

معنى الارتداد ومصاديقه ... 194

الذين يأتي اللّه بهم بدلاً عن المرتدين ... 196

أوصاف المؤمنين ... 198

المقصود بآية (إنما وليكم اللّه...) ... 202

الولاية التكوينية ... 203

التصدق بالخاتم ... 204

شمول الآية لجميع الأئمة (عليهم السلام) ... 204

معنى حزب اللّه ... 207

الآيتان 57-58 ... 209

الآيات 59-63 ... 215

أسباب النقمة على المسلمين ... 218

ص: 409

من عقوبات كفار أهل الكتاب ... 221

الآيات 64-66 ... 227

سبب اغتصاب فلسطين ... 234

الآية 67 ... 240

الخطاب ب-(يا أيها النبي) و(يا أيها الرسول) ... 242

عدم فائدة الدين من غير ولاية ... 243

معنى العصمة من الناس ... 244

حول زرية يوم الخميس ... 245

الآيات 68-71 ... 248

سبب رفع (والصابئون) ... 252

الآيات 72-77 ... 259

ثلاثة أدلة لبطلان عقيدة النصارى ... 263

من طوائف النصارى الكافرة ... 263

من أقول السيد المسيح (عليه السلام) في العقيدة ... 263

كفر طائفة أخرى من النصارى ... 266

من أدلة كون المسيح (عليه السلام) بشراً ... 270

الآيات 78-81 ... 276

لعن الأنبياء لكفار بني اسرائيل ... 277

سبب لعنهم ... 279

الآيات 82-86 ... 284

ص: 410

سبب شدة عداوة اليهود والمشركين للمسلمين ... 287

سبب أقربية مودة النصارى للمسلمين ... 289

الآيات 87-89 ... 296

النهي عن تحريم الطيبات ... 298

كفارة حنث اليمين ... 303

الآيات 90-93 ... 307

من أضرار الخمر والقمار ... 312

تحريم الخمر في جميع الشرائع ... 313

الآيات 94-96 ... 319

حرمة الصيد البري حالة الإحرام ... 321

كفارة الصيد ... 325

العفو عن المخالفات قبل التحريم ... 328

حلية صيد البحر حالة الإحرام ... 329

الآيات 97-100 ... 332

الآيتان 101-102 ... 341

معنى النهي عن السؤال ... 343

الآيات 103-105 ... 350

من بدع الجاهلية في تحريم الحلال ... 352

الآيات 106-108 ... 359

الشهادة في الوصية ... 363

ص: 411

لو تبيّن كذب شهود الوصية ... 366

الآيات 109-111 ... 370

من نعم اللّه على عيسى (عليه السلام) ... 377

الآيات 112-115 ... 382

كيفية سؤال الحواريين للمائدة ... 385

غرضهم من سؤال المائدة ... 387

الآيات 116-120 ... 393

خاتمة: في ثواب قراءة السورة ... 405

الفهرس ... 407

ص: 412

التفكر فی القرآن (سورة الأنعام) المجلد 7

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفكر فی القرآن (سورة الأنعام) المجلد 7 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دار الفكر، 1439ق = 1397ش.

الشجرة الطيبة

التفكر في القرآن

--------------------

آية اللّه السيّد جعفر الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1439ه.ق

ص: 1

اشارة

(7)

التفكر في القرآن

سورة الأنعام

تأليف: سيد جعفر الحسيني الشيرازي.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

الإطار العام للسورة

السورة المباركة بمجملها تتمحور حول العقيدة الحقة من التوحيد والنبوة والمعاد والآيات الدالة عليها، مع الاحتجاج على المشركين ودحض حججهم بالبراهين، مع تضمنها لجملة من الأحكام التي ترتبط بالأمور العقديّة كالأمر بالأكل من الذبائح التي ذُكر اسم اللّه عليها والنهي عن الأكل مما ذُكر اسم الأصنام عليها وكالنهي عن قتل الأولاد تقرّباً للأصنام وكبعض المحلّلات والمحرّمات من المأكولات وغير ذلك مما سيأتي تفصيله.

ص: 5

ص: 6

الآيات 1-3

اشارة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَٰتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ 1 هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ 2 وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ 3}

1- {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ} جنس الحمد له؛ إذ جميع الكمالات والمحامد ترجع إليه { الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} أوجدهما من العدم {وَجَعَلَ الظُّلُمَٰتِ وَالنُّورَ} المادية والمعنوية بالهداية والضلال، {ثُمَّ} بعد وضوح خلقه وتدبيره {الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} يساوون به الأصنام الحجرية والبشرية الفاقدة للقدرة على أيّ شيء.

2- ثم بعد خلق السماوات والأرض {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ} فمنشأ الإنسان من التراب والماء - مباشراً وغير مباشر - {ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} أي قدّر للإنسان أجلين: محتوم وموقوف، فالمحتوم هو الذي لا بداء فيه وقد سجَّله في اللوح المحفوظ، والموقوف هو الذي يزيد وينقص بالأسباب المختلفة ففيه البداء، والأجل هو نهاية المدة، {ثُمَّ أَنتُمْ} الخطاب للمشركين {تَمْتَرُونَ} تجادلون عن شك، فإنكاركم ليس مستنداً إلى علم ويقين أو حجة صحيحة.

ص: 7

3- {وَ} لكن لا يمكن إخفاء شيء منه ولا الفرار من حكومته ف{هُوَاللَّهُ} الرب والمعبود {فِي السَّمَٰوَٰتِ وَفِي الْأَرْضِ} فلا يمكن الخروج عن سلطانه، وهو {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} ما اخفيتموه في قلوبكم {وَجَهْرَكُمْ} ما أظهرتموه بلسانكم {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} من أعمال، فهو يعلم بقلوبكم وأقوالكم وأفعالكم فلا يمكنكم إخفاء شيء عنه.

بيان عظيم نعمة اللّه تعالى

بحوث

الأول: هذه الآيات الثلاث بيان لعظيم نعمة اللّه تعالى بحيث ترجع إليه كل نعمة وكل كمال، فالآية الأولى: في بيان خلقه للوجود بأسره - من سماوات وأرض - ، والآية الثانية: في بيان خلقه للإنسان والتنبيه على أن مدة بقائه معينة لها نهاية لكيلا يغترّ فهو يرجع إلى اللّه تعالى ليحاسبه ويجازية، والآية الثالثة: في بيان ألوهيته لكل شيء فلا يمكن لأحد أن يخرج عن سلطانه، كما أنه عالم بكل شيء حتى ما في القلوب فلا يمكن كتمان شيء عنه، وفي ذلك تحذير شديد للمشركين الذين يزعمون أنهم يتمكنون من الفرار من حكومته تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ}.

الابتداء بحمد اللّه تعالى لبيان أن جميع النعم والكمالات ترجع إليه فتنحصر فيه الألوهية والربوبية، وهو من براعة الاستهلال حين إرادة الاحتجاج على المشركين الذين يجعلون له أنداداً وأضداداً ويعبدون غيره مع أنها كلها مخلوقات له، والحاصل أنه هو الذي يستحق الحمد ولا شيء غيره يستحقه؛ لأنه أولاً خلق السماوات والأرض فجميع الأنداد مخلوقات

ص: 8

له، ثم ثانياً إنه خلق الإنسان وجعل له أجلاً ينتهى إليه فيرجع إلى اللّه تعالىليحاسبه على أعماله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فهذه نعمة عظيمة تستوجب شكره وطاعته، لا عبادة غيره ومعصيته تعالى، ثم ثالثاً هو عالم بكل شيء لا يمكن إخفاء الشرك والمعصية عنه فلماذا العناد والتمادي؟

وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري فيرتبط بأفعاله تعالى، وقد يتوسع في الحمد فيكون ثناءً على ذاته أو صفاته الذاتية كما في الدعاء: «الحمد للّه على علمه»(1) ولعل ذلك باعتبار أن ذاته وصفاته الذاتية منشأ أفعاله التي يحمد عليها.

وقوله: {خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} أي أوجدهما من العدم، وهما يشتملان على جميع مخلوقات اللّه تعالى من الإنس والجن والملائكة والنباتات والجمادات وغير ذلك، ويدخل العرش والكرسي في ذلك لأنهما محيطان بهما. ثم السماوات سبع والأرضون سبع أيضاً، فلعل إفراد الأرض باعتبار اشتمال السماوات على الأراضي الستة الأخرى فدخلت في خلق السماوات، وفي التقريب: «إشعاراً بأكثرية السماوات على الأرض»(2).

الثالث: قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَٰتِ وَالنُّورَ}.

الخلق والجعل متقاربا المعنى، إلاّ أن الخلق يستعمل عادة في الإيجاد والإحداث، والجعل يستعمل غالباً في التصرّف في الشيء الموجود، ولذا قيل: الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التصيير، والظلمات والنور

ص: 9


1- قرب الإسناد: 7.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 43.

تنشأ من الأجسام عادة فهي تصرف فيها.

ثم إن الآية جمعت بين الإيجاد والتدبير؛ لأن تدبير أمور المخلوقات اقتضى خلق الشمس والقمر وطلوعهما وغروبهما حيث بهما صلحت الحياة على وجه الأرض.

ويمكن أن يراد بالنور والظلمات الهداية والضلال، فتكون الآية جامعة بين الإيجاد والهداية.

ثم إن تقديم الظلمات لعله لأجل أن الأشياء حينما خلقها اللّه كانت في ظلمة ثم أوجد اللّه تعالى النور، ويقال في العلوم الطبيعية إن المادة كانت في ظلام حتى حدث الانفجار الكوني الذي أضاءها.

وأما جمع الظلمات وإفراد النور فلعلّه لأجل التناسب مع الفقرة السابقة في قوله: {السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ}، أو لأن الظلمة درجات فقد تكون شديدة وقد تكون خفيفة، وهذا وإن كان يستلزم درجات في النور أيضاً - حيث إن خفة الظلمة بسبب اختلاط النور معها وكلما كان النور أقل كانت الظلمة أشد - إلاّ أن المتعارف هو لحاظ الظلمة ودرجاتها دون النور ودرجاته، هذا في الظلمات والنور المادية، وأما الهداية والضلال فمن المعلوم أن الصراط المستقيم واحد وسبل الضلال متعددة.

وأما حقيقة الظلمة فهي مجهولة لنا، وقد يقال: إنها عدم النور فيكون جعلها باعتبار إيجاد النور فيها، وقد يقال: إن الظلمة ليست أمراً عدمياً وإنما هي أمر وجودي فهي ضد النور وهما ضدان لا ثالث لهما، فتأمل.

الرابع: قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.

ص: 10

هذا للتعجيب والذم، أي تعجبوا من الكفار الذين يعلمون بهذا ثميعدلون عن عبادة اللّه وطاعته إلى الشرك والمعصية، وإذا لا يعلمون وينكرون فذلك أشد تعجيباً وذماً لإنكارهم البديهي الواضح.

وقوله: {ثُمَّ} - وهي للعطف بالترتيب بانفصال - لأجل البُعد الشديد بين الحقيقة الواضحة وبين صنع هؤلاء الكفار.

وقوله: {بِرَبِّهِمْ} إما متعلق بقوله: {يَعْدِلُونَ} فالمعنى: يساوون غير اللّه - كالأصنام - باللّه تعالى، أو متعلق بقوله: {كَفَرُواْ} فالمعنى: الكفار باللّه يعدلون عن الحق الواضح إلى الباطل، بمعنى العدول.

والحاصل أن التعجب من هؤلاء الكفار لأجل أنهم يعترفون بالخالق ثم يعصونه ويعبدون غيره مما لا ينفع ولا يضر، بل ضرّه أقرب من نفعه.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «فكان في هذه الآية ردّ على ثلاثة أصناف، لما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} فكان ردّاً على الدهرية الذين قالوا: إن الأشياء لا بدء فيها وهي دائمة، ثم قال: {وَجَعَلَ الظُّلُمَٰتِ وَالنُّورَ} فكان ردّاً على الثنوية الذين قالوا: إن النور والظلمة هما المدبّران، ثم قال: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فكان ردّاً على مشركي العرب الذين قالوا: إن أوثاننا آلهة»(1).

الخامس: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا...} الآية.

بيان أنه الخالق الذي يرجع الإنسان إليه فلماذا التمادي والعصيان والجدال والشك؟ فهو الذي خلق الإنسان من أبسط شيء على وجه الأرض وهو

ص: 11


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 527؛ عن تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : 542.

التراب والماء، وأبقاه في الحياة الدنيا لفترة قصيرة، بعدها المرجع إليه ليحاسبهعلى أعماله، ثم يجازيه إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فجمعت هذه الآية بين الحثّ على طاعته لأنه المنعم، والتحذير عن معصيته لأن المرجع إليه.

وقوله: {خَلَقَكُم مِّن طِينٖ} لأن آدم وحواء (عليهما السلام) خلقا منه فكان أصل كل الناس منه، ولأن جسم الإنسان يتكون من عناصر التراب والماء، فهما يتحولان إلى نبات وحيوان ثم طعام الأب والأم ثم نطفة ثم إنسان.

وقوله: {ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا} بيان لمحدودية مدة بقاء الإنسان في الأرض، فأصل (الأجل) هو بمعنى نهاية المدة، وقد يتوسع فيه فيطلق على المدة كلّها، و{قَضَىٰ} بمعنى الحكم التكويني، فلا خلود لأيّ إنسان كي يتوهم أنه لا يحاسب ولا يجازى، بل الأجل أمامه.

وقوله: {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أي هناك أجل ثانٍ أيضاً وهو الذي سمّاه في ليلة القدر أو لملك الموت.

الفرق بين الأجل والأجل المسمى

ثم إن أحد الأجلين هو الأجل المحتوم الذي شاءه اللّه تعالى من غير تغيير فيه، والآخر الأجل الموقوف والمعلّق الذي قد يزيد اللّه فيه وقد ينقص وهو الذي فيه البداء، كأجل قوم يونس (عليه السلام) الذي زاد اللّه فيه لمّا آمنوا وكشف عنهم عذاب الخزي ومتّعهم إلى حين.

والأجل المحتوم مكتوب في اللوح المحفوظ، والأجل الموقوف مكتوب في لوح المحو والإثبات قال تعالى: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَٰبِ}(1).

ص: 12


1- سورة الرعد، الآية: 39.

ثم إن كلا الأجلين بقضاء اللّه تعالى، كما أنه تعالى سمّى كلا الأجلينلمن يشاء من خلقه، فلذا صح إطلاق الأجل المقضيّ على كليهما كما صحّ إطلاق الأجل المسمّى على كليهما أيضاً، ومن ذلك تعرف معنى الروايات التي فسّرت {أَجَلًا} بالمحتوم وبالموقوف، والتي فسّرت {أَجَلٌ مُّسَمًّى} بهما أيضاً، ففي تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «الأجل المقضيّ هو المحتوم الذي قضاه اللّه وحتمه، والمسمّى هو الذي فيه البداء يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير»(1)، وفي تفسير العياشي عنه (عليه السلام) : «الأجل الذي غير مسمّى موقوف يقدم منه ما شاء، وأما الأجل المسمّى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل، قال: فذلك قوله اللّه: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَْٔخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}»(2)(3).

ومن ذلك يتبيّن أن {أَجَلًا} و{أَجَلٌ مُّسَمًّى} بمعنى واحد ولكليهما مصداقان: محتوم وموقوف، وليس في ذلك تكرار بل بيان لأمرين، فالمعنى ثم قضى أجلاً - محتوماً وموقوفاً - وهذا الأجل الذي سمّاه لبعض خلقه هو عنده ومالكه لا عند الأصنام والأنداد، كما تقول: باع زيد طعاماً والطعام عنده لا عند غيره، ومن ذلك يتبيّن سبب رفع {أَجَلٌ} لأن {أَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} جملة حالية أي قضى الأجل والحال أن الأجل المسمّى عنده.

ص: 13


1- تفسير القمي 1: 194؛ البرهان في تفسير القرآن 3: 528.
2- سورة النحل، الآية: 61.
3- تفسير العياشي 1: 354؛ البرهان في تفسير القرآن 3: 529.

وقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} المرية هي الشك مع الجدال، والعاقل لا يشكفي الأمر الواضح، وإذا شك فلا يجادل بل يستفسر ليحوّل شكّه إلى يقين، وأما الممتري فهو الذي يريد الشك للشك فيبقى فيه ويجادل بالباطل ليدحض الحق.

فحاصل المعنى إن اللّه خلقكم لمدة معينة فلماذا تجادلون بالباطل فتنكرون نعمته وتعصونه وتتخذون أرباباً من دونه؟!

السادس: قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ...} الآية.

بيان لعدم تمكنهم من إخفاء أمرهم عن اللّه تعالى، فكما لا تتمكنون من الخروج عن سلطانه بل ترجعون إليه، كذلك لا تتمكنون من إخفاء كفركم وعصيانكم عنه، فأولاً: هو الإله في السماوات وفي الأرض فأين تفرون منه، ولا يوجد مكان آخر لكم لتلجئوا إليه من بطشه.

وثانياً: هو العالم بنواياكم وأفعالكم، فإن الذين يفرون من عقوبة السلاطين إما يخرجون عن سلطانهم ويلجئون إلى سلطان غيرهم أو يخفون أفعالهم عنهم، وكلا الأمرين محال في حق اللّه تعالى.

وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ} أي هو الإله المعبود؛ لأن كلمة {اللَّهُ} هي الإله، وإله بمعنى المعبود أي هو إله السماوات والأرض، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ}(1).

ومن ذلك يتبيّن أن {فِي السَّمَٰوَٰتِ} متعلق ب{اللَّهُ} باعتبار أصله الذي هو بمعنى الإله أي المعبود.

ص: 14


1- سورة الزخرف، الآية: 84.

وقوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} أي ما أخفيتموه في قلوبكم.

وقوله: {وَجَهْرَكُمْ} أي ما اظهرتموه من الأقوال.

وقوله: {مَا تَكْسِبُونَ} أي ما فعلتموه.

فالآية شملت جميع الأفعال من نية وخاطرة أو قول أو فعل، ويحتمل أن يكون السر والجهر أعم من الأفعال والأقوال، وأمّا الكسب فهو ما يترتب على الأعمال، والحاصل هو العالم بكل شيء يرتبط بكم.

وسئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَفِي الْأَرْضِ}؟ قال: «كذلك هو في كل مكان. قلت: بذاته؟ قال: ويحك، إن الأماكن أقدار، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك، لكن هو بائن من خلقه، محيط بما خلق علماً وقدرةً وإحاطةً وسلطاناً وملكاً، وليس علمه بما في الأرض بأقل ممّا في السماء، ولا يبعد منه شيء، والأشياء له سواء علماً وقدرةً وسلطاناً وملكاً وإحاطةً»(1).

ص: 15


1- التوحيد للصدوق: 133؛ البرهان في تفسير القرآن 3: 531.

الآيات 4-6

{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٖ مِّنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ 4 فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَٰؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ 5 أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٖ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَٰرَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ 6}

ثم يذكر اللّه تعالى التوحيد والنبوة والمعاد وامتراءهم فيها ويحاججهم وينذرهم، فقال:

4- {وَمَا تَأْتِيهِم} تظهر لهم بإنزال اللّه تعالى {مِّنْ ءَايَةٖ مِّنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِمْ} تدلّ عليه وعلى توحيده {إِلَّا كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} لا يلتفتون إليها ويغفلون عنها.

5- وسبب إعراضهم تكذيبهم {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ} القرآن الكريم والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذا أدّى بهم إلى العناد عبر الإعراض عن كل آية {لَمَّا جَاءَهُمْ} ولكن لا ينفعهم الإعراض والتكذيب {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} حين نزول العذاب عليهم {أَنبَٰؤُاْ} أخبار {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} من الحق، ومجيء النبأ بمعنى ظهور الأمر لهم حين جزائهم بالعذاب.

6- ثم يذكرهم اللّه تعالى بأن ذلك سنته في الأقوام وهؤلاء أيضاً يجري

ص: 16

عليهم ما جرى في أولئك {أَلَمْ يَرَوْاْ} الاستفهام للتذكير والتوبيخ، والرؤيةبمعنى العلم أو مشاهدة الآثار {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٖ} الجماعة المقترنون في الزمان {مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي جعلنا لهم القوة والسيطرة فكانوا أغنياء مسلطين ذوي حضارة {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} من تلك النعم {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ} الغيث {عَلَيْهِم مِّدْرَارًا} أي بغزارة {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَٰرَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} تحت مساكنهم ومزارعهم، فعاشوا حياة مرفّهة بخصب، والحاصل إنهم سيطروا على الأرض وانتفعوا ببركات السماء بالمطر في وقته وبالأنهار في سائر الأوقات {فَأَهْلَكْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ} أي بسببها، ولو كانوا يطيعون لاستمرت حضارتهم وخيراتها فيهم وفي ذريتهم {وَأَنشَأْنَا} خلقنا {مِن بَعْدِهِمْ} بعد إهلاكهم {قَرْنًا ءَاخَرِينَ} فلستم أنتم بعيدين عن عذاب اللّه تعالى لو استمررتم في عصيانكم.

بحوث

الأول: لما ذكر اللّه تعالى نعمه التي تستوجب حمده حذّرهم من مخالفتهم للمعتقدات الصحيحة فذكر التوحيد في هذه الآيات، ثم النبوة والمعاد في الآيات اللاحقة.

فأما في التوحيد فذكر أنه أرسل الآيات لهم، لكنهم عتوا فكذبوا بالحق فصار ذلك سبباً لإعراضهم عن جميع الآيات وعدم الانتفاع بها، ثم أدّى بهم إلى الاستهزاء، لكن ذلك لا ينفعهم بشيء؛ لأنه سرعان ما تأتي ساعة الحساب والجزاء، ثم يذكرهم اللّه تعالى بما علموه وشاهدوه من آثار الأمم السابقة - كعاد وثمود - الذين كانوا أقوى وأكثر ثروة فلم تنفعهم قوتهم ولا

ص: 17

ثروتهم لما أهلكهم اللّه تعالى بسبب ذنوبهم، ولم تتوقف الحياة عليهم، بلإن اللّه خلق آخرين خلفوهم في أرضهم، فما بال هؤلاء لا يعتبرون.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٖ مِّنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِمْ...} الآية.

بيان لطف اللّه بهم حيث أنزل الآيات عليهم ليهديهم، إلاّ أنهم لم يعتبروا بها ولم يلتفتوا إليها، لا لقصور في تلك الآيات، بل لأنهم لم يريدوها، والسبب مذكور في الآية التالية وهو تكذيبهم بالحقّ، فإن الإنسان قد يتخذ موقفاً ثم لا يتراجع عنه مهما ظهر له بطلان موقفه، بل يحاول أن يخدع نفسه وذلك بعدم الالتفات وعدم القبول لأيّ دليل وبرهان ينقض موقفه، ففي الآية بيان عنادهم وعتوهم.

وقوله: {وَمَا تَأْتِيهِم} بيان لطفه تعالى حيث لم يكتف بالآيات التي تلازمهم كآيات الآفاق والأنفس، بل زادهم اللّه آيات متعددة وبالتدريج لتخشع قلوبهم.

وقوله: {مِّنْ ءَايَةٖ} حرف الجر للاستغراق، أي أعرضوا عن جميع الآيات التى أتتهم، و(الآية) هي العلامة التي تدل على الشيء، ويلازمها الظهور والوضوح عادة.

وقوله: {مِّنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِمْ} وحرف الجر هنا للتبعيض، فالذي جاءهم بعض آياته مما يتناسب معهم، وهذه الآيات تشمل آيات القرآن والمعاجز الأخرى والبراهين العقلية والفطرية وغيرها، و{رَبِّهِمْ} لبيان كمال لطفه، فإنه يرسل بالآيات لإصلاحهم.

وقوله: {مُعْرِضِينَ} من الإعراض بمعنى عدم الالتفات إليها وعدم

ص: 18

الاعتبار بها وعدم تأملها، والجامع هو الغفلة عنها.

الثالث: قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ...} الآية.

الفاء في {فَقَدْ} للترتيب، وقد تستعمل في مورد التعليل، فالمراد بيان سبب إعراضهم وهو أنهم كذبوا بالحق - وهو القرآن والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - لما لم ترض أنفسهم الأمّارة بالسوء للخضوع له، كما أن مصالحهم الماديّة حالت دون قبولهم له، وهذا التكذيب كان مصحوباً بالاستهزاء، ومن البلاغة ذكر التكذيب في أول الآية وذكر الاستهزاء في آخرها، فالمعنى لقد كذبوا واستهزؤوا بالحق وسيعاقبون على ذلك، أو المقصود بيان أن تكذيبهم لم يكن مجرد تكذيب قلبي، بل صاحبه تكذيب عملي بالاستهزاء.

وقوله: {بِالْحَقِّ} يتضمن برهان بطلان عملهم؛ لأن الذي كذبوا به كان الحق، وهو مما يقتضي بطبعه التصديق به لأنه الواقع الثابت، والظاهر أن المراد من الحق هنا القرآن والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأن تكذيبهما كان السبب في الإعراض عن الآيات الأخرى.

وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} وفي آية أخرى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَٰؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(1)،

ولعل استعمال السين تارة وسوف أخرى لأن العقوبات مختلفة، فقد تكون معجّلة كقتلهم بيد المسلمين في بدر وغيره أو عذابهم في القبر، وقد تكون مؤجّلة كعذابهم في يوم القيامة.

وقوله: {أَنبَٰؤُاْ} جمع نبأ بمعنى الخبر، قيل: «النبأ لا يكون إلاّ للإخبار بما لا يعلمه المخبَر، وفي القرآن: {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَٰؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِ

ص: 19


1- سورة الشعراء، الآية: 6.

يَسْتَهْزِءُونَ}وإنّما استهزؤوا به لأنهم لم يعلموا حقيقته، ولو علموا ذلك لتوقّوه»(1)، وأما عظمة الخبر فتستفاد من القرائن كقوله: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}(2) لا من الكلمة نفسها فهي أعمّ.

والمقصود أنهم سيعلمون بحقيقة استهزائهم حينما يحاسبون ليعاقبوا عليه، وهذا تهديد لهم ووعيد.

وغير خفي أن من طبيعة وذات الحق الغلبة على الباطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(3)، وقال: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(4).

الرابع: قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٖ...} الآية.

نفي لاستبعادهم العذاب، فهو تذكير لهم بما جرى في الأمم السابقة الذين كانوا أقوى وأغنى وأكثر نعمة منهم، ليعتبروا بها، وإنما بيّن أوصاف تلك الأمم حتى لا يتوهموا أنهم استثناء؛ لأن الإنسان - لحبّه لذاته - قد يرى نفسه فوق الآخرين فلا يصيبه ما أصابهم، لكن يتم التذكير بأن المقتضي للإهلاك موجود وهو رفض الحق، والمانع مفقود؛ لأن القوة والثروة لا تغني عن عذاب اللّه شيئاً، كما أن اللّه لا يحتاج إليهم ليصرف النظر عن عذابهم، وقد بيّن اللّه تعالى أن أولئك الأقوام كانت السماء والأرض مسخرة لهم، فقد

ص: 20


1- معجم الفروق اللغوية: 529.
2- سورة النبأ، الآية: 2.
3- سورة الإسراء، الآية: 81.
4- سورة الأنفال، الآية: 7-8.

تمكنّوا في الأرض فتسلطوا عليها، وقد آتتهم السماء ماءها بغزارة بحيث ارتوت مزارعهم وجرت أنهارها، لكنهم لما أذنبوا أهلكهم اللّه تعالى، كما بيّن أنّه استخلف غيرهم مكانهم قال سبحانه: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٖ جَدِيدٖ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٖ}(1).

وقوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ} استفهام للتذكير والتوبيخ، والرؤية هنا أعم من رؤية آثارهم عياناً، والعلم بما جرى عليهم بتواتر أخبارهم.

وقوله: {مَّكَّنَّٰهُمْ} التمكين هو السيطرة على الشيء بنحو يتمكن من التصرف فيه كما يشاء، وقيل: «هو إعطاء ما يصحّ به الفعل كائناً ما كان من الآلات والعدد والقوى»(2).

وقوله: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ} والسماء هنا بمعنى السحاب ولذا قال أرسلنا؛ لأن السحب تنتقل من البحار تسحبها الرياح بأمر اللّه تعالى فهو الذي يرسلها واستعمال السماء في السحاب مجاز بعلاقة الحال والمحل، ولعلّ اختيار هذا المجاز ليقابل به التمكين في الأرض.

وقوله: {مِّدْرَارًا} من الدَّر بمعنى امتلاء الضرع والثدي باللبن حتى جرى وسال، والمراد غزارة الأمطار الهاطلة، و(مدرار) على وزن مفعال إما للآلة أو للمبالغة.

وقوله: {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَٰرَ} بيان لاستمرار خير السماء، فليست المياه خاصة بوقت الأمطار، بل بركاتها تعمّ حتى مع انقطاعها بأن تجري أنهاراً.

ص: 21


1- سورة إبراهيم، الآية: 19-20.
2- معجم الفروق اللغوية: 142.

وقوله: {مِن تَحْتِهِمْ} لعلّه لأجل بيان خيرها؛ لأن الأنهار إذا فاضت تحولت إلى سيل مخرّب، أما جريانها من تحتهم ففيها الخير والبركة.

وقوله: {فَأَهْلَكْنَٰهُم} أي بإنزال العذاب عليهم وقطع آثارهم ونسلهم وفناء حضارتهم.

وقوله: {بِذُنُوبِهِمْ} أي بسببها، فإن الذنوب لها أثر معنوي في الإهلاك، تارة بسبب غيبي بأن ينزل اللّه عليهم العذاب من غير أسباب ظاهرية، وتارة بسبب طبيعي بمعنى أن يرتب اللّه الأسباب والمسببات الطبيعية بحيث يؤدي إلى هلاك القوم، وهكذا سائر أنواع العذاب والعقوبات قد تكون بسبب غيبي أو سبب طبيعي، وقد مرّ أن جميع الأمور مرتبطة باللّه تعالى، والأسباب الواقعية هي الأسباب الغيبيّة، إلاّ أن حكمة اللّه تعالى اقتضت جعل أسباب ظاهرية أيضاً بحيث يكون السبب الظاهري مقارناً للسبب الغيبي عادة، وقد تقتضي حكمته عدم وجود سبب ظاهري لتظهر قدرته وعذابه.

والحاصل: الآية تهديد للكفار في استمرارهم في العناد، بأن اللّه قادر على إهلاكهم وخلق آخرين.

ص: 22

الآيات 7-10

اشارة

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰبًا فِي قِرْطَاسٖ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ 7 وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ 8 وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ 9 وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ 10}

ثم يبين اللّه تعالى تكذيبهم للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال:

7- {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰبًا} خطاً مكتوباً {فِي قِرْطَاسٖ} ورقة {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} مضافاً إلى رؤيتهم بعيونهم، فهو أنفى للشك {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بالتوحيد، فمن لا تنفعه دلائل التوحيد الواضحة لا تنفعه دلائل النبوة أيضاً {إِنْ} ليس {هَٰذَا} القرطاس المكتوب النازل {إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح، فيقلّبون ما هو واضح الدلالة على النبوة إلى زعم أنه واضح الدلالة على السحر.

8- {وَقَالُواْ} في احتجاجهم لإبطال النبوة {لَوْلَا أُنزِلَ} أي لماذا لم ينزل {عَلَيْهِ مَلَكٌ} ليكلمهم بتصديقه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويكون نذيراً معه، {وَ} لكن هذا الاقتراح لا ينفعهم؛ لأن الملك إذا شاهدوه إما ينزل للعذاب أو للتبليغ، ف{لَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا} للعذاب {لَّقُضِيَ الْأَمْرُ} أي انتهت مدّتهم وحان أجلهم

ص: 23

{ثُمَّ} بعد نزول العذاب {لَا يُنظَرُونَ} لا تعطى لهم مهلةليؤمنوا، كما في عذاب قوم لوط لما رأوا الملائكة.

9- {وَ} أما مَلَك التبليغ ف{لَوْ جَعَلْنَٰهُ} جعلنا الرسول {مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا} أي في صورة إنسان؛ لأن عين الناس لا تطيق رؤية الملك بصورته الأصلية {وَ} حينئذٍ {لَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} أي أبهمنا عليهم الأمر {مَّا يَلْبِسُونَ} أي ما يشكلونه في أمر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، حيث إنهم لو رأوا الملك بصورة إنسان وقال إني ملك كذّبوه حتى لو أراهم الآيات كما كذبوا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما شاهدوا معاجزه.

10- واقتراحهم هذا لم يكن عن طلب هداية، بل كان للاستهزاء بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيسلّيه اللّه ويهدّدهم بقوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ} أي نزل وأصاب {بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم} من الرسل {مَّا} أي العذاب الذي {كَانُواْ بِهِ} بذلك العذاب {يَسْتَهْزِءُونَ}.

سبب عدم الاستجابة لاقتراح المشركين

بحوث

الأول: لما بيّن اللّه عتوّهم وعنادهم في أمر التوحيد وأنهم لا تنفعهم الآيات فيها عطف الكلام إلى عتوّهم في أمر النبوة وأنهم لا تنفعهم الآيات فيها أيضاً، فالآيات النازلة الدالة على التوحيد دلّت على نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً لكنهم كذّبوها فأنكروا التوحيد والنبوة، وبدلاً من التصديق اقترحوا اقتراحات أخرى لا ليعلموا بالحق - فقد علموا به بالآيات التي رأوها - بل للاستهزاء والتعجيز.

وغير خفي أنه لو لم تكن آية سابقة وكان اقتراحهم معقولاً بحيث لا

ص: 24

ينافي الحكمة لكان اللّه يستجيب لهم ليكون حجة عليهم، كاستجابتهلاقتراح قوم صالح لما طلبوا خروج ناقة بفصيلها من الجبل؛ لأنه لم تسبقه آية وكان اقتراحهم معقولاً، وهكذا بالنسبة إلى مشركي مكة لما اقترحوا في بداية الأمر بعض المعاجز - كانشقاق القمر - استجاب اللّه تعالى لهم، وكان في ذلك كفاية لو تركوا العناد، لكنهم عاندوا فاقترحوا اقتراحات كثيرة لمعاجز أخرى من منطلق الاستهزاء والتعنّت فلم يستجب اللّه لهم؛ لأن المعاجز ليست ملعبة لمن يريد أن يستهزأ باللّه تعالى وبالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي هذه الآيات يبيّن اللّه تعالى اقتراحين من اقتراحاتهم ترتبط بالنبوة وسبب عدم استجابته تعالى لهم في ذلك؛ إذ لا بد من إبطال حجج أهل الباطل لئلا يغترّ بها الناس، ولإتمام الحجة عليهم، وقد مرّ بعض الكلام في سورة النساء(1).

الثاني: قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰبًا فِي قِرْطَاسٖ...} الآية.

هذا كان من اقتراحاتهم ففي سورة الإسراء: {أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَٰبًا نَّقْرَؤُهُ}(2)، وقد كرر اليهود الطلب نفسه قال تعالى: {يَسَْٔلُكَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ السَّمَاءِ}(3)، لكنهم يكذبون بهذه الآية حتى لو شاهدوها ولمسوها بأيديهم، فما أسهل تكذيب الآيات عبر زعم أنها سحر!

وقوله: {كِتَٰبًا} أي خطاً مكتوباً.

ص: 25


1- راجع التفكر في القرآن، سورة النساء: 500.
2- سورة الإسراء، الآية: 93.
3- سورة النساء، الآية: 153.

وقوله: {فِي قِرْطَاسٖ} أي ورقة، قيل: الكلمة معرّبة من القبطية، وقد مرّأن المعنى الذي لا يستعمل في قوم إذا جاءهم من أقوام أخرى جاء مع اسمه عادة، ولم يكن العرب أهل كتابة وصناعة الورق فكان يأتيهم من أماكن أخرى بأسمائه، فلمّا عُرِّب صار عربياً ومن لغتهم، فصحّ استعماله في الكلام الفصيح.

وقوله: {فَلَمَسُوهُ} أي لمسوا الكتاب، والمعنى أنهم جمعوا بين الرؤية وبين اللمس فهو أنفى للشك؛ إذ قد يشاهد الإنسان شيئاً فينسبه إلى خطأ الباصرة أو السحر - الذي هو تصرّف في العيون - لكن إذا لمسه بعد أن رآه لعلم أنه الحق.

وقوله: {بِأَيْدِيهِمْ} إضافة هذا القيد لتصوير الوضوح، فيكون تأكيداً للمس كما تقول: (رأيته بعيني وسمعته بأذني) حيث إنه تأكيد.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا...} الآية.

تتضمن هذه الآية والتي بعدها اقتراحاً آخر ذكروه استهزاءً، وهو أن ينزل ملك من السماء ليكون مع رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصدّقه، قال تعالى: {وَقَالُواْ مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}(1).

واللّه تعالى أولاً يبيّن سبب عدم الاستجابة لهذا الاقتراح، ثم يبيّن عاقبة استهزائهم، فإنهم كانوا يريدون مشاهدة الملك فيكلمونه ويسألونه عن صدق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فيقال لهم: إن الملك لا يظهر للناس إلا في حالتين:

ص: 26


1- سورة الفرقان، الآية: 7.

الحالة الأولى: حين العذاب، كالملائكة الذين جاؤوا لعذاب قوم لوطحيث شاهدهم الكفّار، ولكن اللّه تعالى لم يكن يريد إنزال العذاب على مشركي مكة؛ لأنه أرسل رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمة قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}(1).

الحالة الثانية: للتبليغ، وهذا إنما يكون لو نزلوا على صورة بشر وذلك لا ينفع المشركين؛ لأنهم لو رأوا الملائكة بصورة بشر لكذبوهم أيضاً، ولو قالوا إنا ملائكة لما صدّقوهم حتى لو جاؤوا بالآيات؛ لأنهم اعتادوا على تكذيب الآيات عناداً وعتواً، كقوم لوط لمّا رأوا الملائكة في صورة بشر هرعوا إليهم لقصدهم السيّء، وأما نزول الملائكة على صورتهم الأصلية فهذا ما لا تطيقه أعين عامة الناس إلاّ الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) حيث أعطاهم اللّه تعالى قوة مشاهدة العالم الآخر.

وبعبارة أخرى: إن عالم الغيب يختلف عن عالم الشهود، والملائكة من عالم الغيب فمشاهدتهم بصورتهم الأصلية تقتضي إما أن يعطي اللّه الإنسان القوة على مشاهدة الغيب، وإما انتقال الإنسان إلى عالم الغيب، والأول ليس من الحكمة لعامة الناس وإلاّ بطل الامتحان واختلت موازين الدنيا، والثاني يعني موت الإنسان حيث يشاهد العالم الآخر قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(2)، وقال: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَٰئِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا}(3)، والحاصل أن المعاجز إنما تكون

ص: 27


1- سورة الأنفال، الآية: 33.
2- سورة ق، الآية: 22.
3- سورة الفرقان، الآية: 22.

بحكمة وضمن السياق العام في التكوين ولا يراد منها إيجاد الخلل في نظامالتكوين أو تغييره.

وقوله: {لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي ملك نشاهده، وإلاّ فالملك الذي لم يشاهدوه كان ينزل باستمرار على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما أن الملك في صورة بشر قد شاهدوه في صورة دحية الكلبي لكن لم يعلموا بكونه ملكاً إلاّ بإخبار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم(1).

وقوله: {لَّقُضِيَ الْأَمْرُ} القضاء هنا بمعنى الانتهاء، والأمر بمعنى الأجل والمدة، أي لانتهى أمد بقائهم.

وقوله: {ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ} أي لما يحين أجلهم المحتوم لا تعطى لهم المهلة للتوبة والإيمان، فالفرق بين المقطعين أن قضاء الأمر هو الحكم بانتهاء المدة، وعدم الإنظار هو تنفيذ الحكم بإهلاكهم.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا...} الآية.

أي لو جعلنا الرسول - الذي يكون مع رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ملكاً لكان لا بد من جعله في صورة بشر، ويحتمل أن تكون هذه الآية ردّاً لاشكالهم الآخر وهو: لماذا أرسل اللّه بشراً ولم يرسل ملكاً؟ والجواب: أنه لا بدّ من التشابه بين الرسول والمرسل إليهم ليكون قدوة لهم في كل الأمور، فمَلَك لا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا ينام وغير ذلك من الأمور البشرية لا يمكن أن يكن أسوة للبشر، فحتى لو أراد اللّه إنزال ملك لجعله في صورة بشر.

ص: 28


1- الأمالي للطوسي: 41؛ مناقب آل أبي طالب 1: 199.

وقوله: {وَلَلَبَسْنَا} أصل اللَبس - بالفتح - الخلط والاشتباه، والمقصود هناالنتيجة أي إبهام الأمر؛ لأن الذي يشتبه لا يصل إلى حقيقة الأمر كذلك مع إبهام الأمر لا يعرف الحقيقة، فالمعنى أنهم يشكلون على رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنه بشر ويقترحون إنزال مَلَك، لكن لو نزل المَلَك في صورة بشر لبقي إشكالهم على حاله؛ لأنهم لو رأوا مَلَكاً في صورة بشر لكذّبوه، فإن قال لهم إني ملك وأتى بالآيات لكذبوها أيضاً، كما كذّبوا رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا جاءهم بالآيات البينات.

وغير خفي أن تفسير اللَبس بالإبهام يدفع الإشكال بأن التلبيس أمر سلبي يتضمن معنى الخداع فكيف نُسب إلى اللّه تعالى، فالجواب أنه إبهام وليس خداع أي عدم ظهور الحقيقة لهم لا خداعهم بغيرها.

وقوله: {مَّا يَلْبِسُونَ} أي ما يلبسونه على أنفسهم، بأن محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشر فكيف صار رسولاً للّه تعالى، فهم بعدم تعقلّهم وعدم نظرهم في الآيات أوقعوا أنفسهم في الاشتباه والخلط مع أنهم لو كانوا يسمعون ويعقلون لقبلوا الحق ولم يعاندوا.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ...} الآية.

هذا بيان أن طلبهم كان للاستهزاء لا للواقع، كما أنه تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فيقول اللّه تعالى: إن استهزاءهم سيكون وبالاً عليهم بالعذاب.

وقوله: {اسْتُهْزِئَ} لأن طبيعة الكفار والمعاندين واحدة وهي لا تنسجم مع الحق، وحيث لم يتمكنوا من دحض الحجج والبراهين والآيات التجأوا إلى الاستهزاء تغطيةً لفشلهم في الاحتجاج، ولأن الحق الذي كان يبيّنه

ص: 29

الأنبياء لم يكن مألوفاً لديهم لذا كان يسهل عليهم الاستهزاء به.

وقوله: {فَحَاقَ} في المقاييس: «هو نزول الشيء بالشيء»(1)، وقد يلازم ذلك الإحاطة، ولذا فُسر بالإحاطة أيضاً.

وقوله: {سَخِرُواْ مِنْهُم} السخرية والاستهزاء بمعنى واحد، وقيل: «إن أكثر استعمال السخرية في ذات الشخص، وأكثر استعمال الاستهزاء للعمل أو العقيدة»(2)، لذا يتعدي الأول ب(من) والثاني بالباء، والكفار كانوا يستهزؤون بالرسل وبما جاؤوا به من عقائد وأقوال وأعمال وقد جمعت هذه الآية الأمرين فقال: {بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}، وقيل: «الفرق أن الاستهزاء هو من غير أن يسبق منه فعل يستهزأ به من أجله، والسخرية تدل على فعل يسبق المسخور منه»(3)، والأول أظهر.

وقوله: {مَّا كَانُواْ بِهِ} أي العذاب الذي كانوا يستهزؤون به حيث نزل عليهم قال تعال: {وَحَاقَ بَِٔالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}(4).

ص: 30


1- مقاييس اللغة: 273.
2- راجع مفردات الراغب مع ملاحظات العاملي: 737.
3- راجع معجم الفروق اللغوية: 50.
4- سورة غافر، الآية: 45.

الآيات 11-13

اشارة

{قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 11 قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 12 وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 13}

ثم بعد ذكر التوحيد والنبوة يذكر اللّه تعالى المعاد، فقال:

11- {قُلْ} يا رسول اللّه لهؤلاء المشركين: {سِيرُواْ} سافروا {فِي الْأَرْضِ} لتروا آثار الأمم البالية {ثُمَّ انظُرُواْ} تفكروا في القرآن الذي بيّن أحوالهم {كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} الذين كذّبوا الرسل، وهذا السير والنظر سبب لاعتبارهم بهم وعدم تكذيبهم رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

12- ثم بعد هلاك المكذبين يكون مصيرهم إلى الحشر يوم القيامة؛ لأن القادر على الخلق والمالك لكل شيء قادر على البعث في يوم القيامة {قُل} لهؤلاء المشركين: {لِّمَن مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ}؟ وحيث لا يتمكنون من أن يقولوا إنها لهم أو لأصنامهم ف{قُل} في جوابهم: إنها {لِّلَّهِ} وقد خلقها لا للعبث، بل {كَتَبَ} أوجب {عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} لذلك خلقها، ولذلك يبعثكم ف{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} حيث بدأ الجمع من موت أول إنسان ويستمر إلى موت آخر إنسان عند ذاك يبعثكم جميعاً {لَا رَيْبَ

ص: 31

فِيهِ} لوضوح آياته، فالخلق والبعث للرحمة لكن {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ}ضيّعوها بمخالفة الفطرة والعقل {فَهُمْ} بسبب هذا التضييع {لَا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدّقون بالحق.

13- {وَ} لا يتوهّمن أحد أنه يتمكن من إخفاء شيء عن اللّه؛ إذ {لَهُ} للّه تعالى {مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فهو الخالق له {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم {الْعَلِيمُ} بأفعالكم ونواياكم.

بحوث

الأول: سياق الآيات: بعد ذكر التوحيد والنبوة جاء دور الكلام حول المعاد تخويفاً لهم من العذاب بسبب الكفر وترغيباً لهم في الثواب عبر الإيمان، ولمّا ذكر في الآية العاشرة أن المستهزئين حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون، ذكر في هذه الآيات تفصيل ذلك العذاب بإهلاكهم أولاً، وخسرانهم لأنفسهم وإخراجها عن قابلية الرحمة ثانياً، ثم العذاب العظيم في الآخرة وقد ذكره في الآية 15.

والحاصل: إن الكفر يؤدي إلى الهلاك في الدنيا سواء بعذاب سماوي أو بقطع ذريتهم أو إبادة حضارتهم ونحو ذلك، ثم ذلك خسارة الإنسان لنفسه؛ لأنه أوصل نفسه بذلك إلى درجة الحيوانات - بل أضل منها - مع أنه كان يمكنه أن يسمو بنفسه إلى مراقي الإنسانية، ثم بعد ذلك ينتظره عذاب الآخرة وهو العذاب المبين الذي لا كاشف له.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ...} الآية.

بيان للمرحلة الأولى من عذاب الكفار وهو إهلاكم، وفي ذلك إثارة

ص: 32

لدفائن العقول لئلا يغترّوا بما هم عليه من القوة والمكنة؛ فإن الإنسانالساكن في مكانه قد لا يلتفت إلى حقائق كثيرة، لأن سكونه يجعل حوله حواجز فكرية وعملية فيؤدي به إلى تصورات غير صحيحة، لذا يكثر في الانعزاليين عدم الواقعيّة، لكن بالخروج من العزلة والنظر في الأمور يتهيأ للإنسان فهم الواقع وتصحيح التصورات، كما أنّ إدراك الإنسان للشيء بالرؤية البصرية أقوى من إدراكه إياها بالسمع، ومن هذا المنطلق كان الأمر بالسير في الأرض لرؤية آثار الأقوام البائدة للاعتبار بها.

وقوله: {سِيرُواْ} بمعنى السفر والذهاب.

وقوله: {ثُمَّ انظُرُواْ} أي لا تكن رؤيتكم للآثار رؤية ساذجة لا اعتبار فيها، بل انظروا إلى القرآن لتعلموا صدقه في ما أخبركم به لتعتبروا بذلك، وسُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية فقال: «عنى بذلك أي انظروا في القرآن فاعلموا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم، وما أخبركم عنه»(1).

الثالث: قوله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ...} الآية.

بيان للمرحلة الثانية في العذاب وهي خسارة النفس وإخراجها عن قابلية الرحمة، وذلك ببيان أن اللّه تعالى خلق السماوات والأرض للرحمة، وقدّر يوم القيامة للرحمة أيضاً، لكن مشكلة هؤلاء أنهم بسوء اختيارهم رفضوا تلك الرحمة وصنعوا ما أخرجهم عن القابلية لها؛ وذلك لأنهم خسروا أنفسهم عبر مخالفتهم لفطرتهم وعقلهم وأدى ذلك إلى عدم إيمانهم، فمنشأ عدم الإيمان هو تلك الخسارة.

ص: 33


1- الكافي 8: 249؛ عنه البرهان في تفسير القرآن 3: 533.

وقوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} سؤال تقريري بما يعلمونه من أن اللّه تعالى هو الخالق، لينتقل من ذلك إلى الاستدلال عليهم بأن القادر على الخلق قادر على البعث، قال سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ الْعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}(1).

وقوله: {قُل لِّلَّهِ} أي لا تنتظر جوابهم بل أجبهم بما يعلمونه ويذعنون به ولا يتمكنون من إنكاره، وهو أن السماوات والأرض ملك للّه تعالى وهو خالقها، ولعل عدم انتظار جوابهم هو أن هذا كان مقدمة للاستدلال للمعاد، ولذا تمّ ذكره والانتقال إلى ذي المقدمة وهو الغرض الأصلي من الآية.

بين الرحمة والحكمة

وقوله: {كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} بيان أن ملكيته ليست بالبطش والنقمة بل بالرحمة، فهو لم يخلق الخلق إلاّ ليرحمهم قال تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(2)، وقد سبقت رحمته غضبه، فكلّما كان للرحمة مجال رحم إلاّ لو كانت خلاف الحكمة فحينئذٍ لا رحمة؛ لأنها من صفات الفعل، وأمّا حكمته فهي من صفات ذاته فهي الحاكمة على الرحمة، و{كَتَبَ} بمعنى قضاه قضاءً حتماً، وهذه كتابة تكوينية وتشريعية، لذلك تدبيره لأمور خلقه بالرحمة، وتشريعاته أيضاً للرحمة، فليست أوامره ونواهيه وسائر أحكامه اعتباطاً، وإنما رعاية لمصلحة العباد ولدفع المفاسد عنهم.

وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي كما خلقكم للرحمة، كذلك

ص: 34


1- سورة يس، الآية: 78-79.
2- سورة هود، الآية: 119.

يبعثكم للرحمة أيضاً، فأصل تقدير البعث لأجل الرحمة بالخلق، فأولاًليكون سبب طاعتهم في الدنيا؛ لأن الثواب والعقاب من أكبر المحرّكات للناس للطاعة، وثانياً لتكتمل رحمتهم فإن الرحمة الأخروية هي التامة من كل الجهات وبكل الجهات ولا يشوبها المصاعب والآلام والمنغّصات، وهذا نظير أن نقول إن المحاكم التي شرعتها الدول والقوانين الجزائية هي من مصلحة الناس ورحمة بهم؛ لأنها تصير سبباً لقلة الجرائم والتزام الناس بالقوانين، ولأنها تعيد الحقوق إلى أصحابها، وتزيد المحكمة الأخروية بأن فيها إثابة للمطيع الملتزم مما لا يوجد في محاكم الدنيا حيث إن الذي يلتزم بالقوانين لا يكافأ على التزامه عادة، و{لَيَجْمَعَنَّكُمْ} تأكيد للكلام بلام القسم ونون التأكيد، ثم زيادة التأكيد بقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ}.

وإنما قال: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} لأن الجميع يحشرون معاً في صعيد واحد وحساب الجميع ظاهر للجميع، وحتى السرائر تظهر، ولعل ذلك لارتباط كثير من الأعمال السابقة بالأعمال اللاحقة، مثلاً من سنّ سنة سيئة قبل ألف عام وقد عمل بها الناس إلى يومنا هذا لا بد أن يشاهد جميع ما أجرمه فيرى حساب من تبعه ويحاسب هو على عملهم لأنه كان السبب، كذلك هذا الحساب العلني بنفسه نوع ثواب للمطيع وعقاب للعاصي لما يعلم الناس أعمالهما، ولظهور عدله تعالى بالنحو الأتم، ولغير ذلك.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي جمعاً تدريجيّاً بمعنى أن الجمع يستمر إلى يوم القيامة حيث بدأ من موت أول إنسان ويستمر ذلك إلى آخر إنسان حيث من بعده تقوم القيامة، وفي نهج البلاغة: «فإنّما ينتظر بأولكم

ص: 35

آخركم»(1).

وقيل: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} بدل الرحمة، أي إن من رحمته إمهالكم وعدم أخذكم فوراً بذنوبكم، قال سبحانه {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٖ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَٰرُ}(2).

وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي ليس محلاً للريب حتى وإن ارتاب المبطلون، كما تقول إن الشمس لا ريب فيها مع أن السوفسطائيين قد شكّوا فيها وفي كل شيء، فليس ريب هؤلاء معتنى به أصلاً.

وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} لمّا ذكر الرحمة بيّن أن البعض بسوء اختيارهم يخرجون عنها، فليست المشكلة في عموم تلك الرحمة، وإنما المشكلة في هؤلاء الذين منعوها عن أنفسهم، كالشمس التي تُشرق على جميع الأرض إذا حجب البعض عن نفسه نورها فإن ذلك لا يرتبط بعموم خيرها.

وخسران النفس هو إخراجها عمّا جُعلت له، بأن يخالف الإنسان فطرته وعقله ويخرج عن إنسانيّته إلى الحيوانية والهمجيّة، وهذا الخسران يؤدي إلى عدم الإيمان، ولذا عقّبه بقوله: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، ثم هناك خسران آخر يترتب على عدم الإيمان وهو استحقاق العقاب قال تعالى: {إِنَّ الْخَٰسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(3)، وبذلك يتضح أن

ص: 36


1- نهج البلاغة، الخطبة: 21.
2- سورة إبراهيم، الآية: 42.
3- سورة الشورى، الآية: 45.

هناك خسران هو سبب لعدم الإيمان ثم يتبعه خسران آخر هو العذاب الأخروي، كما أن هناك حفظ للنفس هو سبب للإيمان ثم يتبعه الفوز بالجنة والرضوان، واللّه العالم.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

كأنه تحذير لهؤلاء الخاسرين غير المؤمنين بأن لا يتوهموا تمكّنهم من إخفاء جريمتهم عن اللّه تعالى، فهو المالك لكل الأشياء والعالم بها كلّها، فحتى الأشياء الساكنة التي لا يلتفت إليها لسكونها، سواء كانت في ليل أو نهار فهو عالم بها، كذلك يعلم بكم فهو السميع لأقوالكم والعليم بأفعالكم ونواياكم.

وقيل: إن المراد عموم ملكيته لكل مكان وفي كل زمان، أما المكان فقد ذكر في الآية السابقة في قوله: {فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ}، وأما الزمان ففي هذه الآية بقوله: {فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، فكل شيء ملك له في أي مكان كان وفي أي زمان حلّ.

ص: 37

الآيات 14-18

اشارة

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 14 قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ 15 مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٖ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ 16 وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 17 وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ 18}

ثم جمع اللّه التوحيد والنبوة والمعاد في الآيات التالية:

14- أما ما يرتبط بالتوحيد ف{قُلْ} لهؤلاء المشركين: {أَغَيْرَ اللَّهِ} من الأصنام ونحوها، والاستفهام إنكاري {أَتَّخِذُ وَلِيًّا} رباً يلي شؤوني وأعبده؟ مع أن الخلق والتدبير بيد اللّه تعالى وحده، و{فَاطِرِ} صفة للّه، أي هو خالق {السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} فالولي المزعوم مخلوق له، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} أي اللّه تعالى يدبر أمور الخلق فكلّهم محتاجون إليه وهو لا يحتاج إلى أحد، فجمع هذا المقطع برهان الخلق والتدبير، فهذا ما يرتبط بالتوحيد، وأما ما يرتبط بالنبوة ف{قُلْ}: إن اللّه أمرني ونهاني، أما أمره ف{إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أي خضع للّه وصدّق بكلماته وأطاعه، وهذا بمعنى نبوته؛ لأن اللّه يوحي إلى النبي فيتبعه الناس، {وَ} أما نهيه فقد قال لي: {لَا

ص: 38

تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

15- وأما ما يرتبط بالمعاد ف{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} بالشركومخالفة أوامره ونواهيه {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}، وهذا تأكيد على أن لا أحد مستثنى من وجوب الطاعة وحرمة المعصية.

16- {مَّن يُصْرَفْ} يُزاح ويُبعّد العذاب {عَنْهُ يَوْمَئِذٖ} أي في يوم القيامة {فَقَدْ رَحِمَهُ} أي أتمّ الرحمة عليه {وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} الظاهر الواضح الذي لا فوز مثله.

17- {وَ} لا يتوهمنّ أحد أن الأصنام تشفع له ف{إِن يَمْسَسْكَ} يُصبك {اللَّهُ بِضُرّٖ} بليّة سواء في الدنيا أو الآخرة {فَلَا كَاشِفَ} لا دافع ولا مزيل {لَهُ إِلَّا هُوَ} وحتى الشفعاء لا يشفعون إلاّ بإذنه، {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٖ} دنيوي أو أخروي {فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}.

18- {وَ} سبب ذلك أن اللّه {هُوَ الْقَاهِرُ} الغالب فكل شيء مسخّر له {فَوْقَ عِبَادِهِ} فوقهم بالرتبة فهو الخالق وهم المخلوقون، وليس قهره كقهر الناس بعضهم بعضاً؛ لأنهم متساوون في كونهم مخلوقين، {وَهُوَ الْحَكِيمُ} فلا يكون قهره إلا بحكمة، {الْخَبِيرُ} العالم بدقائق الأمور فيقدّر لمخلوقاته ما هو الأصلح، وعليه فثواب المطيع وعقاب العاصي بحكمته وخبرته.

احتجاجات في العقائد

بحوث

الأول: هذه الآيات تتمة للآيات السابقة بإضافة احتجاجات أخرى لإثبات التوحيد والنبوة والمعاد.

ص: 39

أما في التوحيد: فإن اللّه هو الخالق وهو المدبّر، وأصنامهم مخلوقة له تعالى ولا يمكنها تدبير أيّ شيء، فما الذي جعلها شركاء للّه سبحانه وتعالى عمّا يصفون.

وأما في النبوة: فإنه لا بدّ من وجود شخص يتبعه الناس في الخضوع للّهتعالى ليكون مقتدى وأسوة لهم، فلا تصح نبوة جميع الناس لعدم الحكمة في ذلك ولعدم قابليتهم لها، وأما دليل نبوته فمعجزاته، وسيأتي بيانها.

وأما المعاد: فإن النفع والضرر بيد اللّه تعالى، وهو سبحانه قادر على كل شيء وإرادته نافذة على عباده، فكان من الحكمة إثابة المطيع وعقاب العاصي، وبعبارة أخرى: المقتضي موجود والمانع مفقود، أما وجود المقتضي: فهو رحمته وقدرته وعلمه، وأما فقدان المانع: فهو قهره لعباده بحيث لا يتمكن أحد من دفع ضرر أراده، أو منع خير قدّره.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ}.

استفهام إنكارى لإثارة عقولهم بأنكم إن أردتم النفع فهو من اللّه تعالى وإن أردتم دفع الضرر فكذلك عند اللّه، وأما أصنامكم فلا تنفع ولا تضر ولا تقدر كشف الضر، فلماذا تعبدونها وتشركون بها من بيده كل النفع وكل الضر؟! ففي هذا المقطع بيان الدليل العقلي على التوحيد.

وقوله: {أَتَّخِذُ} أي أجعله لنفسي معتقِداً به، مع أن الاعتقاد به لا يغيّر من الواقع شيئاً.

وقوله: {وَلِيًّا} من الولاية بمعنى المتولي للشأن والمقصود هنا الرب.

ص: 40

وقوله: {فَاطِرِ} أي خالق، وأصله من الفطر بمعنى الشقّ، فإن الخلق شق للعدم بالوجود.

وقوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} المراد أنه الرازق المدبر للأمر والذي يحتاج إليه كل شيء وهو الغني عن كل شيء، وذكر الإطعام من بابالمثال، والحاصل إنه تعالى الخالق والمدبر فلذا يستحق العبادة دون غيره.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ...} الآية.

أي حيث كان اللّه تعالى هو الخالق المدبّر حصراً وكل الأمور بيده فلا بد من الخضوع له وعدم الشرك به، وليس أحد مستثنى عن ذلك فأشرف المخلوقات عبد مربوب للّه تعالى، ولأنه رسول اللّه فلذا كان لا بد أن يكون أول الخاضعين للّه لتكون له قابلية حمل الرسالة وليكون أسوة للناس، وهذا المقطع دليل نقلي على التوحيد، فكما أن العقل يدل عليه كذلك الوحي يدل عليه، وأما دليل نبوته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسيأتي في الآية 19.

وقوله: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إمّا عطف على {قُلْ} أي ليكن قولك الخضوع للّه وعملك عدم الشرك، وإمّا استئناف للتأكيد أي كن في زمرة المسلمين ولا تكن في زمرة المشركين، كما نقول: كن عالماً ولا تكن جاهلاً، وإمّا استئناف ليكون مقدمة للآية التالية، فالمعنى: لا تكن من المشركين لأنه عصيان للّه تعالى وعذاب العصيان بالشرك عظيم.

الرابع: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}.

(الخوف) قد يكون من خطر مجهول وقد يكون من خطر معلوم، وهنا الخطر معلوم لأن الشرك غير مغفور قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن

ص: 41

يُشْرَكَ بِهِ}(1)، وغير خفي أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معصوم وهو يعلم بأنه لا يعصي وبأنه لا يُعذَّب، لكن صدق الجملة الشرطية لا يتوقف على تحقق طرفيها،ولذا من الصدق قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(2)؛ لأن الآية في مقام بيان ارتباط الفساد بتعدد الآلهة وهذا صدق حتى لو لم يتحقق الشرط ولا الجزاء، وهكذا في هذه الآية فالغرض من ذكرها هو بيان أن العذاب مرتبط بالعصيان كائنا من كان العاصي، كيلا يزعم أحد أنه استثناء وأنه من أحباء اللّه فلا يعذب كما كانت اليهود تزعم ذلك.

وقوله: {عَصَيْتُ} لعل تبديل الشرك إلى العصيان لدحض مزاعمهم بأنهم يعبدون الأصنام لتكون شفيعة لهم وتقرّبهم إلى اللّه تعالى قال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ}(3)، فيقال لهم إن شرككم عصيان والمعصية مبعّدة وعليها استحقاق العذاب، وفي الآية بيان أن العذاب بسبب سوء اختيارهم مع أن اللّه خلقهم ليرحمهم، بل كما هيّأ اللّه في الدنيا أسباب الرحمة عبر الهداية بالفطرة والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب، كذلك هيّأ أسباب الرحمة في الآخرة فكل إنسان عيّن اللّه له مكاناً في الجنة إلاّ أن الكفار بسوء اختيارهم فرّطوا بذلك ورفضوا تلك الرحمة(4).

وقوله: {رَبِّي} الإتيان بكلمة الرب هنا أبلغ؛ لأن عصيان من يدبر أمر

ص: 42


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- سورة الأنبياء، الآية: 22.
3- سورة الزمر، الآية: 3.
4- راجع البرهان في تفسير القرآن 7: 15 عن تفسير القمي.

الإنسان ويصلح شأنه أشد وعقوبته آكد.

الخامس: قوله تعالى: {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٖ فَقَدْ رَحِمَهُ...} الآية.

بيان أن النجاة من النار لا يكون إلا بفضل اللّه تعالى ورحمته؛ لأن الهداية منه والإضلال منه، بمعنى أن اللّه تعالى يُري الجميع طريق النجاة فمن استجاب زاده اللّه هدى وأوصله إلى المطلوب، ومن رفض الهداية لا يتركه اللّه إلاّ بعد أن يفقد القابلية للّهداية فيطبع على قلبه ويتركه وشأنه فيضلّ ولا يهتدي، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُوْلَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}(1)، وقد مرّ الكلام في ذلك.

وقيل: لا يخلو عامة الناس من الذنوب - ولو صغائرها - إلاّ المعصومون(عليهم السلام) ومن تلا تلوهم، والأخذ بالذنب من العدل، فلو كان اللّه تعالى يريد أخذ الناس بعدله لم ينجُ أحد قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٖ}(2)، وقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٖ}(3)، لكنه برحمته شرّع باب التوبة، وكفّر عن الصغائر لمن ترك الكبائر، وجعل الحسنات يذهبن السيئات، وأذن للشفعاء أن يشفعوا وغير ذلك، فحينئذٍ نجاة من نجا إنما هو برحمته تعالى، وحتى المعصومون إنما عصمهم اللّه تعالى واصطفاهم فبرحمته وفضله تركوا الذنوب، فرجع صرف العذاب عنهم إلى فضله ورحمته أيضاً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ

ص: 43


1- سورة الأنبياء، الآية: 101.
2- سورة فاطر، الآية: 45.
3- سورة النحل، الآية: 61.

رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}(1)،أي لازماً لا ينفك عن الإنسان.

وقوله: {وَذَٰلِكَ} أي صرف عذاب جهنم.

وقوله: {الْفَوْزُ الْمُبِينُ} غير خفي أن النجاة من النار ونيل الجنة كلاهما فوز عظيم، بل هما معاً الفوز العظيم لذلك استعمل الفوز المبين أو العظيم فيها، قال سبحانه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}(2)،

فليس معنى الآية أن صرف العذاب أهم من نيل الثواب، بل هما ككفتي الميزان متساويان، فتأمل.

السادس: قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا...} الآية.

كأنه لردّ زعمهم بأن الأصنام تشفع لهم، فبيّن اللّه تعالى القاعدة العامة بأن الضر والخير بيد اللّه تعالى ولا غالب لإرادته، فإن أراد بشخص ضراً لا مزيل له، وإن أراد نفعاً قدر عليه ولا مانع منه.

وقوله: {بِضُرّٖ} الضر - بالضم والفتح - مصدر، قال الخليل: «الضُرّ والضَرّ لغتان، فإذا جمعت بين الضر والنفع فتحت الضاد، وإذا أفردت الضر ضممت الضاد إن لم تجعله مصدراً»(3).

وقوله: {كَاشِفَ} من الكشف بمعنى الإزالة، كأن الضرر يحيط بالإنسان كالغطاء وإزالته كشف له.

ص: 44


1- سورة الفرقان، الآية: 65.
2- سورة آل عمران، الآية: 185.
3- كتاب العين 7: 6.

وقوله: {فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} أي إن أرادك بخير فلا مانع عنه؛ لأنه تعالى على كل شيء قدير، فجعل السبب مكان المسبّب.

السابع: قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}.

كأنه تعليل لكل ما مضى من العذاب ومسّ الخير ومسّ الضر، فهو القاهر من (القهر) وهو الغلبة من غير إرادة أو رضا من المقهور(1)، لكن قهره بحكمة وخبرة، فيضع الأشياء - من عذاب أو ثواب أو نعمة أو نقمة - في مواضعها مع علمه بدقائق الأمور فلا خطأ في حكمه تعالى.

ويحتمل كون هذه الآية كالتعليل لقوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} لأنه القاهر، كما أن مس الخير لأنه القادر، وكل ذلك بحكمة وخبرة.

وقوله: {فَوْقَ عِبَادِهِ} أي ليست قهاريته كقهارية الحكام حيث إنهم قد يقهرون من هو أعلى منزلة منهم أو من هو مساو لهم، كقهر الحكام الظلمة للناس المظلومين، بل قهاريته تعالى لعلّو ذاته وكون جميع الموجودات مخلوقات له.

ص: 45


1- راجع كتاب العين 3: 365.

الآيات 19-24

اشارة

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ قُل لَّا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 19 الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُۘ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 20 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ 21 وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ 22 ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ 23 انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ 24}

ثم يذكر اللّه دليل نبوة رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال:

19- {قُلْ} في الاستدلال على نبوتك: {أَيُّ شَيْءٍ} أي شاهد {أَكْبَرُ شَهَٰدَةً} أي أعظم من حيث الشهادة، وكان ذلك بعد إنكار أهل الكتاب نبوته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ! {قُلِ} في الجواب: {اللَّهُ شَهِيدُ} وذلك بإجراء المعاجز على يدي الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يشهد لي بالنبوة ويشهد عليكم بالتكذيب، فهذا الدليل العقلي، {وَ} أما الدليل النقلي فقد {أُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْءَانُ} وهو شاهد صدق وحجة {لِأُنذِرَكُم بِهِ} بهذا القرآن، فالقرآن جامع بين كونه شاهداً على صدق النبي وبين كونه منذراً لهم، {وَمَن بَلَغَ}

ص: 46

تفسيره: لأنذر بالقرآن كل من بلغه من الأجيال القادمة، وتأويله: وكذا ينذركم بالقرآن من بلغ مبلغ الإمامة بعد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم كيف تنكروننبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع أن شاهده اللّه تعالى، لكنكم تشهدون بالباطل الذي هو تعدد الآلهة؟! {أَئِنَّكُمْ} استفهام إنكاري لإبطال زعمهم {لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ} من غير برهان، {قُل} رداً لشهادتهم {لَّا أَشْهَدُ} بما تشهدون من تعدد الآلهة {قُلْ} دخصاً لكلامهم أي فلا تقتصر بعدم الشهادة فقط، بل أضف بيان الحق والبراءة عن باطلهم: {إِنَّمَا هُوَ} الإله {إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} من شرككم أو من الأصنام التي تشركونها مع اللّه سبحانه.

20- وأما إنكار أهل الكتاب لنبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلا تضرّ؛ إذ {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ} اليهود والنصارى أو علماؤهم {يَعْرِفُونَهُ} يعرفون محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرسالة {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُۘ} معرفة لا شك فيها وذلك لما وجدوا أوصافه في كتبهم، لكنهم هم {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} لأنهم لم يعطوها حقها من الإنسانية {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} صارت خسارتهم لأنفسهم سبباً لعدم إيمانهم.

21- {وَمَنْ أَظْلَمُ} أكثر ظلماً {مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بجعل الشريك له {أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ} القرآن والمعاجز الدالة على نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ} لا في الدنيا ولا في الآخرة، فكيف بالأظلم؟!

22- ثم بين اللّه عدم انتفاعهم بالشركاء {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} مجموعين

ص: 47

يوم القيامة {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} توبيخاً لهم ومقدمة لعذابهم: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} بأنهم شركاء وأنهم ينفعونكم؟

23- {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ} أي اعتذارهم عن كفرهم الذين فتنوا به أنفسهم {إِلَّا أَن قَالُواْ} كذباً وزوراً {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} في دار الدنيا.

24- {انظُرْ} تأمل في كلامهم {كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} والاستفهام للتعجيب {وَضَلَّ عَنْهُم} ابتعد وفارق فلم ينفعهم {مَّا} الأصنام التي {كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يفترونها على اللّه بأنها شركاء له.

برهان النبوة

بحوث

الأول: لما ذكرت النبوة في الآيات السابقة أريد بيان البرهان عليها، فذكرت هذه الآيات برهانين: برهاناً عقلياً بشهادة اللّه تعالى على صدق رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبر المعجزات التي حباها إياه، وبرهاناً نقلياً بالوحي الذي أنزله اللّه تعالى على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في القرآن، فإنه شاهد صدق على نبوته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي ذلك دحض لحجة من حجج المشركين بأن أهل الكتاب لا يعرفونه، فيقال لهم: إنهم يعرفونه حق المعرفة لكن نفسهم الأمارة بالسوء منعتهم عن إظهار ما في كتبهم من أوصافه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولذا قد خسروا أنفسهم وصار ذلك سبباً لعدم إيمانهم، ثم يبين اللّه تعالى عاقبة أمرهم بعدم الفلاح وباضطرارهم التبرؤ من شركائهم في الآخرة، لكن لا ينفعهم ذلك حيث لم يتبرؤوا منهم في دار الدنيا.

معنى شهادة اللّه تعالى

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}.

ص: 48

بيان دليل نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عقلاً، ويبتدأ الكلام بأسلوب بديع، وهو أنكم تريدون شاهد صدق على نبوته، فأيّ شاهد هو أعظم الشهود عندكم؟ وذلك لما قالوا: «ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنهليس لك ذكر عندهم، فاتنا بمن يشهد أنك رسول اللّه»(1).

والجواب صادم لهم: بأن اللّه تعالى هو الشهيد، وفي ذلك تبكيتهم، وأما كيفية شهادته فهي عبر المعجزات التي أجراها على يد رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {أَيُّ شَيْءٍ} أي أيُّ شاهد فعمّم الكلام لكلّ شيء، وهذا أوقع في النفوس حيث شهادة أعظم الأشياء، وفي الآية دلالة على جواز إطلاق (شيء) على اللّه تعالى، فإنه شيء لا كالأشياء؛ لأن كلمة الشيء تعمّ جميع الموجودات، واللّه تعالى وإن كان يختلف عن سائر الموجودات بالذات إلاّ أنه موجود وإن كنا لا ندرك كنه وجوده.

وقوله: {أَكْبَرُ شَهَٰدَةً} أي الأعظم من جهة الشهادة، وغير خفي أن قوة الشهادة وضعفها ترتبط بعدة عوامل منها الشاهد والمشهود به والمشهود له والمشهود عليه وغير ذلك، وأيّ شهادة أعظم من كون الشاهد هو اللّه، والمشهود له هو رسوله، والمشهود عليه هو التوحيد والنبوة، فهذه الشهادة أعظم من شهادة أهل الكتاب فلا يضر إنكارهم.

وقوله: {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي في ما تنازعنا فيه من التوحيد والنبوة، فيشهد لي ويشهد عليكم.

الثالث: قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}.

ص: 49


1- تفسير القمي 1: 194؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 3: 534.

بيان دليل النبوة نقلاً، وذلك بما ورد في القرآن الكريم؛ لأن القرآن لا ريب في صدقه قال تعالى: {ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ}(1)،فما ورد فيهصدق، وفيه تصريح بنبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل نفس نزوله عليه دليل على نبوته.

وبعبارة أخرى: القرآن معجز فيدل على نبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وحيث كان معجزاً فكل ما فيه صدق لا ريب فيه، ومن الأمور التي أثبتها القرآن هو نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

من جهات القرآن الكريم

ثم إن القرآن له جهات متعددة، فمنها إعجازه ليثبت به نبوة الرسول، ومنها مضامينه التي جائت لإنذارهم عن عاقبة كفرهم وشركهم، وكان الغرض الأصلي هو الإنذار لذلك جعله علة لإنزاله.

وبعبارة أخرى إن الغرض من إنزال القرآن هو هداية الناس بما تضمنه من تعاليم عالية، وفي الوقت نفسه جعل اللّه تعالى القرآن معجزة النبي الخالدة إثباتاً لصدقه؛ لأن سائر المعاجز هي وقتيّة لمن حضرها وشاهدها، وحيث أراد اللّه للإسلام أن يكون خاتمة الشرائع وأراد أن يكون رسوله خاتم الأنبياء جعل معجزته خالدة لكل الناس في جميع الأعصار حتى يلمس المعجزة من في العصور المتأخرة كما لمسها من هو في عصر النزول، مع ما تضمنته هذه المعجزة من الهداية.

وقوله: {لِأُنذِرَكُم} اللام للتعليل، أي سبب وحيه هو إنذاركم، وغير خفي أن سياق هذه الآيات في تحذير الكفار من مغبّة كفرهم، ولذا ناسب ذكر الإنذار دون التبشير.

ص: 50


1- سورة البقرة، الآية: 2.

وقوله: {وَمَن بَلَغَ} لهذا تفسير وتأويل.

أما التفسير: فهو أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما ينذر الذين عاصروه من مشركي مكة ومن شاهدوه كذلك ينذر جميع الناس في جميع الأماكن والأعصارممّن بلغهم القرآن، وعليه ف{وَمَن بَلَغَ} عطف على {كُم} فالمعنى لأنذركم أنتم وأنذر من بلغه القرآن.

وأما التأويل: فهو أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينذرهم بالقرآن مادام حياً، ومن بعد الرسول من بلغ مرتبة الإمامة ينذرهم به وهم الأئمه من أهل البيت(عليهم السلام)، وعليه ف{مَن بَلَغَ} عطف على ضمير الفاعل في {لِأُنذِرَكُم}، فالمعنى لأنذركم أنا ولينذر من بلغ مرتبة الإمامة بعدي، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «من بلغ أن يكون إماماً من آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو يُنذر بالقرآن كما أنذر به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(1).

الرابع: قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ...} الآية.

بيان لسخافة عقولهم حيث يشهدون على ما هو باطل من غير برهان، ثم ينكرون ما هو الحق الذي قام عليه البرهان؟!

فيقال لهم: إن زعم تعدد الآلهة لا برهان له، فالشهادة له من سخافة العقول، بل البرهان دل على بطلان التعدد؛ لأنها مخلوقات اللّه فكيف تكون شركاء له؟ وكذا الرسول الذي ثبت صدقه لا يشهد للأصنام بل يتبرأ منها، وذلك دليل آخر على بطلانها.

وقوله: {أَئِنَّكُمْ} استفهام إنكاري وفيه إبطال لمزاعمهم بأن للّه شريك

ص: 51


1- الكافي 1: 416؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 536.

فيقال لهم: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، ولا برهان لهم.

وقوله: {قُل لَّا أَشْهَدُ} لأنه أمر باطل ولا يعقل شهادة رسول اللّه به.

وقوله: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} كأنه سبب عدم الشهادة لهم، أي حيثكان الإله واحداً فلا وجه للشهادة الباطلة بتعدده.

وقوله: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ...} هو شهادة بالعدم أيضاً، أي يشهد بأن تلك الآلهة المزعومة ليست شركاء للّه تعالى، والحاصل: إنه يبدأ بعدم الشهادة لهم، ثم ببيان الحق، ثم بالشهادة عليهم، وهو من أساليب الاحتجاج بل من طرق معرفة الحق، فأولاً لا يشهد الإنسان بما لا برهان له، ثم يبيّن الحق، ثم يتبرأ من ذلك الباطل بعد ثبوت الحق.

الخامس: قوله تعالى: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَعْرِفُونَهُ...} الآية.

لمّا رفض أهل الكتاب الشهادة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث كتموا ما في كتبهم، يقال لهم: إن إنكارهم لا يضر بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنه الحق الذي يعرفونه يقيناً كما يعرفون ابنائهم، لأن أوصاف الرسول في كتبهم كانت أوصافاً دقيقة لا تنطبق إلّا على محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكما لا يخطئ الإنسان في معرفة أولاده كذلك هؤلاء لم يخطئوا في معرفة الرسول لكنهم كتموا ذلك، وكتمانهم لم يضرّه لأن اللّه شهد له، لكن يضرهم أنفسهم؛ لأن ذلك خروج عن مقتضى العقل والفطرة وخروج عن الإنسانية، فبذلك خسروا أنفسهم، والنفس الخاسرة لا قابلية لها لكي تؤمن.

وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} بدل عن {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ}، وكأن اللّه تعالى يقول قد رحمناهم وفضلناهم بالكتاب لكنهم بدلاً من أن

ص: 52

يربحوا بالعمل به وإظهاره قد خسروا أنفسهم بسبب نبذه وراء ظهورهم وكتمان ما فيه، وقد مرّ بعض الكلام في الخسارة في الآية 12، والظاهر أن هذا خاص بخسارة أهل الكتاب كما أن الآية 12 خاصة بخسارة المشركين.السادس: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا...} الآية.

أشد الذنوب هو الاستكبار على اللّه تعالى ومحاربته لذا كان أشدها ظلماً، وقد وردت عبارة {أَظْلَمُ} في عدة ذنوب كلها من مصاديق الاستكبار عليه تعالى، ومنها الافتراء على اللّه سبحانه وتكذيب آياته، وقد جمعت الآية ما صنعه المشركون من الشرك وإنكار نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} والافتراء هو الكذب في حق الغير بما لا يرتضيه(1)، والمقصود هؤلاء المشركون الذين جعلوا للّه شريكاً بما لا يرضاه اللّه سبحانه.

وقوله: {أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ} قيل: «إنما ذكر {أَوْ} وهم قد جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أن كلاً منهما وحده بلغ غاية الإفراط في الظلم»(2)، وتكذيب آياته عام يشمل تكذيب القرآن وسائر الكتب - التي فيها وصف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - والمعاجز الأخرى الدالة على نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ} بيان سوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة، والفلاح والفوز والظفر متقاربة المعنى، وقيل: «الفلاح هو نيل الخير والنفع الباقي أثره»(3)، كأن هؤلاء باتخاذهم الشريك يريدون نيل الخير

ص: 53


1- معجم الفروق اللغوية: 449.
2- تفسير الصافي 3: 20.
3- معجم الفروق اللغوية: 321.

بالتقرب إلى اللّه وشفاعته وكذا بتكذيبهم آيات اللّه يريدون الحفاظ على مصالحهم، إلاّ أنهم يحصدون عكس النتيجة المرجوة فلا ينالون الخيرأبداً، فلذا يوم القيامة حين تنكشف الحقائق بالشكل الأتم تراهم ينكرون شركهم ويتبّرأون من أصنامهم إلاّ أن ذلك لا ينفعهم ويكون مصيرهم إلى النار.

السابع: قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ...} الآية.

أي واذكر اليوم الذي نجمعهم وهو يوم القيامة ثم تبدأ محاسبتهم توبيخاً لهم ومقدمة لعذابهم، وتبتدأ المحاسبة من أصول الدين حيث يُسألون عن الشركاء الذين اتخذوهم، وهذا السؤال مضافاً إلى كونه توبيخاً لهم فإنّه من ضمن محاسبتهم وفسح المجال لهم للاحتجاج أو الإنكار؛ لأن ذلك اليوم هو يوم العدل التام، فلذا فيه مواقف متعددة، فتارة يفسح لهم المجال لما شاؤوا أن يقولوه حتى لو كان بالكذب، ثم يؤتى بالأشهاد ومنها أعضاؤهم وجوارحهم، ثم يؤتى بأعمالهم حاضرة يرونها عياناً - بناءً على تجسم الأعمال - ، ويؤتى بالشركاء، ثم يضطرون إلى الاعتراف بجرمهم وأنه يستحقون العذاب على ذلك، ثم لا يؤذن لهم في الكلام، وفي الحديث أن رجلاً جاء أمير المؤمنين شاكاً فقال (عليه السلام) له: «هات ما شككت فيه؟» فقال: لأن اللّه يقول: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَٰئِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا}(1)، ويقول: حيث استنطقوا قال اللّه: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، ويقول: {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٖ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم

ص: 54


1- سورة النبأ، الآية: 38.

بَعْضًا}(1)، ويقول: {إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}(2)، ويقول: {لَاتَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ}(3)، ويقول: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(4)، فمرةً يتكلمون ومرّة لا يتكلّمون، ومرة يُنطق الجلود والأيدي والأرجل، ومرّة لا يتكلمون إلاّ مَن أذن له الرحمن وقال صواباً، فأنّى ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له علي (عليه السلام) : «إن ذلك ليس في موطن واحد، وهي في مواطن في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة، فجمع اللّه الخلائق في ذلك اليوم في موطن يتعارفون فيه فيكلّم بعضهم بعضاً... ويلعن أهل المعاصي بعضهم بعضاً... ثم يجمعون في موطن يفرّ بعضهم من بعض... ثم يجمعون في موطن يبكون فيه... ثم يجتمعون في موطن يستنطقون فيه فيقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ولا يقرّون بما عملوا، فيختم على أفواههم وتستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتنطق، فتشهد بكل معصية بدت منهم، ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم وأيديهم وأرجلهم: {لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا}؟ فتقول: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٖ}(5)، ثم يجمعون في موطن يُستنطق فيه جميع الخلائق، فلا يتكلّم أحد {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا}(6)،

ص: 55


1- سورة العنكبوت، الآية: 25.
2- سورة ص، الآية: 64.
3- سورة ق، الآية: 28.
4- سورة يس، الآية: 65.
5- سورة فصلت، الآية: 21.
6- سورة النباء، الآية: 38.

ويجتمعون في موطن يختصمون فيه، ويدان لبعض الخلائق من بعض، وهو القول، وذلك كلّه قبل الحساب، فإذا أخذ للحساب شُغل كل امرئ بما لديه، نسأل اللّهبركة ذلك اليوم»(1).

الثامن: قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.

لمّا يرون الخطر المحدق بهم بسبب شركهم وتكذيبهم يبدأون بإنكار كونهم مشركين وأنهم يعترفون بأن اللّه ربهم.

ومن الواضح أن ذلك في الموقف الذي يسمح لهم فيه بالدفاع عن أنفسهم بما شاؤوا ولو بأن يكذبوا، فلا معنى للسؤال عن أنهم كيف يكذبون مع عدم إمكان الكذب في يوم القيامة! بلى، إنّ من عدل اللّه تعالى السماح لهم بأن يقولوا ما يشاؤون دفاعاً عن أنفسهم، وفي ذلك أيضاً بيان بطلان الشركاء وعدم نفعهم، فيكون أجلى للحق وأظهر لدحض الباطل حيث يتبرأ منه من كان يعتقد به ويستميت للدفاع عنه، ويذعن بالحق الذي كان ينكره.

وقوله: {فِتْنَتُهُمْ} أي اعتذارهم عن الكفر الذي فتنوا به أنفسهم فجعل السبب مقام المسبب؛ لأن تلك الفتنة صارت سبباً لهذا العذر.

وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا} وصفوا اللّه بأنه ربّهم زيادةً في إنكار شركهم وذلك بأنهم يذعنون بأن ربهم اللّه تعالى لا الأرباب المتفرقة.

وقوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} أما تفسيرها: فادعاؤهم عدم الشرك باللّه تعالى،

ص: 56


1- تفسير العياشي 1: 357؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 540-541.

وأما تأويلها: فادعاء عدم الشرك بالولاية كما في بعض الأحاديث(1)؛ لأنالآية وإن كانت نازلة في شركهم في التوحيد إلاّ أنها تشمل سائر من أنكروا أصلاً من أصول الدين حيث أشركوا في الولاية من لا يستحقها فخلطوا بين ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وولاية الظالمين.

التاسع: قوله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}.

استفهام للتعجيب بأنهم كيف يضطرون للكذب تخليصاً لأنفسهم، ثم كيف خاب ظنهم بالشركاء الذين كانوا يرجون نفعهم وشفاعتهم، مع أن هؤلاء لو كانوا يؤمنون في الدنيا ولا يكذبون بآيات اللّه لتفاخروا يوم القيامة بإيمانهم ولنفعهم ذلك الإيمان في الفوز والفلاح.

وقوله: {كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} نتيجة كذبهم في الدنيا على اللّه تعالى وتكذيبهم لآياته.

وقوله: {وَضَلَّ} من الضلال بمعنى المفارقة والبطلان.

وقوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي الأصنام التي كانوا يرجون شفاعتها أنظر كيف فارقوها وتبرؤوا منها، فقد ظهر في المحشر بطلانها وعدم نفعها، بل أنها جرّت عليهم وبالاً وعقاباً.

وقد يُتسائل بأنه لماذا يكذبون وهم يعلمون بعدم نفع كذبهم؟

والجواب: أنهم قد يظنون النفع لمّا يرون عظيم عفو الرب تبارك وتعالى حيث يرون أنه تعالى يعفو لأدنى سبب فيطمعون في العفو، كمن يكذب

ص: 57


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 539 عن تفسير القمي 1: 199؛ والكافي 8: 287.

على كريم مع علمه بأن الكريم يعلم بكذبه لكنه مع ذلك يكذب طمعاً في كرمه وإغضائه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه يعفو يوم القيامةعفواً لا يخطر على بال أحد، حتى يقول أهل الشرك: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}»(1).

ص: 58


1- تفسير العياشي 1: 357؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 539.

الآيات 25-28

اشارة

{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ 25 وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنَْٔوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ 26 وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 27 بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ 28}

25- {وَ} القرآن وإن نزل لإنذارهم لكن بعضهم لا ينتفع به لسوء اختياره، ف{مِنْهُم} من المشركين {مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} حين تتلو القرآن {وَ} لكنه لا ينتفع به بسوء اختياره فقد {جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية، وذلك كراهية {أَن يَفْقَهُوهُ} وهذا كناية عن منع اللطف عنهم، {وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا} ثقلاً فهو كمن لا يسمع، كناية عن عدم انتفاعه بالسمع، {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤْمِنُواْ بِهَا} فعلى أبصارهم أيضاً غشاوة، ثم مضافاً إلى عدم انتفاعهم بالقلوب والسمع والأبصار يأتون للجدال لدحض الحق {حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ} لم يكن مجيئهم للاستماع لطلب الحق {يُجَٰدِلُونَكَ} أي حال كونهم جاؤوا للجدال {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي هؤلاء الذين على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم غشاوة: {إِنْ هَٰذَا} القرآن {إِلَّا أَسَٰطِيرُ

ص: 59

الْأَوَّلِينَ}.

26- {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي يأمرون بالمنكر ويمنعون الناس عنالاهتداء بالقرآن {وَيَنَْٔوْنَ عَنْهُ} أي هم أيضاً يبتعدون عن القرآن {وَإِن} نافيه أي لا {يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} فلا يضرّون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا القرآن، بل يهلكون أنفسهم حيث استحقوا بكفرهم خزي الدنيا وعذاب الآخرة {وَمَا يَشْعُرُونَ} حيث يتوهمون انتفاعهم بكفرهم.

27- {وَلَوْ تَرَىٰ} «لو» للتمني أي نحبّ أن تراهم يوم القيامة {إِذْ} في الوقت الذي {وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ} اطّلعوا عليها حينما سيقوا إلى حافة جهنم {فَقَالُواْ يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ} يرجعنا اللّه إلى الدنيا {وَلَا نُكَذِّبَ بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي يتمنون الردّ وعدم التكذيب وكونهم على الإيمان.

28- ثم يبين اللّه تعالى عدم صدقهم في ما تمنوه فليس كما قالوا {بَلْ بَدَا} ظهر {لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} من أمر نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد ظهرت حقيقة صدقه وصدق ما أنذرهم به {وَلَوْ رُدُّواْ} إلى دار الدنيا {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} من التكذيب والشرك {وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ} في أنهم لو رجعوا لصدّقوا وآمنوا، والمعنى أن التمني ليس لأجل أنهم يريدون الإيمان، بل ذلك لأنهم يريدون التخلّص من العذاب فقط.

سبب عدم الانتفاع بالآيات

بحوث

الأول: لمّا بين اللّه تعالى أن القرآن نزل لإنذارهم، وأن اللّه تعالى شهيد عليه، بل القرآن بنفسه شاهد على نفسه، وأن أهل الكتاب يعرفونه حق

ص: 60

المعرفة، بعد ذلك بيّن سبب عدم انتفاعهم به وبقائهم على كفرهم، وهو أنهم أغلقوا باب الفهم على أنفسهم، فلا يؤثّر فيهم ما سمعوه من القرآن وما شاهدوه من الآيات، فلمّا عاندوا صار عنادهم سبباً لفقدانهم قابلية الهدايةفقطع اللّه حينئذٍ عنهم ألطافه، بل ختم على قلوبهم وسمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة جزاءً لعنادهم وعتوّهم، وحتى أنّهم عندما يرون عذابهم عياناً حينما يوقفون على جهنم لا يصير ذلك سبباً لترك العناد عندهم، بل يتمنّون الإيمان، لا لأجل الإيمان بل لأجل التخلّص من العذاب، وحينئذٍ لو تخلّصوا من العذاب لرجعوا إلى كفرهم وتكذيبهم؛ إذ ندمهم لم يكن لأنهم علموا بالحق - بل كانوا يعلمون به حين تكذيبهم - بل لإرادتهم التخلّص من العذاب فإذا تخلصوا انتهى الندم.

الثاني: قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً...} الآية.

أي المشركون المعاندون قسمان: فقسم لا يستمع أصلاً بل يجعل أصابعه في آذانه كفراً وعناداً، وقسم آخر يستمع لكن لا لأجل الاهتداء بل لأجل الجدال ليجد ثغرة بزعمه في كلام اللّه سبحانه فيأتي منها لإبطال الحق وللتكذيب به ونسبته إلى خرافات السابقين.

وقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} أي يختم اللّه على قلوبهم لما فقدت قابلية الهداية، ولذا قيل: إن اللّه تعالى خلق الإنسان بكيفية بحيث إذا أصرّ على شيء صار ملكة له فيتطبّع به حتى لو كان خلاف العقل والفطرة، وحيث كانت هذه الطبيعة من تقدير اللّه تعالى لذا كانت منه تعالى جعلاً وختماً

ص: 61

وغشاوة على العبد، بل يضيف اللّه إلى ذلك ختماً يشاهده أولياء اللّه من الملائكة والرسول والأئمة، وقد مرّ بحثه(1).

وقوله: {أَكِنَّةً} جمع كِنان وهو الغطاء الذي يستر به الشيء.

وقوله: {أَن يَفْقَهُوهُ} أي كراهية أن يفقهوه، أو لئلا يفقهوه، و(الفقه) الفهم، وهو العلم بمقتضى الكلام على تأمّله، وتقول لمن تخاطبه: تفقّه ما أقوله، أي تأمّله لتعرفه (2).

وقوله: {وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا} أي وجعلنا في آذانهم ثقلاً، كناية عن عدم انتفاعهم بالسماع، فهم والصُم سواء.

وقوله: {وَإِن يَرَوْاْ...} كأن المقصود وجعلنا على أبصارهم غشاوة فلا يرون الآيات؛ لأن رؤيتهم تشترك مع عدم الرؤية في عدم الانتفاع بها.

وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ} (حتى) هنا حرف ابتداء وتفيد معنى الغاية، فالمعنى إنهم لا يؤمنون بكل آية يرونها حتى إنهم يجادلونك في أوضح الآيات وهو القرآن الكريم، والحاصل أن مجيئهم للجدال وليس للفهم والاهتداء.

وقوله: {يُجَٰدِلُونَكَ} حال، أي جاؤوا حال كونهم يريدون الجدال.

وقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} جزاء {إِذَا} وقيل: إظهار الفاعل - وهو {الَّذِينَ كَفَرُواْ} - مع إمكان الاستغناء عنه بالضمير، لأجل بيان سبب قولهم إن القرآن أساطير؛ إذ لو لم يكونوا كفاراً لاهتدوا به، وكأنّ الكفر هنا

ص: 62


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 1: 25-26.
2- راجع معجم الفروق اللغوية: 412.

بمعنى الستر فهؤلاء الذين ستروا الحقيقة قالوا هذا الكلام.

وقوله: {أَسَٰطِيرُ} جمع أسطورة، وتستعمل عادة في الخرافات والأكاذيب عن السابقين.

الثالث: قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنَْٔوْنَ عَنْهُ...} الآية.

أي تحمّلوا جريمتين: جريمة منع الناس عن الهداية، وجريمة عدم إيمانهم، فكفروا وأمروا بالمنكر، فكانوا أئمة ضلالة ورؤساء في الكفر، ولكن وبال ذلك يرجع عليهم، فهذا لا يضرّ القرآن في شيء لأنه الحق الصراح، ومن أنكر الحق هلك هو، مثلاً من ينكر وجود الشمس ولا يقي نفسه منها فعمله يهلكه ولا يضرّها شيئاً.

وقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} جملة حالية، أي يجادلون ويقولون بأنه أساطير في حال كونهم يمنعون الناس ويمتنعون هم بأنفسهم، وضمير {عَنْهُ} للقرآن كما هو الظاهر من سياق الآيات.

وقوله: {وَإِن يُهْلِكُونَ...} كأنهم يريدون إبطال أمر القرآن لكنهم في الواقع يهلكون أنفسهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة كما بينته الآية اللاحقة.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ...} الآية.

{لَوْ} للتمني، والمعنى محبوبية ذلك، فإن اللّه يحب أن تراهم في تلك الحالة، وعليه فلا تحتاج إلى جواب مقدّر.

وقوله: {فَقَالُواْ يَٰلَيْتَنَا} يتمنون ثلاثة أمور: الردّ إلى الدنيا، وعدم تكذيب الرسول، والكون من المؤمنين، وذلك لمّا علموا أن الجزاء إنما هو للعمل في الدنيا، فلا ينفع الإيمان حين الموت أو بعده فلذا يتمنون الردّ

ص: 63

لكي يصدّقوا ويؤمنوا حتى ينجوا من العذاب.

وقوله: {إِذْ وُقِفُواْ} أي اطّلعوا وأشرفوا عليها قبل إلقائهم فيها، ولعلّ هذا التمني لا يكون بعد إلقائهم في جهنم فإنهم فيها يائسون وأقصى أملهم هوالقضاء عليهم قال تعالى: {وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ}(1)، وقال: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}(2)، وأما قبل ذلك فيكون لهم أمل قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}(3)، واللّه العالم.

وقوله: {يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ...} أي يرجعنا اللّه تعالى إلى الدنيا، وهذا التمني يلازمه الوعد بالتصديق والإيمان ولذلك كذّبهم اللّه تعالى في وعدهم، وبذلك يظهر جواب سؤال: أن التمني إنشاء وهو لا يحتمل الصدق والكذب فكيف كذّبهم اللّه في تمنّيهم؟! حيث الجواب: إن الإنشاء قد يتضمن إخباراً أو يلازمه إخبار، فالتصديق أو التكذيب لذلك الإخبار كالسائل بالكف يقال عنه صادق إذا كان فقيراً حقاً، وكاذب إذا كان غنياً، فالتصديق أو التكذيب ليس لقوله أعطوني بل لما يلازمه.

وقولهم: {وَلَا نُكَذِّبَ...} جمعوا بين عدم التكذيب وبين الإيمان؛ لأن عدم التكذيب قد يجتمع مع عدم الإيمان كما في الشاك الذي لا يصدِّق ولا يكذِّب، أو إن عدم التكذيب بالنبوة والإيمان بالتوحيد.

ص: 64


1- سورة الزخرف، الآية: 77.
2- سورة الزخرف، الآية: 75.
3- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.

الخامس: قوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ}.

أي تمنيهم ليس في محلّه؛ لأنه حين رؤيتهم النار لم يتغيّر يقينهم، فهم كانوا متيقّنين بصدق الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن مصالحهم واتّباعهم للآباءوحسدهم ونحو ذلك كان يمنعهم عن الإيمان كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(1)، وفي القيامة يرون ما كانوا يعلمون به، فندمهم لا يرتبط بشيء كانوا يجهلونه كي يحتمل في حقهم إصلاح أنفسهم بعد العلم، بل ندمهم وتمنيهم يرتبط بأنهم يريدون تخليص أنفسهم من العذاب لا أكثر، وأما نفوسهم فهي كما كانت معاندة مستكبرة رافضة للحق.

وقوله: {بَلْ} إضراب لإبطال تمنيهم، بأنه تمنٍ لا أساس له من الواقع فلا ينطلق من نفس مشتاقة إلى الإيمان والتصديق، فليس مثل قول الشاعر: (فيا ليت الشباب يعود يوماً) حيث إنه يشتاق إلى الشباب واقعاً.

وقوله: {بَدَا لَهُم} أي ظهر لهم عياناً.

وقوله: {مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} أي ما كانوا يعلمونه ويعرفونه لكنهم كانوا يكتمونه من العقائد الحقة كالتوحيد ونبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمعاد بعذابه وثوابه.

وقوله: {مِن قَبْلُ} أي في دار الدنيا.

السادس: قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}.

لعلّ فيه إشعاراً بأنه لو كانوا صادقين لردّهم اللّه تعالى إلى الدنيا ليصلحوا ما أفسدوه؛ وذلك لأن رحمة اللّه تعالى سبقت غضبه، فلو كانت لهم قابلية

ص: 65


1- سورة النمل، الآية: 14.

الرحمة لرحمهم اللّه تعالى، لكنهم فقدوا القابلية لها بسوء اختيارهم حيث عاندوا حتى صار العناد والتكذيب ملكة ملازمة لهم بحيث لو أرجعوا إلى الدنيا لعادوا إلى تكذيبهم وكفرهم، وهذا ما يشاهد في بعض المجرمينالمحترفين الذين يظهرون ندمهم في المحكمة ويطالبون بالعفو عنهم ويعدون بأنهم يصلحون أنفسهم، لكن بمجرد إطلاق سراحهم يرجعون إلى الجريمة وكأنهم نسوا كل ما تمنوه وقالوه.

ويؤيد ذلك ما ورد من إعفاء الكفار في عالم الذر، لكنهم لم يرتدعوا، فقد خلق اللّه ناراً وأمر أهل المعصية بدخولها فلم يدخلوها، ثم أمر أهل الطاعة أن يدخلوها فدخلوها وخرجوا منها سالمين، فلما رأى أهل المعصية ذلك طلبوا الإقالة، فأقالهم اللّه تعالى وأمرهم بالدخول في النار فلم يدخلوا(1)،

ففي عالم الذر لم يفقدوا القابلية فلذلك أقالهم اللّه تعالى لكنهم رجعوا إلى عصيانهم، ولو كانوا في الآخرة صادقين فلعلّ اللّه كان يقدّر إرجاعهم، ولكنهم كاذبون.

ص: 66


1- راجع الحديث بطوله في البرهان في تفسير القرآن 3: 544؛ عن تفسير العياشي 1: 358.

الآيات 29-32

اشارة

{وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ 29 وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ 30 قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ 31 وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ 32}

29- {وَقَالُواْ} قال الكفار: {إِنْ هِيَ} أي ليست الحياة {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} القريبة {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} فلا حياة أخرى بعد الموت.

30- ولكن سيتبيّن لهم كذب قولهم في الآخرة {وَلَوْ تَرَىٰ} «لو» للتمني وهو لبيان محبوبية الرؤية {إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ} أي علموا بالحساب عياناً وسمعوا كلام اللّه تعالى {قَالَ} اللّه لهم توبيخاً وتقريعاً وردّاً لكذبهم: {أَلَيْسَ هَٰذَا} الذي تشاهدونه من القيامة وجزائها {بِالْحَقِّ} خلافاً لما كنتم تكذبون به وتزعمونه أساطير الأولين؟! {قَالُواْ} مقرّين مذعنين: {بَلَىٰ وَرَبِّنَا} إضافة «وربنا» لعلّه استعطاف منهم، {قَالَ} اللّه تعالى: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بسبب كفركم فهو جزاء عليه وليس اللّه بظلام للعبيد.

31- {قَدْ خَسِرَ} خسروا أنفسهم وخسروا النعيم الأبدي في الجنة {الَّذِينَ

ص: 67

كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ} لقاؤه باعتبار كلامه معهم أو لقاء جزائه، {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} تأتيهم القيامة فجأة؛ لأن القيامة بالنسبة إلى كل إنسان تبدأمقدماتها بموته {قَالُواْ يَٰحَسْرَتَنَا} والحسرة شدة الندم {عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا} قصّرنا وضيّعنا {فِيهَا} في الساعة وذلك بعدم الاستعداد لها، {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} ذنوبهم {عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ} بتجسّم الأعمال أو يشعرون بثقلها، {أَلَا} للتنبيه {سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي بئس الوزر ما يزرونه ويحملونه.

32- {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ} وهو الذي لا غرض عقلائي فيه، {وَلَهْوٌ} وهو ما أوجب غفلة الإنسان، والمقصود الحياة التي لم تجعل طريقاً إلى الآخرة {وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، أما العصاة فهي شر لهم بسبب سوء أعمالهم {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} بأنها خير فتؤمنوا بها وتعملوا لها.

دحض إنكارهم للمعاد

بحوث

الأول: هذه الآيات تتضمن دحض إنكارهم للمعاد، وذلك ببيان سوء موقفهم عند ربهم أولاً، وبيان الحكم بعذابهم ثانياً، ثم خسرانهم لأنفسهم وللجنة ثالثاً، وبيان حسرتهم رابعاً، وبيان حملهم لأوزارهم خامساً، بترتيب لطيف لا باعتبار الترتيب الزماني، بل باعتبار الأهمية والشدة، فأسوء موقف لهم هو موقفهم عند اللّه تعالى حيث موقف الذلّ والخزي والعار لهم، ثم عذابهم بعد ذلك، - وهذا نظير ثواب المؤمنين فأعظم ثواب لهم هو رضوان اللّه تعالى ثم الجنة ونعيمها - ، ثم يلي ذلك خسرانهم لأنفسهم وللثواب فإنه ليس للنفس ثمن إلاّ الجنة وقد خسرت صفقتهم بكفرهم وعصيانهم، ثم يليه الحسرة وهو عذاب نفسي لهم، ثم حملهم لذنوبهم على ظهورهم حيث

ص: 68

الفضيحة والخزي من جهة والعذاب بها من جهة أخرى.

ثم إن ذكر العذاب مرتين لعله لأن قوله: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْتَكْفُرُونَ} هو حكمه تعالى بعذابهم، وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} تنفيذ ذلك الحكم بعذابهم، أو إنه تعالى قسّم عذابهم إلى قسمين فالأول عذابهم على كفرهم، والثاني عذابهم على معاصيهم العملية، كما يحتمل أن الأول لبيان العذاب الذي ينالهم والثاني لبيان أمر آخر غير العذاب وهو عدم غفرانهم بحيث تكون ثقل ذنوبهم على ظهورهم.

وبعد ذلك كلّه يبيّن اللّه تعالى حقيقة الحياة الدنيا بأنها لهو ولعب، وكأنّه إشعار بدليل الحياة الأخرى، فإن حصر الحياة بالدنيا التي هي لهو ولعب خلاف الحكمة وهو من العبث، واللّه تعالى منزه عن ذلك كلّه، فلا تكون الحياة الدنيا إلاّ مقدمة للحياة الأخرى لمن عقل، وسيأتي مزيد توضيح.

الثاني: قوله تعالى: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.

هذا بيان لتكذيبهم بالآخرة، فقد سبق ذكر الآخرة لكن لم يسبق ذكر تكذيبهم لها، وتأتي هذه الآيات لبيان تكذيبهم بالآخرة بعد أن سبق ذكر تكذيبهم بالتوحيد وبالنبوة، وكأن فيها إشعاراً بأنهم لا حجة لهم في هذا التكذيب سوى الاستبعاد، وهو لا يصلح دليلاً؛ إذ الكثير من الحقائق لا يألفها الإنسان، لأنه لا يحسّ بها فيستبعدها مع أنها حقائق ثابتة، ولذا كانوا يأتون بالعظام البالية ويقولون: {مَن يُحْيِ الْعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٌ}(1) استبعاداً لإحيائها، وقد أجابهم اللّه تعالى في القرآن بعدة أجوبة، منها: قدرة اللّه تعالى

ص: 69


1- سورة يس، الآية: 78.

الذي أنشأها أول مرّة، ومنها: مثل مادي يرونه من حياة الأرض بالمطر بعد موتها، ومنها: ما في الآية 32 من هذه السورة كما سيأتي.

وقوله: {إِنْ هِيَ} «إن» نافية، و«هي» ضمير يرجع إلى الحياة، أي ليست الحياة إلاّ الحياة الدنيوية.

وقوله: {الدُّنْيَا} أي القريبة التي نشاهدها؛ لأن الآخرة بعيدة عن أذهانهم باعتبار عدم تصديقهم لها.

وقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} تأكيد لحصر الحياة في الدنيا، فإن قولهم {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} تصريح بانحصار الحياة فيها وذلك بالملازمة يدل على نفيهم للحياة الأخرى، فأرادوا التأكيد عبر التصريح بعدم البعث.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ...} الآية.

تبدأ هذه الآية ببيان عاقبتهم وهو أن تكذيبهم لا يغيّر من الواقع شيئاً، فالحقائق ثابتة لا تغيّرها توهمات الناس وتصوراتهم، كما أن الحق لا يتبع أهواءهم بل يبيّن اللّه لهم الحقائق حتى يتّبعوها، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَٰهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ}(1).

فأشد المواقف وأسوؤها عليهم هو موقف الذل والخزي عند اللّه تعالى، كالمجرم الذي يقف أمام وليّ نعمته بعد أن خان تلك النعمة فيقرّع ويوبّخ على خيانته، فلا موقف أشد منه.

ص: 70


1- سورة المؤمنون، الآية: 71.

وقوله: {وَلَوْ تَرَىٰ} «لو» للتمنّي والمقصود بيان محبوبية ذلك؛ لأن التمني محال على اللّه تعالى كما مرّ، وما يحبه اللّه تعالى يقع لا محالة فإنحبّه فعله وليس كحبّنا للشيء؛ لأنه سبحانه ليس محلاً للحوادث ولا للكيفيات النفسانية، فدلت الآية على أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يشاهد ذلك الموقف.

وقوله: {وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ} (وقف عليه) بمعنى علم به تقول: وقفت على هذا الأمر أي علمت به، والمعنى عاينوا حسابه وسمعوا كلامه، و{رَبِّهِمْ} لبيان عظم جرمهم؛ لأنه الذي هيّأ كل شيء لإصلاح أمرهم، لكنهم بسوء اختيارهم رفضوا ذلك فكفروا بالنعمة.

وقوله: {قَالَ أَلَيْسَ...} تقريع وتوبيخ لهم وهو أشد عقاب ينالهم، فإن عذاب النار دون هذا الموقف وهذا التقريع.

وقوله: {قَالُواْ بَلَىٰ} أي اضطروا بأن يقرّوا، وما أسخف عقولهم حيث جحدوا في الدنيا حينما كان ينفعهم الإذعان ويُعزّهم ويجعلهم في محلّ الكرامة عند اللّه تعالى، مع اضطرارهم إلى الإقرار حينما لا ينفعهم ذلك مع كون إقرارهم في موقف الذل والخزي والتقريع، والحاصل أن الإنسان لا بد له من الإقرار والإذعان، فإن أقر في الدنيا ربح، وإلاّ سيقرّ حينما لا ينفعه.

وقوله: {وَرَبِّنَا} كأنه استعطاف منهم وطلب الرضا.

وقوله: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} أي حيث علمتم وأقررتم بأنه حق فلا مناص عنه؛ لأنهم لو كانوا ينجون من العذاب لم يكن العذاب حقاً وكان الإخبار به كذباً، وقد تعالى اللّه سبحانه عن ذلك، فلا يقول إلاّ الحق ولا يقضي إلّا بالحق.

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي إن العذاب إنما هو بسبب كفركم،

ص: 71

وحيث إن اللّه تعالى حكيم فإنه يرتب النتائج على المقدمات.

الرابع: قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا...} الآية.

بيان لأمور أخرى تترتب على تكذيبهم للبعث - إضافة إلى موقف الخزي والعذاب - وهو خسرانهم وحسرتهم وحملهم للأوزار.

وقوله: {قَدْ خَسِرَ} أي خسروا أنفسهم؛ لأنها جُعلت ثمناً للجنة، لكنهم بسوء اختيارهم أعطوها ثمناً للنار، وأيضاً خسروا الثواب.

وقوله: {بِلِقَاءِ اللَّهِ} لقاء اللّه هو الموقف الذي يخاطب اللّه تعالى به الناس مباشرة بخلق الصوت، وهو في الآخرة عام لجميع الناس - مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم - قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَٰمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}(1)، وقال سبحانه: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}(2)، وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ}(3)، ثم إنه يلازم هذا الموقف حكمه تعالى بالثواب أو العقاب فلذا يمكن تفسير لقاء اللّه بلقاء ثوابه أو عقابه من باب التفسير باللازم، وليس هذا اللقاء لقاء ماديّاً كالتقاء شخصين فإن اللّه تعالى أجلّ من ذلك؛ لأنه ليس بجسم ونسبة الأشياء إليه نسبة واحدة في جميع المواقف، إذ هو المحيط بها علماً وقدرة، فلا فرق بين المواقف والعوالم من هذه الجهة أصلاً.

قوله: {جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} أي القيامة، والمراد جاءهم الموت وعبّر عن

ص: 72


1- سورة الأحزاب، الآية: 44.
2- سورة التوبة، الآية: 77.
3- سورة الانشقاق، الآية: 6.

الموت بالساعة؛ لأنه من مقدماتها فلا تقوم الساعة إلاّ على الأموات حيث يبعثون، ويمكن أن يكون المراد القيامة بنفسها وإنما وصف مجيئها بكونهبغتة باعتبار عدم استعدادهم لها وعدم إمهالهم ليتوبوا.

وقوله: {بَغْتَةً} أي فجأةً؛ لأن الذي ينكر الشيء ولا يصدق به ولا يستعد له إذا جاءه ذلك الشيء فاجأه، عكس المنتظِر له.

وقوله: {يَٰحَسْرَتَنَا} (الحسرة) شدة الندم على التفريط، والنداء مجازي كأنه يقال: يا حسرة احضري فهذا أوانك.

وقوله: {فَرَّطْنَا} التفريط هو التقصير وأصله بمعنى التقدم، فالتفريط هو التقدم في التقصير، والإفراط هو التقدم في التكثير، والمعنى أنهم قصرّوا في الدنيا فضيعوا أعمارهم في المعصية وترك الطاعة، وهذا قولهم وهو عذاب نفسي لهم.

وقوله: {فِيهَا} أي في الساعة وذلك بعدم الاستعداد لها، و«في» للظرفية المجازية كأنّ الساعة ظرف للتفريط.

وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} وهذا عملهم وهو عذاب جسدي لهم، و(الأوزار) جمع وِزر وهو الثقل، والمعاصي ثقيلة، ثم إن حملهم الوزر هو بمعنى حملهم لذنبوهم التي حضرت بناءً على تجسّم الأعمال، كما أن نفوسهم تعبة وفي حرج لذلك يكون ثقلاً معنوياً أيضاً، فجمع حملهم بين الحمل المادي والمعنوي.

الخامس: قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ...} الآية.

ص: 73

كأنّه ردّ على قولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} فيقال لهم بأنه لا يعقل أن يكون اللّه تعالى قد خلقكم لأجل اللعب واللّهو فهذا عبث واللّه سبحانهمنزه عنه قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَٰلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}(1)، فإن الحياة الدنيا مجردة عن الآخرة عبث؛ لأنها في نفسها - لولا الآخرة - مجرد لعب ولهو، إلاّ أن الآخرة تعطي للحياة الدنيا معناها وذلك بجعلها مزرعة للآخرة.

وقوله: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} واللعب: كل ما لا غرض صحيح فيه، واللّهو: كل ما يشغل الإنسان عمّا يُعنيه فيوجب الغفلة عنه، والمقصود أنّ الحياة الدنيا بما هي هي لا تكون إلاّ لعباً ولهواً، أو المقصود أنّ حياة الكفار الذين أنكروا المعاد لا تكون إلاّ كذلك.

وقوله: {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي يحفظون أنفسهم عن العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة، أو يحفظونها عن العقاب وفيه إشعار بأن دنيا المؤمنين خير إلّا أن آخرتهم خير من دنياهم.

وقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} بأن الآخرة خير؛ لأن من يرجّح الفاني الذي لذّاته مشوبة بالكدر على الباقي الذي لا يشوبه سوء لغير عاقل، وفي الوافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لاختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني»، كيف والأمر بالعكس(2).

ص: 74


1- سورة المؤمنون، الآية: 115 و 116.
2- الوافي 1: 100.

الآيات 33-36

اشارة

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ 33 وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِيْ الْمُرْسَلِينَ 34 وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بَِٔايَةٖ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَٰهِلِينَ 35 إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ 36}

ثم يسلّى اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على تكذيبهم، فقال:

33- {قَدْ نَعْلَمُ} «قد» للتحقيق، أي إنه بعلمنا {إِنَّهُ} الضمير للشأن {لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} فيك كقولهم إنه ساحر أو اكتتب أساطير الأولين {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} أي لا يأتون بباطل يكذّبون به حقك {وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} بغير حجة، أي ينكرونها مع علمهم بصدقها.

34- {وَ} لست أنت ببدع من الرسل ف{لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ} على تكذيب الناس إياهم، فاصبر كما صبروا {وَأُوذُواْ} بسبب ذلك التكذيب؛ لأن الصبر لا ينافي التأذي في النفس

ص: 75

{حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا} على المكذبين بظهور الحق وزهوق الباطل في الدنيا والآخرة {وَ} هذا النصر من سنن اللّه ف{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ} أي: وعوده، فلا هو تعالى يبدلها لعدم الحكمة في التبديل، ولا غيره يبدّلها لعجزهم{وَلَقَدْ جَاءَكَ} من الآيات النازلة في ما مضى {مِن نَّبَإِيْ الْمُرْسَلِينَ} بعض أخبارهم وكيف نصرناهم.

35- {وَإِن كَانَ كَبُرَ} عظم وشقّ {عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} لأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان حريصاً على هدايتهم {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} أن تهديهم بفعل المستحيل فافعل ذلك، مثل {أَن تَبْتَغِيَ} تطلب وتتخذ {نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} كناية عن فعل كل شيء {فَتَأْتِيَهُم بَِٔايَةٖ} توجب إيمانهم، والمقصود أنهم لا يهتدون حتى لو أتيت بكل آية؛ إذ لو كانوا قابلين للّهداية لاهتدوا بالآيات التي أريتهم إياها، {وَ} لكن ذلك لا يعني استحالة هدايتم بالإلجاء؛ إذ {لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ} فهو قادر على ذلك لكن لا يفعله لعدم الحكمة فيه؛ إذ به يبطل الامتحان، وحيث علمت حكمة اللّه في عدم إلجائهم {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَٰهِلِينَ} الجازعين، والجهل هنا مقابل الحِلم، أي كن حليماً عليهم وهذا تأكيد على أمره بالصبر.

36- ثم يبين اللّه أن هؤلاء كالموتى ف{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} لنداء الإيمان فيؤمن {الَّذِينَ يَسْمَعُونَۘ} يعقلون ويفهمون {وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وهؤلاء كالموتى لا يسمعون لكن بعد البعث والرجوع إليه سيسمعون حيث لا ينفعهم السمع.

ص: 76

الحزن على الكفار

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه تعالى عدم إيمانهم حتى لو رأوا كل آية وجدالهم بأن القرآن أساطير الأولين وإنكارهم للبعث... بعد ذلك بيّن أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يحزن لعدم إيمانهم ولتكذيبهم فيسلّيه اللّه تعالى بأنحقيقة تكذيبهم راجعة إلى جحد آيات اللّه مع علمهم بأنها حق فهذا نوع تسلية، وأنهم ظالمون لأنفسهم ببخسهم حقها فليس تكذيبهم من منطلق واقعي وهذا نوع تسلية أخرى، ثم يذكر أن هذا هو دأبهم مع الأنبياء وهذا تسلية ثالثة، وأنه بالصبر سيأتي النصر وهذا تسلية رابعة، وأنه لا يوجد طريق آخر ليهتدوا باختيارهم وهذا تسلية خامسة، وأن اللّه لا يلجؤهم إلى الإيمان لعدم الحكمة فيه وهذا تسلية سادسة، وأنهم لا يستحقون حزنك عليهم لأنهم كالموتى وسيحاسبهم اللّه على أعمالهم وهذا تسلية سابعة، وتضمنت الآيات أمر الرسول بالصبر والحلم، ووعدته بالنصر المحتوم الذي لا بداء فيه.

الثاني: قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ...} الآية.

«قد» للتحقيق، أي نعلم حزنك بسبب كلامهم، وهذا الحزن من جهتين: حزن عليهم حيث إن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان شفيقاً عليهم ويحب أن يؤمنوا، فهو وإن كان مأموراً بالتبليغ ولم تكن من وظيفته اهتداؤهم إلاّ أن الإنسان قد يحب شيئاً ليس من مهامّه، وخاصة إذا كان ذلك الشيء يترتب على وظائفه، كالناصح الشفيق الذي يحب استماع المنصوح لنصحه ويتألم عليه إذا لم يستمع هذا من جهة، ومن جهة أخرى حزنه لتكذيبهم له حيث قابلوا

ص: 77

إحسانه بالإساءة، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشر يحزن على ما يصيبه من الشر والأذى، فيأمره اللّه تعالى بأن لا يحزن عليهم قال سبحانه: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُفِي ضَيْقٖ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}(1)، وقال: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ}(2).

وبعبارة أخرى: كان حزن الرسول عليهم حسناً مادام اللّه لم يختم على قلوبهم، فيخبره اللّه بأنه ختم عليها فلا وجه للحزن عليهم بعد ذلك، فكلتا الحالتين حسنة: الحزن قبل الختم وعدم الحزن بعده، وأما حزنه على نفسه وعلى تكذيب الآيات فهو حسن ويشفيه اللّه تعالى بنصره عليهم وبإهلاكهم.

وقوله: {لَا يُكَذِّبُونَكَ} من باب التفعيل ولكن المقصود منه معنى الثلاثي المجرد، فما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أنها مخفّفة»(3)، يراد به أن معناها معنى المخفّفة - بدون تشديد الذال - وليس ذلك بمعنى أنّ قراءته كانت بالتخفيف، وقد مرّ أن هذه القراءة المشهورة بين المسلمين هي قراءة أهل البيت(عليهم السلام)، لا قراءة لهم غيرها، وقد قرأ على طبقها حفص عن عاصم عن السلمي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، فقد قرأ رجل على أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الآية فقال (عليه السلام) : «بلى واللّه لقد كذّبوه أشد التكذيب، ولكنها مخففة: لا يكذبونك، أي لا يأتون بباطل يكذبون به حقك»(4)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لا يستطيعون إبطال قولك»(5)، ويمكن أن تكون هذه

ص: 78


1- سورة النحل، الآية: 127.
2- سورة فاطر، الآية: 8.
3- البرهان في تفسير القرآن 3: 547.
4- الكافي 8: 200.
5- تفسير العياشي 1: 359.

الروايات في تأويل الآية فيكون تفسيرها: إن التكذيب ليس راجعاً لك؛ لأنهم يعلمون صدقك ولكن التكذيب راجع إلى جحد آيات اللّه.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ} أي لكنهم لظلمهم جحدوا آيات اللّه، فوضع الظاهر - الظالمين - موضع الضمير ليتبيّن سبب جحدهم، فهم ظلموا أنفسهم بالكفر حيث بخسوها حقها - لأن حقها كان الإيمان والجنة - وظلموا غيرهم بمنعهم عن الهداية، وظلموا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعدم الإيمان به.

وقوله: {يَجْحَدُونَ} الجحد هو الإنكار عن علم كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(1)، وبذلك ظلموا أنفسهم وغيرهم، فكان كفرهم عن عناد.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ...} الآية.

حضّ للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يقتدي بهداهم كما قال: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَىٰهُمُ اقْتَدِهْ}(2)، وليس اقتداءً بهم بل اقتداء بهداهم فإن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل منهم ولا وجه لاتّباع الأفضل للمفضول، لكن هداهم هو هدى اللّه، والاقتداء به، وقد مرّ أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان تابعاً لملة إبراهيم (عليه السلام) لا لشخصه.

وقوله: {رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} مرّ في الآية 10 استهزاؤهم برسل من قبله، وفي هذه الآية بيان تكذيبهم بهم، والتكذيب والاستهزاء وإن كانا متلازمين عادة، لكن كل واحد ذكر في مورده المناسب له، وتنكير (رسل) تارة

ص: 79


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة الأنعام، الآية: 90.

وتعريفه أخرى لعلّه لأن في التعريف بيان أن التكذيب والاستهزاء نال جميعهم بلا استثناء، وفي التنكير الدال على الجنس إشعار بأن سبب التكذيب والاستهزاء هو كونهم رسلاً للّه تعالى لا لشيء آخر!

وقوله: {مَا كُذِّبُواْ} «ما» مصدرية أي صبروا على التكذيب.

وقوله: {وَأُوذُواْ} الظاهر أنه عطف على {كُذِّبَتْ} أي كان تكذيباً مصحوباً بالإيذاء، وهذا تعميم بعد تخصيص؛ لأن كل تكذيب يتضمن إيذاءهم، و(الأذى) هو المكروه دون الضرر سواء كان في النفس أو الجسم، وكأن ذكر الأذى لتخفيف وقع التكذيب على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما قال: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}(1).

وقوله: {حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ} غاية للصبر والأذى، فإنه بالنصر يزول سبب الصبر كما أنه ينتهي الأذى عادة بخضوعهم أو استئصالهم.

وقوله: {نَصْرُنَا} عام شامل للنصر في الدنيا بالغلبة على المكذِّبين، وفي الآخرة بعذابهم قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَٰدُ}(2).

وقوله: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ} مثل وعوده قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ}(3)؛ وذلك لأنها حق ولا تبديل للحق إلى الباطل أبداً، قال سبحانه: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ وَلَوْ

ص: 80


1- سورة آل عمران، الآية: 111.
2- سورة غافر، الآية: 51.
3- سورة الصافات، الآية: 171-172.

كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(1)، وقال: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَٰطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ}(2)، ومن هذا تتبيّن أمور:

معنى تبديل الآيات

أولاً: لا نسخ في التلاوة - وهي حذف آيات من القرآن فلا تتلى - لأنه من التبديل الذي نفاه اللّه تعالى، قال سبحانه: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ}(3).

وثانياً: إن نسخ الأحكام ليس من التبديل؛ لأن النسخ هو بيان انتهاء أمد الحكم لا تبديل له، كما لو قلت: (أطعم الضيف مادام في دارك) فإذا خرج لا يجب إطعامه وليس ذلك من تغيير الحكم أصلاً، وقد مرّ الكلام حول النسخ.

ثالثاً: إن البداء ليس من تبديل كلمات اللّه؛ وذلك لأن ما هو مكتوب في لوح المحو والإثبات إنما هو مشروط بشروط، فإذا لم تتحقق الشروط صدر تقدير جديد، وذلك ليس من تبديل التقدير السابق في شيء، بل بيان عدم تحقق شروطه.

وأما قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٖ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(4)، فهو بمعنى نسخ الأحكام ببيان انتهاء أمدها، ولذا كان الناسخ والمنسوخ كلاهما حقّاً، ولذا أتمّ الآية بقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ

ص: 81


1- سورة يونس، الآية: 82.
2- سورة شورى، الآية: 24.
3- سورة الكهف، الآية: 27.
4- سورة النحل، الآية: 101.

لِلْمُسْلِمِينَ}(1).الرابع: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ...} الآية.

بيان لعدم انتفاعهم بالآيات حتى لو أكثر منها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فالعاقل غير المعاند تكفيه آية واحدة، فكيف بمن شاهد آيات متعددة وهو مُصرّ على التكذيب فهذا لا تنفع معه أيّة آية أخرى، ولذلك لم يستجب اللّه تعالى لاقتراحاتهم ليروا آيات أخرى حينما كانت تلك الاقتراحات عن عناد، وعليه فلا يتمكن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هدايتهم - بمعنى إيصالهم إلى المطلوب - لمّا عاندوا، لكن اللّه يتمكن من سلب اختيارهم وإلجائهم إلى الإيمان لكن ليس ذلك من الحكمة فلا يفعله اللّه تعالى مع قدرته عليه، قال سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(2)، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(3).

قال السيد الوالد رضوان اللّه عليه في التقريب: «وهنا نكتة بلاغية لا بأس ببيانها: وهي أن الألفاظ والجمل وضعت للمعاني الخاصة لكنها كثيراً ما تستعمل لإنشاء مفهومها الموضوع له، لكن يراد غير ذلك، كما يستعمل الاستفهام والتعجب بالنسبة إليه سبحانه، مع العلم أنه لا يجهل شيئاً، ولا

ص: 82


1- سورة النحل، الآية: 102.
2- سورة القصص، الآية: 56.
3- سورة يونس، الآية: 99.

يتعجب من شيء، وإنما استعمال الاستفهام والتعجب بداعي التحريض أو الردع أو نحوهما، وهكذا الخطاب الغليظ أو الرقيق لأحد قد يراد به المعنىالموضوع له، وقد يراد به داع ٍ آخر يفرغ في مثل هذا القالب، فإنك إذا أردت تنبيه أحد من جيرانك تغلظ لولدك في الخطاب مع أنك لا تريده بالذات، فمثلاً تقول: (لو أنك ألقيت النفاية بباب الدار لحبستك) فإنك لا تريده، بل تنشئ هذا الكلام بداعي زجر الجار عن القيام بمثل هذا العمل، بل قد يكون عملٌ يستفاد منه شيء - حسب المتعارف - يأتي به الإنسان لغرض آخر، كما لو أردت تأديب ولدك لِما اقترفه من عمل سيّئ فإنك تعمد إلى خادمك وترفسه برجلك - في هدوء - قائلاً: (لماذا فعلت هذا الفعل) وإنك لا تريده إطلاقاً وإنما تريد إفهام ولدك أن هذا العمل له هذا الجزاء. وعلى هذا الوجه جرى الكلام في هذه الآية الكريمة {وَإِن كَانَ كَبُرَ...} إنه سبحانه يريد بيان غلظة قلوب الكفار وعنادهم، لكنه يصوغه في أسلوب خطاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : بأنك لو توسلت بكل الوسائل من الصعود في السماء وجعل النفق في الأرض - مما يتوسل الناس بهما في مآربهم - فإن الكفار لا يؤمنون، كما أن قصة موسى (عليه السلام) : {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}(1) من هذا القبيل أيضاً»(2).

وقوله: {إِعْرَاضُهُمْ} الإعراض هو الانصراف عن الشيء رغبة عنه والمقصود إعراضهم عن آيات اللّه أو عن الإيمان أو عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 83


1- سورة الأعراف، الآية: 150.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 64-65.

وقوله: {تَبْتَغِيَ} من البغي قيل: هو بمعنى شدة طلب الشيء، وقيل: هو الطلب، وأمّا شدته فمستفادة من بنائه على باب الافتعال.

وقوله: {نَفَقًا فِي الْأَرْضِ...} هذا تعبير كنائي يراد به صنع المستحيل للحصول على النتيجة، كما نقول: (اصعد إلى السماء أو انزل إلى الأرض فلا تتمكن من كذا).

وقوله: {فَتَأْتِيَهُم بَِٔايَةٖ} أي بآية يقبلونها فيؤمنوا بها، أما الآيات التي لا توجب إيمانهم فكانت كثيرة وقد شاهدوها لكن لم يؤمنوا بها، وأعظم آية هو القرآن لا شيء أعظم منه، لكنهم لم يؤمنوا به عناداً، فليس من طبيعة المعاجز إكراه الناس على الإيمان.

بين الإرادة التكوينية والتشريعية

وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} أي مشيئة تكوينيّة بإيمانهم، فإن ما شاء اللّه يكون حتماً، فقد أراد اللّه التكوينيات فكانت، وقد أراد التشريع فصدرت الأحكام، لكنه لم يُرد صدور الإيمان عن إلجاء لهم.

وقد مرّ أن التفريق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية بالفرق بين الإرادتين! لا وجه له، بل كل ما أراده اللّه من التكوين أو التشريع يقع حتماً ولا تتخلّف الإرادة عن المراد، لكن متعلّق الإرادة يختلف، فمتعلّق الإرادة التكوينية هو تحقق الشيء خارجاً فيتحقق فوراً، ومتعلَّق الإرادة التشريعية هو صدور الحكم والتشريع فيتحقق أيضاً، وليس متعلقها صدور الفعل عن العبد حتى يقال كيف أراد اللّه الطاعة ولكن أراد العصاة المعصية وقد تحقق ما أراده العصاة!! فهذا كلام غير صحيح من أساسه؛ إذ قد أراد اللّه الطاعة بمعنى صدور الأمر بها لا إرادة فعل الناس. نعم، حينما يريد المؤمن الطاعة

ص: 84

ويريد الفاسق المعصية فحينئذٍ يريد اللّه تحقق ما أراداه، فكل عمل يصدر من الناس يكون صدوره بإرادتهم وبمشيئة اللّه، فيتحقق، فلو لم يريدوه ماكان اللّه ليشاءه، ولو أرادوه ولم يشأه اللّه لم يتحقق، لكن لو أرادوه وشاءه اللّه تحقق، ومشيئة اللّه وإن لم تكن من صنعهم لكن لا يضر ذلك باختيارية العمل؛ لأن إرادتهم من مقدماته، وإذا كان للعمل ألف مقدمة وكانت كلها بغير اختياره إلّا مقدمة واحدة كانت النتيجة اختيارية.

وقوله: {لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ} لكنه لا يشاء ذلك الجمع لئلا يبطل الامتحان فلا حكمة في الإلجاء أبداً.

وقوله: {مِنَ الْجَٰهِلِينَ} الجهل قد يكون مقابل العلم، وقد يكون مقابل الحلم، والظاهر أن الثاني هو المراد هنا، وهو دعوة إلى الحلم، أو هو دعوة إلى معرفة عدم الحكمة في الإلجاء، فالعالم يعرف ذلك والجاهل لا يعرفه.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ...} الآية.

كأنّه تكميل للآية السابقة وبيان سبب عدم إيمانهم بكل آية لو أتيتهم بها وهو أن قلوبهم ميتة، فكما أن الميت لا يستجيب للحي إذا دعاه إلى شيء مع أن الميت يسمع كلام الأحياء، فكذلك هؤلاء لا يستجيبون إذ قلوبهم ميّتة.

وقوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} أي يجيب الدعوة، فيؤمن.

وقوله: {الَّذِينَ يَسْمَعُونَۘ} أي يسمعون سماع تفهم وتعقل، لا مجرد قرع الصوت في آذانهم، قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٖ * يَسْمَعُ ءَايَٰتِ اللَّهِ

ص: 85

تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا}(1)، وقال سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِءَايَٰتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا}(2)، وقال: {وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}(3)، وقال: {أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}(4)، وغيرها آيات كثيرة.

وقوله: {وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} الظاهر أن المراد هنا الميت الحقيقي ولكن المقصود تشبيه هؤلاء الكفار بالأموات.

وقوله: {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} ليحكم بينهم.

وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} للجزاء، فحينئذٍ يسمعون ويُقرّون حيث لا ينفعهم ذلك السمع، وكأن المقصود بيان أن الجميع يذعن لكن إن أذعن في دار الدنيا وأقر نفعه ذلك، وإلّا فسيذعن حين الموت وبعده ولات حين مندم ولا نفع، إلاّ أنه بإقرارهم تطيب قلوب أصحاب الحق.

ص: 86


1- سورة الجاثية، الآية: 7-8.
2- سورة لقمان، الآية: 7.
3- سورة الأعراف، الآية: 100.
4- سورة الأعراف، الآية: 195.

الآيات 37-41

اشارة

{وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 37 وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَٰئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ 38 وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَٰتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ 39 قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ 40 بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ 41}

ثم يدحض اللّه تعالى حجة من حججهم بأنه لماذا لا يستجيب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما يقترحونه من آيات طلبوها عناداً، فقال:

37- {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ} لماذا لا تنزل آيات اقترحوها، قالوا ذلك لعدم اعتنائهم بالآيات التي رأوها عناداً {قُلْ} في جوابهم {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً} أي الآيات التي اقترحوها {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} بأنها لا تنفع المعاندين، فقد رأوا أعظم الآيات فنسبوها إلى السحر ولم يؤمنوا.

38- ثم يذكر اللّه تعالى شاهداً على قدرته في خلق الموجودات الحيّة وأن الكفار أسوء منهم، فقال: {وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ} تتحرّك عليها {وَلَا

ص: 87

طَٰئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وطيرانه بالجناحين من أعظم آيات اللّه التي يشاهدونها {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} في كونها خلقاً مثلكم ولا فرق بينها وبينكمفي أيِّ شيء سوى العقل، لكن لهم نوع شعور وإدراك ولذا يكون أيضاً حساب عليهم بمقداره، {مَّا فَرَّطْنَا} ما قصرنا {فِي الْكِتَٰبِ} التكويني والتشريعي {مِن شَيْءٖ} ففي الكتاب التكويني - وهو اللوح المحفوظ - قدّر اللّه كل ما فيه مصلحة فخلق هذه الأمم، وفي التشريعي - وهو القرآن - ذكر كل ما يوجب الهداية في ظاهره، وكل شيء في باطنه، {ثُمَّ} هذه الأمم {إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} لجزاء الظلم الواقع بينهم.

39- {وَ} لكن المكذبين أضل من هذه الحيوانات؛ إذ {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} التي أنزلناها عليهم تكذيباً عن عناد {صُمٌّ} جمع أصم، أي صم عن الهداية فلا يسمعون الحق {وَبُكْمٌ} جمع أبكم فلا يتكلمون بخير؛ وذلك لأنهم {فِي الظُّلُمَٰتِ} ظلمات الجهل والكفر والعناد وسائر الرذائل؛ وإنما كانوا في الظلمات لأن اللّه خذلهم لمّا أساؤوا ف{مَن يَشَإِ اللَّهُ} إضلالَه {يُضْلِلْهُ} يخذله حتى يضلّ {وَمَن يَشَأْ} اللّهُ هدايتَه لأنه أحسن ولم يعاند {يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}.

40- ثم يبين اللّه عموم قدرته سواء بتنزيل آية أو بغيرها، فقال: {قُلْ} يا رسول اللّه لهؤلاء المكذبين {أَرَءَيْتَكُمْ} أخبروني {إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} في الدنيا، {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} القيامة - بحسابها وعقابها - {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} ليكشف العذاب والعقاب عنكم {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} في شرككم واتخاذ الآلهة وإنكار الآيات؟ والمعنى أنهم ليسوا صادقين في ذلك.

ص: 88

41- {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} بيان لحقيقة يدركونها بفطرتهم {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ} اللّه {إِلَيْهِ} من المكاره {إِن شَاءَ} فهو القادر على الكشف فقديستجيب دعاءكم وقد لا يستجيب {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} لأنكم تعلمون أنها لا تنفعكم.

دحض حجج المشركين

بحوث

الأول: هذه الآيات تتمة لبيان أحوال المشركين ودحض حججهم، فتارة يجادلون في القرآن بأنه أساطير الأولين، وتارة ينكرون البعث من غير برهان، وتارة يكذبون الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتارة أخرى يقترحون الآيات عناداً مع أنهم رأوا الآيات التي كانت كافية لهدايتهم لو أحسنوا ولم يتكبروا عليها، فيقال لهم إن اللّه قادر على كل شيء فهو القادر على خلق مختلف أصناف الأمم من الحيوانات، وهو القادر على كشف البلايا والعذاب وهم قد يشاهدون أصناف الموجودات الحية بأعينهم، وأيضاً يدركون بفطرتهم أن اللّه هو الملجأ حين تنقطع السبل وتنزل البلايا، وذلك دليل على قدرته على تنزيل الآيات التي يقترحونها، لكنه لا يشاء ذلك لعدم المصلحة فيه، فليست المعاجز والآيات ملعبة وإنما لأجل الهداية وهؤلاء لا يريدونها إلاّ ملعبة؛ لأنهم لو شاهدوها لاستمروا في عنادهم ولقالوا إنها سحر فأيّة فائدة في الاستجابة لهم، هل لإثبات صدق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ والآيات السابقة كافية لإثباته وهم يعلمون به حق المعرفة، أو لإثبات قدرة اللّه تعالى؟ وهو ثابت لديهم من غير ريب.

الثاني: قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ...} الآية.

ص: 89

دحض لحجة أخرى من حججهم وهي أنهم كانوا يطلبون المعاجز باستمرار فلما لم يكن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستجيب لهم كانوا يأخذون ذلك ذريعةًفي الطعن والتكذيب، لكن لو كان يستجيب لهم كانوا يقولون إنه سحر ثم يطلبون معجزة أخرى، مضافاً إلى أن بعض طلباتهم لم تكن معقولة لاستحالتها أو لأنها تخالف السنن العامة القائمة على المصلحة، كأن يأتي اللّه إليهم بنفسه! أو أن يشركهم في النبوة! فيأتي الجواب بأن اللّه تعالى قادر على الاستجابة لطلباتهم، لكن عدم الاستجابة ليس لعدم القدرة بل لعدم الحكمة.

وقوله: {نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ} أي غير الآيات التي أنزلت سابقاً، فإنهم لم يكونوا يعترفون بها، بل كانوا ينسبونها إلى السحر، فكأنهم زعموا أنه لم تنزل عليه آية لتشهد على صدقه!

وقوله: {مِّن رَّبِّهِ} كأن في كلامهم استخفاف بالرب تبارك وتعالى، فكأنه ربّه وليس ربهم، ولذا لما دحض حجتهم بدل كلمة (الرب) إلى كلمة {اللَّهَ} لبيان أن ربّه هو اللّه الذي يضطرون إلى الاعتراف بعموم قدرته.

وقوله: {أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون بعدم انتفاع هؤلاء المعاندين بتنزيل تلك الآيات المقترحات، أو لا يعلمون بقدرة اللّه تعالى حيث إن شركهم سبب اختلال موازين الفكر لديهم، فلعلّهم تأثروا بما قالته اليهود {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ}(1).

ص: 90


1- سورة المائدة، الآية: 64.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَٰئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ...} الآية.

كأن هذه الآية للاستدلال على عموم قدرة اللّه تعالى بما يشاهدونه عياناً من عجيب قدرته ولطيف صنعه في خلق الحيوانات المختلفة، فخلقها وحركتها من أعظم الآيات على قدرة اللّه تعالى، ومن قدر على خلقها ودبّر أمرها لا يعجز عن الإتيان بالآيات المختلفة.

وقوله: {دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ} الدابة كل موجود حيّ يدب - أي يتحرك - على الأرض، ولعلّ ذكر {فِي الْأَرْضِ} ليتقابل بالطائر الذي يطير في الهواء فهو تعميم لما في الأرض وما في السماء، فيكون أوقع في الإرشاد إلى عموم قدرته تعالى.

وقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وصف الطائر بهذا الوصف مع أنه من الواضح أنّ الطائر يطير بالجناحين لعلّه لأجل التنبيه على قدرة اللّه تعالى حيث إنه جعل طيران الطائر عبر الجناحين وهما لحم وعظم وريش، ثم لعل عدم ذكر الموجودات البحرية لأجل أنها لا ترى بالعين عادة فلا يرى الإنسان عجائب صنع اللّه تعالى فيها، فلا تناسب المقصود من الآية بإرشادهم إلى التفكر في آيات اللّه في مخلوقاته الحيّة، أو لأن الدواب والطيور يراها كل الناس باستمرار، أما الأسماك فهي خاصة بالمناطق التي تقع على البحار.

وقوله: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} في بديع صنعها ودلالتها على قدرة خالقها، فالحيوانات كالإنسان في كل شيء إلاّ في العقل فقد ميّز اللّه الإنسان به، وليست هي تعقل ولكن مع ذلك فلها شعور وإدراك دون العقل وبذلك صحّ

ص: 91

جزاؤها، ودونك هدهد سليمان ونملته.

وقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ} جملة معترضة لبيان أن اللّهتعالى هيّأ كل شيء لهداية الناس، فهذه الدواب والطيور خلقها للإنسان لينتفع بها ويتعظ بها، فليس عدم الاستجابة لاقتراحاتهم في المعاجز تفريطاً؛ لأنه تعالى لم يفرط في شيء، و{فَرَّطْنَا} من التفريط بمعنى التقصير و{الْكِتَٰبِ} أعم من الكتاب التكويني والتشريعي، فهذه الحيوانات خلقت للإنسان قال تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(1)، وقال: {وَالْأَنْعَٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ}(2)، وهذا الكتاب التكويني هو اللوح المحفوظ التي كتب اللّه تعالى فيه جميع ما قدّره، كما أنه تعالى في القرآن ذكر كل شيء، ففي ظاهره كل ما ينفع في هداية الناس، وفي باطنه كل الأمور من رطب ويابس، لكن خص علم الباطن بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصيائه(عليهم السلام).

بعث الحيوانات بعد موتها

وقوله: {إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} بيان لبعثها بعد موتها؛ وذلك لأن إدراكها وشعورها - مع إلهامها بطلان ظلم بعضها بعضاً - وإن لم يكن يجعلها مكلّفة، إلاّ أنه يمنعها عن الظلم، فإن خالفت كان لا بد من الانتصاف للمظلوم منها، وفي الحديث «إن اللّه ينتصف للجماء من القرناء»(3)، كما أنه بعد الانتصاف ينتهى أمرها فيحوّلها اللّه تعالى إلى تراب؛ لأنها لا تستحق ثواباً لعدم عمل منها يقتضي ذلك، ولا عقاباً لعدم تكليفها بشيء، سوى الانتصاف من الظالم

ص: 92


1- سورة البقرة، الآية: 29.
2- سورة النحل، الآية: 5.
3- الكافي 2: 443.

للمظلوم وهذا يتحقق في حشرها فلم يَعُد من الحكمة إبقائها، إلاّ المعدود منها حيث وردت روايات أنها تكون من نِعَم الجنة.

الرابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ...} الآية.

كأنه بيان لعدم نفع إنزال آيات أخرى عليهم، وأيضاً بيان أنهم أسوء من الأنعام؛ لأنهم في ظلمات الجهل والضلال وصار ذلك سبباً لعدم سماعهم الحق وعدم نطقهم به.

وقوله: {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} عام يشمل جميع الآيات، ومن الآيات: الأوصياء(عليهم السلام)، فقد كذبوهم مع ظهور حجتهم وبرهانهم.

وقوله: {فِي الظُّلُمَٰتِ} لعلّه لم يذكر (العُمي) لأن وجودهم في الظلمات يغني عنه، فالذي في الظلمات لا يرى حتى لو كان ذا بصر، ولم يعطف الظلمات على الصم والبكم؛ لأنها سببهما، فكأنه قال هؤلاء في الظلمات لذلك صاروا صماً بكماً.

وقوله: {مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} أي هؤلاء إنما ضلوا لأن اللّه شاء ضلالهم وأولئك إنما اهتدوا لأنه شاء هدايتهم، ولكن مشيئته تعالى ليست اعتباطاً بل بحكمة، فمن عاند ختم اللّه على قلبه فخذله فيضل، ومن استجاب للّه وللرسول هداه اللّه وزاده هدى. وقد مرّ كراراً حديث إضلاله وهدايته فليس هناك جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين.

الخامس: قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ...} الآية.

هذا استدلال فطري على قدرة اللّه تعالى كما أن ما سبق كان استدلالاً

ص: 93

عقلياً فطرياً، وحاصل هذا البرهان هو أنهم بفطرتهم وحين البلايا الشديدة يعلمون بأنه لا أحد يقدر على نجاتهم سوى اللّه تعالى، وعليه فهم يدركونبفطرتهم قدرته تعالى على الإتيان بالآية.

وقوله: {أَرَءَيْتَكُمْ} استفهام تقريري، والمعنى أخبروني حين أسألكم.

وقوله: {عَذَابُ اللَّهِ...} المراد به العذاب الدنيوي بقرينة المقابلة بالساعة، أي حين انقطاع كل الأسباب بحيث تعلمون بأنه لا منجي لكم ولا سبب يساعدكم، فحينئذٍ تظهر الفطرة من ركام الجهل والعادات والتقليد، فإن الفطرة وإن أمكن التغطية عليها إلاّ أنه لا يمكن إزالتها قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(1)، ولعل القصد في الآية هو تذكيرهم بهذه الفطرة، وحينئذٍ لا معنى للإشكال بأن هؤلاء لا يعترفون بالساعة فكيف يقال لهم: إنكم في الساعة لا تدعون غير اللّه تعالى؟! وذلك لأن الكلام في واقعه جملة شرطية ولا يعتبر في صدق الجملة الشرطية تحقق طرفيها أو العلم بالتحقق، فهنا يقال لهم إن قامت الساعة وصرتم في أهوالها فمن الذي ينجيكم؟! هل هناك غير اللّه تعالى؟!

وقوله: {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} هذا راجع إلى قوله: {أَرَءَيْتَكُمْ} أي أجيبوني الجواب الحق؛ إذ يمكن أن يكابروا فيكذبوا فيقولوا بل ندعو الأصنام مثلاً، وفي هذا نوع تبكيت لهم بحيث يتلعثم مَن أراد أن يكذب.

السادس: قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ...} الآية.

ص: 94


1- سورة الروم، الآية: 30.

بيان للجواب؛ إذ قد يكذبون أو يسكتون حينما لا يريدون الاعتراف بالحق فيقال لهم: إنكم في الحالتين - العذاب الدنيوي والساعة - تدعون اللّهوحده لا شريك له وتنسون شرككم.

وقوله: {إِيَّاهُ تَدْعُونَ} تقديم إياه للدلالة على الحصر مثل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(1).

وقوله: {إِن شَاءَ} أي لا يوجد وعد بالكشف بل هو مرتبط بمشيئة اللّه سبحانه وتعالى، فأما في العذاب الدنيوي فقد تكون المصلحة في نجاتهم فيستجيب اللّه دعاءهم كقوم يونس حيث كشف اللّه عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، وقد لا تكون المصلحة في الاستجابة لفوات وقتها فينزل عليهم العذاب فيستأصلهم.

وأما في العذاب الأخروي فلا كشف لعذابهم أصلاً كما قال: {قَالُواْ أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَٰتِ قَالُواْ بَلَىٰ قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَٰؤُاْ الْكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٍ}(2)،

وإنما علّق كشف العذاب حينئذٍ على المشيئة لبيان أن قضاء الحتم ليس بمعنى عدم قدرته سبحانه، بل لو شاء لغيّر القضاء الحتم، لكنه لا يفعل ذلك لعدم الحكمة فيه، ولذا صحّ تعليق كل الأمور المحتومة المعلومة الوقوع على مشيئة اللّه تعالى كقوله: {خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}(3)، مع أن خلود أهل الجنة فيها وخلود

ص: 95


1- سورة الحمد، الآية: 5.
2- سورة غافر، الآية: 50.
3- سورة هود، الآية: 107-108.

أهل النار فيها من المحتوم الذي لا خلف فيه، وكقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}(1)، مع أن اللّه قضى قضاءً حتماً بعصمته وعدم نسيانهللآيات، والحاصل أن التقدير والقضاء لا يُحدِّدان قدرة اللّه تعالى حتى في القضاء المحتوم.

وقوله: {وَتَنسَوْنَ} بمعنى الترك، أي في تلك الحالة تتركون الشركاء، بل وأكثر من ذلك تتبّرؤون منهم وتلعنونهم فإنه في القيامة يشاهدون الشركاء ويُقرِّون بعدم نفعهم لهم.

ص: 96


1- سورة الأعلى، الآية: 6-7.

الآيات 42-45

اشارة

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٖ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ 42 فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 43 فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ 44 فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ 45}

ثم يحذّر اللّه تعالى هؤلاء المشركين، فقال:

42- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} رسلاً {إِلَىٰ أُمَمٖ مِّن قَبْلِكَ} فكذبوهم {فَأَخَذْنَٰهُم بِالْبَأْسَاءِ} ما يوجب البؤس كالفقر {وَالضَّرَّاءِ} ما يوجب الضرر كنقصان الأنفس والأموال {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} يتخشعون إلى اللّه تعالى بالإقبال عليه وتصديق الرسل؛ وذلك لأن المبتلى أقرب إلى القبول والطاعة.

43- لكنهم لم يتضرعوا واستمروا في العناد، {فَلَوْلَا} للتوبيخ {إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا} عذابنا بالبأساء والضراء {تَضَرَّعُواْ} إلى اللّه، وفي ذلك دلالة على عدم وجود عذر لهم على ترك التضرع مع وجود المقتضي له! ثم بين اللّه سبب عدم تضرعهم بعامل داخلي وخارجي {وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} عن قبول الحق {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فرأوا أعمالهم حسنة فلم يتوبوا عنها.

ص: 97

44- {فَلَمَّا نَسُواْ} تركوا {مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} تذكير الرسل لهم، عند ذاك{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ} من النعم، كناية عن التوسعة عليهم في كل نعمة وذلك ليشكروا اللّه عليها فيؤمنوا {حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} فلم يتوبوا ولم يشكروا {أَخَذْنَٰهُم} بإنزال العذاب عليهم {بَغْتَةً} فجأة من غير مقدمات {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} يائسون من رحمة اللّه؛ إذ قد انتهت مهلتهم فلا توبة لهم.

45- {فَقُطِعَ} عبر الأخذ بالعذاب {دَابِرُ} أثر {الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} وهذا بيان سبب إهلاكهم وهو ظلمهم، {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ} فهو لم يظلمهم ولذا كان محموداً في صنعه بهم.

مصير الأمم المكذبة

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه تعالى الدلائل والحجج، يبيّن سبحانه مصير الأمم التي كذبت الرسل، وفي ذلك تهديد لهؤلاء بأن مصيرهم سيكون كمصير أولئك إن استمروا في التكذيب، فالآيات 34-41 تسلية للرسول، وهذه الآيات تهديد للمشركين، مع بيان أن اللّه تعالى للطفه بالعباد يمهلهم فلا يأخذهم بالعذاب بسرعة وإنما يضيّق على المكذبين ليتعظوا فيستغفروا، فإن لم ينفعهم ذلك يوّسع عليهم ليشكروا، وبذلك يهدي اللّه من كان قابلاً للّهداية، ويتمّ الحجة على من رفض الهداية بسوء اختياره، وبعد ذلك تنتهي المهلة فيأتيهم العذاب بغتة حيث لا ينفع الندم والتوبة، وليس ذلك بظلم منه سبحانه فهو المحمود في أفعاله، بل بظلمهم أنفسهم حيث بخسوها حقها من الإيمان.

ص: 98

الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٖ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُم...} الآية.بيان أن حال هؤلاء كحال أولئك الأمم، فإن الطبيعة البشرية واحدة وسنة اللّه أيضاً واحدة، فكما كان هناك معاندون في الأمم السابقة كذلك هناك معاندون في قوم رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكما كانت سنة اللّه في عدم قطع اللطف عنهم فوراً، بل وعظهم بالصعوبات تارة وبالنعم تارة أخرى لعلّهم يهتدون، كذلك كانت سنته تعالى في قوم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال تعالى: {وَبَلَوْنَٰهُم بِالْحَسَنَٰتِ وَالسَّئَِّاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(1).

وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} لم يذكر الرسل واكتفى بالتقدير لعلّه لأن محور الكلام في هذه الآيات الأمم وما يجري عليهم، وليس الرسل وصبرهم، فقد ذكر حال الرسل في الآيات 35 فما بعد.

وقوله: {مِّن قَبْلِكَ} متعلق ب{أَرْسَلْنَا} أي أرسلنا من قبلك إلى الأمم.

وقوله: {فَأَخَذْنَٰهُم} أي فلم يؤمنوا فأخذناهم، و(الأخذ) بمعنى العقاب، فبلاياهم لم تكن إلّا عقوبة لهم، لا كالمصائب التي يبتلى بها المؤمنون حيث إنها للتمحيص أو التمييز أو رفع الدرجات ونحوه.

وقوله: {بِالْبَأْسَاءِ} من البؤس الذي هو سوء الحالة النفسية بسبب الشدة في العيش كالفقر، وليست من البأس الذي هو الشدة في الحرب وغيره.

وقوله: {وَالضَّرَّاءِ} ما يوجب الضرر وهو النقص في النفس أو المال ونحوهما، فالبأساء عدم النفع والضراء وقوع الضرر، كما أن البأساء في النفس والضراء في البدن والمال ونحوهما.

ص: 99


1- سورة الأعراف، الآية: 168.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} بيان أن هذه العقوبة ليست لمجرد العقوبة،بل هي للتنبيه وذلك ليؤمنوا باللّه ويتخشعوا له بالطاعة وترك المعصية، كالأب الشفيق الذي يعاقب ولده على خطئه تأديباً له، وفي قوله: {لَعَلَّهُمْ} بيان أن المقتضي للتضرع موجود، فإن الأخذ بالبأساء والضراء سبب للتنبيه لولا الموانع، وهذا من لطف اللّه بهم حيث هيّأ أسباب الإيمان حتى في حالة أخذهم بالذنوب.

الثالث: قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن...} الآية.

تقريع وتوبيخ لهم بأن مقتضي التضرع كان موجوداً لكنهم أوجدوا المانع فلم يؤثر المقتضي أثره، والمانع أمران:

أحدهما: قساوة قلوبهم بحيث لم تنفذ المواعظ والعِبر إليها، حيث لم يتفكروا ولم يتدبروا وركنوا إلى باطلهم، فقساوتها بسوء اختيارهم، وهذا عامل داخلي.

والآخر: تزيين الشيطان أعمالهم لهم، لذلك رأوها حسنة، وهذا عامل خارجي.

وقوله: {فَلَوْلَا} لولا إذا دخلت على الماضي أفادت التقريع والذم، وإذا دخلت على المستقبل أفادت الحث والتحريض، وجيء ب(لولا) هنا للدلالة على عدم العذر لهم في ترك التضرع إلاّ العناد حيث قلوبهم قاسية والشيطان مزيّن لهم أعمالهم.

وقوله: {بَأْسُنَا} أي كان ما جرى من تشديد اللّه عليهم، والبأس هو الشدة في الحرب وغيره.

ص: 100

والحاصل إنهم كانوا معاندين لم تنفعهم الآيات ولا التشديد عليهم،كقوم فرعون، قال تعالى: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٖ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَٰمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}(1).

الرابع: قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ...} الآية.

أي لمّا لم ينفعهم الأخذ بالبلايا، فعند ذاك لطف اللّه تعالى بهم بطريقة أخرى وهي الرخاء، وذلك أيضاً مما يوجب التنبّه والشكر، لولا الاستكبار الذي يمنع عن تأثيره.

وقوله: {نَسُواْ} أي تركوا لأن التارك كالناسي ولذا كثر التعبير عن الترك بالنسيان.

وقوله: {مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي ما ذكرّهم الرسل به، وهو إما تذكيرهم بما في فطرتهم من التوحيد ووجوب طاعة اللّه تعالى، وإما تذكيرهم بأن البأساء والضراء هي بسبب أعمالهم، والأول أنسب للسياق.

وقوله: {فَتَحْنَا} كأنّ النعم في خزائن مغلقة، وإنزالها عليهم فتح لتلك الخزائن، وذلك لأجل أن يشكروا، قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا

ص: 101


1- سورة الأعراف، الآية: 132-135.

خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعْلُومٖ}(1).

وقوله: {أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ} أي كل نعمة، وهذا كناية عن التوسعة وإغداق النعم عليهم بحيث غمرهم بها.

وقوله: {فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} المقصود أنهم لم يشكروا النعمة، بل ركنوا إليها واشتغلوا بها، قال تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(2)، وقال: {ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ}(3).

وقوله: {أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً} إنما كان بغتة مع أنه تعالى أمهلهم مدة طويلة لأجل أنهم لم يكونوا يتوقعونها ولم يتهيأوا لها، ولذا تأتي القيامة بغتة مع بُعد أجلها.

وقوله: {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} بيان أن هذا الأخذ لا كاشف له وليس كأخذهم بالبأساء والضراء حيث كشفها عنهم؛ وذلك لأن مهلتهم قد انتهت فلا حكمة لإمهالهم بعد ذلك بعد فقدانهم لقابلية الهداية ورفضهم لكل لطف من اللّه بإيجاد الموانع عنه، و(الإبلاس) شدة اليأس.

الخامس: قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}.

بيان أن عذابهم إنما كان لظلمهم، وليس اللّه قد ظلمهم بل ما صنعه بهم مطابق للحكمة ولذا استوجب حمداً للّه تعالى، كما يكال الثناء للحاكم

ص: 102


1- سورة الحجر، الآية: 21.
2- سورة الرعد، الآية: 26.
3- سورة غافر، الآية: 75.

العادل حينما يعاقب المجرم على جريمته.

وقوله: {فَقُطِعَ} أي استؤصل بحيث إن العذاب لما نزل بهم أبيدواجميعاً ولم يبق لهم نسل على وجه الأرض.

وقوله: {دَابِرُ} أصله من الدبر بمعنى العقب والخلف، فالمعنى أهلكوا عن آخرهم ولم يبق لهم أثر من ذرية.

وقوله: {الَّذِينَ ظَلَمُواْ} وضع الظاهر مكان المضمر لأجل بيان أن سبب إهلاكهم هو ظلمهم.

وقوله: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ} حمد اللّه نفسه على فعله، وفيه إشعار بأنه لا بد من حمد اللّه تعالى على استئصالهم فتلك نعمة توجب حمداً.

وقوله: {رَبِّ الْعَٰلَمِينَ} في تدبيره لأمرهم حيث هيّأ لهم كل طريق للّهداية ثم لما عاندوا أبادهم وذلك من حسن تدبيره تعالى حيث لم تكن مصلحة في بقائهم.

ثم إن هذه الآيات وإن نزلت في شأن الأمم السابقة، إلاّ أن المقصود منها وعظ الناس عامة بأن ذلك من سنة اللّه تعالى في الذين خلوا، فلذا تجري في اللاحقين أيضاً فلو صنعوا مثل صنيع أولئك عاقبهم اللّه بمثل ما عاقبهم وأبادهم مثل ما أبادهم، وقد ورد في عدة روايات تطبيق الآية - مصداقاً أو تأويلاً - في طغاة هذه الأمة، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «أما قوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} يعني فلمّا تركوا ولاية علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أمروا بها، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ} يعني دولتهم في الدنيا وما بسط لهم فيها، وأما قوله: {حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم

ص: 103

مُّبْلِسُونَ} يعني بذلك قيام القائم (عليه السلام) حتى كأنّهم لم يكن لهم سلطان قط،فذلك قوله: {بَغْتَةً} فنزلت بخبره هذه الآية على محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(1).

ص: 104


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 554؛ عن تفسير القمي 1: 200؛ وقريب منه ما في بصائر الدرجات: 78؛ ودلائل الإمامة 1: 468؛ وتفسير العياشي 1: 359.

الآيات 46-49

اشارة

{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَٰرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ 46 قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّٰلِمُونَ 47 وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 48 وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ 49}

ثم يستدل اللّه تعالى على بطلان الشركاء بعدم قدرتهم مع قدرته تعالى، فقال:

46- {قُلْ} يا رسول اللّه {أَرَءَيْتُمْ} أخبروني {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ} أزاله عنكم فكأنّه أخذه {سَمْعَكُمْ وَأَبْصَٰرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم} بحيث لا تفقهون شيئاً {مَّنْ} استفهام إنكارى، أي لا يوجد {إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} أي بما أخذه اللّه من السمع والبصر والفهم، فهؤلاء يعترفون بعجز أصنامهم وسائر الشركاء عن ذلك، فما الذي جعلها آلهة؟ {انظُرْ} للتعجيب، أي تعجّب منهم {كَيْفَ نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ} نبيّنها بطرق مختلفة لإفهامهم {ثُمَّ هُمْ} هؤلاء الكفار {يَصْدِفُونَ} يُعرضون عنها.

47- وحيث ثبت عجز شركائكم فاعلموا أنه لا منجى من عذاب اللّه

ص: 105

ف{قُلْ} لهم {أَرَءَيْتَكُمْ} أخبروني {إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} بعد عنادكم وتكذيبكم {بَغْتَةً} فجأة وهو ما يكون من دون أمارة سابقة فيكون مخفيّاًكعذاب قوم لوط {أَوْ جَهْرَةً} علانية بأن تسبقه أمارة واضحة كعذاب ثمود {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّٰلِمُونَ} فإن اللّه ينجّي المؤمنين منه بإخراجهم من منطقة العذاب، والاستفهام تقريري يراد به تنبيههم وإيقاظهم.

48- وحيث إن اللّه هو الإله لا شريك له وهو القادر على كل شيء ولا أحد يمكنه معارضته فرسله أيضاً لا يتمكنون من إنزال العذاب أو كشفه، بل مهمتهم التبليغ {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ} بالخبر السار بالثواب {وَمُنذِرِينَ} بالتحذير من العقاب {فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ} عملَه {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من عذاب اللّه {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على فوات ثوابه، بل وعدهم اللّه به فينالونه.

49- {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَمَسُّهُمُ} يصل إليهم {الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} يخرجون عن الطاعة، فالعذاب سببه فسقهم وليس اللّه بظلام للعبيد.

الاستدلال على عدم الشركاء بعجزهم

بحوث

الأول: كأنّ هذه الآيات في سياق نفي الشركاء عبر الاستدلال بعجزهم، فيقال للمشركين كيف تتخذونهم آلهة وهم عاجزون عن دفع الضرر عنكم، ولا قدرة لهم أمام قدرة اللّه تعالى، فإن قالوا بأن اللّه أعطاهم القدرة فذلك يلازم عبوديتهم وربوبيتهم؛ لأن اللّه أعطى القدرة لكل موجود حيّ مختار لكن ضمن حدود معينة حسب حكمته ولم يستلزم ذلك ألوهية كل قادر على شيء، فحتى الأنبياء في معاجزهم إنما تمكنوا منها؛ لأن اللّه

ص: 106

منحهم القدرة عليها أو أجراها على أيديهم فلذا كانوا عبيداً للّه سبحانه، كما أنه ليس من وظيفة الأنبياء اهتداء الناس ولا تعذيبهم، وإنما وظيفتهم هيالتبليغ الذي يكون بالتبشير والإنذار، وأما ما يترتب على ذلك فهو فعل الناس بالإيمان أو الكفر، قال تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(1)، ثم الجزاء هو صنع اللّه تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ...} الآية.

سؤال لتبكيتهم وأخذ الإقرار منهم بعجز الشركاء.

وقوله: {أَخَذَ اللَّهُ} الأخذ كناية عن الإزالة؛ لأنها نِعَم اللّه تعالى أعطاها إياهم وهو قادر على سلبها منهم فكأنه استرجعها منهم.

وقوله: {سَمْعَكُمْ وَأَبْصَٰرَكُمْ} السمع والبصر يطلقان على العين والأذن وعلى القوة السامعة والباصرة، وكأنّ المراد هنا بالسمع القوة لذا ذكرها مفردةً، وبالأبصار العين لذا جمعها؛ وذلك لأن المراد عدم إدراكهم للمسموعات والمبصرات وهو في السمع لا يرتبط بالأذن ظاهراً فيمكن صلم الأذن وبقاء السامعة ويمكن وجود الأذن وعدم وجود القوة السامعة، بعكس العين؛ إذ لو فُقئت لزالت القوة الباصرة حتماً، واللّه العالم.

وقوله: {وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم} بإزالة الإدراك والفهم أو العقل.

وقوله: {يَأْتِيكُم بِهِ} الضمير يرجع إلى المأخوذ، أي من يُرجع لكم هذا المأخوذ من السمع والأبصار والقلوب؟

وقوله: {انظُرْ} توجيه الكلام عنهم إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذلك للتعجيب

ص: 107


1- سورة الكهف، الآية: 29.

من فعلهم بعدم تعقل هذه الآية، أو كأنّه قيل: قد أخذها اللّه منكم فلا تعقلون ما أقول لكم ولا تسمعونه ولا ترون آياته فلذا غيّر الخطاب منهمإلى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ} التصريف هو تقليب الشيء وتبديله، والمراد هنا هو بيان الدلائل بمختلف الوجوه الممكنة ليعقلوها لكنهم لا يعقلون بسوء اختيارهم.

وقوله: {يَصْدِفُونَ} أي يعرضون عن الآيات، وأصل الصدف هو الميل عن الشيء كما قيل.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً...} الآية.

كأنّه تكميل للاستدلال في الآية السابقة، فحيث ثبت عجز شركائكم عن دفع الضرر عنكم فكيف يتمكنون من دفع عذاب اللّه إذا جاءكم؟!

وقوله: {بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} أي فجأة من دون علائم، أو جهرة علناً مع علائم سابقة، وكأنه إشارة إلى أنواع عذاب الأمم السابقة المكذِّبة، فبعضهم جاءهم عذاب الخزي من دون علامة سابقة كقوم لوط حيث استأصلهم وهم نيام، وبعضهم جاءهم العذاب علانية بحيث رأوه كثمود حيث نظروا إلى العذاب، وكقوم نوح حيث شاهدوا الفيضان وكان يمكن لابن نوح الإيمان حينئذٍ وكان ينفعه كما نفع قوم يونس لكنه تمادى في غيّه فأخذه العذاب مع سائر المغرَقين.

وقوله: {هَلْ يُهْلَكُ...} بيان أن هكذا عذاب لا يصيب المؤمنين، بل

ص: 108

ينجيهم اللّه تعالى ثم يصبّ العذاب على الظالمين صبّاً، قال سبحانه: {وَلَمَّاجَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ}(1)، وقال: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}(2)، وقال: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِ بَِٔيسِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}(3).

وأما الفتنة التي تعم الجميع في قوله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}(4) فهي المصائب والبلايا الطبيعية التي تعمّ الجميع من غير تمييز كما لو خرق بعضهم السفينة غرقت بكل من فيها حتى لو لم يكن لهم ذنب، فالغرق ليس عذاباً، بل نتيجة طبيعية لسبب طبيعي.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ...} الآية.

كأنّه بيان أن رسل اللّه تعالى لا يقدرون على شيء من غير إذنه ولا يملكون صَرف العذاب ولا يتمكنون على اهتداء الناس، بل مهمتهم هي التبليغ، وأما الثواب والعقاب فهو صنع اللّه سبحانه وتعالى، فهنا مراحل ثلاث:

1- إرسال الرسل، ووظيفتهم التبليغ بالتبشير والإنذار دون أن تكون من وظيفتهم اهتداء الناس.

2- عمل الناس، وهو وجوب الاستجابة للرسل من غير إكراه، فكل أحد

ص: 109


1- سورة هود، الآية: 58.
2- سورة يونس، الآية: 102-103.
3- سورة الأعراف، الآية: 165.
4- سورة الأنفال، الآية: 25.

مخيّر بين القبول أو الرفض.

3- صنع اللّه تعالى، وهو إثابة من آمن وأصلح وعقاب من كذّب.

و(البشارة) هي الخبر بما فيه المسرّة وقد تستعمل للعذاب تهكّماً، و(الإنذار) هو التحذير عمّا فيه المضرّة، و(الإيمان) في القلب، و(الإصلاح) في النية والعمل، و(الخوف) من مكروه مستقبلي هو العذاب، و(الحزن) من فوات شيء وغالب استعماله على فوت شيء في الماضي، والمراد هنا الحزن على عدم الثواب، وقد مرّ الكلام في هذه المفردات سابقاً، فراجع.

وفي تقريب القرآن: «وأما في الدنيا فلأن الخوف والحزن الحقيقيين ما كانا مع الانقطاع عن العِوض والثواب وما أشبهها، وليس المؤمن كذلك، فإنه يعلم أن ما يصيبه يعقبه الثواب والأجر، ولذا قال الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء: هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين اللّه»(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}.

مسّ العذاب إصابته، قيل: كأنه فرض أن العذاب حيّ لذلك عبرّ عنه بأنه يمسّهم، وفي الكشاف: «جعل العذاب ماسّاً، كأنه حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام»(2)، بل قد يقال: إن للنار حياة وإدراكاً وشعوراً فخطابها خطاب حقيقي، وتنفيذها لأمر اللّه إطاعة له وليس مجرد مجاز لأمر تكويني، واللّه العالم.

ص: 110


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 73.
2- الكشاف 2: 25.

الآيات 50-55

اشارة

{قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ 50 وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 51 وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوٰةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّٰلِمِينَ 52 وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٖ لِّيَقُولُواْ أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّٰكِرِينَ 53 وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَِٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءَا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 54 وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ 55}

ثم ينقض اللّه حججهم المانعة عن إيمانهم ويؤكّد على أن رسوله محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كسائر الأنبياء في كون مهمته التبليغ فليس إلهاً ولا ملكاً، فقال:

50- {قُل} لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك الآيات: بأني لست إلهاً ف{لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ} أي مقدوراته {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} بنفسي إلاّ بالمقدار الذي يُقدرني ربّي ويعلّمني، {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ

ص: 111

إِنِّي مَلَكٌ} حتى تنكرون مني الأعمال البشرية كأكل الطعام ونحوه، والحاصل إني لم أدّعِ الألوهية حتى تطلبون مني الآيات التي هي بقدرة اللّه تعالى، كما أني لم أدّعِ بأني مَلَك حتى تنقضون كلامي بأن أعمالي بشرية، {إِنْ} نافية، أي لا{أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ} فهذا هو الذي ادّعيته من النبوة وقد أقمت عليه الأدلة فعليكم اتّباعي، ف{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ} الذي لا يعلم {وَالْبَصِيرُ} الذي يعلم؟ كلا لا يستوون، بل لا بد من أن يتبّع الجاهل العالم، فعليكم باتّباع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأن اللّه أوحى إليه فهو يعلم وأنتم لا تعلمون {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} لتهتدوا إلى الدين ولتعلموا أن ما طلبتموه لا يرتبط بمقام النبوة.

51- وحيث علمت بأن هؤلاء معاندون فلا تيأس من التبليغ؛ إذ هناك ناس غير معاندين {وَأَنذِرْ بِهِ} بما أوحي إليك من القرآن {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ} أي يخافون من البعث يوم القيامة فهم يعلمون به أو يحتملونه، وهذا الخوف يصير سبباً لقبولهم الهداية، فيخافون والحال أنه {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ} دون اللّه {وَلِيٌّ} يلي أمرهم، {وَلَا شَفِيعٌ} يشفع لهم، وإنما تنذرهم {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.

52- ومن موانع إيمانهم استكبارهم على ضَعَفَة المؤمنين {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} يعبدونه وينادونه {بِالْغَدَوٰةِ} طرف الصباح {وَالْعَشِيِّ} طرف العصر كناية عن دوام ذلك {يُرِيدُونَ} بذلك الدعاء {وَجْهَهُ} وجه اللّه تعالى، أي مخلصين له في العبادة {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ} فليس حسابهم عليك حتى تجازيهم بالطرد {وَمَا مِنْ

ص: 112

حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ} حتي تخشى منهم فتدفع ضررهم بالطرد {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ} بطردهم {مِنَ الظَّٰلِمِينَ} لهم ولنفسك.

53- ثم يبين اللّه تعالى أن اختلاف الناس بالغنى والقوة والفقر والضعف إنما هو امتحان إلهي لا بد أن يقبلوه لا أن يستكبروا {وَكَذَٰلِكَ} كاختلافهؤلاء المؤمنين الضعفة والكفار المستكبرين {فَتَنَّا} امتحنّا {بَعْضَهُم بِبَعْضٖ} وعاقبة هذا الامتحان هو سقوط البعض ونجاح آخرين {لِّيَقُولُواْ} اللام للعاقبة، أي عاقبة المستكبرين أنهم يقولون {أَهَٰؤُلَاءِ} الضعفاء والاستفهام إنكاري للاستهزاء {مَنَّ} أنعم {اللَّهُ عَلَيْهِم} بالهداية {مِّن بَيْنِنَا}؟! قل في جوابهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ} استفهام تقريري {بِأَعْلَمَ بِالشَّٰكِرِينَ} فهؤلاء لأنهم شكروا نعمة اللّه ببعث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيهم وفّقهم اللّه تعالى للّهداية وأما المستكبرون فلم يشكروا فأضلّهم اللّه سبحانه.

54- وبعد أن ذكر اللّه خوف الذين يخافون أن يحشروا أراد بشارتهم ليجتمع الخوف والرجاء فيهم قال: {وَإِذَا جَاءَكَ} يا رسول اللّه {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَِٔايَٰتِنَا} القرآن وسائر الآيات {فَقُلْ} إكراماً لهم وتبجيلاً {سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ} أنتم في سلامة {كَتَبَ رَبُّكُمْ} أوجب بحسب حكمته {عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فالرحمة هي الأصل عنده فيرحم كلّما كان للرحمة مجال في الحكمة، ومن مصاديق رحمته {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءَا} ذنباً يسوء به {بِجَهَٰلَةٖ} أي سفاهة ناشئة عن الجهل {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} بعد عمل السوء {وَأَصْلَحَ} نفسه وما أفسده من عمله {فَأَنَّهُ} فربكم {غَفُورٌ} يستر السوء {رَّحِيمٌ} يتعامل معكم بالفضل.

ص: 113

55- {وَكَذَٰلِكَ} كما بينا الدلائل على التوحيد والنبوة وغيرهما {نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ} نوضّحها ونرفع الإبهام والإجمال، وإنّما نفصل لأجل الهداية {وَلِتَسْتَبِينَ} ليتّضح {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} عن سبيل المؤمنين فيظهر من عاند ومن شكر.

دحض حجج المشركين لإنكار النبوة

بحوث

الأول: كأن هذه الآيات لدحض ثلاث حجج من حجج المشركين في إنكارهم نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

منها: أنّه كيف يكون رسولاً مع عدم تمكنه من الإتيان بالآيات المقترحة وعدم علمه بالغيب؟!

ومنها: أنّه لماذا له حالات بشرية كأكل الطعام والمشي في الأسواق؟!

ومنها: أن اتباعه الفقراء والمستضعفون ولو كان نبياً ودينه الحق ما سبقونا إليه!

والجواب عن الأول والثاني: هو أن رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذلك سائر الأنبياء لم يكن ادّعاؤهم أنهم آلهة حتى يستنكر عليهم عدم امتلاكهم صفات الإله - من القدرة على كل شيء والعلم بكل شيء بالذات - ، بل ادعاؤهم أن اللّه قد أرسلهم وعلّمهم العقائد والأحكام وغير ذلك ومن الواضح أنه لا بد من اتّباع الجاهل للعالم.

وعن الثالث: أن المقياس عند اللّه تعالى ليست القوة والمال والشرف الظاهري، بل المقياس هو شكره تعالى - عبر الإيمان والعمل الصالح - وليس الرسول مكلّفاً بمحاسبتهم حتى يجازيهم بالطرد مثلاً، فيكون طردهم من

ص: 114

الظلم، وقد تنزه رسل اللّه عن ذلك.

الثاني: قوله تعالى: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ...} الآية.

أي لست إلهاً لأقدر على كل شيء ولأعلم كل شيء، كما أني لست من الملائكة حتى لا تعرضني الحالات البشرية؛ إذ ليس الرسول إلاّ بشراً وإنكان له شيء فإنما هو من اللّه تعالى، فإن قدر على معجزة فإنما لأن اللّه أعطاها إياه، وإن أخبر عن شيء من الغيب فلأنّ اللّه أخبره به قال: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}(1).

وقوله: {لَّا أَقُولُ لَكُمْ} أي ليس من ادّعائي ذلك حتى تطالبوني بالدليل عليه.

وقوله: {خَزَائِنُ اللَّهِ} كناية عن مقدورات اللّه تعالى من خلق ورزق وغير ذلك، وفي الحديث: «إنما خزائني إذا أردت شيئاً أن أقول له كن فيكون»(2)، فلذا لا تنفذ خزائنه ولا ينقص منها شيء وذلك لأن قدرته لا حدود لها.

وقوله: {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أي ما غاب عن الحواس ولم يكن في حيطة المدارك الجسمانية ولا العقلية، فلا طريق للإنسان إليها لأنه محدود، فلا يعلم الغيب إلاّ المحيط بكل شيء وهو اللّه سبحانه وتعالى، وأما غيره فلا إحاطة له بها بذاته. نعم، يمكن أن يعلمها لكن بتعليم من اللّه تعالى، قال تعالى: {عَٰلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن

ص: 115


1- سورة يوسف، الآية: 102؛ سورة آل عمران، الآية: 44.
2- التوحيد للصدوق: 133.

رَّسُولٖ}(1)، وفي تقريب القرآن: «الكفار كانوا يستعظمون كيف يمكن أن يكون الإنسان رسولاً بدون أن يكون له مال عريض أو علم غيب ذاتي يعينه في أموره وحوائجه! ويردّ اللّه عليهم ذلك بأن الرسالة لا ترتبط بهذه الأمور وإنما هي هداية ونور»(2).

ثم إن اللّه تعالى جمع بين امتلاك الخزائن وعلم الغيب لأنهما من صفات الإله، فالمعنى لا أقول لكم إني إله أملك الخزائن وأعلم الغيب، كما لا أقول لكم إني ملك ليست لي عوارض البشر.

وقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ} بيان أنه بشر لكن اللّه فضّله بأن أوحى إليه، أي علّمه العقائد والأحكام وغير ذلك مع إيجاد القابلية له في تحمل ذلك عبر الاصطفاء.

وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي...} دليل على إمكان النبوة وصحتها للبشر عقلاً فلمّا علّمه اللّه ولم يعلّم غيره كان لا بد لهم من اتّباعه، ككل جاهل حيث عليه أن يتبع العالم، فلا يصح أن يقال: إن الجاهل والعالم متساوون فلا يلزم اتّباع الجاهل للعالم! كلّا بل العالم أعلى وأفضل لأجل علمه، كالأعمى الذي لا بد له من اتّباع البصير وإلاّ لم يهتد إلى سواء الطريق.

وقوله: {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} إرشاد لهم بأن النبوة يدل عليها العقل قبل الشرع لكن لا بد من إعمال الفكر لئلا يغفل الإنسان عن هذه الحقيقة.

الثالث: قوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَىٰ...} الآية.

ص: 116


1- سورة الجن، الآية: 26-27.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 74.

كأنه جواب عن سؤال وهو أن هؤلاء معاندون ولا تنفعهم الآيات فلماذا ينذرهم الرسول؟ فالجواب إن الإنذار ينفع غير المعاندين فلا يصح حرمانهم عن الهداية بسبب عناد البعض، أو لمّا أمره اللّه تعالى باتّباع ما يوحى إليه أمره بأن يبلغه للجميع لكن حيث إن المنتفع غير المعاندين لذلك خصّهم اللّه تعالى بالذكر.

وقوله: {الَّذِينَ يَخَافُونَ...} غير خفي أن الخوف قد يكون مع العلم أومع الاحتمال، فالإنسان مثلاً يعلم بأنه يموت ومع ذلك يخاف من الموت، كما يحتمل أنه قد يبتلى بالأمراض المستعصية ويخاف منها، وفي هذه الآية بيان أن الخوف من الحشر والجزاء قد يكون سبباً لقبول دعوة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاتقاء من المحرمات والمعاصي.

وقوله: {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ} حال، أي يحشرون حال كونهم لا ولي ولا شفيع لهم من دون إذن اللّه تعالى، فحتى الشفعاء والأولياء في القيامة إنما يتولون أمر العباد ويشفعون لهم إذا أذن اللّه تعالى لهم، فإذا خاف الإنسان من الحشر وعلم أن الأمر كله بيد اللّه فقد ينفعه الإنذار فيتقي، قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}(1)، وقال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ}(2).

وقوله: {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} بيان فائدة الإنذار.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوٰةِ وَالْعَشِيِّ

ص: 117


1- سورة البقرة، الآية: 255.
2- سورة الأنبياء، الآية: 28.

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.

ردّ طلب المشركين بطرد الضعفاء

كان من طلبات بعض الأشراف والرؤساء لكي يؤمنوا أن يطرد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الضعفاء الفقراء، فكانوا يستنكفون أن يساويهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهم، بل كانوا يزعمون أنهم كما لهم الرئاسة والشرف بالمال والاعتبار كذلك لا بد أن يكون لهم التفضيل في الدين! مع أن الجميع متساوون في الإنذار والتبليغ، فالدين للجميع ولا تمييز فيه بين غني وفقير ولا رئيس ومرؤوس.

وقال العم الشهيد (رحمه اللّه) : ولا تطرد أفراد الطبقة الثالثة من ذوى الدخل المحدود من وجهك وقلبك وبالتالي من الإسلام، تزلفاً إلى أفراد الطبقة الأولى والثانية - من أصحاب السلطة والمال والجاه - فالطبقة الثالثة مادة كل حركة نامية أو مستمرة، بينما الطبقتان الأولى والثانية عالة على كل حركة نامية أو مستمرة.

لأن الطبقة الثالثة لا تجد في تركيبها السلبيات الثلاث، فهي:

1- لا تجد العمل الذي يملأ فراغها الفكري ويستنزف قدراتها الجسدية، فتبحث عمّا يملأ فراغها الذهني ويعبّر عن قدراتها الجسدية المعطلة.

2- لا تجد الترف الذي يرهّلها ويخملها، فتبقى قادرة على ممارسة طاقاتها الوفيرة.

3- لا تجد العلاقات المكثفة التي تؤثر عليها أيّة كلمة وأيّة حركة حتى تبخل بها وتحتاط لها بالابتعاد عن المجالات التضحوية.

وتجد في تركيبها الإيجابيات الثلاث، فهي:

ص: 118

1- تجد الطموح العفوي إلى الظهور والإعلان عن كيانها المستقل تجاه الذين طالما استعلوا عليها وأنكروا مواهبها وقدراتها.

2- تجد الاضطهاد من الطبقتين الأولى والثانية، الذي يدفعها إلى التوسل بكل الوسائل الممكنة لإلقاء الكابوس عن صدرها.

3- تجد التعاطف بين أفرادها - نتيجة الاشتراك في المأساة والمصير - فيكونون قريبين من بعضهم، فيعد بعضهم بعضاً، وتستجر فئة منهم الفئات الأخرى.

في ما الطبقتان الأولى والثانية بعكسها تماماً فتجدان السلبيات الثلاث ولا تجدان الإيجابيات الثلاث، فتجدان المانع عن العمل دون المقتضي.

صحيح أنهما يجدان السلطة والمال والجاه وهي عناصر فعالة في مضاعفة نتائج الحركة، لكن من الصحيح أيضاً أن الطبقة الأولى لا يتحرك حتى الواحد منها، في ما الطبقة الثالثة تتحرك برمّتها، ولذلك كان الطبقة الثالثة تؤلف المادة البشرية العضوية لكل الحركات في التاريخ، بينما الطبقة الأولى تخلي مواقعها دائماً بدون مقاومة تذكر(1).

وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُم} يعبدونه وينادونه فالدين لربهم وهؤلاء يدعونه فلا معنى لطردهم.

وقوله: {بِالْغَدَوٰةِ وَالْعَشِيِّ} كناية عن الدوام، وقيل: أراد به صلاة الصبح وصلاة العصر.

وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي مخلصين في دعائهم، و(الوجه) هو ما

ص: 119


1- خواطري عن القرآن 1: 431-432.

يقابَل به الشيء ويعرف الشخص به، وحيث إن اللّه يعرف عبر صفاته وأوليائه فلذا كان وجه اللّه صفاته والأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، فالإنسان يعرف اللّه تعالى عبر معرفته بصفاته فمن أنكر علمه أو قدرته أو حكمته وسائر صفاته فقد جهله تعالى، ومن لم يأخذ دينه عن الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) بل أخذه عن غيرهم فقد جهله سبحانه، ولذا ورد في روايات كثيرة أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) وجه اللّه تعالى حيث إنهم الطريق إليه.

معنى عدم محاسبة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للناس

الخامس: قوله تعالى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ...} الآية.

لعلّه بيان سبب النهي عن طردهم، فإن سبب الطرد أحد أمرين:

1- إمّا أن تلحقه تبعة أعمالهم، فيقال: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ} فأعمالهم هم يحاسبون عليها ولا تحاسب أنت عليها بعد أن أدّيت وظيفتك بالتبليغ كاملة غير منقوصة، فلست مسؤولاً عن سوء أعمالهم إن كانت أعمالهم سيئة، كيف وأعمالهم حسنة بدعاء اللّه دوماً بإخلاص، أو المعنى أنت لست مسؤولاً عن محاسبتهم حتى تعاقبهم بالطرد.

2- وإمّا أن يخاف منهم أن يحاسبوه فيؤذوه بمحاسبتهم إياه فيتخلص من محاسبتهم عبر طردهم، فيقال: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ} فليست من مسؤولياتهم أن يحاسبوك على أعمالك؛ لأنك رسول اللّه ومعصوم ولا تتّبع إلاّ ما يُوحى إليك.

وغير خفي أن الآية وغيرها تدل على أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس مكلّفاً بمحاسبة الخلق على الإيمان أو الكفر لا في الدنيا ولا في الآخرة وأن الحساب على اللّه تعالى، وهذا لا ينافي قضاءه بين الناس وتنفيذ الأحكام

ص: 120

عليهم وإجراءه الحدود الشرعية، كما لا ينافي أن يأمر اللّه تعالى يوم القيامة الأئمة(عليهم السلام) بمحاسبة الخلق بإذنه، فهم ينفذون ما أمرهم اللّه تعالى به من محاسبة الخلق بإذنه تعالى كما دلت عليه الروايات الصحيحة، كما أن الأرواح يقبضها اللّه تعالى وذلك لا ينافي أمره ملك الموت بقبضها.

وقوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} ليس تأكيداً وتكراراً لما ذكر في صدر الآية في قوله: {وَلَا تَطْرُدِ}، وذلك للاختلاف في النفي والإثبات، فلو كان تأكيداً- جيء به لطول الفاصل بين النهي وجوابه - لزم تكراره مع حرف النفي، بل الغرض بيان نتيجة مخالفة النهي كأنه قال ولا تطردهم؛ إذ ليس بينك وبينهم حساب حتى تطردهم، فيكون نصب {فَتَطْرُدَهُمْ} على كونه جواب النفي في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم...}.

وقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّٰلِمِينَ} بيان نتيجة الطرد، وفي هذا تشديد في النهي عن طلب الأشراف طرد الضعفاء.

السادس: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٖ لِّيَقُولُواْ أَهَٰؤُلَاءِ...} الآية.

بيان أن اختلاف أحوال الناس في الدنيا بالغنى والفقر والرئاسة والمرؤوسية وغير ذلك هو امتحان إلهي، فعلى الإنسان أن يحسن التعامل لينجح في الامتحان؛ إذ الموازين الإلهية لا تقاس بالأمور المادية، بل الميزان هو الطاعة فهي التي توجب الأفضلية، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1) فربّ فقير خير من غني، وربّ مرؤوس أقرب إلى

ص: 121


1- سورة الحجرات، الآية: 13.

اللّه تعالى من الرئيس.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ} أي كما صار الفقراء عند الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتنة للأشراف، كذلك سائر أحوال الناس في الدنيا فاختلافها بينهم فتنة وامتحان.

وقوله: {فَتَنَّا} أي ذلك فتنة للجميع، للضعيف ليُرى كيف صبره على ضعفه، وللقوي ليُرى كيف تعامله مع الضعيف.

وقوله: {لِّيَقُولُواْ} اللام للعاقبة، أي عاقبة هذا الابتلاء هو سقوط بعضالأشراف في الامتحان فيعترضوا على إيمان الضعفاء أو يستهزؤوا به.

وقوله: {أَهَٰؤُلَاءِ} استفهام إنكاري أو للاستهزاء، أي لو كان الدين صحيحاً لأنعم اللّه علينا بقبوله، ولكن حيث قبله الفقراء فهذا دليل على عدم صحته! قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}(1).

وقوله: {أَلَيْسَ} استفهام للتقرير لبيان أن اللّه لا ينظر إلى الأمور المادية، بل ينظر إلى كيفية الطاعة، وهذا جواب لقولهم: {أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ...}.

وقوله: {بِأَعْلَمَ بِالشَّٰكِرِينَ} أي إن اللّه يعلم بالشاكر لذلك وفّقه للّهداية دون الكافر حيث يخذله فيضلّ، وطاعة اللّه - بالإيمان والعمل الصالح - هي شكر لأنعم اللّه تعالى.

السابع: قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَِٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ...} الآية.

بعد أن وصف اللّه المؤمنين في الآيات السابقة بأنهم {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن

ص: 122


1- سورة الأحقاف، الآية: 11.

يُحْشَرُواْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ...} وأنهم {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم}، وأنهم شاكرون، بعد ذلك أراد بشارتهم، ولعله ليكونوا بين الخوف والرجاء، فهم يخافون اللّه ولكن في الوقت نفسه يرجون رحمته وفضله، فلذا أمر اللّه تعالى رسوله أن يسلّم عليهم، وأن يخبرهم بأن اللّه تعالى أوجب على نفسه الرحمة فلا ييأسوا إن أذنبوا بجهالة، بل عليهم أن يتوبوا ويصلحوا أنفسهم وعملهم كي ينالوا تلك الرحمة، فهو تعالى كما مَنّ عليهم بالإسلام كذلك يَمُنّ عليهم بالغفران.

قوله: {وَإِذَا جَاءَكَ...} لعله في مقابل إعراض المعاندين المذكورين في الآية 35 حيث قال: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ}، فأولئك يعرضون عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن الإيمان، لكن هؤلاء يُقبلون إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مؤمنين.

وقوله: {سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ} مادة (س ل م) بمعنى البراءة من الآفات - مادية أو معنوية - ، وهذا دعاء لهم وتطييب لخاطرهم وتبجيل لهم من تحقير المكذّبين لهم.

وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ...} فيه تأكيد شديد على الرحمة، فالكتابة أثبت للشيء، فلذا الوعد المكتوب أسكن للخاطر، والمراد أوجب على نفسه، ولعلّه بالكتابة في اللوح المحفوظ أيضاً.

وقوله: {عَلَىٰ نَفْسِهِ} هذا تأكيد للوعد، أي أثبت حقاً وكان غير ثابت إلاّ برحمته وفضله؛ إذ لا حق لأحد على اللّه تعالى لولا وعده.

وقوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ...} بدل عن {الرَّحْمَةَ} وبيان لها.

وقوله: {بِجَهَٰلَةٖ} أي سفاهة ناشئة عن الجهل؛ وذلك لأن المؤمن لا يذنب عن عناد وإنما لغلبة شهوة أو غضب، وفي الدعاء: «لم أعصك حين

ص: 123

عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخفّ، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي، وغَرّني سترك المرخى عليّ»(1)، وإنما سميت هذه السفاهة جهالة لأن العالم التارك لعلمه كالجاهل.

وقوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في التقريب: «كأنّ الإتيان برحيم بعد غفور غالباً لإفادة الفضل في لطفه وإحسانه»(2).

الثامن: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}.

أي كما فصلّنا هنا في أمر التوحيد والنبوة وذكرنا أوصاف المهتدين والضالين كذلك تفصيلنا في سائر الكتاب، والغرض منه هو الهداية وتمييز طريق المجرمين عن طريق المؤمنين، لكي يتّبع الإنسان طريق الهداية ويجتنب طريق الغواية، وليتعامل مع كل من الضال والمهتدي بما يناسبه.

وقوله: {كَذَٰلِكَ} إشارة إلى كل ما مرّ في الآيات السابقة.

وقوله: {نُفَصِّلُ} من الفصل وهو إبانة أحد الشيئين عن الآخر، وحيث إن رفع الإبهام والإجمال يفصل بين الحق والباطل لذلك عبّر عن التوضيح والبيان بالتفصيل.

وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ} عطف على {نُفَصِّلُ} أي وضّحنا الآيات وتوضّحت سبيل المجرمين.

وغير خفي أن الآيات هي طريق الهداية والرشد فهي طريق المؤمنين،

ص: 124


1- فقرة من دعاء أبي حمزة الثماني عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، الدعاء والزيارة: 321.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 78.

فقوله: {نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ} يعني بيّنا طريق المؤمنين، وبذلك يتبيّن طريق المجرمين ولذا عطف عليه بقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} ولم يذكر هنا سبيل المؤمنين حيث إنه مضمَّن في تفصيل الآيات.

وقوله: {سَبِيلُ} يذكر ويؤنث كما قال: {هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ}(1)ولذا جاء بالفعل مؤنثاً فقال: {لِتَسْتَبِينَ} أي لتتّضح.

ص: 125


1- سورة يوسف، الآية: 108.

الآيات 56-59

اشارة

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُهْتَدِينَ 56 قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَٰصِلِينَ 57 قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّٰلِمِينَ 58 وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ 59}

بعد نفي الشركاء يأتي الكلام في النهي عن عبادتها، فقال:

56- {قُلْ} يا رسول اللّه {إِنِّي نُهِيتُ} نهاني اللّه {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون وتنادون {مِن دُونِ اللَّهِ} من غيره، فإن هذه العبادة لا دليل عليها إلاّ الهوى ف{قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} ولو فعلت مثلكم ف{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} حين عبادتها {وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي لا أكون مهتدياً حين عبادتها، وفيه تعريض بهم بأنهم ضالون غير مهتدين.

57- {قُلْ} إن عبادتي للّه وحده لا شريك له ممّا دلّ عليه البرهان ف{إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ} حجة واضحة أتتني {مِّن رَّبِّي} ولست مثلكم تابعاً للّهوى {وَكَذَّبْتُم بِهِ} كذبتم بربي حيث اتخذتم الشركاء، أو بالقرآن الذي هو

ص: 126

البينة، {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي ليس العذاب بيدي حتى استجيب لكم حين طلبتم تعجيله، بل هو بيد اللّه، ف{إِنِ} نافية أي ليس{الْحُكْمُ} في عذابكم {إِلَّا لِلَّهِ} وحده {يَقُصُّ الْحَقَّ} أي يفصل بالحق بياناً وجزاءً {وَهُوَ خَيْرُ الْفَٰصِلِينَ} فليس فصله إلاّ عن حكمة فقد تقتضي حكمته التأخير وقد تقتضي التعجيل.

58- {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي} تحت قدرتي {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من عذابكم {لَقُضِيَ الْأَمْرُ} انقطع ما {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} عبر إنزال العذاب عليكم {وَ} لكن الأمر بيد اللّه {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّٰلِمِينَ} متى يستحقون إنزال العذاب عليهم ومتى يُمهلون.

59- ولمّا نفى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علمه بالغيب بيّن اللّه تعالى أن القدرة على الغيب والعلم به وكذلك العلم بالشهود كلّه للّه، وذلك من أدلة وحدانية اللّه تعالى وكون الحكم له وحده؛ لأنه يعلم كل شيء، والشركاء المزعومون لا يعلمون بأيّ شيء {وَعِندَهُ} تحت قدرته وعلمه {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} أي خزائن الغيب أو مفاتيح تلك الخزائن {لَا يَعْلَمُهَا} لا يعلم تلك المفاتح {إِلَّا هُوَ وَ} كما يعلم بالمغيبات كذلك يعلم بكل شيء آخر ف{يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} سواء كانت غيباً أم شهوداً، {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} من الأشجار {إِلَّا يَعْلَمُهَا} وهي حركة الشيء من الحياة إلى الموت، {وَلَا حَبَّةٖ} تسقط {فِي ظُلُمَٰتِ الْأَرْضِ} في جوف الأرض وهي حركة الشيء من الموت إلى الحياة، {وَلَا رَطْبٖ وَلَا يَابِسٍ} أي جميع الأشياء {إِلَّا}

ص: 127

يعلمه اللّه وقد سجله {فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} هو اللوح المحفوظ.

بحوث

الأول: لما نفى في الآيات السابقة وجود الشريك للّه تعالى وبيّن أنالخزائن والغيب للّه تعالى وأن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه لا قدرة له ولا علم إلاّ بالمقدار الذي يعطيه اللّه تعالى، بعد ذلك في هذه الآيات ينهى عن عبادة غير اللّه تعالى، فليس هناك مجرد نفي، بل نفي مع نهي؛ لأن عبادة غير اللّه ليست عن برهان، بل اتّباع للأهواء مما ينتج عنه الضلال وعدم الاهتداء، وأما الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يدَّع ِ الألوهية حتى يُطالَب بإنزال العذاب أو بأن يعلم الغيب، بل هو رسول من اللّه وقد أقام على ذلك البرهان الواضح الجلي بالمعجزة التي جرت على يديه، وأما العذاب فهو بحكم اللّه تعالى وهو الحكيم في ما يقضي إن شاء قدّم العذاب وإن شاء أخره وذلك بحكمته، وأما الغيب فهو خاص باللّه تعالى إلاّ لو شاء أن يُعلّم منه من شاء، وهو تعالى كما يعلم الغيب كلّه يعلم الشهادة كلّها من غير فرق عنده بين الغيب والشهادة فهما عنده سيّان.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ...} الآية.

فنفي الآلهة بالبرهان استتبع النهي عن عبادتها، وقيل: ضم الدليل النقلي إلى الدليل العقلي.

وقوله: {قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} تعريض بهم وبيان أن عبادتهم لغير اللّه لا برهان لهم فيها كما قال: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرْهَٰنَ لَهُ بِهِ

ص: 128

فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَٰفِرُونَ}(1).

وقوله: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} تعريض آخر بهم، وبيان أن عبادة غير اللّه منغير برهان ضلال، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(2)؛ لأن ملاك الهوى ليس الحق بل الشهوات والتي غالباً تتصادم مع الحق، قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}(3).

وقوله: {وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} تأكيد للضلال، وإنما جاء بهذا التأكيد لبيان أنه مهتدي، فالمعنى أنه لو اتّبع أهواءهم لضَلَّ ولم يهتدِ، ولكنه حيث لم يتبع أهواءهم بل اتّبع ما يوحى إليه فلم يضل بل اهتدى.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ...} الآية.

تصريح بأنه مهتدٍ لأنه يتّبع البينة عكس أولئك الذين يتبعون الأهواء، لكن كونه على بينة لا تعني كونه إلهاً بل تعني صحة معتقده وصحة نبوته.

وقوله: {بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي} البينة هي الدليل الواضح الفاصل حين الاختلاف، وتلك البينة هي البراهين الدالة على التوحيد والمعاجز الدالة على النبوة وخاصة القرآن الكريم.

وقوله: {وَكَذَّبْتُم} أي بربي؛ لأن تكذيب الرسول والآيات هي تكذيب للمرسِل، أو كذبتم بالقرآن الذي هو البينة أو أظهر البينات.

ص: 129


1- سورة المؤمنون، الآية: 117.
2- سورة ص، الآية: 26.
3- سورة المؤمنون، الآية: 71.

وقوله: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} بيان أن العذاب بيد اللّه تعالى؛ لأنه الإله القادر على كل شيء، وليس ذلك في حيطة قدرة النبي إلاّ لو شاء اللّه، وقيل: ما تريدونه ليس عندي، وما عندي لا تريدونه!

وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} دليل على أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يملك العذاب بنفسه؛ لأن الحكم بيد اللّه سواء الحكم التكويني أم التشريعي، والعذاب إنما هو بحكم اللّه فلا يكون من غيره.

وقوله: {يَقُصُّ الْحَقَّ} من القص بمعنى القطع، أي يقضي بالحق فلا يكون قضاؤه اعتباطاً، فهو ينزل العذاب بحكمه حتى لو لم يستعجل به المجرمون، ويؤخره بحكمه حتى لو استعجلوا به.

وقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الْفَٰصِلِينَ} لأنه العالم القادر الحكيم، فلا فصل أفضل من فصله، بل إن فصل الآخرون من غير إذنه ففصلهم باطل، وإن فصلوا بإذنه فهذا يرجع إلى فصله تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ...} الآية.

كأنّ المعنى أن اللّه لو أذن لي في عذابكم لكان ذلك وقت نهاية أمدكم؛ لأن اللّه لا يأذن اعتباطاً، وإنما يأذن بحكمة، فإذنه دليل على حلول وقت العذاب عليكم، وأما ما ذكره البعض بأنه لو كان العذاب بيده لأهلكهم غضباً لربه! فغير سديد؛ لأن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حكيم ولا يتصرف إلاّ بإذن اللّه تعالى، فلا معنى لإنزاله العذاب من غير حكمة وإنما لمجرد الغضب أو طلب الراحة منهم، فالأقرب هو ما ذكرناه بأن اللّه تعالى لا يأذن إلاّ لو أراد العذاب فلا فرق حينئذٍ في أن ينزل العذاب مباشرة أو يأمر أحد أوليائه

ص: 130

بعذابهم كما حدث في قوم لوط (عليه السلام) حيث أهلكهم جبرئيل بإذن اللّه تعالى.

وقوله: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ...} أي نزل العذاب عليكم وانتهى أمدكم وانتهت المجادلة بيني وبينكم.

وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّٰلِمِينَ} كأنه استدراك، أي لكن الأمر بيد اللّه تعالى وهو أعلم بالظالمين وبكفية عقابهم وزمانه ومكانه وخصوصياته.

الخامس: قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ...} الآية.

وهذا من أدلة وحدانيته؛ لأنه خالق الأشياء فلا محالة يكون عالماً بها وبتفاصيلها، وأما الأصنام فلا علم لها بإذعان عبدتها، وحيث لا علم لها فلا معنى لكونها شريكة له، فأيّ فرق بينها وبين سائر الجمادات! كما أن ذلك تأكيد لنفي علم الغيب عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذاته إلاّ بما شاء اللّه تعالى فليس إلاّ بشراً رسولاً وليس إلهاً، وفي الآية بيان لعلمه تعالى بالغيب وعلمه بكل شيء حتى الشهود.

وقوله: {وَعِندَهُ} أي في ملكه.

وقوله: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} مفاتح جمع مَفتح - بفتح الميم - وهي الخزائن أو مِفتح - بكسرها - بمعنى المفتاح، أي الخزائن أو مفاتيحها تحت قدرة اللّه تعالى لا أحد يقدر عليها.

وقوله: {لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} أي كما لا يقدر عليها غير اللّه كذلك لا يعلم بها غيره، ومن الغيب ومفاتيحه عذابهم فلا أحد يقدر عليه إلاّ اللّه، ولا أحد يعلم به وبزمانه إلاّ اللّه تعالى.

ص: 131

وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي يعلم بكل شيء؛ لأن الأشياء لا تخلو من كونها في البر أو البحر، والجو ملحق بالبرّ، وهذا تعميم لعلمه بكل شيء حتى لو لم يكن غيباً.

ويمكن أن يراد بالغيب ما ليس بموجود فهو قادر على خلقه ويعلمه، ويراد بما في البر والبحر ما هو موجود مخلوق، فإن اللّه عالم بما كان وبما لم يكن ولا حدود لعلمه تعالى.

وقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ...} هذا تعميم لعلمه بالتغيّر في الأشياء فكما يعلم أصل وجودها كذلك يعلم حركتها وتغيراتها.

وقوله: {وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ الْأَرْضِ} أي وما تسقط من حبة في جوف الأرض، وفي التقريب: «وكان التقابل بين {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} وبين {وَلَا حَبَّةٖ} لطيفاً جداً، حيث إن الأول حركة من الحياة إلى الموت، والسقوط الثاني حركة من الموت إلى الحياة والارتفاع»(1).

وقوله: {وَلَا رَطْبٖ وَلَا يَابِسٍ} تعميم بعد ذكر الورقة الساقطة التي هي يابسة عادة والحبة في الأرض التي هي رطبة عادة، فيقال: ليس حركة الورقة والحبة في علمه فحسب بل حركة كلّ شيء في علمه.

والحاصل أن علم اللّه تعالى شمل كل شيء، فهو يعلم بالمغيبات غير الموجودة، ويعلم بكل شيء في البر والبحر، ويعلم بكل حركة سواء كانت في ورقة أو حبة أو في أيّ رطب أو يابس، فعمّ علمه تعالى كل شيء.

وقوله: {إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} عبارة أخرى عن علمه تعالى بها، أي

ص: 132


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 81.

يعلمها لذلك سجلها في اللوح المحفوظ.

وأما تأويل الآية: فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «الورقة: السقط، والحبة: الولد، وظلمات الأرض: الأرحام، والرطب: ما يحيا من الناس،واليابس: ما يقبض، وكل ذلك في إمام مبين»(1).

وقال العم الشهيد في الخواطر:

أولاً: فصل الغيب: الغيب ضد الشهود، والشهود كل ما يشهد، أي يدرك سواء بالمشاعر الظاهرة كالحواس الخمس، أو بالمشاعر الباطنة كالعقول.

فرق الغيب عن الشهود

والغيب لا يعني المغيّب، فلعلّ اللّه لا يغيّب شيئاً عن أحد لأنه ليس بخيلاً أو فقيراً حتى يستأثر{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٖ}(2).

وإنما الغيب مباح تماماً كالشهود، ولكن استيعاب الغيب لا يتم إلّا لمن تتوفر لديه القدرة المناسبة، تماماً كالشهود: فأنت لا ترى ما وراء الحواجز والمسافات، لا لأن اللّه استأثر به، وإنما لأن قدرتك البصرية محدودة بمدى معيّن وهي لا تخترق الحواجز والمسافات، فإذا انتقلت إليه رأيت ما هناك، كما أن الأميّ لا يستطيع أن يقرأ، لا لأن اللّه استأثر بقدرة القراءة دونه، وإنما لأنه لم يتزوّد بالقدرة لها.

وهكذا الغيب مباح، ولكن الاطلاع عليه يحتاج إلى القدرة المناسبة، فمن تزوّد بشيء من القدرة، توسعت دائرة وعيه بقدرها، وتتسع دوائر الوعي بارتفاع درجات القدرة حتى تصل إلى درجة أولي العزم من الرسل

ص: 133


1- الكافي 8: 248؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 563.
2- سورة التكوير، الآية: 24.

الذين تحدث عنهم القرآن: {عَٰلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ}(1)، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَيَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ}(2)، كما تتضيق دوائر الوعي بانخفاض درجات القدرة، حتى تصل إلى درجة: {أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَٰفِلُونَ}(3)، بسبب التقصير أو القصور، أو بسبب أمر آخر بين الأمرين.

ثانياً: فصل العلم الشمولي بالأشياء الظاهرة: البشر قد يتعلم شيئاً أو أشياء ولكنه يتعلّمها مفردات، كما يرى الأشياء فتنطبع منها في ذاكرته لقطات، ولا يحيط حتى بالأشياء الموجودة حوله إحاطة شاملة، بل ربما لا يحيط حتى بوحدة وجودية إحاطة شاملة... ومظاهر النقص في علم الإنسان كثيرة، أما علم اللّه تعالى فهو علم شمولي لا نقص فيه ولا فراغ {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ} كل البرّ سواء في ذلك البرّ على كرة الأرض أو على سائر الكرات {وَالْبَحْرِ} سواء أبحر الأرض وسائر الأبحر بدليل الإطلاق في كلمتي البر والبحر.

ثالثاً: فصل العلم الشمولي بالحركات: والتفاعلات المستمرة - البسيطة منها والمعقدة - التي تحدث في الكون كلها تحت علم اللّه: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا}، وذكر سقوط الورقة من غصنها، مَثَلٌ لأدنى التفاعلات، ولنبدأ منها ونرتفع إلى التفاعلات التي تحدث في أجسام الإنسان والحيوان وفي النبات والجماد، في كرة الأرض وفي الفضاء وفي الأجرام الفضائية،

ص: 134


1- سورة الجن، الآية: 26-27.
2- سورة آل عمران، الآية: 179.
3- سورة الأعراف، الآية: 179.

وفي ما وراء الفضاء... .

رابعاً: فصل العلم الشمولي بالأشياء الباطنة: وما في الأعماق منالوحدات الثابتة والمتحركة، كم حبة رمل في بطن الأرض؟ وكم قطعة ماس؟ وكم لحمة معدن؟ وبأيّ الأحجام؟ وبأيّ الأوزان...؟ إلى آخر ما في باطن الأرض بكمياتها وكيفياتها {وَلَا} توجد {حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ} بواطن {الْأَرْضِ} إلاّ يعلمها اللّه.

خامساً: فصل العلم العام: {وَ} باختصار لا يوجد شيء {رَطْبٖ} وهو السائل، أي: غير متماسك الأجزاء {وَلَا} يوجد {يَابِسٍ} وهو الجامد، أي متماسك الأجزاء {إِلَّا} يعلمه اللّه بكل خصوصاته وتطوراته، ولا ينتهي الأمر عند علم اللّه به، وإنما كل شيء من ذلك مدروس وخاضع للإحصاء والتسجيل و{فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ}(1).

ص: 135


1- خواطري عن القرآن 1: 433-438، باختصار.

الآيات 60-62

اشارة

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 60 وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ 61 ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَىٰهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَٰسِبِينَ 62}

ثم يذكر اللّه تعالى أن تأخير العذاب وعدم الاستعجال فيه؛ لأنه سبحانه كتب الآجال فلا إهلاك قبلها، فقال:

60- {وَهُوَ} اللّه {الَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِالَّيْلِ} بالمنام، فإن في النوم قبض للروح لكن مع بقاء تعلق لها بالجسم، {وَ} الحال أنه {يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم} عملتم واكتسبتم {بِالنَّهَارِ}.

{ثُمَّ} بعد التوفي في النوم {يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} يوقظكم في النهار، وهكذا يستمر الأمر {لِيُقْضَىٰ} ليكمل {أَجَلٌ مُّسَمًّى} نهاية المدة التي قدرها لكم، {ثُمَّ} بعد انتهاء المدة {إِلَيْهِ} إلى حكم اللّه وحسابه {مَرْجِعُكُمْ} رجوعكم، {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم} يخبركم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ليجازيكم عليها.

61- {وَ} ليس إعطاء المهلة إلاّ لكونه قاهراً لعباده ف{هُوَ الْقَاهِرُ} القادر الذي يَغلِب بقدرته {فَوْقَ عِبَادِهِ} فوقيّة بالرتبة فهو المستعلي عليهم

ص: 136

فيتصرف في شؤونهم كما يشاء، {وَ} لأنه ضرب مدة معلومة فلذلك يمنعجميع المُهلكات ف{يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} جمع حافظ، أي ملائكة يحفظون الإنسان عن الأخطار، ويستمر حفظهم {حَتَّىٰ إِذَا} انتهت المدة ف{جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} حان وقت موته {تَوَفَّتْهُ} أماتته {رُسُلُنَا} ملك الموت وأعوانه {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} لا يقصِّرون في المهمة الموكلة إليهم.

62- {ثُمَّ} بعد الموت {رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ} إلى حسابه ومن ثَم جزائه {مَوْلَىٰهُمُ} الذي يتولى أمرهم {الْحَقِّ} الذي هو الحق وحكمه الحق، لا كالأصنام التي هي مولاهم بالباطل لعدم توليها أمرهم إلاّ حسب زعمهم، {أَلَا} للتنبيه {لَهُ الْحُكْمُ} لأنه العالم القادر الحافظ القاهر، {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَٰسِبِينَ} لا تواني في حسابه؛ لأنه لا يشغله حساب عن حساب.

عدم الاستعجال في عذابهم

بحوث

الأول: بعد ذكر علمه وقدرته تعالى وأن العذاب بأمره، يأتي ذكر أن اللّه تعالى هو الذي يتوفى الناس، ولا يستعجل لعجلة هؤلاء في إنزال العذاب عليهم، فهو في كل يوم يتوفى النائمين - مع علمه بما فعلوه - ثم يبعثهم مرّة أخرى وهكذا دواليك، إلى حين حلول أجلهم الذي كتبه لهم، وأما قبل حلوله فيمنع عنهم المُهلِكات عبر ملائكة حافظين، فإذا جاء الأجل تركته الملائكة الحفظة إلى ملائكة الموت - وهم عزرائيل وأعوانه - يتوفونه، وهم لا يتوانون في تنفيذ أمر اللّه تعالى، وحينذاك يكون المرجع إلى حساب اللّه تعالى؛ لأنه المتولي للأمور بالحق، لا كالأصنام المزعومة التي لا حول لها ولا قوة، فإن الحكم للّه وحسابه سريع لا يسقط منه شيء؛ وذلك لأنه لا

ص: 137

يشغله شيء عن شيء، بل يحاسب الخلق كلهم معاً.الثاني: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ...} الآية.

(التوفي) هو القبض الكامل، وروح الإنسان ترتبط بالجسم ولها عملان، فعمل يرتبط بالحواس الخمس وآخر يرتبط بالحياة، وفي حالة النوم يتم قبض الروح كاملاً بالنسبة إلى العمل الأول فلذا بمجرد النوم لا يحس الإنسان بشيء مما كان يحسه في اليقظة، وفي حالة الموت يتم قبض الروح كاملاً بالنسبة إلى العمل الثاني فتبطل حينئذٍ حياة الجسم.

ثم إن الآية جرت مجرى الغالب حيث إن غالب الناس يخلدون إلى النوم في الليل ويقومون إلى العمل في النهار.

وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} أي ما كسبتم، وأصل الجرح هو الفعل الدامي على الجسم، وحيث يكون هذا باليدين عادة لذلك سميت اليد بالجارحة، ثم عُمّم إلى سائر الأعضاء الظاهرة، ثم استعمل في كل كسب.

وكأنّ قوله: {وَيَعْلَمُ...} جملة حالية، أي يتوفاكم بالليل بالنوم مع علمه بما عملتموه بالنهار لكنه لا يحاسبكم على تلك الأعمال ويترككم تستريحون في منامكم، ثم يوقظكم ليوم جديد وأعمال أخرى وهكذا حتى يحين الأجل الذي عيّنه لكم.

وقوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي في النهار، وكأن ذكر التوفي والبعث كالمقدمة والإشارة إلى الموت والنشر، فالقادر على هذا قادر على ذاك.

وقوله: {لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى} (القضاء) هو فصل الأمر على النحو التام

ص: 138

وهو يتضمن الانتهاء من الشيء، فالمعنى إنما يوقظكم ولا يحاسبكم على ماجرحتم؛ لأنه كتب لكم أجلاً لا بد أن تبلغوه، و(المُسمّى) الذي سمّاه اللّه تعالى وكتبه وقد مرّ الكلام فيه في الآية 2.

وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي بعد انتهاء الأجل يكون رجوعكم إلى اللّه تعالى، وليس انتهاء كل شيء كما كان يزعم المشركون.

وقوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم...} أي يخبركم بكل الأعمال التي اجترحتموها وهذا مقدمة للحساب والجزاء.

الثالث: قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ...} الآية.

كأنه ردّ على استعجال المشركين بالعذاب، فالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس عنده ذلك العذاب، وأما اللّه تعالى فعنده العذاب لكن لا يستعجل لعجلتهم بل عمله بحكمة، فليس تأخير العذاب عنهم لعجز - تعالى اللّه عن ذلك - ، بل الأمر بالعكس، فاللّه هو الذي يحفظهم من الهلكات وذلك ليستوفوا آجالهم؛ كل ذلك لأنه القاهر فوق عباده.

وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ} أي القادر الغالب الذي يُخضع كل شيء لما يريده بحكمته، وقد مرّ بعض الكلام في الآية 18، فراجع.

وقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} جمع حافظ، أي ملائكة يحفظون الناس من المهالك حتى هؤلاء المشركين الذين استعجلوا بالعذاب، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَٰتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}(1)،

والظاهر أن هؤلاء الملائكة ليسوا الكتبة الذين يكتبون أعمال العباد في قوله

ص: 139


1- سورة الرعد، الآية: 11.

تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ * كِرَامًا كَٰتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}(1)، فأولئك حفظة الأعمال بكتابتها، وأما هؤلاء المذكورون في هذه الآية فهم حفظة الناس عن المهالك.

وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ...} أي حفظهم مستمر إلى هذه الغاية وهي مجيء الموت الذي هو الأجل المسمّى.

وقوله: {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} من التفريط بمعنى التقصير عبر التواني والبطء، بل هؤلاء كما قال تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(2)، وقد قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}(3).

الرابع: قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَىٰهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَٰسِبِينَ}.

أي بعد الموت يكون المرجع إلى اللّه تعالى؛ وذلك لأنه سبحانه هو المولى أي الذي يتولى أمور الناس فهو الذي خلقهم ورزقهم وأمرهم ونهاهم وإليه المرجع؛ إذ هو الحق وله الحكم لا لغيره.

وقوله: {مَوْلَىٰهُمُ} تفنيد لزعم المشركين بألوهية الأصنام فيقال لهم إنها لا تتولى أموركم في الدنيا ولا في الآخرة فما فائدتها؟ وأما اللّه تعالى فهو الذي خلقكم وخلق كل شيء، ومنه رزقكم، وهو الذي يحييكم ويميتكم، فلا تنكروا قدرته على بعثكم وقد رأيتم نموذجاً عن البعث باليقظة بعد

ص: 140


1- سورة الانفطار، الآية: 10-12.
2- سورة النحل، الآية: 50.
3- سورة الأعراف، الآية: 34.

المنام، كما أن قوله: {مَوْلَىٰهُمُ} كالعلة لجميع ما تمّ ذكره من النوم واليقظة والموت والحشر وغير ذلك.

وقوله: {الْحَقِّ} فهو تعالى حق بذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فهو مولاكم بالحقيقة لا غيره من الأصنام، وإذا كان هناك مولى آخر - تكويناً أو تشريعاً - فإنما هو لأن اللّه أذن له في الولاية.

وقوله: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} سواء في الأمور التكوينية أم بين العباد تشريعاً أم في يوم القيامة.

وقوله: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَٰسِبِينَ} إنهم استعجلوا العذاب فيقال إن اللّه هو أسرع الحاسبين فلماذا تستعجلون بالعذاب، ومعنى سرعة حسابه هو إحاطته بأعمالهم فيمكنه محاسبة كل شيء وهذا ما لا يقدر عليه غير اللّه تعالى، كما أن حسابه لكل شيء يكون سريعاً جداً فيمكنه حساب الجميع في الوقت نفسه وفي كل شيء.

قيل: إنّما جعل الأجل المسمى غاية؛ لأنه لولا هذا القضاء لأخذهم بالسيئات التي ارتكبوها؛ إذ هو أسرع الحاسبين، قال تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ}(1).

ص: 141


1- سورة الشورى، الآية: 14.

الآيات 63-65

اشارة

{قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَىٰنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّٰكِرِينَ 63 قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٖ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ 64 قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ 65}

ثم إن اللّه تعالى يبيّن دليلاً آخر على التوحيد هو دليل الفطرة، فقال:

63- {قُلْ} يا رسول اللّه للمشركين {مَن يُنَجِّيكُم} ينقذكم {مِّن ظُلُمَٰتِ} شدائد {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} حينما تتقطّع بكم الأسباب المادية، أليس اللّه حال كونكم {تَدْعُونَهُ} تنادونه في الشدة {تَضَرُّعًا} بتخشّع على ألسنتكم {وَخُفْيَةً} في قلوبكم وحينئذٍ يتوافق الظاهر مع الباطن، ودعاؤكم هو هذا القول: {لَّئِنْ أَنجَىٰنَا} اللّه تعالى {مِنْ هَٰذِهِ} الشدّة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّٰكِرِينَ} نشكر اللّه بالإذعان له قلباً وبالإقرار به لساناً وبطاعته عملاً؛ لأن شكر المنعم هي معرفته ثم أداء حقه.

64- {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا} من هذ الشدائد {وَمِن كُلِّ كَرْبٖ} وهو شدة الحزن والهمّ، والمقصود أنه قادر على ذلك، {ثُمَّ أَنتُمْ} بعد نجاتكم {تُشْرِكُونَ} تنقضون العهد، وهذا تقريع وتوبيخ لهم على العناد بعد الحجة

ص: 142

وبعد الوعد.

65- لكن لا يضرّه شرككم حتى بعد نقضكم الوعد ولا أمان لكم من عذابه مرّة أخرى ف{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ} يرسل {عَلَيْكُمْ عَذَابًا} أيّاً كان نوعه، فتارة العذاب تكويني، وتارة العذاب اجتماعي، كأن يكون العذاب {مِّن فَوْقِكُمْ} كالصواعق، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كالخسف والمقصود تعميم العذاب من كل جهة ومن حيث يتوقعون النعمة بالمطر والزرع، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ} يخلطكم {شِيَعًا} فِرقاً مختلفة، والمعنى أن يفرّقكم جماعات متناحرة {وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} أي يقتل بعضكم بعضاً في حروب مستمرة، {انظُرْ} متعجباً {كَيْفَ نُصَرِّفُ} نكرّر {الْأيَٰتِ} الدلائل على التوحيد {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} يفهمون الحق فيتبعونه.

من أدلة التوحيد الفطرة

بحوث

الأول: هذه الآيات تتضمن دليل آخر على التوحيد وهو برهان الفطرة، وهي وإن كانت تدفن تحت ركام من العادات والتقاليد إلاّ أنه لا يمكن إزالتها أبداً، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(1)، وهذه الفطرة تظهر من تحت ذلك الركام حينما تنقطع بالإنسان السُبل الطبيعيّة، فهنا يشعر تحت هول صدمة الانقطاع بأن له خالقاً قادراً على إنقاذه فيذعن به بل يستغيث به بلسانه، وحينئذٍ يظهر له عدم نفع الشركاء الذين كان يزعم أنهم شركاء للّه تعالى، لكن مشكلة هؤلاء أنهم معاندون، لذلك لو ارتفعت الشدة تركوا التوحيد ورجعوا إلى شركهم، لكن اللّه تعالى

ص: 143


1- سورة الروم، الآية: 30.

يهدّدهم بأنه وإن استجاب لهم دعاءهم وأنقذهم من الشدائد لأندعاءهم كان خالصاً لوجهه إلاّ أن رجوعهم إلى الشرك لا ينفعهم في خلاصهم من عذاب لاحقٍ في الدنيا قبل الآخرة، وهذا العذاب تارة يكون تكوينياً كما عذّب اللّه قوم نوح وهود وصالح ولوط(عليهم السلام) وغيرهم، وتارة يكون اجتماعياً بالفتن التي تمزّق المجتمع وتؤول به إلى القتال والمحاربة.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ...} الآية.

سؤال لإثارة الفطرة؛ لأن الكثيرين قد لا يقعون في تلك الشدائد أو لم يقعوا فيها سابقاً قبل سماع هذه الآية، لكن حينما يتوجهون إلى أنفسهم يعرفون الجواب؛ لأن الفطرة تظهر نفسها حين التأمل.

وقوله: {ظُلُمَٰتِ} المقصود الشدائد، وإنما سميت الشدة ظلمة لأن الشدة تكون أكبر إذا كانت مع الظلمة، أو لأنّ كليهما - الشدة والظلمة - يوجبان هولاً شديداً مع عدم معرفة الإنسان لمصيره.

وقوله: {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} للتعميم، ولأجل بيان انقطاع الأسباب الظاهرية.

وقوله: {تَدْعُونَهُ} حال، أي من ينجيكم حال كونكم تدعون اللّه تعالى، وفي هذا بيان للجواب أيضاً.

وقوله: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (التضرع) هو التخشع والاستكانة وعادة يكون ذلك ظاهراً، فالمعنى تدعونه بلسانكم مستغيثين به، وأما (الخفية) فهو تعلّق القلب باللّه تعالى والإذعان له، ولعل هذا بيان لحالتين فابتداءً في أول ظهور أمارات الخطر يتعلّق القلب باللّه تعالى، فلمّا يحدق الخطر يتحول ذلك إلى

ص: 144

استغاثة باللسان وبصوت عالٍ عادة.

وقوله: {لَّئِنْ أَنجَىٰنَا} متعلق بقوله: {تَدْعُونَهُ} لأنه بمعنى القول، أي حال كونكم داعين بهذا الدعاء أن نجنّا يا اللّه ونحن نتوب إليك.

وقوله: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّٰكِرِينَ} هذا وعدهم بالتوبة مقابل نجاتهم، والشكر قد يكون بالقلب وقد يكون باللسان وقد يكون بالعمل، أما بالقلب فهو عرفان المنعم والإذعان به، وأما بالعمل فطاعته وعدم معصية، وأما باللسان فواضح.

الثالث: قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٖ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}.

بيان لتجذّر العناد والشرك في قلوبهم، وأنهم سوف لا يفون بوعدهم، كما مرّ في أصحاب جهنم حيث قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(1)، وهكذا وهم في الدنيا يعدون عند الشدة وينسون ما وعدوه عند الفرج.

وقوله: {يُنَجِّيكُم} كأنّه جملة شرطية فليس المقصود الإخبار كي يقال: كيف ذلك ونحن نشاهد عدم نجاة الكثيرين من الحوادث رغم دعائهم مخلصين؟

بل المقصود بيان رجوعهم إلى شركهم حين نجاتهم، فالمعنى إن نجاكم اللّه من تلك الشدة ومن كل كرب آخر لرجعتم إلى شرككم، واللّه العالم.

وقوله: {كُلِّ كَرْبٖ} الكرب هو شدة الغم والهم، والنجاة برفع سببه.

ص: 145


1- سورة الأنعام، الآية: 28.

وقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} بيان للحالة العامة لهؤلاء لأنهم معاندون، وهذالا ينافي اهتداء القليل بعد رفع تلك الشدة أو ذلك الكرب.

الرابع: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ...} الآية.

كأنه تهديد لهم بأنّا وإن أنجيناكم من تلك الظلمات والكروب إلاّ أن ذلك لا يعني عدم عذابكم مرّة أخرى لو عاندتم وبقيتم على التكذيب.

وقوله: {هُوَ الْقَادِرُ} تهديد بعذاب تكويني وعذاب اجتماعي، وليس هو مجرد تهديد، بل إن العذاب التكويني سيقع، ففي الروايات دلالة على تحقق الصيحة والخسف عند ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) (1)، وأما العذاب الاجتماعي فقد وقع وسيقع ماداموا مشركين - سواء بالشرك الجلي المخرج عن الملة أم بالشرك الخفي بخلط ولاية الظالمين بولاية الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) - ، ومن ذلك يعلم شمول هذه الآية لهذه الأمة أيضاً إن كذبت ببعض ما أنزل اللّه تعالى.

وقوله: {مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} وهما الجهتان اللتان يتوقع الإنسان منهما الخيرات والنعم فمن فوقه الغيث وفواكه الأشجار، ومن تحت أرجله العيون والزرع، لكن بعناده بالشرك ينزل العذاب عليه منهما، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2)، وقال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا

ص: 146


1- الكافي 8: 310.
2- سورة الأحقاف، الآية: 24.

وَفَارَ التَّنُّورُ}(1)، وقد يشمل ذلك العذاب الاجتماعي أيضاً عبر السلطان الجائر من فوقهم، والسفلة ومن لا خير فيهم من تحتهم، كما هو المروي(2).

وقوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} بيان للعذاب الاجتماعي، وهو تمزقهم إلى فرق متناحرة وقتل بعضهم بعضاً، و{يَلْبِسَكُمْ} من اللَبس بمعنى الخلط والاشتباه، و{شِيَعًا} جمع شيعة وأصلها من المتابعة والمطاوعة، ويكثر استعماله بمعنى الفرقة من الناس، وهذا هو المقصود هنا، أي يجعلكم فرقاً مختلفة متناحرة؛ وذلك لأن من لم يتبع الحق اتبع الهوى، والأهواء مختلفة فتكون سبباً لتفرق الناس، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(3).

وغير خفي أن مجرد الاختلاف في اللون أو اللسان أو الأفكار ونحوها لا يوجب التناحر بل هو من آيات اللّه تعالى كما قال: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(4)، وإنما التناحر ينشأ من دخول الهوى والعصبية.

وقوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} هذا بيان لعذاب اجتماعي آخر وهو مما ينتج من التفرق إلى فرق، وذلك هو العداء المستمر بأن يقتل بعضهم بعضاً أو يسيء بعضهم جوار بعض كما هو المروي(5)، و(البأس)

ص: 147


1- سورة هود، الآية: 40.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 566 عن مجمع البيان.
3- سورة الأنعام، الآية: 129.
4- سورة الروم، الآية: 22.
5- البرهان في تفسير القرآن 3: 566 عن مجمع البيان.

الشدة وكثيراً ما يطلق على الحرب.

وقوله: {انظُرْ} للتعجيب، أي تعجّب من هؤلاء المشركين حين بينّا لهم مختلف الأدلة لكنهم بقوا على عنادهم.

وقوله: {نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ} أي نكرّرها ونردّدها بمختلف الأساليب.

ص: 148

الآيات 66-70

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٖ 66 لِّكُلِّ نَبَإٖ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 67 وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَٰتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَٰنُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ 68 وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 69 وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسُ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٖ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ 70}

66- وقد يتسائل البعض بأن اللّه القادر على عذابهم لماذا لم يمنعهم من أول الأمر، فيقال في الجواب: {وَكَذَّبَ بِهِ} بالقرآن أو بتصريف الآيات {قَوْمُكَ وَ} لا عذر لهم في تكذبيه؛ لأنه {هُوَ الْحَقُّ} ولكن لا جبر عليهم من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا من اللّه تعالى {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٖ} حفيظ أدفع الضرر عنكم ولو بالجبر، بل أنا مبلّغ.

67- كما أن اللّه لا يكرههم على الإيمان؛ إذ {لِّكُلِّ نَبَإٖ} كخبر عذاب المكذبين في المستقبل {مُّسْتَقَرٌّ} وقت استقرار وتحقق، فكان من الحكمة تأخير الأمور إلى أوقاتها وليس من الحكمة الجبر على الإيمان بحيث ينتفي

ص: 149

العذاب من أصله، {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} به عند وقوعه لكن حينذاك لا ينفعكم التصديق.

68- {وَ} وحيث إن القوم قد كذبوا به فلا بد من عدم مشاركتهم في تكذيبهم، بل لا بد من نهيهم ف{إِذَا رَأَيْتَ} الخطاب للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمقصود به الأمة {الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَٰتِنَا} في القرآن، أي يدخلون فيه بالكلام بقصد الطعن والاستهزاء {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي لا تجالسهم واتركهم حالة خوضهم {حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غير القرآن من الكلام المباح، {وَإِمَّا} «إن» شرطية و«ما» للتأكيد {يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَٰنُ} بأن جلست مع الخائضين حال خوضهم {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ} بعد أن ذكرت الحكم الشرعي بالنهي {مَعَ الْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ} أي معهم، وإنما وضع الظاهر موضع الضمير تنبيهاً على ظلمهم وعلى سبب النهي عن مجالستهم، والمقصود بالكلام غير الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنه لا ينسى الحكم الشرعي أبداً، والجملة الشرطية صادقة حتى مع عدم تحقق طرفيها.

69- {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي ليس على المؤمنين الذي يرفضون مجالسة هؤلاء {مِنْ حِسَابِهِم} من حساب الخائضين {مِّن شَيْءٖ} والمعنى ليس على المؤمنين حساب هؤلاء الخائضين {وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ} أي على الذين يتقون أن يذكّروا الخائضين بقبح عملهم {لَعَلَّهُمْ} لعلّ الخائضين {يَتَّقُونَ} الخوض، أي لعلهم يتركونه، فإن النهي عن المنكر قد يؤثر أثره حتى في المعاند.

70- ثم يبيّن اللّه تعالى أن المكذبين والخائضين لم يستندوا على أساس

ص: 150

صحيح وأن عاقبتهم سيّئة فقال لنبيّة (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {وَذَرِ} اترك وأعرض عن {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} فاستبدلوا الدين الحق بالدين الباطل فخاضوا في آيات اللّه تعالى {وَغَرَّتْهُمُ} خدعتهم {الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} لهوهاولعبها وغير ذلك، {وَذَكِّرْ بِهِ} بالقرآن، أي ليكن إعراضك مع تذكيرهم، وذلك كراهية {أَن تُبْسَلَ} أي تمنع الثواب وتطرد من الرحمه {نَفْسُ بِمَا كَسَبَتْ} أي بسبب ما عملته من سيئات الأعمال والذي منه الخوض في الآيات، حال كونها {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ} يتولّى أمرها فينصرها {وَلَا شَفِيعٌ} فيشفع لها عند اللّه {وَإِن تَعْدِلْ} تدفع الفدية لإنقاذها من العذاب {كُلَّ عَدْلٖ} كل فداء {لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا} إذ لا بيع في الآخرة وإنما يُجازى كل إنسان بما عمله في الدنيا {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ} منعوا عن الثواب {بِمَا كَسَبُواْ} بسبب سيئات أعمالهم، ثم إضافة إلى المنع عن الثواب {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٖ} ماء يغلي {وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.

بحوث

الأول: كأنّ هذه الآيات بيان لسبب تأخير العذاب عن المكذِّبين مع كمال قدرته على عذابهم، وعلى منعهم عن التكذيب بإكراههم على الإيمان، فيقال: أما النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فليست مهمّته إكراههم بل مهمته التبليغ وإراءة الآيات وبيانها وهو قد صنع ما أُمر به بأحسن وجه، وأما اللّه سبحانه وتعالى فلأنَّ حكمته اقتضت إمهالهم وعدم إكراههم، لكن ذلك لا يعني إهمالهم، بل حينما يحين وقت عذابهم أخذهم اللّه بذنوبهم بغتة.

ثُمّ يتم بيان أنه لا يقف المؤمنون مكتوفي الأيدي أمام تكذيب أولئك

ص: 151

المكذِّبين، بل عليهم أولاً: عدم الجلوس في مجلس التكذيب، وثانياً: تذكير المكذبين ليتركوا تكذيبهم، فإن هؤلاء المكذبين خدعتهم الحياة الدنيا ولذلك اتخذوا الدين لعباً ولهواً، وإنما يتم تذكيرهم لتخويفهم عنعاقبة عملهم حيث لا ناصر ولا شفيع ولا فدية في يوم القيامة، بل يهلكون بسوء أعمالهم في العذاب الأليم.

الثاني: قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٖ}.

وقوله: {كَذَّبَ بِهِ} بالقرآن، أو بما نصرّفه من الآيات، أو بالعذاب، والأول أقرب.

وقوله: {قَوْمُكَ} قريش أو العرب، وكأنّه خصّهم بالذكر لشناعة تكذيبهم وهم يرون الآيات ويعرفون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حق المعرفة.

وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} بيان أن تكذيبهم لم يستند على برهان؛ إذ القرآن هو الحق، وما كان حقاً كان ثابتاً وعليه البراهين، فما يخالفه يكون باطلاً لا محالة، قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَٰلُ}(1)، وقال: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(2).

وقوله: {بِوَكِيلٖ} وهو الذي يتولى الأمور فيحفظ ما وُكّل به من المكاره والأسواء، فهو القائم على الشيء بحفظه ودفع الضرر عنه، والمعنى لست حفيظاً عليكم لأمنعكم عن التكذيب ولو بالقهر والإكراه، فأنتم مختارون

ص: 152


1- سورة يونس، الآية: 32.
2- سورة الأعراف، الآية: 118.

في قبولكم بالآيات أو رفضها، قال تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(1)، وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(2)، وقال: {أَنَّمَاعَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(3).

الثالث: قوله تعالى: {لِّكُلِّ نَبَإٖ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.

بيان أن تأخير العذاب إنما هو بحكمة ومصلحة، لكنه لا محالة واقع بالمكذّبين؛ إذ من المحال الكذب أو الخطأ في أخباره سبحانه وتعالى فما دام اللّه قد أخبر بالعذاب فلا محالة سيقع، لكن حيث لم تكن من الحكمة تعجيله لذلك أخّره اللّه تعالى إلى وقته المناسب له.

وقوله: {لِّكُلِّ نَبَإٖ} أي خبر، ومنه الخبر بعذابهم.

وقوله: {مُّسْتَقَرٌّ} أي زمان استقرار وتحقق، فلا يضرّ تكذيبهم أبداً، بل الضرر سيتوجه إليهم حيث لم يحذروا ولم يرعووا فكذّبوا.

وقوله: {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} حيث تضطرون إلى التصديق لمّا تشاهدون ذلك العذاب، لكن في الوقت الذي لا ينفعكم ذلك التصديق، وإن كان ولا بدّ من التصديق فلماذا يختار الإنسان الوقت غير المناسب؟! فالعاقل إذا علم بأنه لا بدّ له من فعل شيء - عاجلاً أم آجلاً - يفعله في أحسن الأوقات حيث النفع وعدم الضرر.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَٰتِنَا...} الآية.

ص: 153


1- سورة الكهف، الآية: 29.
2- سورة النور، الآية: 54.
3- سورة المائدة، الآية: 92.

قد مرّ بعض الكلام في سورة النساء في الآية 140 حيث قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ...} الآية(1)،

فلا بد للمؤمن أنيكون قوياً فلا يسمح بالاستهزاء بآيات اللّه، وإن لم يتمكن من المنع فلا أقل من عدم حضور تلك المجالس أو قطع المشاركة فيها مع تذكير أولئك ونهيهم؛ لأن حضوره قد يكون نوع تأييد، وحتى لو لم يكن تأييداً فإن استماع الباطل من غير ردّ أو من غير اعتراض قد يكون سبباً لتأثّر الإنسان بذلك الباطل وخاصة إذا كان أصحاب الباطل أقوياء بالسلطة والمال، فلا بد من اعتزالهم حين خوضهم.

وفي التقريب: «إن أول حركة لا بد أن يختلط المؤمنون بها والمناوؤن لها، ولا بد أن يكون ضعاف النفوس من المؤمنين يكتسبون من المعاندين بعض الأفكار المعادية، ولا أقل من أن يجبنوا عن الاستمرار والتظاهر، ولذا فمن اللازم أن يجنّب القادة أتباعهم من الاختلاط خصوصاً حالة التهجم من المعاندين»(2).

وفي مجمع البيان: «لأنّ من حاجّ مَن هذا حاله فقد وضع الشيء غير موضعه وحطّ من قدر البيان والحِجاح»(3).

وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ} الخطاب وإن كان للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ أن المقصود به الأمة، ويصح التكليف العام للجميع حتى وإن علمنا أن البعض لا يبتلى

ص: 154


1- راجع التفكر في القرآن، سورة النساء: 469.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 86.
3- مجمع البيان 4: 116.

بذلك التكليف، فالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكلّف بجميع الأوامر والنواهي مع العلم بأنه لا يرتكب المنهيات القبائح حتى لو لم يكن هناك نهي عنها.

وقوله: {يَخُوضُونَ} (الخوض) هو التوسط في الماء ونحوه يقال:خضت الماء وغيره، وتخاوضوا في الحديث والأمر، أي تفاوضوا وتداخل كلامهم(1)، وكل استعمالات هذه الكلمة في القرآن بالمعنى السلبي، كأنه أخذ في الخوض التخبّط.

وقوله: {فِي ءَايَٰتِنَا} القرآن وغيره من الآيات، وفي الأحاديث بيان مصاديق لها كالكلام في اللّه والجدال في القرآن وسبّ الإمام (عليه السلام) (2).

وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي قم من ذلك المجلس كما يدل عليه آخر الآية حيث يقول: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ}، وقوله في آية النساء: {فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ}(3).

وقوله: {حَتَّىٰ يَخُوضُواْ} انتهاء غاية الإعراض، ومفهوم ذلك جواز مجالستهم إذا خاضوا في أحاديث أخرى مباحة.

وقوله: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَٰنُ...} الجملة الشرطية صادقة حتى مع استحالة طرفيها، كما في قوله: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا۠ أَوَّلُ الْعَٰبِدِينَ}(4)، وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(5)، فلا نسيان

ص: 155


1- راجع مقاييس اللغة: 317.
2- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 568-569.
3- سورة النساء، الآية: 140.
4- سورة الزخرف، الآية: 81.
5- سورة الأنبياء، الآية: 22.

للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا قعود له معهم حين خوضهم أبداً، لكن الغرض بيان الحكم الشرعي والذي لا بدّ للجميع من تنفيذه، فمن نسي حراماً فارتكبه لا شيء عليه مادام ناسياً فإن تذكّر فلا بدّ من تركه فوراً.

الخامس: قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن...} الآية.

كأنّ المقصود أن عمل المؤمنين بالإعراض عن الخائضين ليس محاسبة للخائضين - إذ حسابهم على اللّه تعالى - بل الغرض منه هو تذكيرهم بقبح عملهم عسى ولعلّ أن يتركوه.

وقوله: {مَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي المؤمنين، وكأن المراد من تقواهم هنا إعراضهم؛ لأن في ذلك وقاية لأنفسهم عن التأثر بأباطيل المكذبين المستهزئين، كما أنه وقاية لها عن الحرام.

وقوله: {وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ} أي ليس محاسبة ولكن تذكيراً لهم، وإنما قال {ذِكْرَىٰ} لأن الخائض بفطرته يعلم قبح عمله لكنه غافل عنه فكان لا بد من تذكيره.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي لعل الخائضين يجتنبون الخوض، فالتقوى هنا بمعنى منع النفس عن الخوض، ويحتمل أن يكون المراد لعلّهم يؤمنون؛ لأنّ ترك قبيح ٍ قد يؤدي إلى ترك سائر القبائح، كما أن فعل قبيح ٍ قد يجرّ الإنسان إلى التمادي في سائر القبائح، والأول أظهر.

السادس: قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ...} الآية.

بيان أن عمل الخائضين باطل لا برهان لهم عليه قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ

ص: 156

مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرْهَٰنَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَٰفِرُونَ}(1)، بل منطلقهم الهوى.

وقوله: {وَذَرِ} أي اتركهم وأعرض عنهم، وكأن المراد هو إعراض إنكار لا إعراض مقاطعة كما قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ}(2).

وكأنّ هذا تعميم، أي كما عليك أن تعرض عن الخائضين كذلك أعرض عن كل مخدوع بالدنيا.

قوله: {اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ} إما بمعنى الدين الباطل الذي هم عليه من الشرك والتكذيب والخوض ونحو ذلك فهذا كله لعب ولهو، وإما بمعنى أن الدين الحق الذي أنزله اللّه عليهم جعلوه مرمى لاستهزائهم ولهوهم ولعبهم، وأقرب إلى السياق.

وقوله: {لَعِبًا وَلَهْوًا} قد مرّ أن اللعب هو العمل الذي لا غرض فيه واللّهو هو ما يسبب غفلة الإنسان وانشغاله عن مهماته.

وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} كأن هذا تعليل لاتخاذ دينهم لعباً ولهواً؛ إذ خدعتهم الدنيا فشغلتهم عن أمر دينهم الحق.

وقوله: {وَذَكِّرْ بِهِ} أي بالقرآن، فالمعنى لا يكن إعراضك إعراض مقاطعة، بل عليك التذكير عسى أن ينفعهم.

وقوله: {أَن تُبْسَلَ} من البَسل والبسالة وهو المنع، ويطلق على الحرام لأنه ممنوع، وعلى الشجاع لامتناع إصابته بمكروه في الحرب، وعلى إيقاع

ص: 157


1- سورة المؤمنون، الآية: 117.
2- سورة النساء، الآية: 63.

النفس في الهلاك لأنه منع عن الثواب والجنة، فالمعنى أن تذكيرك بالقرآن تحذير لهم من منعهم عن الثواب إن استمروا على كفرهم وإثمهم.

وقوله: {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ...} بيان عدم تمكنهم من فك أنفسهم منعذاب اللّه تعالى؛ إذ لا يأذن اللّه بأن ينصرهم أحد أو يشفع لهم كما أنه لا يقبل فدية منهم.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ} أي مُنعوا بسبب سوء أعمالهم؛ لأن اللّه تعالى ليس بظلام للعبيد.

وقوله: {لَهُمْ شَرَابٌ...} أي عذاب في داخلهم بشراب الحميم، وعذاب في خارجهم يمس جلودهم وهو العذاب الأليم، وسبب ذلك العذاب كفرهم فقد نالوا عقابه.

ثم إنه لا تكرار في قوله: {أَن تُبْسَلَ نَفْسُ بِمَا كَسَبَتْ} وقوله: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ}؛ إذ الأول إنذار وتهديد ليتركوا غيَّهم والثاني إخبار عن حالهم بعد استمرارهم في غيّهم، فليس مجرد وعيد قد يتغاضى عنه.

كما أن الفرق بين قوله: {الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} وقوله: {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، أن الإبسال هو الطرد من الرحمة ومنع الثواب، وشراب الحميم والعذاب هو العقاب.

ص: 158

الآيات 71-73

اشارة

{قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰنَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَٰطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَٰبٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ 71 وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 72 وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَٰلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ 73}

ثم يبين اللّه بطلان الشركاء بعجزهم عن كل شيء واستدل للتوحيد بقدرة اللّه على النفع والضرر، فقال:

71- {قُلْ} يا رسول اللّه لهؤلاء المشركين المكذبين {أَنَدْعُواْ} الاستفهام إنكاري، أي هل نعبد {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {مَا لَا يَنفَعُنَا} إن عبدناه {وَلَا يَضُرُّنَا} إن رفضناه {وَنُرَدُّ} بعبادتنا لغير اللّه {عَلَىٰ أَعْقَابِنَا} نرجع إلى الوراء القهقرى {بَعْدَ إِذْ هَدَىٰنَا اللَّهُ} إلى دينه، فالذي يهتدي يتقدم فإن ضلّ انتكس وارتكس، فحينئذٍ مَثَله {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ} خدعته وأغوته {الشَّيَٰطِينُ} مَرَدة الجن {فِي الْأَرْضِ} في الصحارى {حَيْرَانَ} ضال عن الطريق {لَهُ أَصْحَٰبٌ} رفقاء {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} الطريق

ص: 159

الواضح الموصل إلى النجاة قائلين له: {ائْتِنَا} تعال إلينا، لكنه لم يستمع إلى أصحابه فاتّبع الشياطين ثم تاه في الأرض وهلك، وحيث عرفتم المَثَل ف{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ} دينه الذي دلّ عليه بالتوحيد والعمل الصالح {هُوَ الْهُدَىٰ} وحده وليس الشرك إلاّ الضلال، واتّباع من يدعو إليه كاتّباع الشياطين في الصحراء يُردي الإنسان إلى الهلاك، {وَ} هذا بدلالة العقل، كما أن اللّه تعالى أرشدنا إليه فقد {أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} نخضع {لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ} الذي يربينا ويصلح أمرنا كما أصلح أمر كل شيء، هذا في العقيدة.

72- {وَ} أما في العمل فقد أمرنا ب{أَنْ أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} وذلك أهم طاعاته {وَ} أمرنا بأن {اتَّقُوهُ} وذلك بتجنب معاصيه، {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازي كلاً على عمله، فالنفع والضرر عنده لا عند الشركاء المزعومين.

73- ثم يبيّن اللّه تعالى الدليل على كون هداه هو الحق بأن أصل الخلق حق، فقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} لا باطل فيه، وبأن تدبيره وتصرفه حق فقال: {وَيَوْمَ يَقُولُ} للشيء لتدبير أمره {كُن فَيَكُونُ} كما أراده اللّه تعالى ف{قَوْلُهُ} هذا {الْحَقُّ} أيضاً، {وَ} بأن القيامة بيده ف{لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} وهو ابتداء القيامة، وبأنه {عَٰلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ} ما غاب عن الحواس وما حضرها {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في أفعاله {الْخَبِيرُ} العالم بحقائق الأشياء، ومن كانت هذه صفاته فهداه هو الحق الذي لا بدّ أن يتّبعه الناس.

ص: 160

برهان للتوحيد عبر بيان عجز الشركاء

بحوث

الأول: تتضمن هذه الآيات الاستدلال على التوحيد عن طريق بيان عجز الشركاء المزعومين، فلا يقدرون لا على نفع ولا على ضرر، وأما اللّه تعالىفهو الذي بيده كل نفع وكل ضرر، فتركه ضلال.

ثم يذكر اللّه مَثَلاً مما يعرفه الناس في من يسير مع قافلة ثم يأتيه شياطين يخدعونه فيترك رفقائه الذين هم على الجادة ولا يصغي إلى دعوتهم له، بل يتّبع الشياطين فيضل في القفر ويهلك.

وبعد هذا المَثَل يبين اللّه أن الهداية من اللّه دلّ عليها العقل، وهو سبحانه أرشدنا إليها عبر الأمر بالخضوع للّه وطاعته بإقامة الصلاة وترك المعاصي، وأن الحشر إليه فيجازي على الاهتداء والطاعة وترك المعصية، فهو النافع الضار دون شركائهم.

ثم بعد ذلك يستدل اللّه على أن هداية اللّه هي الهداية الحق؛ وذلك لأنها متطابقة للواقع حيث إن اللّه هو الخالق بالحق وهو المدبّر بالحق، وهو مالك يوم الجزاء، وهو العالم بكل شيء بحكمة وخبرة، ومن كان هذا شأنه فلا شك في كون هدايته هي الحق لا حق سواها.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰنَا اللَّهُ}.

استفهام إنكاري لإبطال الشركاء عبر بيان عجزهم، وهو الذي يقرّ به المشركون أيضاً، بل كانوا يزعمون أن لها مجرد الشفاعة.

وقوله: {مِن دُونِ اللَّهِ} من دون إذنه، فليس لها الشفاعة المزعومة ولا

ص: 161

يتمكن المشركون من إثبات ذلك ببرهان سوى أنهم وجدوا آباءهم على هذه الضلالة، وحتى الشفعاء الذين أذن اللّه تعالى لهم كالملائكة والأنبياء والأئمة(عليهم السلام) فإنما تمكّنوا من الشفاعة لأن اللّه أذن لهم وذلك دليل علىعبوديتهم؛ إذ لو كانوا آلهة لما احتاجوا إلى إذن أحد.

وقوله: {وَلَا يَضُرُّنَا} هي بنفسها لا تتمكن من الإضرار لكن اللّه تعالى يعاقِب من عَبَدها، ولذا قد ينسب الضرر إليها مجازاً كقوله: {يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ}(1).

وقوله: {وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا} أي نرجع إلى الشرك كالذي يرجع القهقرى على رجله.

وغير خفي أن كل كمال من اللّه تعالى، وأن اللّه تعالى لمّا خلق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خلقه مهتدياً، فكان خلقه من اللّه وهدايته أيضاً منه، فلو فرض - فرضاً محالاً - شركه فإنما يكون رجوعاً عن هذه الهداية التي لم تكن باقتضاء ذاته وإنما بفضل من اللّه تعالى، ولذا صحّ التعبير بقوله: {وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰنَا اللَّهُ} فإن منع استمرار أيِّ كمال - حتى لو كان من حين أصل الخلق - إنما هو ردّ للشيء إلى حالته الأصلية من الفقر، حيث إن الناس حتى الأنبياء فقراء إلى اللّه في كل شيء، وبهذا يتبيّن بطلان زعم من زعم أن الأنبياء كانوا مشركين قبل نبوتهم - والعياذ باللّه - مستدلاً بكلمة الردّ التي تعني الرجوع حيث لا رجوع إلاّ لما كان موجوداً من قبل!! فإن هذا من أجلى مصاديق سوء الفهم للآيات، نستجير باللّه منه.

ص: 162


1- سورة الحج، الآية: 13.

والردّ على العقب هو أسوء أنواع التراجع؛ لأن الذي يرجع القهقرى يضع عقب قدمه أولاً، فهو مع أنه يرى الطريق أمامه يُعرض عنه فلا يكون ذلك إلاّ عن سفاهة.

الثالث: قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَٰطِينُ فِي الْأَرْضِ...} الآية.

هذا مَثَل للذي يضلّ بعد الهداية، وهو مَثَل من صميم الواقع وليس تخييلاً أو مجاراة للمشركين كما زعمه البعض، فالقرآن يَجلُّ عن التخييل والمجاراة، ولا يحتاج إلى ذلك لإثبات الحقائق.

وذلك أن الناس حينما كانوا يسيرون في قافلة على الطريق ومعهم أدلّاء كان يعرض على بعضهم الصرع بمسّ من الشيطان فيخدعه بأن رفقاءه في القافلة يسيرون نحو المتاهة وأنهم سيهلكون، ثم يصوّر له الشيطان طريقاً موهوماً يزعم أنه الجادة التي توصل إلى المقصد، وحينئذٍ كان يسير في الطريق المزعوم ولا يلتفت إلى نداء رفقائه وبذلك يضلّ الطريق ولا يهتدي ويبقى حائراً إلى أن تأتيه المنيّة، فهذا كان في الطريق الصحيح إلاّ أنه بإغواء الشيطان ضل، وهكذا من ارتد بعد هدايته، وقد مرّ بعض الكلام(1) في مس الشيطان في قوله تعالى: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَٰنُ مِنَ الْمَسِّ}(2).

وقوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ} إما من (الهَوى) أي الميل إلى الشيء بشهوة، وإما من (الهُوِيّ) بمعنى السقوط، فالمعنى على الأول كالذي أغوته، وعلى الثاني كالذي أسقطته، والمعنييان متقاربان.

ص: 163


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 406.
2- سورة البقرة، الآية: 275.

وقوله: {حَيْرَانَ} أي لا يدري هل يتّبع رفقاءه أم يتّبع الشيطان، أو بمعنى أنه بعد انخداعه يتحيّر في الصحراء حيث تتركه الشياطين ويفقد الرفقة فلا يدري إلى أين يسير ويبقى هكذا حتى يهلك.

وقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ...} أي بعد أن عرفتم المَثَل وأدركتم الأمر بواسطته فاعلموا أن الهداية للدين القويم إنما هي من اللّه تعالى وليس فيها عبادة الأصنام والشرك والكفر، فاللّه يدعوكم إلى الهدى والشياطين تدعوكم إلى الضلال، وهذا ما يدل عليه العقل السليم، وأما ما يدل عليه النقل ففي الآية التالية.

الرابع: قوله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ...} الآية.

أي كما دلّ العقل على أن الهداية من اللّه تعالى لا من غيره، كذلك دلّ الشرع حيث أرشدكم اللّه عبر أوامره إلى حكم العقل.

وأما أوامر اللّه تعالى فهي:

1- قوله: {لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ} أي أمرنا لكي نخضع له، ونسلّم أمرنا إليه، لا إلى الأصنام والشياطين الداعية إليها، هذا في مجال العقيدة.

2- قوله: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} هذا في مجال الطاعة، وذكر الصلاة من باب أهم مصاديق العبادة الجامعة للعقائد والتخشّع.

3- قوله: {وَاتَّقُوهُ} هذا في مجال ترك المعصية بأن يخاف الإنسان فيحفظ نفسه عن سخط اللّه بترك المعصية.

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} عطف على قوله: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ

ص: 164

الْهُدَىٰ} فالمعنى الهداية منه والحشر إليه فيجازي المهتدي والضال، فلا بد من قبول هدايته لجلب النفع بالثواب ودفع الضرر بالعقاب.

الخامس: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّوَيَوْمَ...} الآية.

كأنّ هذه الآية للاستدلال على أن الهداية من اللّه تعالى حصراً؛ وذلك لأن اللّه هو الحق وأوصافه حق وأفعاله حق وهو المالك ليوم الجزاء، ومن كانت هذه صفاته فهداه حق فلا بد من اتّباعه.

وقوله: {بِالْحَقِّ} أي خلقاً حقاً لا باطل فيه فلم يخلق للّهو واللعب والعبث تعالى اللّه عن ذلك، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَٰعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَٰعِلِينَ}(1).

وقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} كأنّ هذا لبيان أن تدبيره وتصرفه في الكون هو حق أيضاً، ف{يَوْمَ} يتعلّق بقوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} فالمعنى إن قوله الحق حينما يقول كن فيكون، وقيل: {وَيَوْمَ} عطف على {السَّمَٰوَٰتِ} أي خلق السماوات والأرض بالحق وخلق يوم القيامة الذي يقول فيه كن فيكون بالحق أيضاً. والأول أقرب وأنسب بالسياق.

وقوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ...} أي في يوم القيامة هو المالك لكل شيء، وملكيّته لكل شيء وإن كانت دائمة، إلاّ أنه في يوم القيامة تبطل الملكيات الاعتبارية التي كانت في الدنيا، وحينئذٍ تظهر الملكية الحقيقية للّه تعالى ولجميع الناس.

ص: 165


1- سورة الأنبياء، الآية: 16-17.

وقوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} ظرف لقوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ}، كما قال تعالى: {يَوْمَ هُم بَٰرِزُونَ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِالْوَٰحِدِ الْقَهَّارِ}(1)، و{الصُّورِ} هو البوق ينفخ إسرافيل فيه مرتين، الأولى لإهلاك جميع الخلائق والثانية لإحيائهم في يوم القيامة، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَٰبُ وَجِاْيءَ بِالنَّبِیِّینَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(2).

وقوله: {عَٰلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ} فهدايته عن علم لأنه العالم بكل شيء.

وقوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فهدايته بحكمة - التي هي الإحكام ويلازمه وضع الشيء في موضعه - ، كما أنه خبير بما يصلح الإنسان عمّا يفسده، فهدايته متلائمة مع خلقه الإنسان، فتطابق التكوين مع التشريع.

والحاصل: إنه لا بد من قبول هدايته؛ لأنه الخالق لكل شيء بالحق، والمدبّر لكل شيء بالحق، وهو مالك يوم الجزاء يثيب من اهتدى ويعاقب من ضلّ، وهدايته عن علم لأنه عالم بكل شيء كما أنها بحكمة وخبرة.

ص: 166


1- سورة غافر، الآية: 16.
2- سورة الزمر، الآية: 68-69.

الآيات 74-79

اشارة

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً إِنِّي أَرَىٰكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ 74 وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ 75 فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْأفِلِينَ 76 فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ 77 فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 78 إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 79}

وكان من حجج المشركين اتّباعهم لآبائهم، فيذكر اللّه تعالى توحيد إبراهيم (عليه السلام) وحججه فيه وهو الذي يفخرون بالانتساب إليه، فقال:

74- {وَإِذْ} أي اذكر الوقت الذي {قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ} وكان عمّه أو جدّه لأمه والعرب تسميهما أباً: {أَتَتَّخِذُ} استفهام للتعجب {أَصْنَامًا ءَالِهَةً} فقد كان ينحتها ويبيعها فكيف يكون المصنوع إلهاً لصانعه؟! {إِنِّي أَرَىٰكَ وَقَوْمَكَ} الذي يعبدونها مثلك {فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} واضح الضلالة؛ لأن الإله هو الخالق الرازق لا المصنوع العاجز.

75- {وَكَذَٰلِكَ} أي وبمثل هذه الفطرة السليمة التي علم بها قبح اتخاذ الأصنام آلهة {نُرِي إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} ملكهما العظيم،

ص: 167

أي أريناه آياتنا في السماوات والأرض ليكون دليلاً آخر يضاف إلى فطرته فيستدل بها للآخرين {وَلِيَكُونَ} في نفسه {مِنَ الْمُوقِنِينَ} يقيناً بالرؤية بعدأن كان يقيناً بالفطرة.

76- ولمّا علّمناه حاجج قومه {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ} أظلم وستر بظلامه كل شيء {رَءَا كَوْكَبًا} وهو الزهرة {قَالَ} في صورة استفهام وكان قصده الإنكار: هل {هَٰذَا رَبِّي}؟ لعلّه كان يريد منهم بيان الدليل لكنهم عجزوا عن إقامة الدليل فنقض ربوبية الكوكب في الوقت المناسب {فَلَمَّا أَفَلَ} غرب الكوكب {قَالَ لَا أُحِبُّ الْأفِلِينَ} فالرب لا يأفل عن المربوب وإلاّ لم يكن ربّاً، وكأنه استدل ببرهان الحركة والتغيّر الذي هو صفة الممكن المخلوق دون الرب الخالق، وعدم الحب يلازم عدم اتخاذه ربّاً، وفي ذلك نوع تدرّج في إبطال عقيدتهم.

77- {فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا} آخذاً في الطلوع {قَالَ} مستفهماً بإنكار: هل {هَٰذَا رَبِّي}؟ حينما شاهدهم يعبدونه بعد الكوكب، {فَلَمَّا أَفَلَ} غرب القمر {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} تعريض بهم بأنهم ضالون غير مهتدين وأن هناك رب آخر غير القمر، فتدرّج بعد بيان عدم حب الآفل إلى التعريض بضلال عبدة الآفلين.

78- {فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً} مبتدأة في الشروق {قَالَ} مستفهماً بإنكار: هل {هَٰذَا رَبِّي}؟ ثم طعن في حجتهم على ربوبيتهما بأن {هَٰذَا أَكْبَرُ} من الكوكب والقمر، {فَلَمَّا أَفَلَتْ} الشمس {قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} فبعد عدم الحب والتعريض بضلالهم بيّن براءته من شركهم.

ص: 168

79- ثم بيّن أن المستحق للربوبية هو الخالق لها ولكل شيء قائلاً: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي قصدت بإخلاص وإقبال {لِلَّذِي فَطَرَ} خلق {السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} مائلاً من باطلهم إلى الحق {وَمَا أَنَا۠ مِنَالْمُشْرِكِينَ} فكما اتّخذتُه إلهاً كذلك اتّخذتُه ربّاً.

من أدلة إبطال الشركاء

بحوث

الأول: بعد أن بيّن اللّه تعالى مجموعة من أدلة التوحيد، بيّن قصة إبراهيم (عليه السلام) مع قومه واحتجاجاته في التوحيد، وكأنّ ذلك لدحض حجة من حجج المشركين بأنهم على دين آبائهم؛ إذ كانوا يقولون: {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم مُّهْتَدُونَ}(1)، فيقال لهم إن خير آبائكم إبراهيم (عليه السلام) كان موحداً غير مشرك فلماذا تتركون اتّباعه؟! مضافاً إلى بيان استدلاله على بطلان الشركاء، فقد أبطل اتخاذ الكوكب والشمس والقمر آلهة مع أن لها نفعاً للناس وهي متحركة، فكيف بالأصنام التي لا تنفع ولا حركة لها؟!

وحاصل الكلام أن اللّه أرى إبراهيم (عليه السلام) فطرته التي تأبى اتّخاذ الأصنام آلهة، كما أراه ملكوت السماوات والأرض ليرى آيات صنع اللّه تعالى وبذلك يكون موقناً، فيجادل أهل الباطل بالحق عن يقين وجزم، لا كمجادلتهم لدحض الحق بالظن والشك.

ثم يستدل على بطلان ألوهيتها بأفولها، وتدرّج في تقرير هذا البرهان أولاً: بأنه لا يحب الآفلين، وثانياً: بأن اتخاذها آلهة ضلال، وثالثاً: بأنه برئ

ص: 169


1- سورة الزخرف، الآية: 22.

من شركها، وبعد ذلك يستدل على أن الربوبية منحصرة في الخالق لكل شيء الذي لا أفول له.

والظاهر أن عبدة الأصنام والكوكب والقمر والشمس جماعة واحدة،وهم قومه، كما ينقل ذلك عن علماء الآثار بأنهم كانوا يعبدونها جميعاً، وقد تدرّج معهم في إبطال ربوبيتها بالطريقة المذكورة لتكون الحجة أوقع في نفوسهم ولعدم إثارتهم من البداية لئلا يغلقوا عقولهم على سائر كلامه كما هو المشاهد في تعصب أهل الباطل على باطلهم إذا جُوبهوا بالعنف والتسخيف في أول المحاججة، فالأسلوب الأمثل هو التدرج معهم بالبرهان حتى تنفذ الحجة في قلوبهم.

نسبة إبراهيم (عليه السلام) إلى آذر

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ}.

لم يكن آزر والداً لإبراهيم (عليه السلام) وإنما تربّى إبراهيم في بيته، فإما كان عمّه أو كان جدّه لأمه، وقيل: كان زوج أمّه بعد وفاة أبيه في صغره، وكل هؤلاء تسميهم العرب وغير العرب بالأب، فمثلاً أطلق الأب على إسماعيل (عليه السلام) بالنسبة إلى أولاد إسحاق (عليه السلام) ، قال تعالى: {قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَائِكَ إِبْرَٰهِۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ}(1)، ولعلّه لذلك ذكر اسم (آزر) مع أنه لا غرض في ذكر اسمه لو كان والداً لإبراهيم (عليه السلام) فكان يكفي أن يقول: قال إبراهيم لأبيه أتتخذ...، بل كان اسم والد إبراهيم (عليه السلام) تارخ أو تارح، ويدل على ذلك أن اللّه تعالى نهى إبراهيم (عليه السلام) عن الاستغفار للمشركين وأن إبراهيم (عليه السلام) تبرأ من آزر، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ

ص: 170


1- سورة البقرة، الآية: 133.

إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٖ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}(1)، ومع ذلك في أواخر حياته استغفر لوالده مما يدل على أن آزر لميكن والده، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} إلى قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}(2)، استغفر له وعبر عنه بالوالد ولم يعبر عنه بالأب؛ لأن الوالد لا يطلق على غير من ولد الإنسان.

وفي مجمع البيان: «قال أصحابنا: إن آزر كان جدّ إبراهيم لأمّه، أو كان عمّه، من حيث صحّ عندهم أن آباء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى آدم كلهم كانوا موحدين، واجتمعت الطائفة على ذلك، وروي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: لم يزل ينقلني اللّه من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني في عالمكم هذا، لم يدنسني بدنس الجاهلية، ولو كان في آبائه كافر لم يصف جميعهم بالطهارة مع قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}(3)، ولهم في ذلك أدلة ليس هنا موضع ذكرها»(4).

الثالث: قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً إِنِّي أَرَىٰكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}.

الاستفهام للتعجب وكأنّه لإيقاظ فطرته؛ لأن آزر كان ينحت الأصنام ويبيعها، فكيف يكون المصنوع إلهاً لصانعه، وهو لا يتمكن من النفع

ص: 171


1- سورة التوبة، الآية: 114.
2- سورة إبراهيم، الآية: 39-41.
3- سورة التوبة، الآية: 28.
4- مجمع البيان 4: 128-129.

والضرر، وقد فصلّت آيات أخرى احتجاجه هذا، منها قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَٰهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَٰكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْيَضُرُّونَ}(1)،

وقال: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}(2)، ولعل عدم التفصيل في هذا البرهان - وهو برهان الفطرة - هنا لأنه قد تمّ بيانه مفصلاً في الآيات السابقة، فلذا تمّ بيانه إجمالاً ثم انتقلت الآيات إلى برهان آخر وهو برهان الأفول ففصّلت فيه لعدم ذكره سابقاً.

وقوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً} قيل: تنكير الأصنام لتحقيرها، مع فقدانها لكل صفات الإله، فلا حياة ولا علم ولا قدرة ولا خلق، بل هي مصنوعة بيد مصنوع آخر!

وقوله: {فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} إذ من الضلال الواضح تخشّع الأعلى - بالحياة والقدرة والعلم - للأسفل الفاقد لجميعها.

الرابع: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}.

هذه مقدمة لبيان حجته التالية في أفول ما اتّخذوه أرباباً؛ لأن من رأى الملكوت وأيقن بربوبية اللّه تعالى يعلم ببطلان كل إله وربّ غير اللّه ويمكنه جدالهم ودحض حججهم.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ} أي كما أريناه بفطرته السليمة كون عبادة الأصنام

ص: 172


1- سورة الشعراء، الآية: 69-73.
2- سورة الصافات، الآية: 95-96.

ضلالاً، أريناه الملكوت.

وقوله: {مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} الملكوت على وزن فعلوت يدل على الكثرة والمبالغة، والمقصود هنا الملك العظيم، الدال على الخالق، أماالأصنام والكواكب وسائر الآلهة فهي عاجزة عن خلق وتدبير هذا الملك العظيم.

ورؤية الملكوت على قسمين: فتارة ما يراه عامة الناس لكن يغفل عنه الأكثر فإن التفتوا وتأمّلوا ظهر لهم ذلك الملك العظيم واهتدوا بذلك إلى خالقه العظيم، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٖ}(1).

وتارة رؤية إعجازية بكشف الغطاء عن البصر، وذلك خاص بالمعصومين(عليهم السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «كشط لإبراهيم السماوات السبع حتى نظر إلى ما فوق العرش، وكشط له الأرضون السبع، وفعل بمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل ذلك، وإني لأرى صاحبكم والأئمة من بعده قد فعل بهم مثل ذلك»(2).

وقوله: {وَلِيَكُونَ} كأنه عطف على مقدّر، أي ليستدل وليوقن، فالاستدلال لغيره واليقين لنفسه، والترتيب هو اليقين ثم الاستدلال، وإنما عكس لأن الكلام في الأدلة على التوحيد، فلذا أريناه ليستدل وليوقن.

وقوله: {مِنَ الْمُوقِنِينَ} (اليقين) هو القطع المطابق للواقع سواء أذعن

ص: 173


1- سورة الأعراف، الآية: 185.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 572؛ عن بصائر الدرجات: 107.

الإنسان له أم جحده، وفي الروايات يستعمل اليقين - كاصطلاح - في العلم المستتبع للعمل، وقيل: المراد اليقين العيني بعد أن كان يقيناً نظرياً، فإن اليقين العيني لا يزول أبداً بخلاف اليقين النظري حيث يمكن زوالهبالتشكيكات، وقد مرّ بعض الكلام(1) في قوله تعالى: {قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(2).

الخامس: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي...} الآية.

روي أن ذلك كان في أول ظهور له في قومه بعد أن كان مخفياً عنهم من ولادته حذراً من قتله(3)، حيث كان قومه عبدة أصنام وكواكب وغيرها، وهذا حال الكثير من المشركين وخاصة في بداية أمرهم حيث كانوا يتصورون آلهة مزعومة ثم ينحتون لها صوراً في مجسمات ثم بمضيّ الزمان تتحول عقيدتهم إلى ألوهية تلك الأصنام، كما أنهم يتوهمون ألوهية كل ظاهرة طبيعية لا يتمكنون من الوصول إليها ومن أبرزها الشمس والقمر والكواكب.

وقوله: {جَنَّ} بمعنى أظلم وأرخى ستره، وأصل مادة (ج ن ن) بمعنى الستر ومنه الجنين والجنون والجنة والجن.

وقوله: {رَءَا كَوْكَبًا} أي رآه ورأى عباداً له، فاستفهم منهم بأنه هل هذا

ص: 174


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 341.
2- سورة البقرة، الآية: 260.
3- راجع في البرهان في تفسير القرآن 3: 577.

هو الربّ، وهذا في ظاهره استفهام وفي باطنه إنكار، وحذف همزة الاستفهام شائع في لسان العرب وغيرهم، وهذا الكوكب هو الزهرة كما فيالروايات(1)، ويؤيده الاعتبار فإن الزهرة تظهر في أول الليل، وبعد منتصف الشهر القمري تظهر ثم تغيب وبعد ذلك يطلع القمر.

وقوله: {هَٰذَا رَبِّي} كأنّ أولئك الأقوام لم يكونوا يقولون بألوهية الكوكب وإنما كانوا يعتبرونه المدبّر لأمر الخلق ولذا قال {هَٰذَا رَبِّي} ولم يقل هذا إلهي، وهذا الزعم استمر في كثير من الأمم حتى وصل إلى البعض ممّن يظهرون الإسلام حيث يزعمون النجوم والكواكب تدبّر أمر العالم! وبذلك أشركوا مع اللّه تعالى مخلوقاته.

وقوله: {أَفَلَ} الأفول هو الاستتار وراء الشيء، ولا يستعمل إلاّ في الشمس والقمر والكواكب والنجوم، واستعماله في غيرها مجاز.

وقوله: {لَا أُحِبُّ الْأفِلِينَ} أي لا أحبها من جهة العبادة، وهذا لا ينافي حبّها من جهة كونها مخلوقات للّه تعالى نافعة، أي كيف يكون ربّاً ومدبراً مع أنه غاب، والمدبّر لا بد من حضوره دائماً، وإلاّ انقطع تدبيره؟!

وقد يقال: إنه استدلال بالحركة والتغيّر، فإن ذلك شأن المخلوق لا الخالق.

وقد يقال: إنه استدلال بعدم الحب؛ لأن الإنسان يحب ربّه لمّا يرى أنه ينفعه ويدفع الضرر عنه، فإذا أفل الشيء انقطع نفعه ودفعه للضرر فلا وجه لحبّه! وما ذكرناه أظهر وأنسب لسياق الآيات.

ص: 175


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 571؛ عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 197.

السادس: قوله تعالى: {فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا...} الآية.أيضاً استدلال على بطلان ربوبيته بالأفول، ولعله كرّره لأجل التدرج الذي ذكرناه حيث بيّن لعبّاد الكوكب أنه لا يحب الآفلين وكان في ذلك إلقاء الاستدلال بالأفول في فكرهم، ثم تدرّج إلى أن عبادة الآفل ضلال، ولا بد من أن يكون الرب غيره ولذا لا بد من دعائه ليهدي الإنسان إليه.

وقوله: {بَازِغًا} البزوغ أول الطلوع، وهو أيضاً خاص بالشمس والقمر والكواكب والنجوم.

وقوله: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي...} أظهر لهم أن اتخاذه رباً وعبادته ضلال لأنه آفل، وأنه لا بد من التوجه إلى الرب الحقيقي للّهداية إليه، وهذا أيضاً ضمن التدرّج في إرشادهم بأن لهم ربّاً غير هذا الذي يعبدونه وأنه لا بدّ لهم من دعائه ليهديهم إليه، ومراعاةً للتدرّج لم يقل لهم إنكم ضالون بل قال إن عبادته تجعل الإنسان من الضالين.

وقد مرّ الكلام في أن الهداية من اللّه تعالى، والضلال بمعنى الخذلان أيضاً منه حينما يُسيء الإنسان العمل.

السابع: قوله تعالى: {فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ...} الآية.

بعد أواسط الشهر يغرب القمر في أواخر الليل بحيث تطلع الشمس بعد أفوله بفترة وجيزة، وقد رآهم يعبدونها فكرّر عليهم السؤال كما فعل معهم حينما رآهم يعبدون الكوكب والقمر، لكن ذكر ما يمكن أن يكون دليلاً لهم وهو أن الشمس أكبر، حتى يكون نقض الحجة أوقع، بحيث لما غابت

ص: 176

قال هذا الذي هو أكبر ولا شيء أكبر منه في تصوركم لا يصلح للربوبيّةلأنه آفل، فلا بد أن يكون الرب أكبر من أن يوصف بأوصاف المخلوقين وأعظم، وبعبارة أخرى: إن كان المنطق في عبادة الشمس كونها أكبر فحقُّ العبادة لا بد أن يكون للّه تعالى؛ لأنه الكبير المتعال وهو أكبر من أن يوصف بمقدار أو حجم أو صورة.

وقوله: {بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} هنا وصل إلى الغاية في التدرّج فبيّن لهم أنه يتبرأ من شركهم لبطلان ربوبية الأرباب المتفرقين.

فحاصل البرهان في هذه الآيات هو بطلان ألوهية وربوبية الآفل الزائل فلا يصح اتّخاذه شريكاً للّه.

و(ما) في قوله: {مِّمَّا} إما مصدرية أي بريء من شرككم، أو موصولة، أي بريء من الأشياء التي تشركون بها، والأول أنسب.

الثامن: قوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ...} الآية.

بعد أن أبطل ألوهية وربوبية الأصنام والأجرام السماوية، أثبت التوحيد الخالص للّه تعالى، فهو الإله وهو الرب، فتكون هذه الآيات بمنزلة التفصيل لكلمة (لا إله إلاّ اللّه)، فالإله والرب هو الذي خلق السماوات والأرض وهو الذي يدبّر أمرها، وذلك يستلزم قدرته وعلمه وحياته وحكمته وسائر الأسماء الحسنى، فلذا لا بد من عبادته وحده لا شريك له، وفي مجمع البيان: «في هذه الآيات دلالة على حدوث الأجسام وإثبات الصانع، وإنما استدل إبراهيم بالأفول على حدوثها لأن حركتها بالأفول أظهر ومن الشبهة

ص: 177

أبعد، وإذا جازت عليها الحركة والسكون فلا بد أن تكون مخلوقة محدَثة،وإذا كانت محدَثة فلا بد لها من مُحدِث، والمحدِث لا بد أن يكون قادراً ليصحّ منه الإحداث، وإذا أحدثها على غاية الانتظام والإحكام فلا بد أن يكون عالماً، وإذا كان قادراً عالماً وجب أن يكون حياً موجوداً»(1).

وقوله: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي أخلصت للّه، وأراد من الوجه الذات؛ وذلك لأن الإنسان حينما يخلص للشيء يستقبله بوجهه ويعرض عن غيره.

وقوله: {فَطَرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} أي خلقهما بما فيهما الشمس والقمر والكواكب وموادّ الأصنام، فهو الأحق بالعبادة دونها، وأصل (الفطر) الشقّ واستعمل في الخلق لأنه إظهار الحادث بإخراجه من العدم إلى الوجود كأنه شق عنه فظهر(2). أو كأنّ العدم كتلة واحدة فشقه بإيجاد الشيء.

وقوله: {حَنِيفًا} الحَنَف هو الميل من الباطل إلى الحق، أي مخلصاً ومائلاً عن الشرك إلى الإيمان وعكسه الجَنَف.

وقوله: {وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تأكيد لقوله: {حَنِيفًا} وكأنه بيّن أنه في عقيدته مائل من الباطل إلى الحق وبذلك لم يكن من زمرة المشركين.

ص: 178


1- مجمع البيان 4: 146.
2- راجع معجم الفروق اللغوية: 407.

الآيات 80-83

اشارة

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَٰجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَئًْا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ 80 وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 81 الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ 82 وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَٰهَا إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ 83}

وبعد أن ذكر اللّه تعالى حجج إبراهيم (عليه السلام) ذكر دحضه لحجة قومه المشركين، فقال:

80- {وَحَاجَّهُ} جادله وخاصمه {قَوْمُهُ} المشركون بأن خوّفوه من بطش آلهتهم {قَالَ} في جوابهم: {أَتُحَٰجُّونِّي فِي اللَّهِ} الاستفهام إنكاري، أي كيف تجادلوني في ربوبية اللّه وحده {وَقَدْ هَدَىٰنِ} أي والحال أنه تعالى هداني للتوحيد بما بيّنه لي من الحجج والتي سُقتها لكم حيث إن التخويف بالآلهة لا تنقض تلك الحجج التي بيّنتها لكم، {وَ} إنّما يخوّف مِن الشيء مَن يجهل ضرره، وأمّا العالم بعدم ضرره فلا معنى لتخويفه ف{لَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} فهي بين أصنام لا حركة لها ولا يمكنها دفع الضرر عن نفسها وبين أجرام سماوية تأفل {إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَئًْا} الاستثناء

ص: 179

منقطع، أي ولكن أخاف الضرر الذي شاءه اللّه تعالى؛ وذلك لأنه {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} فهو يعلم بكل أحوالي وحينئذٍ قد يشاء ضرّي لعلمه بمصلحة فيذلك أو لعلمه بذنبي فيعاقبني عليه، {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} ليكون جوابي تذكرة لكم بعدم صحة حجتكم.

81- ثم يقلب إبراهيم حجتهم عليهم بأنهم لا بد أن يخافوا من شركهم لا أن يخاف إبراهيم من توحيده فقال: {وَكَيْفَ} استفهام إنكاري وللتقريع {أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} مع أنها لا تضرّ ولا تنفع {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ} المالك لكل ضرّ ونفع {مَا لَمْ يُنَزِّلْ} اللّه {بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا} دليلاً؛ إذ لا دليل لكم على أنها شركاء للّه تعالى، وعدم الدليل هنا دليل على العدم، وحينئذٍ {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} من الموحدين والمشركين {أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} فلا يخاف الضرّ؟ أجيبوني {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تتركون جهلكم وتحكّمون عقولكم لتعلموا جواب السؤال.

82- ثم أجاب إبراهيم (عليه السلام) عن سؤاله بعد إبكاتهم وبهتهم فقال: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} باللّه {وَلَمْ يَلْبِسُواْ} لم يخلطوا {إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ} كالشرك ونحوه {أُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} فلا خوف عليهم {وَهُم مُّهْتَدُونَ} أي وقد هُدوا إلى الحق.

83- ثم يبين اللّه تعالى أن احتجاجات إبراهيم (عليه السلام) هي ممّا علّمه اللّه تعالى فقال: {وَتِلْكَ} ما ذكرناه {حُجَّتُنَا} تفخيم لها بأنّها حجة من قِبل اللّه تعالى {ءَاتَيْنَٰهَا} ألهمناها {إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ} حتى غلبهم بالحجة فكانت حجة عليهم، وقد رفعناه بهذه الحجة وبغيرها؛ إذ {نَرْفَعُ} في العلم

ص: 180

والحكمة وغيرهما {دَرَجَٰتٖ} متفاوتة، فالبعض أفضل وأرفع من بعض {مَّن نَّشَاءُ} كما شئنا رفع إبراهيم (عليه السلام) {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في رفعه وخفضه{عَلِيمٌ} يعلم مَن يرفع ومَن يخفض.

طريقة استدلال إبراهيم (عليه السلام) على قومه

بحوث

الأول: هذه الآيات لبيان حجة قوم إبراهيم (عليه السلام) عليه في عبادة غير اللّه تعالى، وحيث لا دليل لهم على ذلك التجأوا إلى التخويف من شركائهم فكانت حجتهم أنّ تركها يوجب الضرّ وفوات النفع فكان جواب إبراهيم (عليه السلام) لهم:

أولاً: بأن بيّن لهم أن لا وجه للخوف من الأصنام والأجرام السماوية وغيرها من معبوداتهم بعد قيام الدليل والبرهان على بطلانها، ذلك البرهان الذي ذكره (عليه السلام) في الآيات السابقة، والعاقل لا يخاف من الباطل الثابت بطلانه فمن رأى تمثالاً لأسد وهو يعلم بأنه حجر منحوت على صورته فلا معنى لتخويفه منه، وعليه فلا بد أن يكون الخوف من اللّه العالم بكل شيء والذي يعترف به المشركون أيضاً، فحيث يعلم الذنوب ولا يمكن إخفاؤها منه فلا بد من الخوف منه.

وثانياً: بقلب الحجة عليهم، فإن ما استدلوا به من التخويف حجة عليهم، حيث إنكم تفترون على اللّه بما لا دليل لكم عليه فلا بد أن تخافوا اللّه؛ لأن من ينسب أمراً إلى العالم القادر لا بد أن يكون له برهان فلو نسب إليه شيئاً من غير دليل فقد افترى عليه فلا بد أن يخشى العقوبة.

ثم بعد ذلك يبين أن المؤمن غير الظالم هو أحق بالأمن؛ لأنه يسير على

ص: 181

الهدى وله البرهان، عكس المشرك الذي ظلم نفسه بالشرك وغيره من المعاصي.الثاني: قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَٰجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنِ}.

يظهر من آخر الآية أن حجتهم كانت عبر تخويفه بآلهتهم المزعومة، وجوابه (عليه السلام) : إنه مع العلم بحقيقتها لا وجه للخوف منها، فقوله: {أَتُحَٰجُّونِّي...} ليس إعراضاً عن جوابهم، وإنما هو الجواب بعينه، فاللّه قد هداني إلى عدم الشرك وأن الشركاء المزعومين لا يضّرون ولا ينفعون ولذا لا وجه لخوفي، كما قد ذكرت لكم ما هداني اللّه به فلا وجه لخوفكم من تلك الآلهة المزعومة أيضاً.

وقوله: {حَاجَّهُ} (الحجّة) هي الدلالة المبيِّنة للمحجّة - أي الطريق المستقيم(1) - وقد تطلق على ما يستدل به سواء كان حقاً أم باطلاً، و(المحاجة) ردّ الحجة، فمعنى (حاجه) أي نقضوا حجته بما زعموه من البرهان.

وقوله: {فِي اللَّهِ} أي في توحيده وعبادته.

وقوله: {وَقَدْ هَدَىٰنِ} أي والحال أنه قد بيّن لي الحق، وقد ذكرتُه لكم في الآيات السابقة.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَئًْا...} الآية.

أي وحيث هداني اللّه إلى التوحيد وبطلان الشركاء المزعومين فلا معنى لخوفي منها؛ لأن المهتدي عالم بعدم كونها شركاء وعدم تمكنها من

ص: 182


1- راجع مفردات الراغب: 219.

الإضرار بغيرها ولا نفعه.

وقوله: {مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} (ما) موصولة والضمير للموصول، أي لا أخافالشركاء الذين تشركون بهم، ولا وجه لكون ما مصدرية؛ لأن المقام في نفي ضرر تلك الآلهة وليس في بيان نفي محاسبته بشركهم.

وقوله: {إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَئًْا} الاستثناء منقطع، أي لا أخاف آلهتكم ولكني أخاف اللّه حيث يمكن أن يشاء ضرري؛ لأنه المالك للنفع والضرّ لا الآلهة المزعومة التي لا تملك ضراً ولا نفعاً ولا أيّ شيء آخر.

وقوله: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} كالدليل على الخوف من اللّه تعالى؛ إذ لا يمكن للإنسان إخفاء معاصيه عن اللّه تعالى، فلا يأمن عقوبته تعالى.

وقوله: {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} استنكار وتقريع بأنّ ما ذكرته من الأدلة مع نقض حجتكم كافية في تذكر كل عاقل، فلماذا لا تتذكرون بها فتميّزون الحق عن الباطل؟!

الرابع: قوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم...} الآية.

هذا من قلب الحجة عليهم، فهم قد استدلوا بشيء هو عليهم لا لهم، وهذا من لطائف وجوه الاحتجاج؛ إذ كان يمكن لإبراهيم (عليه السلام) أن يجعله دليلاً من أدلته من البداية لكن ذلك كان يجعل الدليل في معرض إنكارهم وجحدهم، كما جحدوا سائر البراهين الواضحة، لكن حيث استدلوا به فلا يبقى لهم مجال لإنكاره بعد قلبه عليهم.

وقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ} فيه إشارة بأن البراهين التوحيدية

ص: 183

وغيرها هي مما علّمها اللّه تعالى الإنسان فتارة بجعلها في فطرته، وأخرى بإلهامها، وثالثة ببيان رسله، فإن لم تكن من اللّه فهي باطلة حتماً.

وقوله: {سُلْطَٰنًا} من التسلط بمعنى القهر، والمراد هنا الحجة الغالبة؛ لأنها تقهر كل زعم باطل، أو لأنها تتسلط على القلوب بما لا مجال لرفضها، وغير خفي أن عدم البرهان على عقيدةٍ دليلٌ على بطلانها؛ لأن اللّه أودع البراهين على الحق في فطرة الإنسان وعقله، فإذا لم يكن لها دليلٌ كشف ذلك عن عدم كونها حقاً؛ وذلك لتطابق التكوين في خلق السماوات والأرض وفي خلق الإنسان، فعدم الدليل هنا هو دليل على العدم؛ لأن برهان العقائد لا يضيع بحيث لا يمكن الوصول إليه أبداً.

وقوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} استفهام تقريري، وهو من باب إنصاف الخصم وإعطاء المجال له ليتفكر ويبتعد عن العصبية، نظير قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(1)، قيل: إنما عبرّ عنهما بالفريقين ليدل على تفرقهما بحيث لا يمكن ائتلافهما، فإن التوحيد هو أصل الأصول، ويتفرع عليه سائر الأصول والفروع، فالافتراق فيه افتراق في كل شيء.

وقوله: {أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} وهو الطمأنينة في النفس وعدم الخوف من الضرر، فهل الأمن للفريق الموحِّد الذي كان توحيده عن برهان أم الفريق المشرك الذي كان شركه من غير سلطان.

وقوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} كأنه تعريض بهم بأنهم لم يستعملوا عقولهم ليعلموا بالبراهين الدالة على الفريق الذي هو أحق بالأمن.

ص: 184


1- سورة سبأ، الآية: 24.

الخامس: قوله تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ...} الآية.

هذا من تتمة كلام إبراهيم (عليه السلام) في احتجاجه؛ وذلك لأنه لمّا نقض دليلهم وقلبه عليهم توجه إليهم بالسؤال بقوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ...} لكنهم بهتوا ولم يحيروا جواباً حيث لم يمكنهم جحد الحجة وهم قد استدلوا بها، كما أن عنادهم لم يدع لهم مجالاً للإذعان؛ لذلك أجابهم إبراهيم (عليه السلام) بهذا الجواب إتماماً للحجة عليهم، وهو بيان لقاعدة عامة، والتوحيد والشرك من مصاديقها.

وقوله: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَٰنَهُم} أي لم يخلطوه، فكثير من الناس يؤمنون باللّه لكن مع خلط الأصنام ونحوها، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}(1).

وقوله: {بِظُلْمٍ} والظلم هو بخس الحق عمداً إما على الغير كغصب ماله، وإمّا على النفس بحرمانها عن الثواب وجلب العقاب عليها، فإن لم يكن بخساً للحق كأخذ الحق الشرعي من المالك لم يكن ظلماً، وكذا لو لم يكن عمداً كمن اشترى شيئاً وهو لا يعلم بأن البائع كان قد سرقه، فتصرُّف المشتري ليس بظلم، لا أنه ظلم معذور فيه؛ إذ لا عذر في أيّ ظلم، ولا يقع الظلم على اللّه حتى مع بخس حقه في العبادة والطاعة؛ لأنه عزّ وجلّ أعلى وأجل من ذلك.

والظلم هنا عام، وما في الروايات بيان لبعض مصاديقه ومنها: مورد احتجاج إبراهيم (عليه السلام) وهو الشرك، ومنها: الشك، ومنها: الضلال، ومنها:

ص: 185


1- سورة يوسف، الآية: 106.

خلط ولاية الظالمين بولاية محمد وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام)(1)،والحاصل إن إبراهيم (عليه السلام) بيّن القاعدة العامة والتي يكون التوحيد والشرك من مصاديقها.

معنى للمؤمنين الأمن

وقوله: {لَهُمُ الْأَمْنُ} أي من جمع الوصفين: الإيمان وعدم الظلم، هذا له الأمن فلا يخاف ضرراً يتوجه إليه من اللّه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأما من لم يؤمن، أو آمن لكنه ظلم سواء في الأصول أم في الفروع فلا أمن له؛ إذ إن مات مشركاً فلا يغفر اللّه تعالى له، وإن مات مؤمناً عاصياً فلا وعد له بعدم العقاب، بل هو في المشيئة إن شاء اللّه غفر له وإن شاء عذبه فلا يكون في أمن من جهة ذنبه، فالعفو والغفران محتمل، ومع الاحتمال لا أمن.

سؤال: ورد في الروايات أن المؤمن لا بد أن يكون بين الخوف والرجاء، فكيف ينسجم هذا مع الأمن؟

والجواب: إن المؤمن يخاف أن يكون قد ارتكب ذنباً حين الغفلة فنسيه كما أنه يخاف عن الضلال بعد الهداية، كما يخاف من اختلاط طاعاته بما يفسدها من الرياء ونحوه، فهو خائف لكن اللّه يعده بأنه إن استمر على الإيمان ولم يكن له ظلم واقعاً فلا عقاب عليه بل له الأمن، والحاصل أن خوف المؤمن لأجل عدم علمه بأنه لم يلبس بظلم حالاً أو في مستقبل أمره.

سؤال: كثيراً ما يصاب المؤمنون - حتى الأنبياء والأئمة - بمصائب وبلايا ولا يأمنون على أنفسهم وما يرتبط بهم؟

والجواب: أن المراد الأمن من جهة عقوبة اللّه تعالى؛ لأن الكلام في

ص: 186


1- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 588-590.

الاحتجاج حول الخوف من مخالفة الشركاء أو الخوف من مخالفة اللّه تعالى فيقال: إن المؤمنين غير الظالمين لا خوف عليهم من جهة إيمانهمورفضهم للشركاء، وهذا لا ينافي خوفهم من الظالمين أو من الآفات والبلايا، كما أن المشركين عليهم الخوف من جهة شركهم؛ لأن اللّه سيعاقبهم عليه، وهذا لا ينافي أمنهم في الدنيا من البلايا، وقيل: المراد الأمن التام الذي هو الجنة والرضوان.

السادس: قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَٰهَا إِبْرَٰهِيمَ...} الآية.

فإبراهيم (عليه السلام) لم يتعلم عند أحد وإنما ألهمه اللّه تعالى هذه الحجج إلهاماً؛ لأن اللّه تعالى اختاره للرسالة ولهداية الناس سواء المعاصرين له ولمن بعده ولذلك جهّزه بالبراهين الساطعة.

وقوله: {نَرْفَعُ دَرَجَٰتٖ} بيان أن هذا العلم كان من أسباب تفضيل إبراهيم (عليه السلام) ، وهذه قاعدة عامة فالعالم أفضل من الجاهل، ومن أهم أسباب التفاضل العلم، وكان هو سبب تفضيل آدم (عليه السلام) على الملائكة، وقد قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1)، وقد مرّ بحث التفاضل.

وهذه الدرجات في الدنيا وفي الآخرة، وسيأتي في الآيات اللاحقة بيان بعض درجات إبراهيم (عليه السلام) .

وقوله: {مَّن نَّشَاءُ} إما تقييد للتفضيل بأن يكون العلم مع تقوى فقد شاء اللّه تفضيل العالم المتقي، وأما العالم غير المتقي فلا، ويمكن أن يقال: إن

ص: 187


1- سورة الزمر، الآية: 9.

العالم منحصر في المتقي، وأما غير المتقي فليس بعالم بل جامع معلومات،قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1).

أو هو بيان أن اللّه تعالى اختار إبراهيم (عليه السلام) وغيره لأنه شاء ذلك ولا رادّ لمشيئته، وغير خفي أن مشيئته تعالى قد تكون ابتداءً كما شاء تفضيل الذهب على التراب، والأنبياء والأئمة(عليهم السلام) على سائر الناس، وقد تكون إثابة لعمل الإنسان فمن آمن واتقى يشاء اللّه ثوابه، ومن كفر وعصى يشاء عقابه، فتكون الآية حثاً على طلب الحق؛ لأن التفاضل به.

وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} أي إعطاء الحجة لإبراهيم، وأيضاً رفع درجات من يشاء اللّه تعالى لم يكن اعتباطاً بل بعلم وحكمة، فقد أراد اللّه هداية الناس عبر الأنبياء ولذلك من حكمته وعلمه أن أوحى إليهم الحجج والبراهين، كما أن الحكمة تقتضي التفاوت في كل شيء والتفاضل بين الناس لذلك فضّل اللّه بعضهم على بعض، تارة من غير اختيارهم بأن خلق الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) من طينة أعلى وعصمهم وفضّلهم بفضائل كثيرة، وتارة باختيارهم حيث إن اهتدوا زادهم اللّه هدىً.

ص: 188


1- سورة فاطر، الآية: 28.

الآيات 84-90

اشارة

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 84 وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّٰلِحِينَ 85 وَإِسْمَٰعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَٰلَمِينَ 86 وَمِنْ ءَابَائِهِمْ وَذُرِّيَّٰتِهِمْ وَإِخْوَٰنِهِمْ وَاجْتَبَيْنَٰهُمْ وَهَدَيْنَٰهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ 87 ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 88 أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ 89 أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَىٰهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَٰلَمِينَ 90}

ثم يبيّن اللّه تعالى أن هدايته مستمرة وأنه أكرم إبراهيم (عليه السلام) لمّا اهتدى، فقال:

84- {وَ} بعد نعمة الهداية والرفع فقد {وَهَبْنَا لَهُ} لإبراهيم (عليه السلام) {إِسْحَٰقَ} ابنه، {وَيَعْقُوبَ} حفيده {كُلًّا} منهما {هَدَيْنَا} لنجعل النبوة في أهل بيته فتستمر الهداية، {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} فالهداية متصلة من قبل إبراهيم، {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} ذرية كل من إبراهيم ونوح (عليهما السلام) {دَاوُدَ وَسُلَيْمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَ} وهؤلاء كان لهم الملك أو

ص: 189

السيادة في قومهم {وَكَذَٰلِكَ} أمثال هذا التكريم حيث جعلنا في ذريته النبوة والملك والسيادة {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الذين يحسنون في أعمالهم.

85- {وَ} كذا من ذريته {زَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ} وهؤلاء ظهر فيهم شدة الزهد عن الدنيا وزخارفها {كُلٌّ مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} كل واحد منهم من الذين صلحوا.

86- {وَ} من ذريته {إِسْمَٰعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} وهؤلاء امتازوا بشدة البلاء والامتحان {وَكُلًّا} كل واحد منهم {فَضَّلْنَا عَلَى الْعَٰلَمِينَ} التفضيل بالنبوة وما يلازمها.

87- {وَ} فضلنا {مِنْ ءَابَائِهِمْ وَذُرِّيَّٰتِهِمْ وَإِخْوَٰنِهِمْ} فالنبوة كانت متصلة من إبراهيم وما قبله وما بعده {وَاجْتَبَيْنَٰهُمْ} جمعناهم كلهم على الاصطفاء الخاص وكأنّه تفضيلهم على سائر الأنبياء {وَهَدَيْنَٰهُمْ} أي خلقناهم مهتدين فلا سبق للضلال فيهم {إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ} في العقيدة والقول والعمل.

88- {ذَٰلِكَ} الهدى الذي كان عليه هؤلاء {هُدَى اللَّهِ} منه تعالى وهو الذي هدى إليه هؤلاء الأنبياء {يَهْدِي بِهِ} بذلك الهدى {مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ} هؤلاء الأنبياء على عظمتهم وفضيلتهم {لَحَبِطَ} بطل وذهب {عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الصالحات، فلا ينفع شيء مع الشرك.

89- ثم يسلي اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائلاً {أُوْلَٰئِكَ} الأنبياء المذكورون {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ} الكتب السماوية بعضهم أنزل عليهم مباشرة

ص: 190

كموسى (عليه السلام) وبعضهم أمر بالعمل بكتاب غيره كهارون (عليه السلام) {وَالْحُكْمَ} بين الناس في قضاء وغيره {وَالنُّبُوَّةَ} وهو منصب خاص فيه إخبار عن اللّه تعالى {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} بالنبوة، ويلازم الكفر بها الكفر بالكتاب والحكم {هَٰؤُلَاءِ} القوم {فَ} لا ضرر على الدعوة؛ إذ {قَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي جعلنا لمراعاتهاوالإيمان بها والدفاع عنها {قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ} بل يقومون بالواجب تجاهها خير قيام ومنهم أصحاب المهدي (عليه السلام) .

90- وحيث علمت أن {أُوْلَٰئِكَ} الأنبياء السالف ذكرهم {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَىٰهُمُ} أي بهدى اللّه إياهم {اقْتَدِهْ} فاعمل كما عملوا وبلّغ كما بلّغوا واصبر كما صبروا، ومن جملة هداهم عدم طلب الأجر من الناس ف{قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ} على التبليغ {أَجْرًا} من جهتكم، بل أطلب الأجر من اللّه تعالى {إِنْ هُوَ} ليس تبليغي {إِلَّا ذِكْرَىٰ} تذكير وموعظة {لِلْعَٰلَمِينَ} أجمع، فالإسلام عام للجميع لا يستثنى منه أحد.

بحوث

الأول: لما ذكر اللّه تعالى رفع إبراهيم (عليه السلام) درجات حيث قال: {نَرْفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَاءُ} وإراءة اللّه تعالى له ملكوت السماوات والأرض وهدايته إلى التوحيد، بعد ذلك بيّن أنه سبحانه أنعم عليه بأنبياء من ذريته يحملون رآية التوحيد، وهذا مضافاً إلى كونه تكريماً لإبراهيم (عليه السلام) يتضمن بيان أن اللّه تعالى قد جعل الهداية إلى التوحيد مستمرة بين الناس من زمان نوح (عليه السلام) إلى زمان رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم تنقطع، وأما قبل نوح فإنّ وصيّ آدم (عليه السلام) التجأ إلى جزيرة وبقي الناس في حيرة لا هم على الإيمان ولا هم

ص: 191

على الكفر بل كانوا على الضلال، فراجع ما مرّ(1) في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ...}(2).

أصناف الأنبياء(عليهم السلام) من ذرية إبراهيم (عليه السلام)

ثم يذكر اللّه تعالى ثلاثة أصناف من الأنبياء من ذرية نوح وإبراهيم (عليهما السلام) ويصفهم بالإحسان والصلاح والتفضيل والاجتباء والاهتداء، ويأمر رسوله محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاقتداء بهداهم فإن طريقتهم من اللّه تعالى فلا بد أن تكون هي طريقة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً، ومنها عدم طلب أجر من الناس، ويسلّي اللّه رسوله بأن تكذيب الكفار له لا يضرّ بالدعوة؛ إذ إن اللّه تعالى وكّل بها أناساً آخرين لا يكفرون بها.

الثاني: قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا} إلى قوله: {فَضَّلْنَا عَلَى الْعَٰلَمِينَ}.

(الواو) إما عاطفة، أي آتينا إبراهيم الحجة ووهبنا له الذرية الطيبة لبيان استمرار الدعوة، وإما استئناف لبيان جزاءه على دعوته إلى التوحيد بأن وهب له هذه الذرية، والتي كان لإبراهيم (عليه السلام) عناية خاصة بها فلذا أكثر الدعاء لها فاستجاب اللّه له دعاءه وجزاه بذلك على تضحياته.

وقوله: {وَوَهَبْنَا} الهبة العطية بغير عوض، فإن ذلك كان فضل اللّه تعالى عليه لا عن استحقاق بالذات، فلا أحد يستحق على اللّه شيئاً، وكل أعمال العباد لا تكون عوضاً عن نِعَمه التي أغدقها عليهم إلاّ بفضل اللّه تعالى ورحمته، كما مرّ.

ص: 192


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 66-68.
2- سورة البقرة، الآية: 213.

وقوله: {كُلًّا هَدَيْنَا} أي هديناهما لنجعل الوصية في أهل بيت إبراهيم (عليه السلام) ، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «كلاً هدينا لنجعلها في أهل بيته»(1)، والظاهر أن هذه هداية خاصة تجعل الشخص قابلاً للنبوة.

وقوله: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} إضافة ذكر نوح (عليه السلام) هنا مع أن الكلام حول إبراهيم لأجل بيان استمرار الهداية الخاصة - عبر النبوة والتبليغ - من زمان نوح (عليه السلام) وعدم انقطاعها، وهذا ما تحقق أيضاً في نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث اتصلت نبوته بنبوة الأنبياء من قبله، واستمرت الهداية في ذريته الأئمة(عليهم السلام) من بعده، وكما كان نوح على فترة من الرسل بعد آدم مع وجود أوصياء مخفيين كذلك كانت نبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على فترة من الرسل مع وجود أوصياء مخفيين لعيسى وإبراهيم (عليهما السلام) .

وقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} عطف على قوله: {نُوحًا} فالمعنى وهدينا من ذريته داود وسليمان... إلى آخرهم، كما أنّ الظاهر أن مرجع الضمير هو كلٌ من إبراهيم ونوح (عليهما السلام) فالمعنى ومن ذرية كل ٍ منهما، وليس الضمير لإبراهيم (عليه السلام) وحده؛ لأن لوطاً (عليه السلام) لم يكن من ذريته بل كان ابن أخته، ولا لنوح وحده لأن الكلام حول إبراهيم وليس حول نوح وإنما ذكر نوح لأجل بيان اتصال الهداية، وبذلك يتضح عدم منافاة الروايات التي أرجعت الضمير إلى نوح والروايات التي أرجعته إلى إبراهيم (عليه السلام) (2).

وقيل: إن اللّه تعالى صنف الأنبياء من ذريته إلى ثلاثة أصناف كل صنف

ص: 193


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 594؛ عن تفسير العياشي 1: 367.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 591-595.

ذكرهم في آية ولعل ذلك لاختلاف خصوصياتهم، ولذا لم يذكروا بالترتيب الزماني ولا بالترتيب حسب الفضيلة.

فالقسم الأول: داود إلى هارون، وهؤلاء الذين جمعوا بين النبوة والرئاسة الدنيوية فكانوا ملوكاً أو وزراء أو سادة لقوهم، ولذا أتَمّ الآية بقوله:{وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} حيث إن إبراهيم أحسَنَ فجمع اللّه لبعض ذريته النبوة والملك.

والقسم الثاني: زكريا إلى إلياس، وهؤلاء امتازوا بالزهد الشديد والإعراض عن الدنيا ولذّاتها، ولذا عبر عنهم بقوله: {كُلٌّ مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} لأن ظهور الصلاح في الزهاد أوضح.

والقسم الثالث: إسماعيل إلى لوط، وهم كانوا أنبياء بين المنزلتين فكانت حياتهم حياة طبيعية.

أو لأنهم ابتلوا ببلايا عظيمة نجحوا فيها فكانت سبباً لتفضيلهم، ولذا عبر عنهم بقوله: {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَٰلَمِينَ} واللّه العالم.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} هذا راجع إلى إبراهيم أو نوح (عليهما السلام) ، أي لمّا أحسنا جزيناهما بذرية جمعت بين النبوة والملك.

وقوله: {كُلٌّ مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} أي كانوا صالحين في أنفسهم، وصالحين لتبوّء منصب النبوة؛ لأن الصلاح درجات وأعلى درجاته ما كان عليه أولو العزم من الرسل، ولذا دعا يوسف (عليه السلام) فقال: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّٰلِحِينَ}(1)، وكأنّ المعنى هديناهم لكونهم صالحين.

ص: 194


1- سورة يوسف، الآية: 101.

وقوله: {فَضَّلْنَا عَلَى الْعَٰلَمِينَ} تفضيل الأنبياء على العالمين غير الأنبياء والأوصياء، وهذا لا ينافي تفضيل بعض الأنبياء على بعض حتى في زمان واحد كتفضيل موسى على هارون (عليهما السلام) ، كما قال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلَىٰ بَعْضٖ}(1)، وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖۘ}(2)، كما لا ينافي تفضيل الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) على الأنبياء باستثناء جدهم رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ وذلك لأن تفضيلهم إنما هو بالهداية الخاصة - التي تكون مع النبوة أو الإمامة - وهذه الهداية الخاصة لا تكون في سائر الناس وبذلك فضّل اللّه الأنبياء والأوصياء على عموم الناس، وليست الآية في مقام التفاضل بينهم، كما تقول الأتقياء أفضل من غير الأتقياء وهذا لا ينافي التفاضل في الأتقياء أنفسهم، وبما ذكرناه يتبيّن أنه لا حاجة إلى تقييد {الْعَٰلَمِينَ} بعالمي زمانهم فإنه يستلزم التخصيص في الأنبياء المعاصرين كإبراهيم ولوط (عليهما السلام) ، وكموسى وهارون (عليهما السلام) .

الثالث: قوله تعالى: {وَمِنْ ءَابَائِهِمْ وَذُرِّيَّٰتِهِمْ وَإِخْوَٰنِهِمْ وَاجْتَبَيْنَٰهُمْ وَهَدَيْنَٰهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}.

عطف على {كُلًّا} في قوله: {وَكُلًّا فَضَّلْنَا...}، والمعنى أن الأنبياء ليسوا منحصرين في هؤلاء المذكورين وإنّما ذكروا كمثال ولكونهم أعرف من غيرهم حيث ورد اسمهم في الكتب السابقة، ولعل الغرض هو بيان اتصال الهداية؛ إذ الأنبياء المذكورون زمان بعضهم غير متصل بالآخرين فبين نوح

ص: 195


1- سورة الإسراء، الآية: 55.
2- سورة البقرة، الآية: 253.

وإبراهيم (عليهما السلام) فاصل زمني، وبين يوسف وموسى (عليهما السلام) فاصل وهكذا، فيقال إن هؤلاء كان لهم آباء وإخوان وذرية كانوا أنبياء أيضاً، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْنَقْصُصْ عَلَيْكَ}(1).

من أوصاف الأنبياء(عليهم السلام)

ثم إن الآية بينت ثلاثة أوصاف لهم:

1- التفضيل على العالمين: فكل نبي أفضل من الناس العاديين وإلاّ لم يكن وجه لجعله نبياً عليهم إذا تساووا، وحتى الأنبياء في العصر الواحد لا يكون المفضول إماماً على الفاضل، بل الأمر بالعكس، ولذا كان إبراهيم (عليه السلام) إماماً على لوط (عليه السلام) ، وكان لوط رسولاً إلى قومه لكنه كان تابعاً لإبراهيم وشريعته، وقد ذكرنا تفصيله في شرح أصول الكافي(2)، فراجع.

2- الاجتباء، وأصل الجبي هو الجمع(3) ولذلك يقال للحوض: جابية، أي الجامع للماء، ويقال لجمع الضرائب: جباية، واللّه سبحانه جمع الأنبياء على طريق الاصطفاء(4)، فيكون معنى الاجتباء قريباً من معنى الاصطفاء - الذي هو أخذ صفو الشيء - وإن كانت استعمالاتهما مختلفة، وقيل: قد يستعمل الاجتباء في اختيار النخبة من النخبة، كقوله تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ}(5).

ص: 196


1- سورة غافر، الآية: 78.
2- شرح أصول الكافي 3: 50-59.
3- مقاييس اللغة: 217.
4- مفردات الراغب: 186.
5- سورة آل عمران، الآية: 179.

3- الهداية: وهي هنا بمعنى الإيصال إلى المطلوب؛ لأنها قد تكون بمعنى إراءة الطريق سواء سار فيه الشخص أم لم يَسِر، كقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْفَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ}(1)، والمقصود هنا الهداية الخاصة التي بها صلحوا للنبوة عن طريق إراءة ملكوت السماوات والأرض وغير ذلك.

الرابع: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ...} الآية.

كأنّ الغرض من هذه الآية بيان أن كل ما لهؤلاء الأنبياء من الفضل لا ينفعهم مع الشرك، بل يكون الشرك مبطلاً لجميع أعمالهم الصالحة؛ إذ إن هذا التفضيل لا يسلب منهم الاختيار فيمكنهم اختيار الشرك لكنهم لن يفعلوا ذلك، كما أن العصمة كذلك فليست جبراً لهم بل إعطائهم ملكة نفسية وعلماً بالحقائق يكونان سبباً للامتناع عن ارتكاب القبائح باختيارهم، وفي هذا تحذير لعامة الناس الذين هم دون الأنبياء والأوصياء بأنه لا تساهل في الشرك مع أيِّ أحد كان.

وقوله: {ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ} لبيان أن طريقة الأنبياء لم تكن من عند أنفسهم، بل ألهمهم اللّه بها وأوحاها إليهم.

وقوله: {يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} إمّا بمعنى الهداية الخاصة بالأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، وقد جعلها اللّه تعالى في بعض خلقه؛ إذ ليس من الحكمة خلق جميع الناس أنبياء، وإما الهداية العامة بالإيصال إلى المطلوب فهي خاصة لمن كان قابلاً لها غير معاند، فإن عاند ختم اللّه على قلبه وتركه حتى يضلّ، وأما الهداية العامة بمعنى إراءة الطريق فهي للجميع حتى

ص: 197


1- سورة فصلت، الآية: 17.

المعاندين، وذلك بتهيأة الأسباب الطبيعية لوصولها إليهم عبر الأنبياء وأوصيائهم، وليس من الواجب عقلاً إيصالها للجميع بلا استثناء كي يقال:إن هناك ناساً عاشوا في فترة من الرسل أو في الأماكن النائية وهم جهّال قاصرون فكيف لم يريهم اللّه تعالى الطريق؟

إذ نقول في الجواب: إن الغرض من الخلقة يحصل بإراءة الطريق في الجملة واهتداء مجموعة من الناس ولا دليل على وجوب إراءة الطريق للجميع. نعم، لا يصح عقاب القاصر وهذا شيء آخر، مضافاً إلى تحقق الهداية الفطرية في الجملة حتى للقاصرين؛ لأن فطرتهم تدلهم على وجود خالق لهم وعلى لزوم عبادته وعلى حسن بعض الأمور وقبح بعض آخر.

وقوله: {لَحَبِطَ عَنْهُم} الحبط البطلان، وقيل: ضُمنّ معنى الزوال ولذلك تمت تعديته ب(عن)، وقبول العمل مشروط بالإيمان والاستمرار عليه فمن علم اللّه تعالى بأنه سيرتد لا يقبل عمله من الأول، كما يمكن تقدير قبوله حين إيمانه ثم تقدير إبطاله حين ارتداده، فإن التقدير فعل من أفعال اللّه تعالى وهو القادر على تقدير شيء لمصلحة ثم تغيير ذلك التقدير لمصلحة أخرى مع علمه بهما من الأزل، كما أنه يأمر بشيء لمصلحة ثم ينسخ ذلك الحكم لمصلحة أخرى كما في أمر إبراهيم بذبح إسماعيل (عليهما السلام) ، وقد مرّ بحث النسخ والبداء والحبط، فراجع.

الخامس: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ...} الآية.

كأنّ الغرض بيان أن هؤلاء مع فضلهم وعطايا اللّه تعالى لهم قد كذّبهم

ص: 198

الناس لكن لم يضرهم التكذيب؛ وذلك لاستمرار خط التوحيد بأنبياء آخرين، وفي ذلك تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن تكذيب قومه لا يضرّ به ولابرسالته؛ إذ قيّض اللّه مؤمنين يحملون لواءها.

وقوله: {الْكِتَٰبَ} إيتاؤهم الكتاب تارة مباشرة من غير واسطة كالتوراة لموسى (عليه السلام) ، وتارة بواسطة نبيّ آخر كالتوراة لهارون (عليه السلام) حيث نزلت عليه بواسطة موسى (عليه السلام) ، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَىٰةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ}(1)، وإنزال لفظ الكتاب وإن كان عاماً لجميع الأمة إلاّ أن كل تفاصيله وحقائقه لم ينزل إلاّ على الأنبياء والأوصياء، قال تعالى: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ}(2).

وقوله: {وَالْحُكْمَ} للحكم مصاديق متعددة منها الحكمة والشريعة والنبوة والقضاء والسلطة، إلاّ أن الظاهر أن المراد هنا: الحكم بين الناس سواء عبر القضاء أو الإفتاء.

وقوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ} الضمير في {بِهَا} للنبوة؛ لأنها الأقرب لفظاً ويلازم الكفر بالنبوة كفرهم بالكتاب والحكم، فكأنه قال: فإن يكفر بجميعها، ويمكن أن يكون مرجع الضمير (هذه) المصطيدة من ذكر الكتاب والحكم والنبوة، فكأنّه أشار إليها فقال: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا...}، و{هَٰؤُلَاءِ} أهل مكة، أو جميع الكفار المعاصرين للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا} الوكيل هو من يقوم برعاية الشيء، فالمعنى إنّ كفر

ص: 199


1- سورة المائدة، الآية: 44.
2- سورة القصص، الآية: 52.

هؤلاء لا يضر لأن اللّه تعالى قيّض أناساً آخرين يراعون شأن النبوة بالاحترام والتبجيل والتبليغ والدفاع؛ لأن الغرض من الخلق الرحمة والتي تكون عنطريق العبادة والتي لا بد من معرفتها بوحي من اللّه تعالى، فلا يعقل أن تضيع المعرفة بشكل كامل؛ لأن ذلك نقض لغرض الخلقة، ولذا هيّأ اللّه أسباب بقاء الدين أبداً حتى في أحلك الظروف إلى أن يغلب على جميع الأديان، قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1)،

وقال تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَٰلَكُم}(2).

وقوله: {قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ} يراد منهم الناس الذين علم اللّه تعالى ثباتهم على الإيمان إلى يوم موتهم، فلا يشترط كون هؤلاء أنبياء أو أوصياء، بل كما يشمل المعصومين ومن تلا تلوهم كذلك يشمل المؤمنين العاديين، وقد ذكرت الروايات بعض المصاديق، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إن تكفر به أمتك فقد وكلتُ أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلتك به فلا يكفرون به أبداً»(3)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن صاحب هذا الأمر محفوظ له أصحابه لو ذهب الناس جميعاً أتى اللّه له بأصحابه، وهم الذين قال اللّه عزّ وجلّ: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ}(4)، وهم الذين قال اللّه فيهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى

ص: 200


1- سورة التوبة، الآية: 33.
2- سورة محمد، الآية: 38.
3- الكافي 8: 119.
4- سورة الأنعام، الآية: 89.

الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(1)»(2).

معنى اقتداء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهدى الأنبياء(عليهم السلام)

السادس: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَىٰهُمُ اقْتَدِهْ}.

بعد أن بيّن أن هناك أناساً يؤمنون بالإسلام والقرآن يأمر اللّه تعالى رسوله محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين في التوحيد والدعوة إليه والصبر على أذى المشركين وتكذيبهم.

وغير خفي أن اللّه لم يأمر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاقتداء بهم، بل أمره بالاقتداء بالهدى الذي أنزله عليهم؛ إذ لا يصح اقتداء الأفضل بالمفضول، واللّه تعالى كما أوحى ذلك الهدى إلى الأنبياء الماضين كذلك أوحاه إلى رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولذا لم يأمر اللّه نبيّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باتّباع إبراهيم (عليه السلام) بل أمره باتّباع مِلة إبراهيم، فلم يأخذ الرسول تلك الملة عن إبراهيم بل أوحاها اللّه إليه كما أوحاها إلى إبراهيم.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} كُرّرت هداية اللّه لهم لأنه كالمقدمة لأمره بالاقتداء بهداهم، وقيل: ما مضى هو الهداية إلى التوحيد، وهذا هداية إلى الصبر.

وقوله: {فَبِهُدَىٰهُمُ} من إضافة المصدر إلى المفعول، فالمعنى فبهدى اللّه إياهم اقتده، وبذلك يتضح وجه إضافة الهدى إلى الأنبياء مع أنه من اللّه تعالى، والمصدر كما يضاف إلى الفاعل كذلك يضاف إلى المفعول كثيراً.

وقوله: {اقْتَدِهْ} الاقتداء هو أخذ الغير أسوة واتّباعه، والهاء للوقف،

ص: 201


1- سورة المائدة، الآية: 54.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 594.

ولعل الإتيان بها هنا للإشارة إلى أنه لا شيء وراء الاقتداء بهدى اللّه تعالى، فعليك أن تقتدي وحسب.

السابع: قوله تعالى: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰلِلْعَٰلَمِينَ}.

كأنّ المقصود اقتدِ بهدى الأنبياء وبلّغه للناس ولا تطلب منهم أجراً؛ إذ ذلك من هدى الأنبياء حيث لم يطلبوا من أقوامهم الأجر، وقد ذكر اللّه تعالى في سورة الشعراء وغيرها مقولة الأنبياء: {وَمَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(1).

وقوله: {إِنْ هُوَ} أي القرآن أو تبليغ الوحي.

وقوله: {ذِكْرَىٰ لِلْعَٰلَمِينَ} أي تذكير وموعظة لجميع الناس، والآية تدلّ على عموم رسالة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لجميع الناس، بل وغيرهم من العوالم.

الأئمة(عليهم السلام) أبناء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

فذلكة: لطالما أراد المناوؤن لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) جحد كونهم أبناء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إلاّ أنهم(عليهم السلام) استدلوا بجملة من آيات القرآن الكريم لإثبات كونهم(عليهم السلام) من ذريته وأبناءه(2)، منها: آية المباهلة حيث قال: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ...}(3) ولم يكن مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الأبناء يوم المباهلة إلاّ الحسن والحسين (عليهما السلام) ، ومنها: هذه الآية التي دلّت على أن عيسى (عليه السلام) من ذرية إبراهيم ونوح (عليهما السلام) مع أنه ينتسب إليهما عن طريق أمّه

ص: 202


1- سورة الشعراء، الآية: 109، 127، 145، 164، 180.
2- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 591-595.
3- سورة آل عمران، الآية: 61.

مريم (عليها السلام) ، ومنها: آيات الإرث حيث يدخل أبناء البنت في قوله: {يُوصِيكُمُاللَّهُ فِي أَوْلَٰدِكُمْ}(1) إذا لم يكن للميت أبناء مباشرين، ومنها: قوله تعالى: {وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ}(2)

حيث تحرم حليلة ابن البنت بهذه الآية، وذلك يدلّ على أن ابن البنت من صلب الإنسان.

نعم، لما كان العرب قبل الإسلام ينفون بنوة أبناء البنت جائت هذه الشبهة والتي كانت تروق للحكّام الظلمة الذين ما كانوا يطيقون انتساب الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 203


1- سورة النساء، الآية: 11.
2- سورة النساء، الآية: 23.

الآيتان 91-92

اشارة

{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيْءٖ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلَا ءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ 91 وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ 92}

لمّا بيّن إتيان الأنبياء الكتب ردّ على من زعم عدم نزول كتاب على الأنبياء ليكذّب بالقرآن والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال:

91- {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ} لم يعظّموه ولم يعرفوه {حَقَّ قَدْرِهِ} ما يليق به من التعظيم والمعرفة {إِذْ} حينما {قَالُواْ} قاله بعض أحبار اليهود: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيْءٖ} لم ينزل كتاباً ولا وحياً، وهذا من الجهل بحكمة اللّه ورحمته؛ إذ بعث الرسل وإنزال الكتب من الحكمة والرحمة، {قُلْ} في جوابهم: إن اللّه أنزل التوراة وأنزل على الأنبياء غيرها مما فيه العلم ف{مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ} وهو التوراة وهذا إلزام لهم بما يلتزمون به {نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} أي هو نور في نفسه كما أنّه ينوّر الطريق للناس، كما أن النور ظاهر بنفسه ومظهر لغيره.

ص: 204

ثم يبين اللّه أن الكذب دأبهم فلا يُستبعد منهم التكذيب بالقرآن وبالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيخاطبهم قائلاً: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} أوراق متناثرة، حالكونكم {تُبْدُونَهَا} إن لم تعارض مصالحكم {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} مما يعارض مصالحكم {وَعُلِّمْتُم} بواسطة الأنبياء {مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلَا ءَابَاؤُكُمْ} فكيف تقولون بأن اللّه لم ينزل على بشر من شيء؟

وحيث أبهتهم الجواب {قُلِ اللَّهُ} هو الذي أنزلها وأنزل ذلك العلم، {ثُمَّ} إنهم قد يغالطون في الجدال ويعاندون ف{ذَرْهُمْ} اتركهم {فِي خَوْضِهِمْ} باطلهم من التكذيب وغيره {يَلْعَبُونَ} فإن جدال المعاند بعد إتمام الحجة عليه لا وجه له.

92- {وَ} كما أن التوراة فيها هدى ونور كذلك {هَٰذَا} القرآن {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ} خيره كثير غير زائل ومن كل الجهات {مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي الذي قبله فهو يصدّق الكتب السماوية السابقة، وبركته وتصديقه دليلان على أنه منزل من اللّه تعالى {وَلِتُنذِرَ} عطف على «مبارك»، أي أنزلناه للبركة والتصديق ولإنذار {أُمَّ الْقُرَىٰ} مكة المكرمة {وَمَنْ حَوْلَهَا} في المشارق والمغارب، أي أهل العالم أجمع، {وَ} لا يضر تكذيب من كذّب بالقرآن؛ إذ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ} أي يؤقنون بها وبحسابها {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي ينفعهم الإنذار فيؤمنون بالقرآن أو بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَهُمْ} ملتزون عملاً بالأحكام ف{عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وذكرها لأنها أهم الأحكام الشرعية والتي تحتوي على جميع المعتقدات أيضاً.

ص: 205

بحوث

الأول: الآيتان وما بعدهما في سياق الآيات السابقة التي دلت على نبوة الأنبياء من ذرية إبراهيم (عليه السلام) وأن الحجة متصلة لا انقطاع فيها، حتى آلالأمر إلى أن بعث اللّه تعالى رسوله محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنزل عليه القرآن الكريم وقد كذبوا بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالقرآن عبر إنكار أصل الرسالة، وكان ذلك من بعض أحبار اليهود، فيكون جوابهم:

أولاً: النقض عليهم بأنهم يؤمنون بنبوة موسى (عليه السلام) وبالتوراة النازلة عليه.

وثانياً: بأن إنكار النبوة والكتاب هو بسبب عدم معرفتهم للّه تعالى وعدم تعظيمه؛ إذ الخلق من غير هداية عبث ويخالف الحكمة، ولولا الهداية لما كان معنى للمعاد، حيث لا يحاسب الإنسان إلاّ على مخالفاته فلو لم تكن الهداية لم تكن مخالفة، ثم لولا المعاد لم يكن معنى لأصل الخلق، بل كان عبثاً ولعباً وقد تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَٰلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}(1)، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَٰعِبِينَ}(2)، وقد مرّ الكلام في ذلك، وعليه فالحكمة والرحمة يقتضيان بعث الرسل وإنزال الكتب، فمن أنكرهما فقد جهل اللّه ولم يعظّمه التعظيم اللائق به، ثم يبيّن اللّه تعالى أن القرآن نازل من عنده؛ لأنه مبارك ويصدّق الكتب السالفة ويتضمن الإنذار، كما سيأتي توضيحه.

ص: 206


1- سورة المؤمنون، الآية: 115-116.
2- سورة الدخان، الآية: 38.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيْءٖ}.

أصل (القدر) بمعنى ما عليه الشيء من الواقع، فالمخلوقات قدرها هوحجمها وكمّيتها وكيفيتها، وقدر اللّه تعالى هو مكانته اللائقة به، وذلك عبر معرفته ووصفه بما وصف به نفسه من غير تشبيه ولا تعطيل وتعظيمه وتبجيله، فالمعرفة الصحيحة والوصف الصحيح والتعظيم اللائق به كل ذلك من قدر اللّه تعالى، فقوله: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ} أي لم يعرفوه ولم يعظموه ولم يصفوه، وقوله: {حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما هو من حقه تعالى.

وقوله: {إِذْ قَالُواْ...} بيان مصداق عدم تقديرهم حق قدره؛ لأن كلامهم يستلزم إنكار الآيات التي أنزلها، كما أن ذلك يستلزم إنكار حكمته ورحمته، إذ إرسال الرسل وإنزال الكتب هي رحمة للعباد ولطف بهم، كما أنها مقتضى حكمته تعالى حيث لم يخلق الخلق عبثاً.

وقائل القول هم المشركون واليهود جمع كلامهم ثم ردّ عليهم بالتفصيل بعضه ردّ على المشركين وبعضه ردّ على اليهود، ولا يلزم انطباق الجواب بكلّه على كلام المشركين كي يقال إن الآية خاصة باليهود لأنهم هم الذين جعلوا التوراة قراطيس وأخفوا بعضاً منها وأظهروا بعضاً وليس المشركون كذلك! وذلك لما عرفت من جمع كلامهم ثم ردّهم بردّ عام كل جزء منه ينطبق على بعضهم، كما لو خاطبت اليهود والنصارى وقلت لهم: من بعث موسى وعيسى (عليهما السلام) ، فكلامك صحيح وبليغ مع أن اليهود ينكرون رسالة عيسى (عليه السلام) .

ص: 207

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى...} الآية.

كأنّه جوابان عن كلامهم حيث أنكروا الوحي وأنكروا الكتاب فقالوا:{مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيْءٖ} سواء كتاب أم غيره، فيقال لهم: إن اللّه أنزل التوراة على موسى وفيها دلالة على صدقها بأنها نور وهدى أولاً، كما علّمكم أموراً من العقائد والشرائع وغيرهما ثانياً.

وقوله: {نُورًا وَهُدًى} كأن المقصود أنه نور بنفسه وينير الدرب للناس، أو الهداية هنا بمعنى الإيصال إلى المطلوب، فيقال إنه نور يراه الجميع ويوصل من اهتدى به إلى السعادة والجنة.

وأيضاً هذا يصلح بأن يوجّه إلى المشركين أيضاً، فيقال إن دليل صدق التوراة غير المحرفة معها حيث إنها نور وهدى.

وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} إمّا هذا تأكيد لكونه كتاباً منزلاً من اللّه تعالى، فيقال كيف تنكرون إنزال الكتاب على الرسل مع أن في بيوتكم التوراة مكتوبة في أوراق، وإمّا جملة معترضة لبيان سبب تكذيبهم لإنزال الكتب على الأنبياء بأنهم أناس لا يتورعون، بل يتبعون مصالحهم لذلك يخفون كثيراً من التوراة وخاصة التي هي في وصف النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن هكذا دأبه لا يستبعد منه التكذيب بالقرآن أو تكذيب الرسل والكتب جميعاً، وهذا أظهر، فعلى الأول يكون قوله: {تُبْدُونَهَا} استدلالاً على وجود الكتاب عندهم بحيث لا يتمكنون من إنكار ذلك، و{تُخْفُونَ} لتتمة الكلام ولبيان إخفائهم وصف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعلى الثاني مجموع

ص: 208

{تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ...} لبيان كونهم غير ورعين ومصلحيين، وعلى كل حال فالجملة فيها إشعار بالتواء نفوسهم كي لا يستبعد أحد تكذيبهم بالقرآن وبالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من غير سبب حق.

وقوله: {وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ...} كأنّ هذا وجه آخر يثبت أن اللّه أنزل شيئاً على بشرٍ، وهو العلوم التي تعلموها عن طريق الوحي من غير التوراة كالعلم الذي في الزبور أو الوحي الذي لم يكن في كتابٍ مثل الأحاديث القدسية والعلوم التي بثّها الأنبياء(عليهم السلام).

ويمكن أن يكون ذلك ردّاً على توهم المشركين واليهود بأن القرآن إن كان حقاً فلماذا لم ينزل على آبائنا، فيقال: إن التوراة كذلك لم تنزل على بني إسرائيل قبل موسى، وذلك لا يضر بكونها حقاً.

وقيل: إن المقصود أن هناك علوماً لا يمكن للإنسان أن يصل إليها إلاّ عبر الوحي كالعلوم المرتبطة بالعقيدة والشريعة، ومعرفتهم بها دليل على أن اللّه تعالى قد أنزلها على الأنبياء، مع أنهم وآبائهم بطبعهم لم يكونوا ليعلموا بها لولا هداية اللّه لهم بإنزالها عليهم!

الرابع: قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}.

إنما كلّفه بهذا القول لأنه بقوله: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ...} أخذهم بالحجة التي لا يتمكنون من ردّها، فحينئذٍ يبهتون فكان لا بدّ من ذكر الجواب وهو {قُلِ اللَّهُ} ليكون أقوى في أخذهم بالحجة، أو لأنهم حيث يحيرون في الجواب يبدأون بالمغالطة فلذا ينبغي أن لا يترك لهم مجال وذلك عن طريق الجواب ومن ثَمّ تركهم.

ص: 209

ترك المعاند بعد إلقاء الحجة عليه

وقوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ} أي اتركهم؛ لأن المعاند لا بدّ من أن تلقى وتتمّ عليه الحجة، ومن ثَمَّ لا وجه لاستمرار الجدال معه؛ لأنه يأتي بالمغالطات والمراء مما هو لعب لا جدّ فيه، فيكون ذلك تضييعاً للوقت وعبثاً، قال تعالى: {وَلَاتُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}(1)، وفي المجمع: «ليس هذا على إباحة ترك الدعاء والإنذار، بل ضرب من التوعد والتهديد، كأنّه قال: دعهم فسيعلمون عاقبة أمرهم»(2).

وقال العم الشهيد: إن كلمتك قوية فكن واثقاً منها، يكفيك أن تقول: (اللّه)، يكفيك أن تزرع كلمتك في المختبر وتتركها تنمو وتنتشر على غيرها بمقدار ما لها من الذاتيّة، وينحسر غيرها عن طريقها بمقدار ما يفتقر إلى الذاتيّة، يكفيك أن تطرح كلمتك في سوق الفكر وتدعها تتصارع وتتغلّب فقل أنت كلمتك وامش ِ، فكلمة (اللّه) قوية لا تحتاج أن تضفي أنت قوتك عليها لتنتصر فتلحّ على الناس بقبولها، فهي ليست كالكلمات العجفاء التي لا تستطيع الحراك وتكتسب حرارتها من حرارة قائلها... .

إن كلمتك ليست ترفاً ولا عبثاً، وإنّما هي حياتية تحاول تطوير سلوك الناس أفراداً ومجتمعات، وكل كلمة حياتية مهما كانت قوية لا يمكن أن تمتلك الآفاق فور إطلاقها، وإنما تستهلك مساحة زمنية قبل أن يطمئن إليها المجتمع، ومساحة زمنية قبل أن تنتصر في الصراع الذي هو طبيعي في كل تغيير، فللناس مصالح يحرصون عليها، والأفكار الرئيسية في المجتمع تنظم

ص: 210


1- سورة العنكبوت، الآية: 46.
2- مجمع البيان 4: 155.

مصالح الناس في مجاري معيّنة، ونقل تلك المصالح من مجاريها المألوفة إلى مجاري جديدة لا يكون إلاّ بعد التأكّد من أنها أيسر من المجاري السابقة، وهذا التأكّد لا يحصل إلاّ بعد تجارب عديدة متشابهة في الإنتاج،ولتكن التجارب كلّها ناجحة ومتشابهة في الإنتاج كما هو واقع تجارب الحق، ولكن جريان تلك التجارب على أرضية الأفراد وفحص الآخرين لها يستهلكان مساحة زمنية... فعلى أصحاب الأفكار الجديدة - إذا كانوا واثقين منها - أن لا يركضوا خلفها لاهثين، وإنما يكفيهم إطلاقها بصوت جهوري مفهوم للجميع ثم يعتزلوا حتى يفحصها الناس ويؤمن بها فئة وينشب بينها وبين الفئات الأخرى صراع ويمرّ الصراع طبيعياً وبأقل التضحيات ريثما يتم نقل المصالح من مجاريها المألوفة إلى المجاري التي تشقها الفكرة الجديدة ثم يعودوا لقيادة الناس بتوجيه الفكرة.

وهكذا فعل النبي الأكرم - وقد جاء بالإسلام - يوم هاجر إلى الشِعب، ويوم هاجر إلى الطائف، ويوم هاجر إلى المدينة المنوّرة، غير أن جذرية الإسلام، أدّت إلى عسر ولادة القناعة في النفوس فأحوجته إلى هذه الهجرات.

وهكذا فعل أمير المؤمنين - وقد جاء بفكرة التركيز - يوم اعتزل الخلافة خمساً وعشرين سنة.

وإذا استعجل صاحب الفكرة فإنه لا يستطيع طيّ الزمان، وإنما يمرّ كل شيء في مجراه الطبيعي وهو وحده الذي يدفع الثمن: من مجتمعه إذا كان في موقع القوة حيث يضحي بالكثير منه، ومن نفسه إذا كان من موقع

ص: 211

الضعف فيبعد أو يسجن أو يقتل حتى يتم نقل المصالح تدريجياً وكما لو لم يستعجل.

وبصيغة ثانية: إن اعتراف أيّ مجتمع من المجتمعات بفكرة حياتيةيتوقف على توفر أربعة عوامل على النحو التالي:

1- الإيمان بالفكرة من قِبل عناصر من صميم ذلك المجتمع.

2- الثقة في سلامة القرار بتنفيذ الفكرة، بمعنى الثقة بالقيادة المتولية لتنفيذ الفكرة.

3- الثقة في المنفذين بوجود أجهزة مقتدرة تمتلك حمل القرار من القيادة لوضعه على الواقع الذي يسعى إلى تغييره.

4- التطابق بين ثقل الفكرة وحجم القدرة بأن تكون العناصر المكلفة بالتغيير قادرة بالفعل على التغيير بالإمكانات أو بالتضحيات.

وأما تكليف مجتمع من المجتمعات بتنفيذ فكرة تفوق طاقاته يعني تحويل الكفاح إلى عملية إهدار للطاقة واستنزاف لوسائلها لتحقيق الهزيمة، انتهى(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ...} الآية.

بيّن اللّه تعالى في هذه الآية بعض صفات القرآن الدالة على كونه من اللّه تعالى:

1- قوله: {مُبَارَكٌ} أي خيره دائم وكثير ومن كل الجهات، ولا يكون كذلك إلاّ ما أنزله اللّه تعالى؛ لأن الكتاب المنتحل باطل فلا يكون دائماً

ص: 212


1- خواطري عن القرآن 1: 439-441، باختصار.

وكثير الخير، بل يكون شراً، وحتى لو كانت فيه بعض المنافع فإنها موقتة زائلة كالزبد الذي يذهب جفاءً.

2- وقوله: {مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} فإن التوراة وغيرها من الكتببشّرت بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالقرآن، فكان هذا الكتاب تصديقاً لها، فصِدقُها يلازم صدقَه، كما أن القرآن يصدّق بها وتصديقه إياها دليل صدقه؛ لأن الأنبياء كلهم وكتبهم كلها من الواحد الأحد فلا اختلاف فيها ولا تفرّق، وكما أن القرآن لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً كذلك الكتب السماوية إذا كانت من عند غير اللّه لتناقضت في ما بينها، وهذا لا ينافي نسخ بعض الأحكام؛ لأنه ليس اختلافاً وتناقضاً، بل بيان انتهاء أمد بعض الأحكام.

وقوله: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا} عطف على {مُبَارَكٌ}، أي هو كتاب كثير الخير ويصدّق الأنبياء من جهة، ومن جهة أخرى فيه إنذار لأهل العالم، فليس الكتاب لمجرد البركة والتصديق، بل يضاف إلى ذلك وجوب عمل الناس به بواسطة إنذاره.

و{أُمَّ الْقُرَىٰ} مكة سُمّيت بذلك لأنها أصل الأرض حيث دُحيت من تحتها فهي أول بقعة خلقت - كما في الأحاديث(1)- ، و{وَمَنْ حَوْلَهَا} يعني العالم أجمع فهي القرى التي أرسل الرسول إليها، ولعلّه للدلالة على عموم رسالته لم يعبر عنها باسمها مكة.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ...} كأنّه تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنّ

ص: 213


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 8.

تكذيبهم لا يضرّه ولا يضرّ بالدعوة؛ وذلك لوجود مؤمنين يعتقدون بالآخرة وبالقرآن ويلتزمون عملاً بالعبادات فجمعوا بين صحة العقيدة وحُسن العمل.وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ} أي يخافونها، وكأنّه تعريض بأولئك اليهود بأنهم غير متورعين فلا يخافون الآخرة لذلك كتموا بعض التوراة وأنكروا نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي تفسير الصافي: «فإن من صدّق بالآخرة خاف العاقبة، ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبّر حتى يؤمن به ويحافظ على الطاعة، وتخصيص الصلاة لأنها عماد الدين وعَلَم الإيمان»(1).

ص: 214


1- تفسير الصافي 3: 68.

الآيتان 93-94

اشارة

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَٰئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَٰتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ 93 وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰؤُاْ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ 94}

93- وكما يشركون في الألوهية كذلك قد يدّعون النبوة كذباً يريدون بذلك نقض نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأنكر اللّه عليهم ذلك قائلاً: {وَمَنْ أَظْلَمُ} أكثر ظلماً {مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بأن غيّر في الآيات وحرّف فيها {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ} الحال أنه {لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} مثل عبد اللّه بن أبي سرح حيث كان يحرّف في كتابة القرآن وادّعى أنه أوحيت إليه آية من القرآن فعرفها قبل أن ينطق بها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} مثل القرآن، قال قولته هذا استهزاءً كالنضر بن الحرث أو ادعاءً للنبوة كمسيلمة، وظلمهم هذا لا يبقى بغير عقاب {وَلَوْ} للتمني {تَرَىٰ} والمراد حب رؤيتهم حال موتهم {إِذِ الظَّٰلِمُونَ} بالتكذيب والادّعاء

ص: 215

الباطل {فِي غَمَرَٰتِ الْمَوْتِ} شدائده التي تغشاهم {وَالْمَلَٰئِكَةُ} ملائكة قبض الروح أو العذاب {بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} أي يمدّون أيديهم لقبض روحهم أوعذابهم، قائلين لهم: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} لنقبضها، كأنه تغليظ وإهانة وتهكّم بهم، {الْيَوْمَ} حين القبض {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} عذاباً مع هوان شديد {بِمَا} بسبب الذي {كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ} تنسبونه إليه {غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَٰتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} فلا تؤمنون بها، فقولكم الباطل وعملكم الاستكبار.

94- {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} في الآخرة {فُرَٰدَىٰ} فلا الشركاء جاؤوا معكم لينصروكم، ولا الأموال والأولاد حملتموها معكم إلى الآخرة {كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٖ} حيث خُلقتم منفردين {وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ} أي ما أعطيناكم من المال والولد والرئاسة ونحوها {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} لم تصحبوها معكم إلى الآخرة {وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} من الأصنام والآلهة {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} كذباً {أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰؤُاْ} أي زعمتم أنهم يشاركون اللّه في عبادتكم {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} انقطعت الأواصر بينكم وبينها فلا ينفعونكم {وَضَلَّ} بطل {عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} حيث تبين لكم عدم نفعها وعدم تمكنها من دفع الضرر عنكم.

بحوث

الأول: بعد ذِكر صنفين هم المؤمنون بالنبوة الذين وكلّهم اللّه بها، والذين ينكرون أصل النبوة زاعمين أن اللّه ما أنزل على بشر شيئاً... بعد ذلك

ص: 216

ذكر صنفاً ثالثاً من أدعياء النبوة والذين يدعونها كذباً أو يدعون بعض أمورها كالوحي، وهم بين محرّف في الكتاب ومغيّر فيه، وبين من يدعي أن آيات الكتاب نزلت عليه أيضاً كما نزلت على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبين منيدّعي النبوة وأن اللّه سيوحي إليه كتاباً، ثم يحذرهم اللّه تعالى من العذاب الشديد على هذه الافتراءات.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا...} الآية.

(الأظلم) هو الأكثر ظلماً وهو الذي يستكبر على اللّه تعالى سواء كان بادّعاء الألوهية، أم في اتخاذ الشريك، أم في الصدّ عن التوحيد، أم في الافتراء على اللّه بادّعاء النبوة أو بادّعاء آخر ليضل الناس عن سبيل اللّه، أم بالصدّ عن النبوة، أم بالإعراض عن آيات اللّه بعد التذكير بها، أم بمنع الناس عن ذكر اللّه في المساجد أو غيرها، كما ورد كل ذلك في آيات متعددة، ويجمعها الاستكبار على اللّه بآيّة كيفية كان، والآية هنا تذكر مصاديق ثلاث:

من مصاديق الأظلم

1- قوله: {افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بأن ينسب إلى اللّه شيئاً لم يقله سبحانه، ومصاديقه كثيرة إلاّ أن شأن النزول ابن أبي سرح الذي حرّف في القرآن الكريم(1).

2- وقوله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} أي ادّعاء الوحي، وهذا أيضاً مصاديقه متعددة إلاّ أن شأن النزول ابن أبي سرح أيضاً الذي ادعى أنه قرأ آية من القرآن قبل أن يسمعها من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، مع أنه كان كاذباً في

ص: 217


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 10-14.

دعواه، وإنما أراد التبرير لارتداده واتهام النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتكذيبه.

3- وقوله: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أيضاً له مصاديق كثيرة، فمنهم من هو مستهزء بالقرآن كالنضر بن الحارث، ومنهم مدّعي النبوةكمسيلمة الكذاب، قيل: لأن الأول والثاني كانا قول شخص واحد لذلك عطف بينهما من دون تكرار (مَن) الموصولة فقال: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ}، وأما الثالث فكان قول شخص آخر ولذا كرّر الموصول فقال: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ...}.

وقد ذكرت الروايات مصداقاً آخر لهؤلاء، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «من ادّعى الإمامة دون الإمام (عليه السلام) »(1).

الثالث: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَٰئِكَةُ بَاسِطُواْ...} الآية.

{لَوْ} للتمني ومعناها حب اللّه تعالى له، وذلك واقع حتماً لأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحضر كل ميت كما في الأخبار المستفيضة فيبشّر المؤمن بالجنة، والكافر والمنافق بالنار(2)، والجزاء محذوف كأنّه قال: لرأيت أمراً فظيعاً وعذابهم شديداً.

وقوله: {الظَّٰلِمُونَ} اللام للعهد يعني هؤلاء المذكورين الذين هم أظلم الناس، أو للجنس، أي كل ظالم مصيره هكذا وهؤلاء أيضاً منهم.

وقوله: {غَمَرَٰتِ الْمَوْتِ} أصل الغمر بمعنى اشتمال الماء على الشيء

ص: 218


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 12؛ عن تفسير العياشي 1: 370.
2- راجع الروايات في الكافي 3: 128.

كاملاً، وشُبّه به ما يغشى الأشياء، وحيث إن المغمور في أشد الشدة ودونه الغرق، لذلك استعيرت الغمرة للشدة، فكأنّ شدة الموت أحاطت بالمحتضر من كل مكان.

وقوله: {وَالْمَلَٰئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} بسط اليد بمعنى مدّها، وهؤلاء إما ملك الموت وأعوانه حيث يشدّدون على الكفار، وإما ملائكة العذاب ينتظرون موتهم ليبدأوا بعقوباتهم.

وقوله: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} من المعلوم أن قبض الروح إنما يكون بواسطة الملائكة، فهذا القول لإذلالهم والتهكم بهم، وقيل: بل يؤمرون بأن يخرجوا هم أنفسهم زيادة في إيلامهم كما لو أمر الحاكم المحكوم بأن ينفذ العقوبة على نفسه بنفسه، والأول أظهر.

وقوله: {الْيَوْمَ} أي من هذه اللحظة التي هي لحظة قبض الروح يبدأ الجزاء، أو المراد الآخرة بمعناها الأعم، أي قد انتهت الدنيا حيث كنتم تُمهلون وبدأت الآخرة بموتكم حيث تُؤخذون بجريرتكم ولا إمهال بعدئذٍ.

وقوله: {عَذَابَ الْهُونِ} أي العذاب الجامع بين إيلامه الجسدي والنفسي بالهوان والذلة، و(هُون) شدة الهوان، وروي أنه عذاب العطش(1).

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ...} لبيان عدل اللّه تعالى، فإن هذا العذاب جزاء أعمالكم وهو الكذب على اللّه قولاً، والاستكبار عليه عملاً.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٖ

ص: 219


1- تفسير العياشي 1: 370.

وَتَرَكْتُم...} الآية.

بيان جزء من محاسبتهم حيث يظهر أنهم كانوا في غرور، وبذلك يتم تحذير الناس وإنذارهم بأن لا يعملوا كعمل هؤلاء من الافتراء على اللّهوالاستكبار عليه، وإلاّ كان مصيرهم كمصيرهم.

وقوله: {جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ} بيان عدم انتفاعهم لا بالشركاء ولا بما كانوا يملكونه في الدنيا من المال والولد.

وقوله: {كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٖ} أي في بطون أمهاتكم أو العوالم السابقة عليه كعالم الذر، ولعل الغرض من هذا هو تذكيرهم بأنهم كانوا فرادى ثم ملكوا واستقووا بالأموال والأولاد والأعوان، فلا يغترّوا بها لأنها أمور عارضة لم تكن ثم كانت ثم تسلب منهم.

وقوله: {وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ} التخويل هو إعطاء الخَوَل - وهو المال ونحوه مما يتعهده الإنسان - ، وفي الآية إشعار بأنكم كفرتم بنعمة اللّه تعالى حيث خولكم المال والسلطة والأولاد ونحو ذلك لكنكم لم تقدّموا منها لآخرتكم ما ينفعكم فيها، والآن تركتموها لغيركم وحملتم وزرها وذنوبها.

وقوله: {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} أي لم تتمكنوا من حمل شيء منها معكم.

وقوله: {وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} أي كما لم ينفعكم المال وغيره كذلك لم ينفعكم شركاؤكم المزعومون الذين عبدتموهم طلباً لشفاعتهم.

وقوله: {أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰؤُاْ} أي زعتم أن للّه نصيباً فيكم بعبادته، وللشفعاء المزعومين نصيباً فيكم بعبادتهم، وبعبارة أخرى زعمتم أن لهم فيكم حقاً كحق اللّه جلّ وعلا.

ص: 220

وقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي كانت هناك رابطة مودة بينكم وبين الشركاء المزعومين لكن الآن قد انقطعت تلك الرابطة فلا مودة بل بغضوبراءة، و(البين) هنا بمعنى الوصل والجمع(1)، فالكلمة من الأضداء قد تكون بمعنى الفرقة وقد تكون بمعنى الجمع(2).

وقوله: {وَضَلَّ عَنكُم} أي بطل وضاع، بمعنى تبيّن لكم بطلانه وعدم نفعه لكم.

ص: 221


1- راجع كتاب العين 8: 381.
2- راجع لسان العرب 13: 61.

الآيات 95-99

اشارة

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ 95 فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 96 وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ 97 وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَفْقَهُونَ 98 وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٖ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّٰتٖ مِّنْ أَعْنَابٖ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ انظُرُواْ إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ 99}

وكما أن الشركاء في الآخرة لا ينفعون كذلك في الدنيا، بل كل شيء بيد اللّه تعالى وقد بيّن ربوبيّته في كل شيء وذكر لذلك أمثلة، فقال:

95- {إِنَّ اللَّهَ} هو المحيي فهو {فَالِقُ} شاقّ {الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ} لينبت منهما؛ إذ هو الذي {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} فلذا أخرج الزرع من الحب وأخرج الأشجار من النوى، {وَ} كذلك اللّه تعالى هو المميت فهو {مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} كالحب والنوى من الزرع والشجر، فالحياة والموت بيده تعالى {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ} فهو الذي يفعل هذا دون شركائكم {فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ}

ص: 222

الاستفهام إنكارى، أي فكيف تُصرفون عن الحق الواضح إلى الباطل؟!

96- كما أن الليل والنهار إنّما هما بتقديره فهو {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} أي شاقّعمود الصبح عن ظلمة الليل وذلك لتعملوا وتبتغوا من رزقه {وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا} هدوءاً للاستراحة، {وَ} جعل {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} حساباً للأوقات كالأيام والشهور والفصول والسنوات {ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ} اللّه {الْعَزِيزِ} الغالب في سلطانه {الْعَلِيمِ} بما هو الصالح، لا الشركاء التي لا تعي شيئاً.

97- {وَ} الأجرام السماوية إنما هي بتدبيره النافع لكم ف{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ} تعرفوا طريقكم {بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ} الليل في {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} لئلا تضلوا طريقكم {قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ} بيّناها فصلاً فصلاً لتستدلوا بها على توحيد خالقكم {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} لهم علم بأوضاع النجوم، أو إن المنتفع بهذه الآيات من يعلم بها دون الجاهل.

98- وكذلك أصل خلقكم وكيفيته إنما هما من اللّه تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم} خلقكم على كثرتكم {مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} آدم (عليه السلام) {فَمُسْتَقَرٌّ} أي موضع القرار {وَمُسْتَوْدَعٌ} أي محل الإيداع، والمعنى أنه كما أنشأكم كذلك أنشأ لكم مكان الاستقرار ومكان الإيداع الموقّت وهما الرحم والصلب، وتأويلهما بالإيمان الثابت والزائل، {قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ} بيناها بالتفصيل {لِقَوْمٖ يَفْقَهُونَ} يفهمون الأشياء ودلالاتها.

99- والأمطار والثمار أيضاً بتدبيره {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} جهة العلو {مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بالمطر {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٖ} كل أنواع النباتات مع أن الماء واحد والأرض واحدة {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} من النبات {خَضِرًا} شيئاً

ص: 223

أخضر غضّاً {نُّخْرِجُ مِنْهُ} من الخضر {حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} بعضه على بعض كالحنطة في سنبلها، {وَ} أخرجنا {مِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا} وهو أول ما يظهر من ثمر النخل، و«من طلعها» بدل عن «من النخل»، أي أخرجنا منطلع النخل {قِنْوَانٌ} و«قنوان» جمع (قنو) وهو العِذق الذي يحمل التمر {دَانِيَةٌ} قريبة في متناول يد قاطفها، {وَ} أخرجنا {جَنَّٰتٖ} بساتين {مِّنْ أَعْنَابٖ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} أي أشجارها {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ} قد يتماثل بعضه مع بعض وقد لا يتماثل في الطعم والرائحة واللون وغير ذلك، {انظُرُواْ} نظر اعتبار {إِلَىٰ ثَمَرِهِ} ثمر كل واحد من هذه الأشجار {إِذَا أَثْمَرَ} حيث هو غير نافع {وَيَنْعِهِ} نضوجه حيث هو نافع ولذيد، {إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ} ما تقدم ذكره {لَأيَٰتٖ} دلالات على توحيد الخالق {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} ويتركون العناد.

من دلائل التوحيد تدبير أمور الخلق

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة أن شركاءهم المزعومين لا ينفعونهم في الآخرة، بيّن دلالة أخرى على توحيد اللّه تعالى بأن تدبير أمور الخلق كلها بيده وحده لا شريك له، وليس لشركائهم دخل في ذلك التدبير، وذلك عبر إرشادهم وتنبيههم إلى جليل صنع اللّه تعالى، وقد ذكر سبحانه خمسة أنواع من ذلك وهي: الإحياء والإماتة، ثم تقدير الليل والنهار ونفع الشمس والقمر، ثم تقدير النجوم بما ينفع الناس في الظلمات، ثم خلق الناس على كثرتهم من نفس واحدة وجعل المستقر والمستودع لهم، ثم نزول المطرو إنبات النباتات المختلفة مع أنها تسقى بماء واحد وعلى أرض واحدة.

ص: 224

وقيل: بيّن أولاً آيات أرضية كفلق الحبة، ثم آيات سماوية كالليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، ثم أمور راجعة إلى الإنسان نفسه بإنشائه والمستقر والمستودع فيه، ثم تعميم الأمر إلى أمور مألوفة للجميع كإنزال المطر وإنباتالزرع والأشجار وما فيها من المنافع. وما ذكرناه أقرب للسياق.

فكل ذلك آيات على توحيده في الألوهية والربوبيّة، ولا شرك لأحد فيها أبداً، فما الذي جعل أصنامهم شركاء للّه؟ فلا هي تملك أمر الآخرة ولا أمر الدنيا، قال تعالى: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَئًْا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَوٰةً وَلَا نُشُورًا}(1)، وهناك آيات كثيرة في هذا المعنى.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ...} الآية.

ومن أعظم آيات اللّه تعالى الموت والحياة، ولعلّه لذلك قدّمه في الذكر.

وقوله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ} بشقّهما لإخراج النبات منهما، فهما لا حياة فيهما لكن تخرج منهما الحياة، فالحب يخرج منه الزرع، والنوى يخرج منه الشجر، وفي بعض الروايات تأويلهما بطينة المؤمن والكافر(2)،

أو هو من الجري.

وقوله: {يُخْرِجُ...} بدل أو عطف بيان عن {فَالِقُ} لبيان أن هذا الفلق هو من مصاديق إخراج الحي من الميت.

ص: 225


1- سورة الفرقان، الآية: 3.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 15-16.

وقوله: {وَمُخْرِجُ...} عطف على {فَالِقُ} ولذا جاء به بصيغة اسم الفاعل، وليس عطفاً على {يُخْرِجُ} فالمعنى هو فالق يخرج الحي من الميت، وهو مخرج الميت من الحيّ.

وقوله: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ} أي الذي يصنع هذا هو اللّه لا شركاؤكم المزعومون.

وقوله: {تُؤْفَكُونَ} من الإفك، أي الصرف عن الحق إلى الباطل، تقريع لهم على عدم التدبر في هذه الآية الواضحة.

الثالث: قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ...} الآية.

هذه الدلالة لبيان تقدير اللّه تعالى ما ينظم حياة الناس وأوقاتهم.

وقوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} (الإصباح) مصدر صار اسماً للصبح، وكأنّ في الكلام تقديراً، أي فالق الظلمة بالإصباح؛ لأن الفجر يشق الظلام الدامس، والمراد فلقه لتتحركوا وتطلبوا من رزق اللّه تعالى.

وقوله: {وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا} أي هدوءاً وللراحة، وهذا على الأعم الأغلب حيث يعمل الإنسان في النهار ويستريح في الليل غالباً.

وقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} عطف على {الَّيْلَ}، أي وجعل الشمس والقمر، و(حُسبان) بالضم مصدر حَسَب يحسِب بمعنى الحساب(1)، وحمل المصدر على اسم الذات لإفادة المبالغة مثل: زيد عدل، لأن حركتهما بحساب دقيق جداً وبذلك تُحصى الأوقات من أيام وشهور وسنوات

ص: 226


1- وأما الحِسبان - بالكسر - فهو مصدر حسِب يحسَب بمعنى الظن والوهم.

وفصول، وغير خفي أن للشمس والقمر فوائد كثيرة تكوينية واعتبارية، لكن محور الكلام هنا هو التوقيت بالليل والنهار والأيام والشهور والسنوات بما يشاهدونه عياناً ولا مجال لهم لإنكاره، وهكذا بالنسبة إلى الاهتداء بالنجوم في الآية التالية.

الرابع: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ...} الآية.

هذه الدلالة ترتبط باهتدائهم بالأجرام السماوية مما لا دخل للشركاء في ذلك أيضاً، فاللّه تعالى خلق النجوم بحكمته وفيها مصالح كثيرة، لكن الفائدة التي يلتفت إليها غالب الناس هو اهتداءهم إلى الطريق لئلا يتيهوا في البر أو في البحر، ولكن كيفية الاهتداء بها بحاجة إلى علم وخبرة، فالناس يعلمون بأنها يُهتدى بها لكن غالبهم لا يعلمون كيفية ذلك وهذا لا يضر بكونها آية عامة للجميع.

وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} ولم يقل: (خلق لكم) لأن الغرض من خلقها ليس الناس، وإنما خلق اللّه السماوات والأرض لأجل الصفوة من خلقه محمد وآله عليه وعليهم الصلاة والسلام، ولكن جعل في ذلك الخلق منفعة عامة لجميع الناس وذلك من البركة التي جعلها اللّه فيهم(عليهم السلام)، فتأمل.

وقوله: {ظُلُمَٰتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إما بمعنى ظلمات الليل في البحر والبر فنسب الظلمة إليهما اختصاراً، أو هو تشبيه الطرق المشتبه بالظلمة.

وقوله: {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} الظاهر أن قوله في هذه الآيات تارة {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}، وتارة {لِقَوْمٖ يَفْقَهُونَ}، وتارة {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} هو بيان

ص: 227

أوصاف القوم المهتدين - وهم جماعة واحدة - بأنهم يعلمون ويفقهون ويؤمنون، ولعلّه وزّع هذه الأوصاف في الآيات الثلاث ليكون أوقع في النفوس، وتدرّج من العلم إلى الفقه إلى الإيمان، فالآيات توجب علماً ثم فقهاً ثم إيماناً.

وقيل: ذكر مع ذكر النجوم {يَعْلَمُونَ} لأن أمرها ظاهر، ومع ذكر تخليق بني آدم {يَفْقَهُونَ} لأن إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ...} الآية.

هذه الدلالة ترتبط بخلق الإنسان وتصرفه، فإن ذلك آية عظيمة لا دخل للشركاء فيها، حيث إن اللّه تعالى خلق هذا الخلق الكثير من شخص واحد، بأن خلق آدماً (عليه السلام) وخلق من فاضل طينته حواء، ثم خلق منهما سائر الناس وجعل محل استقرارهم الأرض وهي محل دفنهم ومنها يبعثون، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}(2)، وقال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ}(3)، وقال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ}(4).

ص: 228


1- نقله في تفسير الصافي 3: 75.
2- سورة النساء، الآية: 1.
3- سورة الأعراف، الآية: 24.
4- سورة طه، الآية: 55.

معنى المستقر والمستودع

و(المستقر) اسم مكان، أي محل الاستقرار وكذلك (المستودع) أي محل الإيداع الموقت كالوديعة، والظاهر أن المراد هنا في الآية هو المعنى اللغوي المتبادر، ولذلك مصاديق متعددة وقد بينت الروايات بعضها، وبعضها من التأويل.

فمن المصاديق: ما عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «مستقر في الرحم ومستودع في الصلب»(1)؛ لأن فترة البقاء في الصلب قليلة فكأنّ النطفة وديعة فيها وأما البقاء في الرحم فلأشهر فكأنّه مستقر لها، وأما ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في إنكار هذا المعنى فلعلّه أراد نفي حصر المعنى فيه، واللّه العالم.

ومن تأويل الآية: استقرار الإيمان في قلوب بعض فلا يزول عنهم أبداً، وإعارة الإيمان لبعض فإن شاء اللّه أتمّه فمات مؤمناً وإن شاء سلبه فمات كافراً، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلاّ أنبياء، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلاّ مؤمنين، وأعار قوماً إيماناً فإن شاء تمّمه لهم وإن شاء سلبهم إياه»، قال: «وفيهم جرت: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}» وقال لي: «إن فلاناً كان مستودعاً إيمانه، فلما كذب علينا سلب إيمانه ذلك»(2)، وفي الحديث وغيره دلالة على أن استقرار الإيمان أو سلبه يرتبط بعملهم، فإن أحسنوا أقرّ اللّه الإيمان في قلوبهم، وإن أساؤوا سلبه اللّه تعالى منهم.

وسئل الإمام الصادق (عليه السلام) : جعلت فداك إن شيعتك تقول إن الإيمان مستقر

ص: 229


1- تفسير العياشي 1: 371؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 19.
2- الكافي 2: 418.

ومستودع، فعلّمني شيئاً إذا أنا قلته استكملت الإيمان، قال (عليه السلام) : «قل في دبر كل فريضة: رضيت باللّه رباً، وبمحمد نبيّاً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلة، وبعليّ ولياً وإماماً، وبالحسن والحسين والأئمة صلوات اللّهعليهم، اللّهم إني رضيت بهم أئمة، فارضني لهم، إنك على كل شيء قدير»(1)، وهناك روايات كثيرة في هذا المعنى راجعها في تفسير البرهان(2) وغيره.

السادس: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٖ...} الآية.

هذه الدلالة بإنزال المطر وإنبات الأشجار المختلفة، قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٖ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٖ يُسْقَىٰ بِمَاءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٖ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(3)، فأولاً رفع الماء من البحار على شكل بخار وغيوم وسحب، ثم إرجاع البخار ماءً مرة أخرى ليهطل مطراً هو من آياته تعالى ولا صنع للشركاء في ذلك أصلاً، وهذا الماء الواحد ينزل على أرض واحدة فيخرج منها أشكال وألوان من النباتات والفواكه وذلك آية أخرى من آياته تعالى، ثم مرور الفاكهة بمراحل من ظهورها إلى نضجها هذا أيضاً آية أخرى.

وقوله: {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٖ} أي جميع النباتات إنما تنبت بالماء حصراً، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}(4).

ص: 230


1- تهذيب الأحكام 2: 109.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 18-20.
3- سورة الرعد، الآية: 4.
4- سورة الأنبياء، الآية: 30.

وقوله: {خَضِرًا} النبات في بداية ظهوره يميل إلى البياض ثم يتفرّع منه ما هو أخضر.

وقوله: {حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} بعضه فوق بعض كالراكب، وذلك في أمثالسنابل الحنطة والشعير.

وقوله: {مِن طَلْعِهَا} بدل عن {مِنَ النَّخْلِ} والطلع هو أول ظهور الثمرة على الشجرة.

وقوله: {قِنْوَانٌ} جمع قِنو هو العِذق - بالكسر - وهو كالحبل الذي يجتمع التمر عليه، فإن النخل يتصل به العرجون، ثم يتفرع من العرجون العِذق كأمثال الحبال، ويتصل التمر بالعِذق، ومجموع الأعذاق تُسمى الشمراخ، وذلك من آيات اللّه تعالى حيث حوّل الخضر والطلع إلى فواكه لذيذة ونافعة.

وقوله: {دَانِيَةٌ} أي قريبة يتمكن جانيها من اقتطافها بسهولة، والنعمة في القريبة أظهر، قيل: اجتزأ بذكر الدانية عن البعيدة، أو لأن البعيدة كانت دانية في أول أمرها. والأول أحسن.

وقوله: {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ} الاشتباه والتشابه بمعنى واحد، أي تتماثل أو لا تتماثل، وسيأتي في الآية 141 قوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٖ}، وفي الكشاف «يقال: اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك استويا وتساويا، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً»(1)، وفي التقريب: «والاختلاف بين لفظي (مشتبه) و(متشابه) من أحسن أنواع

ص: 231


1- الكشاف 2: 52.

البلاغة، لتطابق اللفظ والخارج»(1).

وقوله: {إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} أي انظروا نظر اعتبار بحال هذه الثمرات منحين ظهورها حيث لا تصلح للأكل ولا نفع فيها غالباً إلى حين نضوجها واستوائها حيث تكون نافعة لذيذة، وستعملون أنه لا يرتبط ذلك بشركائكم المزعومين، بل هو صنع اللّه سبحانه وتعالى، والحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه.

ص: 232


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 108.

الآيات 100-104

اشارة

{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتِ بِغَيْرِ عِلْمٖ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ 100 بَدِيعُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَٰحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 101 ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ وَكِيلٌ 102 لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 103 قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ 104}

ثم بعد الاستدلال بتدبير اللّه يأتي دور الاستدلال بأصل الخلقة، فقال:

100- {وَجَعَلُواْ} المشركون {لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} أي جعلوا الجن شركاء للّه تعالى {وَخَلَقَهُمْ} أي والحال أن اللّه تعالى خلق الجن فكيف يكون المخلوق شريكاً للخالق؟! {وَخَرَقُواْ لَهُ} اختلقوا بأوهامهم السقيمة {بَنِينَ وَبَنَٰتِ} جعلوهم شركاء للّه تعالى {بِغَيْرِ عِلْمٖ} فقولهم من غير برهان بل توهم {سُبْحَٰنَهُ} أنزهه تنزيهاً {وَتَعَٰلَىٰ} ترفّع {عَمَّا يَصِفُونَ} أي عن وصفه بالشركاء.

101- وكيف يكون له ولد مع أن الولد لا يكون إلّا عبر التزاوج، ولم يكن أحد قبل الخلق؛ إذ إن اللّه {بَدِيعُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} خلقهما بإبداع على غير مثال سابق، وحينذاك لم يكن أحد ف{أَنَّىٰ} متى {يَكُونُ لَهُ

ص: 233

وَلَدٌ} من البنين والبنات المزعومين؟ فهل قبل خلقهما {وَ} ذلك لا يصح؛ إذ {لَمْ تَكُن لَّهُ} قبل الخلق {صَٰحِبَةٌ} زوجة، أو بعد خلقهما، وذلك لا يصحأيضاً؛ إذ لا سنخية بين المخلوق والخالق ليكونا زوجين، {وَ} الحال أنه {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ومن كان خالقاً عالماً فلا يحتاج إلى شريك أو ولد يعينه في الخلق أو يخبره بما غاب عنه!

102- ومن كانت له تلك الصفات فلا ربّ غيره {ذَٰلِكُمُ} الضمير للخطاب تنبيهاً لهم، أي الموصوف بما ذكر هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ} فالربوبية منحصرة فيه، و{لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فالألوهية أيضاً منحصرة فيه، {خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ} فلا خالق غيره، وبذلك بطل كل الشركاء المزعومين، {فَاعْبُدُوهُ} لأنه المستحق للعبادة دون غيره {وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ وَكِيلٌ} أي يتولى أمره وحفيظ عليه فيحصى أعمالهم ويجازيهم عليها، فلا يحتاج إلى شريك أو ولد.

103- ومن كان الإله والرب ف{لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ} لا تراه، {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ} يراها، والشركاء المزعومون ليسوا كذلك {وَهُوَ اللَّطِيفُ} لا يُدرك بوهم {الْخَبِيرُ} العالم ببواطن الأشياء.

104- وحيث علمتم هذه الحقائق فإنما هي من اللّه تعالى ف{قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ} الدلائل والحجج التي تدركون بها الحقائق {مِن رَّبِّكُمْ} لهدايتكم من غير جبر، {فَمَنْ أَبْصَرَ} أدرك الحق فاهتدى {فَلِنَفْسِهِ} نفع ذلك يعود إليه، {وَمَنْ عَمِيَ} أعرض فغوى {فَعَلَيْهَا} ضرر ذلك يرجع إليه {وَ} قل يا رسول اللّه لهؤلاء: {مَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ} أحفظ قلوبكم وأعمالكم من الانحراف، بل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منذر، وإنما اللّه تعالى حفيظ

ص: 234

عليهم بإحصاء أعمالهم وجزائهم عليها.

من دلائل التوحيد أصل الخلقة

بحوث

الأول: بعد الاستدلال في الآيات السابقة على بطلان الشركاء بتدبير اللّه تعالى عبر فلق الحب والنوى والليل والنهار وفوائد الأجرام السماوية وتكثير الإنسان والإنبات عبر المطر... بعد ذلك يستدل على نفي الشركاء بأصل الخلقة، وأن اللّه خلق كل شيء قبل وجود الشركاء المزعومين، بل الشركاء بأنفسهم مخلوقات للّه تعالى، فما الذي جعلها شركاء؟! فلا التدبير منها، ولا الخلق منها، كما أنها لا تمتلك صفات الألوهية والربوبية، وإنما تلك الصفات تنحصر في اللّه سبحانه فهو الذي خلق السماوات والأرض وخلق كل شيء وهو العالم بكل شيء والجزاء عليه، وهو الذي ليس بجسم فلا يُرى مع أنه يَرى كل شيء.

الثاني: قول تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ...} الآية.

بيان بطلان نوعين من الشركاء قد شاع بين المشركين الاعتقاد بهما، فقد كانوا يزعمون أن الجن شركاء له تعالى، قال تعالى: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}(1)، وبعض المشركين كالمجوس كانوا يعتقدون بأن الشيطان إله الشر وهو خالق كل أمر سيّئ، كما أن المشركين كانوا يزعمون أن للّه سبحانه أولاداً فالعرب منهم اتخذوا اللات والعزّى ومناة بناتاً للّه سبحانه، والنصارى زعموا بأن المسيح (عليه السلام) ابن اللّه تعالى، فيقال لهم كيف تكون الجن شركاء وهي مخلوقة للّه تعالى كما أن

ص: 235


1- سورة سبأ، الآية: 41.

زعمهم بأن للّه بنين وبنات لا برهان لهم به، ثم في الآية اللاحقة يذكر الأدلة على بطلان ما اتّخذوه.

وقوله: {الْجِنَّ} عطف بيان على {شُرَكَاءَ} والمعنى جعلوا الجن شركاءله سبحانه، قيل: المراد بالجن هنا الملائكة وتسميتهم بالجن لاستتارهم! لكنه خلاف الظاهر من غير قرينة فلا يُصار إليه.

وقوله: {وَخَلَقَهُمْ} جمله حالية لإبطال شركهم، أي الجن مخلوقات للّه والمخلوق لا يكون شريكاً للخالق.

وقوله: {وَخَرَقُواْ} الخرق هو الاختلاق، كأنّه شقّ للحقيقة بالافتراء.

وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٖ} أي بغير حجة وبرهان يوجب العلم، بل بالظن واتّباع الآباء جهالةً وسفهاً.

وقوله: {سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ} هذا نفي للشركاء من جهتين: جهة تنزهه عن صفات النقص، وجهة علو ذاته، وكلا الأمرين يثبتان توحيده واستغناءه عن الشركاء.

وقوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} أي الأوصاف التي يلصقونها به، ومعنى الوصف وإن كان يشمل الوصف بحق أو بباطل إلاّ أن استعماله في القرآن بالمعنى السلبي أي الشريك والولد والكذب قال: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ}(1)، وقال: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ}(2)، وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف،

ص: 236


1- سورة النحل، الآية: 62.
2- سورة الأنعام، الآية: 139.

وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة»(1)، كأنه أراد نفي الشركاء عنه؛ إذ الاثنينية دليل على التعدد، ولا يصح قول النصارى بأنه واحد وثلاثة فيالوقت نفسه، ولا قول القائلين بوحدة الوجود بالوحدة في عين الكثرة.

الثالث: قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ...} الآية.

هذه الآية تتضمن البرهان على بطلان ما خرقوا له من بنين وبنات.

قوله: {بَدِيعُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} أي إن اللّه تعالى خلقهما بإبداع من غير مثال سابق، فلم يكن هناك شيء أصلاً قبل خلقهما، فلم تكن زوجة كي ينجب منها بنين وبنات.

قوله: {أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} (أنى) استفهام عن الزمان، وكأنّ المقصود متى كان الأولاد؟ هل قبل خلق السماوات والأرض أم بعده؟ فأمّا قبل خلقهما: فلا شيء كان سوى اللّه فلم تكن صاحبة لكي ينجب منها سبحانه وتعالى، وأما بعد خلقهما: فكل الأشياء لا تصلح لأن تكون صاحبته؛ إذ لا بد من سنخية بين الزوجين ولا سنخية بين الخالق والمخلوق.

وقوله: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَٰحِبَةٌ} كأنه نفي للولد قبل خلق السماوات والأرض؛ إذ لا صاحبة في ذلك الوقت.

وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٖ} كأنّه نفي للولد بعد خلق السماوات والأرض؛ إذ حينئذٍ كل الأشياء مخلوقة له فلا يصلح شيء منها ليكون صاحبته.

وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} كأنّه دليل آخر على نفي الولد والشريك عبر نفي الحاجة، فإن الإنسان يتخذهم ليكونوا أعواناً له ويخبرونه

ص: 237


1- نهج البلاغة، الخطبة: 1.

بما غاب عنه، واللّه تعالى لا حاجة فيه أبداً وهو عالم بكل شيء أزلاً.

ويحتمل أن يكون هذا نفياً للولد الاتخاذي، فإن الولد قد يكون حقيقياً وذلك بانفصال جزء من الأب فيتحول إلى ابن، وقد يكون ولداً اتخاذياً أيبالتبني بأن لا تكون رابطة بين الأب والابن إلاّ رابطة اعتبارية لا حقيقية، فيقال لهم: إن اتخاذه إما لحاجة الأب أو لتشريف الابن، ولا حاجة للّه تعالى؛ إذ هو عالم بكل شيء، ولا تشريف للمخلوق بأعظم من كونه عبداً للّه تعالى فلا يحتاج إلى تشريفه بغير ذلك.

الرابع: قوله تعالى: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ...}.

بيان أن من اتصف بالصفات المذكورة في الآية السابقة لا يشاركه أحد في أيّ شيء لا في الربوبيّة ولا في الألوهية ولا في الخلق ولا في العبادة ولا في الجزاء، فقوله: {رَبُّكُمْ} لحصر الربوبيّة فيه، وقوله: {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} لحصر الألوهية فيه، وقوله: {خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ} لحصر الخلق - بمعنى الإيجاد من العدم - فيه، ومن جملة تلك الأشياء الشركاء المزعومون حيث إنها مخلوقات له تعالى، وقوله: {فَاعْبُدُوهُ} لحصر العبادة فيه فلا تجوز عبادة غيره، وقوله: {وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ وَكِيلٌ} كأنّه لحصر القيمومية فيه فهو القائم على كل نفس بما كسبت، وينتج من ذلك حصر الجزاء فيه أيضاً.

هل أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى؟

وقوله: {خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ} وقد يتسائل عن أن أفعال العباد - وفيها القبائح كالظلم - هل هي مخلوقة للّه تعالى؟ مع أنه سبحانه يقول: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}(1)، سؤال آخر: ألا يستلزم القول بأنه تعالى خالق

ص: 238


1- سورة السجدة، الآية: 7.

أعمال العباد الجبر؟

والجواب عن الأول: إن كل شيء يقع في العالم هو بقضاء وقدر من اللّه تعالى، وفي أفعال العباد الاختيارية القضاء والقدر معلّق على إرادة العبديعني إن أراد العبد شيئاً قضاه اللّه وقدّره، وليس ذلك بمعنى تبعية إرادته لإرادة العبد بل بمعنى أنّ من الحكمة إذا أراد العبد شيئاً أن يقدّره اللّه ويقضيه، كما أنه كان من الحكمة إرادة عقاب العبد عندما يعصي وإرادة إثابته لمّا يطيع، ومن الحكمة إرادة استجابة الدعاء لمّا يدعو.

وأما الأعمال القبيحة كالظلم فإن ما يخلقه اللّه تعالى ليس ظلماً فلا يكون قبيحاً، وإنما جهة الظلم ترتبط بالعبد، مثلاً من قتل إنساناً فإن القتل لا يتحقق إلّا بإرادة اللّه تعالى قبض روح المقتول، فهنا ما خلقه اللّه وهو قبض الروح لا قبح فيه، وإنما القبح في الجهة التي ارتبطت بالقاتل وهو سلب حق الحياة من المقتول، وبعبارة أخرى: أعمال العباد القبيحة لها جهتان: جهة ترتبط بتقدير وقضاء العمل وذلك لا قبح فيه وهو عمل اللّه تعالى، وجهة اعتبارية وذلك الذي فيه القبح وهو يرتبط بالإنسان، فتأمل.

نفي الجبر

والجواب عن الثاني: إن الجبر هو أن لا تكون في مقدمات العمل أيَّة جهة اختيارية كحركة يد المرتعش، وأما لو كان في المقدمات ما يرتبط باختيار العبد فلا جبر حينئذٍ، فلو أراد العبد عملاً - وهذه هي المقدمة الاختيارية - قدّر اللّه وقضى ذلك العمل.

التوافي لا ينافي قانون العليّة

ثم إن بعض المفسرين ذكر أن في القول بالتوافي - بأن يكون اللّه هو الذي يخلق المعلول حين تحقق عِلتّه من غير أن يكون ربط واقعي بين العِلة

ص: 239

والمعلول - إبطالاً لقانون العلية والمعلولية، وفي ذلك إبطال لإثبات الخالق؛ إذ الدليل على وجود الخالق هو تحقق المعلولات - مختلف المخلوقات - وكونه علة للعالم!

ويرد عليه: أن القول بالتوافي لا ينافي قانون العلية بل يُثبتها؛ وذلك لأنه على هذا القول يكون السبب لترتب المعاليل على عِللّها هو اللّه تعالى فهو الذي يرتب الحرارة على النار - مثلاً - لا أن النار هي التي تولّد الحرارة، بمعنى أن سنة اللّه جرت على خلق الحرارة حين وجود النار لا أن النار هي التي توجد الحرارة، وعليه فجميع العِلل هي ظاهرية بلا ربط واقعي وحقيقي بينها وبين معاليلها، لكن ذلك لا يعني وجود المعلول من غير علة، بل يعني أن سبب وجود المعلول هو اللّه تعالى، وبعبارة أخرى: الخلاف صغروي في تعيين العلة وأنها هل العِلل الطبيعية أم أنه اللّه تعالى، وليس في الكبرى بإنكار قانون العِليّة، فتأمل.

الخامس: قوله تعالى: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.

بيان أن اللّه تعالى ليس بجسم فلذا لا يتصف بصفات الأجسام، عكس الشركاء، فهم بين من يُرى بالعيون وبين جماد لا يَرى شيئاً، فالجامع بين الوصفين - لا يُرى وهو يَرى - لا يكون إلاّ اللّه تعالى.

استحالة رؤية اللّه في الآخرة

قوله: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ} الإدراك بالبصر بمعنى الرؤية عياناً، وليس الإدراك بمعنى الإحاطة كما زعم بعض المجسمة حيث توهم أن اللّه سبحانه يُرى بعضه ولا يمكن رؤية جميعه لضخامة وجوده! سبحانه وتعالى

ص: 240

عن ذلك علواً كبيراً؛ إذ ذلك عام لكثير من الأشياء فمن يرى إنساناً مقبلاً لا يرى خلفه لكنه أدركه ببصره ولا يصح أن يقال: إنه لم يدركه ببصره حيث لم يَر خلفه كما هو واضح، فالآية تدلّ على عدم تمكن الأبصار من رؤيتهتعالى وهذا عام للدنيا والآخرة، حيث إنه ليس بجسم ولا في جهة.

ثم إن بعض المجسمة زعموا أن المؤمنين يرون اللّه تعالى في الآخرة بقلوبهم، وهذا أيضاً باطل؛ لأنّ المراد من الرؤية القلبية إن كان المعرفة فذلك حاصل في الدنيا أيضاً فالأنبياء والأوصياء والمؤمنون يعرفون اللّه في الدنيا والآخرة، وإن كان مرادهم الرؤية عياناً لكن آلة الرؤية لا تكون العين بل القلب! فذلك شطط من القول؛ لأن هذا المعنى يستلزم التجسيم والجهة أيّاً كانت آلة الرؤية، ولذا ورد في بعض الأحاديث نفي هذه الرؤية أيضاً، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ} قال: «لا تدركه أوهام القلوب، فكيف تدركه أبصار العيون»(1)، وعنه (عليه السلام) أنه سئل عن اللّه هل يوصف؟ فقال: «أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: تقرأ قوله تعالى: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ}؟ قلت: بلى، قال: فتعرفون الأبصار؟ قلت: بلى، قال: ما هي؟ قلت: أبصار العيون، فقال: إن أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون، فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام»(2)، وهناك أحاديث أخرى راجعها في تفسير البرهان(3)، والمقصود منها هو بيان عموم مفهوم {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ} فكما يشمل نفي الرؤية

ص: 241


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 28 عن أمالي الصدوق: 410.
2- الكافي 1: 98.
3- البرهان في تفسير القرآن 3: 22-29.

بالبصر، كذلك يشمل امتناع إدراكه بالقوى الباطنة.

وقوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ} أي وهو يعلم بكل شيء، ولكن ذكر خصوص علمه بالأبصار للتجانس مع قوله: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ}.

وقوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} اللطيف في اللّه بمعنى نفوذ علمه وقدرته في الأشياء، وبمعنى عدم إمكان إدراك أحد له بكنهه، وبمعنى بِرّه بعباده، والمناسب هنا المعنى الأول، والخبير هو العالم ببواطن الأشياء ودقائقها.

السادس: قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ...} الآية.

بيان أنه مع وضوح هذه الحجج والبراهين المذكورة فإن البعض يعاند ولا يذعن للحق، وهذا ليس لنقص في البراهين، بل لعمى في هؤلاء المعاندين، كمن يحجب نفسه عن نور الشمس فلا ينتفع بها فليس ذلك لنقص فيها، بل لنقص فيه.

وقوله: {بَصَائِرُ} جمع بصيرة، وهي في القلب كالبصر في الرأس، أي الدلالة التي يعلم بها الإنسان حقائق الأشياء.

وقوله: {وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ} هذا المقطع عن لسان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتقدير: (وقل لهم)، أي ليست مهمّتي جبركم على الهداية بأن أحفظ عقائدكم وأعمالكم عن الانحراف والخطأ، بل مهمّتي هي إرشادكم وإراءة الطريق لكم ويبقى الاختيار لكم.

ص: 242

الآيات 105-108

اشارة

{وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ 105 اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 106 وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٖ 107 وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٖ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 108}

105- {وَكَذَٰلِكَ} بهكذا بيان واضح {نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ} نذكرها بوجوه متعددة، فأمّا المعاندون فذلك إتمام للحجة عليهم {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} أي قرأت هذه الآيات وتعلّمتها من آخرين، واللام للعاقبة، أي عاقبة تصريفنا هو قولهم هذا، {وَ} أما غير المعاندين فالغرض من التصريف لهم هو {لِنُبَيِّنَهُ} نبيّن القرآن بما فيه من الآيات {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} لأن العالم هو الذي ينتفع بالآيات لا المعاند الجاهل.

106- ولا يصدّك عن الآيات قول المعاندين بل {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} وذلك لأنّه {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فلا آلهة أخرى لكي تتخيّر بين اتّباع اللّه واتّباعها {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} لا تتبع أهواءهم ولا تهتم بأقوالهم، وهذا لا ينافي دعوتهم وقتالهم.

107- وإنما عليك الإعراض عنهم لأن اللّه تعالى خلق الناس مختارين

ص: 243

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ} فهو على كل شيء قدير لكن لم يشأ بحكمته،وأنت لا تتحسّر عليهم؛ إذ مهمتك التبليغ وقد أدّيتها بأتمّ وجه {وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تحفظهم عن الشرك تكويناً، {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٖ} لتكرههم على الإيمان.

108- {وَ} عدم كونك حفيظاً ووكيلاً عليهم لا يعني أن تفعل ما يوجب زيادة كفرهم وعُتوّهم ف{لَا تَسُبُّواْ} الأصنامَ {الَّذِينَ يَدْعُونَ} يدعونها المشركون {مِن دُونِ اللَّهِ} من غير إذنه {فَيَسُبُّواْ} يسب المشركون {اللَّهَ عَدْوَا} تعدياً على الحق {بِغَيْرِ عِلْمٖ} بجهالة، {كَذَٰلِكَ} كإرادة كل طرف سب معبود الطرف الآخر {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} فكل جماعة ترى نفسها على حق وترى أعمالها حسنة فلذلك لا تستفزوهم بسبّ آلهتهم {ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم} وهو رب جميعهم {مَّرْجِعُهُمْ} رجوعهم بعد هذه الحياة الدنيا {فَيُنَبِّئُهُم} اللّه تعالى {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لتظهر لهم الحقيقة وليجازيهم على أعمالهم.

بحوث

الأول: هذه الآيات تبيّن موقف المشركين من الآيات والموقف الذي ينبغي على المؤمنين اتخاذه تجاههم.

فالناس ينقسمون تجاه الدعوة إلى قسمين: فبعضهم معاندون ينكرون الآيات ويحجدون القرآن وينسبونه إلى أهل الكتاب وغيرهم، وآخرون يعلمون بأنه الحق فيتبعونه.

وعلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا يهتم بتكذيبهم، بل عليه أن يتبع ما أوحاه اللّه

ص: 244

إليه؛ إذ أن أسلوب المشركين باطل لم ينزله اللّه تعالى ولا يوجد إله آخر كي يزعموا أنه هو الذي أنزله عليهم، فعلى الرسول أن يعرض عنهم ولايهتمّ بأمرهم.

لكن الإعراض عنهم لا يعني استفزازهم عن طريق سب آلهتهم كي يتمادوا في غيّهم عبر سبّ اللّه تعالى، وليس اعتداؤهم هذا إلاّ لكونهم يرون أعمالهم حسنة وقد زُينت لهم، وهذه حالة عامة فالجميع زُينت لهم أعمالهم، لكن بما أن الحق واحد وهو ما أوحاه اللّه تعالى على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحين القيامة تتبيّن الحقيقة لجميعهم ويُجازون على أعمالهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ...} الآية.

التصريف هو تقليب الشيء على وجوه مختلفة، وتصريف الآيات هو بيانها بصور مختلفة وبألفاظ متعددة، فإن الآية الواحدة يمكن النظر إليها من جهات متعددة، وفي ذلك تسهيل الفهم للناس وإتمام الحجة عليهم.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ} أي كالذي بيّناه في الآيات السابقة ببيان ميسّر وواضح.

وقوله: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} اللام للعاقبة، أي نتيجة هذا التصريف هو أن المعاندين يفترون على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نظير اللام في قوله: {فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}(1)، فإنهم التقطوا موسى (عليه السلام) ليكون لهم قرة عين لكن كانت العاقبة أن صار لهم عدواً وأوجب حزنهم، وهذا يرتبط بالمعاندين.

وقوله: {وَلِنُبَيِّنَهُ} هذا يرتبط بغير المعاندين الذين ينظرون في الآيات لمّا تلقى عليهم وتصرّف لهم فيعلمون الحق فيتّبعونه، وفي الكشاف: «فإن

ص: 245


1- سورة القصص، الآية: 8.

قلت: أيّ فرق بين اللامين في {لِيَقُولُواْ} و{لِنُبَيِّنَهُ}؟ قلت: الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صُرفت للتبيّين، ولم تصرفليقولوا درست، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، شُبّه به، فسيق مساقه»(1).

الموقف من المشركين حين عنادهم

الثالث: قوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ...} الآية.

بيان لوظيفة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجاه المشركين حين عنادهم وجحدهم لآيات اللّه جلّ وعلا، وهي تتمثل في أمرين:

1- عدم التنازل عن الحق مهما كان الثمن؛ إذ لا يتغيّر الحق عما هو عليه، حتى لو كانت لهم السلطة والمال والسلاح، ولا بدّ من اتّباعه على كل حال، والحق لا يعدو ما أوحاه اللّه تعالى على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكل ما سوى ذلك في أمور الدين فهو من الباطل، قال تعالى: {فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَٰلُ}(2)، وقال سبحانه: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(3).

2- والإعراض عنهم بمعنى عدم الاعتناء بهم، وفي التقريب: «وليس المراد عدم دعائهم إلى الإسلام، أو عدم القتال معهم، بل معناه: أعرض عن أقوالهم وطريقتهم، وهذا كما يقال: أعرض عن فلان، يراد عدم الاهتمام والاعتناء بشأنه، وأنه لا بد من سلوك الطريق المستقيم أحبّ أم كره»(4).

ص: 246


1- الكشّاف 2: 52.
2- سورة يونس، الآية: 32.
3- سورة سبأ، الآية: 24.
4- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 112.

وقوله: {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} كأنه دليل وجوب اتّباع ما أوحاه اللّه إليه؛ إذ هو إله لا إله غيره، فليس الأمر كما زعم المشركون بأنهم مع آلهتهم وهو معآلهته حتى إذا شاء أحدهم نقل ولاءه من إله إلى آخر! كلّا فلا إله إلاّ اللّه، ولا طريق إلاّ الصراط المستقيم الذي أوحاه اللّه تعالى إلى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} والإعراض لا ينافي قتالهم إن اعتدوا أو استضعفوا الناس، فليست هذه الآية منسوخة بآيات قتال المشركين، فكأنه قال: أعرض عنهم وقاتلهم للدفاع أو للدعوة، كما هو واضح.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا...} الآية.

كأنه تعليل للإعراض عنهم وتسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببيان أن اللّه خلق الناس أجمع مختارين، فقال: {وَهَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ}(1)، وقال: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(2)، وهو سبحانه لم يكره أحداً على الإيمان أو الكفر مع قدرته التامة على ذلك لكن الحكمة اقتضت اختيارهم، فلذا على الرسول البلاغ وليس له إذن تكويني في تحويل قلوبهم إلى الإيمان، كما ليس له إذن تشريعي في إكراههم على إظهار الإيمان، قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(3).

قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} مشيئة تكوينية اضطرارية بأن يقلّب قلوبهم بقدرته

ص: 247


1- سورة البلد، الآية: 10.
2- سورة الكهف، الآية: 29.
3- سورة يونس، الآية: 99.

فيؤمنوا، وقيل: يشاء من غير جبرهم بأن يوفّقهم للإيمان باختيارهم كما وفق المؤمنين له!! وهو بعيد؛ لأن اللّه تعالى هيّأ الأسباب لهم كما هيّأها للمؤمنين،ولكن حيث كانوا مختارين اختار المؤمنون الإيمان واختار المعاندون الشرك، وحيث لم يكن طريق لدخول الإيمان إلى قلوبهم اختياراً فلذلك يطبع اللّه عليها، ففي القول بأنه (يشاء صدور العمل منهم اختياراً) تهافت، كتفسير بعضهم الإرادة التشريعية (بإرادة صدور الطاعة اختياراً) لأنه لو أراد فلا مجال للاختيار، ولو كان اختيار فلا يوجد هناك إرادة لصدور العمل، بل الإرادة التشريعية هي إرادة صدور الحكم، وقد صدر، فلا فرق بينها وبين الإرادة التكوينية في عدم تخلّف المراد إلاّ في أن متعلق أحدهما التكوين والآخر التشريع بمعنى صدور الحكم، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك.

وقوله: {وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} الحفيظ هنا بمعنى الذي يحفظهم عن الشرك، وكأنّ المراد حفظهم عنه تكويناً بقلب قلوبهم.

وقوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٖ} أي تتولى أمر دينهم بأن تكرههم على الدين؛ إذ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1)، فالفرق بينهما أن الحفيظ هنا بمعنى السلطة التكوينية عبر التصرف في قلوبهم، والوكيل هنا بمعنى السلطة التشريعية عبر إكراههم على قبول الإسلام في الظاهر، فاللّه تعالى لم يجعل للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيّاً من الأمرين، وهذا لا ينافي ولايته التكوينية والتشريعية في ما أعطاه اللّه تعالى.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ

ص: 248


1- سورة البقرة، الآية: 256.

عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٖ}.

بعد بيان عدم الاهتمام بشأن المشركين وبيان أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليسوكيلاً ولا حفيظاً عليهم، يبيّن اللّه تعالى أن ذلك ليس بمعنى فعل ما يوجب زيادة عتوهم واستكبارهم على الحق، ومن مصاديق ذلك سب آلهتهم بما يستفزّهم فينتقموا عبر سبّ اللّه تعالى.

سؤال: ورد في القرآن قدح كثير للأصنام، فكيف ينهى اللّه تعالى في هذه الآية عن سبّهم؟

والجواب: ما في التقريب: «إن الفرق بين سبّ الحكيم وسب الجاهل أن الأول يعرف موقع السب بخلاف الثاني، كما لو نهى القاضي عن ضرب الناس ورأينا أنه يضرب بنفسه لحدّ أو قصاص، فإن الأمرين لا يتنافيان»(1).

معنى عدم سبّ الذين يدعون من دون اللّه

ثم لا يخفى أن هذه الآية جارية في المسلمين أيضاً، فالمنحرفون وأهل الضلال من منتحلي الإسلام وإن لم يكونوا مشركين ويحكم عليهم بالإسلام ظاهراً إلاّ أنهم مشركون بالشرك الخفي، وهم يتّبعون أئمة الضلالة فكأنّهم اتخذوهم آلهة من دون اللّه، فلا يجوز سبّ أئمتهم إذا أدّى ذلك إلى سبّهم لأئمة الهدى(عليهم السلام) فإن من سبّهم فقد سب اللّه تعالى، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن هذه الآية فقال: «من سبّ وليّ اللّه فقد سب اللّه»(2)، وقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) : «من سبّك فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ اللّه، ومن سبّ اللّه فقد كبّه اللّه على منخريه في نار جهنم»(3)، وقيل

ص: 249


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 113.
2- تفسير العياشي 1: 373؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 31.
3- راجع كنز الدقائق 4: 422.

للإمام الصادق (عليه السلام) : «إنّا نرى في المسجد رجلاً يُعلن بسب أعدائكم ويُسمّيهم، فقال: ما له لعنه اللّه يعرض بنا، قال اللّه: {وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَيَدْعُونَ}»(1). نعم، لو كان المجلس خاصاً أو لم يؤدّ إلى سبّ اللّه وأوليائه فلا بأس بسبّ آلهتهم المزعومة وسبّ أولياء الشيطان، بل يستحب، بل قد يجب.

سبب النهي عن السبّ

وقوله: {الَّذِينَ يَدْعُونَ} إمّا بمعنى لا تسبوا الأصنام والآلهة التي يعبدها المشركون، فالموصول للآلهة وضمير الصلة مقدّر لدلالة الكلام عليه، وإما بمعنى لا تسبوا المشركين فالموصول للمشركين والضمير العائد هو واو الجمع في الصلة.

وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٖ} بمعنى الجهالة والسفاهة؛ وذلك لأن المشركين كانوا يعتقدون باللّه تعالى ولكنهم كانوا يشركون به، فلا وجه لسبّهم اللّه تعالى إلاّ السفاهة والجهالة.

قال العم الشهيد: أنتم مدعوون إلى تسفيه الآلهة وتحطيم الأصنام لكن لا تسبوها؛ لأن:

1- السب تنفيس عاطفي وليس عملاً يحقق هدفاً، والإسلام لا يريد المسلم عاطفياً يجيش فيبحث عن منفس يفرغ به عاطفة الكراهة التي تغلي في صدره، ثم يتصور أنه قد أدّى رسالته دون أن يكون قد عمل شيئاً، بل على العكس أسفّ إلى مستوى الرعاع.

فالإسلام يكره للمسلم، ويكره الإمام لأصحابه، أن يكونوا سبابين يلخصون رسالاتهم في ألفاظ نابية يقذفونها في الفراغ، وهم يحسبون أنهم

ص: 250


1- الاعتقادات في دين الامامية، للصدوق: 107.

أنجزوا كثيراً؛ لأنهم قالوا ما لم يقله غيرهم، أو ما لا يجرؤ عليه غيرهم.

2- السب بطبيعة كونه تنفيساً عاطفياً يخفف من زخم الاندفاع، فالذي لايسبّ يندفع بدافع العاطفة وبدافع الفكر في اتّجاه هدفه، والذي يسبّ يفرغ بالسباب طاقته العاطفية، فلا يبقى لديه من وقود يحرّكه نحو هدفه سوى الفكر، والفكر بدون عاطفة أضعف من الفكر مع العاطفة، فالسباب يستهلك من وقوده دون أن ينجّز شيئاً.

3- السب وإن وُجّه إلى الأصنام - التي تستحق أكثر من السب - إلاّ أن عدواه يسريه إلى غيره، فإن الإنسان إذا اعتاد عملاً مكرساً في اتجاه فإنه سرعان ما يحلّ الغضب رباط تكريسه، فيعدو به إلى غير ذلك، ومع تواتر الأحداث المثيرة يصبح سباباً يسب كل شيء وكل أحد، والإسلام يربأ بالمسلم عنه.

4- السب بطبع كونه تنفيساً عاطفياً يؤدي إلى ردّ فعل معاكس من الطرف الآخر، من باب المقابلة بالمثل وهذا غير صحيح لسببين:

أ- إن تعريض المؤمن مقدساته لإهانة الكفار من أجل التنفيس عن غيظه، إسفاف بها، وعلى المؤمن أن يبرّر كظم غيظه بصيانة مقدساته لا أن يبرّر تعريضها للإهانة بالتنفيس عن غيظه.

ب- أن المعارك الكلامية تهدر النشاطات التي لا بدّ من استثمارها في معارك عملية لأنها الفاصلة، وأما المعارك الكلامية فملهاة أو منساة تجهض المعارك العملية الهادفة(1).

ص: 251


1- خواطري عن القرآن 1: 449-451، باختصار.

السادس: قوله تعالى: {كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ...} الآية.

قد مرّ الكلام(1) حول التزيين في سورة البقرة الآية: 212، وسورة آل عمران الآية: 14، وقد ذكرنا أن الأشياء تزيينها من اللّه تعالى، وأما الأعمال فالحسنة منها بتزيين اللّه تعالى، والسيئة منها بتزيين الشيطان، وأما التزيين في هذه الآية فلعلّه بمعنى أن اللّه تعالى خلق الإنسان بكيفية لا يمتنع عليه رؤية عمله زيناً وحسناً سواء كان حقاً أم باطلاً، فالذي يستعمل عقله وعلمه فإنه يرى الأعمال الحسنة زينة له، والذي لا يستعملهما ويعاند يرى قبائحه حسنات، وحيث إن خلق الإنسان بهذه الكيفية من صنع اللّه تعالى لذلك نسب التزيين إلى نفسه.

ويمكن أن يقال: إن {زَيَّنَّا} له عرض عريض ومصاديق متعددة، فمصداقه في المؤمنين هو إرشادهم إلى فطرتهم وعقلهم ودينهم، ومصداقه في الكافرين هو تركهم وشأنهم وخذلانهم إلى أن يروا سيئاتهم حسنات.

وقوله: {ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ} لبيان أن اختلاط الحق بالباطل، وتزيين كل عمل لأصحابه حتى لو كان باطلاً، هو أمر موقت في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فيظهر الحق الصراح للجميع وذلك مقدمة لجزائهم إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ.

ص: 252


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 59-60؛ والتفكر في القرآن، سورة آل عمران: 54.

الآيات 109-113

اشارة

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْأيَٰتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ 109 وَنُقَلِّبُ أَفِْٔدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ 110 وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٖ قُبُلًا مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ 111 وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ 112 وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفِْٔدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ 113}

109- المشركون لم تنفعهم الآيات التي صرّفها اللّه لهم لكنهم يقترحون آيات أخرى ويزعمون أنهم يؤمنون إذا جاءتهم لكنهم كاذبون، {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ} أي جادّين في حلفهم، والمراد قسمهم بالأيمان المغلّظة {لَئِن جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ} من المعجزات التي اقترحوها {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} بتلك الآية {قُلْ} في جوابهم {إِنَّمَا الْأيَٰتُ عِندَ اللَّهِ} وهو ينزلها حسب المصلحة لا حسب الأهواء {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} الخطاب للمسلمين الذين كانوا يطمعون في إيمانهم، و«ما» استفهام إنكارى، فالمعنى أنتم لا تعلمون {أَنَّهَا} الآيات المقترحة {إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} لكن اللّه يعلم بعنادهم

ص: 253

وعدم فائدة إنزال الآيات المقترحة، ولذلك لا ينزلها.

110- {وَنُقَلِّبُ أَفِْٔدَتَهُمْ} عطف على «لا يؤمنون» فالمعنى إنكم لا تعلمون أناننكّس قلوبهم بالطبع عليها لعنادهم {وَ} نقلّب {أَبْصَٰرَهُمْ} فلا يرون الحق، بمعنى جعل غشاء على عيونهم فهم لا يؤمنون حتى لو نزلت الآيات المقترحة {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ} بالقرآن أو بما نزل من الآيات {أَوَّلَ مَرَّةٖ} حينما أنزلنا عليهم الآيات السابقة، وتأويله بعالم الذر {وَنَذَرُهُمْ} أي ولا تعلمون أنا لم نلطف بهم الألطاف الخفية لعنادهم فنتركهم {فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ} يضلّون متحيّرين، وعليه فلا وجه للاستجابة لاقتراحاتهم.

111- إنكم لا تعلمون ذلك لكن اللّه يخبركم بعنادهم {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةَ} بحيث يرونهم يشهدون بنبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ} بأن أحياهم اللّه تعالى فشهدوا بصدق الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَحَشَرْنَا} جمعنا {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٖ قُبُلًا} في مواجهتهم وقبالهم حتى رأوها فشهدت بالإسلام {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} لعنادهم {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} بجبرهم {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} عنادهم فيظنون أنهم سيؤمنون لو جائتهم الآيات المقترحة.

112- {وَكَذَٰلِكَ} كما جعلنا هؤلاء أعداءك فقد {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} بمعنى التخلية بينهم وبين اختيار العداوة {شَيَٰطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي} يوسوس {بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ} بعض الشياطين إلى بعضهم الآخر {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} الباطل المزخرف الذي ظاهره حسن وباطنه قبيح

ص: 254

{غُرُورًا} أي هذه الوسوسة لأجل الغرور والخداع، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} مشيئة تكوينية بمنعهم {مَا فَعَلُوهُ} لم يتمكنوا من عداوة الأنبياء، لكن الحكمة اقتضت عدم منعهم {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} اتركهم مع فريتهم، وهذا تهديد لهموبيان عدم تمكنهم من القضاء على الدين.

113- {وَلِتَصْغَىٰ} عطف على «جعلنا لكل نبي عدواً» أي وعاقبة عداوتهم ووسوستهم هو أن يميل {إِلَيْهِ} إلى زخرف قولهم {أَفِْٔدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ وَ} بعد ميلهم {لِيَرْضَوْهُ وَ} بعد رضاهم {لِيَقْتَرِفُواْ} يرتكبوا {مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} أي مرتكبون من الآثام.

بحوث

الأول: بعد أن بيّن اللّه تعالى أنه صرّف لهم الآيات يبيّن أنهم قد اقترحوا آيات أخرى ويحلفون باللّه بأيمان مغلّظة أن آياتهم المقترحة إذا جاءت سيؤمنون بها، ويجيبهم اللّه بأنهم معاندون لا تنفعهم الآيات، وإلاّ لكانوا قد آمنوا بمجيء أول آية، ثم يبين أنهم قد اقترحوا إنزال الملائكة وبعث الموتى وأمور أخرى، ولو استجاب اللّه لهم لم يؤمنوا بها، ولكانوا ينسبونها إلى السحر وغير ذلك، ثم يسلّي اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن هذا كان دأب المكذبين مع الأنبياء السابقين فلكل نبي عدوّ من شياطين الإنس والجن يلقون الكلام الباطل بظاهر جميل ليخدعوا الناس فتميل إليه قلوب الكفار الذين لا يخافون عذاب الآخرة، وهذا الميل يؤدي بهم إلى الرضا بالزخرف ثم العمل به واقتراف الآثام والسيئات.

الثاني: قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ

ص: 255

بِهَا...} الآية.

سبق في الآية 37 اقتراحهم للآيات حيث قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ...} وبيان أنّ اللّه تعالى قادر عليها وقد أراهم مختلف الآياتولكنهم مكذّبون، وفي هذه الآية بيان سبب عدم إيمانهم لو نزلت الآيات المقترحة، بأن اللّه قد ختم على قلوبهم لعنادهم، وبأنهم أعداء للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث إن اللّه تعالى قد جعل لكل نبي أعداء مفترين ويخدعون أهل الضلالة، فكان ذلك سبب عدم إيمانهم حتى لو نزلت الآيات المقترحات.

وقوله: {جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ} الجَهد بالفتح المشقة، وبالضم الطاقة(1)، والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف، والمقصود أنّ أيمانهم مغلّظة كأنهم أرادوا بيان صدقهم وإنصافهم.

وقوله: {لَئِن جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ} أي غير الآيات السابقة التي نزلت وإنّما الآيات المقترحة.

وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} التفات إلى المؤمنين الذين كانوا يطمعون في إنزال تلك الآيات على الكفار الذين اقترحوها، و(ما) استفهامية إنكارية فتفيد معنى النفي، فالمعنى إنكم لا تعلمون بأنهم سوف لا يؤمنون حتى لو نزلت عليهم الآيات المقترحة، لكن اللّه يعلم بعنادهم وعدم فائدة إنزال الآيات المقترحة، ولذا بحكمته لا ينزلها.

الثالث: قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفِْٔدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٖ...} الآية.

ص: 256


1- مقاييس اللغة: 210.

عطف على {لَا يُؤْمِنُونَ} أي إنكم لا تعلمون بأن اللّه يختم على قلوبهم ويجعل على أبصارهم غشاوة بسبب عنادهم فهم لا يؤمنون حتى لو نزلت الآيات المقترحة كما لم يؤمنوا حين نزول الآيات السابقة منذ بدأ الدعوة،وحيث لا تعلمون تطمعون في إيمانهم لو نزلت الآيات المقترحة.

وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفِْٔدَتَهُمْ...} أي ننكس قلوبهم فلا تفقه الحق ونُعمي أبصارهم فلا تراه، جزاءً على عنادهم.

وقوله: {كَمَا} متعلقة بقوله: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}، أي لا يؤمنون كما لم يؤمنوا منذ البداية.

وقوله: {أَوَّلَ مَرَّةٖ} أي الآيات التي أنزلها اللّه في بداية البعثة ابتداءً ومن غير اقتراح منهم، وتأويلها بعالم الذر كما في بعض الروايات(1)، ويمكن أن تكون بياناً لمصداق آخر.

وقوله: {وَنَذَرُهُمْ} أيضاً عطف على {لَا يُؤْمِنُونَ} وحاصل المعنى إنكم لا تعلمون أن الآيات إذا جاءتهم لا يؤمنون وأن اللّه تعالى ختم على قلوبهم وأبصارهم وأنه سبحانه يتركهم في ضلالتهم فلا يهديهم، وعليه فلا حكمة في إنزال الآيات المقترحة.

وفي التقريب: «فإنهم جُوزوا بإنكارهم أول الأمر - الذي استلزم عنادهم وتماديهم في غيّهم - بأن أزعجت نفوسهم، فجعلت قلوبهم تخفق، وأبصارهم تتحرك زائغة، كما هو شأن كل مبطل أمام الحق أنه لا يدري ما يصنع، وعينه تتلفت هنا وهناك تبحث في الأرض والسماء عن طريق

ص: 257


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 31-32؛ عن تفسير القمي 1: 213؛ وتفسير العياشي 1: 374.

المهرب والخلاص من الأزمة التي وقع فيها»(1)، عكس المؤمن الذي هو مطمئن القلب بذكر اللّه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ...} الآية.

تنبيه للمؤمنين الطامعين في إيمانهم، وذلك ببيان عناد هؤلاء، فقد اقترحوا إنزال ملك يشهد على نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما مرّ {وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}(2)، كما اقترحوا إحياء الأموات ليشهدوا فقالوا: {فَأْتُواْ بَِٔابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(3)، ثم يعمّم اللّه تعالى في اقتراحهم بأنه لو شهدوا كل شيء عياناً فلا يؤمنون لعنادهم.

وقوله: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٖ} هذا لم يكن من اقتراحاتهم، لكن اللّه تعالى أراد بيان عنادهم بأوضح صورة، و(الحشر) هو الجمع مع سَوق(4).

وقوله: {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} بجبرهم، والغرض بيان عدم خروجهم عن قدرة اللّه تعالى، فهم معاندون لكن اللّه يقدر على إدخالهم في الإيمان بالتصرف في قلوبهم، لكنه لا يفعل ذلك بحكمته تعالى.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أي أكثر المقترحين أو المؤمنين الطامعين في إسلامهم يجهلون عنادهم، وفي الصافي: «يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا، فيقسمون باللّه جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم، مع أن مطلق الجهل يعمّهم، ولكن أكثر

ص: 258


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 114.
2- سورة الأنعام، الآية: 8.
3- سورة الدخان، الآية: 36.
4- راجع مقاييس اللغة: 247.

المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون، فيتمنّون نزول الآية طمعاً في إيمانهم، كذا قيل»(1).

المعاند لا تنفعه الآيات

الخامس: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ...} الآية.

فيه تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبيان سبب آخر لعدم إيمانهم وهو عداوتهم للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأسباب العداوة متعددة ولكن أهم سبب هو الحسد والتكبّر، فالشيطان عادى آدم وذريته لأن اللّه تعالى فضّله عليه وأمره بالسجود له، وشياطين الإنس عادوا الأنبياء للسبب نفسه، قال تعالى: {قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}(2)، وقال سبحانه: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(3).

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا...} بمعنى خلقنا من نعلم بأنه سيكون عدواً للأنبياء، أو بمعنى خلّينا بينهم وبين عداوتهم فلم نمنعهم عنها قهراً؛ وذلك لأن مقتضى خلق الناس مختارين هو تزويدهم بما يناسب الاختيار من نفس وهوى وعقل وفطرة، وتمكينهم على الفضائل والرذائل، وطبيعة الاختيار هو أن البعض يختارون الإيمان وآخرين يختارون الكفر، وأن البعض يزكي

ص: 259


1- الصافي 3: 86.
2- سورة الإسراء، الآية: 61-62.
3- سورة البقرة، الآية: 90.

نفسه والبعض لا يزكيها، قال سبحانه: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(1)، كما أنجعل الأعداء يستلزم مجاهدتهم والصبر على أذاهم وفي ذلك رفع لدرجات الأنبياء والأولياء.

وقوله: {شَيَٰطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ} بدل عن قوله: {عَدُوًّا}، والشيطان هو المارد الطاغي، واشتقاقه إما من شطن يشطن بمعنى تباعد، أو من شاط بمعنى احترق غضباً(2).

وقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ...} الوحي هو إلقاء شيء بخفاء سواء كان همساً في كلام أو إلهاماً في روع أو التسخير أو نحو ذلك، قال تعالى: {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}(3)، وقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ}(4)، وقال: {يَوْمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا}(5)، قال: {وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ}(6)، واستعمل في وحي اللّه تعالى لأنبيائه(عليهم السلام) كثيراً حتى صار حقيقة متشرعيّة فيه.

والمعنى في هذه الآية أن الشياطين يوسوس بعضهم إلى بعض كيفية إغواء الناس، وذلك عبر تعليم بعضهم بعضاً زخرف القول غروراً.

ص: 260


1- سورة الشمس، الآية: 7-10.
2- راجع مفردات الراغب: 454.
3- سورة النحل، الآية: 68.
4- سورة القصص، الآية: 7.
5- سورة الزلزلة، الآية: 4-5.
6- سورة الأنعام، الآية: 121.

وقوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} الزخرف هو الزينة المزوّقة، وزخرف القول هو الكلام الذي ظاهره جميل إما بمختلف صنوف البلاغة أو بمطابقته مع هوى النفس حيث يثيرها ويهيّجها ونحو ذلك.

وقوله: {غُرُورًا} مفعول لأجله، أي إنما يوحي بعضهم إلى بعض لأجل أن يتعلموا كيفية خداع بني آدم.

وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي مشيئة جبر بأن يمنعهم عن ذلك قهراً، والغرض بيان عدم خروجهم عن سلطان اللّه تعالى، لكنّه لا يمنعهم قهراً بحكمته ليتم الامتحان على الخلق أجمعين.

وقوله: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} الأمر في (ذرهم) بداعي تهديدهم، كأنه قال: اتركهم مع فريتهم التي سيرجع وبالها عليهم وسنعاقبهم عليها، كما فيه بيان أن زخرفهم من القول هو الفرية على اللّه تعالى بتزيين عبادة الشركاء، ونحو ذلك.

السادس: قوله تعالى: {وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفِْٔدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ...} الآية.

عطف على قوله: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا...} أي جعلنا الشياطين أعداء الأنبياء وعاقبة ذلك هو انخداع الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة بهم، وقيل: هو عطف على {غُرُورًا} وما ذكرناه أنسب بالسياق، وفي الآية بيان سبب انحرافهم في مراحل ثلاث فيبدأ من الميل ثم الرضا ثم العمل بارتكاب الآثام.

قوله: {وَلِتَصْغَىٰ} اللام للعاقبة، أي عاقبة جعل الأعداء هو ذلك،

ص: 261

و(الصغو) هو الميل، وصغا بسمعه أي مال إليه ليستمع مقالته، وصغا قلبه زاغ وانحرف عن الحق، وقيل: أصل الكلمة هو الاستماع بميل ثم عُمّمت إلى ميل القلب ونحوه، وغالب استعمالها في الميل إلى الأمور السيئة.

وقوله: {وَلِيَقْتَرِفُواْ} أصل القرف هو مخالطة الشيء والالتباس به(1)، والاقتراف هو الاكتساب - حسناً كان أو سيئاً - قال تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا}(2)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ}(3)، والمعنى أنهم بعد الميل والرضا يرتكبون الآثام كنتيجة محتومة للرغبة في الشيء.

وقوله: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ} بيان أن عدم الإيمان بالآخرة هو أهم سبب لارتكاب الآثام، أما من يؤمن بها ويخافها فإنه ينهى النفس عن الهوى، وأما عصاة المسلمين فإن إيمانهم بالآخرة ليس هو حق الإيمان فلا يمنعهم عن بعض الذنوب.

ص: 262


1- مقاييس اللغة: 851.
2- سورة الشورى، الآية: 23.
3- سورة الأنعام، الآية: 120.

الآيات 114-117

اشارة

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَٰبَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ 114 وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 115 وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ 116 إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 117}

بعد عدم إيمانهم وعنادهم كأنهم طلبوا حَكَما يفصل بينهم وبين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمر التوحيد والشرك ونبوته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال اللّه تعالى:

114- قل {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} الاستفهام إنكاري {أَبْتَغِي} أطلب {حَكَمًا} يفصل بيني وبينكم، {وَ} الحال أن اللّه قد فصل بالحق ف{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَٰبَ مُفَصَّلًا} قد بيّن فيه الفصل بين الحق والباطل، {وَ} إن أرادوا تحكيم أهل الكتاب فيقال لهم: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ} التوراة والإنجيل {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} القرآن {مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} لأنهم وجدوا أوصاف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كتبهم {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي مترددين في الشك؛ لأن الحق واضح لا لبس فيه، والخطاب موجّه إلى كل أحد.

115- {وَ} حكم اللّه واضح؛ إذ بتنزيل القرآن على رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 263

قد حكم اللّه للنبي بالصدق وحكم عليهم بالافتراء، فقد {تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} بلغت الغاية في الإحكام والأحكام فلا نقص ولا زيادة فيها {صِدْقًا وَعَدْلًا}كلمة ربك صادقة لا كذب فيها وعادلة لا جور فيها، وحيث كانت صدقاً وعدلاً ف{لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ} لا أحد يتمكن من أن يأتي بأعدل وأصدق منها {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوال الناس {الْعَلِيمُ} بنواياهم فيجازيهم على أعمالهم.

116- {وَ} حيث قد علمتَ بأن كلمات اللّه تامات لا نقص فيها ولا يمكن الزيادة عليها فقد علمتَ أن كلامهم باطل ف{إِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ} وهم كفار ومشركون {يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} لانحرافهم ولاتّباعهم الأهواء {إِن} نافية، أي لا {يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ليس لهم علم {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} يكذبون في ادعائهم العلم أو في ما ينسبونه إلى اللّه تعالى بأنه هو الذي أمرهم بشركهم!

117- وجزاء الفريقين على اللّه تعالى، ف{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} أعلم بهم من غيره؛ لأنه يعلم بالنوايا والأعمال وجميع الخصوصيات {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} الذين سلكوا سبيل الهدى.

من يصلح ليكون حَكَماً بين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمشركين

بحوث

الأول: سياق هذه الآيات يدل على أن المشركين طلبوا تحكيم أحد بينهم وبين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليفصل بين الفريقين، فيقال لهم: إن هذا الأمر الجليل لا يصلح لأحدٍ أن يكون حَكَما فيه إلاّ اللّه تعالى، وهو سبحانه قد حَكَم بصالح رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث أنزل عليه القرآن يفصل فيه بين

ص: 264

الحق والباطل ببيان واضح، فهل يريدون حَكَماً آخر؟

ولا يصلح أهل الكتاب لأنْ يكونوا حَكَماً لأنهم أيضاً الخصم حيث عادوا الحق، مع أنّ هذا الحق مكتوب في كتبهم لذلك هم يعلمون به ولكنّهم يكتمونه حسداً وبغياً.

ولا يضرّ ذلك بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا بالقرآن؛ لأن كلمة اللّه قد تمت بالصدق والعدل ولا تغيير فيها، وأما أولئك فكلمتهم الظن والكذب وهذا لا ينفعهم، وسوف يجتمع الجميع عند اللّه تعالى في يوم القيامة فيفصل بينهم ويجازيهم حيث إنه أعلم بالضالّ عن المهتدي.

الثاني: قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَٰبَ مُفَصَّلًا}.

حيث إن الأمر يرتبط بأصول العقيدة فلا معنى لتحكيم أحد سوى اللّه تعالى وهو العالم القادر بكل شيء وهو الحق والحاكم بالحق، واللّه تعالى قد حكم بصالح النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن والإسلام، فلا معنى للرجوع إلى غيره ليحكم مرة أخرى.

وقوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} استفهام إنكاري وفيه التعجيب أيضاً.

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي...} جملة حالية لبيان أنه قد حكم بالحق عبر إنزال القرآن الذي فيه القول الفصل، فقوله: {أَنزَلَ إِلَيْكُمُ} لبيان علمهم بالقرآن ومشاهدتهم لدلائله وحينئذٍ طلب حَكَم آخر جهالة وعناد.

وقوله: {مُفَصَّلًا} أي إن اللّه قد فَصّل الكتاب بأن ميّز دلائله وأوضحها فلا يحصل خلط ولبس فيها، لكنهم معاندون.

ص: 265

الثالث: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ...} الآية.

لعلّهم طلبوا تحكيم أهل الكتاب في أمر نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن، ولعلّهم اتفقوا معهم ليحكموا بصالح المشركين وقد مرّ(1) قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيْءٖ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ...}(2)، فيقول لهم اللّه تعالى إن أهل الكتاب يعلمون بأن القرآن منزل على رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن يكتمونه فلا يصلحون لأن يكونوا حَكَماً.

وقوله: {بِالْحَقِّ} أي نزل القرآن مع الحق فكل ما فيه حق، أو نزل نزولاً بالحق حيث إن إنزال الكتاب كان بحكمة.

وقوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الخطاب وإن كان بظاهره موجهاً إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ أن المراد به كل أحد، وقد مرّ أن أحكام اللّه تعالى عامة للجميع فتشمل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) وسائر الناس حتى مع العلم بامتثالهم لها قطعاً، مثلاً الذي يكره أكل الميتة فلا يأكلها سواء كانت محرّمة أم لا هو مخاطب بالنهي عنها لأنه مكلّف والحكم شامل للجميع، فيكون توجيه الخطاب للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) ليكون أدعى للناس على الامتثال.

الرابع: قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ

ص: 266


1- مرّ في الآية 91، راجع الصفحة 207-208.
2- سورة الأنعام، الآية: 91.

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

بيان أن اللّه تعالى قد حَكَم بصالح القرآن حينما أتمّه بالصدق والعدل وهذا ما بيّنه في هذه الآية، ثمّ في الآية التالية حَكَم ببطلان طريقتهم حيثلم تكن إلاّ الإضلال واتّباع الظن والكذب.

وقوله: {وَتَمَّتْ} التمام هو اسم الجزء الذي يتم به الموصوف به(1)، فكلمات اللّه تعالى بدأت من آدم (عليه السلام) لكنها لم تتم إلاّ بالقرآن الكريم الذي هو المهيمن على الكتاب كلّه، كما أن الشريعة قد تمت بالإسلام فحلال محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

وقوله: {صِدْقًا وَعَدْلًا} تمييز أو حال، وهذا كالدليل على الحكم بصالح القرآن وهو أنه صدق في أخباره وعدل في أحكامه، وما كان هذا صفته فهو الحق الذي لا ريب فيه وسواه باطل لا شك فيه، وقيل: صدقه مطابقته للواقع، وعدله تساوي كل ما فيه في الاستقامة وعدم الاعوجاج.

وقوله: {لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ} كأنه نتيجة لكونها {صِدْقًا وَعَدْلًا}؛ إذ لا أحد يقدر على تغيير كلمات اللّه لأن اللّه هو الغالب القاهر، كما أن اللّه تعالى لا يبدّلها لأنها صدق وعدل، واللّه منزّه عن تبديلهما إلى كذبٍ وظلم ٍ، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

كيف تمكن المحرِّفون من تحريف الكتب السماوية والعقائد والشرائع؟

سؤال: كيف تمكن المحرّفون من تحريف كلمات اللّه في التوراة والأنجيل كما تمكنوا من اختلاق أحكام وأحاديث مكذوبة نسبوها إلى اللّه تعالى؟

ص: 267


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 15.

الجواب: إن المقصود أن أحكام اللّه تعالى ودينه وقرآنه لا تتبدل بفعلهم فهي تبقى أحكام اللّه وكلماته شاؤوا أم أبوا وهي محفوظة عند أهلها، وأما تحريفاتهم واختلاقهم فهو لا يعدو عن افتراء على اللّه تعالى وليس تبديلاًلكلماته؛ لأن ما جاؤوا به من إفك وزور ليس كلمةً للّه تعالى.

وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وحيث إن الموضوع الكلمة والمؤمنون يتلونها ويعملون بها ناسب ذلك تمجيد اللّه تعالى بأنه سميع عليم، أو إنه يسمع كلام الذين يريدون التبديل وهو عليم بنواياهم.

وقد ورد في روايات كثيرة أن الإمام حينما يكون جنيناً ويبلغ أربعة أشهر وكذلك حينما يولد يبعث اللّه ملكاً يكتب على عضده الأيمن وبين عينيه وبين كتفيه هذه الآية، فراجع الروايات في تفسير البرهان(1)، وشرحنا على أصول الكافي(2) ولعلّها من مراحل الاصطفاء.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

بيان لحكم اللّه تعالى ببطلان طريقة المشركين حيث إنها ضلال ولا برهان لهم إلاّ الظن والكذب.

وقوله: {وَإِن تُطِعْ...} ليس الميزان في العقائد الحقة الكثرة أو القِلة، بل الميزان هو البرهان، وأما أكثر الناس فهم على ضلال وذلك لاتّباعهم الأهواء والشهوات وتعطيل العقل والتقليد الأعمى، قال تعالى: {وَلَٰكِنَّ

ص: 268


1- البرهان في تفسير البرهان 4: 35-38.
2- شرح أصول الكافي 6: 15-16.

أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(1)، وقال: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}(2)، وقال:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}(3)، وغيرها آيات كثيرة.

نعم، هناك أقلية مؤمنة ملتزمة اتّباعها رشد وهدى، قال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَن لَّا يَسَْٔلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ}(4)، وقال: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}(5).

وقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} دليل على ضلالهم وإضلالهم؛ لأنّ العقائد الحقة أقام اللّه عليها البراهين القاطعة من الفطرة والعقل والآيات البيّنات، وما لم يكن كذلك فهو باطل لا ريب فيه؛ إذ في العقائد لا يجوز الاعتماد إلاّ على العلم، فاتّباع الظن معناه عدم وجود علم وذلك يكشف عن عدم وجود برهان لها وإلاّ لذكروه، فتكون تلك العقائد من الضلال المبين.

وقوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أصل الخرص هو الكذب(6)،

وقد يستعمل في التخمين بقرينة، والمعنى هؤلاء يكذبون في دعاويهم، مثلاً ينسبونها إلى اللّه تعالى كذباً من غير سلطان أتاهم، فالآية تبين وجهين لبطلان معتقدهم: عدم وجود دليل عليه إلاّ الظن، وكذبهم وافترائهم على اللّه بنسبتها إليه من غير دليل؛ إذ من له الدليل لا يكذب بل يظهر برهانه!

ص: 269


1- سورة الأعراف، الآية: 187.
2- سورة هود، الآية: 17.
3- سورة يوسف، الآية: 106.
4- سورة يس، الآية: 21.
5- سورة يونس، الآية: 35.
6- راجع كتاب العين 4: 183.

السادس: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.

بعد أن ذكر الفريقين وحكمه فيهما، يذكر أن اللّه تعالى هو أعلم منغيره بتفاصيل أحوالهم - من نواياهم وأقوالهم وأفعالهم - لا يعزب عنه شيء منهم؛ لأن علمه عين ذاته وهو محيط بكل شيء، أما علم غيره فهو معلومات عارضة وناقصة، وكأنّ المقصود بيان جزائه لكلا الفريقين لعلمه التام، وقد يقال: إن استعمال التفضيل بين اللّه وبين غيره مجاز؛ إذ لا نسبة بين الخالق والمخلوق ولا مقارنة بين صفاته وصفاتهم، فأفعل التفضيل يراد به كمال الصفة من غير نقص أو خلل فيها، فالأعلم فيه تعالى بمعنى العالم بكل التفاصيل، وإنما صحّ هذا المجاز لأن صفاته غير موجودة في مخلوقاته، وانسلاخ أفعل التفضيل عن التفضيل كثير كقوله تعالى: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}(1) فإن ما كانوا يدعونه إليه لم يكن محبوباً أصلاً.

وقوله: {أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ} بحذف الباء كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(2).

ص: 270


1- سورة يوسف، الآية: 33.
2- سورة القلم، الآية: 7.

الآيات 118-121

اشارة

{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بَِٔايَٰتِهِ مُؤْمِنِينَ 118 وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ 119 وَذَرُواْ ظَٰهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ 120 وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ 121}

118- ثم يبين اللّه تعالى أن الإيمان والشرك كما يؤثران في طهارة أو رجس الإنسان، كذلك يؤثران في حلية لحوم الأنعام، فقال: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} حين تذكيته لا الذي ذكر اسم الأصنام عليه {إِن كُنتُم بَِٔايَٰتِهِ مُؤْمِنِينَ} لأن الإيمان بالآيات يقتضي تحليل ما أحلّ اللّه تعالى.

119- {وَمَا لَكُمْ} الاستفهام إنكارى، والمعنى أيُّ شيء يحملكم على {أَلَّا} أن لا {تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ} الحال أن اللّه تعالى {قَدْ فَصَّلَ لَكُم} بيّن بياناً واضحاً {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} كالميتة وليس منها ما ذكر اسم اللّه عليه حين تذكيته {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} حيث أباح حين الاضطرار ما حرّمه، {وَ} أما الذين يلقون الشبهات في ذلك فلا تصغوا

ص: 271

إليهم ف{إِنَّ كَثِيرًا} من الناس {لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم} عبر تحريم ما أباحه اللّه تعالى متّبعين آراءهم الزائفة {بِغَيْرِ عِلْمٍ} فكيف تتبعونهم؟! ثم يهدّدهماللّه تعالى قائلاً: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} الذين يتجاوزون الحق إلى الباطل بالإضلال وباتّباع المضلّين.

120- {وَذَرُواْ ظَٰهِرَ الْإِثْمِ} أي الإثم الواضح {وَبَاطِنَهُ} الإثم الخفيّ، وهذا كالجواب عن شبهة عدم فرق المذكى وغير المذكى، فيقال: إن غير المذكى من باطن الإثم {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ} بالعمل بالمعاصي {سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} يرتكبون.

121- {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} بأن ذكر اسم الأصنام عليه وكذا لو مات حتف أنفه {وَإِنَّهُ} إن أكله {لَفِسْقٌ} خروج عن طاعة اللّه فلذا كان إثماً {وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ} بالوسوسة وإلقاء الشبهات {إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ} أتباعهم {لِيُجَٰدِلُوكُمْ} كأن يقولوا أيّ فرق بين المذبوح بالتسمية والمذبوح بغير التسمية {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في تحليل الحرام وتحريم الحلال {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} مثلهم في الشرك.

تأثير الشرك في خبث المأكولات

بحوث

الأول: الأقرب في وجه تفريع حلية وحرمة الذبائح في قوله: {فَكُلُواْ} هو أن للشرك والإيمان تأثيراً في طيب وخبث الحيوانات فضلاً عن طهارة ورجس قلوب الناس، وبعبارة أخرى ليس الإيمان والشرك مجرد أمر قلبي وله جزاء في الآخرة، بل هما يؤثران في الأشياء وفي الأحكام الفرعية أيضاً، فهما يرتبطان بكل مناحي الحياة في الدنيا والآخرة.

ص: 272

وقيل: التفريع لبيان أنه كما يجب عليكم التوحيد ورفض الشرك قلباً كذلك يجب عليكم إطاعة اللّه ورفض ضلال المشركين.

وقيل: لما نهى عن إطاعة المشركين في الشرك بقوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَمَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ}، أردفه بالنهي عن إطاعتهم في فروع الدين ومثاله ما يحرمونه ويحلونه من الذبائح.

ثم إن اللّه تعالى قدّم بيان حكمه بحلية الذبيحة التي ذكر اسم اللّه تعالى عليها مع بيان أن القبول بحكمه بتحليل الحلال هو من الإيمان بآياته، ثم بيّن أن المنع عمّا أحله اللّه تعالى هو ضلال ومنشؤه الأهواء والجهل والتعدي على حدود اللّه تعالى، ثم يدفع اللّه شبهة عدم الفرق بين المذكّى وغير المذكّى بأن غير المذكّى من الإثم الخفي لذلك كان فسقاً، ثم ينهى عن أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه لأنه خروج عن الطاعة، ثم يحثّ المؤمنين على عدم الإصغاء للشبهات التي يثيرها أولياء الشياطين بوسوستهم.

الثاني: قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بَِٔايَٰتِهِ مُؤْمِنِينَ}.

الأمر في {فَكُلُواْ} للإباحة؛ لأنه بعد توهم الخطر والمنع عبر الشبهات التي أثارها المشركون، والمقصود هو أحِلّوا ما أحلَّه اللّه تعالى، وقد أحلّ اللّه الذبيحة التي سُمّي اسمه حين ذبحها، وهذا يكشف عن الإيمان بآيات اللّه التي أنزلها لكم في حليتها، وأما من يرفض الآيات أو يشك فيها فيتأثر بالشبهات ويمتنع عن أكلها فهو غير مؤمن؛ إذ الإيمان هو الإذعان في القلب، ومن رفضها بقلبه وأظهر الإيمان بلسانه فهو منافق، ومن شك فيها

ص: 273

فهو غير مؤمن.

وقوله: {بَِٔايَٰتِهِ} أي آيات القرآن التي بيّنت حليتها.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَلَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ}.

استفهام إنكاري، وفيه أيضاً حثّ وتحضيض على قبول أحكام اللّه تعالى، والمعنى أيّ شيء يمنعكم عن أكله مع أن اللّه قد أوضح لكم الحلال عن الحرام؟!

والجواب: إنه لا شيء يمنع سوى عدم الإيمان بآيات اللّه تعالى واتّباع المضلّين الذين يلقون الشبهات بالجهل والأهواء والإعتداء.

وقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم...} أي بيّن لكم المحرمات بشكل واضح وذلك في سورة النحل حيث نزلت قبل سورة الأنعام - وكلاهما مكّيتان - قال سبحانه: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1)، حيث حصر الحرام في المذكورات وليس فيها ما سُمّي اللّه حين ذبحه فهو داخل في الرزق الحلال الطيب الذي أحلّه، ومن هذا يتبين قوله: {فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} من دون ذكر ما أحلّه لكم؛ لأن آية سورة النحل حصرت المحرمات وأباحت ما سوى ذلك فكان التفصيل بذكر الحرام فقط، أو المقصود هو: (فصل ما حرم عليكم وما أحلّ لكم) لكن اكتفى بأحدهما إما

ص: 274


1- سورة النحل، الآية: 114-115.

لوضوح الآخر، وإمّا لأن محور الكلام في هذه الآية هو تحريمهم ما أحلّه اللّه فيقال لهم إن اللّه قد فصّل ما حرّم ولم يكن هذا منها.

وقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} كأنّ المقصود من ذكر هذا الاستثناء هوبيان أن اللّه تعالى ذكر المحرمات وذكر استثناء حالة الاضطرار، وليس المذكّى الذي سُمّي اللّه عليه من المحرمات المذكورة، ولا هو في الاستثناء حتى تنحصر حليته بحالة الاضطرار، بل هو حلال في الاضطرار وغيره.

أسباب مخالفة أحكام اللّه تعالى

الرابع: قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ...} الآية.

بيان لسبب مخالفة حكم اللّه وتحريم ما أحلّه وهو إضلال المضلين الذين يلقون الشبهات فيتأثر بها غير المؤمنين، لكن لا وجه لاتّباع ضلالاتهم لأنها لا تستند إلى شيء صحيح، بل منشؤها الأمور التالية:

1- الهوى، فقال: {بِأَهْوَائِهِم} أي شهواتهم وآرائهم الباطلة، حيث إن هؤلاء يسوقون الناس إلى حيث مالت إليه أهواؤهم.

2- الجهل، فقال: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بل بشبهات وسفاسف من القول زخرفاً وغروراً، ولعلّ ذكر الجهل بعد الأهواء لزيادة التشنيع عليهم، وعلى من يتّبعهم حيث تركوا آيات اللّه الواضحة واتبعوا جهالات هؤلاء المضلّين، ولأن الهوى قد يتطابق مع الحق قليلاً، كمن ينتقم من قاتل أبيه بقصاصه بحسب حكم الشرع، فأراد التأكيد بأن هواهم عن جهل لا عن علم.

3- الاعتداء، فقال: {بِالْمُعْتَدِينَ} وهو تجاوز الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام.

وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} كأنّه تهديد لهم بأن إضلال

ص: 275

المضلّين واتّباع الضالين لهم هو في علم اللّه فيجازيهم عليه.

الخامس: قوله تعالى: {وَذَرُواْ ظَٰهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ...} الآية.

كأنّه جواب عن شبهة بأنه لا نرى فرقاً بين الذبيحة التي ذكر اسم اللّه عليها وبين الذبيحة التي ذكر اسم الأصنام عليها، فلماذا حلّت الأولى وحرمت الثانية؟

فيقال لهم: إن الإثم قد يكون ظاهراً للجميع كالسرقة وقد يخفى على الناس لكن ذلك لا يخرجه عن كونه إثماً، فكل إثم قبيح، فالطعام المسموم - حتى لو كان لذيداً - خبيث يجتنبه العاقل، ويستمع إلى كلام من أخبره بأنّه مسموم حتى لو لم يعلم هو ذلك، وهكذا الذنوب قد يخفى قبحها وخبثها على الناس لكن اللّه تعالى بلطفه ورحمته يخبرهم عن ذلك وعليهم إطاعته إن كانوا مؤمنين حقاً، فإن لم يطيعوه فذلك سفاهة تؤدي بهم إلى العقوبة.

وقوله: {ظَٰهِرَ الْإِثْمِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الإثم الظاهر، وهكذا {وَبَاطِنَهُ} أي الإثم الخفي، ومن مصاديقهما المعاصي التي هي من ظاهر الإثم، والشرك والشك اللذان هما من باطنه، وأمّا حمل الظاهر على الجهر والباطن على السرّ كالزنا جهراً وسراً، فخلاف سياق الآية، بل الباطن يشمل الإثم الخفي حتى لو جاهر به، قال تعالى: {وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}(1)، فقد كانوا يتجاهرون به ويعتبرونه نكاحاً مشروعاً مع أنه من

ص: 276


1- سورة النساء، الآية: 22.

الفاحشة واقعاً.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}.

بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم اللّه عليه، نهى عن الأكل مما لم يذكر اسم اللّه عليه؛ إذ كما تجب طاعة اللّه في أوامره بالائتمار، كذلك تجب طاعته في نواهيه بالانزجار، وكأنّ المقصود ما ذبح على الأنصاب وما ذكر عليه اسم الأصنام لقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وقد قال تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}(1)؛ وذلك لأن سياق الآيات بيان التوحيد والشرك وبيان تأثيرهما حتى على خبث أو طيب الذبائح، والميتة حتف أنفها وإن كان حكمها الحرمة أيضاً كما بينته آية النحل وآيات أخرى إلاّ أنها ليست المقصود في هذه الآيات.

وقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الضمير يرجع إلى المصدر المستفاد من الفعل المذكور، أي وإن الأكل، أو مرجعه إلى الذبيحة التي لم يذكر اسم اللّه عليها حيث جمعت بين خباثة الميتة وشرك المشركين فكأنّها صارت الفسق بعينه.

السابع: قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ...} الآية.

تحذير للمؤمنين من الإصغاء لشبهات المضلّين، بأن ما يقولونه من وساوس الشياطين لأجل الجدل وإلقاء الشك لا لأجل ظهور الحق؛ لأن المبطل الذي يعلم بأنه مبطل لا يجادل إلاّ للتشويش على الحق وإغواء الناس عنه، قال تعالى: {وَيُجَٰدِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ

ص: 277


1- سورة الأنعام، الآية: 145.

الْحَقَّ}(1)، وقال: {وَجَٰدَلُواْ بِالْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ}(2)، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنيُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٖ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(3).

قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} حيث إن الكلام في هذه الآيات حول ذكر اسم الأصنام على الذبائح فمن استحل ذكرها خرج عن التوحيد إلى الشرك حقيقة. نعم، من أكلها غير معتقد بالأصنام كان عمله كعمل المشركين فيكون فاسقاً لا مشركاً، وقيل: الشرك هنا هو الشرك الخفي الذي لا يخرج عن الملّة كالرياء، وكل من عصى اللّه وأطاع غيره فقد أشرك به شركاً جلياً أو شركاً خفياً، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}(4)، وقيل: (مشركون) بمعنى إنكم مثلهم فقد اشتركتم معهم في العصيان.

ص: 278


1- سورة الكهف، الآية: 56.
2- سورة غافر، الآية: 5.
3- سورة الحج، الآية: 8-9.
4- سورة المائدة، الآية: 51.

الآيات 122-124

{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 122 وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ 123 وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ 124}

122- ثم يضرب اللّه تعالى مَثَلاً فقال: {أَوَ} الاستفهام للإنكار للدلالة على عدم تساوي الفريقين ف{مَن كَانَ مَيْتًا} جاهلاً عن أصول الدين {فَأَحْيَيْنَٰهُ} بالإيمان بها حيث وفقناه لذلك {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} منهاجاً لسعادته وإمام هدىً يأتم به {يَمْشِي بِهِ} بذلك النور {فِي النَّاسِ} فيرى مسيره في حياته، ليس {كَمَن مَّثَلُهُ} وصفه أنّه {فِي الظُّلُمَٰتِ} ظلمات الضلالة والجهل؛ إذ لا نور سوى المنهاج الذي شرّعه اللّه تعالى، {لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا} يتخبط فيها {كَذَٰلِكَ} نظير هذا المثل {زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ} الأتباع الضالين {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، زينها لهم كبراؤهم فهم في ضلال لا يخرجون منه.

123- {وَكَذَٰلِكَ} نظير هذا المثل أيضاً الكبراء المضلون فقد {جَعَلْنَا}

ص: 279

الجعل بمعنى تركهم وشأنهم وعدم منعهم قهراً {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ} جمع أكبر {مُجْرِمِيهَا} المضلّين للناس {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} اللام للعاقبة، أي عاقبةتركنا إياهم وعدم إكراههم على الإيمان أنهم مكروا ضد الرسل والمنهاج الصحيح فأضلّوا الناس، {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ} أي وبال مكرهم يرجع إليهم فسوف يعاقبون على ضلالهم وإضلالهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} لا يدركون ذلك؛ لأن الهوى أعمى بصائرهم.

124- {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ} جائت الأكابر {ءَايَةٌ} دلالة على التوحيد والرسالة {قَالُواْ} تكبراً وحسداً وبغياً: {لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ} الرسالة {مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِۘ} فيُوحى إلينا كما أوحي إليهم! لكن توقعهم باطل؛ إذ هم لا يليقون لمنصب الرسالة و{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} أي أعلم بالمكان القابل للرسالة، لكن وبال تكبرهم هذا يرجع إليهم ف{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ} بالعناد على الكفر وتكذيب آيات اللّه {صَغَارٌ} ذلّ {عِندَ اللَّهِ} في يوم القيامة {وَعَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} بسبب مكرهم.

بحوث

الأول: لما ذكر اللّه تعالى المهتدين والضالين والمُضلّين ذكر مثالاً لهم، والمثال يقرّب المعنى إلى الذهن، وخاصة تشبيه الأمور المعنوية بالأمور المحسوسة؛ لأن الناس يألفون الماديات فيمكن جعلها قنطرة لفهمهم المعنويات، وقد مرّ أن المَثَل هو وصف الشيء، وغالباً يكون وصفه عبر ذكر شبيهه، فهنا يتمّ تشبيه المؤمن بالميت الذي أحياه اللّه وأنار الطريق له فهو ينفع وينتفع ويرى طريقه فلا يصطدم بالعقبات والمخاطر ويصل بذلك

ص: 280

إلى مقصوده، وتشبيه الكافر بالذي في الظلمات ولا يريد الخروج منها فهويتخبط في مشيه ويصطدم بالأخطار ولا يصل إلى مبتغاه، وحيث إن الكفار منقسمون بين أتباع ضالين وبين أكابر مُضلّين لذا ضرب اللّه المثل لكليهما، فأما الأتباع فهم لا يخرجون من ظلمات الجهل لأنه زُيّن لهم أعمالهم، وأما الأكابر فهم يمكرون فيها عبر نشر الظلام، لكنهم يتضرّرون بذلك الظلام فيرجع سوء مكرهم إليهم، فهؤلاء يعرفون النور لكنهم أعموا أبصارهم وبصائرهم لئلا يرونه.

الثاني: قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي...} الآية.

الهمزة للاستفهام الإنكاري، أي إنكار تساوي الفريقين، والواو استيناف.

قوله: {كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ} المَثَل للمؤمنين فالجاهل الذي لا يعرف شيئاً كالميت، فإذا علم واهتدى إلى الإيمان - والذي منه الولاية - فقد أُحيي.

وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} الإيمان - الذي منه الولاية والائتمام بأئمة العدل - كالنور الذي يرى الإنسان به طريقه في الظلمات.

وقوله: {يَمْشِي بِهِ} التبصّر في أسلوب الحياة كالمشي بهدي النور في الظلمات، حيث إن منهج الإنسان في فكره وقوله وعمله في حياته كالسير في الطريق.

وقوله: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ} لا يخفى أنه شبّه المؤمن بالميت الذي أحياه وجعل له نوراً، لكن مثّل للكافر بالذي في الظلمات ولم يذكر الميت الذي بقي على موته؛ إذ حينئذٍ لا معنى لتمثيله بالذي في الظلمات لا

ص: 281

يخرج منها فلذا اقتصر في مَثَل الكافر بالظلمة.

وقوله: {لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا} لأنه لا نور سوى ما نهجه اللّه تعالى، فإذا رفضه فهو باق في الظلمات، كلّّما خرج من ظلمة دخل في ظلمة أخرى ولعلّه لذلك جمع الظلمات وأفرد النور.

وقوله: {كَذَٰلِكَ زُيِّنَ...} هذا مَثَل الأتباع الضالين، وهؤلاء سبب بقائهم في الظلمات هو تزيينها لهم، ولعلّ المُزيِّن هنا الأكابر الضالون.

الثالث: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا...} الآية.

هذا مَثَل للمضلين، حيث إن مَثَل الظلمات للطائفتين: الضالة وقد ذكرها في الآية السابقة، والمضلّة وقد ذكرها في هذه الآية، ولذلك كررّ كلمة {وَكَذَٰلِكَ}، وقد ذكر بعض المفسرين وجوه أخرى في مرجع إسم الإشارة في الآيتين لكنها بعيدة عن سياق الآيات والأقرب ما ذكرناه، واللّه العالم.

وقوله: {جَعَلْنَا} لأنه تعالى خلقهم وقدّر قوّتهم، لكنهم أساؤوا، فلم يمنعهم قهراً بحكمته، ولذا عبر عنه بالجعل.

وقوله: {أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا} خصّهم بالذكر لأنهم منشأ الإضلال؛ حيث إنهم لو كانوا يؤمنون بما علموه حقاً لاتّبعهم عامة الناس، وإجرامهم هو كفرهم وصدّهم عن سبيل اللّه وإضلالهم للناس.

وقوله: {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} اللام للعاقبة، والمكر هو العلاج الخفي سواء كان حسناً أم قبيحاً لكن أكثر استعماله في المكر السيّئ، ومكرهم هو بمعارضة الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) وإلقاء الشبهات وإضلال الناس.

ص: 282

وقوله: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ} أي ضرر هذا المكر يرجع إليهم كماقال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}(1)، وقيل: كأنّ هذا وعد للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنصر الدين وعدم ضرر مكرهم عليه.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِۘ...} الآية.

بيان أن الأكابر يعلمون بالحق فقد جاءتهم الآية وعلموا بها، لكن الذي منعهم عن قبولها هو التكبر والحسد، حيث تكبّروا عن قبول رسالة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحسدوه على ذلك، وفي مجمع البيان: «نزلت في الوليد بن المغيرة قال: واللّه لو كانت النبوة حقاً لكنتُ أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً، وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبيّ يوحى إليه، واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه»(2).

وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فليست الرسالة بالعمر ولا بالمال ولا بالسلطة، بل هي تحتاج إلى قابلية، ولا تحصل تلك القابلية إلاّ باصطفاء اللّه تعالى واجتبائه، فهو أعلم بمن اصطفى فلذا يجعله نبياً ويرسله لهداية الناس، و{حَيْثُ} هنا اسم بمعنى المكان والمحل.

وقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ} هذا جزائهم، وكأنّه بيان لقوله: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ}.

ص: 283


1- سورة فاطر، الآية: 43.
2- مجمع البيان 4: 223.

وقوله: {صَغَارٌ} هو الذل والهوان وهذا جزاء تكبرهم واستكبارهم عن قبول الحق.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} المراد به في الآخرة حيث الحساب.

ص: 284

الآيات 125-127

{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ 125 وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَذَّكَّرُونَ 126 لَهُمْ دَارُ السَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 127}

125- ونتيجة الإحياء والنور من جهة وعدم الخروج من الظلمات من جهة أخرى هو شرح الصدر وضيقه {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ} إلى الإيمان في الدنيا وإلى الجنّة ودار الكرامة في الآخرة {يَشْرَحْ} يوسّع {صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ} للتسليم للّه تعالى والثقة به والسكون إلى الآخرة {وَمَن يُرِدْ} اللّه سبحانه {أَن يُضِلَّهُ} حيث عاند {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا} بالكفر فلا ينفذ فيه الإسلام {حَرَجًا} لا يتغيّر عنه أبداً فلا يخرج كفر منه ولا يدخل إيمان فيه، ثم مثّل له بأمر غير ممكن فقال: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} فكما أن الصعود إليها في غاية الصعوبة بل غير ممكن {كَذَٰلِكَ} إيمان هذا القلب غير ممكن؛ إذ {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} القذر ومنه الشك وعدم اليقين {عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} عقوبة لهم على عنادهم.

126- {وَهَٰذَا} الإسلام {صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} لا اعوجاج فيه فهو حق ويوصل إلى الحق فلم يكن كفر المعاندين بسبب غموض الدين وعدم

ص: 285

فهمهم له وإنما بسبب عدم تذكرهم له ف{قَدْ فَصَّلْنَا} بيّنا {الْأيَٰتِ} الدالة على هذا الصراط المستقيم {لِقَوْمٖ يَذَّكَّرُونَ} هم المنتفعون به حيث تخرجهم الآيات عن الغفلة وتذكّرهم بفطرتهم وما يقضيه عقلهم.

127- {لَهُمْ} لهؤلاء المهتدين المتذكرين {دَارُ السَّلَٰمِ} الجنة السالمة من جميع الآفات المادية والمعنوية {عِندَ رَبِّهِمْ} عند كرامته {وَهُوَ وَلِيُّهُم} يتولّى أمرهم بالتوفيق والجزاء الحسن {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بسبب أعمالهم الصالحة.

بحوث

الأول: لما ضرب اللّه تعالى في الآيات السابقة مَثَلاً للمؤمنين والكافرين بأن مَثَل المؤمنين كالميت الذي أحياه اللّه وجعل له نوراً، ومَثَل الكافرين كالذي هو في الظلمات، بعد ذلك فرّع عليه بأن حياة المؤمن ونوره هو باتساع صدره للإسلام، وظلمة الكافر هو بضيق صدره بحيث لا يتسع له، بل يكون محلّاً للرجس الذي هو الكفر، ثم يمثّل لعدم اتساعه للإيمان بأمر غير ممكن وهو الصعود إلى السماء فكذلك يستحيل دخول الإيمان في هذا القلب، ثم يبيّن اللّه تعالى بأن ضيق قلوبهم بسبب أنفسهم حيث لم يؤمنوا مع أن اللّه تعالى قد بيّن الصراط المستقيم للجميع إلاّ أنهم لم يتذكروا به، والمؤمنون هم الذين تذكروا به واتبعوا الصراط المستقيم ولذا جازاهم اللّه تعالى بالجنة.

الثاني: قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ...} الآية.

الفاء في قوله: {فَمَن} للتفريع، أي هذا هو نتيجة ما ذكر في الآيات

ص: 286

السالفة، فحياة المؤمن ونوره هو قبول قلبه للإسلام، وظلمة الكافر هي عدم قبول قلبه له.

قوله: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ} وذلك لحسن صنيعه وعدم عناده، وهذه الهداية هي بمعنى الإيصال إلى المطلوب، وأما الهداية بمعنى إراءة الطريق فهي عامة للجميع، وهي هداية تشريعية بقبول الإسلام قلباً وعملاً، وهداية تكوينية إلى الجنة والرضوان.

قوله: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ} كناية عن قبوله للإسلام، فكما أن الشيء الواسع تنفذ الأشياء فيه كذلك قلب المؤمن ينفذ الإيمان فيه، فالصدر يتسع لأحد الأمرين: الإسلام أو الكفر، فإن لم يكن فيه كفر وسع للإسلام، وإن لم يكن فيه إسلام دخله الكفر فضاق عن الإسلام، قال تعالى: {وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}(1).

وقوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} أي ضيقاً على الإسلام؛ لأن الكفر قد نفذ في قلبه فلم يدع مجالاً للإسلام، وذكر وصف الضيق والحرج لعلّه لأجل التأكيد لعدم قبول هذا القلب للّهداية، أو أن الضيق في قبال الشرح، وكأنّه لكي لا يتوهم أنه ينفذ فيه شيء ولو قليل من الإسلام أضاف {حَرَجًا} الذي هو بمعنى عدم نفوذ أيّ شيء فيه وعدم تغيّره عما هو عليه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أتدري ما الحرج؟» قلت: لا، فقال بيده وضمّ أصابعه كالشيء المُصمَت لا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء(2).

ص: 287


1- سورة النحل، الآية: 106.
2- تفسير العياشي 1: 377؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 45.

الثالث: قوله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}.

كأنّه ضرب لمَثَل آخر لأجل بيان استحالة إيمان هؤلاء المعاندين فكما أن الصعود إلى السماء من غير وسيلة محال كذلك إيمان المعاندين محال، قال تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}(1)، أي ليرتق ِ إلى السماء بحبل ويقطع المسافة، وفي تفسير الصافي: «مبالغة في ضيق صدره بتشبيهه بمن يزاول ما لا يقدر عليه، فإن صعود السماء مَثَل في ما يبعد عن الاستطاعة ويضيق عند القدرة»(2)، وقيل: هو إشارة إلى قلة الهواء في الطبقات العليا من جو الكرة الأرضية، حيث كلّما ارتقى الإنسان شعر بضيق صدره لقلة الهواء كما يُلاحِظ ذلك الذين يتسلّقون الجبال العالية! لكنه بعيد لأن هذا لم يكن يعرفه أحد من المشركين، واللّه تعالى لا يذكر في ظاهر القرآن ما لا يفهمه عامة الناس، بل يذكر لهم ما يعرفونه ولا يتمكنون من إنكاره.

وقوله: {يَصَّعَّدُ} وأصله يتصَعّدُ، أدغمت التاء في الصاد، وهو من باب التفعّل ومن معاني هذا الباب: العمل المتكّرر في مهلة نحو: تجرّعته، أي شربته جرعة بعد جرعة، ومن معانيه: الاستفعال، أي طلب الشيء(3).

ص: 288


1- سورة الحج، الآية: 15.
2- تفسير الصافي 3: 97.
3- راجع شرح النظام على الشافية: 149.

وكلا المعنيين هنا ممكن، والأول أنسب، قيل: إن التعبير ب{فِي السَّمَاءِ} وليس (إلى السماء)، وهكذا اختيار باب التفعّل بدلاً عن المجرد لأجل تصوير الصعوبة والشدة بوضوح.

وقوله: {كَذَٰلِكَ} أي كما أن الصعود في السماء غير ممكن كذلك إيمان قلب المعاند.

وقوله: {الرِّجْسَ} هو القذر، والمراد بيان قذارة الكفر وقذارة قلوبهم به، ومن مصاديقه الشك الذي يوجب اضطراب القلب وعدم اطمئنانه.

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه سُئل عن هذه الآية فقال: «من يرد اللّه أن يهديه بإيمانه في الدنيا وإلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم للّه والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه، {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} حتى يشك في كفره ويضطرب من اعتقاد قلبه حتى يصير {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}»(1).

وقوله: {عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} بيان أن ما صنع بهم من إرادة اللّه إضلالهم وجعل الرجس على قلوبهم إنما هو بسوء اختيارهم حيث رفضوا الإيمان عناداً.

الرابع: قوله تعالى: {وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَذَّكَّرُونَ}.

ص: 289


1- التوحيد، للصدوق: 242-243.

كأنّه بيان لعدم عذر أولئك الكافرين في كفرهم، حيث إن اللّه سبحانه بيّن طريق الهداية بشكل واضح ومطابق لفطرتهم وعقلهم حيث ذكّرهم بهما إلاّ أنهم لم يتذكروا عناداً فليس الذنب إلّا ذنبهم.

و(الصراط) هو الطريق الواضح، وكونه مستقيماً بمعنى وضوحه؛ إذ لا اعوجاج يسبب الغفلة عنه، وقيل: المقصود من هذا هو سنة اللّه في الهداية والإضلال - المذكورين في الآية السابقة - فيكون المعنى هذه سنة اللّه وهي عادلة مطردة! والأول أصحّ.

وقوله: {لِقَوْمٖ يَذَّكَّرُونَ} أي إنّ ما بيناه مفصلاً هو تذكير لهم بما في فطرتهم وما يدل عليه عقلهم وقد كانوا غافلين عنه، لكن لا ينتفع بهذا التذكير إلاّ من يتذكر، أما من يصمّ سمعه ويعمي بصره فلا، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(1)، وقال: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(2)، وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

بيان جزاء المهتدين المتذكرين، وأما جزاء الضالين فسيأتي في الآيات التالية، ثم ذكر جزائهم في ثلاثة أمور:

1- قوله: {دَارُ السَّلَٰمِ} أي الجنة لسلامتها من جميع الآفات والنقائص

ص: 290


1- سورة الذاريات، الآية: 55.
2- سورة ق، الآية: 37.
3- سورة الأعلى، الآية: 10.

والمنغِّصات - مادية ومعنوية - .

2- وقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} عند كرامته، وقيل: المعنى أن ذلك في ضمانه لأنه وعد به فيوصلهم إليه حتماً.

3- وقوله: {وَهُوَ وَلِيُّهُم} أي يتولى أمورهم بإيصال النفع إليهم ودفع الضرر عنهم وإيصالهم إلى المطلوب، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(1)، وقال: {أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}(2).

ص: 291


1- سورة البقرة، الآية: 257.
2- سورة الأعراف، الآية: 155.

الآيات 128-130

اشارة

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٖ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَىٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ 128 وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 129 يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ 130}

128- {وَ} أما الكفار القابعين في الظلمات فاذكر {يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} يجمعهم في يوم القيامة {جَمِيعًا} كلَّهم فلا يغادر منهم أحداً، قائلاً لهم توبيخاً: {يَٰمَعْشَرَ} جماعة {الْجِنِّ} الشياطين {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ} أي طلبتم كثرة جماعتكم عبر إضلالهم، {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم} أتباعهم {مِّنَ الْإِنسِ} معتذرين عن اتّباع الشياطين: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٖ} أي أردنا الاستمتاع والالتذاذ {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا} نهاية مدة بقائنا في الدنيا {الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} فأنت الذي أمهلتنا فاستغللنا المدة في الاستمتاع!

{قَالَ} اللّه تعالى في جوابهم: أما جزاء استمتاعكم غير المشروع فهو {النَّارُ مَثْوَىٰكُمْ} مقامكم.

ص: 292

وأما الأجل فقد كان في الدنيا ولا أجل في الآخرة فأنتم {خَٰلِدِينَ فِيهَا} في النار {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} بيان قدرة اللّه تعالى على إخراجهم منها لكنه لا يفعل لعدم الحكمة في ذلك ف{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في تخلديهم في النار{عَلِيمٌ} باستحقاقهم ذلك.

129- {وَكَذَٰلِكَ} كاستمتاع الشياطين وأوليائهم من الإنس بعضهم ببعض {نُوَلِّي} نجعل الولاية والتبعية {بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا} فنتركهم ونكلهم إلى أنفسهم {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بسبب أعمالهم.

130- وأما اعتذارهم بأن اللّه أجّل لهم المدة فإنه أجّل وأرسل الرسل ليتم بذلك الامتحان فلا عذر لهم في مخالفتهم {يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} المذكورين وهم الشياطين وأولياؤهم من الإنس {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} استفهام تقريري {رُسُلٌ مِّنكُمْ} من المجموع فكأنّ الجن والإنس مجموعة واحدة وكانت الرسل من جنس هذا المجموع {يَقُصُّونَ} يبيّنون {عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِي} الحجج والدلائل {وَيُنذِرُونَكُمْ} يخوفونكم {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا} القيامة؟

وهنا لا محيص لهم من الاعتراف والإقرار حيث دُحضت حجتهم ف{قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا} بإتيان الرسل وقصّهم وإنذارهم، {وَ} لكن {غَرَّتْهُمُ} خدعتهم {الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} فلذلك لم يستمعوا إليهم ولم يتّبعوهم {وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ} فشهادتهم الأولى على إتيان الرسل والشهادة الثانية على عدم اتّباعهم فكفروا.

ص: 293

عاقبة الضالين والمضلّين

بحوث

الأول: حاصل هذه الآيات هو بيان عاقبة الضالّين والمُضلّين المكذبين للآيات والرسل، بعد أن بيّن مصير المهتدين المتذكرين، وذلك إن اللّه تعالى يجمع في يوم القيامة الشياطين والكفار من الإنس حيث كان يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ويُضلّ بعضهم بعضاً وكانوا قد قبعوا فيالظلمات ولم يخرجوا منها، ويحاسبهم ليتبيّن لهم عدله وأن عقوبتهم إنما هي عن استحقاق بسبب ما أجرموا.

ففي البداية يفسح لهم المجال في الدفاع عن أنفسهم، ولا حجة لهم إلاّ أنهم أرادوا الاستمتاع وأن اللّه هو الذي أمهلهم، كالوصي إذا نهب مال اليتيم فلمّا يُحاسَب على فعله يقول إنه أراد الاستمتاع بتلك الأموال وأن الميت هو الذي جعله وصيّاً فكأنّ الذنب ذنبه حيث أوصى إليه!

ثم إن اللّه تعالى يدحض حجتهم كلمة كلمة... .

فأما استمتاعهم غير المشروع فيقابله العذاب الأليم.

وأما امهالهم في الدنيا بالأجل والمدة فيقابله الخلود في النار لاستحقاقهم لذلك.

وأما اعتذارهم بأن اللّه هو الذي أعطى المهلة ولم يمنعهم عن المعصية فيقال لهم: إنه لا عذر لكم في ذلك؛ لأنه بحكمته أراد اختباركم فأمهلكم وأرسل لكم الرسل ليبينوا لكم الدلائل ويخوفونكم مغبّة المعصية لكنكم تركتم قولهم اغتراراً بالحياة الدنيا.

وحينئذٍ لمّا دحض اللّه حجتهم يضطرون إلى الاعتراف بأن الذنب ذنبهم،

ص: 294

وأن اللّه قد أنذرهم عبر الرسل ولكنهم كانوا كافرين، فلذلك استحقوا العذاب، كل ذلك في قبال ما للمهتدين حيث قال: {لَهُمْ دَارُ السَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

الثاني: قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم...} الآية.

إما بمعنى ويقول لهم اللّه في هذا اليوم، أو بمعنى واذكر اليوم الذي يقول لهم هذا الكلام وذلك حينما يجمعهم جميعاً: الشياطين المُضلّين والإنس الضالّين.

وقوله: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ} أي جعلتم أنفسكم كثيرين عبر إضلالكم الكثير من الناس حيث صاروا من حزبكم، فقد طلبتم الكثرة، أو صرتم كثرة بهم، فإن باب الاستفعال قد يكون لطلب الشيء وقد يكون لتحوّل الشيء مثل استحجر الطين، وإنما استكثروا منهم لأن إبليس أقسم على إضلالهم، قال سبحانه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ}(1).

وقوله: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم...} أي قالوه للاعتذار عن عملهم واحتجاجاً له.

وقوله: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٖ} الاستمتاع طلب المتعة، وأما استمتاع الشياطين فهو التذاذهم من إغواء بني آدم الذي أقسم إبليس عليه، قال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(2)، وهو استمتاع بالانتقام من

ص: 295


1- سورة الأعراف، الآية: 16-17.
2- سورة ص، الآية: 82.

آدم (عليه السلام) في ذريته، وأما استمتاع الإنس بالشياطين فلأنهم دلّوهم على مواطن اللذة غير المشروعة وحملوهم عليها بوسوستهم، وفي التقريب: «فإن الإنسان الذي لم يملأ فراغ قلبه الحق يطلب متعة يستمتع بها، وما أجدر بالإغواء والإيحاء أن يملأ ذلك الفراغ، وهذا كالاعتذار من الأتباع الإنسيين،كما يقول أحد الناس إذا سئل عن عمله الباطل: أنه أتخذه وسيلة للتسلية وسدّ الفراغ»(1).

وقوله: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} كأنّ هذا ضمن اعتذارهم بأن اللّه هو الذي أمهلهم ولم يمنعهم قهراً عن ارتكاب الجرائم، فالمعنى إنك قد قدّرت لنا أجلاً ولو لم تُر ِد ارتكابنا للمعاصي لعجّلت الأجل قبل ارتكابنا لها لكنك لم تفعل ذلك وأمهلتنا إلى نهاية المدة.

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَىٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ...} الآية.

دحض لحجتهم، وكأنّ فيه مراعاة التسلسل حسب كلامهم، فهنا بيان جزاء الاستمتاع غير المشروع عبر النار الأليمة فهو عذاب مناسب للجريمة، فكما استمتعت بغير الحق فذق الألم باستحقاق.

وقوله: {مَثْوَىٰكُمْ} الثواء هو الإقامة، وقيل: هو طول المقام.

وقوله: {خَٰلِدِينَ فِيهَا} أي لا أجل هاهنا، فالآخرة دار مقرّ، وأما الدنيا فدار ممرّ؛ لأن الجريمة وإن كانت في مدة معلومة لكن العقاب الذي يناسبها هو النار بما لا نهاية له، كالقاتل الذي يرتكب القتل في بضع ثواني

ص: 296


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 128.

لكنه يُخلّد في السجن في بعض القوانين الوضعية.

وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الاستثناء - كما مرّ نظيره - لبيان قدرة اللّه على إخراجهم، فليس خلودهم باقتضاء طبعي بل بإرادة منه تعالى، وليس الكلام في هذه الآيات في عصاة المؤمنين كي يقال إن الاستثناء لأجلهم حيثيخرجون من النار بعد الشفاعة والغفران.

وقوله: {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} لبيان أن خلودهم فيها بمقتضى الحكمة وعلم اللّه تعالى بأعمالهم ونواياهم.

الرابع: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.

كأنّه جواب عن سؤال: بأن اللّه تعالى لماذا لم يمنع الشياطين عن الولاية على الإنس؟ فالجواب: إنهم ظالمون واللّه يخذل الظالمين فيولّي بعضهم على بعض بسبب ظلمهم وسوء أعمالهم، وتوليته بمعنى تركهم وشأنهم وحينئذٍ يستولي بعضهم على بعض، أو إنه لبيان القاعدة العامة فبعد أن ذكر ولاية بعض الإنس الشياطين يبيّن أن القاعدة العامة هي ولاية الظالمين بعضهم لبعضاً، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}(1)، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(2).

وقوله: {نُوَلِّي} بمعنى نتركهم وشأنهم حتى يستولي بعضهم على بعض، وإنما نسب ذلك إلى اللّه تعالى لأنه خلقهم بهذه الكيفية القابلة لذلك ثم لم

ص: 297


1- سورة الأنفال، الآية: 73.
2- سورة الأعراف، الآية: 27.

يمنعهم عنها بالقهر، ثم لمّا اختاروا العصيان قدّر اللّه ذلك وقضاه لأن كل ما يقع في الكون فإنما هو بقضاء منه وقدر ولا جبر فيه لأن من المقدمات ما هو باختيارهم، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}(1)، ومن ذلك أن اللّهتعالى لمّا يريد الانتقام من الظالمين في الدنيا، يولّي ظالمين آخرين عليهم، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «ما انتصر اللّه من ظالم إلاّ بظالم» ثم تلا هذه الآية(2).

وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي بسبب أعمالهم كانت هذه العقوبة بتولية بعضهم على بعض.

الخامس: قوله تعالى: {يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ...} الآية.

كأنّه دحض لحجتهم بأن اللّه جعل لهم الأجل ولم يمنعهم عن ارتكاب المعاصي عبر تعجيل الأجل أو بالقهر، فيقال لهم إن اللّه أجّلكم لكن أرسل الرسل ليذكّروكم وكان من الحكمة خلقكم مختارين، فسبب ضلالكم هو انخداعكم بالحياة الدنيا وليس الذنب إلا ذنبكم.

قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ...} استفهام تقريري، أي بيان الحجة لأخذ الإقرار منهم بها، وهذا هو ما حصل حيث اضطروا إلى الاعتراف والشهادة على أنفسهم بما يستحقون معه العذاب.

وقوله: {رُسُلٌ مِّنكُمْ} حيث إن الخطاب للإنس والجن، فقد بحثوا في أنه هل من الجن رسلٌ؟

ص: 298


1- سورة الصف، الآية: 5.
2- الكافي 2: 334.

وأجيب تارة: بأن اللّه اعتبر الإنس والجن مجموعة واحدة ولذا قال: {يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} وحيث كان أنبياء الإنس من هذه المجموعة فلذلك قال: {رُسُلٌ مِّنكُمْ}.

هل هناك أنبياء من الجن؟

وتارة: بأن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أرسل إلى الجن منذرين منهم فكانوا رسلرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا أنهم أنبياء من اللّه، قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ}(1).

وتارة: بأن من الجن أيضاً رسل، وقد يستدل له بما رُوي أنه قد سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) : «هل بعث اللّه عزّ وجلّ نبياً إلى الجن؟ فقال: نعم، بعث إليهم نبياً يقال له يوسف، فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ فقتلوه»(2)، لكن لا دلالة له على أنه كان منهم، بل يدل على أنه أرسل إليهم فلعلّه كان من الإنس.

وعلى كل حال فإن رسالة النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الثقلين من الإنس والجن دلت عليها الآيات والروايات كآية الأحقاف التي ذكرناها، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه عزّ وجلّ أرسل محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الجن والإنس»(3).

وقوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ...} أي لا عذر لكم في استمتاعكم غير المشروع؛ لأن الرسل قد ذكّروكم بالدلائل وخوفوكم عن عقاب يوم القيامة، ولكنكم خالفتموهم وعاندتم، فاستحققتم هذا العقاب.

ص: 299


1- سورة الأحقاف، الآية: 29.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 242.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 55.

وقوله: {قَالُواْ شَهِدْنَا...} أي قالت الجن والإنس، ولا وجه لتخصيص هذا القول بالجن؛ لأن الخطاب موجّه لكليهما، وحيث استفهم استفهاماً إقرارياً بقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} اضطروا للاعتراف مرتين، مرة: بأن اللّه أرسل الرسل وبأن الرسل قصّوا وأنذروا، وحيث إن مئال هذه الشهادةإلى تضرّرهم لذلك قال: {شَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ}، ومرة أخرى: بأنهم خالفوا الرسل فكفروا بآيات اللّه تعالى.

وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} بيان سبب عدم إطاعتهم للرسل وعدم خوفهم من القيامة، وأن ذلك بسبب انخداعهم بملذّات الحياة الدنيا التي أورثت غفلتهم عن الآخرة.

ص: 300

الآيات 131-135

اشارة

{ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٖ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ 131 وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 132 وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ 133 إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأتٖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ 134 قُلْ يَٰقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ 135}

131- ثم يبيّن اللّه تعالى أن عذابهم ليس بظلم فيقول: {ذَٰلِكَ} العذاب بعد إرسال الرسل وإنذارهم {أَن} أي لأنّه {لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ} ليس من سنّته {مُهْلِكَ الْقُرَىٰ} بعذاب في الدنيا وبالنار في الآخرة {بِظُلْمٖ} بأن يظلمهم بالإهلاك {وَأَهْلُهَا} أي وحال كون أهلها {غَٰفِلُونَ} عن الدين وأحكامه.

132- {وَلِكُلّٖ} من الجن والإنس، أو من المهتدين والضالّين {دَرَجَٰتٌ} مراتب {مِّمَّا عَمِلُواْ} ناشئة عن أعمالهم.

ثم إن سبب الظلم إما الجهل أو الحاجة أو الخبث أو الضعف، واللّه تعالى منزّه عن كل ذلك، فهو العالم {وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} فكل شيء محفوظ عنده حتى بمثقال ذرّة.

ص: 301

133- {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} فلا يحتاج إلى الظلم ولا إلى أيّ شيء آخر، فهو الغني عن عباده لا تنفعه طاعة من أطاع ولا يضره عصيان من عصى.

وهو {ذُو الرَّحْمَةِ} فهو سبحانه خلق الخلق ليرحمهم فلا يعاقب إلاّ منلا يستحق اللطف به بالرحمة.

وهو القوي ف{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} بالإفناء والإهلاك {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ} يخلق آخرين مكانكم يخلفونكم فهو القادر على ذلك {كَمَا أَنشَأَكُم} أوجدكم {مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ} فأذهبهم واستخلفكم بدلاً عنهم.

134- ثم يؤكد اللّه تعالى المعاد بقوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} من القيامة وثوابها وعقابها {لَأتٖ} لا محالة {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بحيث تفوتونه فتهربون من حسابه.

135- {قُلْ} يا رسول اللّه مهدّداً لهم {يَٰقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ} أقصى ما تتمكنون به من العصيان {إِنِّي عَامِلٌ} بما استطيع من الطاعة {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ الدَّارِ} أي العاقبة الحسنة في دار الآخرة وهو من أطاع اللّه تعالى، وأما من عصاه فعاقبته العذاب ف{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ} لا يفوز بالنجاة والثواب {الظَّٰلِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي وظلموا غيرهم بالصدّ عن سبيل اللّه تعالى.

بحوث

الأول: لمّا بين اللّه تعالى عقاب الكفار في الآخرة، بيّن أن ذلك بسبب سوء اختيارهم فهم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والعصيان،

ص: 302

وأن اللّه سبحانه لم يظلمهم لأن سنته جرت على عدم إهلاك قوم في حال غفلتهم، فلذا أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأن أعمال العباد تتجسم لهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

ثم يبين أسباب الظلم - وهي الجهل والحاجة والخبث والضعف - وينفيها كلّها عن اللّه تعالى، ثم يؤكد حساب وجزاء الجميع وعدم تمكنهم من الفرار منه لأن اللّه محيط بهم علماً وقدرة، ثم يهدِّدهم بأن الظلم منهم ووباله سيرجع إليهم.

الثاني: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٖ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ}.

{ذَٰلِكَ} تعليل وإشارة إلى ما ذكر في الآيات السابقة من عذابهم بعد مخالفتهم للرسل، فمحور الكلام هو العذاب، فليس هذا إشارة إلى علة بعث الرسل.

قوله: {أَن لَّمْ يَكُن} (أن) مخففة بتقدير لام التعليل، أي ليس من سنته تعالى عذاب الغافلين فإنه ظلم وهو سبحانه منزه عنه وعن كل قبيح، وسُننه تعالى كلّها حسنة حتى سننه في عقوبة المجرمين.

وقوله: {مُهْلِكَ الْقُرَىٰ} هلاكهم بعذاب دنيوي وبعقوبة في الآخرة، وأما البلايا كالسيل والزلزلة والطاعون ونحوها فقد لا تكون عذاباً ولذا تعمّ الجميع، وقد تكون عذاباً للظالمين وبلاءً رافعاً للدرجات وماحياً للسيئات للمؤمنين، أما الهلاك الدنيوي بعذاب فقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا * وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا

ص: 303

فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا}(1)، وقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةِ بَطِرَتْمَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَٰكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَٰرِثِينَ}(2)، وأما الهلاك الأخروي فواضح قال تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ}(3).

ويمكن أن يقال: إن الهلاك في القرآن خاص بالعذاب الدنيوي لأنه هو الذي يستأصلهم، وأما في الآخرة فلا موت لهم في النار فلم يستعمل فيه كلمة الهلاك، واللّه العالم.

وقوله: {بِظُلْمٖ} أي يتعالى اللّه عن ظلمهم، وليس المراد ظلم أهلها لأن الظلم لا ينسجم مع الغفلة الحقيقية، فعمل الغافل ليس بظلم، وقد مرّ أنه لا محذور عقلاً من عقاب مَن خالف عقله وفطرته فظلم عمداً حتى لو لم يكن هناك رسل، وإنما لطف اللّه تعالى اقتضى عدم العذاب قبل إرسال الرسل، فتأمل.

الثالث: قوله تعالى: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ}.

بيان أن عقوبتهم ناشئة عن أعمالهم كما قال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَئًْا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(4)، وقال: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}(5)، فأعمالهم تتجسم بشكل ثواب أو عقاب أو إن الأعمال هي

ص: 304


1- سورة الإسراء، الآية: 15-16.
2- سورة القصص، الآية: 58.
3- سورة الأنفال، الآية: 42.
4- سورة يس، الآية: 54.
5- سورة يونس، الآية: 52.

سبب ذلك الجزاء.

وقوله: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ} الظاهر أن المراد عامة من يُجازى مؤمنهموكافرهم، والتعبير بالدرجات مع أن مصير الكفار إلى الدركات لعلّه لأجل تغليب جانب المؤمنين، وفي مجمع البيان: «وإنما سُمّيت درجات لتفاضلها كتفاضل الدرج في الارتفاع والانحطاط، وإنّما يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدرج، وعن تفاضل أهل النار بالدرك، إلاّ أنه لما جمع بينهم عبرّ عن تفاضلهم بالدرج تغليباً لصفة أهل الجنة»(1).

وقوله: {مِّمَّا عَمِلُواْ} (من) نشوية، أي درجات تنشأ من أعمالهم.

سؤال: قد ذكرتم إن ثواب أهل الجنة كلّه تفضّل من اللّه تعالى فكيف تتجسم الأعمال بشكل ثواب أو كيف يكون الثواب ناشئاً عن أعمالهم؟

والجواب: إن الثواب والعقاب كلّه بفعل اللّه تعالى لكنه لحكمته لا يتفضّل إلاّ لمن أحسن، ولا يعاقب إلاّ من أساء، فمن كفر وعصى استحق العقاب واللّه تعالى يعاقبه بسوء عمله، ومن آمن وأطاع وعده اللّه تعالى بأن يثيبه بفضله فلذا استحق الثواب بسبب الوعد، فالجزاء وإن كان فعلاً للّه إلاّ أن اللّه لا يجعله إلاّ في مستحقه.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ...} الآية.

بيان انتفاء أسباب الظلم عن اللّه تعالى، وهذا تعليل لعدم كون عقابهم ظلماً لهم، والأسباب هي:

ص: 305


1- مجمع البيان 4: 238.

أسباب الظلم

1- الجهل، وقد نفاه بقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}؛ لأن الجاهل قد يأخذ البريء بجريرة المجرم، وقد يعاقب على ما ليس بمحظور لجهلهبه، وأما اللّه تعالى فهو العالم بكل شيء من الأعمال الحسنة والأعمال السيئة، كما أنه عالم بمن ارتكبها وبنواياه، فلذا لا يعاقب إلاّ من استحقها.

2- الحاجة، وقد نفاها عنه بقوله: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ}؛ لأن المحتاج يريد رفع حاجته، وقد لا يجد وسيلة لرفعها إلاّ الظلم، كالذي يحتاج إلى مال ولا يجده من الحلال فيسرقه، وأما اللّه تعالى فهو الغني عن عباده وكل ما لهم فهو ملكه حقيقة، بل هو الكمال المطلق من كل جهة وهم الفقر من كل الجهات.

3- الخبث، واللّه تعالى منزه عنه فقد نفاه بقوله: {ذُو الرَّحْمَةِ}، فهو لطيف بارّ رحمن ولذا خلق الخلق ليرحمهم، وهيّأ لهم كل وسائل العيش الكريم برحمته، وحتى أوامره ونواهيه هي رحمة لهم لأنها ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم، ولا حدّ لرحمته إلاّ الحكمة، فلذا كلّما كانت الرحمة من الحكمة أنزلها اللّه تعالى، إلاّ لو لم تكن فيها الحكمة فلا وجه حينئذٍ للرحمة، وقد مرّ أن منشأ صفات الفعل - ومنها الرحمة - هي صفات الذات ومنها الحكمة، فلا يعقل تعارضهما أبداً، فلا معنى لرحمة غير حكيمة تعالى اللّه عن ذلك.

4- العجز، واللّه تعالى منزه عن ذلك فهو القوي من غير حدّ فقال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ...}، وأما المخلوق العاجز فقد يظلم تغطيةً لعجزه، كما يصنعه الطواغيت حينما يفشلون في بعض ما يريدون فيزيدون البطش بشعوبهم تغطية لفشلهم وانتصاراً لذاتهم العاجزة الفاشلة.

ص: 306

وقوله: {مَّا يَشَاءُ} كأنّ المقصود هو إفناء جنس البشر وخلق موجوداتأخرى مطيعة للّه تعالى غير عاصية، وقد تحقق نظير ذلك حينما أهلك النسناس الذين كانوا يفسدون في الأرض ثم خلق الإنسان، بل الناس يشاهدون ذلك في أسلافهم حيث بادوا وهلكوا وصاروا هم خلفاء لهم، فالقادر على إهلاك ناس واستخلاف ناس آخرين قادر على إهلاك نوع البشر واستخلاف نوع آخر، والحاصل إنه قادر فليست عقوبته ظلماً لأنه يتعالى عن وجود أسباب الظلم فيه.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأتٖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}.

كأنّه تأكيد للمعاد فهو ليس حديث خرافة، بل حقيقة آتية لا محالة، كما أنهم لا يتمكنون من الفرار عن عقوبته تعالى؛ إذ لا إله آخر ليكون ملجأهم، كما لا يتمكنون من الخروج عن سلطان اللّه تعالى، وهم العجز والفقر المطلق فلا محالة سيلاقون جزاءهم، قال تعالى: {يَقُولُ الْإِنسَٰنُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}(1)، بل لا فرار إلاّ الفرار إلى اللّه تعالى بطاعته قال سبحانه: {فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ}(2)، وقال سبحانه: {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ}(3).

وقوله: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أعجزه بمعنى جعله عاجزاً، وتسمى الآيات معاجز لأنها نزلت للتحدي مع عجز الناس عن الإتيان بمثلها، ومن مصاديقه

ص: 307


1- سورة القيامة، الآية: 10.
2- سورة الذاريات، الآية: 50.
3- سورة هود، الآية: 43.

أن يفوته المجرم ويسبقه فلا يتمكن من أخذه وعقوبته، ولا أحد يفوت مناللّه تعالى.

السادس: قوله تعالى: {قُلْ يَٰقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ...} الآية.

كأنّه تهديد لهم، فقد يستعمل الأمر بداعي التهديد كقوله تعالى: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(1).

وقوله: {يَٰقَوْمِ} الكفار منهم؛ لأنه حين نزول سورة الأنعام في مكة كان عامّتهم كفاراً إلاّ القليل منهم، وهو تهديد لكل كافر وإن كان نزوله في قريش.

قوله: {مَكَانَتِكُمْ} المكانة قد تكون بمعنى المكان، وقد تكون مصدراً، فالمعنى على الأول اعملوا حسب منزلتكم وحالتكم التي أنتم عليها، وعلى الثاني اعملوا حسب أقصى ما تتمكنون عليه مما تُمليه أهواؤكم وتوسوس به شياطينكم.

وقوله: {إِنِّي عَامِلٌ} أي عامل بما أمرني اللّه تعالى بأقصى ما يمكن ولا أخضع لكم، قال تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(2)، وقال: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}(3).

وقوله: {عَٰقِبَةُ الدَّارِ} أي العاقبة الحسنة في دار الآخرة، فإن العاقبة وإن كانت تستعمل في الحسنة والسيئة وكذا الدار تستعمل في الدنيا والآخرة إلاّ

ص: 308


1- سورة فصلت، الآية: 40.
2- سورة التغابن، الآية: 16.
3- سورة آل عمران، الآية: 102.

أن إطلاقهما ينصرف إلى العاقبة الحسنة في دار الآخرة.

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ} بيان أن الظالم منا أو منكم لا يفلح، وهذا نظير قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(1)، وليحكّموا عقولهم ليدركوا الظالم بين الذي يطيع اللّه والذي يتّبع الشهوات؟! أو هو تعليل لجملة مقدرة تستفاد من الكلام أي ستعلمون لمن تكون عاقبة الدار وهم نحن لا أنتم لأنكم ظالمون ولسنا كذلك.

ص: 309


1- سورة سبأ، الآية: 24.

الآيتان 136-137

اشارة

{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَٰمِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ 136 وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٖ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ 137}

136- ثم يبين اللّه مجموعة من أعمالهم الشركية التي افتروها، فقال: {وَجَعَلُواْ} بوصفهم وحكمهم {لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} أي خَلَق، فهو الخالق لكن أشركوا به غيره {مِنَ الْحَرْثِ} الزرع {وَالْأَنْعَٰمِ} الإبل والبقر والغنم {نَصِيبًا} قِسمةً، ونصيباً آخر لأصنامهم {فَ} كانت القسمة بأن {قَالُواْ هَٰذَا} القِسم {لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} أنه يكون للّه وليس كذلك لأنه لم يكن بأمره ولم يكونوا مخلصين فيه، {وَهَٰذَا} قِسم آخر {لِشُرَكَائِنَا} لأصنامهم {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} أي لا يتقبّله لأنه لا يتقبل إلاّ العمل الخالص، أو بمعنى لا يصرفونه في شؤون اللّه تعالى {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ} يكون كلّه باطلاً، أو بمعنى أنهم كانوا يصرفونه في شؤون الأصنام أيضاً {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} من عملهم غير المشروع ومن إيثار أصنامهم على اللّه تعالى.

ص: 310

137- {وَكَذَٰلِكَ} كهذا التزيين في تقسيم الحرث {زَيَّنَ لِكَثِيرٖ مِّنَالْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} أي الشركاء زيّنوا لهم قتل أولادهم قرباناً للأصنام {لِيُرْدُوهُمْ} علة للتزيين أو عاقبة له، أي ليهلكوهم {وَلِيَلْبِسُواْ} ليخلطوا ويشوّشوا {عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} الحق من ملّة إبراهيم (عليه السلام) ، وهؤلاء غير خارجين عن قدرة اللّه وإنما يمهلهم ولا يمنعهم بحكمته {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} مشيئة قهر {مَا فَعَلُوهُ} لم يقتلوهم أو ما فعلوا التلبيس {فَذَرْهُمْ} أي اتركهم وهذا تهديد لهم {وَمَا يَفْتَرُونَ} حيث كانوا ينسبون أعمالهم الشركية إلى اللّه تعالى.

تأثير عقيدة الشرك في الأعمال

بحوث

الأول: إن عقيدة المشركين أثّرت في أعمالهم فلذا ارتكبوا مجموعة من الأعمال الباطلة وأشركوا فيها، ثم افتروا على اللّه سبحانه بأن نسبوها إليه، فمنها: في زرعهم وأنعامهم فيشركون بجعل نصيب للّه بزعمهم ونصيب للأصنام، ولم يكتفوا بذلك بل استخفّوا باللّه تعالى حيث آثروا الأصنام عليه.

ومنها: افتراؤهم على اللّه في تحليل وتحريم الزرع والأنعام مما سيأتي بيانه في الآيات اللاحقة - الآيات 136-147 - .

الثاني: قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَٰمِ نَصِيبًا...} الآية.

قوله: {وَجَعَلُواْ} أي وصفوا هكذا وحكموا به.

وقوله: {مِمَّا ذَرَأَ} أصل الذرء هو بذر الأرض(1)، وحيث كان ذلك

ص: 311


1- راجع مقاييس اللغة: 365؛ وكتاب العين 8: 193.

يستلزم ظهور الزرع لذلك تم تعميم الذرأ إلى الإيجاد من العدم، وهذا تشنيع عليهم بأن اللّه هو الذي خلق الزرع والحرث ولا شأن للشركاء فيذلك أبداً فكيف جعلوها شركاء للّه سبحانه في النصيب.

وقوله: {نَصِيبًا} أي قِسماً وجزءاً، مع أن كلّه للّه تعالى وكان يلزمهم أن يتصرفوا فيه بحكم اللّه تعالى لا بجعلهم!

ثم إنه لم يذكر في هذا المقطع أنهم جعلوا لشركائهم نصيباً آخر؛ وذلك لوضوحه واكتفاءً بما فرّعه عليه: {فَقَالُواْ هَٰذَا...}.

وقوله: {بِزَعْمِهِمْ} الزعم الاعتقاد، والغالب استعماله في غير الصواب، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أما علمت أن كل زعم في القرآن كذب»(1)، فالمعنى إنهم يزعمون أنه للّه وليس كذلك.

وقوله: {فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} هذا إمّا ردّ من اللّه عليهم بأن ما زعموه نصيباً للّه ليس بمقبول لأنه عمل غير صالح من أناس غير متّقين، وقد قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُ}(2)، وقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(3)، وإمّا هو نقل لقولهم وفعلهم ففي تفسير القمي: «إن العرب إذا زرعوا قالوا: هذا للّه وهذا لآلهتنا، وكانوا إذا سقوها فحرف الماء من الذي للّه في الذي للأصنام لم يسدّوه وقالوا: اللّه أغنى، وإذا خرق شيء من الذي للأصنام في الذي للّه سدّوه وقالوا اللّه أغنى، وإذا وقع شيء من الذي للّه في الذي للأصنام لم يردّوه وقالوا اللّه أغنى، وإذا وقع شيء من

ص: 312


1- الكافي 2: 342.
2- سورة فاطر، الآية: 10.
3- سورة المائدة، الآية: 27.

الذي للأصنام في الذي للّه ردّوه وقالوا اللّه أغنى»(1).

وقوله: {فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ} كذلك إمّا ردّ لهم وبيان أن عملهم كلّه باطل فيعتبر كلّه شركاً ولا شيء مقبول منه، وإمّا نقل لقولهم وفعلهم بأنهم يؤثرون الأصنام فيصرفون ما زعموه للّه في أصنامهم، وفي التقريب: «وهذا مجاز، أي إن الأصنام تنتفع بهذا النصيب من خلال ما يترسخ لها في قلوب المشركين من المكانة والاحترام»(2).

وقوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} لأنه اتخاذ شركاء للّه تعالى أولاً، ثم افتراء عليه في حكمهم ثانياً، ثم إيثار شركائهم عليه ثالثاً.

الثالث: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٖ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ...} الآية.

بيان شرك آخر لهم وهو تقديمهم أولادهم الأبرياء قرابين للأصنام.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ} أي كما زيّنوا لهم الشرك في الحرث والأنعام كذلك زينوا لهم الشرك في قتل الأولاد.

وقوله: {قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ} الظاهر أن المراد قتل الأولاد لأجل الأصنام، وأما وأد البنات وقتل سائر الأولاد فلم يكن للشرك وإنما لخوف العار أو الفقر، والكلام في هذه الآيات حول أعمالهم الشركيّة.

وقوله: {شُرَكَاؤُهُمْ} فاعل {زَيَّنَ}، أي الشركاء زينوا قتل الأولاد، وهؤلاء إمّا شياطين الجن لأنهم كانوا يعبدونهم، قال تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ

ص: 313


1- تفسير القمي 1: 217؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 48.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 132.

شُرَكَاءَ الْجِنَّ} (1)، وإمّا الأصنام نفسها فيكون الكلام على المجاز، أي شدةحبهم للأصنام أدّى بهم إلى أن يروا قربان الأولاد لهم حسناً.

وقوله: {لِيُرْدُوهُمْ} أصل الردى الرمي، والإرداء الإلقاء في الهلاك - فإن كان معنى الشركاء الشياطين فاللام للتعليل، أي إنما زينوا لهم ليهلكوهم، وإن كان معناها الأصنام فاللام للعاقبة، أي عاقبة التزيين هو الهلاك، والضمير يرجع للآباء، وقيل: لهم وللأبناء، فأما هلاك الآباء فبالعصيان وأما هلاك الأبناء فبالقتل، ويحتمل أن يكون ضمير {لِيُرْدُوهُمْ} للأولاد وضمير {لِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} للآباء، فيهلكوا الأبناء ويضلوا الآباء.

وقوله: {وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ} اللَبس - بالفتح - الخلط، أي يخلطوا الباطل بدينهم الحق، فإن أهل الباطل يخلطون الحق بالباطل لكي يميل الناس إليهم، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يَخْفَ على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه»(2).

وقوله: {دِينَهُمْ} أي الدين الحق الذي ينبغي أن يكونوا عليه أو ملّة إبراهيم (عليه السلام) .

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.

تأكيد على أن ما يفعلوه - من التزيين والقتل - ليس لغلبة قدرتهم، وإنّما

ص: 314


1- سورة الأنعام، الآية: 100.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 50.

لأنّ حكمة اللّه تعالى اقتضت اختيارهم وتزويدهم بأدوات الاختيار وإمهالهم وعدم منعهم قسراً، فقدرة اللّه غالبة لكنه لم يشأ المنع بحكمته.

وقوله: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي أتركهم مع افتراءاتهم على اللّه فإنها لا تنفعهم، وهذا تهديد لهم - كما مرّ نظائره - وليس المعنى عدم إنذارهم، كما أنه بيان افترائهم على اللّه بنسبة هذا التزيين إليه سبحانه وتعالى.

ص: 315

الآيات 138-140

اشارة

{وَقَالُواْ هَٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَٰمٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ 138 وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ 139 قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَٰدَهُمْ سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٖ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ 140}

138- {وَ} من افتراءاتهم في فروع الدين أنهم قسّموا الأنعام والحرث أقساماً وافتروا لكل قسم أحكاماً ف{قَالُواْ هَٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أي ممنوعة ف{لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ} من سَدَنة الأصنام والرجال دون النساء {بِزَعْمِهِمْ} الكاذب بغير حجة، {وَ} قسم آخر {أَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} لا يمتطونها، {وَ} قسم ثالث {أَنْعَٰمٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} حين ذبحها {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} أي كل هذه الأحكام نسبوها إلى اللّه زوراً {سَيَجْزِيهِم} يوم القيامة بالعذاب {بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي بسبب افترائهم على اللّه تعالى.

139- {وَقَالُواْ} في حكم مفترىً آخر حول الأجنّة {مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَٰمِ} أجنتها إن ولدت حيّة فهي {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} خاص بهم {وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَا} نسائنا، {وَإِن يَكُن} ما في بطونها {مَّيْتَةً} بأن وُلدت ميتة

ص: 316

{فَهُمْ} الذكور والنساء {فِيهِ} في الجنين الميت {شُرَكَاءُ} يحلّ لكل منهما، {سَيَجْزِيهِمْ} اللّه تعالى {وَصْفَهُمْ} بالكذب والافتراء{إِنَّهُ حَكِيمٌ} في جزائه {عَلِيمٌ} بالمفترين.

140- وهؤلاء بهذه الأحكام المفتراة يظنون أنهم قد ربحوا ولكن {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَٰدَهُمْ سَفَهَا} بعدم استعمالهم عقولهم {بِغَيْرِ عِلْمٖ} تلقّوه من الوحي عبر الرسل، فخسارتهم في الدنيا بموت أولادهم {وَ} أيضاً خسر الذين {حَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} وخسارتهم هي بعدم الانتفاع من رزقه في الدنيا، كل ذلك يضاف إلى عقابهم على افترائهم في الآخرة {قَدْ ضَلُّواْ} بسبب هذه الأحكام المفتراة {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} إلى الأحكام الشرعية التي أنزلها اللّه تعالى.

بحوث

الأول: بعد بيان شركهم في أعمالهم في الحرث والأنعام يأتي الكلام في افترائهم على اللّه تعالى بأحكام ما أنزل اللّه بها من سلطان.

فالآيتان 136-137 في افتراءهم العملي في أصول الدين حيث أشركوا في الحرث والأنعام والقربان، وفي الآيات 138-139 في افتراءهم العملي في فروع الدين، ثم بيان خسرانهم في الدنيا والآخرة، ثم إن تحريمهم ما أحلّه اللّه تعالى إما في الحرث والأنعام وهذا مذكور في الآية الأولى 138، وإما في الأجنة وهذا مذكور في الآية 139، ولعلّه لذلك كرّر {وَقَالُواْ}.

الثاني: قوله تعالى: {وَقَالُواْ هَٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ}.

ص: 317

قد مرّ في سورة المائدة قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٖ وَلَا سَائِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ}(1)، وفيه تفصيل ما اختصرته هذه الآية(2).

أنواع من إفتراءات المشركين

وقد ذكر اللّه تعالى ثلاثة أنواع من افتراءاتهم:

1- قوله: {أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} حرموها على بعض الناس دون بعض، وجعلوا التحليل والتحريم بيدهم، ثم افتروا بأنّ اللّه تعالى هو الذي خوّلهم هذا التحليل والتحريم، و(الحِجر) هو المنع والمراد هنا التحريم، وقوله: {لَّا يَطْعَمُهَا} أي لا يذوقها، وهذا مبالغة في منع الأكل، وهذه بعض أنواع البحيرة والوصيلة.

وقوله: {بِزَعْمِهِمْ} الظاهر أنه مرتبط بقولهم {مَن نَّشَاءُ}، فهؤلاء المشركون أولاً قد افتروا في أصل الحكم بالتحليل والتحريم كما افتروا في تحريم الظهور، وفي عدم التسمية عند الذبح وقد جمعها كلها في قوله: {افْتِرَاءً عَلَيْهِ}، كما أنهم ثانياً ربطوا التحليل والتحريم بمشيئتهم وقد ردّه اللّه تعالى بقوله: {بِزَعْمِهِمْ} ولعلّه لذا لم يكرر الزعم في الحكم الثاني والثالث.

2- وقوله: {وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} فلا يركبونها وهي السائبة والحامي.

3- وقوله: {وَأَنْعَٰمٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} عطف على {قَالُواْ هَٰذِهِ أَنْعَٰمٌ...} وهذا ليس مقولاً لقولهم وإنما هو افتراء عملي بأنهم كانوا يذبحون ولا يسمّون مع أن حكم اللّه تعالى هو أن الحلية ترتبط بالتسمية،

ص: 318


1- سورة المائدة، الآية: 103.
2- راجع التفكر في القرآن، سورة المائدة: 353.

ويحتمل عطفه على مقول القول مع كون قوله: {لَّا يَذْكُرُونَ} إلفاتاً.

وقوله: {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} ذكرنا أنه يرجع إلى الأحكام الثلاثة وبيان أنها مفتراة، وفي ذلك بيان أن الحرام هو أن يُنسب إلى اللّه تعالى حكم لم يشرّعه، وأما مجرد الامتناع عن المباحات من غير نسبتها إلى اللّه تعالى فلا محذور فيه، كمن لا يحب طعاماً فلا يأكله، وحينما يسئل عن امتناعه يعلّله بعدم حبّه لا بتحريم الشرع له، فذلك لا مانع منه، ومنه قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَ}(1)، فالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) امتنع عن عمل حلال لأجل إرضاء زوجاته، هذا مع أن اللّه تعالى قد جعل للنبي الولاية التشريعية فكان من صلاحياته الإلهية إصدار الحكم بالتحريم لكنه لم يفعل ذلك، وإنما امتنع فقط.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَا...} الآية.

هذا يرتبط بحكمهم المفترى في أجنّة الأنعام كما أن الآية السابقة كانت ترتبط بالأنعام، وفيه افتراءان، أحدهما: في تخصيص التحريم بالنساء دون الرجال في الجنين الذي يولد حياً، والآخر: في حلية الميتة من الأجنة للرجال والنساء.

وقولهم: {خَالِصَةٌ} خبر الموصول في قوله: {مَا فِي بُطُونِ...} وإنّما أنّثه باعتبار أن الموصول بمعنى الأجنّة، وقيل: التاء للمبالغة وليست للتأنيث مثل علّامة وراوية، وخالصة يراد بها الحلال المختص بالرجال.

ص: 319


1- سورة التحريم، الآية: 1.

وقولهم: {أَزْوَٰجِنَا} كأنّهم استنكفوا عن نسبة الإناث إليهم بأن يقولوا(ومحرم على إناثنا) ولعلّه لذلك أبدلوه بقولهم: {أَزْوَٰجِنَا} مع أن مقتضى المقابلة أن يقابلوا الإناث بالذكور.

الرابع: قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَٰدَهُمْ سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٖ وَحَرَّمُواْ...} الآية.

بيان أن هؤلاء مضافاً إلى العقوبة الأخروية، قد خسروا في دنياهم؛ لأن أحكامهم هذه لم تستند إلى عقل أو وحي، وكل حكم كان كذلك صار سبباً لخسارة من يعمل به.

ويحتمل تعميم الخسارة للدنيا والآخرة، فيكون بيان خسارة الدنيا تأسيساً وبياناً لأمر لم يبيّنه في الآيات السابقة، ويكون بيان خسارة الآخرة تأكيداً لقوله: {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} وقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ}.

وقوله: {قَتَلُواْ أَوْلَٰدَهُمْ} خسارتهم لأنهم فقدوا أولادهم الذين هم أعوان لهم وقرة أعين وامتداد لهم.

وقوله: {سَفَهَا} عن سفاهة وقلة عقل؛ لأنهم لو كانوا يستعملون عقولهم لعلموا بطلان ذلك.

وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٖ} نازلٍ لهم عن طريق الوحي، قال سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(1).

وقوله: {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} خسرانهم هو أن اللّه رزقهم ذلك الحرث وتلك الأنعام لكنهم حرّموها على أنفسهم، ففاتتهم منافعها ولحقهم

ص: 320


1- سورة الملك، الآية: 10.

النقص في أموالهم.

وقوله: {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} عبرّ عن قتل الأولاد بقوله: {سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٖ} وعن تحريم ما رزقهم اللّه بقوله: {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} مع أن كليهما سفاهة وجهل وافتراء، ولعلّه نوع تفنّن في العبارة، ولزيادة التشنيع بأن يخصّ كل واحد منهما بوصف، أو لأن ظهور السفاهة والجهل في قتل الأولاد أشد، وظهور الافتراء على اللّه في تحريم الرزق أوضح.

وقوله: {قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} لعل ذكرهما معاً باعتبار أن هذه الأحكام المفتراة ضلال، وصارت سبباً لعدم معرفتهم بالأحكام الشرعية، فهؤلاء قد ضلوا بهذه الأحكام ولم يصيبوا أحكام اللّه تعالى.

ثم إنه تعالى ذكر في الآية 138 في تحريم الحرث والأنعام {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} ثم ذكر في الآية 140 {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} وذلك تأكيد وليس بتكرار؛ فإن الأولى ذكرت كمقدمة للجزاء في قوله: {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، والثانية ذكرت كعِلّة لتحريمهم رزق اللّه تعالى، فحاصل الآيتين أنهم حَرَّموا بسبب الافتراء، وهذا الافتراء سبب عقابهم.

ص: 321

الآيات 141-144

اشارة

{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّٰتٖ مَّعْرُوشَٰتٖ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٖ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٖ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 141 وَمِنَ الْأَنْعَٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ 142 ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٖ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ نَبُِّٔونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ 143 وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّىٰكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ 144}

141- لما ذكر افتراء المشركين على اللّه في تحريم أنواع ٍ من الأنعام والحرث بيّن أن اللّه الذي خلقها قد أباحها {وَهُوَ} اللّه {الَّذِي أَنشَأَ} ابتدأ خلق {جَنَّٰتٖ} من الأعناب {مَّعْرُوشَٰتٖ} مرفوعات بالدعائم {وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٖ} ملقيات على وجه الأرض، {وَ} أنشأ {النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا} في الطعم واللون والرائحة وغيرها {أُكُلُهُ} أي ثمره الذي يؤكل منه، {وَ} أنشأ {الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} حال كونه {مُتَشَٰبِهًا} يشبه بعضه بعضاً في

ص: 322

الأغصان والأوراق ومنظر الفاكهة {وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٖ}، وحيث علمتم أن اللّه هو الذي خلقها فالحكم إليه ف{كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} ثمر كل واحد من المذكورات ولا تحرموا منه شيئاً {إِذَا أَثْمَرَ} ظهر الثمر فيجوز أكله قبلينعه، {وَءَاتُواْ حَقَّهُ} الحق الذي فيه وهو صدقة مستحبة {يَوْمَ حَصَادِهِ} معجلاً حينما تحصدونه وهذا هو الذي جعله اللّه تعالى لا النصيب للأصنام، {وَلَا تُسْرِفُواْ} بزيادة الأكل أو الإنفاق أو عدم إعطاء الحق؛ إذ {إِنَّهُ} إن اللّه {لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.

142- {وَ} هو الذي أنشأ {مِنَ الْأَنْعَٰمِ} البقر والإبل والغنم والمعز {حَمُولَةً} ما يصلح لحمل الأثقال {وَفَرْشًا} ما لا يصلح إلاّ للأكل، وحيث إنه الخالق فالحكم إليه ف{كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} من الأنعام التي هي رزق اللّه لكم {وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ} الخطوات المؤدية إليه، والتي يسلكها وذلك بتحريم ما أحلّه اللّه تعالى، {إِنَّهُ} إن الشيطان {لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة.

143- ثم فصّل اللّه في أنواع الأنعام المحلّلة تقريعاً وذماً لمن حرّمها، فمن الأنعام {ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٖ} الزوج ما معه من جنسه ما يقارنه، {مِّنَ الضَّأْنِ} الغنم {اثْنَيْنِ} الأهلي والجبلي {وَمِنَ الْمَعْزِ} السخل {اثْنَيْنِ} الأهلي والجبلي {قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ} ذكر الضأن والمعز والاستفهام إنكارى {حَرَّمَ} اللّه {أَمِ الْأُنثَيَيْنِ} أنثاهما {أَمَّا} أي أم حرّم ما {اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ} من الأجنّة {نَبُِّٔونِي بِعِلْمٍ} أخبروني عمّا حرّمه بحجة وبرهان لا ظن وتقليد

ص: 323

أعمى {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} في تحريم اللّه بعض أقسامها كما زعمتم.

144- {وَ} أنشأ {مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ} عراب له سنام واحد وبخاتي له سنامان {وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} أهلي ووحشي {قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ} منهما {حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا} أم حرّم ما {اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ} أجنّتها، فهل لكمعلم - عن عقل أو نقل - بالتحريم {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ} حضور تسمعون {إِذْ وَصَّىٰكُمُ} أمركم {اللَّهُ بِهَٰذَا} التحريم؟ {فَ} حيث لم يكن علم ولا شهود فأنتم مفترون و{مَنْ أَظْلَمُ} أكثر ظلماً {مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بنسبة التحريم إليه {لِّيُضِلَّ} واللام للعاقبة، أي عاقبة الافتراء هو إضلال {النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، ومن كان كذلك فاللّه لا يهديه؛ إذ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}.

حلية الأنعام من غير جعل نصيب للشركاء

بحوث

الأول: لما بيّن اللّه تعالى شركهم في الحرث والأنعام وتحريمهم لأصناف منها بغير علم، بعد ذلك بيّن أن اللّه - الذي خلقها والذي له الحكم - قد أحلّها ولم يجعل فيها نصيباً للأصنام كما أنه أحلّ كل طعام إلاّ بعض ما حرّمه، وليس أصنافهم المفتراة منها.

ثم يحتج عليهم بأن أحكامهم إنما هي اتّباع لخطوات الشيطان وليس لهم من اللّه تعالى دليل من عقل ونقل ولا هم سمعوها منه تعالى.

وقد بيّن اللّه تعالى أنواعاً من النبات وفصّل في أقسام الأنواع تأكيداً على تحليلها وأن الحكم للّه الواحد القهار.

الثاني: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّٰتٖ مَّعْرُوشَٰتٖ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٖ

ص: 324

وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ...} الآية.

بيان أن اللّه تعالى هو الخالق فلا محالة يكون الحكم له لا لغيره، ولا وجه من عقل ولا نقل أن يكون الحكم لغير الخالق، فالعقل والعقلاء على أن من يُنشئُ شيئاً يكون أولى من غيره في التصرف فيه بما يشاء، فما بالهميجعلون الحكم لغيره تعالى في مخلوقاته.

ثم لعلّه لما أراد التفصيل في ذكر صنع اللّه تعالى وخلقه قسم الحرث إلى ثلاثة أقسام: 1- الجنات 2- النخل والزرع 3- الزيتون والرمان، فالجنات لعلّه أريد بها بساتين العنب لأنها هي التي تجنّ وتغطي البستان عادة، وأما النخل والزرع فلعلّه أريد اختلاف الثمار من حيث الطعم والرائحة واللون، وأما الزيتون والرمان فلعله أريد تشابه الأشجار وعدم تشابهها من حيث الأشكال في الورق والغصن ونحو ذلك، واللّه العالم.

وقوله: {أَنشَأَ} الإنشاء هو الإحداث حالاً بعد حال من غير احتذاء مثال، ومنه يقال: نشأ الغلام وهو ناشئ إذا نما وزاد شيئاً فشيئاً(1).

وقوله: {جَنَّٰتٖ} البساتين المستورة لكثرة الأشجار، وهذا يكون في بساتين العنب عادةً.

وقوله: {مَعْرُوشَٰتٖ} أي مرفوعات ممسوكات بالدعائم، و{وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٖ} ملقاة على وجه الأرض، وقيل: قائمة على ساقها، وقيل: المعروشات ما غرسها الناس، وغير المعروشات ما أنبته اللّه في البراري والجبال.

ص: 325


1- معجم الفروق اللغوية: 80.

وقوله: {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} الأُكُل هو الثمر الذي يؤكل، والاختلاف في الأوصاف يدلّ على كمال قدرة اللّه تعالى حيث إن الأرض واحدة والماء واحد وأحياناً الشجر واحد ومع ذلك هذا التنوع.

وقوله: {مُتَشَٰبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٖ} الظاهر أن المراد تشابه المظهر وعدمتشابهه كما قال: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزْقًا قَالُواْ هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهًا}(1).

الثالث: قوله تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ...} الآية.

بعد بيان أن الخالق المنشئ هو اللّه تعالى، بيّن أنّ الحكم فيه للّه تعالى، وقد حكم فيه بثلاثة أحكام:

1- قوله: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} إباحة الأكل منه، ولا يشترط انتظار ينعه بل يباح قبل ذلك كأكل الحصرم والبُسر، كما لا يشترط اجتذاذه في إباحة أكله بل يجوز ذلك حتى وهو على الشجرة ولعلّه لذلك قيّده بقوله: {إِذَا أَثْمَرَ} كي لا يتوهم لزوم الانتظار، وقيل: إن هذا القيد لأجل دفع توهم أنه لا يجوز الأكل قبل أداء الحق منها، فيقال لهم إن اللّه لم يمنع من أكله حتى إذا لم يحن وقت أداء الحق الذي هو وقت الحصاد والصرم.

2- وقوله: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وهو التصدّق بقبضات وحفنات حين حصاد الحب وجذاذ التمر ونحوه، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في الآية قال: «هذا من الصدقة يُعطي المسكين القبضة بعد القبضة، ومن الجذاذ الحفنة بعد

ص: 326


1- سورة البقرة، الآية: 25.

الحفنة حتى يفرغ»(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لا تصرم بالليل، ولا تحصد بالليل، ولا تضحّ بالليل، ولا تبذر بالليل، فإنك إن تفعل لم يأتك القانع والمعترّ. قلت: ما القانع والمعترّ؟ قال: القانع الذي يقنع بما أعطيته، والمعترّالذي يمرّ بك فيسألك، وإن حصدت بالليل لم يأتك السُؤّال، وهو قول اللّه: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} عند الحصاد، يعني القبضة بعد القبضة إذا حصدته، فإذا خرج فالحفنة بعد الحفنة، وكذلك عند الصرام...»(2).

قال الوالد رضوان اللّه عليه: «وهنا سؤال يفرض نفسه هو: أن المسكين كيف ينتفع بالقبضة وما أشبهها؟ ولِمَ لم يجعل الإسلام أكثر من حفنة حقاً للسائل؟ والإجابة على هذا السؤال: إن من يمرّ من السائلين كثيرون، ومن يصرم ويحصد ويبذر كثيرون أيضاً، فوزعت الحاجة على المالكين كي لا يتضرر المالك، ولا يبقى الفقير معوزاً، إن الفقير يجمع من بساتين متعددة ما يكفيه، والمالك يعطي للسائلين حفنات إذا جمعت صارت شطراً من ماله لا يستهان به، وهذا من حكمة الإسلام وكل الإسلام حكمة»(3).

وهذا الحق عام للفقراء حتى غير المسلمين منهم فعن الإمام: «تعطي منه المساكين الذين يحضرونك، ولو لم يحضرك إلاّ مشرك»(4).

والروايات في ذلك كثيرة فراجعها في تفسير البرهان(5).

ص: 327


1- تهذيب الأحكام 4: 106.
2- الكافي 3: 565.
3- الفضيلة الإسلامية: 195.
4- تفسير العياشي 1: 378.
5- البرهان في تفسير القرآن 4: 50-57.

ثم المشهور ان هذا الحكم مستحب وقيل بوجوبه، كما أن الصحيح عدم نسخه بالزكاة، بل شرّع اللّه إيتاء حق الحصاد في مكة ثم شرّع وجوب الزكاة في أعيان خاصة في المدينة، ولا منافاة بينهما.

وكأنّ بيان هذا الحكم هو في قبال ما جعله المشركون من النصيب لأصنامهم، فيقال لهم إن الحق فيه هو الصدقة للفقراء في يوم الحصاد.

ثم إن الحصاد يستعمل عادة في جزّ الحنطة ونحوها وأما اقتطاف ثمار الأشجار فيعبرّ عنه غالباً بالجذّ والصرم، إلاّ أنه في الآية جمعهما واكتفى بذكر الحصاد عبر تعميمه ليشمل قطع كل ثمرة.

والضمير في {حَقَّهُ} يرجع إلى الثمر فالإضافة بمعنى في، أي الحق الذي فيه، وقيل إلى اللّه تعالى فهي بمعنى اللام، أي الحق الذي له تعالى.

3- {وَلَا تُسْرِفُواْ} الإسراف هو الزيادة في الحق، وهو يشمل كل نوع من الإسراف في الثمر سواء في الأكل الزائد، أم الإنفاق الزائد، ومنه عدم إعطاء الحق، ومنه أيضاً الصرف غير المشروع على الأصنام وغيرها لأنه إسراف على النفس، قال اللّه تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ}(1)، وقال: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}(2)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «كان فلان بن فلان الأنصاري - سمّاه - وكان له حرث، وكان إذا جذه تصدّق به، وبَقي هو وعياله بغير شيء، فجعل اللّه ذلك سرفاً»(3).

الرابع: قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ

ص: 328


1- سورة الأعراف، الآية: 31.
2- سورة الإسراء، الآية: 29.
3- تفسير العياشي 1: 379.

اللَّهُ...} الآية.

عطف على {جَنَّٰتٖ مَّعْرُوشَٰتٖ} أي وهو الذي أنشأ من الأنعام.

وقوله: {حَمُولَةً} في المقاييس: «هي الإبل تحمل عليها الأثقال»(1)، وكأنّ ذكرها بالخصوص مقابل (الحامي) الذي افتراه المشركون بعدم جواز الحمل والركوب عليه.

وقوله: {وَفَرْشًا} في المقاييس: «هو الذي لا يصلح إلاّ للذبح والأكل»(2)، وكأنّ هذا مقابل افتراء المشركين في تحريم بعض أصناف الأنعام والتي مرت في الآيتين 138-139، وفي سورة المائدة الآية 103.

وهذا المعنى أنسب بالسياق مما ذكره بعض المفسرين من أن الفرش صغار الأنعام أو ما يصنع من جلودها أو ينسج من صوفها أو شعرها أو وبرها.

وقوله: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} يفيد الإباحة لأنه بعد توهم الحظر، فهو رزق اللّه تعالى وقد أباحه لكم، ولا معنى لأن يرزق اللّه شيئاً ثم يحرّمه!

وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ} بيان أن تحريم المشركين لبعض الأنعام هي اتّباع وساوس الشيطان، و{خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ} هي الأعمال التي يعملها وكذا الأعمال التي توصل إليه، ومن ذلك الافتراء على اللّه تعالى.

الخامس: قوله تعالى: {ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٖ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ...} الآية.

عطف بيان على قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشًا} فالمعنى: وأنشأ لكم من الأنعام - التي

ص: 329


1- مقاييس اللغة: 265.
2- مقاييس اللغة: 811.

هي الحمولة والفرش - ثمانية أزواج.

وقوله: {أَزْوَٰجٖ} جمع زوج وهو الذي معه آخر من جنسه يقارنه، ويطلقالزوج على كليهما كما يطلق على الواحد منهما، والخروف الأهلي والجبلي زوجان، والمعز الأهلي والجبلي زوجان، والبعير البخاتي والعراب زوجان، والبقر الأهلي والوحشي زوجان، كذا تفسير الأزواج والاثنين في الروايات(1)، فهذه ثمانية أزواج وقد أحلّ اللّه الذكر منها والأنثى.

وقوله: {الضَّأْنِ} جمع ضائن، وقيل اسم جمع لا مفرد له، و{الْمَعْزِ} جمع ماعز.

وقوله: {ءَالذَّكَرَيْنِ} القاعدة هي سقوط الهمزة من التعريف في درج الكلام لأنها همزة وصل، إلاّ أنه حين الاستفهام بالهمزة تقلب همزة التعريف ألفاً، وقد تسهّل، وذلك حذراً من الالتباس.

وقوله: {نَبُِّٔونِي بِعِلْمٍ} حيث استفهم منهم استفهاماً إنكارياً بأنه هل اللّه حرّمها؟! بيّن أن الجواب لا بدّ أن يكون بعلم - من عقل أو نقل - ولا دليل من العقل على التحريم كما هو واضح، والمشركون لا يعتقدون بالرسالة فمن أين علموا بأن اللّه حرّمها؟!

وقوله: {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} أي صادقين في أن نسبة التحريم إلى اللّه تعالى لم تكن افتراء، وحيث لا علم تبيّن أنه افتراء.

السادس: قوله تعالى: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ...} الآية.

ص: 330


1- راجع الكافي 8: 283؛ والبرهان في تفسير القرآن 4: 58-60.

استنكار عليهم في تحريمهم ما أحله اللّه من الإبل والبقر، وقيل: إنه تعالى ذكر في الآية 142 إن اللّه أحلّ الأنعام، وتحريمها هو من خطوات الشيطان، ثمأراد زيادة التشنيع عليهم بالتفصيل وبأنهم لا حجة لهم لذلك ذكرها مفصلّة.

وقوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّىٰكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا} هذا عِدل محذوف يُعلم من الآية السابقة حيث قال: {نَبُِّٔونِي بِعِلْمٍ} فالمعنى هل ادعاؤكم التحريم عن علم - عقلي أو نقلي - أم أنكم سمعتم من اللّه تحريمها؟ وهذا كالتهكّم بهم وبيان سخافة عقولهم، و(الشهادة) بمعنى الحضور، و(الوصية) هي العهد، ووصية اللّه فرضه وحكمه وعهده إلى الناس.

وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي وحيث لا حجة لهم من علم أو سماع فيُعلم أن تحريمهم هو افتراء على اللّه تعالى، وهو أشد الظلم، فكانوا أظلم الناس بفريتهم هذه.

وقوله: {لِّيُضِلَّ النَّاسَ} اللام للعاقبة، أي عاقبة هذا الافتراء هو الإضلال، ويحتمل أن يكون المراد ب{مَنْ أَظْلَمُ} هو الذي سنّ هذه السنن السيئة بين الناس بغير علم منه وأراد بذلك إضلالهم عن سبيل اللّه تعالى.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي...} بيان أنه حيث ظلموا بافترائهم على اللّه، فإنه لا يهديهم لأن القاعدة العامة هي عدم هداية الظالمين، وذلك بتركهم وشأنهم، وحيث لا هداية إلاّ من اللّه فتركهم يساوق ضلالهم وهلاكهم.

ص: 331

الآيات 145-147

اشارة

{قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 145 وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٖ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ 146 فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٖ وَٰسِعَةٖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ 147}

145- وحيث علمت أن التحريم والتحليل من اللّه بوحيه ف{قُل} رداً على زعمهم تحريم بعض الأنعام {لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} وعدم الوجدان هنا يدلّ على عدم الوجود {مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطْعَمُهُ} على آكل يأكله {إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} لم تُذَكّ بالطريقة الشرعية - سواء ماتت حتف أنفها أم بطريقة أخرى - {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} مصبوباً، أمّا ما يتخلل اللحم فلا بأس به {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٖ} وذكر اللحم من باب إعتياد أكله وإلاّ فكل أجزاء الخنزير محرّمة {فَإِنَّهُ} فإن كل المذكورات {رِجْسٌ} قذر خبيث {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ} رُفع الصوت عند ذبحه {لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} بأن ذكرت الأصنام عند ذبحه، وسُمّي هذا فسقاً لشدة خبثه فكأنّه صار الفسق بعينه، {فَمَنِ اضْطُرَّ} دعته الضرورة إلى أكل المذكورات {غَيْرَ بَاغٖ} لم يكن ظالماً

ص: 332

متجاوزاً عن الحدّ بأن لم يكن خروجه على الإمام المفترض الطاعةولم يأكل التذاذاً {وَلَا عَادٖ} لا يطلب العدوان بأن لم يكن خروجه لقطع الطريق ولا يتجاوز عن الحدّ في أكله، بل يأكل بمقدار سدّ الرمق {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ} لا يؤاخذه بأكلها {رَّحِيمٌ} أباح له الأكل.

146- وليس تحريم اللّه تعالى إلاّ بحكمة فقد تكون المصلحة في التحريم فيحرّم وقد ترتفع المصلحة فيحلّل، وكذا العكس {وَ} من ذلك أنه {عَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖ} من الطيور والسباع وغيرها، {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} كل الشحم {إِلَّا مَا} الشحوم التي {حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ} الشحوم التي حملت {الْحَوَايَا} أي الأمعاء {أَوْ مَا} أي الشحم الذي {اخْتَلَطَ بِعَظْمٖ ذَٰلِكَ} - التحريم وقد كان حلالاً قبل وبعد - {جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ} عقوبة على ظلمهم {وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ} في تحريمنا عكس المشركين الذين يفترون فيه.

147- {فَإِن كَذَّبُوكَ} في ما تلوته عليهم من الكتاب في التحريم {فَقُل} في جواب تكذيبهم: {رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٖ وَٰسِعَةٖ} لذا لا يجازيكم ببغيكم بتحريم الطيبات عليكم فوراً بل يمهلكم {وَ} لكن سيأتيكم العذاب؛ إذ {لَا يُرَدُّ بَأْسُهُ} عذابه إذا حان وقته {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} المكذبين المفترين؛ لعدم تنافي عقاب المجرمين مع الرحمة.

بحوث

الأول: بعد أن بيّن اللّه تعالى أن التحريم والتحليل بيده وحده لا شريك

ص: 333

له، وأن نسبة التحريم والتحليل إليه لا بد أن تكون بعلم، بعد ذلك بيّن أن اللّه تعالى أوحى إلى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حلية كل شيء من المأكولات إلاّ الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذكر اسم الأصنام عليه، وليس تحريمها اعتياطاً بل الثلاثة الأولى رجس والرابع فسق، ولكن مع ذلك من رحمته وغفرانه أحلّها للمضطر إن لم يكن باغياً ولا عادياً، فحليتها أيضاً لمصلحة هي الرحمة والغفران.

وأما تحريم بعض الطيبات على اليهود قبل نسخ شريعتهم فهو أيضاً لمصلحة وهي عقوبتهم على بغيهم.

إذن ما يحرّمه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما هو بوحي من اللّه تعالى وليس كتحريمهم بالافتراء، ولكن مع دلالة الآيات والحجج على رسالته هم معاندون يكذبونه، فيهددهم اللّه تعالى بأن رحمته وإن كانت واسعة لكن ذلك لا ينافي عقوبة المجرمين.

عدم جواز نسبة الأحكام إلى اللّه تعالى من غير علم

الثاني: قوله تعالى: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطْعَمُهُ}.

عدم وحي شيء للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمعنى عدم تشريعه؛ لأن اللّه تعالى لو شرّعه وكان الحكم فعلياً لأوحاه إلى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إذ لم يجعل اللّه سبحانه مبلِّغاً لأحكامه غيره، فهنا عدم الوجدان يدل على عدم الوجود، وعليه فالآية في مقام بيان القاعدة العامة في حلية كل شيء من المأكولات، ثم يستثني اللّه تعالى منها في هذه الآية محرمات الأنعام والخنزير - الذي لولا تحريم اللّه تعالى له لكان من الأنعام عند الناس - ، وهذا لا ينافي تخصيصات أخرى

ص: 334

بأدلة أخرى، نظير كل عام قرآني يُذكر لضرب القاعدة وليكون المرجع في كل شيء، وهذا من دأب العقلاء حيث يجعلون قاعدة لتكون المرجع ثميستثنون منها ما شاؤوا، وقد دلت الأدلة على تحريم المسوخ والسباع من الحيوانات أجمع وكذا تحريم الحشرات، وكل طير صفيفه أكثر من دفيفه، وما لا فلس له من موجودات البحر، والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية(1).

الثالث: قوله تعالى: {إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٖ...} الآية.

قد مرّ(2) في الآية 173 من سورة البقرة، والآية 3 من سورة المائدة تفصيل هذه المحرمات فراجع، وفي هذه الآية يتم بيان أن التحريم ليس اعتباطاً، وإنما لأنها رجس أو فسق، وكذا سبب تحليلها للمضطر بأنه لرحمته تعالى وغفرانه.

وقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} الظاهر أن الضمير يرجع إلى كل الثلاثة، وإنما أفرده باعتبار أن المرجع كل واحد منها، و(الرجس) هو كل ما يستقذر ويستقبح، فالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير كلّها قذرة ولذا حرّمها اللّه تعالى.

وقوله: {أَوْ فِسْقًا...} أي إن ما ذبح لغير اللّه صار وكأنه الفسق بعينه، فعملهم بالإهلال في الذبح بتسمية الأصنام خروج عن طاعة اللّه تعالى فأثر ذلك الشرك في اللحم فصار هو الفسق، وفي هذا تشنيع عليهم مع بيان شدة

ص: 335


1- راجع تفصيله في كتاب نبراس الأحكام، (للمؤلف).
2- راجع التفكر في القرآن سورة البقرة 2: 225-230؛ والتفكر في القرآن، سورة المائدة: 24.

التحريم، لأنه شرك إضافة إلى حرمته، والشرك أسوء أنواع الظلم.

وقوله: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عدم تحريمها على المضطر لأن اللّهغفور يستر القبيح، فأكل لحومها وإن كان قبيحاً في نفسه إلاّ أن غفران اللّه تعالى صار سبباً لرفع حرمتها، وكذا رحمته بعباده لئلا يهلكوا جوعاً.

سبب تحريم بعض الطيبات على اليهود

الرابع: قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا...} الآية.

كأنّه دفع إشكال هو: كيف حرّم اللّه بعض الطيبات على اليهود؟ والجواب: إن في التحريم مصلحة هي عقوبتهم على بغيهم، فكما أحل اللّه الخبائث للمضطرين لمصلحةٍ هي غفرانه ورحمته، كذلك حرّم بعض الطيبات على الباغين لمصلحةٍ هي عقوبتهم.

وقوله: {كُلَّ ذِي ظُفُرٖ} الظفر معروف، وتفسيره بالإصبع أو الدابة غير مشقوقة الرجل لا وجه له بعد عدم دلالة نصٍ من المعصوم عليه، كما لا وجه لتفسيره بالإبل لأنها لم تكن محرمة عليهم وإنّما افتروا في تحريمها كما مرّ في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَٰءِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَىٰةُ}(1).

وقوله: {أَوِ الْحَوَايَا} جمع حاوية وهي الأمعاء، فالشحم المشتمل عليها لم يكن محرّماً عليهم أيضاً.

وقوله: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٖ} كذلك، ولعلّ عدم تحريم هذه الثلاثة لصعوبة فكّها عن اللحم، وتحريمها كان يؤدي إلى تحريم غالب لحومها،

ص: 336


1- سورة آل عمران، الآية: 93.

وإنما التحريم كان لسائر الشحوم كإلية الغنم.

وقوله: {ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم} أي ذلك التحريم كان عقوبة لهم بسبب تعديهمفي الظلم، قال تعالى: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}(1)، ثم نسخ اللّه ذلك الحكم بشريعة عيسى (عليه السلام) ، قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}(2).

وقوله: {وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ} أي تحريمنا وتحليلنا مطابق للواقع والمصلحة الواقعية فلذا كان صدقاً، وأما ما يفعله المشركون فهو افتراء وكذب.

الخامس: قوله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٖ وَٰسِعَةٖ...} الآية.

بعد بيان أن التحريم والتحليل لا بد أن يستند إلى حجة وبرهان من اللّه تعالى، وأن تحريم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحليله إنما هو بوحي من اللّه تعالى، بعد ذلك بيّن أنّ المشركين كذّبوه مع قيام الأدلة، فلا علاج لهم إلاّ بيان أن عقاب اللّه تعالى سينالهم، وهذا العقاب لا ينافي سعة رحمته؛ لأنه بحكمته، فرحمته تشمل كل شيء بما فيه المشركون ولذا يمهلهم اللّه تعالى ولا يؤاخذهم فوراً بجريرة افترائهم وتكذيبهم، حتى إذا انتهت المهلة أخذهم اللّه بعذابه جزاءً لجرمهم، قال تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَالَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ}(3).

ص: 337


1- سورة النساء، الآية: 160.
2- سورة آل عمران، الآية: 50.
3- سورة الأعراف، الآية: 156.

أو المعنى إنهم وإن كذبوك في حلية ما يحرمونه إلاّ أنها تبقى محلّلة لهم فلم يمنعها اللّه عليهم، ولم يعاملهم بما عامل بني إسرائيل حيث حرّمعليهم طيبات أحلت لهم ببغيهم؛ وذلك لسعة رحمته بحيث أبقاها محلَّلة عليهم، ولكن حينما يحين أجلهم وينقطع عملهم سيجزون بافتراءاتهم.

ص: 338

الآيات 148-150

اشارة

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٖ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٖ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ 148 قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ 149 قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ 150}

148- ثم يذكر اللّه تعالى احتجاجاً للمشركين في شركهم وتحريمهم، ويدحضه، فقال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} مُحتجّين: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ} عدمَ شركنا وعدمَ تحريمنا {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا} أشرك {ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٖ} من الأنعام والحرث وغيرها، وحيث لم يمنعنا اللّه فذلك دليل رضاه حسب زعمهم! لكنه كذب عليه تعالى وتكذيب بآياته و{كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} حيث نسبوا أباطيلهم إلى اللّه تعالى فكذّبوا آياته ورسله {حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا} عذابنا، وهذا تهديد للمشركين بأنهم لو استمروا في تكذيبهم سيكون مصيرهم كمصير أولئك في العذاب.

ثم يبيّن اللّه تعالى بأن حجتهم هذه لا تستند على أساس صحيح ف{قُلْ} لهم في دحض حجتهم: {هَلْ} استفهام إنكاري وتعجيزي {عِندَكُم مِّنْ

ص: 339

عِلْمٖ} برهان معلوم {فَتُخْرِجُوهُ} تظهروه وتستدلوا به {لَنَا}؟ لكن ليس لكم علم، بل {إِن} نافية أي لا {تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} بسبب اتّباع الآباءوالاعتياد على الشرك {وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} تكذبون على اللّه تعالى؛ إذ كل نسبة إليه من غير علم كذب عليه.

149- {قُلْ} إنّ ما احتججتم به هو حجة عليكم؛ إذ لو كان اللّه يجبر الناس على الدين لأجبرهم جميعاً لا أن يجبركم وحدكم {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ} الواضحة الواصلة {فَلَوْ شَاءَ} الجبر على دينه {لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ} أنتم ومن خالفكم، وحيث اختلفتم عُلم أن اللّه لم يجبر على دينه أحداً.

150- وحيث علمت أنهم لا علم لهم بما يدّعون فادعُ شهدائهم ليتبيّن بطلان تقليدهم أيضاً ف{قُلْ هَلُمَّ} أحضروا {شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا} من الأنعام والحرث وغيرهما، وحيث لا شاهد لهم على ذلك - لعدم اعتقادهم بالوحي - ثبت بطلان تقليدهم أيضاً، {فَإِن} فرض أنهم جاؤوا بالشهداء و{شَهِدُواْ} زوراً {فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي لا تصدّقهم، والمقصود بيّن بطلان شهادتهم وأن هؤلاء الشهداء كالمشهود لهم في اتّباعهم الظن والخرص، وحيث علمتَ أنه لا علم لهم ولا شهداء حق فاعلم أنهم يتّبعون أهواءهم وينكرون الآيات {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَ} لا تتبع أهواء {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ وَ} هؤلاء {هُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الأصنام وغيرها، أي يجعلون له عِدلاً ومِثلاً.

دحض حجج المشركين

بحوث

الأول: في هذه الآيات دحض لحجة من حجج المشركين حيث زعموا

ص: 340

أن اللّه لو لم يُرد شركهم وتحريمهم لمنعهم عنه قهراً، وحيث لم يمنعهم دلّ ذلك على رضاه، فيبيّن اللّه تعالى...

أولاً: بأن ذلك تكذيب باللّه وآياته وافتراء عليه فهذه الحجة لا تدلّ علىما زعموه، وعاقبة التكذيب هي العذاب.

وثانياً: إن ادّعاهم لا يستند إلى علم بل إلى ظن وكذب.

وثالثاً: إن حجتهم هذه هي عليهم؛ لأن اللّه لو كان يريد الجبر في الدين لأجبر الجميع عليه.

ورابعاً: يبيّن أنهم في عملهم لم يتبّعوا اتّباعاً بالحق فالذين يقلدونهم مثلهم لا علم لهم.

وخامساً: حيث لم يكن شركهم وتحريمهم بمشيئة جبر من اللّه فهي بسبب أهوائهم.

وسادساً: يبيّن سبب اتّباعهم للأهواء وهو أنهم كذبوا بالآيات ولم يؤمنوا بالآخرة ولم يخلصوا للّه تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا...} الآية.

أي يقولون: لو شاء اللّه إيماننا بالتوحيد لتحقَّقت مشيئته ولم نتمكن من الشرك ولا من تحريم ما حرّمناه، حيث زعموا أن اللّه تعالى يجبر الناس على الدين! مع أنه خلقهم مختارين ولم يجبرهم ولا أجاز إكراههم على الدين، وقد تحقق ما شاءه من اختيارهم، وهذا لا ينافي عدم وقوع شيء في سلطانه إلاّ بقضائه وقدره؛ إذ قد مرّ أن مشيئتهم من مقدمات تحقق الشيء

ص: 341

الاختياري، فإذا شاؤوا قدّره اللّه وقضاه، وإن لم يشاؤوا لم يقدّره ولم يقضه، وكلامهم هذا يشبه كلام المجبّرة من منتحلي الإسلام، وردّه ردّ لهم أيضاً.

قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ} أي مشيئة جبر، وهم بذلك استنتجوا رضاه بفعلهملأنه لم يمنعهم.

وقولهم: {وَلَا ءَابَاؤُنَا} كأنه تنزيه منهم لآبائهم وبيان صحة تقليدهم واتّباعهم.

وقوله: {كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي كلامهم كذب واتخذوه وسيلة لتكذيب آيات اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهكذا فَعَل المكذّبون بالرسل، وأن هذه الحجة لا ربط لها بزعمهم.

وقوله: {حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا} أي لم تنفعهم حتى عذّبهم اللّه تعالى، وهذا تهديد للمشركين وبيان أن الحجة الباطلة لا تنفع في دفع عذاب اللّه تعالى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}(1).

وقوله: {هَلْ عِندَكُم...} استفهام إنكاري وتعجيزي، والمقصود دحض حجتهم ببيان أنهم لا يفقهون الحجة ولا يعرفون شيئاً عن معنى مشيئة اللّه تعالى، بل كلامهم عن ظن وكذب.

وقوله: {مِّنْ عِلْمٖ} أي أمر معلوم يصح الاحتجاج به للمدّعى، وقيل: هذا تهكّم بهم.

وقوله: {إِلَّا تَخْرُصُونَ} مرّ أن الخرص هو الكذب، فالمعنى إنّ من يتّبع

ص: 342


1- سورة الشورى، الآية: 16.

الظن في نسبة شيء إلى اللّه تعالى هو كاذب، حتى لو فرض أن رجمه بالغيب أصاب الواقع، وهذا نظير القاضي الذي يحكم بالحق وهو لا يعلم فهو في النار؛ لأن ذلك خلاف الموازين الشرعية في لزوم كون المعتقدوالحكم عن علم.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ}.

كأنّه بيان أن الحجة عليهم لا لهم ولذا جاء بفاء التفريع، أي حيث استدللتم بالمشيئة فاعلموا أنها تدل على الاختيار، والدليل على ذلك اختلاف أديان الناس، حيث إن اللّه لو كان يريد جبر الناس على دينه لأجبرهم جميعاً فاهتدوا إليه.

ويحتمل كونه تفريعاً على اتّباعهم للظن وكذبهم فذلك دليل على أن حجة اللّه بآياته ورسله حق لا مرية فيه ولذا كان ما خالفها ظناً وتخريصاً.

وقوله: {الْبَٰلِغَةُ} الواصلة والواضحة التي توجب العلم، فإن اللّه هو الحق ولا يحتج إلاّ بالحق وبما يؤدي إلى العلم، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) : «الحجة البالغة: وهي التي تبلغ الجاهل فيعلمها على جهله كما يعلمها العالم بعلمه»(1)، وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) : «إن للّه على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول»(2)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «نحن الحجة البالغة على من دون

ص: 343


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 238.
2- الكافي 1: 16.

السماء وفوق الأرض»(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدى أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن كان جاهلاً قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه، فتلكالحجة البالغة»(2).

وقوله: {فَلَوْ شَاءَ} الفاء للتفريع وتفيد التعليل، أي حجته في عدم جبركم هي اختلافكم وعدم اجتماعكم على الهداية، وذلك يدل على عدم مشيئة الجبر في الدين.

الرابع: قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا...} الآية.

بيان أن تقليدهم أيضاً باطل؛ إذ قد لا يكون للإنسان علم لكنه يتّبع ذي علم فيكون معذوراً، أما الجاهل الذي يتّبع جاهلاً مثله فلا عذر له أصلاً.

وقوله: {هَلُمَّ} اسم فعل بمعنى (أحضِر) وهو طلب المجيء بالشيء وقيل: هو مركب من (ها) التنبيه و(لُمّ) ثم حذفت الألف، وهي ممّا يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والتثنية والجمع، ومن العرب من يذكّر ويؤنث ويجمع ويُثنّي.

وقوله: {شُهَدَاءَكُمُ} طالبهم بالعلم فلم يكن عندهم، ثم طالبهم بالشهود ولا شهود لهم إلاّ شهود زور، وشهادتهم - ولو زوراً - تكشف عن زيف ادّعاءهم؛ لأنّ شاهدهم لا علم له أيضاً مثلهم فلو شهد افتضح وتبيّن

ص: 344


1- الكافي 1: 192.
2- أمالي الشيخ الطوسي: 9.

أنه تابع للّهوى.

وقوله: {فَإِن شَهِدُواْ} أي لو فرض أنهم جاؤوا بشهدائهم وشهدوا لهم، وقيل: فإن شهدوا هم بأنفسهم حيث لا شهداء لهم.

وقوله: {فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أراد لازم عدم الشهادة معهم، أي إن شهادتهمباطلة ولا يمكن تصديقها ويلزم دحضها.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ...} الآية.

أي كما لا تشهد لهم لفظاً، كذلك لا تتّبعهم عملاً، وسبب ذلك أنها أهواء وليست حقاً، ثم يبين ثلاثة أسباب لغلبة الهوى عليهم:

1- قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} فمن يرفض الآيات لا بديل له إلاّ اتّباع الهوى.

2- وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ} لأن من لا يحذر مغبّة جرمه لا مانع له عن ارتكابه، فلماذا لا يُعطي لنفسه هواها وهو لا يرى محذوراً في ذلك؟!

3- وقوله: {وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فلا فرق في نظرهم بين إطاعة الرب تعالى وبين إطاعة الشركاء، والأول يخالف هواهم فيختاروا الثاني!

والحاصل أن هذه أسباب ثلاثة لاتّباعهم الهوى في الشرك وتحريم ما أحلّه اللّه سبحانه.

ص: 345

الآيات 151-153

اشارة

{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 151 وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 152 وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 153}

بعد الرد على المشركين في تحريمهم بيّن أصول المحرمات، فقال:

151- {قُلْ تَعَالَوْاْ} احضروا {أَتْلُ} أقرأ {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} {أَلَّا} أن لا {تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا} ولو قليلاً فكل شرك منهي عنه، {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا} أي أن لا تسيؤوا إليهما بل أحسنوا إليهما إحساناً، {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ} فقر وخشيته؛ إذ {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} فرزقكم جميعاً على اللّه تعالى فلا مبرّر للقتل، {وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ} الذنوب المتجاوزة عن الحد في قبحها {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} جُهر بها {وَمَا بَطَنَ} أتي بها في الخفاء، {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} جعل لها حرمة {إِلَّا

ص: 346

بِالْحَقِّ} في قصاص أو حدّ أو دفاع أو جهاد {ذَٰلِكُمْ} المذكورات في هذه الآية {وَصَّىٰكُم بِهِ} عهد إليكم وأمركم به {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لأن العقول تدل على هذه أيضاًفالشرع يذكّر بها.

152- {وَ} من المحرمات: أن {لَا تَقْرَبُواْ} عدم القرب مبالغة في الاجتناب والاحتياط {مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي} بالطريقة التي {هِيَ أَحْسَنُ} الأساليب عبر حفظ الولي ماله واسترباحه والصرف عليه بما فيه مصلحته {حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} يستحكم بالبلوغ والرشد وحينئذٍ سلّموه أمواله ليتصرف هو فيها، {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} لا تنقصوا فيهما ولا تبخسّوا الناس أموالهم {بِالْقِسْطِ} بالعدل، وذلك بالتسوية بلا إفراط ولا تفريط، وكل ذلك تقدرون عليه؛ إذ {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الذي تقدر عليه، {وَإِذَا قُلْتُمْ} في الشهادات والتحاكم وغيرهما {فَاعْدِلُواْ} اشهدوا واحكموا بالعدل {وَلَوْ كَانَ} المقول فيه {ذَا قُرْبَىٰ} فلا تمنعكم قرابته من العدل، {وَبِعَهْدِ اللَّهِ} كالنذر {أَوْفُواْ} فلا تحنثوا، {ذَٰلِكُمْ} المذكورات في هذه الآية {وَصَّىٰكُم} اللّه {بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون؛ لأن الإنسان قد ينسى ما في فطرته فاحتاج إلى التذكير.

153- ومن المحرمات اتّباع المذاهب الباطلة {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي} حال كونه {مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} سيروا عليه {وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} الطرق الأخرى {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} تفرق بينكم وبين سبيله، فتُبعدكم {عَن سَبِيلِهِ} تعالى؛ إذ لا تجتمع السُبل مع سبيله {ذَٰلِكُمْ} المذكور في هذه الآية {وَصَّىٰكُم بِهِ} عهد إليكم وأمركم به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

ص: 347

أصول المحرّمات وأصنافها

بحوث

الأول: يذكر اللّه تعالى في هذه الآيات أصول المحرمات والتي ترجع إليها سائرها، وذلك في سياق أن التحريم بيد اللّه تعالى وحده لا شريك لهولعلّه يصنفها في ثلاثة أصناف:

فمنها: ما يرتبط بحقوق اللّه في عدم الشرك به، وحقوق الوالدين بعدم الإساءة إليهما بل الإحسان إليهما، وحقوق الأولاد بعدم قتلهم خشية الفقر، وحقوق المجتمع بعدم ارتكاب الفواحش كالزنا، وحقوق الناس بعدم قتلهم إلاّ بالحق، ومن ذلك يعلم سبب ذكر القتل مرتين فإن الأول في سياق حق الأولاد والثاني في بيان حق عامة الناس.

ومنها: ما يرتبط بالأمور المالية، ويذكر منها عدم التصرف في مال اليتيم إلاّ بأفضل الصور، وعدم بخس الناس في الكيل والوزن، وعدم شهادة الزور أو الحكم بالباطل وهو غالباً يرتبط بالقضايا المالية، وبلزوم الوفاء بالنذر ونحوه لأنه صار حقاً للّه تعالى، وأيضاً ذكر الحق المالي للّه والأقرباء والأيتام وعموم الناس.

ومنها: ما يرتبط بالدين، وهو وجوب اتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته(عليهم السلام) فإنهم الصراط المستقيم، وأما اتّباع غيرهم فهو انحراف عن الصراط المستقيم.

ثم إنه ختم الوصية في القسم الأول بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وفي الثاني بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، وفي الثالث بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وغير خفي أن العمل بكل واحد منها تعقل وتذكر وتقوى، فذكر كل

ص: 348

واحدة في آية تفنن في العبارة، وقيل: لعلّه خص الأول بالتعقل لأنها أمور يدركها العقل بوضوح وأكدها الشرع، وخص الثاني بالتذكر لأنها أمور يغفل عنها الناس فذكّرهم اللّه بها، وخص الثالث بالتقوى لأن التزامها يؤدي إلى ترك المحرماتوالعمل بالواجبات عامة، واللّه العالم.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا...} الآية.

قوله: {تَعَالَوْاْ} أصل تعالوا من العلو، فالآمر عالٍ ويطلب من المأمور أن يرتفع إليه، ثم استعمل في طلب الحضور مطلقاً.

وقوله: {أَلَّا تُشْرِكُواْ...} بدل عن {مَا حَرَّمَ} و(أن) مفسرة، فالمعنى تعالوا أقرأ عليكم النهي عن الشرك.

وقوله: {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا} كأنّه في مقام النهي عن الإساءة إليهما لكن حيث لا يكفي ذلك بل يجب الإحسان إليهما بدّل صورة النهي إلى الأمر، فالمعنى: لا تسيئوا إلى الوالدين بل وأحسنوا إليهما.

وقوله: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ} وهو الإفلاس من المال والزاد - كما في مجمع البيان(1) - فكانوا يرون أن الوالد مالك لأولاده فيحق له أن يقتلهم خشية الذل بالفقر، فتارة كانوا يقتلون من الفقر، وأخرى من خشيته حتى لو لم يكن فقر، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَٰقٖ}(2).

وقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} بيان أنه تعالى الخالق وأنه الرازق فليس

ص: 349


1- مجمع البيان 4: 272.
2- سورة الإسراء، الآية: 31.

الرزق منكم كي تكون المسؤولية عليكم في عدم الرزق حتى تتخلصوا منها بقتلهم، فالرزق منه تعالى فإن ضيّق عليكم وعليهم فهذا لا شأن لكم فيه، وغير خفي أن كون الرزق على اللّه تعالى لا ينافي وجوب طلبه، كما مرّ.

وقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ} الفاحشة هي كل قبيح متجاوز عن الحدّ، وفي ارتكابها وشيوعها انهيار لأسس المجتمع السليم وخاصة الزنا الذي ينهدم به أساس الأسرة، والنهي عن الاقتراب مبالغة في وجوب الاجتناب عنه وعن مقدماته القريبة والبعيدة؛ لأن «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» كما في الحديث الشريف(1)، ولذا حرم النظر بشهوة والخلوة بالأجنبية ونحو ذلك.

وقوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما ارتكب جهراً، {وَمَا بَطَنَ} ارتكب خفية، وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الآية قال: «ما ظهر منها: نكاح امرأة الأب، وما بطن: الزنا»(2).

وقوله: {الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} أي جعل لها الحرمة والاحترام.

وقوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} وينحصر في القصاص وبعض الحدود وفي الجهاد والدفاع، وما سوى ذلك باطل لم يأذن اللّه به.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ...} الآية.

بيان الصنف الثاني من المحرمات وهي ما ترتبط بالأموال عادة.

ص: 350


1- مجمع البحرين 6: 53.
2- تفسير العياشي 1: 383؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 72.

وقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ} إنما خصه بالذكر مع أنه لا يجوز التصرف في أموال سائر الناس أيضاً؛ لأن اليتيم عادة في معرض أكل أمواله لضعفه وعدم علمه بماله.

وقوله: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بأن يكون في التصرف في ماله مصلحة له، كالإنفاق عليه بالمعروف من ماله، وكحفظ ماله وإنمائه، ولا يحق ذلك إلاّ للولي أو الوصي، وإذا دار الأمر بين حسن وأحسن لزم اختيار الثاني كتجارة بماله تَدُرّ ألفاً وأخرى تدرّ ألفين.

وقوله: {حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} هذا غاية لجواز التصرف بالتي هي أحسن، و(الأشد) من الاشتداد بمعنى القوة أو كمالها، ولا يكون ذلك إلاّ بالبلوغ والرشد بحيث يعرف مصالحه في ماله فحينئذٍ لا يجوز التصرف فيه بل يجب تسليمه إليه.

وقوله: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ...} من مادة الوفاء الذي هو بمعنى عدم النقص في الشيء، وقوله: {بِالْقِسْطِ} تأكيد؛ إذ لا يكون توفية إلاّ بالعدل، أو بمعنى التسوية فلا يجب الزيادة بحيث تتضرروا أنتم، فيكون عدلاً للمتعاملين.

وقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} تأكيد على لزوم التوفية في الكيل والوزن وكذا على لزوم مراعاة الحسنى في مال اليتيم، وذلك ببيان أن مراعاة هذا الحكم مقدور لكم لا حرج ولا عسر فيه.

وقد يكون ذلك تجويزاً للتخمين والخرص حينما لا يمكن الدقة كما في اليتيم الذي يعيش ضمن أسرة ويصرف عليه من ماله، وقد مرّ تفصيله في

ص: 351

سورة النساء(1) حيث يخمّن مقدار مصرفه ويخلط في مصرف الأسرة، وهكذا في بعض المعاملات التي لا يمكن معرفة الوزن بالدقة كخرصالثمر على الشجر فقد أباح اللّه التخمين هنا بالمعروف.

وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ...} نهي عن الجور في الحكم وعن شهادة الزور فإن الظاهر بقرينة السياق وبقرينة قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ} أن المراد من القول هنا هو القول في الحكومة والشهادات وهي غالباً ترتبط بالنزاعات المالية، فلا بد من الحكم بالحق والشهادة بالحق، وأن لا يميل الإنسان إلى قرابته خلافاً للحق. أو هو يشمل كل قول فيكون التحاكم والشهادة مصداقه الأبرز.

وقوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ} الظاهر أيضاً بقرينة السياق أن المراد بالعهد هنا النذر وأمثاله حيث إن متعلقها عادة الأموال، أو العهد أعم والنذر ونحوه مصداق له.

الرابع: قوله تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ...} الآية.

بيان الصنف الثالث من المحرمات وهي اتّباع السُبل المفرّقة عن سبيل اللّه تعالى، ولكن كما في قوله: {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا} وفي {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ} وفي {فَاعْدِلُواْ} ذكر الواجب مع أنها معدودة في عداد ما حرّم اللّه، كذلك هنا قدّم الأمر باتّباع صراطه مع التصريح بحرمة اتّباع السبل المفرّقة؛ كل ذلك لأنه لا يكتفى في هذه الموارد بترك الحرام بل لا بد من ضميمة

ص: 352


1- راجع التفكر في القرآن، سورة النساء: 36 و 50.

الالتزام بالواجب، فلا يكتفى بعدم الإساءة للوالدين بل لا بد من ضمّ الإحسان أيضاً، ولا يكتفى بعدم البخس في الكيل بل لا بد من ضم الوفاء به، ولا يكتفى بعدم قول الزور حتى يضم إليه القول بالعدل، كذلك فياتّباع المنهج لا يكتفى بترك السبل حتى يضم إليه اتّباع الصراط المستقيم.

وقوله: {وَأَنَّ هَٰذَا...} قيل: هو عطف على محلّ {أَلَّا تُشْرِكُواْ} أو على {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} وحينئذٍ يدخل هذا في المتلوّ فالمعنى: قل تعالوا أتل اتّباع الصراط المستقيم، وقيل: هو استيناف بتقدير (واعلم) ونحوه، وقيل: غير ذلك.

قوله: {مُسْتَقِيمًا} حال، فهو الذي لا اعوجاج فيه ويهديكم إلى الحق وإلى الجنة، وأما الصراط المستقيم فقد قال عنه: {صِرَٰطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}(1)، ووضّح المنعم عليهم في قوله: {فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِیِّینَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا}(2)، ولذا ورد في الأحاديث أن هذا الصراط هو صراط الأئمة(عليهم السلام)، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «أتدرى ما يعني ب{صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا}؟ قلت: لا، قال: ولاية عليّ والأوصياء(عليهم السلام)»(3)، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصراط الذي دلّ عليه»(4).

وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} أي التي لا تكون في الصراط المستقيم، وأما السبل التي في الصراط المستقيم فهي منه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا

ص: 353


1- سورة الحمد، الآية: 7.
2- سورة النساء، الآية: 69.
3- البرهان في تفسير القرآن 4: 73؛ عن تفسير العياشي 1: 384.
4- تفسير العياشي 1: 384.

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1)، وقال: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنَا سُبُلَنَا}(2).

ثم اعلم أن هذه المعتقدات والأحكام أمور ضرورية فلذا كانت فيجميع الشرائع ومن لدن آدم (عليه السلام) ، وهي غير قابلة للنسخ، وعن ابن عباس أنه قال: «هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، وهي محرمات على بني آدم كلّهم، وهن أم الكتاب، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار»(3).

ص: 354


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.
2- سورة إبراهيم، الآية: 12.
3- مجمع البيان 4: 280.

الآيات 154-157

{ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ 154 وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 155 أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَٰبُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَٰفِلِينَ 156 أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَٰبُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَٰتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ 157}

154- وهذه الأحكام أوحيت إجمالاً على جميع الأنبياء {ثُمَّ} فصلّها اللّه تعالى في التوراة والقرآن فقد {ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ} التوراة {تَمَامًا} أي لأجل تتميم النعمة {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي على الذين اتّبعوا تلك الأحكام وعملوا بها {وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ} في الأصول والفروع، فكانت مجملة وفصلناها، {وَهُدًى} دلالة على الحق {وَرَحْمَةً} لهم في الدنيا والآخرة {لَّعَلَّهُم} لعلّ الناس {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ} جزائه {يُؤْمِنُونَ} عبر الإيمان به واتّباعه.

155- {وَهَٰذَا} القرآن {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ} كثير وثابت خيره {فَاتَّبِعُوهُ} آمنوا به واعملوا به {وَاتَّقُواْ} مخالفته {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}

ص: 355

برجاء الرحمة، هذا في من يتبع.

156- وأما من يخالفون فإنزال الكتاب قاطع لعذرهم فإنما أنزل عليهمكراهية {أَن تَقُولُواْ} معتذرين عن شرككم {إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَٰبُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} اليهود والنصارى {وَإِن} مخففته من المثقلة، أي وإنّا {كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ} ما يقرؤونه في الكتاب {لَغَٰفِلِينَ} لا نعلم به فلم نتّبعه!

157- {أَوْ تَقُولُواْ} معتذرين عن مخالفتكم الأحكام {لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَٰبُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ} أطوع في العمل لأننا أفضل منهم!

فإن كنتم صادقين في ادعائكم {فَقَدْ جَاءَكُم} القرآن وهو {بَيِّنَةٌ} بيان واضح وحجة بالغة {مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى} يرشدكم إلى الحق {وَرَحْمَةٌ} في دنياكم وآخرتكم.

لكنهم ليسوا بصادقين فقد كذبوا وأعرضوا {فَمَنْ أَظْلَمُ} أكثر ظلماً لنفسه ولغيره {مِمَّن كَذَّبَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} أعرض عنها، ثم يهددّهم اللّه تعالى بالعذاب فقال: {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَٰتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ} العذاب السيّئ الذي يستحقونه {بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} بسبب إعراضهم.

بحوث

الأول: لما ذكر اللّه تعالى جملة من أصول العقائد والأحكام، والتي كانت عامة لجميع الشرائع من لدن آدم (عليه السلام) ولم ينسخ منها شيء بيّن أنها كانت مجملة فأراد تفصيلها، فقد أتمّ اللّه نعمته على المؤمنين المحسنين الذين كانوا يلتزمون بها فكانوا في نعمة الهداية والشريعة الإجمالية، فأتمّ اللّه هدايته وشريعته عليهم بإنزال التوراة مع ما فيها من الهدى والرحمة

ص: 356

أيضاً، ثم أنزل القرآن وفيه الشريعة المباركة التي لا تنسخ، وقد أكّد على تلك الأحكام وفصلّها، فلا بد من اتّباعه لينال الإنسان رحمة اللّه تعالى الخاصة وهي الجنة والرضوان، وبتنزيل القرآن انقطع عذر المشركين فيعدم إيمانهم بأنهم لم يكونوا يفهمون التوراة والإنجيل وأحكامها وأنه لو نزل بلغتهم لكانوا أهدى من اليهود والنصارى، فإن كانوا صادقين في كلامهم فعليهم باتّباع القرآن والعمل به، لكنهم كاذبون ولذا كذّبوا وأعرضوا عنه.

الثاني: قوله تعالى: {ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا...} الآية.

أي حرّم اللّه المذكورات على الناس من قبل موسى (عليه السلام) وكانت أحكاماً عامة، وبعد ذلك أنزل اللّه تعالى التوراة على موسى (عليه السلام) لتفصيلها وتتميمها، ومن ذلك يتبيّن أن {ثُمَّ} هنا للتراخي في الزمان؛ لأنه لفترة طويلة من لدن آدم (عليه السلام) إلى موسى (عليه السلام) كانت هذه الأحكام بهذه الكيفيّة حتى تمّ إنزال التوراة، ثم يبين اللّه تعالى الغرض من ذلك في أربعة أمور:

1- قوله: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي لإتمام النعمة على المؤمنين الذين أحسنوا بالالتزام بهذه الأحكام، فالموصول للجنس، أي على جميع من أحسنوا عبر العمل بهذه الأحكام، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ}(1).

2- وقوله: {وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ} أي لأجل تفصيل كل شيء من

ص: 357


1- سورة محمد، الآية: 17.

الأصول والفروع، فتلك الأحكام كانت مختصرة فجاءت التوراة مفصلّة لها ومكمّلة.

3- وقوله: {وَهُدًى} أي في التوراة هداية للناس إلى الصراط المستقيم.

4- وقوله: {وَرَحْمَةً} لأن فيها سعادتهم في الدنيا، والجنة والرضوان في الآخرة، وذلك من رحمة اللّه عليهم.

وقوله: {لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي إن أثر التمام والتفصيل والهداية والرحمة، هو أن بعض الناس يهتدي إلى الحق، فقوله: {لَّعَلَّهُم} لبيان أن إنزال الكتاب لا يجبرهم على الإيمان ولكنّه يوطّئ السبيل لإيمانهم بحيث لا يبقى عذر في مخالفته، وقد مرّ أن (لعلّ) لا يقصد به المعنى الحقيقي للرجاء فذلك محال على اللّه سبحانه، وإنما هو لبيان محبوبية الشيء، أو إيجاد الرجاء في المخاطب، أو لبيان لطف اللّه ورحمته.

وكأنّ ذكر خصوص الإيمان بلقاء اللّه تعالى لأجل أنه جامع لسائر العقائد، فلا يؤمن بالمعاد إلاّ من آمن باللّه ورسله وكتبه، أو لأن محلّ الكلام هو الالتزام بالمحرمات المذكورة ولا يلتزم بها إلاّ من خاف عذاب اللّه تعالى، وقيل: إن بني إسرائيل كانوا يتثاقلون عن الإيمان بالمعاد لذا أراد اللّه تأكيد ذلك بإنزال التوراة.

الثالث: قوله تعالى: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

لما ذكر اللّه تعالى إنزال التوراة على موسى (عليه السلام) فكأنّه جعله مقدمة لبيان تنزيل القرآن على رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولعلّه لذلك لم يذكر الإنجيل

ص: 358

لأن الغرض حصل بذكر التوراة، أو لأن الإنجيل لم يكن يتضمن كثيراً من الأحكام التفصيلية وإنما أقرّ أحكام التوراة مع نسخ قليل منها، فقد قال عيسى (عليه السلام) {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَعَلَيْكُمْ}(1)، أو لأنه سيذكر الإنجيل في الآيات اللاحقة فاكتفى بذكره هناك!

وقوله: {مُبَارَكٌ} من البركة وهي الخير الثابت والكثير، وقيل: ثبوت الخير بزيادته ونمّوه.

وقوله: {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ} أي اعملوا به وخافوا من مخالفته، فأكّد وجوب الاتّباع بالتحذير من المخالفة وإن كانا متلازمين.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قيل: اتّقوا برجاء الرحمة لأنكم لا تدرون بما توافون في الآخرة، وهذا بيان سبب إنزال الكتاب على الذين يتّقون فإنهم بعملهم به ينالون رحمة اللّه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَٰبُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا...} الآية.

وهذا بيان سبب إنزال الكتاب على الذين لا يتّبعونه، وهو أنه قاطع لعذرهم، ويتمّ الحجة عليهم، فلو كان اللّه يأمرهم باتّباع التوراة والإنجيل لكانوا يعتذرون بأنهم لا يعرفون لغتهما ولا يفهمون أحكامهما، وهذا وإن لم يكن عذراً حقيقياً؛ إذ يجب على الناس اتّباع الكتاب حتى لو لم ينزل بلغتهم بل عليهم أن يتعلّموا لغته وأحكامه أو يوسّطوا من يعرف اللغة

ص: 359


1- سورة آل عمران، الآية: 50.

ليترجم لهم الأحكام، لكنه مع ذلك أراد اللّه تعالى إتمام الحجة عليهم.

وقوله: {أَن تَقُولُواْ} بتقدير كراهية، أي لأنا كرهنا احتجاجكم بهذا فأردنا إتمام الحجة، وعليه فلا يقال لماذا أنزل اللّه الكتاب على من يعلم بأنهم لا يؤمنون؟ فالجواب إتماماً للحجة عليهم، وأيضاً لأن إنزال الكتابعام للجميع ويكفي في فائدته اهتداء البعض به.

وقوله: {طَائِفَتَيْنِ} أي اليهود والنصارى، ولعل عدم ذكر سائر الطوائف التي أنزل الكتاب عليها لأن المشركين لم يكونوا على علم بهم، أو لأن سائر الكتب لم تكن مفصلة كتفصيل التوراة والأنجيل، أو لعدم وجود أتّباع لهم حين نزول القرآن.

وقوله: {عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَٰفِلِينَ} أي عن قراءة الطائفتين للكتاب، وإنما كانوا غافلين لعدم معرفتهم بلغتهم، أو لأن علماءهم ما كانوا يرغبون في دخول العرب في دينهم ولذا حظروا الكتاب عليهم، أو لغير ذلك.

الخامس: قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَٰبُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ...} الآية.

لعلّ الفرق بين هذا العذر والعذر في الآية السابقة، أن ذاك اعتذار عن شركهم بالغفلة عما في الكتاب، وهذا اعتذار عن مخالفتهم للأحكام بأنه كانوا أهدى وأطوع لو أنزل الكتاب عليهم.

ويمكن أن يكونا عذراً واحداً ولكن تمّ بيانه من جهتين تأكيداً على عدم العذر لهم، وهو أن الكتب السابقه لم يفهموها ولم ينزل عليهم كتاب يفهمونه ولذا أشركوا وخالفوا!

ص: 360

وقوله: {أَهْدَىٰ مِنْهُمْ} أي أكثر طاعة واتّباعاً، هذا شأن كل متكبر كذّاب يزعم أنه أفضل من غيره.

وقوله: {فَقَدْ جَاءَكُم...} جواب شرط مقدّر، أي إن كنتم صادقين في اعتذاركم فقد جاءكم القرآن وبيانه واضح أزال الغفلة عنكم وفيه الهدىوالرحمة وقد زعمتم أنكم أهدى وبذلك بطل الاعتذاران، فقوله: {بَيِّنَةٌ} إبطال للاعتذار بأنه {كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَٰفِلِينَ}، وقوله: {وَهُدًى} إبطال للاعتذار بأنه {لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ}، ولعل إضافة {وَرَحْمَةٌ} لأجل أنه لما ذكر التوراة وصفها بالرحمة فأراد أن لا يكون وصف القرآن بأقل منها، أو لأنهم لما اعتذروا بقولهم {لَكُنَّا أَهْدَىٰ} تمّ بيان أن القرآن فيه هداية وزيادة هي الرحمة.

وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ...} بيان عدم صدقهم في اعتذارهم أي بعد إزالة عذرهم وإتمام الحجة عليهم بقوا على شركهم ومعصيتهم فكذبوا بالآيات وأعرضوا عنها.

وقوله: {كَذَّبَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} الصدف بمعنى الإعراض، وحيث إن التكذيب يلازم الإعراض فقد قيل: إن المراد بالصدف عنها هو الصدّ عنها، ويمكن أن يكون التكذيب في أصول الدين والإعراض عن العمل بالأحكام.

ص: 361

الآيات 158-160

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَٰنِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ 158 إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ 159 مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ 160}

158- كيف هؤلاء لا يؤمنون بعد أن رأوا الآيات ف{هَلْ} استفهام إنكاري {يَنظُرُونَ} أي ينتظرون لكي يؤمنوا {إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ} وهذا لا يمكن في حال التكليف، فإذا رأوا الملائكة حين الموت فقد ارتفع التكليف {أَوْ} ينتظرون أن {يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي يأتي أمره في يوم القيامة {أَوْ} ينتظرون أن {يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ} أي العذاب في دار الدنيا، لكن {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ} تلك النفس {ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ} وذلك لأن العذاب لا ينزل إلاّ بعد تمام الحجة ومخالفتهم، وعند ذاك قد انتهى وقت الاختبار وجاء وقت الجزاء {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَٰنِهَا خَيْرًا} أي أطاعت في إيمانها، وإلاّ فمجرد إظهار الإيمان من غير إقرار قلبي به يكون من النفاق، ومن المعلوم أن الإطاعة في

ص: 362

أصول الدين ومنها الإقرار بالأئمة(عليهم السلام) هو الخير الذي يكسبه الإنسان في إيمانه، {قُلِ انتَظِرُواْ} وهذا تهكّم بهم كأنّه قال انتظروا العذاب {إِنَّا مُنتَظِرُونَ}وحينذاك تكون النجاة لنا والهلاك لكم.

159- وليس على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حسابهم؛ إذ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} أي كان الباطل دينهم لأن الباطل يفرّق عكس الحق الذي يجمع {وَكَانُواْ شِيَعًا} جماعات مختلفة يتبعون سُبُل الباطل عكس أصحاب الحق فإنهم جماعة واحدة في الصراط المستقيم، هؤلاء {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} لا ترتبط بهم ولا تُسأل عن أعمالهم فقد أدّيت رسالتك وبلّغت بأحسن وجه وليس حسابهم عليك، {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ} بالحساب والجزاء {إِلَى اللَّهِ}، فيرجعون إليه {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} مقدمة لجزائهم عليه.

160- والقاعدة العامة في الجزاء أن العقاب بمثل العمل، والثواب بالتضاعف ف{مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} وهو الإيمان والعمل الصالح {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وكله فضل من اللّه تعالى وقد يزيده اللّه {وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} الشرك أو المعصية {فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا} وذلك لعدل اللّه سبحانه، وقد يتفضل اللّه عليه بالعفو {وَهُمْ} المحسن والمسيء {لَا يُظْلَمُونَ} فلا ينقص المحسن عمّا وعده اللّه عليه، ولا يزيد المسيء عن المِثل.

بحوث

الأول: يحثّهم اللّه تعالى على الإيمان قبل فوات الأوان؛ لأن الإيمان حين حلول الموت أو حين نزول العذاب لا ينفع، ومن ثمّ يبين اللّه تعالى أن حسابهم وجزائهم عليه لا على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأن اللّه لا يظلمهم بل إن

ص: 363

عاقب فيعاقب بمثل الجريمة، ثم في الآيات اللاحقة يبيّن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دينه وطريقته وسيأتي تباعاً.

الثاني: قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ...} الآية.

(النظر) طلب إدراك الشيئ سواء بالبصر أم بالفكر أم بالصبر، والمعنى هل ينتظرون أحد الأمور الثلاثة حتى يؤمنوا:

1- قوله: {أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ} كأنّ المراد رسل اللّه لقبض الروح، فالمعنى هل ينتظرون الموت كي يؤمنوا، وحينذاك لا ينفع الإيمان، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ}(1).

2- وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي يأتي اللّه بأمره، وكأنّ المراد لقاء اللّه في يوم القيامة، وهو تعبير مجازي لأنه تعالى يحاسبهم ويخاطبهم وهناك يبطل كل ملك سوى ملكه فكأنّه أتاهم وكأنّهم التقوا به، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}(2).

3- وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ} كأنّ المراد العذاب الدنيوي، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في معنى الآية قال: «هل ينتظر المنافقون والمشركون {إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ} فيُعاينونهم {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ} يعني بذلك أمر ربك، والآيات هي العذاب في دار

ص: 364


1- سورة النساء، الآية: 18.
2- سورة النحل، الآية: 33.

الدنيا كما عذّب الأمم السالفة والقرون الخالية»(1).

وقيل: المعنى إنهم ينتظرون أحد الثلاثة، ولكن يستحيل الأولان ولا ينفع الثالث، فمعنى أن تأتيهم الملائكة أن يوحى إليهم كما أوحي إلى رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذا محال في الحكمة؛ لعدم قابليتهم لذلك، ومعنى أن يأتيهم اللّه أنهم كانوا ينتظرون أن يروا اللّه بنفسه فيخبرهم بأنه أرسل الرسول والكتاب، وهذا أيضاً محال لأن اللّه تعالى أجلّ من أن يرى لأنه ليس بجسم ولا له صفات الجسم من إمكان الرؤية والحركة فهو منزه عن ذلك، فلم يبق لهم إلاّ أن تأتيهم بعض آيات الرب تعالى بالموت أو العذاب وحينئذٍ لا ينفع الإيمان ولا العمل الصالح؛ إذ حينذاك يرتفع التكليف ولا تقبل التوبة.

الثالث: قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا...} الآية.

تهديد لهم بأن لا ينتظروا نزول العذاب ليؤمنوا؛ إذ لا ينفع الإيمان حينئذاك، وهذا حث لهم على الإيمان قبله وأن لا يطالبوا بنزول العذاب ليؤمنوا فذلك ضارّ لهم، وهذا العذاب قد يكون حين ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وكذا حين خروج دابة الأرض كما في الروايات(2).

وقوله: {لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا...} لأنه حين الجزاء يرتفع التكليف، كالمجرم في المحكمة لا ينفعه ندمه، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَٰنُهُمْ لَمَّا

ص: 365


1- الاحتجاج 1: 250.
2- راجع الروايات في تفسير الصافي 3: 130؛ والبرهان في تفسير القرآن 4: 76-79.

رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَٰفِرُونَ}(1).

قوله: {لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ} أي قبل إتيان بعض آيات الرب تعالى، وتأويله بالميثاق في عالم الذر كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) (2)، والمعنى أن من آمن في عالم الذر باختياره فإنه سيختار الإيمان في هذه الدنيا أيضاً، ومن اختار الكفر هنالك يختاره هنا أيضاً؛ إذ المتمرد المعاند عن الطاعة بسوء اختياره يسقط في كل الامتحانات، والمطيع بحسن اختياره ينجح في كلّها، وهذا نظير المدرسة التي فيها طلاب كسالى وطلاب مُجدّون، وكلّما جاء امتحان من بداية السنة سقط الكسالى فيه ونجح المجدّون، حتى إذا جاء امتحان آخر السنة يسقط الكسالى نهائياً، وينجح المُجدّون قطعياً.

وقوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَٰنِهَا خَيْرًا} أي آمنت باللّه لكن لم تكسب في إيمانها خيراً، كمن لا يقرّ بأصل من أصول الدين كمن ينكر نبوة الأنبياء أو إمامة الأئمة مع إيمانه باللّه، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : في الآية قال: «الإقرار بالأنبياء والأوصياء وأمير المؤمنين خاصة»، قال: «لا ينفعها إيمانها لأنها سلبت»(3)، يعني أن من آمن باللّه تعالى من غير إقرار بالأنبياء والأوصياء لا يكون إيمانه مستقراً بل معاراً، والعارية تسلب.

وكذلك من يرتكب السيئة حتى تحيط به قال تعالى: {بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَٰطَتْ بِهِ خَطِئَتُهُ فَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(4)، وعن

ص: 366


1- سورة غافر، الآية: 84-85.
2- راجع الكافي 1: 355؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 76.
3- الكافي 1: 428.
4- سورة البقرة، الآية: 81.

أحدهما (عليهما السلام) أنه قال في الآية: «المؤمن العاصي حالت بينه وبين إيمانه كثرةذنوبه وقلة حسناته فلم يكسب في إيمانه خيراً»(1)، والظاهر أن المراد هو الذي تكثر سيئاته بحيث تؤدي به إلى الكفر قبل موته، فإن العاصي الذي يموت مؤمناً لا بد من نجاته بفضل اللّه تعالى حتى إذا لبث في جهنم أحقاباً، قال سبحانه: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ}(2)، وقال: {كَمَثَلِ الشَّيْطَٰنِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَٰنِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ}(3).

ويحتمل أن يكون المقصود عدم النفع في رفع العذاب، وهذا لا ينافي النجاة بعد استكمال عقابه.

وقوله: {انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أمرهم بالانتظار تهديد لهم، وأما انتظار المؤمنين فلأنّهم يشتاقون إلى رؤية تحقق مواعيد اللّه تعالى ونصر اللّه لهم، قال تعالى: {حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}(4) قالوه اشتياقاً إليه.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ...} الآية.

الدين الحق مجتمع بعضه يكّمل بعضاً قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(5)، ولكن الدين الباطل متفرق بعضه يناقض بعضاً قال تعالى:

ص: 367


1- بحار الأنوار 64: 32.
2- سورة الروم، الآية: 10.
3- سورة الحشر، الآية: 16.
4- سورة البقرة، الآية: 214.
5- سورة المائدة، الآية: 3.

{وَلَاتُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}(1)، أو {فَرَّقُواْ} بمعنى فارقوا، ولعل هذا هو المراد في ما روي أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان يقرأها فارقوا دينهم(2)، أي كان يفسّرها بذلك.

وقوله: {وَكَانُواْ شِيَعًا} لأنّ السبل التي تفرّق عن سبيل اللّه متعددة ولذلك من فارق الصراط المستقيم صاروا فِرقاً مختلفة، وأما الذين هم على الصراط المستقيم فهم شيعة علي (عليه السلام) وليسوا من الشيع.

وقوله: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أي لا ربط لك بهم سوى التبليغ، أما سائر الأمور فليست من شأنك، فالمعنى لستَ يا رسول اللّه من جهتهم ومن قبلهم في شيء من حساب وعذاب أو غيرهما.

وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} الأمر بمعنى الشأن، أي أمورهم مرتبطة باللّه تعالى ولذا هو الذي يأمر بمحاسبتهم.

وقوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم...} عطف على مقدّر، أي لما كان أمرهم إلى اللّه فإليه يرجعون فينبؤهم نبأ من يريد الجزاء.

الخامس: قوله تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ...} الآية.

أي وحيث كان أمرهم إلى اللّه تعالى فاللّه لا يظلمهم؛ لأن سنّته العامة هي التعامل مع المحسن بالفضل ولذا يضاعف جزاء عمله عشرة أضعاف على أقل تقدير، وأمّا المسيء فجزاؤه مثل عمله، وقد دلت الآيات الأخرى أن

ص: 368


1- سورة الكهف، الآية: 28.
2- راجع تفسير العياشي 1: 385.

اللّه قد يزيد من فضله على المحسن فيضاعف عمله إلى سبعمائة ضعف ويزيد لمن يشاء، وقد يتفضّل على المسيء بالعفو عنه.

ثم قد مرّ أن أصل الثواب تفضّل لا عن استحقاق، وإنّما صار حقاً لأن اللّه وعد به، فالمِثل والعشرة أضعاف والسبعمائة ضِعف والزيادة كلّها تفضّل منه تعالى.

وقوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} في أصل العقاب وفي مقداره، فأصل عقابهم لاستحقاقهم، ومقداره المِثل لا أكثر، وهذا لا ينافي العفو؛ لأن العفو عن الخاطئ ليس ظلماً بل هو فضل.

ص: 369

الآيات 161-165

اشارة

{قُلْ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 161 قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ 162 لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ 163 قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٖ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 164 وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ 165}

161- ثم في ختام السورة يلخص اللّه تعالى ما فيها ف{قُلْ} يا رسول اللّه: {إِنَّنِي} في أصول الدين {هَدَىٰنِي} أرشدني بالوحي {رَبِّي إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}، ثم وضّح ذلك الصراط بقوله: {دِينًا قِيَمًا} مخفف (قيام)، أي يقوم بمصالح العباد {مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ} طريقته حال كونه {حَنِيفًا} مائلاً عن الشرك ليس فيه عبادة الأوثان {وَمَا كَانَ} إبراهيم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فقد كان (عليه السلام) عاملاً بملّته.

162- {قُلْ} إني عامل في الفروع بهذا الدين خالصاً للّه ف{إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} جمع نسيكة وهي الذبيحة {وَمَحْيَايَ} كيفية عملي طيلة حياتي {وَمَمَاتِي} أي الطريقة التي أموت عليها وهذا بمعنى استمرار ما كان عليه

ص: 370

في حياته إلى حين موته {لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ} خالصة له.

163- {لَا شَرِيكَ لَهُ} لا في صلاة ولا في قربان ولا في الحياة ولا فيالممات {وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ} أمرني اللّه تعالى به {وَأَنَا۠ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} في العقيدة والعمل، فأول هذه الأمة في الدنيا، وأول جميع البشر في عالم الذر.

164- {قُلْ} محتجاً عليهم بتلخيص كل الحجج {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي} استفهام إنكاري، أي لا أطلب {رَبًّا وَ} الحال أنه تعالى {هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٖ} فالشركاء المزعومون مخلوقات له فكيف صاروا أرباباً؟!

{وَ} أيضاً حجة أخرى هي أن الحساب على اللّه لا على الشركاء المزعومين ف{لَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من طاعة أو معصية {إِلَّا عَلَيْهَا} فعقاب معصيتها عليها لا على غيرها وثواب طاعتها لها لا لغيرها فهي التي تحمل عملها، {وَلَا تَزِرُ} لا تحمل {وَازِرَةٌ} حاملة {وِزْرَ} إثم نفس {أُخْرَىٰ} فلا تحمل عملها نفس أخرى {ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم} إلى حسابه وجزائه {مَّرْجِعُكُمْ} رجوعكم في يوم القيامة {فَيُنَبِّئُكُم} يخبركم مقدمةً لجزائكم {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فيميّز الحق عن الباطل.

165- {وَ} أيضاً حجة أخرى: أن اللّه {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ} يخلف بعضكم بعضاً كلما مضت جماعة جاء بأخرى مكانها، أو جعلكم بدلاً عن النسناس، فهل لشركائكم صنع في ذلك؟! {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ} في العقل والجسم والمنزلة والرزق وكل شيء {فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ} ولذا اختار الأنبياء منكم ولم يجعلكم كلكم أنبياء، وإنّما أخلفكم

ص: 371

{لِّيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ} منها.

وحيث علمتم بهذه الحجج فلا تغرنكم الحياة الدنيا ف{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} لمن كفر {وَ} لكن فتح أمامهم باب التوبة ف{إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ}لمن شكر، فلا تفوّتوا الفرصة ولا تسوّفوا.

تلخيص ما في السورة المباركة

بحوث

الأول: في ختام السورة يلخّص اللّه الحجج التي وردت في هذه السورة:

فأولاً: يذكر أن هداية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّما هي من اللّه تعالى؛ لأنها الطريق المستقيم ولأنها ملّة إبراهيم (عليه السلام) .

وثانياً: يذكر أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عامل بما يقول وذلك دليل صدقه؛ لأن أصحاب المناهج الباطلة لا يلتزمون بما يقولون.

وثالثاً: بيان الحجج وهي ترتبط بالمبدأ والمعاد والحياة في الدنيا.

ورابعاً: بيان أن اللّه يمهل للاختبار ولفترة قصيرة وقد فتح باب التوبة لهم فلينتهزوا الفرصة.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ...} الآية.

هذا يرتبط بأصول الدين، فاللّه تعالى قد أوحى إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فالهداية منه سبحانه، وهذا لدحض زعمهم بأن ما جاء به الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(1)، ثم ذكر أنه الصراط المستقيم، واستدل لذلك بأمرين هما:

ص: 372


1- سورة الفرقان، الآية: 5.

1- قوله: {دِينًا قِيَمًا} حيث إن من تأمل في الإسلام أصولاً وفروعاً علم أنه الحق؛ وذلك لعدم الاعوجاج والانحراف فيه، بل كل ما فيه إنما هو مطابق للواقع وفيه الحكمة، و{دِينًا} بدل أو عطف بيان عن محل {صِرَٰطٖمُّسْتَقِيمٖ}، و{قِيَمًا} مخفف قياماً وهو مصدر والمراد قائماً ومستقيماً، لكن الوصف بالمصدر يفيد المبالغة والتأكيد.

2- وقوله: {مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ} أي طريقته التي كان عليها، حيث إن المشركين كانوا يقبلون إبراهيم (عليه السلام) ويفتخرون بأنهم من نسله، وقوله: {حَنِيفًا} أي حال كون إبراهيم مائلاً عن الباطل إلى الحق، ثم أكّده بقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فهي ملّته وقد عمل بها فما بالكم تركتموها إلى الشرك.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}.

بيان أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عامل بما يقول في كل شيء، فصلاته للّه لا كالمشركين الذين يعبدون الأصنام، وقربانه للّه وليس مثلهم في ذبحهم للنصب وذكر أسماء أصنامهم على ذبائحهم، بل كل شيء في حياته ومماته طاعة للّه تعالى.

وقوله: {صَلَاتِي} خصّها من بين العبادات بالذكر لأنها أهم العبادات، ولأن المشركين كانوا يصلّون للأصنام ويسجدون لها فقابلهم بذلك.

وقوله: {وَنُسُكِي} جمع نسيكة، أي الذبائح والقرابين، خصّه بالذكر من بين الأعمال غير العبادية لمعارضة ذبح المشركين على الأنصاب وذكرهم

ص: 373

أسمائها عند الذبح.

وقوله: {وَمَحْيَايَ...} مصدر، أي كيفية حياتي في الفكر والعمل منطبقة مع الموازين الشرعية التي أمر اللّه بها، فتدخل الأعمال المباحة أيضاً كشربالماء فإن المباح هو ما أباحه اللّه تعالى.

وقوله: {وَمَمَاتِي} كذلك مصدر، ويراد به استمرار العمل بالمنهج الذي أمر به اللّه تعالى إلى حين الموت، كما قال: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(1)، أو يراد به العمل الذي يوجب الموت كالجهاد فإنه لا يكون مني إلاّ بإذن اللّه تعالى عكس المشركين الذين كانوا يقاتلون للغنائم ويقتلون أولادهم للأصنام أو من الفقر.

الرابع: قوله تعالى: {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.

وقوله: {لَا شَرِيكَ لَهُ} أي لا أشرك الأصنام في هذه الأعمال بل هي خالصة للّه تعالى.

وقوله: {وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ} أي أمرني اللّه بهذه الأمور فلا محيص لي عنها، وكأنّ هذا ردّ لزعم من زعم أن بعض الأعمال حسنة لكن لا ملزم للإنسان في فعلها، أو إن اللّه لا يأمر بشيء بل أوكل كل شيء إلى الإنسان، كمن زعم بأن اللّه أجلّ من أن يأمر العباد وينهاهم! فيقال لهم: إن اللّه لم يجبر أحداً تكويناً لكن أصدر أوامر إلزامية وأوعد من خالفها وأن اللّه جليل ومن جلاله أن أمر عباده ونهاهم فإن الجليل يلطف بالعباد ولا يتركهم سدىً، بل إنّ خلقهم من دون تكليف عبث واللّه تعالى أجلّ من ذلك.

ص: 374


1- سورة البقرة، الآية: 132.

وقوله: {وَأَنَا۠ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} أما في هذه الأمة فكونه أولاً واضح فاللّه أنزل الإسلام - عقيدة وعملاً - وهو عام للجميع فكل الأحكام تجري على الجميع إلاّ في ما استثني لمصلحة عامة أو خاصة كجواز إفطار المريضوكعدم حصر الزوجات بأربع للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعليه فكان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أول من يعتقد ويعمل ولذا جعله اللّه تعالى أسوة للناس.

وأما في الأمم السالفة فإنّ كون رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أول المسلمين باعتبار المنزلة حيث إن الأنبياء(عليهم السلام) من نوح وإبراهيم وغيرهما كانوا مسلمين كما نصّ عليه القرآن إلاّ أن أرفعهم منزلة هو رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأيضاً باعتبار عالم الذر فإنه أول من أجاب اللّه تعالى فعنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «إني كنت أوّل من آمن بربي وأوّل من أجاب حين {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ النَّبِیِّینَ}(1)،

{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ}(2) فكنت أوّل نبيّ قال بلى، فسبقتهم بالإقرار باللّه»(3).

الخامس: قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٖ...} الآية.

كأنّ هذه الآية والآية التي بعدها تلخيص لكل الحجج والبراهين التي أقامها اللّه تعالى في هذه السورة على دحض الشرك، وهو أن المبدأ منه والمرجع إليه وحياة الإنسان بينهما أيضاً منه، فما الذي جعل الأصنام شركاء ولا شيء من هذه يرتبط بها؟!

فقوله تعالى: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٖ} دليل على توحيده وأن لا شريك له

ص: 375


1- سورة آل عمران، الآية: 81.
2- سورة الأعراف، الآية: 172.
3- الكافي 1: 441.

سبحانه وتعالى، فكل الأرباب المتفرقين مخلوقات له، ولا شركة بين الخالق والمخلوق.

وقوله: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ...} بيان أن المعاد إليه وهو يجازي كل إنسان بعمله، وغير خفي أن الآية بينت أمراً واحداً ولكن من جهتين، فالإنسان يحمل أعماله وهو مسؤول عنها، ولا يحمل أعمال غيره وهو ليس مسؤولاً عنها ولا يحاسب عليها، فقوله: {وَلَا تَكْسِبُ...} بيان حمل الإنسان لأعماله، وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ...} بيان عدم حمل الإنسان لأعمال غيره قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(1).

وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} الوزر: الثقل، ويطلق على الذنب باعتبار ثقله على كاهل المذنب، فالمعنى لا تحمل نفسٌ حاملة إثمَ نفس ٍ أخرى، قال تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}(2).

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي يميّز الحق عن الباطل بحيث يظهر كل شيء للناس عياناً، فينصر اللّه المحق، ويتبيّن للمبطل ضلال ما كان فيه.

السادس: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ...} الآية.

بيان أن حياة الإنسان في هذه النشأة - كما قبلها وما بعدها - ترتبط باللّه سبحانه وتعالى لا بالأصنام فما الذي جعلها شركاء؟!

ص: 376


1- سورة المدثر، الآية: 38.
2- سورة الأنعام، الآية: 31.

وقوله: {خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ} جمع خليفة، أي خلائف في الأرض تخلفون من كان قبلكم - سواء من الموجودات الأخرى كالنسناس أم من أسلافكم الذين كانوا في قرن ثم انقرضوا - فأخلفكم بدلاً عنهم ثم ينقرض قرنكم ويأتي غيركم في موضعكم.

وقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ...} كأنّ المقصود أنه رفع الأنبياء لذا أوحى إليهم ولم يوح ِ إليكم، مع أن الآية تشمل جميع أنواع التفاوت قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}(1).

وقوله: {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ} كأنّه علة لجعل الناس خلائف الأرض كما قال: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰئِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(2)، كما يصحّ أن يكون علة لرفع بعضهم على بعض حيث إن اللّه يختبر القوي بالضعيف والغني بالفقير والعالم بالجاهل وبالعكس كما يختبر سائر الناس.

وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} بيان أن الاختبار لفترة محدودة تنقضي بسرعة ويأتيهم العقاب سريعاً، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ}(3).

وقوله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ} كأنّ هذا لفسح باب التوبة لهم ولذا قيل: لم يقابل سرعة العقاب بالثواب وإنما قابله بالمغفرة والرحمة.

ص: 377


1- سورة الزخرف، الآية: 32.
2- سورة يونس، الآية: 14.
3- سورة يونس، الآية: 45.

خاتمة

عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «نزلت سورة الأنعام جملة واحدة وشيّعهاسبعون ألف ملك، لهم زَجَل بالتسبيح والتهليل والتكبير، فمن قرأها سبّحوا له إلى يوم القيامة»(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إن سورة الأنعام نزلت جملة، شيّعها سبعون ألف ملك، حتى أنزلت على محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فعظِّموها وبجّلوها، فإن اسم اللّه عزّ وجلّ فيها في سبعين موضعاً، ولو يعلم الناس ما في قرائتها ما تركوها»(2).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

1 / شوال / 1440

ص: 378


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 522 عن تفسير القمي 1: 193.
2- الكافي 2: 622.

الفهرس

الإطار العام للسورة... 5

الآيات 1-3... 7

بيان عظيم نعمة اللّه تعالى... 8

الفرق بين الأجل والأجل المسمى... 12

الآيات 4-6... 16

الآيات 7-10... 23

سبب عدم الاستجابة لاقتراح المشركين... 25

الآيات 11-13... 31

بين الرحمة والحكمة... 34

الآيات 14-18... 38

احتجاجات في العقائد... 39

الآيات 19-24... 46

برهان النبوة... 48

معنى شهادة اللّه تعالى... 49

من جهات القرآن الكريم... 50

الآيات 25-28... 59

ص: 379

سبب عدم الانتفاع بالآيات... 61

الآيات 29-32... 67

دحض إنكارهم للمعاد... 68

الآيات 33-36... 75

الحزن على الكفار... 77

معنى تبديل الآيات... 81

بين الإرادة التكوينية والتشريعية... 84

الآيات 37-41... 87

دحض حجج المشركين... 89

بعث الحيوانات بعد موتها... 92

الآيات 42-45... 97

مصير الأمم المكذبة... 98

الآيات 46-49... 105

الاستدلال على عدم الشركاء بعجزهم... 106

الآيات 50-55... 111

دحض حجج المشركين لإنكار النبوة... 114

ردّ طلب المشركين بطرد الضعفاء... 118

معنى عدم محاسبة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للناس... 120

الآيات 56-59... 126

فرق الغيب عن الشهود... 133

الآيات 60-62... 136

ص: 380

عدم الاستعجال في عذابهم... 137

الآيات 63-65... 142

من أدلة التوحيد الفطرة... 143

الآيات 66-70... 149

الآيات 71-73... 159

برهان للتوحيد عبر بيان عجز الشركاء... 161

الآيات 74-79... 167

من أدلة إبطال الشركاء... 169

نسبة إبراهيم (عليه السلام) إلى آذر... 170

الآيات 80-83... 179

طريقة استدلال إبراهيم (عليه السلام) على قومه... 181

معنى للمؤمنين الأمن... 186

الآيات 84-90... 189

أصناف الأنبياء(عليهم السلام) من ذرية إبراهيم (عليه السلام) ... 192

من أوصاف الأنبياء(عليهم السلام)... 196

معنى اقتداء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهدى الأنبياء(عليهم السلام)... 201

الأئمة(عليهم السلام) أبناء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 202

الآيتان 91-92... 204

ترك المعاند بعد إلقاء الحجة عليه... 210

الآيتان 93-94... 215

من مصاديق الأظلم... 217

ص: 381

الآيات 95-99... 222

من دلائل التوحيد تدبير أمور الخلق... 224

معنى المستقر والمستودع... 229

الآيات 100-104... 233

من دلائل التوحيد أصل الخلقة... 235

هل أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى؟... 239

نفي الجبر... 239

التوافي لا ينافي قانون العليّة... 240

استحالة رؤية اللّه في الآخرة... 241

الآيات 105-108... 243

الموقف من المشركين حين عنادهم... 246

معنى عدم سبّ الذين يدعون من دون اللّه... 249

سبب النهي عن السبّ... 250

الآيات 109-113... 253

المعاند لا تنفعه الآيات... 259

الآيات 114-117... 263

من يصلح ليكون حَكَماً بين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمشركين... 264

كيف تمكن المحرِّفون من تحريف الكتب السماوية والعقائد والشرائع؟... 267

الآيات 118-121... 271

تأثير الشرك في خبث المأكولات... 272

أسباب مخالفة أحكام اللّه تعالى... 275

ص: 382

الآيات 122-124... 279

الآيات 125-127... 285

الآيات 128-130... 292

عاقبة الضالين والمضلّين... 294

هل هناك أنبياء من الجن؟... 299

الآيات 131-135... 301

أسباب الظلم... 306

الآيتان 136-137... 310

تأثير عقيدة الشرك في الأعمال... 311

الآيات 138-140... 316

أنواع من إفتراءات المشركين... 318

الآيات 141-144... 322

حلية الأنعام من غير جعل نصيب للشركاء... 324

حق الحصاد... 326

الآيات 145-147... 333

عدم جواز نسبة الأحكام إلى اللّه تعالى من غير علم... 334

سبب تحريم بعض الطيبات على اليهود... 336

الآيات 148-150... 339

دحض حجج المشركين... 340

الآيات 151-153... 346

أصول المحرّمات وأصنافها... 348

ص: 383

الآيات 154-157... 356

الآيات 158-160... 362

الآيات 161-165... 370

تلخيص ما في السورة المباركة... 372

الفهرس... 379

ص: 384

التفكر فی القرآن (سورة الأعراف) المجلد 8

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفكر فی القرآن (سورة الأعراف) المجلد 8 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم، 1443ق = 1400ش.

مواصفات المظهر: 410ص.

فروست: التفكر في القرآن؛8.

شابك: 7-628-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية

محتويات: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع: تفاسير (سوره اعراف)

موضوع: تفاسير شيعه -- قرن 14

موضوع: Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

ترتيب الكونجرس: BP102/26

تصنيف ديوي: 297/ 18

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 8441086

الشجرة الطيبة

التفكر في القرآن (8)

سورة الأعراف

--------------------

السيّد جعفر الحسيني الشيرازي

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الناشر: دار العلم

الطبعة الأولی - 1443ه.ق - 2021 م

عدد النسخ: 1000 نسخة

المطبعة: إحسان

--------------------

شابك: 7-628-204-964-978

--------------------

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

(8)

التفكر في القرآن

سورة الأعراف

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

الإطار العام للسورة

هي سورة تدعو إلى الإيمان ونبذ الشرك، فافتتاحها بهذه الدعوة وبالإنذار بعذاب الدنيا والآخرة وثوابهما (الآيات 2-9)، ثمّ بيان قصّة آدم والشيطان وإغوائه له تحذيراً للناس (الآيات 10-35)، ثمّ الإنذار بالنار وتفاصيل يوم القيامة (الآيات 36-53)، ثمّ التذكير باللّه تعالى ونعمه (الآيات 54-58)، ثمّ بيان قصص الأنبياء وما آل إليه مصير المكذّبين والمؤمنين من أممهم: نوح وقومه (الآيات 59-72)، صالح وثمود (الآيات 73-79)، لوط وقومه (الآيات 80-84)، شعيب ومدين (الآيات 85-93)، ثمّ تلخيص عمل الأمم وتقدير اللّه فيهم (الآيات 94-102)، ثمّ بيان قصة موسى وبني إسرائيل (الآيات 103-176)، وأخيراً خلاصة السورة وخاتمتها (الآيات 177-206).

ص: 5

ص: 6

الآيات 1-9

اشارة

{بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * المص 1 كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ 2 ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ 3 وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَٰتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ 4 فَمَا كَانَ دَعْوَىٰهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ 5 فَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ 6 فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ 7 وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ 8 وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَظْلِمُونَ 9}

1- {بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} الابتداء والاستعانة باسمه تعالى {المص} لعلّ الحروف المقطّعة رمز بين اللّه ورسوله، أو إشارة إلى أنّ القرآن مركّب من الحروف المستعملة ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثله، كما مر.

2- هذا القرآن {كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أنزله اللّه تعالى، وحيث إنّ اللّه حكيم {فَلَا يَكُن} يا رسول اللّه {فِي صَدْرِكَ} قلبك {حَرَجٌ} ضيق {مِّنْهُ} من الكتاب حيث يكذّبك الناس، وإنّما أنزله اللّه تعالى {لِتُنذِرَ بِهِ} العصاة والكفّار {وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} لتذكّرهم به.

3- وحيث علمتم أيّها الناس الغرض من إنزال الكتاب ف{ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} في العقيدة والعمل وبذلك تدخلون في ولاية اللّه تعالى،

ص: 7

{وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} من غير اللّه {أَوْلِيَاءَ} بحيث تطيعونهم في عصياناللّه، {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} أي لكن اتعاظكم قليل، وهذا حث على التذكّر.

4- {وَ} يحذّرهم اللّه تعالى مغبّة اتّباع أولياء من دونه ببيان مصير الأمم السالفة بالعقاب، أمّا في الدنيا: ف{كَم} للتكثير {مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَا} أي أهلكنا أهلها، أو دمّرنا القرية فهلك أهلها معها {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} بعذاب الاستئصال {بَيَٰتًا} أي حال كون أهلها بائتين في استراحتهم الليليّة {أَوْ هُمْ} أهلها {قَائِلُونَ} في استراحة القيلولة وسط النهار، وهذا أشد أنواع العذاب حيث أخذهم في وقت الدعة والاستراحة.

5- {فَمَا كَانَ دَعْوَىٰهُمْ} أي دعاءهم واستغاثتهم {إِذْ} في الوقت الذي {جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا} الاعتراف والتحسّر ب{أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} لأنفسنا بالذنوب وللأنبياء بالتكذيب.

6- وأمّا في الآخرة: {فَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي الأمم التي بعثنا فيهم أنبياء والسؤال عن إجابتهم للرسل، {وَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ} الأنبياء ليشهدوا على أممهم.

7- {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم} ما فعلوه {بِعِلْمٖ} فليس السؤال إلاّ للتقرير وتقريع الكفّار والثناء على الأنبياء وأتباعهم، {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} لأنّ اللّه تعالى محيط بكل شيء علماً، وأيضاً رسله وأوصياؤهم والملائكة الكتبة حاضرون.

8- {وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ} أي ما يوزن به أعمال الخلائق في يوم القيامة هو {ٱلْحَقُّ} لا زيادة ولا نقصان فيه بل يكون بالعدل، وذلك الوزن هو الأنبياء

ص: 8

والأئمة (عليهم السلام) وكل ما قدّره اللّه تعالى، {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ} إمّا جمع ميزانفلكل عمل ميزان خاص، أو جمع موزون أي أعماله الصالحة {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالنجاة والثواب.

9- {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ} لأنّ أعماله الباطلة تصبح هباءً منثوراً لا وزن لها {فَأُوْلَٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} حيث بذلوا أنفسهم - التي هي رأس مالهم - ولم يكتسبوا إلاّ النيران {بِمَا} أي بسبب أنهم {كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَظْلِمُونَ} أي يظلمون الآيات بتكذيبها وعدم العمل بها.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ...} الآية.

هذه الآية بيان ارتباط الكتاب بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث إنّه نزل على قلبه ليكون حلقة الوصل بين اللّه تعالى وبين خلقه عبر الإنذار والتذكير، كما أنّ الآية التالية بيان تكليف الناس.

وقوله: {أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي أنزله اللّه، وحيث إنّ المخاطب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يذكر الذي أنزله - وهو اللّه تعالى - تعظيماً له وللكتاب لعلم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك، لكن في الآية التالية لمّا كان المخاطب الناس صرّح بأنّه من اللّه تعالى دفعاً لتكذيبهم له.

وقوله: {فَلَا يَكُن...} هذا إرشاد للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتثبيت له، وليس فيه دلالة على أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان في حرج منه. نعم، لو لا تثبيت اللّه تعالى له

ص: 9

لكان يشعر بالحرج منه.وقوله: {حَرَجٌ مِّنْهُ} الحرج هو الضيق النفسي، وهذا إنّما ينشأ من ثقل الملقى كما قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}(1)، ومن الآثار المترتبة عليه تكذيب الناس له، فأراد اللّه تعالى تثبيت الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذا الكلام.

وقوله: {لِتُنذِرَ بِهِ} الإنذار هو التخويف من أمر مستقبلي، وهو وإن كان عاماً إلاّ أنّه يراد به عادة إنذار الكفّار والعصاة.

وقوله: {وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} عطف على {لِتُنذِرَ} أي ولتذكير المؤمنين كما قال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ}(2)، والذكرى وإن كانت عامة لأنّها تذكير بالفطرة وبتعاليم الأنبياء السابقين إلاّ أنّ المنتفع بها هو المؤمن كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(3)، وقال: {وَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي ٱلْأَلْبَٰبِ}(4).

الثاني: قوله تعالى: {ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ...} الآية.

بعد بيان وظيفة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعدم الحرج وبالإنذار والتذكير، يأتي بيان وظيفة الناس وهو اتّباع الكتاب الذي أنزل والدخول في ولاية اللّه تعالى، وعدم اتّباع غيره والدخول في ولايتهم.

ص: 10


1- سورة المزمل، الآية: 5.
2- سورة الذاريات، الآية: 55.
3- سورة ق، الآية: 37.
4- سورة ص، الآية: 43.

وقوله: {ٱتَّبِعُواْ} تفصيل للإنذار والذكرى، أي حيث علمتم بذلكفعليكم الاتّباع؛ لأنّ الغرض من الإنذار والذكرى هو الاتّباع، وذلك عبر الاعتقاد بما يلزم الاعتقاد به والعمل بما يلزم العمل به.

وقوله: {مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} لأنّ الغرض من الإنزال هو هدايتكم، فهو قد أنزل إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليكون واسطة في التبليغ، وأنزل إليكم لتهتدوا به.

وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} في الآية اختصار بليغ، أي اتّبعوا ما أنزل إليكم وادخلوا في ولاية اللّه، ولا تتّبعوا غير ما أنزل ولا تدخلوا في ولاية غير اللّه تعالى، فذكر في الأوّل الملزوم - وهو الدخول في ولاية اللّه - ، وفي الثاني اللازم - وهو عدم الدخول في ولاية غيره - ؛ لأنّ الدخول في ولاية أحد يلزمه اتّباعه، أو العكس أي الاتّباع يلزم منه الدخول في الولاية.

وغير خفي أنّ الدخول في ولاية اللّه يلزمه ولاية أوليائه لأنّه تعالى أمر بولايتهم، وهم يدعون إليه وإلى ولايته، و(الأولياء) هنا بمعنى المتبوعين الذين يطيعهم التابع.

وقوله: {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} إخبار يراد به الإنشاء أي الحث على التذكّر؛ وذلك تنبيهاً على أنّ من طبع الإنسان الميل إلى الهوى ونسيان الذكرى، قال تعالى: {لَقَدْ جِئْنَٰكُم بِٱلْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ}(1)، وقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(2)،وقال: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}(3).

ص: 11


1- سورة الزخرف، الآية: 78.
2- سورة العنكبوت، الآية: 63.
3- سورة فصلت، الآية: 4.

الثالث: قوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَٰتًا أَوْ هُمْقَائِلُونَ}.

إنذار بعذاب الدنيا، وبيان أنّه ليس مجرد تهديد بل قد وقع العذاب على من قبلهم فلا يأمنوا أن ينزل بهم إن لم يؤمنوا، و(كم) للتكثير.

وقوله: {مِّن قَرْيَةٍ} أي أهل قرية، وقيل: لا يلزم تقدير الأهل؛ لأنّ إهلاك القرية بتدميرها يلازم إهلاك أهلها.

وقوله: {أَهْلَكْنَٰهَا} أي أردنا إهلاكها؛ إذ قد يستعمل الفعل والمقصود إرادته، وكذا العكس، ويمكن أن يراد من الإهلاك معنى الفعل فيكون عطف {فَجَاءَهَا...} لبيان كيفية الإهلاك وتفسيره.

وقوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا...} البأس هو الشدة في الحرب أو العقاب و(البيات) هو وقت الراحة ليلاً، ويستعمل في أخذ العدو ليلاً كأنّك أخذته في بيته(1)، و{قَائِلُونَ} أي مستريحون في وقت القيلولة وهي منتصف النهار، والمعنى جاءهم بأسنا وقت البيات وهم بائتون أو وقت القيلولة وهم قائلون، فاستعمل في أحدهما الوقت وفي الآخر الداخل في الوقت اختصاراً، و{أَوْ} للتنويع وبيان قدرة اللّه تعالى في الأخذ بالعذاب متى شاء، ولعلّ تخصيص هذين الوقتين لأنّهما وقت الراحة، فيكون الأخذ بالعذاب أشدّ.

الرابع: قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَىٰهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُواْ...} الآية.

أي إنّ العذاب لم يدع لهم مهرباً سوى الاعتراف، لأجل الدهشة التي

ص: 12


1- معجم مقاييس اللغة 1: 325.

أخذتهم، وفي ذلك دليل على أنّهم كانوا معاندين يعلمون الحق ويجحدونه، ولذا ظهر ذلك على لسانهم حين الاضطرار من حيث لا يشعرون، أو هو استغاثة منهم حين لا ينفع الندم ولا التوبة، وفي مجمع البيان: «فيه دلالة على أنّ الاعتراف والتوبة عند معاينة البأس لا ينفع»(1)، أو هو تحسّر منهم على ما فرّطوا فيه.

وقوله: {دَعْوَىٰهُمْ} أي كلامهم إمّا معترفين أو مستغيثين.

وقوله: {إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا} كأنّه تأكيد على أنّ هذا الكلام كان حين لا ينفع الندم، وأمّا لو كان قبل مجيء البأس - حتى وإن لاحت علائمه - فهو ينفع، كما في قوم يونس (عليه السلام) لمّا شاهدوا أمارات العذاب سارعوا إلى التوبة والتضرّع فكشف اللّه تعالى عنهم العذاب عكس سائر الأقوام المعذّبة، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2)، وقال: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {فَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ}.

لمّا هدّدهم بعذاب الدنيا عقّبه بالإنذار بعذاب الآخرة؛ وذلك لأنّ عذاب الدنيا لا يفي بعقابهم، بل هو إمّا جزء من عقابهم أو ليس عقوبة وإنّما تطهير الأرض من لوثهم وتعجيل موتهم بميتة سوءٍ تأخذهم جميعاً، فلا يفي

ص: 13


1- مجمع البيان 4: 310.
2- سورة الأحقاف، الآية: 24.
3- سورة الأنعام، الآية: 43.

بعقوبتهم كل أنواع العذاب في الدنيا، وفي الحديث: «أنّ اللّه عزّ وجلّ لميجعل الدنيا ثواباً لمؤمن ولا عقوبة لكافر»(1)، وفي الآخرة يكون الحساب، وهو يتضمّن مراحل متعدّدة:

مراحل الحساب في الآخرة

فمنها: سؤال الناس عن أعمالهم التي ارتكبوها، فتارة ينكرون ذنوبهم، وتارة يضطرون إلى الإقرار بها.

ومنها: إقامة الشهود عليهم من الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والملائكة وجوارحهم وغير ذلك.

ومنها: إخبار اللّه إيّاهم بأعمالهم.

ومنها: إقامة الميزان وتجسيم أعمالهم، وغير ذلك.

وهذه الأمور تمّ بيانها في هذه الآيات.

وقوله: {فَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي الأمم عن إطاعتهم وامتثالهم لما جاء به الأنبياء (عليهم السلام) من اللّه تعالى؛ وذلك إظهاراً لعدل اللّه سبحانه وأنّهم لا يعاقبون إلاّ بعد فسح المجال لهم للدفاع عن أنفسهم، وبعد إقرارهم باستحقاقهم العقاب، وبذلك يزداد غمّهم وحزنهم، كما تظهر طاعة من أطاع وذلك نوع مثوبة لهم فيزدادون سروراً وبهجة، وغير خفي أنّ الآخرة مراحل: فتارة يُسئلون، وتارة يختم على أفواههم لتشهد عليهم أعضاؤهم، وتارة في جهنّم يهملون فلا يسألهم أحد، قال: {ٱلْيَوْمَ نَنسَىٰكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا}(2).

ص: 14


1- الكافي 2: 259.
2- سورة الجاثية، الآية: 34.

أو يقال: إنّ السؤال المنفي - في بعض الآيات - هو سؤال الاستعلام، وأمّاالسؤال الثابت فهو سؤال التقريع والتبكيت.

وقوله: {وَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ} أي الأنبياء (عليهم السلام) وإنّما يسئلون لأداء الشهادة على أممهم، قال سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ بِشَهِيدٖ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا}(1)، كما أنّ في سؤالهم بياناً لتقصير الكفّار وعنادهم حيث قد بلّغ الأنبياء بأحسن تبليغ لكنّهم عصوهم عن عناد بعد إتمام الحجة عليهم.

السادس: قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}.

وهذا أيضاً من مراحل حسابهم والشهادة عليهم، بأن يخبرهم اللّه تعالى بما فعلوه حيث إنّ علمه تعالى محيط بكل شيء، وقيل: إنّ هذا تتمة للآية السابقة، أي إنّ السؤال لم يكن للاستعلام وإنّما للتقرير أو التقريع! ولكن الأقرب ما ذكرناه وأنّه بيان لمرحلة أخرى من حسابهم.

وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ} القص هو تتبّع الأثر، ومنه القصة لأنّها سرد ما حدث فكأنّ القاصّ تتبّع ما حدث، والمعنى سنخبرهم بما عملوا، وليس الإخبار بالظن أو الاحتمال بل {بِعِلْمٖ} أي حال كوننا عالمين بأحوالهم ونواياهم.

وقوله: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} أي علمنا لم يكن بحدس بل بإحاطة، قال سبحانه: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(2)، وقال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا

ص: 15


1- سورة النساء، الآية: 41.
2- سورة المجادلة، الآية: 7.

يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}(1).

السابع: قوله تعالى: {وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ...} الآية.

بيان لمرحلة أخرى من الحساب وهو وزن الأعمال بميزان العدل حيث إنّ الأعمال الصالحة توجب ثقلاً في الميزان، والأعمال القبيحة توجب خفة فيه.

معنى الوزن في القيامة

ثمّ إنّ في الوزن يوم القيامة كلاماً نشير إليه باختصار:

وهو أنه لا شك في أنّ الوزن والميزان حق، قال سبحانه: {وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ}(2)، ولا كلام في ذلك.

إنّما البحث حول حقيقة هذا الميزان، والظاهر أنّه موازين متعددة:

فمنها: ميزان مادي يوزن به أعمال العباد حيث تتجسم الأعمال، ولا محذور في ذلك، بل قد أثبت العلم التجربي تحول الطاقة إلى مادة وبالعكس، ولو قيل باستحالة تجسّم الأعمال لأنّها أعراض فيستحيل تحولّها إلى جواهر، لأمكن أن يقال: إنّ الأعمال تمثّل بشكل صور وأجرام أو بأيّة طريقة أخرى تناسبها، أمّا الحسنات فلها ثقل وأما السيّئات فلا ثقل لها، وأمّا كيفية الثقل فيمكن أن يكون للميزان كفة واحدة توضع الأعمال كلّها - حسنها وقبيحها - فيه ويتبيّن وزن المجموع، أو يوزن كل عمل بانفراد ثم يجمع المجموع حتى يتبيّن ثقل المجموع أو خفته، ويمكن أن يكون له كفتان توضع في إحداهما الحسنات وفي الأخرى السيّئات وحينئذٍ يكون

ص: 16


1- سورة النساء، الآية: 108.
2- سورة الأنبياء، الآية: 47.

المناط هو الثقل والخفة باعتبار كفّة الحسنات.

ومنها: ميزان معنوي، وهو الحق في كل شيء، فالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) هم الميزان الذي يميّز الحق عن الباطل فكل من طابقت عقيدته وعمله عقيدتهم وعملهم فقد فاز، والثقل في الميزان معنوي أيضاً بمعنى القدر والمنزلة، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَئًْا} (1) قال: «الأنبياء والأوصياء»(2)، وفي زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) : «السلام على ميزان الأعمال»(3)، وفي الاحتجاج عن الإمام الصادق (عليه السلام) : أنّه سأله الزنديق فقال: أو ليس يوزن الأعمال؟ قال (عليه السلام) : «لا، إنّ الأعمال ليست بأجسام، وإنّما هي صفة ما عملوا، وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها وخفّتها، وإنّ اللّه لا يخفى عليه شيء». قال: فما معنى الميزان؟ قال: «العدل». قال: فما معناه في كتابه: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ}؟ قال: «فمن رجح عمله»(4).

وفي الصافي: «وسر ذلك أن ميزان كل شيء هو المعيار الذي به يُعرف قدر ذلك الشيء، فميزان الناس يوم القيامة ما يوزن به قدر كل إنسان وقيمته على حساب عقيدته وخلقه وعمله لتجزى كل نفس بما كسبت، وليس ذلك إلاّ الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ؛ إذ بهم وباتّباع شرائعهم واقتفاء آثارهم

ص: 17


1- سورة الأنبياء، الآية: 47.
2- الكافي 1: 419.
3- بحار الأنوار 97: 287.
4- الاحتجاج 2: 350.

وترك ذلك، وبالقرب من سيرتهم والبُعد عنها يعرف مقدار الناس وقدرحسناتهم وسيّئاتهم، فميزان كل أمّة نبي تلك الأمّة ووصي نبيّها والشريعة التي أتى بها»(1).

وغير خفي أنّ هذا الحديث لا ينفي الميزان المادي، وإنّما يدل على أنّ الأعمال بنفسها لا توزن لأنّها ليست بأجسام، وهذا لا ينافي وزن مثال الأعمال أو تحوّل الأعمال إلى أجسام ثم وزنها، فتأمّل.

قوله: {وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ} (الوزن) مبتدأ، و(الحق) خبره، والمعنى إنّ المقياس هو الحق حيث توزن به الأشياء، وهذا الحق في كل شيء بحسبه، فالصلاة الصحيحة الكاملة هي المقياس لكل الصلوات، وهكذا سائر العبادات، والأنبياء والأوصياء هم الحق فكل من اتّبعهم ثقلت كفّة أعماله الحسنة؛ لأنّ الأعمال مع عدم الاعتقاد بهم وعدم اتّباعهم تكون هباءً منثوراً لا وزن لها.

وقوله: {مَوَٰزِينُهُ} إمّا جمع الميزان والجمع باعتبار تعدد الموازين فلكل عمل ميزانه الخاص وللمجموع ميزان آخر، وإما جمع موزون أي أعماله الحسنة.

وقيل: يمكن أن يكون {ٱلْوَزْنُ} هو الثَقَل الذي يوضع في كفّة وتوضع الأشياء في الكفّة الأخرى فتعادله إن كان لها ثقل، أو لا تعادله إن لم يكن لها ثقل، فهذا الثقل هو الحق في كل شيء.

ص: 18


1- تفسير الصافي 3: 145.

الثامن: قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم...}الآية.

أي لم تكن له أعمال صالحة لكي تثقل الميزان، أو أحبطت وصارت هباءً منثوراً لا وزن له.

وقوله: {خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} لأنّ النفس رأس مال الإنسان ليكسب بها الجنان، فإن اكتسب بها النيران فقد خسرها، أو لأنّ النفس مرهونة فإن عمل بالصالحات فقد فك رهنها وربحها، وإن لم يعمل بالصالحات لم يتمكّن من فكّها فأخذت إلى النار.

وقوله: {بِمَا كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَظْلِمُونَ} بيان عدله تعالى، وأنّ خسارتهم إنّما كانت بسوء عملهم فقد ظلموا أنفسهم ببخسهم حقّها في نجاتها، كما أنّهم ظلموا المرسلين حيث كذّبوهم ولم يعطوهم حقّهم في طاعتهم.

ص: 19

الآيات10-18

اشارة

{وَلَقَدْ مَكَّنَّٰكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَٰيِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ 10 وَلَقَدْ خَلَقْنَٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَٰكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِأدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ 11 قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٖ 12 قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ 13 قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ 14 قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ 15 قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ 16 ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ 17 قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ 18}

10- بعد ذكر نعمة الهداية يتم ذكر نعمة الحياة {وَلَقَدْ مَكَّنَّٰكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ} أي سلّطناكم عليها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَٰيِشَ} وسائل العيش من المأكل والمشرب وغيرهما {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} فكما أنّ القليل يتذكّرون كذلك القليل يشكرون النعم.

11- {وَلَقَدْ خَلَقْنَٰكُمْ} من تراب ثم من نطفة {ثُمَّ صَوَّرْنَٰكُمْ} في الأرحام بأنّ شققنا لكم أذناً وفماً وعيناً وغيرها {ثُمَّ} للترتيب في الذكر، أو يراد من خلقناكم وصوّرناكم خلق آدم وإعطائه الصورة حيث صار منشأ

ص: 20

لخلقكم وتصويركم، {قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ} والأمر شمل إبليس لأنه كان معهم وإن لم يكن منهم: {ٱسْجُدُواْ لِأدَمَ} تعظيماً له أو كان قبلة لهم {فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ} الذي كان من الجنّ {لَمْ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ} تكبّراً على آدم واستكباراً على أمراللّه تعالى.

12- {قَالَ} اللّه تعالى توبيخاً وتقريعاً: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} أي أن لا تسجد، و«لا» للتأكيد أي ما منعك عن السجود، أو بتضمين المنع معنى الحمل أي ما حملك على عدم السجود {إِذْ أَمَرْتُكَ} حينما أمرتك بالسجود مع الملائكة؟ {قَالَ} إبليس: {أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ} لأنّك {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٖ} حيث زعم أنّ النار أفضل من الطين فلا بد أن يكون المخلوق منها أفضل من المخلوق منه! لكن قياسه باطل حيث إنّ الطين الذي خلق منه آدم خير من النار التي خلق منها إبليس، وقد نفخ اللّه في آدم من روحه وخلقه بيديه، مضافاً إلى أنّه الأفضل بالطاعة والعلم.

13- {قَالَ} اللّه تعالى: {فَٱهْبِطْ مِنْهَا} من المنزلة والمكان الذي أنت فيه {فَمَا يَكُونُ لَكَ} ليس لك الحق ولا يمكن {أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} لأنّها ليست مكاناً للعصاة بل مكانهم جهنّم {فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ} ذليل بصغر القدر والمنزلة عقوبةً على تكبّرك.

14- {قَالَ} إبليس: {أَنظِرْنِي} أمهلني فلا تعاجلني بالعقوبة {إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يوم بعثهم للجزاء وهو يوم القيامة.

15- {قَالَ} اللّه سبحانه: {إِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ} ولعلّ سائر المنظرين هم

ص: 21

الملائكة حيث علم إبليس أنّ اللّه يمهلهم، لكن اللّه وعده بالإمهال إلى يوم الوقت المعلوم.

16- {قَالَ} إبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} أي لأنّك صرت سبباً لضلالي حيثأمرتني بالسجود لآدم فعصيتك، ولولا هذا الأمر لم أكن لأعصيك {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي سأتربص بهم كاللص يتربص في الطريق {صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ} أي كما أغويتني لأغوينّهم، لكن قياسه باطل لأنّ اللّه لا يرضى بالكفر لكنه كفر بسوء اختياره فأراد أن ينتقم من آدم وذريته.

17- {ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أي أمامهم بتهوين أمر الآخرة لينسوها {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} بإغوائهم ليجمعوا الأموال للورثة مع منع حقوقها الواجبة {وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ} بإفساد دينهم وتزيين الضلالة وتحسين الشبهة {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} بتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ} قاله بالظن ولقد صدّق عليهم ظنّه، أو قد علم ذلك بإخبار الملائكة أو غير ذلك.

18- {قَالَ} اللّه تعالى: {ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا} والذأم أشد العيب {مَّدْحُورًا} مدفوعاً بهوان وإذلال، مطروداً من الجنة، {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} من بني آدم {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ} من إبليس وأتباعه {أَجْمَعِينَ}.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّٰكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَٰيِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}.

ص: 22

لمّا ذكر اللّه تعالى نعمة الهداية عبر إنزال الكتاب وأمر باتخاذ اللّه وليّاً ونهى عن الأولياء من دونه وحذّر من مغبة المخالفة وبشّر العاملين، أتبع ذلك بنعمة الخلق والرزق التي تستوجب شكراً لا تكذيباً، وحذّر منالشيطان الذي يريد الإغواء عبر ذكر قصّة آدم (عليه السلام) وما آل إليه أمره، فاتخاذ الشيطان وليّاً سبب لسوء العاقبة.

وقوله: {مَكَّنَّٰكُمْ} التمكين هو التسليط عبر إعطاء وسيلة السيطرة ورفع الموانع، قال سبحانه: {هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ}(1)، وقد يستعمل بمعنى التهيئة أي هيّئناها لكم، والحاصل أنّ اللّه سبحانه خلق الأرض وخلق الإنسان بكيفية يمكنه الحياة فيها، ومن مصاديق التمكين القدرة على إعمارها والزراعة فيها واستخراج معادنها ونحو ذلك.

وقوله: {مَعَٰيِشَ} جمع معيشة، أي وسائل العيش من المأكول والمشروب ونحوهما من أنواع الرزق.

وقوله: {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} أي كما أنّ القليل ينتفع بنعمة الهداية كذلك القليل يشكر النعمة المادّية والتي هي التمكين وجعل المعايش، وهذا أيضاً يراد به الإنشاء أي الحث على الشكر.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَٰكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِأدَمَ...} الآية.

ص: 23


1- سورة الملك، الآية: 15.

المعنى خلقنا آدم وصوّرناه ومنه نشأت الذرية ولذا استعمل ضمير الجمع في {خَلَقْنَٰكُمْ} و{صَوَّرْنَٰكُمْ}، فأمّا خلق آدم فبخلق التراب ثمّ تصوير ذلك التراب بصورته ونفث الروح فيه، وأمّا خلق ذريته فبخلق التراب والنطفة،وأمّا تصويرهم ففي الأرحام بشق العين والأنف والأذن وسائر الأعضاء، ويحتمل أن تكون الآية إشارة إلى بدأ الخلق حيث خلق اللّه تعالى جميع الناس في عالم الذر أو قبله وأعطاهم الصورة ثمّ جعلهم في صلب آدم (عليه السلام) ، أو إشارة إلى خلق الأرواح قبل عالم الذر، والتصوير للأجسام حين نفخ الروح فيها في عالم الذر، وقد ذكرنا التفصيل في شرح أصول الكافي، فراجع(1).

ويحتمل أن تكون {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ} للترتيب في الكلام وليس للترتيب في الزمان، وإنّما قدّم الخلق والتصوير لأنّه تعالى كان يعدّ النعم بالتمكين وجعل المعايش والخلق والتصوير، ثمّ انتقل الكلام إلى قصّة آدم وإبليس.

وقوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ} الأمر إمّا كان واحداً عاماً للملائكة ولإبليس لكن لم يذكر إبليس في الأمر لأنّ ذكر عصيانه دليل على شمول الأمر له فيكون الاستثناء متّصلاً فالمعنى أمرنا الملائكة وإبليس فأطاعوا وعصى، أو أنّ الأمر كان للملائكة وحيث إنّ إبليس كان معهم شمله الأمر، ولعلّه كانت هناك أوامر سابقة في أمور شتّى للملائكة ولمن معهم فعلم إبليس أنّ

ص: 24


1- شرح أصول الكافي، للمؤلف 8: 11-13.

كل أمر لهم يشمله أيضاً، وحينئذٍ فالاستثناء منقطع.

وقوله: {ٱسْجُدُواْ لِأدَمَ} كان سجودهم له تعظيماً، وغير خفي أنّ سجودهم بقصد التعظيم لم يكن شركاً وإنّما كان توحيداً لكونه امتثالاً لأمر اللّه تعالى،وقد سجد إخوة يوسف وأبواه له، لكن في هذه الشريعة نسخ هذا السجود لغير اللّه تعالى، وقيل: جُعل آدم قبلة لهم مع كون سجودهم للّه تعالى.

وكان هذا أمراً تشريعياً يمكنهم إطاعته وعصيانه؛ لأنّ الملائكة مختارون وليسوا بمجبرين، وهم معصومون - والعصمة لا توجب جبراً - فلا يعصونه بحسن اختيارهم، أمّا إبليس فعصى بسوء اختياره.

وقوله: {إِبْلِيسَ} سُمّي بذلك لإبلاسه أي يأسه من رحمة اللّه، وعادة في القرآن حينما يذكر أمام اللّه تعالى يستعمل لفظ إبليس، وحينما يذكر أمام الإنسان يستعمل لفظ الشيطان لمحاولته الإغواء والشيطنة.

وقوله: {لَمْ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ} ولم يقل (لم يسجد) لبيان أنّه لم يكن من سنخهم في الخضوع للّه تعالى بل كان كافراً في قرارة نفسه فأظهر اللّه تعالى خبث ذاته عبر هذا الأمر، كما قال: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ}(1).

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ...} الآية.

السؤال إنّما هو لتقريعه وتوبيخه وبيان سوء نيته بإقراره وبطلان حجّته،

ص: 25


1- سورة البقرة، الآية: 34.

ومن دأب اللّه تعالى أن لا يأخذ العاصي بذنبه إلاّ بعد إعطائه المجال ليحتج بما شاء ليدحض حجته وليتم الحجة عليه.

وقوله: {أَلَّا تَسْجُدَ} (لا) للتأكيد أي ما منعك عن السجود، كما قال: {مَامَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}(1)، ويمكن تضمين المنع معنى الحمل فتكون لا نافية أي ما حملك على عدم السجود، واستعمال (لا) للتأكيد في المحاورات العرفيّة كثير.

وقوله: {إِذْ أَمَرْتُكَ} لأنّ الأمر العام كان شاملاً له، ولعلّ في ذكر {إِذْ أَمَرْتُكَ} بيان عدم وجود عذر له في المخالفة لأنّ الأمر من اللّه تعالى وهو حكيم لا يأمر بشيء جزافاً فاجتمع في أمره شيئان، أحدهما: إنّ له حق الطاعة في كل ما أمر ولا يحق لأيّ شخص عصيانه ولا عذر له في ذلك، والآخر: إنّ أمره لحكمة فلا اجتهاد أمامه، وهذا كالتمهيد على أن تكبّره على آدم بترك السجود كان تكبّراً على اللّه تعالى حيث رأى نفسه أعلى من أن يمتثل أمره عز وجل.

مغالطات إبليس

وقوله: {قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ} كأنّ في هذا إشعاراً بأنّ آدم (عليه السلام) لم يكن مجرّد قبلة وإنّما كان السجود تعظيماً له، وفي كلامه مغالطتان:

1- إنّ الإشكال عليه هو عدم امتثاله أمر اللّه تعالى، وحيث لم يتمكن من أن يقول إنّه أعلى من اللّه سبحانه ومن أمره، حوّر الكلام إلى أنّه خير من آدم (عليه السلام) .

ص: 26


1- سورة ص، الآية: 75.

2- إنّه ادّعى أنّه خير منه لأجل المادة التي خلق منها! مع أنّ الطين خير من النار لما فيه من خيرات ومنافع أكثر من النار، كما أنّ طينة الأنبياء من عليين وهي خير من النار التي لا مجال لها في موضع القدس، ولأنّ آدم قدنفخ اللّه فيه من روحه فصار أشرف منه، مضافاً إلى ما روي من أنّ طين آدم كان فيه النور، ونار إبليس كان ظلمانيّاً لا نور فيه(1).

الرابع: قوله تعالى: {قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ}.

هذا دحض لكلامه لأنّه تكبّر على أمر اللّه تعالى، وهذا يؤدّي به إلى الصغار، فلا مكان له في الجنة التي هي منزلة المطيعين؛ لأنّ مقياس الخير هو طاعة اللّه تعالى وهي التي ترفع المخلوق وتجعله يليق بالجنّة، قال سبحانه: {سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ}(2)، وقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}(3).

وقوله: {فَٱهْبِطْ مِنْهَا} الهبوط هو الانحدار من فوق، وقيل: هو نزول يعقبه إقامة(4)، وهو كما يطلق على النزول المادي كذلك يطلق على النزول المعنوي، وكأنّ المراد هنا هو الهبوط المادي بالخروج من الموضع الذي كان فيه؛ لأنّه عقبّه بقوله تعالى: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} لأنّها موضع

ص: 27


1- الكافي 1: 58؛ الهداية الكبرى: 437؛ علل الشرائع 1: 86.
2- سورة الأنعام، الآية: 124.
3- سورة الزمر، الآية: 60.
4- معجم الفروق اللغوية: 555.

القرب وليست مكاناً للمتكبّرين فلذا لزم إخراجه، فيكون قوله: {فَٱخْرُجْ} تمهيداً لقوله: {إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ}.

وقوله: {فَمَا يَكُونُ} بمعنى امتناع ذلك تكويناً، فلا يمكن في الحكمةبقاء العاصي في الجنة، ولذا قال بعد ذلك: {أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} حيث يمكن بقاء العاصي في الدنيا، وأمّا مكانة القرب فلا؛ ولعلّه لذلك قيّده بقوله: {فِيهَا}.

ثمّ اعلم أنّه ليس في الآيات بيان لمرجع الضمير، وإن أرجعه بعض المفسّرين إلى الجنّة، والأقرب أنّ المراد المكان الذي كان فيه مع الملائكة في موضع كرامة اللّه تعالى، ولذلك أهبطه اللّه منه ولم يكن ممنوعاً عن الجنّة ولذلك دخلها ووسوس لآدم (عليه السلام) وزوجته، ثم أمرهم اللّه جميعاً بالهبوط من الجنّة إلى الدنيا، حيث إنّ مكان الملائكة ليس الجنّة - لا قبل الآخرة، ولا فيها - وإنّما مكانهم في الآخرة حول العرش يسبحون بحمد اللّه، وقبل الآخرة في السماوات وحيث أمرهم اللّه تعالى، وبذلك يجاب عن السؤال بأنّه كيف أخرجه اللّه منها مع تمكّنه من الدخول إلى الجنّة للوسوسة، فتأمّل.

وقوله: {إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ} الصغار هو الذلّة بصغر القدر، وهذا عقوبة له على تكبّره، فهو وإن تكبّر لكنه صاغر ذليل لا منزلة له، وحينذاك لم يكن عاص ٍ غيره لكن علم اللّه بأنّ هناك من الجن والإنس من سيكونون مثله في التكبّر فيكونون مثله في الصغار فلذا قال: {مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ}.

ص: 28

علّة طلب إبليس المهلة

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ}.

كأنّ إبليس علم مِن طرده أنّ اللّه تعالى لا يريد تعجيل عقوبته فلذا طمعفي البقاء طول عمر الدنيا وإلى قيام الساعة، واللّه سبحانه أمهله بحكمته ليتمّ اختبار بني آدم من جهة، ولما روي أنّه عبد اللّه تعالى قبل ذلك فأراد أن يكون التأخير أجر عمله من جهة أخرى، فقد قيل للإمام الصادق (عليه السلام) : جعلت فداك بماذا استوجب إبليس من اللّه أن أعطاه ما أعطاه؟ فقال: «بشيء كان منه شكره اللّه عليه»، فقيل: وما كان منه جعلت فداك؟ قال: «ركعتين ركعهما في السماء أربعة آلاف سنة»(1).

وفي مجمع البيان: «وأمّا الوجه في مسألة إبليس الإنظار مع علمه بأنّه مطرود ملعون، فعلمه بأنّه سبحانه يظاهر إلى عباده بالنعم ويعمّهم بالفضل والكرم، فلم يصرفه ارتكابه المعصية عن المسألة والطمع في الإجابة»(2).

وقيل: (الإنظار) الإمهال مع كونه تحت النظر، حيث كان يعلم أنّ تصرّفاته كلّها بعلم اللّه تعالى لكنّه أراد أن يكون طليقاً في عصيانه لا يؤاخذه اللّه عليه إلاّ يوم القيامة، فلم يطلب مهلة لإصلاح نفسه ولا مهلة لا يتمكّن من فعل شيء فيها، بل مهلة يستمر فيها في عصيانه.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} كأنّه علم قبل ذلك أنّ الجميع يموتون ثمّ يبعثهم اللّه تعالى، إمّا بإلهام أو سماع من ملك أو بغير ذلك، واللّه العالم.

ص: 29


1- تفسير القمي 1: 42.
2- مجمع البيان 4: 324.

وقوله: {مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ} أي أمهلناك وقد بيّن اللّه تعالى في سورة ص أنّ المهلة {إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ}(1).السادس: قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ...} الآية.

لمّا اطمئن إبليس بالإمهال صرّح بمكنون قلبه، فإنّ تكبّره ساقه إلى الحسد فأراد سلب بني آدم نعمة الهداية بإضلالهم ليعاقبوا كما عوقب.

وقوله: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} أي صرتَ سبباً لغوايتي وضلالي حينما أمرتني بالسجود لآدم (عليه السلام) ؛ إذ لولا هذا الأمر لما كان يُظهر مكنون قلبه وكان يستمر في عبادته للّه تعالى وطاعته، ولكن اللّه تعالى يختبر خلقه ليظهر ما أكنّوه في نفوسهم أو يصلحوها، وقد مرّ أنّ الهداية والضلال من اللّه تعالى لكنه سبحانه يُضِل من ظلم بسوء اختياره، ويهدي من اتقى بحسن اختياره، وهذا نظير ما لو امتحن المعلّم تلاميذه فلم يتمكن أحدهم من الإجابة لأنّه بسوء اختياره لم يقرأ الدرس، فحينئذٍ يسقط في الامتحان ثم يقول الطالب لقد اسقطني المعلّم.

وقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي كما أغويتني فإنّي سأغويهم! وكان قياسه باطلاً؛ لأنّ اللّه أمره بما هو صلاحه لكنه عصى بسوء اختياره فلا عذر له في محاولته إغواء بني آدم إلاّ الحسد الذميم، و(قعد له) أي تربّص به.

وقوله: {صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ} ظرف، أو منصوب بنزع الخافض أي على

ص: 30


1- سورة ص، الآية: 81.

صراطك المستقيم، وكأنّه يصرف جهده لإغواء المؤمنين، أمّا الكفّار والمنافقين فقد فرغ منهم ولذلك يتركهم وشأنهم إلاّ لو أرادوا الرجوع إلى الصراط المستقيم، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «يا زرارة، إنّما صمد لكولأصحابك، فأمّا الآخرون فقد فرغ منهم»(1)، وفي رواية أخرى: «إنّما عَمَدَ لك ولأصحابك»(2).

وقوله: {ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم...} أي من جميع الجهات فلا يقتصر في محاولته على إضلالهم بشيء دون شيء، كاللص الذي يتربص في الطريق ثمّ يحاول السرقة كلّما وجد ثغرةً ومجالاً من أيّ جهة، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «{مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أهوّن لهم أمر الآخرة، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم، {وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ} أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة، {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} بتحبيب اللذّات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم»(3).

وقوله: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ} قد يقال: إنّه قاله تظنّياً، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}(4)، أو لمّا طلب الإنظار فأنظره اللّه تعالى علم أنّ في ذلك حكمة، أو علم بعدم عصمة أكثر بني آدم، أو غير ذلك، واللّه العالم.

ص: 31


1- الكافي 8: 145.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 100.
3- البرهان في تفسير القرآن 4: 100.
4- سورة سبأ، الآية: 20.

السابع: قوله تعالى: {قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}.

فلا يتوهمنّ أنّ الإنظار يعني بقاءه في كرامة اللّه تعالى، وإنّما يعني إبقاءهحيّاً، لذلك كرّر الأمر بالخروج مع بيان عدم كرامته وأنّه مذءوم مدحور، كما بيّن اللّه تعالى أنّ قصد إبليس الانتقام من بني آدم بمحاولته إضلالهم لا يضرّ اللّه تعالى شيئاً ولا أولياءه فاللّه تعالى كما يُلقي إبليس في جهنّم كذلك يُلقي من تبعه من بني آدم.

فتحصّل أنّ اللّه تعالى أمره بالهبوط من مكانه بما يتضمّن ذلك من سقوطه من منزلته التي كان فيها، وأنّه تكبّر فأمره بالخروج لصغاره وحقارته بعد عصيانه، وأنّه لمّا سأل اللّه الإنظار أمهله اللّه تعالى في بقائه حيّاً لكنّه بدلاً من أن يتوب ويشكر اللّه تمادى في غيّه فصرّح بأنه يريد إغواء الناس كما غوى، فأجابه تعالى بأنّ إنظاره لا يعني كرامته ولا بقاءه في الجنّة وإنّما يطرد منها بهوان وذل وأنّ مصيره إلى جهنّم هو ومن اتّبعه من بني آدم وذلك لا يضر اللّه تعالى شيئاً.

وقوله: {مَذْءُومًا} من الذأم وهو أشد العيب والحقارة.

وقوله: {مَّدْحُورًا} من الدحر بمعنى الدفع والطرد على جهة الهوان والذل.

ص: 32

الآيات 19-25

اشارة

{وَئََٰادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ 19 فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَٰلِدِينَ 20 وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ 21 فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ 22 قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ 23 قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ 24 قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ 25}

19- {وَ} قلنا: {ئََٰادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ} أي ولتسكن زوجتك {ٱلْجَنَّةَ} وكانت من جنان الدنيا تطلع عليها الشمس والقمر {فَكُلَا} من ثمارها {مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} من أيّ مكان منها {وَلَا تَقْرَبَا} بالأكل {هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ}، الحنطة وكان نهياً إرشاديّاً لا مولويّاً {فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ} لأنفسكما أي تحرمونها عن الجنّة فيكون ذلك بخساً لحقّها.

20- {فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ} أي ألقى كلاماً خفيّاً وأوهم أنّه ناصح {لِيُبْدِيَ} أي ليُظهر، واللام للعاقبة {لَهُمَا مَا وُرِيَ} أي ما سُتر {عَنْهُمَا مِن

ص: 33

سَوْءَٰتِهِمَا} أي فرجهما؛ وذلك لأنّ الإخراج عن الجنّة يلازم الخروج عن كل ما يتعلّق بها ومنه ثوبها {وَقَالَ} الشيطان للإ غواء: {مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْهَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّا} كراهة {أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَٰلِدِينَ} فإن أكلتما صرتم من الملائكة ولا تموتون أبداً.

21- {وَقَاسَمَهُمَا} حلف لهما أيماناً غليظة مؤكّدة: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ} والنصح هو الإخلاص في القول والعمل أي لا نفع لي في هذا الكلام وإنّما هو بصالحكما.

22- {فَدَلَّىٰهُمَا} أي أنزلهما من مرتبة الطاعة إلى الزلل {بِغُرُورٖ} أي خدعهما، {فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ} وجدا طعمها بأن أكلا شيئاً يسيراً {بَدَتْ} ظهرت {لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا} بأن سقطت ثيابهما {وَطَفِقَا} أسرعا {يَخْصِفَانِ} يجمعان ويرقعان {عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ} من أوراق أشجارها. {وَنَادَىٰهُمَا} نداء عتاب {رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَ} ألم {أَقُل لَّكُمَا إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة فلماذا اغتررتما به؟

23- {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} أي بخسناها حقها حيث أوجبنا المشقة على أنفسنا {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} تستر هذه الزلّة بالعفو {وَتَرْحَمْنَا} بنعمك {لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ} خسران بعض الدرجات.

24- {قَالَ} اللّه تعالى: {ٱهْبِطُواْ} من الجنّة إلى الأرض والخطاب لآدم وحواء وإبليس {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فالعداوة تستمر في الدنيا أيضاً {وَلَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} محل استقرار {وَمَتَٰعٌ} ما تتمتعون به من

ص: 34

الملذات {إِلَىٰ حِينٖ} الموت أو البعث.

25- {قَالَ} اللّه تعالى: {فِيهَا} في الأرض {تَحْيَوْنَ} تعيشون أو يحيىلآدم نسل {وَفِيهَا تَمُوتُونَ} جميعاً {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} للجزاء يوم القيامة.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَئََٰادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلَا...} الآية.

قد مر بعض الكلام في سورة البقرة(1)، وظاهر الترتيب أنّ اللّه تعالى خلق آدم في مكان آخر ثمّ أمر الملائكة بالسجود له ثمّ أسكنه الجنّة، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما أخرج منها أبداً آدم، ولم يدخلها إبليس»(2).

وقوله: {مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} أي من أيّ موضع من الجنّة، ولم يقل: (ممّا شئتما) لعلّه للمقابلة مع {وَلَا تَقْرَبَا} فكأنّه لمّا أراد المبالغة في النهي عن الأكل من تلك الشجرة عبرّ عنه بالنهي عن الاقتراب، ولذا حينما أباح الأكل من سائر الثمار عبّر عنه ب{حَيْثُ شِئْتُمَا}.

وقوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ} لأنّ الإنسان كلّما ابتعد عن موضع المعاصي كان أبعد عن الوقوع فيها؛ لأنّ سهولة ارتكاب المعصية أدعى للنفس لارتكابها وفي الحديث: «كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه»(3).

ص: 35


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 1: 84-93.
2- تفسير القمي 1: 43.
3- مستدرك الوسائل 17: 323.

وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ}، (الظلم) هو بخس صاحب الحق حقّه، وكان من حق آدم (عليه السلام) أن يبقى في الجنّة حيث الراحة وعدم الصعوبة،وأمّا الدنيا فمكان الكدح والمشقة والتعب والنصب، كما قال تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ}(1)، وغير خفي أنّ الأمر كان إرشاديّاً لا مولويّاً بمعنى أنّ اللّه تعالى بيّن لآدم نتيجة الأكل وهو الخروج من الجنّة والوقوع في المشقة، ونتيجة عدم الأكل وهو البقاء فيها مرتاحاً، كقول الأب الشفيق لابنه: إن بقيت في الدار سأعطيك ما تحتاجه، وإن خرجت منها فعليك أن تعمل لتكسب ما تحتاجه، فإنّ كلامه إرشاد إلى النتيجة حتى لو صاغه بصيغة الأمر كأن يقول: ابق في الدار ولا تخرج منها، وكقول الطبيب للمريض: إنّك مخيّر بين أن تتداوى فيكون شفاؤك في يوم أو أن تترك الدواء فيكون شفاؤك في يومين مع بعض الحمّى، ولو صاغ ذلك في صيغة أمر أو نهي.

قال الوالد رضوان اللّه عليه في تقريب القرآن: «وهنا سؤال: كيف يمكن لمثل آدم النبي المعصوم (عليه السلام) أن يترك قول اللّه سبحانه ويأخذ بقول الشيطان؟!

والجواب: إنّ الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ولعلّ آدم وحواء ظنّا أنّ المراد بالظلم أن يكونا ملكين، وبالأخص لمّا حلف الشيطان لهما، فإنّهما لم يكونا يحتملان أنّ أحداً يحلف باللّه كاذباً - كما في الحديث - .

ص: 36


1- سورة طه، الآية: 117-119.

وقد تكرّر استعمال الظلم لوضع الشيء في غير موضعه، وإن لم يكن فيهغضاضة أصلاً، كما قال اللّه سبحانه حكاية عن موسى: {ظَلَمْتُ نَفْسِي}(1)، ولعلّهما ظنّا أنّ الأصلح بحالهما أن يبقيا بشراً - حسب كلام اللّه - لكنهما شاءا الجائز، كما يترك الإنسان كثيراً ما الأصلح لمّا يجده أوفق بحاله، وهذا مما لا ينافي مقام العصمة إطلاقاً»(2).

الثاني: قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَٰتِهِمَا...} الآية.

وقد قال تعالى في سورة طه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ}(3) في الصافي: الفرق بين (وسوس إليه) و(وسوس له) أنّ الأوّل: بمعنى ألقى في قلبه المعنى بصوت خفي، والثاني: أنّه أوهمه النصيحة له بذلك، والوسوسة في الأصل: الصوت الخفي(4)، فإنّ صح هذا الفرق فلعل الشيطان استعمل الأسلوبين معاً ليضمن نجاح إغوائه.

وقوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا...} اللام للعاقبة أي لمّا علم الشيطان أنّ اللّه تعالى نهاهما عن تلك الشجرة وبيّن عاقبة المخالفة بأن يكونا من الظالمين أراد أن يتسبب في خروجهما من الجنّة عبر المخالفة، كما قال تعالى: {فَقُلْنَا ئََٰادَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ}(5)، والشقاء هنا

ص: 37


1- سورة القصص، الآية: 16.
2- راجع تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 165.
3- سورة طه، الآية: 120.
4- راجع تفسير الصافي 3: 153.
5- سورة طه، الآية: 117.

بمعنى التعب والنصب، فعاقبة المخالفة هي انتهاء الراحة في الجنّة والخروج منها،ومن تلك الراحة ثياب الجنّة التي كساهما ربّهما منها من غير عمل منهما، فأراد الشيطان الأمرين معاً: تعبهما وكشف ما يستقبح إظهاره، ولذا بمجرد الأكل سقطت ثياب الجنّة وظهرت السوأة وبدأ التعب والنصب بأن اضطرا أن يسترا العورة بالأوراق التي خصفاها.

وقوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا} أي ليظهر لكل واحد منهما سوأة الآخر، وروي أنّ السوأة كانت قبل ذلك داخلة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «كانت سوءاتهما لا تبدو لهما فبدت، يعنى كانت من داخل»(1).

وقوله: {سَوْءَٰتِهِمَا} السوأة كل ما يسوء الإنسان ظهوره، ويراد بهما هنا العورة.

قوله: {وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا...} لعلّه لمّا علم الشيطان أنّ النهي إرشادي يجوز لآدم مخالفته حيث كان مخيّراً بين اختيار ما فيه الراحة وهو عدم الأكل مع البقاء في الجنّة، أو الأكل مع الخروج عن الجنّة بتعب ونصب، أراد تزيين الأكل والخروج من الجنّة بأن أخبرهما كذباً بأنّ الأكل والخروج من الجنّة يلازم صيرورتهما من الملائكة والخلود وعدم الموت، وغرّهما بأن تحمّل التعب والنصب مع كونهما ملكين خالدين خير لهما من الراحة في الجنّة مع كونهما بشرين غير خالدين، ومن المعلوم أنّ الخلود مع بعض التعب خير من الراحة الزائلة.

ص: 38


1- تفسير العيّاشي 2: 11؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 105.

و{أَوْ} في قوله: {إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَٰلِدِينَ}: إمّا بمعنىالواو كما في قوله: {وَأَرْسَلْنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}(1)، وهذا ما يظهر من قوله تعالى في سورة طه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَٰنُ قَالَ ئََٰادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٖ لَّا يَبْلَىٰ}(2).

وإمّا للترديد أي إمّا تكون مَلَكاً أو تكون خالداً، ولعلّ اختيار آدم لاحتمال صيرورته ملكاً - مع علمه بأنّه أفضل من الملائكة حيث علّمه اللّه الأسماء كلّها - لأجل أنّه أراد أن يجمع بين فضائله وبين خصائص الملائكة.

وبذلك يجاب عن سؤال أنّ الأنبياء (عليهم السلام) أفضل من الملائكة، فكيف غرّه الشيطان بأنه لو أكل من الشجرة صار مَلَكاً أو خالداً، وهل يُخدع الأفضل بأنّه لو خالف نزل عن رتبته إلى الأدون؟!

والجواب: لعلّه غرّه بالجمع بين الأمرين؛ إذ الأنبياء لهم فضلهم وللملائكة خصائصهم، والجمع بينهما جمع بين الفضلين! فتأمّل.

وقيل: إنّه يمكن أن يكون الشيطان غرّه بأنّ المَلَك أفضل منه.

وقيل: قد لا يراد بالمَلَك هنا معناه المعروف لقوله تعالى في سورة طه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَٰنُ قَالَ ئََٰادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٖ لَّا يَبْلَىٰ}(3)، لكنه احتمال بعيد لأنّ العطف بالواو هناك وب(أو) في ما نحن فيه دليل على أنّ شجرة الخلد وملك لا يبلى هو أحد الشقّين وهو {أَوْ تَكُونَا مِنَ

ص: 39


1- سورة الصافات، الآية: 147.
2- سورة طه، الآية: 120.
3- سورة طه، الآية: 120.

ٱلْخَٰلِدِينَ}، وأمّا الشق الآخر وهو {أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} فلم يذكره في سورة طه، فتأمل.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ}.

أي أقسم لهما، ولعل استعمال باب المفاعلة لأجل بيان إصراره وتأكيده وتغليظه الأيمان، فإنّ الأصل في باب المفاعلة وإن كان اشتراك الطرفين في الفعل - مع ملاحظة أحدهما بالأصالة فيرتفع بكونه فاعلاً، والآخر بالتبع فينتصب بكونه مفعولاً مثل ضارب زيد عمراً - إلاّ أنّه قد يستعمل في ما لو كان الفعل من طرف واحد مع كون المفعول قد شارك في تحقق المعنى ولو بالعناية، وفي قصّة آدم كان القسم من طرف الشيطان دون آدم (عليه السلام) إلاّ أنّه لمّا كان قسماً مغلظاً استجاب له آدم فكأنّه شاركه في القسم.

وقوله: {لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ} النصح هو إخلاص العامل باطنه بأن يتطابق مع ما يظهره من عمل، فالنصيحة للّه تعالى ولرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي إخلاص القلب والعمل لهما، والنصيحة في الوعظ أن لا يكون الناصح أراد نفعاً لنفسه بل أراده للمنصوح له خالصاً.

الرابع: قوله تعالى: {فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا...} الآية.

(التدلية) بمعنى إرسال الدلو في البئر، ثمّ استعمل في الإلقاء في المعصية والزلل لأنّه إهباط من مقام الطاعة الشامخ إلى مرتبة المخالفة.

وقوله: {بِغُرُورٖ} هو الخداع بجهالة؛ لأنّهما لم يظنّا أن يحلف أحد باللّه

ص: 40

كاذباً، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «لما أخرج آدم (عليه السلام) من الجنّة نزل عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا آدم، أليس خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك منروحه، وأسجد لك ملائكته، وزوّجك حوّاء أمته، وأسكنك الجنّة، وأباحها لك، ونهاك مشافهة أن لا تأكل من هذه الشجرة، فأكلت منها وعصيت اللّه؟ فقال آدم (عليه السلام) : يا جبرئيل، إنّ إبليس حلف لي باللّه إنّه لي ناصح، فما ظننت أنّ أحداً من خلق اللّه يحلف باللّه كاذباً»(1).

وقوله: {ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ} الذوق هو الشعور بطعم الشيء، وكأنّ المراد أنّه فور الابتداء بالأكل ظهرت آثار المخالفة، أو أنّه ندم فوراً فلم يأكل إلاّ يسيراً فكأنّه ذاق، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ آدم (عليه السلام) لمّا أكل من الشجرة ذكر أنّه نهاه اللّه عنها فندم فذهب ليتنحّى عن الشجرة...»(2).

وقوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا} أي سقطت عنهما ملابس الجنّة؛ وذلك لتبدّل المصلحة، فإنّه كانت المصلحة في بقائهما في الجنّة بما يلازمه من نعيمها والذي منه لباس الجنّة بلا مشقّة، ولكن بعد الأكل من الشجرة تبدّلت المصلحة إلى الخروج من الجنّة بما يلازم ذلك من المشقّة في تحصيل الحوائج، ومن ذلك المشقّة في الكسوة، ثمّ إنّ قوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا} ليس تكراراً لقوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا...}؛ فإنّ ذاك لبيان ما قصده الشيطان، وهذا لبيان تحقق مقصوده.

وقوله: {يَخْصِفَانِ} من الخصف بمعنى الجمع والترقيع، كأنّهما ألصقا

ص: 41


1- تفسير القمي 1: 225؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 102-103.
2- تفسير العيّاشي 2: 10؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 105.

الأوراق بعضها ببعض لتكون ساتراً، وكان هذا بداية المشقة بالكد والعمل.

وقوله: {وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَا...} نداء تنبيه، ولعلّ ذلك لكي يتوبا إليه تعالى،وليحذرا في مستقبل أمرهما من الشيطان وعداوته.

الخامس: قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ}.

تضرّع وإنابة واعتراف بالظلم، وهذا دعاء بعد نداء اللّه تعالى لهما، ولا بد في كل توبة من إقرار يعقبه الدعاء بالغفران والرحمة، فلا توبة من غير ندم وإقرار ومسألة العفو، فكأنّهما قالا إنّهما ظلما أنفسهما ومن ثَمّ عرّضاها للخسران الدائم لولا غفرانه ورحمته.

وقوله: {ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} ببخسها حقّها في الطاعة والراحة.

وقوله: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} الغفران بستر الذنب عبر العفو، والرحمة بتجديد النعمة - ولو بنعمة أخرى - لأنّ مجرد العفو لا يرفع الخسارة، بل هو عدم الأخذ بالذنب فقط، فلا بد من رحمة إلهية بالإرجاع إلى منزلة الطاعة وثوابها لترتفع الخسارة، كمن كانت له منزلة عند السلطان فخالف فيسقطه السلطان من منزلته ويعاقبه، وترك العقاب بالعفو وعدم إرجاعه إلى منزلته خسارة لها، وفي الحديث: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(1).

عصمة آدم (عليه السلام) والأمر الإرشادي

وقال السيد الوالد رضوان اللّه عليه في التقريب: «وحيث تقرر عقلاً ونقلاً أنّ الأنبياء معصومون كان اللازم القول بعدم كون أكل الشجرة معصية

ص: 42


1- الكافي 2: 435.

إطلاقاً، وإنّما كان النهي للإرشاد، كما يقول الطبيب للمريض: لا تشرب هذا المائع فيطول مرضك، فإنّه نهي للإرشاد، ويكون ارتكابه موجباً لطولالمرض فقط، وليس هذا مما يوجب العقاب، وكذلك كان النهي بالنسبة إلى أكل الشجرة؛ لأنّه كان لإرشادهما إلى البقاء في الجنّة أبداً، كما قال سبحانه: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ}(1)، وكان الأكل موجباً للخروج من الجنّة ولقاء مشاكل الدنيا.

و(الظلم) - كما تقدم - هو وضع الشيء في غير موضعه ويلائم النهي إرشاداً كما يلائم القبيح، كما أنّ (الغفران) هو الستر وهو يلائم العصيان ويلائم ارتكاب المنهي الإرشادي، و(الخسران) يلائم عدم الربح المتوقع ولذا يقول التاجر: خسرت، في ما إذا لم يربح المتوقّع، ألا ترى أنّ المريض إذا ارتكب ما يسبب طول مرضه يقول الطبيب: اشتبهت فتدارك الأمر وإلاّ خسرت صحتك في هذه المدّة ولم يكن عصياناً إطلاقاً، ومن هنا اشتهر في تسمية هذا النوع من الخلاف ب(ترك الأولى) أي أنّ الأولى كان عدم الارتكاب»(2).

سؤال: «كيف يصدر مثل هذا الترك من الأنبياء ولهم المقام الرفيع؟»

والجواب: «إنّ ذلك لئلا يعتقد البشر ألوهية الأنبياء، فإنّ عادة البشر الغلو في القدّيسين، وذلك ضد الغلو، وإن غالى بعض الضعاف أيضاً»(3).

السادس: قوله تعالى: {قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ

ص: 43


1- سورة طه، الآية: 118-119.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 166.
3- راجع تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 167.

مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِين}.

كأنّه تسلية لآدم (عليه السلام) بأنّ بقاءه في الأرض إنّما هو لفترة محدودة ثمّ يرجعه اللّه تعالى إلى جنّةٍ خير من جنّته التي فقدها، وأنّه لا يخلو من بعض الراحة واللّذة فيها، كما حذّره من استمرار عداوة الشيطان له لئلا يغتر به مرّة أخرى.

وقوله: {ٱهْبِطُواْ} كأنّه هبوط مادي من مكان عالٍ إن كانت جنّته التي أخرج منها في غير الأرض، أو هبوط معنوي من مكان راقٍ إلى مكان دونه في الفضل، والخطاب لآدم وحواء وإبليس، ويحتمل أن يكون الخطاب لهم ولجميع ذرّية آدم وذرّية الشيطان.

وقوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ} أي الشيطان عدو لهما، وهما عدوان له.

وقوله: {مُسْتَقَرٌّ} إمّا اسم مكان أو مصدر ميمي.

وقوله: {مَتَٰعٌ} أي تمتع أو ما به التمتع، فالدنيا لا تخلو من راحة ولذّات مشروعة.

وقوله: {إِلَىٰ حِينٖ} أي حين البعث إذا كان المقصود مجموع الناس، أو إلى حين الموت إن كان المقصود آدم وحواء والشيطان، ويحتمل شموله لعالم البرزخ أيضاً حيث يتنعّم المؤمنون فيه.

السابع: قوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}.

إن كان الخطاب للثلاثة - آدم وحواء وإبليس - فالمعنى تحيى لكم ذرّية، أو تضمين {تَحْيَوْنَ} معنى استمرار الحياة، وإن كان الخطاب للأعم

ص: 44

فالمعنى أن التناسل والحياة سيكون في الأرض.

وقوله: {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} للحساب يوم القيامة وفيه إشعار بأنّ ساحة المحشر تكون على هذه الأرض، كما فيه دلالة على المعاد الجسماني.

ص: 45

الآيات 26-30

{يَٰبَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَٰرِي سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 26 يَٰبَنِي ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَٰتِهِمَا إِنَّهُ يَرَىٰكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ 27 وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ 28 قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ 29 فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُواْ ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ 30}

بعد ذكر قصّة آدم (عليه السلام) يتم بيان جهة الاعتبار بها، فقال تعالى:

26- {يَٰبَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ} دبّرنا وقضينا ثلاثة أنواع من الألبسة: {لِبَاسًا يُوَٰرِي} يستر {سَوْءَٰتِكُمْ} ما يسوءكم إظهاره، {وَ} أنزلنا {رِيشًا} الذي يكون منه لباس التجمّل وأصله من ريش الطائر وهو زينة له، {وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ} حيث تستر التقوى الشر والقبائح الكامنة في النفس {ذَٰلِكَ} أي لباس التقوى {خَيْرٌ} من لباس الستر والتجمل لأنّه ينفع الدنيا والآخرة، {ذَٰلِكَ} الإنزال {مِنْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ} الدلائل عليه لأنّها تدل على فضله

ص: 46

ورحمته، وإنّما أنزلناه {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يذكرون نِعم اللّه فيتّعظون.

27- وحيث علمتم نعمة اللّه في اللباس فاعلموا أنّ الشيطان يريد بكم منالشر ما أراده بآدم وحواء فكما أخرجهما من الجنّة كذلك يريد أن يمنعكم عنها، وكما أظهر سوءاتهما كذلك يريد إظهار قبائحكم ف{يَٰبَنِي ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ} يلقيكم في الفتنة أي لا يخدعكم {ٱلشَّيْطَٰنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ} أي صار سبباً لإخراجهما، حال كونه {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَٰتِهِمَا} فجمع لهما الحرمان من الجنّة وإظهار ما يستقبح إظهاره، ولا تستهينوا بالشيطان ف{إِنَّهُ يَرَىٰكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} جنوده وذريته من الشياطين {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} والتحذر من العدو الذي لا تراه أشد وأوجب، ومنفذه إليكم الكفر حيث {إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ} متبوعين {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} وذلك الجعل بقضاء اللّه وتمكينه سبحانه.

28- {وَ} نتيجة ولايتهم للشياطين أنّهم {إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً} المعصية الشديدة القبح برّروا فعلتهم الشنيعة بأن {قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} مع أنّ آباءهم أيضاً كانوا مخدوعين بالشيطان، وهم يفترون على اللّه بنسبة الأمر إليه {قُلْ} في ردّهم: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاءِ} لأنّه منبع القدس والطهارة {أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}؟ استفهام للإنكار والتقريع.

29- {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ} بالعدل لا بالفحشاء {وَ} أمر بالعبادة والإخلاص ف{أَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ} أي توجهوا إلى عبادته {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ}

ص: 47

أي قبلة ومكان السجود وزمانه، لا كما فعل الشيطان حيث تمرّد عن السجود هذا في العبادة، {وَ} أمّا في الإخلاص ف{ٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُٱلدِّينَ} لا كالمشركين الذين أخذوا دينهم عن آبائهم المشركين.

{كَمَا بَدَأَكُمْ} أي كما ابتدأ خلق الإنسان حيث كانت الهداية والضلال فكذلك {تَعُودُونَ} أي تعودون إلى الهداية أو الضلال، أو كما أنشأكم من الأرض وخلقكم فكذلك يبعثكم بعد موتكم فاحذروا الآخرة.

30- {فَرِيقًا هَدَىٰ} وفقهم للّهداية بحسن اختيارهم {وَفَرِيقًا حَقَّ} ثبت {عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُ} بسوء اختيارهم حيث {إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُواْ ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ} متبوعين فأطاعوهم في ما دعوهم إليه {مِن دُونِ ٱللَّهِ} فلم يتخذوا اللّه وليّاً مطاعاً {وَيَحْسَبُونَ} يظنون {أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} أي على هداية فلذلك لم يتوبوا عكس من يعلم بأنّه على ضلال فقد يوفّق للتوبة إن لم يكن معانداً.

بحوث

الأوّل: إنّ اللّه تعالى لا يذكر القصص إلاّ للاعتبار، كما قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي ٱلْأَلْبَٰبِ}(1)، وحيث ذكر قصّة آدم (عليه السلام) والشيطان بيّن وجه العبرة فيها، وصدّر الآية بقوله: {يَٰبَنِي ءَادَمَ} إلفاتاً لهم بأنّكم أبناء ذاك الذي أضرّه الشيطان فعليكم بالحذر والاعتبار.

فأوّلاً: التحذير من أن يمنعكم دخول الجنّة كما حرم أبويكم من البقاء فيها.

ص: 48


1- سورة يوسف، الآية: 111.

وثانياً: التحذير من أن يُظهر قبائحكم بالعصيان كما أظهر سوءاتهما بالأكل من الشجرة المنهي عنها.

وثالثاً: التحذير من الافتراء على اللّه لتبرير القبائح كما كذب الشيطان على اللّه بأنّه {مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَٰلِدِينَ}.

ورابعاً: الاستدلال بفعل الآباء باطل؛ إذ لا يصح اتّباعهم في باطلهم، وآدم (عليه السلام) من آبائكم لكن أضرّه الشيطان.

وخامساً: إنّه كما كانت هداية وضلال وغواية واهتداء في بدأ الخلق كذلك يستمر الأمر، وكما كان مهتدون وضالون في السلف كذلك سنّة اللّه جرت في الخَلَف.

وسادساً: كما انخدع آدم بالشيطان حيث حسب أنّه ناصح كذلك ينخدع به كثير من بني آدم فيحسبون أنّهم على هداية.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰبَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَٰرِي سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشًا...} الآية.

لعلّ التركيز على اللباس وإظهار السوءة - حيث ذُكرا في هذه الآيات أربع مرّات - هو تصوير بشاعة إغواء الشيطان وسوء عاقبته، فكل إنسان يدرك بفطرته بشاعة ظهور السوءة وحسن سترها، فيقال: إنّ اللّه سترها لكن اتّباع الشيطان يظهرها فاحذروه.

وقوله: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ} بيان عظيم مِنّة اللّه على الإنسان، حيث قدّر بحكمته الثياب فخلق مادتها - من القطن والصوف وغيرهما - وعلّم الإنسان

ص: 49

ما لم يعلم بحيث تعلّم الحياكة والخياطة، ورزقه الفطرة كي يدرك قبح إظهار السوءة، وحكم تشريعاً بوجوب سترها.

وكأنّ الإنزال هنا مجازي لبيان ارتفاع قدر المعطي، كما يقال: رفعت عريضتي إلى الأمير، يراد به تعظيم قدره وأنّه أعلى منزلة من صاحبها، أو باعتبار أنّ التقدير في السماء، أو باعتبار أنّ غالب الألبسة إمّا من النباتات أو الحيوانات وحياتهما بالمطر فكأنّ المعنى أنزلنا الأمطار التي صارت سبباً لتكوّن مادة الملابس.

ثمّ إنّ اللّه تعالى قسّم اللباس إلى أنواع ثلاثة وإن كان المقصود الأساسي هو الثالث:

1- قوله: {يُوَٰرِي سَوْءَٰتِكُمْ} وهو لباس الستر.

2- وقوله: {وَرِيشًا} الذي يكون منه لباس التجمّل والزينة، والريش هو للطائر وحيث إنّه زينة له فاستعير للباس الزينة، والريش هنا يعم كل مال ومتاع، كما روي ذلك عن الإمام الباقر (عليه السلام) (1) فيشمل لباس الزينة وغيره مما يتمتع به.

3- وقوله: {وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ} ومنه العفاف؛ لأنّ التقوى تستر قبائح النفوس، بل لا تدع الإنسان يعمل القبائح فكأنّها سترته عن ارتكابها وعن النار.

وقوله: {ذَٰلِكَ خَيْرٌ} أي لباس التقوى أفضل من لباس الستر والتجمّل؛

ص: 50


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 106 عن تفسير القمّي 1: 225.

وذلك لأنّ القبائح في الدين والخُلُق والنفس أبشع من القبائح في الجسم، فإنّها إذا ظهرت بارتكابها أوجبت الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.

وقوله: {ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ} أي إنزال اللباس من الدلائل على اللّه تعالى؛ وذلك لأن تقدير اللباس وتقدير مادّته وتمكّن الإنسان عبر العلم والعمل من صناعته وأيضاً تشريع ما يؤدّي إلى التقوى دلائل على خالق حكيم مدبّر.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فقد جعل اللّه آياته في كل شيء، والغرض من ذلك هو أن يرى الإنسان تلك الآيات ويتذكّر منسي فطرته ويتّعظ بكلام الأنبياء والرسل (عليهم السلام) فيجتنب الآثام والخطايا والقبائح.

الثالث: قوله تعالى: {يَٰبَنِي ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ...} الآية.

الآية السابقة كانت تذكيراً بفضل اللّه تعالى، وهذه الآية تحذير عن الانخداع بالشيطان حيث يريد حرمان الإنسان من فضل اللّه تعالى عداوةً له، وبيان ترصّده للإنسان من حيث لا يراه، مع بيان أنّه لا يتمكّن من إغواء الإنسان إلاّ لو كفر، ف{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَٰنٌ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(1).

وقوله: {لَا يَفْتِنَنَّكُمُ} أي لا يوقعكم في الفتنة وذلك بمنعكم عن الجنّة بتسويلاته التي تلقيكم في المعاصي، والمقصود بالنهي هم بنو آدم، وفي

ص: 51


1- سورة النحل، الآية: 99-100.

مجمع البيان: «وإنّما صحّ أن ينهى الإنسان بصيغة النهي عن الشيطان؛ لأنّه أبلغ في التحذير من حيث يقتضي أنّه يطلبنا بالمكروه ويقصدنا بالعداوة،فالنهي له يدخل فيه النهي لنا عن ترك التحذير منه»(1).

وقوله: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم} أي كما فتن أبويكم فصار سبباً لإخراجهما من الجنّة، فكما تمكّن من منعهما عن الجنّة كذلك يتمكّن من خداعكم ومنعكم عن دخولها.

وقوله: {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} أي كان إخراجه لهما بشعاً فكذلك يريد أن يمنعكم عن الجنّة ويدخلكم النار حيث إنّ المنع عن الجنّة يلازم عادة الإدخال في النار.

وقوله: {إِنَّهُ يَرَىٰكُمْ هُوَ...} تأكيد للتحذير عن فتنته، وأنّه عدو يراكم ولا ترونه، وهكذا عدو لا بد من أخذ الحيطة والحذر منه بنحوٍ أشدّ من سائر الأعداء.

وقوله: {وَقَبِيلُهُ} أي ليس هو وحده بل له قبيل يعاونونه ويأتمرون بأوامره، وهم فسقة الجن من ذرّيته، قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّ بِئْسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلًا}(2)، قيل: «القبيل: هو الجماعة من قبائل شتى فإذا كانوا لأب وأم واحد فهم قبيلة»، فإن صح هذا فلعلّ بعض أعوانه من ذريته وبعضهم من سائر فسقة الجن.

وقوله: {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} أي من المكان الذي لا ترونهم لأنّهم

ص: 52


1- مجمع البيان 4: 340.
2- سورة الكهف، الآية: 50.

يجرون في الدم ويوسوسون في القلب، قال تعالى: {ٱلَّذِي يُوَسْوِسُ فِيصُدُورِ ٱلنَّاسِ}(1)، ولأنّ الجن عنصر لا كثافة له فهو جسم لطيف لا يمكن إحساسه بالحواس الخمس وإنّما يدرك بآثاره ومنه الوسوسة، وهذا لا ينافي رؤية الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) له؛ لأنّ اللّه تعالى حباهم بقوى إدراكيّة أكثر من سائر البشر، وذلك فضل من اللّه لهم ولا ينافي كونهم بشراً.

وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَٰطِينَ...} الجعل بمعنى التمكين وعدم المنع أي لم نمنع عن ذلك قهراً، حيث إنّه تعالى أراد للإنسان أن يكون مختاراً فقدّر وسائل الاختيار والذي منها عدم المنع قهراً عن ارتكاب القبائح، ومن القبائح ولاية الشياطين.

وقوله: {أَوْلِيَاءَ} بمعنى المتبوعين؛ لأنّ مادة (و ل ي) بمعنى القرب(2)، وقد يكون القرب بالاتّباع وقد يلزم منه المحبّة والنصرة والسلطة، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ}(3).

وقوله: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} أي إن سوء عملهم بالكفر صار سبباً لولاية الشيطان عليهم؛ إذ اللّه تعالى قدّر النتائج على الأفعال، فالكفر يترتب عليه ولاية الشيطان، والإيمان ينتج ولاية الرحمن تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا...} الآية.

ص: 53


1- سورة الناس، الآية: 5.
2- راجع مقاييس اللغة 6: 141.
3- سورة الحجر، الآية: 42.

هذا تحذير لهم كي لا يسلكوا مسلك الشيطان حينما افترى على اللّه بأنّنهيه لم يكن إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وكذب عليهما بأنّه ناصح لهما، كذلك هؤلاء المشركون بتسويل من الشيطان يفترون على اللّه بأنّه أمر بالفحشاء وأنّ الآباء علّموهم ذلك والأب لا يغش ابنه بل يكون ناصحاً له.

فتبرير فعلتهم الشنيعة بارتكاب الفاحشة بأمرين:

1- الاقتداء بالآباء، وكأنّهم زعموا حق التشريع للآباء، أو زعموا رجاحة عقولهم بحيث لا يفعلون إلاّ ما كان حقاً، وقد دحض اللّه حجتهم في آيات أخرى كقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَئًْا وَلَايَهْتَدُونَ}(1)، وأمّا في هذه الآيات فدحض كلامهم في آخر الآية 29 حيث قال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} وسيأتي قريباً بيانه.

2- أمر اللّه بها، وقد دحض اللّه كلامهم بحجّتين، أحداهما: قوله: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاءِ} وهذا وجه عقلي، حيث إنّ اللّه هو الحق المنزّه، وما كان حقاً منزّهاً لا يعقل أن يأمر بالقبيح؛ لأنّ الأمر بالقبيح قبيح وهو من الباطل.

والأخرى قوله: {أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وهذا وجه نقلي حيث إنّهم لا يوحى إليهم، ولم يخبرهم بذلك الأنبياء السابقون كإبراهيم (عليه السلام) فمن أين علموا بأمر اللّه تعالى؟! وهذا يتضمّن تقريعاً وتوبيخاً لهم أيضاً.

ص: 54


1- سورة البقرة، الآية: 170.

وقوله: {فَٰحِشَةً} الفحش هو تجاوز الحد في القبح، ولها مصاديق متعدّدة فمنها ما كان حين نزول الآية كالشرك والجور والطواف عارياً، ومنهامصاديق أخرى كاتّباع أئمة الجور والضلال.

الخامس: قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ}.

لمّا دحض كلامهم وفعلهم بيّن وجه الصواب:

1- قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ} أي العدل، لا الفحشاء التي هي تجافٍ وتباعد عن الحق، ويدرك حسن القسط كل ذي فطرة بسليم فطرته.

2- قوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ} أي توجهوا إلى القبلة وفي كل مكان سجود وزمانه، لا كإبليس الذي رفض السجود لآدم (عليه السلام) مع أنّه كان يسجد للّه، فعبد اللّه على حرف وعصى حينما كان السجود يخالف هواه.

3- قوله: {وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ} بأن تأخذوا دينكم من اللّه فقط، لا كهولاء المشركين الذين جعلوا آباءهم في عرض اللّه تعالى فيطيعونهم ويقتدون بهم في ما فيه معصية اللّه تعالى وكذلك جعلوا الأصنام شركاء للّه فيعبدونهم كي يعبدوا اللّه تعالى، وكذلك أطاعوا الشيطان في ما سوّل لهم، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَٰبَنِي ءَادَمَ أَن لَّا تَعْبُدُواْ ٱلشَّيْطَٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ}(1)، و(الدين) الطريقة.

السادس: قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ

ص: 55


1- سورة يس، الآية: 60-61.

عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُ...} الآية.

كأنّ المعنى أنه في بدء خلق الإنسان كان هناك فريقان: آدم وحواء منجهة، والشيطان من جهة أخرى، وحاول الشيطان إغواءهما وأضرّهما بالإخراج من الجنّة، كذلك يعود الأمر في ذرية آدم، فالمؤمنون هم في حزب آدم والكفّار والمنافقون في حزب إبليس، فالمعنى كما بدأكم فريقين كذلك تعودون فريقين؛ ولذا بيّن الفريقين بقوله: {فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُ}.

ويحتمل أن يكون قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} بمعنى كما خلقكم في الدنيا فإنّكم ستبعثون في الآخرة حيث يعيدكم اللّه تعالى إلى الحياة ويعيد أرواحكم إلى أجسادكم للحساب، فيكون هذا تحذيراً لهم بأنّ ارتكاب الفحشاء والافتراء على اللّه لا يمر من غير جزاء، كما أنّ العمل بالقسط وإقامة الوجه عند كل مسجد والإخلاص في الدين لا يكون بدون ثواب.

وقوله: {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُ} إنّما أضلهم اللّه تعالى لأنّهم أعرضوا عن الهداية بسوء اختيارهم، وهذا ما بيّنه اللّه تعالى في قوله: {إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُواْ ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ} فالمعنى أنّ اللّه لم يظلمهم بأن أضلّهم من دون مخالفة منهم، بل إنّ اللّه تعالى رزقهم الفطرة والعقل وأرسل الرسل إليهم لكنّهم أعرضوا عن كل ذلك واتبعوا الشياطين فجزاهم اللّه على عصيانهم بأن خذلهم حتى ضلّوا، ومن الشياطين أئمة الجور، كما في الحديث(1).

ص: 56


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 111.

وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} أي يظنّون أنّهم على هداية، ومن كان هكذا فلا ترجى هدايته، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا *ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(1).

والحاصل أنّ الضلالة قد تكون عارضة فهي تزول بالتنبّه والإيمان والعمل الصالح، وقد تكون ثابتة وثبوتها بأمرين: ولاية الشيطان وحِسبان الضلال هداية، واللّه العاصم.

ص: 57


1- سورة الكهف، الآية: 103-104.

الآيات 31-34

{يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ 31 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ 32 قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلْإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ 33 وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ 34}

بعد بيان فضل اللّه تعالى في الملبس وبعد التحذير من الافتتان بالشيطان، بيّن اللّه تعالى الحلال عن الحرام في الملبس والمأكل وغيرهما، فقال:

31- {يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} ما تتزينون به ومنها الثياب {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ} يشمل جميع المساجد بما فيها المساجد المستحدثة {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ} الأمر للإباحة، {وَلَا تُسْرِفُواْ} والإسراف هو تجاوز الحد من الحلال إلى الحرام وكذلك الإفراط والإتلاف، {إِنَّهُ} إنّ اللّه {لَا يُحِبُّ} أي يبغض {ٱلْمُسْرِفِينَ}، فكما حلّل وحرّم لآدم (عليه السلام) كذلك حلّل وحرّم لكم.

32- {قُلْ مَنْ حَرَّمَ} الاستفهام للإنكار والنفي {زِينَةَ ٱللَّهِ} والإضافة تشريفيّة {ٱلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} أي خلقها لهم فلا يحق لأحد منعهم عنها {وَٱلطَّيِّبَٰتِ} ما يستلذه الإنسان {مِنَ ٱلرِّزْقِ} مما رزقه اللّه {قُلْ هِيَ} الزينة

ص: 58

والطيّبات {لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي خلقها اللّه للمؤمنين لكن الكفّار شاركوهمفيها {فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} فيتمتع بها الكفّار والمؤمنون، حال كونها {خَالِصَةً} للمؤمنين {يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ} وإلى الأبد، حيث كانت الدنيا دار امتحان فلذا اشترك الجميع في خيراتها مع أنّ الغرض من تلك الخيرات المؤمنون، وأمّا الآخرة فهي دار جزاء فلذلك كانت للمؤمنين خالصة من غير مشاركة الكفّار لهم، {كَذَٰلِكَ} أي كما فصّلنا هذا الحكم {نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ} دلائل اللّه تعالى {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} حيث يخشى من العباد العلماء، أمّا الجاهلون فلا ينفعهم البيان لسوء اختيارهم.

33- ولما بيّن اللّه الحلال وأنّه زينة اللّه وبيّن الطيّبات من الرزق عقّبه ببيان الحرام وأنّه القبيح الخبيث {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَٰحِشَ} جمع فاحشة {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما أعلن عنه ومنه نكاح امرأة الأب، {وَمَا بَطَنَ} ما أخفي منها ومنه الزنا، {وَٱلْإِثْمَ} ومنه الخمر، {وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} أي طلب الفساد، {وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ} أي وحرّم الشرك {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا} أي دليلاً، وهذا قيد توضيحي للتهكم فليس هناك شريك أصلاً كي يدل عليه الدليل، {وَ} حرّم {أَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} بالافتراء عليه.

34- {وَ} لا يغر هؤلاء عدم أخذ اللّه لهم بأفعالهم فإنّه {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي نهاية المدّة المعيّنة لهم، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} المحتوم {لَا يَسْتَأْخِرُونَ} لا يتمكّنون من تأخيره {سَاعَةً} أي مقدار ساعة من ذلك الوقت وهي القطعة من الزمان {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} لا يتمكّنون من تقديمه حيث كانوا يقولون إن

ص: 59

كنت صادقاً فأنزل علينا العذاب، فكانوا يستعجلون به.

بحوث

الأوّل: الخطاب في هذه الآيات امتداد للاعتبار بقصّة آدم (عليه السلام) حيث زيّنه اللّه بلباس الجنّة وأباح له الأكل منها رغداً ومنعه من الأكل من شجرة واحدة، فلمّا أكل منها أخرجه اللّه من الجنّة، كذلك أمر اللّه بأخذ الزينة - من اللباس وغيره - في كل مسجد، وأباح الأكل والشرب من الطيّبات ونهى عن تجاوز الحد فيهما، كما نهى عن القبائح الاعتقاديّة والعمليّة، وكما كان لآدم أجل في الجنّة وفي الدنيا كذلك لبني آدم أجل في الدنيا، وكان أجل آدم في البقاء في الجنّة هو إلى حين الأكل من الشجرة، وأجل الأمم قد قدّره اللّه تعالى، والأجل المحتوم المسمّى عنده لا يتمكّن الناس من تقديمه ولا تأخيره.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ...} الآية.

وقوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أخذ الزينة هو التجمّل، و(الزينة) ما به الجمال والحُسن، وله مصاديق كثيرة منها: لباس التزيّن والبذلة والتمشط والغسل وغير ذلك.

وقوله: {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ} زمان ومكان السجود، وأبرز مصاديقه المكانيّة: المسجد الحرام وسائر المساجد حتى المستحدثة منها، ومن مصاديقه الزمانيّة: العيدين والجمعة وعشيّة عرفة، وفي التأويل: الغسل عند

ص: 60

لقاء كلإمام، وفي بيان هذه المصاديق روايات كثيرة راجعها في تفسير البرهان(1).

ولعلّ سبب الأمر بالتزيّن فيها لأجل أنّه نوع احترام وتعظيم وتحبيب، ولذا ترى الناس عادة يتجمّلون حينما يذهبون إلى لقاء عظيم أو يذهبون إلى المجالس العامّة وما يحبونه من الأماكن.

وقوله: {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ} الأمر للإباحة أي إنّ اللّه تعالى قد أباح الأكل والشرب مِنّة منه على عباده لأنّ حياتهم بذلك، وهذا كالتوطئة لتحريم الإسراف ولتقريع من حرّم المحلّلات.

وقوله: {وَلَا تُسْرِفُواْ} الإسراف هو تجاوز الحد في كل شيء، ولكن أكثر استعماله في الأكل والشرب والأموال، والإسراف يكون تارة بالتعدّي من الحلال إلى الحرام، وتارة: بالإتلاف، وتارة: بالإفراط في تناول الشيء.

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ} كالتعليل للنهي عن الإسراف، فإنّ اللّه لا يحب ما فيه المفسدة للخلق، وحيث كان الإسراف مفسدة بنفسه وسبباً للمفسدة أيضاً لذلك أبغضه اللّه تعالى وأبغض مرتكبه وهذا كاف في النهي عنه، وقد مر أنّ اللّه تعالى ليس محلّاً للحوادث ولا تغيّر في ذاته، فعدم حبه يعني عقابه أي إنّه تعالى يعاقب المسرفين.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ...} الآية.

ص: 61


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 111-113.

تقريع وإنكار لمن حرّموا الزينة المباحة وحرّموا الطيّبات، مع أنّ اللّهتعالى خلقها وقدّرها لأجل انتفاع عباده.

ثمّ بيّن أنهما عامتين للجميع - مؤمنهم وكافرهم - في الدنيا كما قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْأخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ}(1).

وقوله: {زِينَةَ ٱللَّهِ} الإضافة للتشريف ولتأكيد أنّها من اللّه تعالى فلا وجه لتحريمها، فالتحليل والتحريم بيد اللّه تعالى وهو قد أباحها.

وقوله: {ٱلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} كأنّه تأكيد للإباحة وتشديد على قبح التحريم حيث إنّ اللّه قدّر هذه الزينة وهيّأ أسبابها فأخرجها إلى عباده لينتفعوا ويتمتّعوا بها، والإخراج إمّا بمعناه الحقيقي أي أخرجها من الأرض كالنباتات والمعادن التي تصنع منها الزينة، أو بالمعنى المجازي أي قدّرها لهم وأوجدها.

وقوله: {وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ} الطيب هو كل ما يستلذّه الإنسان مما يتلائم مع الطبع، وفي الآيات والأحاديث قد يستعمل في كل حلال كقوله: {يُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ}(2)، وقد يستعمل في ما يُستلذ به، والمراد هنا الثاني؛ لأنّ الرزق لا يكون إلاّ من حلال - كما مر - فالطيّبات من الرزق هي المستلذّات وهي بعض المحلّلات التي رزقها اللّه تعالى للناس.

ص: 62


1- سورة البقرة، الآية: 126.
2- سورة الأعراف، الآية: 157.

وقوله: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي الغرض من خلقها هم المؤمنون، وأمّاالكفّار فهم أهون على اللّه تعالى من أن يخلق لهم ذلك، لكن لمّا كانت الدنيا دار امتحان ولا يتم الامتحان إلاّ بتمكّن الجميع من كل شيء لذا شارك الكفّار المؤمنين في هذه الطيّبات وإن كانت مشاركتهم بالتعدّي وسيحاسبون عليها في الآخرة، إلاّ أنّه في الدنيا لا يحق للمؤمنين انتزاعها منهم بالقهر، ويجوز لهم التعامل معهم فيها وشراؤها ونحو ذلك فالنفع للمؤمن والوزر على الكافر.

وقوله: {فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} يتعلّق بما تعلّق به {لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} فالمعنى هي كائنة في الحياة الدنيا للمؤمنين، فقد خلقها اللّه تعالى لهم.

وقوله: {خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ} حال، والمقصود أنّ اللّه تعالى وإن خلقها في الدنيا للمؤمنين لكنه لم يمنع الكفّار منها لا تكويناً بالقهر ولا تشريعاً حيث حكم بعدم جواز انتزاعها منهم، لكن في الآخرة منع الكفّار منها قهراً.

وقيل: {فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} يتعلّق بقوله: {ءَامَنُواْ} فالمعنى إنّ الذين آمنوا في الحياة الدنيا ستكون الزينة والطيّبات خالصة لهم يوم القيامة، ولكنّه خلاف ظاهر الآية المباركة.

الرابع: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلْإِثْمَ...} الآية.

بعد أن بيّن أنّ اللّه أحل الزينة والطيّبات بيّن أنّه حرّم القبائح والخبائث، فمنها: اعتقادي أو قولي أو عملي، ومنها: الظاهر أو الخفي، ومنها: ما يرتبط

ص: 63

بالإنسان نفسه أو ما يتعدّى إلى غيره، ومنها: ما يرتبط باللّه تعالى أو ما يرتبطبالناس، وقد تضمّنت الآية سبب تحريمها من كونها متجاوزة الحدّ في القبح، أو مبطّئة عن الخير، أو أنّها بغير حق، أو أنّها لا سلطان عليها، أو أنّها جهل، والمحرّمات كلّها محصورة في المذكورات في هذه الآية ولذا صدّرها بقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ}، وقد مر بعض الكلام في بعض هذه المحرّمات في الآية 151 من سورة الأنعام(1):

1- قوله: {ٱلْفَوَٰحِشَ} جمع فاحشة أي كل ذنب تعدّى الحدود في قبحه، ومن مصاديقه الزنا، وقوله: {مَا ظَهَرَ} أي ما أعلن عنه، كنكاح امرأة الأب، وقوله: {وَمَا بَطَنَ} أي ما أخفي، كالزنا، ويمكن أن يراد بالظاهر ما كان قبحه مكشوفاً لهم كالزنا، وبالباطن ما كان قبحه غير معلوم لهم كنكاح امرأة الأب، وبكليهما ورد الأثر(2)، وورد تأويل الباطن بأئمة الجور، والظاهر بما ذكر في القرآن(3).

2- وقوله: {وَٱلْإِثْمَ} سائر الذنوب الكبيرة، ومن ذلك الخمر كما قال تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}(4)، وأصل الإثم هو الأفعال المبطّئة عن الخير فسبب تحريمها هو منعها عن الخير والثواب.

ص: 64


1- التفكر في القرآن، سورة الأنعام: 346-350.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 124.
3- راجع تفسير العيّاشي 2: 16؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 125.
4- سورة البقرة، الآية: 219.

3- وقوله: {وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} أصل البغي هو طلب الفساد، ومنمصاديقه ظلم الغير، ومنها: الزنا سرّاً كما في الخبر(1)، وقيد {بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} توضيحي؛ إذ لا يكون بغياً إلاّ بغير الحق، وإنّما ذكره لبيان علة التحريم كما ذكرنا.

4- وقوله: {وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ} بيان المحرّم الاعتقادي، وقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا} قيد توضيحي لبيان علّة التحريم، والمعنى أنّه لا حقيقة للشرك ولذا لم يأمر اللّه به ولم ينزل عليه دليلاً؛ إذ اللّه تعالى يقول الحق ويجعل الدلالة عليه، والشرك باطل فلذا لم يجعل عليه دليلاً بل أقام الأدلة على بطلانه.

5- وقوله: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} بيان للحرام القولي وهو الافتراء على اللّه تعالى بنسبة أحكام وعقائد وغيرهما إليه عن جهل وعدم حجة.

فتحصّل أن اللّه أحل ما فيه الزينة وما هو طيّب، وحرّم القبيح والخبيث وقد جمعت هاتان الآيتان كلا الأمرين.

الخامس: قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}.

وهذا أيضاً من الاعتبار بقصّة آدم فكما كان له أجل في الجنّة وفي الدنيا، فكذلك لكل أمّة أجل فلا يغرّنّهم عدم أخذ اللّه تعالى لهم بذنوبهم

ص: 65


1- الكافي 6: 406؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 126.

فوراً، بل إنّما يملي لهم اللّه تعالى ويستدرجهم ثمّ يأخذهم بعذابه إلاّ أنيتوبوا قبل فوات الأوان.

وقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} والأجل هو نهاية المدّة المعيّنة، والمراد به الأجل المحتوم وقد مر الكلام فيه في الآية الثانية من سورة الأنعام(1)، وقوله: {أُمَّةٍ} كأنّه أراد به أجل المجموع لا أجل كل فرد فرد، فمثلاً أمّة الشرك كان لها أجل وهو فتح مكّة، أو المراد به كل مجموعة من الناس يقترنون في الزمان حيث بعد مضي مدّة ينقرضون كلّهم ويأتي آخرون بدلهم، وقيل: في هذا تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن لا يضيق صدره بفعل الكفّار، فإنّ لهم أجلاً لا يتمكّنون من الفرار منه.

وقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} أي حان وقته ونزل التقدير الحتمي، وفي الخبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «هو الذي سُمّي لملك الموت ليلة القدر»(2)، ومن ذلك يتّضح جواب أنّه كيف يمكن أن يتقدّم الأجل حين مجيء وقته مع استحالة إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء؟! فإنّ مجيء الأجل هو نزوله ليلة القدر وأخذهم خلال تلك السنة فيمكن تقديمه أو تأخيره لكن حيث كان محتوماً وقع في وقته المعيّن فقط.

وقوله: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي لا يمكنهم طلب تأخيره لأنّه يأتيهم بغتة، أو بمعنى أنّهم لا يطلبون طلباً مستجاباً لهم فلو طلبوا التأخير لا يستجاب لهم.

ص: 66


1- التفكر في القرآن، سورة الأنعام: 12-13.
2- تفسير العيّاشي 1: 354.

وقوله: {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} أي لا يمكنهم طلب تقديمه، حيث إنّ المشركينكانوا يستعجلون بالعذاب تكذيباً منهم لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال سبحانه: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}(1)، وقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(2).

ص: 67


1- سورة الشعراء، الآية: 204.
2- سورة العنكبوت، الآية: 53.

الآيات 35-37

اشارة

{يَٰبَنِي ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِي فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 35 وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ 36 فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ أُوْلَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ 37}

35- وكما أوحينا إلى آدم تكليفه كذلك أوحينا إليكم عبر الرسل ف{يَٰبَنِي ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} «إن» الشرطيّة، و«ما» لتأكيد معنى الشرط أي إن أتتكم {رُسُلٌ مِّنكُمْ} من جنسكم فهم بشر مثلكم {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ} يخبرونكم {ءَايَٰتِي} دلائل اللّه تعالى {فَمَنِ ٱتَّقَىٰ} حفظ نفسه عن المعاصي {وَأَصْلَحَ} عمله أي عمل عملاً صالحاً {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من عذاب اللّه {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من أمر الدنيا.

36- {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} جحدوها {وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا} رأوا أنفسهم فوقها فلم يقبلوها {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ} الملازمون لها {هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}.

37- {فَمَنْ} استفهام تقريري أي هل هناك {أَظْلَمُ} أشد ظلماً {مِمَّنِ

ص: 68

ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا} تقوّل على اللّه ما لم يقله تعالى {أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ} جحد ما قاله اللّه تعالى {أُوْلَٰئِكَ} المفترون والمكذِّبون {يَنَالُهُمْ} يصل إليهم فلاينقطع عنهم {نَصِيبُهُم} ما قسّمه اللّه لهم {مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ} مما كتب لهم من الأعمار والأرزاق فكفرهم لا يمنع من تمتعهم في الدنيا ولكن له غاية، {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} ملك الموت أو أعوانه {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي لأجل أن يقبضوا أرواحهم {قَالُواْ} الرسل وقولهم للتوبيخ والتقريع: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ} أين أصنامكم لتدفع العذاب عنكم؟! {قَالُواْ} المفترون والمكذّبون: {ضَلُّواْ} أي غابوا وبطلوا {عَنَّا} عن نصرتنا، {وَشَهِدُواْ} اعترفوا {عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ} حيث لا محيص لهم عن إنكار جريمتهم.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {يَٰبَنِي ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِي...} الآية.

بعد بيان فضل اللّه تعالى في المقطع الأوّل بقوله: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا...} الآية، وبعد التحذير من الشيطان في المقطع الثاني بقوله: {لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ...} الآية، وبعد بيان ما أحلّه اللّه وما حرّمه في المقطع الثالث بقوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ...} الآية، بيّن اللّه في هذا المقطع الرابع لزوم اتّباع الرسل وعاقبة التقوى والتكذيب، فإنّ اللّه تعالى أوحى إلى آدم (عليه السلام) مباشرة لكونه نبيّاً، ويوحي إلى بني آدم عبر

ص: 69

الأنبياء (عليهم السلام) ، مع وجود دلالة على صدقهم بأنّهم يبينون آيات اللّه تعالى للناس وبذلك تمييزهم عن المدّعين زوراً وكذباً، فالرسل يقصّون آيات اللّه ممّا يدركهاالناس بفطرتهم وعقولهم وأمّا الأدعياء فيحكون الباطل وكفى به دليلاً على كذبهم وافترائهم.

وقوله: {رُسُلٌ مِّنكُمْ} بيان كون الأنبياء من جنس البشر، وأمّا الملائكة فلا يوحون إلى عامّة الناس وإنّما يرسلهم اللّه تعالى لقبض الأرواح حين مجيء أجل كل إنسان.

وفي تقريب القرآن: «لا يقال: لا رسول بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فما معنى ذلك؟

قلت: إنّ الشرط قد يصاغ لإفادة التحقيق، فهو إنشاء مفهوم الشرط لغرض آخر، كما ينشأ مفهوم التعجّب والأمر والاستفهام لأغراض أخرى، فالمراد هنا أنّ الرسل تأتي لتبيّن للناس، فمن أطاع سعد ومن خالف شقي»(1).

وقوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ} القص هو تتبّع الأثر سواء بقول أم بفعل، فمن القول الإخبار عن اللّه تعالى بما يدل عليه، ومن الفعل إظهار المعاجز، ولذا بيّن أنّ المقصوص هو آياته تعالى.

وقوله: {فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ...} بيان الجانب السلبي عبر ترك المعاصي ووقاية النفس منها، والجانب الإيجابي عبر العمل الصالح.

وقوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من عذاب اللّه تعالى، والخوف إنّما هو من

ص: 70


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 176.

الأهوال في المستقبل.

معنى عدم حزن المؤمنين

وقوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من الدنيا، والحزن إنّما هو علىأمر قد فات في الماضي.

وهذا لا ينافي خوفهم من الظالمين ومن بلايا الدنيا، وكذلك حزنهم على بعض ما فقدوه من دنياهم؛ لأنّ المقصود هو الخوف والحزن في الآخرة حيث إنّ المؤمن يبشر بالجنّة حين موته وبذلك يرى أنّ تجارته كانت رابحة فلا يحزن على ما فاته من الدنيا، قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(1)، كما لا ينافي خوف المؤمن من عدم قبول عمله أو من سوء عاقبته، بل المؤمن دائماً بين الخوف والرجاء كما في الأحاديث؛ وذلك لأنّ خوفه هذا إنّما هو في الدنيا، فإذا حان موته اطمئن بالقبول وحسن العاقبة حينما تبشره الملائكة، بل حينما يحضره رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ليبشراه بالجنّة كما في الأحاديث.

الثاني: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}.

كأنّ التكذيب قولي، والاستكبار قلبي وعملي، أو هذه الآية مع الآية السابقة متقابلتان: فأولئك اتقوا التكذيب وهؤلاء كذّبوا، وأولئك أصلحوا قلوبهم وأعمالهم وهؤلاء أفسدوهما بالاستكبار، ثمّ إنّ أولئك لا خوف

ص: 71


1- سورة فصّلت، الآية: 30.

عليهم ولا يحزنون وهؤلاء في خوف وحزن دائمين لأنّهم ملازمون للنار مع أهوالها وحسرتهم على ما فرّطوا في جنب اللّه تعالى.

وقيل: إدخال الفاء في قوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} دون قوله: {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ} للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد(1).

الثالث: قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ}.

كأنّه تعليل لخلود المكذّبين المستكبرين في النار، بأنّهم أكثر الناس ظلماً، حيث ارتكبوا أشنع الأعمال وهو افتراء الكذب على اللّه تعالى وتكذيب آياته، فجرمهم مضاعف في الشناعة.

والافتراء على اللّه تعالى ملازم عادة للاستكبار عن آياته سبحانه، فالمعنى إن الذين كذّبوا بالآيات والذين استكبروا عنها فافتروا على اللّه الكذب هؤلاء هم أشد الناس ظلماً.

وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} قد مر أنّ كلمة (أظلم) استعملت في توصيف عدّة من الأعمال وكلّها ترجع إلى الاستكبار على اللّه تعالى وتكذيب آياته، وذلك أشنع الأعمال، وفي التقريب: «إخبار في صورة استفهام ليكون أبلغ؛ إذ السامع يُعد نفسه ليجيب بجواب يُرضي المتكلّم، فهو إخبار مع أخذ الموافقة من السامع»(2).

ص: 72


1- راجع تفسير الصافي 3: 169.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 177.

وقوله: {كَذِبًا} تأكيد لقوله: {ٱفْتَرَىٰ} لأنه لا يكون افتراءً إلاّ إذا كان كذباً، فهو تشديد التشنيع عليهم.

وقوله: {أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ} لعلّ استعمال (أو) مع تلازم الافتراء والتكذيبعادة لأجل بيان أنّ كل واحد منهما يكفي في أن يكون مرتكبه أشد الناس ظلماً، فكيف بمن جمع بين الرذيلتين!

الرابع: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا...} الآية.

بيان أنّ اللّه قدّر لهم أعماراً وأرزاقاً في الدنيا فيُمهلهم ليتمتّعوا بها كما تتمتّع الأنعام فلا يأخذهم فوراً؛ إذ لولا ذلك لبطل الامتحان ولآمن الجميع اضطراراً، مع أنّ اللّه لا يريد إلاّ إيمانهم اختياراً، فلا ينفع الإيمان اضطراراً نظير إيمان أهل النار حيث إنّهم في ندم واصطراخ ليرجعهم اللّه إلى الدنيا حتى يعملوا صالحاً.

وقوله: {يَنَالُهُمْ} النيل - إذا أطلق - كان بمعنى وصول النفع، فالمراد هنا التمتع في الدنيا كما قال تعالى: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ}(1).

وقوله: {نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ} أي ما قسمه اللّه وقدّره لهم.

وقوله: {مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ} أي لوح التقديرات، أو بمعنى ممّا كتبه اللّه تعالى لهم.

ص: 73


1- سورة البقرة، الآية: 126.

وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ...} أي غاية النصيب هو لحظة الاحتضار حيث تحضر ملائكة الموت.

وقوله: {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي لأجل أن يقبضوا أرواحهم، فإنّ التوفّي هو أخذالشيء وافياً كاملاً.

وقوله: {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} (الضلال) هو ضياع الشيء وذهابه في غير حقه(1)، فهو ذهاب بمعناه السلبي، والمراد هنا غيابهم لعجزهم ولكونهم باطلاً لا حق فيه.

وقوله: {وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ...} كأنّ الغرض من سؤال الملائكة إضافةً إلى تقريعهم هو أخذ الإقرار منهم ليكون العدل في عقابهم أظهر وأبين، فإنّ المجرم المعترف لا مجال لتوهم الظلم فيه، واللّه العالم.

ص: 74


1- مقاييس اللغة 3: 356.

الآيات 38-41

اشارة

{قَالَ ٱدْخُلُواْ فِي أُمَمٖ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ فِي ٱلنَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَىٰهُمْ لِأُولَىٰهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فََٔاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ ٱلنَّارِ قَالَ لِكُلّٖ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ 38 وَقَالَتْ أُولَىٰهُمْ لِأُخْرَىٰهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٖ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ 39 إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَٰبُ ٱلسَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ 40 لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٖ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّٰلِمِينَ 41}

ثمّ يأتي ذكر حال الفريقين - المؤمنين والكافرين - في الآخرة، وحيث انتهت الآية السابقة إلى الكفّار حين موتهم بدأ بذكر سوء عاقبتهم في الآخرة:

38- {قَالَ} اللّه سبحانه يوم القيامة: {ٱدْخُلُواْ فِي أُمَمٖ} أي مع أقوام كفّار {قَدْ خَلَتْ} مضت وسبقت {مِن قَبْلِكُم مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ} وقوله: {فِي ٱلنَّارِ} متعلّق ب«ادخلوا» {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} في النار {لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} أي الأمّة التي مثلها في الكفر، عكس أهل الجنّة التي تحيّتهم فيها سلام {حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ} أي تداركوا واجتمعوا {فِيهَا} في النار {جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَىٰهُمْ} المتأخّرة زماناً أو رتبةً لكونها التابعة {لِأُولَىٰهُمْ} المتقدّمة زماناً أو رتبةً

ص: 75

لكونها المتبوعة، أي قالت للّه حولهم: {رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} وبقولهم هذايريدون الإفلات من العذاب بإلقاء الذنب على المتبوعين {فََٔاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ ٱلنَّارِ} فعذاب لأنّهم كانوا ضالّين وعذاب آخر لأنّهم أضلّونا وبذلك ننجو نحن من العذاب حيث لا ذنب لنا! {قَالَ} اللّه سبحانه: {لِكُلّٖ ضِعْفٌ} أما الأمّة الأولى وهم المتبوعون من الرؤساء والسلف الماضي فلضلالهم وإضلالهم، وأما الأمّة الأخرى وهم التابعون فلضلالهم وتقويتهم أولئك حيث اتّبعوهم وصاروا سبباً لاستمرار الإضلال للأجيال اللاحقة، {وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ} لأنّكم تشاهدون شدّة العذاب ولا تعلمون أنّه مضاعف.

39- {وَقَالَتْ أُولَىٰهُمْ لِأُخْرَىٰهُمْ} إنّ دعاءكم بمضاعفة العذاب علينا لتفلتوا لا ينفعكم؛ إذ {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٖ} أي اتّباعكم لنا صار ضرراً علينا - بتضاعف عذابنا - فأيّ مِنّة لكم علينا كي نتحمل نحن عنكم العذاب وتنجوا أنتم؟ {فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} فعذابكم المضاعف نتيجة عملكم.

40- ثمّ بيّن اللّه تعالى عدم نجاة أيٍّ منهم من العذاب فقال: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا} رفضوها وتكبّروا عن الإيمان بها {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَٰبُ ٱلسَّمَاءِ} لرفع أعمالهم ولصعود أرواحهم {وَلَا يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ} أبداً {حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ} ثقب {ٱلْخِيَاطِ} أي الإبرة، فكما يستحيل هذا كذلك يستحيل دخولهم الجنّة أيضاً، {وَكَذَٰلِكَ} أي هكذا بمنعهم عن الجنّة {نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ} فبالإجرام يستحيل دخول الجنّة.

ص: 76

41- {لَهُم} لهؤلاء المكذّبين المستكبرين {مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} فراش {وَمِنفَوْقِهِمْ غَوَاشٖ} أغطية من نار، والمراد أنّ النار محيطة بهم من كل الجهات {وَكَذَٰلِكَ} أي هكذا بإدخالهم النار {نَجْزِي ٱلظَّٰلِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم وظلموا أولياء اللّه وظلموا أتباعهم ومتبوعيهم.

بحوث

الأوّل: بعد ذكر أنّ الكفّار لهم نصيب من الكتاب ليتمتعوا في الدنيا وأنّ الملائكة يوبّخونهم حينما يتوفونهم، يذكر اللّه تعالى مصيرهم في الآخرة، وأنهم يلعن بعضهم بعضاً رغم المودّة والاتّباع بينهم في الحياة الدنيا كما قال: {وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَٰنًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٖ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّٰصِرِينَ}(1)، وأنّ التابعين يريدون الفرار من العذاب بإلقاء الذنب على المتبوعين، كما كان يزعم المتبوعون في الدنيا، قال تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَٰيَٰكُمْ وَمَا هُم بِحَٰمِلِينَ مِنْ خَطَٰيَٰهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسَْٔلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}(2)، ثمّ يبيّن اللّه تعالى استحالة إدخالهم الجنّة وأنّ جهنّم محيطة بهم من فوقهم ومن تحتهم وأنّ عذاب كل من التابع والمتبوع ضعفٌ لتضاعف جرم كل واحد منهم، وعلى عكسهم المؤمنون فهم متحابون في الجنة حتى لو كانوا متباغضين في الدنيا

ص: 77


1- سورة العنكبوت، الآية: 25.
2- سورة العنكبوت، الآية: 12-13.

حيث ينزع اللّه الغل من قلوبهم وفوقهم أشجار الجنّة وتحت أرجلهم أنهارها، وسيأتي بقية الكلام.

الثاني: قوله تعالى: {قَالَ ٱدْخُلُواْ فِي أُمَمٖ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِفِي ٱلنَّارِ...} الآية.

الظاهر أنّ تكليمهم إمّا بالمباشرة أو بواسطة الملائكة وفي هذا الكلام زيادة إذلال لهم، ويحتمل أن يكون القول هنا بمعنى الإرادة.

وقوله: {فِي أُمَمٖ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم...} (في) بمعنى (مع) أي مع تلك الأمم الذين كنتم تقلّدونهم وتتّبعونهم وقد ذكرهم تعالى قبل آيات فقال: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا}(1).

وقوله: {مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ} أي الشياطين السابقين الذين أضلّوا آباؤكم، والآباء والأمم الذين اتّبعتموهم، وفي ذلك دلالة على أنّ الموعود بالبقاء إلى الوقت المعلوم هو إبليس، وأمّا جنوده وذرّيته فمنهم من يموت قبل ذلك، ولعلّ تقديم الجن لأنّ الضلال يبدأ من إبليس وجنوده ثمّ يتّبعهم فريق من الناس فيضلّون غيرهم.

وقوله: {أُخْتَهَا} أي الأمّة التي مثلها في الضلال، أو التابع والمتبوع، كل منهم يلعن الآخر ويتبرأ منه، قال تعالى: {إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ}(2)، وقال: {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم

ص: 78


1- سورة الأعراف، الآية: 28.
2- سورة ص، الآية: 64.

بِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا ٱلْمُجْرِمُونَ}(1).

وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا} «ادّاركوا» هو تداركوا أي اجتمعوافي جهنّم وأدرك بعضهم بعضاً حيث يحتج بعضهم على بعض، ومن هذا يظهر أنّهم قبل ذلك وفي المحشر لم ير بعضهم بعضاً فلكل منهم شأن يغنيه إلاّ أنّهم يطلبون من اللّه تعالى أن يريهم من أضلّهم كما قال: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلْأَسْفَلِينَ}(2)،

فلمّا يدخلون جهنّم جميعاً يبدأ التخاصم بينهم.

وقوله: {قَالَتْ أُخْرَىٰهُمْ لِأُولَىٰهُمْ...} اللام في {لِأُولَىٰهُمْ} بمعنى (عن) أي قالت أخراهم حول أولاهم حيث إنّ المخاطَب هو اللّه سبحانه، وقيل: في الكلام اختصار بليغ أي قالت أخراهم لأولاهم أنتم أضللتمونا ثمّ يدعون اللّه تعالى بقولهم: {رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} ولكن ما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال.

و{أُولَىٰهُمْ} هم السابقون بالرتبة حيث كانوا الرؤساء والمتبوعين، والسابقون بالزمان حيث كانوا الآباء، ومن أبرز مصاديق الصنفين أئمّة الكفر والنفاق والضلال، و{أُخْرَىٰهُمْ} هم المتأخّرون رتبة أو زماناً وهم الأتباع.

وقوله: {فََٔاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ ٱلنَّارِ} يقولون هذا الكلام للتخلّص من العذاب أي حمّل عذابنا عليهم لأنّهم كانوا السبب في إغوائنا، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «برئ بعضهم من بعض ولعن بعضهم بعضاً، يريد بعضهم أن يحج بعضاً رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم، وليس بأوان بلوى

ص: 79


1- سورة الشعراء، الآية: 96-99.
2- سورة فصلت، الآية: 29.

ولا اختبار ولا قبول معذرة ولات حين نجاة»(1).

وقوله: {قَالَ لِكُلّٖ ضِعْفٌ} أي كون أولئك سبباً لضلالكم لا يخلّصكم من العذاب بل على العكس يضاعفه عليكم؛ فكما أنّ جرمهم متعدّد كذلك جرمكم، فالمتبوعون كانوا ضالين ومضلّين فلكل واحد من الجريمتين عذاب، وأمّا التابعون فكانوا ضالّين وصاروا سبباً لتقوية أولئك الرؤساء ونفوذ كلمتهم وضلالهم، فكذلك لكل واحد من الجرمين عذاب.

سبب تضاعف العذاب

وقوله: {وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ} أي لا تعلمون تضاعف عذاب كل صنف، ولعلّ ذلك لأنّهم محاطون بالعذاب الأليم فلا يعلمون أنّه عذاب مضاعف، أو لأنّ درجات العذاب متفاوتة حسب كثرة وشدّة الجرائم فلذا لا يمكنهم قياس كل عذاب بالآخر ليعلموا بتضاعفه، فمثلاً أحد المتبوعين كان جرمه ألف سيّئة وصار سبباً لألف سيّئة فعذابه مضاعف بمقدار ألفي سيّئة، والآخر جرمه عشرة آلاف سيّئة وصار سبباً لعشرة آلاف سيئة فعذابه مضاعف بمقدار عشرين ألف، وهكذا الأمر في التابعين حيث إنّ درجات سيّئاتهم وتقويتهم للمتبوعين مختلفة.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَتْ أُولَىٰهُمْ لِأُخْرَىٰهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٖ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}.

هذا ردّ من المتبوعين على التابعين، وحلقة في سلسلة تخاصمهم، حيث إنّ التابعين أرادوا إلقاء ذنبهم على المتبوعين فطلبوا من اللّه تضاعف

ص: 80


1- الكافي 2: 31.

عذابهم، لكن لمّا علم المتبوعون أنّ كلا الفريقين عذابه ضعف فهنا يحتج المتبوعون ويقولون بأنّ اتّباعكم لنا لم يكن فضلاً منكم علينا بل كان نقمة علينا - حيث ضاعف عذابنا - فلأيّ وجه كنتم تريدون إلقاء عذابكم علينا؟!والحاصل أنّ التابع لم يخدم المتبوع حتى يريد أجر خدمته بنقل عذابه إلى المتبوع بل كان اتّباعه ضرراً ووبالاً عليه.

وقوله: {فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ...} ظاهره أنّه من تتمة كلام الطائفة الأولى المتبوعة، فكما أولئك طلبوا مضاعفة عذابهم، هؤلاء يقولون لهم ذوقوا العذاب، قالوه شماتة وتشفّياً وانتقاماً.

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} لأنّ أحداً لم يكرهكم على اتّباع الضالّين، بل أنتم بسوء اختياركم اتبعتموهم فذنبكم ثابت لا محالة.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَٰبُ ٱلسَّمَاءِ...} الآية.

بيان استحالة دخول المكذّبين المستكبرين إلى الجنّة وذلك لأنّهم مجرمون، ودخول المجرم الجنّة خلاف الحكمة، كما أنّ الآية اللاحقة تبيّن دخولهم إلى النار وذلك لأنّهم كانوا ظالمين، فجرمهم صار سبباً لحرمانهم عن الجنّة، وظلمهم صار سبباً لدخولهم النار، وغير خفي أنّ كلّاً من الإجرام والظلم كما هو مانع عن الجنّة كذلك هو مقتض ٍ للنار، إلاّ أنّ توزيعه بين الآيتين للتأكيد على سوء عاقبة هؤلاء.

وقوله: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَٰبُ ٱلسَّمَاءِ} السماء تفتح ليصعد إليها العمل

ص: 81

الصالح كما قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُ}(1)، كما أنها تفتح ليعرج إليها روح المؤمن، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «أمّا المؤمنونفترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها، وأمّا الكافر فيُصعد بعمله وروحه حتّى إذا بلغ السماء نادى منادٍ: اهبطوا به إلى سجين وهو واد بحضرموت يقال له برهوت»(2).

وقوله: {وَلَا يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ...} الجنّة وإن كانت في السماء السابعة - كما في بعض الأحاديث - إلاّ أنّ دخولها يقتضي فتح أبواب السماء لرفع العمل الصالح وعروج المؤمن أوّلاً، وهكذا بالنسبة إلى الكافر فغلق أبواب السماء يقتضي عدم دخوله الجنّة، ولذا عطف عدم دخول الجنّة على عدم فتح أبواب السماء.

وقوله: {حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ} (السم): الثقب، و(الخياط): الإبرة. وفي مجمع البيان: «تعليق الحكم بما لا يتوهّم وجوده ولا يتصوّر حصوله تأكيد له وتحقيق لليأس من وجوده»(3)، فالمعنى كما يستحيل دخول الجمل في ثقب الإبرة كذلك يستحيل دخول المجرمين الجنّة، حيث إنّ الجنّة ثواب ولا وجه لثواب المجرم على إجرامه.

الخامس: قوله تعالى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٖ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّٰلِمِينَ}.

ص: 82


1- سورة فاطر، الآية: 10.
2- التبيان 4: 400؛ البرهان في تفسير القرآن 4: 129.
3- مجمع البيان 4: 364.

أي لا يقتصر جزاؤهم بمنعهم عن الجنّة فقط، بل يتعدّى ذلك إلى دخولهم النار وإحاطتها بهم.

وقوله: {مِهَادٌ} اسم جمع من المهد وهو الموضع يهيّأ لينام فيه الصبي(1)، وكأنّه لبيان عدم راحتهم لأنّ المهد مكان الراحة، فإذا كان المهد جهنّم فمعنى ذلك عدم الراحة والعذاب الدائم.

وقوله: {غَوَاشٖ} جمع غاشية وهو ما يغطّي الشيء ويستره كاللحاف، فالمراد أنّ جهنّم محيطة بهم من كل الجهات.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّٰلِمِينَ} بيان لعدله تعالى وأنّهم إنّما استحقوا ذلك بظلمهم أنفسهم وظلمهم غيرهم.

ص: 83


1- كتاب العين 4: 31.

الآيات 42-45

اشارة

{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ 42 وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلّٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلْأَنْهَٰرُ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 43 وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ 44 ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِٱلْأخِرَةِ كَٰفِرُونَ 45}

لمّا ذكر اللّه تعالى أحوال أهل النار لتكذيبهم واستكبارهم، قابله بذكر أحوال أهل الجنّة لإيمانهم وعملهم الصالح، فقال:

42- {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ} فلم يكذّبوا {وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ} فلم يستكبروا، ولا يراد عملهم بجميع الصالحات؛ إذ {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي نكلّفهم ما يقدرون عليه دون طاقتهم {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ} ملازمون لها {هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}.

43- {وَنَزَعْنَا} أخرجنا {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلّٖ} حقد وعداوة لتصفو لهم اللذّة حيث إنّ الجنّة لا مكان للقبائح فيها {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلْأَنْهَٰرُ}

ص: 84

عكس أهل النار حيث كانت جهنّم مهاداً لهم {وَقَالُواْ} شاكرين: {ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا} أرشدنا طريق هذا النعيم {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} بما يوصلناإلى الجنّة {لَوْلَا أَنْ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ} فالفضل له سبحانه حيث وفّقنا للّهداية {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ} فاهتدينا بإرشادهم ولم نكذّبهم، {وَنُودُواْ} النداء من اللّه تعالى أو ممّن يأمرهم اللّه بذلك: {أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ} التي كنتم توعدون بها فهي هذه {أُورِثْتُمُوهَا} صارت إليكم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} جزاءً لأعمالكم الصالحة.

44- {وَ} لمّا علم كل من المؤمنين والكفّار منزلتهم حصل الحوار التالي بينهم ف{نَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ} نداء توبيخ وتقريع: {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} من الثواب والجنّة {حَقًّا} وها نحن قد دخلنا الجنّة {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ} من البعث والنشور والحساب والنار وغيرها من المواعيد {حَقًّا}؟ {قَالُواْ} الكفّار أصحاب النار: {نَعَمْ} حيث لا يمكنهم الإنكار، {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ} أي نادى منادٍ وهو أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حيث أذّن بالبراءة في الدنيا ويؤذن باللعنة في الآخرة فيقول: {أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ} بيان وجه استحقاقهم النار بظلمهم.

45- والظالمون هم {ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ} يمنعون ويضلّون {عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} وهو الصراط المستقيم بالإيمان والعمل الصالح {وَيَبْغُونَهَا} يطلبون السبيل {عِوَجًا} منحرفاً عن الصراط المستقيم {وَهُم بِٱلْأخِرَةِ كَٰفِرُونَ} منكرون جاحدون.

ص: 85

سهولة الدين

بحوث

الأوّل: لمّا ذكر مصير أهل النار وما يجري عليهم فيها، قابله بنعيم أهلالجنّة وما يجري عليهم فيها، وقابل كل فعلة وقولة لأولئك بفعلة وقولة لهؤلاء، فقابل بين: كذّبوا وآمنوا، وبين استكبروا وعملوا الصالحات، وبين لعنت أختها ونزعنا ما في صدورهم من غلّ، وبين غواش جهنّم وظلال الجنّة، وبين مهاد جهنّم وأنهار من تحتهم، وبين هؤلاء أضلّونا والذي هدانا لهذا، وبين تبرّي التابعين من المتبوعين وجائت رسل ربنا بالحق، وبين العذاب بما كنتم تكسبون والجنّة بما كنتم تعملون، وبين المجرمين الظالمين والمهتدين، وبين استحالة دخولهم الجنّة حتّى يلج الجمل في سم الخياط وسهولة التكاليف الموجبة لدخولها.

الثاني: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...} الآية.

بيان أنّ في طريق الجنّة يُسر وسماح--ة لأنّ التكاليف - وإن كان فيها نوع مشقة - إلاّ أنّها دون طاقة الإنسان، فقد كلّف اللّه الإنسان بما يسعه ولم يكلّفه أزيد من ذلك مع تمكّن الإنسان من الأزيد، فقد كلّفه الصلاة سبع عشرة ركعة في كل يوم وهو يتمكّن أكثر منه، وكلّفه صيام شهر واحد في السنة وهو يستطيع أزيد منه، وكلّفه الحج مرّة واحدة لو كان مستطيعاً وهو قادر على الأكثر، وكلّفه من المال قليلاً ويسعه أكثر وهكذا، وفي الحديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «بعثت بالحنيفيّة السهلة السمحاء»(1).

ص: 86


1- بحار الأنوار 30: 548.

وقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} جملة معترضة وقيل: إنّ الصالحات جمع محلّى باللام يفيد العموم، وقلّما إنسان يتمكن من العمل بجميعها فلذاأراد اللّه تعالى تقويّة الرجاء فيهم ودعوة العصاة للإنابة والتوبة ببيان أنّ التكاليف تسعهم، و(التكليف) من الكلفة التي هي بمعنى المشقّة حيث إنّ الطاعات تخالف الهوى والشهوات عادة لذا كان فيها نوع صعوبة، لكن لا بد في كل نتيجة عاليّة من صعوبة في الوصول إليها، وغاية الغايات الجنّة وهي أعلى المقاصد فكان لا بد من صعوبة فيها لكن اللّه تعالى بلطفه وفضله يسّرها ووسّع فيها.

الثالث: قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلّٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلْأَنْهَٰرُ}.

لأنّ النعمة لا تكمل إلاّ بصفاء القلوب وخلوها من الضغائن، ولأنّ الجنّة دار سلام لا قبائح فيها فلذا ينزع اللّه كل غل من قلوب أهل الجنّة؛ وذلك لأنّ الناس حتى المؤمنين منهم حينما يعيش بعضهم مع بعض - لاختلاف أذواقهم وأفهامهم وأفعالهم - قد ينصدم بعضهم ببعض فتُثار الضغائن كزوج لا يتفق مع زوجته فيطلقها فيورث ذلك غلّاً بينهما وبين أهليهما وأمثاله كثير، والمؤمنون وإن كانوا لا يظهرون هذا الغل عادة إلاّ أنّه يلازم القلب، فينزعه اللّه تعالى يوم القيامة نزعاً، وهذا بخلاف أهل النار حيث إنّهم حتّى المتوادّين منهم يتبرّأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً ويحقد بعضهم على بعض يوم القيامة، قال تعالى: {ٱلْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلْمُتَّقِينَ}(1).

ص: 87


1- سورة الزخرف، الآية: 67.

وقوله: {وَنَزَعْنَا} النزع هو قلع الشيء(1)، وفيه إشعار بلصوقه.

وقوله: {مِّنْ غِلّٖ} هو حقد يتخلل القلب وفي المقاييس: «يدل على تخلّل شيء وثبات شيء كالشيء يُغرز»(2)،

فكأنّ الحقد لاصق لا يزول إلاّ بالقلع، وهذا ما يشاهد في أحقاد الناس في الدنيا حيث لا تزول عادة مهما يكن.

الرابع: قوله تعالى: {وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ...} الآية.

قد مرّ أنّ الهداية تارة هي إراءة الطريق، وأخرى الإيصال إلى المقصود، وكأنّهم جمعوها هاهنا، فقد أوصلهم اللّه تعالى إلى الجنّة بعد أن أراهم طريقها عبر أنبيائه ووفّقهم إليها بحسن اختيارهم، كما أنّه قد مرّ أنّ كل كمال من اللّه تعالى ومنه الهداية، إلاّ أنّ للإنسان دخلاً فيها لمّا يُحسن النيّة والعمل، وهو معنى الأمر بين الأمرين الذي بيّنه الأئمة (عليهم السلام) .

وقوله: {وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ} بيان لشكرهم نعمة اللّه عليهم بهدايتهم عكس أهل النار حيث قالوا: {رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا...}.

وقوله: {ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا} أي أوصلنا إلى الجنّة كما قال: {وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}(3).

وقوله: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ} لمّا ذكروا أنّ اللّه تعالى هو الذي

ص: 88


1- مقاييس اللغة 5: 415.
2- مقاييس اللغة 4: 375.
3- سورة محمّد، الآية: 4-5.

هداهم بيّنوا أنّ من طريق هدايته أن أرسل الرسل فجاءوا بالحق من عند اللّه تعالى ولولا إرسالهم لم يكن المؤمنون ليهتدون، وفي ذلك بيان شكرهم للرسل الذين هدوهم، عكس أهل النار الذين يدعون لتضاعف عذاب متبوعيهم الذين أضلّوهم، و{بِٱلْحَقِّ} بمعنى مجيئاً بالحق أو مع الحق الذي هو تعاليمهم من العقائد والأعمال.

وقوله: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ...} وهذا النداء من اللّه أو ممّن يأمره، وذلك قبل دخولهم الجنّة حسب ما يقتضيه السياق، عكس أهل النار الذين كان يقال لهم: {قَالَ لِكُلّٖ ضِعْفٌ}، وفي هذا النداء نوع ثواب للمؤمنين؛ لأنّ الفائز حينما ينال جائزته يُمدح ويبيّن له ولغيره سبب نجاحه فيزداد سروراً.

وقوله: {تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ} الإشارة بالبعيد لأجل تعظيمها ورفعتها، نظير قوله تعالى: {ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ}(1)، وقيل: لأنّهم وُعدوا بها في الدنيا، وظاهر السياق أنّه قبل دخولهم فلذلك أشار بالبعيد.

وقوله: {أُورِثْتُمُوهَا} أصل الإرث هو أن يكون شيء لشخص ثمّ بموته ينتقل إلى غيره، وهذا تشبيه أي أ ُعطيتم إيّاها سائغة كما يصير الميراث لأهل الميّت، أو الجنّة كانت في معرض أن ينالها الكفّار أيضاً لو كانوا يؤمنون ويعملون الصالحات فلمّا كفروا وكذّبوا نالها كلّها المؤمنون فكأنّهم ورثوها، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «ما خلق اللّه خلقاً إلاّ جعل له في الجنّة منزلاً، وفي النار منزلاً» - إلى أن قال - «ثمّ ينادي منادٍ: يا أهل النار

ص: 89


1- سورة البقرة، الآية: 2.

ارفعوا رؤوسكم، فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنّة وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم لدخلتموها». قال: «فلو أنّ أحداً مات حزناً لمات أهل النار حزناً، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء ويورث هؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول اللّه: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْوَٰرِثُونَ * ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}»(1).

أقسام الاستهزاء

الخامس: قوله تعالى: {وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا...} الآية.

هذا من ضمن عقاب أهل النار وجزائهم على تكذيبهم للمؤمنين وسخريتهم منهم وبذلك يتم سرور المؤمنين لمّا يروا إقرار المكذّبين على كونهم على حق، وفي المجمع: «وإنّما سألوهم هذا السؤال لأنّ الكفّار كانوا يكذّبون المؤمنين في ما يدّعون لأنفسهم من الثواب ولهم من العقاب، فهو سؤال توبيخ وشماتة يراد به سرور أهل الجنّة وحسرة أهل النار»(2).

مضافاً إلى أنّه لطف بالعباد في الدنيا لأنّ نقل هذه المحاورة قد توجب ارتداع بعض الكفّار والعصاة عن غيّهم، وأيضاً قد يكون الغرض منه بيان شدّة عدل اللّه تعالى وصدق ما قالته رسله.

ثمّ الاستهزاء والتوبيخ إذا كان في حق وبغرض حق فلا قبح فيه بل هو حسن، وإنّما القبيح منه ما كان بغير الحق أو لغرض باطل، كاستهزاء الكفّار

ص: 90


1- تفسير القمي 2: 89؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 7: 15؛ والآية في سورة المؤمنون: 10-11.
2- مجمع البيان 4: 371.

بالأنبياء والمؤمنين، أو استهزاء الأغنياء بالفقراء لفقرهم مثلاً، قال سبحانه: {وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}(1).

وقوله: {وَنَادَىٰ} إنّما استعمل صيغة الماضي لأنّه متحقق الوقوع فلا ريب فيه كالشيء الذي وقع في الماضي حيث لا ريب فيه، وفي الجمع: «إنّما ذكره بلفظ الماضي لتحقيق المعنى وجعل ما سيكون كأنّه قد كان لأنّه كائن لا محالة وذلك أبلغ في الردع»(2)، أو هو إخبار باعتبار ظرف الحكاية كما يقال: سيجيء زيد بعد شهر معه صقر صائداً به حمامة.

وقوله: {مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} وقوله: {مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ} نسب المؤمنون الوعد إليهم ولم ينسبوه إلى الكفّار إمّا لتشريف المؤمنين وتحقير المكذّبين،

أو لأنّ الموعود الذي ساء الكفّار - من البعث والحساب ونحوهما - لم يكن خاصاً بهم بل وعده اللّه لكلا الطائفتين من المؤمنين والكفّار، فهم قصدوا بالنسبة إلى أنفسهم الجنّة التي وعدها اللّه للمؤمنين فهم كانوا موعودين بها دون غيرهم، وقصدوا بالنسبة إلى الكفّار جميع المراحل التي يمرّ بها الناس من حين الموت وفي كلّها رأى الكفّار ما يسوؤهم، وفي التقريب: «والوعد وإن كان بالنسبة إلى كلا الطائفتين، إلاّ أنّ انحراف العاصين وإعراضهم واهتداء المطيعين إلى الطريق أورث توجّه الوعد إلى أهل الجنّة والوعيد

ص: 91


1- سورة هود، الآية: 38.
2- مجمع البيان 4: 370.

إلى أهل النار»(1).

وقوله: {قَالُواْ نَعَمْ} اعترافهم وإقرارهم اضطراري حيث يشاهد كلا الطرفين مصير الآخر فلم يكن لهم بد إلاّ من الاعتراف، ولعلّ في الاعتراف طمعاً أيضاً كما سيأتي في الآية 50.

وقوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ} الأذان هو الإعلام، ولعلّ الغرض منه هو بيان عدل اللّه تعالى حيث إنّ أهل النار أ ُخذوا بظلمهم فلذا استحقوا لعنة اللّه بالنار، وهذا المؤذن هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كما ورد بذلك مستفيض الروايات من الشيعة وغيرهم(2)، فقد كلّفه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه تعالى بإعلام البراءة في الحج الأكبر، قال تعالى: {وَأَذَٰنٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلْأَكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}(3) بعد أن كلّف أبا بكر بها فأوحى إليه اللّه تعالى أن لا يؤدّيها إلاّ أنت أو رجل منك فعزل أبا بكر وأمر عليّاً (عليه السلام) بإبلاغها(4)، وكذلك سيكلّفه اللّه تعالى يوم القيامة بإعلام اللعنة على الظالمين.

السادس: قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِٱلْأخِرَةِ كَٰفِرُونَ}.

بيان لوجه ظلمهم الذي استحقوا به اللعنة ففي مجال العقيدة هم كافرون

ص: 92


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 183.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 133-134.
3- سورة التوبة، الآية: 3.
4- معاني الأخبار: 298؛ نهج الحق: 204.

بالآخرة، وفي مجال العمل هم يصدّون عن سبيل اللّه ويطلبون السبيل المنحرفة، وكل كافر يصدّ عن سبيل اللّه سواء كان من الرؤساء الذين يسوقون الناس إلى الباطل، أم كان من الأتباع الذين يقوّون أولئك في باطلهم فلولا الأتباع لما تمكّن الرؤساء من إضلال الناس.

وقوله: {وَيَبْغُونَهَا} الضمير يرجع إلى (السبيل) أي يطلبون السبيل العوجاء المنحرفة عن الصراط المستقيم، أو يرجع إلى (سبيل اللّه) فالمعنى يحاولون تحريف سبيل اللّه عبر تحريف الدين والأحكام فيكون صدّهم عن السبيل بطلب التحريف، والأوّل أظهر حيث إنّهم يصنعون أمرين: المنع عن سبيل اللّه، والتوجيه إلى سبيل الباطل.

وقوله: {وَهُم بِٱلْأخِرَةِ كَٰفِرُونَ} لعلّ إفراد ذكر الآخرة مع أنّها داخلة في سبيل اللّه وهم كانوا يصدّون عنها لأجل بيان وجه أخذ الاعتراف منهم بأنّهم هل وجدوا ما وعد ربّهم حقّاً؟ فهؤلاء كانوا كافرين بالآخرة لكنّهم في النار يعترفون بها، وكانوا يصدّون عن سبيل اللّه الموصلة إلى الجنّة فكان مصيرهم إلى النار ولعنة اللّه سبحانه.

ص: 93

الآيات 46-49

اشارة

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى ٱلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَىٰهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ 46 وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَٰرُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَٰبِ ٱلنَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ 47 وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَىٰهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ 48 أَهَٰؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ 49}

46- {وَبَيْنَهُمَا} بين أهل الجنّة وأهل النار {حِجَابٌ} فاصل وستر يمنع وصول أثر أحدهما إلى الآخر {وَعَلَى ٱلْأَعْرَافِ} مرتفعات ذلك الحجاب {رِجَالٌ} لهم مكانة ومنزلة وهم آل محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام ف{يَعْرِفُونَ كُلَّا} من أهل الجنّة وأهل النار {بِسِيمَىٰهُمْ} أي علائم في وجوههم وكأنّ المراد أشكالهم وصورهم التي كانوا عليها في الدنيا، {وَ} لأصحاب الأعراف نداءان أحدهما لأهل الجنّة والآخر لأهل النار ف{نَادَوْاْ} نادى أصحابُ الأعراف {أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ} قائلين لهم: {أَن سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ} يبشرونهم بفوزهم بالجنّة، وهذه البشارة حال كون أهل الجنّة {لَمْ يَدْخُلُوهَا} لم يدخلوا الجنّة بعدُ {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} والطمع شدّة الرغبة، فتأتي البشارة لتطمئنهم.

ص: 94

47- {وَ} أصحاب الأعراف لا يرغبون في النظر إلى أهل النار لكنحيث لا بد من ذلك ف{إِذَا صُرِفَتْ} توجّهت {أَبْصَٰرُهُمْ تِلْقَاءَ} جهة {أَصْحَٰبِ ٱلنَّارِ} ابتدأوا كلامهم بالاستعاذة ف{قَالُواْ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا} في النار {مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ}.

48- {وَ} بعد الاستعاذة يأتي نداؤهم لأهل النار ف{نَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَىٰهُمْ} صورهم التي كانوا عليها في الدنيا {قَالُواْ} لهم: {مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ} والاستفهام للتقريع والتوبيخ أي هل نفعكم {جَمْعُكُمْ} ما جمعتموه في الدنيا من السلطة والمال والأتباع وغيرها {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} أي استكباركم على المؤمنين حيث كنتم تستضعفونهم؟

49- {أَهَٰؤُلَاءِ} استفهام للتقرير أي هل هؤلاء المؤمنون هم {ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} حلفتم في الدنيا بأنّه {لَا يَنَالُهُمُ} لا ينزل عليهم ولا يعطيهم {ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ}؟ لكن انظروا إلى رحمة اللّه إليهم، فيتوجّه أصحاب الأعراف إلى المؤمنين قائلين لهم: {ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى ٱلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَىٰهُمْ}.

حيث إنّ الآيات حول الجنّة والنار وأهلهما، فلذا بيّن اللّه تعالى في هذه الآيات الآمرين بدخولهما وهم أصحاب الأعراف حيث يكلّفهم اللّه تعالى بتقسيم الجنّة والنار بين من يستحقهما فيأمرون أهل الجنّة بدخولها وأهل

ص: 95

النار بدخولها؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى قدّر للدنيا والآخرة أسباباً فلذا يحضر فيالآخرة الأشهاد والكتب والميزان وغير ذلك، وكذلك في الدنيا كلّف الملائكة بتدبير أمر الكون والحفظ وكتابة الأعمال وغير ذلك.

معاني الأعراف

ثمّ اعلم أنّ الأعراف:

1- إمّا جمع (عُرف) وهو المرتفع من الشيء، ومنه عُرف الديك للتاج على رأسه، وعرف الضبع للشعر الذي يعلو على رقبته.

2- وإمّا جمع (عارف) - كأنصار جمع ناصر - وهو الذي له المعرفة بالشيء بأن يعلمه بأوصافه وخصوصياته.

3- وإمّا جمع (عريف) - كأشراف جمع شريف - وهو السيد المعروف الذي يعرف الناس ويعرفونه.

فعلى الأوّل: فالأعراف مرتفعات بين الجنّة والنار، ولعلّها السور المذكور في قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٖ لَّهُ بَابُ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَٰهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ}(1).

وعلى الثاني: يكون المقصود أنّ العارفين مجموعة من الناس وعلى رأسهم هؤلاء الرجال، كما يقال: على الناس أمير، فهؤلاء الرجال يعرفون اللّه تعالى، وعن طريقهم يعرف الناسُ اللّهَ تعالى، فمن عرفهم عرف اللّه ومن جهلهم جهل اللّه تعالى، وهم يميّزون الناس حيث إنّ المؤمنين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، والمنافقين لا نور لهم، قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ

ص: 96


1- سورة الحديد، الآية: 13.

وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم} إلى قوله: {يَوْمَ يَقُولُٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلْمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ}(1).

وعلى الثالث: يكون المعنى يعرفهم من حضر المحشر، وهم يعرفون الكل، فمن عرفوه بالإيمان أدخلوه الجنّة ومن عرفوه بالكفر أو النفاق أدخلوه النار، كل ذلك بإذن اللّه تعالى.

الرجال الذين على الأعراف

ثمّ اعلم أنّ هؤلاء الرجال هم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) كما ورد في ذلك مستفيض الروايات(2)، ويمكن إرادة كل المعاني الثلاثة إمّا من باب أنّها مصاديق للمعنى الجامع بينها، أو يراد أحدها تفسيراً والآخران تأويلاً، وهذا لا ينافي وجود جماعة أخرى على الأعراف وهم المؤمنون الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم فإن أدخلهم اللّه الجنّة فبرحمته وإن أدخلهم النار فبذنوبهم كما في بعض الروايات.

روى الكليني رضوان اللّه عليه في الكافي بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «جاء ابن الكّوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين {وَعَلَى ٱلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَىٰهُمْ} فقال: نحن على الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذين لا يُعرف اللّه عز وجل إلاّ بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف يُعرِّفنا اللّه عز وجل يوم القيامة على الصراط فلا يدخل الجنّة إلاّ من عرفنا وعرفناه ولا يدخل النار إلاّ من أنكرنا وأنكرناه،

ص: 97


1- سورة الحديد، الآية: 12-13.
2- راجعها في البرهان في تفسير القرآن 4: 134-150؛ وبحار الأنوار 8: 335-341.

إنّ اللّه تبارك وتعالى لو شاء لعرّف العباد نفسه، ولكن جعلنا أبوابهوصراطه وسبيله والوجه الذي يُؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا فإنّهم عن الصراط لناكبون، فلا سواء من اعتصم الناس به، ولا سواء حيث ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض، وذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمر ربّها لا نفاد لها ولا انقطاع»(1).

وروى بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: - في حديث ذكر فيه أصحاب الأعراف - قال: «قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم، فإن أدخلهم اللّه النار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته»(2).

وقيل: إن الأعراف محل خلود مؤمني الجن وكذلك من نجح من القاصرين والمستضعفين في امتحان الآخرة، ونعيمهم فوق نعيم الدنيا ودون نعيم الجنّة، وقد يستفاد ذلك من بعض الأخبار(3)، واللّه العالم بحقيقة الحال.

وقوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} ظاهره أنه بين أهل الجنّة وأهل النار، وقيل: بين الجنّة والنار، والمآل واحد، و(الحجاب) ما يستر بين شيئين وكأنّه يستر النعيم والعذاب بينهما ولا يستر الرؤية؛ لأنّ الكفّار والمنافقون يرون المؤمنين ويطلبون منهم أن ينظروا إليهم ليقتبسوا من نورهم.

وقوله: {رِجَالٌ} نص في كونهم من البشر فلا وجه لتأويله من غير دليل بالملائكة وزعم أنّهم تمثّلوا بشكل رجال، وهؤلاء إمّا كلّهم رجال أو

ص: 98


1- الكافي 1: 184، وراجع شرح الحديث في كتاب شرح أصول الكافي، للمؤلّف 3: 115-118.
2- الكافي 2: 381.
3- راجع بحار الأنوار 8: 335 و 341.

الغالب منهم الرجال وهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة من آل محمد (عليهم السلام) ومعهم فاطمة وخديجة (عليهما السلام) كما في الخبر(1).

وقوله: {بِسِيمَىٰهُمْ} السيماء العلامة في الوجه، فيمكن أن يراد بها هنا صورتهم التي كانوا عليها في الدنيا حيث يحشرون بها، ويمكن أن يراد به سيماء المطيعين والعصاة، فيعلو المؤمنين النور، ويرهق الكفّار والمنافقين الظلمة والغبرة والزرقة، قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٖ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ}(2)، وقال: {يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَٰهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلْأَقْدَامِ}(3)، وقال: {وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٖ زُرْقًا}(4).

الثاني: قوله تعالى: {وَنَادَوْاْ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}.

هذا نداء لهم قبل أن يأمروهم بدخول الجنّة، ولعلّ سبب ذلك أنّ الناس في المحشر في اضطراب وهول وقد يطول بهم الحساب، فيبشرونهم في بداية الأمر بأنّهم سالمون من المشاكل والمصاعب والعذاب لتطمئن قلوبهم، كما قال تعالى: {لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلْأخِرَةِ}(5)، وقال:

ص: 99


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 138؛ عن بصائر الدرجات.
2- سورة عبس، الآية: 38-42.
3- سورة الرحمن، الآية: 41.
4- سورة طه، الآية: 102.
5- سورة يونس، الآية: 64.

{بُشْرَىٰكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ}(1).

وقوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا} حال أي نادى أصحاب الأعراف أهل الجنّة بقول سلام عليكم حال كون أهل الجنّة لم يدخلوها.

وقوله: {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} الطمع هو شدّة الرغبة في الشيء فإن كان لأمر الآخرة كان حسناً، قال: {وَٱلَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ}(2)، وقال: {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّٰلِحِينَ}(3)، وقال: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَٰيَٰنَا أَن كُنَّا أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}(4)، وحال هؤلاء عكس حال الكفّار حيث إنّهم يائسون مبلسون من رحمة اللّه، قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(5).

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَٰرُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَٰبِ ٱلنَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ}.

كأنّ هذا كالمقدمة للنداء الثاني وهو نداء أصحاب الأعراف أهل النار، فكأنّهم لا يرغبون في النظر إليهم استحقاراً لشأنهم، أو لإرادتهم الاستمرار في رؤية أصحاب الجنّة سروراً بهم، كمن يطيل النظر إلى وليّه ولا يصرف بصره إلى عدوّه، أو لبشاعة ما هم عليه من الصورة والشقاء، ولعلّه لذلك

ص: 100


1- سورة الحديد، الآية: 12.
2- سورة الشعراء، الآية: 82.
3- سورة المائدة، الآية: 84.
4- سورة الشعراء، الآية: 51.
5- سورة العنكبوت، الآية: 23.

قال: {صُرِفَتْ} بالمجهول للدلالة على كراهتم لذلك فكأنّ هناك من صرفهم إلى النظر إليهم.

وقوله: {تِلْقَاءَ} هي جهة اللقاء وهي الجهة المقابلة.

وقوله: {قَالُواْ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا...} هذا تعوّذ منهم باللّه تعالى من النار وعذابها وإن كانوا يعلمون بأنّهم لا يصيبهم من عذابها شيء كما قال: {إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}(1)، لكنّهم يدعون بهذا الدعاء طلباً لاستمرار لطف اللّه بهم وتضرّعاً إليه تعالى لعلمهم بأنّه هو الذي وقاهم منها كما قال: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ}(2)، وقال: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ ٱلْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ}(3)، أو حيث إنّ اللّه تعالى كلّفهم بتقسيم الجنّة والنار وأمر أهل كل منهما بدخوله سألوه أن يستمر في توفيقهم في العدل والائتمار بأوامره لئلا يكونوا من الظالمين، فالدعاء للاستمرار في الهداية.

الرابع: قوله تعالى: {وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَىٰهُمْ قَالُواْ...} الآية.

هذا هو النداء الثاني الخاص بأهل النار، ولعلّ الابتداء بنداء أهل الجنّة للتسريع في تبشيرهم.

وقوله: {مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} قيل: فيه دلالة على أنّ المنادى هم

ص: 101


1- سورة الأنبياء، الآية: 101-102.
2- سورة المؤمنون، الآية: 93-94.
3- سورة الأعراف، الآية: 150.

الرؤساء، لكن الأقرب وبقرينة السياق إرادة جميع الكفّار والمنافقين؛ لأنّ الأتباع هم من ضمن الجمع أيضاً حيث يستقوون برؤسائهم وأقرانهم، وكلّهم كانوا يستكبرون، وهذا الاستفهام للتوبيخ والتقريع، وأيضاً هو مقدمة لبيان انتفاع المؤمنين بإيمانهم وعملهم الصالح، فيكون حاصل المعنى: أنتم لم تنتفعوا بما كان لكم لكن هؤلاء المؤمنين انتفعوا بما كان معهم.

وقوله: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} الظاهر أنّ المراد هو الاستكبار على المؤمنين حيث كانوا أقلية مضطهدة لا يتمكّنون من فعل شيء تجاه الكفّار والمنافقين، وكان من مصاديق استكبارهم هو زعمهم أنّ المؤمنين لا تنالهم رحمة اللّه تعالى لأنّهم ليسوا على خير! قال تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {أَهَٰؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ...} الآية.

الاستفهام تقريري كأنّهم يقولون لهم انظروا إلى هؤلاء الذين كنتم تستضعفونهم وتزعمون أنّهم لا ينالون رحمة اللّه، انظروا كيف أنعم اللّه عليهم، فإنّ درجات الآخرة ليست بالمال والسلطة والجمع في الدنيا.

وقوله: {ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ...} الخطاب لأهل الجنّة، فبعد أخذ الإقرار من المستكبرين يتوجه الخطاب إلى أهل الجنّة فيقول لهم أصحاب الأعراف: {ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ...}.

ص: 102


1- سورة الأحقاف، الآية: 11.

وفي الآية اختصار بليغ إذ المراد أن أصحاب الأعراف يخاطبون أهل النار قائلين لهم: ادخلوا النار فأنتم خائفون مغمومون فيها، ويفهم هذا من السياق وكذلك قولهم: {مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}.

وقد روت الخاصّة والعامّة أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاطب أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) فقال: «لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق»(1)، وبذلك يتميّز أهل الجنّة عن أهل النار، وفي مستفيض الروايات أنّ عليّاً (عليه السلام) قسيم الجنّة والنار فعنه (عليه السلام) أنّه قال: «أنا يعسوب المؤمنين، وأنا أوّل السابقين، وخليفة رسول رب العالمين، وأنا قسيم الجنّة والنار، وأنا صاحب الأعراف»(2)، وعنه (عليه السلام) أنّه قال: «نحن نقف يوم القيامة بين الجنّة والنار، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار»(3).

ص: 103


1- من العامّة مسند أحمد 1: 95؛ سنن النسائي 8: 116؛ فتح الباري 7: 58؛ ومن الخاصّة: الأمالي للشيخ الصدوق: 134؛ الإرشاد 1: 40؛ الأمالي للشيخ الطوسي: 78؛ الغدير 3: 184.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 144.
3- مجمع البيان 4: 375؛ شواهد التنزيل 1: 263.

الآيات 50-53

{وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ 50 ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَجْحَدُونَ 51 وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ 52 هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ 53}

ثمّ يذكر اللّه تعالى حال أهل النار وكيف ذلّوا بعد الاستكبار، فقال:

50- {وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ} بعد دخول كل من الفريقين إلى مكانهما {أَنْ أَفِيضُواْ} صبّوا {عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاءِ} لنروي عطشنا أو لنبرّد حرّ جهنم {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ} من الطعام ونحوه، {قَالُواْ} أهل الجنّة: لا يمكننا ذلك حيث {إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا} حرّم الماء والرزق {عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ} لعلّهم قالوا ذلك لئلا يتوهم بخلهم، وإنّما هنالك مانع هو الكفر.

51- وأما تحريم اللّه فعقوبة لهم، فهم {ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} أي بدّلوا دين الحق باللّهو وهو فعل ما يشغل الإنسان عما يهمّه، وباللعب وهو فعل ما لا غرض فيه، أو بمعنى سخروا من الدين الحق، {وَغَرَّتْهُمُ}

ص: 104

خدعتهم بجهالة {ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا} بزخارفها وشهواتها، {فَٱلْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ}نتركهم ولا نعتني بشأنهم فلا ماء ولا رزق لهم {كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا} بأن لم يستعدّوا له، {وَمَا كَانُواْ} أي وكما كانوا {بَِٔايَٰتِنَا يَجْحَدُونَ} فجمعوا بين عدم الاستعداد للآخرة وجحدها وجحد سائر الآيات.

52- {وَ} ليس لهم في ذلك عذر حيث أتممنا الحجّة عليهم ف{لَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ} جعلناه فصولاً في المواعظ والأحكام وسائر ما فيه الهداية فلم يكن مبهماً {عَلَىٰ عِلْمٍ} أي كنا عالمين بكيفيّة التفصيل بحيث كان ميسّراً حكيماً نافعاً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد حال كونه {هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} فإن كان هؤلاء آمنوا فقد اهتدوا ورحمهم اللّه تعالى لكنهم رفضوا الإيمان بسوء اختيارهم.

53- ف{هَلْ} استفهام إنكاري بمعنى النفي {يَنظُرُونَ} ينتظرون {إِلَّا تَأْوِيلَهُ} تأويل الكتاب أي ما يؤول إليه أمر القرآن بانكشاف حقائقه عياناً ومنه العذاب، والمعنى إنّ هؤلاء لا يقبلون الآيات والدلائل الواضحة إلاّ حين رؤية العذاب، لكن {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} وهو يوم القيامة يقرّون به لكن لا ينفعهم ذلك؛ إذ {يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ} تركوه {مِن قَبْلُ} في دار الدنيا: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ} الذي كنا نكذّب به {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا} لنتخلص من العذاب {أَوْ} هل {نُرَدُّ} إلى دار الدنيا {فَنَعْمَلَ} عملاً صالحاً {غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} من اتخاذ الدين لهواً ولعباً والجحد بالآيات وغير ذلك؟ لكن لا شفعاء ولا ردّ بل {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ}

ص: 105

صرفوا حياتهم في ما أورثهم النار بدلاً عن الجنّة {وَضَلَّ عَنْهُم} غاب وبطل {مَّا كَانُواْيَفْتَرُونَ} من الشركاء فلا يشفعون لهم.

بحوث

الأوّل: هذه الآيات تخبرنا عن حوار سيدور بين أهل الجنّة وأهل النار حيث إنّ أهل النار كانوا يستكبرون على المؤمنين ويستضعفونهم فكانت عاقبة أمرهم التذلّل لهم وإظهار الافتقار إليهم، ولعلّ طلبهم الماء والرزق لفرط الحاجة والاضطرار مع علمهم بعدم نفع الطلب، أو لعلّهم لمّا يرون كرامة المؤمنين على اللّه يستشفعون بهم، أو لعلّهم يرون طيب المؤمنين وعلو أنفسهم وقدرهم فيريدون الانتفاع بهم، والظاهر أنّ المؤمنين لا مانع لهم من إسعافهم إلاّ أن عذابهم كان عقوبة لهم على سوء أعمالهم مع إتمام الحجّة عليهم بحيث لم يبق لهم عذر فلم تكن المصلحة في تخفيفه عنهم فلذا حرّمهما اللّه عليهم، والمؤمنون كما يطيعون اللّه في الدنيا كذلك لا يخالفونه في الآخرة، فإنّ الآخرة وإن لم تكن دار تكليف لكنها دار كمال والمؤمنون هنالك كاملون فيعملون بما يريده اللّه تعالى من غير أمر ولا نهي، فحيث إنّ اللّه منعهما عن الكافرين فلا وجه لإفاضتهما عليهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا...} الآية.

يبدو أنّ هذا بعد دخول كلا الطائفتين إلى مواضعهما من الجنّة والنار، ويحتمل أن يكون قبل ذلك وفي المحشر؛ لأنّ المؤمنين يرتوون فيه من

ص: 106

حوض الكوثر - بما فيه من الماء والطعام - ويحرم ذلك على الكافرين،والأوّل أقرب.

وقوله: {أَفِيضُواْ} أصل الإفاضة بمعنى امتلاء الإناء ونحوه بالماء وسيلانه منه لشدّة امتلائه، ومنه فاض الدمع حينما تمتلأ العين فيجري منها، ولعل استعمال هذه الكلمة لأنّهم يرون كثرة نعيم أهل الجنّة بحيث يمكنهم الاستغناء عن بعضه والتصدّق به، وفيه دلالة على أنّ الجنّة فوق النار لأنّ الإفاضة إنّما تكون من العلو إلى السفل.

وقوله: {مِنَ ٱلْمَاءِ} قيل: قدّموا الماء لأنّ الحاجة إليه أشد حيث اشتدّ عطشهم من حر جهنّم، أو ليخففوا من حرارته.

وقوله: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ} وهو الطعام أو مطلق الرزق فيشمل الألبسة وغيرها من النعيم فيكون ذكر الماء تخصيصاً قبل تعميم لأهمّيّته لهم.

ثمّ إنّ طلبات أصحاب النار متعددة وعلى مراحل، ففي البداية يطلبون الإرجاع إلى الدنيا ليصحّحوا ما اقترفوه، ثمّ يطلبون الماء والرزق، ثمّ يطلبون تخفيف العذاب ولو يوماً، ثمّ يطلبون الموت، لكن لا بد من عقوبتهم بمقدار جرمهم وهي خلودهم في النار من غير تخفيف، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}(1)، وقال: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ ٱلْعَذَابِ}(2)، وقال: {وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم

ص: 107


1- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
2- سورة غافر، الآية: 49.

مَّٰكِثُونَ}(1).

وقوله: {قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا...} لعلّ هذا في مقابل منع الكفّار في الدنيا كثيراً من الأمور عن المؤمنين، حيث كانوا يستأثرون بالمال والسلطة ويجعلونها دولة بينهم وبين أتباعهم ويمنعون المؤمنين حقوقهم، ويستكبرون عليهم، لكنّهم في الآخرة يقفون أمامهم أذلّاء يطلبون منهم ما ليس للكفّار حق فيه، فتارة يطلبون اقتباس النور منهم، وأخرى الماء والرزق، والمؤمنون لا يفعلون ذلك لأنّ اللّه تعالى حرّم كل ذلك على الكافرين.

الثالث: قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا...} الآية.

بيان أنّ تحريم اللّه تعالى إنّما هو عقوبة لأعمالهم وأنّه لا مصلحة في العفو أو تخفيف العذاب عنهم، وقد جمعت الآية - على إيجازها - أربعة أسباب للكفر مما صارت سبباً لهذا الحرمان:

1- قوله: {ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} إمّا بمعنى أنّ دينهم كان اللّهو واللعب بدلاً من التديّن بالدين الحق، فأشركوا باللّه وأحلّوا الحرام وحرّموا الحلال، ولم يكن ذلك ببرهان ودليل بل مجرد لهو ولعب، فدينهم اللّهو فغفلوا عن الدين الحق، واللعب فانشغلوا بما لا نفع لهم فيه، وإمّا بمعنى أنّهم سخروا من الدين الحق الذي أنزله اللّه عليهم فاتخذوه مرمى لعبهم ولهوهم، والأوّل أظهر.

ص: 108


1- سورة الزخرف، الآية: 77.

2- وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا} الغرور هو الخداع بجهالة، فالدنيا بشهواتها وزخارفها وزبرجها خدعتهم عن الآخرة فاتّبعوها بسفاهة.

3- وقوله: {فَٱلْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا} بيان السبب الثالث وهو نسيان الآخرة بعدم العمل لها، مع بيان عقوبتهم بتركهم وعدم الاعتناء بشأنهم، والنسيان هو محو صورة الشيء عن الذهن بعد أن كان فيها، وقد يستعمل بمعنى الترك مجازاً لأنّ التارك يفعل كفعل الناسي، فهم تركوا الآخرة مع تذكيرهم بها، واللّه تعالى - عقوبةً لهم - يتركهم في جهنّم مع استغاثتهم فيها.

4- وقوله: {وَمَا كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَجْحَدُونَ} أي وكما كانوا بآياتنا يجحدون، ولا يكون الجحد إلاّ عن عناد.

ثمّ اعلم أنّ هذه الأسباب صنفان ولعلّه لذلك فصل بينهما ببيان العقوبة بقوله: {فَٱلْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ}، فصنف يرتبط بالعقيدة والعمل الباطلين بالاتخاذ والغرور، وصنف يرتبط بالعقيدة والعمل الحقّين بالترك والحجود.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}.

بيان عدم عذرهم في كفرهم بحيث استحقوا الحرمان؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى أنزل عليهم الكتاب ميسّراً لا لبس فيه وقد فصّل فيه ما يوجب الهداية والرحمة، فأتم الحجّة عليهم، لكنّهم عاندوا فاستحقوا ذلك الحرمان.

وقوله: {وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم...} حال، أي هؤلاء جحدوا ونسوا واغتروا واتخذوا... والحال أنّ اللّه قد بيّن لهم.

ص: 109

وقوله: {فَصَّلْنَٰهُ} أي جعلناه فصولاً في العقائد والمواعظ والأحكام وغيرها، أو ذا فصل بين الحق والباطل، وبذلك ظهر الحق بوضوح.

وقوله: {عَلَىٰ عِلْمٍ} أي عالمين بكيفيّة ذلك التفصيل، بحيث لا يبقى عذر لأيّ أحد.

وقيل: هذا يتضمّن احتجاجاً على حقيقة الكتاب، وتقديره: ولقد جئناهم بكتاب حق، وكيف لا يكون حقّاً وقد نزل على علم منّا بما يشتمل عليه من المطالب.

وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةً} أي حال كون المجيئ أو التفصيل أو القرآن هدايةً ورحمةً، فالهداية عن الضلال والرحمة بالنعمة في الدنيا والآخرة.

وقوله: {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} أي الكتاب نزل على الجميع إلاّ أنّ الهداية والرحمة إنّما هما للمؤمنين بحسن اختيارهم وأما المعاندون فنقمة عليهم، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}(1)، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}(2)، وقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ

ص: 110


1- سورة الإسراء، الآية: 82.
2- سورة فصّلت، الآية: 44.
3- سورة التوبة، الآية: 124-125.

نَسُوهُ مِن قَبْلُ...} الآية.

إنكار عليهم بأنّهم لا يؤمنون مع ما يشاهدونه من الآيات الواضحة، ولكن حينما يلاقون عاقبة عملهم في الآخرة هناك يعترفون أوّلاً بأنّ الكتاب حق ثمّ يبحثون عن مخرج للنجاة إمّا عبر الشفعاء أو عبر رجوعهم إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، لكن هيهات فلا شفعاء لأنّ شركاءهم بطلوا عنهم فلا يستطيعون الشفاعة، وأولياء اللّه لا يشفعون إلاّ لمن ارتضاه اللّه تعالى، ولا رد لأنّهم خسروا أنفسهم في الدنيا حيث باعوها بالعذاب.

وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ} الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، والنظر بمعنى الانتظار أي هل يؤخِّرون إيمانهم إلى يوم القيامة؟

وقوله: {إِلَّا تَأْوِيلَهُ} التأويل من الأوْل أي ما يؤول إليه الشيء ويرجع إليه، وتأويل القرآن هو الحقائق المقصودة فيه، وهذه الحقائق تظهر عياناً في الآخرة، فآيات العذاب مثلاً تدل على حقيقة هي مئآل ومرجع هذه الآيات، وهناك يذوقون العذاب فتظهر لهم الحقيقة بحق اليقين، وقد مر بعض الكلام حول التأويل في سورة آل عمران(1)، والحاصل: يرون في القيامة ما حذّر القرآن منه وما وعدهم عليه من سوء العاقبة، وضمير {تَأْوِيلَهُ} يرجع إلى الكتاب.

وقوله: {يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ...} هذا اعتراف منهم، لكنه جاء متأخّراً حيث اضطروا إليه، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا *

ص: 111


1- التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 32-34.

هَٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ}(1)، وكأنّ اعترافهم مقدمة لاسترحامهم واستغاثتهم، وهنا يبحثون عن أحد مخرجين:

1- إما شفعاء ليشفعوا لهم من غير عمل منهم، وجوابهم بأنّه ضل عنهم شركاؤهم الذين كانوا يفترونهم، قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَٰؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ}(2).

2- وإمّا الرجوع إلى الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً ينجيهم من النار، وجوابهم بأنّهم قد خسروا الصفقة فلا رد ولا إقالة.

وقوله: {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} هذا جواب طلبهم فقد كان ثمن أنفسهم الجنّة كما قال: {إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ}(3)، لكنّهم بسوء اختيارهم اشتروا بأنفسهم النار فخسرت صفقتهم، قال سبحانه: {بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ}(4).

ص: 112


1- سورة الطور، الآية: 13-15.
2- سورة يونس، الآية: 18.
3- سورة التوبة، الآية: 111.
4- سورة البقرة، الآية: 90.

الآيات 54-58

اشارة

{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ 54 ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ 55 وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ 56 وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَنزَلْنَا بِهِ ٱلْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 57 وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِ--دًا كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَشْكُرُونَ 58}

بعد أن ذكر اللّه تعالى - في الآيات السابقة - تكذيب المشركين بالآيات واستكبارهم عليها، بيّن في هذه الآيات أدلة توحيد اللّه تعالى وأنّه المالك لكل شيء فلا بد للناس من عبادته وطاعته، فقال:

54- {إِنَّ رَبَّكُمُ} الخالق والمدبّر هو {ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ} أوجد {ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ} ستة أوقات ومراحل {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ} توجّه واستولى {عَلَى ٱلْعَرْشِ} أي زمام أمور السماء والأرض بيده، وللعرش مصاديق: فمنها: الجسم المحيط بالعالَم يصدر اللّه منه التدبيرات، ومنها: العلم، ومنها: الملك والسلطة، {يُغْشِي} اللّهُ {ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ} أي يستر اللّهُ تعالى ضوء النهار

ص: 113

بواسطة ظلمة الليل {يَطْلُبُهُ} أي يطلب الليل النهار طلباً {حَثِيثًا} بإصرار،وهذا كناية عن تعاقب الليل والنهار باستمرار فكأنّ كل واحد منهما طالب للآخر. {وَ} خلق {ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ} حال كونها {مُسَخَّرَٰتِ بِأَمْرِهِ} خاضعات ومذلَّلات بإرادة اللّه تعالى في دورانها وطلوعها وغروبها وغير ذلك. {أَلَا} للتنبيه أي انتبهوا {لَهُ} للّه تعالى وحده لا شريك له {ٱلْخَلْقُ} إيجاد الأشياء {وَٱلْأَمْرُ} التدبير، فلم يشرك أحداً لا في الخلق ولا في التدبير. {تَبَارَكَ ٱللَّهُ} دام خيره {رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ} أجمع.

55- وحيث علمتم هذه الحقيقة ف{ٱدْعُواْ} اعبدوا {رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} أي بإظهار الضراعة وهي الاستكانة والتذلّل {وَخُفْيَةً} أي بالخفاء، ولا تدعوا غيره إذ ذلك تجاوز للحدود، و{إِنَّهُ} تعالى {لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} يبغضهم فيعاقبهم، فهذا من جهة العبادة وما هو مأمور به.

56- {وَ} أما من جهة العمل وما هو منهي عنه ف{لَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ} بالمعاصي {بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا} بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والوصي (عليه السلام) . {وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي في حالة الخوف منه تعالى وفي حالة الرغبة إلى رضوانه، فالنفع والضرر بيده لا بيد الشركاء المزعومين، ثم إنّ الدعاء وعدم الإفساد إحسان و{إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ} فهو يحبّهم ويرحمهم عكس المعتدين فهو لا يحبّهم ويعاقبهم.

57- {وَ} كما أنّ الخلق له فكذلك العود بالبعث إليه ف{هُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشْرَا} جمع بشيرة فهي سبب سرور الناس {بَيْنَ يَدَيْ} أي قبل إنزال

ص: 114

{رَحْمَتِهِ} المطر، {حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ} حملت الرياح {سَحَابًا ثِقَالًا} بالماء{سُقْنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ} لا زرع فيه {فَأَنزَلْنَا بِهِ} بسبب ذلك السحاب {ٱلْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بذلك الماء {مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ} جميع أنواعها ولكل بلد ما يناسبه منها، وكما أحيينا الأرض {كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْمَوْتَىٰ} وإنّما ضربنا لكم هذا المثل {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتعلمون بأنّ القادر على ذاك قادر على هذا.

58- {وَ} البعض ينتفع بهذا التذكّر والبعض لا ينتفع فمثلهم كمثل الأراضي المختلفة ف{ٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ} الصالح التربة {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} كثيراً حسناً {بِإِذْنِ رَبِّهِ} تعالى، {وَٱلَّذِي خَبُثَ} البلد السيّء التربة كالأرض السبخة {لَا يَخْرُجُ} نباته {إِلَّا نَكِدًا} قليلاً من غير نفع. {كَذَٰلِكَ} أي مثل هذا المثل {نُصَرِّفُ ٱلْأيَٰتِ} نكرّرها ونقلّبها {لِقَوْمٖ يَشْكُرُونَ} هم الذين ينتفعون بها.

بحوث

الأوّل: بعد أن ذكر اللّه تعالى حقائق التوحيد والإيمان، والشرك والكفر، وعاقبة كل منهما في الدنيا والآخرة، بيّن بعض الدلائل على التوحيد والمعاد والدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح، فبيّن أنّ الخالق والمدبّر هو اللّه تعالى واستدل بخلق السماوات والأرض وبتدبير الأمر، والجميع يذعن بأنّه ليس للشركاء المزعومين شيء من ذلك. فلذا تكون العبادة له وحده، وعبادة غيره اعتداء وتجاوزاً للحدود، كما أنّ التشريع له وحده ففي تشريعه الإصلاح وفي سائر التشريعات الإفساد؛ لأنّ الخالق هو العالم بكل الخصوصيات فشرّع للناس ما يناسبهم بعلمه، ومن أصلح كان محسناً فتشمله رحمة اللّه تعالى.

ص: 115

ثمّ بعد ذلك بيّن أنّ العود إليه بالبعث والنشور، ومثّل بالأرض الميتة التييحييها بالمطر فيُخرج الثمار المختلفة التي كانت كامنة في تلك الأرض الميتة، وكذلك البعث حيث يخرج اللّه تعالى الأموات كلّهم من الأرض، وإنّما ذكر هذا المثل لأجل التذكر فيرجعوا إلى فطرتهم الدالة على قدرته على كل شيء وحكمته حيث لم يخلق الخلق عبثاً، ولولا البعث كان الخلق عبثاً وقد تعالى اللّه عن ذلك.

ثمّ بيّن أنّ المنتفع من هذه الدلائل والتذكّر هو الإنسان الشاكر لأنعم اللّه تعالى حيث بشكره صار قلبه صالحاً لقبول الوعظ كالأرض العذبة الصالحة للزراعة، عكس الكافر الذي بكفرانه صار قلبه قاسياً عن قبول الحقائق كالأرض السبخة.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ}.

بيان أنّ الخلق والتدبير من اللّه تعالى وحده لا شريك له.

قوله: {ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ} إفراد الأرض مع أنّ الأرضين سبعة كما قال: {ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}(1)، لعلّه لأجل أنّ السماوات تتضمّن سائر الأرضين، فيكون ذكر الأرض بخصوصها لأنّها هي مسكن الناس ومحل قرارهم.

وقوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ} أي خلقهما بالتدريج وفي ستّة أيّام، وهذه الأيام

ص: 116


1- سورة الطلاق، الآية: 12.

إمّا هي بمقدار أيّام أرضنا، أو هو كناية عن ستّة مراحل؛ وذلك لأنّ أيّامالكون تختلف طولاً وقصراً حسب سرعة الحركة وبُطئها، فلذا أيّام بعض الكواكب أطول من أيّام الأرض وبعضها أقصر، وحكمة اللّه تعالى اقتضت التدرّج في عامة أمور الكون مع قدرته على الخلق دفعة فللجنين مراحل، وللنبات مراحل، وللحياة مراحل وهكذا، ولعلّ من الحكمة ظهور قدرته آناً فآناً للملائكة وللناس وغيرهم، واللّه العالم.

معاني العرش

وقوله: {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ} كأنّ المقصود أنّه بعد الخلق لم يتركها سُدىً كما زعمت اليهود بأنّه استراح في اليوم السابع، وأنّه لا يقدر على تدبيرها تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً، أو كما يزعم المشركون من أنّ التدبير صار بيد الشركاء المزعومين، بل كما تفرّد هو بالخلق كذلك تفرّد بالسلطة والتدبير.

ثمّ إنّ للعرش مصاديق متعدّدة كما في الروايات(1):

فمنها: جسم مادّي محيط بكل الأجسام، وهو المحل الذي تصدر منه التقديرات والأوامر والنواهي وغيرها، فهو جسم عظيم خصّه اللّه بنفسه تشريفاً كما أنّ اللّه شرّف الكعبة بأن جعلها بيته.

ومنها: السلطة والملك، ومرجع ذلك إلى قدرته تعالى، وهذا معنى مجازي له.

ومنها: العلم الذي حمّله اللّه تعالى بعض أوليائه (عليهم السلام) ، وهذا تأويل له.

ص: 117


1- راجع شرح أصول الكافي، للمؤلّف 2: 325-346.

ثمّ إنّ النسبة بين العرش والكرسي قد مرّ في آية الكرسي، فراجع(1).

معنى الاستواء على العرش

وأما {ٱسْتَوَىٰ} فهو من الاستواء بمعنى الاستقامة وانتظام الأمر، ويلازم ذلك كون نسبة الأشياء إليه متساوية فلا فرق عنده بين الذّرة والمجرّة، ولا في البعد والقرب لأنّه سبحانه ليس بجسم فلا معنى للقرب والبعد المكاني بالنسبة إليه بل كل الوجود تحت قبضته وبعلمه، كما لا فرق بين الأشياء في قدرته سبحانه وتعالى.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «يعني استوى تدبيره وعلا أمره»(2)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «استوى على كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء»(3).

الثالث: قوله تعالى: {يُغْشِي ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِ بِأَمْرِهِ}.

هذا بيان بعض مصاديق استوائه على العرش، وهو تدبيره أمر الليل والنهار عبر خلق الشمس والقمر والنجوم، فكلّها مسخّرات بأمر اللّه تعالى وتجري بكيفية يظهر بها الليل والنهار، ولولاهما لم ينتظم الأمر في الأرض ولا ظهرت الحياة فيها، واللّه سبحانه ذكر نعمته في الخلق مع نعمته في تقدير الليل والنهار في آيات متعددة قرنهما معاً كقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ...} الآية(4)، وقال: {إِنَّ فِي ٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ

ص: 118


1- التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 203-304.
2- الاحتجاج 1: 250.
3- الكافي 1: 127.
4- سورة البقرة، الآية: 164؛ سورة آل عمران، الآية: 190.

وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ}(1)، وقال: {إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ * وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مِن رِّزْقٖ فَأَحْيَا بِهِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(2).

وقوله: {يُغْشِي} من الغشيان والغشاوة والغِشاء وهو التغطية والستر والإلباس، وقال أيضاً: {يُكَوِّرُ ٱلَّيْلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّيْلِ}(3)، وقال: {يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيْلِ}(4)، والمقصود هو لحوق الليل بالنهار وبالعكس في حركة منتظمة مستمرّة دائبة لا انقطاع لها إلاّ حينما يشاء اللّه تعالى، وبذلك انتظمت الحياة على الأرض وهو معنى قوله: {هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا}(5) أي مسخّرة لمنافعكم، والإغشاء والتغشية يتعدّيان بمفعولين فالمعنى يغطي بالليل النهار.

وقوله: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} تشبيه التعاقب المستمر بالطلب الحثيث وهو الطلب الأكيد الشديد فكأنّهما لا يفتران.

ثمّ إنّه كما يغشي الليل النهار كذلك يغشي النهار الليل ولم يذكره بلاغةً لأنّه يُعلم من المذكور في الآية.

وفي الآية دلالة على استمرار تدبيره لأنّ الليل والنهار مستمران واللّه تعالى

ص: 119


1- سورة يونس، الآية: 6.
2- سورة الجاثية، الآية: 3-5.
3- سورة الزمر، الآية: 5.
4- سورة فاطر، الآية: 13.
5- سورة الملك، الآية: 15.

يغشي أحدهما الآخر باستمرار، وكذا تسخير الشمس والقمر والنجوم باستمرار.

وقوله: {مُسَخَّرَٰتِ} أي حال كونها مذلّلات وخاضعات، وفي المفردات: «التسخير: سياقة إلى الغرض المختص قهراً»(1).

وقوله: {بِأَمْرِهِ} أي بإرادته ومشيئته.

الرابع: قوله تعالى: {أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

تنبيه وتأكيد واستنتاج ممّا سبق، فهو الخالق، وهو المدبّر، وهو الدائم الخير، وهو رب كل شيء، وحده لا شريك له في كل ذلك.

وقوله: {لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ} (الخلق) الإيجاد، و(الأمر) هنا يُراد به التدبير، ويدخل فيه التشريع لأنّ من تدبير أمور خلقه أن شرّع لهم الشرائع، ثمّ إنّ (الأمر) قد يكون بمعنى الشأن، وقد يكون بمعنى الطلب بأن يبعث نحو الشيء، والأوّل يجمع على أمور، والثاني على أوامر، وذكرنا بعض الكلام في كتاب نبراس الأصول(2)، فراجع.

عدم الفرق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة

والحاصل: كل شيء بيد اللّه تعالى، ولا يتمكّن أحد من التصرّف إلاّ لو أذن اللّه تعالى ل--ه، قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}(3)، وقال: {إِنَّ ٱلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}(4)، وقال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُ}(5)،

ص: 120


1- المفردات للراغب: 402.
2- نبراس الأصول، للمؤلّف 1: 247-249.
3- سورة آل عمران، الآية: 128.
4- سورة آل عمران، الآية: 154.
5- سورة هود، الآية: 123.

وغير خفى أنّ أمر اللّه نافذ دائماً ولا يتخلّف عن المراد كما قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَئًْا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(1)، إلاّ أنّ متعلّق الأمر قد يكون التكوين فيوجد الشيء فور إرادة اللّه تعالى، وقد يكون التشريع فيصدر الحكم فور إرادته، فلا فرق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة من حيث تحقق متعلّقهما فوراً، وليس فعل العبد هو المراد في الإرادة التشريعيّة حتى تتخلّف الإرادة عن المراد حين عصيان العبد أو نسيانه، بل في أحكامه تعالى إرادتان: تشريعيّة بصدور الحكم، وتكوينيّة بأن يكون الإنسان مختاراً، وقد تحقق كلا الأمرين دائماً وفوراً.

وقوله: {تَبَارَكَ ٱللَّهُ} البركة هي الخير الثابت و{تَبَارَكَ} هو استمرار ودوام الخير، فالمعنى إنّ خلقه وتدبيره هو خير دائم، وإن كان هناك شر فهو تقدير خير من اللّه لكنّه صار شراً على العبيد بما كسبت أيديهم، وقد مر الكلام فيه.

وقوله: {رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ} مادة (ر ب ب) بمعنى إصلاح الشيء، واللّه تعالى رب لأنّه مصلح أحوال خلقه(2)، وهو قريب من معنى التربية مع اختلاف مادتيهما لفظاً، فكل الشركاء المزعومين إنّما هم عبيده ومربوبون له لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضرراً إلاّ بما شاء اللّه سبحانه.

الخامس: قوله تعالى: {ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ}.

هذا كالنتيجة لكون اللّه تعالى الخالق المدبّر، فلا بد من عبادته لأنّا

ص: 121


1- سورة يس، الآية: 82.
2- راجع مقاييس اللغة 2: 381.

مسخّرون لأمره فلا بد من دعائه، والدعاء قد يكون بعبادة وقد يكون بالاستغاثة كالنداء، ولعلّ ما في هذه الآية بالمعنى الأوّل، وما في الآية التاليّة بالمعنى الثاني، فالمعنى حيث علمتم بأنّه الخالق والرب فاعبدوه ثمّ نادوه واطلبوا حوائجكم منه.

وقوله: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} حالين، والتضرّع من الضراعة وهي الاستكانة والتذلّل، ولعلّ استعمال باب التفعّل لأجل أنّ المراد الجهر بعبادته حيث إنّ الإظهار من معاني باب التفعل مثل تشجّعَ وتحلّمَ أي أظهر الشجاعة والحلم وفي المفردات: التضرّع: إظهار الضراعة(1)، و{خُفْيَةً} من الخفاء، فالمعنى دعاء اللّه تعالى في كل الحالات سواء في العلن أم في الخفاء.

وبهذا يتبيّن أن اللّه تعالى لم يحصر الدعاء في حالة الخفاء بل عمّمه لكلا الحالتين، ولذا دعا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) والصالحون ربّهم تعالى في العلن كدعائهم له في السِر.

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} معناه إن تركتم دعاءه كنتم معتدين واللّه يبغض المعتدين فيعاقبهم، أو بمعنى لا تدعو غيره فإنّه اعتداء وتجاوز للحدود وفيه العقوبة.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا...} الآية.

إمّا هذه الآية في العمل كما كانت الآية السابقة في العقيدة، أي لا

ص: 122


1- المفردات للراغب: 506.

ترتكبوا المعاصي بل ادعوا اللّه في كل الحالات فذلك إحسان واللّه يحب المحسنين، وإمّا هذه الآية تتمّة للآية السابقة فالمعنى ادعوا اللّه تضرّعاً وخفية وادعوه خوفاً وطعماً فذلك إحسان واللّه يحب المحسنين، ولا تعتدوا ولا تفسدوا فاللّه لا يحب المعتدين، وحينئذٍ فتفريق الكلام في آيتين ليكون أوقع في النفوس ففي الأولى أمر بالدعاء ونهي عن الاعتداء، وفي الثانية نهي عن الفساد وأمر بالإحسان.

وقوله: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ} الإفساد في الأرض بالمعاصي والظلم.

وقوله: {بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا} أي بعد أن أصلحها اللّه بأن أتقن الخلق وأحسن التدبير ومن ذلك بيان العقائد والأحكام والأخلاق، وقد أصلح اللّه أمر هذه الأمة برسوله محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبأمير المؤمنين علي والأئمة (عليهم السلام) لكن الناس أفسدوا فيها بعد هذا الإصلاح.

وقوله: {خَوْفًا وَطَمَعًا} حال أي ادعوه في حال الخوف وحال الرغبة، وليس المعنى كون الدعاء أو العبادة لأجل الخوف والطمع، فهذه وإن كانت صحيحة لكنّها عبادة العبيد أو التجّار، بل دعاؤه في حالة الرهبة والرغبة لأجل كونه أهلاً للعبادة حبّاً له، والخوف والطمع يتعلّقان بالعقاب والثواب، وبالرد والإجابة، وبالعدل والفضل، وبالنار والجنّة وبغير ذلك.

وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ...} هذا كالتعليل، أي إن لم تفسدوا وعملتم بالصلاح ودعوتم اللّه في حال الرهبة والرغبة فذلك إحسان منكم لأنفسكم فصرتم من المحسنين وحينئذٍ تكون رحمة اللّه قريبة منكم، ورحمته هذه تشمل الدنيا والآخرة باستجابة الدعاء والإثابة وعدم الضلال وعدم الشقوة

ص: 123

وغير ذلك.

وقوله: {قَرِيبٌ} قيل: هو ترجيح جانب الطمع وتنبيه على ما يتوصّل به للإجابة.

السابع: قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ...} الآية.

لمّا ذكر اللّه تعالى البدء بالخلق والتدبير في الآيات السابقة، أتمّه بذكر المعاد في هذه الآية، ومثّل له بالأرض الميتة التي يحييها بالمطر ويخرج منها النبات مع أنّ موادّه كانت متفرقة في الأرض لكن اللّه تعالى جمعها وأحياها فأظهرها بشكل مختلف الثمرات، وهي وإن كانت أسباباً طبيعيّة إلاّ أنّ الذي يقدّرها ويسيّرها هو اللّه عز وجل، وليست تلك الأسباب إلاّ أسباباً ظاهريّة والأمر كلّه بيد اللّه تعالى، كما أنّ هذا المثل يناسب الآية السابقة أيضاً حيث نهى عن الفساد بعد الإصلاح كالأرض الميتة التي أحياها بعد موتها وجعل فيها الرحمة.

وقوله: {ٱلرِّيَٰحَ} جمع ريح، قيل: كلّما أراد اللّه الرحمة استعمل الجمع، وكلّما أراد النقمة استعمل المفرد! لكن هذا حسب الغالب حيث قال: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ}(1).

وقوله: {بُشْرَا} جمع بشيرة أي حينما يشعر الإنسان بالرياح يستبشر بقرب نزول الغيث، قال سبحانه: {ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِيٱلسَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَٰلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ

ص: 124


1- سورة يونس، الآية: 22.

مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَٱنظُرْ إِلَىٰ ءَاثَٰرِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(1).

وقوله: {رَحْمَتِهِ} لأنّ الغيث رحمة من اللّه تعالى وبه يظهر اللّه نعمته في الزرع والضرع.

وقوله: {أَقَلَّتْ} من الإقلال وهو الحمل.

وقوله: {ثِقَالًا} جمع ثقيل؛ لأنّ السحاب إذا خف لا يُمطر، وإذا ثقل بالماء أمطر.

وقوله: {سُقْنَٰهُ} أي سقناه عبر الرياح وهي تدفع السحاب من خلفه فكان سوقاً؛ لأنّ السياقة من الخلف، والقيادة من الأمام.

وقوله: {مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ} أي جميع الثمرات في العالم تنبت بماء المطر - لأنّ سائر المياة أيضاً نشأت من الأمطار - ، فكل أرض حسب صلوحها وهوائها تنتج أنواعاً من الثمرات التي تناسبها.

وقوله: {كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْمَوْتَىٰ} هذا تمثيل، وأيضاً بيان حقيقة وهو أنّ اللّه يبعث الموتى يوم القيامة بإنزال الماء عليهم فتنمو أجسادهم، ثمّ ينفخ في الصور فيخرجون من الأجداث سراعاً، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إذا أراد اللّه عز وجل أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحاً فاجتمعتالأوصال ونبتت اللحوم»(2).

ص: 125


1- سورة الروم، الآية: 48-50.
2- بحار الأنوار 7: 33؛ عن الأمالي للشيخ الصدوق: 107.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي ذكرنا هذا المثل لتذكّركم، أو قدّرنا إنبات الزرع هكذا لتتذكّروا، فإنّ اللّه تعالى يتطابق تكوينه وتشريعه، ولذا قد يقدّر من التكوين ما ينفع للتشريع.

الثامن: قوله تعالى: {وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا...} الآية.

في تفسير الصافي: «قيل: الآية مثل لمن تدبّر الآيات وانتفع بها، ولمن لم يرفع إليها رأساً ولم يتأثّر بها»(1)،

فكأنّ المقصود الحث على إصلاح النفس كي يتذكّر الإنسان بالآيات، وإلاّ فلا تؤثّر فيه لا لقصور فيها بل لخبث ذاته كما قال: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ}(2).

وقوله: {وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ} أصل (الطيّب) هو الملائم للطبع والذي تستلذ به الحواس، ثمّ عُمّم لكل ما طابق العقل والشرع، وكذا (الخبيث) كل منافر للطبع، ثمّ عمّم لكل ما خالف العقل والشرع، فالبلد الطيب هو الزكي التربة الصالحة للزراعة.

وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي يخرج نباته طيّباً، إلاّ أنّه استبدل ذلك بقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} للدلالة على أنّ اللّه يأذن للطيّب في إنبات الطيّب مع أنّ كلشيء بإذنه إلاّ أنّه خص البلد الطيّب بذلك تشريفاً له، وفي مجمع البيان: «أجرى العادة بإخراج النبات من الأرض الطيّبة ليكون ذلك باعثاً للإنسان

ص: 126


1- تفسير الصافي 3: 191.
2- سورة الأعراف، الآية: 79.

على طلب الخير من مظانه، ودلالةً على وجوب الاجتهاد في الطاعات، فإذا حمل نفسه على ابتغاء الخير اليسير الذي لا يدوم وربّما لا يحصل فأن يبتغي النعيم الدائم الذي لا يفنى ولا يبيد بالأعمال الصالحة أولى»(1).

وقوله: {نَكِدًا} أي قليل العطاء لا يهنأ من يُعطاه، وفي العين: «النكد اللؤم والشؤم، وكل شيء جر على صاحبه شرّاً فهو نَكَد، وصاحبه أنكد ونَكِد، ورجال نكدى ونُكْد، والنكد: قلة العطاء وأن لا يُهَنّئهُ من يُعطاه»(2)، وقد يكون في النكد معنى العسر(3).

وقوله: {نُصَرِّفُ} التصريف هو الترديد والتقليب، فالمعنى نكررها لهم، فالقلوب الرقيقة تقبل المواعظ، والقلوب القاسية ترفضها.

وقوله: {لِقَوْمٖ يَشْكُرُونَ} أي هم الذين ينتفعون بها، وفي ذلك حث الناس على الشكر لتلين قلوبهم فتكون قابلة للّهداية بإذن اللّه تعالى، أو أنّ تصريف الآيات وإن كان عاماً للجميع إلاّ أنّ الغرض منه هم الشاكرون، كالمعلّم الذي يدرّس صفّاً فيه طلاب أذكياء وكسالى فهو يدرّس الجميع بنشاط إلاّ أنّ غرضه الأذكياء دون الكسالى.

ص: 127


1- راجع مجمع البيان 4: 396.
2- كتاب العين 5: 331.
3- الصحاح 2: 545.

الآيات 59-64

اشارة

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ 59 قَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ 60 قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ 61 أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ 62 أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 63 فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ 64}

ثمّ يذكر اللّه تعالى قصص مجموعة من الأنبياء وما آل إليه أمر أقوامهم لمّا كذّبوهم، تحذيراً للمكذّبين برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أن تكون عاقبتهم كعاقبة أولئك، فقال:

59- {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ} فكان أوّل رسول بعد آدم وصاحب أوّل شريعة ومن أنبياء أولي العزم {فَقَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ} وحده واتركوا عبادة الأصنام؛ إذ {مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ} معبود {غَيْرُهُ} فالأصنام مخلوقات مثلكم وليست آلهة، {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تؤمنوا {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ} أي الآخرة.

60- {قَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف الذين يملأون القلوب هيبة والعيون جمالاً {مِن قَوْمِهِ} مكذِّبين له: {إِنَّا لَنَرَىٰكَ} نعتقد أنّك {فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} واضح

ص: 128

وبيّن.

61- {قَالَ} نوح (عليه السلام) : {يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَٰلَةٌ} واحدة فكيف بالضلال! {وَلَٰكِنِّي} على غاية الهدي لأنّي {رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} رب كل شيء، ومن كان كذلك لا يحتمل فيه الضلال.

62- ووظيفتي أوّلاً: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي} فكل وحي رسالة ومجموعه رسالات، {وَ} ثانياً: {أَنصَحُ لَكُمْ} النصح الإخلاص أي أقوله بإخلاص لأجلكم ولا غرض لي سوى ذلك، {وَ} ثالثاً: {أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ولا بد لكم من اتّباعي لأنّ الجاهل لا بد أن يستمع إلى العالم ويتّبعه.

63- ولا وجه لتكذيبكم إيّاي {أَوَعَجِبْتُمْ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو عاطفة على مقدّر أي هل كذّبتم وعجبتم مِن {أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ} ما يذكّركم بفطرتكم {مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ} من جنسكم، أي نازلاً على رجل أو على لسانه، فلا عجب في ذلك إذ عرفتم السبب وهو: {لِيُنذِرَكُمْ} وبال الكفر، {وَلِتَتَّقُواْ} المعاصي، {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بثواب اللّه في الجنّة.

64- فآمن قليل وكذّب الأكثر {فَكَذَّبُوهُ} في ما دعاهم إليه {فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ} أي كانوا معه في الإيمان، والنجاة كانت {فِي ٱلْفُلْكِ} السفينة، وهذا نتيجة البصيرة والإيمان {وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} دلائلنا {إِنَّهُمْ} إنّ المكذّبين {كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ} لا بصيرة لهم، والعَمِي في القلب كالأعمى في البصر.

ص: 129

بحوث

الأوّل: لمّا ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة دلائل التوحيد وحذّر من الشيطان وإغوائه وبيّن أنّ عاقبة المكذّبين هي العقاب، شفع ذلك بقصص مجموعة من الأنبياء الذين دعوا إلى اللّه فكذّبهم قومهم إلاّ القليل منهم فأنزل اللّه عذابه في الدنيا عليهم، وفي ذلك إنذار للمشركين المكذّبين برسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما أنّ فيه تثبيتاً وتسلية للرسول بأنّ حاله مع قومه كحال الأنبياء السابقين وأقوامهم فليس هو بدعاً من الرسل، مضافاً إلى تكميل بحث أصول الدين بعد ذكر التوحيد والمعاد عبر ذكر النبوّة والأنبياء ودحض الحجج التي كان مشركو مكّة يستندون إليها في جحد نبوّة رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قصة نوح (عليه السلام) وقومه

وقد ذكر اللّه تعالى قصّة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى (عليهم السلام) مع التركيز على أصل التوحيد وعلى عذاب الكافرين مع تضمين هذه القصص أموراً توحيديّة متعدّدة، ودعوة لأحكام مختلفة، ودحض حجج متفاوتة للمشركين، وعذاب متنوّع للمكذّبين، فخصّ كل قصّة بزاوية من الزوايا كما سيأتي بيانه متدرّجاً.

الثاني: قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ...} الآية.

دعاهم نوح إلى الأصول الثلاثة: التوحيد والنبوّة والمعاد، فدعاهم إلى توحيد اللّه بعبادته إذ لا إله غيره، وحذّرهم من عذاب اللّه في الآخرة إن لم يؤمنوا وإنّما قال لهم ذلك لأنّ اللّه أرسله.

ص: 130

وقوله: {لَقَدْ} (اللام) جواب قسم مقدّر و(قد) للتأكيد.

وقوله: {فَقَالَ} بيان أنّ قوله هذا كان مباشرة بعد إرساله إليهم، فإنّه وإنكان نبيّاً من قبل إلاّ أنّه لم يقل لهم شيئاً قبل إرساله إليهم.

وقوله: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} هذا بيان لحصر العبادة في اللّه فإنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام مع عبادتهم للّه تعالى، فبيّن لهم أنّه لا بد من حصر العبادة في اللّه مع ذكر الدليل بأنّه لا إله غير اللّه تعالى، فما بالهم يعبدون مخلوقاً مثلهم بل أدون منهم حيث إنّ الأصنام لا شعور ولا حياة لها.

وقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} هذا كالسبب لقوله ودعوته إيّاهم إلى التوحيد ببيان أنّ الشرك عاقبته العذاب، فهو يقوله مشفقاً عليهم حيث إنّهم قومه ويريد الخير لهم، والخوف يطلق عادة في الضرر المحتمل، فخوفه عليهم لعلّه لأجل احتماله اهتداءهم قبل أن يخبره اللّه بقوله: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ ءَامَنَ}(1)، أو هو لبيان مجرد الشفقة عليهم إذ قد يستعمل الخوف في ذلك مجرّداً عن معنى التوقع.

وقوله: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ} أي عذاب الآخرة، وكما هي يوم عظيم كذلك عذابها عظيم أيضاً، ولذا ورد تارة قوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2)، وأخرى {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}(3) ولكن هنا حيث كان الغرض الأساسي بيان الآخرة لذلك وصف اليوم بالعظيم، وفي ذلك إشعار بعظمة العذاب أيضاً.

ص: 131


1- سورة هود، الآية: 36.
2- راجع من باب المثال سورة البقرة، الآية: 7 و 14؛ سورة آل عمران، الآية: 105 و 176.
3- راجع سورة الأنعام، الآية: 15؛ سورة الأعراف، الآية: 59 و... .

وقيل: اليوم العظيم هو الطوفان وعذابه الغرق، لكن السياق والنظائر في الآيات الأخرى تدل على أنّه عذاب الآخرة، ولعلّ نوحاً (عليه السلام) في بدايةدعوته لم يكن يعلم بعذابهم في الدنيا.

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}.

{ٱلْمَلَأُ} هم الأشراف، وإنّما سمّوا ملأً لأنّهم يملئون العيون والقلوب جمالاً وهيبة، والعادة هي أنّ الذين يعارضون الحق والتغيير هم الكبراء حيث إنّهم المنتفعون من استمرار الوضع على ما هو عليه، مع خشيتهم من أنّ التغيير يفقدهم مصالحهم ومنزلتهم، ولذا اتهموا المؤمنين بنوح (عليه السلام) بأنّهم أراذل، قال: {وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ}(1)، وقال: {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلْأَرْذَلُونَ}(2)، كما أنّهم يحسدون الرسل لما خصّهم اللّه من المنزلة، قال: {أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(3)، وقال: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلَٰئِكَةُ}(4).

وقوله: {فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} أي انحراف واضح حيث تَرَكَ المعتقدات السائدة ودعاهم إلى ما لا يرونه، وأخبرهم بالآخرة التي لم يروا مثلها، وادّعى الرسالة وهو بشر مثلهم، فادعاء أعظم منصب وهو الرسالة وإنكار

ص: 132


1- سورة هود، الآية: 27.
2- سورة الشعراء، الآية: 111.
3- سورة البقرة، الآية: 90.
4- سورة الفرقان، الآية: 21.

أعظم معتقداتهم في عبادة الأصنام والإخبار بأعظم يوم في الآخرة كان عندهم عجيباً جدّاً وضلالاً واضحاً.

الرابع: قوله تعالى: {قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

رد عليهم كلامهم، فحيث بالغوا في تضليله بقولهم: {إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} أكّد على أنّه ليس به ضلالة فضلاً عن الضلال، و(الضلالة) بتاء الوحدة نفي لأدنى درجات الضلال وهو يستلزم نفي سائر درجاته.

وقوله: {وَلَٰكِنِّي} قيل: الاستدراك لأنّ من يملك الصفة التالية - بأنّه رسول الرب - ليس ضالاً، فإنّ اللّه لا يختار أحداً للرسالة إلاّ بعد أن يصطفيه ويجتبيه ويعصمه فلا وجه لزعم الضلال فيه.

وقوله: {مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} دفع لاستبعادهم رسالته؛ إذ إنّ اللّه رب الجميع وهو يصلح أحوالهم، فلا عجب في أن يرسل رسولاً لكي يهدي الضالّين إلى الطريق القويم.

الخامس: قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

بيان سبب إرسال الرسول إليهم وذلك ثلاثة أمور:

1- قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي} فالأنبياء يوصلون للناس ما يريده اللّه تعالى منهم؛ إذ ليس من الحكمة الوحي مباشرة إلى كل إنسان، إذ لا بد من قابليّة القابل ولا قابليّة إلاّ بعد الاصطفاء، وليس من المصلحة اصطفاء

ص: 133

الجميع، فكان إرسال الرسول من الحكمة.

وجمع (رسالات) باعتبار أنّ كل حكم ووحي رسالة، وكان نوح (عليه السلام) أوّل أنبياء أولى العزم وأوّل صاحب شريعة فكانت أحكاماً متعددة عبّر عنها بالرسالات.

2- وقوله: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} النصح هو الخلوص من الشوائب والأغراض الفاسدة، ويتعدّى بنفسه، وتعديته باللام للتأكيد، والمراد أنّه يبلّغ الرسالات مع إشفاقه عليهم لذا يبيّنها باستمرار وبمختلف المواعظ، فليس مجرد ساعي بريد يوصل رسالته ويتركهم.

3- وقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} لعلّه يريد شدّة بطش اللّه تعالى بالكافرين المعاندين، وكأنّ هذه الأمور الثلاثة إشارة إلى أنّ اللّه عليه البيان بالرسالة، والنبي عليه النصح، والقوم يجهلون فلا بد من تنبيههم، أو لمّا زعموا ضلاله بيّن أنّه يعلم ما لا يعلمون ومن كان كذلك ليس ضالاً وفيه إشعار بأنّهم هم الضالّون لا هو.

السادس: قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ...} الآية.

بيان سبب رسالة اللّه تعالى، وأنّه لماذا أرسل اللّه رسولاً إليهم، وحيث عُلم السبب بطل العجب، فينتفي سبب التكذيب لو كانوا يعقلون.

وقوله: {أَوَعَجِبْتُمْ} الهمزة للاستفهام الإنكاري إبطالاً لزعمهم، وهي بمعنى النفي أي لا عجب في ذلك، والواو للعطف على مقدّر استغني عن ذكره لكونه معلوماً أي هل كذّبتم وعجبتم.

ص: 134

قوله: {ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي تذكير لكم بما أودعه في فطرتكم وهو ربكم يريد إصلاح أمركم فلا عجب.وقوله: {عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ} إمّا بتقدير لسان أي الذكر على لسان رجل، أو بتضمين {جَاءَكُمْ} معنى أنزل.

وأمّا الأسباب فثلاث:

1- قوله: {لِيُنذِرَكُمْ} الإنذار من عذابه تعالى، قدّمه في الذكر لأنّه المقدّم خارجاً حيث بدأ دعوته إلى اللّه بالإنذار من العذاب، كما مر في الآية 59.

2- وقوله: {وَلِتَتَّقُواْ} أي يبيّن لكم المعاصي لتتجنّبوها وتحفظوا أنفسكم منها.

3- وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} عسى أن تشملكم رحمة اللّه تعالى بالثواب في الدنيا والآخرة، وهذا تبشيره لهم.

وقيل: الأوّل عمل الرسول بالإنذار، والثاني عمل الناس بالتقوى، والثالث عمل اللّه بالرحمة.

السابع: قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ...} الآية.

بيان عدم انتفاع الأكثر بمواعظه فأصابهم عذاب اللّه في الدنيا بالغرق وأمّا من انتفع بموعظته فآمن فقد أنجاه اللّه من عذاب الدنيا في السفينة.

وقوله: {وَٱلَّذِينَ مَعَهُ} أي الذين آمنوا معه، فالمؤمنون هم مع الأنبياء، والكفّار ليسوا معهم بل مع أعدائهم.

ص: 135

وقوله: {فِي ٱلْفُلْكِ} متعلّق بقوله: {فَأَنجَيْنَٰهُ} أي أنجينا في السفينة نوحاً والمؤمنين الذين كانوا معه، و{ٱلْفُلْكِ} يستوى فيه الجمع والمفرد، وجذره اللغوي بمعنى الدوران فكأنّ السفينة مدوّرة أو هي تدور في البحر ذهاباًوإيّاباً.

وقوله: {عَمِينَ} العَمِي هو الفاقد للبصيرة، والأعمى هو الفاقد للبصر، فقومه لم يتبصّروا بالدلائل الواضحة والبراهين الساطعة التي أبداها لهم نوح (عليه السلام) فكان ذلك سبب تكذيبهم ومن ثَمّ عذابهم.

ص: 136

الآيات 65-72

اشارة

{وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ 65 قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي سَفَاهَةٖ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ 66 قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ 67 أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ 68 أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَٱذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٖ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْۜطَةً فَٱذْكُرُواْ ءَالَاءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 69 قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ 70 قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٖ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَٰنٖ فَٱنتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ 71 فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٖ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ 72}

65- {وَ} أرسلنا {إِلَىٰ} قبيلة {عَادٍ أَخَاهُمْ} في النسب {هُودًا} ليكون معروفاً لديهم بحيث لا تبقى حجّة لهم في مخالفته، {قَالَ} هود: {يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} فحيث إنّ اللّه إله فلا بد من عبادته، وحيث إنّ الأصنام ليست آلهة فلا تجوز عبادتها، {أَفَلَا تَتَّقُونَ} الاستفهام للعرض والتقرير، أي هل تحفظون أنفسكم من العذاب بعبادته وترك عبادة غيره؟

66- {قَالَ} في جوابه {ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} أي الملأ

ص: 137

الكافرون لا الذين آمنوا منهم: {إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي سَفَاهَةٖ} قِلّة عقل بهذه الدعوة! {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ} في دعواك بأنّه لا إله غير اللّه.

67- {قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} لأنّ مخالفة الباطل والدعوة إلى الحق ليس من السفاهة {وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} وهذا دليل على كمال العقل.

68- {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي} ما أوحاه إليّ، فهذا رد لدعواهم الأولى بأنّه في سفاهة، وأمّا دعواهم الثانية بكونه كاذباً فردّهم بقوله: {وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} فقلبي يريد خيركم وأؤدّي رسالتي بأمانة تامّة، ومن كان كذلك لا يكون كاذباً.

69- {أَوَعَجِبْتُمْ} تعجّباً كان سبباً للتكذيب، والاستفهام إنكاري أي لا عجب في ذلك {أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} يخوفكم العذاب أوّلاً، ويذكّركم بالنعم ثانياً، ويأمركم بالإيمان ثالثاً، فجاء {عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَٱذْكُرُواْ} تذكروا {إِذْ} حينما {جَعَلَكُمْ} اللّه تعالى {خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٖ} أي ورثتم الأرض وما فيها منهم فخلفتموهم فيها {وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ} أي في خلقة أجسامكم {بَصْۜطَةً} قوة وقامة فكنتم أقوى وأكبر، وحيث تذكّرتم ما حباكم اللّه به {فَٱذْكُرُواْ} بالشكر وذلك بالإيمان {ءَالَاءَ ٱللَّهِ} نِعمه العظيمة {لَعَلَّكُمْ} بالذكر {تُفْلِحُونَ} تفوزون بالثواب والجنّة.

70- وحيث نَقَصَتْهم الحجّة استندوا على فعل آبائهم ف{قَالُواْ أَجِئْتَنَا} والاستفهام للتقريع {لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ} نترك {مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا}

ص: 138

من الأصنام فهذا لا يكون! وأمّا العذاب فأنكروه ولذا استعجلوه {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ}!

71- {قَالَ} هود (عليه السلام) في ردّهم: أمّا العذاب ف{قَدْ وَقَعَ} ثبت ولزم {عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} حكم بأنّكم أرجاس {وَغَضَبٌ} تقدير العذاب، فالمعاند يحكم عليه بالخبث أوّلاً ثمّ يقدّر عليه العذاب ثانياً، وأمّا اتّباعكم للآباء ف{أَتُجَٰدِلُونَنِي} تتخاصمون معي، والاستفهام للإبطال {فِي أَسْمَاءٖ} أي الأصنام حيث ليست آلهة فلا واقع لها وإنّما هي مجرد أسماء تتوهّمونها لها {سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا} بتلك الأسماء {مِن سُلْطَٰنٖ} حجّة وبرهان، وهذا بمعنى أنّها باطلة؛ إذ لو كانت حقّاً لكان لها برهان وكان اللّه يأمر بها، {فَٱنتَظِرُواْ} العذاب الذي استعجلتموه {إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ} حيث إن وقت العذاب يختاره اللّه تعالى وليس لي من الأمر شيء سوى الانتظار.

72- {فَأَنجَيْنَٰهُ} لمّا جاء العذاب {وَٱلَّذِينَ مَعَهُ} في الدين {بِرَحْمَةٖ مِّنَّا} عليهم لمّا آمنوا، {وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} كناية عن استئصالهم بأجمعهم بحيث لم يبق لهم امتداد وذرّية، والدابر هو ما يتبع الشيء {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} كي ننجّيهم من العذاب، عكس هود ومن معه حيث نجّيناهم لإيمانهم.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ

ص: 139

إِلَٰهٍ غَيْرُهُ...} الآية.

دعوة هود شابهت دعوة نوح والحوار الذي دار بينه وبينهم كالحوار الذيدار بين نوح وقومه إلاّ أنّ اللّه ذكر زوايا أخرى من الحوار واحتجاجات أخرى من هود للتوحيد ومن قومه لشركهم مع دحضها، فأصل الدعوة ذكرت في هذه الآية بالدعوة إلى التوحيد والتحذير من العذاب.

قصة هود (عليه السلام) وقوم عاد

قوله: {عَادٍ} هم من القبائل العربيّة التي سكنت جنوب جزيرة العرب في حضرموت.

وقوله: {أَخَاهُمْ هُودًا} هو أخوهم في النسب بأن كان من قبيلتهم نفسها فإنّ ذلك أقرب إلى القبول لمعرفتهم به وبتاريخه ولميل الناس إلى قومهم فتكون الحجة تامّة على الكفّار منهم.

وقوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} الاستفهام للعرض وليس للإنكار أو التقريع؛ لأنّ بداية التبليغ تكون بدعوتهم، فالمعنى أدعوكم لتتّقوا العذاب بأن تحفظوا أنفسكم منه عبر عبادة اللّه وترك عبادة غيره وهذا بمعنى ما مرّ من قول نوح: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}.

الثاني: قوله تعالى: {قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي سَفَاهَةٖ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ}.

وهذا نظير ما قاله قوم نوح: {إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}، وقد ردّوا دعوته باتهامه بالسفاهة والكذب، فأمّا السفاهة فهي قلّة العقل حيث زعموا أنّ مفارقة دينهم سفه، فإنّ العقل هو الملكة التي عبرها يحافظ الإنسان على المنافع ويتجنّب الشرور، ومفارقة طريقة القوم تجلب الضرر فلذلك اعتبروه

ص: 140

سفاهة، مع أنّ اجتناب باطل القوم هو العقل بعينه، وأمّا اتهامه بالكذب فلأنّه بيّن لهم بأن لا إله غير اللّه تعالى وأنّ عبادة غيره تجر عليهم العذاب،فكلامه تضمن خبرين وقد كذّبوه فيهما.

وقوله: {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} قيل: تقييد الملأ في قصّة هود بالكافرين وإطلاقه في قصّة نوح لأجل أن جميع ملأ قوم نوح كانوا كافرين، وأمّا الملأ من قوم هود فقد آمن بعضهم ولم يكونوا يخالفون هوداً (عليه السلام) ، وقيل: هو مجرّد وصف ذم.

وفي تقريب القرآن: «التعبير ب{كَفَرُواْ} إمّا لتجريد الفعل عن معنى الحدوث، أو باعتبار الفطرة الإيمانيّة... ، وإمّا باعتبار المجموع فإنّ قومه - إذا اعتبروا من زمان نوح (عليه السلام) - كان فيهم بعض المؤمنين»(1).

وقوله: {فِي سَفَاهَةٖ} ولم يقولوا سفيهاً لعلّه لأنّهم زعموا أنّه منغمس فيها فلا سفاهة عندهم أشد من إنكار الآلهة المزعومة ومن الإنذار بالمعاد بعد الموت.

وقوله: {لَنَظُنُّكَ} الظن قد يستعمل بمعنى العلم كقوله: {ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}(2)،

فكأنّهم قالوا إنّا نقطع بكذبك، ويحتمل أن يكون استعمال كلمة الظن هنا لأجل بيان واقع قلوبهم بأنّه كان ظنّاً من غير يقين.

وقوله: {مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ} قيل: كانت لعاد رسل قبل هود كما قال سبحانه:

ص: 141


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 196.
2- سورة البقرة، الآية: 46.

{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ}(1).

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

رد لاتّهامهم الأوّل، وقد أجابهم بغاية الأدب بنفي السفه عن نفسه ودليل ذلك أنّه رسول من اللّه تعالى، واللّه بحكمته لا يبعث إلاّ من يصطفيه فيكون أعقل الناس، فكأنّ المعنى: ليس بي سفاهة وذلك لأنّي رسول رب العالمين.

وقوله: {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} هم زعموا أنّه منغمس فيها حيث قالوا {فِي سَفَاهَةٖ} وهو نفى أيّ نوع ومقدار منها بقوله: {لَيْسَ بِي}.

وقوله: {رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} يتضمّن التعليل فهو سبحانه يريد إصلاح أمركم لذلك أرسلني لأبيّن لكم الحقائق وأدعوكم إليها.

الرابع: قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}.

رد لاتّهامهم الثاني بالكذب، فهو يوصل إليهم رسالات اللّه سبحانه، وهي الصدق الذي لا كذب فيه، ودليل كونه صادقاً أنّه ناصح لهم وأمين، وهل يكذب الناصح الأمين؟!

ثمّ إنّه في قصّة نوح قال لهم: {وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وفي قصّة هود قال: {أَمِينٌ} وكأنّ ذلك لأنّ الضلال ينشأ عن الجهل فلمّا اتهموا نوحاً (عليه السلام) بالضلال أجاب بأنّه على علم، وأمّا الكذب فينشأ من عدم الأمانة فلمّا اتهموا هوداً (عليه السلام) بالكذب أجاب بأنّه أمين.

ص: 142


1- سورة هود، الآية: 59.

الخامس: قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْلِيُنذِرَكُمْ...} الآية.

بيان أحد أسباب التكذيب مع دحضه، فهم كانوا يتعجبون من إرسال اللّه رسولاً إليهم ومن جنسهم، فأجابهم بأنّه لا وجه للعجب لأنّ اللّه تعالى أنعم عليهم بنعم جسام عظام في الأمور المادّية فكذلك ينعم عليهم بهدايتهم عبر إرسال رسول إليهم، مع تذكيرهم بما جرى على قوم نوح وأنّ اللّه أهلكهم وأنجى من آمن، وعاد من ذرّية من آمن، فليعتبروا بما جرى على أجدادهم.

وقوله: {ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي ما يوجب تذكّر الفطرة المنسيّة وما يدعو إليه العقل من التوحيد والطاعة.

وقوله: {لِيُنذِرَكُمْ} ذكر الإنذار أوّلاً ثمّ اتبعه بالبشارة في قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لأنّ الإنذار كان بسبب ما هم عليه من عبادة الأصنام فكان لا بد من تحذيرهم أوّلاً من عاقبة هذا الباطل، ثمّ بعد ذلك دعوتهم إلى ما هو الحق وبيان حسن عاقبة ذلك، وهذا كالمريض الذي ينهى أوّلاً عن أكل ما يضرّه ثمّ يأمر بأكل ما ينفعه، ولذا ابتدأت كلمة التوحيد بنفي جميع الآلهة ثمّ إثبات الإله الواحد.

وقوله: {وَٱذْكُرُواْ} عطف على {لِيُنذِرَكُمْ} فكأنّ المعنى لينذركم وليذكّركم بنعم اللّه عليكم.

وقوله: {خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٖ} الخليفة هو الذي يخلف مَن قبله بعد ذهابه، فهم ورثوا الأرض بعد قوم نوح، وهذا تذكير بنعمة اللّه عليهم مع تذكيرهم بأنّ إيمان أجدادهم الذين آمنوا مع نوح هو الذي أنقذهم بحيث

ص: 143

بقوا على الأرض وتناسلوا فيها حتى وصلت الذرّية إلى قوم عاد.

وقوله: {وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْۜطَةً} أي زادكم على قوم نوح بأن جعل أجسامكم أقوى وأكبر، و{بَصْۜطَةً} من البسط، قيل: كانوا أطول من قوم نوح بمقدار بسط اليد فوق الرأس أي ما يقارب النصف متر تقريباً، والأقرب كون المقصود بيان كونهم أقوى وأقدر على عمارة الأرض والاستفادة من خيراتها، واللّه العالم.

وقوله: {فَٱذْكُرُواْ ءَالَاءَ ٱللَّهِ} المراد من الذكر هنا الإيمان؛ لأنّ من يذكر نعمة اللّه تعالى يؤمن به، أو المراد ذكر يؤدّي إلى الإيمان، و(الآلاء) جمع إلْي وهو النعمة العظيمة لا مطلق النعمة، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه تلا هذه الآية فقال: «أتدري ما آلاء اللّه؟» قلت: لا، قال: «هي أعظم نِعَم اللّه على خلقه، وهي ولايتنا»(1)، فقد فسّر (عليه السلام) الآلاء بأعظم النِعم ثمّ بيّن تأويلها في هذه الأمة.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لو ذكرتم آلاء اللّه بالإيمان والعمل الصالح كان ذلك سبباً لفوزكم في الدنيا والآخرة.

السادس: قوله تعالى: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا...} الآية.

لمّا لم يتمكّنوا من مقارعة حجّته، استدلوا بتقليد آبائهم، ثمّ قطعوا الجدال بطلب إنزال العذاب عليهم، وذلك تكذيباً منهم به؛ لأنّ من يصدّق

ص: 144


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 154.

بالعذاب يهرب منه لا أنّه يطلبه، وفي تفسير الصافي: «استبعدوا اختصاصاللّه تعالى بالعبادة والإعراض عمّا أشرك به آباؤهم انهماكاً في التقليد وحبّاً لما ألفوه»(1).

وقوله: {أَجِئْتَنَا} استفهام إنكاري، وهو تكرار لتكذيبهم بأنّه جاء من عند نفسه لا أنّ اللّه أرسله! وكأنّهم استصغروا سبب الإرسال فهل اللّه يرسل لكي نترك عبادة ما عبده آباؤنا؟!

وقوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} وهذا أيضاً استمرار تكذيبهم؛ لأنّهم زعموا أن العذاب يأتي من طرف هود، مع أنّه عذاب اللّه سبحانه، نظير قوله: {قَالُواْ يَٰنُوحُ قَدْ جَٰدَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَٰلَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ ٱللَّهُ إِن شَاءَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}(2).

السابع: قوله تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَٰدِلُونَنِي...} الآية.

جواب عن الأمرين، أمّا طلبهم العذاب فقد وعدهم به بأنّهم بعنادهم صاروا أرجاساً وبذلك قدّر اللّه عليهم العذاب فعليهم أن ينتظروه، وأمّا احتجاجهم بفعل آبائهم فباطل؛ لأنّ الآباء أيضاً لم يكن في عملهم برهان وقد عبدوا الأصنام من غير سلطان.

قوله: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم} أي ثبت ولزمكم، والمعنى أنّكم بعنادكم وطلبكم العذاب حقّ عليكم أمران:

ص: 145


1- تفسير الصافي 3: 197.
2- سورة هود، الآية: 32-33.

1- قوله: {رِجْسٌ} كأنّ المقصود أنّكم صرتم أرجاس وقد حكم اللّهعليكم بذلك، حيث بعنادكم فقدتم قابليّة الهداية، قال تعالى: {كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(1)، وقال: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ}(2)، وقال: {وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}(3).

2- قوله: {وَغَضَبٌ} كأنّ المقصود تقدير العذاب وقد وعدهم به مع أمرهم بالانتظار في آخر الآية حتى يستكملوا أجلهم.

وقيل: {وَقَعَ} يراد به سيقع لكن حيث كان متحقّق الوقوع استعمل لفظ الماضي، و{رِجْسٌ} العذاب، و{غَضَبٌ} تأكيد للعذاب، أو هو أعم من الرجس، وما ذكرناه أوفق للسياق.

وقوله: {أَتُجَٰدِلُونَنِي...} رد لاحتجاجهم بفعل الآباء وبيان أنّ الآلهة المزعومة مجرد تسمية لا واقع لها فلذا لا دليل عليها، ولو كانت حقّاً لأمر اللّه بها، و(الجدال) المخاصمة والمناظرة وهؤلاء حيث عجزوا عن مقارعة حجة هود (عليه السلام) جادلوا بالباطل وهو صنع الآباء، وقد دحض حجّتهم بأمرين:

أحدهما: أنّ مجرّد تسمية الصنم إلهاً لا يجعله إلهاً واقعاً، فالاسم مجرد اعتبار لا يغيّر الواقع فلو سمّى أحدهم الليل نهاراً فذلك لا يغيّر حقيقة الليل، والصنم حجر لا يشعر ولا يضر ولا ينفع فنحته وتسميته إلهاً لا يجعله سميعاً بصيراً نافعاً ضاراً، كما لا فرق بينكم وبين آبائكم فكما لا حجّية في

ص: 146


1- سورة الأنعام، الآية: 125.
2- سورة التوبة، الآية: 95.
3- سورة يونس، الآية: 100.

أفعالكم كذلك لا حجّية لأفعالهم.

والآخر: إنّ الأصنام لا دليل على كونها آلهة، وعدم الدليل هنا دليل على العدم؛ لأنّ الحقيقة لها نور وبرهان، ولو كان كذلك لأمر اللّه تعالى بها وبيّن دليلها، أو بمعنى كيف اتبعتم آباءكم وتركتم براهين ربكم؟!

وقوله: {مِن سُلْطَٰنٖ} أي حجّة تتسلّط على سائر الحجج فتدحضها، وهذا نظير قوله: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْعَٰبِدِينَ}(1).

وقوله: {فَٱنتَظِرُواْ...} حيث إنّه وعدهم بالعذاب بيّن لهم أنّ اللّه تعالى بحكمته يأتي به في وقته فلا بد أن لا يستعجلوه كما قال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(2)، والأمر بالانتظار قطع لتكذيبهم وتصبير للمؤمنين؛ لأنّه لولا الأمر بالانتظار لما لم يحن وقته كان عدم نزوله تصديقاً لهم في مقالتهم، إلاّ أنّ الأمر به قطع لجدالهم وتكذيبهم.

وقوله: {إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ} حيث إنّ مرحلة التبليغ انتهت بعنادهم وبقيت مرحلة نزول العذاب، وحيث إنّ ذلك بيد اللّه سبحانه كان النبي هود (عليه السلام) منتظراً لتنجّز ما وعده اللّه تعالى.

الثامن: قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٖ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا...} الآية.

أي لمّا حل الموعد أنزلنا العذاب عليهم مع إنجاء المؤمنين.

ص: 147


1- سورة الزخرف، الآية: 81.
2- سورة العنكبوت، الآية: 53.

وقوله: {بِرَحْمَةٖ مِّنَّا} الباء للسببية أي كانت النجاة بسبب الرحمة، وفيقصّة نوح لم يذكرها وإنّما ذكر مصداقها بقوله: {فِي ٱلْفُلْكِ}، وقد قال سبحانه: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ ٱلْمُؤْمِنِينَ}(1).

وقوله: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ...} الدابر على وزن فاعل بمعنى المتأخر والذي يلي الشيء من بعده، وهو كناية عن إهلاكهم جميعاً بحيث لم تبق لهم ذرّية من بعدهم، وفي المقاييس: «وقطع اللّه دابرهم: أي آخر من بقي منهم»(2).

وقوله: {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} عطف على {كَذَّبُواْ}، ولعلّه هنا أريد التكذيب باللسان وعدم الإيمان بالقلب، نظير ما مر في قصّة نوح: {وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ}.

وقيل: المعنى ولم يكونوا سيؤمنون فقد طبع على قلوبهم فقد علمنا حالهم ونواياهم وضمائرهم ومستقبلهم، أي لو كان هناك رجاء اهتدائهم لأمهلناهم ليهتدوا كما قال: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ}(3).

ص: 148


1- سورة يونس، الآية: 103.
2- مقاييس اللغة 2: 324.
3- سورة الأعراف، الآية: 101.

الآيات 73-79

اشارة

{وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ ٱللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٖ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 73 وَٱذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٖ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتًا فَٱذْكُرُواْ ءَالَاءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعْثَوْاْ فِي ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 74 قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَٰلِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ 75 قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِٱلَّذِي ءَامَنتُم بِهِ كَٰفِرُونَ 76 فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَٰصَٰلِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ 77 فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَٰثِمِينَ 78 فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ 79}

73- {وَ} أرسلنا {إِلَىٰ ثَمُودَ} قبيلة كانوا يسكنون في الحِجر بين الحجاز والشام {أَخَاهُمْ} في النسب {صَٰلِحًا قَالَ} صالح لهم: {يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ} وحده {مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ} معبود {غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ} معجزة ظاهرة {مِّن رَّبِّكُمْ} ثمّ أشار إليها قائلاً: {هَٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ} والإضافة تشريفيّة {لَكُمْ} لأجلكم حيث شاهدتموها عياناً {ءَايَةً} علامة ودليل صدق لما أقوله {فَذَرُوهَا} اتركوها {تَأْكُلْ فِي أَرْضِ ٱللَّهِ} الأراضي المباحة التي لا

ص: 149

يملكها أحد وكأنّ ذلك للدلالة على عدم ضررها عليهم {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٖ} لا تسيئوا إليها {فَيَأْخُذَكُمْ} يصيبكم {عَذَابٌ أَلِيمٌ} موجع.

74- {وَٱذْكُرُواْ} نعمة اللّه عليكم {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ} ورثتم الأرض {مِن بَعْدِ عَادٖ} تذكير لهم بمصير عاد، {وَ} من نعمه عليكم أن {بَوَّأَكُمْ} مكّنكم {فِي ٱلْأَرْضِ} بحيث {تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا} الأراضي المستويّة {قُصُورًا} قيل هذا كان لصيفهم {وَتَنْحِتُونَ} تصنعون بالنحت - وهو حفر الصخر - {ٱلْجِبَالَ بُيُوتًا} قيل: كان هذا لشتائهم، فجمع لكم الخلافة والتمكّن وهذه نعمة كبرى، وحيث علمتم ذلك {فَٱذْكُرُواْ} بالشكر وذلك بالإيمان {ءَالَاءَ ٱللَّهِ} نِعمه العظيمة {وَلَا تَعْثَوْاْ} أي لا تسرعوا في الفساد {فِي ٱلْأَرْضِ} وقوله: {مُفْسِدِينَ} حال للتأكيد، فأمرهم بالإيمان ونهاهم عن الكفر.

75- {قَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف {ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان بأن ترفعوا عنه وأنفوا عن اتّباع صالح {مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ} عَدّوهم ضعفاء وقوله: {لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ} من المستضعفين بدل عن «الذين استضعفوا»، قالوا لمؤمنيهم لا لكفّارهم: {أَتَعْلَمُونَ} الاستفهام للإنكار والاستهزاء {أَنَّ صَٰلِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ} ولم يقولوا: «ربّنا» استخفافاً به! {قَالُواْ} المؤمنون المستضعفون: نعم، إنّه مرسل من اللّه ولذا {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ} من التوحيد ونفي الشرك {مُؤْمِنُونَ} مصدّقون.

76- {قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِٱلَّذِي ءَامَنتُم بِهِ} ما جاء به صالح

ص: 150

{كَٰفِرُونَ} جاحدون.

77- {فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ} العقر هو الجرح القاتل أي اشترك جميعهم فيقتلها إمّا مباشرة أو بفعل بعض ورضى الآخرين {وَعَتَوْاْ} تمرّدوا {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي عن امتثاله وذلك لمّا أمرهم بالتوبة بعد العقر {وَقَالُواْ} مكذّبين: {يَٰصَٰلِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ}.

78- {فَأَخَذَتْهُمُ} أصابتهم {ٱلرَّجْفَةُ} فقد صعقتهم الصيحة فانخلعت قلوبهم أو الزلزلة مصاحبة للصاعقة والصيحة {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} محلّهم وبلدهم {جَٰثِمِينَ} صرعى لا حراك لهم.

79- {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ} خرج عن تلك القرية أو عن مساكنهم {وَقَالَ} مخاطباً لجثثهم متحسّراً عليهم: {يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أخلصت في الموعظة {وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ} حكاية حال ماضية أي لكنّكم لم تكونوا تحبّونهم.

قصة صالح (عليه السلام) وثمود

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ...} الآية.

صالح (عليه السلام) كنوح وهود (عليهما السلام) بيّن لهم التوحيد ونفى الشريك وحذّرهم من عذاب اللّه سبحانه، وهذه الآية بيّنت المعجزة التي جاء بها، وأنّ العذاب الدنيوي سينالهم لو اعتدوا على المعجزة، وقد ربط اللّه العذاب بالتكذيب في قصّة نوح، وباستعجالهم العذاب في قصّة هود، وبعقر الناقة في قصّة

ص: 151

صالح، والفحشاء في قوم لوط، والصد عن سبيل اللّه في قصّة شعيب؛ ولعلّ ذلك لبيان أنّ كل واحد منها استكبار وعتو على أمر اللّه تعالى وعلى رسله،فكل واحد منها يكفي في استحقاق عذاب الدنيا والآخرة.

وقوله: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ} قبيلة ثمود وكانوا في الحِجر بين الشام والحجاز، قيل تسميتهم باسم جدّهم ثمود، وقيل: لأنّهم كانوا قليلين من الثَمَد وهو الماء القليل.

وقوله: {بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} البينة هي الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر، ولذا قيل في تعريفها: إنّها العلامة الفاصلة بين الحق والباطل من جهة شهادتها به.

وقوله: {نَاقَةُ ٱللَّهِ} الإضافة تشريفيّة، فإنّ اللّه جعلها الآية وخلقها من غير واسطة أب وأم حيث أخرجها من بطن الجبل، ولذلك كانت معجزة تمت بها الحجّة.

وقوله: {لَكُمْ} قيل: «و(لكم) بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود؛ لأنّهم عاينوها وسمع غيرهم خبرها، وليس الخبر كالمعاينة»(1).

وقوله: {ءَايَةً} نصب على الحال والعامل فيها ما دلت عليه اسم الإشارة من معنى الفعل، فكأنّه قيل: أشير إليها حال كونها آية - هكذا قيل - .

وقوله: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ ٱللَّهِ} كأنّه بيان أنّها لا تزاحمهم في

ص: 152


1- جوامع الجامع 1: 447.

حياتهم فأكلها من أرض اللّه المباحة لا من أملاكهم أو نفقاتهم، وأمّا شربها فمن ماء الوادي وقد كان ذلك بمنفعتهم حيث كانت تترك يوماً فيشربونمن ماء الوادي، وتشرب يوماً فيشربون جميعاً من لبنها، قال سبحانه: {قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٖ مَّعْلُومٖ}(1).

الثاني: قوله تعالى: {وَٱذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٖ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ...} الآية.

بعد أن أراهم الآية ذكّرهم بنعم اللّه تعالى عليهم ومن أعظمها استخلافهم في الأرض وتمكينهم منها، فقد أهلك اللّه سبحانه عاداً إلاّ المؤمنين منهم، وكانت ثمود من ذرّيتهم أو من ذرّية غيرهم لكنّهم كانوا يعلمون بأخبارهم وإهلاكهم، فمَنّ اللّه على ثمود بأن أورثهم الأرض وذلّلها لهم بحيث عمّروا البيوت في السهل والجبل لحرّهم وبردهم.

وقوله: {فَٱذْكُرُواْ ءَالَاءَ ٱللَّهِ} وهذا ليس تكراراً لقوله: {وَٱذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ...} بل الظاهر أنّ ذاك في التذكير بالنعمة، وهذا دعوة إلى الإيمان أي وحيث تذكرتم نعمه عليكم فعليكم أن تشكروا آلاءه عليكم، فالمعنى فاذكروها عبر الإيمان باللّه تعالى.

وقوله: {وَلَا تَعْثَوْاْ} في العين: «عاث يعيث عيثاً أي أسرع في الفساد، تقول: إنّك لأعيث في المال من السوس في الصيف»(2)، وعليه فيكون قوله:

ص: 153


1- سورة الشعراء، الآية: 155.
2- كتاب العين 2: 231.

{مُفْسِدِينَ} تأكيداً.

وقد جمع صالح (عليه السلام) لهم الموعظة حيث أمرهم بذكر آلاء اللّه عبرشكرها وذلك إصلاح في الأرض، ونهاهم عن الكفر والمعاصي التي هي إفساد فيها.

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ...} الآية.

بيّن في قصّة ثمود وصالح حواراً بين الكفّار والمؤمنين وهي جهة أخرى من جهات قصص الأنبياء، فالقصص في هذه السورة للتركيز على التوحيد والنبوّة والتحذير من العذاب، مع بث القضايا في هذه القصص لتكون لكل قصة خصوصيتها وتأثيرها في الهداية.

وقوله: {لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ} بدل عن قوله: {لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ} بدل بعض عن الكل فإنّ بعض الضعفاء آمن وبعضهم لم يؤمن فكان الخطاب لمن آمن منهم، وقيل: المراد من المستضعفين خصوص المؤمنين وإنّما ذكر {لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ} حتى يتبيّن بأنّ الاستضعاف يراد به في الدين.

وقوله: {أَتَعْلَمُونَ...} الاستفهام إنكاري أي كيف علمتم بأنّ صالحاً مرسل؟ وقد يراد به الاستهزاء، أو يراد به تحذيرهم وتهديدهم، وكأنّهم بقولهم ذلك أرادوا إضلالهم.

وقوله: {قَالُواْ إِنَّا...} في جوابهم إيجاز بليغ، فالمعنى: نعم، نعلم أنّه مرسل ولذا آمنّا بما بلّغه عن اللّه من التوحيد ونفي الشريك وغير ذلك.

ص: 154

الرابع: قوله تعالى: {قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِٱلَّذِي ءَامَنتُم بِهِ كَٰفِرُونَ}.

لعلّ غرضهم من ذكر كفرهم للمستضعفين هو إرعابهم وتحذيرهم، فمعوضوح إيمان المستضعفين وكفر المستكبرين إلاّ أنّهم سألوهم ثمّ بيّنوا كفر أنفسهم، ولم يقولوا كفرنا بما أرسل به صالح بل قالوا: {بِٱلَّذِي ءَامَنتُم بِهِ كَٰفِرُونَ} أي نحن نعارض معتقدكم أنتم، هذا مضافاً إلى أنّهم لم يكونوا يعترفون برسالة صالح (عليه السلام) فكان تعبيرهم كما بيّنه اللّه تعالى.

الخامس: قوله تعالى: {فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَٰصَٰلِحُ...} الآية.

لمّا ضاقوا بوجود الناقة - وهي آية ماثلة أمامهم باستمرار - أرادوا التخلّص منها ليسهل تكذيبهم، أو لإرعاب المؤمنين فلذلك قتلوا الناقة.

وقوله: {فَعَقَرُواْ} العقر هو الجرح الذي يستأصل فيقتل، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «وأقبل قوم صالح فلم يبق أحد منهم إلاّ شركه في ضربته، واقتسموا لحمها في ما بينهم، ولم يبق منهم صغير ولا كبير إلاّ أكل منها»(1).

وقوله: {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} كأنّ المراد أنّهم بعد قتلها تمادوا في غيّهم فلم يتوبوا مع أنّ صالحاً (عليه السلام) أخبرهم بأنّهم إن تابوا تاب اللّه عليهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «فأوحى اللّه تبارك وتعالى إلى صالح (عليه السلام) أنّ قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثتها إليهم حجّة عليهم، ولم يكن عليهم

ص: 155


1- الكافي 8: 188.

فيها ضرر، وكان لهم منها أعظم المنفعة، فقل لهم: إنّي مرسل إليكم عذابي إلى ثلاثة أيّام، فإن هم تابوا ورجعوا قبلت توبتهم وصددت عنهم،وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثالث... فلمّا قال لهم ذلك كانوا أعتى ما كانوا وأخبث»(1).

وقوله: {وَقَالُواْ يَٰصَٰلِحُ...} قالوه استهزاءً به لأنّ المصدّق لا يستعجل بالعذاب وإنّما يفر منه، وأمّا المكذّب فهو يريد إثبات كلامه وصدق مقالته ولذلك يستعجل به زاعماً أنّه لا عذاب؛ إذ لو كان صدقاً لأتاه! قال في الكشّاف: «استعجالهم له هو لتكذيبهم به، ولذلك علّقوه بما هم به كافرون وهو كونه من المرسلين»(2).

والحاصل: أنّهم ارتكبوا جرائم ثلاث: عقر الناقة، والعتو عن أمر اللّه، والتكذيب بالعذاب، فاستوجبوا بذلك نزول العذاب عليهم.

السادس: قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَٰثِمِينَ}.

كان عذابهم بالصاعقة والصيحة والرجفة، وقد ذكر كل ذلك في آيات متعددة كقوله: {وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ}(3)، وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ}(4)، وهذه الثلاثة إمّا عذاب واحد له أوصاف متعدّدة فهو صاعقة لها صوت أرجفت قلوبهم فخلعتها فماتوا، وإمّا عذابات ثلاث

ص: 156


1- الكافي 8: 189.
2- الكشّاف 2: 124.
3- سورة هود، الآية: 67.
4- سورة الذاريات، الآية: 44.

جمعها اللّه عليهم بالصاعقة والصيحة والزلزلة، وإمّا الصاعقة هي الصيحة صعقتهم فجأة فأهلكتهم.

وقوله: {فِي دَارِهِمْ} يراد به الجنس، أو كناية عن البلد، وفي آية أخرى {دِيَٰرِهِمْ} باعتبار كل بيت بيت، وكأنّه إشارة إلى أنّهم كانوا في وقت راحة في بيوتهم، قال سبحانه: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ}(1).

وقوله: {جَٰثِمِينَ} أي ساكنين لا حركة لهم، وفي العين: «جثم يجثم جثوماً أي لزم مكاناً لا يبرح... والجثمان بمنزلة الجسمان»(2)، وكأنّ ذكر جثومهم لبيان أنّهم لم تنفعهم قصورهم ولا بيوتهم التي كانوا ينحتونها في الجبال فلم تمنعهم من عذاب اللّه تعالى.

السابع: قوله تعالى: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ...} الآية.

الظاهر أنّ كلامه هذا كان مع جثثهم الهامدة، قاله تحسّراً عليهم حيث خسروا الدنيا والآخرة، كما خاطب رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قتلى قريش في بدر فقال: «يا فلان ويا فلان إنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً فهل وجدتّم ما وعد ربّكم حقّاً»(3).

وقوله: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ} أي أعرض عنهم فإنّه إنّما كان يُقبل عليهم

ص: 157


1- سورة الحجر، الآية: 83.
2- كتاب العين 6: 100.
3- راجع من لا يحضره الفقيه 1: 180؛ مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 1: 60؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 47؛ بحار الأنوار 19: 346.

ليدعوهم إلى الإيمان أما وقد ماتوا كفّاراً فلا فائدة في الإقبال عليهم لانقطاع عملهم، وقيل: المعنى أنّه خرج من تلك البلاد وسكن في بلد آخرهو ومن آمن معه.

الكلام مع الموتى

وقوله: {وَقَالَ يَٰقَوْمِ...} الموتى يسمعون ويبصرون بأرواحهم، بل هم أبصر وأسمع بعد زوال الحجب عنهم، قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ} (1)، وفي الحديث: «ما أنتم بأسمع منهم»(2)، وأمّا قوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٖ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ}(3) فمعناه أنت لا تهديهم وذلك لانقطاع عملهم، فالإسماع بمعنى الهداية والفهم كما قال: {إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ}(4)، وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ}(5)، أي لأفهمهم الحق، لأنّهم كانوا يسمعون الكلام إذ التبليغ عام للجميع لكنهم ما كانوا يعونه، وقوم صالح بعد نزول العذاب ندموا كما قال: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَٰدِمِينَ}(6)، ولعلّهم استغاثوا به حين نزول العذاب أو بعد موتهم فأجابهم بهذا الكلام، أو أنّه قال هذا الكلام تحسّراً عليهم.

ص: 158


1- سورة ق، الآية: 22.
2- بحار الأنوار 19: 346.
3- سورة فاطر، الآية: 22.
4- سورة الروم، الآية: 53.
5- سورة الأنفال، الآية: 22-23.
6- سورة الشعراء، الآية: 157.

وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي قالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا فتولّى عنهم وقال ما قال فأخذتهم الرجفة! لكنّه خلاف الظاهر.

وقوله: {وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ} قيل: هو حكاية حال ماضية فالمعنى كنتم لا تحبّون الناصحين فلذا لم تقبلوا النصح ولم تؤمنوا، ومن أحب إنساناً قبل عنه.

ص: 159

الآيات 80-84

اشارة

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٖ مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ 80 إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ 81 وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ 82 فَأَنجَيْنَٰهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَٰبِرِينَ 83 وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ 84}

80- {وَ} اذكر {لُوطًا إِذْ} أرسلناه ف{قَالَ لِقَوْمِهِ} مستنكراً عليهم: {أَتَأْتُونَ ٱلْفَٰحِشَةَ} العمل الشديد القبح {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٖ مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ} فحتى آباؤكم لم يفعلوها كي تستندوا عليهم! وهذا دليل عقلي على كونها خلاف الفطرة.

81- ثم فسّر الفاحشة فقال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً} أي لأجل الشهوة فلا يوجد داع عقلي له وهذا صفة البهائم {مِّن دُونِ ٱلنِّسَاءِ} حيث تركوا نساءهم وهو ما يأمر به العقل والفطرة {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} متجاوزون الحد في المعاصي ولذا ارتكبتم الفاحشة.

82- {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ} أي لم يكن لهم جواب لكلامه ولذا أعرضوا عن جوابه وقال بعضهم لبعض: {أَخْرِجُوهُم} لوطاً وأهله {مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قالوه للسخريّة به وافتخاراً برجسهم.

ص: 160

83- {فَأَنجَيْنَٰهُ} لمّا نزل العذاب {وَأَهْلَهُ} بناته المؤمنات {إِلَّا ٱمْرَأَتَهُ}الكافرة ف{كَانَتْ مِنَ ٱلْغَٰبِرِينَ} الباقين في ديارهم فهلكت معهم.

84- {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا} بحجارة من سجيل {فَٱنظُرْ} نظرة اعتبار {كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ} مرتكبي السيّئات.

قصة لوط (عليه السلام) وقومه

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٖ مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

بعد ذكر الدعوات التوحيديّة لنوح وهود وصالح (عليهم السلام) ذكر اللّه تعالى قصّة لوط وشعيب (عليهما السلام) ودعوتهما الشرعيّة الفطريّة في أهم أمرين ينتظم بهما حياة الإنسان - المال والزواج - حيث خالف قومهما الفطرة والعقل والشرع بارتكاب الفاحشة وبأكل المال بالباطل والإفساد في الأرض.

وهذه الآيات حول قوم لوط خلت عن ذكر دعوته (عليه السلام) إلى التوحيد وترك عبادة غير اللّه، وهكذا سائر الآيات المرتبطة بقصّة لوط وقومه في سائر سور القرآن كسورة هود والحجر والشعراء والنمل والعنكبوت والقمر والصافات وغيرها، مع تركيز هذه الآيات على أفعالهم الشنيعة بارتكاب الفاحشة وتكذيبهم نبيّهم لوطاً (عليه السلام) واقترافهم لآثام أخرى، فلعلّهم لم يكونوا مشركين لكنهم أجرموا وكفروا بتكذيب رسولهم وارتكاب الموبقات! واللّه العالم.

قال السيد الوالد رضوان اللّه عليه: «ولعلّ اختلاف السياق هنا عمّا سبقه حيث كان يقول: {وَإِلَىٰ}، تنبيه عدم التعرّض لمن توسطهما من الأنبياء

ص: 161

كإبراهيم (عليه السلام) الذي كان معاصراً للوط، وإنّما لم يذكر إبراهيم (عليه السلام) لعلّهلعدم نزول عقاب على قومه كما نزل على قوم لوط وقوم الأنبياء السابقي الذكر»(1).

وقوله: {وَلُوطًا} أي واذكر لوطاً، أو وأرسلنا لوطاً، والأوّل أحسن لأنّ نظائره في القرآن كثيرة.

وقوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} قيل: إنّه لم يكن منهم وإنّما هو من قوم إبراهيم (عليه السلام) من بابل، وإنّما هاجر لوط إليهم وتزوّج منهم فعُدّ منهم، والأظهر أنّهم كانوا من قوم واحد سكن بعضهم بابل في العراق وآخرون منهم سدوم في فلسطين، فكانت هجرته من قومه في بابل إلى قومه في سدوم، واللّه العالم.

وقوله: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٖ مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ} كأنّ كلامه يتضمّن بطلان عملهم من جهة الفطرة والعقل حيث لم يرتكبها أحد من السابقين، كما لا يمكنهم الاستناد على فعل الآباء كسائر المشركين من عبدة الأوثان، حيث إنّهم استحدثوا تلك فاحشة.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}.

تفسير للفاحشة التي كانوا يرتكبونها وبيان سبب ذلك مع بيان بطلان عملهم في عبارة وجيزة بليغة.

ص: 162


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 205.

وقوله: {شَهْوَةً} مفعول له أي لأجل الشهوة، أو حال بجعل المصدربمعنى اسم الفاعل أي مشتهين، وهذا دليل بطلان عملهم لأنّ الشهوة التي لا غرض فطري أو عقلي فيها أمر باطل؛ وذلك لأنّ اللّه سبحانه نظّم حياة الإنسان بحيث يشتهي ما يحتاجه ويلتذ به لكي لا يعزف الناس عمّا يحتاجونه فتختل أمورهم، فالنسل لا بد منه ولولا الشهوة الجنسيّة لترك الناس الزواج وانقطع النسل، وهكذا الطعام وغيره، ولكنّه سبحانه جعلها في الإطار الصحيح بحيث تقضى الحاجة بالشهوة، وقد مضى شطر من الكلام في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَٰمِ وَٱلْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلْمََٔابِ}(1)، أمّا إذا كانت الشهوة مجرّدة عن الحاجة في الحياة دائماً فهي مذمومة، ومن ذلك إتيان الرجال.

وقيل: أتى بهذا القيد - شهوة - لأنّ أصل الإتيان بمعنى المجيء فأراد أن يبيّن أنّ المقصود هو المعنى الكنائي.

وقوله: {مِّن دُونِ ٱلنِّسَاءِ} أي ترتكبون الحرام وتتركون الحلال، وفي ذلك دلالة على أنّهم تركوا مباشرة النساء كاملاً وهذا ذم آخر لهم حيث إنّ ترك الزوجات مذموم لحاجتهن، مع أنّ اللّه خلقهّن للرجال وخلق الرجال لهن، قال سبحانه: {أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَٰلَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}(2)، وقد قال: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ

ص: 163


1- سورة آل عمران، الآية: 14.
2- سورة الشعراء، الآية: 165-166.

لَكُم مِّنْأَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(1).

وقول--ه: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضراب للترقي والتعليل، أي أنتم قوم تتجاوزون الحدود في الفساد والمعصية ولذا ارتكبتم الفاحشة، و(الإسراف) تجاوز الحد المسموح به، وهذا الإسراف هو المذكور في سورة الشعراء {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}، وفي الكشّاف: «أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وتدعو إلى اتّباع الشهوات وهو أنّهم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثَمّ أسرفوا في باب قضاء الشهوة حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد»(2).

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.

أي لم يكن عندهم جواب لكلامه فلذا انتقلوا إلى التهديد، ونظير هذا يقع للمبطلين حينما تبهتهم الحجّة حيث ينتقلون إلى التهديد أو الاستهزاء والافتخار بباطلهم ونحوهما، فالمعنى لم يكن جوابهم إلاّ التهديد والافتخار بقذارة أنفسهم.

وقوله: {أَخْرِجُوهُم} أي لوطاً وأهله؛ لأنّه لم يؤمن له أحد سواهم، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٖ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ}(3).

ص: 164


1- سورة الروم، الآية: 21.
2- الكشّاف 2: 125.
3- سورة الذاريات، الآية: 35-36.

وقوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ} أي إنّ لوطاً وأهله - وهنّ بناته - ولعلّ ذلك لما روي من أنّ قوم لوط اكتفى الرجال بالرجال فاكتفت النساء بالنساء(1).

وقوله: {يَتَطَهَّرُونَ} أي يتركون القبائح ويتحرّجون عنها، عابوهم بما هو حسن فيهم، وهذا إمّا استهزاء بهم كقول الكافر المعاند: هذا مسلم! أو إنّهم انتكست عقولهم فافتخروا بقذارتهم واعتبروا التطهّر ذمّاً، كما يذم الفسقة المؤمنين بتركهم المحرّمات؛ وذلك لأنّه إذا شاعت فاحشة واستساغها الناس زعموا أنّها الحق وأنّ خلافها الباطل، أو إنّهم كانوا يعلمون بخباثة عملهم وطهارة لوط (عليه السلام) وأهله فذكروا ما عرفوه بفطرتهم إلاّ أنّ شقاوتهم منعتهم عن ترك عملهم، وهذا كقول اللصوص: إنّ فلاناً ليس لصّاً فلا بد من طرده، وذلك لئلا يُنغّص عليهم شهواتهم.

الرابع: قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَٰهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَٰبِرِينَ}.

أي لمّا حان موعد العذاب أنجينا المؤمنين وهم لوط وأهله، إلاّ امرأته كانت كافرة فأصابها العذاب، قال تعالى: {ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٖ وَٱمْرَأَتَ لُوطٖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَٰلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَئًْا وَقِيلَ ٱدْخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ}(2).

وقوله: {إِلَّا ٱمْرَأَتَهُ} استثناء منقطع لأنّها وإن كانت زوجته إلاّ أنها لم تكن من أهله كما قال تعالى في ابن نوح: {قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ

ص: 165


1- الكافي 5: 545.
2- سورة التحريم، الآية: 10.

إِنَّهُعَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٖ}(1).

وقوله: {مِنَ ٱلْغَٰبِرِينَ} أي من الباقين في القرية، يقال: غَبَر إذا بقي(2)، وقد أهلك اللّه كلّهم من رجال غابرين ونساء غابرات فقوله: {غَٰبِرِينَ} للتغليب، وذلك بعد أن انقطع نسلهم بفاحشتهم فلم يكن فيهم أطفال.

الخامس: قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ}.

كان عذابهم بالحجارة ثمّ بعد إهلاكهم قلب اللّه تعالى مدينتهم رأساً على عقب كما قال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ}(3)، والمطر هو الماء النازل من السماء، ثمّ استعير لكل ما ينزل منها، وعامة استعماله في القرآن في العذاب أو ماء السماء المؤذي، وأمّا إذا كان نافعاً فالتعبير بالغيث غالباً ونحوه.

وقوله: {فَٱنظُرْ} الخطاب للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أي فاعلم لكي تبلّغ، أو الخطاب لمن يستمع إلى الآيات أي فانظروا كيف جرمهم أودى بهم فاعتبروا.

وقوله: {ٱلْمُجْرِمِينَ} الجرم هو الذنب العظيم، ولا يطلق على الذنوب الصغيرة.

ص: 166


1- سورة هود، الآية: 46.
2- راجع مقاييس اللغة 4: 408.
3- سورة هود، الآية: 82.

الآيات 85-87

اشارة

{وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 85 وَلَا تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَٰطٖ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ 86 وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُواْ بِٱلَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ 87}

85- {وَ} أرسلنا {إِلَىٰ مَدْيَنَ} قبيلة وسمّيت مدينتها باسمها {أَخَاهُمْ} في النسب {شُعَيْبًا} فدعاهم في البداية إلى التوحيد ف{قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ}، ودليل صدقي أنّه {قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ} معجزة لها دلالة واضحة {مِّن رَّبِّكُمْ}، ثم دعاهم إلى الطاعة وعدم المعصية، قائلاً: {فَأَوْفُواْ} أي أتمّوا {ٱلْكَيْلَ} أي المكيال {وَٱلْمِيزَانَ} وفي ذلك إعطاء الناس كامل حقّهم وهذا في البيع، {وَلَا تَبْخَسُواْ} أي لا تنقصوا {ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} وهذا في الشراء، {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ} بالعصيان {بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا} بإرسال الرسول إليكم أو بالأنبياء الماضين أو بإهلاك قوم نوح وعاد وثمود، {ذَٰلِكُمْ} الذي أمرتكم به من الوفاء وعدم البخس

ص: 167

وعدم الإفساد {خَيْرٌ لَّكُمْ} أنفع وأحسن {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لأنّ الالتزام بالأحكام من دون إيمان خيرهقليل وأمّا الالتزام بها مع الإيمان ففيه خير الدنيا والآخرة.

86- {وَلَا تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَٰطٖ} طريق، فقد كانوا يترصدون من يدخل المدينة ليحذّروهم عن شعيب والاستماع إليه {تُوعِدُونَ} تهددون {وَتَصُدُّونَ} تمنعون {عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} فكانوا يستعملون التهديد تارة وإلقاء الشبهات والأكاذيب تارة أخرى {مَنْ ءَامَنَ بِهِ} أي من آمن فعلاً ومن يريد الإيمان {وَتَبْغُونَهَا} تريدون السبيل {عِوَجًا} منحرفة، والمعنى إنّهم كانوا يعارضون سبيل اللّه ويريدون السبيل الأعوج بالكفر والعصيان، {وَٱذْكُرُواْ} نعمة اللّه عليكم {إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا} عدداً {فَكَثَّرَكُمْ} اللّه بالنسل الخصب، {وَٱنظُرُواْ} نظرة اعتبار {كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ} من قبلكم كقوم نوح وهود وصالح (عليهم السلام) كيف أهلكهم اللّه تعالى لمّا عصوا رسله.

87- {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُواْ بِٱلَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ} فصدّقوني {وَطَائِفَةٌ} منكم {لَّمْ يُؤْمِنُواْ} فكذّبوني {فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ} يتبيّن الحق حينما {يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا} بإنجاء المحق وإهلاك المبطل {وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ} لأنّه يحكم بالعدل ولا يجور، وقادر على إثابة المحق وعقاب المبطل.

قصة شعيب (عليه السلام) وقومه

بحوث

الأوّل: تتضمّن دعوة شعيب (عليه السلام) مضافاً إلى الأمر بعبادة اللّه وحده لا شريك له، مجموعة أمور أخرى ترتبط بأحكام الدين وهي: 1- وفاء

ص: 168

المكيال والميزان، 2- وعدم بخس الناس حقوقهم، 3- وعدم الفساد في الأرض، 4- وعدم تهديد من يريد الإيمان، 5- وعدم الصد عن سبيل اللّه،6- وعدم اتخاذ الطريق المنحرف، 7- وتذكّر نعم اللّه تعالى، 8- والاعتبار بعاقبة المفسدين، 9- والصبر حتى يحكم اللّه بينهم، وقد بيّنها اللّه تعالى بإيجاز بليغ في آيات ثلاث، ويجمعها كلّها أمران: أحدهما أداءحقوق الناس الماديّة والدينيّة، والآخر: تذكّر نِعم اللّه تعالى وعاقبة المفسدين.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ...} الآية.

ابتدأهم بالدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك بعبادة اللّه سبحانه وتعالى وحده.

قوله: {قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي معجزة تدل على صدقه، ولكل نبي معجزة لتمييز أنبياء اللّه تعالى عن الأدعياء الكذبة، ولم يذكر اللّه تعالى في القرآن ماهيّة معجزة شعيب ولا وجدنا ذلك في شيء من الأخبار، ولعلّه لم يكن هناك غرض بذكر خصوص معجزته بتفصيلها، والقرآن لا يذكر شيئاً إلاّ وله غرض في الهداية لا لمجرد سرد قصّة.

ثمّ بعد الدعوة التوحيديّة أمرهم في هذه الآية بثلاثة أمور ترتبط بحقوق الناس:

1- قوله: {فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ} (الوفاء) هو الإتمام إلى حد الحق فيه، فلو أدى دينه كاملاً قالوا أوفاه ووفّاه، وهكذا لو أعطاه بمقدار ما شراه، ووفاء الكيل والميزان هو أن يتم وضع السلعة فيهما من غير نقصان،

ص: 169

و(الكيل) مصدر لكن أريد به هنا آلة الكيل أي المكيال وهو مقياس بالحجم لا بالوزن، و(الميزان) أداة الوزن، ويمكن أن يكون الميزان والكيلمصدرين فالمعنى لا تخونوا في عمليّة الكيل والوزن، وهذا في البيع إلى الناس.

2- وقوله: {وَلَا تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} وهذا في الشراء من الناس، و(البخس) هو نقص الشيء على سبيل الظلم كما في المفردات(1) وذلك حينما يأتي الناس ببضاعتهم لبيعها فيقلل البائع من وزنها أو كيلها ليدفع أقل، وممّا ذكرنا يتبيّن أنّ عطف {وَلَا تَبْخَسُواْ} على (أوفوا) ليس للتأكيد بل كل واحد منهما بيان لحالة مختلفة.

3- وقوله: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا} كأنّه بيان للنهي عن سلب الناس سائر حقوقهم عبر الإفساد، و(الفساد) خروج الشيء عن حد الاعتدال(2) سواء بإفراط أم تفريط، والمعصية فساد لأنّها خروج عن الدين القويم، و{بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا} أي بعد تطهيرها عن المعاصي بإرسال الأنبياء أو بإهلاك الأقوام الكافرة، وهذا تأكيد لأنّ كل فساد منهي عنه إلاّ أنّ الفساد بعد الإصلاح أسوء.

وقوله: {ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي الوفاء بالكيل والوزن وعدم البخس وعدم الإفساد أفضل لكم إن جمعتموه مع الإيمان؛ إذ المجتمع المبتني على الإيمان والعدل والإصلاح خيره المادي والمعنوي أكثر من المجتمع المبني

ص: 170


1- المفردات للراغب: 110.
2- المفردات للراغب: 636.

على الجور والفساد كما هو واضح، ومن ذلك يتبيّن أنّ قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} شرط لقوله: {خَيْرٌ لَّكُمْ}؛ وذلك لأنّ في الجمع بين الإيمان والعمل بالصالحات خير الدنيا والآخرة، وأمّا العمل بالصالحات من غير إيمان ففيه قليل من خير الدنيا دون خير الآخرة، وأمّا تركهما معاً فلا خير فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن هذا يتبين أيضاً أنّ {ذَٰلِكُمْ} ليس إشارة إلى {ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ...} فما بعده لاستلزامه التكرار والإبهام في قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَٰطٖ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}.

كأنّ هذا المقطع من هذه الآية يرتبط بالنهي عن منعهم حقوق الناس الدينيّة - كما أنّ الآية السابقة كانت حول حقوقهم الماديّة - حيث كانوا يترصّدون في الطرق لمنع الناس عن الوصول إلى شعيب (عليه السلام) لئلا يهتدوا به أو ليرتد المؤمنون عنه.

وقوله: {وَلَا تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَٰطٖ} كأنّ المراد به الطرق المنتهيّة إلى شعيب، كما كان يفعل ذلك مشركو مكّة حيث كانوا في الطرق ينهون الحجاج والمعتمرين والغرباء عن الاستماع إلى رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وكان عملهم في الطريق ثلاثة أمور:

1- قوله: {تُوعِدُونَ} تهديد الناس وتخويفهم، ولعلّ هذا يرتبط بأسلوبهم مع عامة الناس غير المؤمنين الذين كانوا يحتملون إيمانهم إذا استمعوا إلى شعيب (عليه السلام) ، فيكون التهديد مانعاً لهم عن الإيمان.

ص: 171

2- وقوله: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ} ولعلّ طريقتهم في صد المؤمنين عن طريق إلقاء الشبهات والتضييق عليهم بالاستهزاء وغير ذلكليضجروا من الإيمان ويرتدّوا على أدبارهم القهقرى إلى الكفر، أو صدّهم عن العمل بوظائف الإيمان من العبادات وسائر الطاعات.

ويحتمل أن يكون الإيعاد والصد بالنسبة إلى المؤمنين أي توعدون المؤمنين وتصدّوهم عن سبيل اللّه، فكان تارة تهديداً وأخرى صدّاً عملاً، كما يحتمل أن يكون قوله: {مَنْ ءَامَنَ بِهِ} أعم ممّن آمن فعلاً ومن يريد الإيمان.

3- وقوله: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي تطلبون السبيل الأعوج المنحرف عن سبيل اللّه فضمير {تَبْغُونَهَا} يرجع إلى السبيل، فلم يكن عملهم مجرد الصد عن سبيل اللّه بل أضافوا إلى ذلك الدعوة إلى الباطل، وهذه جريمة مضاعفة، فالمبطل تارة لا يريد اهتداء الناس ولا يهمّه ماذا يختارون، وتارة يريد إضلالهم إلى دين باطل.

وقيل: الضمير يرجع إلى {سَبِيلِ ٱللَّهِ} فالمعنى تريدون إيهام الناس بعدم صحة سبيل اللّه تعالى حيث ترونهم أنّها عوجاء!

الرابع: قوله تعالى: {وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ}.

كأنّ هذا المقطع من الآية المباركة يدعوهم إلى الإيمان عبر تذكيرهم بنعمة اللّه عليهم وتذكيرهم بمصير الأقوام المكذّبين الذين أهلكهم اللّه تعالى.

ص: 172

وقوله: {وَٱذْكُرُواْ} أي تذكّراً يقودكم إلى الإيمان والعمل الصالح.

وقوله: {فَكَثَّرَكُمْ} الظاهر أنّ المراد أنّ عددهم كان قليلاً فزاد نسلهم،وكأنّ ازديادهم كان أكثر من سائر الأقوام فكانت نعمة ظاهرة لهم بخصوبة النسل، لذلك ذكّرهم بهذه النعمة، أو هم نسل المؤمنين الذين أنجاهم اللّه تعالى من عذاب أقوامهم الكافرين، فكانوا أقليّة والكفّار أكثريّة ثمّ أهلك اللّه الكفّار وتناسل المؤمنون فصاروا كثيراً إلاّ أنّ ذرّيتهم أشركوا وانحرفوا فبعث اللّه إليهم شعيباً ليذكرهم، واللّه العالم.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُواْ بِٱلَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ...} الآية.

كأنّ هذا من تتمة الآية السابقة، فحيث نهاهم عن أن يصدّوا المؤمنين عن سبيل اللّه، بيّن لهم أن يتركوهم وشأنهم حتى يحكم اللّه بينهم.

ويمكن أن يراد ما في تقريب القرآن: «ولا يغرّنكم أيّها القوم تفرّق الناس عنّي بين مؤمن وكافر، فإنّ المصلحين يتفرّق الناس عنهم فرقتين دائماً، وقبل شروعهم في الإصلاح يكون الناس حولهم فرقة واحدة موالية، ولا يخفى أنّ هذا لا يكون سبباً لأن يزعم كل من تفرّق الناس عنه فرقتين أنّه مصلح وأنّه على حق، فإنّ العاقبة للحق، والضمائر تشهد بالصدق والكذب، وهاتان علامتان مميّزتان بين المحق والمبطل؛ ولذا تمسّك شعيب (عليه السلام) بقوله: {فَٱصْبِرُواْ}»(1).

ص: 173


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 209.

وقيل: هو وعد ووعيد، أي كلا الطائفتين - المؤمنة والكافرة - سيلاقون جزاء عملهم، فالمؤمنة بالثواب والكافرة بالعقاب، لكن عليهم الصبر إلى أنيحين وقت ذلك.

وقوله: {يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا} بإنجاء المحق، وإهلاك المبطل.

وقوله: {خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ} لأنه العالم بكل شيء الذي لا يسهو ولا يغفل، وهو العدل الذي لا يجور، وهو القادر الذي لا يفوته شيء.

ص: 174

الآيات 88-93

{قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَٰرِهِينَ 88 قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَٰتِحِينَ 89 وَقَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَٰسِرُونَ 90 فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَٰثِمِينَ 91 ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ ٱلْخَٰسِرِينَ 92 فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٖ كَٰفِرِينَ 93}

88- ولمّا لم يتمكن الكفّار من مجاراة شعيب بالحجّة هددوه ف{قَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف {ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ} عن قبول الحق ولم يقبلوا أن يصبروا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا} نسبوا القرية إلى أنفسهم دون المؤمنين بخساً وتكبّراً {أَوْ لَتَعُودُنَّ} أي إلاّ أن تعودوا {فِي مِلَّتِنَا} طريقتنا بالكفر والمعصية، فخيّروهم بين أحد الأمرين. {قَالَ} شعيب (عليه السلام) في جوابهم: {أَوَلَوْ كُنَّا كَٰرِهِينَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو حالية، أي كيف تتمكّنون من إخراجنا من القرية أو إعادتنا في ملتكم

ص: 175

والحال أنّا كارهون لكلا الأمرين فلا نريد أن نخرج ولا نريد أن نكفر.

89- ثمّ بيّن سبب رفضه لكلا الأمرين، أمّا عدم العود إلى ملتهم ف{قَدِٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم} لأنّ الشرك والمعاصي كذب ونسبتها إلى اللّه افتراء عليه، {بَعْدَ إِذْ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنْهَا} فإن الارتداد أسوء من الكفر الأصلي، {وَمَا يَكُونُ لَنَا} يستحيل علينا {أَن نَّعُودَ فِيهَا} في ملتكم المشركة {إِلَّا أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا} بأن يخذلنا ويقطع لطفه عنّا فحينئذٍ نضلّ ونرجع إلى الشرك، ومشيئته ليست اعتباطاً، بل {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي علمه أحاط بكل شيء فلا يشاء إلاّ بحكمة. وأمّا سبب عدم الخروج من القرية فلأنّا {عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا} فلا نخاف من تهديدكم، ثمّ توجه شعيب إلى اللّه بالدعاء قائلاً: {رَبَّنَا ٱفْتَحْ} أي احكم واكشف الحقيقة {بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَٰتِحِينَ} لأنّك عدل لا جور فيه وعلم لا جهل معه.

90- {وَ} لمّا يئسوا من شعيب ومن آمن معه {قَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} لمن لم يؤمن، أو قالوه للمؤمنين: {لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} آمنتم به أو بقيتم على الإيمان به {إِنَّكُمْ إِذًا} حين اتباعكم له {لَّخَٰسِرُونَ}.

91- {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ} عذّبوا بسحابة أرعدت بالصحية وأبرقت بالنار فارتجفت الأرض منها أو ارتجفت قلوبهم فانخلعت فماتوا {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَٰثِمِينَ} صرعى لا حركة لهم.

92- {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} وهددوه بإخراجه من القرية {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ

ص: 176

فِيهَا} أي كأنّهم لم يسكنوها لأنّهم وذرّيّتهم انقطعوا عنها، {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ ٱلْخَٰسِرِينَ} خسروا الدنيا والآخرة عكس ما زعموا من خسران المؤمنين.

93- {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ} أعرض عن جثثهم الميتة {وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي} فكلّ حكم رسالة {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أخلصت في وعظكم، لكنّكم عاندتم بعد الحجة {فَكَيْفَ} استفهام بمعنى النفي {ءَاسَىٰ} أحزن {عَلَىٰ قَوْمٖ كَٰفِرِينَ}.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَٰشُعَيْبُ...} الآية.

قد أراهم شعيب (عليه السلام) البيّنة من ربّه وأمرهم ونهاهم وذكّرهم فلم يتّعظوا، ثمّ طلب منهم أن يصبروا حتّى يحكم اللّه بينهم، فلم يقبلوا، وخيّروا شعيباً والمؤمنين به بين أمرين إمّا الخروج من المدينة أو الرجوع إلى الكفر، وكان ذلك بعد أن عجزوا عن قتله لوجود من يدافع عنه كما قال: {قَالُواْ يَٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَٰكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٖ}(1)،

فأرادوا بتخييره أن تصفو لهم القرية من غير وجود من ينهاهم عن المنكر ويأمرهم بالمعروف، وهذا هو دأب المبطلين حيث لا يتمكّنون من مقارعة الحجّة أو حينما تُدحض حجّتهم، قال تعالى: {وَقَالَ

ص: 177


1- سورة هود، الآية: 91.

ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ ٱلْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَوَعِيدِ}(1)، وقال: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلْأَعَزُّ مِنْهَا ٱلْأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(2)، أو أرادوا الضغط على المؤمنين للرجوع إلى الكفر فإنّ ترك الوطن من أصعب الأمور ولذا كانت الهجرة في سبيل اللّه من أعظم القربات.

وقوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ} شعيب (عليه السلام) كان موحّداً منذ أن خلقه اللّه تعالى، وهكذا جميع الأنبياء (عليهم السلام) ، فالتعبير بالعود - الذي هو الرجوع إلى الشيء بعد أن كان - إمّا من باب التغليب لأنّ المؤمنين معه كانوا قد أسلموا عن كفر كلّهم أو أكثرهم، وإمّا لأنّهم لم يكونوا يعلمون بإيمانه قبل رسالته، وإمّا بسلخ العود عن معناه بأن يكون بمعنى الصيرورة.

وقوله: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَٰرِهِينَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو حاليّة فالمعنى لا تتمكّنون من أيٍّ من الأمرين لأنّا كارهون لهما فلا نريد الخروج ولا الكفر.

الثاني: قوله تعالى: {قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ...} الآية.

تعليل لكراهة شعيب ومن معه للكفر وللخروج.

وقوله: {قَدِ ٱفْتَرَيْنَا...} فإنّ المشركين يزعمون أنّ اللّه أمرهم بالشرك

ص: 178


1- سورة إبراهيم، الآية: 13-14.
2- سورة المنافقون، الآية: 8.

حيث يزعمون أنّه اتخذ الشركاء، والشرك كذب لا يطابق الواقع، ونسبته إلى اللّه افتراء عليه لأنّه لم يأمر به فقوله: {كَذِبًا} ليس تأكيداً لقوله: {قَدِ ٱفْتَرَيْنَا} بلهو مفعول به فالمعنى لو أشركنا الكذبَ الباطل فقد نسبناه إلى اللّه زوراً.

وقوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنْهَا} بالهداية وإيضاح الحق، وهذا القيد لتأكيد الافتراء بالعود إلى الشرك؛ لأنّ المشرك الأصلي قد يكون جاهلاً قاصراً فيكون شركه باطلاً لكن مع زعمه أنّه الحق إلاّ أنّ الذي عرف الإيمان لا يكون شركه إلاّ عن عمد وعلم ببطلانه فكان افتراءً، أو هو بمعنى أنّ اللّه قد نجّانا من الكفر فكيف نقابل إحسانه بالإساءة عبر الافتراء عليه بالباطل؟!

وقوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا...} كأنّ المعنى أنّه يستحيل رجوعنا إلى ملّتكم الباطلة، و{مَا يَكُونُ} وأمثاله قد يكون بمعنى لا يجوز تكليفاً، أو لا ينبغي أخلاقاً، أو لا يمكن تكويناً، أو لا يتحقّق عادة، وكأنّ الأخير هو المقصود هنا.

وقوله: {إِلَّا أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا} كأنّ المقصود هو إلاّ أن يخذلنا اللّه تعالى فيتركنا ويقطع ألطافه عنّا فحينئذٍ نضل ونعود إلى ملّتكم، واللّه لا يخذل المؤمن إلاّ لو ارتكب بعض الذنوب التي تستوجب خذلانه.

وقوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} قيل: إنّما قالوا هذا لبيان أنّهم لا يعلمون الغيب وأنّ اللّه هل سيخذلهم فيكفروا أم يستمر في هدايتهم فيبقون على الإيمان، قال سبحانه: {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ}(1).

ص: 179


1- سورة الأعراف، الآية: 175-176.

ويمكن أن يكون المعنى إنّنا لا نعود إلى ملّتكم إلاّ لو أمرنا اللّه بها، لكن اللّه لا يأمر بها لأنّه بكل شيء عليم فلا يكون نهيه عن ملّتكم إلاّ لعلمه ببطلانها.

وقوله: {عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا} بيان رفضهم للخروج فإنّهم يتوكّلون على اللّه في بقائهم فلا يخافون تهديداً، أو هو من تتمّة قوله: {إِلَّا أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا} أي لو خذلنا اللّه لرجعنا إلى الشرك لذا نتوكّل عليه تعالى لئلا يخذلنا ولنبقَ على الإيمان دائماً.

الثالث: قوله: {رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَٰتِحِينَ}.

كأنّه قال هذا لمّا يأس عن إيمانهم فدعا اللّه بإنزال العذاب عليهم.

وقوله: {ٱفْتَحْ} في المقاييس: «فتح أصل صحيح يدل على خلاف الإغلاق، يقال: فتحت الباب وغيره فتحاً، ثمّ يحمل على هذا سائر ما في هذا البناء، فالفتح والفتاحة: الحكم، واللّه تعالى الفاتح أي الحاكم»(1)؛ وذلك لأنّ في الحكم الفصل فتح باب الحق وكشف الحقيقة، فكأنّه قال ربّنا اكشف الحق.

وقوله: {بِٱلْحَقِّ} قيد توضيحي للتأكيد لأنّه تعالى لا يحكم إلاّ بالحق.

وقوله: {خَيْرُ ٱلْفَٰتِحِينَ} لعلمه وعدله وقدرته، وأمّا سائر الفاتحين فقد يخطئ أحدهم حتى لو أراد عدلاً، وقد يحكم بالعدل لكنه لا يتمكّن من تنفيذه لضعفه أو لقوّة المبطل أو لوجود مانع.

ص: 180


1- مقاييس اللغة 4: 469.

الرابع: قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَٰسِرُونَ}.

الظاهر أنّ خطابهم كان للمؤمنين من قومهم، فالمعنى إنّا نعلم أنّ شعيباً لا يتنازل عن كلامه فلا هو يخرج من البلد ولا هو يرجع إلى الكفر، لكنكم أيّها المؤمنون به عليكم ترك اتّباعه وإلاّ كان مصيركم إلى الخسران، ولعلّهم أرادوا إنزال عقوبة وضرر عليهم، ويحتمل أن يكون المخاطب من لم يؤمن به لكنّهم كانوا يحتملون إيمانه فهددوهم بالخسارة ليمنعوهم عن الإيمان، أو هو إخبار بأنّ ترك التطفيف وترك دين قومهم ضرر عليهم.

الخامس: قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَٰثِمِينَ}.

حيث أظلتهم سحب أرعدت بالصيحة وأبرقت بالنار فإما ارتجفت قلوبهم وانخلعت من الصيحة فماتوا ثمّ احرقتهم النار، أو تلك الصيحة لقوتها زلزلت الأرض، قال سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(1)، وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٖ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ}(2)، وحيث إنّ اللّه تعالى بيّن في كل سورة جانباً من جوانب القصّة ذكر العذاب الذي يناسب ذلك الجانب، فهنا في سورة الأعراف نقل تهديدهم لشعيب بالخروج من القرية فناسب ذكر عذاب الرجفة، وفي سورة هود ذكر أنّهم لا يفقهون كثيراً مما يقوله شعيب لهم فناسب ذكر عذاب الصيحة، وفي سورة الشعراء حيث

ص: 181


1- سورة الشعراء، الآية: 189.
2- سورة هود، الآية: 94.

طلبوا أن يسقط عليهم كسفاً من السماء ناسب ذكر عذاب الظلّة حيث أظلتهم سحابة العذاب، واللّه العالم.

السادس: قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ ٱلْخَٰسِرِينَ}.

بيان عذاب الاستئصال حيث لم تبق لهم باقية؛ فإنّ الأقوام يبقون ببقاء ذرّيّتهم، أمّا لو ماتوا جميعاً ولم تبق لهم ذرّيّة انقطعت آثارهم فكأنّهم لم يسكنوا تلك الديار. وكأنّ هذا جواب على تهديدهم بإخراج شعيب والمؤمنين، لكن هم الذين غادروا المكان ولم يبقوا فيه.

وقوله: {لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} يقال: غني بالمكان إذا طال مقامه فيه مستغنياً به عن غيره(1).

وفي تكرار قوله: {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} تأكيد وتغليظ الأمر عليهم، وبيان أنّ تكذيبهم هو الذي أضرّهم.

وقوله: {كَانُواْ هُمُ ٱلْخَٰسِرِينَ} عكس ما كانوا يزعمونه من خسارة المؤمنين، فهم قد خسروا الدنيا والآخرة، وأمّا المؤمنون فربحوهما.

السابع: قوله تعالى: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي...} الآية.

مرّ بيان نظير صدر الآية في قصّة قوم صالح الآية 79، فراجع.

وقوله: {فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٖ كَٰفِرِينَ} يدل على عدم مطلوبيّة الحزن

ص: 182


1- المفردات للراغب: 616.

على المعاند الذي أخذه اللّه بالعذاب كما قال: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}(1)، بلالعكس هو المطلوب كما قال: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٖ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}(2). نعم، قد تكون الحسرة على عدم إيمانهم كما قال: {يَٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(3)،

والحاصل إنّه لا حزن على الكافر المعاند الذي عاقبه اللّه تعالى، وإنّما الحزن على عدم إيمانه وهو في الحقيقة حزن على غربة الإيمان وقلّة أنصاره، فتأمّل.

وحاصل المعنى: إنّي لا أحزن عليهم لأنّهم كانوا معاندين حيث بلّغتهم الرسالات ونصحت لهم فلم يؤمنوا، ومن هذا يتبيّن وجه التفريع في قوله: {فَكَيْفَ ءَاسَىٰ...}، واللّه العالم.

ص: 183


1- سورة الحجر، الآية: 88؛ سورة النمل، الآية: 70.
2- سورة التوبة، الآية: 14-15.
3- سورة يس، الآية: 30.

الآيات 94-99

اشارة

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَاءِ وَٱلضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ 94 ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا ٱلضَّرَّاءُ وَٱلسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ 95 وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 96 أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَٰتًا وَهُمْ نَائِمُونَ 97 أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ 98 أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْخَٰسِرُونَ 99}

94- ثمّ يلخّص اللّه القصص السابقة ببيان سنّته تعالى مع المكذّبين، موعظةً للناس فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ} «من» للتعميم {إِلَّا} هيّئنا لهم ما يتذكّرون به ليؤمنوا ف{أَخَذْنَا أَهْلَهَا} الكافرين {بِٱلْبَأْسَاءِ} وهي ما توجب الشدّة النفسيّة كالفق--ر {وَٱلضَّرَّاءِ} وهي ما توجب الضر في البدن والمال ونحوهما كالمرض {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} يخضعوا للّه ويتذلّلوا له ولا يستكبروا.

95- {ثُمَّ} لمّا لم ينفعهم ذلك {بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ} وهي ما تسوؤهم من البأساء والضرّاء {ٱلْحَسَنَةَ} وهي ما يستحسنونه من السرّاء والرخاء والصحّة ونحوها، ونمهلهم لكي يؤمنوا {حَتَّىٰ عَفَواْ} أي تركوا التضرّع {وَّ} زعموا أنّ تبدّل الحالات ليس للابتلاء والإيقاظ ف{قَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا

ص: 184

ٱلضَّرَّاءُ} ما يضرّهم {وَٱلسَّرَّاءُ} ما يسرّهم فهذه سنة الحياة دائماً، فحينذاك يفقدونقابليّة الهداية فلم يبق إلاّ استئصالهم {فَأَخَذْنَٰهُم} بالعذاب {بَغْتَةً} فجأةً بدون إمهال لأنّ زمن الإمهال قد ولّى {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بالعذاب قبل حلوله.

96- {وَ} لو كانوا يؤمنون من حين بعث الرسل لم نكن لنأخذهم بالبأساء والضرّاء ف{لَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ} بدلاً عن كفرهم {وَٱتَّقَوْاْ} المعاصي بدلاً عن ارتكابها {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ} هي الخيرات الثابتة الناميّة {مِّنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ} أي من كل جهة فكأنّها في مخازن مغلقة تفتح بالإيمان والتقوى، {وَلَٰكِن كَذَّبُواْ} الرسل فلم يؤمنوا ولم يتّقوا {فَأَخَذْنَٰهُم} بالعذاب {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بسبب ما اقترفوه ولم يكن ذلك ظلماً لهم بل عقوبةً لسوء أعمالهم.

97- ثمّ يوبّخهم اللّه تعالى - عِبرة لمن يرى مصيرهم - فقال: {أَفَأَمِنَ} الهمزة استفهام توبيخي والفاء عطف على «فأخذناهم بغتة» أي كيف أمِن {أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ} التي أهلكت {أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا} عذابنا {بَيَٰتًا} في وقت البيات في الليل {وَهُمْ نَائِمُونَ} مرتاحون باطمئنان؟!

98- {أَوَ أَمِنَ} الهمزة للتقريع والواو عاطفة أي وكيف أمن {أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى} وقت النهار حين ارتفاع الشمس {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} غافلون مطمئنّون؟!

99- ثمّ قال تأكيداً وتلخيصاً: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ} أي كيف غفلوا عن

ص: 185

تدبير اللّه تعالى بما يخفى عليهم حيث أمهلهم واستدرجهم؟! وحيثاتّضحت عاقبتهم {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْخَٰسِرُونَ} خسروا أنفسهم واشتروا لها العذاب بدلاً عن الثواب.

سنن اللّه تعالى العامة في المكذبين

بحوث

الأوّل: لمّا قص اللّه تعالى قصص القرى التي أهلكها حينما عصوا رسله (عليهم السلام) لخّص الأمر وبيّن السنة العامة في الآيات 94-102 ليكون ذلك موعظة وعبرة للناس، فالسنة العامة هي أنه حينما يرسل اللّه تعالى رسولاً إلى قرية إن آمنوا له فتح اللّه عليهم الخيرات من كل جهة، وإن كذّبوا به أخذهم اللّه في البداية بالشدّة في أنفسهم وما يرتبط بهم عسى أن يخضعوا ويتوبوا، فإن لم ينفعهم ذلك ابتلاهم بالنعمة عسى أن يشكروا، لكنّهم إن تركوا التوبة ولم يتّعظوا بالشدّة والرخاء حينذاك يطبع اللّه على قلوبهم، ثمّ يأخذهم بالعذاب من حيث لم يكونوا يتوقّعونه وفي كل ذلك موعظة لسائر الناس بأنّ اللّه قد يطبع على قلوبهم ويأخذهم بالعذاب كما أخذ القرى الهالكة.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَاءِ...} الآية.

السنّة الإلهية هي إن آمنوا فتح عليهم البركات وإن كفروا أخذهم بالسيّئة، ولكن في الواقع العملي أهل القرى كانوا من القِسم الثاني ولذا أخبر عمّا حل بتلك القرى.

وقوله: {بِٱلْبَأْسَاءِ} من البؤس وهو الشدّة في نفس الإنسان، وقد يكون

ص: 186

سببها خارجياً كالفقر، فإنّه يوجب شدّة نفسيّة بالغم والهم والقلق ونحوها.

وقوله: {وَٱلضَّرَّاءِ} من الضرر وهو النقص في المال أو البدن وغيرهما وذلك بالمرض والجدب وأمثالهما.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} التضرّع هو إظهار الذل والمسكنة والخضوع، ولعلّ تقديم البأساء والضرّاء على الرخاء لأجل أنّ الإنسان في وقت الحاجة تتيقّظ فطرته ويرجع إلى جذوره عكس حالة الغنى، قال تعالى: {إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّءَاهُ ٱسْتَغْنَىٰ}(1)، وقال: {وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٖ}(2).

الثالث: قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ...} الآية.

أي وحيث لم تنفعهم البأساء والضرّاء فلم يتضرّعوا كما قال: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(3)، لذا بدّلنا الضرّاء والبأساء إلى السرّاء والرخاء لعلّهم يشكرون، قال سبحانه: {وَبَلَوْنَٰهُم بِٱلْحَسَنَٰتِ وَٱلسَّئَِّاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(4)، وقال: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ}(5).

وقوله: {ٱلسَّيِّئَةِ} أي ما كان يسوؤهم، فالبأساء والضرّاء تسوء صاحبها.

وقوله: {ٱلْحَسَنَةَ} أي ما كان إحساناً إليهم، فالرخاء والسرّاء تفرح

ص: 187


1- سورة العلق، الآية: 6-7.
2- سورة فصّلت، الآية: 51.
3- سورة الأنعام، الآية: 43.
4- سورة الأعراف، الآية: 168.
5- سورة الأنعام، الآية: 44.

صاحبها.

وقوله: {حَتَّىٰ عَفَواْ} الظاهر أنّ العفو هنا بمعناه وهو الترك، أي حتى تركوا الشكر، وفي التقريب: «العفو هو الإغضاء عن الذنب، أي فعلوا الذنوب غاضين عنها تاركين أنفسهم وشهواتها»(1)، وقيل: العفو هنا بمعنى الكثرة، أي كثروا في أولادهم وأموالهم.

وقوله: {قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا...} أي بدلاً عن أن ينتبهوا، زعموا أنّ تداول الضرّاء والسرّاء هي عادة الدهر فتارة يُحسن وتارة يُسيء، فهكذا كان آباؤنا وهكذا نحن!

وقوله: {ٱلضَّرَّاءُ وَٱلسَّرَّاءُ} فيه إيجاز بليغ أي الضرّاء والبأساء، والرخاء والسرّاء، فالضراء يلازمها البؤس، والرخاء يلازمه السرور، فذكر من أحدهما اللازم ومن الآخر الملزوم.

وقوله: {فَأَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً} أي بعد أن لم تنفعهم الشدّة ولا الرخاء، يأتيهم العذاب فجأة من دون إنذار سابق، وهذا بالنسبة إلى من طبع اللّه على قلوبهم كما سيأتي في الآية 102، وأمّا من لم يطبع اللّه على قلوبهم فيحتمل توبتهم فلذلك قد يأتيهم العذاب تدريجاً ليتوبوا كما حصل لقوم يونس (عليه السلام) .

سبب إمهال ثمود ثلاثة أيام

ثمّ إنّه قد استثنى اللّه تعالى من عذاب الفجأة ثمود قوم صالح حيث قال: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٖ}(2)، ولعلّ هذا الاستثناء لبيان أنّ المطبوع على قلوبهم بسوء أعمالهم لا ترجى توبتهم

ص: 188


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 217.
2- سورة هود، الآية: 65.

حتى لو أمهلهم اللّه تعالى، بل حتى لو أرجعهم اللّه إلى الدنيا كما قال: {وَلَوْرُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(1)، فلعلّه أراد تعالى أن يكون هناك مثل لهم في عذاب الدنيا تأكيداً لسنّته في الأخذ بغتة، فإنّ الاستثناء قد يكون لغرض تأكيد المستثنى منه.

وقوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} إمّا لا يشعرون بالعذاب إلاّ حين حلوله فيكون تأكيداً لقوله: {بَغْتَةً}، وإمّا لا يشعرون أنّ الشدّة للضراعة والرخاء للشكر، أي جاهلون بالأسباب والمسببات الغيبيّة لذلك لم يهتموا بها.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا...} الآية.

بيان أنّ سنّته تعالى هي أنّ الإيمان بالرسل سبب البركة من كل الجهات، في الدنيا والآخرة، كما قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}(2).

وقوله: {وَلَوْ} بيان أنّهم لم يلتزموا بهذا الأمر - لأنّ (لو) لما لم يكن - فليس هناك ظلم من اللّه لهم ولا تشديد، فاللّه تعالى قدّر الرخاء لهم شرط الإيمان والتقوى وقدّر الشدّة والعذاب لو كفروا وعصوا، لكنّهم بسوء اختيارهم اختاروا الثاني.

وقوله: {أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ} أي القرى التي أهلكناها فالألف واللام في {ٱلْقُرَىٰ} للعهد، ويمكن أن تكون للجنس حيث إنّ الحكم عام لجميع

ص: 189


1- سورة الأنعام، الآية: 28.
2- سورة المائدة، الآية: 65-66.

القرى.

وقوله: {لَفَتَحْنَا} كناية عن التيسير والتوسعة عليهم غيبيّاً وطبيعيّاً، فإنّ جميع الأسباب بيد اللّه تعالى فيقدر ما يشاء بحكمته سواء بطريقة غيبيّة لا نعرف كيفيّتها، أم بطريقة طبيعيّة علّمنا اللّه السببيّة فيها؛ وذلك لأنّ خزائن كل شيء ومفاتيحه بيده، قال سبحانه: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ}(1)، وقال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ}(2)، وقال: {لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}(3).

وقوله: {بَرَكَٰتٖ} البركة هي الخير الثابت والنامي، وبركات السماء الماديّة الغيث وطيب الهواء والرياح اللواقح ونحو ذلك، وبركاتها المعنويّة رفع العمل الصالح وصعود الكلم الطيّب وأمثاله، وبركات الأرض أيضاً ماديّة ومعنويّة كالنباتات والأنهار والخصب والأمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وعبادة اللّه فيها ونحو ذلك.

قال السيد الوالد رضوان اللّه عليه في التقريب: «وهذا إلى جنب كونه معنويّاً بلطفه سبحانه، كذلك يكون بالأسباب الظاهرة، فإن الإيمان والتقوى يوجبان سيادة مناهج اللّه تعالى وهي توجب الأخوّة والتعاون ممّا يسبّبان ازدهار الحياة وتعميم الرفاه والأمن، كما أنّ الكفر والعصيان سببان لعكس ذلك»(4).

ص: 190


1- سورة المنافقون، الآية: 7.
2- سورة الأنعام، الآية: 59.
3- سورة الشورى، الآية: 12.
4- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 218-219.

سؤال: فكيف نرى الكفّار في رخاء والمسلمين في شدّة؟

والجواب: أمّا الكفّار فقد أخذوا ببعض الأسباب الظاهريّة فأثّرت أثرها موقّتاً وقد قال اللّه تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ} وقد يأخذهم اللّه ولو بعد حين بسائر ذنوبهم، وأمّا المسلمون فقد تركوا كثيراً من الأسباب التي أمر اللّه بها فلا يتوقعُنّ النتائج بالإعجاز وقد قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1)، وقال: {وَمَا أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ}(2).

الخامس: قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا} إلى قوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ}.

توبيخ لهم بأنّهم أمنوا من العذاب مع أنّهم أوجدوا أسبابه بسوء اختيارهم، كمن يأتي بالذئب إلى خيمته ثمّ ينام عنده، فإذا افترسه كان مذموماً بأمنه مضافاً إلى هلاكه.

فمعنى الآيتين هو الإنكار عليهم بأنّهم أمنوا العذاب مع أنّ العذاب يأتيهم بغتةً في أوقات اطمئنانهم وغفلتهم، وفي هذا تنبيه للناس على أن لا تغرّنّهم الحالة التي هم عليها من الأمن والأمان لأنّها قد تزول بلحظة واحدة، بل عليهم أن يحذروا أسباب العذاب ويصلحوا شأنهم، ونظير هذا أنك قد ترى دولة تنعم بالأمن وأهلها غافلون فلا يعلمون بما يخطّطه أعدائها وإذا بهم يرون الفوضى والفتن وعدم الأمن بين عشية وضحاها، وما ذلك إلاّ للغفلة

ص: 191


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة الشورى، الآية: 30.

عن الأسباب.

وقوله: {بَيَٰتًا} ظرف أي وقت البيات حين طمأنينتهم ولذلك كانوا نائمين، عكس الخائف غير الآمن فإنّ النوم يفارق جفونه.

وقوله: {ضُحًى} ظرف أي وقت ارتفاع الشمس في النهار.

وقوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} واللعب هو الفعل الذي لا غرض فيه، وإنّما يلعب الإنسان لو اطمئن، فالمضطرب الخائف لا يشغل نفسه باللعب، وفي ذلك أشد الذم لأهل هذه القرى فإنّهم بين نوم ولعب، وقيل: يلعبون بمعنى يعملون أعمالهم التجاريّة ونحوها ومن اشتغل بدنياه وأعرض عن آخرته فهو كاللاعب! وما ذكرناه أنسب بالسياق.

السادس: قوله تعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْخَٰسِرُونَ}.

تأكيد لما في الآيتين السابقتين، وبيان أنّهم إنّما أمنوا عذاب اللّه فارتكبوا موجباته وبذلك خسروا الدنيا والآخرة.

وقوله: {مَكْرَ ٱللَّهِ} (المكر) هو العلاج الخفي لما يسوء الممكور، وقد يكون حقّاً إذا استحقّه الممكور به، وقد يكون باطلاً إذا لم يستحقّه، ومكر اللّه لا يكون إلاّ بعدله لمّا استحقوا العذاب بسوء أعمالهم فكان من الحكمة معاقبتهم، ومكر اللّه هو استدراجهم بالنعم وتقديره العذاب بغتة وسُمّي العذاب مكراً لنزوله بهم من حيث لا يعلمون.

وقوله: {ٱلْقَوْمُ ٱلْخَٰسِرُونَ} الذين خسروا أنفسهم فخسروا الدنيا والآخرة، حيث لم يتّعظوا وتركوا الاعتبار، وأمّا المؤمنون فهم بين الخوف والرجاء لا

ص: 192

يزيد خوفهم على رجائهم ولا رجاؤهم على خوفهم، فلرجائهم يعملونولخوفهم يتورّعون، وفي هذا تنبيه على الطاعة لئلا يكون المصير الخسران.

سؤال: الأنبياء (عليهم السلام) يعلمون بمنزلتهم عند اللّه ونجاتهم في الآخرة فهل قد أمنوا مكره وفازوا؟

والجواب: إمّا إنّه تعالى لا يمكر بهم فلطاعتهم الدائمة فلا يوجد مكر بالنسبة إليهم أصلاً كي لا يأمنوه أو يأمنوه من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

أو إنّ المكر أعم من أن يكون بالإنسان أو بغيره، والأنبياء لا يأمنون نزول العذاب على الناس العصاة.

أو باعتبار احتمال صدور ترك الأولى من بعض الأنبياء (عليهم السلام) فيكون المكر حينئذٍ بمعنى عدم بلوغ بعض المراتب العالية، هذا بناءً على ما هو المشهور من صدور ترك الأولى منهم (عليهم السلام) ، وفي ذلك إشكال، بل عصمتهم تمنع عن صدور ترك الأولى منهم أيضاً.

ثمّ إنّ في تكرار قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ} و{أَفَأَمِنُواْ} ثلاث مرّات تأكيداً شديداً على لزوم الحذر وعدم الأمن، فإنّ العلاج الخفي إذا كان من اللّه تعالى فلا بد أن يصيبهم ولا يخطأهم وفي ذلك الخسارة الكاملة.

ص: 193

الآيات 100-102

{أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ 100 تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ 101 وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٖ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَٰسِقِينَ 102}

100- وحيث تبيّن مصير تلك الأمم التي أهلكها اللّه بظلمهم فلماذا لا يعتبر بهم أخلافهم؟ {أَوَ لَمْ يَهْدِ} الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة، أي لماذا لم يتبيّن {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْأَرْضَ} يملكونها ويحلّون فيها {مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} الهالكين، وقوله: {أَن لَّوْ نَشَاءُ} فاعل «يهد» أي لم يتبيّن لهم بأنّا قادرون على إهلاكهم ف{أَصَبْنَٰهُم} أخذناهم {بِذُنُوبِهِمْ} كما أصبنا أسلافهم {وَ} إنّما لا يتبيّن لهم لأنّا {نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} بسبب ذنوبهم {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} مواعظ أنبيائهم سماع تعقّل.

101- ثمّ يلخّص اللّه تعالى حال القرى الهالكة بقوله: {تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ} التي ذكرناها {نَقُصُّ عَلَيْكَ} نخبرك {مِنْ أَنبَائِهَا} بعض أخبارها ليعتبر الناس بهم {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ} الدلائل الواضحة كالمعجزات والبراهين {فَمَا كَانُواْ} بعد مجيء الرسل {لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} أي

ص: 194

قبل مجيئهم؛ وذلك لأنّهم معاندون والمعاند لا تفرق حالته بين قبل الآياتوبعدها فهو مكذّب على كل حال، وكما طبع اللّه على قلوب أولئك الهالكين {كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ} فهي سنّة عامّة بالطبع على قلوب المعاندين.

102- {وَ} هؤلاء عاندوا مع أنّه قد أخذ منهم العهد ف{مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٖ} المودع في فطرتهم والمأخوذ عليهم في الميثاق {وَإِن وَجَدْنَا} «إن» للتأكيد مخفّفة من المثقّلة {أَكْثَرَهُمْ لَفَٰسِقِينَ} خارجين عن الطاعة، وأمّا الأقل فهم الذين آمنوا بالرسل فوفوا بالعهد وأطاعوا فأنجاهم اللّه تعالى من الهلاك.

بحثان

الأوّل: قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا...} الآية.

حث على الاعتبار بمصير القرى الهالكة وتجنّب أسباب الهلاك، فكما أهلك اللّه أولئك فكذلك هو قادر على إهلاك أخلافهم، ولكن مشكلتهم عنادهم الذي حجب عنهم الاعتبار فلذلك طبع اللّه سبحانه على قلوبهم فلا يعتبرون بما يتلى عليهم من آيات اللّه تعالى ويكذّبون بها.

وقوله: {أَوَ لَمْ يَهْدِ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، و{يَهْدِ} من الهداية وضُمّن معنى التبيّن ولذلك عدّاه باللام فقال: {لِلَّذِينَ}، والفاعل قوله: {أَن لَّوْ نَشَاءُ...} فالمعنى: وكيف لا يتبيّن لهم قدرةُ اللّه بحيث إذا شاء إهلاكهم لأهلكهم؟

ص: 195

وقوله: {وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} استئناف لبيان سبب عدم اهتداءهم وهو أنّ اللّه طبع على قلوبهم فلذا لا يعتبرون.

وقوله: {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} أي حيث طبعنا على قلوبهم لذلك لا يسمعون الآيات التي تتلى عليهم سماع تعقّل بل يمرّون عليها معرضين، فهي تقرع أسماعهم ويعرفون معناها لكن لا يتعقّلونها، قال سبحانه: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ}(1).

وقيل: {وَنَطْبَعُ} عطف على {أَصَبْنَٰهُم} أي كيف لا يتبيّن لهم أنّا لو نشاء عاقبناهم بالهلاك والطبع، والأوّل أظهر.

الثاني: قوله تعالى: {تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا} إلى قوله تعالى: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَٰسِقِينَ}.

هذا كالتلخيص والاستنتاج من نقل قصص تلك القرى مع أنبيائهم ليكون عبرة لمن يستمع إلى هذه الآيات، ولكن الأكثر لا ينتفع بها كما لم تنتفع القرى الهالكة بالبيّنات التي أراهم إيّاها أنبياؤهم.

وقوله: {تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ} الإشارة إلى الآيات السابقة أي قرى نوح وهود وصالح ولوط وشعيب (عليهم السلام) ثمّ يذكر اللّه تعالى خمس أمور ترتبط بتلك القرى في آيتين:

ص: 196


1- سورة الأنعام، الآية: 25.

1- قوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ} والمعنى أنّ اللّه تعالى أتم الحجّة عليهم فلم يكن إهلاكهم بعد ذلك ظلماً لهم، بل حتى لو كان اللّه سبحانه يهلكهم قبل إرسال الرسل لم يكن ظلماً لأنّهم خالفوا حجة اللّه تعالى الباطنة وهي العقل والفطرة، لكن حينذاك كان يمكنهم الاحتجاج فلذلك أرسل اللّه الرسل لطفاً بمن هو قابل للّهداية حيث لم ينفعه عقله قبل الرسل ولكن نفعه بعدهم، وإتماماً للحجّة ودحضاً لكل احتجاج لمن عاند وتكبّر قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَٰهُم بِعَذَابٖ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ}(1)، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(2).

2- وقوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} أي قبل مجيء الرسل بالبيّنات، فهم إمّا كذّبوا الرسل في البداية ثمّ عاندوا في تكذيبهم بعد مجيء المعجزات، وإمّا كذّبوا قبل الرسل ما تقتضيه فطرتهم وعقولهم وكذلك يستمرّون في التكذيب بعد مجيء الرسل لما جبلوا عليه أنفسهم من العناد والتكذيب، والثاني أظهر.

3- وقوله: {كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ} أي سبب عدم إيمانهم بما كذّبوه من قبل هو أنّ اللّه طبع على قلوبهم، وذلك بأن قطع لطفه عنهم وتركهم وشأنهم حتى إذا استمكن الضلال في قلوبهم بحيث لا يرجى هدايتهم طبع على قلوبهم، و{ٱلْكَٰفِرِينَ} هنا يراد بهم المعاندون منهم، فالمعنى فطبع اللّه على قلوبهم لأنّ سنّة اللّه تعالى هي الطبع على قلوب

ص: 197


1- سورة طه، الآية: 134.
2- سورة الإسراء، الآية: 15.

الكافرين.

4- وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٖ} أي هؤلاء لم يفوا بالعهد الذي عاهدوا اللّه عليه، وهذا العهد:

إمّا أمر اللّه تعالى وهو عهده إليهم سواء قبلوه أم لم يقبلوه كما مر.

وإمّا العهد الذي أخذ من آبائهم بواسطة الأنبياء، والأبناء ملزمون بالوفاء بعهد الآباء.

وإمّا الاتفاق بين الطرفين، وهو ما أودعه اللّه تعالى في فطرتهم وأخذ عليهم المواثيق عليه في عالم الذر، وليس هذا تأويلاً للآية بل هو بيان مصداقها؛ لأنّ الآية بيّنت العهد ولم تبيّن متى أخذ ذلك العهد ولا كيفيّته فيكون بيان زمانه وكيفيّته من التفسير لا التأويل.

روي العيّاشي عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) : «إنّ اللّه خلق الخلق وهم أظلّة فأرسل إليهم رسوله محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فمنهم من آمن به ومنهم من كذّبه، ثمّ بعثه في الخلق الآخر فآمن به من آمن في الأظلة وجحده من جحده يومئذٍ، فقال: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ}»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في هذه الآية: «بعث اللّه الرسل إلى الخلق وهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فمن صدّق حينئذٍ صدّق بعد ذلك، ومن كذّب حينئذٍ كذّب بعد ذلك»(2).

ص: 198


1- راجع تفسير العيّاشي 2: 126، والآية في سورة يونس، الآية: 74.
2- تفسير العيّاشي 2: 126.

وقد ذكرنا تفصيل معنى هذه الأحاديث في شرح أصول الكافي(1)، فراجع.

وإنّما قال: {لِأَكْثَرِهِم} لأنّ الأقل منهم آمن فأنجاه اللّه مع الرسل.

والحاصل: إنّ أخذ العبرة بقصص القرى الهالكة هو في أن لا يكرر أخلافهم فعل أسلافهم حيث جاءتهم الرسل بالبيّنات فكذّبوا وخالفوا العهد وفسقوا فطبع اللّه على قلوبهم فأصابهم بذنوبهم بعذاب الدنيا ثمّ عذاب الآخرة.

5- وقوله: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَٰسِقِينَ} أي تحقق ما علمناه فيهم من كونهم خارجين عن الطاعة، وهذا تعميم بعد تخصيص، فإنّ عدم الوفاء بالعهد فسق وخروج عن الطاعة، وكذلك ترك سائر الطاعات فسق.

ص: 199


1- شرح أصول الكافي، للمؤلّف 8: 9-74.

الآيات 103-112

اشارة

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ 103 وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ 104 حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ 105 قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بَِٔايَةٖ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ 106 فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ 107 وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّٰظِرِينَ 108 قَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ 109 يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ 110 قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَائِنِ حَٰشِرِينَ 111 يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَٰحِرٍ عَلِيمٖ 112}

ثمّ يذكر اللّه تعالى قصّة موسى (عليه السلام) مع فرعون ومع بني إسرائيل في ما يرتبط بالبيّنات التي جاءتهم وتكذيبهم لها وعذابهم في الدنيا بالهلاك وغيره، فقال:

103- {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} بعد الأنبياء التي ذكرت اسماؤهم وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب (عليهم السلام) ، أو بعد الأمم الهالكة {مُّوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا} دلائلنا الواضحة {إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ} أشراف قومه، وموسى بعث للجميع لكن خصّ هؤلاء المكذّبين بالذكر لأنّهم المقصودون بالكلام هنا {فَظَلَمُواْ بِهَا} بالآيات أي كذّبوها وكفروا بها وذلك ظلم {فَٱنظُرْ} نظرة اعتبار {كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ} حيث كان تكذيبهم لها وعدم إطاعة

ص: 200

موسى (عليه السلام) إفساداً.

104- {وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} لأنّ فرعون كان يزعم أنّه رب أهل مصر الأعلى فقال له موسى: إنّ رب الجميع وهو اللّه قد أرسلني إليك.

105- وقال موسى: أنا {حَقِيقٌ} جدير {عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ} وذلك لأنّي {قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٖ} دلالة واضحة {مِّن رَّبِّكُمْ} ومن أعطاه اللّه المعجزة لا يمكن أن يكذب {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} أطلق سراحهم بعد استعبادك لهم بأن تسمح لهم بالهجرة أو بمعنى تحرّرهم لأهديهم.

106- {قَالَ} فرعون: {إِن كُنتَ جِئْتَ بَِٔايَةٖ} حجة تدل على صدقك {فَأْتِ بِهَا} أي أظهرها لنا {إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ} في ادّعائك.

107- {فَأَلْقَىٰ} موسى {عَصَاهُ} أي طرحها أرضاً {فَإِذَا} فجأة {هِيَ ثُعْبَانٌ} أعظم الحيات {مُّبِينٌ} واضح لا لبس فيه أي لا يشك في أنّه ثعبان.

108- {وَنَزَعَ} أي أخرج من جيبه {يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} مُشرقة {لِلنَّٰظِرِينَ} أي بياضها سبب الرؤية كنور الشمس وليس بياضاً من سوء كالبرص.

109- {قَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف {مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ} لمن دونهم ولسائر الناس: {إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ} وكان هذا الكلام ألقاه فرعون لهم لينشروه بين الناس.

110- {يُرِيدُ} موسى بإرسال بني إسرائيل أن يتقوى بهم فيثور ضدّكم

ص: 201

فهو يريد {أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ} مصر حيث إنّ الغالبين كانوا يطردونالمغلوبين بعد احتلال بلادهم {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي ماذا تشيرون، وهذا أيضاً كلام ألقاه فرعون إليهم فألقاه بعضهم إلى بعض.

111- {قَالُواْ} قال الملأ: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أي أخّر أمرهما ولا تبتّ فيه {وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَائِنِ} مدن مصر {حَٰشِرِينَ} أي جامعين أي ليجمعوا لك السحرة.

112- {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَٰحِرٍ عَلِيمٖ} حاذق حتى يظهروا سحرهم فيقال سحر كسحر موسى! وبذلك أرادوا إبطال معجزته.

قصة موسى (عليه السلام) وفرعون

بحوث

الأوّل: لمّا كان الغرض من هذه السورة هو الدعوة إلى التوحيد أوّلاً، وإلى الطاعة ثانياً، وبيان عاقبة المكذّبين العصاة بالهلاك في الدنيا بعذاب اللّه ثالثاً، لذلك ذكر اللّه من قصّة موسى ما يرتبط بهذا الجانب، وكان من براعة الاستهلال اختصار الأمر في الآية الأولى (الآية 103) بأن موسى جاء بالبيّنات فكذّبوه فساءت عاقبتهم فانظر إليها نظرة اعتبار.

1- ثمّ فصّل اللّه في القصّة بأنّه كيف حاول فرعون إبطال آية موسى (عليه السلام) عبر جمع السحرة، لكنّه لم يتّعظ هو وملؤه فزادوا من ضغطهم على موسى وقومه، فأخذهم اللّه بالقحط فلم يتّعظوا، ثمّ أخذهم بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم لكنّهم استكبروا، وحيث انتهت مدّتهم عذّبهم اللّه تعالى بأن أغرقهم نتيجة تكذيبهم لآيات اللّه وغفلتهم عنها.

2- ثمّ بيّن إنّ بني إسرائيل رغبوا في جعل أصنام لهم ليعبدوها فنهرهم

ص: 202

موسى (عليه السلام) ، ولكنّه لمّا غاب عنهم اتخذوا عجلاً فعبدوه، فمن تاب منهم غفر اللّه له، ومن تمادى في غيّه ناله غضب وذلّة في الدنيا وكان ذلك جزاء افترائهم.

3- ثمّ ذكر قصّة سبعين رجلاً من بني إسرائيل عذّبهم اللّه تعالى فأهلكهم بالرجفة لمّا سفهوا، حيث زعموا أنّ اللّه تعالى جسم فأرادوا رؤيته.

4- ثمّ قصّة بني إسرائيل وكيف عذّبهم لمّا سخروا من حكم اللّه في دخول القرية.

5- ثمّ قصّة أصحاب السبت الذين خالفوا أمر اللّه فعذّبهم بأن مسخهم قردة.

6- ثمّ قصّة عتو بني إسرائيل حيث عاقبهم اللّه في الدنيا بالذل والتشتت في الأرض.

وكما يلاحظ فإنّ الغرض من بيان هذه القصص هو ذكر عذاب اللّه الدنيوي على المكذّبين والعصاة الذين خالفوا أمر نبي اللّه موسى (عليه السلام) سواء من آل فرعون أم من بني إسرائيل.

الثاني: قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ...} الآية.

موسى (عليه السلام) من أنبياء أولي العزم الذين أرسلوا إلى البشريّة كافّة كما مر، فدعوته كانت أوّلاً لبني إسرائيل وآل فرعون جميعاً ثمّ لسائر الناس، فقوله تعالى: {إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ} إمّا لبيان أنّ شروع الدعوة كان بهؤلاء وكيفيّة مواجهة موسى (عليه السلام) لهم، أو لأنّ جميع من كان مع فرعون كان من الملأ وأمّا سائر الناس فكانوا طوائف مستضعفة، أو لأنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى

ص: 203

طائفتين جماعته الأقباط وهم كانوا مواطنين من الدرجة الأولى، وسائر الناس الذين جعلهم طوائف شتّى كانوا مواطنين من الدرجة الثانيّة وكان منهم بنو إسرائيل كما قال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}(1).

وقوله: {فَظَلَمُواْ بِهَا} تعديّة الظلم بالباء إمّا لتضمين الظلم معنى التكذيب والكفر لأنّهما ظلم كما قال: {إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(2)، وإمّا بمعنى ظلموا أنفسهم بسبب تلك الآيات لأنّ نزولها صار سبباً لتكذيبهم إيّاها وكان ذلك ظلماً منهم كما قال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} إلى قوله: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ}(3) أي زادتهم تكذيباً فازدادوا رجساً، وإمّا الظلم بالآيات نفسها فالتعبير مجازي لأنّ حقها التصديق لكنّهم لم يؤدوا حقّها فظلموها، وظلم كل شيء بحسبه.

وقوله: {فَٱنظُرْ} المخاطب إمّا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمراد كل الناس الذين يمكنهم النظر، أو انظر أيّها السامع، و(النظر) هو نظر فكر وتدبّر ليتّعظوا.

وقوله: {ٱلْمُفْسِدِينَ} لأنّ التكذيب هو بنفسه فساد ويؤدّي إلى الفساد.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

ابتدأ كلامه بأنّه رسول فلا يقول ما يقوله من نفسه، ثمّ وصف اللّه تعالى بأنّه رب العالمين؛ لأنّ فرعون كان يعتقد بآلهة وكان يعبدها كما قال سبحانه: {وَقَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَيَذَرَكَ

ص: 204


1- سورة القصص، الآية: 4.
2- سورة لقمان، الآية: 13.
3- سورة التوبة، الآية: 125.

وَءَالِهَتَكَ}(1) لكنّه كان يزعم أنّه الرب الأعلى والإله على أهل مصر كما قال سبحانه: {فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ}(2) وقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي}(3)، فجبههم موسى (عليه السلام) بأنّه رسول من رب العالمين أجمع فهو وآلهته كلّهم مربوبون له سبحانه وتعالى.

الرابع: قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ...} الآية.

قوله: {حَقِيقٌ} الكلمة مشتقة من الحق وتستعمل بمعنى الجدير واللازم والواجب ونحوها، وتتعدّى ب(على) و(الباء) فالأوّل هو من يصدر منه الفعل والثاني هو الفعل اللائق، كما تقول: حقيق على زيد بأن يصلّي، وهنا دخلت (على) على الفعل، فقيل: هو من القلب فأصله حقيق عليّ أنا بأن لا أقول إلاّ الحق، وقيل: المعنى أنّه اللائق بهذا القول أن لا يصدر إلاّ من أمثالي، وقيل: هو بتضمين حقيق معنى حري.

ولعلّ موسى (عليه السلام) قال هذا الكلام لأنّ فرعون كان يعرفه حيث تربّى في قصره كما قال: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}(4) فكان يعلم بصدقه وأمانته، ومن عُرف بالصدق فالجدير اللائق به أن لا يقول إلاّ الحق، أو لأنّه أردف كلامه بأنّه قد جاء ببيّنة، ومن يدّعي هكذا ادعاء لا يمكن أن يكذب لأنّه يفتضح فور طلبهم الآية منه، أو بمعنى أنّ عظمة اللّه

ص: 205


1- سورة الأعراف، الآية: 127.
2- سورة النازعات، الآية: 23-24.
3- سورة القصص، الآية: 38.
4- سورة الشعراء، الآية: 18.

تعالى تمنع من الكذب عليه فالجدير الحق أن لا يقال على اللّه إلاّ الحق.

وقوله: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} لعلّ الأقرب أن يكون معنى الإرسال هنا هو إطلاق السراح وتحريرهم؛ لأنّ فرعون كان قد استعبدهم وسخّرهم للأعمال الشاقة فقوله: {مَعِيَ} لأجل أن يكون موسى (عليه السلام) واعظاً وموجّهاً لهم، ويمكن أن يكون معنى الإرسال هو تركهم ليخرجوا من مصر إلى الأرض المقدّسة.

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بَِٔايَةٖ} إلى قوله: {بَيْضَاءُ لِلنَّٰظِرِينَ}.

ليس في قوله: {إِن كُنتَ جِئْتَ} وقوله: {فَأْتِ بِهَا} تكرار بأن يكون الجزاء هو الشرط، بل {إِن كُنتَ جِئْتَ} أي إن كانت عندك آية، و{فَأْتِ بِهَا} أي فأظهرها لنا.

وقوله: {ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} الثعبان هو أعظم الحيّات، وهذه العصى كانت تتحول تارة إلى حيّة صغيرة وأخرى إلى كبيرة على حسب مقتضى الحال، ففي طريق موسى إلى مصر حينما أوحى اللّه إليه أن يلقي عصاه حوّلها إلى حيّة صغيرة ثمّ أمر موسى بأن يأخذها وذلك لتعليمه ولئلا يخاف منها وهناك لم يكن داعياً لزيادة كبرها ليخاف موسى كثيراً، قال تعالى: {فَأَلْقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ}(1)، وحينما أراها فرعون أرادها اللّه أن تكون ثعباناً لزيادة تخويفه ولئلا يشك أحد فيها، ولذا وصفه بقوله: {مُّبِينٌ} أي ظاهر للجميع

ص: 206


1- سورة طه، الآية: 20.

بحيث رآه كلّهم ولم يشك أحد في كونه ثعباناً.

وقوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ} أي الآية الثانية كانت اليد البيضاء وكان طريقة إراءتها أن كان موسى (عليه السلام) يدخل يده في جيبه تحت إبطه ثمّ يخرجها، قال تعالى: {وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ءَايَةً أُخْرَىٰ}(1)، وقال سبحانه: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ}(2).

وقوله: {بَيْضَاءُ} أي مشرقة، ولعلّ وصفها بالبيضاء للدلالة على أنّها لم تكن محرقة فالنور الأبيض كنور القمر لا حرارة فيه وأمّا النور الأصفر كنور الشمس فهو حار محرق، ولمّا استعملت البيضاء في البرص أيضاً لذلك قيّدها اللّه تعالى بما يمنع هذا التوهّم فتارة قيدها بقوله: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} وهنا قيّدها بقوله: {لِلنَّٰظِرِينَ} كأنّ المراد به أنّها كانت مشرقة بحيث كانوا يتمكّنون من النظر إلى الأشياء بنورها، واللّه العالم.

السادس: قوله تعالى: {قَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ} إلى قوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.

الظاهر أنّ هذا الكلام ألقاه فرعون إلى الملأ أوّلاً، ثمّ هؤلاء نشروه بين الناس، وأنّ فرعون استشار أصحابه في البداية ثمّ هم استشاروا في ما بينهم وصوّبوا رأي فرعون، فقد نسب اللّه هذا الكلام إلى الملأ تارة كهذه الآيات، وتارة إلى فرعون نفسه، قال سبحانه: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ

ص: 207


1- سورة طه، الآية: 22.
2- سورة النمل، الآية: 12.

*يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}(1).

وقوله: {لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ} أي حاذق في سحره ولذا لا تمكن مقابلته إلاّ بجمع كل السحرة الحاذقين في سحرهم، وفرعون وملؤه قد علموا بأنّ العصا واليد البيضاء معجزتان من اللّه وليستا سحراً كما قال: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(2)، وقال: سبحانه: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ بَصَائِرَ}(3)، لكنّهم أرادوا التلبيس على الناس لمّا يرون سحر السحرة الحاذقين ويرون معجزة موسى (عليه السلام) فيقولون لهم إنّها كلّها سحر ومن جنس واحد.

قوله: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ} أي يريد أن يستولي على الملك في مصر ويطرد أهلها منها ليحكم فيها، كما كان دأب الجبّارين إذا احتلّوا بلداً نكّلوا بأهله وطردوهم أو استعبدوهم ثمّ قاموا مقامهم، كما قال تعالى: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَاءُ فِي ٱلْأَرْضِ}(4).

وقوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي ماذا تشيرون، قاله الملأ بعضهم لبعض بعد أن ألقاه فرعون إليه، أي هو استشارهم وهم استشار بعضهم بعضاً.

السابع: قوله تعالى: {قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} إلى قوله: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَٰحِرٍ

ص: 208


1- سورة الشعراء، الآية: 34-35.
2- سورة النمل، الآية: 14.
3- سورة الإسراء، الآية: 102.
4- سورة يونس، الآية: 78.

عَلِيمٖ}.

الإرجاء والإرجاي بمعنى التأخير، و{أَرْجِهْ} أصله أرجيه حذفت الياء للجزم لأنّه فعل أمر، والهاء ضمير المفعول يرجع إلى موسى، وهاء الضمير عادة مضمومة أو مكسورة وقد تسكن كأنّه الوصل بنية الوقف، وقيل: الهاء للسكت فيكون قوله: {وَأَخَاهُ} معطوفاً على مقدر.

وإنّما أشاروا بتأخير أمرهما لأنّهم لم يجدوا بُدّاً من ذلك؛ إذ علموا بأنّهم لا يتمكّنون من قتلهما أو حبسهما مع وجود الآيتين كما لم يكن لهم جواب مقنع لتكذيب الآيتين، فرأوا أن أحسن طريقة هي الإتيان بالسحرة وهذا يستغرق وقتاً، قال: {فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى}(1).

وقوله: {فِي ٱلْمَدَائِنِ} أي مدن مصر والمراد جميع بلادهم، وكأنّ كبار السحرة كانوا يسكنون في المدن الكبار.

وقوله: {بِكُلِّ سَٰحِرٍ عَلِيمٖ} أي كما وصفوا موسى (عليه السلام) بأنّه ساحر عليم كذلك أرادوا أن يقابلوه بمن هو كثير العلم بالسحر، مع أنّ عمل السحر جهالة وسفاهة.

ص: 209


1- سورة طه، الآية: 58-59.

الآيات 113-119

اشارة

{وَجَاءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُواْ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَٰلِبِينَ 113 قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ 114 قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ 115 قَالَ أَلْقُواْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٖ 116 وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ 117 فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 118 فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَٰغِرِينَ 119}

113- {وَجَاءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} جاؤوا إليه بعد أن جمعوهم {قَالُواْ} مستفهمين: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَٰلِبِينَ}؟ والاستفهام تقريري أي لا بد أن يكون لنا عوضاً عن عملنا.

114- {قَالَ} فرعون: {نَعَمْ} لكم أجر {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ} ويتضمن ذلك التقريب مزايا كثيرة.

115- فلمّا حان الموعد اجتمع السحرة وموسى (عليه السلام) في المكان المقرّر ف{قَالُواْ} السحرة - لشدّة اطمئنانهم بسحرهم - : {يَٰمُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ} عصاك أوّلاً ثمّ نحن نلقي سحرنا {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ} لسحرنا أوّلاً قبلك.

116- {قَالَ} موسى (عليه السلام) - لثقته بربّه واطمئنانه بالغلبة - : {أَلْقُواْ} أنتم أوّلاً، {فَلَمَّا أَلْقَوْاْ} حبالهم وعصيّهم {سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ} أوهموا الناس أنّ حبالهم وعصيّهم حيّات لأنّها تحركت في حرارة الشمس بسبب الزئبق

ص: 210

الذي كان فيها فموّهوا للناس بأنّها حيّات، {وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ} أخافوا الناس ولعل ذلك كان بكلام وأصوات يستعمله السحرة عادة لإضفاء نوع من الرهبة التي تمنع الناس من الفكر، {وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٖ} لكثرته أو لحذاقته في فن السحر.

117- {وَ} من عظمته خاف موسى (عليه السلام) على الناس بأن ينخدعوا ف{أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}، فألقاها فتحوّلت إلى ثعبان {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تلتقم بسرعة {مَا يَأْفِكُونَ} ما زوّروه للناس وقلّبوه عن حقيقته.

118- {فَوَقَعَ} حصل وثبت {ٱلْحَقُّ} وهو معجزة موسى (عليه السلام) {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من التمويهات بسحرهم الكاذب.

119- {فَغُلِبُواْ} انهزم السحرة وفرعون وملؤه {هُنَالِكَ} في ذلك المكان {وَٱنقَلَبُواْ} تحوّلوا من متكبّرين مستكبرين إلى {صَٰغِرِينَ} أذلاء مقهورين.

قصة موسى (عليه السلام) والسحرة

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَجَاءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} إلى قوله: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ}.

يتضمّن هذا المقطع جمع السحرة ومجيأهم إلى فرعون واتفاقهم معه ثمّ اجتماعهم مع موسى في مكان المنازلة بحضور جمع كبير من الناس، حيث إنّهم أرادوا استثمار حاجة فرعون إليهم بأخذ الأموال منه أجرةً على عملهم وليس نصرةً لدينهم الباطل، وهكذا دأب المبطلين دائماً، فاجتماعهم على

ص: 211

الباطل وتفرّقهم عن الحق إنّما هو للدنيا وزخارفها، وفي نهج البلاغة: «عجباً لابن النابغة... إنّه لم يبايع معاوية حتّى شرط أن يؤتيه آتية ويرضخ له على ترك الدين رضيخة»(1)، وهم كانوا يطمعون في الأجر إلاّ أنّ فرعون زادهم بأنّه سيجعلهم من المقرّبين إلى البلاط مع ما في القرب إلى الملوك من مزايا كثيرة جدّاً، أضاف ذلك تشويقاً لهم وحثّاً ليغلبوا في سحرهم.

وقوله: {وَجَاءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} يبدو أنّهم لم يرضوا بالاتفاق مع الملأ بل أرادوا الاتفاق مع فرعون بنفسه، أو أنّ فرعون هو الذي طلبهم ليحثّهم وليدير الأمر بنفسه مباشرة لأهمّيّة الموضوع بالنسبة إليه.

وقوله: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} بتقدير حرف الاستفهام، وقد صرّح به في سورة الشعراء، قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَٰلِبِينَ}(2)، والاستفهام هنا للتقرير، أي أرادوا الأجر وذكروا مطلبهم بصيغة الاستفهام.

وقوله: {إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَٰلِبِينَ} قالوه من شدّة اطمئنانهم بغلبتهم، لكن حيث ذكروا الأجر بصيغة الاستفهام ذكروا الغلبة بصيغة الشرط.

وقوله: {وَإِنَّكُمْ} عطف على مقدر أي نعم لكم الأجر وإنّكم لمن المقرّبين.

الثاني: قوله تعالى: {قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ}.

ص: 212


1- نهج البلاغة، الخطبة: 84.
2- سورة الشعراء، الآية: 41.

في تفسير الصافي: «خيّروه مراعاة للأدب، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبّهوا عليه بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ»(1)، أو خيّروه اطمئناناً بغلبتهم حيث لا فرق عندهم بين أن يبتدؤوا هم أو يبتدأ هو، حيث إنّ الشاك في غلبته يحاول أن يكون هو البادئ لتكون المبادرة بيده فيسوق الحلبة إلى ما يريده هو، حيث إنّ السابق يبدأ بما يشاء ولكن اللاحق لا بد أن يكون عمله تابعاً وفي إطار عمل السابق، كما في المناظرة حيث إنّ الأوّل يلقي من الإشكال والدليل ما يشاء فيضطر الثاني إلى أن يواصل الحديث والكلام في ما بدأه الأوّل.

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُواْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٖ}.

أي إنّ موسى (عليه السلام) ثقةً بربه تعالى وقلّة مبالاة بهم وبسحرهم طلب أن يبدأ السحرة بإلقاء سحرهم، وكان في ذلك التسديد الإلهي؛ إذ لو كان يبدأ موسى بالإلقاء لعلّهم كانوا يحجمون عن إلقاء سحرهم فتكون غلبته ناقصة، ولمّا بدأوا هم صنعوا ثلاثة أمور:

1- قوله: {سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ} أي موّهوا وخيّلوا للناس أموراً لا حقيقة لها؛ لأنّ السحر كما مر يعتمد على الحيلة التي تخفى أسبابها على الناس، فمنه: الشعبذة وهي التي تكون بحركات سريعة لا تجاريها العين فيظن الرائي تحقق أمر خارق للعادة مع أنّه بالأسباب المخفيّة الطبيعيّة، ومنه:

ص: 213


1- تفسير الصافي 3: 222-223.

إخفاء السبب وإراءة المسبب العجيب، ومنها غير ذلك.

2- وقوله: {وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ} أي أخافوا الناس، ولعلّ ذلك كان بأصوات أو حركات غريبة تثير الرعب في قلوب الناس حتى لا يفكّروا؛ إذ الخائف مشلول الفكر عادة، وباب الاستفعال لطلب الفعل أي طلبوا تخويف الناس، بحيث خاف موسى على الناس تصديق فعل السحرة كما قال سبحانه: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ}(1)، ولم يكن خوفه من سحرهم لأنّه كان يعلم أن اللّه يبطله كما قال: {فَلَمَّا أَلْقَوْاْ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ ٱلسِّحْرُ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ}(2)، وإنّما كان خوفه من انخداع الناس بسحرهم.

3- وقوله: {وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٖ} أي بعد أن أخفوا الأسباب بأن سحروا أعين الناس وأخافوهم، رأوا الأرضيّة مناسبة والنفوس مهيّئة فأظهروا سحرهم، وعظمته كانت من جهة كثرته حتى ملؤوا الوادي بسحرهم(3)، ومن جهة إحكام فن السحر بأقصى درجة وشدّة الحيلة والتمويه فيه، والعظمة إنّما كانت عند الناس، وإلاّ فالباطل زاهق لا واقع له.

وقيل: إنّهم وضعوا الزئبق في حبالهم وعصيّهم - وكانت بألوان وأحجام مختلفة - والزئبق يتمدّد في الحرارة فإذا كان تمدّده أكثر من التجويف الذي وُضع فيه تحرّك ذلك الشيء بسبب تمدّده، والسحرة ألقوا حبالهم

ص: 214


1- سورة طه، الآية: 67.
2- سورة يونس، الآية: 81.
3- راجع تفسير الصافي 3: 223.

وعصيّهم في ضحوة وحرارة من الشمس فتحركت حتى علا بعضها على بعض وركب بعضها بعضاً.

الرابع: قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}.

لعلّ موسى (عليه السلام) انتظر الوقت المناسب لإلقاء العصى كي يكون وقعها وتأثيرها على الناس أكثر لذلك انتظر الوحي لتعيين الوقت، أو لأنّ موسى (عليه السلام) خاف على الناس فسدّده اللّه تعالى بأن أوحى إليه بالإلقاء كما قال: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْأَعْلَىٰ * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ}(1).

وقوله: {مَا يَأْفِكُونَ} من (الإفك) وهو قلب الشيء وصرفه عن وجهه(2)، وهو أشد أنواع الكذب، فقد موّهوا وزوروا الحقائق فكان إفكاً.

الخامس: قوله تعالى: {فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَٰغِرِينَ}.

أي ظهر الحق للناس بعد أن أبطل اللّه سحرهم بعصى موسى، فلم يبق هناك مجال للتمويه وقلب الحقائق.

وقوله: {فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ} الوقوع هو السقوط من أعلى والثبوت في الأسفل، فكأنّ الحق نزل من فوق وغشّاهم جميعاً.

وقوله: {وَبَطَلَ} بطلانه بإفنائه وإبطال حيلته ودحض حجّته.

ص: 215


1- سورة طه، الآية: 67-69.
2- المقاييس اللغة 1: 118.

وقوله: {فَغُلِبُواْ} لأنّه كانت منازلة وكان السحرة يزعمون أنّهم هم الغالبون ولذا ربطوا أجرهم بغلبتهم اطمئناناً منهم بها، لكن خسروا المنازلة وغلبهم موسى (عليه السلام) ، قال سبحانه: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ}(1)، وقال: {كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(2).

وقوله: {وَٱنقَلَبُواْ صَٰغِرِينَ} كأنّ المراد بالانقلاب هو الصيرورة والتحوّل أي صاروا أذلاء بعد تكبّرهم واستكبارهم، وقيل: رجوعهم عن ذلك المكان إلى فرعون أو إلى أماكنهم أو إلى ديارهم، والأوّل أنسب.

ص: 216


1- سورة الصافات، الآية: 173.
2- سورة المجادلة، الآية: 21.

الآيات 120-126

اشارة

{وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ 120 قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ 121 رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ 122 قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 123 لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَٰفٖ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ 124 قَالُواْ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ 125 وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ 126}

120- {وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ} لم يتمالكوا أنفسهم، فكأنّ الآيات ألقتهم لمّا عرفوا صدق موسى (عليه السلام) وأنّ عمله معجزة وليس سحراً.

121- {قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} الذي دعا إليه موسى (عليه السلام) ، ويلازم ذلك إنكارهم ربوبيّة فرعون.

122- {رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ} الذي أعطاهما هذه الآيات، وهذا لبيان إيمانهم بنبوّتهما (عليهما السلام) .

123- ووجد فرعون في إيمانهم فرصة للمغالطة وتحوير الهزيمة ف{قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُم بِهِ} بتقدير أداة الاستفهام للإنكار أي هل آمنتم برب موسى وهارون {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} قاله استكباراً، {إِنَّ هَٰذَا} الذي فعلتموه من الانهزام أمام موسى وثمّ الإيمان بربّه {لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} خدعة اتفقتم مع

ص: 217

موسى عليها {فِي ٱلْمَدِينَةِ} أي قبل الخروج إلى الصحراء حيث كانالموعد، ومقصوده أنّ إيمانكم ليس لأجل ما شاهدتموه من الآيات وإنّما مؤامرة اتّفقتم عليها من قبل، {لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا} أي لتستولوا على السلطة فتطردوا أهل مصر الأقباط منها، قال هذا الكلام ليمنع إيمان الناس حيث إنّ الناس مع مصالحهم عادة فيقال لهم إن آمنتم خسرتم وطنكم، ثمّ هدّدهم فرعون قائلاً: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة مكركم، وهذا بيان لهم بأنّهم لا يصلون إلى مقصودهم، وهو يتضمّن تهديداً إجماليّاً.

124- ثمّ فصّل في التهديد قائلاً: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَٰفٖ} أي من كل طرف أقطع عضواً، اليد اليمنى والرِجل اليسرى أو بالعكس {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أرفعكم على الأعمدة لتكونوا عبرة لغيركم.

125- {قَالُواْ} السحرة الذين آمنوا: لا ضير علينا {إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} نرجع إلى ثوابه.

126- {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} والنقمة هي إنكار من يريد العقاب أي لا تنكر علينا ولا تريد عقابنا لجرم ارتكبناه فليس ذلك {إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا} معاجز العصا {لَمَّا جَاءَتْنَا} شاهدناها فاستيقنّا بها فلم يكن إيماناً عن ظن أو وهم، ثمّ توجّهوا إلى اللّه تعالى قائلين: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي اعطنا صبراً كثيراً كأنّه إفراغ كل الصبر علينا وذلك لشدّة التهديد كي لا يضعفوا أمامه فيرتدّوا {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي أمتنا حال الإسلام بأن نستقيم عليه.

ص: 218

قصة إيمان السحرة

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ} إلى قوله: {رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ}.

لم يكن السحرة معاندين وإنّما كان السحر مهنة رائجة من ثقافة المجتمع، ولذا لمّا علموا بمعجزة موسى (عليه السلام) أدركوا عظمتها وأنّها ليست سحراً فلذلك دخل الإيمان في قلوبهم فلم يتمالكوا أنفسهم إلاّ بأن أظهروا إيمانهم باللّه سبحانه وتعالى.

وقوله: {وَأُلْقِيَ} بالمبني للمجهول مع أنّهم هم الذين ألقوا أنفسهم، للدلالة على كمال تأثير المعجزة فيهم فكأنّه ألقاهم ملقٍ من غير اختيارهم.

وقوله: {سَٰجِدِينَ} لعلّهم رأوا موسى وهارون (عليهما السلام) سجدا شكراً للّه فاتبعوهما، أو إنّها كانت بالفطرة، أو بإلهام اللّه تعالى لهم ذلك.

وقوله: {قَالُواْ ءَامَنَّا} أي نطقوا بلسانهم أيضاً الإيمان كما صنعوه بجوارحهم بالسجود.

وقوله: {رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ} لعلّهم ذكراهما إيماناً بهما وبرسالتهما، وقيل: قالوا ذلك لئلا يتوّهم أن سجودهم لفرعون حيث كان يزعم أنّه ربّهم الأعلى.

لم يعاند السحرة أجمعون وآمنوا وسجدوا للّه تعالى رغم عناد غالب الأمم وعدم إيمانهم بالمعجزات، مع أنّ عامة السحرة يتّخذون الكذب وخداع الناس وسيلة لجلب حطام الدنيا ومع أنّ اللّه تعالى يقول: {وَلَا يُفْلِحُ

ص: 219

ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ}(1)، ولعلّ سبب إيمانهم هو أن اللّه تعالى ألقى الهداية فيقلوبهم، ولولا ذلك لقال الناس: ساحر غلب سحرة! وذلك ليس بعزيز، فأراد اللّه إتمام الحجّة على الناس أجمعين، واللّه العالم.

الثاني: قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} إلى قوله: {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}.

بيّنت الآية الأولى ثلاثة مواقف لفرعون: استكباره واحتجاجه وتهديده:

1- قوله: {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} واصل فرعون استكباره وزعمه أنّه ربّهم الأعلى بحيث لا يحق لهم فعل شيء إلاّ عن إذنه، وهذا دأب المستبدّين الذين يرون أنّ لهم الحق في أن يتّخذوا القرارات بدلاً عن الناس وأنّ على الناس اتّباعهم دائماً.

2- وقوله: {إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ...} هذا احتجاجه عليهم، وغرضه إبطال تأثير معجزة موسى (عليه السلام) وإيمان السحرة على الناس بالمغالطة بأنّه لم يكن هناك معجزة وإنّما مؤامرة بين موسى والسحرة ليظهروا انكسارهم ثمّ إيمانهم، ليتّبعهم الناس على ذلك فينتزعوا السلطة من فرعون وملئه.

وقوله: {فِي ٱلْمَدِينَةِ} أي كانت مؤامرة مبيّتة من قبل، فليس هو إيمان حين رؤية المعجزة، والمراد المدينة التي كان فيها فرعون حينما اجتمع السحرة فيها.

وقوله: {لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا} وفي هذا صد للناس عن الإيمان بموسى

ص: 220


1- سورة طه، الآية: 69.

بإيهامهم أنّ عاقبة استيلاء موسى على السلطة هو إخراجهم من وطنهم ومصادرة أموالهم وأملاكهم، وحيث إنّ الناس عبيد الدنيا يرجّحون دنياهمعلى دينهم الحق.

3- وقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} هذا تهديدهم بتهديد إجمالي، وغرضه من التهديد أوّلاً إرجاعهم إلى الكفر وليصرّحوا بما افتراه فرعون من أنّ ما حصل - من بطلان سحرهم - هو نتيجة مؤامرة، وثانياً تخويفاً للناس ليكونوا عبرة لهم حتى لا يفكّر أحد في الإيمان باللّه تعالى، أو هو بيان أنّهم لا يتمكّنون من تنفيذ المؤامرة المزعومة؛ لأنّ فرعون سوف ينكّل بهم، ولعلّه أخّر العقوبة إمّا لعدم تمكّنه حينذاك من التنكيل بهم حيث اجتماع الناس وهزيمة فرعون، فأراد تأخيرها إلى بعد تفرّق الناس ليتمكّن من الاستيلاء على الأمر ولعلّه لذا قال: {فَسَوْفَ}، أو لعلّه أراد أن يفكّر في كيفية عقوبتهم أو أن يستشير الملأ من قومه - كما استشارهم في أمور أخرى - ، ثمّ بعد ذلك استقر رأيه على القطع والصلب، أو أراد الضغط عليهم عبر السجن والتهديد ليرجعوا إلى دينه ولم يكن يريد قتلهم.

وقوله: {لَأُقَطِّعَنَّ...} تفصيل بعد إجمال، وهذا أفضع أنواع القتل لأنّه بعد تعذيب، وقد أكّد الكلام بلام القسم ونون التأكيد وذلك زيادة في التهديد.

الثالث: قوله تعالى: {قَالُواْ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا...} الآية.

ص: 221

كان جواب السحرة هو بيان صلابتهم في الإيمان وأنّهم لا يأبهون بتهديده، وإبطالهم لاحتجاجه حيث ادعى أنّها مؤامرة فأثبتوا أنّها آيات اللّهولذلك آمنوا بها، ثمّ توجّهوا إلى اللّه سائلين الثبات وعدم التزلزل.

وقوله: {قَالُواْ...} أي في جواب تهديده قالوا إنّهم لا يتضرّرون بتعذيبهم وقتلهم، وفي سورة الشعراء: {قَالُواْ لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ}(1).

وقوله: {إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} بيان اعتقادهم بالآخرة وأنّ عذاب فرعون بعد إيمانهم لا يقارن بعذاب اللّه لو كفروا، وكذلك أجره لا شيء أمام ثواب اللّه تعالى، وقد بيّن اللّه تعالى تفصيل هذا الحوار في سورة طه حيث قال: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ * قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا فَٱقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا} إلى قوله: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلْعُلَىٰ}(2).

و(الانقلاب) صرف الشيء من وجه إلى آخر، ولذا كان الرجوع والتحوّل انقلاباً والمراد رجوعهم إلى ثوابه وجزائه.

وقوله: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} النقمة هي إنكار من يريد العذاب، وفي معجم الفروق اللغوية: «نقم منه يفيد أنّه أنكر عليه إنكار من يريد عقابه، ومنه قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ}(3)؛ وذلك أنّهم أنكروا منهم

ص: 222


1- سورة الشعراء، الآية: 50.
2- سورة طه، الآية: 71-75.
3- سورة البروج، الآية: 8.

التوحيد وعذّبوهم عليه في الأخدود»(1)، ولذا كان الانتقام هو سلب النعمة بالعذاب.

وقوله: {إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا} أي ليس كما تزعم بأنّنا تآمرنا ونريد إخراج أهل المدينة منها فتريد عقوبتنا على ذلك، بل عقوبتك بطش وظلم للصد عن سبيل اللّه تعالى، فإنكارك يرجع إلى إيماننا باللّه تعالى.

وقوله: {بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا} قيل في سبب الجمع - مع أنّ ما رأوه هو العصا - أنّ تحوّل العصى إلى ثعبان آية، ولقفها إفكهم وإفناءها آية أخرى، ورجوعها عصى كما كانت آية ثالثة، أو أنّهم مضافاً إلى العصا رأوا آيات أخرى في كلام موسى (عليه السلام) واحتجاجه، أو هو تعظيم للعصا فكأنّها آيات متعدّدة.

وقوله: {لَمَّا جَاءَتْنَا} لعلّهم يقصدون علموا بها عياناً غير قابل للشك.

وقوله: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} بعد انتهاء احتجاجهم مع فرعون لمّا رأوا عناده وعزمه على قتلهم وتعذيبهم توجّهوا إلى اللّه بالدعاء بأن يلهمهم صبراً يناسب ما عزم فرعون على عمله؛ لأنّ تحمّل التعذيب والصلب يحتاج إلى استقامة وثبات، و(الإفراغ) صب الماء عن الإناء بحيث لا يبقى فيه شيء فكأنّهم أرادوا إفراغ كل الصبر عليهم لعظم جريمة فرعون، وتنكير {صَبْرًا} لتعظيمه أي صبراً عظيماً.

وقوله: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي لنستمر على إيماننا حتى إذا متنا كانت وفاتنا مع الإسلام، وأن لا يتمكّن فرعون من إرجاعنا إلى الكفر بتهديده؛ إذ

ص: 223


1- معجم الفروق اللغوية: 83-84.

لو كفرنا متنا على الكفر وكنّا من الخاسرين.

ثمّ إنّ فرعون لم يقتلهم وإنّما حبسهم لفترة ثمّ أطلق سراحهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «فحبس فرعون من آمن بموسى في السجن حتى أنزل اللّه عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم، فأطلق فرعون عنهم»(1).

ص: 224


1- البرهان في تفسير القرآن 7: 218؛ عن تفسير القمي 2: 121.

الآيات 127-129

{وَقَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَٰهِرُونَ 127 قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 128 قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 129}

127- {وَقَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف {مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ} يريدون تحريض فرعون على موسى والمؤمنين، وذلك لمّا غلب موسى (عليه السلام) السحرة: {أَتَذَرُ} والاستفهام تحريضي أي كيف تترك {مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ} بدعوتهم إلى ربّهم وإيمان الناس لهم {وَيَذَرَكَ} أي وليتركك فلا يطيعك {وَءَالِهَتَكَ} فلا يعبدهم، {قَالَ} فرعون: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} حتى لا تقوى شوكة موسى بعد كبرهم {وَنَسْتَحْيِ} نستبقي {نِسَاءَهُمْ} للخدمة وذلك إذلال لهم {وَ} أما الكبار فلا يتمكّنون من فعل شيء ف{إِنَّا فَوْقَهُمْ قَٰهِرُونَ} أعلى منهم شأناً وقوة ونقهرهم على ما نريد.

128- {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ} إرشاداً وتسكيناً لهم بعد أن نفّذ فرعون تهديده: {ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ} لينصركم {وَٱصْبِرُواْ} على أذاه فلا ترتدّوا عن دينكم الحق {إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا} يملّكها {مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وهذا

ص: 225

تلميح بأنّهم سيرثون الأرض {وَٱلْعَٰقِبَةُ} المحمودة في الآخرة {لِلْمُتَّقِينَ}الذين اجتنبوا الكفر والمعاصي.

129- {قَالُواْ} قوم موسى شكايةً إليه واستعجالاً بتنفيذ الوعد: {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا} برسالتك لإنقاذنا {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} فلم ننتفع بمجيئك! {قَالَ} موسى (عليه السلام) : {عَسَىٰ رَبُّكُمْ} نرجو منه {أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} فرعون فينجّيكم منه {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فليس استخلافكم إلاّ امتحاناً لكم فلا بد من أن تطيعوا اللّه تعالى وتشكروه لا أن تتجبّروا كفرعون وقومه.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ...} الآية.

لمّا غلب موسى (عليه السلام) السحرة فآمنوا وآمن معهم جمع من الناس أحس قوم فرعون بالخطر جرّاء اتجاه الناس إلى دين موسى (عليه السلام) وتركهم دين فرعون، فلذا أشار الملأ من قوم فرعون بأن يضغط على موسى والمؤمنين معه لكي لا يعلو شأنهم ولا يتبعهم الناس، فإنّ غالب الناس يرجّحون مصالحهم وراحتهم على الدين الحق، فأجابهم فرعون بإعادة إذلال بني إسرائيل لئلا يعلو شأنهم ولا يتبعهم الناس، وذلك بقتل الأبناء واستخدام النساء وقهر الكبار.

وقوله: {لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ} زعموا أن دعوة الناس إلى دين التوحيد واتّباع موسى (عليه السلام) فساد!

ص: 226

وقوله: {وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ} عطف على ليفسدوا أي ويتركوا دين فرعون واتّباعه، فكانوا يرون أن موسى يدعو إلى اتّباع نفسه وترك اتّباع فرعون، وكذا يدعو إلى ديانة التوحيد ونبذ ديانة فرعون المشركة.

ثمّ إنّ هذه الآية مع قوله تعالى: {فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ}(1)، وقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي}(2) تدل على أنّ فرعون كان يعبد آلهة وكان يقول للناس في مصر إنّه إلههم وإنّه ربّهم الأعلى، وهذا كان متعارفاً في الأديان الوثنيّة حيث كانوا يعتقدون بتعدّد الآلهة وبألوهيّة بعضها على بعض، ويبدو من بعض التواريخ أنّ فرعون كان يعبد بعض الكواكب فقد اتّخذها آلهة له وكان يرى نفسه الواسطة بينها وبين قومه فكان ربّاً وإلهاً لهم، وهكذا كان المشركون حيث كانوا يعتقدون باللّه خالقاً للسماوات والأرض وكانوا يعبدون الأصنام لزعمهم أنّها بنات اللّه وأنّها الشفعاء عنده سبحانه وتعالى عمّا يشركون.

والحاصل: أنّ الإفساد بزعمهم كان دين التوحيد واتّباع موسى (عليه السلام) ولذا قابلوه بقولهم: {وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ}.

ثمّ إنّ فرعون أجابهم إلى ما طلبوه بأمور ثلاثة تمنع قوة وشوكة موسى (عليه السلام) وانتشار دينه:

1- قوله: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} وذلك لئلا يكبروا فيلتحقوا بموسى (عليه السلام) ، وهذا ضمان للمستقبل.

ص: 227


1- سورة النازعات، الآية: 24.
2- سورة القصص، الآية: 38.

2- وقوله: {وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} الاستحياء بمعنى إبقائهن أحياء، والمقصود هو إذلالهم عبر استخدام نسائهم.

3- وقوله: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَٰهِرُونَ} أي إنّ الكبار من بني إسرائيل هم ضعفاء لا يملكون العدد والعُدّة والمال والسلاح فنحن نقهرهم بقوتنا وسلاحنا وجنودنا، فلا يتمكّنون من صنع شيء يهدّد عرش فرعون، قيل: كان فرعون يصنع ذلك ببني إسرائيل لمّا علم أنّ زوال ملكه بأيديهم، ومن أمثلة الجاهليين: «لا تبقوا لهم عامر دار، ولا نافخ نار، ولا طالب ثار».

الثاني: قوله تعالى: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ...} الآية.

لمّا نفّذ فرعون تهديده وبدأ بالقتل والاستعباد والقهر قابله موسى بإرشاد قومه إلى الالتجاء إلى اللّه تعالى والصبر، ثمّ وعدهم النصر في الدنيا والآخرة.

وقوله: {لِقَوْمِهِ} قيل: إنّ هذه السورة ذكرت قصص الأنبياء مع أقوامهم، ولذا أراد اللّه تعالى أن تكون قصّة موسى على نفس النسق ولذا لم يقل: لبني إسرائيل.

وقوله: {ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ} أي أطلبوا العون منه، ثمّ علّل هذا بقوله: {إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فحيث إنّ اللّه هو مالك الملك ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء فلا بد من دعائه ليزيل ملك فرعون ويستبدل به غيره، هذا في الدنيا.

وقوله: {وَٱصْبِرُواْ} بعدم الانهيار أمام ضغوط فرعون فابقوا على دينكم ثمّ علّل هذا بقوله: {وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وكأنّ المقصود بذلك الآخرة، فبالصبر على دينكم تفوزون بالجنّة، وبالاستعانة باللّه تربحون الدنيا.

ص: 228

الثالث: قوله تعالى: {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا...} الآية.

لمّا أمرهم موسى بالصبر علموا أنّ البلاء يطول عليهم، وكان كلام موسى لهم مجملاً حيث قال: {ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} حيث لم يصرّح لهم بأنّهم هم الوارثون فلذلك استعجلوا تنفيذ الوعد عبر سؤال موسى عن فائدة بعثته ومجيئه إليهم فلم يفرق حالهم من حيث إيذاء فرعون لهم قبل مجيئه وبعده؟!

فكان كلامهم اشتياقاً لسرعة النصر نظير قوله تعالى: {مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَاءُ وَٱلضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ}(1).

ويمكن أن يكون كلامهم ضجراً واعتراضاً كما هو ليس ببعيد عن بني إسرائيل.

وقوله: {تَأْتِيَنَا} و{جِئْتَنَا} كأنّه تفنن في العبارة، وإن كان بينهما فرق في أصل اللغة، قيل: «إنّ قولك جاء فلان كلام تام لا يحتاج إلى صلة، وقولك أتى فلان يقتضي مجيئه بشيء»(2)، فلو كان هذا هو المقصود صار المعنى أوذينا من قبل أن تأتينا برسالتك وآياتك ومن بعد ما جئت أنت إلينا قادماً من مدين.

وقوله: {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ...} تصريح بالوعد تثبيتاً لهم بأن اللّه سيهلك فرعون وأنّه يستخلفهم.

ص: 229


1- سورة البقرة، الآية: 214.
2- معجم الفروق اللغوية: 152.

وقوله: {فِي ٱلْأَرْضِ} كأنّ المراد بها أرض فلسطين لا أرض مصر، فاللام للعهد؛ وذلك لأنّ موسى (عليه السلام) طلب من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل ليرجعوا إلى الأرض المقدّسة.

ثمّ إنّه يمكن أن يكون قوله: {إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ...} وعداً عاماً احتملوا أن لا يدركوه هم بل يكون من نصيب أبنائهم أو أحفادهم، ولكنّهم أرادوا أن يكون ذلك لهم بأن يعجّله اللّه إليهم فصرّح لهم موسى بأنّهم هم الذين يستخلفهم اللّه في الأرض، واللّه العالم.

وقوله: {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} تربية وإرشاد لهم بأنّ عليهم أن يحسنوا الصنع حينما يرثون الأرض، لا كغالب الناس حينما يكونون مستضعفين يدعون إلى العدل ويتمنّونه، فلمّا أن يصلوا إلى السلطة إذا هم يستكبرون في الأرض ويتجبّرون كمن سبقهم، و(نظره) تعالى بمعنى أن يظهر ما علمه أزلاً ليجازيهم، فإنّ الجزاء بالعمل لا بالعلم، وفي هذا رد على مزاعم اليهود بأنّهم أبناء اللّه وأحبائه وأنّه مسموح لهم أن يفعلوا ما يشاؤون لأنّهم شعب اللّه المختار! فيقال لهم أنتم بشر ممن خلقه اللّه وتُجازون بأعمالكم إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر، قال سبحانه: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(1).

ص: 230


1- سورة النساء، الآية: 123.

الآيات 130-137

اشارة

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 130 فَإِذَا جَاءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَٰئِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 131 وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٖ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ 132 فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ 133 وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ 134 فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ 135 فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَٰهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ 136 وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلْأَرْضِ وَمَغَٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ 137}

ثمّ عاقب اللّه فرعون وقومه بسبب عدم إيمانهم وجرائمهم، فقال:

130- {وَلَقَدْ أَخَذْنَا} عاقبنا {ءَالَ فِرْعَوْنَ} أي فرعون وآله وهم قومه الذين يؤول أمرهم إليه {بِٱلسِّنِينَ} أي القحط والجدب فلم تنبت زروعهم {وَنَقْصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ} فلم تثمر أشجارهم إلاّ القليل، وإنّما فعلنا بهم ذلك {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتّعظون فيتركوا إيذاء موسى وقومه ويرجعوا إلى الإيمان.

ص: 231

131- لكنهم لم يتّعظوا {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ} كالخصب وسائر أنواع الخير وذلك بعد الشدّة لم يشكروا اللّه بل {قَالُواْ لَنَا هَٰذِهِ} أي هذا هو حقّنا وهي مختصّة بنا، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} كالجدب وسائر أنواع البلاء{يَطَّيَّرُواْ} يتشاءموا {بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ} بأنّهم سبب السيئة، فيردّهم اللّه تعالى بقوله: {أَلَا} انتبهوا {إِنَّمَا طَٰئِرُهُمْ} ما يوجب شؤمهم وهو البلاء {عِندَ ٱللَّهِ} أي هو عذاب من عند اللّه سبحانه {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} بأنّه نتيجة أعمالهم.

132- ثمّ تمادوا في غيّهم {وَقَالُواْ} لموسى (عليه السلام) : {مَهْمَا} أيُّ شيء {تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٖ} سمّوها آية استهزاءً {لِّتَسْحَرَنَا بِهَا} حتى نرجع عن ديننا إلى دينك {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} لا نصدّقك، قالوه لبيان إصرارهم على الكفر ولييأس موسى (عليه السلام) عن هدايتهم.

133- {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ} وهو طغيان الماء {وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ} وهي حشرة صغيرة تقع على الزرع فتهلكه {وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ} تحوّل ماؤهم دماً فلم يهنأوا بأكل ولا شرب، {ءَايَٰتٖ} دالة على صدق موسى (عليه السلام) لأنّه كان يخبرهم بها قبل وقوعها ويهدّدهم بها {مُّفَصَّلَٰتٖ} فُصّل بعضها عن بعض فكانت تأتيهم بالتدريج كل واحدة في سنة لتكون آية واضحة، {فَٱسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان {وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} عصاة يرتكبون الكبائر.

134- {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ} العذاب {قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي بما جعله عندك من استجابة دعائك {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا

ص: 232

ٱلرِّجْزَ} العذاب {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} لنصدّقنّك في ما تقول {وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} لتخرجوا إلى الأرض المقدّسة.

135- {فَلَمَّا كَشَفْنَا} رفعنا {عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ} أي ليعيشواإلى أن يحين أجلهم المحتوم {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون العهد.

136- {فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أردنا عذابهم {فَأَغْرَقْنَٰهُمْ فِي ٱلْيَمِّ} البحر الذي لا يدرك قعره {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنّهم {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} بقولهم فلم يصدّقوها {وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ} لم يعملوا بها وبما تقتضيه من الإيمان والعمل الصالح كالغافل عنها.

137- {وَأَوْرَثْنَا} بعد إغراق آل فرعون {ٱلْقَوْمَ} أي بني إسرائيل {ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} يحسبونهم ضعفاء بالاستعباد والقتل والاستحياء {مَشَٰرِقَ ٱلْأَرْضِ وَمَغَٰرِبَهَا} أي كل أرض فلسطين {ٱلَّتِي بَٰرَكْنَا} جعلنا الخير الثابت {فِيهَا} معنويّاً بكثرة الأنبياء وماديّاً بالخصب وطيب الماء وكثرة الثمار، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} نفذ وعده تعالى {ٱلْحُسْنَىٰ} صفة الكلمة لأنّه كان وعداً بما يحبّون وبما فيه المصلحة {عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} بسبب صبرهم وتمسّكهم بالإيمان رغم الضغوط الهائلة، {وَدَمَّرْنَا} نسفنا وأهلكنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من القصور والأبنية {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} بساتينهم التي كانوا يجعلون لها عريشاً كساباط العنب.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ

ص: 233

لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.

لمّا بدأوا بإيذاء قوم موسى وكانوا قد حبسوا السحرة أراد اللّه تنبيهه مفقدر عليهم القحط، وكان ذلك بجدب المزارع وقلّة ثمار الأشجار.

وقوله: {أَخَذْنَا} أي عاقبناهم لأنّ المجرم يؤخذ ليعاقب.

وقوله: {ءَالَ فِرْعَوْنَ} أي فرعون وآله، و(الآل) هم خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم إليه، ويطلق على ذرّية الرجل لرجوعهم في النسب إليه، فآل إبراهيم هم إبراهيم وآله في قوله: {إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ}(1)، وكقوله: {إِلَّا ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ}(2).

وقوله: {بِٱلسِّنِينَ} جمع سنة، والمقصود القحط، وأصلها سنة القحط ثمّ اختصرت بحذف القحط؛ وذلك لأنّ سنوات القحط قليلة إذا قيست إلى سنوات الرخاء والناس يذكرون البلاء القليل أكثر من ذكرهم للرخاء الكثير.

وقوله: {وَنَقْصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ} وفرق هذا عن سابقه أنّ القحط يهلك الزرع فلا يتمكّنون من زرع حنطة ولا شعير فهذا السنون، وكذلك تقل ثمار الأشجار لقلّة ما يصلها من الماء فهذا نقص الثمرات.

ثمّ إنّ جمع سنين يدل على أنّ القحط استمر عندهم لعدّة سنوات لكي يتذكّروا.

أنواع عذاب قوم فرعون

الثاني: قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ...} الآية.

الظاهر أنّ المقصود أنّه في سنوات الجدب وقلّة الثمار كلّما رأوا من خير

ص: 234


1- سورة آل عمران، الآية: 33.
2- سورة الحجر، الآية: 59.

نسبوه إلى أنفسهم، وكلّما رأوا من شر نسبوه إلى موسى وقومه، مثلاً حينما تثمر الشجرة قليلاً قالوا إنّ هذه الثمرات حقّنا وحظّنا، وأما قلّتها فهو بشؤم أولئك، فالقليل من الخير نسبوه إلى أنفسهم والكثير من الشر نسبوه إلى موسى (عليه السلام) وقومه.

وقيل: إنّ السنين كانت متقطّعة أي كانت بعض السنوات جدب وبعضها رخاء، وما ذكرناه أقرب إلى سياق الآية.

وفي الكشّاف: «فإن قلت: كيف قيل {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ} ب(إذا) وتعريف الحسنة، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} ب(إن) وتنكير السيّئة؟

قلت: لأنّ جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتّساعه، وأمّا السيّئة فلا تقع إلاّ في الندرة ولا يقع إلاّ شيء منها»(1).

وقوله: {لَنَا هَٰذِهِ} اللام للاختصاص والملك أي حقّنا هذه فنحن نستحق كل خير فنسبوه إلى أنفسهم ولم يشكروا اللّه تعالى عليها.

وقوله: {يَطَّيَّرُواْ} الطيرة هي التشاؤم، فقد كان العرب يتشاءمون ببعض الطيور كالغراب، وكذلك بكيفيّة طيرانها عن اليمين أو الشمال، كما كانوا يتفاءلون ببعض الطيور وبكيفيّة الطيران، ثمّ غلب استعمال التطيّر في التشاؤهم.

وقوله: {طَٰئِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ} بيان أنّ الشؤم الذي أصابهم هو عذاب من اللّه تعالى حيث قدّره عليهم ليتذكّروا، فلا يرتبط بموسى (عليه السلام) ومن معه، و{عِندَ ٱللَّهِ} بمعنى تقديره وحكمه ومشيئته عقوبة لهم كما قال: {قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا

ص: 235


1- الكشّاف 2: 144.

بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَٰئِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُمبَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}(1) أي أنتم سبب شؤمكم لكفركم.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أنّ اللّه هو الذي يقدّر ابتلاءهم بسبب سوء أعمالهم، فلذا يريدون ربط البلاء بغيرهم مع أنّهم هم السبب.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٖ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}.

لمّا رأوا السنين ونقص الثمرات بعد ما شاهدوا العصا واليد البيضاء أصرّوا وعاندوا، وقالوا هذا الكلام، ولعلّهم علموا أنّ الغرض من هذه الآيات أن يتذكّروا فأرادوا قطع الآيات عن طريق إقناط موسى (عليه السلام) عن إيمانهم، زعماً منهم أنّه إذا يئس تركهم وما يعملون! أو كان كلامهم هذا تبريراً لعدم إيمانهم بأنّه سحر فلا يؤمنون به لأنّهم لا يتأثّرون بالسحر حسب زعمهم.

وقوله: {مَهْمَا} شرطيّة، أي: أيُّ شيء إذا أتيت به، قيل: هي في الأصل (ما) الشرطيّة زيدت عليها (ما) التأكيديّة فقلبت الألف الأولى هاءً.

وقوله: {لِّتَسْحَرَنَا} المقصود نتيجة السحر أي لتخدعنا، فالمعنى مهما أتيت بسحر لتموّه علينا كي نتبعك فلا يؤثّر فينا إذ لا نؤمن بك أبداً.

الرابع: قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ...} الآية.

أي بعد آية السنين حيث لم تنفعهم، أنزل اللّه عليهم كل سنة نوعاً من

ص: 236


1- سورة يس، الآية: 18-19.

أنواع البلاء كان يصيبهم دون من آمن بموسى (عليه السلام) ، وكان موسى (عليه السلام) يخبرهم بها قبل نزولها ولذلك كانت آية، وإلاّ فالآفات والبلايا طبيعيّة تصيب الناس أجمع، فكونها آية من ثلاث جهات:

1- إخبار موسى (عليه السلام) بها قبل مجيئها.

2- وإصابتها آل فرعون وعدم إصابتها المؤمنين مع أنّ بيوتهم كانت متشابكة وسكنهم قريب ومياههم واحدة ومزارعهم متجاورة.

3- وزوالها بدعاء موسى (عليه السلام) .

وقوله: {ٱلطُّوفَانَ} هو طغيان الماء، وقد كان مع ذلك الطوفان الطاعون - كما في بعض الروايات(1) - حيث إنّ الماء قد يحمل الوباء.

وقوله: {وَٱلْقُمَّلَ} ليست هي الحشرة التي تصيب رأس الإنسان وشعره؛ إذ تلك هي القَمل - بفتح فسكون - وإنّما القُمّل حشرة تهلك الزرع، ثمّ اختلف في وصفها قال الجوهري: «قُمّلة الزرع فدويبة أخرى تطير كالجراد في خلقة الحَلَم»(2)، وقال ابن السكيت: «شيء يقع في الزرع ليس بجراد فيأكل السنبلة وهي غضّة قبل أن تخرج فيطول الزرع ولا سنبل له»(3).

والحاصل إنّها آفة الزرع كالسوس أو نحوه.

وقوله: {وَٱلدَّمَ} كان ماؤهم يتحوّل إلى دم بحيث نغّص العيش عليهم.

وقوله: {ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ} المقصود إنّها آيات تلت بعضها بعضاً فكانت

ص: 237


1- تفسير العيّاشي 2: 25.
2- الصحاح 5: 1805.
3- لسان العرب 11: 569.

في كل سنة آية منها وكانت واضحة لا لبس فيها، فإنّ التفصيل هو التفريقبجعل الشيء أجزاء منفصلة لتكون أكثر وضوحاً، وروي أنّ اللّه ابتلاهم في كل سنة بآية وقيل: إنّ كل آية استمرّت أسبوعاً واحداً(1).

وقوله: {فَٱسْتَكْبَرُواْ} أي لم تؤثر فيهم تلك الآيات المفصّلة فلم يؤمنوا.

وقوله: {وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} كأنّه أراد عصيانهم عملاً، فاستكبارهم هو إظهارهم الكبر بعدم قبول الآية وعدم الإيمان، وإجرامهم كان بعصيانهم العملي في استمرار إيذائهم للمؤمنين.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ...} الآية.

قيل: كلّما نزل عليهم عذاب من هذه الآيات المذكورة كانوا يهرعون إلى موسى (عليه السلام) ويَعِدُونه بأنّهم سيؤمنون به ويطلقون سراح بني إسرائيل إن دعا اللّه، فكان موسى (عليه السلام) يستجيب لهم فيدعو فيرفع اللّه العذاب، لكنّهم كانوا ينكثون بالعهد ويستمرّون في ظلمهم وكفرهم، فيكون ما في هذه الآية وما بعدها (الآيتان 134-135) كالبيان للآية السابقة (الآية 133) حيث قال: {فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} فلا هم آمنوا لاستكبارهم ولا هم أرسلوا بني إسرائيل لإجرامهم.

لكن روي أنّ الرجز عذاب آخر أصابهم بعد الطوفان إلى الدم، وهو الثلج الأحمر ولم يكونوا قد رأوه من قبل فماتوا فيه وجزعوا وأصابهم ما لم

ص: 238


1- تفسير الصافي 3: 230.

يعهد قبله(1).

وقوله: {ٱلرِّجْزُ} قيل: الرجز والرجس مترادفان لكن يغلب استعمال الرجز في ما كان عذاباً إلهياً، والرجس في ما كان من فعل الإنسان وهو ما يستقذر ماديّاً أو معنويّاً.

وقوله: {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} وأصل العهد هو «الوصية والتقدّم إلى صاحبك بشيء»(2)، أي إنّ استجابة دعاء موسى (عليه السلام) هو ما تقدّم به اللّه تعالى إلى موسى (عليه السلام) ، فالمعنى إنّما نطلب منك دعاء ربك بسبب أنّه وعدك الإجابة، أو أنّهم لمّا رأوا معاجز موسى (عليه السلام) علموا أنّ ربّه يستجيب دعاءه إذا دعاه، أو (ما عهد) هو ما أعطاه من المعاجز فكما ينزل العذاب بطلب موسى كذلك يرفعه بطلبه، أو هو الاسم الأعظم فقد علموا أنّ اللّه علّمه موسى (عليه السلام) فأمكنه من إنزال العذاب ورفعه.

وقوله: {لَئِن كَشَفْتَ} أي إن كشف ربّك العذاب بدعائك، وحيث إنّ الكشف بدعاء موسى فكأنّه هو الكاشف.

وقوله: {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} الإيمان له بمعنى تصديقه، والإيمان به بمعنى الاعتقاد به، فالمعنى أنّهم يصدّقونه في ما يقول من طرف رب العزّة تعالى، والإيمان لموسى يلازم الإيمان باللّه تعالى.

السادس: قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}.

ص: 239


1- مجمع البيان 4: 486، وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 171.
2- كتاب العين 1: 102.

بيان سبب استجابة موسى لهم ودعائه لكشف الرجز مرّات متعدّدة مع نكثهم كل مرّة، وهو أنّ أجلهم لم يكن قد حان، وإنّما أراد اللّه تعالى إتمام الحجّة عليهم ولعلّه لتقوية إيمان المؤمنين المضطهدين حينما يرون المعاجز واضطرار آل فرعون إلى الالتجاء إلى دعاء موسى (عليه السلام) ، فإنّ شدّة الاضطهاد قد تخرج البعض عن الإيمان فرؤية الآيات كل عام تثبيت لهؤلاء كما كانت إتماماً للحجّة على أولئك، نظير ما قاله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ * أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}(1).

وقوله: {إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ} هو الأجل المحتوم أي فلمّا رفعنا عنهم العذاب إلى أجلهم المحتوم فبدلاً عن الإيمان نكثوا العهد.

وقيل: الأجل هو زمان وصول العذاب الآخر، فالمعنى رفعنا عنهم عذاباً - من العذابات المذكورة - وأخّرناهم إلى السنة التالية حيث ينالهم عذاب جديد فيها، والحاصل الأجل الذي يبلغوه إمّا موتهم وإمّا المدّة المحدّدة التي إذا بلغوها نزل عليهم العذاب مرّة أخرى.

وقوله: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} إذا حرف مفاجئة، و(النكث) هو نقض العهد، فكأنّ الذين رأوا العذاب يفاجأونهم بالنكث مع أنّ مقتضى القاعدة هو الوفاء بالوعد لأنّ الذي أنزل عليهم العذاب قادر على إنزاله مرّة أخرى،

ص: 240


1- سورة التوبة، الآية: 124-126.

فنكث العهد معه ليس مقتضى العقل، فيكون كالأمر المفاجئ.

السابع: قوله تعالى: {فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَٰهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ}.

أي فلمّا حان أجلهم وبلغوه انتهى الامتحان والتذكير فانتقمنا منهم وكان ذلك بإغراقهم في البحر، وهذا يدل على أنّ الآيات السابقة لم تكن انتقاماً وإنّما تذكيراً أو عقوبة محدودة.

وغير خفي أنّ الانتقام كان بإغراقهم فالعطف بالفاء في قوله: {فَأَغْرَقْنَٰهُمْ} إمّا لأجل حمل الانتقام على إرادته أي فأردنا الانتقام فنفّذناه بإغراقهم، وإمّا الفاء عطف تفسير، وإمّا بحمل الانتقام على معناه الأصلي وهو إنكار من يريد العذاب أي فأنكرنا عليهم نكثهم إنكار إرادة عذاب ثمّ عذّبناهم بالغرق.

وقوله: {ٱلْيَمِّ} قيل: هو البحر العميق الذي لا يدرك قعره.

وقوله: {بِأَنَّهُمْ} بيان السبب وأنّ اللّه لم يظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

وقوله: {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} يرجع إلى عدم اعتقادهم بها.

وقوله: {وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ} يرجع إلى عدم عملهم بما تقتضيه تلك الآيات، فلا يعملون بها كالغافل عنها، وقيل: غافلين عن عواقب هذه الآيات بنجاة المؤمن بها وعذاب المكذِّب لها.

الثامن: قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلْأَرْضِ

ص: 241

وَمَغَٰرِبَهَا...} الآية.

بعد أن ذكر اللّه عذاب آل فرعون نتيجة شركهم وسوء أعمالهم أتَم قصتهم ببيان نتيجة توحيد بني إسرائيل وحسن أعمالهم وذلك بأنّهم ورثوا الأرض بعد طول استضعاف لتكون قصّتهم ماثلة أمام المؤمنين المستضعفين بأنّ اللّه سينجّيهم ولو بعد حين.

وقوله: {ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} ولم يقل بني إسرائيل لتكون وراثتهم للأرض أوقع في النفوس، فأن يرث الأرض قوي عن قوي أمر متعارف في طول التاريخ إلاّ أنّ وراثة المستضعفين عن المستكبرين أمر نادر فأراد اللّه تعالى الحث على التوحيد والصبر عليه ببيان حسن عاقبته من حيث لا يحتسبون.

وقوله: {مَشَٰرِقَ ٱلْأَرْضِ وَمَغَٰرِبَهَا} بيان أنّهم ورثوا الأرض كاملة كلّها، والظاهر أنّ المراد بالأرض أرض فلسطين لأنّه وصفها بقوله: {ٱلَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا}، وهذا وصف تلك الأرض في القرآن كقوله: {إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِي بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ} (1)، وقوله: {وَنَجَّيْنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا لِلْعَٰلَمِينَ}(2).

وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} (التمام) هو اسم للجزء والبعض الذي يتم به الموصوف بأنّه تام(3)، أي الجزء الأخير من الشيء، و(الكلمة) هي الوعد التي وعدهم اللّه تعالى أو التقدير الذي قدّره لهم كما قال: {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ

ص: 242


1- سورة الإسراء، الآية: 1.
2- سورة الأنبياء، الآية: 71.
3- معجم الفروق اللغوية: 458.

أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ}(1)، وقال: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ}(2)، والحاصل أنّ الوعد يتم بالوفاء به، والتقدير يتم بتنفيذه.

وقوله: {ٱلْحُسْنَىٰ} صفة الكلمة مؤنّث أحسن، وإنّما كانت حسنى لأنّ فيها الخير والمصلحة ولأنّها كانت بما يحبّون.

وقوله: {بِمَا صَبَرُواْ} أي بسبب صبرهم وحفظهم دينهم الذي ارتضاه اللّه لهم.

وقوله: {وَدَمَّرْنَا} بيان نتيجة الكفر والعصيان والتكذيب بالآيات، والتدمير هو التخريب والنسف، وهذا التدمير إمّا كان بآية كزلزلة وصاعقة ونحوهما، وإمّا كان بسبب طبيعي لأنّ الديار إذا خلت من أهلها خربت والبساتين إذا تركت هلكت، فحيث إنّ اللّه أهلك آل فرعون فكان هو الذي دمّر أبنيّتهم وزروعهم، وإنّما أبقى منها ما فيه العبرة لمن اعتبر كما أنجى بدن فرعون ليكون لمن خلفه آية.

وبهذا ينتهي فصل الأمم المكذّبة التي عذّبها اللّه وأهلكها.

ص: 243


1- سورة الأعراف، الآية: 129.
2- سورة القصص، الآية: 5.

الآيات 138-141

اشارة

{وَجَٰوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٖ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٖ لَّهُمْ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ 138 إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 139 قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ 140 وَإِذْ أَنجَيْنَٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ٱلْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ 141}

ثمّ يبدأ اللّه تعالى فصلاً آخر في الأمّة المؤمنة حينما انحرف بعض أهلها فعذّبهم اللّه تعالى، فقال:

138- {وَجَٰوَزْنَا} عبّرناهم بأن شققنا لهم طريقاً عبروا فيه {بِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ} مرّوا {عَلَىٰ قَوْمٖ يَعْكُفُونَ} يُقبلون ويقيمون {عَلَىٰ أَصْنَامٖ لَّهُمْ} على عبادتها، {قَالُواْ} قال بنو إسرائيل والمراد ضعفتهم وفسقتهم {يَٰمُوسَى ٱجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا} اصنع واختار صنماً مجسّداً ليكون إلهاً لنا {كَمَا لَهُمْ} لهؤلاء القوم {ءَالِهَةٌ} متعدّدة يعبدونها! {قَالَ} موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} قوم جهلة لا تعلمون أنّ الصنم لا يكون إلهاً، وتجهلون ربّكم ولا تعظّمونه بالتنزيه عن كونه صنماً.

139- {إِنَّ هَٰؤُلَاءِ} عبدة الأصنام {مُتَبَّرٌ} من «تبر» بمعنى السحق والكسر أو «التبار» بمعنى الهلاك {مَّا هُمْ فِيهِ} من عبادة الأصنام أي دينهم

ص: 244

زائل يهدمه اللّه تعالى {وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من صناعة الأصنام وعبادتهم،فدينهم هالك وعملهم باطل.

140- ثمّ استنكر عليهم طلبهم ف{قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ} أطلب لكم {إِلَٰهًا} يصلح أموركم؟! {وَهُوَ} اللّه {فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ} بأن اختاركم لدينه وجعلكم من ذرّيّة الأنبياء؟! فهذا من جهة التفضّل بالنعمة.

141- {وَ} أمّا من جهة دفع النقمة عنكم فاذكروا {إِذْ أَنجَيْنَٰكُم} أنجاكم اللّه {مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ} فرعون وآله وهم قومه {يَسُومُونَكُمْ} يلقونكم ويولّونكم {سُوءَ ٱلْعَذَابِ} أي العذاب السيّئ وذلك بأنّهم كانوا {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} يبقونهن أحياء للخدمة والاستعباد {وَفِي ذَٰلِكُم} القتل والاستحياء {بَلَاءٌ} امتحان {مِّن رَّبِّكُمْ} لأنّه لم يمنع فرعون قهراً {عَظِيمٌ} لتحمّل صعوبته، أو البلاء بمعنى النعمة فالمعنى: وفي ذلكم الإنجاء نعمة عظيمة من ربّكم لكم.

بحوث

الأوّل: كان ما مضى من الآيات قصص الأقوام الذين تمرّدوا على رسل اللّه تعالى وكذّبوا بآياته فأهلكهم اللّه تعالى وهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط ومدين وآل فرعون، ثمّ إنّ اللّه تعالى من هذه الآية فما بعد (الآيات 138-176) يذكر مجموعة من قصص الأمّة المؤمنة التي انحرفت إلى الشرك أو العصيان فأهلكهم اللّه بذنوبهم، ويذكر مجموعة من قصص بني إسرائيل، وهي قصّة طلبهم عبادة صنم، وقصّة عبادتهم العجل، وقصّة طلبهم

ص: 245

رؤية اللّه تعالى، وقصّة استهزائهم بباب حطّة، وقصّة أصحاب السبت، وقصّةبلعم بن باعورا، حيث كانوا مؤمنين موحّدين لكن بعضهم أشرك وبعضهم ارتكب الموبقات فعذّبهم اللّه تعالى إمّا بالهلاك أو بغيره.

قصة بني إسرائيل بعد عبور البحر

الثاني: قوله تعالى: {وَجَٰوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٖ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٖ لَّهُمْ...} الآية.

هذه القصّة كالمقدمة لقصّة عبادتهم العجل، فإنّ عامة البشريّة في ذلك الوقت كانوا عبدة أصنام وكان التوحيد بعيداً عن قلوبهم ولمّا تنضج عقولهم، وكان بنو إسرائيل يعيشون سنوات طوال في مصر وقد كانوا يرون عبادة آل فرعون للأصنام مع ما لهم من سطوة، والضعيف يتأثّر بالقوي، فلذا أشرب في قلوب بني إسرائيل حب عبادة الأصنام رغم ما شاهدوه من آيات اللّه تعالى ونعمه عليهم ودفع النقمة عنهم، ولذا في بداية الأمر طلبوا من موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم صنماً يعبدونه، فنهرهم وذكّرهم بفضل اللّه تعالى عليهم.

وقوله: {وَجَٰوَزْنَا} الجواز والاجتياز: العبور وحيث إنّ اللّه ضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لذلك كان هو الذي نقلهم من ضفّة إلى أخرى.

وقوله: {يَعْكُفُونَ} العكوف هو الإقبال على الشيء والإقامة عليه فكأنّهم ملازمون له، فكأنّ المعنى هو إقبالهم على عبادة الأصنام بلهفة واشتياق.

وقوله: {ٱجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا...} ولعلّ طلبهم إلهاً واحداً مع أنّه كان لعبدة الأصنام آلهة متعدّدة هو لأجل أنّهم عرفوا الوصف بالتوحيد وجهلوا الموصوف وأنّه هو اللّه الذي ليس بجسم، وكل الأصنام وموادّها مخلوقات له.

ص: 246

وقوله: {تَجْهَلُونَ} أي جهلة وكأنّ المقصود قلّة العقل فإنّ الجهليلازمه، وأيّ سفه أعظم من طلب عبادة صنم لا يضر ولا ينفع بعد رؤية الآيات الباهرات التي أنزلها اللّه تعالى، وكان آخر ما شاهدوه آنذاك هو فلق البحر وعبورهم منه.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

بيان أنّ قياسكم أنفسكم بهؤلاء غير صحيح؛ لأنّهم على باطل وأنتم على حق، فكيف تقيسون أنفسكم بهم؟! وهل الأعلى الأفضل يتمنّى ما عليه الأدون الباطل؟!

وقوله: {مُتَبَّرٌ} من (تبر) بمعنى السحق والكسر أو (التبار) بمعنى الهلاك، ولذا يقال لتراب الذهب أو الذهب المكسّر: التِبر، و{مُتَبَّرٌ} على صيغة المفعول من باب التفعيل أي إنّ عقيدتهم فاسدة وإنّ اللّه سيهلكها كما قال: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ}(1).

وقوله: {مَّا هُمْ فِيهِ} من العقيدة.

وقوله: {وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي عملهم بعبادة الأصنام أيضاً باطل زائل لا ثبوت له، فجمعوا بين بطلان العقيدة والعمل، ويحتمل أن يكون المعنى إنّ حالهم هالك وماضيهم باطل.

الرابع: قوله تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ}.

ص: 247


1- سورة التوبة، الآية: 40.

بعد أن أبطل موسى (عليه السلام) دين عبدة الأصنام بأنّه متبّر وباطل أراد تذكيرهم بعظمة اللّه تعالى، فعدّد أهم نعمه عليهم وفي ذلك دعوة لاستمرارعبادة اللّه تعالى من جهتين: إنّه القادر على ما يشاء فكيف تستبدلون به غيره، وإنّه أنعم عليكم فكيف تتركون شكره؟!

وقوله: {أَغَيْرَ ٱللَّهِ...} استفهام تقريع وتوبيخ وفيه تذكيرهم أيضاً.

وقوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ} بيان نعمته عليهم وهي من أعظم النعم حيث إنّ اللّه اختارهم لحمل دينه، فلو أطاعوه كان ذلك شكراً لهذه النعمة، وإن عصوه كان كفراناً يؤدّي بهم إلى أسفل سافلين فيكون رفضاً منهم لذلك التفضيل، كما في هذا بيان أنّه لا ينبغي لهم أن يفكّروا في اتّباع من هو دونهم، بل على العكس لا بد أن يكونوا قادة لهم يهدونهم إلى الرشاد.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذْ أَنجَيْنَٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ٱلْعَذَابِ...} الآية.

بيان أنّ اللّه تعالى دفع النقمة عنهم.

وقوله: {أَنجَيْنَٰكُم} هذا إمّا تتمة كلام موسى، فكأنّه يقول: أنا وأخي هارون أنجيناكم من آل فرعون بإذن اللّه تعالى فعليكم أن لا تعصوني، وأما التفضيل على العالمين فلم يكن موسى (عليه السلام) الواسطة فيه فلذا نسبه إلى اللّه سبحانه مباشرة، فالتفضيل من اللّه والإنجاء منّا بإذن اللّه تعالى!

وإمّا مع تغيير المتكلّم ففي الآية السابقة ينقل اللّه تعالى كلام موسى (عليه السلام) ، وفي هذه الآية يذكّرهم اللّه تعالى بفضله مباشرة.

ص: 248

وقيل: فيه التفات إلى اليهود المعاصرين للنبي محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جلباً لهم للإيمان، مع دلالته على ما قاله موسى (عليه السلام) لبني إسرائيل.

وقوله: {وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ...} الإشارة في (ذلكم) إمّا إلى العذاب والقتل والاستحياء ف(البلاء) يراد به الامتحان، وعظمته باعتبار صعوبته وصعوبة تحمّله، وإمّا إلى النجاة ف(البلاء) بمعنى النعمة لأنّه كما يكون في الشر يكون في الخير، قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(1).

ص: 249


1- سورة الأنبياء، الآية: 35.

الآيات 142-144

اشارة

{وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَٰهَا بِعَشْرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ 142 وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَىٰنِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ 143 قَالَ يَٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي فَخُذْ مَا ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ 144}

142- {وَوَٰعَدْنَا} جعلنا بيننا وبينه موعداً لإنزال التوراة عليه {مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً} هي ذو العقدة {وَأَتْمَمْنَٰهَا} زدنا الثلاثين {بِعَشْرٖ} من ذي الحجة {فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِ} الوقت المعين لإنزال التوراة {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ولعل هذه المدّة ليتهيّأ موسى (عليه السلام) للكتاب حيث أمضى هذه الفترة بالعبادة والمناجاة وليعلم الناس أهميّة الكتاب.

{وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ} قبل أن يخرج إلى الموعد: {ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} كن خليفتي عليهم في دينهم ودنياهم {وَأَصْلِحْ} شؤونهم {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ} لا تتخذ طريقة {ٱلْمُفْسِدِينَ}.

143- {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا} المكان والزمان الذي عيّناه له {وَكَلَّمَهُ

ص: 250

رَبُّهُ} بأن خلق الصوت ليسمعه موسى (عليه السلام) {قَالَ} موسى: {رَبِّ أَرِنِي}نفسك لكي {أَنظُرْ إِلَيْكَ} إنّما قال ذلك مع علمه بأنّ اللّه تعالى لا يُدرك بالحواس وتستحيل رؤيته لأنّ القوم طلبوا منه ذلك فأراد جوابهم، {قَالَ} اللّه سبحانه: {لَن تَرَىٰنِي} والنفي للتأبيد أي إلى الأبد لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ وذلك لاستحالة رؤية اللّه تعالى لأنّه ليس بجسم، {وَلَٰكِنِ} أراه اللّه تعالى شيئاً من عظمته قائلاً: {ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} حينما أتجلى له {فَسَوْفَ تَرَىٰنِي} فقد علّق الرؤية على المحال؛ إذ استقرار الجبل حال التجلّي مستحيل فكذلك رؤيته تعالى، {فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} بأن أظهر آية من آياته عليه وذلك بإظهار نور من عظمته {جَعَلَهُ} جعل الجبل {دَكًّا} مفتّتاً مدقوقاً {وَخَرَّ} سقط {مُوسَىٰ صَعِقًا} مغشيّاً عليه من هيبة ما رأى، {فَلَمَّا أَفَاقَ} من صعقته {قَالَ سُبْحَٰنَكَ} أنزّهك عن الرؤية {تُبْتُ إِلَيْكَ} توبة انقطاع وتضرّع ورجعت عن جهل قومي {وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ} بأنّك لا ترى فلم يكن طلبي إلاّ إبلاغ سؤال قومي لإجابتهم.

144- {قَالَ} اللّه: {يَٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ} اخترتك على وجه التفضيل {عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي} بأن جعلتك نبيّاً رسولاً {وَبِكَلَٰمِي} بأن كلّمتك فقد خصصتك بالرسالة والكلام دون سائر الناس، {فَخُذْ مَا ءَاتَيْتُكَ} لا تتوان فيه {وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ} لهذه النعمة.

قصة ميقات موسى (عليه السلام)

بحوث

الأوّل: هذه قصّة أخرى توحيديّة وفيها بيان أنّ للشرك عواقب وخيمة،

ص: 251

فحتى إبلاغ رسالة شركيّة لها آثار وضعيّة - وإن لم تكن عقوبة - ، كما أنّهذه القصّة كالمقدّمة لقصّة عبادة بني إسرائيل العجل وما عاقبه اللّه بهم في الدنيا من الغضب والذلّة، وقصّة السبعين رجلاً الذين طلبوا رؤية اللّه تعالى فعاقبهم بالرجفة، وليس في الآيات مذمّة ولا عقوبة لموسى (عليه السلام) لأنّه لم يفعل إلاّ ما ينبغي له حيث أوصل رسالة قومه لكن اللّه تعالى أراد أن يبيّن له ولهم ولمن تبلغة هذه القصّة عظمته وأنّه لا تمكن رؤيته وأنّ الأنبياء - فضلاً عن عامة الناس - لا يطيقون رؤية تجلّيه فكيف يريدون رؤيته؟!

الثاني: قوله تعالى: {وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَٰهَا بِعَشْرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.

كانت دعوة موسى (عليه السلام) في مصر دعوة توحيديّة لا تتضمّن شريعة خاصة ولا كتاباً خاصاً، لكن بعد خروجهم من مصر أراد اللّه أن ينزّل عليه الكتاب المتضمّن للشريعة وغيرها، فجعل له موعداً لتنزيل الكتاب دفعة واحدة - لا نجوماً - ، ولعلّ ذلك ليتهيّأ موسى (عليه السلام) للكتاب فإنّ اللّه تعالى يصطفي الرسل ويجعل فيهم القابليّة لحمل الرسالة والكتاب إلاّ أنّه تعالى ولمصالح يجعل فعليّة تلك القابليّة عبر العبادة والمناجاة، أو أراد اللّه تعالى بيان أهمية الكتاب لبني إسرائيل بحيث يحتاج تنزيله إلى فترة عبادة النبي، أو أراد اللّه امتحان بني إسرائيل فكان ذلك بغيبة موسى (عليه السلام) هذه الفترة، واللّه العالم.

وقوله: {وَوَٰعَدْنَا} المواعدة هي ضرب الوقت من الطرفين فكأنّ اللّه تعالى وعد موسى بتنزيل الكتاب، وموسى (عليه السلام) وعد بأن يأتي إلى الطور لتسلّمه.

وقوله: {ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً} في التقريب: «لعلّ ذكر ليلة دون اليوم لأجل أنّ

ص: 252

الليل أقرب إلى المناجاة، فإنّ الظلمة تشع في النفس الانقطاع والخوف والرجاء ممّا يجعل الإنسان أقرب إلى اللّه سبحانه من النهار ولذا كان العبّاد يتّخذونها ميقاتاً لعبادتهم»(1).

وقوله: {وَأَتْمَمْنَٰهَا بِعَشْرٖ} التمام هو الجزء الذي يتم به الشيء أي الأجزاء الأخيرة منه، فالثلاثين لم تكن كاملة إلاّ بإتمامها بالعشر؛ وذلك لأنّ الثلاثين كانت فترة عبادة ومناجاة ثمّ بعدها ينزّل الكتاب في عشرة ليال، فكان هناك أمران، وقد أخبره اللّه تعالى بالأوّل وسكت عن الثاني وذلك لمصلحة امتحان بني إسرائيل، فالمواعدة كانت بثلاثين ثمّ أضاف اللّه تعالى عشرة من غير مواعدة، وبعبارة أخرى: المواعدة كانت على أنّه يتسلم الكتاب بعد الثلاثين ولم يتم تعيين مدّة لهذا التسلّم.

وقوله: {فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} الميقات هو الوقت المعين للشيء سواء كان زماناً أو مكاناً، ولا بد أن يكون قد قدّر ليعمل فيه عمل من الأعمال(2)، وهذا المقطع لبيان أنّ الميقات المقدّر كان من الأوّل أربعين ليلة إلاّ أنّ المواعدة كانت ثلاثين، فليس هنالك بداء بالزيادة.

خلافة هارون (عليه السلام) ووصايا موسى (عليه السلام) له

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ}.

بيان أنّ موسى (عليه السلام) لم يترك بني إسرائيل من غير إمام يسوسهم رغم أنّ مدّة غيابه لم تكن طويلة؛ إذ لا يصلح أمر الناس إلاّ بإمام يسوسهم، ولذلك

ص: 253


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 238.
2- راجع مجمع البيان 4: 493.

لم يترك الأنبياء أممهم من غير وصي فيهم.

وقوله: {لِأَخِيهِ هَٰرُونَ} ذكر اخوّتهما - مع كون اخوّتهما النسبيّة معلومة - لعلّه للتنبيه على أنّ المهمّة لا يمكن أن يقوم بها إلاّ من هو أخو النبي، ليست مجرد أخوّة في النسب وإنّما الأخوّة في المنزلة، ولعلّه من هذا المنطلق بيّن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخوّة علي (عليه السلام) له متزامناً مع بيان خلافته له.

وفي الآية دلالة على أنّ الإمامة منفصلة عن النبوّة(1)؛ لأنّ هارون كان نبيّاً ولم يكن إماماً إلاّ أنّ موسى (عليه السلام) جعله إماماً حال غيابه، وقد مرّ أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان نبيّاً رسولاً من باكورة عمره إلاّ أنّ اللّه جعله إماماً في أواخر حياته.

ثمّ إنّ موسى (عليه السلام) أوصى هارون (عليه السلام) بثلاثة أمور:

1- قوله: {ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي كن خليفة لي عليهم بأن يقوم بما كان يقوم به موسى من تنظيم أمورهم وقيادتهم دينيّاً ودنيويّاً.

2- وقوله: {وَأَصْلِحْ} إمّا بمعنى أصلح بينهم لو تنازعوا، وإمّا بمعنى اعمل بالصلاح فيهم، فإنّ الرئيس قد يصلح وقد يترك شؤونهم، فأمره موسى (عليه السلام) بالإصلاح.

3- وقوله: {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ} هذا إمّا تأكيد؛ إذ إنّ الإصلاح يلازم عدم الإفساد، وإمّا بمعنى أن يكون الإصلاح بطريقة صحيحة؛ إذ البعض يريد الإصلاح عن طريق الجور والفساد، لكن هذا مرفوض دينيّاً

ص: 254


1- مجمع البيان 4: 495.

لأنّ الغاية لا تبرّر الوسيلة، ولا يطاع اللّه من حيث يُعصى، ولعلّه إشارة إلىأنّ المفسدين يعملون أعمالاً للوصول إلى مبتغاهم وهي أعمال باطلة عادة كالتفرقة بين الناس وجعلهم شيعاً، فأنت يا هارون لا تتّخذ أساليبهم بل اتّبع الأساليب الحقّة حتى لو لم تصل إلى مبتغاك فإنّ الغرض هو إحقاق الحق لا عمل الباطل، ولذا كان من جواب هارون لموسى (عليهما السلام) : {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}(1)، وذلك بعد أن عمل ما باستطاعته لإرشادهم بعد أن تمرّدوا عليه، قال: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَٰرُونُ مِن قَبْلُ يَٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمْرِي}(2)، وكان هارون (عليه السلام) منزّهاً عن الفساد إلاّ أنّ قول موسى (عليه السلام) كان تذكيراً له وتنبيهاً للناس فكان ذلك إرشاداً لهم أيضاً.

استحالة رؤية اللّه تعالى

الرابع: قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَىٰنِي}.

رؤية اللّه بالعين مستحلية؛ لأنّ المرئي لا بد أن يكون جسماً كثيفاً كي يصطدم النور به ويرجع عنه لتلتقط العين تلك الأمواج النوريّة، كما لا بد أن يكون محدوداً بحدود لكي تُمكن رؤيته، وأن يكون في الجهة المقابلة وغير ذلك مما ذكر في علم الفيزياء، واللّه تعالى منزّه عن الجسم والجهة والحد فلذا تستحيل رؤيته، وأمّا رؤية القلب فهي اليقين به وهذا أمر حاصل لأولياء اللّه تعالى في الدنيا والآخرة فهم يعلمون بوجوده يقيناً لا شك فيه.

ص: 255


1- سورة طه، الآية: 94.
2- سورة طه، الآية: 90.

نعم، لليقين درجات قابلة للزّيادة، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «لوكشف الغطاء ما ازددت يقيناً»(1)،

وهذه الدرجات إمّا في اليقين نفسه، وإمّا باعتبار قوة أسبابه، وإمّا لجهات أخرى.

وغير خفي أنّ موسى (عليه السلام) من أنبياء أولى العزم فمعرفته باللّه تعالى أكثر من سائر الناس فطلبه الرؤية لا يمكن أن يريد به الرؤية بالعين لنفسه، فقد قيل: إنّه طلب معرفة اللّه بكنه حقيقته، لكن هذا خلاف ظاهر الآية وسياقها مضافاً إلى أنّ الأنبياء يعلمون باستحالة إدراك كنه اللّه وحقيقته فلا يكون للطلب حينئذٍ معنى.

بل الصحيح أنّ قوم موسى (عليه السلام) هم الذين طلبوا منه أن يدعو اللّه ليُريه نفسه كما أسمعه كلامه، فأراد موسى (عليه السلام) جواباً من اللّه لطلبهم هذا، فكان الجواب باستحالة الرؤية وأنّه لا يطيق حتى التجلّي، فلمّا أجابهم موسى (عليه السلام) بذلك عاندوا وطلبوا أن يروا اللّه جهرة فعاقبهم اللّه بعذاب الصاعقة فأهلكهم ثمّ بدعاء موسى أحياهم كما سيأتي في الآية 155.

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) - في ما دار من حوار بين موسى وقومه - قال: «فقالوا إنّك لو سألت اللّه أن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته؟ فقال موسى (عليه السلام) : يا قوم، إنّ اللّه لا يُرى بالأبصار ولا كيفيّة له، وإنّما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه. فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله. فقال موسى (عليه السلام) : يا رب، إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم

ص: 256


1- عيون الحكم والمواعظ: 415.

بصلاحهم. فأوحى اللّه جل جلاله إليه: يا موسى، سلني ما سألوك فلنأؤاخذك بجهلهم. فعند ذلك قال موسى (عليه السلام) : {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ...}»، الحديث(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس، ولا يدرك بالحواس، ولا يشبّه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك اللّه لا إله إلاّ هو»(2).

وقوله: {أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي أرني نفسك لأنظر إليك، والإراءة هي رفع الحواجب عن الشيء المرئي ليتمكّن الناظر من رؤيته، ولذا يصح أن تقول: أريته فلم ينظر، وعليه فليس قوله: {أَنظُرْ إِلَيْكَ} تكراراً لقوله: {أَرِنِي}.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَىٰنِي...} الآية.

إنّ جواب القوم بأن اللّه تعالى قال: {لَن تَرَىٰنِي} لم يكن كافياً لهم ولا لغيرهم من ضعاف الإيمان.

ولذا أراد اللّه تعالى إقناعهم بطريقة تناسب عقول الجميع - عالمهم وجاهلهم - فإنّ بعض البراهين تنفع العلماء فقط ولا يدركها غيرهم، ولذا قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَٰؤُاْ}(3)، وبعضها على رغم دقّتها

ص: 257


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 200؛ التوحيد: 121؛ عنهما البرهان في تفسير القرآن 4: 182-183.
2- الكافي 1: 97.
3- سورة فاطر، الآية: 28.

وعمقها يفهمها الجميع - عالمهم وجاهلهم - ؛ لأنّ اللّه سبحانه يسّر فهمهاوألقاها في العقول والفطرة، ولذا تجد الآيات التوحيديّة قابلة لفهم من يعرف اللغة العربيّة على رغم عمق مطالبها، فالقرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق.

والطريقة التي أرادها اللّه تعالى في إفهامهم عدم إمكان رؤيته هي بيان عدم قابليّة المخلوق لرؤية بعض آيات اللّه الكبرى فكيف يريدون رؤيته سبحانه وتعالى؟! وذلك بأن أظهر اللّه جزءاً يسيراً من نور عظمته - وهو مخلوق له - فتدكدك الجبل وغشي على موسى (عليه السلام) .

وروى عاصم بن حميد، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ذاكرت أبا عبد اللّه (عليه السلام) في ما يروون من الرؤية، فقال: «الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزءاً من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزءاً من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب»(1).

وقوله: {فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَىٰنِي} تعليق الرؤية على ما لا يمكن، فإنّ استقرار الجبل - بما هو جبل - حين التجلّي مستحيل فكذلك الرؤية، وهذا نظير ما مر من قوله: {وَلَا يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ}(2)، وقوله: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْعَٰبِدِينَ}(3).

وزعم بعض المجسّمة أنّ استقرار الجبل حين التجلّي ممكن إلاّ أنّ اللّه

ص: 258


1- الكافي 1: 98.
2- سورة الأعراف، الآية: 40.
3- سورة الزخرف، الآية: 81.

لم يرد استقراره! والجواب أنّ الجبل مع كونه جبلاً صخرّياً يستحيلاستقراره حينئذٍ إلاّ بأن يغيّر اللّه حقيقته فيخرج عن كونه جبلاً، كما أنّ ولوج الجمل في سم الخياط مع كونه سم الخياط محال إلاّ أن يوسّعه اللّه تعالى فيخرج عن كونه سم الخياط.

وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} أي أظهر اللّه عظمته عليه وذلك بإظهار آية من آياته، و(الجلاء) بمعنى ظهور الشيء وانكشافه، وفي المفردات: «والتجلّي قد يكون بالذات نحو: {وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ}(1)، وقد يكون بالأمر والفعل نحو: {فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}»(2).

وقوله: {وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا} الصعقة بمعنى الغشية أي وقع موسى مغشيّاً عليه، وقيل: مات، وهذه الآية كانت أعظم من معاجز موسى بالعصا واليد البيضاء ورفع الطور وفلق البحر وغيرها، ولذا تحمّل موسى تلك ولم يتحمّل هذه.

وقوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ} توبته لم تكن عن ذنب وإنّما هي رجوع إليه بالانقطاع والتضرّع، وفي التقريب: «ولم يكن ذلك توبة عن ذنب، بل إنّه على وجه الانقطاع والتخضّع، فإنّ الإنسان إذا رأى الأمور الجليلة يذكر اللّه بالتسبيح والتقديس والاستغفار، والسر أنّ هذه الألفاظ صارت إعلاماً للخضوع والخشوع، لكثرة ما استعملت فيهما، ومنه الحديث كان النبي يستغفر من غير ذنب(3)، وإن شئت قلت: إنّه إنشاء مفهوم التوبة بداعي

ص: 259


1- سورة الليل، الآية: 2.
2- المفردات للراغب: 200.
3- وسائل الشيعة 16: 85.

التعظيم، كما أن أدوات الاستفهام في كلامه سبحانه هي لإنشاء مفهوم الاستفهام بداعي آخر كالمفاضلة»(1).

وقوله: {وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ} إمّا حال أي تبت إليك حال كوني أوّل المؤمنين، أو عطف أي تبتُ وآمنت قبل غيري، ولعلّ هذا لبيان أنّ طلبه الرؤية لم يكن لنفسه كيف وهو أسبق من غيره في الإيمان.

السادس: قوله تعالى: {قَالَ يَٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي...} الآية.

كأنّه بيان أنّه يكفيك ما أعطيتك فاشكر اللّه عليه ولا تطلب المستحيل بالرؤية.

وقوله: {ٱصْطَفَيْتُكَ} الاصطفاء أخذ صفو الشيء بأن يكون خالياً من الكدر والنقص، واصطفاء اللّه تعالى هو خلقه له كاملاً بحيث كان محلّاً قابلاً للرسالة، وإذا تعدّى الاصطفاء ب(على) فمعناه التفضيل، فالمعنى اخترتك مفضِّلاً لك على الناس، وقد مر بيانه في سورة آل عمران(2).

وقوله: {بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي} الرسالة للناس، والكلام لنفسه، أي إنّ اللّه فضّل موسى بأن جعله رسولاً للناس ومن ذلك تنزيل الكتاب عليه ليتلوه على الناس، كما كلّمه تعالى ولم يكلّم غيره، ومن المعلوم أنّ المراد تفضيله على عامّة الناس بالأمرين، وهذا لا ينافي اصطفاء أنبياء آخرين بالرسالة في زمانه كهارون (عليه السلام) كما قال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَٰرُونَ

ص: 260


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 241-242.
2- التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 121.

بَِٔايَٰتِنَا وَسُلْطَٰنٖ مُّبِينٍ}(1)، كما لا ينافي كلامه تعالى مع رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المعراج؛ إذ المراد من الناس عامة الناس غير الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) .

كلام اللّه تعالى بخلق الصوت

ثمّ إنّ كلام اللّه هو صوت يخلقه اللّه تعالى فيُسمعه من يشاء من خلقه، أمّا كيفيّة هذا الصوت وماذا يتضمّنه وكيفية فهمهم له فغير معلوم لنا وإن كانت الروايات أشارت إلى بعض جوانبه، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «فكلّمه اللّه تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام؛ لأنّ اللّه أحدثه في الشجرة ثمّ جعله منبعثاً منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه»(2)، وقيل: هو كلام من كل الجهات و بكل الجهات، وهذا الصوت يختلف عن الأصوات التي قدّرها اللّه في الأشياء كصوت ارتطام حجر بحجر فإنّها أصوات لا معاني لها وهي من عالم الشهود، وأمّا الكلام المخلوق فهو بكيفيّة خاصة وله معاني وهو من عالم الغيب.

وقوله: {فَخُذْ مَا ءَاتَيْتُكَ}، أي ما أنزلنا عليك من التوراة، والفاء للتفريع أي حيث اصطفيتك بالرسالة والكلام فعليك أن تقابل هذه النعمة العظيمة بأخذها وبشكرها، أمّا أخذها فهو قبول المهمة الملقاة على عاتقه والعمل حسب مقتضاها من تبليغها ومراقبة عمل الناس بها.

وقوله: {وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ} الشكر هو الإقرار بالنعمة وذلك بالقلب بعرفان المنعم، وباللسان بالثناء عليه، وبالجوارح بالعمل طبق تلك النعمة

ص: 261


1- سورة المؤمنون، الآية: 45.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 182؛ عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 200؛ والتوحيد: 121.

وعدم كفرانها.

والحاصل أنّ اللّه بيّن له أنّ تجليه للجبل وسقوط موسى (عليه السلام) مغشيّاً عليه، لا ينقص من قدره شيئاً؛ وذلك لأن اللّه اصطفاه على الناس ومن يصطفيه اللّه لا يكون فيه نقص، وبذلك يتبيّن أنّ طلب الرؤية لم يكن لنفسه وإنّما نقل سؤال الناس لها، وهذا الاصطفاء سبب لثقل المسؤوليّة وزيادة الشكر عليه.

ص: 262

الآيات 145-147

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ فَخُذْهَا بِقُوَّةٖ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَٰسِقِينَ 145 سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ 146 وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَلِقَاءِ ٱلْأخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 147}

ثمّ بيّن اللّه تعالى ما أنزله على موسى (عليه السلام) في الميقات الذي دام أربعين يوماً، فقال:

145- {وَكَتَبْنَا لَهُ} لموسى {فِي ٱلْأَلْوَاحِ} التي نزلت من السماء {مِن كُلِّ شَيْءٖ} ممّا يحتاجون إليه {مَّوْعِظَةً} وهو الكلام الذي يرق له القلب، والمعنى كتبنا الموعظة الناشئة من كل شيء، {وَ} كتبنا فيها {تَفْصِيلًا} توضيحاً {لِّكُلِّ شَيْءٖ}، فالمعنى إنّ التوراة تتضمّن الموعظة من كل شيء والتوضيح لكل شيء. {فَخُذْهَا} أي فقلنا لموسى خذ الألواح {بِقُوَّةٖ} بجد وعزيمة {وَأْمُرْ قَوْمَكَ} بني إسرائيل {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي أحسن ما فيها وهي فعل الواجبات وترك المحرّمات، أمّا سائر الأمور فهم في فسحة منها، ثمّ هدّد اللّه العصاة منهم فقال: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَٰسِقِينَ} هي جهنّم، أو

ص: 263

الدار كناية عن العاقبة في الدنيا والآخرة.

146- أمّا في الدنيا: ف{سَأَصْرِفُ} أبعّد وأردّ {عَنْ ءَايَٰتِيَ} بأن أطبع على قلوبهم فلا يفقهوا الآيات ولا يؤمنوا بها {ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} بأن تكبّروا على الأنبياء وعلى المؤمنين {وَ} هم معاندون؛ إذ {إِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٖ} معجزة {لَّا يُؤْمِنُواْ بِهَا} لا يصدّقونها، {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ} وهو طريق الهداية {لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} لهم فلا يسلكوه، {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ} وهو طريق الضلال {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} لهم فيسلكوه، وهذا دليل على شدّة عنادهم وجهلهم فاستحقّوا عقوبة الخذلان، {ذَٰلِكَ} الصرف عن الآيات {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنّهم {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} في معتقدهم ولسانهم {وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ} في عملهم فلا يتّعظون بها.

147- {وَ} أما عقوبة الآخرة: ف{ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَلِقَاءِ ٱلْأخِرَةِ} أي ملاقاة الحساب والجزاء فأنكروا البعث {حَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَٰلُهُمْ} الحسنة، وذلك الحبط ليس ظلماً لهم؛ إذ {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي عملهم وهو التكذيب جزاؤه حبط أعمالهم فهم الذين ظلموا أنفسهم بسوء عملهم.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ...} الآية.

هذه الآيات تتمة لقصّة موسى (عليه السلام) في الطور حيث بقي أربعين يوماً

ص: 264

فأنزل اللّه تعالى عليه التوراة، وبيان أنّ التوراة تشتمل على المواعظوالأحكام وغيرها، وأنّ اللّه تعالى أمر موسى (عليه السلام) بأخذ التوراة بقوّة وذلك بتبليغها والعمل بها، وقال له أن يأمر بني إسرائيل بأن يعملوا بالأحكام الإلزاميّة التي فيها، ثمّ حذّر اللّه تعالى المخالفين بعقابهم.

وقوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ} يدل على أنّ التوراة نزلت مكتوبة، فإمّا خلقها اللّه مكتوبة بقدرته، أو أمر بعض الملائكة بكتابتها.

وقوله: {ٱلْأَلْوَاحِ} اللوح هو قطعة مسطّحة من الخشب أو الحجر أو نحوهما، روي أنّها كانت من زمرّد أو زبرجد(1).

وقوله: {مِن كُلِّ شَيْءٖ} في محل مفعول {كَتَبْنَا} و«من» إمّا للتبعيض وكأنّ المراد القواعد العامّة والخطوط العريضة لكل ما يحتاجون إليه، أو ابتدائيّة فالمعنى وكتبنا له في الألواح المواعظ من كل شيء.

وقوله: {مَّوْعِظَةً} بدل عن {كُلِّ شَيْءٖ}.

وقوله: {وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ} عطف الجملة على الجملة فيكون معطوفاً على قوله: {مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْعِظَةً}، أي وكذلك كتبنا تفصيلاً لكل شيء، وقيل: {وَتَفْصِيلًا} عطف على {مَّوْعِظَةً} عطف الكلمة على الكلمة أي وكتبنا الموعظة والتفصيل، أو أن يكون {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا} حال أي كتبنا من كل شيء حال كونه موعظة وتفصيلاً لكل شيء، والأوّل أقرب.

ثمّ إنّ قوله: {مِن كُلِّ شَيْءٖ} وقوله: {لِّكُلِّ شَيْءٖ} هو بمعنى أنّا كتبنا بعض

ص: 265


1- بصائر الدرجات: 141؛ والبرهان في تفسير القرآن 4: 189؛ مجمع البحرين 2: 410.

الأمور التي تتضمّن تفصيلاً لكل شيء، فإنّ القواعد العامّة يستنبطمنها كل شيء.

وقوله: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٖ} أي خذ جميع الألواح فإنّك مأمور بتبليغها كلّها والعمل بما فيها كلّه، والأخذ بقوّة بمعنى الجد والعزيمة وعدم التواني.

وقوله: {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} فإنّ الناس ليسوا مأمورين بالعمل بكل ما فيها، بل يلزمهم العمل بالواجبات وترك المحرّمات الواردة فيها، وأمّا ما سوى ذلك فهم بالخيار، فأحسن ما في الكتاب هو الأحكام الإلزاميّة؛ لأنّ فيها المصلحة الملزمة وترك المفسدة الشديدة ويترتّب عليها الثواب الأكثر، كما قال سبحانه: {وَٱتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم}(1)، وقيل: أحسن ما فيها يقابل المباحات فإنّ الواجبات والمستحبات والفضائل وترك المحرّمات والمكروهات والرذائل أحسن من العمل بالمباحات.

وقوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَٰسِقِينَ} تحذير من عدم العمل بها؛ فإنّ الفاسق هو الخارج عن الطاعة، ودار الفاسقين إمّا جهنّم فالمعنى جميعكم سترون جهنّم فالمطيع ينجيه اللّه منها فلا يدخلها والفاسق سيلقى فيها فتكون داره كما قال: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ}(2)، وإمّا هو كناية عن دركاتهم ومكانهم في الدنيا والآخرة وحينئذٍ تكون الآيتان التاليتان بياناً لهذه الدار.

الثاني: قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ

ص: 266


1- سورة الزمر، الآية: 55.
2- سورة التكاثر، الآية: 5-7.

ٱلْحَقِّ...} الآية.

بيان عقوبة الرافضين للآيات في الدنيا، وذلك بالطبع على قلوبهم.

وقوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِيَ} الصرف هو الإبعاد والرد، فآيات اللّه تعالى تؤثّر في قلوب غير المعاندين، قال سبحانه: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ}(1)، وقال سبحانه: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(2)، وأمّا المعاندون فيطبع اللّه تعالى على قلوبهم فلا تنفذ فيها الآيات، عقوبةً لهم وتنزيهاً لتلك الآيات.

وقوله: {يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلْأَرْضِ} كأنّ المراد الإفساد في الأرض، أو التكبّر على المستضعفين مما يؤدّي بهم إلى عدم الإيمان بالرسل تكبّراً عليهم، أو الاستكبار على آيات اللّه تعالى بأن يروا أنفسهم أكبر وأعلى من الإيمان بها، وقيل: المعنى صرفهم عن النيل منها وإبطالها فلا يتمكّنون من ذلك لأنّ اللّه يحق الحق بكلماته ولو كرهوا، والأوّل أنسب.

وقوله: {بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} قيد توضيحي لبيان شناعة عملهم وأنّ تكبّر الإنسان لا يكون إلاّ بالباطل.

وقوله: {وَإِن يَرَوْاْ...} بيان عنادهم وسوء عملهم.

ص: 267


1- سورة المائدة، الآية: 82-83.
2- سورة الزمر، الآية: 23.

وقوله: {سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ} الرشد هو الطريق الموصل إلى الهداية، فإضافةالسبيل إليه إضافة بيانيّة أي سبيل هو طريق الهداية.

وقيل: الرشد هنا بمعنى النمو أي الطريق الموصل إلى النمو حيث إنّ الإيمان يوجب نمو الأعمال، والأوّل أقرب.

وقوله: {سَبِيلَ ٱلْغَيِّ} الغي هو طريق الضلال، والإضافة كذلك بيانيّة.

وقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ...} أي ذلك الصرف عقوبة لتكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها.

وقوله: {وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ} أي كالغافل لا يتفكّرون فيها ولا يتّعظون بها ولا يعملون بمقتضاها، وغير خفي أنّ الغفلة عنها من لوازم التكذيب بها.

الثالث: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَلِقَاءِ ٱلْأخِرَةِ حَبِطَتْ...} الآية.

بيان عقوبتهم في الآخرة وهو بطلان أعمالهم الحسنة بحيث لا يكون لهم ثواب عليها، وهذا الحبط هو جزاء عملهم وليس ظلماً لهم.

وقوله: {وَلِقَاءِ ٱلْأخِرَةِ} اللقاء هو مواجهة ومقابلة بين شيئين، ولقاء الآخرة إمّا من الإضافة إلى المفعول أي لقاؤهم الآخرةَ، أو بمعنى (في) أي لقاء أعمالهم في الآخرة، والحاصل كانوا يكذّبون بالنشور والبعث والجزاء.

وقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ} الحبط هو البطلان وذهاب الأثر، وقد مرّ الكلام فيه.

وقوله: {هَلْ يُجْزَوْنَ} استفهام تقريري.

وقوله: {إِلَّا مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جزاؤهم موافق لعملهم فالحبط ليس

ص: 268

ظلماً لهم، قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءًمَّنثُورًا}(1)، وقال: {جَزَاءً وِفَاقًا}(2).

ص: 269


1- سورة الفرقان، الآية: 23.
2- سورة النبأ، الآية: 26.

الآيات 148-154

اشارة

{وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًاۘ ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَٰلِمِينَ 148 وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ 149 وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ ٱلْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ 150 قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ 151 إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ 152 وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّئَِّاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ 153 وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ 154}

ثمّ بيّن اللّه تعالى قصّة انحراف بني إسرائيل عن التوحيد وعقاب اللّه تعالى لهم، فقال:

148- {وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ} صنعوا للعبادة {مِن بَعْدِهِ} بعد موسى حينما ذهب للطور وتأخّر عن الثلاثين ليلة إلى الأربعين {مِنْ حُلِيِّهِمْ} ما يتزيّنون به من الذهب والفضّة {عِجْلًا} صنماً على تمثال عجل {جَسَدًا} لا روح

ص: 270

فيه {لَّهُ خُوَارٌ} وهو صوت البقر، وكان هذا الصوت من التراب الذي قبضه السامري من تحت حافر فرس جبرئيل حين عبور البحر وهو تراب يتحرّك بطبعه فيحدث جلبة. {أَلَمْ يَرَوْاْ} استفهام إنكاري تقريعاً لهم على سفاهتهم{أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} غير قادر على الكلام فهو دون البشر فكيف اتخذوه إلهاً {وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًاۘ} لا ينفعهم مع أنّهم علموا أنّ اللّه تعالى كلّم موسى وهداهم إلى الصراط السوي فهو القادر النافع الضار، {ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَٰلِمِينَ} لأنفسهم وواضعين الشيء في غير موضعه.

149- {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} كناية عن اشتداد ندمهم وكان ذلك بعد أن تفاجئوا بمجيء موسى {وَرَأَوْاْ} علموا {أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} باتخاذهم العجل {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} بقبول التوبة {وَيَغْفِرْ لَنَا} ذنبنا بعبادة العجل {لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ} الذين خسروا أنفسهم واستحقّوا العقاب.

150- {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ} من الطور {إِلَىٰ قَوْمِهِ} حال كونه {غَضْبَٰنَ} منهم {أَسِفًا} متحسّراً وحزيناً على فعلهم {قَالَ} لهم: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي} أي بئسما صنعتم خلفي {مِن بَعْدِي} أي بعد ذهابي {أَعَجِلْتُمْ} استفهام إنكاري أي كيف استعجلتم {أَمْرَ رَبِّكُمْ} في تنزيل الألواح حيث أردتم أن يكون بعد الثلاثين ليلة، وكان ذلك استعجالاً لوعد اللّه في تنزيلها مع أنّه أراد تنزيلها بعد الأربعين ليلة، {وَأَلْقَى ٱلْأَلْوَاحَ} على الأرض لإظهار نفرته وانزجاره عن فعلهم وكان ذلك من شدّة حميّته على الدين، {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} هارون {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} إظهاراً لبرائتهما منهم وأنّه ينبغي لهارون أن لا

ص: 271

يكون فيهم، {قَالَ} هارون بياناً لعذره: يا {ٱبْنَ أُمَّ} ذكر أمّهما استعطافاً وتسكيناً لغضب موسى {إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي} عدّوني ضعيفاً {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} لمّا شدّدتُ النكير عليهم {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ ٱلْأَعْدَاءَ} أي لا تصنع بيما يوجب سرور أعدائنا {وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ} بأن تؤاخذني كما تؤاخذ {ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بعبادة العجل.

151- {قَالَ} موسى على وجه الانقطاع إلى اللّه سبحانه: يا {رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} استر علينا {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} بمزيد من الإنعام {وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ} فلذا تستجيب دعائي.

152- ثمّ بيّن اللّه عقوبة عبدة العجل فقال: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ} إلهاً يعبدونه من دون اللّه {سَيَنَالُهُمْ} سيلحق بهم {غَضَبٌ} عقوبة {مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ} أي وكما جازيناهم بهذا الصنيع {نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ} الذين يتّخذون للّه شريكاً افتراءً عليه، ولم يذكر عذاب الآخرة لأنّ الغرض الأصلي في السورة بيان عذاب الدنيا.

153- {وَ} لكن إن تابوا تاب اللّه عليهم ف{ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّئَِّاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا} بعد السيئات {وَءَامَنُواْ} رجعوا إلى الإيمان كما تاب بعض عبدة العجل من عبادته ورجعوا إلى التوحيد ف{إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} بعد التوبة {لَغَفُورٌ} لذنوبهم {رَّحِيمٌ} يرحمهم بفضله بالثواب والجنّة.

154- {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ} أي سكن، فكأنّ الغضب كان يتكلّم على لسان موسى وذلك بعد أن تابوا وعوقبوا {أَخَذَ ٱلْأَلْوَاحَ} رفعها

ص: 272

عن الأرض وجعلها دستوراً لهم {وَفِي نُسْخَتِهَا} أي الكتابة التي في الألواح {هُدًى} هداية إلى الحق {وَرَحْمَةٌ} نعمة ومنفعة {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي يخشون اللّه وذلك بالعمل بها، وأمّا من لم يعمل بها فزادته خساراً.

قصة عبادة بني اسرائيل للعجل

بحوث

الأوّل: تتضمّن هذه الآيات قصّة توحيديّة أخرى مع بيان عقوبة المشركين الذين خالفوا رسل اللّه تعالى، فإنّ بني إسرائيل فترة غياب موسى (عليه السلام) صنعوا صنماً على تمثال عجل من زينتهم - من الذهب والفضّة - وقد خالفوا أمر اللّه تعالى حيث استعجلوا نزول التوراة فلمّا لم تنزل في الثلاثين يوماً بادروا إلى ترك التوحيد وعبدوا العجل، وأمّا مخالفتهم للرسل فقد خالفوا موسى (عليه السلام) أوّلاً حيث أساؤوا خلافته، وخالفوا هارون (عليه السلام) ثانياً حيث استضعفوه وكادوا أن يقتلوه، وأمّا عقوبتهم الدنيويّة فهي غضب اللّه عليهم بتشريعه قتل عبدة العجل وذلّتهم في الدنيا، ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّه يغفر ويرحم من تاب منهم وآمن، كما تتضمّن الآيات موقف موسى (عليه السلام) منهم بالغضب والأسف، وموقفه من هارون (عليه السلام) لتبرئته من فعلتهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ...} الآية.

وذلك لمّا أتم اللّه ميقاته أربعين ليلة وكانوا يظنّون أنّ موسى سيرجع إليهم بعد ثلاثين ليلة، فلمّا تأخّر عنهم زعموا أنّه مات فأظهروا الكامن في أنفسهم من حب عبادة الأصنام، وهذا دأب غالب الناس غير الكاملين عقلاً

ص: 273

وديناً حيث إنّ وجود سلطة قويّة على رؤوسهم تكون سبباً لالتزامهم بحيث لو زالت أظهروا فساد باطنهم، ولذا في الأماكن الذي تسقط الدولة نجدالكثير يشتغل بالنهب والقتل ومخالفة القانون ممّا لم يكن يفعله حين بسط السلطة، وأمّا العاقل الكامل فيلتزم بالمكارم والقانون سواء كانت هناك سلطة فوقه أم لم تكن، وبنو إسرائيل كانوا سنوات طوال تحت سيطرة آل فرعون الذين كانت لهم أصنام كثيرة كما كان عامّة الناس عبدة أصنام والضعيف يتأثّر بالقوي وخاصّة إذا كان القوي يملك السلطة والمال وسائر أنواع القوة، كما أنّ نفوسهم بسبب طول الاستعباد والذل صغرت ولأجل ذلك كانوا يطيعون موسى (عليه السلام) حينما كان قائماً عليهم رغم أنّهم كانوا يظهرون نوعاً من التمرّد والإشكال عليه، فلما غاب أظهروا مكنون نفوسهم.

وقوله: {مِنْ حُلِيِّهِمْ} حُلِيّ جمع حَلْي وهو ما يُتزيّن به من الذهب والفضّة.

وقوله: {جَسَدًا} الجسد هو جسم الحيوان ويقابله الروح، فالمعنى أنّ ذلك العجل لم يكن فيه روح وإنّما كان مجرد تمثال، فذكر كونه جسداً يفيد أنّ عجلهم لم يكن حيّاً، وفيه تسخيف لعقولهم حيث عبدوا جماداً.

وقوله: {لَّهُ خُوَارٌ} وهو صوت البقر، وهذا من تمويهات السامري - صانع العجل - عليهم فإنّه لمّا عبروا البحر رأى جبرئيل راكباً على فرس يمشي خلفهم ورأى أنّ الرمل الذي يضع الفرس حافره عليه يتحرّك ولا يسكن فقبض السامري قبضة منه، وكان هذا الرمل يتحرّك دائماً فوضعه في داخل العجل، ثمّ صنع العجل بكيفيّة بحيث إنّ أصوات حركة الرمل كانت تخرج

ص: 274

على نغمة خوار العجل، قال سبحانه: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُقَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(1).

وقوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ...} استفهام إنكاري وذلك لأنّهم كانوا يعلمون أنّ اللّه تعالى كلّم موسى (عليه السلام) وأنّه هداهم إلى الصراط المستقيم، فكيف يكون العجل إلهاً وهو غير قادر على أن يكلّمهم وغير قادر على نفعهم فهو دونهم لأنّه تمثال لا حياة له بل دون الحيوانات العجماء فلئن كان له خوار فلها أصوات مع كونها حيّة، فلو كان إلهاً لم يكتف بالخوار بل كان قادراً على أن يكلّمهم.

فقوله: {لَا يُكَلِّمُهُمْ} بيان عدم قدرته، وقوله: {لَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًاۘ} بيان عدم نفعه لهم، فكيف يكون مَن شأنه هذا إلهاً؟! وفي سورة طه: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}(2).

وقوله: {وَكَانُواْ ظَٰلِمِينَ} أي عملهم هذا باتخاذ العجل كان ظلماً لأنفسهم ولغيرهم، وقيل: هذا بيان أنّهم كانوا ظالمين من قبل فلذا اتخذوه، فقد تعوّدوا على الظلم فلم تكن عبادتهم للعجل أوّل بدعة لهم.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ...} الآية.

بيان أنّهم ندموا على فعلتهم، وكان هذا بعد رجوع موسى (عليه السلام) وإحراقه العجل ونسفه، لكن قدّمه اللّه في الذكر لأنّه من تتمّة دليل عدم كون العجل

ص: 275


1- سورة طه، الآية: 96.
2- سورة طه، الآية: 88-89.

إلهاً حيث أوجب ضلالاً وخسراناً، وبيان أنّ الإله هو اللّه الذي بيده النفع والضر.

وقوله: {لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} كناية عن ظهور بطلان عملهم وانكشاف الحقيقة لهم بحيث بهتوا ولم يتمكّنوا من تبرير عملهم، وهذا مَثَلٌ سائر، قيل: أصله أنّ النادم يطأطئ رأسه ويضعها في يديه، أو أنّه يعض أصابعه فيؤثّر فيها.

وقوله: {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} أي علموا بضلالهم، وهذا شأن الحركات الغوغائيّة حيث ينساق الناس إليها تأثّراً بشهواتهم أو الجو العام فلمّا تخمد فورتهم يندمون، وفي المثل: ذهبت السكرة وجائت الفكرة.

وقوله: {لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} الرحمة هي إنزال النعمة وأمّا الغفران فهو ستر الذنوب بعدم المعاقبة عليها، فعدم قبول التوبة يؤدّي إلى العقاب، أمّا الرحمة بقبول التوبة فهي سبب عدم العقاب.

موقف موسى (عليه السلام) وتبرأة هارون (عليه السلام)

الرابع: قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفًا قَالَ...} الآية.

كان اللّه تعالى قد أخبر موسى - وهو في الطور - بفعلتهم، قال سبحانه: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ}(1)، فلذا كان موسى (عليه السلام) غضبان أسفاً عليهم قبل أن يلقاهم، وكان موقفه منهم:

أوّلاً: ذمّهم على سوء خلافتهم له وعلى استعجالهم نزول التوراة بحيث لمّا تأخّرت كفروا، وفي ذلك إرشاد للناس على أن يحسنوا خلافة الصالحين فيسيروا على ما كانوا عليه من الإيمان و الصلاح، وأن لا

ص: 276


1- سورة طه، الآية: 85.

يستعجلوا تنفيذ وعد اللّه بل عليهم أن يصبروا فإن اللّه سبحانه حكيم لا يقدّمولا يؤخّر إلاّ بمصلحة.

وثانياً: أراد تبرأة هارون (عليه السلام) عن فعلتهم لأنّه كان الخليفة عليهم فيكون مسؤولاً عن أفعالهم إلاّ لو عجر عن إرشادهم ومنعهم عن الباطل، حيث إنّ الأصل هو مسؤوليّة الرئيس عن أفعال مرؤوسيه، ولا فرق في ذلك بين الحاكم و المدير ورب الأسرة وحتى العالِم، وفي الحديث: «لأحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم»(1)، وقال: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(2)، وفي الحديث: «ملعون ملعون من ضيّع من يعول»(3)، فلذا لا بد للرئيس من أن يقوم بواجباته من ردع الباطل والإرشاد إلى الحق، فإن لم يتمكّن كان لا بد من إظهار ذلك ليتبيّن عدم مسؤوليّته، ولذا تبرّأ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من فعل خالد بن الوليد لمّا قتل بني الجذيمة ظلماً فقال: «اللّهم إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد»(4)، ثمّ أرسل أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) ليصلح ما أفسده خالد فدفع ديّة القتلى، وعوّضهم الخسائر المادّية حتى ميلغة كلبهم، وزادهم عطاءً ليرضوا عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وحيث أراد موسى (عليه السلام) بيان براءة هارون (عليه السلام) عن شركهم كان لا بد من أن يصنع عملاً مثيراً جالباً للانتباه فلذا أخذ برأس أخيه ولحيته وجرّه إليه

ص: 277


1- الكافي 8: 162.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- الكافي 4: 12.
4- الخصال 2: 562.

وعاتبه - عتاب من يريد ظهور الحق - وأيضاً أراد إظهار شدّة غضبه وحزنهعلى فعلتهم فقد يتعارف خطاب البريء بشدّة بغرض ذم المذنب، وفي تقريب القرآن: «إنّ هذا النحو من إظهار الغضب على الحبيب البريء لتنبيه العدو الآثم من أساليب البلاغة العمليّة، حيث إنّ الحبيب لا يحمل موجدة على حبيبه بسبب هذا العمل بخلاف ما لو عُمل بالآثم فإنّه يجعله أبعد من الصواب؛ إذ يسبّب مثل ذلك في نفسه بغضاً وعداوة زائدة، ومثل خطاب البريء ما يفعله الإنسان بنفسه عند إرادة إظهار الغضب من ضرب نفسه أو نتف شعره أو شق جيبه أو شبه ذلك»(1).

وقوله: {غَضْبَٰنَ أَسِفًا} الغضب معروف، والأسف هو الحسرة والحزن وهو غير الغضب ولذا قد يفترقان فقد يغضب من غير أسف كمن يغضب حينما يشتمه عدوه، وقد يأسف من غير غضب كتاجر يأسف على فوات منفعة تجاريّة له، وقد يجتمعان، وموسى (عليه السلام) غضب عليهم بسبب تمرّدهم، وتحسّر عليهم لأنّهم كانوا قومه وكان يريد هدايتهم وقد تحمّل المشاق في سبيل ذلك.

وقوله: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي} أي بئسما عملتم خلفي بعد ذهابي وغيابي، وأصل الجملة بئس الخلافة خلافتكم التي خلّفتموني، حذف الاسم والمخصوص بالذم اختصاراً ولدلالة {خَلَفْتُمُونِي} عليهما.

وقوله: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} الاستفهام إنكارى، وأمره تعالى في إنزال

ص: 278


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 249.

التوراة أي شأنه وفعله تعالى، والعجلة هي المبادرة إلى الشيء قبل أوانهووقته، عكس السبق الذي هو المبادرة إلى الشيء أوّل وقته، وكان وقت إنزال التوراة بعد الأربعين فاستعجلوه في الثلاثين فلمّا لم يجدوه كفروا، قال سبحانه: {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}(1) وقال: {سَأُوْرِيكُمْ ءَايَٰتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}(2)، وقال: {وَيَدْعُ ٱلْإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَاءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا}(3) حيث يسارع إلى ما يخطر بباله ولا ينظر إلى عاقبة أمره.

وقوله: {وَأَلْقَى ٱلْأَلْوَاحَ} أي على الأرض؛ وذلك لإظهار شدّة غضبه على سوء صنيعهم، فأراد أن يجمع بين قوله الغاضب وبين عمله المظهر لشدّة غضبه ليكون أظهر وأردع لهم ليرجعوا بالتوبة، ولم يكن ذلك إهانة ولا استخفافاً بها في عرفهم، ولا يجوز أن يفعل ذلك بالقرآن مثلاً؛ لأنّ هذا في عرفنا إهانة حتى لو أريد به إظهار الغضب على العاصين.

وقوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي قبض شعره وكذلك لحيته وسحبه إلى نفسه، وهذا كما ذكرنا لبيان براءة هارون حينما يعتذر.

وقيل: إنّما فعل ذلك عتباً على هارون (عليه السلام) حيث لم يتركهم ولم يلحق نفسه بموسى (عليه السلام) في الطور كما قال: {قَالَ يَٰهَٰرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}(4)، واختلاف سلائق المعصومين في ما لم

ص: 279


1- سورة النحل، الآية: 1.
2- سورة الأنبياء، الآية: 37.
3- سورة الإسراء، الآية: 11.
4- سورة طه، الآية: 92-93.

يكن حراماً ليس مستبعداً كأن يكون هناك أمران حسنان فيختار أحدهما أحدالأمرين ويختار الثاني الأمر الآخر، أو يختار أحدهما الحسن فيعتب عليه الآخر لعدم اختياره الأحسن، نظير حكم داود وسليمان في الحرث حيث حكما بحكمين صحيحين لكن حكم سليمان كان أحسن، قال سبحانه: {فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}(1).

وما ذكرناه أوّلاً هو الأنسب بمقام العصمة وهو الأظهر من سياق القصّة، وقد روي أنّ هارون (عليه السلام) لم يخرج منهم لأنه لو خرج لنزل العذاب عليهم(2)، وكان هارون يريد توبتهم شفقة عليهم.

وقوله: {قَالَ ٱبْنَ أُمَّ} بدأ هارون (عليه السلام) ببيان عذره باستعطاف موسى (عليه السلام) بذكر أمّهما حيث أراد أن يثير في نفسه العاطفة والحنان ليسكن غضبه، وقد بيّن أمرين وطلب طلبين، أمّا الأمران فهما:

1- قوله: {إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي} أي حسبوني ضعيفاً فلذلك تمرّدوا عليّ، فليس تمرّدهم بسبب سوء إدارتي لهم وسوء خلافتي لك بل بسبب خبث ضمائرهم حيث وجدوا القوّة في أنفسهم، ولعلّ ذلك لأنّه لم يكن لهارون (عليه السلام) معجزة مباشرة بل معجزته كانت نفس المعاجز التي كانت تظهر على يد موسى (عليه السلام) فلذا لم يهابوا جانبه.

2- قوله: {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} بيان أنّ هارون قام بوظيفة النهي عن المنكر وأدّى ما تمكن منه بحيث قاربوا أن يقتلوه كما قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ

ص: 280


1- سورة الأنبياء، الآية: 79.
2- علل الشرائع 1: 68.

هَٰرُونُ مِن قَبْلُ يَٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمْرِي *قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ}(1).

وأمّا المطلبان:

فأوّلهما: قوله: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ ٱلْأَعْدَاءَ} أي لا يكن عملك بأخذ رأسي وجرّه إليك ومعاتبتي سبباً لأن يشمت الأعداء بي، و(الشماتة) هي إظهار السرور بمصيبة الغير وخاصة العدو، وكأنّ المراد إنّك يا موسى وإن قصدت بفعلتك إظهار غضبك على عبادتهم العجل لكن لا يكن عملك سبباً لأن يتصوّر الأعداء أنّك تنهرني أنا أيضاً.

وثانيهما: قوله: {وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ} أي لا تغضب عليّ كما غضبت عليهم ولا تعاقبني كما تعاقبهم، والفرق أنّ الشماتة من الأعداء والعقوبة من موسى (عليه السلام) ، فإنّ المجرم يبتلى بأمرين: أحدهما نفسي وهو سرور الأعداء بمصيبته، والآخر عقوبته بواسطة من بيده الأمر.

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ}.

لمّا تبيّن لموسى (عليه السلام) ولسائر الناس عذر هارون (عليه السلام) وأنّه لم يكن مقصّراً حيث أدّى وظيفته بأحسن أداء، توجّه موسى (عليه السلام) إلى اللّه تعالى داعياً لهما، وذلك على سبيل الانقطاع والتضرّع إليه، فإنّ المؤمن إذا قام بوظيفته توجّه إلى اللّه تعالى لقبولها والثواب عليها.

ص: 281


1- سورة طه، الآية: 90-91.

وقوله: {ٱغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} استغفاراً من غير ذنب ارتكباه وإنّما لعدمتمكّنهما من منع عبادة العجل، وقد مر أنّ الإنسان إذا عجز عن القيام بما يليق فإنّه وإن كان معذوراً إلاّ أنّه يعتذر لعدم قدرته.

وقوله: {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} بمزيد من الإنعام واللطف وبالجنّة، فالغفران رفع نقص والرحمة إنزال نفع.

وقوله: {وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ} يقال هذا في آخر الدعاء استعطافاً وتضرّعاً.

السادس: قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ...} الآية.

الظاهر أنّه بيان عقوبتهم في الدنيا - كعقوبة سائر الأقوام الكفرة المذكورين في هذه السورة - فقوله: {فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} يتعلّق بالغضب والذلّة كليهما.

فأمّا الغضب: فهو عقوبة اللّه تعالى عليهم وذلك بأن شرّع اللّه عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً، فلمّا بدأوا بذلك وقُتل البعض منهم رفع اللّه عنهم هذه العقوبة وقَبِل توبتهم.

وأمّا الذلة: فالظاهر أنّها ترتبط بمن لم يتب منهم كالسامري حيث أذلّه اللّه تعالى فقال: {قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلْحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ}(1).

ص: 282


1- سورة طه، الآية: 97.

وقيل: إنّ هذا القضاء بالغضب والذلّة جرى على نسلهم ممن رضيبعبادة العجل أو اتّبع عبدته في التمرّد على أحكام اللّه تعالى فيشمل اليهود من بعدهم حيث {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ}(1).

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ} أي العقوبة الدنيويّة بالغضب والذلّة سنة عامة لجميع من يفتري على اللّه تعالى، وأيّ افتراء أعظم من القول بأنّه دعى إلى الشرك وأنّ الأصنام آلهة الناس؟!

السابع: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّئَِّاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ...} الآية.

بيان أنّ اللّه لا يعذّب في الآخرة من تاب وآمن من عبدة العجل، وقد قبل توبتهم، قال سبحانه: {ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَٰلِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(2)، وأمّا العقوبة الدنيويّة بقتل بعضهم بعضاً فلم ترفع إلاّ عن بعضهم، وفي هذه الآية بيان القاعدة العامّة للغفران والرحمة لمن تاب عن ظلمه وآمن.

وقوله: {ثُمَّ تَابُواْ} التوبة عن ظلمهم كعبادة العجل، وهذا لوحده لا يكفي بل لا بد من أن يقترن بالإيمان باللّه تعالى ولذا عطف عليه قوله: {وَءَامَنُواْ}، فلا يكفي مجرّد نفي ألوهيّة غير اللّه تعالى بل لا بد من إضافة الإيمان باللّه تعالى ولذا كانت كلمة التوحيد هي (لا إله إلاّ اللّه).

وقوله: {تَابُواْ مِن بَعْدِهَا} أي بعد السيّئات، وفيه إشعار بأنّ شرط قبول

ص: 283


1- سورة البقرة، الآية: 61.
2- سورة البقرة، الآية: 51-52.

التوبة هو عدم الرجوع إلى السيّئة فلا تكون التوبة في وسط السيّئات بلبعدها، وأمّا من رجع إلى عمل السيّئات فقد أبطل توبته إلاّ أن يتوب من جديد.

وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي بعد التوبة، وفيه إشعار بأنّ وعد الرحمة والغفران إنّما هو للتائب، أمّا غير التائب فلا وعد له، بل إن كان مشركاً فلا غفران له، وأمّا ما دون ذلك فهو في مشيّئة اللّه إن شاء غفر له بفضله وإن شاء عذّبه بعدله، قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(1).

الثامن: قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلْأَلْوَاحَ...} الآية.

بيان أنّ التوراة كتاب هداية ونور وأنّ موسى (عليه السلام) لم يُلقها استخفافاً بها، وأنّ عبادتهم العجل لم تمنع من الاهتداء بها بعد توبتهم.

وقوله: {سَكَتَ} أي سكن، والسكوت مختص بترك الكلام(2)، وهذا تعبير كنائي فكأنّ الغضب كان هو المتكلّم، فالسكوت سكوته، وفي ذلك بيان شدّة غضب موسى (عليه السلام) ، وقيل: «عبّر عن سكون الغضب وإطفائه بالسكوت تنبيهاً على أنّ الغضب كان هو الحامل له على ما فعل والآمر له به والمغري عليه، وهذا من البلاغة في الكلام»(3).

وقوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا} أي ما كُتب فيها، وأصل النسخ الإزالة، يقال:

ص: 284


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- المفردات للراغب: 416.
3- التفسير الصافي 3: 249.

نسخت الشمس الظل أي أزالته، وأطلق على الكتابة لأنّها تبقى بعد زوالالحادثة التي كتبت أو زوال الكتاب المنقول عنه، وإطلاقه على التوراة لأنّها كتابة ولأنّها نسخت الشرائع السابقة.

وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةٌ} أي ما يوجب الهداية وسائر النِعم، فمن يعمل بها يهتدي ويتنعّم.

وقوله: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي يرهبون ربّهم، فلمّا قدّم ربّهم أضيفت اللام لتقوية الكلام، والرهبة هي طول الخوف واستمراره، وقيل: هي خوف بشرط، أي العلم بوقوع الضرر بشرط حصول شيء وإن لم يحصل الشرط لم يقع الضرر(1)، والحاصل: أنّ الذين يخافون اللّه دائماً ويعلمون أنّ معصيته توجب استحقاق عقوبته هؤلاء هم الذين يهتدون بالألواح وينالون الرحمة التي تكون في العمل به.

ص: 285


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 261.

الآيتان 155-156

اشارة

{وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَٰتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰيَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَٰفِرِينَ 155 وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلْأخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ 156}

ثمّ يذكر اللّه تعالى قصّة توحيديّة أخرى حيث أصاب العذاب الدنيوي من شبّه اللّه تعالى، فقال:

155- {وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ} أي من قومه {سَبْعِينَ رَجُلًا} ممن كان ظاهرهم الصلاح {لِّمِيقَٰتِنَا} الموعد الذي واعدناه ليسمعوا تكليم اللّه إيّاه فيخبروا قومهم، لكنّهم سفهوا فطلبوا رؤية اللّه سبحانه فأهلكهم {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ} وهي الصاعقة التي أرجفت قلوبهم وأبدانهم {قَالَ} موسى متضرّعاً داعياً لإحيائهم: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ} أي قبل إتيانهم إلى الميقات {وَإِيَّٰيَ} أهلكتني معهم، وقد خشي موسى (عليه السلام) أن يتّهمه الناس بأنّه قتلهم فيرتدّوا، {أَتُهْلِكُنَا} الاستفهام بمعنى الاستعطاف والرجاء أي إهلاكنا خلاف رجائنا فيك {بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاءُ مِنَّا} حيث طلبوا

ص: 286

الرؤية وعاندوا، {إِنْ هِيَ} هذه الرجفة {إِلَّا فِتْنَتُكَ} امتحان للناس ليعتبرواوللّهالكين بعد إحيائهم {تُضِلُّ بِهَا} بهذه الفتنة {مَن تَشَاءُ} وهو الذي عاند ولم ينتفع بالهداية {وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ} ممّن أحسن ضميره وعمله، ثمّ تضرّع لإحيائهم قائلاً: {أَنتَ وَلِيُّنَا} مولانا القائم بأمورنا {فَٱغْفِرْ لَنَا} ذنوبنا {وَٱرْحَمْنَا} بالتفضّل علينا بالثواب والنِعم {وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَٰفِرِينَ} لأنّ غفرانك بمقتضى المصلحة ومن غير إذلال.

156- {وَٱكْتُبْ} قدّر واقض {لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً} بحسن المعيشة والتوفيق للطاعة، {وَفِي ٱلْأخِرَةِ} حسنة بالجنّة والرضوان، ثمّ علّل دعائه هذا بقوله: {إِنَّا هُدْنَا} رجعنا {إِلَيْكَ} بتوبتنا. {قَالَ} اللّه تعالى جواباً لموسى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} ممّن استحقه بالكفر أو المعصية {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ} في الدنيا من مؤمن وكافر، ومطيع وعاص وغيرهم ولذا تشمل هذه الرحمة العصاة، وفي ذلك تلويح باستجابة دعاء موسى بإحياء السبعين، لكن في الآخرة الرحمة خاصّة {فَسَأَكْتُبُهَا} الرحمة {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} المعاصي {وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ} وهذا مَثَل لإطاعتهم الأوامر {وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ} فصحّت عقيدتهم، ومن الآيات دلائل التوحيد ونبوّة الأنبياء وإمامة الأئمة وما جاء في الكتب من المعاد وغير ذلك، والحاصل الرحمة في الآخرة خاصّة بمن آمن وعمل صالحاً.

قصة عذاب السبعين رجلاً من قوم موسى (عليه السلام)

بحوث

الأوّل: ظاهر السياق - والذي دلّت عليه الرواية أيضاً - أنّ هذه القصّة هي

ص: 287

جزء من قصّة مواعدة موسى (عليه السلام) لتسلّم الألواح، أي إنّ موسى (عليه السلام) لمّاأخبر بني إسرائيل بأنّ اللّه يريد أن ينزّل عليه التوراة وواعده ثلاثين يوماً طلبوا منه أن يصحبوه إلى الطور ليسمعوا كلام اللّه ويروا نزول الألواح، فاختار منهم سبعين رجلاً من أفاضلهم، فلمّا سمعوا كلام اللّه تعالى طلبوا أن يروه سبحانه! فأنكر عليهم موسى (عليه السلام) ذلك، لكن اللّه أجاز له أن يسأل مسألتهم، فلمّا قال: {أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} تجلّى اللّه تعالى للجبل فجعله دكّاً وأرسل صاعقة أرجفت قلوب السبعين فماتوا عقوبة لهم على تماديّهم في الغي وعنادهم وتجسيمهم اللّه سبحانه، فالقضيتان من قصّة واحدة، وإنّما فرّقهما اللّه تعالى لأجل أن كل قضيّة فيها عبرة وهداية مستقلّة، والقرآن كتاب هداية وليس مجرد كتاب قصّة، ولذا يذكر من القصص ما يكون فيه العبرة وما يناسب الموضوع الذي يراد بيانه في السورة، ولذا قد يذكر قصّة واحدة في عدّة سور بالإيجاز تارة وبالتفصيل أخرى، وقد يذكر جانباً في سورة وجوانب أخرى في سورة أخرى، وقد يجمع بين قصّتين مختلفتين، وقد يفرّق بين قصّة واحدة، كل ذلك بحكمة وبلاغة.

فعن الإمام الرضا (عليه السلام) - في حديث - أنّه قال: «ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى (عليه السلام) إلى الطور وسأل اللّه تعالى أن يكلّمه ويُسمعهم كلامه، فكلّمه اللّه وسمعوا كلامه... فقالوا: لن نؤمن بأنّ هذا الذي سمعناه كلام اللّه حتّى نرى اللّه جهرة، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث اللّه عليهم الصاعقة - يعني ناراً وقع من السماء - فأخذتهم الصاعقة بظلمهم

ص: 288

فماتوا، فقال موسى: يا رب، ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا:إنّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنّك لم تكن صادقاً في ما ادّعيت من مناجاة اللّه عز وجل إيّاك؟! فأحياهم وبعثهم معه، فقالوا: إنّك لو سألت اللّه أن يريك تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته! فقال موسى: يا قوم، إنّ اللّه لا يُرى بالأبصار ولا كيفيّة له، وإنّما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله! فقال موسى: يا ربّ، إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى اللّه إليه، يا موسى، سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَىٰنِي...}(1)»، الحديث(2).

وهذه الرواية تفصيل لهذه الآية ولآيات أخرى حيث قال سبحانه في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(3)، وفي سورة النساء: {يَسَْٔلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا}(4).

ص: 289


1- سورة الأعراف، الآية: 143.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 195؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 181-183.
3- سورة البقرة، الآية: 55-56.
4- سورة النساء، الآية: 153.

الثاني: قوله تعالى: {وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَٰتِنَا...} الآية.

كان اختياره من أفاضلهم ليسمعوا كلام اللّه تعالى حين تكليمه موسى،فهؤلاء عاندوا ليروا اللّه سبحانه، والباقين كفروا فعبدوا العجل! ولم يبق إلاّ موسى وهارون وأقل القليل منهم على الإيمان، ثمّ تابوا بعد ذلك، وكان اللّه تعالى يربّيهم بالآيات المختلفة ويتجاوز عنهم لأنّه فضّلهم على العالمين فأراد أن يكونوا حملة التوحيد وواسطة لهداية سائر الناس.

وقوله: {قَوْمَهُ} منصوب بنزع الخافض أي من قومه.

وقوله: {لِّمِيقَٰتِنَا} هو الذي أشار إليه في الآية 142: {وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَٰهَا بِعَشْرٖ}.

وقوله: {ٱلرَّجْفَةُ} مر نظيره في قصّة قوم صالح وقوم شعيب، حيث نزلت صاعقة أرجفت قلوبهم أو أرجفت الأرض بالزلزال.

وقوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰيَ} قيل: (لو) هنا للتمنّي أي ليتك أهلكتهم حينما كانوا مع قومهم، وإنّما تمنّى ذلك لأنّه علم أنهم سيتّهمونه بقتلهم ويكذّبونه في تكليم اللّه إيّاه ويرتدّون عن الدين بذلك.

وقوله: {مِّن قَبْلُ} دليل على أنّ اللّه أهلكهم كما دلّت عليه الآية 55 من سورة البقرة، فلا يصغى إلى ما ذكره البعض من أنّهم لم يموتوا.

وقوله: {وَإِيَّٰيَ} أضاف نفسه - مع أنّه كان بريئاً من عملهم - تضرّعاً إلى اللّه تعالى وليكون مقدّمة لتضرّعه لإحيائهم حيث خلط نفسه بهم في التضرّع اللاحق.

ص: 290

وقوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاءُ} هذا استفهام يقصد به الرجاء والاستعطاف فالسبعون كانوا سفهاء، وموسى (عليه السلام) نبي اللّه الكامل العقل،فأراد التضرّع بأن لا يؤاخذ اللّه المجموع بفعل السفهاء فخلط نفسه بهم في قوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰيَ} ثمّ تضرّع بقوله: {أَتُهْلِكُنَا} أي أنا والسبعين وقال: {بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاءُ مِنَّا} أي السبعين، فكأنّه جعل نفسه معهم ليرتفع عنهم العذاب بإحيائهم بشفاعته، وكأنّه طلب منزلة الرسول الأعظم محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال اللّه تعالى عنه: {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}(1)، ويدل على أنّ اعتقاد إمكان رؤية اللّه والعناد عليه سفه يستوجب العذاب.

الثالث: قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ...} الآية.

أي إنّ الرجفة وإهلاكهم هو امتحان لبني إسرائيل، وهذا تتمّة تضرّع موسى (عليه السلام) وشفاعته لإحيائهم ببيان أنّ اللّه امتحنهم والهداية والضلال بيده سبحانه فهؤلاء ضلّوا في الامتحان لكن المغفرة والرحمة بيده أيضاً، وعليه فيتضرّع إليه ليهديهم ويغفر لهم ويرحمهم وهذا فيه تلويح بإحيائهم أيضاً؛ إذ لا هداية إلاّ في الدنيا وأمّا ما بعد الموت فهو حساب وجزاء إمّا إلى جنّة وإمّا إلى نار.

وقوله: {فِتْنَتُكَ} قد مرّ أنّ (الفتنة) هي إلقاء الذهب في النار ليتبيّن الخالص من المغشوش، قال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ}(2)، فالمعنى إنّ اللّه

ص: 291


1- سورة الأنفال، الآية: 33.
2- سورة الذاريات، الآية: 13.

قادر على إهلاكهم من قبل لكن أخّر إهلاكهم إلى الميقات ليكون ذلك امتحاناً؛ إذ لو هلكوا في ديارهم لكان موتهم كسائر الميتات لا امتحان فيه.

وقوله: {وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ} ولم يقل تهدي بها كما قال في الضلال {تُضِلُّ بِهَا} قيل: إنّ الإضلال إنّما يكون في الفتن دون غيره حيث يسقط البعض فيها بسوء اختيارهم، وأمّا الهداية فهي عامّة في كل وقت سواء وقت الفتنة أو في سائر الأوقات! ولكن الأقرب أنّ عدم ذكرها في الهداية اختصاراً وإيجازاً وهو أنسب بالبلاغة لأنّه يُعلم مما سبق؛ وذلك لأنّ الكلام في الفتنة حيث يسقط فيها البعض لإضلال اللّه سبحانه لهم بسوء اختيارهم ويهتدي فيها البعض لهداية اللّه تعالى لهم بحسن اختيارهم.

وقوله: {أَنتَ وَلِيُّنَا} الولي بمعنى الأولى بالتصرّف والمولى أي إنّ دعائي هو تضرّع لك وليس تعنّتاً وإنّ فعلك بإهلاكهم بسبب أنّك الولي الحميد، ولكن حيث كنت الولي فنستعطفك الرحمة والمغفرة.

وقوله: {فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا} أي اغفر لي وللسبعين وارحمنا جميعاً وذلك بإحيائهم وهدايتهم والعفو عنهم.

وقوله: {خَيْرُ ٱلْغَٰفِرِينَ} لأنّ مغفرته بحكمة ولطف مع قدرته على كل شيء تقتضيه المغفرة كالإحياء في هذا المورد.

الرابع: قوله تعالى: {وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلْأخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}.

لمّا دعا موسى (عليه السلام) لإحيائهم ومغفرتهم ورحمتهم أراد أن تستمر هذه

ص: 292

الرحمة ما داموا في الدنيا وفي الآخرة أيضاً، ولذا دعا بأن يقدّر اللّه تعالى له ولهم الحياة الطيّبة في الدنيا والآخرة ويعلّل ذلك بأنّهم رجعوا إلى اللّه تعالىبالتوبة فليزدهم من فضله بثباتهم عليها.

وقوله: {ٱكْتُبْ} أي قدّر لنا، وعبّر عنه بالكتابة لأنّها أثبت وأدوم فأراد تقديراً ثابتاً.

وقوله: {حَسَنَةً} جنس شامل لكل أنواع الخير ويجمعه حسن المعيشة والتوفيق للطاعة في الدنيا، وأمّا حسنة الآخرة فهي كل أنواع رحمته فيها وخاصّة الجنّة والرضوان.

وقوله: {هُدْنَا إِلَيْكَ} هاد بمعنى رجع بسلامة فالمقصود التوبة إليه، والعرب قد تصوغ الأفعال من بعض الأسماء كما أنّها قد تصوغ الأسماء الجامدة من بعض الأفعال أيضاً، واسم (اليهود) إمّا اشتق من هذا الفعل، أو إنّ فعل هاد هوداً صيغ من اسمهم.

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ...} الآية.

هذا بيان استجابة دعاء موسى (عليه السلام) بإحيائهم والمعيشة الحسنة لهم في الدنيا، وأمّا في الآخرة فلم يعد اللّه تعالى الحسنة لهم فيها إلاّ لو آمنوا وأطاعوا، فاستجابته للدعاء للآخرة مشروط.

وقوله: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} بيان أنّ عذابهم بإهلاكهم لأنّه تعالى شاء ذلك، ولا يشاء اللّه شيئاً عبثاً واعتباطاً سبحانه وتعالى، وإنّما لأنّهم استحقّوا ذلك العذاب بسوء اختيارهم حيث عاندوا وأساؤوا الأدب

ص: 293

واستهانوا بمقام اللّه سبحانه، فهذا جواب قول موسى: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰيَ} ببيان أنّ إهلاكهم هذا كان على وجه العذاب ولذا أصابهم به،وأمّا إهلاكهم لو كان قبل ذلك فلم يكن عذاباً وإنّما ميتة بأجل ولم يكن أجلهم قد حان بعد.

وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ} فإنّ أصل خلق الأشياء وتدبير أمرها هي رحمة عظيمة من اللّه تعالى وقد شملت البر والفاجر والإنسان والحيوان بل حتى الجمادات فإنّها رحمة للأحياء، وفي هذا تلميح بأنّ اللّه سيحييهم لأنّها رحمة تنالهم.

وقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا} أي في الآخرة؛ وذلك لأنّ اللّه لم يمنع الكفّار من رحمته في الآخرة إلاّ لسوء اختيارهم، وإلاّ فالرحمة لا قصور فيها، بل مرّت الرواية بأنّ اللّه يخلق لكل إنسان مكاناً في الجنّة فإن آمن ناله بفضل اللّه تعالى وإن كفر منع عنه وأورثه اللّه سائر المؤمنين.

رحمة اللّه في الدنيا والآخرة وشروطها

وسيكتبها اللّه بثلاثة شروط:

1- قوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي يتّقون المعاصي ولعلّ تقديمه لأنّ الكلام في عصيان وتمرّد السبعين فناسب تقديمه.

2- وقوله: {وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ} مثال للالتزام بالواجبات ومن أصعبها إعطاء الزكاة.

3- وقوله: {وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ} والآيات تشمل عامة أصول الدين ودلائلها، والمراد إيمانهم باللّه ورسله واليوم الآخر وسائر أصول الدين.

ص: 294

الآيتان 157-158

اشارة

{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلْأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ 157 قُلْ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلْأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 158}

157- ثمّ بيّن اللّه تعالى «الذين بآياتنا يؤمنون» بقوله: {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ} بالتسليم والطاعة {ٱلرَّسُولَ} رسول اللّه إلى الناس {ٱلنَّبِيَّ} الذي أوحى اللّه إليه {ٱلْأُمِّيَّ} من أم القرى وهي مكة ولم يتعلّم عند أحد وإنّما علّمه اللّه تعالى كل شيء. وهذا النبي يدل على وجوب اتّباعه النقل والعقل، أمّا النقل: فهو {ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ} أي يجدون اسمه ووصفه {مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ} بشّر به اللّه تعالى فيهما، وأمّا العقل: فيدل على وجوب اتّباعه لأجل أفعاله؛ إذ {يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ} ما يعرفه العقل، {وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ} ما ينكره العقل، {وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ} ما حسن من المستلذّات، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰئِثَ} ما تستقذره النفوس المستقيمة، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ

ص: 295

إِصْرَهُمْ} الحِمل الثقيل كالتكاليف الشاقّة {وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ماقيّدتهم كالعادات السيّئة، فهذا نعته وعليهم أن يتّبعوه، ثمّ بيّن الأتباع بقوله: {فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ} بنبوّته {وَعَزَّرُوهُ} عظّموه ووقّروه {وَنَصَرُوهُ} على الأعداء {وَٱتَّبَعُواْ} بالعمل {ٱلنُّورَ ٱلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} وذلك الثقلان: القرآن والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) {أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالخير في الدنيا والآخرة.

158- ثمّ عمّم الخطاب لكل الناس بعد أن كان موجّهاً إلى بني إسرائيل فقال: {قُلْ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ولا إله آخر لكم حتّى تزعموا أنّه لا يلزمكم إطاعة اللّه في اتّباع رسوله فهو {ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فلا شريك له ولا معبود سواه، وهو الذي {يُحْيِ وَيُمِيتُ} فهو الرب ورجوعكم يوم القيامة إليه، وحيث علمتم ذلك {فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ} الواحد من غير شريك {وَ} آمنوا ب{رَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلْأُمِّيِّ} فهو الذي بشّرت التوراة والأنجيل به، وهو {ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِ} كتبه وأنبيائه السابقين {وَٱتَّبِعُوهُ} فإنّ الإيمان من غير طاعة لا يكفي {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى طريق الجنّة والرضوان بهذا الإيمان والاتّباع.

بحوث

الأوّل: هاتان الآيتان تتمّة لأوصاف الذين وعد اللّه موسى (عليه السلام) بأن يكتب رحمته الخاصّة عليهم، وكان استجابة لدعاء موسى (عليه السلام) لبني إسرائيل، فوصفهم اللّه بالتقوى وإيتاء الزكاة والإيمان بآياته، ثمّ وصفهم بوصف آخر

ص: 296

وهو اتّباعهم لرسوله محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع ذكر أوصافه، ثمّ بعد ذلك يأمر اللّهعامّة الناس - من بني إسرائيل وغيرهم - باتّباعه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهاتان الآيتان كالجملة المعترضة في وسط قصص بني إسرائيل ولعل ذلك لأنّ الغرض من هذه السورة هو الدعوة إلى التوحيد واتّباع الرسل، فذكر قصص الأنبياء وأممهم وعذاب العصاة منهم كلّه لأجل أن يؤمن الناس باللّه وبرسوله محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي التقريب: «وفي هذا الجو الرقيق الذي ترقّقت فيه قلوب بني إسرائيل، يشير سبحانه إلى النبي الأمّي ليتركز في قلوبهم، فإنّ الأمور تتركّز في القلوب أكثر إذا رقّت»(1).

أوصاف رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

الثاني: قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلْأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ}.

هذا عطف بيان على قوله: {وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ} فهو تتمّة لأوصاف بني إسرائيل ممّن وعدهم اللّه، فالمعنى الذين يؤمنون هم الذين يتّبعون رسول اللّه محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهؤلاء هم الذين ستكتب لهم الرحمة الخاصّة في الآخرة بالجنّة والرضوان.

وقوله: {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ} غير خفي أنّ الذين لم يدركوا رسول اللّه محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان الواجب عليهم الإيمان به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمّا عملهم فهو اتّباع شريعة موسى أو عيسى (عليهما السلام) ، وأمّا الذين أدركوه من بني إسرائيل فالواجب عليهم اتّباعه، فالتعبير بقوله: (يتّبعونه) لأجل أنّ الغرض في زمان نزول الآية

ص: 297


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 253-254.

هو اتّباعه أمّا الذين لم يدركوه فقد انقضى عهدهم وتكليفهم، فلذا تمتغليب جانب المعاصرين، ويمكن أنّ يقال: إن اتّباع كل شخص بحسبه، فالذي لم يدركه اتّباعه هو في الإيمان به فقط، والذي أدركه فاتّباعه هو بالإيمان به وطاعته.

وقوله: {ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ} الرسول هو الذي كلّفه اللّه بتبليغ شيء إلى الناس، والنبي هو الذي يوحي إليه اللّه تعالى مشتق من النبأ، وبعض الأنبياء لهم كلا المنصبين فيوحي اللّه إليهم ويأمرهم بتبليغ رسالة، وبعضهم يوحي إليهم من غير تكليفهم برسالة، وهناك فروق أخرى بين الصنفين ذكرت في الروايات(1)، وذكر الرسول وإن كان يُغني عن ذكر النبي لأنّ كل رسول نبي، إلاّ أنّ ذكرهما معاً تعظيم وتفخيم لشأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو لعلّ بني إسرائيل كانوا يزعمون أنّ هناك رسولاً غير نبي، أو لأجل بيان أنّه من جنس البشر لأنّ الملائكة قد يكونون رسلاً ولا يكونون أنبياء، قال سبحانه: {ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلَٰئِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ ٱلنَّاسِ}(2).

وقوله: {ٱلْأُمِّيَّ} بيان أنّه ليس من بني إسرائيل، وهو نسبة إلى أم القرى كما في بعض الأحاديث(3)، وأمّا من زعم بأن القاعدة هي النسبة إلى المضاف إليه لو كان المضاف أباً أو أماً، فعلى فرض صحة القاعدة إلاّ أنّ

ص: 298


1- راجع شرح أصول الكافي، للمؤلّف 3: 50-66، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة، وباب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث.
2- سورة الحج، الآية: 75.
3- تفسير العيّاشي 2: 31.

الاستثناءات في باب النسبة كثيرة ترتبط بالسماع وقد ذكرت في كتبالصرف فليكن الأمّي منها، كما أنّ الأمّي يطلق على من لم يتعلّم القراءة والكتابة عند أحد نسبة إلى الأم، فبهذا المعنى أيضاً كان الرسول أمّيّاً لأنّه لم يتعلّم عند بشر قط وإنّما اللّه علّمه كل العلوم بالوحي ومنها القراءة والكتابة رغم أنّ الرسول لم يستعملهما قط لا قبل البعثة ولا بعدها، قال سبحانه: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّٱرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ}(1).

وقوله: {ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا...} وقد حرّفوا التوراة والإنجيل وكان من ضمن ما حرّفوه هو أنّهم أزالوا اسم النبي محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومع ذلك ففي المحرّفة منهما قد بقيت بعض الإشارات إليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد مر بعض الكلام في ذلك، وهذا دليل نقلي على وجوب اتّباعهم فإنّ بني إسرائيل يؤمنون بالتوراة، ومن آمن منهم بالمسيح (عليه السلام) يؤمنون بالإنجيل أيضاً، وقد بشّر الكتابان برسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمرا الناس بالإيمان به واتّباعه، فلا بد لهم من العمل بذلك.

الثالث: قوله تعالى: {يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ...} الآية.

كأنّه بيان الدليل العقلي على وجوب اتّباعه، فالعقل يدل على لزوم العمل بالمعروف وترك المنكر واستعمال الطيّبات وترك الخبائث ورفع الحمل الثقيل وترك الأمور التي تقيّد الإنسان، وحيث إنّ النبي محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأمر

ص: 299


1- سورة العنكبوت، الآية: 48.

ويبيّن كل ذلك فلا بد عقلاً من اتّباعه، وفي ذلك حث لهم على اتّباعه لأنّه في مصلحتهم ويطابق عقولهم.

وقوله: {يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ} هو ما عرف حسنه العقل والشرع.

وقوله: {وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ} وهو ما لم يعرف العقل والشرع حسنه بل أنكراه، والحاصل إنّ أمر الرسول محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونهيه ليس بالهوى وإنّما هو بحكمة، عكس سائر القوانين التي قد تكون اعتباطية أو يجهل واضعوها سوءها وعبثها.

وقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ} الطيّب هو كل شيء حسن ملائم لذوق الإنسان ممّا لا تكون له عاقبة وخيمة، والطيّبات تشمل المأكل والمشرب والمنكح وغيرها، وحيث إنّ الإنسان يجهل الكثير من الحقائق فقد لا يعرف الطيّب الواقعي فلا بد له من أن يأخذ علمه من أهله وهم الذين علّمهم اللّه تعالى ولذا ورد تأويلها بأخذ العلم من أهله(1)، وهكذا قد لا يعرف الخبائث جهلاً بها فكان تأويل الخبائث بالأخذ من غيرهم، بل قد يكون هذا ذكر المصداق لأنّ الكلمة قد تكون طيّبة وقد تكون خبيثة كما قال: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ}(2)، وقال: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}(3).

وقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰئِثَ} وهي كل قبيح لا يلائم النفوس المستقيمة حتى وإن طابق الشهوات، فالطعام الحلو الذي يستلذّه الإنسان إذا

ص: 300


1- راجع الكافي 1: 429، عن الإمام الباقر (عليه السلام) .
2- سورة إبراهيم، الآية: 24.
3- سورة إبراهيم، الآية: 26.

كان مسموماً فهو خبيث، والخمر والخنزير وإن استلذ بهما أصحاب الشهوات إلاّ أنّهما من أخبث الخبائث.

وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} الإصر هو الحمل الثقيل، ولذا قيل فيه: هو الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحركة لثقله، ومنه التكاليف الشاقة، فالشريعة الإسلامية سهلة سمحاء، وإن منعت بعض الشهوات فإنّما هو لقبحها، والقبيح حمل ثقيل وإن استلذّه الإنسان الجاهل.

وقوله: {وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الغل هو القيد يوضع على اليد أو الرِجل فيقيّد حركة الإنسان، ومنه العادات والتقاليد السيّئة التي انتشرت بين الناس نتيجة جهلهم، والإسلام يمنع من العادات السيّئة ويطلق الحرّيات في كل شيء إلاّ القليل من المحرّمات التي هي أضرار، والقليل من الواجبات التي هي منافع ومصالح دنيويّة وأخرويّة.

الرابع: قوله تعالى: {فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ...} الآية.

بعد بيان أوصاف النبي محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يبق بد من لزوم الإيمان به واتّباعه، وقد بيّن اللّه أنّ الفلاح لهؤلاء.

وقوله: {وَعَزَّرُوهُ} أصل مادة (ع ز ر) بمعنى المنع، والمراد هنا توقيره وتعظيمه لأنّ ذلك سبب منع الاستهانة به.

وقوله: {وَنَصَرُوهُ} أي على أعدائه، ويمكن أن يكون العكس بأن يكون {عَزَّرُوهُ} بمعنى منع الأعداء عنه و{نَصَرُوهُ} بمعنى تقويته، وإنكان الأمران متلازمين.

ص: 301

وقوله: {وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ...} هذا النور هو الثقلان - كتاب اللّه وعترته أهل بيته (عليهم السلام) - والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر بالتمسّك بهما وبيّن أنّ من تمسّك بهما لن يضل أبداً، والحياة مظلمة فلا بد من نور ينيرها ويرفع الضلال، وقد جعل اللّه ذلك النور في القرآن وفي الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) ولذا ورد في الروايات تفسير النور بهما(1).

وأما قوله: {أُنزِلَ} فلأنّ اللّه تعالى يقدّر الأمور، فذلك من اللّه المتعال لذا كان إنزالاً حتّى لو لم يكن نزولاً مكانيّاً، وبعبارة أخرى إنّ النزول قد يكون مادّياً في المكان، وقد يكون معنويّاً من العالي المتعالي، ولذا كثر التعبير بالإنزال في خلقه وتقديره، وقد يكونان معاً، والقرآن أنزله اللّه من السماء كما أنّ الرسول والأئمة (عليهم السلام) خلقهم اللّه حول عرشه ثمّ أنزلهم إلى الأرض رحمة بخلقه.

وأما قوله: {مَعَهُ} فلأنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً أنزله اللّه رحمة للعالمين، أو (مع) بمعنى (على)، أو بمعنى مع نبوّته لأنّها نزلت عليه من اللّه تعالى.

الخامس: قوله تعالى: {قُلْ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا...} الآية.

كانت الآية السابقة دعوة لبني إسرائيل لاتّباع رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأراد اللّه بيان عموم رسالته وأنّ على الناس جميعاً اتّباعه، وبيان سبب ذلكفاللّه هو إله الجميع وربّهم، ومقتضي ألوهيّته وربوبيّته هو أن يهدي جميع

ص: 302


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 200-203.

الناس فلذا أرسل لهم نبيّه محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولعلّ ذكر أوصاف اللّه تعالى هنا لبيان أن من له التكوين فله التشريع، وحيث إنّ التكوين له خاصة فهو الإله والرب فلذا يكون التشريع له خاصة، ولا وجه لأن يكون هو الخالق المدبّر ثمّ يكون التشريع لغيره!!

وقوله: {ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ} فهو الخالق لهما فكانت ملكيّته بالذات.

وقوله: {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} لنفي الشركاء حتّى لا يزعم أحد أنّ هناك شركاء في الخلق أو التدبير فيكون التشريع لهم!

وقوله: {يُحْيِ وَيُمِيتُ} لبيان أنّه الرب الذي له التدبير وإصلاح خلقه فالحياة وما يستتبعها منه، والإماتة منه، ولعلّ فيه إشارة إلى البعث تحذيراً لهم بأنّه يحيي الموتى يوم القيامة للجزاء كما أحيى الجماد بأن نفخ فيه الروح.

وقوله: {فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذا تفريع، أي وحيث إنّه المالك لكل شيء المدبّر للموت والحياة ولا شريك له وأنّه أرسل محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلذا عليكم أن تؤمنوا بهما.

وقوله: {ٱلنَّبِيِّ ٱلْأُمِّيِّ} هذا ليس تكراراً لما في الآية السابقة، وإنّما بيان انطباق تلك الأوصاف على رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقد قال في الآية السابقة أنّه كتب في التوراة وجوب اتّباع الرسول النبي الأمّي، فكأنّه قال في هذه الآية إنّ ذلك الرسول النبي الأمّي هو محمّد بن عبد اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو هوبيان سبب اتّباعه بأنّ كونه أمّيّاً دليل صحّة نبوّته ورسالته حيث جاء بالكتاب

ص: 303

المعجز الذي يعجز عن الإتيان بمثله أفصح الفصحاء.

وقوله: {ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ} في التقريب: «فإنّه آمن أوّلاً ثمّ أمركم بالإيمان، لا مثل كثير من الرؤساء الذين هم أنفسهم لا يطبّقون المبادئ التي يدعون إليها»(1).

وقوله: {وَكَلِمَٰتِهِ} يشمل القرآن والكتب السماوّية السابقة بل والأنبياء السابقين أيضاً.

وقوله: {وَٱتَّبِعُوهُ} إذ الإيمان القلبي مجرّداً عن الاتّباع غير كافٍ.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الإيمان والاتّباع هما عين الهداية، فقوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إمّا بمعنى رجاء إصابة الواقع، فقد يتوهّم البعض أنّه آمن واتّبع وليس هو في الواقع كذلك، لكن من وطّن نفسه على الإيمان والاتّباع فيرجو أن يهديه اللّه بأن لا يخطئ، وإمّا بمعنى الهداية إلى طريق الجنّة كما قال: {وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}(2).

ص: 304


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 257.
2- سورة محمّد، الآية: 4-5.

الآيات 159-162

اشارة

{وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ 159 وَقَطَّعْنَٰهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَىٰهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَٰمَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 160 وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِئَٰتِكُمْ سَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ 161 فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ ٱلسَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ 162}

159- ولمّا ذكر اللّه تعالى قصصاً من عتوّ بني إسرائيل ذكر إيمان بعضهم إنصافاً لمن أحسن منهم فقال: {وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ} جماعة ممدوحون لأنّهم {يَهْدُونَ} يدعون الناس ويرشدونهم {بِٱلْحَقِّ} بكلمة الحق أو إلى الحق {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي وبذلك الحق يحكمون بالعدل في ما بينهم.

160- ثمّ يذكر اللّه مجموعة من نعمه على بني إسرائيل مقدمةً لذكر العذاب الدنيوي للذين كفروا بها فقال: {وَقَطَّعْنَٰهُمُ} أي قسّمناهم رحمةً بهم {ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} والأسباط كالقبائل، كل سبط من ذرّيّة أحد أولاد يعقوب (عليه السلام) الاثني عشر {أُمَمًا} أي كل سبط أمّة وهذا دليل كثرتهم

ص: 305

وبركة نسلهم. {وَ} من النعم عليهم: أن {أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ} حينما{ٱسْتَسْقَىٰهُ قَوْمُهُ} طلبوا منه الماء في التيه {أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ} حجراً كان معه وهو حِمل بعير {فَٱنبَجَسَتْ} أي تشقق الحجر بالماء فخرجت {مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ} من الأسباط {مَّشْرَبَهُمْ} مكان شربهم، فلكل سبط عين. {وَ} من النعم عليهم: أن {ظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَٰمَ} لمّا اشتكوا حر الشمس. {وَ} من النعم عليهم: أن {أَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ} وهو مائع حلو يقع على الأشجار ومنه الكمأة {وَٱلسَّلْوَىٰ} وهو طير يعرف بالسماني، وقلنا لهم: {كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا} حينما كفروا وعصوا بأن عبدوا العجل وطلبوا الرؤية وغير ذلك {وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأنّهم بخسوها حقّها من خير الدنيا والآخرة.

161- {وَ} من النعم: {إِذْ قِيلَ لَهُمُ} قاله موسى (عليه السلام) عن اللّه تعالى {ٱسْكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ} بيت المقدس {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} من أيّ مكان منها حيث الخيرات تتوفّر في كل مكان منها {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي اللّهم حُطّ ذنوبنا حطةً {وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ} باب القرية {سُجَّدًا} حال كونكم ساجدين شكراً اللّه بأن أنجاكم من التيه، فإن فعلتم ذلك {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِئَٰتِكُمْ} ذنوبكم، ونضيف إليه أن {سَنَزِيدُ} رحمة وثواباً وفضلاً {ٱلْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا بالطاعة.

162- لكنّهم انقسموا قسمين: {فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم وعصوا فقالوا {قَوْلًا غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وكان قولهم

ص: 306

استهزاء {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا} عذاباً {مِّنَ ٱلسَّمَاءِ} من فوقهم قيل: هوالطاعون {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} أي عقوبة على ظلمهم.

المؤمنون من بني إسرائيل

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.

لمّا ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة وسيذكر في الآيات اللاحقة عصيان بني إسرائيل ونزول العذاب عليهم، أراد بيان أنّ هناك محسنين منهم آمنوا وعملوا الصالحات فذكرهم إنصافاً لهم، فهؤلاء وإن كانوا أقليّة إلاّ أنّهم لم يغيّروا ولم يبدّلوا، وهذا دأب الأنبياء (عليهم السلام) حيث يكذّبهم أكثر الناس ويؤمن بهم البعض، والذين آمنوا بهم أيضاً صنفان: الأكثر منهم ضعاف الإيمان الذين يكفرون أو يعصون، والقليل منهم ثابتو الإيمان والعمل.

وقوله: {وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ} بيان أنّهم ليسوا مجرد أفراد وإنّما جماعة كثيرة لكنّها إذا قيست بسائر قومه كانوا قليلين.

وقوله: {يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ} يدعون إلى الحق ويرشدون الناس إليه، قيل: ظاهر السياق أنّ المقصود بهم الذين كانوا معاصرين لموسى (عليه السلام) ، وقيل: يشمل ذلك بني إسرائيل في زمانه ومن بعده، وقيل: المقصود بهم أنبياء بني إسرائيل وأوصيائهم لأنّ الهداية المطلقة لا تكون إلاّ منهم وبواسطتهم.

وقوله: {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي يحكمون بين الناس بالحق، أو بواسطة الحق يكون حكمهم عادلاً بين الناس، وقيل: هدايتهم للحق لغيرهم، وحكمهم به في ما بينهم، لكن الظاهر عموم الأمرين لهم ولغيرهم.

ص: 307

الثاني: قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَٰهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا...} الآية.

الظاهر أنّ المقصود بيان نِعم اللّه تعالى عليهم ليتبيّن أن عذاب الظالمين منهم لم يكن ظلماً لهم تعالى اللّه عنه، فيقال: مع عظيم مَنّ اللّه عليهم واختصاصهم بالنعم العظيمة دون سائر الناس ظلم الكثير منهم فاستحقّوا عذاب الدنيا والآخرة، وقد مرّ بيان هذه النعم في سورة البقرة وإنّما ذكرت هنا مقدّمة لذكر استحقاقهم للعذاب بمخالفتهم وهو الغرض الأصلي في هذه السورة.

والنعم قسمان: قسم أعطاهم اللّه إيّاها ومع ذلك تمرّدوا فعاقبهم بالتيه، وقسم آخر وعدهم بشرط الطاعة فلم يطيعوا فعاقبهم بالرجز، وقد ذكر القسم الأوّل في هذه الآية، والقسم الثاني في الآية التالية:

1- قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَٰهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ...} في تقريب القرآن: «وهذا من نعم اللّه سبحانه على بني إسرائيل؛ لأنّ القبائل المتعدّدة تمشي أمورها بيسر، بخلاف ما لو كان الجميع قبيلة واحدة، فإنّ الرؤساء إذا تعدّدوا تنافسوا في المكارم وسهل مراجعة المرؤوسين إليهم، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ}(1)»(2)، ويضاف إلى ذلك أنّ كثرتهم نعمة من اللّه عليهم.

وقوله: {أَسْبَاطًا} قيل: هو بدل عن {ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ} والتمييز مقدّر أي اثنتي عشرة فرقة وهي أسباط، والسبط هو الحفيد سواء كان ابن الابن أو ابن البنت، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل.

وقوله: {أُمَمًا} صفة أسباط أي كل سبط أمّة، وهذا لبيان كثرتهم

ص: 308


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 258.

وخصوبة نسلهم.

2- {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ...} وذلك لمّا تاهوا في الصحراء وعطشوا سقاهم اللّه بطريقة إعجازيّة حيث كان هناك حجر وهو حمل بعير يضربه موسى (عليه السلام) بالعصى فيخرج منه الماء فيشربون إلى أن يرتووا فينقطع، وهكذا بشكل مستمر.

وقوله: {بِّعَصَاكَ} هي العصى نفسها التي تحوّلت إلى حيّة.

وقوله: {فَٱنبَجَسَتْ} قال الخليل: «البجس انشقاق في قربة أو حجر أو أرض ينبع منها ماء، فإن لم ينبع فليس بانبجاس»(1)، وكان خروج الماء بتدفق قوي ولذا عبّر عنه في آية أخرى بالانفجار، قال: {فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}(2).

وقوله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشْرَبَهُمْ} أي مكان شربهم حتّى لا يتزاحموا ولا تقع بينهم مشاكل، فإنّ المعاجز نعمة ولذا هي كاملة من كل جهة لا تثير مشكلة إلاّ لو عاند وظلم بعض الناس فالمشكلة منهم لا منها.

3- وقوله: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَٰمَ} وقاية من حر الشمس، و(الغمام) هو ما يحيط بهم من السحب، وقيل: هو السحاب الأبيض الذي لا يمنع نور الشمس ولكن يمنع حرارته.

4- وقوله: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ} (المن) مائع حلو يقع على أوراق الأشجار وقد يتحوّل إلى صمغ شجرة أو الكمأة، وقد مرّ الكلام فيه

ص: 309


1- كتاب العين 6: 58.
2- سورة البقرة، الآية: 60.

في سورة البقرة، و(السلوى) طير السماني وهو لذيذ اللحم سهل التناول.

وقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا...} بيان أنّ هذه النعم الجليلة لم تمنعهم عن العتو والتمرّد ولذا عاقبهم اللّه تعالى.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ...} الآية.

بيان الصنف الثاني وهي النعم الموعودة لهم لكنّهم ظلموا فمنعها اللّه عن الظالمين وعذّبهم بالرجز، والنعم هي:

1- قوله: {ٱسْكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ} بيت المقدس وذلك للخلاص من التيه.

2- وقوله: {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} بيان وفور النعم فيها وإباحتها لهم بحيث كانت متوفّرة في كل مكان من القرية، وهاتان نعمتان ماديّتان.

3- وقوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ...} وهذه نعمة معنويّة بأن يغفر اللّه لهم ويثيبهم زيادة إذا سجدوا شكراً للّه ودعوه بأن يحط ذنوبهم حطّاً.

الرابع: قوله تعالى: {فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ ٱلَّذِي...} الآية.

بيان أنّ الظالمين منهم استهزؤوا بما أمره اللّه من السجود والدعاء فبدّلوا حطّة إلى كلام آخر استهزاءً بحكم اللّه فعاقبهم.

وقوله: {رِجْزًا} الرجس والرجز مترادفان، وهو مطلق ما يستقذر مادّيّاً أو معنويّاً، قيل: هو من إبدال السين زاءً، وقيل: يغلب استعمال الرجز في العذاب الإلهي، وإن كان يستعمل في سائر القذارات أيضاً، والرجز الذي نزل عليهم قيل هو الطاعون فأبادهم.

ص: 310

الآيات 163-166

اشارة

{وَسَْٔلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ 163 وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 164 فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِ بَِٔيسِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ 165 فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ 166}

ثمّ بيّن اللّه تعالى قصة عذاب قوم آخرين من اليهود لمّا عتو، فقال:

163- {وَسَْٔلْهُمْ} أي اسأل اليهود سؤال تذكير وتقريع {عَنِ} خبر {ٱلْقَرْيَةِ} هي إيلة {ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ} مجاورة له قريبة منه، {إِذْ} حينما كانوا {يَعْدُونَ} يتعدّون حدود اللّه {فِي ٱلسَّبْتِ} حيث منعهم اللّه عن الصيد فيه، {إِذْ} في الوقت الذي كانت {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} سهلة التناول ظاهرة على سطح الماء، {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} أي سائر الأيام حيث لا يكونون في السبت {لَا تَأْتِيهِمْ} تلك الأسماك، وكان هذا أمراً خارقاً للعادة، {كَذَٰلِكَ} أي هكذا بهذه الحالة {نَبْلُوهُم} نمتحنهم {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي هذا الامتحان كان بسبب معاصيهم فأراد اللّه الانتقام منهم بهذا الامتحان حينما يسقطون فيه، ثمّ إنّ الفاسقين منهم احتالوا على

ص: 311

النهي بأن صنعوا أحواض وصلوها بالبحر عبر السواقي فكانت الأسماك تدخلها يومالسبت فيمنعون خروجها ثمّ يقبضونها يوم الأحد زاعمين أنّهم لم يصيدوا في السبت.

164- وأما الذين لم يصيدوا في السبت فسكت بعضهم ونهى عن المنكر آخرون منهم {وَإِذْ} أي اذكروا الوقت الذي {قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ} من أهل القرية وهي الجماعة الساكتة قالوا للناهين عن المنكر: {لِمَ} لماذا {تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} في الدنيا بعذاب الاستئصال {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} في الآخرة، وذلك لتماديهم في غيّهم؟ {قَالُواْ} الأمّة الناهية عن المنكر: {مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ} أي نؤدّي فرضاً ليكون لنا عذر عند اللّه تعالى بطاعته {وَلَعَلَّهُمْ} لعل الصائدين {يَتَّقُونَ} يجتنبون الصيد فنحتمل تأثير وعظنا إذ قد يتوب العاصي.

165- {فَلَمَّا نَسُواْ} أي ترك الصائدون عمداً فكأنّهم نسوا {مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} من حرمة الصيد في السبت {أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوءِ} وهم الواعظون الناصحون حيث لم يصيدوا ونهوا عن المنكر، {وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ} وهم الصائدون والذين لم ينهوهم عن المنكر {بِعَذَابِ بَِٔيسِ} الشديد البأس {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بسبب فسقهم حيث بعضهم صاد وبعضهم الآخر ترك النهي عن المنكر وثبّط الناهين عنه.

166- ثمّ يوضّح اللّه ظلمهم ونوعية عذاب الصائدين بالعطف التوضيحي فقال: {فَلَمَّا عَتَوْاْ} تمرّدوا ولم يطيعوا {عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} عن تركه {قُلْنَا

ص: 312

لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ} مطرودين عن الرحمة.

قصة أصحاب السبت

بحوث

الأوّل: هذا بيان قصّة أخرى من عذاب العاصين في الدنيا وذلك بمسخهم قردة خاسئين، وهم قوم من ثمود كما في الرواية(1) - من ذرّيّة من آمن مع صالح (عليه السلام) - كانوا قد دخلوا في شريعة اليهود لأنّها كانت الشريعة التي يلزم الناس الالتزام بها في ذلك الوقت، وكانوا يسكنون في إيلة - وتسمى الآن إيلات - ، وقد كثر فيهم العصيان فأراد اللّه تعالى أن يهلك العاصين فامتحنهم بامتحان صعب، كما قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا}(2).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إن اليهود أمروا بالإمساك يوم الجمعة فتركوا يوم الجمعة فأمسكوا يوم السبت»(3)، وفي تفسير القمّي: «وكانت العلّة في تحريم الصيد عليهم يوم السبت أنّ عيد جميع المسلمين وغيرهم كان يوم الجمعة، فخالفت اليهود وقالوا: عيدنا يوم السبت فحرّم اللّه عليهم الصيد يوم السبت»(4)، وهذا نظير عقوبتهم بظلمهم عبر تحريم بعض الطيّبات عليهم قال: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ...}(5).

ص: 313


1- راجع تفسير العيّاشي 2: 34؛ وتفسير القمي 1: 244؛ وعنهما البرهان في تفسير القرآن 4: 207 و 211.
2- سورة الإسراء، الآية: 16.
3- تفسير العيّاشي 2: 34.
4- تفسير القمّي 1: 244.
5- سورة النساء، الآية: 160.

وإمعاناً في الامتحان أظهر اللّه الأسماك يوم السبت وأخفاها سائر الأيام،فتجرّأ البعض منهم بالصيد يوم السبت بحيلة احتالوها بأن كانوا في يوم السبت يحبسون الأسماك في أحواض متّصلة بالبحر، ثمّ يقبضونها يوم الأحد زاعمين أنّهم لم يصيدوا في السبت! وكان هذا دأب أكثرهم، وكان القليل منهم من المؤمنين ينهونهم عن المنكر ثمّ اعتزلوهم وخرجوا عن المدينة، وكان البعض لا يصيدون ولكنّهم كانوا لا ينهون عن المنكر بل كانوا يثبطون الناهين، فأنزل اللّه عذابه على الصائدين والساكتين ثمّ أهلكهم عقوبة لهم وليكونوا عبرة لسائر الناس، وقد ذكرت الروايات تفصيل قصّتهم فراجعها في تفسير البرهان(1)، وقد مرّ بعض الكلام في سورة البقرة الآية 65-66(2).

الثاني: قوله تعالى: {وَسَْٔلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ...} الآية.

سؤال تذكير لهم وتقريع وتحذير، فإنّ أكثر اليهود زمان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خالفوا أمر اللّه في التوراة باتّباع رسوله محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيقال لهم: إنّ أولئك لم يخالفوا أصلاً من أصول الدين لكنّهم عصوا في الفروع فعذّبهم اللّه تعالى بالمسخ فهل تكونون أنتم في أمان من عذابه وأنتم تكذّبون رسالة محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي من أصول الدين؟!

وقوله: {حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ} الحضور ضد الغياب، أي كانت على ساحل البحر ولم تكن بعيدة عنه.

ص: 314


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 206-213.
2- التفكر في القرآن، سورة البقرة 1: 154-157.

وقوله: {إِذْ يَعْدُونَ} من عدا يعدو ومنه الاعتداء، وهو تجاوز الحد، فقدتجاوزوا حد اللّه تعالى حيث نهاهم فارتكبوا المحظور.

وقوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} الظاهر أنّ ذلك كان أمراً خارقاً للعادة لأنّ اللّه كان يريد أن يمتحنهم كما قال: {كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم}، فإنّ من المستبعد أن يميّز الحيوان بين أيّام الأسبوع. نعم، قد يألف الحيوان مكان الأمن وينفر من مكان الصيد لكن أن يميّز زمان الصيد وزمان عدم الصيد فالظاهر عدم إمكانه.

وقوله: {شُرَّعًا} جمع شارع أي سهلة التناول، قيل أصل الكلمة من شريعة الماء وهي الأماكن الواسعة قليلة العمق بجنب النهر حيث يمكن تناول الماء منها بسهولة، ولذا استعملت المادة في كل ما يسهل تناوله كأحكام الدين ونحوه، وفي المقاييس: «حيتان شرع: تخفض رؤوسها تشرب»(1)، وكأنّ المراد عدم حذرها.

وقوله: {لَا يَسْبِتُونَ} أي لا يدخلون في السبت بأن كانوا في سائر أيّام الأسبوع، يقال: أسبت أي دخل في السبت، وأجمع دخل في الجمعة.

وقوله: {كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم} أي هكذا وبهذا الأمر، و(البلاء) من مادة (ب ل و) وهو بمعنى الظهور أي هكذا نخرج باطنهم ونظهره.

وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي هذا الامتحان الصعب كان نتيجة فسقهم حيث عصوا اللّه تعالى فأراد إهلاكهم عبر امتحان صعب، فقد يكون العاصي مستحقّاً للعقاب لكن الناس لا يعلمون التفاصيل فيكون أخذه بما يستحق

ص: 315


1- مقاييس اللغة 3: 262.

مثار سؤال واستنكار، فلذا الحكيم يظهر أوّلاً استحقاقه ثمّ لمّا لم يبق له عذرولا يعذره الناس أخذه بالعذاب.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ...} الآية.

بيان أنّ أهل إيلة انقسموا إلى ثلاث أقسام - تمهيداً لبيان عذاب طائفتين منهم - : الصائدين وقد ذكرهم في الآية السابقة، والذين ما صادوا وما نهوا عن المنكر، والذين لم يصيدوا ونهوا عن المنكر.

وفي الآية بيان سبب نهيهم عن المنكر بأمرين:

1- إطاعة اللّه تعالى حيث أوجب النهي عن المنكر.

2- احتمال التأثير في الصائدين أو بعضهم، لعدم علمهم بالغيب، وأحياناً يتّعظ العاصي ولو بعد تكرار نهيه عن المنكر، وقد شاهدنا أناساً داوموا على المعصية ولم تؤثّر فيهم المواعظ لكن موعظة واحدة في موقفٍ قلبتهم رأساً على عقب فتابوا وحسنت توبتهم، وهذا عادةً يكون في غير المعاندين الذين ينساقون إلى شهواتهم من غير عتو فقد يوفّقهم اللّه إلى التوبة وقد يكون ذلك التوفيق جزاءً لبعض أعمالهم الصالحة.

معصية الساكتين عن المنكر

وأما الساكتون فهؤلاء ارتكبوا معصيتين:

الأولى: عدم نهيهم عن المنكر.

والثانية: تثبيطهم الناهين عن المنكر.

وقوله: {لِمَ تَعِظُونَ} قالوه تثبيطاً، وإلاّ فلو كانوا يائسين حقيقة عن هدايتهم لما كان عليهم بأس في ترك النهي عن المنكر؛ إذ من شرائط

ص: 316

وجوبه احتمال التأثير - فيهم أو في غيرهم - فلو استيقن عدم تأثيره لميجب، وحيث إنّ اللّه عذّب الساكتين علمنا أنّهم كانوا يحتملون التأثير لكن تركوه كسلاً وعصياناً وزادوا عليه معصية التثبيط.

وقوله: {مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} إمّا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، أو كلاهما في الدنيا حيث إنّ اللّه عاقب أمماً سابقة تارة بالهلاك وتارة بالتضييق، كما أخذ آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات والجراد والقمّل والدم وغيرها من الآيات، ثمّ أهلكهم بأن أغرقهم.

وقوله: {مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ} أي ليكون لنا عذر عند اللّه تعالى؛ وذلك لأنّ اللّه يأخذ العالم بذنب الجاهل إذا لم يمنعه ولم ينهه، وذلك لوجوب المنع عن المنكر بالقهر، فإن لم يتمكّن فبالموعظة التي يحتمل تأثيرها، فإن ترك ذلك لم يكن معذوراً، أو أنّ الذنب الذي يقع في الأرض يسأل الجميع عنه ولا عذر لمن أتى به أو لم يمنع عنه، وأمّا من نهى عنه فإنّه يكون معذوراً حيث حاول منعه لكنه لم يتمكّن، نظير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلى قوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}(1).

وقوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} بيان احتمالهم تأثير الكلام فيهم.

الرابع: قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ

ص: 317


1- سورة المائدة، الآية: 116-117.

ٱلسُّوءِ...}.

أي لمّا عاند الصائدون فاستمروا في عصيانهم فحينذاك عذّبهم اللّه تعالى.

وقوله: {نَسُواْ} أي تركوا المواعظ فلم يعملوا بها، كالناسي الذي يترك الشيء، فكما أنّ الشيء لا يؤثّر في الناسي كذلك لم يؤثّر فيهم.

قيل: إنّ الناسي حقيقة لا عقاب عليه لأنّ النسيان مرفوع! وهذا الكلام وإن كان صحيحاً إلاّ أنّه لا ينطبق على الذي أصر على المعصية ثمّ نسيها، كمن غصب داراً وسكنها عامداً عالماً ثمّ نسي أنّها مغصوبة، فهذا نسيان بسوء الاختيار ولا يشمله الرفع.

وقوله: {وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ} وهم الصائدون والساكتون، فكلاهما ظالم لنفسه عاص، أمّا قول بعض المفسّرين بأنّ الساكتين أيضاً كانوا ناجين لأنّهم لم يرتكبوا المنكر وكانوا يعلمون بأنّ اللّه سيغضب على الصائدين! فغير صحيح لأنّ قوله: {مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ} وقوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وقوله: {أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوءِ} وقوله: {وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ} فيها دلالة واضحة على إهلاك الساكتين حيث لم يكونوا معذورين، وكان احتمال تأثير النهي وارداً، وإنّ اللّه خص النجاة بالناهين، وعمّ العذاب للذين ظلموا ولم يخصّه بالصائدين.

وقوله: {يَفْسُقُونَ} يخرجون عن الطاعة إمّا بالصيد وإمّا بترك النهي وتثبيط الناهي.

الخامس: قوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ}.

ص: 318

الآية السابقة دلّت على عذاب الظالمين بعذاب بئيس، وهذه الآية تدلعلى عذاب المسخ بعد العتو حيث قال: {فَلَمَّا عَتَوْاْ...} وقد اختلفت كلمات المفسّرين هنا فقال بعضهم: إنّ اللّه عذّبهم بعذابين والآية السابقة تدل على عذاب أصابهم دون الإهلاك ودلّت الآية اللاحقة على أنّهم لم يرتدعوا وعاندوا فمسخهم اللّه!

وقال بعضهم: إنّ إحدى الآيتين حول عذاب الصائدين والأخرى حول عذاب الساكتين!

والأقرب بسياق الآيات وما في الروايات أنّ اللّه عذّب الصائدين والساكتين جميعاً، والآية الأولى أجملت فذكرت عذاب الظالمين وأنّه كان عذاباً بئيساً، وأمّا الآية الثانية فهي عطف توضيحي لبيان خصوص عذاب الصائدين ونوعيّته حيث فصّلت في أنّ ظلمهم كان مصاحباً للعتو وأنّ ذلك العذاب البئيس كان مسخهم قردة.

وبعبارة أخرى: إنّ الآية الأولى في مقام بيان فارق الطوائف الثلاث، فقد أنجى اللّه طائفة لأنّهم أطاعوا اللّه فنهوا عن السوء، وأهلك اللّه الساكتين والصائدين لأنّهم خرجوا عن طاعة اللّه بالظلم، وأمّا الآية الثانية فهي في توضيح وشرح ظلم الصائدين ونوعيّة عذابهم، وهذا النوع من البيان متعارف في المحاورات بين الناس، فقوله: {فَلَمَّا عَتَوْاْ...} ليس تفريعاً على الآية السابقة وإنّما هو بيان لقوله: {فَلَمَّا نَسُواْ...}.

وقوله: {عَتَوْاْ} هو الاستكبار والتمرّد عن الطاعة.

وقوله: {قُلْنَا لَهُمْ} أي بإرادتنا التكوينيّة حوّلناهم إلى قردة، ف{قُلْنَا} إمّا

ص: 319

كناية عن الإرادة، أو إنّ اللّه تعالى جعل هذه الألفاظ سبباً.

وقوله: {خَٰسِِٔينَ} أي مطرودين عن رحمة اللّه، ولعلّ المقصود أنّ عذابهم الدنيوي لا يرفع عنهم العذاب الأخروي، فإنّ اللّه لا يجمعهما على مؤمن كما في بعض الأحاديث(1)، وأمّا الفاسق فهو أهون على اللّه من ذلك بل عقوبته الدنيويّة هي شروع جزائه على عمله وليست كل جزائه.

ويحتمل أن يكون المقصود هو أنّ العذاب لم يتوقّف على المسخ بل زاد اللّه عذاباً آخر بإهلاكهم، وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) - بعد أن ذكر حديث مسخهم - أنّه قال: «فما زالوا كذلك ثلاثة أيّام، ثمّ بعث اللّه عز وجل عليهم مطراً وريحاً فجرفهم إلى البحر، وما بقي مسخ بعد ثلاثة أيّام، وإنّما الذين ترون من هذه المصوّرات بصورها فإنّما هي أشباحها، لا هي بأعيانها ولا من نسلها»، ثمّ قال (عليه السلام) : «إنّ اللّه مسخ هؤلاء لاصطياد السمك فكيف ترى عند اللّه عز وجل يكون حال من قتل أولاد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهتك حريمه؟ إنّ اللّه وإن لم يمسخهم في الدنيا فإنّ المعد لهم من عذاب الآخرة أضعاف هذا المسخ»(2).

ص: 320


1- راجع الكافي 7: 265.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 209-210.

الآيات 167-171

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ ٱلْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ 167 وَقَطَّعْنَٰهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ وَبَلَوْنَٰهُم بِٱلْحَسَنَٰتِ وَٱلسَّئَِّاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 168 فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ 169 وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ 170 وَإِذْ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 171}

ثمّ بيّن اللّه تعالى عقابهم لمّا خالفوا الميثاق وذلك بالذل والتفرّق، فقال:

167- {وَإِذْ} اذكر الوقت الذي {تَأَذَّنَ} أخبر وأعلم {رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ} يسلّط {عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ} مستمرّاً ماداموا ناقضين للميثاق {مَن يَسُومُهُمْ} يولّيهم ويذيقهم {سُوءَ ٱلْعَذَابِ} أي العذاب السيّء لشدّته، فإنّه نتيجة عمل كل جيل ورضاه بفعل آبائه، وسبب هذا التقدير {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ} لمن شاء عقابه في الدنيا {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن تاب، فالمعنى إذا تابوا رفع اللّه عنهم هذا العقاب.

ص: 321

168- {وَ} من عقوبتهم أنّا {قَطَّعْنَٰهُمْ} فرّقناهم {فِي ٱلْأَرْضِ أُمَمًا} جماعات فلذا كانوا تحت سيطرة من يذلّهم لعدم اجتماعهم ولا اجتماعكلمتهم {مِّنْهُمُ ٱلصَّٰلِحُونَ} وهم الذين آمنوا بعيسى (عليه السلام) وبرسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {وَمِنْهُمْ} ناس {دُونَ ذَٰلِكَ} منحطّون عن الصلاح فهم مفسدون، {وَبَلَوْنَٰهُم بِٱلْحَسَنَٰتِ} ما يسرّهم كالخيرات {وَٱلسَّئَِّاتِ} ما يسوؤهم كالضرّاء {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن غيّهم فيشكروا عند النعم، ويتضرّعوا عند النقم، وهذا من لطف اللّه بعباده المذنبين ليتوبوا رحمة بهم.

169- لكنّهم لم يعتبروا {فَخَلَفَ} جاء {مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} هم خلف سوء لم يكن فيهم صالحون {وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ} وصلت إليهم التوراة حيث تلقّوها عن سلفهم لكنّهم لم يعملوا بها حال كونهم {يَأْخُذُونَ عَرَضَ} أي حطام {هَٰذَا ٱلْأَدْنَىٰ} الأقرب الأحقر، وهو عرض لا دوام له {وَيَقُولُونَ} كذباً وافتراءً {سَيُغْفَرُ لَنَا} أي لا يؤاخذنا اللّه على ما نعمله من الحرام وأكل السحت، {وَ} هم مع ذلك مصرّون على ذنبهم لا يحدّثون أنفسهم بالتوبة ف{إِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ} مثل العرض السابق {يَأْخُذُوهُ}، ثمّ ينكر اللّه عليهم ذلك بقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ} العهد الأكيد المذكور في التوراة، وذلك الميثاق {أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ} بأن يحلّلوا حلاله ويحرموا حرامه، فما بالهم يعصون ويفترون؟! {وَ} هم متذكّرون لما في الكتاب؛ إذ {دَرَسُواْ مَا فِيهِ} قرؤوه فهم عالمون به، ثمّ يدعوهم اللّه إلى إعمال عقولهم فيقول: {وَٱلدَّارُ ٱلْأخِرَةُ} أي ثوابها {خَيْرٌ} من عرض الدنيا

ص: 322

{لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} المعاصي {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} استفهام إنكاري أي لماذا لا تحكّمون عقولكم لتعملوا بهذا؟

170- {وَ} لكن إن تابوا تاب اللّه عليهم ف{ٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} تمسّكوا {بِٱلْكِتَٰبِ} بأن عملوا بالتوراة أو عموم الكتب السماوّية فوفوا بالميثاق ولم ينقضوه {وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ} فهؤلاء ينالون أجرهم؛ إذ {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ} الذين أصلحوا أنفسهم بالطاعة فصلحت بذلك البلاد والعباد.

171- {وَإِذْ} أي كما أخذنا عليهم الميثاق في الكتاب كذلك أخذنا الميثاق حينما {نَتَقْنَا} قلعنا {ٱلْجَبَلَ} من أصله ورفعناه {فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي ما يظلّهم كالسقيفة فوق رؤوسهم {وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ} ساقط عليهم فقلنا إمّا تتعهّدوا بالعمل بالكتاب أو نسقط الجبل عليكم فأعطوا الميثاق، وقلنا لهم: {خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَٰكُم} الكتاب {بِقُوَّةٖ} بعزم في القلوب وجد واجتهاد بالجوارح {وَٱذْكُرُواْ} بالعمل {مَا فِيهِ} من الأحكام {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} عذاب اللّه تعالى الذي أعدّه للعصاة.

بحوث

الأوّل: هذه الآيات بيان عقوبة دنيويّة أخرى نالتهم حينما خالفوا أمر اللّه وميثاقه حيث إنّ اللّه أنزل التوراة عليهم فلمّا رأوا صعوبة أحكامها رفضوها فحذّرهم اللّه تعالى من عقابه بأن قطع الجبل ورفعه فوق رؤوسهم وقال لهم: إمّا أن يتعهدوا بالعمل به وإمّا أن يعاقبهم اللّه على تمرّدهم بكبس الجبل عليهم فيهلكوا، فأعطوا الميثاق فرفع اللّه عقابهم، كما أنّ الكتاب بنفسه فيه

ص: 323

الميثاق بأن يعملوا به وهم قد تعهّدوا بذلك، مضافاً إلى أنّ الميثاق موجود في الفطرة وقد خالفوها وهذا ما يتم بيانه في آيات لاحقة.

ثمّ إنّ اللّه سبحانه اختبرهم بالشدّة والرخاء عسى أن يعملوا بعهدهم ويرجعوا إلى فطرتهم، فأمّا الذين لم يخالفوا العهد فاللّه يغفر لهم ويرحمهم ولا يضيع أجرهم لأنّهم مصلحون، وأمّا الذين خالفوا العهد فاللّه عاقبهم بأن أذلّهم في الدنيا بأن أرسل عليهم من يسومهم سوء العذاب مع تفرّقهم وتشتّتهم بحيث لا يتمكّنون من دفع أذى الآخرين عن أنفسهم، وأمّا قوّتهم حاليّاً واجتماعهم في دولتهم الغاصبة فلم يرفع الذل عنهم وذلك لأنّهم اتخذوا حبلاً من الناس واستقووا بالقوى العظمى النصرانيّة فهم أذلاء عندهم يطبّقون ما يريده أولئك منهم، وهم مع ذلك في خوف وقلق دائمين، ومن المؤكّد أنّه لا تمضي إلاّ أيّاماً قلائل ويتبدّد جمعهم ويزولون ويعودون إلى الشتات والتفرّق، قال تعالى: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَٰفِرِينَ حَصِيرًا}(1).

وهذه الآيات قدّمت ذكر العذاب ثمّ بيّنت سببه بمخالفة الميثاق، ولعلّ ذلك مراعاةً للسياق مع الآيات السابقة حيث انتهت بذكر عذاب أصحاب السبت بمسخهم قردة خاسئين، وهؤلاء إنّما هم امتداد لأولئك، أو لأنّ ذلّهم مشاهد وليس مجرّد نقل قضيّة تاريخيّة فذكر اللّه ما يشاهده الناس أوّلاً ثمّ ذكر سببه، فتكون العبرة فيه أوضح.

ص: 324


1- سورة الإسراء، الآية: 8.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ...} الآية.

قوله: {تَأَذَّنَ} مثل أذّن والمعنى أنّه أخبر وأعلن ذلك، وفي هذا معنىالقَسَم ولذا كان جوابه بقوله: {لَيَبْعَثَنَّ} كجواب القسم.

وقوله: {رَبُّكَ} لم يقل ربّهم ولعلّه لأنّ الرب بمعنى المصلح كما مرّ، واللّه تعالى لم يصلحهم لسوء أعمالهم.

وقوله: {لَيَبْعَثَنَّ} البعث هو الإرسال، والمقصود هو أنّ اللّه يسلط عليهم وذلك بأن لا يمنع الظالمين عنهم.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ} لأنّ كل جيل لاحق يقفو الجيل السابق في نقض العهد وسوء الأعمال، فمادام السبب مستمراً فالعقوبة مستمرّة.

وقوله: {يَسُومُهُمْ} من السوم وهو الطلب والعلامة(1)، والمراد هنا يكلّفهم ويذيقهم ويولّيهم كأنّه الوسمة والعلامة عليهم.

وقوله: {سُوءَ ٱلْعَذَابِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف أي العذاب السيّء، وهو العذاب الشديد، وهذا تارة يكون بحق كإجلاء بني النضير، وقتل وسبي بعض بني قريظة، وأخذ الجزية منهم وهم صاغرون، وقد يكون بباطل كما قال سبحانه: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2).

وقوله: {لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ} أي عذابه الدنيوي فإنّه أسرع من عذاب الآخرة، وإمهال الظالم أيّاماً معدودة ثمّ أخذه لا ينافي سرعة العذاب، والمقصود بيان أنّ اللّه أحياناً يسرع في العذاب وهذا لا ينافي تأخير العذاب إلى الآخرة

ص: 325


1- للتفصيل راجع مقاييس اللغة 3: 118.
2- سورة الأنعام، الآية: 129.

أحياناً كثيرة.

وقوله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فتح باب التوبة لهم بأنّهم إن تابوا وعملوابالميثاق الذي منه الإيمان بالأنبياء اللاحقين فإنّ اللّه يرفع عنهم هذا العذاب لأنّه غفور رحيم، وقيل: لمّا بيّن اللّه أنّه سريع العقاب أراد بيان أنّ السرعة هي أحياناً لا دائماً لذا عقّبه بقوله: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، والأوّل أظهر.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَٰهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ...} الآية.

هذا من تتمّة بيان عقوباتهم الدنيويّة، فإنّ التفريق والوقوع تحت سلطة الآخرين نوع إذلال لهم وهم الذين يزعمون أنّهم شعب اللّه المختار، والسبب أن اللّه تعالى أراد أن يتوبوا ويرجعوا إلى العمل بالميثاق.

وقوله: {وَقَطَّعْنَٰهُمْ} أي فرّقناهم إذلالاً لهم، والظاهر أنّ ذلك كان عبر الحكّام الظالمين كبخت النصر الذين طردوهم عن فلسطين فكل جماعة منهم ذهبت إلى طرف من الأرض.

وقوله: {أُمَمًا} بيان أنّهم خرجوا عن كونهم أمّة واحدة ففقدوا عنصر قوّتهم، كما أنّ قلوبهم متفرّقة، قال تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ}(1)، وقال: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}(2).

وقوله: {مِّنْهُمُ ٱلصَّٰلِحُونَ} هذا إنصاف لهم وبيان أنّ بعضهم كانوا

ص: 326


1- سورة المائدة، الآية: 14.
2- سورة الحشر، الآية: 14.

ملتزمين بالميثاق والذي فيه الإيمان بالأنبياء اللاحقين كعيسى (عليه السلام) ومحمّد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولكن بما أنّ الأكثر نقضوا العهد فالبليّة عمّتهم، قالسبحانه: {وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}(1)، أو هو تحريض للعصاة منهم بأن يصلحوا كما صلح بعض أسلافهم.

وقوله: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ} أي دون الصالحين وهم المفسدون الكفرة والفسقة منهم.

وقوله: {وَبَلَوْنَٰهُم...} بيان أنّ اللّه تعالى لم يقطع لطفه عنهم بل صنع بهم ما يرجى معه توبتهم، فتارة بالحسنات ليشكروا، وتارة بالمصائب ليتضرّعوا، وكلاهما - النعمة والنقمة - كانت رحمة لهم ليتذكّروا فيرجعوا عن غيّهم ويتّعظوا.

الرابع: قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلْأَدْنَىٰ...} الآية.

بيان أنّه كما كان في السلف الصالحون ودون ذلك، كذلك في الأجيال اللاحقة فمنهم من يأخذون عرض الدنيا، ومنهم من يتّقون.

فأمّا الصنف الأوّل - وهم الأكثر - فهم مصرّون على طلب الدنيا وترك الآخرة مع أنّ الكتاب بأيديهم ويعلمون ما فيه، وهم يمنّون أنفسهم بأنّ اللّه يغفر لهم ذنوبهم لذا لا يخافونه ولا يخافون عذابه.

وأما الصنف الثاني فيذكرهم في الآية 170 اللاحقة.

ص: 327


1- سورة الأنفال، الآية: 25.

وقوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي جاء من بعدهم مكانهم، قيل: الخَلْف - بسكون اللام - هم بدل السوء، والخَلَف - بفتحتين - هم بدل الخير.

وقوله: {وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ} أي وصلت التوراة إليهم من أسلافهم فكأنّهم ورثوها؛ لأنّ الإرث هو ما كان للسلف ومن بعده انتقل للخلف.

وقوله: {يَأْخُذُونَ} حال أي لم ينتفعوا بهذا الميراث.

وقوله: {عَرَضَ هَٰذَا ٱلْأَدْنَىٰ} العَرَض هو الزائل الذي يقل لبثه ولا ثبات له، و{ٱلْأَدْنَىٰ} تذكير الدنيا، مقابل الآخرة، ودنوّه لقربه أو خسّته، والمقصود أنّ همّهم الدنيا فيأخذون منها ما وجدوه من غير مراعاة لما في الكتاب.

وقوله: {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} أي يفترون على اللّه بأنّه وعدهم الغفران فلا بأس عليهم بما يفعلوه من الحرام! وهذا تمنٍّ باطل، قال سبحانه: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}(1)، وليس المؤمن هكذا فإنّه يرجو رحمة اللّه بعمله الصالح، قال سبحانه: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}(2).

وقوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} بيان إصرارهم على حطام الدنيا والعصيان فلا يكتفون بما كسبوه من حرام بل لهم الجشع والطمع فكلّما وقع بأيديهم من الدنيا حتّى من حرامها أخذوه حتّى وإن لم يحتاجوا إليه.

وقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم...} تذكير بأن اللّه قد أخذ منهم الميثاق في

ص: 328


1- سورة النساء، الآية: 123.
2- سورة الكهف، الآية: 110.

التوراة وهم قد وعدوا بالعمل بها، فما بالهم تركوها؟!

وقوله: {مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ} الإضافة بمعنى (في) أيّ الميثاق في الكتاب.

وقوله: {أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ} عطف بيان على {مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ}، أو مفعول لأجله أي أخذ الميثاق لئلا يقولوا إلاّ الحق، ولكنّهم نقضوا حيث افتروا على اللّه بأنّه سيغفر لهم! مع أنّه لم يَعِد اللّه العصاة بالغفران بل أوعدهم بالعذاب، وأمّا مغفرته فأخبر بعدم شمولها المشركين، وترك الباقي في المشيئة إن شاء غفر لهم بفضله وإن شاء عذّبهم بعدله.

وقوله: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} بيان أنّهم علموا بما في الكتاب، فليس مجرّد أوراق ورثوها عن أسلافهم لا يعلمون ما فيها كي يكونوا معذورين، بل درسوها في ما بينهم قراءة ومعرفة لكن من غير عمل.

وقوله: {وَٱلدَّارُ ٱلْأخِرَةُ...} بيان أنّ عرض الدنيا لا قيمة له لأنّه زائل ويستتبع عذاباً دائماً، وإنّما الخير في ثواب الآخرة لكن يشترط فيه التقوى بأن لا يقترب الإنسان من العَرَض الدنيوي الحرام حتّى وإن كان فيه شهوته.

الخامس: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ}.

الظاهر أنّه استيناف لبيان الصنف الثاني - وهم الأقل - وهم الذين وفوا بالعهد ولم ينقضوا الميثاق، وآية ذلك أنّهم تمسّكوا بالكتاب والتزموا الطاعة، وهكذا اتقوا المعاصي، ولم يكرّره لأنّه قد ذكره في الآية السابقة.

وقوله: {يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَٰبِ} أي يتمسّكون، وأصل المَسك الأخذ باليد،

ص: 329

والتمسّك شدّة الأخذ ولا يكون ذلك إلاّ بالاعتقاد والعمل، و(الكتاب) هو التوراة غير المحرّفة، وهي التي تدعو إلى عيسى (عليه السلام) ورسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلا يمكن التمسّك بها إلاّ بالإيمان بهما واتّباعهما.

وقوله: {وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ} أي أتوا بالطاعات، وذكرت الصلاة مَثَلاً لأنّها أفضل الطاعات بعد أصول الدين ولأنّها تنهى عن الفحشا والمنكر إذا أتي بها صحيحة وعلى وجهها.

وقوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ...} خبر قوله: {ٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} والمعنى إنّا لا نضيع أجرهم لأنّهم مصلحون، وقيل: {وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} عطف على قوله: {لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وعليه فقوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ} استيناف، وأصل الضياع فقدان الشيء وفوته وهلاكه، والأجر محفوظ باق.

السادس: قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ...} الآية.

تذكير لهم بالميثاق الذي واثقوه على أنفسهم، وتذكير لهم بأنّ العذاب إنّما ارتفع عن أسلافهم لمّا واثقوا، وفيه تهديد لهؤلاء.

وقوله: {نَتَقْنَا} النتق هو قلع الشيء من أصله.

وقوله: {فَوْقَهُمْ} أي ورفعناه فوق رؤوسهم كما قال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ}(1).

وقوله: {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} لعلّه إشارة إلى أنّه كان قريباً من رؤوسهم

ص: 330


1- سورة البقرة، الآية: 63.

كالسقيفة.وقوله: {وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ} لأنّهم علموا أنّ ذلك عقوبة على تمرّدهم، وهم قد علموا أنّ اللّه قد يعاقب المتمرّدين بعذاب من عنده، والظن هنا بمعنى العلم، وقيل: بل بمعنى الاحتمال الراجح أي رجح عندهم أنّ اللّه سيعذّبهم به، وقيل: إنّما أطلق الظن لأنّه لم يقع متعلّقه!

وقوله: {وَاقِعُ بِهِمْ} الباء للمصاحبة أي يقع ويُوقعهم، وقيل: الباء للسببيّة أي واقع عليهم بسبب سوء عملهم.

وقوله: {خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٖ} أي بعزم في القلوب وجد واجتهاد في العمل.

وقوله: {وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ} تأكيد حيث إنّ الأخذ بقوّة يدل عليه، أو بيان لزوم الاستمرار فيه.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي تتقون عذاب اللّه تعالى بهذا الأخذ والذكر.

ثمّ إنّه قد مرّ الكلام حول هذا الموضوع في الآية 63 من سورة البقرة فراجع(1)، والغرض هنا ليس التكرار وإنّما بيان أنّ عذابهم بالذل والتفريق هو نتيجة نقضهم لهذا الميثاق الذي أكّده اللّه على أسلافهم برفع الطور، وأكّده عليهم بما كتبه في الكتاب.

ص: 331


1- التفكر في القرآن، سورة البقرة 1: 149-153.

الآيات 172-174

اشارة

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ 172 أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ 173 وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 174}

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّه كما أخذ الميثاق منهم يوم رفع الطور فكذلك أخذ الميثاق منهم ومن غيرهم بالفطرة حيث ركّبها في عالم الذر، فقال:

172- {وَإِذْ} أي واذكر الوقت الذي {أَخَذَ} أخرج {رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} أي أصلابهم، و«ظهورهم» بدل بعض من الكل فالمعنى: أخرج من أصلاب بني آدم {ذُرِّيَّتَهُمْ} نسلهم وأولادهم، فالخلق للّه تعالى وحده، {وَ} الهداية منه أيضاً حيث {أَشْهَدَهُمْ} جعلهم شهوداً {عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} حيث إنّ فطرة الإنسان شاهدة عليه ولا يمكنه إنكارها، قائلاً لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؟ والاستفهام للتقرير، {قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا} فاعترفوا بربوبيّته تعالى فركّب الفطرة عليهم حينذاك، فهذه الشهادة دائماً موجودة معهم، وإنّما أشهدهم كراهيّة {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ} حين الاحتجاج معكم: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا} ربوبيّة اللّه {غَٰفِلِينَ} لم ننتبه له فلم تقم علينا حجة.

173- {أَوْ تَقُولُواْ} معتذرين عن شرككم: {إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ}

ص: 332

قبل أن نشرك نحن {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} فحيث لم يكن لنا طريق إلى الحق اتّبعناهم لأنّا ظننا أنّهم أعلم منّا وأنّ شركهم عن دراية {أَفَتُهْلِكُنَا} أي تعذّبنا يا رب {بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ} وهم الآباء المشركون؟ لكن حيث ركّبنا عليكم الفطرة في عالم الذر تمّت الحجّة عليكم فلم تكونوا غافلين، ولا عذر لكم حينئذٍ باتّباع الآباء المشركين، ولم يكن عذابكم إلاّ بما كسبت أيديكم.

174- {وَكَذَٰلِكَ} كما بيّنا هذه الآية الدالّة على التوحيد - وهي الفطرة - كذلك {نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ} نوضّحها ليعرفها كل الناس، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من الباطل والضلال إلى الحق والهداية، عطف على «أن تقولوا...» أي ركّبنا الفطرة لئلا تحتجّوا علينا يوم القيامة ولرجاء رجوعكم إلى الإيمان في الدنيا.

عالم الذر

بحوث

الأوّل: هذه الآيات من تتمّة آيات عذاب بني إسرائيل لمّا عصوا أمر اللّه تعالى؛ وذلك لأنّهم خالفوا الميثاق الذي كتبناه في التوراة والميثاق الذي أخذناه منهم لمّا رفعنا الطور فوقهم، وهكذا خالفوا فطرتهم وهي التي ركبّها اللّه على الناس أجمع في عالم الذر.

ثمّ إنّه قد تواترت الروايات حول عالم الذر فقد أحصينا أكثر من مائة حديث في مصادر كثيرة، إلاّ أنّ بعض المفسّرين أعرض عن هذه الروايات إمّا لعدم وصولها إليه إلاّ بعض ما سنده ضعيف، وإمّا بزعم عدم حجّيتها

ص: 333

لعدم تواترها أو مخالفتها لظاهر الآية أو مخالفة للعقل!

إلاّ أنّ الروايات لا تخالف ظاهر الآية بل هي تفسير أو تأويل لها، ولا محذور في عالم الذر عقلاً وقد ثبت بالنقل فلا بد من التصديق به، وقد ذكرنا بعض الكلام في شرح أصول الكافي(1) ونذكره هنا مختصراً في مطالب:

المطلب الأوّل: تركيب الفطرة في عالم الذر

المطلب الأوّل: إنّ ظاهر هذه الآيات هو أنّ تناسل الناس إنّما هو عبر الأصلاب، وأنّ اللّه جعل لهم فطرة تدل على ربوبيّته، وذلك لتكون له الحجّة عليهم يوم القيامة لئلا يقولوا: إنّا لم نكن نعلم بربوبيّتك، أو إنّ تربيتنا كانت على الشرك وآباؤنا هم السبب ولا ذنب لنا.

وأما الروايات فقد دلّت على وقوع هذه القضيّة في عالم الذر حيث أخرج اللّه جميع ذرّيّة آدم من ظهره كالذر وجعل فيهم الإدراك بحيث علموا أنّه ربّهم وأخذ إقرارهم على ذلك، وبهذا ركّب اللّه الفطرة على جميع الناس، ثمّ أرجعهم إلى صلب آدم وأخرجهم بعد ذلك بالتدريج إلى انقضاء الدهر.

وما في الروايات تفسير تفصيلي، أي إنّ الآية تضمّنت أمرين:

فأوّلاً: إنّ الخالق هو اللّه تعالى وطريقته في الخلق أن أخرج الذرّيّة من الأصلاب فالمرجع هو لا الآباء، فهو الإله وهو الرب لا رب سواه ولا شريك له، وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ

ص: 334


1- شرح أصول الكافي، للمؤلّف 6: 385-404.

ذُرِّيَّتَهُمْ}، فالمعنى اذكروا أنّه لا شريك للّه لأنّه الخالق وحده.

وثانياً: إنّ اللّه هدى الناس بأن فطرهم على التوحيد أوّل خلقهم في عالم الذر قبل هذا العالم وهذا ما يدل عليه قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ...} الآية.

فالواو في {وَأَشْهَدَهُمْ} للعطف المطلق لا للتفريع والترتيب، وعليه فالروايات المفسّرة للآية إنّما هي لتوضيح المقطع الثاني منها، وبهذا يرتفع إشكال عدم انطباق ظاهر الآية مع عالم الذر لأنّ البعض أشكل بأن روايات عالم الذر دلّت على إخراج الذرّيّة من صلب آدم، مع أنّ الآية دلّت على أنّ إخراج الذرّيّة إنّما هو من ظهور بني آدم!

مضافاً إلى أنّ الآية لو كانت بمجموعها دالة على عالم الذر لم يكن هناك إشكال أيضاً؛ لأنّ الروايات حينئذٍ تكون تأويلاً للآية، ولا يشترط تطابق الظاهر مع التأويل، بل التأويل المصطلح هو ما لا يمكن استفادته من الظاهر؛ إذ لو كان كذلك كان تفسيراً لا تأويلاً، وبذلك يتّضح أنّ هذه الروايات لا تخالف القرآن؛ لأنّ المخالفة إنّما تكون بالتصادم والتعارض بحيث لا يمكن الجمع، وأمّا لو دل الظاهر على شيء ودل الباطن على شيء آخر وكانا كلاهما مرادين فليس ذلك من المخالفة للقرآن أصلاً، بل يكون شرحاً على نحو التأويل.

المطلب الثاني: دفع الإشكالات عن عالم الذر

المطلب الثاني: في الإجابة عن بعض الإشكالات:

الإشكال الأوّل: أنّ هذه الروايات أخبار آحاد وهي ليست حجّة في المسائل العقائديّة، وعالم الذر من الأمور العقائديّة.

والجواب: أوّلاً: أنّها فوق التواتر فقد فاقت المائة حديثاً فراجعها في

ص: 335

تفسير البرهان وبحار الأنوار وسد المفر(1).

والغريب أنّ البعض نظر إلى روايات تفسير البرهان فقط البالغة ستّة وثلاثين حديثاً، ثمّ قال: إنّ الصحيح منها تسعة، وخمسة منها في سندها زرارة فرجعت حديثاً واحداً، فمجموع الصحاح خمسة، والخمسة لا تكون تواتراً!

مع وضوح أنّ روايات عالم الذر غير منحصرة في ما جمعه السيد هاشم البحراني (رحمه اللّه) في تفسير البرهان، وأنّ التواتر هو إخبار جماعة كثيرة يمتنع تواطؤها على الكذب، ولا يشترط تواتر الصحاح!

والحاصل إنّ الروايات متواترة قطعاً لا إشكال في ذلك صغرىً وكبرىً.

وثانياً: إنّ المسائل العقائديّة قسمان: فقسم دل الدليل على لزوم العلم فيها - وهي ما يتوقّف الإيمان عليها كالتوحيد - فهذه لا يمكن الاعتقاد بها بخبر الواحد غير الموجب للعلم، وقسم آخر لا دليل على لزوم العلم فيها - لعدم اشتراط الإيمان بها كبعض تفاصيل المعاد وبعض صفات اللّه تعالى وبعض خصوصيّات الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) - فهذه يكفي في قبولها ورود الخبر الواحد المعتبر؛ وذلك لعموم دليل حجّيته لهذا القسم بعد عدم وجود دليل على لزوم العلم به.

الإشكال الثاني: إذا كان قد أخذ هذا الميثاق من بني آدم وهم في كامل

ص: 336


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 217-230؛ بحار الأنوار 5: 234 فما بعد؛ وفي كتاب (سد المفر) جمع 111 رواية، منها 68 تدل على التعريف وأخذ الميثاق، ومنها 31 تدل على أخذ العهد، ومنها 5 تدل على الذر الأوّل، ومنها 7 تدل على أخذ الميثاق في مرحلة الطينة.

وعيهم فلماذا لا يتذكّره أحد منّا؟ وما الفائدة في ذلك مع نسيان الجميع له مع أنّ الغرض من أخذ الميثاق هو العمل به؟

والجواب: إنّ هذا الميثاق موجود في باطن الإنسان ويعلم به وهو المعبّر عنه بالفطرة، فالمنسي هو التفاصيل من زمان الميثاق ومكانه وكيفية أخذه، لكن أصل الميثاق غير منسي، كما لو واعدنا شخصاً في زمان معيّن و مكان خاص وكيفيّة خاصّة، فنسينا الخصوصيات مع تذكّرنا لأصل الوعد، وبعبارة أخرى: إنّ الميثاق بنفسه موجود في أذهانهم وفطرتهم، وقد ثبت في علم النفس أنّ الحوادث التي تقع على الإنسان وخاصّة في طفولته تؤثّر على حياته وتسيّرها حتّى وإن لم يتذكّرها لكنّها موجودة في لا وعيه وقد يكون تأثيرها على الإنسان أكثر من تأثير ما في شعوره، وقد سأل ابن مسكان الإمام الصادق (عليه السلام) : قلت له: معاينة كان هذا؟ قال: «نعم، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدرِ أحد من خالقه ورازقه»(1).

إن قلت: إنّ الميل الفطري كما يمكن أن يكون عبر هذا الميثاق كذلك يمكن أن يكون نتيجة بداهة وفطريّة وجود اللّه وربوبيّته؟

قلت: يكفي في إثبات الميثاق في عالم الذر الأخبار الكثيرة الدالة على أنّ هذه البداهة والفطرة إنّما هي نتيجة ذلك الميثاق؛ فإنّ الفطرة أمر حادث وإنّما قدّرها اللّه تعالى، وكان تركيبها في عالم الذر.

الإشكال الثالث: إنّ القول بعالم الذر يؤوّل إلى نوع من التناسخ الذي

ص: 337


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 222؛ عن تفسير القمي 1: 248؛ وقريب منه ما في المحاسن 1: 241؛ وتفسير العيّاشي 2: 40.

بطلانه من ضروريّات الدين.

والجواب: أنّ اللّه تعالى خلق طينة الإنسان، فكانت كالذر في عالم الذر، والطينة نفسها تكون في هذا العالم وإنّما اختلفت صورتها الظاهريّة وأمّا حقيقتها فهي هي، كما أنّ الإنسان بعد موته يتحوّل إلى تراب ثمّ يرجعه اللّه إلى شكله الأوّل حين البعث، وليس ذلك من التناسخ أصلاً، فالطينة كانت كالذر ثمّ تكون في رحم الأم بشكل نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ جنين كامل ثمّ طفل ثمّ شاب ثمّ شيخ ثمّ تراب، ومع كل هذه الحالات هو هو لم تتغيّر حقيقته وإنّما اختلفت الصورة.

وهناك إشكالات أخرى أعرضنا عن ذكرها لوضوح ضعفها ولأنّ ما ذكرناه يكفي في الجواب عنها.

المطلب الثالث: الميثاق بالألوهية والنبوة والإمامة

المطلب الثالث: دلّت الروايات المعتبرة على أنّ الميثاق بالربوبيّة أخذ من جميع البشر وأقروا به ووُضع في فطرتهم، وأمّا الميثاق بالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) فلم يقر به إلاّ المؤمنون(1)،

فلذا كانت الفطرة دليلاً على الربوبيّة، وأمّا الأنبياء والأئمة فالدليل عليهم العقل والنقل القطعي، وأمّا أصل موضوع النبوّة والإمامة فهو فطري.

المطلب الرابع: الغرض من الميثاق

المطلب الرابع: الغرض من هذا الميثاق في عالم الذر هو إتمام الحجّة على الناس لئلا يكون لأحد على اللّه تعالى حجّة يوم القيامة، وهنا سؤالان:

السؤال الأول: إنّ وجود الفطرة يصحّح عقاب من لم تبلغه الدعوة؟!

ص: 338


1- راجع أصول الكافي 1: 636؛ باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية.

والجواب: في تقريب القرآن: «هو كذلك، إلاّ أنّ اللّه سبحانه بلطفه لا يعذّب حتى يُتم الحجّة الظاهرة كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(1)»(2).

السؤال الثاني: إنّ الفطرة سواء جُعلت أم لم تُجعل لم يصح احتجاج المشرك؛ إذ لولا الأنبياء لم يعذّب اللّه المشرك، ومع وجود الأنبياء يكون احتجاج اللّه على المشرك بأنّه لماذا لم يؤمن بهم؟

والجواب: في التقريب أيضاً: «إنّه تعليل بجزء العلّة، فإنّه لولا الفطرة لم يكن الإنسان عارفاً بصحة كلام الأنبياء؛ إذ ما لم يدل الباطن على شيء لا يُؤخَذ الإنسان بما قام عليه الدليل، ولذا ورد: أن للّه حجتين: ظاهرة هي الأنبياء، وباطنة هي العقول، وعليه فالتعليل إنّما هو بجزء العلّة، كما يقول القائل: هيّأت لك داراً لتسعد، مع العلم أنّ الدار بعض من علّة السعادة لا كلّها»(3).

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ...} الآية.

(الأخذ) له مصاديق متعدّدة وهو فعل مساعد يستعمل بمعنى عدّة من الأفعال، والمراد هنا الإخراج لأنّه نوع أخذ.

وقوله: {مِن ظُهُورِهِمْ} بدل البعض من الكل، مثل: أخذت زيداً يده،والمعنى أخذ من ظهور بني آدم، وحيث إنّ الكلام حول بني آدم

ص: 339


1- سورة الإسراء، الآية: 15.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 269.
3- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 270.

وإشهادهم كان المناسب جعلهم محور الكلام لذا ذكرهم أوّلاً ثمّ ذكر الظهور - بالبدل - ثانياً.

وقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} أي أخذ منهم الإقرار، وحيث إنّه سيسألهم عنه يوم القيامة كان هذا الإقرار إشهاداً أي تحمّلاً للشهادة.

وقوله: {قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا} (القول) هنا بمعناه، أي تكلّموا بذلك، وأمّا من حمله على التمثيل فلأنّه أنكر عالم الذر فقال إنّ جعل الفطرة كالشهادة، وقد ذكرنا أنّه لا وجه لإنكار عالم الذر أصلاً، ومع إمكان حمل لفظ القول على معناه الظاهر لا وجه لحمله على التمثيل.

وقوله: {أَن تَقُولُواْ} أي كراهيّة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا، بمعنى أنا لم نُرد أن تكون حجّة للمشركين، كما قال: {فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَٰلِغَةُ}(1)، وقال: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ}(2).

ثمّ إنّ اللّه تعالى بالفطرة في عالم الذر أتَم الحجّة بحيث لا يبقى عذر للمشركين، ولولا ذلك لاحتجّوا بأمرين، أحدهما ما هو المذكور في هذه الآية، والآخر مذكور في الآية اللاحقة.

وقوله: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ} أي لم نعلم به ولم يكن هناك تنبيه لنا وإذا كان الإنسان غافلاً في باطنه فلا يمكن تنبيهه، فكان إرسال الرسل عبثاً، تعالى اللّه عن ذلك، وهذا ما نشاهده في من يقل عقله عن إدراك شيءفكلّما نَصَبْتَ له الأدلة وبيّنتها له لا يدركها ولا يفهمها، فلو لم تكن الفطرة

ص: 340


1- سورة الأنعام، الآية: 149.
2- سورة الشورى، الآية: 16.

لم يكن الإنسان ليدرك كلام الأنبياء ومعاجزهم.

الثالث: قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ...} الآية.

عذر آخر كان يمكن أن يعتذروا به لو لم يأخذ اللّه الميثاق منهم في عالم الذر ويركّبه في فطرتهم، وهو أنّ الذي لا يدرك حقيقة عليه أن يتّبع غيره ممن أدركها، فمن طبيعة الإنسان أن يرجع الجاهل إلى العالم، ولذا تجد كل من ليس له خبرة في أمر يرجع إلى من له الخبرة فيه، كما تشاهد الطفل يقلّد أبويه في أفعاله وأقواله ولا يُلام هو عليها لقصور إدراكه، وإنّما يُلام الأبوان إذا كان العمل سيّئاً، فلو لم تكن الفطرة لم يكن الإنسان مُلاماً على اتّباع آبائه في الشرك وذلك لقصور عقله عن إدراك بطلانه، فحينئذٍ يعتذر بأنّه اتّبع آبائه على باطلهم من غير أن يدرك أنّه باطل! فأراد اللّه تعالى أن يدرك الناس بطلان الشرك حتى لا يتّبعوا آباءهم المشركين، وأن لا يكون لهم عذر لو اتّبعوهم.

وقوله: {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} بيان سبب اتّباعهم لأنّ اللاحق يتبع السابق عادة وخاصّة إذا كان طفلاً فيتعلّم العمل ويكبر عليه.

الرابع: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

مر أنّ التفصيل هو التفريق فصلاً فصلاً، وذلك طريق توضيح الآيات وبيانها بجلاء، فالمقصود نبيّن الآيات بجلاء ووضوح.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ} أي كما جعلنا لكم فطرة كذلك أرسلنا الرسل وبيّنوا لكم الأدلة والبراهين، أو بمعنى هكذا بالفطرة بيّنا لكم الآيات ولولاها لما علمتم بها.

ص: 341

وقوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قيل: العطف على المعنى المستفاد من قوله: {نُفَصِّلُ} أي ليعرفوها وليرجعوا، والأقرب أنّها عطف على قوله: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ} فالمعنى جعلنا لكم الفطرة لأجل أن لا يكون عذر للمشركين يوم القيامة، ولأجل رجاء رجوعهم إلى الإيمان، فالغرض الأساس هو رجوعهم إلى الفطرة بالإيمان في الدنيا، ثمّ إن لم يرجعوا فمنع حجّتهم في القيامة، واللّه العالم.

ص: 342

الآيات 175-178

اشارة

{وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ 175 وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176 سَاءَ مَثَلًا ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ 177 مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ 178}

ثمّ بيّن اللّه تعالى قصّة أخرى من قصص بني إسرائيل حيث عاقب اللّه تعالى العاصي، فقال:

175- {وَٱتْلُ} اقرأ {عَلَيْهِمْ} على بني اسرائيل أو على الناس {نَبَأَ} خبر {ٱلَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا} أظهرنا الآيات له ومن ذلك إعطاؤه الاسم الأعظم {فَٱنسَلَخَ مِنْهَا} رفضها فخرج منها كانسلاخ الجلد {فَأَتْبَعَهُ} أي لحقه وأدركه {ٱلشَّيْطَٰنُ} لأنّ من رفض الحق صار طعمة للشيطان {فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ} الذين ضلّوا طريق الهداية.

176- {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ} إلى قربنا وإلى منزلة الأخيار، إمّا مشيئة إكراه بأن نكرهه على قبول الآيات، وإمّا بمعنى لو قَبِل الآيات شئنا رفعه فرفعناه {بِهَا} بتلك الآيات، {وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ} لصق بها كناية عن ركونه

ص: 343

وميله إلى الدنيا {وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ} بدلاً عن اتّباع الحق، {فَمَثَلُهُ} أي وصفه{كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ} كوصف الكلب في أنّه {إِن تَحْمِلْ} تهجم {عَلَيْهِ يَلْهَثْ} يدلع لسانه ويعلو نَفَسُه {أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} وهكذا بلعم بن باعورا ضال سواء وعظته أم تركته، {ذَّٰلِكَ} المثل بالكلب اللاهث {مَثَلُ} صفة {ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} فهم معاندون على كل حال. {فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ} أي انقل قصّة الماضين {لَعَلَّهُمْ} لعل اليهود أو عامة الناس {يَتَفَكَّرُونَ} فيعتبرون ويتّعظون.

177- {سَاءَ مَثَلًا} أي مَثَل الكلب بئس المثل لهؤلاء وهم {ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} وذلك لأنّ سوء المثل يدل على سوء الممثّل له {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} فالضرر يعود إليهم فإنّ اللّه غني عن العالمين.

178- والهداية والضلال كلاهما من اللّه لكنه يهدي من لم يخلد إلى الأرض ولم يتّبع هواه، ويضل من أخلد إليها واتّبع هواه ف{مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي} إذ لا هداية سوى هدايته، {وَمَن يُضْلِلْ} أي يخذله حتى يضل {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ} فالضلال سبب الخسران، أي خسروا أنفسهم وخسروا الجنّة والرضوان.

قصة بلعم بن باعورا

بحوث

الأوّل: هذه قصّة أخرى في عقوبة من رفض آيات اللّه تعالى، عقوبةً دنيويّة بإضلاله، تستتبع عقوبة الآخرة، وهي قصّة عالم عاصر نبي اللّه موسى (عليه السلام) وقد آتاه اللّه الاسم الأعظم بحيث كان مستجاب الدعوة، لكنّه

ص: 344

لم يتّعظ بعلمه وبما آتاه اللّه فاتّبع هواه فصار قريناً للشيطان فمنع اللّه سبحانه عنه تلك الآيات، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «إنّه أعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم، وكان يدعو به فيستجاب له، فمال إلى فرعون، فلمّا مر فرعون في طلب موسى (عليه السلام) وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادعُ اللّه على موسى وأصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمر في طلب موسى وأصحابه - إلى أن قال - فانسلخ الاسم من لسانه»(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «الأصل في ذلك بلعم، ثمّ ضربه اللّه مثلاً لكل مؤثر هواه على هدى اللّه من أهل القبلة»(2).

الثاني: قوله تعالى: {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ}.

قوله: {ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا} الإيتاء هو الإعطاء ويكون تارةً بالإظهار والكشف وأخرى بالعطيّة، وقد جمع اللّه الأمرين لبلعم حيث كشف له الحجج وأعطاه الاسم الأعظم، وفي هذا دلالة على أنّ الوصول إلى الآيات والحصول عليها لا يكفي في هداية الإنسان، وإنّما هو لطف من اللّه مقدمةً للّهداية، فإن آمن بها وعمل بمقتضاها هداه اللّه فرفعه إلى قربه، وإن رفضها واتّبع هواه أضلّه اللّه سبحانه، فلا يغتر الإنسان بعلمه وتقواه وعمله بالصالحات، وإنّما يلزم أن يكون على خوف دائم ويراقب نفسه ويبتعد عن هواه.

وقوله: {فَٱنسَلَخَ مِنْهَا}، فإنّ الآيات لزمته لكنّه بسوء عمله رفضها،

ص: 345


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 231؛ عن تفسير القمّي 1: 248.
2- مجمع البيان 4: 560.

كالجلد الذي يلازم البدن ومن طبيعته فانفصاله هو خلاف الطبيعة، ولعلّهذا بيان أنّ التقصير من عنده وإلاّ فالآيات لوضوحها وقوتها لازمة له في نفسها لولا سوء عمله.

وقوله: {فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَٰنُ} أي لحقه الشيطان وأدركه بعد أن كان بعيداً عنه لا يصل إليه، وفي هذا بيان أنّ الشيطان إنّما يضل من رفض الآيات، قال سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَٰنٌ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(1)، وقال سبحانه: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَٰنًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}(2).

وقوله: {فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ} الغي وهو اتّباع طريق الضلال، أي نتيجة الانسلاخ عن الآيات ولحوق الشيطان هو الغي.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ...} الآية.

بيان أن ضلاله إنّما كان من نفسه وأنّ اللّه قادر على هداية من يشاء لكنّه لا يهدي من أساء وركن إلى الدنيا.

وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا} إمّا بمعنى مشيئة تكوينيّة بإجباره على الإيمان، فهو تعالى قادر عليه لكنّه لا يفعله لأنّه خلاف الحكمة، قال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ}(3)، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي ٱلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ

ص: 346


1- سورة النحل، الآية: 99-100.
2- سورة الزخرف، الآية: 36.
3- سورة السجدة، الآية: 13.

ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(1).

وإمّا ذكر اللازم وإرادة الملزوم أي لو لم يركن إلى الدنيا فشئنا رفعه لرفعناه بها، ولكنّه أخلد إلى الأرض فلم نشأ رفعه فصار كالكلب اللاهث.

وفيه بيان ارتباط كل شيء بمشيئة اللّه تعالى، فالأسباب لا تؤثّر أثرها من دون مشيئته سبحانه، بل قد مرّ أنّها أسباب ظاهريّة وإنّما السبب الواقعي هو إرادته تعالى.

وقوله: {لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا} أي رفع درجته إلى منازل الأبرار ومرتبة القرب إلى اللّه تعالى.

وقوله: {وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ} (الإخلاد) هو لزوم الشيء واللصوق به، فكأنّه ظن أنّ له الخلود فيها فأعرض عن الآخرة، و{ٱلْأَرْضِ} كناية عن الدنيا، والمعنى أنّه مال إلى الدنيا وركن إليها.

وقوله: {وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ} تشنيع عليه وبيان سبب ثانٍ على ضلاله فكما غرّته الدنيا كذلك غرّه هواه، أو هما طوليان أي حليت الدنيا في عينه فهواها فسار على هواه.

وقوله: {فَمَثَلُهُ...} كالجزاء فالمعنى لكنّنا لم نشأ رفعه فأخلد إلى الأرض واتّبع الهوى فصار مثله كمثل الكلب، والمَثَل هو الوصف كقوله: {مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ...}(2)، وقد مرّ بعض الكلام في سورة آل عمران(3).

ص: 347


1- سورة يونس، الآية: 99.
2- سورة الرعد، الآية: 35.
3- التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 205.

وقوله: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ...} من الحملة بمعنى الهجوم، وهذا بيان وجه التشبيه، فإنّ من أوصاف الكلب اللُّهاث الدائم سواء هجمت عليه أو تركته بأن يُخرج لسانه ويتنفّس بصوت عال عكس سائر الحيوانات التي قد تلهث إن هجمت عليها وهي لا تلهث إن تركتها، وهذا الشخص ضال على كل حال سواء وعظته أم لا، وسواء عارضت مصالحه أم تركته كما قال: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(1)، وقال: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَٰمِتُونَ}(2)، وفي هذا المثل تحقير لأمثاله من الذين باعوا آخرتهم بدنيا فانية مع علمهم بالحال لأنّهم عرفوا آيات اللّه ثمّ أنكروها.

وحال هذا أسوء من حال كثير من الناس الذين لا يعارضون الآيات إلاّ لو تعرضت مصالحهم إلى خطر، فإن لم تعارضها كانوا مع الدين.

وقوله: {ذَّٰلِكَ} أي المَثَل بالكلب اللاهث، وليس المراد هذه القصّة كما زعمه بعض بأنها ضرب للمثل مع عدم تحقق القصّة! وأيّ داع ٍ لضرب مثل مجرّد مع وجود الكثيرين ممن حالهم هذا، بحيث يكون ذكرهم مَثَلاً وعبرةً.

وقوله: {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} فهم معاندون لا ينفع معهم وعظ ولا إرشاد، قال سبحانه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَلِيمَ}(3).

الرابع: قوله تعالى: {سَاءَ مَثَلًا ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} إلى قوله:

ص: 348


1- سورة البقرة، الآية: 6.
2- سورة الأعراف، الآية: 193.
3- سورة يونس، الآية: 96-97.

{فَأُوْلَٰئِكَهُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ}.

لمّا بيّن أنّ ذلك مَثَل المكذِّبين ودعاهم إلى التفكّر، أراد تذكيرهم ببيان قبح الممثّل لهم - وهم المكذّبون - فإنّ وصفهم بالكلب اللاهث يكشف عن حقارة أنفسهم ورذالتها، فليس هو مجرد مَثَل يضرب بل بيان واقع، وهو في الأصل «ساء مثلُ القومِ الذين كذّبوا» فخذف المضاف - وهو مثل - وأقام المضاف إليه - وهو القوم - مقامه ثمّ جاء ب(مثلاً) للتمييز أي ساء هؤلاء القوم من جهة المثل المضروب لهم، فإنّ سوء المثل إنّما هو بسوء الممثل له، وإلاّ فضرب المثل في نفسه حسن ومن أساليب البلاغة، وقيل: ساء هنا بحكم بئس بتقدير المثل مرّتين أي بئس المثلُ مثلاً مثلُ القوم!

وقوله: {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} فعدم مشيئة اللّه تعالى هدايتهم إنّما هو بسوء أعمالهم وليس ظلماً من اللّه تعالى لهم ولذا ألحق بهذه الآية قوله: {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي...} الآية، حيث إنّ الإنسان لمّا يُحسن كانت الحكمة في هدايته فيهديه اللّه، وحينما يُسيء كانت الحكمة في تركه حتى يضل فيضلّه اللّه تعالى، وليس ذلك بمعنى تبعيّة مشيئته تعالى للعباد وأعمالهم وإنّما بمعنى جزائه للمحسن والمسيء.

وقوله: {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي} قيل: إنّ الغرض بيان أنّ إتيان الآيات وحسن الظاهر لا يكفي لوحده في الهداية والاستمرار عليها، بل لا بد من هداية اللّه تعالى وهي لا تكون إلاّ لمن لم يركن إلى الدنيا ولم يتّبع هواه.

وقوله: {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ} أي فأولئك هم الضالون، والضال خاسر لا محالة، فذكر النتيجة لأنّها هي الغرض الأساس في هذه الآيات، واللّه العالم.

ص: 349

الآيات 179-183

اشارة

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰئِكَ كَٱلْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ 179 وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَٰئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 180 وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ 181 وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ 182 وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 183}

179- والمكذّبون كما يعاقبون في الدنيا كذلك في الآخرة، فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} خلقنا {لِجَهَنَّمَ} من يكون عاقبتهم جهنّم بسوء اختيارهم {كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ}، وسبب ذلك أنّهم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ} لا يدركون الحق {بِهَا} بمعنى أنّهم لا يذعنون بالحق مع أنّهم يعرفون نعمة اللّه لكنّهم يعاندون بإنكارها، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ} آيات اللّه {بِهَا} فلا يعتبرون بما يرون من الآيات، {وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ} المواعظ والإنذار {بِهَا} أي لا يستجيبون لداعي اللّه تعالى، {أُوْلَٰئِكَ كَٱلْأَنْعَٰمِ} في عدم الفهم والاعتبار وفي أنّ مشاعرهم وقواهم منحصرة في التمتّع بالماديّات، {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من الأنعام؛ لأنّها لا تقدر وهؤلاء يقدرون، وهي تفر مما يضرّها وهم يلقون أنفسهم في سخط اللّه تعالى، {أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ}

ص: 350

حيث غفلوا عن الاستفادة من وسائل هدايتهم.

180- وسبب انحرافهم هو عدم معرفتهم باللّه تعالى فقال: {وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَىٰ} أي أحسن الأسماء {فَٱدْعُوهُ} نادوه وأعبدوه {بِهَا} بتلك الأسماء {وَذَرُواْ} اتركوا {ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ} يحرّفون {فِي أَسْمَٰئِهِ} إمّا بتسمية الأصنام والأوهام بتلك الأسماء، أو بتسمية اللّه سبحانه بما لا يليق به، فكان ذلك سبباً في ضلالهم وإغلاق قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم عن الحق، وهؤلاء مصيرهم أنّهم {سَيُجْزَوْنَ} في الآخرة {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي عملهم بالإلحاد.

181- {وَ} في مقابل الذين ذرأناهم لجهنّم هناك {مِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ} مجموعة {يَهْدُونَ} غيرهم {بِٱلْحَقِّ} فهم مهتدون أوّلاً ثمّ هداة لغيرهم {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي يحكمون بالعدل، فالهداية قولاً والعدل عملاً.

182- {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} بأن كانوا معاندين {سَنَسْتَدْرِجُهُم} نقرّبهم إلى الهلاك وجهنّم درجة درجة {مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} وذلك بتواتر النعم عليهم بحيث ينشغلون عن الحق وينسون الاستغفار.

183- {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي أمهلهم، وتأخير العقوبة سبب لزيادة جرمهم واستحقاقهم لزيادة العذاب، {إِنَّ كَيْدِي} وهو الاستدراج والإمهال {مَتِينٌ} قوي ومحكم ولا يمكن دفعه، وسمّاه كيداً لأنّ ظاهره نعمة وباطنه نقمة.

بحوث

الأوّل: لمّا قصّ اللّه تعالى قصص الأمم السابقة وبيّن عاقبة أمر المكذّبين

ص: 351

المعاندين بعذاب الدنيا أردفه ببيان عذابهم في الآخرة بجهنّم وبيان أنّ سببتكذيبهم أنّهم لم ينتفعوا بما حباهم اللّه من وسائل الهداية وهي السمع والأبصار والقلوب، فصرفوها في تمتّعهم فصاروا كالأنعام بل أسوء منها.

ومرجع ضلالهم إلى عدم معرفتهم باللّه تعالى إمّا بأن نسبوا صفاته إلى الأصنام أو إلى الموجودات الخياليّة التي اخترعوها بأوهامهم، وإمّا بأن نسبوا إلى اللّه ما لا يليق به كالزوجة والابن والشريك والظلم ونحو ذلك، فانحرافهم في التوحيد أدّى بهم إلى الانحراف في كل شيء.

فلذا من أراد الهداية فعليه أن يعرف اللّه بالأسماء الحسنى ولا يلحد فيها وحينئذٍ فيرى الآيات بنظر الاعتبار، ويسمع المواعظ بتفهّم، ويعقل قلبه ما رآه وما سمعه، وبذلك يهتدي.

ثمّ بيّن اللّه أنّه كما خلق لجهنّم أناساً كذلك هناك أناس مهتدون قولاً وعملاً، ثمّ بيّن أنّه يمهل المكذّبين لكن إمهاله لهم كيد وليس خيراً لهم فلا يغرّنّك تقلّبهم في البلاد.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ}.

(الذرء) هو الخلق، قيل: أصله الإظهار، ومعنى ذرأ اللّه الخلق: أظهرهم بالإيجاد بعد العدم(1).

وقوله: {لِجَهَنَّمَ} اللام للعاقبة فالمعنى خلقناهم وعاقبتهم ستكون جهنّم كقوله: {فَٱلْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}(2)، أي عاقبته ذلك مع

ص: 352


1- معجم الفروق اللغوية: 241.
2- سورة القصص، الآية: 8.

أنّهم التقطوه بغرض أن يكون قرّة عين لهم، واللّه تعالى خلقهم أجمعليرحمهم حينما يختارون عبادته، قال: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ}(3)، لكن حيث لم يكرههم على الإيمان والطاعة واختار كثير منهم الكفر والعصيان فكانت عاقبتهم جهنّم.

الغرض من خلق الناس

وبهذا يتّضح جواب السؤال بأنّ غرض الخلق إن كان الرحمة والعبادة فكيف الكثير من الناس لم يعبدوه ومن ثَمّ حرموا الرحمة الخاصّة؟ وذلك لأنّ اللّه أراد أن يعبدوه باختيارهم فينالون الرحمة الخاصّة حينئذٍ، نظير ما لو قال المعلّم أنا أدرّس الأولاد ليتعلّموا فينجحوا مع أنّه يعلم أنّ بعض الطلبة كسالى لا يتعلّمون ولا ينجحون وليس في ذلك إشكال في تدريسه ولا في غرضه.

وقيل: هناك غرضان لا تنافي بينهما أحدهما غرض أصلي والآخر غرض ثانوي، نظير الصائد الذي يلقي شبكته في البحر وغرضه الأساسي صيد الأسماك المحلّلة بحيث لولاها لما كان يذهب للصيد، ثمّ غرضه الثانوي هو إطعام حيواناته الأسماك المحرّمة، أو كالنجّار الذي يأتي بالخشب ليصنع باباً وهو يعلم أنّ هناك زيادة وفاضلاً منها لا يصلح في صنع الباب ولكنه يريدها للوقود مثلاً، فالغرض الأصلي صنع الباب والغرض الثانوي جعل الزائد منها وقوداً.

ص: 353


1- سورة هود، الآية: 119.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- سورة النساء، الآية: 64.

وفيه تأمل: لعدم انطباق المثل على محل الكلام؛ لأنّ ذلك من غرضالإنسان العاجز حيث يعجز عن صنع ما يريده أساساً إلاّ بما يفضل منه فيقصد بالفاضل غرضاً ثانويّاً، وليس كذلك اللّه القوي المتعال القادر على كل شيء، والصحيح ما ذكرناه من أنّ الغرض هو العبادة التي تستوجب الرحمة الخاصة باختيارهم، وحيث جاء الاختيار كانت الطاعة والمعصية وكان الإيمان والكفر، واللّه العاصم.

الثالث: قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا...} الآية.

لعلّه بيان أنّ كون عاقبتهم جهنّم إنّما هو بسوء اختيارهم، حيث إنّ اللّه تعالى زوّدهم بوسائل المعرفة لكنّهم لم يستعملوها.

وقوله: {لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا} الفقه: هو العلم بمقتضى الكلام على تأمّله، وتقول لمن تخاطبه: تفقّه ما أقوله أي تأمّله لتعرفه(1)، فالمعنى إنّهم لا يتأمّلون ولا يتفكّرون في الحقائق التي رأوها وسمعوها مع أنّهم قد يعلمون بها كما قال: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(2)، وهذا إن استمر معهم وعاندوا فيه طبع اللّه على قلوبهم.

وقوله: {لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا} إذ لا يعتبرون بها ويعرضون عنها فكانوا كأنّهم لا يبصرونها؛ لأنّ الذي يبصر ولا يعمل بمقتضى ما أبصره هو والأعمى سواء، ثمّ جعل اللّه تعالى الغشاوة عليها عقوبة لهم.

ص: 354


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 412.
2- سورة النمل، الآية: 14.

وقوله: {لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا} أي سماع تفهّم، وإلاّ فهي تقرع أسماعهم لكنلا تؤثّر فيهم، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}(1).

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ كَٱلْأَنْعَٰمِ} لأنّ حياتهم انحصرت في التمتّع بالحياة الدنيا وغفلوا عن الآخرة وطلبها، فالأنعام لا تعقل وهؤلاء لا يستعملون عقولهم فكانوا سواء.

وقوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} هذا ترقٍّ لزيادة المطلب، فهؤلاء من جهة كالأنعام في أنّ حياتهم للتمتع فقط، ومن جهة أخرى أسوء منها؛ لأنّ الأنعام تعمل حسب مقتضى ما خُلقت له، وهؤلاء لا يعملون لما خلقوا له وهي العبادة التي توصلهم إلى الرحمة الخاصّة، وأنّ الأنعام إذا أدركت ما يضرّها اجتنبته وهؤلاء لا يجتنبون ما علموا بضرره عليهم إيثاراً للّهوى على الدار الآخرة، ثمّ إنّ {أَضَلُّ} لا يراد به ضلال الأنعام وأنّ هؤلاء أكثر ضلالاً منها؛ إذ لا ضلال لها - فالضلال عدم ملكة الهداية في المحل القابل - بل المعنى أنّهم أحقر وأخس منها.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ} كأنّ المقصود بيان أنّ عدم انتفاعهم بقلوبهم وأعينهم وآذانهم أدّى بهم إلى الغفلة عن الآيات فصار ذلك سبباً لأن يكونوا أسوء من الأنعام.

الرابع: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَٰئِهِ...} الآية.

ص: 355


1- سورة الأنفال، الآية: 21.

كأنّه بيان سبب انحرافهم وتكذيبهم بآيات اللّه وعنادهم عنها بغلقأفهامهم وأسماعهم وأبصارهم وهو عدم معرفتهم باللّه حيث ألحدوا في أسمائه.

ثمّ إنّ الإلحاد فيها: قد يكون بنسبة ما لا يليق إلى اللّه تعالى كزعمهم عدم علمه بما يعملون كما قال: {وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَىٰكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ ٱلْخَٰسِرِينَ}(1).

وقد يكون بنسبة صفاته الخاصة إلى غيره كالأصنام وما يتخيّلوه بأذهانهم مما لا وجود له، فيزعمون أنّ الأصنام بنات اللّه سبحانه وأنّها الشفعاء ونحو ذلك. فعدم المعرفة باللّه أردتهم إلى مهاوي الضلال ومن ثَمّ الخسران، ولذا يأمر اللّه بدعائه بأسمائه الحسنى فهي التي تدل عليه وبها يهتدي الإنسان ومن ثَمّ يفوز بالآخرة.

وقوله: {وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَىٰ} اللام في (للّه) للملك والاختصاص، و(الحسنى) من الأحسن، و(الأسماء) جمع اسم وهو ما يدل على الشيء.

معنى الأسماء الحسنى

فالمعنى إنّ اللّه مالك لأحسن الأسماء وهي التي تدل عليه، ولتلك الأسماء المملوكة للّه مصداقان:

1- صفات اللّه التي جعل لها دلالة لفظيّة، كالرحمن والرحيم والحي والعالم والقادر ونحوها، فهي أحسن الأسماء وتدل على اللّه تعالى، فهي أسماء خلقها لتكون الواسطة بينه وبين خلقه.

ص: 356


1- سورة فصّلت، الآية: 22-23.

وللتفصيل راجع شرحنا لأصول الكافي باب حدوث الأسماء(1).

2- رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) حيث إنّهم عبيد للّه مربوبون حسّن خالقهم خَلقهم وخُلقهم، فهم الأسماء الحسنى التي جعلها اللّه تعالى الوسيلة بينه وبين الناس، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُواْ إِلَيْهِ ٱلْوَسِيلَةَ}(2)، وفي الوافي: «كما أنّ الاسم يدل على المسمّى ويكون علامة له كذلك هم (عليهم السلام) أدلّاء على اللّه يدلّون الناس عليه سبحانه، وهم علامة لمحاسن صفاته وأفعاله وآثاره، فادعوه بها: أي فادعوا اللّه واطلبوا التقرّب إليه بسبب معرفتها، فإنّ معرفته تعالى منوطة بمعرفتهم (عليهم السلام) ، والعبادة غير مقبولة إلاّ بمعرفة المعبود المتوقّفة على معرفتهم»(3).

فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «نحن واللّه الأسماء الحسنى التي لا يقبل اللّه من العباد عملاً إلاّ بمعرفتنا»(4).

وقوله: {وَذَرُواْ} أي اتركوهم فإنّ حسابهم على اللّه تعالى.

وقوله: {يُلْحِدُونَ} اللحد والإلحاد هو الميل والانحراف، ومنه اللحد الذي يحفر بجانب القبر عكس الضريح الذي يحفر في وسطه.

وقوله: {سَيُجْزَوْنَ...} كأنّه بيان علّة تركهم أي ذروهم لأنّ اللّهسيجازيهم على إلحادهم الذي أدّى بهم إلى التكذيب بآيات اللّه تعالى فإنّه

ص: 357


1- شرح أصول الكافي، للمؤلّف 2: 233 فما بعد.
2- سورة المائدة، الآية: 35.
3- الوافي 1: 491.
4- الكافي 1: 144؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 233.

أسوء عملهم ولذا قال: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

الخامس: قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.

مرّ توضيحها في الآية 159، وكأنّ الغرض هنا هو المقابلة مع الكفّار في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ...} أي كما خلقنا من مصيرهم إلى جهنّم كذلك خلقنا جماعة هداة مهديين ينطقون بالحق ويحكمون به، وهذا يشمل المعصومين وسائر المؤمنين، فالهداية المطلقة والعدل المطلق من كل الجهات وبكل الجهات خاص بالمعصومين لا يقدر على ذلك غيرهم، لكن الهداية والعدل بما أمكن وما ظهر يمكن لغيرهم من المؤمنين، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «هم أنا وشيعتي»(1)،

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «هم الأئمة»(2).

السادس: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}.

بيان كيفيّة عقوبة المكذّبين المعاندين وهو أنّهم لمّا عاندوا وطبع اللّه على قلوبهم لا يعاقبهم فوراً وإنّما يعمل بهم عملاً ليزدادوا إثماً حتى يزداد عقابهم؛ إذ كلّما كان الذنب أكثر كان العقاب أشد بما يتناسب مع ذنوبهم، وذلك عبر أمرين:

1- قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُم} وهو التقريب إلى العذاب درجة درجة،

ص: 358


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 237.
2- الكافي 1: 414.

ويكون عبر زيادة النعم عليهم بحيث يزدادوا إثماً وينسوا التوبة والإنابة عقوبة لهم على عنادهم، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إن اللّه إذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبد شرّاً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة ليُنسيه الاستغفار ويتمادى بها، وهو قوله عز وجل: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} بالنعم عند المعاصي»(1).

2- وقوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ} من الإملاء وهو الإمداد واستعمل في الإمهال والتأخير، وقد مرّ بعض الكلام في قوله سبحانه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(2)، فراجع(3).

وقوله: {إِنَّ كَيْدِي} قد مرّ أنّ الكيد هو العلاج الخفي، ويراد به هنا استدراجهم والإملاء لهم فإنّه يخفى عليهم أنّه نقمة فيحسبونه نعمة.

وقوله: {مَتِينٌ} أي قوي محكم لا يمكن دفعه بشيء، وأصل الكلمة من المتن وهو لحم جنب الإنسان أسفل الأضلاع وهو قوي فشبّه به كل أمر محكم.

ص: 359


1- الكافي 2: 327؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 238.
2- سورة آل عمران، الآية: 178.
3- التفكّر في القرآن، سورة آل عمران: 543.

الآيات 184-186

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ 184 أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٖ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثِ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ 185 مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ 186}

ثمّ بيّن اللّه أنّ سبب تكذيبهم هو عدم تفكّرهم وعدم نظرهم، فقال:

184- {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} الواو للاستئناف والهمزة للاستفهام الإنكارى، أي لماذا لا يحرّكون فكرهم ليعلموا أنّه {مَا بِصَاحِبِهِم} رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد صحبوه منذ نشأته فيعرفونه حق المعرفة {مِّن جِنَّةٍ} أي جنون؟ فما يقوله ليس عن جنون، بل {إِنْ} ليس {هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ} ينذرهم من عذاب اللّه {مُّبِينٌ} يوضّح إنذاره بجلاء.

185- {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ} إنكار عليهم بعدم النظر بنظرة الاعتبار {فِي مَلَكُوتِ} أي الملك العظيم في {ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ} أي لماذا لا ينظرون إلى هذا الملكوت كي يتركوا التكذيب؟ {وَ} لماذا لا ينظرون في ملكوت {مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٖ} أي الملك العظيم في كل شيء؟ {وَ} لماذا لا ينظرون {أَنْ} أنّه {عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} حتى يستعدّوا للموت ويتركوا التكذيب لئلا يخسروا؟

ص: 360

فإن لم ينفعهم تذكيرهم في القرآن بالتفكّر والنظر {فَبِأَيِّ حَدِيثِ} كلام {بَعْدَهُ} بعد القرآن {يُؤْمِنُونَ}؟ الاستفهام للتوبيخ والتقريع، أي إن لم يهتدوا بالقرآن الذي هو المعجز الميسّر لهم فأيّ حديث ينفعهم؟ وفي هذا بيان شدّة عنادهم بحيث لم تنفعهم أوضح الأدلة.

186- وحيث أعرضوا عن الحق وعاندوا أضلهم اللّه {مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ} بأن يتركه حتى يضل {فَلَا هَادِيَ لَهُ} لأنّ الهداية من اللّه حصراً {وَيَذَرُهُمْ} أي يتركهم اللّه {فِي طُغْيَٰنِهِمْ} عن الحق {يَعْمَهُونَ} يتحيّرون، و«العمه» عمى القلب.

بحوث

الأوّل: كأنّ هذه الآيات تأكيد على ما مر من قوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا...} الآية، وحث على التفكّر والنظر ليعلموا صدق رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ما أنذرهم به وتحذير لهم من القيامة وأنّه لا مجال آخر لهم للإيمان والتوبة.

فأوّلاً: يحثّهم على التفكّر ليعلموا أنّ ما يقوله رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّما هو إنذار لهم وليس كلام مجنون كما كانوا يفترون، فهناك بون شاسع بين تحذير عاقل وبين سفسطة مجنون.

وثانياً: يأمرهم بالنظر في ملكوت السماوات والأرض وفي جميع المخلوقات فإنّها تدل على اللّه الواحد الأحد، وتدل على بطلان الشركاء إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر.

ص: 361

وثالثاً: تحذيرهم من الآخرة وأنّ الوقت يمضي بسرعة وهم يقتربون من الموت فلا مجال لهم للتأخير والتسويف.

ورابعاً: أن القرآن هو البيان الواضح الجامع للدلائل والحجج فعليهم أن يؤمنوا به فلا حديث بعده ولا هداية بسواه.

وخامساً: بيان أنّهم إن بقوا على ضلالهم بعد هذا البيان الواضح فبسبب أنّ اللّه خذلهم وتركهم في طغيانهم وذلك لأنّهم رفضوا الهداية فأضلّهم اللّه تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.

استثارة لعقولهم لكي يتأمّلوا ويفكّروا ليلتفتوا إلى الفرق بين النذير والمجنون كي لا يفتروا على رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جزافاً.

وقوله: {يَتَفَكَّرُواْ} التفكّر هو إعمال الفكر من باب التفعّل، فإنّ اللّه حبا الإنسان بالقوة الفكريّة لكن عليه أن يحوّل هذه القوة إلى الفعل وإلاّ فلا ينتفع بها.

وقوله: {مَا بِصَاحِبِهِم} عبّر عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بصاحبهم لبيان معرفتهم به، فقد نشأ فيهم وعرفوه بالعقل والحلم والأمانة، قال سبحانه: {قُل لَّوْ شَاءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَىٰكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(1).

ص: 362


1- سورة يونس، الآية: 16.

وقوله: {نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي ما جاء به إنذار واضح وهو دليل كمال العقلوالشفقة عليهم، ولعلّ عدم ذكر البشارة مع أن الرسول نذير وبشير لأنّ الكلام حول المعاندين المكذّبين فذكر إنذارهم أولى.

الثالث: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٖ...} الآية.

تقريع لهم على عدم استعمال عقولهم، وكأنّ هذا بيان أنّ الذي به جنون هم أنفسهم؛ لأنّ الذي لا ينتفع بعقله هو والمجنون سواء.

وقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ} المراد نظر اعتبار وفكر، وهو تقريع لهم على عدم إيمانهم مع وضوح الآيات في ما يرونه، فملكوت السماوات والأرض هو الملك العظيم الذي يشاهدونه، ويدركون أنّه ليس من صنع الشركاء الذين لا يضرّون ولا ينفعون بل لا يتمكّنون من الدفاع عن أنفسهم.

وقوله: {وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٖ} أي ملكوت جميع المخلوقات التي يرونها، فكما أنّ ملكوت السماوات والأرض دليل على الواحد الأحد كذلك ملكوت كل موجود - كبيره وصغيره - آية تدل على اللّه تعالى، ف{مِن شَيْءٖ} للتعميم لكل المخلوقات، قال تعالى: {فَسُبْحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٖ}(1).

وقوله: {وَأَنْ عَسَىٰ أَن...} عطف على {مَلَكُوتِ...} أي أو لم ينظروا إلى اقتراب أجلهم، و{أَنْ} مخففة عن الثقيلة، وهذا تحذير من عذاب

ص: 363


1- سورة يس، الآية: 83.

جهنّم بتذكيرهم بأنّ موتكم قريب فلماذا التسويف في الإيمان فهلتزعمون أنّكم خالدون فلا يلاقيكم عذاب اللّه تعالى؟!

وقوله: {أَجَلُهُمْ} أي أجل موتهم.

وقوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثِ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} بيان أنّه لا فرصة أخرى لهم بأن ينتظروا وحياً آخر أو نبيّاً آخر كي يزعموا أنّهم إن كفروا بهذا آمنوا بذاك فينجون! أو أن ينزل كتاب بما فيه هواهم ويصوّب أفعالهم وفواحشهم! قال سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(1).

وتسمية القرآن بالحديث دليل على كونه مخلوقاً كما قال: {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِيَ}(2)، وقال: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٖ مِّنَ ٱلرَّحْمَٰنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ}(3).

الرابع: قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ}.

هذا كالعلّة لعدم إيمانهم، فحيث قال: {فَبِأَيِّ حَدِيثِ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} بيّن أنّ عدم إيمانهم إنّما هو لأنّ اللّه أضلّهم، وقد مرّ مراراً أنّ اللّه مهّد لهم سبيل الهداية بما جعله في فطرتهم وركّبه في عقولهم وبإرسال الرسل وإيتائهم المعاجز، لكن هؤلاء رفضوا الهداية فعاقبهم اللّه بأن خذلهم وتركهم حتى ضلّوا.

ص: 364


1- سورة الزخرف، الآية: 31.
2- سورة الزمر، الآية: 23.
3- سورة الشعراء، الآية: 5.

وقوله: {فَلَا هَادِيَ لَهُ} لانحصار الهداية فيه، وإذا كان هناك من يهديإلى الحق فلأنّ اللّه هداه وأمره بتبليغ الهداية أو وفّقه إليه.

وقوله: {وَيَذَرُهُمْ} استئناف وهو تأكيد لإضلاله إيّاهم وبيان استمرار ضلالهم؛ لأنّ إعراضهم وعنادهم عن الحق مستمر فالخذلان يستمر فيهم حتّى يدخلهم العذاب الأليم في جهنّم.

وقوله: {طُغْيَٰنِهِمْ} الطغيان هو تجاوز الماء الحد، وهؤلاء طغوا فتجاوزوا حدودهم وحدود الحق إلى الباطل.

وقوله: {يَعْمَهُونَ} العمه - كما مرّ - هو عمى القلوب وعدم البصيرة.

ص: 365

الآيتان 187-188

اشارة

{يَسَْٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسَْٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ 187 قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوءُ إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ 188}

وحيث ذكّرهم باقتراب أجلهم حذّرهم عن القيامة، فقال:

187- {يَسَْٔلُونَكَ} يا رسول اللّه {عَنِ ٱلسَّاعَةِ} يوم القيامة قائلين: {أَيَّانَ} متى {مُرْسَىٰهَا} ثبوتها ووقوعها؟ {قُلْ} في جوابهم: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} فقد استأثر بعلم زمان وقوعها ولم يكشفه لأحد؛ وذلك ليكون أدعى للطاعة وأزجر عن المعصية {لَا يُجَلِّيهَا} لا يُظهرها أي لا يأتي بها {لِوَقْتِهَا} في وقتها {إِلَّا هُوَ} فكما أنّ علمها خاص به كذلك بيده إقامتها، وهي أمر مهول فقد {ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ} أي عظم وقوعها على أهل السماوات والأرض لشدّتها وشدّة حسابها وجزائها {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} فجأة فاستعدّوا لها ولا تسوّفوا {يَسَْٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} عالم بها وأصل الحفاء الإصرار والمبالغة، وسُمّي العالم حفيّاً لأنّه يكثر التحقيق ليستوعب الشيء، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ} فهي من الغيب {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ

ص: 366

ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} بأنّ علمها خاص به تعالى.

188- {قُل}: عدم علمي بها لأنّي {لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ ٱللَّهُ} فأنا عبد مربوب وكل شيء بيد اللّه، ولا أعلم إلاّ ما شاء اللّه أن أعلمه {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ} بذاتي وبدون مشيّئة اللّه لكنت إلهاً و{لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ} أي جلبت لنفسي الكثير من الخير ومنه الصحة والسلامة {وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوءُ} أي ودفعت عن نفسي كل سوء ومنه الفقر، ولست كذلك لأنّي لست بإله، بل {إِنْ} نافية أي ما {أَنَا۠ إِلَّا} رسول من عند اللّه ف{نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} فهم المنتفعون بإنذاري وبشارتي.

سبب كتمان وقت القيامة

بحوث

الأوّل: لمّا دعاهم في الآيات السابقة إلى التفكّر والنظر وحذّرهم من اقتراب أجلهم وأنّه لا هداية أخرى تأتيهم وأنّ اللّه يملي لهم ويمهلهم، يحذّرهم في هاتين الآيتين من القيامة وأهوالها ويخبرهم بأنّه مع كونه رسولاً للّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلاّ بمشيئة اللّه، فما بالهم لا يؤمنون لينجوا بأنفسهم، فالقيامة من اللّه وحده لا شريك له وحتّى زمان وقوعها علم استأثره اللّه لنفسه، ويحذّرهم شدّتها وأهوالها فهي شديدة على أهل السماوات والأرض ولا تأتي إلاّ فجأةً، فما بالهم غافلين عنها لا يعدّون العُدّة لها، ومن احتمل أمراً شديداً يتوقّع وقوعه في كل لحظة يهيّأ له نفسه.

الثاني: قوله تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي...} الآية.

ص: 367

المشركون كانوا يسألون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن زمان القيامة تارة استهزاءًوتكذيباً وتعنّتاً وتارة أخرى استفهاماً قلقاً منها؛ لأنّهم كانوا يعلمون أنّه صادق في ما يقول، قال سبحانه: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} أي يحرّكونها استهزاءً {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا}(1)، وقال: {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَٰحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}(2)، ولم يكن من المصلحة إخبارهم بزمان وقوعها فإنّهم إن علموا أنّها بعد فترة طويلة لترهلوا وسوّفوا وأمنوا العقاب، وفي التقريب: «وإنّما لم يكشف اللّه سبحانه عن وقتها لخلقه ليكون أدعى لهم إلى الطاعة واجتناب المعصية، فإنّ الإنسان إذا لم يعرف وقت البلاء يكون خائفاً دائماً، أمّا إذا عرف أخّر الطاعات وكان خوفه لقرب وقت الساعة»(3)، بل لو أخبرهم بوقتها لزاد تكذيبهم حيث يتّخذون وقوعها بعد آلاف السنين مثلاً ذريعة للطعن والتكذيب، أو لعل وقوعها بعد ملايين أو مليارات السنوات وهو رقم لا تستوعبه عقول أكثر الناس، قال سبحانه: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا}(4)، مع أنّها حتّى لو كانت بعد مليارات السنوات فهي قريبة إذا قيست بالخلود، وفي المثل: «كل آتٍ قريب».

ص: 368


1- سورة الإسراء، الآية: 51.
2- سورة يس، الآية: 48-50.
3- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 279.
4- سورة المعارج، الآية: 6-7.

وقوله: {ٱلسَّاعَةِ} هي قطعة من الزمان طال أو قصر، وسمّيت القيامةبالساعة حتّى صار علماً لها، وفي الكشّاف: «الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريّا» - يعني غلب إطلاق الاسم على مصداق حتى صار علماً له - «وسمّيت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة، أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو لأنّها عند اللّه - على طولها - كساعة من الساعات عند الخلق»(1).

وقوله: {مُرْسَىٰهَا} الرسو هو الثبات والاستقرار، والآخرة حينما تأتي تثبت ولا تزول عكس الدنيا التي هي فانية زائلة.

وقوله: {لَا يُجَلِّيهَا} أي لا يوقعها ولا يُقيمها إلاّ اللّه تعالى، وإنّما عبّر عن إيجادها بالإجلاء لأنّه كتم زمانها فإذا حان وقتها وأوجدها فقد رفع الستار عنها وأظهرها.

وقوله: {لِوَقْتِهَا} أي في وقتها، ولعلّ الاتيان باللام لبيان أنّ الإخفاء مستمر إلى حين وقتها.

وقوله: {ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ} أي على أهلهما، فأمّا أهل السماوات وهم الملائكة فهم خائفون منها لعلمهم بشدّتها وأهوالها، وأمّا أهل الأرض فالمؤمنون مصدّقون بها فلذا هم خائفون منها، وأمّا الكفّار المكذّبون بها فإنّهم يستبعدونها ويثقل عليهم التصديق بها، قال سبحانه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ}(2)، أو هي تثقل على الكفّار حين

ص: 369


1- الكشّاف 2: 183.
2- سورة الشورى، الآية: 17-18.

وقوعها، قال سبحانه: {وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِوَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَىٰهَا}(1)، وقال سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}(2)، ومن ثقله أنّه يخبر عن حقائق لا يرغب الناس فيها.

وقوله: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} كأنّ المقصود أنّه ليس المهم علمكم بزمانها وإنّما المهم استعدادكم لها لأنّها تفاجؤكم، فيكون هولها أعظم.

الثالث: قوله تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ...} الآية.

هذا ليس تكراراً لما في صدر الآية حيث قال: {يَسَْٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا}، وإنّما هو بيان سبب سؤالهم، أي إنّما يسألونك عن زمنها ظنّاً منهم بأنّك تعلم - بنفسك - كل تفاصيل الآخرة، ووقتها من ضمن تفاصيلها، كما أنّ قوله في الجواب: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ} يراد به علم تفاصيل الساعة وما يرتبط بها، فليس تكراراً لقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} لأنّه يرتبط بخصوص زمانها، وبعبارة أخرى إنّ الآية - بصدرها وتتمّتها - تضمّنت صغرى وكبرى، فالصغرى: إنّهم يسألون عن زمان القيامة، والجواب إنّ علم زمانها عند ربّي، والكبري: إنّ سؤالهم لأجل أنّهم يظنّون أنّك عالم بتفاصيل القيامة، والجواب إنّ علم تفاصيلها عند اللّه، واللّه العالم.

ص: 370


1- سورة الكهف، الآية: 49.
2- سورة المزمل، الآية: 5.

وقيل: كرّره ليصل إلى قوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ولبيان عدمعلمه بالغيب بنفسه.

وقوله: {حَفِيٌّ} أصله الإصرار والمبالغة في الطلب، وإحفاء السؤال هو استقصاؤه والإلحاح في البحث والمطالبة، ويقال للعالم النحرير حفي باعتبار أنّه بكثرة السؤال استوعب الأمر تماماً وعلم الواقع، واللّه سبحانه حفي لأنّه يعلم كل ما جل ودق.

وقوله: {عَنْهَا} يتعلّق ب{حَفِيٌّ}، لا ب{يَسَْٔلُونَكَ} أي كأنّك استقصيت الأمر عنها فعلمت.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أنّ علمها خاص باللّه، أو أكثرهم يجهلون بالساعة، والأوّل أظهر.

الرابع: قوله تعالى: {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ...} الآية.

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ علم زمان القيامة وتفاصيلها إنّما هو للّه تعالى وأما الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فليس حفيّاً عنها أراد بيان أنّ ذلك ليس نقصاً فيه؛ وذلك لأنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على عظمته عبد مربوب للّه، لا يملك لنفسه شيئاً من النفع والضر ولا علم الغيب، إلاّ بالمقدار الذي شاء اللّه تعالى أن يملكه له وأن يعلم به، فكونه رسولاً لا يجعله مستغنياً عن اللّه ولا يجعله إلهاً بل هو بشر لكن أنعم اللّه تعالى عليه بأن شاء أن يعطيه أكثر مما أعطى سائر الناس فقد اصطفاه وعصمه وجعله نبيّاً وأرسله للناس وعلّمه من الغيب ما يشاء لكن ليس من ذلك علم الساعة، قال سبحانه: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ

ص: 371

يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ٱرْتَضَىٰمِن رَّسُولٖ}(1).

حول علم الغيب

1- «الغيب» هو ما غاب عن الحواس، ويقابله «الشهادة» وهو الحضور لدى الحواس، ثمّ إنّه غيب بالنسبة إلينا، وأمّا اللّه تعالى فهو عالم بذاته بكل شيء من غير أدوات، لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء.

2- وكون الشيء غيباً: إمّا للافتراق في الزمان فالماضي والمستقبل غيب بالنسبة إلينا، وإمّا للافتراق في المكان فالبعيد غائب عنّا، وإمّا للجهل بالشيء كالعلوم النظريّة التي لا نعلمها أو نغفل عنها.

وكل ذلك مستحيل بالنسبة إليه تعالى، فهو سبحانه محيط - بعلمه وقدرته - بالمكان والزمان، وهو العالم بكل شيء المالك للغيب والشهادة، قال سبحانه: {وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُ}(2)، وقال: {عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ}(3).

3- كل ما في الكون للّه تعالى، وهو قد يأذن لمن يشاء في ما يشاء فيتمكّنون منه.

والعلم من الأمور التي شاء اللّه أن يجعل بعضه للناس، فجعل لهم أدوات علم الشهادة فأعطاهم حواساً يشعرون بها الأمور التي تقع في دائرة تلك

ص: 372


1- سورة الجن، الآية: 25-27.
2- سورة هود، الآية: 123.
3- سورة الأنعام، الآية: 73.

الحواس، وكذلك أعطاهم عقولاً يشعرون بها بعض الأمور النظريّة، فعلمالشهادة للّه أيضاً لكنّه أعطى خلقه وسائلها، وإذا أخذ اللّه بعض هذه الحواس فقد الإنسان علم الشهادة المرتبط بتلك الحاسة، قال سبحانه: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَٰرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ}(1).

4- إن اللّه أعطى عامّة الناس أداة بعض علم الغيب، وهي الفطرة والعقل حيث يعلمون بوجود اللّه - وهو من الغيب - عبرهما، وكذلك بعث رسلاً أخبروا الناس عن بعض الغيب، وأنزل كتباً فيها بعضه، فنحن نعلم بالقيامة وبعض ما يجري فيها - وكلّها من الغيب - لأنّ اللّه تعالى أخبرنا بها في القرآن، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حدّث ببعض ما يجري فيها، قال سبحانه: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}(2).

5- علم الغيب كلّه خاص باللّه تعالى، ولكنّه أخبر نبيّة (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعلم ما كان وما يكون وما هو كائن - كما روته العامّة والخاصّة(3) - وهذا بعض الغيب لا كلّه، قال سبحانه: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ ٱللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ}(4).

وقيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) : لقد أعطيت - يا أمير المؤمنين - علم الغيب - ! فضحك وقال للرجل - وكان كلبيّاً - : «يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب

ص: 373


1- سورة الأنعام، الآية: 46.
2- سورة يوسف، الآية: 102.
3- الكافي 1: 260؛ ومن العامة مسلم 8: 173.
4- سورة الأنعام، الآية: 50.

وإنّما تعلّم من ذى علم، وإنّما علم الغيب: علم الساعة وما عدّده اللّه سبحانه- إلى أن قال - وما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه، فعلّمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطّم عليه جوانحي»(1).

وهناك بحوث أخرى فراجع شرحنا لأصول الكافي.

وقوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ} أي لو كنت أعلمه بنفسي لكنت إلهاً، والإله كلّه خير ولا يلحقه ضرر، لكنّي قد أ ُصاب بالمرض والفقر ونحو ذلك فهذا دليل على أنّي لست بإله، وحيث إنّي لست بإله فلا أعلم الغيب بنفسي، وهذا من البرهان الاستثنائي، صورته: لو كنت أعلم الغيب لكنت إلهاً كثير الخير من غير سوء، لكنّي أ ُصاب بالسوء فلست إلهاً، فلست أعلم الغيب.

وقوله: {لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ} وذلك لأنّ من يعلم المستقبل ويعلم مواطن النفع طلبها ووصل إليها، والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن كان اللّه قد شاء أن يعلّمه ذلك لكنّه أمره أن يعمل بالوسائل الطبيعيّة وبالعلوم التي تحصل عن الطرق العاديّة، وأمّا علمه الخاص فغالباً لم يكن مأموراً بالعمل به إلاّ في حالات استثنائيّة، و{ٱلْخَيْرِ} هنا بمعنى النفع، ومنه الصحة والسلامة.

وقوله: {وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوءُ} لأنّ من يعلم مواطن السوء اجتنبها فلا تصيبه، و{ٱلسُّوءُ} هو ما يسوء الإنسان ويزعجه ويحزنه ومنه الفقر.

وقوله: {إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} بيان أنّه نبيٌ ينذر بالعقاب ويبشّر بالثواب،

ص: 374


1- نهج البلاغة، الخطبة: 128.

فنفي علم الغيب والألوهيّة لا تعني أنّه في منزلته كسائر الناس بل هو رسولمن اللّه يؤدّي مهمته - في الإنذار والبشارة - .

وقوله: {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} الإنذار والبشارة عامان لجميع الناس إلاّ أنّ المنتفع من ذلك المؤمنون فكأنّ ذلك كان لهم خاصّة.

ص: 375

الآيتان 189-190

اشارة

{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَٰلِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ 189 فَلَمَّا ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَىٰهُمَا فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 190}

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ الشرك لم يكن في آدم وحوّاء وإنّما تسرّب إلى ذرّيّتهما، فقال:

189- {هُوَ} اللّه {ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} آدم (عليه السلام) {وَجَعَلَ مِنْهَا} من جنسه وفاضل طينته {زَوْجَهَا} حوّاء {لِيَسْكُنَ} يستأنس ويطمئن ويميل {إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا} قاربها {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} لأنّ النطفة خفيفة {فَمَرَّتْ بِهِ} استمرّت بالحمل لفترة على خفّته فلم يؤثّر على حركتها وذهابها وإيّابها {فَلَمَّا أَثْقَلَت} بنمو الحمل وكبره حتّى صعب عليها العمل والحركة {دَّعَوَا} دعا الزوجان {ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَٰلِحًا} وليداً سليماً من العيوب {لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ} على هذه النعمة.

190- {فَلَمَّا ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحًا} أولاداً أصحّاء خالين عن العيوب {جَعَلَا} جعل الصنفان من الأولاد - الذكور والأناث - {لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَىٰهُمَا} فالذّرّية خالفت الأبوين - آدم وحوّاء - فصاروا مشركين إلاّ القليل منهم

ص: 376

{فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ} هو أعلى وأجل {عَمَّا يُشْرِكُونَ} من أن يكون له شريك.

النفس الواحدة التي أشركت

بحوث

الأوّل: يمكن اعتبار هذه الآيات إلى آخر السورة كالخاتمة لسورة الأعراف وهي تتضمّن خلاصة ما بيّنته السورة المباركة، ففيها بيان البرهان على بطلان الشرك وأنّ الكثير من المشركين معاندون أغلقوا قلوبهم عن النظر في آيات اللّه والاستماع إلى دلائل التوحيد، مع أنّ الأبوين - آدم وحوّاء - دعوا اللّه تعالى ليرزقهما المولود السوي وأن يشكراه تعالى على هذه النعمة، لكن الكثير من المواليد أشركوا مع أنّ الخلق للّه تعالى وليس للأصنام شرك فيه، بل هي منحوتة عبّادها، بل هي عاجزة عن دفع الضرر عن نفسها، ولا تتمكّن من الإجابة لمن يدعوها، ثمّ يأمر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالإعراض عن المعاندين إلى آخر ما سيأتي بيانه.

الثاني: قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا...} الآية.

لمّا كان من المعلوم المجمع عليه عدم شرك الأنبياء (عليهم السلام) مع دلالة هذه الآية على أنّ اللّه خلق الناس من زوجين وأنّهما جعلا للّه شركاء، لذلك اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الآيات.

1- فقد قيل: إنّ آدم (عليه السلام) أشرك شركَ طاعة لا شرك عبادة!

وهذا لا يليق بالأنبياء (عليهم السلام) مضافاً إلى أنّ شرك الطاعة خلاف ظاهر الآية، والرواية الواردة في ذلك إمّا محمولة على التقيّة أو لا بد من رد علمها إلى

ص: 377

أهلها.

2- وقيل: إنّ النفس الواحدة هنا هو قصي بن كلاب والمخاطب به ذرّيّته من قريش!

وهذا أيضاً خلاف سياق الآيات؛ إذ لا خصوصيّة له مع كون الكلام حول شرك عامّة الناس، هذا فضلاً عمّا دلّ على إيمان آباء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى آدم (عليه السلام) .

3- وقيل: إنّه مَثَل، فليس المراد من النفس الواحدة آدم (عليه السلام) !

وهذا أيضاً خلاف المتبادر من الآية، مع كونها إخباراً عمّا حدث لا مجرّد ضرب للمَثَل، مضافاً إلى تصريح الروايات بأنّ النفس الواحدة هي آدم (عليه السلام) .

4- وقيل: المراد من النفس الواحدة الجنس أي كل إنسان خلقه اللّه من أب واحد وأم واحدة! ويرد عليه ما ورد على سابقه.

5- والأقرب أنّ الآية جزءان، والجزء الأوّل منها بيان أنّ اللّه خلقكم من آدم وحوّاء الموحدين الذين دعوا اللّه لأجل ذريتهما وهذا ما تضمّنته الآية الأولى (الآية 189)، وأمّا الجزء الثاني فهو بيان حال الذّرّية المشركة الذين خالفوا أبويهما - آدم وحوّاء - وأشركوا باللّه، وذلك:

إمّا بالاستخدام أي إرجاع الضمير إلى غير آدم وحوّاء، والاستخدام من المحسّنات البلاغيّة بأن يكون الاسم الظاهر لمعنى أو مصداق، ويكون الضمير الراجع إليه لمعنى آخر أو مصداق ثانٍ كقوله الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضاباً

فالسماء بمعنى المطر، وضمير رعيناه يرجع إليه لكن المقصود منه النبت، وهنا يُراد من النفس الواحدة وزوجها آدم وحوّاء، وأمّا الضمير

ص: 378

في {جَعَلَا}يرجع إلى سائر الأبوين.

وإمّا بتقدير مضاف فمعنى {جَعَلَا} هو جعل أولادهما للّه شركاء، ويؤيّده قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} ولم يقل عمّا أشركا، واللّه العالم.

وقوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي خلق حوّاء من تلك النفس، أي من جنسه فهي أيضاً إنسان من نوعه وعلى صورته كما قال: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا}(1)، أو يراد به إنّها خلقت من فاضل طينة آدم (عليه السلام) ، وقد مرّ الكلام فيه في سورة النساء(2).

وقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} من السكون وهو الطمأنينة والأنس والراحة؛ لأنّ النوع إلى نوعه أميل وأكثر ألفة وتفاهماً.

وقوله: {فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا} الغشيان والتغشّي بأن يكون كالغشاء والغطاء، وهي كناية، نظير الملامسة والإفضاء والمقاربة والرفث والجماع ونحوها من الألفاظ؛ إذ يستقبح ذكر الاسم الصريح.

وقوله: {حَمْلًا خَفِيفًا...} كأنّه بمعنى عدم الشعور به، قيل: كأنّ ذكر هذا لأجل أنّ الإنسان حينما لا يحس بالحمل لا يعلّق آمالاً عليه ولا ينذر له ولا يدعو لأجله ولذا عطف عليه قوله: {فَمَرَّتْ بِهِ} أي لم تلتفت إليه فكأنّها مرّت عليه، لكن حينما يكبر الحمل يصير ثقلاً عليها وتصعب حركتها فلا يمكنها أن تمر به فحينئذٍ تبدأ الآمال والنذور والأدعية.

وقوله: {صَٰلِحًا} الصلاح هنا - بمناسبة الموضوع وهو الجنين - السلامة

ص: 379


1- سورة النحل، الآية: 72.
2- راجع التفكر في القرآن، سورة النساء: 10.

من العيوب والآفات.

وقوله: {لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ} وشكر اللّه هو بأداء حقه من العبادة والطاعة.

الثالث: قوله تعالى: {فَلَمَّا ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَىٰهُمَا فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

أي فلمّا جاء الولد سليماً عن الآفات جعل ذرّيّتهما للّه شركاء، ففي ضمير {جَعَلَا} استخدام، أو تقدير مضاف كما ذكرنا قبل قليل، فالمعنى إنّ الذّرّية خالفت الأبوين - آدم وحوّاء - فجعلوا للأصنام نصيباً في أولادهم فلم يشكرا كشكر أبويهما بإخلاص، بل شكرا الأصنام أيضاً وذلك بعبادتها ودعائها وتقديم النذور إليها، وسمّوا أولادهم بأسماء الأصنام مثل عبد اللات وعبد مناة ونحو ذلك من الأسماء.

وقوله: {فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي إنّ اللّه أعلى وأجل من شركهم، ولا يضرّه فعلهم، بل هم الذين يتضرّرون؛ لأنّ اللّه تعالى غني عن العالمين فلا تنفعه عبادة من عبده، ولا يضرّه شرك من أشرك به، قال سبحانه: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}(1).

ص: 380


1- سورة إبراهيم، الآية: 8.

الآيات 191-198

اشارة

{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَئًْا وَهُمْ يُخْلَقُونَ 191 وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ 192 وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَٰمِتُونَ 193 إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ 194 أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٖ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ 195 إِنَّ وَلِِّۧيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَٰبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ 196 وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ 197 وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُواْ وَتَرَىٰهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ 198}

ثمّ بيّن اللّه تعالى بطلان الشرك، فقال:

191- {أَيُشْرِكُونَ} استفهام إنكاري توبيخاً لهم {مَا لَا يَخْلُقُ شَئًْا} فالأصنام لا يقدرون على الخلق، {وَهُمْ} تلك الأصنام {يُخْلَقُونَ} مخلوقات للّه تعالى، كما أنّ هؤلاء صنعوها بالنحت.

192- {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} أولئك الشركاء المزعومون {لَهُمْ} لعبّادها المشركين بها {نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} فلا تقدر الأصنام في أن تدافع عن نفسها، فهي أعجز من عبدتها، فكيف يشركونها باللّه ويدعونها؟!

193- {وَإِن تَدْعُوهُمْ} أي إذا دعوتم المشركين {إِلَى ٱلْهُدَىٰ} بأن

ص: 381

يتركوا عبادة الأصنام فيعبدوا اللّه وحده {لَا يَتَّبِعُوكُمْ} لا يقبلون دعوتكمحيث إنّ الشيطان استحوذ عليهم {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} لا فرق في عدم هدايتهم {أَدَعَوْتُمُوهُمْ} إلى التوحيد {أَمْ أَنتُمْ صَٰمِتُونَ} لا تنذرونهم، حيث إنّهم معاندون.

194- {إِنَّ} الأصنام {ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ} أي تدعونهم {مِن دُونِ ٱللَّهِ} فتجعلونهم آلهة وتعبدونهم {عِبَادٌ} مخلوقات {أَمْثَالُكُمْ} فهي طوع إرادة اللّه تعالى فكيف تكون شريكة له؟! ثمّ أمرهم تعجيزاً لهم لبيان بطلان معتقدهم: {فَٱدْعُوهُمْ} نادوهم أو اطلبوا حوائجكم منهم {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} في كونها شركاء للّه، لكنّها لا تتمكّن من جواب عبدتها فليسوا بصادقين في كونها آلهة.

195- وهي لا حياة لها فكيف تكون شريكاً للّه سبحانه {أَلَهُمْ} استفهام إنكاري أي هل لهم {أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} في حوائج عبدتها أو حوائج أنفسهم؟ كلّا بل هي أدون من الحيوانات لأنّها قادرة على المشي والأصنام عاجزة، {أَمْ لَهُمْ أَيْدٖ يَبْطِشُونَ بِهَا} البطش هو الأخذ بشدّة، فهل تتمكّن الأصنام من الانتقام ممّن لا يعبدها أو يكسرها مثلاً؟ {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}؟ بل لا حواس لها، والحاصل إنّها نُحتت على شكل إنسان أو حيوان لكنّها جماد فأرجلها وأيديها وآذانها وأبصارها هي صورة لا واقع لها. {قُلِ} يا رسول اللّه متحدّياً لهم: {ٱدْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ} الأصنام فهي ليست شركاء للّه وإنّما هي شركاء لكم في الجسم فقط دون

ص: 382

الروح {ثُمَّ كِيدُونِ} بأن تتخلّصوا منّي {فَلَا تُنظِرُونِ} أي لا تمهلوني، فإنّهلا أثر لكيد أصنامكم لأنّها جمادات لا تضر ولا تنفع، ولا أثر لكيدكم لأنّ اللّه ناصري.

196- ف{إِنَّ وَلِِّۧيَ} الذي يتولّى أموري وينصرني ويحفظني {ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَٰبَ} وهو المعجز الذي عجزتم من أن تأتوا بمثله {وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ} من عباده، وهذا لا ينافي غلبة الأعداء عليهم أحياناً لمصالح أخرى.

197- {وَ} أمّا وليّكم فهي الأصنام التي لا تنفع ف{ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} فلا يتمكّنون من دفع الضرر عن أنفسهم.

198- {وَإِن تَدْعُوهُمْ} تدعوا المشركين {إِلَى ٱلْهُدَىٰ} بعد وضوح الأدلة {لَا يَسْمَعُواْ} سماع انتفاع لعنادهم، {وَتَرَىٰهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} إبصاراً نافعاً.

خلاصة توحيدية في بطلان الشرك

بحوث

الأوّل: هذه الآيات خلاصة توحيديّة في بطلان الشرك فهي تتضمّن:

1- عدم قدرة الأصنام على الخلق، بل هي مخلوقة.

2- وعدم تمكّنها من نصر عبادها، بل لا تتمكّن من نصر أنفسها بأن تدفع الضرر عنها.

3- ولا هداية لها، فعبّادها ضالون، لكنّهم معاندون فلا يستجيبون

ص: 383

لدعوتهم إلى الهداية لا لخلل في الهداية بل لأنّهم أغلقوا عقولهم وأدواتدركهم عن الحقائق.

4- وإنّها مخلوقة كما أن عبّادها مخلوقون، وفي الحوائج - التي يتوجّهون إليها - كما لا يقدرون هم على رفعها كذلك الأصنام لا تتمكّن من الاستجابة لهم فيها.

5- ولا حياة لها فهي على صورة مَن له رِجل ويد وعين وسمع لكنّها لا تشعر شيئاً.

6- وإنّها لا تتمكّن من أن تضر أعدائها.

7- وعلى العكس من ذلك اللّه تعالى فهو الذي ينصر ويحفظ ويتولّى شؤون المؤمنين به.

8- ثمّ التأكيد على عدم تمكّنها من نصر أنفسها ونصر عبدتها، وأنّ عبدتها معاندون لا يسمعون ولا يبصرون.

الثاني: قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَئًْا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}.

تقريع لهم وذم على شركهم، ببيان أنّ الأصنام مخلوقة غير خالقة، وأنّها لا تنصرهم بل لا تتمكّن من دفع الأذى عن نفسها، فكيف صارت آلهة؟! وكيف اتخذتموها شركاء للّه سبحانه؟!

وقوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} فقد خلق اللّه كل شيء بما فيها الأحجار التي صنعوا منها الأصنام، أو بمعنى أنّ الأصنام منحوتة - فالخلق هنا بمعنى

ص: 384

التقدير لا الإيجاد - فهؤلاء هم الذين نحتوا تلك الأصنام، فكيف صارتمعبودة لهم مع أنّهم هم الناحتون لها؟!

وقوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} أي لا تتمكّن نصر عبّادها حينما يصابون بالمشاكل والأزمات، فما هو داعيهم إلى عبادتها؟ فلا هي خلقتهم ولا هي تنفعهم بالنصر ولا بغيره، بل يتمكّن أضعف الناس من كسرها أو حرقها أو إزالتها، وقد رأى أعرابي ثعلباً يبول على صنمه، فكسره وأنشأ يقول:

أرب يبول الثعلبان برأسه *** لقد ضل من بالت عليه الثعالب

الثالث: قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَٰمِتُونَ}.

عطف على قوله: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ...} فالمشركون ضالون بالشرك ولا يستجيبون للّهدى، وفي هذا بيان لعنادهم وتسخيف لعقولهم.

وقد يستشكل بعض الملحدين: بأنّ المؤمنين قد يدعون اللّه فلا يرون إجابة كعبدة الأصنام الذين لا يجدون إجابة من أصنامهم هذا في الظاهر، وأمّا في الواقع فكما أنّ المؤمنين يقولون بأنّ اللّه ينصرهم واقعاً كذلك يقول المشركون بأنّ الأصنام تنصرهم واقعاً؟!

والجواب كما في تقريب القرآن: «إنّ الأدلة لمّا دلّت على وجوده سبحانه كانت كافية للفرق في مرحلة الواقع، فلو كان هناك شخصان أحدهما يملك شهادة الطب والآخر جاهل، ولم ينفع الدواء الذي وصفه صاحب شهادة الطب للمريض، لا يمكن أن يقال بالتساوي مع الجاهل،

ص: 385

وإنّما يجب أن يعلّل بعلّة أخرى»(1).

وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ...} بيان أنّهم أغلقوا أفهامهم عليكم فلا فرق عندهم بين أن تتكلّموا أو تسكتوا، مع أنّ العاقل هو من يستمع إلى كلام غيره إذا كان في مقام تحذيره ثمّ إن كان حقّاً أظهر قبولاً، وإن كان باطلاً رفضه، قال سبحانه: {ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(2)، وقال: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَٰبِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ...}(3).

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}.

بيان وجهين آخرين لبطلان الشرك، وهما: أنّ الأصنام مخلوقات كسائر المخلوقات، وأنّها لا تتمكّن من قضاء حوائج من يدعوها.

وقوله: {تَدْعُونَ} أي تدعونهم، حذف الضمير الراجع إلى الموصول لوضوحه إيجازاً.

وقوله: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} العبد هو المطيع، والجمادات طوع إرادة اللّه ومسخّرون له، ومنها الأصنام فتجري عليها القوانين التكوينيّة التي تجري على سائر المخلوقات، قال سبحانه: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(4)، وقال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا

ص: 386


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 285.
2- سورة الزمر، الآية: 18.
3- سورة نوح، الآية: 7.
4- سورة فصلت، الآية: 11.

تَفْقَهُونَتَسْبِيحَهُمْ}(1)، وفي قوله: {أَمْثَالُكُمْ} تسخيف لعقولهم.

وقوله: {فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} هذا للتعجيز بغرض بيان بطلان معتقدهم، كما تقول للأعمى الذي يدّعي البصر: إن كنت صادقاً في ادعائك فقل لي ماذا أحمل بيدي؟ وكأنّ المراد دعاؤهم في الحوائج واستجابتهم لهم فيها.

الخامس: قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٖ...} الآية.

بيان وجهين آخرين لبطلان الشرك، أحدهما: كونهم أمثالاً لكم في أنّهم مخلوقات وأجسام خاضعة للقوانين التكوينيّة، وإلاّ فأنتم أفضل منهم لأنّهم صورة لا روح لها وأنتم صورة لها روح، والآخر: أنّها لا تتمكّن من أن تضر أعدائها في شيء، فلا هي تنفع عبدتها ولا هي تضر من أراد بها سوءاً.

وقوله: {شُرَكَاءَكُمْ} الإضافة إليهم لبيان أنّهم ليسوا شركاء للّه حتى وإن زعم المشركون ذلك لأنّ زعمهم واتخاذهم لا يغيّر من الواقع شيئاً، وإنّما هم شركاء للمشركين لأنّهم أمثالهم فيشتركون معهم في المخلوقيّة وغير ذلك.

وقوله: {ثُمَّ كِيدُونِ} فيه تحدّي وبيان أمر مستقبلي بعدم تمكّن المشركين من أن يضرّوا رسول اللّه محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنّه لا يبالي بهم لوثوقه باللّه وولايته.

السادس: قوله تعالى: {إِنَّ وَلِِّۧيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَٰبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ}.

ص: 387


1- سورة الإسراء، الآية: 44.

بيان أنّ اللّه حافظه وناصره، قيل: خوّفوه بأصنامهم فأجاب بأنّ اللّه هوالذي يتولّى أمره فلا يخاف من أحد من بعده، وهذا نظير ما قاله نبي اللّه هود (عليه السلام) للمشركين، قال اللّه تعالى: {قَالُواْ يَٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٖ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي ءَالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعْتَرَىٰكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٖ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم...}(1).

وقوله: {إِنَّ وَلِِّۧيَ} الولي هو الأولى بالتصرّف فيكون ناصراً ومعيناً.

وقوله: {ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَٰبَ} بيان معجزة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث جاء بالكتاب الذي عجزوا عن الإتيان بمثله، وقيل: المقصود أنّه كما أمرني بالرسالة كذلك ضمن لي النصرة.

وقوله: {وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ} وهنا سؤال كيف يتولّاهم اللّه وقد قتل الكفّار الكثير من الأنبياء والأوصياء وحبسوهم وهجّروهم وغير ذلك؟

والجواب: إنّ اللّه ينصرهم لكن قد تكون مصالح أخرى تقتضي تأخير النصر أو أن يكون النصر من جهة أو جهات متعدّدة، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ}(2).

السابع: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إلى قوله: {وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}.

ص: 388


1- سورة هود، الآية: 53-56.
2- سورة غافر، الآية: 51.

هاتان الآيتان تأكيد للآيتين 192 و 193، وقيل: تلك حول عبدة الأصناموهذه حول الأصنام نفسها، فهم لا يتمكّنون من نصر الأصنام ولا يتمكّنون من نصر أنفسهم من بطش اللّه تعالى، كما أنّها لا تتمكّن من نصر عبدتها ولا من نصر أنفسها، وأيضاً كما أنّ دعوة عبدة الأصنام للّهداية لا تُجدي لعنادهم كذلك دعوة الأصنام بنفسها للّهداية غير مجدية لأنّها لا تسمع ولا تبصر رغم أنّهم نحتوا لها آذاناً وأعيناً.

ويمكن أن يقال: إنّ الآيات بمعنى واحد لكن ذُكرت لغرضين مختلفين، فأمّا الأوليان فهما في مقام الدليل على عدم صحّة جعل الشركاء في الأولاد لأنّ الأصنام لم تخلقهم ولا تقدر على النصر ولكن المشركين لا يهتدون بهذا البرهان، وأمّا الأخريان ففي مقام المقارنة بين ولاية اللّه الهادي بالكتاب وبين ولاية الأصنام العاجزة ولكن المشركين لا يهتدون أيضاً.

ص: 389

الآيات 199-202

{خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ 199 وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 200 إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ 201 وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ 202}

ولمّا أمر اللّه تعالى نبيه بالتبليغ والدعوة إليه علّمه مكارم الأخلاق ليكون تبليغه أكثر تأثيراً، فقال:

199- {خُذِ ٱلْعَفْوَ} وهو ضد الجهد أي خذ الوسط وما تيسّر من الناس وهذا أمر بالمداراة، {وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ} وهو الأمور الحميدة التي يعرف الناس صوابها بعقولهم، {وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ} أحلم عنهم.

200- {وَإِمَّا} «إن» الشرطية و«ما» للتأكيد {يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ} «النزغ» هو الدخول في الأمر لإفساده، أي إذا أراد الشيطان أن يذهب بحلمك لتقابل سفه الجاهلين بسفه مثله، وذلك يكون في حالة الغضب عليهم عادة {فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ} التجئ إلى اللّه تعالى ليحفظك من شر الشيطان {إِنَّهُ} إن اللّه تعالى {سَمِيعٌ} لاستعاذتك فيستجيب لك ويُعيذك {عَلِيمٌ} بصلاح أمرك.

201- وكما أنت تستعيذ باللّه فيستجيب لك كذلك {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ} أي

ص: 390

اجتنبوا المعاصي {إِذَا مَسَّهُمْ} عرض عليهم {طَٰئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ} خاطرة من إلقاء الشيطان، أو طائف هو الشيطان يريد إغوائهم {تَذَكَّرُواْ} اللّه تعالى فأدركتهم ملكة التقوى الكامنة في نفوسهم {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} للرشد فلا يتّبعون ذلك الطائف ويتحرّزون عن المعصية.

202- {وَ} لكن {إِخْوَٰنُهُمْ} أي إخوان الشياطين وهم العصاة والفسقة {يَمُدُّونَهُمْ} يمدّون الشياطين ويسايروهم عبر اتّباع تلك الوسوسة {فِي ٱلْغَيِّ} وهو الجهل الناشئ عن الاعتقاد الفاسد {ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} لا يكفّون بل يصرّون عليها عكس المتّقين إذا غفلوا وأذنبوا كفّوا عنه بالتوبة والإنابة.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ}.

لمّا أمر اللّه رسوله بالتبليغ وعلّمه الاحتجاج وآتاه الآيات المعجزات، بيّن له كيفيّة التعامل مع الناس سواء من آمن أو من عاند، فأمّا من آمن فلأجل أن يثبت الإيمان في قلبه، وأمّا من عاند فلعلّ اللّه يهديه بسبب أخلاقه إن لم يهتد بكلامه وبالمعجزات، قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلْأَمْرِ}(1).

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «أمر اللّه نبيّه بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها»(2)، وهي أمور ثلاثة:

ص: 391


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- جوامع الجامع 1: 491.

1- قوله: {خُذِ ٱلْعَفْوَ} في الكشّاف: «العفو ضد الجهد، أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم وتسهّل من غير كلفة ولا تداقهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتّى لا ينفروا»(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «خذ منهم ما ظهر وما تيسّر، والعفو الوسط»(2).

فحاصل المعنى هو عدم إلقاء الناس في المشقّة والتيسير عليهم، وهذا المعنى يرجع إلى المعنى العام في كلمة العفو وهو الترك.

2- وقوله: {وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ} وهو ضد النكر، وهو ما يعرف العقلاء حسنه بعقولهم، فيشمل الأفعال الجميلة والأخلاق الحميدة، وذلك مما يسهل مهمة التبليغ لأنّ الناس يدركون حُسن ما يقال لهم فيميلون إليه وإلى قائله.

3- وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ} أمر بأن يقابل سفههم بالحلم بأن لا يُماريهم ولا يصنع بهم مثل صنعهم، وهذا بعد إلقاء الحجّة عليهم وعنادهم، فإن الإعراض عنهم يمنع العدواة أو زيادتها وفي ذلك بقاء أمل باهتدائهم ولو بعد حين، وكذلك يمنع زيادة سفههم وجهلهم لأنّ الجاهل يزداد سفها وصلافة لو قابلته بالمثل، قال سبحانه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(3) أي عملوا بما يوجب سلامتهم، وهذا قد يكون بالإعراض عنهم أو قالوا قولاً فيه سلامتهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ

ص: 392


1- الكشّاف 2: 189.
2- تفسير العيّاشي 2: 43؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 245.
3- سورة الفرقان، الآية: 63.

عَلِيمٌ}.

بعد أن أمر اللّه تعالى نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكارم الأخلاق نهاه عن الأخلاق الذميمة والأفعال القبيحة؛ وذلك لأنّ أفعال الناس قد تثير حفيظة الإنسان وتغضبه فيستغل الشيطان ذلك للإفساد بينهم، وحيث إنّ مهمّة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي تقريب الناس إلى الإيمان فلا بد أن يُداريهم أحسن مداراة، وقد يتصرّفون تصرّفات سفهيّة تثير الغضب، فهنا لا بد من الالتجاء إلى اللّه تعالى لإبطال كيد الشيطان ونزغه.

وقوله: {يَنزَغَنَّكَ} في المقاييس: «النزغ: إفساد بين اثنين»(1)، وفي المفردات: «دخول في أمر لإفساده»(2)، وليس الغضب داخلاً في معنى النزغ لكن النزغ يكون غالباً في حالة الغضب، قال سبحانه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}(3)، وقال تعالى: {ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} إلى قوله: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ}(4).

وقوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يسمع استعاذتك، وهو يعلم بما في قلبك فلذا يستجيب لك، فإنّ الإنسان يغضب لسفه الجاهلين لكن من مكارم الأخلاق كظم الغيظ، فليس الغضب حين سفههم رذيلة بل هو أمر طبيعي

ص: 393


1- مقاييس اللغة 5: 416.
2- المفردات للراغب: 798.
3- سورة الإسراء، الآية: 53.
4- سورة فصّلت، الآية: 34-36.

كالإحساس بالجوع والعطش وكاحمرار الوجه عند الخجل والغضب، لكن الرذيلة هو إظهار الغضب بطريقة غير مناسبة، والفضيلة هو كظمه أو إظهاره بطريقة مناسبة مشروعة.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.

بيان القاعدة العامّة للمتّقين - والتي منها استعاذة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين نزغ الشيطان - فكأنّ هذه الآية تعليل للآية السابقة، أو هي تعليم للمؤمنين باتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ} أي اجتنبوا المعاصي بحيث صارت طبيعة وملكة في نفوسهم فلذا يظهر أثرها حين وساوس الشيطان.

وقوله: {مَسَّهُمْ} كأنّه بيان أنّ قلوبهم طاهرة وبريئة من الشيطان فلذا لا يأتيهم الشيطان إلاّ في الظاهر ولا ينفذ في قلوبهم.

وقوله: {طَٰئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ} الطائف إمّا بمعنى الخاطرة تأتي إلى ذهن الإنسان فإن كانت سيّئة كانت من إلقاء الشيطان وإن كانت حسنة فهي من إلقاء الملك كما في الأحاديث(1)،

ف(من) ابتدائيّة نشويّة أي خاطرة تنشأ من الشيطان، وإمّا بمعنى من يطوف من الشياطين على قلوب بني آدم ف(من) بيانيّة أي طائف هو الشيطان.

وقوله: {تَذَكَّرُواْ} أي أدركتهم ملكة التقوى فتذكّروا اللّه تعالى؛ وذلك

ص: 394


1- الكافي 2: 266.

لأنّ الشيطان لا سلطة له عليهم.

وقوله: {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} أي يبصرون رشدهم فلا يتّبعون الشيطان فهم غير غافلين، وفي الآية دلالة على أنّ الاستعاذة نوع ذكر للّه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}.

أي ولكن الذين لم يتّقوا فهم إخوان الشياطين في الكفر والعصيان، فهؤلاء يسيرون في ركب الشياطين في طريق الضلال، ولا يرجعون عن غيّهم.

وقوله: {وَإِخْوَٰنُهُمْ} الضمير يرجع إلى {طَٰئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ} أي إخوان الشياطين وهم الكفرة والعُصاة، وأخوّتهم لهم في الكفر والعصيان، كما قال اللّه تعالى: {إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِ}(1).

وقوله: {يَمُدُّونَهُمْ} من الإمداد وهو الرفد والإعانة، فإنّ طائف الشيطان يلقون إليهم الغيّ وهؤلاء يعينونهم في فعل ذلك الغي، وفي عكسه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»(2).

وقوله: {فِي ٱلْغَيِّ} أصله بمعنى الفساد، ولا يستعمل إلاّ في الدِين(3)

وقيل: هو جهل من اعتقاد فاسد، وقد يستعمل في العذاب والعقاب باعتبار أن سببهما الغيّ(4).

ص: 395


1- سورة الإسراء، الآية: 27.
2- نهج البلاغة، الرسالة: 45.
3- راجع معجم الفروق اللغوية: 392.
4- راجع المفردات للراغب: 620.

وقوله: {لَا يُقْصِرُونَ} التقصير هو التواني عن الشيء والكف عنه، والمعنى ثمّ لا يكفّون عن ما أوحاه الشياطين إليهم، وفي ذلك إشعار بأنّ المتّقين إذا غفلوا فارتكبوا الذنب لا يمدّون الشياطين بل يكفّون عنه ويتوبون، قال سبحانه: {وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(1).

ص: 396


1- سورة آل عمران، الآية: 135.

الآيات 203-206

اشارة

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بَِٔايَةٖ قَالُواْ لَوْلَا ٱجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ 203 وَإِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204 وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلْأصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلْغَٰفِلِينَ 205 إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ 206}

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّه قد أتم الحجّة عليهم بالقرآن، فقال:

203- {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم} يا رسول اللّه {بَِٔايَةٖ} معاجز يقترحونها لمجرّد المجادلة والمعاندة {قَالُواْ لَوْلَا ٱجْتَبَيْتَهَا} لماذا لم تُظهرها؟ والعجيب إنّك إن أتيتهم بالآية كذّبوها وإن لم تأتهم يقترحونها استهزاءً، {قُلْ} في جوابهم: ليس الأمر لي و{إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي} وهو حكيم يأتي بها حينما تقتضي الحكمة ولذا لا أقترح عليه.

ثمّ بيّن أنّ اللّه قد أنزل القرآن عليهم وفيه الكفاية ف{هَٰذَا} القرآن {بَصَائِرُ} براهين ودلائل ظاهرة {مِن رَّبِّكُمْ} للجميع لأنّه تعالى يريد إصلاحهم، {وَ} لكنّه {هُدًى} فيه الهداية {وَرَحْمَةٌ} لطف وترحّم من اللّه {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} لأنّهم هم الذين ينتفعون بالقرآن بحسن اختيارهم.

204- {وَ} إذا أردتم الاهتداء به ف{إِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ} وهو

ص: 397

صَرف السمع إلى الكلام لفهمه {وَأَنصِتُواْ} بالسكوت حين الاستماع{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي بذلك قد تهتدون فتنالكم الرحمة، ومن مصاديقه الاستماع لقراءة القرآن حين صلاة الجماعة.

205- {وَ} كما عليكم استماع القرآن كذلك عليكم ذكر اللّه ف{ٱذْكُر رَّبَّكَ} أيّها السامع أو الخطاب للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمراد به العموم {فِي نَفْسِكَ} سراً في قلبك {تَضَرُّعًا} بتذلّل واستكانة {وَخِيفَةً} في حال الخوف منه {وَ} كذا اذكره {دُونَ ٱلْجَهْرِ} الصياح {مِنَ ٱلْقَوْلِ} أي على لسانك، {بِٱلْغُدُوِّ} الصباح {وَٱلْأصَالِ} جمع الجمع لأصيل أي قرب غروب الشمس، {وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلْغَٰفِلِينَ} عن ذكره.

206- وإنّما تذكره كذلك حيث {إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} أي المقرّبين عنده كالأنبياء والأوصياء والأئمة (عليهم السلام) {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} فقلبهم خاضع لها، {وَيُسَبِّحُونَهُ} باللسان، {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} بجوارحهم.

بحوث

الأوّل: هذه الآيات كأنّها بيان أنّ اللّه تعالى قد أتم الحجّة عليهم بإنزال القرآن فهو معجزة تدل على صدق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من جهة، وفيها هدايتهم بالبراهين والعقائد والأحكام والأخلاق والمواعظ وغير ذلك ممّا يحتاجون إليه من جهة أخرى، لكنّهم بدلاً من ذلك يقترحون معاجز مختلفة لا ليهتدوا وإنّما تعنّتاً وعناداً، ثمّ يأمرهم بأن يعيروا أسماعهم وقلوبهم إلى القرآن ليفهموه وليهتدوا به، والاستماع إلى القرآن لا بد أن يقترن بالعمل به

ص: 398

ولذا يأمرهم بذكر اللّه تعالى في مختلف الأوقات لئلا يكونوا من الغافلين فيضلّوا، بل ليكونوا من الذاكرين فيهتدوا لأنّ عباده المقرّبين يذكرون اللّه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بَِٔايَةٖ قَالُواْ لَوْلَا ٱجْتَبَيْتَهَا...} الآية.

كانوا يقترحون على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المعاجز المختلفة، وقد مر أنّ القوانين التكوينيّة وضعها اللّه بحكمته، والمعاجز استثناء للدلالة على صدق مدعي النبوّة أو لأغراض أخرى وذلك من الحكمة أيضاً، وأمّا تعطيل القوانين التكوينيّة لمجرد اقتراح معاندين قد تمّت عليهم الحجّة بمعاجز أخرى فليس من الحكمة في شيء، ولذا لم يستجب اللّه تعالى لاقتراحاتهم اكتفاءً بما أنزله من المعاجز والتي أهمّها القرآن الكريم، قال سبحانه: {وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَٰهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ}(1)، والقرآن كان ينزل باستمرار وكل آية معجزة تتحدّاهم بأن يأتوا بمثلها وقد عجزوا فما الداعي لمعاجز أخرى؟!

وقوله: {بَِٔايَةٖ} مما اقترحوها باستمرار، مع أنّ اللّه تعالى أظهر على يد رسوله معاجز متعدّدة ذكرت في آيات أخرى وفي الروايات المعتبرة، لكن ليس كل اقتراح تعنّتي يستجاب.

وقوله: {ٱجْتَبَيْتَهَا} من جبي بمعنى جمع، والاجتباء هو استخلاص الشيء وهو قريب من الاصطفاء، كأنّ مقصودهم أن تأتي بها خالصة لك

ص: 399


1- سورة المؤمنون، الآية: 71.

دوننا لأنّها معجزة لا نقدر نحن عليها، وكأنّهم قالوه على سبيل الاستهزاء.

وقوله: {إِنَّمَا أَتَّبِعُ...} أي لا أقترح على ربّي شيئاً وإنّما أنتظر أمره، وكان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا وعده اللّه بشيء ينتظر تنفيذه من دون اقتراح.

وقوله: {مِن رَّبِّي} بيان أنّ اللّه أصلح شأني وزوّدني بما فيه الحكمة فلا معنى للاقتراح عليه.

ما يتضمنه القرآن

ثمّ بيّن أنّ القرآن يكفيهم في إعجازه مع ما تضمّنه من البراهين والهداية والرحمة، ففيه أمور ثلاثة - مضافاً إلى جهة إعجازه - :

1- قوله: {بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ} جمع بصيرة وهي الدلائل التي تدركها العقول وتذعن لها إن ترك الإنسان العناد، وهنا قال: {مِن رَّبِّكُمْ} لأنّه أنزلها لإصلاح أمركم.

2- وقوله: {وَهُدًى} أي القرآن يتضمّن الهداية في كل شيء.

3- وقوله: {وَرَحْمَةٌ} هو رحمة وفيه الرحمة ويستتبع الرحمة.

وقوله: {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} أي هم الذين ينتفعون به فيتبصّرون ويهتدون ويجلبون الرحمة لأنفسهم، ولكن المعاندين بسوء اختيارهم جعلوه نقمة لأنفسهم، قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}(1)؛ لأنّهم رفضوه فاستوجبوا العذاب لأنفسهم.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

بيان أنّ الاهتداء بالقرآن ونيل الرحمة به تتوقّف على الاستماع إليه

ص: 400


1- سورة الإسراء، الآية: 82.

لفهمه، وأما عدم الاستماع إليه بجعل الأصابع في الآذان أو بعقد القلب علىرفضه فيكون سبباً لعدم الانتفاع به.

وهذا الاستماع واجب لأجل الاهتداء به، وكذلك يجب في صلاة الجماعة حينما يقرأ الإمام القرآن، ويستحب في سائر الأوقات، وما ورد في الروايات من الاستماع حين قراءة إمام الجماعة فهو بيان لمصداق من مصاديق ذلك ولا تنحصر الآية فيه.

وقوله: {فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ} الاستماع هو الإصغاء بأن يركّز الإنسان على الكلام ليفهمه.

وقوله: {وَأَنصِتُواْ} الإنصات هو السكوت حين الاستماع، فقد يستمع الإنسان بدقّة وهو يتكلّم، وهذا خلاف الأدب مع القرآن، كما أنّه قد يشتّت التركيز في الاستماع.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي لعلّكم تهتدون فيرحمكم اللّه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ...} الآية.

بما أنّ الاستماع والإصغاء لوحدهما لا يكفيان فلذا أمروا بذكر اللّه تعالى باستمرار وذلك كفيل بالالتزام العملي وعدم المعصية، ولذكر اللّه حالتان: حالة في القلب وحالة في اللسان، ولا بد أن يكون الذكر القلبي بخوف واستكانة، وأن يكون الذكر اللساني بأدب كي يكون مؤثّراً وإلاّ كان مجرّد خاطرة من غير أثر أو مجرّد لقلقة لسان.

وقوله: {فِي نَفْسِكَ} أي في قلبك، وهو أصل الذكر، فإنّ الذكر أن يكون الشيء في بال الإنسان ويقابله النسيان.

ص: 401

وقوله: {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} أي حال كونك متضرّعاً وخائفاً فهذا الذكر هو الذي يؤثّر أثره، و(التضرّع): التذلّل والاستكانة، و(الخيفة): الحالة من الخوف.

وقوله: {وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ} بيان الحالة الثانية وهي الذكر باللسان لكن ينبغي أن لا يكون بصياح فذلك خلاف الأدب، وقد مرّ في قوله: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}(1)، وقال سبحانه: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا}(2).

وقوله: {بِٱلْغُدُوِّ وَٱلْأصَالِ} الغدو: الصباح، والآصال جمع الجمع لأصيل وهو بين العصر والغروب، وكأنّ المقصود استمرار الذكر ودوامه، أو في كل يوم بحيث لا يخلو اليوم عن ذكر اللّه ولا يضر الانشغال بأمور المعيشة ونحوها في بعض الوقت ممّا يغفل فيه الإنسان، لكن لا بد أن لا تكون غفلة مستمرّة ولذا قال: {وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلْغَٰفِلِينَ} أي من الجماعة الذين نسوا اللّه باستمرار، والحاصل: أنه يجب على الإنسان أن يكون في ذكر اللّه تعالى كل يوم حتّى لا يكون غافلاً دائماً.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}.

هذا كالتعليل للآية السابقة، أي اذكر اللّه دائماً ولا تكن من الغافلين لأنّ المقربين إلى اللّه يذكرونه دائماً قلباً ولساناً وعملاً، فالإنسان يلحق بهم

ص: 402


1- سورة الأنعام، الآية: 63.
2- سورة الإسراء، الآية: 110.

بذكره وعدم غفلته.

وقوله: {ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} وهم المقرّبون عنده بالقرب المعنوي، وفي تفسير القمي: «يعني الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام) »(1).

أمّا قلوبهم فهم {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ}.

وأمّا في ألسنتهم فهم {يُسَبِّحُونَهُ} أي ينزّهونه عما لا يليق به، والتسبيح وإن كان أعم من اللسان إلاّ أنّ المراد به هنا - على الظاهر - الذكر اللساني.

وأمّا أعمالهم فهم {لَهُ يَسْجُدُونَ} وهو غاية الخضوع بالجوارح حتّى قيل إنّ السجود عبادة بالذات، اللّهم اجعلنا منهم.

خاتمة

عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإن قرأها في كل جمعة كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة، أما إنّ فيها محكماً فلا تدعوا قراءتها فإنّها تشهد يوم القيامة لكل من قرأها»(2).

والمراد قراءتها مع العمل بما فيها.

28 / شهر رمضان / 1441ه

ص: 403


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 251؛ عن تفسير القمّي 1: 254.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 91؛ عن ثواب الأعمال: 105.

ص: 404

الفهرس

الإطار العام للسورة... 5

الآيات 1-9... 7

مراحل الحساب في الآخرة... 14

معنى الوزن في القيامة... 16

الآيات10-18... 20

مغالطات إبليس... 26

علّة طلب إبليس المهلة... 29

الآيات 19-25... 33

عصمة آدم (عليه السلام) والأمر الإرشادي... 43

الآيات 26-30... 46

الآيات 31-34... 58

الآيات 35-37... 68

معنى عدم حزن المؤمنين... 71

الآيات 38-41... 75

سبب تضاعف العذاب... 80

ص: 405

الآيات 42-45... 84

سهولة الدين... 86

أقسام الاستهزاء... 90

الآيات 46-49... 94

معاني الأعراف... 96

الرجال الذين على الأعراف... 97

الآيات 50-53... 104

الآيات 54-58... 113

معاني العرش... 117

معنى الاستواء على العرش... 118

عدم الفرق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة... 121

الآيات 59-64... 128

قصة نوح (عليه السلام) وقومه... 130

الآيات 65-72... 137

قصة هود (عليه السلام) وقوم عاد... 140

الآيات 73-79... 149

قصة صالح (عليه السلام) وثمود... 151

الكلام مع الموتى... 158

الآيات 80-84... 160

ص: 406

قصة لوط (عليه السلام) وقومه... 161

الآيات 85-87... 167

قصة شعيب (عليه السلام) وقومه... 168

الآيات 88-93... 175

الآيات 94-99... 184

سنن اللّه تعالى العامة في المكذبين... 186

سبب إمهال ثمود ثلاثة أيام... 188

الآيات 100-102... 194

الآيات 103-112... 200

قصة موسى (عليه السلام) وفرعون... 202

الآيات 113-119... 210

قصة موسى (عليه السلام) والسحرة... 211

الآيات 120-126... 217

قصة إيمان السحرة... 219

الآيات 127-129... 225

الآيات 130-137... 231

أنواع عذاب قوم فرعون... 234

الآيات 138-141... 244

قصة بني إسرائيل بعد عبور البحر... 246

ص: 407

الآيات 142-144... 250

قصة ميقات موسى (عليه السلام) ... 252

خلافة هارون (عليه السلام) ووصايا موسى (عليه السلام) له... 253

استحالة رؤية اللّه تعالى... 255

كلام اللّه تعالى بخلق الصوت... 261

الآيات 145-147... 263

الآيات 148-154... 270

قصة عبادة بني اسرائيل للعجل... 273

موقف موسى (عليه السلام) وتبرأة هارون (عليه السلام) ... 276

الآيتان 155-156... 286

قصة عذاب السبعين رجلاً من قوم موسى (عليه السلام) ... 288

رحمة اللّه في الدنيا والآخرة وشروطها... 294

الآيتان 157-158... 295

أوصاف رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 297

الآيات 159-162... 305

المؤمنون من بني إسرائيل... 307

الآيات 163-166... 311

قصة أصحاب السبت... 313

معصية الساكتين عن المنكر... 316

ص: 408

الآيات 167-171... 321

الآيات 172-174... 332

عالم الذر... 333

المطلب الأوّل: تركيب الفطرة في عالم الذر... 334

المطلب الثاني: دفع الإشكالات عن عالم الذر... 335

المطلب الثالث: الميثاق بالألوهية والنبوة والإمامة... 338

المطلب الرابع: الغرض من الميثاق... 338

الآيات 175-178... 343

قصة بلعم بن باعورا... 344

الآيات 179-183... 350

الغرض من خلق الناس... 353

معنى الأسماء الحسنى... 356

الآيات 184-186... 360

الآيتان 187-188... 366

سبب كتمان وقت القيامة... 368

حول علم الغيب... 372

الآيتان 189-190... 376

النفس الواحدة التي أشركت... 377

الآيات 191-198... 381

ص: 409

خلاصة توحيدية في بطلان الشرك... 383

الآيات 199-202... 390

الآيات 203-206... 397

ما يتضمنه القرآن... 400

خاتمة... 403

الفهرس... 405

ص: 410

التفكر في القرآن (سورة الأنفال، سورة التوبة) المجلد 9

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفكر في القرآن (سورة الأنفال، سورة التوبة) المجلد 9 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم، 1443ق = 1400ش.

مواصفات المظهر: 410ص.

فروست: التفكر في القرآن؛8.

شابك: 7-628-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية

محتويات: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع: تفاسير (سوره اعراف)

موضوع: تفاسير شيعه -- قرن 14

موضوع: Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

ترتيب الكونجرس: BP102/26

تصنيف ديوي: 297/ 18

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 8441086

الشجرة الطيبة

التفكر في القرآن (9)

سورة الأنفال . سورة التوبة

--------------------

السيّد جعفر الحسيني الشيرازي

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الناشر: دار العلم

الطبعة الأولی - 1443ه.ق - 2021 م

عدد النسخ: 1000 نسخة

المطبعة: إحسان

--------------------

شابك: 7-660-204-964-978

--------------------

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

(9)

التفكر في القرآن

سورة الأنفال

سورة التوبة

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

سورة الأنفال

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

الإطار العام للسورة

هذه السورة المباركة نزلت حول غزوة بدر أولى غزوات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وفيها بيان نصر اللّه تعالى لرسوله وللمؤمنين وخذلانه للكافرين.

وبيان وجوب استجابة المسلمين لنداء الجهاد، ووجوب إطاعة اللّه ورسوله، ووجوب الإعداد لهم مهما استطاع المسلمون، وحرمة الفرار من الزحف.

وبيان كفاية المؤمنين الصابرين لقتال الكفّار الذين لا يفقهون حتّى لو كان الكفّار ضِعفين.

وأنّ المشركين يستحقّون ما نالهم من القتل والذل لأنّهم هم الذين بدأوا المسلمين بالإيذاء حيث أرادوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو حبسه مع رفضهم لآيات اللّه ودعائهم بأنّه إن كان هو الحق فليعذّبهم اللّه، وأنّهم صدّوا عن المسجد الحرام، وارتكبوا فيه البدع، وأنفقوا أموالهم للصد عن سبيل اللّه، وأنّهم أثاروا الفتنة وغير ذلك ممّا أوجب تشريع قتالهم.

ص: 5

وبيان مصير المقتولين من الكفّار إلى جهنّم وبئس المصير، وكذا حكم الأسرى وكيفيّة التعامل معهم.

وبيان سبب خروج الكفّار إلى قتال المسلمين بالبطر والرياء وتزيين الشيطان أعمالهم لهم.

وبيان خوف المنافقين وخطرهم على المسلمين.

وبيان أنّه لا بأس بمعاهدة الكفّار إلاّ إذا خاف خيانتهم، وأنّهم إذا أرادوا السلم فاجنح لها مع التوّكل على اللّه تعالى.

وبيان حكم الغنيمة وعامة الأنفال والفداء الذي يؤخذ من الأسرى، وغير ذلك ممّا سيأتي.

ص: 6

الآيات1-4

اشارة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * يَسَْٔلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 1 إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ 2 الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ 3 أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ 4}

1- {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * يَسَْٔلُونَكَ} السائل أصحاب النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {عَنِ} حكم {الْأَنفَالِ} جمع نفل، وهي الغنائم الحربيّة وكل ما لا مالك له. {قُلِ} في جوابهم: {الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ليس لكم حق فيها إلاّ إذا نحلكم اللّه أو الرسول إيّاها، وقد قسّم الرسول غنائم بدر بينهم بالسويّة ثمّ أعطاهم اللّه بعد بدر أربعة أخماس الغنائم الحربيّة {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوا عقابه ولا تطلبوا ما ليس لكم، {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فلا تتنازعوا في الغنيمة وغيرها، {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في ما شرّعه اللّه تعالى وصنعه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمر الغنيمة وغيرها {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فالإيمان يقتضي الطاعة والإصلاح والتقوى، وهذا حثّهم على القبول بحكم اللّه والرسول.

2- {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} الكاملو الإيمان {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي لم تطمئن بما قدّموه من طاعة، {وَإِذَا تُلِيَتْ} قُرأت {عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ} هذه التلاوة {إِيمَٰنًا} فالملكات النفسانيّة تقوى بالتكرار، {وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ

ص: 7

يَتَوَكَّلُونَ} يعتمدون عليه في أمورهم وشؤونهم، هذه في صفاتهم القلبيّة.

3- وأمّا في أعمالهم: فهم {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ} أي يواظبون عليها بالإتيان بها وحث الناس عليها، {وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ} واجباً كان أو مستحبّاً.

4- {أُوْلَٰئِكَ} المتّصفون بهذه الصفات {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} حيث خضعت قلوبهم وجوارحهم إلى اللّه تعالى {لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} وهي درجات القرب والمنزلة {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ} في الجنّة {كَرِيمٌ} أي بتعظيم وكرامة لهم.

بحوث

الأوّل: نزلت هذه الآيات حينما اختلفوا في غنائم بدر ولم يكن قد بيّن اللّه قبل ذلك حكمها، حيث انقسم المسلمون في غزوة بدر إلى أصناف ثلاثة: فقسم بقي مع الرسول يحامي عنه، وقسم طلبوا المشركين بعد انهزامهم فاتّبعوهم وغنموا منهم، وقسم جمعوا الغنائم التي بقيت في ساحة القتال، ومن غنم شيئاً ادّعى أنّه أولى به، ومن لم يغنم طلب أن يشارك في الغنيمة فاختلفوا، فأنزل اللّه هذه الآيات فسلّموا لذلك، ثمّ إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قسّم الغنائم بين جميعهم بالسويّة فضلاً منه عليهم، ثمّ بعد بدر نزلت آية الخمس، ففي الغزوات والسرايا اللاحقة صار أربع أخماس للمقاتلين فللراجل سهم وللفارس سهمان، وخُمس لأرباب الخمس، وسيأتي بيانه في الآية 41 إن شاء اللّه تعالى، ففي تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «نزلت يوم بدر لمّا انهزم الناس، وكان أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على ثلاث فِرق: فصنف كانوا عند خيمة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وصنف أغاروا على النهب، وفرقة

ص: 8

طلبت العدو وأسروا وغنموا - إلى أن قال - فاختلفوا في ما بينهم حتّى سألوارسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: لمن هذه الغنائم؟ فأنزل اللّه {يَسَْٔلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} - إلى أن قال - فلم يخمّس رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببدر، قسمه بين أصحابه، ثمّ استقبل يأخذ الخمس بعد بدر»((1)).

معنى الأنفال وشأن نزولها

الثاني: قوله تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}.

{الْأَنفَالِ} جمع (نفل)، وهي في الأصل بمعنى الزيادة، ومنه نوافل الصلاة لأنّها زيادة على الفرائض، وكأنّها زائدة على أموالهم حيث إنّها لا مالك لها، أو لأنّها زيادة في حصّة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن سائر الناس.

وشأن النزول وإن كان الغنائم الحربيّة إلاّ أنّ الآية عامّة لكل ما لا مالك له، فتشمل:

1- الغنائم الحربيّة التي هي شأن النزول، لكن بعد ذلك وهب اللّه أربعة أخماسه للمقاتلين، وبقي خُمسه للّه وللرسول وسائر أربابه.

2- الفيء وهو ما صالح الكفّار به سواء كان أراضي أم أموال أخرى ولم يقاتل عليها المسلمون، ويعبّر عن ذلك عادة بالفيء، وكذا قطائع الملوك.

3- الثروات وبعض الأماكن الهامّة أو العامّة التي لا مالك لها، وقد ذكرتها الروايات، ومنها: المعادن، والآجام، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية، والأراضي الموات، والأراضي التي انجلى عنها أهلها، وإرث من لا وارث له وغير ذلك((2)).

ص: 9


1- ([1]) تفسير القمي 1: 254؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 267.
2- ([2]) راجع وسائل الشيعة 9: 523-537.

والأنفال للّه وقد ملّكها رسوله محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومن بعده هي للأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) ، والمشهور أنّها أبيحت في زمان الغيبة للمؤمنين أو لمطلق من حازها سواء كان مؤمناً أو غير مؤمن((1)).

وممّا ذكرنا يعلم أنّ هذه الآية نزلت قبل آية الخمس، وليست آية الخمس ناسخة لها؛ لعدم المنافاة بين الأمرين، بل هو من التخصيص حيث منح اللّه أربعة أخماس خصوص الغنيمة الحربيّة للمقاتلين، وبقي الخمس وسائر الأنفال في عموم هذه الآية، وأمّا قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَٰلًا طَيِّبًا}((2))، فهو في الفداء المأخوذ من أسرى المشركين لا الغنائم الحربيّة كما سيأتي بيانه.

الثالث: قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

أي وحيث علمتم أنّ الأنفال للّه وللرسول وأنّه لا حق لكم فيها فعليكم مراعاة الشرع عبر الأمور التالية لتكونوا مؤمنين حقّاً:

1- قوله: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي احفظوا أنفسكم من عقابه وذلك بأن لا تطلبوا ما ليس لكم، ولا تجعلوا الأنفال في سبيل آخر من غير إذن اللّه ورسوله.

2- وقوله: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ} بأن لا تتنازعوا في الأنفال ولا في غيرها، فإن الكثير من الخلافات بين الناس ترجع إلى الأمور الماليّة والتي سببها غالباً إمّا منع من له الحق أو طلب ما ليس بحق في الأموال، و{ذَاتَ

ص: 10


1- ([1]) للتفصيل راجع موسوعة الفقه 33: 466.
2- ([2]) سورة الأنفال، الآية: 69.

بَيْنِكُمْ} أصل (البين) الافتراق، ولذا يطلق على الوسط بين الشيئين، و(ذات)مؤنّث (ذو) بمعنى الصاحبة، ويراد بها هنا الحالة، فالمعنى الحالة التي هي وسطكم لا تفسدوها بالتنازع، بل أصلحوها بالوئام والوفاق، وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس.

3- وقوله: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في التشريعات والأوامر التنفيذيّة وغيرها.

فالأوّل في عدم طلبهم ما ليس لهم، والثاني في تعاملهم بعضهم مع بعض، والثالث في نسبتهم مع اللّه ورسوله.

وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بيان أنّ المؤمن هو من يمتلك هذه الصفات، وفي ذلك حثّهم على الرضوخ لحكم اللّه والرضا به.

ثمّ إنّ للإيمان معان متعدّدة، فقد يكون مقابل الكفر، وقد يكون مقابل النفاق، وقد يكون مقابل الفسق، والمراد هنا الإيمان مقابل الفسق أو النفاق لأنّ المخاطب به المسلمون، فمن لم يتّق ولم يصلح ولم يطع فهو فاسق أو منافق.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}.

صفات المؤمنين

بيان صفات المؤمنين كاملي الإيمان حثّاً لهم على إيجاد هذه الصفات في أنفسهم، وهي خمس صفات، ثلاث منها قلبيّة واثنتان عمليّة:

1- قوله: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الوجل) هو عدم الطمأنينة في القلب، قيل: وجل الرجل يوجل وجلاً إذا قلق ولم يطمئن((1)).

ص: 11


1- ([1]) راجع معجم الفروق اللغويّة: 227.

فالمعنى إذا ذكر اللّه لم تطمئن قلوبهم إلى ما قدموه من الطاعة وظنّواأنّهم مقصّرون فاضطربوا من ذلك وقلقوا.

سؤال: إنّ ذكر اللّه يوجب الطمأنينة كما قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}((1)

والجواب: إنّ هناك حالتين: فحالة هي ذكر عذابه وبطشه بالعصاة فهنا توجل قلوب المؤمنين، وحالة أخرى هي ذكر رحمته وثوابه فهنا تطمئن القلوب، قال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ}((2))، فتقشعر خوفاً ثمّ تلين لتذكر رحمته ولطفه.

في التقريب: «أي اضطربت وخافت من عظمته، وإن لم يكن خوفاً من ذنب، فإنّ الإنسان إذا علم أن سيحضر محضراً كبيراً وعظيماً ارتجف قلبه خوفاً من الفشل»((3)).

2- وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا} لأنّ كل آية لها إيمان خاص بها فكلّما نزلت آية آمن بها المؤمنون فازداوا إيماناً، وكذا كلّما سمعوا آية قد سمعوها من قبل نفذت في قلوبهم أكثر لأنّ الإيمان ملكة باطنيّة تترسخ وتزداد بالتكرار.

3- وقوله: {وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي يعتمدون عليه في أمورهم، ويظهرون العجز عنده، ولذا قيل: «التوكّل: إظهار العجز في الأمر والاعتماد

ص: 12


1- ([1]) سورة الرعد، الآية: 28.
2- ([2]) سورة الزمر، الآية: 23.
3- ([3]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 297.

على غيرك»((1))، وقد مرّ أنّ التوكّل هو أن يعمل الإنسان بما عليه ويعتمد على اللّه في ما لا يقدر ولا يعلم، وأمّا لو لم يؤدّ ما عليه وتكاسل فهو من التواكل لا التوكّل.

4- وقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ} في المفردات: «إقامة الشيء: توفية حقّه... ولم يأمر اللّه تعالى بالصلاة حيثما أمر ولا مدح بها حيثما مدح إلاّ بلفظ الإقامة تنبيهاً على أنّ المقصود منها توفية شرائطها لا الإتيان بهيئتها»((2))، بل الإقامة تشمل الحث عليها والإعلان عنها، وهذه أهم العبادات ومثال لسائرها وهي بين العبد وربّه.

5- وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ} هذا بين الإنسان وسائر الناس، ويشمل الإنفاق الواجب كالخمس والزكاة، والإنفاق المستحب كالصدقة والصلة.

الخامس: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.

أي هؤلاء هم الذين يحق إطلاق لفظ المؤمن عليهم لأنّ إيمانهم حقيقي تجذّر في قلوبهم وتحكّم في جوارحهم، وأمّا غيرهم فإطلاق المؤمن عليهم لبعض الاعتبارات الأخرى كعدم كونه كافراً أو عدم كونه منافقاً حتّى لو لم يكن كامل الإيمان، ترغيباً لهم لكي يستكملوا إيمانهم أو تسهيلاً لسائر المؤمنين.

ص: 13


1- ([1]) راجع مقاييس اللغة: 1063.
2- ([2]) المفردات للراغب: 692-693.

وقوله: {حَقًّا} إمّا وصف لمقدّر أي إيماناً حقّاً، أو مفعول مطلق لفعلمقدر أي أحق حقّاً.

نتيجة الإيمان

ونتيجة إيمان هؤلاء أمور ثلاثة:

1- قوله: {لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أي درجات القرب والمنزلة عند اللّه تعالى، وقيل: درجات في الجنّة، ولكنّه يستلزم التكرار في قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.

2- وقوله: {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم، بل ولما لا يقدرون عليه وهذا ليس بذنب إلاّ أنّه قد يمنع من نيل الدرجات العالية لكن اللّه تعالى يغفر ذلك فلا يكون مانعاً.

3- وقوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (كريم) إمّا وصف للرزق أي عالي الشأن، وإمّا وصف باعتبار المرزوق أي رزق كريم صاحبه، فيكون مرجعه إلى تعظيم صاحبه فهو رزق بكرامة وعدم إهانة، ومرجع الأوّل إلى هذا أيضاً لأنّ الرزق العالي لا يناله إلاّ العالي.

ص: 14

الآيات 5-8

اشارة

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ 5 يُجَٰدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ 6 وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ 7 لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ 8}

5- جعل اللّه الأنفال للّه وللرسول وإن كرهوا {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} أمر بخروجك فخرجت {مِن بَيْتِكَ} المدينة المنورة {بِالْحَقِّ} بالحكمة وحسن العاقبة {وَإِنَّ فَرِيقًا} جماعة {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} للخروج، فكما كرهوا أمر اللّه في الخروج كذلك كرهوا جعل الأنفال للّه وللرسول.

6- {يُجَٰدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} وهو ما أمرتهم به من حرب المشركين جادلوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليثنوه عنه {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} ذلك الحق حيث أمر اللّه تعالى به وأخبر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنصر، وكان سبب جدالهم خوفهم {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} أي ينظرون إلى أسبابه وأدواته فالخوف يكون أشد، وكان جدالهم في أنّهم لم يتهيؤوا للقتال مع قلّة عددهم وعُدّتهم.

7- ثمّ يذكر اللّه نعمه عليهم، فأوّل نعمة هي ما وعده اللّه إيّاهم، فقال: {وَإِذْ} أي اذكروا الوقت الذي {يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} إمّا قافلة

ص: 15

قريش التجارية المقبلة من الشام ليغنموها، وإمّا النفير إلى حرب المشركينفي بدر لينتصروا عليهم، {أَنَّهَا لَكُمْ} أي لصالحكم {وَتَوَدُّونَ} أي تظهرون حبّكم ورغبتكم في {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} أي الطائفة التي ليس فيها بأس وشدّة وهي غنيمة القافلة {تَكُونُ لَكُمْ وَ} لكن اللّه قدّر القتال خلافاً لرغبتكم؛ إذ {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ} يثبت {الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ} أي بأمره إيّاكم بالقتال {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ} يستأصلهم، و«الدابر» أثر الشيء وما يأتي بعده.

8- وإنّما أراد اللّه ذلك {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} أي يثبته واللام للعاقبة {وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ} يدمغه ويظهر بطلانه {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} كرهوا إحقاق الحق.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ}.

بيان أنّ اللّه تعالى لا يحكم إلاّ بحكمة، وقد كان البعض كارهاً لخروج الرسول من المدينة لاغتنام قافلة قريش لأنّهم كانوا يعلمون أنّ قريشاً لا تسكت على ذلك، ولكن اللّه أمر رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخروج وإن كره هؤلاء ثمّ علموا عظيم فائدة ذلك الخروج حيث نصر اللّه المسلمين ببدر وأخزى المشركين، وهكذا حينما خص اللّه الأنفال باللّه والرسول كره بعضهم ذلك، لكن كان في هذا الحكم حكمة لأنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قسّم الغنائم بين جميع من خرج إلى الجهاد بالسويّة وكان في ذلك مصلحتهم جميعاً.

والحاصل: إن الآية تبيّن أنّ أحكام اللّه تعالى فيها الحكمة حتّى لو كانت

ص: 16

خلاف رغبات الناس وشهواتهم.

وقوله: {كَمَا} يتعلّق بالمعنى المستفاد من قوله: {الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}.

وقوله: {أَخْرَجَكَ} أي أمرك بالخروج فخرجت، فحيث كان الأمر من اللّه تعالى نسب الإخراج إليه تعالى، وذلك لمصلحتك ومصلحة الدين ولذا قال: {رَبُّكَ} فالرب هو المصلح للأمر والمدبّر للشأن.

وقوله: {مِن بَيْتِكَ} أي محل إقامتك، أي المدينة المنوّرة، أو بيتك في المدينة.

وقوله: {بِالْحَقِّ} أي متلبّساً به، و(الحق) هو الواقع الثابت، فكل فعل صوابٍ فيه الحكمة هو حق.

وقوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا} حال أي والحال أنّ مجموعة من المؤمنين كانوا كارهين لذلك الإخراج خوفاً وطلباً للدعة والراحة.

الثاني: قوله تعالى: {يُجَٰدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا...} الآية.

لمّا خرج المسلمون علم أبو سفيان - قائد قافلة المشركين التجاريّة - بذلك فكتب إلى قريش يستنصرهم، فخرجوا مجهّزين بالرجال والسلاح، وغيّر هو مسير القافلة فأفلت من المسلمين، فأمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمسير إلى بدر للقاء المشركين، فحينئذٍ جاء الكارهون للخروج يجادلون رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليُثنوه عن المسير إلى بدر ويرغّبوه في الرجوع إلى المدينة، مع أنّهم كانوا قد علموا أنّ اللّه تعالى أخبر رسوله بإحدى الطائفتين إمّا غنيمة العير وإمّا النفير وحيث أفلت العير لم يبق إلاّ النفير، مضافاً إلى أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمرهم بالمسير وهو الذي لا ينطق عن الهوى فكان لا بدّ لهم

ص: 17

من إطاعته في الحق الذي أمر به.

وقوله: {يُجَٰدِلُونَكَ} قيل: كان من جدلهم أنّهم لم يتهيّأوا للقتال فقالوا: هلّا أخبرتنا لنعد عُدّتنا للحرب، مع أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان قد أخبرهم بأحد الأمرين - العير أو النفير - وهم يعلمون أنّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يأمرهم إلاّ بأمر اللّه تعالى.

وقوله: {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ}، تقبيح لجدالهم؛ لأنّ الإنسان قد يجادل وهو لا يعلم الحق، وقد يجادل بعد تبيّن الحق وهذا جدال بالباطل، وتبيّن الحق كان بإخبار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن اللّه تعالى.

وقوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ...} بيان سبب جدالهم بأنّه لم يكن لطلب الحق أو الجهل به وإنّما لشدّة الجبن والخوف والجزع الذي اعتراهم كالذي يؤتى به إلى مكان الإعدام وهو يشاهد وسائله وأسبابه.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ...} الآية.

تذكيرهم بما وعدهم اللّه حين الخروج فلا وجه لجدالهم. نعم، هم كانوا يحبّون الاستيلاء على القافلة حيث الغنيمة من غير قتال طلباً للدنيا، ولكن اللّه تعالى أراد القتال والنفير بحكمته لإثبات الحق واستئصال الكافرين.

وقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} أي اذكروا الوقت الذي وعدكم اللّه وعداً حسناً وذلك لمّا أوحى إلى رسوله محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبركم بالوحي.

وقوله: {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} الطائفة تطلق على جماعة من الناس ثمّ توسّعوا فيها فأطلقوها على القطعة من الشيء يقال: طائفة من الليل أي قطعة منه، وفي الآية أريد بالطائفة إمّا الناس أي الذين كانوا مع القافلة بأسرهم

ص: 18

واغتنام ما معهم أو الذين جاؤوا للحرب من المشركين بقتلهم وغنيمة أشيائهم، وإمّا الفعل أي الغنيمة أو القتال.

وقوله: {أَنَّهَا لَكُمْ} أي لصالحكم فإن غنمتم القافلة فهو تعويض لكم عن مصادرة المشركين لأموال وبيوت المهاجرين، وإن قاتلتموهم فالنصر عليهم واستئصال مجموعة من أئمّة الكفر.

وقوله: {غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} مشتق من الشوك ثمّ استعير للسلاح وشدّة البأس والحِدّة، فلم يكن مع العير إلاّ أربعون فارساً لا طاقة لهم بالمسلمين وكان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر مجاهداً، وأمّا مع النفير فكان حدود الألف من المشركين بكامل عُدّتهم فكانوا أكثر من المسلمين بثلاثة أضعاف وأشد بأساً وسلاحاً.

وقوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ} أي خلاف ما رغبتم فيه لأنّكم كنتم تريدون الدنيا، لكن اللّه تعالى كان يريد إظهار الحق على الباطل فلذا قدّر الحرب بأن هيَّأ أسبابه.

وقوله: {يُحِقَّ الْحَقَّ} قد مرّ أنّ العرب قد تصيغ الفعل من الفاعل أو المفعول، ومنه إحقاق الحق أي إثباته وإظهاره وإعلاؤه، وكانت غزوة بدر من الوقائع المفصليّة في تاريخ الإسلام حيث أسست لانتصار المسلمين وهزيمة المشركين إلى الأبد.

وقوله: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ} مرّ أنّ الدابر هو ما يأتي بعد الشيء، وقطع الدابر بمعنى استئصال الشيء بحيث لا يبقى له أثر من بعده.

الرابع: قوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.

ص: 19

هذا ليس تكراراً لما في الآية السابقة وإن كان مثله؛ وذلك لأنّ المقصود بيان تحقق ما أراده اللّه تعالى، فكأنّه قال: إنّ اللّه قدّر إحقاق الحق وقطع دابرالكافرين فكانت العاقبة هي تحقق ذلك حيث أحق الحق وأبطل الباطل.

وبعبارة أخرى: الغرض في الآية السابقة بيان تقابل إرادتهم مع إرادة اللّه تعالى فهم كانوا يريدون العير لكن اللّه تعالى قدّر إحقاق الحق واستئصال الكفّار، وأمّا في هذه الآية فالغرض هو بيان تحقق ما أراده اللّه، وقيل: «ليس بتكرير؛ لأن الأوّل لبيان مراد اللّه وتفاوت ما بينه وبين مرادهم، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة ونصره عليها»((1))، وقيل: الأوّل مطلق لبيان القاعدة العامّة إنّ اللّه يريد تحقيق الحق وإزهاق الكفر، والثاني بيان انطباق القاعدة على إرادته ذات الشوكة حيث إنّ فيها إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولذا يدخل في الأوّل كل حق وباطل ومن أجلى مصاديقهما الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وأعداؤهم.

وقوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} اللام للعاقبة، والظاهر أنّها متعلّقة بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ} أي يريد اللّه أن يحق الحق ليحق الحق، وقيل: متعلّقة بقوله: {يَعِدُكُمُ} أي إنّما وعدكم إحدى الطائفتين لأنّه يريد إحقاق الحق! وهو بعيد عن سياق الآية.

وقوله: {وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ} أي يظهر بطلانه، أو ليدمغه ويزهقه.

وقوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} بيان أنّ اللّه غالب على أمره، وأنّ المجرمين أضعف من ذلك حتّى وإن كانوا في الظاهر أقوياء ذوو عدد وعُدّة،

ص: 20


1- ([1]) تفسير الصافي 3: 298.

وإجرامهم هو بالكفر والعصيان.

سبب غزوة بدر

الخامس: وكان قصّة بدر أنّه لمّا هاجر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه إلىالمدينة والحبشة عمد المشركون إلى الاستيلاء على بيوتهم ونهب أموالهم مع تشديد إيذاء من بقي منهم في مكّة.

ثمّ بعد ذلك خرجت قافلة تجاريّة من المشركين إلى الشام ولمّا رجعت محمّلة بالبضائع والأموال أمر اللّه تعالى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخروج إليها ليأخذوها عوضاً عن أموالهم المنهوبة أو يقاتلوا المشركين، فخرج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ثلاثمائة وثلاثة عشر من المسلمين فلمّا قربوا منها علم بهم أبو سفيان - وكان قائد القافلة - فأرسل رسولاً إلى مكّة يستنصرهم فخرجت قريش في ألف مقاتل للذود عن القافلة.

ثمّ إنّ أبا سفيان حرّف مسير القافلة إلى ساحل البحر فأفلت من المسلمين، ولمّا بلغ خبر ذلك إلى المشركين اختلفوا في الرجوع أو المسير لقتال المسلمين، فكان الرأي الغالب هو القتال.

ثمّ إنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استشار أصحابه في الرجوع أو القتال، وكان يريد أن تبادر الأنصار إلى قبول القتال من غير أن يكرههم عليه، ففطن سعد بن معاذ - كبير الأنصار - إلى ذلك وقال: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه كأنّك أردتنا؟ قال: نعم، قال: فلعلّك خرجت على أمر قد أمرت بغيره؟ قال: نعم، قال: بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه، قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أنّ ما جئت به حق من عند اللّه، فمُر بنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت، ثمّ قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كأنّي بمصرع فلان هاهنا وبمصرع فلان هاهنا وبمصرع

ص: 21

أبي جهل وعتبة وشيبة، فإنّ اللّه وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه الميعاد»، ثمّ أمر بالرحيل إلى أن نزل ماء بدر((1))، وسيأتي باقي تفاصيل غزوة بدر تباعاً.

ص: 22


1- ([1]) للتفصيل راجع تفسير القمي 1: 259؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 272-276.

الآيات 9-11

اشارة

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ 9 وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 10 إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ 11}

9- ثمّ يذكر اللّه تعالى نعمة ثانية، فقال: واذكروا {إِذْ} الوقت الذي {تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} تطلبون غوثه وتستجيرون به لمّا رأيتم كثرة المشركين عدداً وعُدّة {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} بأن وعدكم {أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ} يكونون رديفاً لكم، بمعنى أنّهم يأتون لنصركم.

10- {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} لم يجعل الإمداد أو إخباركم به {إِلَّا بُشْرَىٰ} بالنصر {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ} بهذا الإمداد أو خبره {قُلُوبُكُمْ} حيث كانوا خائفين وجلين لقلّة عددهم وعُدّتهم، {وَمَا} ليس {النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ} لا من العدد ولا من الملائكة فهو تعالى ينصر من غير واسطة أو بواسطة، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالب بسلطانه ولذا أمدّكم ونصركم {حَكِيمٌ} بحكمته أرسل الملائكة مع أنّ النصر منه لا منهم.

11- ثمّ يذكر اللّه نعمة أخرى فقال: اذكروا {إِذْ} الوقت الذي {يُغَشِّيكُمُ} يستولي عليكم {النُّعَاسَ أَمَنَةً} أي لأجل أمنكم فالخائف

ص: 23

المرعوب يبتعد النوم عن جفونه والآمن ينام لاطمئنان باله {مِّنْهُ} من اللّه،{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً} المطر وكان ذلك حينما أجنبوا وكانوا بعيدين عن الماء وكانت الأرض التي نزلوا عليها رمليّة رخوة، فوسوس الشيطان إليهم بأنّكم إن كنتم على حق ما صليّتم على جنابة ونجاسة وما كان محلّكم رخواً لا تتمكّنون من القتال فيه فأنزل اللّه المطر {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} من خبث وحدث الجنابة {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَٰنِ} وسوسته، {وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ} بإزالة الخوف وذلك بالوثوق بلطف اللّه تعالى، {وَيُثَبِّتَ بِهِ} بالماء {الْأَقْدَامَ} إذ تلبّد الرمل وصلبت الأرض.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ}.

بيان نعمة ثانية لهم لأنّه تعالى بعد أن بيّن أنّ اللّه حكم بأنّ الأنفال للّه وللرسول وأنّه قد أخرج رسوله إلى الحرب مع كراهتهم للأمرين بعد ذلك بيّن مجموعة من نعمه عليهم ليشكروه عليها وليسلّموا لحكمه ولا يكرهوه، فكان منها: ما مرّ من وعده إحدى الطائفتين لهم، ومنها: ما هو مذكور في هذه الآية وهو وعده بأن يرسل الملائكة لنصرهم حينما استجاب لدعائهم واستغاثتهم.

وقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الاستغاثة هي طلب الغوث، وذلك لمّا علموا بزيادة عدد المشركين ثلاثة أضعاف حيث كان المسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان المشركون حوالي الألف، وبكثرة عُدّتهم فكان مع

ص: 24

المسلمين فرسان وسبعون جملاً، وكان في معسكر المشركين مأتان أو أربعمائةفرس((1))، فضلاً عن كثره سلاح المشركين وقلّة سلاح المسلمين، فاستغاثوا باللّه لينصرهم، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال: اللّهم أنجز لي ما وعدّتني، اللّهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض، فما زال يهتف ربّه مادّاً يديه حتّى سقط رداؤه من منكبيه»((2)).

وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الاستجابة من الجواب أي لم يترككم بلا جواب، وعادة تستعمل الاستجابة في قضاء الحاجة، وكان ذلك بأن أغاثهم اللّه لمّا أرسل إليهم الملائكة لنصرتهم.

وقوله: {مُمِدُّكُم} (الإمداد) الرفد بشيء يكون فيه المعونة والتقوية.

عدد الملائكة في غزوة بدر

وقوله: {بِأَلْفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ} هذا في غزوة بدر، وأمّا قوله تعالى في سورة آل عمران: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ}((3))، فيرتبط بغزوة أ ُحد، فيكون اللّه قد أرسل في بدر ألف من الملائكة وفي أ ُحد وعدهم بثلاثة إلى خمسة آلاف، ولكن حيث إنّ بعض المفسّرين حملوا الآيتين على غزوة بدر فلذا صاروا بصدد الجمع، فقال بعضهم: إنّ الذين نزلوا كان ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف والذين قاتلوا مع المسلمين ألف منهم فقط،

ص: 25


1- ([1])تفسير القمي 1: 267؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 279.
2- ([2]) مجمع البيان 4: 621؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 289.
3- ([3]) سورة آل عمران، الآية: 124-125.

وبعضهم قال: إنّ قوله: {مُرْدِفِينَ} يدل على أنّه كان هنالك مجموعة من الملائكة آخرينيتبعون هؤلاء الألف حيث نزلوا في ثلاث أو خمس مجموعات فأوّل مجموعة كانت ألف ثمّ تبعتها ردفاً لها آلاف أخرى، وقيل: إنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعدهم في البداية بألف من الملائكة ثمّ وعدهم بثلاثة آلاف ثمّ وعدهم بخمسة آلاف؛ وذلك لأنّ في التدريج ربطاً للقلوب أكثر، وما ذكرناه هو الأقرب، فراجع ما ذكرناه في سورة آل عمران((1)).

وقوله: {مُرْدِفِينَ} الرديف هو التابع الذي يجلس خلف الراكب، والإرداف هو الإتباع، فالمردفين - بصيغة اسم الفاعل - بمعنى ردف بعضهم بعضاً، أو بمعنى جعلوكم ردفاً لهم كناية عن أنّهم ينصرونكم فكأنّهم في مواجهة المشركين وأنتم خلفهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ...} الآية.

يظهر من هذه الآية أنّ الملائكة لم يقاتلوا وإنّما كان الغرض من إنزالهم هو تقوية معنويات المسلمين فقط؛ لأنّ الأضعف ذا المعنويّات العالية يغلب الأقوى المهزوم نفسيّاً، فكان الغرض أمرين:

1- قوله: {بُشْرَىٰ} أي بشارة بالنصر؛ لأنّ الإنسان يفرح بكثرة الأعوان وإن علم أنّهم للسواد والكثرة فقط.

2- وقوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} ليرتفع خوفها وقلقها.

وقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ} بيان أنّ الواقع هو من اللّه، ووجود

ص: 26


1- ([1]) التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 374.

الوسائط أو عدمها لا تأثير له في تنجيز ما أراده تعالى، وهذا لا ينافي لزومالأخذ بالأسباب الظاهريّة كما قال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ}((1)).

سبب إرسال الملائكة

وقد مرّ مراراً أنّ الأسباب المادّيّة هي أسباب في الظاهر لكن السبب الواقعي هو قضاء اللّه وقدره وإرادته، لكنّه سبحانه غالباً لا يريد إلاّ لو تهيّأت الأسباب الظاهريّة، وهذا هو الفرق بين التوكّل والتواكل، فالتوكّل هو أن يعمل الإنسان بوظيفته عبر الأسباب الظاهريّة التي جعلها اللّه تعالى ثمّ يعتمد على اللّه في إنجاح ما أراد حيث إنّه قد تكون موانع أو لا تتوفر شروط أو يوجد مزاحم يمنع من تأثير السبب الظاهري من غير علم الإنسان أو من غير قدرته، وأمّا التواكل فهو التكاسل عن أداء الوظيفة، وعلى كل حال فإنّ النصر - وهو النتيجة - لا يكون إلاّ من اللّه، وأمّا الوسائط الظاهريّة فهي لأغراض أخرى، وهنا كان إنزال الملائكة بغرض البشارة والاطمئنان، واللّه قادر على أن يفعل ما يشاء بلا واسطة كما أهلك قوم لوط بجبرئيل (عليه السلام) ومن معه من الملائكة ولم يكونوا يبلغوا العشرة.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} بيان أنّ اللّه غالب على أمره لا يحتاج إلى شيء فإن قدّر وسائط فذلك بحكمته، بل حتّى الإنسان الحكيم أحياناً يجعل وسائط في أموره مع تمكّنه من أدائها فيأمر ولده أو خادمه بشراء حاجات من السوق مع تمكّنه هو من شرائها، ونحو ذلك.

الثالث: قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم...} الآية.

بيان لمجموعة أخرى من نعمه تعالى عليهم وحيث إنّ جميعها ترتبط

ص: 27


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 60.

بأمنهم - مادّيّاً ومعنويّاً - جمعها في كلام واحد، حيث آمنهم من الخوف فناموا وأجنبوا، وآمنهم من وسوسة الشيطان، وآمنهم من مزالق الأقدام، وتلك النعم هي:

من نِعم اللّه يوم بدر

1- قوله: {يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} أي يستولي عليكم النوم، فالخائف ينعس لكنّه لا ينام لقلقه وخوفه، وأمّا الآمن فيغلبه النعاس فينام، فقوله: {يُغَشِّيكُمُ} أي يستولي عليكم وذلك بأن يتحوّل النعاس إلى نوم، وبهذا التعبير يتبيّن نعمته وأمّا لو كان يقال: (إذ تنامون) فلم يكن له هذا المدلول.

وقوله: {أَمَنَةً} بمعنى الأمن، قيل: هي الدعة التي تنافي المخافة((1))، ولذلك أجنب الكثير منهم، والقلق لا ينام وإذا نام لا يحتلم - على ما قيل - .

2- وقوله: {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} أي بالماء، طهارة من الخبث لنجاسة المني، ومن حدث الجنابة حيث غسلوا واغتسلوا.

3- وقوله: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَٰنِ} كأنّ المراد بالرجز هنا وسوسته، وقيل: الرجس والرجز بمعنى واحد وهو من باب الإبدال لأنّ الأصل السين((2))، وقيل: الغالب التعبير عن العذاب وأسبابه بالرجز، وعن القذارات المادّيّة والمعنويّة بالرجس، وحيث إنّ وسوسة الشيطان توجب العذاب إن استجاب الإنسان لها لذلك عبّر عنها بالرجز، وفي تفسير الصافي: «روي أنّهم نزلوا في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم، وقد غلب المشركون على الماء، فوسوس إليهم الشيطان

ص: 28


1- ([1]) مجمع البيان 4: 623.
2- ([2]) راجع مقاييس اللغة: 422.

وقال: كيف تُنصرون وقد غُلبتم على الماء وأنتم تصلّون محدثين مُجنبين وتزعمونأنّكم أولياء اللّه وفيكم رسوله؟! فأشفقوا، فأنزل اللّه المطر، فمُطروا ليلاً حتّى جرى الوادي، واتخذوا الحياض على عدوته، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضّؤوا، وتلبّد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتّى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة»((1)).

4- وقوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ} ربط القلب هو شدّه وإزالة المخاوف عنه، وكأنّ المقصود أنّهم لمّا رأوا لطف اللّه بهم في تطهيرهم بالماء وإروائهم به وثقوا بأن اللّه تعالى ناصرهم فقويت قلوبهم.

5- وقوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} أي لتتلبّد أرضيّة المعركة حتى لا تسوخ أرجلهم فيها، وقيل: إنّ جانب المسلمين تلبّد وجانب المشركين أوحل((2))، ولعلّه لأنّ طرف المسلمين كان رملاً وطرف الكفّار كان تراباً.

ص: 29


1- ([1]) تفسير الصافي 3: 300-301.
2- ([2]) مجمع البيان 4: 623.

الآيات 12-14

{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٖ 12 ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 13 ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابَ النَّارِ 14}

12- ثمّ يذكر اللّه نعمة رابعة هي تثبيت المؤمنين وخذلان الكافرين، فقال: اذكروا {إِذْ} الوقت الذي {يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} معيّة بالنصرة والمعونة، فعلى الملائكة تثبيت المؤمنين وعلى اللّه إرعاب الكافرين، {فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} بتقوية قلوبهم وذلك بإلقاء لمّة تقوّي قلوبهم، أو بتكثير سوادهم الموجب للاطمئنان، {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} وهو الخوف يملأ القلب فيقطعه، فكان تثبيت قلوب المؤمنين بواسطة الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين مباشرة ومن غير واسطة، وحيث انهارت معنويّات الكفّار وارتفعت معنويّات المؤمنين أمرهم اللّه تعالى باستئصال شأفة الكفّار فقال: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} الرؤوس وهي الضربة القاتلة {وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٖ} وهو أطراف الأصابع وهي الضربة التي تشلّهم عن القتال، وكأنّ المعنى اقتلوا بعضهم وشلّوا عن القتال الآخرين.

13- {ذَٰلِكَ} الضرب فوق الأعناق وكل بنان {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنّ الكفّار {شَاقُّواْ} عصوا وخالفوا {اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ

ص: 30

شَدِيدُ الْعِقَابِ} في الدنيا والآخرة؛ وذلك لأن المشاقة جرم عظيم يساويه العقاب الشديد.

14- {ذَٰلِكُمْ} خطاب للمشركين بالالتفات إليهم، أي إنّ العقاب ذلك الذي رأيتموه من القتل والأسر {فَذُوقُوهُ} في الدنيا «والفاء» لإفادة ترتّبه على الكفر، {وَأَنَّ لِلْكَٰفِرِينَ} في الآخرة {عَذَابَ النَّارِ}.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ...} الآية.

بيان لنعمة رابعة لهم وهي تثبيت قلوب المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، وبعبارة أخرى: زيادة معنويّات المؤمنين وانهيار معنويّات الكفّار، فإنّ عدد الكفّار كان ثلاثة أضعاف وعُدّتهم أضعاف مضاعفة، وقضيّتهم هي الدفاع عن أموالهم فكان حسب الظواهر غلبة الكفّار محسوماً إلاّ أنّ المعنويّات أثّرت أثرها فصارت سبباً لهزيمة الكفّار، فأمّا معنويّات المؤمنين فارتفعت بإعانة الملائكة لهم، وأمّا معنويّات الكفّار فانهارت بإلقاء اللّه تعالى الرعب في قلوبهم.

وقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَٰئِكَةِ} من الواضح أنّ الملائكة معصومون وهم ينفّذون أوامر اللّه تعالى بالكيفيّة التي يريدها، قال سبحانه: {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}((1))، وطريقة معرفتهم ما يريده اللّه تعالى وحيه إليهم، وبيان ذلك للمؤمنين ربط لقلوبهم وتقوية لهم، ولعلّه أيضاً لإبطال

ص: 31


1- ([1]) سورة التحريم، الآية: 6.

خرافات الجاهليين حول الملائكة والتي علقت في أذهان من أسلم منهم.

وقوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} الظاهر أنّ هذا كالمقدّمة لأمره تعالى إيّاهم تثبيت المؤمنين، والمخاطب هم الملائكة ولعلّ ذلك لبيان قوّة الملائكة لأنّ اللّه معهم، ويحتمل أن يكون المخاطب الرسول والمؤمنين على سبيل الالتفات بأن يكون اللّه أوحى إلى الملائكة أنّه تعالى معهم وهذا يناسب قوله: {يُوحِي رَبُّكَ} ولذا أمر ملائكته بثبيت قلوبهم، والمعيّة هنا بالنصرة والمعونة.

وقوله: {فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} لأنّ في القلب لُمّتان: لمّة من الشيطان وهي وساوسه وقد أبطلها اللّه تعالى بإنزال المطر، ولُمّة من الملائكة وهي دعوتهم الإنسان إلى الخير، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «ما من قلب إلاّ وله أذنان، على أحدهما ملك مرشد، وعلى الآخر شيطان مفتِّن، هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي، والملك يزجره عنها»((1))، ويمكن أن يكون التثبيت بزيادة السواد أو بكلام يسمعونه فيه البشارة بالنصر أو غير ذلك.

وقوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} كأنّه بمعنى: أيّها الملائكة أنتم وظيفتكم تثبيت المؤمنين، وأمّا الكفّار فأنا أتولّى أمرهم عبر إلقاء الرعب في قلوبهم إمّا بطريقة غيبيّة، أو بطريقة طبيعيّة؛ لأنّهم كانوا في قرارة أنفسهم يعلمون صدق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنّ اللّه ناصره، أو لمّا رأوا شدّة عزيمة المؤمنين وصمودهم انخلعت قلوبهم، و(الرعب) هو انزعاج النفس بتوقّع مكروه، وأصله التقطيع((2))، وهو من أشد أنواع الخوف، وفي الحديث

ص: 32


1- ([1]) الكافي 2: 266؛ وراجع شرح أصول الكافي، للمؤلّف 10: 314-318.
2- ([1]) راجع مجمع البيان 4: 619.

عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ونصرت بالرعب»((1))، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «ما لقيت أحداً إلاّ أعانني على نفسه»((2)).

وقوله: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} الظاهر أنّ المخاطب هم المؤمنون، كناية عن القتل؛ لأنّ الرأس فوق العنق، وقيل: هو المذبح، أي مادام علمتم أيّها المؤمنون أنّ الملائكة يثبتونكم بأمر اللّه وأنّ اللّه ألقى الرعب في قلوب المشركين فتولّوا أمرهم بالقتل وغيره.

وقوله: {وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٖ} كناية عن شل حركتهم أو أسرهم، و(البنان) هو أطراف الأصابع، ومن ضربت بنانه لا يتمكّن من القتال ويكون مصيره الهزيمة أو الأسر.

الثاني: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ...} الآية.

أي إلقاء الرعب عليهم وأمركم بقتلهم وأسرهم إنّما هو عقوبة لهم على عصيانهم اللّه والرسول، ولولا عصيانهم لمّا أرعبهم اللّه ولا شرّع قتلهم وأسرهم.

وقوله: {شَاقُّواْ} أي عصوا وخالفوا، فكأنّ اللّه ورسوله في طرف والكفّار في شق آخر، وأصل (الشق) الانفصال.

وقوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} عام يشمل عذاب الدنيا والآخرة، ثمّ فصّل فيذلك العذاب في الآية التالية.

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}.

ص: 33


1- ([2]) من لا يحضره الفقيه 1: 241.
2- ([3]) نهج البلاغة، الحكمة: 318.

{ذَٰلِكُمْ} خطاب للكفّار وبيان عذابه الشديد، أمّا في الدنيا فهو ما رأوه من القتل والأسر، أي (ذلكم العقاب) أو (العقاب ذلكم).

وقوله: {فَذُوقُوهُ} قيل: الفاء هنا للترتيب على الكفر أي كفرتم فأذقناكم العقاب، وقيل: التعبير بالذوق لإفادة قلّة عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة كذوق الطعام بتناول اليسير منه بالفم لإدراك طعمه.

وقوله: {وَأَنَّ لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} إمّا مرفوع على أنّه عطف على {ذَٰلِكُمْ} أي ذلكم العقاب وأنّ للكافرين النار، وإمّا منصوب على أنّ الواو بمعنى مع، والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهر موضع الضمير - كذا في الكشّاف((1)) - ، والحاصل: ذوقوا ما عجّل اللّه لكم من القتل والأسر مع ما أجّل لكم من عذاب النار في الآخرة.

ص: 34


1- ([1]) الكشّاف 2: 205.

الآيات 15-18

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ 15 وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 16 فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 17 ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَٰفِرِينَ 18}

15- وحيث علمتم بنعم اللّه عليكم فاثبتوا ف{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ} في الحرب {الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا} أي حال كونهم زاحفين لقتالكم {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} لا تعطوهم ظهوركم، أي لا تنهزموا.

16- {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ} وقت القتال {دُبُرَهُ} يعطيهم ظهره منهزماً {إِلَّا} في حالتين: إذا كان {مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ} أي يغيّر موقعه في ساحة القتال ليكر عليهم {أَوْ مُتَحَيِّزًا} قاصداً الانضمام {إِلَىٰ فِئَةٖ} جماعة أخرى من المقاتلين يتقوّى بهم، فالمنهزم في غير هاتين الحالتين {فَقَدْ بَاءَ} رجع حال فراره {بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ} أي يصحبه غضب اللّه تعالى {وَمَأْوَىٰهُ} مقرّه في الآخرة {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

17- ونتيجة استجابة اللّه لكم وإنزال المطر عليكم وإرسال الملائكة لنصرتكم هو قتل الكفّار والإنعام عليكم: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} لأنه تعالى السبب الأقوى حيث أرسل الملائكة وثبّتكم وألقى في قلوبهم

ص: 35

الرعب، {وَمَا رَمَيْتَ} يا رسول اللّه {إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ} حيث إنّالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رمى وجوه الكفّار بقبضة من التراب فما بقي أحد منهم إلاّ امتلئت عيناه من الحصباء فكان هذا الأثر إعجازاً بفعل اللّه تعالى {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ} أي لينعم اللّه عليهم {بَلَاءً حَسَنًا} نعمة حسنة {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لاستغاثتهم {عَلِيمٌ} بنواياهم ولذا أنعم عليهم هذه النعمة الحسنة.

18- فالغرض: {ذَٰلِكُمْ} أي البلاء الحسن للمؤمنين هذا أوّلاً، {وَ} ثانياً: {أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ} من الوهن بمعنى الضعف {كَيْدِ} وهو التدبير لإيقاع المكروه بالعدو {الْكَٰفِرِينَ} وذلك بإلقاء الرعب في قلوبهم ونحو ذلك.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}.

بعد بيان نعم اللّه تعالى على المؤمنين في غزوة بدر بأنّ اللّه وعدهم إحدى الحسنين النصر أو غنيمة الركب، وأنّه أمدّهم بالملائكة، وأنّه آمنهم وطهّرهم، وأنّه ثبّت قلوبهم وأرعب الكفّار، بعد ذلك يأمرهم اللّه تعالى بعدم الانهزام في معاركهم مع الكفّار، فإنّ نِعم اللّه تعالى لا تعني الكسل والتواني والفرار عن المسؤوليّة، بل إنّ عليهم أن يشكروها عبر العمل بما يأمرهم به اللّه، وهو سبحانه ينصرهم.

وقوله: {زَحْفًا} مصدر بمعنى اسم الفاعل، وهو حال إمّا من الذين آمنوا، أو من الذين كفروا، أو منهما، وأصل الزحف هو المشي البطيء، سُمّي به الجيش الكثير الذي لكثرته يرى كأنّه يزحف ويدب دبيباً.

ص: 36

وقوله: {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} أي لا تجعلوا ظهوركم في مقابلهم، وهوكناية عن الفرار.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ...} الآية.

بيان عقوبة اللّه الدنيويّة والأخرويّة للمنهزم، مع بيان عدم شمول ذلك لحالة التحرّف والانحياز فليسا من الانهزام ولا بأس بهما.

وقوله: {يَوْمَئِذٖ} أي وقت الزحف، وهذه الكلمة منسلخة عن معنى اليوم مقابل الليل بل يراد بها الوقت بشكل عام.

وقوله: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا} النصب إمّا على الحال أو على الاستثناء، و(التحرّف) هو الذهاب إلى جهة الحرف أي الطرف، بأن يترك وسط الساحة ويتوجّه إلى طرفها.

وقوله: {لِّقِتَالٍ} أي تحرّفه ليس للفرار وإنّما لأجل القتال ليكون أمكن فيه.

وقوله: {أَوْ مُتَحَيِّزًا} من الحيّز وهو المكان أي قاصداً إلى حيّز آخر غير مكانه حيث يوجد فيه أصحابه فيتقوّى بهم ويتقوّون به.

وقوله: {إِلَىٰ فِئَةٖ} وهي المجموعة والجماعة، فكأنّ المقاتلين فئات في مواقع شتّى، فمن كان في موقع غير مناسب ينحاز إلى مجموعة أخرى يستعين بهم.

وقوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ} كأنّ هذا عقوبته الدنيوية أي المنهزم لا يرجع بالسلامة التي أرادها من فراره بل يرجع بعقوبة إلهيّة تنتظره بل

ص: 37

تصحبه، أو أنّه كان ذاهباً إلى القتال يصحبه رضا اللّه فرجع حاملاً غضبه،وقد مر أنّ اللّه تعالى ليس محلّاً للحوادث وليس له كيفيّات نفسانيّة فإنّها عوارض جسمانيّة وهو سبحانه منزّه عنها، فرضاه وغضبه بمعنى أثرهما، فرضاه ثوابه وغضبه عقابه.

وقوله: {وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ} عقوبة الآخرة، و(المأوى) المحل الذي يأوي إليه الإنسان.

ثمّ اعلم أنّ الآية عامّة وليست خاصّة بغزوة بدر، كيف وهذه السورة قد نزلت بعدها تبياناً لها، وقد زعم البعض أنّ فرار البعض من سائر الغزوات ورجوعهم إلى المدينة كان من الانحياز إلى فئة فلا بأس به؟!! وكأنّه لتبرير فرار البعض من غزوات وسرايا أخرى، مع وضوح أنّ التحيّز إلى فئة يراد به فئة في القتال لا فئة في خارج ساحة القتال في المدينة.

رمي الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو رمي اللّه تعالى

الثالث: قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ}.

تفريع على قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} و{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} و{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ...} وبيان نتيجة الاستجابة وإنزال المطر وإنزال الملائكة في بدر، وأنّ النتيجة كانت أوّلاً انتصار المسلمين بقتل الكفّار ورميهم، فأنتم قتلتموهم في الظاهر لكن حيث إنّ اللّه تعالى هيّئ الأسباب فهو سبحانه قاتلهم في الواقع، وكذا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رمى وجوههم بالتراب والحصى لكن وصوله إلى وجوه جميعهم كان بفعل اللّه تعالى فإنّ وصول قبضة من التراب ترمى باليد إلى وجوه ألف إنسان خارق للعادة.

ص: 38

ومن المتعارف أنّه إذا اشترك اثنان في فعل ينفى ذلك الفعل عن السببالأضعف وينسب إلى السبب الأقوى، وبعبارة الكشّاف: «فأنتم لم تقتلوهم ولكن اللّه قتلهم؛ لأنّه أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع، وما رميت أنت يا محمّد إذ رميت ولكن اللّه رمى يعني إنّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة؛ لأنّك لو رميتها لمّا بلغ أثرها إلاّ ما يبلغه أثر رمي البشر، ولكنّها كانت رمية اللّه حيث أثّرت ذلك الأثر العظيم فأثبت الرمية لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنّ صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل اللّه عزّ وجلّ فكأنّ اللّه هو فاعل الرمية على الحقيقة وكأنّها لم توجد من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصلاً»((1)).

الرابع: قوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

بيان نتيجة ثانية لاستجابته وإنزاله المطر وإرسال الملائكة، وهي الإنعام على المؤمنين، و(البلاء) من البلو وهو إظهار المخفي، والمقصود هنا هو إظهار نعمة اللّه عليهم، فإنّ نعمه تعالى كثيرة لكنّها تخفى على الناس غالباً إذ يغفلون عنها، لكن إذا جائتهم من حيث لا يحتسبون أو بطريقة خارقة للعادة شعروا بها، وهكذا كانت نِعمه في بدر، فليس المراد من البلاء هنا الامتحان أو الصعوبات.

وقوله: {مِنْهُ} أي من اللّه تعالى.

وقوله: {بَلَاءً حَسَنًا} لأنّها نعمة تقوي إيمانهم، وقد تكون النعمة سبباً

ص: 39


1- ([1]) الكشّاف 2: 207.

للبطر والغفلة فتكون بلاءً سيّئاً بمعنى أنّها توجب سوءهم.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} كأنّه تعليل لهاتين النتيجتين، فالمعنى أنتم استغثتم فقتلهم اللّه لأنّه سميع لاستغاثتكم، عليم بنواياكم وصدقها، كما أنّه عليم بكيفيّة نصركم عليهم، وفي التقريب: «وفي الحرب تظهر أقوال وتجول في الصدر نيّات، فمن الأحرى أن يحفظ الإنسان قلبه ولسانه لئلّا ينحرفا عن نهج الصواب بمحضر من يسمع ويعلم كل شيء»((1)).

الخامس: قوله تعالى: {ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَٰفِرِينَ}.

بيان الغرض من الاستجابة التي ترتّب عليها قتل الكفّار والنعمة على المؤمنين، وذلك الغرض أمران:

1- قوله: {ذَٰلِكُمْ} وهو خبر لمبتدأ مقدّر أي الغرض هو ذلك الذي ذكرناه من النعمة على المؤمنين، فذلك كما أنّه نتيجة للاستجابة كذلك هو الغرض منها، على نحو العِلة الغائية.

2- قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَٰفِرِينَ} أي إن غرضه تعالى تضعيف تدبير الكفّار حيث أرادوا بعددهم وعُدّتهم إطفاء نور اللّه تعالى.

ويحتمل أن تكون الآية لبيان الكبرى، والآية السابقة هي الصغرى، فالصغرى هي إنّ اللّه قتل المشركين ببدر وأنعم على المسلمين بالنصر، والكبرى هي أنّ اللّه يُنعم على المؤمنين باستمرار ويضعّف كيد الكافرين دائماً، ولذا نصر المسلمين ببدر وقتل الكافرين فيها.

قصة غزوة بدر

السادس: وكان من قصّة غزوة بدر أنّه لمّا تصاف الفريقان تقدّم عتبة بن

ص: 40


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 310.

ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقال: يا محمّد، أخرج إلينا أكفاءنا منقريش، فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا إليهم، فقالوا: ارجعوا إنّما نريد الأكفاء من قريش، فنظر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان له يؤمئذٍ سبعون سنة فقال: قم يا عبيدة، ونظر إلى حمزة وقال: قم يا عم، ثمّ نظر إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: قم يا علي - وكان أصغر القوم - فاطلبوا بحقّكم الذي جعله اللّه لكم، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور اللّه ويأبى اللّه إلاّ أن يتم نوره، ثمّ قال: يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة، وقال لحمزة: عليك بشيبة، وقال لعلي (عليه السلام) : عليك بالوليد، فمرّوا حتى انتهوا إلى القوم فقالوا: أكفاء كرام.

فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنّها فسقطا جميعاً، وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما، وحمل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه، ثمّ اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا علي، أما ترى أن الكلب نهز عمّك! فحمل عليه علي (عليه السلام) ثمّ قال: يا عمّ طأطئ رأسك - وكان حمزة أطول من شيبة - فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه علي (عليه السلام) فطرح نصفه، ثمّ جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه((1)).

وفي تفسير القمي: «ثمّ أخذ رسول اللّه (عليه السلام) كفّاً من حصى ورمى به في وجوه قريش، وقال: شاهت الوجوه، فبعث اللّه رياحاً تضرب في وجوه

ص: 41


1- ([1]) راجع مجمع البيان 4: 626-627.

قريش، فكانت الهزيمة»((1)).

وفي المناقب: عن ابن عباس أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام) : «ناولني كفّاً من حصباء، فناوله ورمى به في وجوه قريش، فما بقي أحد إلاّ امتلأت عيناه من الحصباء»((2)).

وفيه أيضاً: «وكان القتلى - يعني قتلى المشركين - ببدر سبعين، والأسرى سبعين، قتل منهم أمير المؤمنين (عليه السلام) سبعة وعشرين، ولم يأسر أحداً، ... وقُتل من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تسعة رجال»((3)).

ص: 42


1- ([1]) تفسير القمي 1: 267؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 284.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 1: 189؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 293.
3- ([3]) تفسير القمي 1: 269؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 286.

الآيات 19-23

{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَئًْا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ 19 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ 20 وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ 21 إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ 22 وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ 23}

19- ثمّ يخاطب اللّه الكفّار المحاربين قائلاً: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} تطلبوا الفتح لأهدى الفريقين {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} حيث فتح اللّه للمؤمنين فغلبوكم، وهذا تهكّم بهم، {وَإِن تَنتَهُواْ} تتركوا القتال الذي نُهيتم عنه {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أسلم لدنياكم، {وَإِن تَعُودُواْ} إلى حرب المسلمين {نَعُدْ} إلى أمرهم بقتالكم {وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ} لا تنفعكم {فِئَتُكُمْ} جماعتكم {شَئًْا وَلَوْ كَثُرَتْ} لأن اللّه تعالى ناصر دينه، وليس النصر بالكثرة فقط، {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} معيّة نصرة ومعونة.

20- ثمّ خاطب المؤمنين بأن يلتزموا بما هو سبب نصرهم، فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فطاعتهما هي سبب النصرة {وَلَا تَوَلَّوْاْ} لا تعرضوا {عَنْهُ} عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو عن أمر اللّه والرسول {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} تلك الأوامر فإنّ عدم الطاعة سبب خذلان اللّه لكم كما حصل

ص: 43

في أ ُحد حيث خالفوا أمر اللّه بعدم الفرار وأمر الرسول بالثبات في الثغر وساحة القتال.

21- {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ} أي كالكفّار والمنافقين الذين {قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} أي لا يعملون بما سمعوا فسمعهم كان كأنّه لا سمع.

22- فصاروا بذلك أسوء الموجودات ف{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ} شبّههم بالدابة وبيّن أنّهم أسوء منها {الصُّمُّ} الذين لا يسمعون سماع تفهّم {الْبُكْمُ} الذين لا ينطقون بالحق {الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} لا يستعملون عقولهم ليعرفوا الحق.

23- {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا} أي إذعاناً للحق وعدم عناد {لَّأَسْمَعَهُمْ} إسماعاً نافعاً بأن هدى قلوبهم للحق، {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} حينما يعلم بعدم الخير فيهم لعنادهم {لَتَوَلَّواْ} رجعوا {وَّهُم مُّعْرِضُونَ} قلباً عن الحق فلم يقبلوه.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ...} الآية.

لمّا بيّن أنّ اللّه موهن كيد الكافرين بيّن حالاتهم الثلاث:

1- قوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} أي قد علمتم ما أصابكم في بدر من قتل وأسر وانهزام حيث فتح اللّه للمؤمنين عليكم، وكانوا قد دعوا اللّه ليهلك المسلمين تارة، ولينصر أهدى الفريقين تارة أخرى، فروي أنّه: «خرج أبو جهل من بين الصفّين وقال: اللّهم إنّ محمّداً أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه فأحنّه - أي فأهلكه - الغداة»((1))، وقال أيضاً: «اللّهم ربنا ديننا القديم ودين محمّد

ص: 44


1- ([1]) تفسير القمي 1: 267؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 284.

الحديث فأيّ الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم»((1)).

وقوله: {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} أي قد رأيتم الفتح في بدر ولكن كان للمسلمين وليس لكم، وفي هذا تهكّم بهم.

2- وقوله: {وَإِن تَنتَهُواْ} الانتهاء هو ترك الشيء لأجل النهي عنه، والمراد هو عدم قتالهم للمسلمين مرّة أخرى.

وقوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي أسلم لكم لأنّكم بذلك تسلمون من القتل والأسر والخزي، فالكلام حول حالتهم في الدنيا لا في الآخرة لأنّ الفتح في أوّل الآية والعودة في آخرها يرتبطان بالحالة الدنيويّة فكذلك كونه خيراً في وسط الآية.

3- وقوله: {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ} أي إن رجعتم إلى قتال المسلمين مرّة أخرى بعد هزيمتكم ببدر عاد اللّه تعالى إلى نصرهم عليكم، لكن هذا العود منه تعالى مشروط بالطاعة كما سيأتي في الآية التالية، وهذا ما حصل في أ ُحد لمّا عاد المشركون إلى قتال المسلمين نصر اللّه المسلمين عليهم في الجولة الأولى فانهزم المشركون وقتل مجموعة منهم، لكن لمّا خالف المسلمون الشرط وعصوا اللّه ورسوله دارت الدائرة عليهم، قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ...}((2)).

وقوله: {وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ...} يعني إذا عُدتم إلى قتال المسلمين عاد اللّه

ص: 45


1- ([2]) مجمع البيان 4: 635-636.
2- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 152.

عليكم بالعقاب وعلى المسلمين بالنصر، ولا تغترّوا بكثرة عددكم لأنّ كل كثير هو لا شيء في مقابل قدرة اللّه تعالى وعزّته سبحانه، وهذا كالتعليل،أي سبب عودنا عليهم بالنصر وعليكم بالخزي هو عدم قدرتكم وعدم فائدة جمعكم.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} كالعلّة الثانية فهو عطف على قوله: {وَلَن تُغْنِيَ...}، فالمعنى نعود لأنّ اللّه مع المؤمنين معيّة نصرة ومعونة.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ}.

لمّا ذكر في الآية السابقة أنّ اللّه يعود على الكفّار بالهزيمة وأنّه مع المؤمنين، بيّن في هذه الآية شرط ذلك وهو أن يكونوا مؤمنين حقّاً، ولا يكون ذلك إلاّ بإطاعة اللّه في أحكامه، وإطاعة الرسول في ولايته، وأن لا يُعرض هؤلاء المؤمنون عن الطاعة مع علمهم بالتكاليف حيث لا يكونون معذورين في المخالفة.

وقوله: {وَلَا تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} أي لا تعرضوا عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو لا تعرضوا عن طاعة اللّه والرسول ويكون تذكير الضمير باعتبار التكليف، أو بمعنى لا تعرضوا عنهما ويكون إفراد الضمير لتعارف ذلك في اللغة وفي الكلام البليغ.

وقوله: {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} حال أي إعراضاً عن علم وعمد، أمّا لو لم يعلم الإنسان بالتكليف ولم يكن مقصّراً في جهله فلم يمتثل فهذا معذور في عمله، بل رخّص اللّه في ذلك بالبراءة في ما لا يعلم وجوبه وكذا ما لا يعلم حرمته.

ص: 46

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}.

وهم الكفّار والمنافقون فإنّهم يسمعون الكلام بآذانهم ولا يذعنون له فيقلوبهم فسمعهم كعدم السمع في عدم انتفاعهم به، قال سبحانه: {وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا}((1))، فهذه الآية عامّة كما تشمل المشركين الذين هم شأن النزول كذلك تشمل اليهود والمنافقين وغيرهم، وهكذا المسلمون إذا عصوا اللّه ورسوله كان علمهم بما سمعوه غير نافع لهم فكأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه تعالى، بل هم أسوء من الذي لم يسمع أصلاً فهو خالف بجهل وهؤلاء خالفوا عن علم وعمد.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}.

هذا تعليل للنهي في الآية السابقة، أي لا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون؛ لأنّهم شر الدواب حيث إنّهم صم بكم لا يعقلون.

وقوله: {شَرَّ الدَّوَابِّ} مرّ في سورة الأعراف في قوله: {أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}((2))

وجه كونهم أسوء من الأنعام إنّها لا عقل لها وهم لا يستعملون عقولهم، وهي تبتعد عمّا يضرّها وهم يعاندون على ما يضرّهم وغير ذلك فراجع، و(الدابة) في الأصل كل موجود حي يدب ويتحرّك على وجه الأرض، ثمّ خص بالبهائم، ويستعمل بشكل أخص في الخيل.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} بيان أنّ مقياس الخير والشر هو مقياس إلهي، فليست المظاهر والسلطة والمال ونحوها في مقياسهما، مع أنّ غالب الناس

ص: 47


1- ([1]) سورة الأعراف، الآية: 179.
2- ([2]) سورة الأعراف، الآية: 179.

ينخدعون بها، كالحيّة ليّن مسّها قاتل سمّها يجتنبها العالم بها ويدنو منها الجاهل بها اغتراراً بجمالها الظاهري.

وقوله: {الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} أوصاف جعلتهم شر الدواب، و{الصُّمُّ} جمع أصم والمراد الذين لا يسمعون سماع تفهّم حتّى وإن قرع الكلام صماخهم، وبذلك تمّت الحجّة عليهم، و{الْبُكْمُ} جمع أبكم، وفي المفردات: «وهو الذي يولد أخرس، فكل أبكم أخرس، وليس كل أخرس أبكم»((1))، و{لَا يَعْقِلُونَ} نفي للعقل باعتبار عدم وجود آثاره، فالعقل الذي لا يمنع الإنسان عن العناد والمكابرة على الحق غير نافع، فسواء من لا عقل له ومن له عقل لا يستعمله.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}.

بيان أنّ الإشكال فيهم، لا أنّ اللّه تعالى جعلهم صماً بكماً لا يعقلون، بل هو سبحانه جهّزهم بأدوات الهداية من السمع والبصر والعقل وأرسل الأنبياء ليبيّنوا لهم، وأراهم الآيات، لكنّهم بسوء اختيارهم أغلقوا منافذ الهداية على أنفسهم ورفضوا هداية اللّه تعالى فتركهم اللّه حتى ضلّوا.

وقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا} أي إذعاناً وقبولاً للحق وعدم عناد وانتفاعاً بلطفه بهم.

وقوله: {لَّأَسْمَعَهُمْ} أي للطف بهم بحيث يكون سمعهم نافعاً لهم، وذلك حال غير المعاندين المذعنين للحق فإنّ اللّه يجعل السمع نافعاً لهم لطفاً بهم

ص: 48


1- ([1]) المفردات للراغب: 140.

فيهتدون بحسن اختيارهم.

وقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} أي لو لطف بهم حال عنادهم، فإنّ اللطف لايزيل اختيارهم فمع عنادهم لا ينفعهم ذلك اللطف، كما لطف بهم حيث أرسل الرسل وأنزل الكتب لكنّهم رفضوا هذا اللطف، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ}((1)).

وفي التقريب: «إنّ هناك ثلاث مراتب: الإسماع الظاهري، وإزالة الأغشية، وطهارة القلوب ذاتاً، فإزالة الأغشية خاصّة بالمؤمن، بينما الإسماع عام لكل أحد، فالمعنى: لو علم اللّه الطهارة الذاتيّة في قلوبهم لأزال الأغشية المظلمة عنها علاوة على الإسماع، لكن علم أنّ ذلك لا ينجح - فإنّ قلوبهم كالأرض السبخة التي لا ينفع معها الحرث - فلذا تركهم وشأنهم»((2)).

وقوله: {لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (التولّي) هنا بمعنى الرجوع فيراد به الإعراض بوجوههم، و(الإعراض) هنا يراد به الإعراض بالقلوب فالمعنى لا ينفعهم الإسماع عبر اللطف وإزالة الأغشية عن قلوبهم لأنّهم معاندون بحيث لو أسمعوا لأعرضوا بوجوههم وقلوبهم.

ص: 49


1- ([1]) سورة فصلت، الآية: 17.
2- ([2]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 313.

الآيات 24-26

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 24 وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 25 وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فََٔاوَىٰكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 26}

ثمّ بيّن اللّه أن في طاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحياة، فقال:

24- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} وهم عموم من أسلم بلسانه سواء آمن بقلبه أم لا {اسْتَجِيبُواْ} بالطاعة والامتثال {لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث إنّ دعوته هي دعوة اللّه تعالى {لِمَا يُحْيِيكُمْ} فيه حياتكم وهذا يشمل جميع دعواته والتي منها الجهاد وولاية علي (عليه السلام) ، ويؤدّي ذلك إلى الحياة الطيّبة في الجنّة، {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ} قادر عالم حكيم شديد البطش ولذا فهو {يَحُولُ} من الحيلولة بمعنى الفاصلة {بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فقد يريد الإنسان بعدم الاستجابة حفظ مصلحته لكن اللّه تعالى يحول بينه وبين ما أراد، كما أنّه تعالى أقرب إلى الإنسان من قلبه فمع قدرته على التصرّف في القلب جبراً لا يصنع ذلك لكنه قد يطبع على قلب العاصي، كما أنه يعلم ما في القلوب وقد ألقى المعرفة الفطرية فيها فلا مجال لأنكارها {وَ} سيجازيك--م فاعلم--وا {أَنَّهُ} للشأن {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تجمعون يوم القيامة

ص: 50

فيخبركم بما في قلوبكم ويجازيكم على أفعالكم.

25- ثمّ ينهاهم عن عدم الطاعة والاستجابة لأنّ ذلك يؤدّي إلى الفتنة، فقال: {وَاتَّقُواْ} احفظوا أنفسكم واحذروا {فِتْنَةً} بلاءً عامّاً {لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} بل تشمل الظالمين العصاة والساكتين عن نهيهم عن المنكر، بل أثرها الوضعي يعم الجميع حتّى المؤمنين الناهين عن المنكر، كما لو أثار العصاة حرباً يضطر المؤمنون إلى الدفاع وقد يقتلون فيه أو يجرحون، هذا في الدنيا، {وَ} أمّا في الآخرة ف{اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن عصاه فلم يُطع ولم يستجب للّه تعالى وللرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

26- ثمّ يحثّهم على الطاعة والاستجابة بتذكيرهم بعظيم نعمته عليهم، فقال: {وَاذْكُرُواْ إِذْ} الوقت الذي {أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} أي مكّة حيث كان الكفّار يعدّونهم ضعفاء فيؤذونهم ويعذّبونهم {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} المشركون بأن يأخذوكم للعذاب بسرعة كما صنعوا بعمّار وأبويه حيث كان المشركون يفاجئون المسلمين بذلك متى ما شاؤوا، {فََٔاوَىٰكُمْ} جعل لكم مأوى هي المدينة المنوّرة {وَأَيَّدَكُم} قوّاكم بعد الاستضعاف {بِنَصْرِهِ} حيث نصركم ببدر وغيره {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ} ومنها غنائم بدر بعد فقركم، وإنّما صنع ذلك بكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النِعم الجسام.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.

ص: 51

بعد أن أمر اللّه تعالى بطاعته وطاعة رسوله بيّن أنّ في ذلك كلّ خيرحيث إنّ فيه الحياة، ويلازم ذلك الهلاك في عدم الطاعة، وبعبارة أخرى: إنّهما يدعوان إلى الحياة ففي الاستجابة لهما الحياة، وفي عدم الاستجابة الهلاك كما قال تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ}((1)).

وقوله: {اسْتَجِيبُواْ} الاستجابة من الجواب بالقبول وهي هنا الطاعة والامتثال، وفي التقريب: «لعلّ السر في الإتيان بباب الاستفعال المفيد للطلب، إفادة أنّ اللازم كون الجواب عن القلب والضمير لا بمجرّد اللفظ والظاهر، فإنّ طلب الإنسان لأن يُجيب إنّما بنبع من قلبه وباطنه»((2))، ومن ذلك يتبيّن أنّ قوله: {اسْتَجِيبُواْ} ليس مجرّد تأكيد لقوله: {أَطِيعُواْ} في الآية 20 بل بيان أنّه لا بدّ أن تكون طاعة ناشئة عن القلب وهي التي يترتّب عليها الحياة الطيّبة.

وقوله: {إِذَا دَعَاكُمْ} أي دعاكم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو إذا دعاكم اللّه والرسول فيكون إفراد الضمير باعتبار أنّ دعوتهما واحدة لأنّ الاستجابة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي استجابة للّه تعالى، أو باعتبار كل واحد منهما.

وقوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} وهو كل أوامر الإسلام من أصول وفروع والتي تترتّب عليها الحياة الخالدة في الجنّة، فإنّ الحياة الدنيويّة - بالإدراك والحركة - هي مرتبة ضعيفة بحيث يصح سلب اسم الحياة عنها كما قال: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}((3))؛ لأنّها مجرّد

ص: 52


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 42.
2- ([2]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 314.
3- ([3]) سورة الأنعام، الآية: 122.

متاع كما قال: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}((1))، إلاّ إذا آمن الإنسان واتّقى فتكون حياته طيّبة كما قال: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً}((2))، وقال: {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}((3)

وبذلك يتبيّن أنّ الآية عامّة، وأنّ الجهاد وولاية الإمام علي (عليه السلام) والجنّة بيان لمصاديق (ما يحييكم)، أو شأن نزولها، وشأن النزول لا يقيّد عموم الآية.

والحاصل: أنّه لا يتوهمنّ أحد أنّ الجهاد مثلاً فيه الهلاك، وأنّ الولاية فيها الصعوبات التي قد تبلغ القتل وأنّ عامة أحكام الشرع فيها تقييد للحياة، بل الجهاد فيه الحياة حتّى وإن قتل الإنسان في سبيل اللّه، والولاية فيها السعادة حتّى وإن ضاقت الدنيا بفعل الظالمين على المؤمنين، وهكذا سائر الأحكام إذا قيّدت الهوى والشهوات ففي ذلك السعادة وهي الحياة الحقيقيّة.

الثاني: قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.

بيان أنّ عدم الاستجابة لا توصلكم إلى ما تريدونه من السعادة؛ لأنّ اللّه يمنعها عن العصاة، كما أنّ قلوبكم بيد اللّه تعالى، فدعوته إياكم ليس لحاجة منه إليكم، فإذا جعلكم مختارين في ما تفكّرون وما تعزمون عليه ثمّ أمركم اختياراً لا إكراهاً فإنّما ذلك بحكمته مع علمه بما في قلوبكم وقدرته على التصرّف فيها وجعله الفطرة في قلوبكم بحيث لا يمكنكم إنكارها في

ص: 53


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 185.
2- ([2]) سورة النحل، الآية: 97.
3- ([3]) سورة العنكبوت، الآية: 64.

قرارة أنفسكم.

وقوله: {يَحُولُ} من الحيلولة، أي هو أقرب إليكم من قلوبكم - علماً وقدرة - كما قال في آية أخرى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}((1)).

حيلولة اللّه بين الإنسان وقلبه

ثمّ إنّ لحيلولته تعالى بين المرء وقلبه مصاديق - بعضها من التأويل - :

1- فمنها: إنّ الذين لا يستجيبون إنّما يريدون مصلحتهم فيتركون الجهاد - مثلاً - لئلّا يقتلوا، ويتركون الولاية ليتمتعوا بفُتات الظالمين، ويتركون الأحكام ليتمتعوا بدنياهم، لكن ليعلموا أنّ اللّه تعالى قضى بالضنك والعذاب للعصاة، قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ}((2)).

2- ومنها: علمه بما في القلوب بحيث لا يتمكّن الإنسان من إخفاء ما في قلبه على اللّه تعالى، فهو سبحانه ليس بعد المرئ حتّى يمكن الإخفاء عنه بل قد أحاط علمه بما بداخله، فقبل أن يعلم الإنسان ما في قلبه يعلمه اللّه تعالى، فلا يمكن كتمان النوايا عنه، فمن لم يستجب لا يمكنه أن يعتذر بأعذار واهية كأن يقول: إنه لم يكن يعلم بالحكم أو غفل عنه أو نحو ذلك.

3- ومنها: قدرته على تقليب القلوب بما يشاء، فليس اختيار الإنسان في ما يقصده إلاّ لأنّ اللّه تعالى شاء اختياره، فليست دعوته للاستجابة لحاجة منه سبحانه بل لحكمته ابتلاءً للعباد واختباراً لهم.

4- ومنها: إنّ اللّه تعالى قد ألقى المعرفة الفطرية في قلوب الناس

ص: 54


1- ([1]) سورة ق، الآية: 16.
2- ([2]) سورة طه، الآية: 124.

فبفطرتهم يعلمون حُسن الحسن وقبح القبيح ويعرفون اللّه سبحانه، وإن غفل الإنسان عن ذلك فإنّه حينما يدعوه داعي اللّه تعالى يلتفت إليه، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ويثيروا لهم دفائن العقول»((1))، فلا يبقى لهم عذر يعتذرون به بأنّهم لم يفهموا كلام الرسل (عليهم السلام) فلم يستجيبوا لهم؟! وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حق»((2)).

5- ومنها: عدم تمكّن الإنسان من فعل ما يريده ويقصده، وذلك أنّ الإنسان قد يقصد شيئاً لكن جوارحه لا تتمكّن من تنفيذ ما أراده، فعليه أن لا يسوّف في تنفيذ أوامر اللّه ورسوله فلعلّه لا يتمكّن من تنفيذها لاحقاً؛ لأنّ اللّه تعالى قد يسلب توفيقه فتفوت عليه الفرصة.

6- ومنها: الطبع على قلوب العصاة، فإن من عصى مكرّراً قد يعاقبه اللّه تعالى بأن يطبع على قلبه بحيث لا يمكنه بعد ذلك قبول الهداية حتّى يرى العذاب الأليم.

فهذه الحيلولة هي في الدنيا.

وقوله: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي اعلموا بأنّ اللّه يجمعكم ليوم القيامة حيث الجزاء على أعمالكم، فيعاقب من لم يستجب للّه ورسوله.

الفتنة التي تعمّ الجميع

الثالث: قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

بيان أنّ عدم الاستجابة للّه والرسول تؤدّي إلى فتنة عامّة في الدنيا

ص: 55


1- ([1]) نهج البلاغة، الخطبة: 1.
2- ([2]) تفسير العيّاشي 2: 52.

وعذاب في الآخرة، فإنّ أوامر اللّه ورسوله لمصلحة العباد ونواهيهما لدفع المفسدة عنهم، فكل عصيان يؤدّي إلى فوت مصلحة والوقوع في مفسدة.

والمفسدة قد تكون شخصيّة لا تتعدّى صاحبها، وقد تكون عامّة تنجر إلى سائر الناس كمن يثقب السفينة حيث يغرق بذلك جميع ركّابها حتّى الذين سكتوا عنه ولم يشاركوه في الفعل، وهكذا المعاصي قد يعم بلاؤها الفاعل والساكت، سواء بالأضرار الدنيويّة أم بعذاب اللّه تعالى، كأصحاب السبت حيث عم العذاب الصائدين والساكتين، كما أنّ هنالك آثاراً وضعيّة - وليست عقوبة - تعم الجميع حتّى البريء، مثلاً لو ترك المسلمون الجهاد صار ذلك سبباً لسيطرة الكفّار عليهم فيأسرون ويقتلون حتّى الذين لم يكن الجهاد واجباً عليهم أو لم يستطيعوا الخروج إليه كالنساء والأطفال الأبرياء والمرضى.

وقوله: {وَاتَّقُواْ} أي احفظوا أنفسكم عبر الاستجابة، فإن لم تستجيبوا وقعت الفتنة عليكم.

وقوله: {فِتْنَةً} تشمل العذاب والبلاء العام والآثار الوضعيّة.

وقوله: {لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} أي لا تختص بالعصاة بل تشمل حتّى الساكتين عنهم الذين لم ينهوا عن المنكر عقوبة لهم، بل وتشمل الأبرياء لا عقوبة بل امتحاناً ورفعاً لدرجاتهم بصبرهم، و{لَّا تُصِيبَنَّ} نهي يتوجّه إلى الفتنة ويراد به المأمورون بالاتّقاء فكأنّه قال: أنهى الفتنة عن أن تصيب خصوص الظالم، والمراد بذلك حث الناس على الالتزام بالتقوى، كما في قوله: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ}((1))، أي أنهى سليمان

ص: 56


1- ([1]) سورة النمل، الآية: 18.

وجنوده عن تحطيمكم والغرض هو التأكيد على دخول النمل في المساكن، والظاهر أنّ {لَّا تُصِيبَنَّ} وصف للفتنة أي فتنة يقال لها لا تصيبي الظالم فقط بل اشمليهم أجمع.

وأمّا ما روي من قراءة (لتصيبنّ)((1)) فكأنّه - إن صح - تفسير للآية وبيان مصداق الفتنة بأنّها العذاب وهي تصيب الظالمين سواء الفاعلين للمنكر أم الساكتين فكلاهما ظالم فيصيبهم العذاب خاصّة.

ومن مصاديق الآية ما حدث بعد رحيل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكذا معركة الجمل حيث كانت فتنة أصابت الظالمين وغيرهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «أصابت الناس فتنة بعد ما قبض اللّه نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتّى تركوا عليّاً (عليه السلام) وبايعوا غيره، وهي الفتنة التي فتنوا بها، وقد أمرهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باتّباع علي (عليه السلام) والأوصياء من آل محمّد (عليهم السلام) »((2))، وفي تفسير القمي: «نزلت في الزبير وطلحة لمّا حاربا أمير المؤمنين (عليه السلام) وظلموه»((3)).

الرابع: قوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ...} الآية.

تذكيرهم بحالتهم السابقة من الضعف والذل لكي يشكروا اللّه عبر طاعته على تبديل تلك الحالة إلى حالة حسنة، وفيه تحذير مبطن بأنّ عدم الاستجابة قد تُرجع إليهم تلك الحالة لأنّها تؤدّي إلى سيطرة الكفّار عليهم فيذلّونهم، كما نشاهد ذلك الآن حيث أعرض الناس عن أحكام اللّه تعالى فسيطر الشرق والغرب على المسلمين ونهبوا ثرواتهم وقتلوا أولادهم

ص: 57


1- ([1]) مجمع البيان 4: 639.
2- ([2]) تفسير العيّاشي 2: 53.
3- ([3]) تفسير القمّي 1: 271.

واحتلّوا بلادهم وأذلّوهم أيّما إذلال.

وقوله: {وَاذْكُرُواْ} أي بالشكر وذلك عبر الطاعة والاستجابة، وأنّه كيف تفضّل اللّه عليكم لمّا استجبتم للّه وللرسول حيث بدّل سوء حالكم إلى أحسن الأحوال.

وقوله: {مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} أي يستضعفكم كفّار قريش في مكّة.

وقوله: {أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} أي لم يكن لكم أمن بل كان حالكم تعذيب الكفّار لكم كلّما أرادوا لا يردعهم رادع ولا يمنعكم عنهم مانع، و(الخطف) هو الأخذ بسرعة على سبيل الاختلاس، و{النَّاسُ} هم مشركو مكّة.

وقوله: {فََٔاوَىٰكُمْ} أي جعل لكم المأوى الآمن في المدينة المنوّرة.

وقوله: {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} التأييد التقوية أي قوّاكم بما نصركم به من إنزال الملائكة ومن جعل الأنصار لكم.

وقوله: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ} فيه دلالة أنّهم كانوا فقراء في مكّة فأثروا بالزراعة والتجارة والغنائم في المدينة.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وهذا حث لهم على الشكر العملي بالطاعة والاستجابة؛ لأنّ تذكير سوء الحال سابقاً وتبديله إلى أحسن حال سبب للشكر عليه، وخاصّة إذا علموا أنّ استجابتهم في ضعفهم وفقرهم انتجت قوّتهم وغناهم، وهكذا استمرارها وزيادتها ستكون بالطريقة نفسها أي بالاستجابة مستمرّاً.

ص: 58

الآيات 27-29

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ 27 وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَٰلُكُمْ وَأَوْلَٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ 28 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 29}

بعد ذكر وجوب الاستجابة بيّن أنّ عدمها خيانة، فقال:

27- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ} بمخالفة فرائضه {وَالرَّسُولَ} بمخالفة أوامره الإداريّة وسنّته {وَ} أن {تَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ} أنفسكم بخيانتهما؛ لأنّ خيانة اللّه والرسول خيانة لأمانة النفس أيضاً {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أن خيانتهما خيانة لأنفسكم، فتكون خيانتهما أبشع، وفي ذلك حث على ترك معصيتهما.

28- {وَ} من أهم أسباب الخيانة الأموال والأولاد ف{اعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَٰلُكُمْ وَأَوْلَٰدُكُمْ فِتْنَةٌ} امتحان واختبار لكم فلا تخونوا لأجلهما {وَ} اعلموا {أَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} إذا وفيتم بأمانة اللّه ورسوله وذلك خير من الأموال والأولاد.

29- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ} بالاستجابة والطاعة فتحفظوا أنفسكم عن عقابه {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} ما تفرّقون به بين الحق والباطل سواء في الاعتقادات أم في الأعمال فتهتدون إلى الحق {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ} أي يبطل السيّئات بالحسنات {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} بسترها وإبدالها

ص: 59

بالثواب {وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ} لذا جعل الفرقان وكفّر السيّئات وغفر الذنوب.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

بعد أن أمر اللّه تعالى بطاعته وحث على الاستجابة له ولرسوله نهى عن المعصية وترك الاستجابة مع بيان أنّها ليست خيانة للّه وللرسول فحسب بل هي خيانة لأنفسكم أيضاً؛ لأنّ ضررها يعود عليكم أيضاً، وكان شأن نزولها أنّ بعض المسلمين أخبر الكفّار بما يريده المسلمين من مقاتلتهم صوناً لأمواله وأولاده الذين كانوا بجوار الكفّار((1)

ومن المعلوم أنّ هذه معصية كبرى وضررها يعود على عامّة المسلمين ومن جملتهم الخائن، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «فخيانة اللّه والرسول معصيتهما، أمّا خيانة الأمانة: فكل إنسان مأمون على ما افترض اللّه عليه»((2)).

وقوله: {لَا تَخُونُواْ} الخيانة هي نقض الأمانة بأن يمنع الحق الذي لزم عليه أداءه عمداً، أمّا أمانة اللّه تعالى فهي فرائضه التي ائتمن عليها خلقه، وأمّا أمانة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهي سنّته وأوامره الإداريّة وخاصّة الحربيّة منها.

وقوله: {وَتَخُونُواْ} الظاهر أنّه بتقدير (أن) فيكون نظير قولهم: «لا تأكل السمك وتشرب اللبن»، حيث إنّه نهي واحد بأن لا يجمع بينهما في الأكل،

ص: 60


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 300.
2- ([2]) تفسير القمّي 1: 272.

وكذا هنا نهي واحد هو خيانة اللّه والرسول والنفس؛ لأنّها خيانة واحدة فيحقيقتها تعلّقت بالثلاثة لأنّ ضرر المعاصي يعود على الإنسان نفسه، فلو خان اللّه ورسوله بعصيانهما فقد خان أمانة نفسه حيث إنّ كل إنسان مأمون على ما افترض اللّه عليه، كما مر في حديث الإمام الباقر (عليه السلام) .

وقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي أنتم تعلمون أنّ خيانتهما خيانة لأنفسكم، حيث إنّ ضرر المعاصي - وخاصّة في الحرب - يعود عليكم، وفي ذلك حث شديد على ترك خيانة اللّه والرسول بل الاستجابة لهما وطاعتهما.

وقيل: {تَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ} عطف على المنفي وهو {تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} فهو نهي ثان أي لا تخونوهما ولا تخونوا الأمانات في ما بينكم، {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنّها أمانة الناس أو تعلمون أنّها خيانة أو تعلمون أنّها قبيحة! وما ذكرناه أقرب.

الثاني: قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَٰلُكُمْ وَأَوْلَٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

بيان سبب الخيانة وهو خوف الإنسان على الأموال والأولاد، فيريد حفظهما ولو عبر المعصية، كما أنّ الذي أخبر الكفّار بمقصد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان سبب خيانته أن أمواله وأولاده كانتا عند الكفّار أو قريبتين منهم فخاف عليهما فأراد أن تكون له يد عندهم ليراعوهما، فيخبرهم اللّه تعالى بأنّ طاعة اللّه ورسوله وعدم خيانتهما أولى من ذلك؛ لأنّ الأولاد والأموال امتحان من جهة، وأنّ أجر اللّه تعالى أعظم منهما من جهة أخرى.

وقوله: {فِتْنَةٌ} أي ابتلاء واختبار، فعليكم أن ترجّحوا رضا اللّه والرسول

ص: 61

بطاعتهما وعدم خيانتهما لتنجحوا في الامتحان.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} هذا مقابل المصلحة في الأموال والأولاد، فيقال لهم: بل المصلحة في الطاعة وعدم الخيانة المستوجبة للأجر العظيم وذلك خير من الأموال والأولاد.

من آثار التقوى

الثالث: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا...} الآية.

كأنّ هذا تلخيص لجميع ما مرّ من الأوامر والنواهي ببيان أنّ تقوى اللّه هي خير لكم لأنّ آثارها عظيمة وهي:

1- قوله: {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} أي يهديكم بهداية تفرقون بها بين الحق والباطل، فإنّ من اتقى اللّه أنار اللّه قلبه بحيث تحصل له ملكة يميّز بها ما هو حق عمّا هو باطل سواء في العقائد أم في الأقوال أم في الأعمال، وذلك من أهم الأمور لئلّا يصير الإنسان من الذين قال اللّه عنهم: {هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}((1)).

2- وقوله: {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ} التكفير هو إبطال السيّئات بالحسنات كما قال: {إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ}((2))، فالتقوى حسنة تذهب السيّئات.

3- وقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} الغفران هو ستر الذنب ويكون عادة بستره

ص: 62


1- ([1]) سورة الكهف، الآية: 103-104.
2- ([2]) سورة هود، الآية: 114.

بالثواب، فليس الغفران مجرّد محو السيّئات وإنّما محوها بالثواب، وحاصل الفرق بين الأمرين: أنّ تكفير السيّئات هو إذهابها بسبب العمل الصالح،وغفران الذنوب هو ستر تلك السيّئات بالثواب، فيكون التكفير مقدّمة للغفران، واللّه العالم.

وقوله: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} إمّا أمر رابع يضاف إلى الفرقان والتكفير والغفران، وإمّا هو سبب تلك أي إنّما يجعل اللّه ذلك لأنّه صاحب فضل عظيم عليكم.

ص: 63

الآيات 30-35

اشارة

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ 30 وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ 31 وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٖ 32 وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 33 وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 34 وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ 35}

ثمّ يذكر اللّه قصّة المشركين الذين عارضوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكّة حتّى آل أمرهم إلى القتل في غزوة بدر، فكما أنعم على المؤمنين عذّب الكافرين، فقال:

30- {وَإِذْ} أي اذكر ذلك الزمان عبر الشكر للّه تعالى، حيث {يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يحتالون خفية {لِيُثْبِتُوكَ} يحبسوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ} بالسيف {أَوْ يُخْرِجُوكَ} من مكّة لتموت في الصحراء حيث اجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا في أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكانت هذه آراء جمع منهم حتّى استقر رأيهم على قتله {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} أي يَرُد مكرهم ويُخفي ما أعدّه لك من النجاة وأعدّه لهم من الهلاك {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ} لأنّه أعلم بتدبير

ص: 64

الأمر ولا ينزل المكروه إلاّ لمن يستحقّه، ونفع مكره للمؤمنين أظهر.

31- {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ} على هؤلاء الكفّار المتآمرين {ءَايَٰتُنَا} آياتالقرآن الدالة على كونها معجز {قَالُواْ} مستخفّين مستهزئين: {قَدْ سَمِعْنَا} القرآن فعرفنا أنّها ليست معجزة ف{لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا} القرآن {إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ}!

32- {وَإِذْ} أي اذكر الوقت الذي زادوا في استهزائهم واستخفافهم ف{قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا} القرآن {هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} فلا حق غيره {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} أي حجارة هي عذاب وآية لا مجرّد رجم من فوق {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} غير الحجارة، وهذا الكلام غاية الاستخفاف والتكذيب فمرادهم أنّه ليس بحق فلذا لا نستحق عذاباً بتكذيبه؛ إذ لو كان حقّاً للزم عذابنا.

33- {وَ} اللّه تعالى يردّهم ويبيّن سبب عدم تعجيل العذاب عليهم؛ إذ {مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} لأنّ اللّه لا يعذّب قوماً إلاّ بعد إخراج أنبيائهم منهم، فمادام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين أظهرهم لا ينزل عليهم العذاب، وفيه إشعار بأن اللّه سيعذّبهم بعد خروجك منهم، {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي لو آمنوا واستغفروا عن كفرهم وذنوبهم لم يعذّبهم اللّه قط لا في الدنيا ولا في الآخرة.

34- ثمّ بيّن اللّه أنّهم يستحقّون العذاب بسوء عملهم، فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي كيف لا يعذّبهم اللّه {وَهُمْ يَصُدُّونَ} يمنعون المؤمنين {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} بطردهم عن مكّة وعدم السماح لهم بالحج والعمرة

ص: 65

{وَ} الحال أنّهم {مَا كَانُواْ أَوْلِيَاءَهُ} أي لم يجعل اللّه لهم تولية أمر المسجد الحرام {إِنْ} نافية أي وليس {أَوْلِيَاؤُهُ} المتولّون له {إِلَّا الْمُتَّقُونَ} لاالمشركون ولا فسقة المسلمين {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} بأنّه لا ولاية لهم.

35- {وَ} كيف يكون المشركون أولياءه مع أنّه {مَا كَانَ صَلَاتُهُمْ} دعاؤهم أو ما يسمّونه صلاةً {عِندَ الْبَيْتِ} الكعبة {إِلَّا مُكَاءً} صفيراً {وَتَصْدِيَةً} تصفيقاً.

ثمّ بيّن اللّه أنّه عذّبهم بسوء أعمالهم في غزوة بدر، فقال: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} بالسيف {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} بسبب كفركم.

بحوث

الأوّل: بعد أن ذكر اللّه تعالى نعمته على المؤمنين قابله ببيان عذابه على المشركين وسبب ذلك، فحيث وعد المؤمنين بإحدى الطائفتين وبيّن لهم أنّه أمدّهم بالملائكة وأنّه أنزل الأمن عليهم وأنّه هيّأ ساحة المعركة لهم بالغيث ثمّ وعدهم بالحياة الطيّبة إن أطاعوا اللّه والرسول واستجابوا لهما، وذكّرهم بنعمه عليهم بالتكثير والإيواء والنصر والرزق، ووعدهم إن اتقوا أن يجعل الفرقان لهم وبالتكفير والغفران... بعد كل ذلك بيّن سبب عذابه على المشركين بالسيف في غزوة بدر وذلك بمؤامرتهم على الرسول، وتكذيبهم بالقرآن، ودعائهم بالعذاب استخفافاً به، وصدّهم عن المسجد الحرام والصفير والتصفيق عند الكعبة.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ

ص: 66

يُخْرِجُوكَ...} الآية.

مؤامرة المشركين لقتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

هذا أولى جرائمهم - المذكورة هنا - فقد عارضوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لإبطال رسالته وللقضاء على دعوته، حيث اجتمعوا في دار الندوة - لمّا سمعوا إسلام أهل المدينة وبيعتهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخافوا من تقوية جانب المسلمين - وتشاوروا في ما بينهم بين قائل ٍ بحبس الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبذلك ينقطع عن المسلمين وتموت دعوته، وقائل ٍ بإركابه بعيراً وإخراجه من مكّة ليموت في الصحراء، وقائل ٍ بقتله، وهذا ما استقر رأيهم عليه، وليضيع دمه بين قريش فلا يتمكّن بنو هاشم من الطلب بثأره اتفقوا على اختيار أربعين شخصاً من جميع قبائل قريش - بما فيهم بنو هاشم - ليضربه كل واحد منهم ضربة فاختاروا أبا لهب من بني هاشم ومن كل قبيلة شخصاً، فأخبر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك فخرج من مكّة وبات أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في فراشه لتعمية الأمر عليهم فلمّا بزغ الصبح هجموا على دار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يجدوه ووجدوا عليّاً (عليه السلام) ، فقالوا له: أين محمّد؟ فقال (عليه السلام) : «أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم»((1))، ثمّ خرجوا في طلب الرسول وتفرقوا في أودية مكّة فلم يجدوه، وبات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غار ثور ثلاثة أيّام فلمّا خف الطلب خرج في اليوم الرابع إلى المدينة((2)).

وقوله: {لِيُثْبِتُوكَ} الإثبات هو تقييد الحركة وذلك بالحبس.

وقوله: {أَوْ يُخْرِجُوكَ} ليس مجرّد إخراج وإنّما إركابه على بعير وتركه

ص: 67


1- ([1]) تفسير القمّي 1: 276.
2- ([2]) لتفصيل قصة الهجرة والمبيت ومؤامرة قريش راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 301-317؛ عن تفسير القمّي 1: 271؛ وتفسير العيّاشي 2: 53؛ والأمالي للشيخ الطوسي: 463.

في الصحراء هائماً ليلقى حتقه.

وقوله: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} المكر علاج الأمر بخفاء، ومكر اللّه إمّا بمعنى رد مكرهم، أو جزائهم عليه، أو المراد إنّه يدبّر ما يخفى عليهم حتّى يباغتهم به.وقوله: {خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ} فليس في مكره سوء، وإنّما هو أعلمهم بما يقدّر، كما أنّه لا يمكر إلاّ بما هو الحق والصواب، كما أنّ انتفاع المؤمنين به أكثر من سائر أنواع العلاج، كما أنّه ينزل العقاب بمكره على من يستحقّه، عكس سائر الماكرين فقد يكون مكرهم جهلاً أو خطأ أو قليل النفع للمؤمنين أو عقاباً لمن لا يستحقّه.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا...} الآية.

هذا ثاني جرائمهم التي استحقّوا بها العذاب وهو استخفافهم بالقرآن الكريم وجحد كونه آية مع عدم تمكّنهم من الإتيان بمثله.

وقوله: {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا} لعلّ مقصودهم أنّهم لم ينكروا ما لم يسمعوه وإنّما أنكروه بعلم! ولذا قالوا {لَوْ نَشَاءُ...} بدون حرف عطف.

وقوله: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا} وهذا إنكار لإعجاز القرآن وذلك بادعاء تمكّنهم من الإتيان بمثله! لكنّهم كذبوا في دعواهم هذه لأنّ القرآن تحدّاهم، وهم قد فعلوا ما تمكّنوا منه لإبطال أمر الإسلام من صرف الأموال وشن الحروب وحياكة المؤامرات وغيرها إلاّ أنّهم لم يأتوا بمثله مع أنّه لو كان باستطاعتهم لفعلوه حتماً.

وقوله: {إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ} هذا استخفاف آخر منهم بالقرآن

ص: 68

الكريم وهو جحد ما فيه من قصص بزعم أنّها أساطير، فقولهم هذا يرتبط بإنكار معانيه، كما أنّ قولهم السابق: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا} إنكار إعجاز لفظه، وكلامهم نظير أن يستخف أحدنا بكلام غيره فيقول قد سمعت كلامهفلم أر منه إلاّ ما هو سيّء!!

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ...} الآية.

جريمتهم الثالثة - وهي تابعة للسابقة باستخفافهم بالقرآن الكريم - وهو جحد كونه من اللّه تعالى عبر التوجه إلى اللّه بالدعاء بأنّه إن كان هو الحق فعاقبنا بالعذاب، وهذا أقوى في الجحد لأنّ مقصودهم إنّ اللّه يعلم بأنّه ليس بالحق ولذا لا يعذّبنا على جحوده، ولو كان حقّاً لعذّبنا عليه!

وقد أكّد جحدهم بأبلغ وجه بضمير الفصل وبإضافة {مِنْ عِندِكَ}.

وقوله: {مِّنَ السَّمَاءِ} تأكيد على أن يكون الرجم بعذاب إلهي لأنّ الرجم من السماء لا يكون إلاّ بالعذاب، فإنّ الإمطار بالحجارة من فوق قد يكون بيد إنسان أو بعامل طبيعي كانهيار جبلي فلا يكون معجزاً، ولعلّهم ذكروا ذلك ليكون كعذاب أصحاب الفيل الذي عاصره بعضهم.

وقوله: {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} أي عذاب آخر غير الرجم بالسجّيل، وكأنّ إضافة هذا مزيد في استخفافهم وبيان وثوقهم بأفكارهم، وهذا ما يتعارف في ألسن الجاحدين، كما يقول أحدهم للآخر: إن كنت شجاعاً فاضربني أو اصنع بي أيّ شيء آخر، إظهاراً لوثوقه بعجز ذاك وعدم شجاعته مثلاً.

ثمّ اعلم أنّ لهذه الآية مصاديق، منها: مشرك في مكّة وهو النضر بن

ص: 69

الحارث أو أبو جهل((1))، وكان جزاؤه القتل في غزوة بدر، ومنها: منافق في المدينة وهو الحارث بن النعمان أو ابن عمرو الفهري لمّا أنكر علىالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إعلانه خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حيث قال هذا القول أيضاً فلمّا خرج من المدينة ألقى اللّه تعالى عليه حجارة قتلته((2))، ولا محذور في شمول الآية لكليهما، كما لا استبعاد في تعلّم منافق من كافر قولته.

الخامس: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.

هذا بيان سبب تأخير العذاب عنهم وهو أحد أمرين: وجود النبي بين أظهرهم واستغفارهم.

وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ} أي ليس من حكمته ذلك فإنّ اللّه إذا أراد عذاب قوم أخرج المؤمنين أوّلاً ثمّ عذّب الكفّار كما في عذاب الأمم السالفة.

وقوله: {وَأَنتَ فِيهِمْ} أي والحال أنت فيهم، وفي ذلك تلميح بعذابهم بعد خروجه عنهم.

وقوله: {مُعَذِّبَهُمْ} قيل: إن الاستغفار مستمر إلى يوم القيامة وبابه مفتوح لمن شاء ولذا استعمل الاسم وهو دال على الاستمرار فقال: {مُعَذِّبَهُمْ}، وأمّا وجود النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين أظهرهم فقد كان موقّتاً ولذا استعمل الفعل {لِيُعَذِّبَهُمْ}، وقيل: هو تفنن في العبارة.

وقوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} كأنّ المعنى لو تابوا واستغفروا من شركهم

ص: 70


1- ([1]) راجع تفسير القمّي 1: 269؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 322.
2- ([1]) راجع الكافي 8: 57؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 317-319.

وآمنوا فإنّ اللّه يرفع عنهم العذاب إذا استحقّوه، كما رفع العذاب عن قوم يونس لمّا استغفروا وآمنوا.

فحاصل المعنى: إنّهم استعجلوا العذاب وأنكروه لكن اللّه لا يعذّبهم في حالتين: وجود النبي فيهم وتوبتهم واستغفارهم.

السادس: قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...} الآية.

بيان استحقاقهم للعذاب وأنّ العذاب سيشملهم مع فقد الأمرين وهما جوار الرسول والاستغفار.

وقوله: {وَمَا لَهُمْ} أي أيُّ شيء يوجب عدم عذابهم، أو كيف لا يعذّبهم وفي ذلك بيان جريمة رابعة لهم وهو صدّهم عن المسجد الحرام.

وقوله: {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءَهُ} أي كان صدّهم بباطل لأنّ اللّه لم يجعل أمر المسجد الحرام إليهم ليمنعوا عنه من شاؤوا، و{أَوْلِيَاؤُهُ} بمعنى الذين يلون أمره ويتصدّون لشؤونه.

وقوله: {إِلَّا الْمُتَّقُونَ} أي قد جعل اللّه التولية للمتّقين لا للمشركين، وحينئذٍ هؤلاء يمنعون مَن أ َمَرَ اللّه بمنعه وهم المشركون، كما نزل من بعد قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا}((1)).

وقوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي أكثر المشركين لا يعلمون أنّ تولية المسجد الحرام للمتّقين، وإنّما قال: {أَكْثَرَهُمْ} لأنّ بعضهم كانوا

ص: 71


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 28.

يعلمون ذلك ولكنّهم كانوا يعاندون، وقيل: الأكثر هنا بمعنى الجميع، كما أنّ القليل قد يستعمل بمعنى لا أحد.

السابع: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}.

بيان لجريمة خامسة لهم وهي هتكهم لحرمة البيت وتخليطهم على عبادة المؤمنين، فبدلاً من الدعاء والصلاة كانوا يصفّرون ويصفّقون فكانت هذه صلاتهم، قيل: إنّهم إذا رأوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصلّي جاؤوا حوله بالصفير والتصفيق يريدون بذلك تخريب صلاته، وهذا تشنيع عليهم وبيان عدم استحقاقهم لولاية البيت حيث منعوا المتّقين عنه وهتكوا حرمته.

وقوله: {صَلَاتُهُمْ} أي ما كانوا يسمّونه صلاة، أو بمعنى كانوا يفعلونهما مكان الصلاة، كما تقول لمن سكر ولم يصل: لقد كانت صلاتك الخمر أي شربتها بدلاً عن الصلاة، وذلك غاية الذم لهم.

وقوله: {مُكَاءً} وهو جمع اليدين والصفير فيهما.

وقوله: {تَصْدِيَةً} وهو التصفيق من الصدى وهو رجوع الصوت فكأنّ التصفيق إرجاع الصوت من غيرفائدة في ذلك، قال الخليل: «كانوا يطوفون بالبيت عراة يصفرون بأفواههم ويصفّقون بأيديهم»((1)).

الثامن: قوله تعالى: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}.

بعد بيان استحقاقهم للعذاب في قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ...} بيّن أنّه تعالى قد عذّبهم بكفرهم وذلك بسيوف المؤمنين في يوم بدر، قال سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن

ص: 72


1- ([1]) كتاب العين 5: 418.

يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ}((1))؛ إذ العذاب تارةيكون بطريق إعجازي، وأخرى بطريق طبيعي، والحكمة تقتضي اختيار الثاني مع توفّر أسبابه وهذا ما حصل لأنّهم بكفرهم استحقّوا ذلك العذاب، فلمّا خرج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهم ولم يستغفروا عذّبهم بسيوف المسلمين في بدر، ولعلّ عدم تعذيبهم بالحجارة من السماء أو بعذاب سماوي آخر لأنّه كان في مكّة مؤمنون لم يتمكّنوا من الهجرة مع قصدهم لها فلم يكونوا قد استحقّوا العذاب، بل مع اختلاط المؤمن بغيره لا يأذن اللّه للمسلمين بعذاب الكفّار كما قال: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}((2)).

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي الكفر الجامع للجرائم المذكورة، وقد اختصرها بذلك لأنّ الكفر كان سبب مكرهم واستخفافهم بالقرآن ودعائهم الباطل وصدّهم عن المسجد الحرام وهتكهم له.

ص: 73


1- ([2]) سورة التوبة، الآية: 52.
2- ([1]) سورة الفتح، الآية: 25.

الآيات 36-40

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ 36 لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٖ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ 37 قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ 38 وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 39 وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلَىٰكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ 40}

ثمّ يذكر اللّه تعالى جريمة أخرى من جرائمهم هي إنفاقهم الأموال للصد عن سبيل اللّه تعالى، فقال:

36- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ} يصرفونها {لِيَصُدُّواْ} ليمنعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه واتّّباع رسوله {فَسَيُنفِقُونَهَا} أي يستمرّون في الإنفاق ولا ينقطعون عنه {ثُمَّ تَكُونُ} تلك الأم--وال {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي سبباً للحسرة لأنّها ضاعت من غير وصولهم إلى مبتغاهم من القضاء على الإسلام وأهله {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} بظفر المسلمين عليهم هذا في الدنيا، {وَ} أمّا في الآخرة ف{الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} يجمعون للعذاب، فأموالهم التي أنفقوها صارت حسرة وأورثتهم ضرراً في الدنيا والآخرة.

37- وإنّما لم يمنعهم اللّه قهراً {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ} كل خبيث من كافر

ص: 74

وكفر ومعصية {مِنَ الطَّيِّبِ} كل طيب من مؤمن وإيمان وطاعة، هذا فيالدنيا {وَيَجْعَلَ} أي وليجعل في الآخرة {الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٖ} الفريق الخبيث والأعمال الخبيثة {فَيَرْكُمَهُ} أي يجعل الخبثاء وأعمالهم كالركام {جَمِيعًا} أي مجموعين {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} كما تجمع القمامة من أماكن متفرقة فتتراكم بعضها فوق بعض ثمّ تلقى جميعاً في المزبلة، {أُوْلَٰئِكَ} الذين أنفقوا هذه الأموال {هُمُ الْخَٰسِرُونَ} حيث خسروا الأموال واشتروا بها النار.

38- لكن باب التوبة مفتوح لهم ف{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} موعظةً لهم: {إِن يَنتَهُواْ} عن الكفر والصد عن سبيل اللّه {يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} من ذنوبهم {وَإِن يَعُودُواْ} إلى حرب الإسلام {فَقَدْ مَضَتْ} جرت وقُضيت {سُنَّتُ} اللّه في {الْأَوَّلِينَ} وهي نصر المؤمنين على الكافرين.

39- {وَ} إن لم ينتهوا ف{قَٰتِلُوهُمْ} أي قاتلوا أيّها المسلمون الكافرين {حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي صد عن سبيل اللّه {وَيَكُونَ الدِّينُ} الطريقة {كُلُّهُ لِلَّهِ} بأن يحكم شرع اللّه، وهذا لا ينافي إقرار أهل الذمة ومعاهدة الكفّار؛ لأنّ قبول الذمّة والمعاهدة من دين اللّه تعالى {فَإِنِ انتَهَوْاْ} عن الفتنة أو عن الكفر {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يعلم سرّهم ونواياهم فيجازيهم على أعمالهم.

40- {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا عن الكفر {فَاعْلَمُواْ} أيّها المسلمون {أَنَّ اللَّهَ مَوْلَىٰكُمْ} يتولّى شؤونكم فينصركم، {نِعْمَ الْمَوْلَىٰ} حيث لا يضيع من تولّاه فإنّه عالم قادر يفي بما يعد {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} حيث لا

ص: 75

يغلبه أحد ولا يُغلب من نصره.

بحوث

الأوّل: قول--ه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

بيان جريمة أخرى من جرائمهم وهي صرف الأموال للصد عن الإسلام، وفي تفسير القمّي: «نزلت في قريش لمّا وافاهم ضمضمٌ وأخبرهم بخبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في طلب العير، فأخرجوا أموالهم وحملوا وأنفقوا وخرجوا إلى محاربة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببدر فقُتلوا وصاروا إلى النار، وكان ما انفقوا حسرة عليهم»((1))، وهذا شأن النزول ومعنى الآية عام شامل لكل إنفاق إذا كان يراد به الصد عن سبيل اللّه تعالى.

وقوله: {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} هو الإسلام واتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، حتّى وإن كان بعضهم لا يعلم بأنّه صد عن سبيل اللّه.

وقوله: {فَسَيُنفِقُونَهَا} يراد به إنّهم سيستمرّون على الإنفاق للصد، ويحتمل أن يكون تأكيداً لقوله: {يُنفِقُونَ} ليكون مقدّمة لذكر الحسرة والانكسار.

وقوله: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي تكون تلك الأموال سبباً لحسرتهم؛ لأنّهم لم يصلوا إلى مبتغاهم من الصد عن سبيل اللّه، وكل من صرف مالاً لمقصد ثمّ لم يصل إليه يتحسّر على ماله الذي ضاع من غير نتيجة، وأمّا الحسرة في الآخرة فغير مرادة في هذه الآية لأنّها ليست حسرة على الأموال

ص: 76


1- ([1]) تفسير القمّي 2: 277.

وإنّما حسرة على الأعمال، أي الإنفاق على الباطل.

وقوله: {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} أي ليس ضاعت أموالهم فحسب بل انتجت عكس ما كانوا يريدون؛ لأنّهم صرفوها للصد عن سبيل اللّه لكنّها صارت سبباً للحرب التي كانت نتيجتها فتح مكّة بعد حين وانهزام الكفر وأهله، وإن كانت الحرب بينهم وبين المسلمين سجالاً إلاّ أنّ النصر النهائي كان للإسلام وأهله.

وقول---ه: {إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} بيان عاقبتهم في الآخرة، فإنّ الحسرة والمغلوبيّة في الدنيا.

الثاني: قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٖ...} الآية.

كأنّه تعليل لما هو مذكور في الآية السابقة، أي هؤلاء ينفقون للصد لأنّ اللّه تعالى أراد أن يميز بين المؤمن و الكافر وبين الأعمال الصالحة والخبيثة في الدنيا والآخرة، ولا يكون ذلك التمييز إلاّ بكونهم مختارين يتمكّنون من التمرّد والعصيان فلم يمنعهم اللّه سبحانه عن أفعالهم قهراً، أمّا التمييز في الدنيا فهو بالكفر والمعصية وبالإيمان والطاعة، وأمّا التمييز في الآخرة فبالجنّة والنار.

وقوله: {لِيَمِيزَ} أي ليجعل مائزاً فارقاً بين الفريقين.

وقوله: {الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الظاهر أن {الْخَبِيثَ} و{الطَّيِّبِ} هنا يراد به الجنس أي كل خبيث سواء كان إنساناً أم عملاً، وهكذا كل طيّب إنساناً كان أم عملاً، فكما يمتاز المؤمن عن الكافر كذلك يمتاز العمل الحسن عن

ص: 77

العمل القبيح، حيث إنّه في الدنيا يختلط المؤمن بالكافر فقد يلد المؤمنكافراً أو يلد الكافر مؤمناً، ولا يمكن التمييز بينهما إلاّ لو كانوا مختارين لكي يُجزى كل فريق بما يستحقّه من العقاب بعمله أو الثواب بفضل اللّه تعالى، وهكذا لا يمكن التمييز إلاّ بالتمكّن من الأعمال الصالحة والأعمال الخبيثة، فلا يكفي مجرّد ملكة الاختيار بل لا بدّ من التمكّن من إعمال هذه الملكة، فالإنسان المختار إذا كان وحده في جزيرة فإنه لا يتمكّن من الظلم لا لأجل عدم اختياره بل لأجل عدم وجود مادة الظلم وهي حق الغير مثلاً، فالحاصل: أنّ التمييز لا بدّ فيه من المختار ومن مادة الاختيار.

جعل الخبيث بعضه فوق بعض

وقوله: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٖ} أي يلحق الأعمال الخبيثة بالناس الخبثاء فلمّا اجتمعوا بها ألقاهم اللّه في نار جهنّم بأعمالهم، قال سبحانه: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ}((1))، وقال: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ}((2))، وقال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}((3)).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) - في حديث طويل - قال: «إنّ اللّه سبحانه مزج طينة المؤمن حين أراد خلقه بطينة الكافر، فما يفعل المؤمن من سيّئة فإنّما هو من أجل ذلك المزاج، وكذلك مزج طينة الكافر حين أراد خلقه بطينة المؤمن، فما يفعل الكافر من حسنة فإنّما هو من أجل ذلك المزاج»، قال:

ص: 78


1- ([1]) سورة النحل، الآية: 25.
2- ([2]) سورة الأنعام، الآية: 31.
3- ([3]) سورة العنكبوت، الآية: 13.

«فإذا كان يوم القيامة ينزع اللّه تعالى من العدو الناصب سنخ المؤمن ومزاجهوطينته وجوهره وعنصره مع جميع أعماله الصالحة ويردّه إلى المؤمن، وينزع اللّه من المؤمن سنخ الناصب ومزاجه وطينته وجوهره وعنصره مع جميع أعماله السيّئة الرديئة ويردّه إلى الناصب، عدلاً منه جل جلاله وتقدّست أسماؤه، ويقول للناصب: لا ظلم عليك، هذه الأعمال الخبيثة من طينتك ومزاجك وأنت أولى بها، وهذه الأعمال الصالحة من طينة المؤمن ومزاجه وهو أولى بها...» الحديث((1))، ولتفصيل أحاديث الطينة راجع شرحنا على أصول الكافي((2)).

وقوله: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} أي يجعل الخبيث جميعه بعضه فوق بعض كالركام المتراكم؛ لأنّ من الحكمة جعل الأعمال الخبيثة على ظهور الناس الخبثاء متراكمة عليهم لتكون الأعمال نفسها عذابهم بناءً على ما مرّ من تجسّم الأعمال، ولذا المال الذي أنفق في الصد عن سبيل اللّه هو خبيث ومآله إلى جهنّم، قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}((3))، وقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}((4)).

وقوله: {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} أي يلقيه في جهنّم، قيل: لفظ (الجعل) عام ويستعمل في الأفعال كلّها؛ إذ هو فعل كنائي عن فعل أو أفعال أخرى تفهم من سياق الكلام.

ص: 79


1- ([1]) كنز الدقائق 5: 340.
2- ([2]) شرح أصول الكافي، للمؤلّف 8: 9-13.
3- ([3]) سورة التوبة، الآية: 35.
4- ([4]) سورة الأنبياء، الآية: 98.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ} أي الكفّار الذين أنفقوا أموالهم ليصدّواعن سبيل اللّه هم الخاسرون خسارة لا خسارة فوقها؛ لأنّهم خسروا أموالهم فلم ينتفعوا بها في ما أرادوا وخسروا أنفسهم بالعذاب الخالد في جهنّم.

الثالث: قوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ...} الآية.

بعد تهديد الكفّار وإخبارهم بما يؤول إليه أمرهم وأمر أموالهم يعظهم اللّه تعالى موعظة عسى أن يهتدي منهم من كان قابلاً للّهداية وإتماماً للحجّة على المعاندين منهم.

وقوله: {إِن يَنتَهُواْ} الانتهاء هو ترك الشيء لأجل النهي عنه، والمراد ترك الكفر والعصيان وليس مجرّد ترك قتال المسلمين أو الصد عن سبيل اللّه؛ لأنّ الغفران إنّما يكون لمن آمن.

معنى الإسلام يجبّ ما قبله

وقوله: {يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} أي ما مضى منهم من الكفر والعصيان، والإسلام يجُبّ ما قبله - أي يقطعه - ، وهذا يرتبط بعدم العقوبة على الذنب، ولا ارتباط له بالآثار الوضعيّة، بل لا بدّ فيها من دليل آخر فقد يدل على إسقاطها كعدم وجوب قضاء الصلاة والصوم على الكافر الأصلي إذا أسلم، وقد يدل على عدم إسقاطها كوجوب رد ما سرقه من المسلمين أو وجوب قضاء الصلوات والصيام على المرتد، وأمّا لو لم يكن دليل خاص بقيت الآثار الوضعية على عموم الأدلة؛ لأنّ الكافر مكلّف بالفروع كتكليفه بالأصول، كما مرّ.

وقوله: {وَإِن يَعُودُواْ} أي إلى قتال المسلمين وإنفاق المال للصد عن

ص: 80

سبيل اللّه.

وقوله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} أي سنة اللّه في الأوّلين أي الذين كانوا قبل الإسلام حيث شرّع اللّه للمؤمنين منهم قتال الكافرين وعاقبهم في الدنيا ونصر المؤمنين ثمّ يعذّب الكافرين في الآخرة، وقد أجرى هذه السنّة في الآخرين أيضاً، قال سبحانه: {وَلَوْ قَٰتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الْأَدْبَٰرَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}((1))، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} إلى قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَٰفِرُونَ}((2))، وهذا لا ينافي غلبة الكفّار أحياناً لأنّ المقصود هو النصر النهائي والذي يكون للمؤمنين في الدنيا قبل الآخرة، قال سبحانه: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}((3)).

الرابع: قوله تعالى: {وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ...} الآية.

تشريع لقتال الكفّار الصادين عن سبيل اللّه، وبيان أمده فما دام هناك كفر وصد عن سبيل اللّه فالقتال مشرّع، فإذا انتهى الكفر والصد فلا يشرّع القتال.

وقوله: {وَقَٰتِلُوهُمْ} أي قاتلوا الكفّار الذين يصدّون عن سبيل اللّه، فلا يشمل الحكم الكافر الذمي ولا الكافر المعاهد.

ص: 81


1- ([1]) سورة الفتح، الآية: 22-23.
2- ([2]) سورة غافر، الآية: 83-85.
3- ([3]) سورة آل عمران، الآية: 146.

وقوله: {حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} كأن المراد بالفتنة هنا الصد عن سبيل اللّه تعالى ويمكن تعميمه لكل كفر ومعصية.

متى يكون الدين كلّه للّه تعالى

وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} أي الطريقة الحاكمة هي شرع اللّه تعالى، وهذا لا ينافي وجود أهل الذمة لأنّهم محكومون بقوانين الإسلام وإن كانوا أحراراً في الالتزام بدينهم، كما لا ينافي المعاهدة مع الكفّار لأنّ المعاهدة معهم قد شرّعها اللّه تعالى، وتطبيق هذه الآية على جميع الأرض لا يكون إلاّ في زمان الإمام المهدي، وقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية فقال: «لم يجئ تأويل هذه الآية، ولو قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما بلغ الليل حتّى لا يكون شرك على ظهر الأرض كما قال اللّه»((1)).

وقوله: {فَإِنِ انتَهَوْاْ} كأنّ المقصود هنا بالانتهاء هو ترك الفتنة.

وقوله: {بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يظنّوا أنّهم يتمكّنون من خداع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين كما قال: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}((2))، وقيل: إن انتهوا عن الكفر بأن أسلموا فاللّه عالم بأعمالهم، وما ذكرناه بالسياق أنسب.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلَىٰكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.

تهديد للمشركين وتقوية لقلوب المؤمنين بأنّهم إن قاتلوا المسلمين فإنّ

ص: 82


1- ([1]) تفسير العيّاشي 2: 56؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 326.
2- ([2]) سورة الأنفال، الآية: 62.

اللّه ناصرهم ويتولّى أمورهم فلذا ستكون الهزيمة للمشركين حتماً.

قوله: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي لم ينتهوا بأن أعرضوا عن ترك القتال، وقيل: أعرضوا عن الإسلام.

وقوله: {أَنَّ اللَّهَ مَوْلَىٰكُمْ} المولى هنا بمعنى المتولّي للأمور والمدبّر لها والأولى بهم، ويلازم ذلك نصره لهم، وفي ذلك شد لقلوب المؤمنين لئلّا يخشوهم ولا يبالوا بمعاداتهم لهم.

وقوله: {نِعْمَ الْمَوْلَىٰ} إذ لا يضيع من تولّى أمره؛ لأنّه عالم وقادر ولا يخلف الوعد فينجز ما وعده من نصرهم.

وقوله: {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} تأكيد لأنّ كونه نعم المولى يلازم كونه نعم النصير، أو نعم المولى في ما يرتبط بشؤونهم، ونعم النصير في ما يرتبط بأعدائهم بنصر المسلمين عليهم، قال سبحانه: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}((1)).

ص: 83


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 160.

الآية 41

اشارة

{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 41}

41- {وَ} كما علمتم أنّ اللّه مولاكم وينصركم ف{اعْلَمُواْ} أنّ له ولرسوله وآله وذويهم حقّاً فعليكم أن لا تنازعوهم فيه ف{أَنَّمَا غَنِمْتُم} استفدتم في حرب أو غيرها {مِّن شَيْءٖ} أي كل شيء قليل أو كثير {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ} وهو الإمام خاصّة، فسهم اللّه تعالى يعطى للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبعده يعطى السهمان للإمام (عليه السلام) مضافاً إلى سهمه، {وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} من بني هاشم خاصّة، فاعلموا ذلك {إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ وَ} آمنتم ب{مَا أَنزَلْنَا} من الآيات {عَلَىٰ عَبْدِنَا} محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يوم غزوة بدر حيث ميّز اللّه فيه الحق عن الباطل {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} وأمّا سائر الغنيمة - وهي أربعة أخماسها - فهي للمجاهدين في الغنيمة الحربيّة، ولأصحابها العاملين فيها في الغنائم غير الحربيّة.

بحوث

الأوّل: قد مرّ في صدر السورة أنّ اللّه تعالى أنفل غنائم غزوة بدر كلّها لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو قسّمها بالسوية بين المجاهدين، ثمّ بعد ذلك منح اللّه

ص: 84

تعالى الغنائم الحربيّة للمجاهدين، بعد أن فرض فيها حقوقاً:

كيفية تقسيم الغنائم

فمنها: صفو المال وهو النفيس منه، كصفايا الملوك وقطائعهم، فجعله للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن بعده للإمام (عليه السلام) .

ومنها: الرَضح وهو العطاء الذي يعطيه الرسول أو الإمام لمن ساعد في الحرب وإن لم يشارك في القتال، كمن أرشد على عورة من عورات الكفّار أو عالج الجرحى أو أعد الطعام ونحوه للمجاهدين.

ومنها: من قتل قتيلاً من المشركين فله سَلَبه.

ومنها: ما يراه الرسول والإمام مصلحة للمسلمين كما أعطى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غنائم حُنين للمؤلّفة قلوبهم من قريش.

ثمّ بعد ذلك إن فاض من الغنيمة شيء استخرج خُمسه (20%) للأصناف الستّة المذكورين في هذه الآية، والباقي (80%) يقسّم بين المقاتلين: للفارس سهمان وللراجل سهم؛ إذ على الفارس نفقه فرسه وقد يصيب الفرس عقر أو جرح فجُبر ذلك بزيادة سهمه.

ثمّ إنّ شأن نزول هذه الآية الغنائم الحربيّة إلاّ أنّ الآية عامّة تشمل الغنيمة الحربيّة وغيرها من الفوائد، كما سيأتي بيانه.

معنى الغنيمة

الثاني: قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٖ}.

في المفردات: «الغَنَم: معروف...، والغُنْم: إصابته والظفر به، ثمّ استعمل في كل مظفور به من جهة العِدى وغيرهم، قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٖ}، {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَٰلًا طَيِّبًا}((1))، والمغنم: ما يُغنم، وجمعه

ص: 85


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 69.

مغانم، قال: {فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}((1))»((2)).

ومادة (غ ن م) هي كل فائدة، والغنيمة الحربيّة إحدى مصاديقها، وقد مر مراراً أنّ شأن النزول لا يخصص عموم الآيات فكثير من الآيات نزلت في قضايا خاصّة مع كون التشريع فيها عاماً يشمل تلك القضية وغيرها فالعبرة بعموم اللفظ.

وجوب الخمس في كل فائدة

وقد تواترت الروايات عن الأئمّة (عليهم السلام) بأنّ الخمس يجب في كل فائدة وهي: الغنائم الحربيّة، والغوص، والمعدن، و الكنز، وأرباح التجارات والصناعات ونحوهما، مضافاً إلى الحلال المختلط بالحرام من غير تمييز، والأرض التي يشتريها الذمي من المسلم، والتفصيل يطلب من كتب الفقه، وورد في أحاديث غير الشيعة أيضاً الخمس في غير الغنائم فقد روت العامة عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: «وفي الركاز الخمس»((3))، والركاز هو المعدن والغوص، وهناك أحاديث أخرى في كتبهم تدل على أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخذ الخمس من المسلمين أيضاً((4)).

وقوله: {وَاعْلَمُواْ} عطف على قوله: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلَىٰكُمْ...} فالمعنى إن قاتلكم الكفّار فإنّ اللّه مولاكم ونصيركم عليهم وقد جعل لكم أربعة أخماس الغنائم، فالنصر منه والغنيمة لكم، ثمّ إنّ {فَاعْلَمُواْ} يراد به علماً يستتبع العمل.

ص: 86


1- ([1]) سورة النساء، الآية: 94.
2- ([2]) المفردات للراغب: 615.
3- ([3]) مسلم 5: 128.
4- ([4]) المصنف 4: 116؛ 9: 66؛ الدر المنثور 3: 187.

وقوله: {أَنَّمَا} هي (أنّ) الثقيلة و(ما) الموصولة، والعائد مقدّر لوضوحه، أي أنّ الذي غنمتموه، والخبر قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ...}، ودخلت الفاء على الخبر لأنّه بمعنى الجزاء أي (إن غنمتم فللّه خمسه).

وقوله: {مِّن شَيْءٖ} للتعميم أي كل شيء سواء كان قليلاً أم كثيراً، فلا يجوز منع خمس الشيء الجليل بذريعة عدم حاجة اللّه والرسول والإمام، كما لا يجوز منع خمس الشيء الحقير باعتبار قلّة فائدته أو عدم نفعه.

تقسيم الخمس على ستة أقسام

الثالث: قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.

الآية واضحة جدّاً في تقسيم الخمس على ستّة أقسام، فلا وجه لما زعمه البعض من تقسيمه إلى خمسة أو أربعة! وأضعف منه ما زعمه البعض من أنّ الخمس كلّه يصرف في سبيل اللّه! ولعمري ليس هذا مجرّد تفسير بالرأي فحسب بل هو غلط أيضاً، وإنّما ساقهم إلى ذلك انزعاجهم من سهم ذي القربى فأسقطه أوائلهم فأراد المتأخّرون منهم تبرير فعلتهم!

وقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} سهم اللّه تعالى يكون للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن بعده للإمام (عليه السلام) يصرفه في مصالح الدين ممّا يقرّب إلى اللّه تعالى، وغير خفي أنّ كل الوجود هو ملك اللّه تعالى ف{لِلَّهِ خُمُسَهُ} أريد به صرف سهم اللّه في تلك المصالح فهي ملكيّة اعتباريّة في طول ملكّيته تعالى الحقيقيّة.

وقوله: {وَلِلرَّسُولِ} تكرار اللام فيه وفي {وَلِذِي الْقُرْبَىٰ} للدلالة على ملكّيتهما له، وأمّا سائر الأصناف فهي تصرّف عليهم فإذا أعطوه ملكوه على الأصح لا أنّهم يملكونه قبل إعطائهم، فأمّا الرسول والإمام فهما يملكانه

ص: 87

بمجرّد الاغتنام، ثمّ إنّ سهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد ارتحاله يعطى للإمام (عليه السلام) .

وقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَىٰ} هو الإمام من أهل البيت (عليهم السلام) خاصّة ولذا أفرد (ذي) ولو أراد كل القرابات للزم أن يقول: (ذوي).

وقوله: {وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} من أقرباء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاصّة وهم بنو هاشم؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى حرّم عليهم زكاة الناس فعوّضهم عن ذلك بنصف الخمس، أمّا اليتامى فيشترط فيهم الفقر، وأمّا ابن السبيل فنقصان نفقته في سفره حتّى لو كان غنيّاً في بلده، وكل ذلك يستفاد من أحاديث الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، والتفصيل يطلب من كتب الفقه.

ثمّ إنّ خبر {فَأَنَّ لِلَّهِ...} مقدّر، أي حق أو ثابت.

الرابع: قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.

{إِن} شرطية ترتبط بقوله: {وَاعْلَمُواْ...} أي علمكم بأنّ الخمس لهؤلاء - علماً يستتبع العمل - إذا كنتم مؤمنين، وبعبارة أخرى: إنّ قوله: {وَاعْلَمُواْ...} قرينة على الجزاء المقدّر، فالمعنى إن كنتم آمنتم فاعلموا - علماً ملحوقاً بالعمل - أنّ الخمس لهؤلاء.

وقوله: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا} أي وإن كنتم آمنتم بما أنزلناه على محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم غزوة بدر، والظاهر أنه يراد به آيات من القرآن، ولعلّه آية الأنفال، فالمعنى إن كنتم آمنتم بالآية التي دلّت على أنّ الغنائم كلّها للّه وللرسول ولا شيء لكم منها فاعلموا أنّ اللّه خفّف عليكم وشرّع الخمس له

ص: 88

وللرسول وللإمام ولسائر الأصناف المذكورة وقد جعل لكم أربعة أخماس، فمن آمن بتلك الآية وهي خلاف مصلحته فلا جرم يؤمن بهذه أيضاً وفيها مصلحة للمجاهدين، وقيل: {مَا أَنزَلْنَا} يعني الملائكة أو النصر الذي أنزله اللّه!

وقوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} الفرقان هو ما يميّز الحق عن الباطل؛ لأنّهما كانا مختلطين فبالقتال تميّزا، وسيأتى قوله: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ}((1)).

وقوله: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} تفسير {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} بأنّه يوم الحرب بين جمع المؤمنين وجمع الكفّار في بدر.

الخامس: قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}.

كأنّه تعليل لتشريعه الخمس، أو تعليل لقوله: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا}، أو تعليل لكون ذلك اليوم يوم الفرقان، أو هو مقدمة للآيات التالية حيث بيان ما جرى في غزوة بدر فقدّم له مقدّمة بأنّ اللّه قادر على كل شيء ولذا قدّر ما قدّر وصنع ما صنع.

ص: 89


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 42.

الآيات 42-44

اشارة

{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَٰدِ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ 42 إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَىٰكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ 43 وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ 44}

42- ثمّ يفصّل اللّه في بيان يوم الفرقان، فقال: {إِذْ} الوقت الذي كنتم {أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} أي شفير الوادي الذي هو أقرب إلى المدينة وكان موقعاً لا ماء فيه وتسوخ فيه الأقدام {وَهُم} الكفّار {بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ} الجانب الأبعد عن المدينة {وَالرَّكْبُ} جمع راكب أي الجماعة الذين كانوا مع القافلة التجاريّة مكاناً {أَسْفَلَ مِنكُمْ} بجانب البحر خلف المشركين الذين جاؤوا ليدافعوا عن قافلتهم فكل الظواهر كانت بصالح المشركين، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أنتم والكفّار على القتال {لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَٰدِ} لم تخرجوا له حيث كنتم تخافونهم لكثرتهم ويخافونكم لشدّة بطشكم {وَلَٰكِن} اللّه جمعكم من غير ميعاد {لِّيَقْضِيَ} أي لينجّز وينفّذ {اللَّهُ أَمْرًا} هو نصركم وإعزاز الإسلام وأهله {كَانَ مَفْعُولًا} مفروغاً عنه ومحتوماً، وإنّما قضاه لإقامة الحجّة على الفريقين ف{لِّيَهْلِكَ} بالكفر أي ليضل {مَنْ

ص: 90

هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ} أي دليل واضح على بطلان كفره فتتم الحجّة عليه، {وَيَحْيَىٰ}بالإيمان أي يهتدي {مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ} أي برهان شاهَدَه لا يختلجه شك، {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ} لأقوال الفريقين {عَلِيمٌ} بنواياهم فلذا يجازي كل فريق بما يستحق.

43- وكان ذلك {إِذْ} أي في الوقت الذي {يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ} يُري اللّهُ الرسولَ رؤيا حول المشركين حيث رآهم {قَلِيلًا} فأخبر أصحابه بقلّة عدد المشركين {وَلَوْ أَرَىٰكَهُمْ كَثِيرًا} فأخبر أصحابه بكثرتهم {لَّفَشِلْتُمْ} أي لضعفتم عن قتالهم جُبناً وسوء رأي {وَلَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أي أمر القتال هل تقدمون على قتالهم أم لا وبذلك كانت تتفرق كلمتكم {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع، {إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي ما في القلوب لذا قدّر من الرؤيا ما فيه تقوية قلوبكم.

44- {وَ} اذكروا {إِذْ} الوقت الذي {يُرِيكُمُوهُمْ} يريكم اللّهُ المشركين {إِذِ الْتَقَيْتُمْ} في ساحة القتال {فِي أَعْيُنِكُمْ} عياناً {قَلِيلًا} لئلّا تهابوهم {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} كي يتجرّؤوا على الهجوم عليكم {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا} هو القتال بينكم {كَانَ مَفْعُولًا} مقدّراً حتماً، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} إذ كل الأمور بقضائه وقدره.

من مقدمات غزوة بدر

بحوث

الأوّل: هذه الآيات فيها بيان بعض تفاصيل غزوة بدر الكبرى ممّا يدل على أنّ اللّه تعالى نصر المسلمين مع أنّ موازين القوى كانت بصالح الكفّار لكن اللّه تعالى أراد أن يُعز الإسلام وأهله ويُذل الكفر وأهله فهيّأ الظروف

ص: 91

ليتقاتل الفريقان ولينهزم الكفّار.

ففي البداية وعد المسلمين إحدى الحسنيين - الظفر بالقافلة أو النصر في المعركة - ولو كان يقال لهم بأن عليهم القتال لما خرج أكثرهم، ثمّ أفلتت القافلة وجاء مشركو مكّة لحمايتها وكان موقعهم في الجانب الأفضل من الوادي حيث الماء وصلابة التربة، وكان موقع المسلمين في الجانب الآخر حيث الأرض رخوة ولا ماء فيها، كما أنّ عزيمة المشركين كانت قويّة لأنّ قافلتهم التجاريّة كانت خلفهم يريدون حمايتها، ثمّ إنّ اللّه أراد اقتحام الفريقين للقتال فلذا أرى رسوله في المنام أنّ المشركين قليلون فأخبر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المسلمين بذلك فاشتدّت عزيمتهم، ثمّ لمّا اصطف الجمعان أرى اللّه كلّاً منهم الآخر قليلاً ليقتحموا القتال، وإنّما قدّر اللّه ذلك كلّه لأنّه أراد تحقق القتال إعزازاً لدينه وخزياً للشرك وأهله، وهذا ما حصل حيث إنّ غزوة بدر كانت مفتاح ظفر المسلمين وانتشار الدين، وهكذا إذا أراد اللّه شيئاً هيّأ أسبابه ونفّذ ما أراده.

الثاني: قوله تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ...} الآية.

بيان تفاصيل المعركة لأجل اتّضاح نصر اللّه للمسلمين مع أنّ الظروف الحربيّة كانت بصالح المشركين من كل الجهات.

وقوله: {الْعُدْوَةِ} وهي جانب الوادي، حيث إنّ بدراً يقع في وادي فنزل المسلمون في إحدى الجانبين والمشركون في الجانب الآخر.

وقوله: {الدُّنْيَا} مؤنّث الأدنى أي الأقرب إلى المدينة حيث الموقع غير

ص: 92

مناسب لرخاوة الرمل وعدم الماء فأنزل اللّه المطر ليتطهّروا ولتصلب الأرضكما مرّ في الآية 11.

وقوله: {الْقُصْوَىٰ} مؤنّت الأقصى أي الأبعد عن المدينة وكان صلباً وفيه الماء.

وقوله: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} الركب جمع راكب مثل الصحب وصاحب، والمراد القافلة التجاريّة لقريش فقد أفلتوا إلى جانب البحر فصاروا خلف المشركين، فكانت عزيمة المشركين على القتال أشد وداعيهم للفرار أضعف، وكان من عادة بعض العرب إذا أرادوا الصمود في القتال أن يجعلوا أموالهم ونساءهم وذراريهم خلفهم لتشتد عزيمتهم، و{أَسْفَلَ} أي أبعد عنكم ونصبه على الظرفيّة أي مكاناً أسفل منكم.

وقوله: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} بيان أنّ اللّه هيّأ الظروف، ولولا ذلك لما تقاتل الفريقان حتّى لو اتفقوا وتواعدوا على ذلك؛ لأنّ كل طرف كان يهاب الطرف الآخر وذلك لكثرة عدد وعدّة الكفّار من جهة، ورعب الكفّار من المسلمين من جهة أخرى، وهذا ما حصل في غزوة بدر الصغرى حيث تواعد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبو سفيان يوم أحد على القتال في العام القابل في بدر، فلمّا كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكّة ثمّ ألقى اللّه الرعب عليه فرجع، ثمّ أرسل من يثبّط المسلمين فكرهوا الخروج فلم يخرج مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ القليل وكانوا سبعين نفراً فقط على ما قيل، فخرجوا حتّى وافوا بدراً ولم يلق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه أحداً من المشركين ببدر، ووافق السوق وكانت لهم تجارات ثمّ انصرفوا سالمين غانمين، وقد

ص: 93

مرّ ذكر هذه الغزوة في سورة آل عمران فراجع((1)).

وقوله: {لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَٰدِ} أي حدث خلاف وشجار في الخروج فلم تكونوا تخرجون ولا هم يخرجون.

وقوله: {وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ} أي ولكن اجتمعتم - أنتم وهم - في هذا المكان للقتال لأنّ اللّه قضاه قضاءً حتماً، والقضاء هو الحكم، والمراد هنا حكمه التكويني.

وقوله: {أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} أي كان من الحكمة تنفيذه وتحقيقه، فلذا كان أمراً مفروغاً عنه، واللّه تعالى قادر على ذلك من غير أسباب لكنّه سبحانه أراد أن يكون عبر الأسباب لذلك هيّأ مقدماته، و{أَمْرًا} هو إعزاز الإسلام وأهله وخزي الكفر وأهله.

الثالث: قوله تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ...} الآية.

أي إنّما كان ذلك أمراً مفعولاً مفروغاً عنه في حكمة اللّه لأنّه أراد الحجّة على المؤمنين والكافرين، فأمّا المؤمنون فليكون إيمانهم عن برهان واضح لا يختلجه شك، وأمّا الكفّار فلإتمام الحجّة عليهم ليكون بقاء من بقي على الكفر عن عناد بعد وضوح الحجّة، وقيل: الحياة والهلاك هنا بالمعنى الحقيقي، أي ليكون الجميع من الأموات والأحياء على بيّنة من أمرهم فلا يعيش إنسان ولا يموت إلاّ بعد إكمال الحجّة الواضحة عليه.

وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} بيان أنّ اللّه لا يخفى عليه أقوال ونوايا

ص: 94


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 530-531.

الفريقين، فليس ما أجراه في بدر إلاّ للحجّة على الفريقين مع علمه بذلك لأنّ الجزاء إنّما هو بالعمل والنيّة لا بالعلم.

الرابع: قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَىٰكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ...} الآية.

رؤيا رآها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في منامه فأخبر المسلمين بها رغّبتهم على الجهاد، حيث إنّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأى المشركين قليلين، ولو كان يراهم كثيرين فأخبر المسلمين به لخارت قواهم وضعف رأيهم وانشقّوا، ولا شك أنّ رؤياه صادقة لأنّ رؤيا الأنبياء وحي وهي جزء من أربعين جزءاً من النبوّة - كما في الخبر((1)) - وليس في رؤياهم أضغاث أحلام، ولا تلبيس الشيطان، وقد كان عدد الكفّار بين التسعمائة والألف وهو عدد قليل بالنظر إلى الواقع وإلى كون معنوياتهم ضعيفة والرعب في قلوبهم، فليس قلّة العدد بالقياس إلى عدد المجاهدين المسلمين كي يقال إنّهم كثير، بل قيل: إنّ تعبير الرؤيا تختلف عن دلالة اليقظة فمنها رموز تدل على أمور خلاف ما تدل عليه في اليقظة كالحزن تعبيره السرور، فما رآه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان تعبيره الكثرة لكنّهم لم يكونوا للرؤيا يعبرون فحملوها على ظاهرها.

وقوله: {لَّفَشِلْتُمْ} الفشل هو الضعف عن جبن.

وقوله: {لَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أي تفرّقت كلمتكم في أمر القتال، ولو كان يحصل ذلك لكانوا يتراجعون عن القتال أو كان يرجع الكثير منهم، وبذلك كانت الهزيمة، فالفشل يرتبط بالجانب النفسي، والنزاع يرتبط بالقول وما

ص: 95


1- ([1]) راجع بحار الأنوار 58: 175، 167؛ والأمالي للشيخ الصدوق: 64.

يترتّب عليه من الانسحاب.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} أي أنعم عليكم بالسلامة عن الفشل والتنازع فدخلتم القتال موحّدين ذوي معنويات عالية.

وقوله: {ذَاتِ الصُّدُورِ} أي القلوب لأنّها صاحبة الصدر، وحيث إنّ اللّه عالم بما في الصدور لذا قضى بهذه الرؤيا لتقوية قلوبهم لكيلا يفشلوا.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا...} الآية.

هذا بيان حال الاصطفاف للقتال، حيث إنّ اللّه تعالى رغّب كلا الفريقين إلى اقتحام القتال لئلّا يجنحوا إلى السلم، وكان ذلك بأن رأى المسلمون الكفّار قليلاً فعزموا على جهادهم، ورأى الكفّار المسلمين قليلاً فتجرّؤوا على قتالهم؛ وذلك إمّا بسبب طبيعي كتعرجات وتلال بينهما تحجب الرؤية، أو بسبب نفسي لأنّ الحالات النفسيّة تؤثّر في الحواس الظاهرة، أو بسبب ظاهري كحجب مقدّمة الجيش مؤخّرتها، أو بسبب غيبي بالتصرّف في أعين الفريقين، وقد مرّ تفصيل ذلك في الآية 13 من سورة آل عمران((1)).

وقوله: {فِي أَعْيُنِكُمْ} هذا لبيان أنّه لم يكن في المنام بل في اليقظة، وقد قال تعالى في سورة آل عمران: {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}((2))، وهو إمّا بمعنى يرى المسلمون الكفّار ضعفي المسلمين مع أنّهم كانوا ثلاثة أضعاف، أو بمعنى يرى الكفّار المسلمين ضعفين وحينئذٍ فالتقليل قبل

ص: 96


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 49-50.
2- ([2]) سورة آل عمران، الآية: 13.

الاقتحام في الحرب ليتجرّؤوا والتكثير بعد الاقتحام ليخافوا فينهزموا.وقوله: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} هذا ليس تكراراً لما في الآية 42، بل الأمر المفعول هنا هو القتال، وهناك هو إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الكفر وأهله، والحاصل: أنّ اللّه قضى قضاءً حتماً بقتال الفريقين ليتنجّز ما قضاه قضاءً حتماً بنصر الإسلام وهزيمة الكفر.

وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي كل الأمور بقضائه وقدره فإذا أراد شيئاً تحقّق.

ص: 97

الآيات 45-48

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 45 وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ 46 وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ 47 وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ أَعْمَٰلَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ 48}

ثمّ يرشد اللّه المؤمنين إلى كيفيّة الجهاد ليكون النصر حليفهم، فقال:

45- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ} في الحرب {فِئَةً} جماعة كافرة أو باغية {فَاثْبُتُواْ} ولا تنهزموا، {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا} ليكون الجهاد في سبيله {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تظفرون بالنصر والثواب.

46- {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ} في أحكامه، {وَرَسُولَهُ} أطيعوه في أوامره الحربيّة وغيرها، {وَلَا تَنَٰزَعُواْ} بأن تختلفوا حول لقاء العدو {فَتَفْشَلُواْ} لأنّ النزاع سبب ضعف الرأي والجبن وانهيار الجبهة الداخليّة {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي قوّتكم ودولتكم، {وَاصْبِرُواْ} على ما يصيبكم من المكاره {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ} معيّة حفظ ونصرة.

47- {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم} وهم مشركو مكّة خرجوا

ص: 98

منها لقتال المسلمين {بَطَرًا} وهو تجاوز الحد في المرح بسبب كثرةالنعمة والغفلة عن شكرها {وَرِئَاءَ النَّاسِ} ليمدحهم الناس على شجاعتهم وإطعامهم الطعام، {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يمنعون الناس عن دين اللّه تعالى {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} بعمله وقدرته فيقدّر لهم ما يريد ويجازيهم بسوء أعمالهم.

48- {وَ} اذكر {إِذْ} الوقت الذي {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ أَعْمَٰلَهُمْ} بقتال المسلمين حيث وسوس إليهم ليقتحموا الحرب {وَقَالَ} خادعاً لهم: {لَا غَالِبَ لَكُمُ} لقوّتكم وكثرتكم {الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} أي لا أحد من الناس يغلبكم {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} أي مجير لكم وأنتم في ذمّتي لا أدع أحداً ينالكم بسوء، {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} أي تلاقت الفئة المسلمة والفئة الكافرة بأن رأى بعضهم بعضاً فّي ساحة القتال {نَكَصَ} أحجم فرجع {عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} أي رجع القهقرى منهزماً، {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ} أي زايلتكم فلا جوار ولا ذمة بيني وبينكم {إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ} حيث رأى الملائكة وجبرئيل فعلم أنّ الهزيمة لاحقة بالمشركين {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} بأن يعذّبني على أيدي الملائكة فيصيبني مكروه وشين {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} جزاءً على الأعمال، فالجزاء وإن كان يساوي الجريمة لكنّه شديد لا طاقة لهم به.

الأوامر والنواهي التي توجب النصر

بحوث

الأوّل: تتضمّن هذه الآيات مجموعة من الأوامر والنواهي الحربيّة للمسلمين لكي ينتصروا في المعركة، فإنّ اللّه ناصرهم بشرط أن ينصروه بالالتزام بما يقوله وهذا هو التوكّل بأن يعمل الإنسان بما عليه ويعتمد على اللّه تعالى في ما هو خارج عن قدرته، فالأوامر هي: الثبات وذكر اللّه وإطاعة اللّه والرسول

ص: 99

والصبر، والمناهي هي: النزاع والبطر والرياء والصد عن سبيل اللّه والانخداع بتزيين الشيطان، وبالالتزام بالأوامر والنواهي يكون النصر.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ...} الآية.

(الفئة) هي الجماعة والمراد الذين خرجوا لقتال المؤمنين سواء كانوا كفّاراً أم بغاة.

وقوله: {فَاثْبُتُواْ} أي لا تتراجعوا منهزمين بل استقيموا.

وقوله: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا} إذ في وقت الغضب - والحرب تثير أشد الغضب - يخرج الإنسان عن طوره فيجور ويظلم، أو إذا رأى في نفسه قوة يرائي الناس، لكنّه إن كان في ذكر اللّه قلباً ولساناً فإنّه يقاتل في الإطار المشروع فلا يمثّل ولا يقتل الصبية والنساء وغير ذلك من البطش والتنكيل ولا يرائي، مضافاً إلى أن ذكر اللّه يوجب اطمئنان القلب، ودعاءه قد يستجاب فينزل اللّه النصر. و{كَثِيرًا} كأنّه أريد به دائماً في كل الخطوات؛ لأنّ الكثير قد يكون بمعنى الجميع كما أنّ القليل قد يراد به العدم.

وقوله: {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الفلاح هو الفوز والظفر، فكأنّ المراد أنّ الثبات والذكر يوجبان ظفركم على عدوّكم ونيلكم الثواب.

الثالث: قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...} الآية.

إطاعة اللّه تعالى والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل أوامرهما ونواهيهما، وخاصّة أحكام اللّه في القتال وأوامر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحربيّة، مثلاً نهى اللّه عن الانهزام

ص: 100

وأمر الرسول الرماة بالبقاء في موقعهم يوم أ ُحد فلم يطع أكثر الرماة أمر الرسول ولم يطع أكثر المسلمين أمر اللّه، فكانت الهزيمة.

وقوله: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ} النزاع هو المخاصمة بحيث يريد كل فريق الوصول إلى مبتغاه بأيّ ثمن، وأمّا تداول الرأي والمشورة وترجيح رأي على آخر فليس من النزاع في شيء، والمراد هنا النزاع في قتال العدو أو في كيفيّة قتاله.

وقوله: {فَتَفْشَلُواْ} أي تضعفوا عن جُبن، فإنّ النزاع يوجب انهيار المعنويّات وتشتّت الأفكار والأفعال ويوغر الصدور.

وقوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي قوّتكم ودولتكم، وأصل الريح بمعنى الهواء الجاري، والاستعمال هنا مجازي أو من باب التشبيه.

وقوله: {وَاصْبِرُواْ} على المكاره، و(الصبر) غير (الثبات)؛ لأنّ الثبات هو عدم الانهزام فقد يكون معه مكروه فيصبر عليه وقد لا يكون.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ} المعيّة هنا بمعنى الحفظ والنصرة والثواب.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ...} الآية.

بيان حال المشركين والتي أدّت إلى هزيمتهم، ونهي المسلمين عن مثلها، وهي البطر والرياء والصد عن سبيل اللّه تعالى والانخداع بتزيين الشيطان، وكأنّ الآيات تبيّن عمل المسلمين والكفّار، فالمسلمون يذكرون اللّه كثيراً والمشركون يراءون الناس، وهؤلاء يطيعون اللّه ورسوله وأولئك زيّن لهم الشيطان أعمالهم فاتبعوه، وهؤلاء يَثبتون وأولئك يصدّون عن

ص: 101

سبيل اللّه، وهؤلاء يصبرون على المكروه وأولئك أبطرتهم النعمة.

وقوله: {بَطَرًا} مصدر بمعنى الفاعل وهو حال أي خروجهم في حال كونهم بطرانين، و(البطر) هو شدّة المرح الناشئ عن النعمة والغفلة عن شكرها، حيث خرج المشركون مع المغنيّات والمعازف والخمور، أرادوا أن يسكروا بالخمر فشربوا كأس المنايا، وأرادوا أن تعزف لهم القيان فناحت عليهم النوائح.

وقوله: {وَرِئَاءَ النَّاسِ} حال ثانية أي حال كونهم يراؤون الناس شجاعتهم وكرمهم بإطعام الطعام؛ لأنّ بدراً كانت سوقاً تجاريّاً يحضرها العرب في الموسم فأرادوا أن ينتصروا ويطعموا ليراهم أهل الموسم وليسمع عنهم أهل الآفاق، فالرياء هنا بمعناه اللغوي، وليس بالاصطلاح الشرعي الذي هو من مصاديق المعنى اللغوي.

وقوله: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} حال ثالثة؛ لأنّهم أرادوا القضاء على الإسلام والمسلمين.

وقوله: {مُحِيطٌ} إحاطة علم وقدرة، فلم يخرجوا عن علمه وقدرته وإنّما أمهلهم ليتوب من يتوب منهم أو يزداد المعاند إثماً.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ أَعْمَٰلَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ...}.

تزيين الشيطان لهم عبر وسوسته في صدروهم تارة، وبتمثّله بصورة سراقة بن جعشم الكناني وإغوائهم بكلامه تارة أخرى كما في الخبر((1))، ولا

ص: 102


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 349، عن أمالي الشيخ الطوسي: 176؛ ومجمع البيان 4: 678-679.

محذور في تمثّل الشياطين أو الملائكة بصورة بشر كما تمثّل هاروت وماروت بصورة بشرين، والشيطان بصورة سراقة أو غيره؛ لأنّ الشياطين والملائكة أجسام لطيفة قد تتكثّف إذا أقدرهم اللّه على ذلك.

وقوله: {زَيَّنَ لَهُمُ...} أي حسّنها في نظرهم، فقد يعلم الإنسان قبح شيء بفطرته أو عقله إلاّ أنّ الكلام المُنمّق وإثارة الهوى والشهوات قد يُريه القبيح حسناً، قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا}((1)).

وقوله: {أَعْمَٰلَهُمْ} الباطلة وخاصّة مقاتلة المسلمين.

وقوله: {وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ...} هذا كلام يتطابق مع الهوى فهو نفخ فيهم وبيان كثرتهم وقوّتهم، والنفوس يستهويها أمثال هذا الكلام.

وقوله: {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} أي مجير لكم وإنّكم في ذمّتي، قيل: إنّ بعض المشركين كان يهاب قبيلة كنانة بأن ينحازوا إلى المسلمين، فلذا تمثل لهم الشيطان بصورة سراقة وهو من كنانة فأجارهم بأن أدخل المشركين في ذمّته فبذلك أمنوا جانب كنانة؛ لأنّ العرب كانت تلتزم بجوار كبرائها وذمّتهم.

وقوله: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} أي تلاقوا في ساحة القتال بحيث رأى بعضهم بعضاً.

وقوله: {نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} رجع القهقرى هارباً منهزماً، و(النكص) هو الإحجام عن جبن، و(العقب) نهاية القدم من خلف، والمنهزم في بداية انهزامه يرجع القهقرى خوفاً من أن يلحقه الطلب ثمّ لمّا يطمئن يولّي وجهه

ص: 103


1- ([1]) سورة فاطر، الآية: 8.

ويدبر.

وقوله: {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ} البراءة هي التباعد عن الشيء ومزايلته، فالشيطان غدر بهم ورجع عمّا زيّنه وضمنه لهم، وإنّما تبرّأ منهم لأنّه أراد أن لا يصيبه ما أصابهم من عذاب اللّه الدنيوي، حيث إنّه لمّا رأى الملائكة وجبرئيل علم بالعذاب وقد كان يعلم بأنّه لا يموت لأنّ اللّه قد وعده الإمهال إلاّ أنّه خاف من أن يضربه جبرئيل بضربة يشينه منها إلى يوم القيامة كما في الخبر((1)).

وقوله: {إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ} هذا تعليل لبراءته منهم، فقد رأى الملائكة ولم يكن المشركون قد رأوهم.

وقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} خوفه من عذابه بأيدي الملائكة وليس خوفاً من المعصية، فالمعنى إنّي أخاف أن يصيبنى مكروه بأمر اللّه تعالى.

ص: 104


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 284.

الآيات 49-54

اشارة

{إِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 49 وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ 50 ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلْعَبِيدِ 51 كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ 52 ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 53 كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَٰلِمِينَ 54}

49- {إِذْ} أي اذكر الوقت الذي {يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ} الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شك وهم الذين أسلموا من غير يقين بالإسلام ولا إبطان كفر: {غَرَّ} خدع {هَٰؤُلَاءِ} المسلمين {دِينُهُمْ} حيث خرجوا بعدد وعُدّة قليلة لقتال المشركين الذين هم أضعافهم عدداً وأكثر منهم عُدّة، لكن جوابهم أنّ هؤلاء متوكّلون {وَمَن يَتَوَكَّلْ} أي يعتمد ويكل أمره {عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ} حسبه لأنّه سبحانه {عَزِيزٌ} فلا يُغلب {حَكِيمٌ} فلا يخذل المسلمين بل ينصرهم.

50- وكانت النتيجة غلبة المسلمين وهلاك رؤوس الكفر {وَلَوْ تَرَىٰ} «لو» للتمني أي ليتك أيّها الرائي كنت تشاهد {إِذْ يَتَوَفَّى} يقبض أرواح

ص: 105

{الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَٰئِكَةُ} ملك الموت وأعوانه حال كونهم {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ} كناية عن شمول العذاب لهم {وَ} يقولون لهماستخفافاً وإذلالاً: {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} المحرق لأنّ الضرب كان بمقامع من نار.

51- ويقال لهم أيضاً: {ذَٰلِكَ} العذاب {بِمَا قَدَّمَتْ} أي بسبب الأعمال التي كسبتها {أَيْدِيكُمْ} من الكفر والعصيان {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٖ} بذي ظلم {لِّلْعَبِيدِ} عبيده من الناس.

52- كانت عادة كفّار قريش {كَدَأْبِ} أي مثل عادة {ءَالِ فِرْعَوْنَ} أي فرعون وآله {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} سائر الأمم الكافرة حيث {كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} التي أنزلها على أنبيائه (عليهم السلام) {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أي عاقبهم {بِذُنُوبِهِمْ} أي بسببها فأولئك بالغرق وسائر أنواع الإهلاك وهؤلاء بالسيف والأسر في يوم بدر، حيث {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} لا يضعف عن أخذهم {شَدِيدُ الْعِقَابِ} إذا أخذ، فليس عقابه يسيراً كي لا يخشوا منه.

53- {ذَٰلِكَ} الأخذ هو من سنّة اللّه تعالى التي أجراها في جميع الأمم {بِأَنَّ} أي بسبب أن {اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا} مبدّلاً {نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ} إلى نقمة بالعذاب {حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من الحسن إلى السيّء، فغيّر المشركون صلة الرحم إلى معاداة الرسول والمسلمين ومحاربتهم، وبدّلوا الكف إلى تكذيب آيات اللّه وغير ذلك وهكذا آل فرعون وغيرهم، {وَ} بسبب {أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوالهم {عَلِيمٌ} بنواياهم فيعلم التغيير من عدمه.

54- فتغيير اللّه نعمة قريش لمّا اعتادوا على التكذيب {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَ} سائر الأمم {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} حيث {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ} فكفروا

ص: 106

بنعمته {فَأَهْلَكْنَٰهُم} أهلكنا كفّار قريش والكفّار الذين من قبلهم {بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَاءَالَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ} من كفّار قريش والذين من قبلهم وآل فرعون {كَانُواْ ظَٰلِمِينَ} فلم يكن أخذهم إلاّ بظلمهم واستحقاقهم للأخذ.

المنافقون في غزوة أحد

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ...} الآية.

بعد ذكر الكفّار يأتي ذكر أهل النفاق وأهل الشك، وظاهر السياق يقتضي وجود الفريقين حين القتال حيث لمّا رأوا كثرة عدد المشركين وعُدّتهم زعموا بأن لا طاقة للمسلمين على قتالهم وأنّهم قد خُدعوا حيث وقفوا هذا الموقف، ومن ذلك يتّضح أنّ زعم أنّ هذا قول المنافقين الذين كانوا في المدينة! لا يلائم سياق الآيات، وكذا زعم بعضهم أنّ المنافقين هم المشركون! ولعلّ هذه التوجيهات وأمثالها لأجل تنزيه جميع من حضر بدراً من المسلمين عن النفاق!

لكن اللّه يبيّن أنّه عزيز حكيم فينصر من يتوكّل عليه بعزّته وحكمته، وهذا ما تحقق حيث انهزم المشركون.

وقوله: {يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ} المنافق هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ولم يكن في جيش المشركين منهم أحد إذ مع قوّة المشركين وعدم سكنى من معهم في المدينة لم يكن هناك وجه معقول للنفاق في صفوفهم، وهذا يدل على أنّ بعض الذين كانوا في معسكر المسلمين كانوا من المنافقين والذين خرجوا بطمع غنيمة القافلة التجاريّة فاستقر الحال إلى القتال.

ص: 107

وقوله: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شك وعدم يقين بالإسلام، قيل:«إنّهم فتية من قريش أسلموا بمكّة واحتبسهم آباؤهم، فخرجوا مع قريش يوم بدر»((1))، ويمكن أن يكون بعض أهل الشك في صفوف المسلمين أيضاً، ثمّ إنّه قد مر في سورة المائدة الآية 52 أنّ مرض القلب يراد به النفاق إلاّ لو عطف على النفاق فيراد به الشك((2)).

وقوله: {غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ} الغرور هو جهل بخداع، أي زعموا أنّ الإسلام خدع هؤلاء وأغفلهم عن أن لا يعرضوا أنفسهم للإبادة.

وقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ...} جوابهم بأنّ المسلمين ليس مخدوعين، بل دينهم أعزّهم لأنّه وجّههم إلى اللّه تعالى فتوكّلوا عليه، واللّه تعالى ينصر من نصره لأنّه عزيز لا يغلبه أحد، وحكيم فيضع الأمور في مواضعها، ومن ذلك نصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة التي لا تعقل، فقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} من وضع السبب مكان المسبب.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}.

كأنّه بيان نتيجة توكّل المسلمين على اللّه العزيز الحكيم وتأكيد على أنّ دينهم لم يغرّهم بل أعزّهم.

وقوله: {وَلَوْ تَرَىٰ} «لو» للتمني ولا جزاء لها، وقيل: جزاؤها مقدّر أي لرأيت أمراً فظيعاً ونحو ذلك، والمخاطب ب{تَرَىٰ} عموم الناس أي ترى

ص: 108


1- ([1]) مجمع البيان 4: 681.
2- ([2]) راجع التفكر في القرآن، سورة المائدة: 188.

أيّها الرائي، أو المخاطب هو رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باعتباره قائد المسلمين فكأنّهأريد المسلمون عبر خطاب قائدهم.

وقوله: {إِذْ يَتَوَفَّى} الوفاة هو القبص الكامل غير منقوص، والمراد الموت بواسطة قبض روحهم.

وقوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ} يضربونهم بمقامع نار من حديد، والمراد إحاطة العذاب بهم، أو ضرب الوجوه والأدبار لإذلالهم لأنّ الوجه محل الكرامة فضربه خزي لهم، وضرب الدبر استخفاف بهم.

وقوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} عطف على {يَضْرِبُونَ} بإضمار القول أي يضربون ويقولون لهم ذوقوا، وفي هذا القول مزيد إذلال لهم.

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلْعَبِيدِ}.

تعليل لضربهم وعذابهم وأنّه لا زيادة فيه بل بمقدار استحقاقهم.

فقوله: {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} بيان لسبب أصل العذاب، و(الباء) سببّية، و(ما) موصولة، والعائد محذوف، وتخصيص الأيدي بالذكر لأنّ غالب أعمال الإنسان بيديه فتمّ تعميمه لأعمال القلوب والجوارح، والإنسان يقدّم عمله إلى الآخرة فيرسله أوّلاً ثمّ يلتحق هو به، فالمعنى هذا عقاب أعمالكم وهي الكفر والعصيان التي قدّمتموها إلى الآخرة فتجسّمت لكم.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ...} كأنّه بيان أنّ شدّته ليس ظلماً بل هو بمقدار ما يستحقّونه، أو تتمة التعليل أي هذا العذاب هو ما قدّمتموه وليس عذابكم به ظلماً لأنّ اللّه ليس بظلّام للعبيد.

ص: 109

و(ظلّام) قيل: هو للنسبة وليس للمبالغة مثل نجّار وحدّاد وتمّار، وقيل: هو للمبالغة، وفي التقريب: «ومن المحتمل أن تكون مبالغة؛ وذلك لإفادةأنّه سبحانه لو كان ظالماً لكان كثير الظلم؛ لأنّ كل صفة تصح فيه تعالى لا بدّ وأن تبلغ شأناً كثيراً، فنفي المبالغة نفي للأصل»((1))، وفي الكشّاف: «أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذّب بمثله ظلّاماً بليغ الظلم متفاقمه»((2))، وقيل: لأجل كثرة العبيد فحتّى لو كان ظلم كل واحد قليلاً لكان المجموع كثيراً جداً، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كثيراً.

الرابع: قوله تعالى: {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ...} الآية.

بيان أنّ كفر هؤلاء ليس أمراً جديداً كي يقال: لو كان محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسولاً وأراهم الآيات لما كذّبوه! فيقال: إنّ الكفر بالآيات عادة الأمم السابقة، وأنّ اللّه أخذ الأمم السابقة بأليم العذاب، فليس أخذه كفّار قريش إلاّ استمراراً لما صنعه بأولئك؛ وذلك لأنّ اللّه قوي وعقابه شديد لا يستهان به.

وقوله: {كَدَأْبِ} خبر لمبتدأ مقدّر أي دأب مشركي قريش كدأب أولئك، و(الدأب) العادة الدائمة المستمرّة الاختياريّة، قيل: «إن العادة على ضربين اختيار واضطرار، ... والدأب لا يكون إلاّ اختياراً»((3)).

وقوله: {ءَالِ فِرْعَوْنَ} أي فرعون وآله، و(الآل) هم الخواص في النسب، ولعلّ ذكر خصوص آل فرعون ثمّ التعميم لكل الأمم الكافرة لأجل شباهة

ص: 110


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 345.
2- ([2]) الكشّاف 2: 229.
3- ([3]) معجم الفروق اللغوية: 346.

مشركي قريش بهم من جهة قرابة بعضهم بعضاً في النسب،ومن جهة كون الرئاسة لهم كآل فرعون، أو لأنّهم خرجوا من ديارهم في طلب موسى (عليه السلام) وقومه وهؤلاء خرجوا لمحاربة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من ديارهم، أو لأنّ اللّه أخذ أولئك رغم قوّتهم وعدّتهم بالإعجاز حيث أغرقهم، وهكذا أخذ هؤلاء بالنصر الذي أنزله مع الملائكة رغم كثرة عددهم وعدّتهم.

وقوله: {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} الظاهر رجوع الضمير إلى مشركي مكّة، ويحتمل رجوعه إلى آل فرعون، والأوّل أنسب.

وقوله: {كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} فلم يكن كفراً عن غفلة بل رأوا الآيات وعاندوا في كفرهم.

وقوله: {بِذُنُوبِهِمْ} بيان سبب الأخذ أي عدلاً منه لأنّه عاقبهم على ما اقترفوه من جرائم.

وقوله: {قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} بيان عدم عجزه تعالى عن الأخذ لأنّه قوي وعدم عجزه عن معادلة عقابهم بجريمتهم فهو شديد العقاب، وفيه تحذير لمن يزعم أنّ عقابه هيّن يمكن تحمّله كما زعمت اليهود حيث قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}((1)).

سبب عدم تغيير النعمة إلى نقمة

الخامس: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ...} الآية.

بيان لسنّة عامّة من سنن اللّه تعالى التي لا تحويل لها وتجري على جميع الأمم، وهي أنّ النعم التي أنعم اللّه بها عليهم لا يبدّلها إلى نقمة لطفاً منه

ص: 111


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 80.

ورحمة، إلاّ حين كفرانها فإنّ اللّه حينئذٍ يسلبها منهم كما قال: {لَئِن شَكَرْتُمْلَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}((1)).

وكان مشركو مكّة قبل البعثة يصلون الرحم ولم يكونوا يكذّبون بآيات اللّه بل كانوا يفتخرون بأمثال إهلاك أصحاب الفيل ونحو ذلك فكان اللّه قد أنعم عليهم بالأمن والرفاه، فلمّا أرسل اللّه رسوله محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليهم قطعوا رحمه وكذّبوا بآيات اللّه، فأخرج اللّه رسوله منهم، ثمّ عذّبهم بسيوف المسلمين وبالملائكة يوم بدر كآل فرعون.

وبذلك يتّضح جواب سؤال: أنّ قريش كانت كافرة عاملة بالقبائح فكيف أنعم اللّه عليهم ولم يغيّر النعمة إلاّ بعد تكذيبهم رسول اللّه محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ إذ الجواب: إنّ بعض الحالات الحسنة للكفّار وحتّى بعض الحالات غير السيّئة تقتضي نعمة عليهم بلطف اللّه وكرمه.

وقيل: إنّ اللّه يبتدأ الجميع بالنعمة فإن استمروا على ما هم عليه لا يسلبها منهم، وإن غيّروا سلبها منهم، فتارة هم يتحوّلون من الحسن إلى السيّء، وتارة من السيّء إلى الأسوء! وما ذكرناه أظهر.

وتبديل النعمة قد يكون بطريقة غيبيّة، وقد يكون بطريقة طبيعيّة، وقد يكون بهما معاً، مثلاً المجتمع الذي ينعم بالأمن إذا بدأوا بالظلم والقتل والسرقة ينعدم الأمن فيهم، وقد يسلّط اللّه عليهم ظالماً يسومهم سوء العذاب عقوبة لهم، ومشركو مكّة لمّا غيّروا سلب اللّه منهم نعمة الأمان وحرّية التجارة وأهلك جمعاً منهم وأسر آخرين بأيدي المسلمين، قالسبحانه:

ص: 112


1- ([1]) سورة إبراهيم، الآية: 7.

{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}((1)).

وحيث إنّ مورد هذه الآية تبديل النعمة إلى نقمة بسوء عملهم لذلك خص الكلام بها، وإلاّ فالسنّة عامّة تشمل هذا التغيير وكذا تغيير المعصية إلى الطاعة فيبدّل اللّه العذاب إلى نعمة كما حصل لقوم يونس حيث تضرّعوا فرفع اللّه العقاب عنهم، والآية العامّة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}((2)).

وقوله: {لَمْ يَكُ} أي سنته جرت على ذلك لأنّ ذلك متطابق مع الحكمة.

وقوله: {مَا بِأَنفُسِهِمْ} سواء نواياهم أم أعمالهم.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تعليل ثان في طول التعليل الأوّل، أي أخذهم بذنوبهم لأنّه عالم بهم وبأفعالهم فكأنّ المعنى أذنبوا فعلم بهم فأخذهم، ولعلّ ذكر السمع هنا لأجل أنّ تكذيبهم باللسان عادة مضافاً إلى القلوب، فهو تعالى يسمع ما قالوا ويعلم بما نووا.

السادس: قوله تعالى: {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ...} الآية.

هذا وإن كان بظاهره تكراراً لما في الآية 52، إلاّ أنّ اختلاف الغرض يرفع التكرار، وبحسب اختلافه تغيّرت بعض الكلمات، فالأوّل في العقاب مع عدم ظلم اللّه لهم فيه، والثاني في سلب النعمة مع ظلمهم لأنفسهم، فحيث ذكر أوّلاً {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلْعَبِيدِ} ذكر

ص: 113


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 52.
2- ([2]) سورة الرعد، الآية: 11.

له مثالاً من آل فرعون وغيرهم حيث كفروا وأذنبوا فعاقبهم اللّه بذنوبهم من غير ظلم لهم، ثمّ لمّا ذكر السنة العامّة {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً...} ذكر له مثالاً من آل فرعون و غيرهم حيث سلب اللّه النعمة وأبدلها إلى النقمة، ولذا ذكر في الأولى {كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} وفي الثانية {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ}؛ لأنّ الرب هو المصلح للشأن فأنعم عليهم بالآيات فكذّبوها وذلك كفرانهم للنعمة فسلبها منهم.

والحاصل: أنّ الآية الأولى مثال للعقاب من غير ظلم من اللّه لهم، والآية الثانية مثال لسلب النعمة وتبديلها إلى نقمة بسبب ظلمهم لأنفسهم، واللّه العالم.

وإذا فرض أنّه تكرار فلحكمة ففي التقريب: «وإنّما كرّر لتأكيد أنّ الحالة هي الحالة، فإنّ كثيراً من الناس لا يصدّقون أنّ ما جرى في الأمم السابقة تجري في هذه الأمّة، ولذا يحتاج الأمر إلى تركيز وتقرير، وذلك لا يكون إلاّ بالتكرار والتذكير مرّة فمرّة»((1))، وفي مجمع البيان: «وإنّما كرّر قوله: {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ} لأنّه أراد بالأوّل بيان حالهم في استحقاق عذاب الآخرة، وفي الثاني بيان استحقاقهم لعذاب الدنيا. وقيل: إنّ في الأوّل تشبيه حالهم بحال أولئك في التكذيب، وفي الثاني تشبيه حالهم بحالهم في الاستئصال. وقيل: إنّ الأوّل في أخذهم بالعذاب، والثاني في كيفيّة العذاب، وقيل: إنّ آل فرعون كانوا على أحوال مختلفة في المعصية، فبيّن مشاركة هؤلاء إيّاهم في تلك الأحوال»((2)).

ص: 114


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 347.
2- ([2]) مجمع البيان 4: 685.

وقوله: {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ} هذا منهم كفران النعمة؛ لأنّ الآيات نعمة لهم كان عليهم أن يشكروها بالتصديق بها وبالعمل على مقتضاها، ولذا قال: {رَبِّهِمْ}.

وقوله: {فَأَهْلَكْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ} كأنّ ذكر الذنوب للتعميم لتشمل تكذيب الآيات وغيرها، فسائر الذنوب ما كانت سبباً للإهلاك إلاّ أنّه لمّا انضم التكذيب إليها أوجبت جميعها الإهلاك.

وقوله: {وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ} ذكر الخاص بعد العام حيث ذكر في التكذيب آل فرعون بالخصوص ثمّ ذكر تكذيب سائر الأمم، فكذلك في العذاب ذكر عذاب سائر الأمم ثمّ عذاب آل فرعون.

وقوله: {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَٰلِمِينَ} بيان أنّ العذاب كان باستحقاقهم لظلمهم أنفسهم، وذلك بعد أن نفي الظلم عن اللّه سبحانه في الآيات السابقة.

ص: 115

الآيات 55-59

اشارة

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 55 الَّذِينَ عَٰهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٖ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ 56 فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 57 وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ 58 وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ 59}

بعد ذكر المشركين والمنافقين يذكر اللّه تعالى أهل الكتاب في حربهم مع المسلمين، فقال:

55- {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ} أسوء الموجودات الحيّة {عِندَ اللَّهِ} أي في حكمه تعالى {الَّذِينَ كَفَرُواْ} بعناد وإصرار {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} لا يتوقّع إيمانهم أصلاً.

56- وهم {الَّذِينَ عَٰهَدتَّ مِنْهُمْ} أي من الكفّار و«من» للتبعيض {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} لا يفون به {فِي كُلِّ مَرَّةٖ} فكلّما عاهدوا نقضوه {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} لا يخافون اللّه أو لا يخافون عاقبة غدرهم، قيل: هم يهود بني قريظة نقضوا العهد ثمّ جدّد المسلمون العهد معهم فنقضوه مرّة أخرى.

57- {فَإِمَّا} «إن» شرطيّة و«ما» للتأكيد {تَثْقَفَنَّهُمْ} أي ظفرت بهم {فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم} أي فرّق بسبب التنكيل بهم {مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي سائر الكفّار لأنّ عقوبتهم لنقضهم العهد عبرة لسائر الكفّار وللمعاهدين منهم

ص: 116

{لَعَلَّهُمْ} أي لعلّ من خلفهم {يَذَّكَّرُونَ} يتّعظون فيعلمون أنّ نقض العهد عقوبته شديدة.

58- {وَإِمَّا} «إن» شرطية «وما» للتأكيد {تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} أي نقضاً للعهد حيث ظهرت أماراته وعلائمه {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ} أي أخبرهم بانتهاء العهد معهم {عَلَىٰ سَوَاءٍ} أي بالعدل، فكما نقضوا عهدهم فاترك عهدك معهم لكن مع إخبارهم بذلك لئلّا تباغتهم فيعتبروه خيانة منك ف{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} أي يعاقبهم.

59- ولمّا أمر اللّه بالحرب وعد بالنصر فقال: {وَلَا يَحْسَبَنَّ} لا يظن {الَّذِينَ كَفَرُواْ} بأنّهم {سَبَقُواْ} فاتوا من أن يظفر بهم؛ إذ {إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} أي لا يجدون المسلمين عاجزين عن الظفر بهم؛ وذلك لأنّ اللّه ناصرهم، قيل: نزلت في المنهزمين من المشركين لمّا أرادوا جمع فلولهم والرجوع لقتال المسلمين.

أهل الكتاب الذين غدروا بالمسلمين في غزوة بدر

بحوث

الأوّل: لمّا ذكر اللّه تعالى المشركين المحاربين ثمّ المنافقين عطف عليهم ذكر أهل الكتاب من اليهود الذين عاهدوا المسلمين فغدروا بهم، وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة.

فأمّا بنو قينقاع فقد ظاهروا المشركين يوم بدر فلمّا ظفر المسلمون بالمشركين خرجوا إليهم وحاصروهم فنزلوا على حكم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأمرهم بالخروج من المدينة فخرجوا إلى الشام بنسائهم وذراريهم.

وأمّا بنو النضير فأرادوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأمرهم بالجلاء من المدينة

ص: 117

فأبوا إلى أن اضطروا إلى ذلك.

وأمّا بنو قريظة فنقضوا العهد حيث أعانوا مشركي مكّة بالسلاح، ثمّ اعتذروا بأنّهم نسوا العهد، فجدّد المسلمون عهدهم، لكنّهم نقضوه مرّة أخرى في غزوة الأحزاب، فحاصرهم المسلمون، ثمّ نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكان حليفهم في الجاهليّة فحكم بقتل المقاتلين منهم.

وهذه الآيات تشير إلى هذه الطوائف وكيفيّة التعامل معهم، وأمّا تفصيل جلاء بني النضير ففي سورة الحشر، وتفصيل ما جرى على بني قريظة ففي سورة الأحزاب.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.

شأن نزول الآية بنو قريظة، وتأويلها ببني أمية كما في الخبر((1))، وهذه الآية بمعنى ما مرّ في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}((2)).

وقد مرّ أنّ (الدابة) كل موجود حي يتحرّك على وجه الأرض، واستعمل في خصوص البهائم، وهؤلاء كالبهائم في عدم تعقّلهم.

وقوله: {شَرَّ الدَّوَابِّ} أي أسوءها جميعاً لأنّهم عطّلوا عقولهم، و{شَرَّ} هنا إمّا للتفضيل حيث إنّ بعض الدواب كالسامّة فيها شر، أو منسلخ عن التفضيل كما يقال: المؤمن خير من المنافق مع أنّ المنافق لا خير فيه.

ص: 118


1- ([1]) البرهان في تفسير القرآن 4: 351.
2- ([2]) سورة الأنفال، الآية: 22-23.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} أي في حكمه سواء التشريعي بجعل أحكام عليهمتجعلهم دون الدواب، أم التكويني بخلقهم من طينة سجّين وبقضاء جهنّم عليهم، وغير ذلك.

وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُواْ} المراد المعاندون منهم بقرينة قوله: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؛ إذ الفاء عطف الجملة على الجملة ويراد به رسوخ الكفر فيهم بحيث لا يرجى إيمانهم وهذا هو المعاند المصر على كفره.

الثالث: قوله تعالى: {الَّذِينَ عَٰهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٖ...} الآية.

بدل البعض من الكل، لبيان أنّ المقصود من الكفّار الذين لا يؤمنون في الآية السابقة هم الناقضون للعهد؛ لأنّ الكافر المعاند شر، وشر منه الكافر المعاند الناقض للعهد لأنّه زاد الخيانة والغدر إلى كفره وعناده.

وقوله: {الَّذِينَ عَٰهَدتَّ مِنْهُمْ} أي من الكفّار وهم بنو قريظة كما مرّ، ومن للتبعيض، حيث عاهدهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا يمالئوا عليه عدوّاً.

وقوله: {فِي كُلِّ مَرَّةٖ} الظاهر أنّه كان العهد معهم مرّتين، مرّة حين قدوم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة المنوّرة، ومرّة أخرى قبل غزوة الخندق، لكن كان الغدر طبيعتهم كلّما شعروا بضعف المسلمين، فلذا لو كان يجدِّد العهد معهم مرّة ثالثة لنقضوه، وهكذا.

وقوله: {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} أي لا يخافون عقاب اللّه، أو لا يخافون عاقبة الغدر من العار والضرر الذي سيلحق بهم.

الرابع: قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ...} الآية.

ص: 119

هؤلاء لم يكونوا يستحقّون الرحمة بهم ولا تجديد العهد معهم؛ لأنّهمغدروا مرّتين، وخاصّة المرّة الثانية حيث حاصرت الأحزاب المسلمين، ولم يكن للمسلمين طاقة لقتالهم، ولذا اضطروا إلى حفر خندق لئلّا يقع قتال مباشر، فكانت خيانة حين الحرب وهي أشد أنواع الخيانة، ولذا أمر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يعاقبهم على خيانتهم حال الحرب ليكونوا عبرة لسائر الناس كي لا يفكّر أحد منهم في نقض العهد.

وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} هي (إن) الشرطيّة و(ما) التأكيديّة ولحوقها يجوّز تأكيد الفعل بنون التأكيد، و(الثقف) هو الظفر بالشيء وإدراكه.

وقوله: {فَشَرِّدْ بِهِم} أي نكّل بهم عقوبة لهم وعبرة لغيرهم بإلقاء الرعب في قلوبهم لئلّا يهمّوا بنقض العهد، و(التشريد) هو التفريق على اضطراب.

وقوله: {مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي سائر الكافرين من المعاهدين وغيرهم الذين لم يحاربوك.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} الضمير يرجع إلى {مَّنْ خَلْفَهُمْ}، أي برجاء اتعاظهم بما جرى على هؤلاء من العقاب كي لا ينقضوا العهد؛ وذلك لأن مراعاة المعاهدات من أهم الأمور التي توجب الأمن، فعدم احترامها يوجب عدم فائدتها، فحفظ المعاهدات عن طريق عقوبة الناقض من الأمور التي يحث عليها العقل والعقلاء بعد الشرع.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ...} الآية.

شأن نزولها بنو النضير وبنو قينقاع حيث ظهرت منهم علائم الخيانة، والحكم العقلي والشرعي هو عدم صحّة الاستمرار في العهد معهم وهم

ص: 120

يتحيّنون الفُرص للإيقاع بمن عاهدهم، فإنّ العهود لأجل إيجاد الأمن، ولاأمن مع إرادتهم الخيانة وظهور بوادرها، وحينئذٍ لا بدّ من إعلامهم بانتهاء المعاهدة دون المبادرة إلى مقاتلتهم ومباغتتهم فإنّ ذلك خيانة وغدر بهم، أمّا مع الإعلان فذلك امتثال لنداء العقل بعدم الاستمرار في المعاهدة، ولنداء الأخلاق بعدم الخيانة والغدر بهم.

وقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ} ليس خوفاً اعتباطيّاً فذلك وسوسة، وإنّما هو خوف عقلائي منشؤه ظهور أمارات الخيانة فيهم، كما فعل بنو النضير حيث أرادوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإلقاء رحى عليه حينما استراح عند حصنهم وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد ذهب إليهم بنفسه ليستعين بهم على جمع دية قتيل، بمقتضى المعاهدة معهم.

وقوله: {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ} النبذ هو الإلقاء والطرح، والمراد هنا إخبارهم بانتهاء العهد وإعلامهم بقصد قتالهم.

وقوله: {عَلَىٰ سَوَاءٍ} أي كي يكون الطرفان متساويين في الأمر، لا أن يكونوا هم بصدد المباغتة والخيانة وتكونوا أنتم في أمن ودعة، أو بمعنى كما هم نقضوا العهد فكذلك أنتم أنهوا العهد معهم لتكونوا متساويين في عدم المعاهدة.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} تعليل لإخبارهم؛ لأنّ عدم إخبارهم بانتهاء المعاهدة هو بمعنى استمرارها فيكون قتالهم نقضاً للعهد وهو خيانة، أو بمعنى أنّ إنهاءكم المعاهدة معهم هو جزاء خيانتهم فاللّه يعاقب الخائن بأن أمركم بإنهاء العهد معه.

وقد مرّ أنّ حب اللّه وعدم حبّه هو بمعنى الثواب والعقاب لأنّه سبحانه

ص: 121

ليس محلّاً للحوادث وليست له كيفيّات نفسانيّة سبحانه وتعالى عمّا يصفون.السادس: قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}.

إمّا هذا بيان صنف آخر من الكفّار وهم المنهزمون الذين نجوا بجلدتهم ثمّ عزموا الرجوع إلى قتال المسلمين بعد جمع فلولهم فقوله: {سَبَقُواْ} بمعنى هربوا وفاتوا الطلب، وإمّا من تتمة الآية السابقة وهو تحذير لمن نقض العهد فمعنى {سَبَقُواْ} فازوا بالسبق ومن فرصة مباغتة المسلمين.

وقوله: {لَا يُعْجِزُونَ} أي لا يجدون المسلمين عاجزين عن إدراكهم، أو بمعنى إنّ اللّه ليس بعاجز عن عقوبتهم؛ إذ هم في قبضته تعالى أينما كانوا.

ص: 122

الآيات 60-63

اشارة

{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ 60 وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 61 وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ 62 وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 63}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى كيفيّة مواجهة الكفّار، فقال:

60- {وَأَعِدُّواْ لَهُم} هيأوا لقتال الكفّار {مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ} كل ما يتقوّى به في الحرب، فيشمل السلاح وغيره، والقوّة المادّيّة والمعنويّة، ومن ذلك الرمي {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} أي الخيل التي تربط بمعنى الاستعداد الدائم، وسبب هذا الإعداد، {تُرْهِبُونَ بِهِ} بالإعداد أو الرباط {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} أي الكفّار المحاربين علناً كمشركي مكّة {وَءَاخَرِينَ} سائر الكفّار {مِن دُونِهِمْ} أي من غير الأعداء المكشوفين كالكفّار الذين لا حرب بينكم وبينهم ولا يظهرون عداوتكم لكنّهم يضمرونها {لَا تَعْلَمُونَهُمُ} بأعيانهم {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} لأنّه المطلّع على الضمائر فلذا أمركم بالاستعداد الدائم كي لا يباغتوكم، وحيث إنّ إعداد القوّة والرباط يستلزم صرف الأموال فقال: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} و«من» للتعميم أي

ص: 123

كل شيء حتّى لو كان يسيراً {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} يرجع إليكم في الدنيا بالأمنوالغنيمة وفي الآخرة بالثواب {وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} أي لا ينقص أجركم.

61- {وَإِن جَنَحُواْ} مال الكفّار {لِلسَّلْمِ} المصالحة والمسالمة {فَاجْنَحْ} أي عليك أن تميل {لَهَا} إلى السلم {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} اعتمد عليه وثق به فلا تخش فوات الفرصة، {إِنَّهُ} تعالى {هُوَ السَّمِيعُ} للأقوال {الْعَلِيمُ} بالنيّات فيعلم ما يريدون من جنوحهم إلى السلم فلا يفوته غادر.

62- {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} باقتراحهم السلم لأجل تجميع قواهم ثمّ الغدر بك {فَإِنَّ حَسْبَكَ} يكفيك {اللَّهُ} في رد كيدهم؛ إذ {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ} قوّاك {بِنَصْرِهِ} حيث نصرك في بدر بالملائكة وبعلي بن أبي طالب (عليه السلام) {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} كالأنصار، فإنّ اللّه هو الذي هداهم ومكّنك من أن تقاتل بهم الكفّار.

63- {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} جمعها ولائم بينها بعد طول عداء {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} لأجل تأليفها {مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} لأنّ المال لا يزيد إلاّ عداوة {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} - غيبيّاً وطبيعيّاً - بتصفية القلوب، فإنّ الدين يزيل العداوة وأسبابها، {إِنَّهُ عَزِيزٌ} غالب على أمره إذا أراد شيئاً أوجده {حَكِيمٌ} بحكمته يدبّر الأمور ومنه التأليف بين القلوب.

كيفية القتال مع الكفّار

بحوث

الأوّل: هذه الآيات تبيّن كيفيّة التعامل مع الكفّار، فمن جهة لا بدّ أن يكون المسلمون على أتم الاستعداد للقتال لئلّا يباغتهم الكفّار، وأن يتسلّحوا بما يمكنهم من قوّة لئلّا يطمعوا فيهم بل ليرهبوهم فلا يقدموا على مقاتلتهم،

ص: 124

ومن جهة أخرى لو أراد الكفّار المسالمة بعدم الحرب أو بمعاهدةفليسالمهم المسلمون، وعليهم أن لا يخافوا أن يكون جنوحهم للسلم مكراً وخداعاً لأنّ اللّه والمؤمنين لهم بالمرصاد، فاللّه تعالى ينصر من نصره والمؤمنون مستعدّون دائماً، وهذا ما حصل حيث عاهد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يهود المدينة المنوّرة فنقضوا العهد فسلّط اللّه المؤمنين عليهم بغنيمة ديارهم وأموالهم تارة، وبقتل جمع منهم وأسر آخرين تارة أخرى، وهكذا حصل مع مشركي مكّة حيث صالحهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الحديبيّة، فلمّا نقضوا العهد فتح اللّه مكّة له وكسر شوكة الشرك وأهله.

الثاني: قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ...} الآية.

بيان أن لا يتوانى المسلمون في الاستعداد للحرب من جهتين:

إحداهما: أن تكون قوّتهم الحربيّة بأقصى حد يتمكّنون منه فلا يقولوا بأنّه يكفيهم ما عندهم من قوّة بل عليهم أن يزيدوها ما تمكّنوا.

والثانية: الحذر والالتفات المستمر حيث لا تكفي القوّة بدون الجاهزيّة للحرب، فما أكثر الدول التي كانت تمتلك أسلحة أقوى وأكثر من عدوّها لكن العدو باغتها بحيث لم تتمكّن من استعمال تلك القوّة، فقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ} بيان للجهة الأولى، وقوله: {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} بيان للجهة الثانية؛ لأنّ معنى الرباط جاهزيّة الخيل والمقاتلين لصد هجمات الأعداء ومباغتتهم.

وقوله: {مِّن قُوَّةٖ} «من» للتعميم بأن لا يستهين الإنسان بالقوّة الصغيرة ولا يستصعب القوّة الكبيرة، ومن مصاديق القوّة الرمي وآلاته، فما ورد في

ص: 125

بعض الأخبار من تفسير القوّة بالرمي((1)) والسيف والترس((2)) هو بيان للمصداق، وكان سبب هزيمة المسلمين في غزوة أ ُحد تخلية الرماة مواقعهم الحربيّة ممّا فتح ثغراً استغلّه المشركون للّهجوم على المسلمين من خلفهم، كما أنّ القوّة أعم من السلاح المادي والنفسي، وكان المسلمون يختضبون بالسواد لئلّا يظهر الشيب عليهم، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية أنّه قال: «ومنه الخضاب بالسواد»((3))، والحاصل: أنّ القوّة تشمل كل ما ينفع في الحرب من سلاح أو غيره.

وقوله: {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} عطف على قوّة، أي ما استطعتم من رباط الخيل، والربط هو الشد أيسر من العقد، ورباط الخيل ربطها للجهاد، أو مواضع ربطها بأن تكون جاهزة دائماً.

وقوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ} الرهبة هي طول الخوف واستمراره((4))، فالمعنى أن لا يكونوا في اطمئنان من غفلتكم بل ليكن خوفهم مستمرّاً وهذا الخوف هو أقوى رادع لهم عن محاربتكم.

وقوله: {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} عام وإن كان شأن النزول مشركي مكّة، فأمّا عداوتهم للّه فبسبب كفرهم وعصيانهم، وأمّا عداوتهم لكم فحسداً وحقداً وثأراً لقتلاهم، وهذا في الأعداء ظاهري العداوة.

وقوله: {وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} أي غير أولئك الأعداء الظاهرين، وهم كل

ص: 126


1- ([1]) الكافي 5: 49.
2- ([2]) تفسير العيّاشي 2: 66.
3- ([3]) من لا يحضره الفقيه 1: 123؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 354.
4- ([4]) راجع معجم الفروق اللغوية: 261.

عدو آخر فقوله: {مِن دُونِهِمْ} أي غيرهم، وليس بمعنى الأقل منهم عداوة، وذلك كسائر الكفّار الذين لم يكن لهم معكم موجب ظاهر للعداوة بل قد يكونون معاهدين لكم لكنّهم يعادونكم في الباطن ويتحيّنون الفرص لمباغتتكم.

وقوله: {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} كأنّه حث وتحريض على عدم التماهل وعدم حسن الظن بالكفّار، فعدم علمكم ليس دليلاً على عدم عداوتهم، لكن اللّه يعلم لذا أمركم بالقوّة والجاهزيّة.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}.

حيث إنّ إعداد القوّة والرباط بحاجة إلى أموال، لذا يحث اللّه المسلمين على المساهمة في الإنفاق الحربي بما يستطيعون ولو بالشيء القليل فإنّ ذلك لا يضيع بل يعود نفعه إليهم.

وقوله: {مِن شَيْءٖ} للتعميم لئلّا يستقل الفقير إنفاقه، فإنّ القليل قد ينفع في ساحة القتال، وقد يجتمع القليل فيصير كثيراً.

وقوله: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي يرد إليكم جزاؤه وافياً كاملاً غير منقوص، وهذا الجزاء في الدنيا والآخرة، أمّا في الآخرة فواضح لأنّ اللّه يجازي المؤمن بعمله الخير، وأمّا في الدنيا فلأنّ الناس ينعمون بالأمن والسلامة بسبب القوّة الدفاعيّة لبلدهم، وكلّما أنفقوا أكثر كانت القوّة أشد فكان الأمن والسلامة أدوم، وقد يكون ذلك غنيمة المجاهدين حيث إنّهم أنفقوا على سلاحهم وخيولهم فعادت إليهم غنائم.

ص: 127

وقوله: {وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} أي لا ينقص ما استحققتموه من الجزاء.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

بيان حالة أخرى وهي ما لو أراد الكفّار عدم الحرب أو أرادوا الصلح فهنا يجوز الميل إلى السلم مع التوكّل على اللّه تعالى، وليست الآية منسوخة بالأمر بالجهاد وقتل المشركين؛ وذلك لعدم التنافي، إذ قد تكون المصلحة في القتال وقد تكون المصلحة في الهدنة أو المصالحة، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأولو الأمر (عليهم السلام) يراعون في كل مورد ما فيه الحكمة.

وقوله: {جَنَحُواْ} الجنوح هو الميل ومنه جناح الطائر لأنّ فيه ميلاً.

وقوله: {لِلسَّلْمِ} هو أعم من المصالحة والهدنة، وإنّما سُمّي سلماً لسلامة الناس من القتل والجرح والأسر وسائر أضرار الحرب.

وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} بأن ينصرك ويؤيّدك، ولعلّ المقصود أن لا تخف من فوات الفرصة؛ لأنّه قد يكون السلم أحمد عاقبة مع وصولك إلى هدفك بأقل الخسائر، كما حصل في الحديبيّة في السنة السادسة حيث كان يتمكّن المسلمون من فتح مكة عنوة لكن مع إراقة دماء كثيرة إلاّ أنّ الصلح فتح لهم باباً من الأمن لنشر الدين ومن ثَمّ لمّا نقض المشركون العهد فتحوا مكّة بدون خسارة لا في الأرواح ولا في الأموال، والحاصل: أنّ التوكّل ليس خاصاً بالحرب أو الحالات الصعبة بل في جميع الحالات، وهو يقتضى عمل الإنسان بما يستطيع عليه وأداء الوظائف، والاعتماد في ما هو خارج عن قدرته ووظيفته على اللّه تعالى.

ص: 128

وقوله: {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يسمع أقوالهم في السلم ويعلم بضمائرهم من جنوحهم إليها، وهذا تحذير لهم وللمسلمين من الغدر والخيانة، وفي تفسير القمي: «وفزع أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين نظروا إلى كثرة قريش وقوّتهم، فأنزل اللّه على رسوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وقد علم اللّه أنّهم لا يجنحون ولا يجيبون إلى السلم، وإنّما أراد اللّه بذلك لتطيب قلوب أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فبعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى قريش فقال: يا معشر قريش، ما أحد من العرب أبغض إليّ من أن أبدأكم، فخلّوني والعرب، فإن أكُ صادقاً فأنتم أعلى بي عيناً وإن أكُ كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمري فارجعوا...»((1)).

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.

أي لو كان قصدهم من الجنوح للسلم هو الخداع ليجدوا فرصة تجميع القوى والمباغتة والغدر فلا يضرك ذلك؛ لأنّ اللّه ناصرك، والمؤمنون مستعدّون متهيؤون، كما حصل مع بني قريظة وغيرهم حيث خانوا وغدروا فأخزاهم اللّه تعالى.

وقوله: {حَسْبَكَ اللَّهُ} أي يكفيك اللّه شرّهم ويتولّى أمرك بالطريق الغيبي والطبيعي، كما حصل في غزوة بدر حيث أيّده اللّه تعالى بالملائكة وبأمير المؤمنين علي (عليه السلام) وبسائر المؤمنين، و(حَسْب) مصدر بمعنى اسم الفاعل أي محسبك وكافيك.

ص: 129


1- ([1]) تفسير القمّي 2: 263؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 279-280.

وقوله: {هُوَ الَّذِي...} إمّا بيان كيفيّة كفاية اللّه تعالى له، وإمّا تذكير بنصره بما حدث سابقاً من إسلام أهل المدينة ونصرتهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {بِنَصْرِهِ} ولنصر اللّه مصاديق ومنه نصره بالإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: «فكان النصر عليّاً، ودخل مع المؤمنين، فدخل في الوجهين جميعاً»((1)).

وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ} شأن نزولها - على ما قيل - الأنصار فإنّ أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوي لمّا آمنوا به، لكن شأن النزول لا يحدّد مفهوم الآية فهي عامّة شاملة لكل مؤمن أيّد اللّه تعالى به رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

السادس: قوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ...} الآية.

بيان أنّ نصر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمؤمنين كان عبر تأليف قلوبهم بالدين ممّا لم يمكن بالمال أبداً، ومنهم الأوس والخزرج كانت بينهم منافرة وعداوة وأحياناً مقاتلة لسنوات طوال، وبالإسلام اجتمعت قلوبهم وانصهروا في عنوان الأنصار فلم ترجع بينهم عداوة أبداً حينما كانوا ملتزمين بالإسلام وتعاليمه، ومن المعلوم أنّ اجتماع قلوبهم كان من أقوى الأسباب لقوّة الإسلام، فإنّ وحدة الكلمة من أهم أسباب النصر.

وقوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} بسبب غيبي، وكذلك بسبب طبيعي الذي هو قوانين الإسلام وقيادة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم.

وقوله: {لَوْ أَنفَقْتَ...} لأنّ العداوات أمر معنوي في القلوب فلا يزيلها

ص: 130


1- ([1]) البرهان في تفسير القرآن 4: 355؛ عن أمالي الشيخ الصدوق: 215، وغيره.

إلاّ أمر معنوي، وأمّا المال فلا يزيد إلاّ العداوة وقد يكون وقوداً للعداوات بالكبر والحسد، فلو رأينا شخصين يتباغضان لأسباب متعددة فلو أعطيناهما الأموال على أن يزول البغض من قلوبهما لما أمكن ذلك. نعم، لو اجتمع السبب المعنوي مع المال أمكن زوال بعض العداوة كما لو أكرم العدو عدوه وأغدق عليه بالمال فقد تخف تلك العداوة أو تزول لكن ليس بسبب المال وإنّما بسبب الإكرام والمحبّة والعفو ونحو ذلك.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} تأكيد أو أنّ {أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} في تصفية القلوب و{أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} في الأعمال والأقوال، فكما اجتمعت قلوبهم كذلك اجتمعت كلمتهم وأفعالهم.

وقوله: {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فتأليفه لهم ولقلوبهم لأنّه تعالى عزيز غالب على أمره، ولأنّه حكيم في تدبيره أراد نصرة الدين بهم بحكمته تعالى.

والحاصل: إنّ اللّه مطلع على القلوب وأمرها بيده، فإن أراد الكفّار عبر جنوحهم للسلم الخداع فإنّ اللّه عالم بنواياهم ويكفيك أمرهم، كما أنّه عالم بقلوب المؤمنين فلمّا علم منهم الإيمان ألّف بين قلوبهم وبذلك قوّى أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 131

الآيات 64-66

اشارة

{يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 64 يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ 65 الَْٰٔنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ 66}

ثمّ يحرّض اللّه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمؤمنين على الجهاد حتّى مع قلّتهم، فقال:

64- {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ} يكفيك في الجهاد {اللَّهُ وَ} يكفيك {مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وسيدهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

65- وحيث علمت بذلك ف{يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ} وهو الترغيب والحث بشدّة {الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} عبر ذكر آثاره وفوائده الدنيويّة والأخرويّة وأضرار تركه، وبيّن لهم أنّهم المنصورون مع قلّتهم على الكفّار على كثرتهم ف{إِن يَكُن مِّنكُمْ} أيّها المؤمنون {عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} من الكفّار أي عشرة أضعافهم، ثمّ قال للتأكيد: {وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فليس للعشرين والمائة خصوصية بل كلّما كان الكفّار عشرة أضعاف المؤمنين كان نصر اللّه للمؤمنين الصابرين، وتلك الغلبة {بِأَنَّهُمْ} أي الكافرين {قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} لا فهم لهم لذا عزيمتهم ليست شديدة، والحاصل: من المؤمنين الصبر ومن الكفّار عدم الفهم.

ص: 132

66- ثمّ لمّا ازداد عدد المسلمين وانتشر الإسلام خفف اللّه الحكم، فقال{الَْٰٔنَ} بعد كثرتكم {خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} فلم يكلّف الواحد جهاد العشرة {وَعَلِمَ} أي ظهر ما كان يعلمه {أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} أي ضعفاً في العزيمة لذا خفّف عنكم، {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ} أي بشرط الصبر {يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} من الكفّار {وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} بمشيئته فإنّه أراد أن يكون المؤمنون أقوى بإيمانهم وصبرهم {وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ} ينصرهم، ولذا المؤمن الصابر ينصره اللّه على عشرة أضعافه من الكفّار الجاهلين، أو على ضِعفيه من سائر الكفّار.

أسباب غلبة المسلمين مع قلة عددهم

بحوث

الأوّل: هذه الآيات حث للمؤمنين على الجهاد حتّى لو كانوا أقل من الكفّار لكن بشرط كونهم صابرين بأن يثبتوا ولا ينهاروا، والمذكور في هذه الآيات وإن كان خبراً إلاّ أنّ المقصود به الإنشاء أي الأمر بالجهاد مع توفّر شروطه حتّى لو كان الكفّار عشرة أضعاف، ثمّ التخفيف على المؤمنين بالأمر بالجهاد مع شروطه حتّى لو كان الكفّار ضِعفين.

وقد علّل اللّه الغلبة بصبر المؤمنين وبعدم فهم الكفّار، أمّا صبر المؤمنين فعلى كل حال بأن لا ينهاروا نفسيّاً وعسكريّاً أمام كثرة الكفّار وقوّتهم، وأمّا عدم فهم الكفّار فلأنّ العالم بالفنون الحربيّة وبالأمور النفسيّة يغلب الجاهل بهما حتّى لو كان الجاهل أضعافاً مضاعفة. نعم، لو استعمل الكفّار العلوم الحربيّة والأساليب النفسيّة فحينئذٍ ترجح كفّتهم لو ترك المسلمون تلك العلوم، ولكن لو استعمل الطرفان تلك العلوم والأساليب فاللّه يرجّح كفّة

ص: 133

المؤمنين غيبيّاً حتّى لو كان عددهم نصف عدد الكفّار.

ولذا في معركة بدر كان الكفّار ثلاثة أضعاف المسلمين وكانوا أكثر جاهزيّة وسلاحاً لكن غلبهم المؤمنون بنصر اللّه تعالى، وفي معركة أ ُحد كان المسلمون سبعمائة و الكفّار بين ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف، أي بين أربعة إلى سبعة أضعاف ومع ذلك انتصر المسلمون في الجولة الأولى لمّا كانوا صابرين، إلاّ أنّهم لمّا خالفوا أمر اللّه ورسوله فلم يصبروا انهزموا.

وفي تقريب القرآن: «وذلك لأن الإيمان والتضحية طاقتان عظيمتان تبدّلان الإنسان العادي إلى شخص شجاع مقدام، وذلك الضَعف في الكفّار بسبب أنّهم قوم لا يفقهون أي لا يفهمون، فمن يحارب عن معرفة وإيمان يُزوّد بما لا يزوّد به الإنسان الخلي من العقيدة والدين، وإنّ من عرف أنّه إن قُتل دخل الجنّة وإن قَتل دخل الجنّة كان قوي القلب في مقابل من لا يفقه ذلك... إنّ الفئة - الإيمانية - إذا كانت قليلة كانت الطاقة الإيمانيّة فيها قويّة جدّاً؛ وذلك لأنّها تتقوّى حتّى تتمكّن من مقابلة القوي، وهذا أمر بيّن في علم النفس، فالنفس القويّة تأتي بما تُحيّر العقول فيه، أمّا إذا كثرت الفئة فإنّ روح الاتّكالية تقوى فيهم، وبمقدار ارتفاع نسبة الاتّكاليّة تنخفض القوّة والطاقة، ولذا نرى الأمم أوّل تكوّنها أنشط منها في أواسط حياتها فكيف بأواخرها، وهذا هو السبب في أن خفف اللّه الحكم عن المؤمنين بعد أن كثروا... ولعلّ الحكمين تابعان لحالة نفوس المسلمين في كل دور، فمتى رأوا قوّة من أنفسهم كان العشرة منهم بمائة، ومتى رأوا الضعف من أنفسهم كان العشرة منهم بعشرين فلا نسخ في البين،

ص: 134

واللّه العالم»((1)).

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

هذا تأكيد لما مرّ في الآية 62 حيث قال: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} لكن هناك لبيان عدم تمكّن الكفّار من خداع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهنا للتحريض على القتال، ومقتضى السياق أن يكون معنى هذه الآية إنّ اللّه يكفيك ويكفي المؤمنين فقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عطف على الكاف في قوله: {حَسْبُكَ}، ويحتمل أن يكون المعنى يكفيك اللّه ويكفيك المؤمنون بأن يكون {وَمَنِ اتَّبَعَكَ...} عطفاً على (اللّه)، وعلى هذا تكون الكفاية طوليّة أي يكفيك اللّه فهو الذي هيّأ لك هؤلاء المؤمنين فهم يكفونك لأنّ اللّه هيّأهم، فليس المؤمنون في عرض نصر اللّه تعالى.

الثالث: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن...} الآية.

التحريض هو الترغيب بشدّة، وفي المفردات: «التحريض: الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه»((2)).

وقوله: {إِن يَكُن مِّنكُم...} هذا لإزالة خوفهم في ما لو كان الكفّار كثيرين حتّى لو كانوا عشرة أضعاف.

وقوله: {عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ} بيان شرط الغلبة وهو الصبر، ثمّ إنّه تعالى

ص: 135


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 354-355.
2- ([2]) المفردات للراغب: 228.

ذكر أوّلاً العشرين والمأتين ثمّ ذكر المائة والألف، وهذا تأكيد للمطلب وتعميم له ليعرف أنّ العدد لا خصوصية له بل كل عدد من المؤمنين الصابرين يغلبون عشرة أضعافهم من الكفّار الذين لا يفقهون.

وقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} الفقه هو العلم بمقتضى الشيء على تأمّله، وكأنّ هذا بيان سبب خسارة الكفّار بأنّهم لا يفهمون، وعليه فلو لم يصبر المؤمنون خسروا، أو كان الكفّار يعلمون الفنون الحربيّة والنفسيّة فقد لا يكفي العُشر من المؤمنين، كما في هذا العصر حيث إنّ الكفّار أخذوا بالعلوم الحربيّة وتركها المسلمون، وكذلك صبر الكفّار ولم يصبر المسلمون فكانت الغلبة للكفّار على المسلمين رغم كثرة عدد جيوش المسلمين.

الرابع: قوله تعالى: {الَْٰٔنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا...} الآية.

قوله: {الَْٰٔنَ} في زمن لاحق على غزوة بدر حينما وهنت عزيمة المؤمنين، ولعلّه بعد هزيمتهم في معركة أ ُحد.

وقوله: {خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} أي في التكليف فلم يوجب عليكم الجهاد إلاّ إذا كان الكفّار ضعفين أو أقل، وهذا أيضاً نوع تحريض لهم بأن يجاهدوا حتّى لو كان عددهم نصف عدد الكفّار.

وقوله: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} الضعف هنا هو الوهن في العزيمة، لا ضعف الجسد أو ضعف العُدّة، وضعف العزيمة يلازم ضعف الإيمان لأنّ المؤمن الكامل الإيمان لا تزيله العواصف وهو أشد من الجبال الراسية، ومن هذا يُعلم أنّه لا نسخ للآية السابقة بل هما بيان حقيقتين، فمع قوّة الإيمان يكفي العُشر، ومع ضعف العزيمة يكفي النصف، وأمّا ما روي من

ص: 136

نسخ تلك بهذه((1)) فلعلّه أريد به النسخ اللغوي أي التخصيص فالعُشر يكفي إلاّ مع الضَعف فيكفي النصف، واللّه العالم.

وقيل: كان فيهم قِلّة فأمروا بالجهاد ولو كانوا عُشر الكفّار للضرورة إلى ذلك، ثمّ لمّا كثروا خفّف اللّه عنهم لعدم الضرورة إليه!

وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بمشيئة التشريعيّة والتكوينيّة، فأجاز لكم الجهاد مع كونكم نصف المشركين، كما ينصركم غيبيّاً حين صبركم على الجهاد.

وقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ} بيان عِلة غلبة المسلمين الصابرين على الكفّار؛ إذ إنّه تعالى يعين الصابرين عبر القوانين الطبيعيّة والغيبيّة التي أودعها في الكون، واللّه المستعان.

ص: 137


1- ([1]) راجع الكافي 5: 65؛ وعنه تفسير الصافي 3: 358.

الآيات 67-71

اشارة

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْأخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 67 لَّوْلَا كِتَٰبٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ 68 فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 69 يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 70 وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 71}

ثمّ يذكر اللّه أسارى الحرب، فقال:

67- {مَا كَانَ} ليس له ولا يحل {لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ} بأن يترك القتال ويشرع في الأسر {حَتَّىٰ يُثْخِنَ} أي يواصل القتال وبه يكثر قتلى الكفّار {فِي الْأَرْضِ} ليعز الإسلام وأهله ويذل الكفر وأهله وليكون عبرة للآخرين، لكن المسلمين في غزوة بدر تركوا القتال بمجرّد انهزام المشركين وشرعوا في أسرهم طمعاً في الفداء ف{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أي حطام الدنيا الزائل ولذا تركتم القتال {وَاللَّهُ يُرِيدُ} لكم {الْأخِرَةَ} أي ثوابها لذا شرّع مواصلة القتال حتّى الإثخان، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} ذو عزة ومنعة فلذا أمر بمواصلة القتال {حَكِيمٌ} في ما شرّعه فقوّة المسلمين أهم من الفداء.

68- لكن ما فعلوه لم يكن عصياناً لأمر سابق لذا لم يعاقبهم اللّه عليه

ص: 138

ف{لَّوْلَا كِتَٰبٌ} أي حكم مكتوب {مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} بأن لا يعذّب إلاّ بعد بيان الحكم {لَمَسَّكُمْ} أصابكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الأسرى وتركتم القتال {عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

69- لكن حيث أخذتم الأسرى فاللّه أباح لكم فداءهم {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} أي من الفداء لأنّه جزء من الغنيمة حال كونه {حَلَٰلًا} شرعيّاً {طَيِّبًا} تميل النفس إليه وتستسيغه، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} بأن لا تخالفوه في مستقبل أمركم بعد أن علمتم الحكم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} للذنوب {رَّحِيمٌ} فأباح الفداء ويثيب المؤمن المطيع، هذا بالنسبة إلى المسلمين الآسرين.

70- وأمّا الأسرى ف{يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم} في سلطتكم {مِّنَ الْأَسْرَىٰ} الذين أسرتموهم في غزوة بدر {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} أي إيماناً وإسلاماً لأنّ بعضهم ادّعى أنّه كان قد أسلم وإنّما أخرجه الكفّار كرهاً، أراد به إسقاط الفداء عن نفسه، لكن يقال له: إنّ الأمر على الظاهر لكن لو صدقتم ف{يُؤْتِكُمْ} اللّه {خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء بأن يعطيكم أكثر وأحسن منه {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم، {وَاللَّهُ غَفُورٌ} للذنوب {رَّحِيمٌ} بإعطاء الثواب تفضّلاً منه تعالى.

71- {وَإِن يُرِيدُواْ} يريد الأسرى {خِيَانَتَكَ} بأن يرجعوا إلى حربك مرّة أخرى مع المشركين {فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ} بالكفر وبمحاربة رسوله {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي فسلّط اللّه المسلمين عليهم، والمعنى كما أمكن منهم في المرّة الأولى فسيمكن منهم في المرّة الثانية، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بنواياهم {حَكِيمٌ} في ما شرّعه عليهم.

ص: 139

حول أسرى المشركين في بدر

بحوث

الأوّل: هذه الآيات حول الأسرى وفيها عتاب شديد للمسلمين الذين تركوا القتال وشرعوا في أسر الكفّار من غير أمر من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك، فقد أمرهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالقتال ولم يأمرهم بالكفّ عنه، لكنّهم لمّا انهزم المشركون تركوا القتال وطمعوا في فداء الأسرى ولذا بدلاً من الاستمرار في القتال وتعقّب الفارين وقتلهم كفّوا عن تعقبهم وعن القتال وأسروا من تمكّنوا من أسره حتّى أنّ بعضهم كان يمنع المجاهدين عن قتل المشركين طمعاً في أسرهم، إلاّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) حيث لم يأسر أحد وقتل من حاربه((1))، وكان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد تقدّم إلى المسلمين بعدم قتل بني هاشم الذين كانوا مع المشركين - وهم العباس وعقيل ونوفل - وكذا عدم قتل أبي البختري((2))

وكان قد دافع عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكّة فأراد النبي مكافئته، ولم يتقدّم إلى المسلمين في سواهم بشيء، فكان عليهم أن يرجعوا إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما أرادوا إيقاف القتال، فنزلت هذه الآيات عتاباً لهم، وبيان أنه لو كان قد نزل نهي عن إيقاف القتال لاستحقوا بالمخالفة عذاباً عظيماً، لكن حيث إنّه لم ينزل نهي، وهم قد عملوا حسب عادتهم في الجاهليّة لذا عفا اللّه عنهم وأباح لهم الفداء حلالاً طيّباً، هذا بالنسبة إلى المسلمين الآسرين.

وأمّا الأسرى فكانوا طائفتين:

ص: 140


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 286.
2- ([2]) راجع الكافي 8: 202؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 361.

1- فبعضهم ادّعى بأنّهم كانوا قد أسلموا ولكنّهم خرجوا كرهاً كالعبّاس بن عبد المطلب أراد أن يفلت من الفداء حينما قال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا عباس، افدِ نفسك وابني أخيك عقيلاً ونوفل بن الحارث فإنّك ذو مال، فقال: إنّي كنت مسلماً ولكن قومي استكرهوا عليّ، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اللّه أعلم بشأنك أمّا ظاهر أمرك فقد كنت علينا»((1))، ثمّ ادعى أنّه لا مال له فأخبره الرسول بما خبّأه عند زوجته أم الفضل، فهؤلاء يقال لهم: إنّ على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يتعامل معهم على ظاهرهم كما يتعامل مع سائر الأسرى، وأمّا القلوب فاللّه يعلم بها فإن كانوا صادقين عوّضهم اللّه بأفضل ممّا أخذ منهم.

2- وطائفة أخرى هم سائر الأسرى لم يدّعوا الإسلام ولا الإكراه على الخروج فيقال لهم: إنّه سيطلق سراحهم بعد أخذ الفداء مع تحذيرهم من الخيانة بالرجوع إلى قتال المسلمين لأنّ اللّه سيسلّطهم عليهم مرّة أخرى كما سلّطهم عليهم في بدر، وقد عاد بعضهم إلى أ ُحد فأسروا مرّة أخرى فأمر النبي بقتلهم ولم يُقلهم.

الثاني: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ...}.

أي إنّ اللّه لم يشرع للأنبياء الماضين إيقاف الجهاد بل شرّع عليهم الاستمرار فيه حتّى يكثروا القتل في الكفّار المحاربين لإعزاز الإيمان وأهله وإذلال الكفر وأهله، وهذا حكم لم يتغيّر بل أكّده اللّه في سورة محمّد حيث قال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ

ص: 141


1- ([1]) الخرائج والجرائح 1: 61؛ وعنه بحار الأنوار 19: 247.

الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}((1)).

ولعلّ جرأة المشركين في جمع فلولهم والرجوع إلى قتال المسلمين بعد عام في أ ُحد كان نتيجة إيقاف الحرب يوم بدر والانشغال بأخذ الأسرى، ولعلّه لو كانوا يواصلون القتال لقتلوا منهم مقتلة عظيمة كانت عبرة لهم بحيث لا يتجرّأون في الرجوع إلى قتال المسلمين مرّة أخرى، واللّه العالم.

وقوله: {مَا كَانَ} أي لم يشرّع له، ولا يجوز له.

وقوله: {لِنَبِيٍّ} بيان أنّ هذا حكم عام لجميع الأنبياء الذين جاهدوا بالسلاح ولم ينسخ في أيّة شريعة، وكذلك لم ينسخ في شريعة الإسلام.

وقوله: {أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ} أي أن يترك الحرب ليأخذ الأسرى.

وقوله: {حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الإثخان هو تغليظ الحال بكثرة القتل عبر مواصلة القتال، وليس المعنى إثخان الدين أي قوّته! فهذا لا وجه له بل هو خطأ لغة ويأباه سياق الآيات، بل تأباه آية سورة محمّد، وعلى كل حال لا بدّ أن يكون الغرض من الجهاد هو إعزاز الإسلام وكسر شوكة الكفر وإرعاب سائر الكفّار لئلّا يقدموا على قتال المسلمين وهذا يستدعي مواصلة القتال حين انهزام المشركين، لا أن يكون الغرض هو الغنيمة المادّيّة بحيث يتركوا القتال من غير استئذان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} عتاب للمسلمين الذين أوقفوا القتال وشرعوا في أسر الكفّار، ببيان أنّ غرضهم كان الفداء، قال الشيخ المفيد: «ولم يكن منه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الأسرى ذنب عوتب عليه، وإنّما كان ذلك من

ص: 142


1- ([1]) سورة محمّد، الآية: 4.

أصحابه الذين أسروا بغير علمه وكفّوا عن القتال طمعاً في الفداء»((1))، و(العَرَض) هو حطام الدنيا، سُمّي بذلك لقلّة بقائه.

وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْأخِرَةَ} أي يريد لكم ثواب الآخرة، فإنّ اللّه لم يأمركم بالجهاد لأجل اكتساب المال والغنائم وإنّما أمركم به لتنالوا الثواب بالجنّة والرضوان ولذا أمر الأنبياء بالإثخان قبل الأسر.

وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي بعزّته أمر الأنبياء بالإثخان وبحكمته شرّع هذا الحكم لهم لأنّ فيه مصلحة الدين وأهله.

الثالث: قوله تعالى: {لَّوْلَا كِتَٰبٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

أي إنّ إيقافكم الحرب وأخذكم الأسرى بدون إذن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان عملاً يوجب استحقاقكم للعذاب لولا كتاب سبق من اللّه تعالى، وذلك الكتاب إمّا قضاؤه بأن لا يعذّب قبل نزول الحكم حتّى لو كان قبح العمل واضحاً عقلاً، لطفاً منه ورحمة بعباده كما قال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَٰهُم بِعَذَابٖ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ}((2))، وإمّا عدم عذابهم ورسول اللّه فيهم كما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}((3)).

وقوله: {كِتَٰبٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} أي حكم سجّله وكتبه في القرآن أو في اللوح.

وقوله: {فِيمَا أَخَذْتُمْ} أي أخذتم الأسرى وتركتم القتال.

ص: 143


1- ([1]) المسائل العكبريّة: 108.
2- ([2]) سورة طه، الآية: 134.
3- ([3]) سورة الأنفال، الآية: 33.

وقوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما.

الرابع: قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

بيان أنّ خطأهم في ترك القتال وأخذ الأسرى لا يعني حرمة الفداء؛ فإنّه بعد أن وقع في الأسر سبعون من المشركين كان لا بدّ من إجراء حكم الشرع عليهم، وهو أن الحاكم الإسلامي مخيّر بين خمسة أمور يراعي المصلحة في اختيار أيٍّ منها: إمّا أن يقتلهم، أو يمُن عليهم بإطلاق سراحهم مجّاناً، أو يأخذ الفداء منهم، أو يسترقهم، أو يحبسهم حتّى حين، وقد أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقتل اثنين منهم هما عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة، وروي: «فلمّا قتل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) النضر وعقبة خافت الأنصار أن يقتل الأسارى كلّهم، فقاموا إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول اللّه، قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين، وهم قومك وأساراك، هبهم لنا يا رسول اللّه وخذ منهم الفداء وأطلقهم... فأطلق لهم أن يأخذوا الفداء ويطلقوهم، وشرط أن يقتل منهم في عام قابل بعدد من يأخذون منهم الفداء، فرضوا منه بذلك»((1)).

وقوله: {فَكُلُواْ} جزاء لمقدّر أي أحلّه اللّه فكلوه.

وقوله: {مِمَّا غَنِمْتُمْ} أي من الفداء لأنّه جزء من الغنيمة.

وقوله: {حَلَٰلًا طَيِّبًا} الحلال هو ما أباحه الشرع، والطيب لغةً هو ما كان يلائم الطبع ويُلتذ به، وأمّا الطيب الشرعي فهو كل حلال حتّى لو تنفّرت الطباع منه كالأدوية المُرّة.

ص: 144


1- ([1]) البرهان في تفسير القرآن 4: 287.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} وعظ لهم بأن يكون غرضهم في مستقبل أمرهم كسب رضا اللّه تعالى بالعمل بأحكامه لا حطام الدنيا وعرضه.

الهاشميون الذين كانوا مع المشركين

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا...} الآية.

نزلت في الهاشميين الذين كانوا مع المشركين فأمرهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدفع الفداء كسائر المشركين، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «نزلت في العباس وعقيل ونوفل» قال: «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نهى يوم بدر أن يُقتل أحد من بني هاشم، وأبو البختري، فأسروا - إلى أن قال: - فجيء بالعباس فقيل له: افدِ نفسك، وافد ابني أخيك! فقال: يا محمّد، تتركني أسأل قريشاً في كفيّ؟ فقال: أعط ممّا خلّفت عند أم الفضل وقلت لها: إن أصابني في وجهي شيء فأنفقيه على نفسك وولدك، فقال له: يا ابن أخي من أخبرك هذا؟ قال: أتاني به جبرئيل (عليه السلام) من عند اللّه عز ذكره، فقال: ومحلوفه ما علم بهذا أحد إلاّ أنا وهي وأشهد أنّك رسول اللّه. قال: فرجع الأسرى كلّهم مشركين إلاّ العباس وعقيل ونوفل كرّم اللّه وجوههم، وفيهم نزلت هذه الآية...»((1)).

وقوله: {فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} أي إيماناً؛ لأن المغفرة لا تنال مشركاً.

وقوله: {خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} من المال، وقد روي أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعطى بعد ذلك العبّاس مالاً كثيراً((2)

كما قيل: إنّ اللّه بارك له في تجارته، فربح أضعافاً مضاعفة ممّا فداه يوم بدر.

ص: 145


1- ([1]) الكافي 8: 202؛ وتفسير العيّاشي 2: 68.
2- ([2]) قرب الإسناد: 21.

وقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي زيادة على تعويضكم المادي فإنّ اللّه يغفر ذنوبكم.

السادس: قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ...}.

سائر الأسرى الذين أطلق سراحهم يهدّدهم اللّه - لكي لا يعودوا إلى قتال المسلمين مرّة أخرى - بأنّهم إن عادوا سيسلّط اللّه عليهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مرّة أخرى حيث لا ينفعهم حينذاك استغاثتهم واستعطافهم، وهذا ما حصل حيث رجع بعض أسرى بدر إلى قتال المسلمين في أ ُحد فأسروا ولم يقبل منهم شيئاً فقتلوا.

وقوله: {خِيَانَتَكَ} الظاهر أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخذ منهم عهداً بأن لا يعودوا لقتال المسلمين، فكان العود خيانة بنقض العهد.

وقوله: {فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ} لأنّ الكفر خيانة للّه حيث إنّ شكر المنعم واجب، فكفروا بالنعمة، كما أنّهم خانوا عهد اللّه إليهم في فطرتهم بأن لا يطيعوا الشيطان كما قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَٰبَنِي ءَادَمَ أَن لَّا تَعْبُدُواْ الشَّيْطَٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ}((1)).

وقوله: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي سلّطك عليهم في يوم بدر، فكما كان قادراً على ذلك في ما مضى كذلك هو قادر عليه في المستقبل.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي يعلم بأنّهم يريدون الخيانة أم لا، كما أنّه حكيم حينما أباح إطلاق سراحهم مقابل الفداء وقضى بإمكانك منهم لو خانوا.

ص: 146


1- ([1]) سورة يس، الآية: 60-61.

الآيات 72-75

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 72 وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ 73 وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ 74 وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَٰئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ 75}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى - في ختام السورة - حكم الولاية بين الناس، فقال:

72- {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ} من مكّة إلى المدينة أو الحبشة {وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ} بأن أنفقوها {وَأَنفُسِهِمْ} بأن اشتركوا في ساحة القتال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا لغرض دنيوي وهؤلاء هم المهاجرون، {وَالَّذِينَ ءَاوَواْ} جعلوا للمهاجرين مأوى {وَّنَصَرُواْ} رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهؤلاء هم الأنصار {أُوْلَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ} أي يتولّى بعضهم بعضاً في المحبّة والنصرة وغير ذلك من أقسام الولاية، وهذا خبر يراد به الأمر أي يجب عليهم أن يتولّى بعضهم بعضاً، {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} بدون عذر مع وجوب الهجرة عليهم {مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} فكل أقسام الولاية مقطوعة

ص: 147

بينكم وبينهم {حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ} فإن هاجروا ثبتت كل أنواع الولاية لهم، {وَ} لكن هؤلاء المؤمنين غير المهاجرين {إِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ} طلبوا أنتنصروهم على الكفّار {فِي الدِّينِ} أي في ما يرتبط بدينهم {فَعَلَيْكُمُ} أي يجب عليكم {النَّصْرُ} أمّا لو طلبوا النصر في أمر دنيوي فلا، {إِلَّا} لو كان استنصارهم {عَلَىٰ قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ} معاهدة فحينئذٍ يجب الالتزام بالمعاهدة - مادام الكفّار ملتزمين بها - {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الولاية والالتزام بالميثاق وغيرهما {بَصِيرٌ} يراكم فيجازيكم.

73- {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} والمقصود نهي المؤمنين عن أن يتولّوا الكفّار حتّى وإن كانوا أقرباء {إِلَّا} إن لا {تَفْعَلُوهُ} أي إن لم يتولّ بعضكم بعضاً أو تولّيتم الكفّار {تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ} محنة وصعوبات واختلاط الأمر {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} لأنّه سبب ضعف المسلمين وتقوية الكفر وأهله، هذا من حيث حكم الولاية.

74- {وَ} أمّا دلالة الولاية ونتيجتها ف{الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وذلك لإطاعتهم للّه تعالى فقاموا بشروط الإيمان، وعاقبتهم أنّ {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} من اللّه لذنوبهم {وَرِزْقٌ} في الدنيا والآخرة {كَرِيمٌ} مع كرامة حيث لا تبعة ولا مِنّة فيه.

75- {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ} سواء في زمن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أم بعده {وَهَاجَرُواْ} من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام {وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمْ} مع المسلمين الذين هاجروا من قبل {فَأُوْلَٰئِكَ مِنكُمْ} في جميع الأحكام، {وَ} ما ذكر من الولاية إنّما هي في غير الميراث؛ إذ {أُوْلُواْ الْأَرْحَامِ} أي أصحاب

ص: 148

القرابات بالنسب {بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ} في الإرث فذو الرحم أولى من الغريب والأقرب أولى من الأبعد {فِي كِتَٰبِ اللَّهِ} في حكمه الذي أنزله في كتابه{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} ولذا حكم بهذه الأحكام بحكمته تعالى.

أصناف الناس من جهة الولاية

بحوث

الأوّل: لمّا كان غالب آيات هذه السورة المباركة حول قتال المشركين وكيفيّة التعامل معهم، ختمها اللّه تعالى ببيان الحكم في الولاية التي تشمل النصرة والمحبّة والإرث وغير ذلك، فصنّف الناس على أصناف:

1- فمنهم: الملتزم بجميع أحكام الشرع فآمن وجاهد في سبيل اللّه وهاجر أو آوى المهاجرين، فهذا تجب ولايته في كل شيء، حتّى الإرث إن كان قريباً في النسب وأمّا لو لم يكن قريباً فلا يرث.

2- ومنهم: المؤمنون الذين لم يهاجروا - ومن ثَمَّ لم يجاهدوا - مع قدرتهم على الهجرة ووجوبها عليهم، فهؤلاء عصاة، ولذا تنقطع الولاية معهم إلاّ ولاية إرث الأقرباء. نعم، لو تعرّض المشركون إلى دينهم فاستنصروا فلا بدّ للمسلمين من أن ينصروهم، إلاّ لو كان المشركون معاهدون والتزموا بالمعاهدة فيحنئذٍ يجب التزام المسلمين بها.

3- ومنهم: المؤمنون الذين جاؤوا من بعد وهاجروا وجاهدوا فهؤلاء حكمهم كحكم القسم الأوّل، كما لو تأخّر هجرة بعض المؤمنين أو وُلدوا في العصور المتأخّرة فهؤلاء حكمهم بعد الهجرة كحكم الطائفة الأولى.

4- ومنهم: الكفّار فلا يجوز للمؤمنين ولايتهم.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ...}

ص: 149

الآية.

بيان التكليف تجاه المؤمن الكامل الإيمان، وهو الذي إن كان في بلادالكفر ولم يتمكّن من العمل بمقتضى دينه هاجر إلى مكان يتمكّن منه أداء شعائر الدين، وإن كان في بلد الإسلام آوى إليه من يهاجر من المسلمين، كما أنّه يجاهد بماله ونفسه فهذا كامل الإيمان فتجب على المؤمنين ولايته.

وقوله: {وَهَاجَرُواْ} وهم المهاجرون الأوّلون في زمن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث هاجر جمع منهم إلى الحبشة وجمع إلى المدينة المنوّرة، ومن المعلوم أنّ الهجرة من أصعب الأمور لأنّها تعني ترك الوطن والمال والأقرباء وكل ما يرتبط بذلك، ولذا لا يهاجر غالب الناس إلاّ لو اضطرّوا إليها، والهجرة واجبة إن لم يتمكّن الإنسان من أداء شعائر دينه، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}((1))، أمّا إذا تمكّن الإنسان من أداء شعائر دينه في بلاد الكفر فلا تجب عليه الهجرة.

وقوله: {وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ} بأن أنفقوها في سبيل اللّه فمنه واجب كما لو توقّف عليه دين الإنسان، فالمهاجرون تركوا دورهم ومتاجرهم وأموالهم في مكّة ثمّ استولى عليها المشركون، وهذا من أشق الأمور على الإنسان لذا كان جهاداً.

وقوله: {وَأَنفُسِهِمْ} بأن شاركوا في جبهات القتال أو عرضوا أنفسهم

ص: 150


1- ([1]) سورة النساء الآية: 97.

للخطر كياسر وسميّة والدي عمّار رضوان اللّه عليهم حيث قُتلا لإسلامهم فكان ذلك جهاداً منهم.

وقوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بأن كان غرضهم طاعة اللّه وكسب رضاه.

وقوله: {وَالَّذِينَ ءَاوَواْ} وهم الأنصار الذين قبلوا المهاجرين في بيوتهم فجعلوها مأوى لهم، حيث قسّم الأنصار بيوتهم مع المهاجرين إلى أن فتح اللّه تعالى على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فغنم بيوت بني النضير فقسّمها بين المهاجرين، كما سيأتي تفصيله في سورة الحشر إن شاء اللّه تعالى.

وقوله: {وَّنَصَرُواْ} أي نصروا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإسلام في الغزوات وغيرها.

وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ} أي هؤلاء المهاجرون والأنصار لبعضهم الولاية على بعض، والولاية هنا عامة تشمل كل أنواع الولاية من المحبّة والنصرة والصداقة وغير ذلك إلاّ الإرث فهو خاص بذوي القرابات، كما سيأتي في الآية 75.

الثالث: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيْءٍ}.

بيان الصنف الثاني من المؤمنين وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا مع وجوب الهجرة عليهم ومن ثَمّ لم يجاهدوا فهؤلاء لا ولاية لهم، لمخالفتهم أمر اللّه تعالى، مثل العبّاس بن عبد المطلب فإنّه بعد أسره في بدر وفدائه أسلم لكنّه رجع إلى مكّة ولم يهاجر إلى المدينة، حتّى فتح اللّه تعالى مكّة المكرّمة لرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخرج إلى المدينة، ولم يكن هجرة؛ لأنّ مكّة بالفتح صارت من دار الإسلام فالخروج منها لم يكن هجرة، وروي عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه

ص: 151

قال: «لا هجرة بعد الفتح»((1))، وكان بنو العبّاس يزعمون أنّهم أولى بالخلافة من الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) لأنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ارتحل والعبّاس حيّ وهو عمّ، والعم أولى من ابن العم! وكلامهم باطل من جهات: إذ الخلافة تعيين من اللّه وليست بالإرث، وأنّ العم لا يرث مع وجود البنت إلاّ على التعصيب الباطل، وأنّ ابن العم من الأبوين أولى بالإرث من العم إذا كان من الأب، وكان عبد اللّه وأبو طالب أخوين من الأب والأم وأمّا العبّاس فكان من أم أخرى، مضافاً إلى ما نطقت به هذه الآية حيث لم يهاجر العبّاس فلم تكن له من الولاية شيء، وهذا ما استدل به الإمام الكاظم (عليه السلام) لمّا سأله هارون العبّاسي((2)).

وقوله: {مِّن شَيْءٍ} تعميم فلا توجد أيّة ولاية معهم، إلاّ الإرث لو كانوا من ذوي الأرحام، كما سيأتي في الآية الأخيرة.

وقيل: إنّ اللّه في البداية شرّع الإرث بالمواخاة دون القرابة ثمّ نسخه بالآية الأخيرة! لكن لم يدل دليل معتبر على ذلك، فالأصح أنّه لا نسخ وإنّما آية الولاية عامّة إلاّ للإرث فولايته لذوي الأرحام.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمِ...} الآية.

هذا استثناء من عدم الولاية لمن لم يهاجروا، وهو أنّ الكفّار لو تعرضوا لدين المسلمين الذين لم يهاجروا فطلبوا النصر فلا بدّ من نصرهم ليس

ص: 152


1- ([1]) الكافي 5: 443.
2- ([2]) راجع عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 81؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 370.

لأجلهم وإنّما لأجل الدين، فهؤلاء مع وجوب الهجرة عليهم عصاة في تركهم الهجرة والجهاد ولكنّهم مسلمون لا يحق للكفّار التعرّض لدينهم، وأمّا إذا استنصروا في غير الدين فلا تجب نصرتهم، بل يقال لهم هاجروا تتخلّصوا من الظلم والهوان، فما أنتم فيه إنّما هو بما كسبت أيديكم.

وقوله: {فِي الدِّينِ} حصر لاستنصارهم، بأن يكون لأجل دينهم، لا لأجل دنياهم.

وقوله: {إِلَّا عَلَىٰ قَوْمِ...} أي لو كان هناك ميثاق بين المسلمين والكفّار فحينئذٍ الوفاء بالمعاهدة أولى من الاستجابة لاستنصار المسلمين العصاة بعدم الهجرة، حيث إنّ ما هم عليه من الاضطهاد هو بسوء اختيارهم.

نعم، لو كان التعرّض للمسلمين نقضاً من الكفّار لعهدهم مع المسلمين فحينئذٍ يلزم إنهاء المعاهدة ومن ثَمَّ نصر أولئك المسلمين كما يحدث في العصر الحاضر حيث إنّ المعاهدات الدوليّة بين دول المسلمين والكفّار تؤطّر بإطار بيان الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان وقراراتها العامّة والتي تمنع أيّة دولة من اضطهاد مواطنيها وتضمن الحرّيات الدينيّة، وحينئذٍ لو خالفت دولة كافرة واضطهدت المسلمين فقد خالفت المعاهدات بينها وبين الدول الإسلاميّة وبذلك يجب على المسلمين إنهاء تلك المعاهدات ونصر المسلمين المضطهدين.

الخامس: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.

هذا إخبار يراد به تشريع حكم للمسلمين لا للكفّار، فالمعنى لا يجوز لكم ولاية الكفّار بل اتركوهم يتولّى بعضهم بعضاً كما قال تعالى: {لَّا تَجِدُ

ص: 153

قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}((1))، وقد ذم اللّه المنافقين بشدّة لمّا تولّوا الكفّار فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}((2))، وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ}((3)).

نعم، لو لم يكن الكفّار محاربين ولم يُخرجوا المسلمين من ديارهم فلا بأس بِبرّهم وهو ليس من الولاية، قال سبحانه: {لَّا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ...}((4)).

السادس: قوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.

أضرار ولاية الكفّار

بعد أن أمر اللّه بولاية المؤمنين المذكورين بعضهم لبعض ونهى عن ولاية الكفّار، يحذّر المؤمنين من عصيان هذا الأمر والنهي؛ إذ يودّي إلى الفتنة والفساد الكبير، وذلك لأنّ الولاية لا بدّ منها لكن في إطارها الصحيح فإن خرجت عن ذلك اختل النظام فأورثت الفتنة والفساد، وذلك ككل قانون صحيح إذا خرج عن مساره انقلب إلى ضده، وفي التقريب: «وقد دل منطق التاريخ أنّ كل وقت اتّخذ فيه المسلمون الكافرين أولياء ضعفت شوكتهم وذهبت ريحهم، وبالعكس كل وقت اتخذوهم فيه أعداء واتخذوا

ص: 154


1- ([1]) سورة المجادلة، الآية: 22.
2- ([2]) سورة المجادلة، الآية: 14-15.
3- ([3]) سورة الممتحنة، الآية: 1.
4- ([4]) سورة الممتحنة، الآية: 8.

سائر المسلمين أولياء قويت شوكتهم وهبّت ريحهم»((1))، وفي تفسير الصافي: «لأنّ المسلمين ما لم يكونوا يداً واحدة على أهل الشرك كان الشرك ظاهراً وتجرّأ أهله على أهل الإسلام ودعوهم إلى الكفر»((2)).

ولذا فالمسلمون كلّهم أمّة واحدة وهم إخوة، أمّا ما جاء به الكفّار إلى بلاد المسلمين من الحدود واعتبار سائر المسلمين أجانب لا يدخلون البلد إلاّ بتأشيرة ولا يحق لهم البقاء ولا العمل فيه إلاّ بإجازة ولا يتمتّعون بحقوق المواطنين، وفي المقابل يكون للكافر المواطن كامل الحقوق فهذا ترك العمل بهذه الآيات ممّا أورث المسلمين ذُلّاً وهواناً وسيطر عليهم الشرق والغرب يقتلون أبناءهم وينهبون ثرواتهم وينتهكون حرماتهم، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم.

وقوله: {فِتْنَةٌ} كأنّ المراد به هنا محنة ومشاكل تعم المسلمين، يضيع فيه الحق وأهله فيختلط الأمر.

وقوله: {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} كأنّ المراد به هنا سيطرة الكفّار واختلال النظام واضطراب حال المسلمين، وهو نتيجة الفتنة.

السابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ...} الآية.

هذا بيان لدلالة التولّي ونتيجته فليست تكراراً للآية 72، أمّا الدلالة: فهي أنّ هؤلاء مؤمنون حق الإيمان، فإنّ من يلتزم بأوامر اللّه ونواهيه ويطيعه في

ص: 155


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 361.
2- ([2]) تفسير الصافي 3: 364.

كل ما أمر وخاصّة في الصعوبات فهو المؤمن الحق، أمّا الضعيف الإيمان أو المنافق فهو لا يطيع بل يعصي في ما صعب عليه الالتزام به بل حتّى في الأمور السهله ممّا لا رغبة له فيها.

وأمّا نتيجتها: فالمغفرة لذنوبهم لأنّ الحسنات يذهبن السيّئات، وكذا الرزق الكريم، وهو عام يشمل الدنيا والآخرة؛ إذ بالهجرة والجهاد في سبيل اللّه بعد الإيمان فتح اللّه للمسلمين الدنيا وأغدق اللّه عليهم الغنائم وبركات السماء والأرض، كما أنّ اللّه وعد المؤمنين العاملين بالصالحات بثواب الآخرة.

وقوله: {رِزْقٌ كَرِيمٌ} أي مع كرامة فلا تبعة له ولا مِنّة، وهذا شأن عطاء اللّه تعالى.

الثامن: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَٰئِكَ مِنكُمْ}.

بيان أنّ حكم الولاية مستمر وليس خاصّاً بالسابقين الأوّلين، فما دامت شرائط الهجرة والجهاد موجودة كان حكم الولاية مستمرّاً، فأمّا «لا هجرة بعد الفتح» فهذا يتربط بالهجرة من مكّة؛ إذ بفتحها صارت جزءاً من بلاد الإسلام، كما ذكرنا ذلك قبل قليل.

وقوله: {مِن بَعْدُ} أي بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة والمدينة، فكلّما هاجر المسلمون من مكّة قبل فتحها كانوا مهاجرين تجب ولايتهم، أمّا بعد فتح مكّة فبالهجرة من سائر بلاد الكفر إلى بلد الإسلام.

وقوله: {فَأُوْلَٰئِكَ مِنكُمْ} أي هم من جملتكم فيجري عليهم جميع الأحكام، فالسابقون الأوّلون حازوا بفضل السبق لكن الأحكام ليست خاصّة

ص: 156

بهم، وكذلك هم منكم في الأجر والثواب.

أولوية أولو الأرحام

التاسع: قوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ}.

بيان أنّ ولاية المؤمنين بعضهم لبعض لا تعني إرثهم من بعض إلاّ إذا كانوا أقرباء نسباً مع كون الأقرب يمنع الأبعد، وقيل: هذه نسخت حكم الولاية في الإرث! لكن لا دليل معتبر على النسخ مع عدم المنافاة بين الولاية وبين عدم الإرث إلاّ بالقرابة، فلا نسخ في البين.

ثمّ اعلم أنّ لفظ {أُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ} ورد في القرآن مرّتين والسياق يقتضي تغاير المقصود من الآيتين، فهذه الآية - التي في سورة الأنفال - حيث الكلام عن ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ظاهرة في الأولويّة في الإرث، فهي تدل على أنّ ذوي الرحم أولى بالإرث من غيرهم، كما أنّ الرحم الأقرب كالابن أولى من الأبعد كالعم، وأمّا الآية الأخرى - التي في سورة الأحزاب - فسياقها يدل على أنّ المقصود بها الإمارة والحكومة حيث قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَٰجُهُ أُمَّهَٰتُهُمْ وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَٰجِرِينَ}((1)

حيث إنّ الآية في أحكام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأقربائه فيقال: إنّ النبي أولى بالمؤمنين فله الولاية عليهم سواء في الأمور العامّة أم الخاصّة، وأمّا أزواج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحكمهن أنّهن لا يجوز الزواج بهن لأنّهن أمّهات المؤمنين، وأمّا الولاية بعد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهي للإمام علي بن أبي طالب فهو

ص: 157


1- ([1]) سورة الأحزاب، الآية: 6.

رحم الرسول الأولى به من غيره، وهذه الآية تجري في الأئمّة من ولده (عليهم السلام) فالولد الأكبر أولى بأبيه من سائر الناس وسائر القربات، ويستثنى من ذلك الإمام الحسين (عليه السلام) حيث كان أولى بالإمام الحسن (عليه السلام) من أولاده، كما يستثنى الأكبر إذا مات في حياة أبيه أو كانت به عاهة، وبذلك دلّت مستفيض الروايات، وقد ذكرنا بعضها في شرح أصول الكافي فراجع((1)).

والحاصل: أنّ آية الأنفال في الإرث وآية الأحزاب في الإمرة والخلافة بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبذلك يتّضح معنى الروايات الواردة في تفسير هاتين الآيتين، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه سئل عن الآية فقال: «نزلت في ولد الحسين (عليه السلام) »، قلت: جعلت فداك نزلت في الفرائض؟ قال: «لا»، قلت: «ففي المواريث؟» قال: «لا، نزلت في الإمرة»((2))، فهذا الحديث وأمثاله تفسير لآية الأحزاب، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «إنّ بعضهم أولى بالميراث من بعض لأنّ أقربهم إليه رحماً أولى به»((3))، فهذا الحديث وأمثاله تفسير لآية الأنفال.

وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ} أي أولى في الإرث فالأقرب أولى من الأبعد، وهذه الآية مطلقة تشمل الرجال والنساء، كما تشمل من لهم سهم في الكتاب ومن ليس لهم سهم وبذلك يبطل التعصيب، كما يبطل التعصيب أيضاً بقوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}((4))؛ لأنّ التعصيب

ص: 158


1- ([1]) شرح أصول الكافي، للمؤلّف 4: 313-315.
2- ([2]) البرهان في تفسير القرآن 7: 521.
3- ([3]) البرهان في تفسير القرآن 4: 375-376.
4- ([4]) سورة النساء، الآية: 7.

هو توريث الأبعد من الرجال خاصّة، وقد مرّ بحثه في سورة النساء فراجع((1)).

وقوله: {فِي كِتَٰبِ اللَّهِ} أي في حكمه المسجّل في كتابه وهو القرآن الكريم وكذا اللوح.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} بيان أنّ أحكامه إنّما هي بعلم، فهو العالم بكل شيء لذلك شرّع ما هو الأصلح بحكمته تعالى.

خاتمة: في ثواب قراءة سورة الأنفال والتوبة

خاتمة

عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سورة براءة والأنفال في كل شهر لم يدخله نفاق أبداً، وكان من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) حقّاً، وأكل يوم القيامة من موائد الجنّة مع شيعته حتّى يفرغ الناس من الحساب»((2))، والمراد من قرأها وتدبّرها وعمل بها.

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ هذه السورة فأنا شفيع له يوم القيامة، وشاهد أنّه بريء من النفاق، وكُتبت له الحسنات بعدد كل منافق، ومن كتبها وعلّقها عليه لم يقف بين يدي حاكم إلاّ وأخذ حقّه وقضى حاجته، ولم يتعدّ عليه أحد ولا ينازعه أحد إلاّ وظفر به وخرج عنه مسروراً وكان له حصناً»((3))، وهذا من باب المقتضي والأثر الغيبي الذي يقدّره اللّه تعالى إن شاء.

ص: 159


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة النساء: 44.
2- ([2]) تفسير العيّاشي 2: 46؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 259.
3- ([3]) البرهان في تفسير القرآن 4: 260.

ص: 160

سورة التوبة

الإطار العام للسورة

موضوع هذه السورة المباركة كيفية التعامل مع المشركين الناقضين للعهد وغير الناقضين ومع أهل الكتاب، ومع المنافقين المخالفين لأمر اللّه ورسوله، وأكثر آياتها حول غزوة تبوك وما جرى على المسلمين فيها.

فالقسم الأوّل من السورة: بيان نقض المشركين للعهود وأن ذلك صار سبباً لبراءة اللّه ورسوله من عهودهم، ويستثنى من ذلك المعاهدون الذين التزموا بالعهود، أو إذا أسلموا، مع الحث على قتال الناقضين للعهد، وأنه لا حقّ للمشركين في المسجد الحرام لأنه دار التوحيد لا دار الشرك، ولذا لا يجوز لهم دخوله بعد البراءة منهم، ثمّ حث المسلمين على نصر الرسول وأنّهم إن لم ينصروه فإن اللّه ناصره كما نصره في غزوة حنين، وفي الغار حين هجرته من مكة، ثمّ الحث على جهاد أهل الكتاب مع بيان سببه وبيان حال أحبارهم ورهبانهم.

والقسم الثاني من السورة: حول غزوة تبوك التي فضحت المنافقين، وبيان مواقف الناس في الغزوة، فمنهم منافقون يستأذنون لئلّا يجاهدوا من غير عذر صحيح، بل لو خرجوا مع المسلمين زادوهم خبالاً وهم طلاب فتنة

ص: 161

وأعمالهم غير مقبولة، ومنافقون إن أعطوا المال رضوا وإن لم يعطوا سخطوا، ومنافقون يؤذون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومنافقون يخالفون عهدهم مع اللّه تعالى ويلمزون المتصدّقين، ثمّ بيان أن المخلّفين يفرحون بمعصيتهم لكن اللّه تعالى يعاقبهم في الدنيا بتشريعات وفي الآخرة بالعذاب، وهناك أعراب يعتذرون بأعذار واهية، ثمّ يستثني اللّه ذوي الأعذار الحقيقية كالضعفاء والمرضى ونحوهما.

ثمّ يصنّف اللّه تعالى الناس بشكل عام مع انطباق هذا التصنيف على مواقف الناس في غزوة تبوك، فمنهم: أعراب هم أشد كفراً ونفاقاً، ومنهم: أعراب مؤمنون، ومنهم: السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، ومنهم: الذين اتبعوهم بإحسان، ومنهم: منافقون من أهل المدينة ومن الأعراب حولها، ومنهم: المعترفون بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ومنهم: المرجَون لأمر اللّه، ومنهم: منافقون مخربون، ومنهم: المؤمنون المجاهدون في سبيل اللّه.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى لطفه بالنبي وبالمؤمنين الذين اتبعوه في غزوة تبوك مع صعوبتها وعلى بعض العصاة الذين تابوا.

ثمّ يأمر باتّباع الصادقين - وهم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) - بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثمّ يبيّن ثواب اتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الجهاد، ويستثني منهم من ينفر للتفقه في الدين.

ثمّ يبيّن اللّه كيفية قتال الكفّار، وحال المنافقين والمؤمنين، ثمّ تختم السورة بوصف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 162

الآيات 1-4

اشارة

{بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ 1 فَسِيحُواْ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٖ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَٰفِرِينَ 2 وَأَذَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 3 إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَئًْا وَلَمْ يُظَٰهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ 4}

1- هذه {بَرَاءَةٌ} انقطاع الأمن والعصمة {مِّنَ اللَّهِ} بتشريعه {وَرَسُولِهِ} بتنفيذه {إِلَى الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} بسبب نقضهم للعهود التي كانت بينهم وبين المسلمين.

2- {فَسِيحُواْ} سيروا بمهلة وأمن أيها المشركون {فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٖ} من عاشر ذي الحجة إلى عاشر ربيع الثاني {وَاعْلَمُواْ} أن هذه المدة لا تنفعكم و{أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} فلا تفوتونه وإن أمهلكم {وَ} اعلموا {أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَٰفِرِينَ} الخزي: ذل بفضيحة.

3- ثمّ عمّم اللّه البراءة فقال: {وَأَذَٰنٌ} إعلام {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} جميعاً - المسلمين والمشركين - {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} عاشر ذي الحجة {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} سواء المعاهدين الناقضين أم غير المعاهدين فلا تشريع منه تعالى لأمنهم، {وَرَسُولُهُ} كذلك بريء منهم فيرسل من يقاتلهم،

ص: 163

وكان المؤذن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعدعزل أبي بكر، {فَإِن تُبْتُمْ} أيها المشركون من الشرك {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في الدنيا والآخرة {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن التوبة {فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} فهو قادر على أخذكم {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في الدنيا والآخرة.

4- ويستثني من البراءة صنفين: أحدهما: الذين لم يغدروا فقال: {إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَئًْا} من العهود بل التزموا بجميع شروطها {وَلَمْ يُظَٰهِرُواْ} لم يعاونوا في نقض الشروط {عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ} التي اتفقتم عليها في المعاهدة، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} فمن التقوى الالتزام بالمعاهدة مع هؤلاء.

عدم بدأ سورة التوبة بالبسملة

بحوث

الأوّل: لم تبتدأ هذه السورة بالبسملة كسائر السور القرآنية «لأن بسم اللّه للأمان والرحمة، ونزلت سورة البراءة لرفع الأمان بالسيف»، كما عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ((1))، وأمّا ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «الأنفال وبراءة واحدة»((2)) فلعلّ المراد أن المعنى متقارب فكأن سورة التوبة تتمة لسورة الأنفال، وليس المعنى أنهما سورة واحدة، فالوحدة حُكمية من جهة المعنى وليست وحدة عددية.

وقد مرّ أن ترتيب القرآن بسوره وآياته وما فيه كلّه من اللّه تعالى وليس للناس فيه صنع، وأمّا الجمع الذي كان في زمن أبي بكر وعثمان فكان

ص: 164


1- ([1]) مجمع البيان 5: 9؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 381.
2- ([2]) تفسير العياشي 2: 73؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 381.

استنساخاً وبعث القرآن إلى بعض المدن، وإحراق قرآئين بعض الصحابة، وأمّا القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فكان جمعه بتفسيره وتأويله، وعليه فالقرآن الموجود الآن بين الدفتين هو بنفس الكيفية التي خلّفه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمّته.

الثاني: سبب نزول هذه الآيات أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عاهد مجموعة من المشركين، إلاّ أن الكثير منهم نقضوا العهود إمّا بشكل مباشر أو غير مباشر، فصار المسلمون في حِلٍّ من تلك المعاهدات إلاّ أن اللّه تعالى أراد إعلام المشركين بانتهاء تلك العهود، ولعلّه لئلّا يُحمل عدم التزام المسلمين بها على الغدر بالمشركين وليتهيّأ المسلمون لقتالهم، ولفتح باب التوبة عليهم، ولعلّ بعض آحاد المشركين لم يكن يعلم غدر المعاهدين من قومه.

ثمّ اختار اللّه تعالى لزمان الإعلام وقتاً يجتمع فيه الجميع ليطلعوا على ذلك ولئلّا يبقى مجال لادّعاء بعضهم عدم العلم بانتهاء المعاهدات، فكان وقت الإعلام في الحج الأكبر.

وقد أمهلهم اللّه تعالى أربعة أشهر وهي فترة كافية لرجوع الحجاج منهم إلى ديارهم ووصول الخبر إلى جميعهم.

عزل أبي بكر عن تلاوتها في الحج

فأرسل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبا بكر إلى الحج، إلاّ أن اللّه تعالى أوحى إليه بأن يعزله ويرسل الإمام علياً (عليه السلام) لتلاوة هذه الآيات، وقد اتفقت رواية المسلمين على أن اللّه تعالى أوحى إلى رسوله: «لا يُؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك»((1))، وهذا كلام مطلق ولا يختص بإعلام هذه الآيات بل إعلامها

ص: 165


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 383-385.

شأن نزول هذا الوحي، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص شأن الوحي، وخصوصية المورد لا تخصّص الوارد، ولذا أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإمام علياً (عليه السلام) بإعلان مجموعة أخرى من الأحكام التي أوحاها اللّه تعالى إليه كمنع حج المشركين بعد ذلك العام بقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا}((1))، وكمنع الطواف عراة بقوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ}((2))، وغير ذلك((3)).

لا يؤدّي عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ الإمام علي (عليه السلام)

وحيث إن هذا الموقف من اللّه تعالى دليل واضح على أن الذي يؤدّي عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل شيء هو الإمام علي (عليه السلام) لا غيره، وفي ذلك دلالة صريحة على كونه الأفضل، لذلك حاول البعض اختلاق قضايا وإضافتها إلى هذه القصة لإلغاء دلالتها! إلاّ أن ما أوحاه اللّه تعالى إلى رسوله بأنه: «لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك» حجة بيّنة على عدم صحة تلك الإضافات، مضافاً إلى التناقض والاضطراب في ما أضافوه، فراجع التفاسير المفصّلة.

الثالث: قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ}.

قوله: {بَرَاءَةٌ} هي التباعد والمزايلة، والمراد هنا انقطاع أمن وعصمة وانتهاء المعاهدة، وهي إمّا خبر لمبتدأ مقدر أي هذه براءة، أو مبتدأ والخبر قوله: {إِلَى الَّذِينَ عَٰهَدتُّم}.

ص: 166


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 28.
2- ([2]) سورة الأعراف، الآية: 31.
3- ([3]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 382-386.

وقوله: {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لأن التشريع من اللّه تعالى، والتنفيذ من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما أن في اقتران الاسمين زيادة احترام وتبجيل للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {إِلَى الَّذِينَ عَٰهَدتُّم} المعاهدة هي ميثاق بين طرفين، وأمّا العهد فقد يكون ميثاقاً أو أمراً كقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَٰبَنِي ءَادَمَ أَن لَّا تَعْبُدُواْ الشَّيْطَٰنَ}((1))، ثمّ إن تلك العهود شارك في إبرامها المسلمون أيضاً ولذا نسب العهد إليهم فقال: {عَٰهَدتُّم}، وأمّا البراءة فهي أمر من اللّه تعالى يبلّغه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولذا خصّها بهما.

الرابع: قوله تعالى: {فَسِيحُواْ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٖ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ...} الآية.

إمهال لهم بعد الإعلام بالمدة الكافية ليرجعوا إلى مأمنهم ويأخذوا استعدادهم، وذلك رحمة من اللّه للناس، وإلاّ فيجوز أخذ الناقض للعهد بجرمه من غير إعلام له ولا إمهاله.

وقوله: {فَسِيحُواْ} من السياحة بمعنى السير على مهل، فيكونون في أمن وأمان.

وقوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٖ} وهي بدأت من حين الإعلام أي من يوم العاشر من ذي الحجة؛ إذ لا معنى لابتداء المدة قبل الإعلام، فلا يصح ما قاله بعضهم من أن الأشهر بدأت من شوال أو من ذي القعدة.

وقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} تهديد لهم بأن إمهالهم ليس عن ضعف، وأن اللّه غالب على أمره فلا يمكنهم معارضته.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَٰفِرِينَ} لبيان أن اللّه ينفّذ تهديده بأخذهم أخذ

ص: 167


1- ([1]) سورة يس، الآية: 60.

عزيز مقتدر، ف{غَيْرُ مُعْجِزِي} بيان قدرته تعالى، و{مُخْزِي} بيان إعمال تلك القدرة، و(الإخزاء) إذلال بفضيحة.

الخامس: قوله تعالى: {وَأَذَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ...} الآية.

هذه الآية تعميم للبراءة، حيث إن الآية الأولى كانت للبراءة من المشركين المعاهدين الذين نقضوا العهد، وهذه الآية لبيان البراءة من المشركين كافة حتى الذين لم يكن بينهم وبين المسلمين عهد، ولذا قال: {إِلَى النَّاسِ}، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «وكانت سيرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلاّ من قاتله، ولا يحارب إلاّ من حاربه وأراده، وقد كان نزل عليه في ذلك: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}((1))، فكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يقاتل أحداً قد تنحّى عنه واعتزله، حتى نزلت عليه سورة البراءة وأمره اللّه بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلاّ الذين قد كان عاهدهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة إلى مدة...»((2)).

وقوله: {وَأَذَٰنٌ} وهو النداء المسموع، فالمقصود وصول الخبر إلى جميعهم بحيث لا يبقى أحد لا يعلم به.

وقوله: {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي كما كانت البراءة من اللّه ورسوله، كذلكالأذان منهما أي هما اللذان أمرا به، وكان المؤذّن الإمام عليّاً (عليه السلام) ، فهو

ص: 168


1- ([1]) سورة النساء، الآية: 90.
2- ([2]) تفسير القمي 1: 281؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 383.

المؤذن من اللّه ورسوله في الدنيا بالبراءة من المشركين، وهو المؤذن في الآخرة باللعنة على الظالمين، قال تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّٰلِمِينَ}((1))((2)).

وقت الحج الأكبر

قوله: {الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} المراد هنا خصوص يوم العاشر من ذي الحجة من السنة التاسعة للّهجرة؛ وذلك لأن معظم أعمال الحج في هذا اليوم، وقد اجتمع المسلمون والمشركون للحج في تلك السنة فقط - حيث فتحت مكة في السنة الثامنة ولم يحج المسلمون فيها لانشغالهم بالغزوات، ومنع المشركون من الحج في السنة العاشرة فما بعد - ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنّما سُمّي الأكبر لأنها كانت سنة حجّ فيها المسلمون والمشركون، ولم يحج المشركون بعد تلك السنة»((3))، وعنه (عليه السلام) قال: «يوم الحج الأكبر يوم النحر»((4))، وأمّا ما ورد من أنه: «خروج القائم (عليه السلام) وأذان دعوته إلى نفسه»((5)) فهو من التأويل بجريان مثل ذلك حين خروجه (عليه السلام) .

وكان الواجب الأذان بالبراءة يوم العاشر من ذي الحجة في السنة التاسعة، وهذا لا ينافي الإعلام قبله تمهيداً وبعده تأكيداً، ولذا ورد أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أذّن في المواقف كلّها، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «فبعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) ، وكان علي هو واللّه المؤذّن، فأذّن

ص: 169


1- ([1]) سورة الأعراف، الآية: 44.
2- ([2]) راجع معاني الأخبار: 59.
3- ([3]) معاني الأخبار: 296.
4- ([4]) تفسير العياشي 2: 76.
5- ([5]) تفسير العياشي 2: 76؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 387.

بأذان اللّه ورسوله يوم الحج الأكبر من المواقف كلّها»((1)).

نعم، يطلق الحج الأكبر في غير هذه الآية على الحج بجميع أيّامه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «الحج الأكبر يوم عرفة، وجَمع، ورمي الجمار، والحج الأصغر العمرة»((2)).

والحاصل: أن الحج الأكبر هو جميع أيام الحج إلاّ أن المقصود منه في هذه الآية خصوص يوم العاشر من ذي الحجة، واللّه العالم.

وقوله: {فَإِن تُبْتُمْ} المراد التوبة عن الشرك، لا نقض العهد؛ وذلك لأن هذه الآية بيان البراءة من جميع المشركين - سواء المعاهدين الناقضين أم غير المعاهدين - فتوبتهم بالإيمان، مضافاً إلى أن التوبة عن خصوص نقض العهد مع بقاء شركهم لا تنفع في رجوع العهد، ولذا لمّا نقضت قريش معاهدة الحديبية لم يقبل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجديدها مرّة أخرى رغم طلب أبي سفيان ذلك.

وقوله: {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم عن التوبة وبقيتم على الشرك.

وقوله: {غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} كما أن الناقضين غير معجزين كذلك عامة المشركين غير معجزين، فاللّه تعالى قادر عليهم.

وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ...} بيان أن اللّه تعالى يُعمل قدرته في عذابهم ف{غَيْرُ مُعْجِزِي} لبيان قدرته لكن القادر قد يعفو أو لا يستعمل قدرته،و{بَشِّرِ} لبيان أخذهم بتلك القدرة وعدم العفو عنهم، ويمكن أن يكون

ص: 170


1- ([1]) تفسير العياشي 2: 76؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 387.
2- ([2]) تفسير العياشي 2: 76؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 388.

الأوّل في الغلبة عليهم في الدنيا، والثاني في عذابهم في الآخرة.

وفي تقريب القرآن: «وتسمية الإنذار بشارة من باب الاستهزاء وذكر الضد مكان الضد، كما يسمى الزنجي كافوراً، والأعمى بصيراً، ولبيان أن العذاب يأتي مكان انتظار البشارة، فإن الكفّار كانوا ينتظرون بأعمالهم عاقبة حسنة فإذا بها عذاب ونكال»((1)).

السادس: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَئًْا...} الآية.

شروع في استثناء صنفين:

الصنف الأوّل: المعاهدون الملتزمون بالعهود، فلا يخالفون الشروط بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا الاستثناء يدل على أن أكثر المشركين كانوا بين ناقض للعهد وغير معاهد، وأمّا القليل منهم فمعاهد وفيّ بعهده.

وليس في الآية دلالة على عدم جواز معاهدة المشركين بعد ذلك، ولذا يجوز إبرام المعاهدات مع المشركين، وعليه فإطلاق أدلة جواز إبرام المعاهدات يدل على أنه يصح أن تتضمن المعاهدة خضوعهم لحكم المسلمين فيكونوا كأهل الذمة من أهل الكتاب.

وأمّا الصنف الثاني فسيأتي في الآية 6.

وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَئًْا} أي التزموا بمواد المعاهدة وشروطها بشكل تام من غير نقض شيء منها، فلو نقصوا شيئاً فقد نقضوا المعاهدة وهذا فيالالتزام المباشر.

ص: 171


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 366-367.

وقوله: {وَلَمْ يُظَٰهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا} قيل: هذا في الالتزام غير المباشر، فإن من يساعد العدو بالمال أو السلاح أو غير ذلك فقد نقض المعاهدة بشكل غير مباشر، وقيل: هو من ذكر الخاص بعد العام لأهمية عدم المظاهرة؛ ولأن بعض المشركين كان يزعم أنه لو ظاهر العدو خفي ذلك على المسلمين لعدم كون المظاهرة في العلن.

وقوله: {إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ} بيان أن العهد الموقّت لا يوجب التزاماً دائماً وإنّما التزاماً موقتاً، ومع انتهاء مدة العهد يكون المسلمون بالخيار بين تمديد المدة وتجديد العهد وعدم ذلك.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تعليل لاستثناء هؤلاء، فإن الغدر بهم خلاف التقوى، فالتعليل بأمر عام هو وجوب التقوى وتطبيقه على المورد الخاص وهو الالتزام بالعهد مع الملتزمين به.

ص: 172

الآيتان 5-6

{فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 5 وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ 6}

5- {فَإِذَا انسَلَخَ} مضى وانقضى {الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} وهي أشهر السياحة التي حرم اللّه فيها قتال الناقضين وآخرها العاشر من ربيع الثاني، فأنتم بالخيار بين أمور أربعة: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} أي قاتلوهم {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} في أيّ مكان، {وَخُذُوهُمْ} بالأسر، {وَاحْصُرُوهُمْ} بمنعهم عن التحرك بحرية، {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ} بمراقبة حركتهم، فاختاروا ما هو الأصلح لئلّا يشكّلوا خطراً عليكم، {فَإِن تَابُواْ} عن الشرك بأن آمنوا، هذا في العقيدة {وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ} هذا في الالتزام العملي بأحكام الشرع {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} بأن لا تتعرضوا لهم فقد صاروا إخوانكم في الدين {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذنوبهم لذا يقبل توبتهم {رَّحِيمٌ} بهم لذا رفع حكم القتل والأسر وغيرهما عنهم.

6- {وَ} الصنف الثاني الذي استثناه اللّه هو المستجير ف{إِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} الذي أ ُمرت بقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم {اسْتَجَارَكَ} استأمنك {فَأَجِرْهُ} أي أعطه الأمان {حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ اللَّهِ} عسى أن يهتدي

ص: 173

{ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي موضع أمنه أي ليكن في أمانك في رجوعه لئلّا يغدر به أحد في الطريق، {ذَٰلِكَ} أي إنّما استثنى اللّه هؤلاء {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ} حقيقة الإيمان حيث لم يسمعوا القرآن وبراهينه فقد يكون سماعهم له سبباً لهدايتهم.

بحوث

الأوّل: لمّا حدد اللّه تعالى أشهر السياحة بحرية المشركين الناقضين للعهد وغير المعاهدين بأربعة أشهر بيّن أنه بانقضاء الأشهر الأربع يجب على المسلمين التضييق عليهم بالقتال أو غيره، والغرض من ذلك هو هدايتهم أو دفع خطرهم عن المسلمين، فإن اهتدوا فهو المطلوب، وإلاّ فلا بدّ من أن يختار المسلمون ما هو الأنسب في دفع شرهم إمّا بالقتال أو بالأسر أو الحصر أو المراقبة، كما أنه لا بدّ من إرشاد الجاهل منهم بفتح الطريق أمامه ليستمع إلى الهدى؛ إذ كثير من المشركين كانوا في مناطق بعيدة عن مكة والمدينة لم يسمعوا شيئاً عن الإسلام، فعسى أن يكون فيهم منصف قابل للّهداية فلذا لا بدّ من تعبيد الطريق أمامه ليستمع إلى الهدى، وهذا يتوقف على أحد أمرين: إمّا ذهاب المبلغين إليهم، وإمّا مجيئهم إلى دار الإسلام، فإذا امتنع الأوّل لوجود حالة القتال بين المسلمين والمشركين انحصر الأمر في الثاني بإعطاء الأمن لمن يريد سماع كلام اللّه، فإن استمع وأسلم فهو المطلوب وإن لم يهتد فلا بدّ من إرجاعه آمناً إلى محلّه.

الثاني: قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ...} الآية.

ص: 174

بيان الوظيفة العملية بعد انتهاء المدة.

وقوله: {انسَلَخَ} بمعنى انتهى وانقضى، وأصله من سلخ جلد الشاة، فكأن الأربعة أشهر تحميهم كما يحافظ الجلد على الشاة.

وقوله: {الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} أي أشهر السياحة - التي ابتدأت بالعاشر من ذي الحجة وانتهت في العاشر من ربيع الثاني، فليس الأشهر الحرم هنا بمعناه المصطلح - وهو رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم - بل الألف واللام في {الْأَشْهُرُ} للعهد الذكري، و{الْحُرُمُ} بمعنى حرمة التضييق عليهم.

وقوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ...} بيان كيفية التعامل معهم وذلك بالتخيير بين أمور أربعة، والواو فيها بمعنى أو، وليست الواو للجمع؛ إذ لا يمكن الجمع بين القتل والأخذ، وفي التقريب: «وليس المراد قتل كل فرد فرد، بل المراد وقوع المقاتلة وأنهم في حكم المحارب»((1)).

وقوله: {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} أي في أيِّ مكان فلا يحتاج إلى إعلام حالة الحرب واصطفاف الجيوش مثلاً، فدماؤهم مهدورة، وليس ذلك من الغيلة والغدر؛ إذ تمّ إعلام البراءة وإمهالهم أربعة أشهر، فالمراد أن لا يشعروا بالأمان في أيّ مكان وأيّة حالة، وقيل: حيث وجدتموهم في حِلٍّ أو حرم.

وقوله: {وَخُذُوهُمْ} هو الشق الثاني من التخيير، ويشمل الأسر والحبس.

وقوله: {وَاحْصُرُوهُمْ} هو الشق الثالث، أي منعهم عن الحركة بحيث لا يتمكنون من الذهاب والأياب إلى أماكن أخرى.

وقوله: {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ} وهو الشق الرابع، أي مراقبتهم والتجسس

ص: 175


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 368.

عليهم في تحركاتهم لئلّا يشكلوا خطراً على المسلمين، و(المرصد) الطريق أو كل مكان يتم به مراقبة تحركاتهم.

الثالث: قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ...} الآية.

أي التضييق المذكور - بالقتل والأخذ والحصر والرصد - غايته هو إسلامهم حيث إنهم إن أسلموا صاروا من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

وقوله: {تَابُواْ} أي عن الشرك بأن آمنوا، وهذا في جانب العقيدة.

وقوله: {وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ} هذا في جانب العمل، فلا يكفي مجرد لقلقة اللسان بل لا بدّ من الالتزام العملي بأحكام الإسلام والذي أهمها الصلاة والزكاة، فإن الذين يظهرون إسلامهم باللسان على ثلاثة أقسام:

1- من آمن بقلبه أيضاً والتزم بأحكام الإسلام، فهذا مؤمن ظاهراً وباطناً.

2- من نافق مع التزامه بأحكام الإسلام، فهذا محكوم عليه بالإسلام ظاهراً فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، لكنه في الآخرة يكون مع الكفّار وهو في الدرك الأسفل من النار.

3- من لم يؤمن قلبه ولا التزم بأحكام الإسلام، وإنّما تاب توبة ظاهرية فكلامه مجرد لقلقة لسان فقد يقال بأن هذا لا يحكم عليه بالإسلام، فتأمل.

وقوله: {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} أي أتركوهم ولا تتعرضوا لهم، فكأن المسلمين قد وقفوا في طريقهم حين الشرك، وتركوا الطريق حين الإسلام.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ اللَّهِ...} الآية.

ص: 176

حيث إن الغرض من بعث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو هداية الناس فلذا استثنى اللّه تعالى المشرك الجاهل الذي يريد التعرّف على الإسلام، فلا بدّ من إعطائه الأمن لكي يحقق عن الإسلام بحرية تامة من غير خوف على نفسه؛ إذ لولا إعطائهم الأمن لما خرجوا وبقوا على جهلهم وكفرهم، أمّا مع إعطاء الأمن فعسى أن يهتدي منهم جمع كثير.

وقوله: {اسْتَجَارَكَ} أي طلب أن تجيره، فالاستجارة بمعنى الاستئمان وطلب الأمن.

وقوله: {حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ اللَّهِ} أي ينحصر الغرض من إعطاء الأمن في أن يسمع إلى كلام اللّه ليعلم به، و{كَلَٰمَ اللَّهِ} يشمل القرآن وترجمته وبيان معناه، بل يشمل كلام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنه {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}((1)).

وقوله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي أوصله إلى محل أمنه إن لم يسلم، والمقصود توفير الحماية له إلى وصوله إلى بلده وليس مجرد تركه ليرجع ولعل ذلك ليكون أدعى لهم للخروج إلى سماع كلام اللّه تعالى، فلا يكفي مجرد شعورهم بالأمن من المسلمين فقط.

وقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ} تعليل لهذا الاستثناء، وعليه فالمشرك الجاحد لا يُجار؛ لأن الإجارة إنّما هو للجاهل عسى أن يعلم فيهتدي.

ومن ذلك كلّه يتبين أن الآية غير منسوخة أصلاً بل هي في صميم مهمة الأنبياء والرسل (عليهم السلام) ؛ لأن هذه الإجارة من أسباب هداية كثير من الناس.

ص: 177


1- ([1]) سورة النجم، الآية: 3-4.

الآيات 7-12

اشارة

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَٰمُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ 7 كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَٰهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَٰسِقُونَ 8 اشْتَرَوْاْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 9 لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ 10 فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ 11 وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَٰتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَٰنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ 12}

7- ثمّ يبيّن اللّه تعالى سبب البراءة من عهود الناقضين فقال: {كَيْفَ} استفهام إنكاري {يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ}؟ فإن ذلك غير معقول مع كونهم ناقضين للعهد حيث إن للعهد غرضاً لا يبقى مع نقضهم. {إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} حيث لم ينقضوا العهد {فَمَا اسْتَقَٰمُواْ} أي مادام ثبتوا على العهد {لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} بالوفاء بعهدهم فإن ذلك من التقوى و{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.

8- {كَيْفَ} يكون لهم عندكم عهد {وَ} الحال أنهم {إِن يَظْهَرُواْ} يظفروا {عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ} لا يراعوا {فِيكُمْ إِلًّا} قرابة {وَلَا ذِمَّةً} عهداً {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَٰهِهِمْ} أي التزامهم بالعهد لا يتعدى الكلام الذي فيه رضىً

ص: 178

لكم {وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ} الوفاء بالعهد بل يضمرون الغدر ويتحيّنون الفرص لذلك {وَأَكْثَرُهُمْ} أكثر المشركين {فَٰسِقُونَ} خارجون عن العهد ناقضون له.

9- وسبب ذلك أنهم ظلموا أنفسهم ف{اشْتَرَوْاْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} بدلاً عنها {ثَمَنًا قَلِيلًا} من الهوى والشهوات، وظلموا الذين يريدون الإسلام {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} منعوهم عن الإيمان، {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بالنسبة إلى أنفسهم وإخوانهم الكفّار.

10- وظلموا المسلمين ف{لَا يَرْقُبُونَ} لا يراعون {فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا} قرابة {وَلَا ذِمَّةً} عهداً {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} لا المؤمنون، حيث إن المشركين اعتدوا بنقض العهد فالخروج عن عهدهم ليس اعتداءً منكم أيها المؤمنون.

11- وحيث علمتم أخلاقهم وعملهم فموقفكم منهم إن تابوا فهم منكم وإن نكثوا فقاتلوهم، فقال: {فَإِن} أسلموا بأن {تَابُواْ} عن الشرك {وَ} خضعوا لأحكام الإسلام ف{أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي الدِّينِ} أي عاملوهم معاملة الأخ فلهم ما لكم وعليهم ما عليكم، {وَنُفَصِّلُ الْأيَٰتِ} نميّزها ونبيّنها {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} أمّا الجهلة فلا تنفعهم الآيات.

12- {وَإِن نَّكَثُواْ} نقضوا {أَيْمَٰنَهُم} التي عقدوها جمع يمين بمعنى الحلف {مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} معكم {وَطَعَنُواْ} عابوا وقدحوا {فِي دِينِكُمْ فَقَٰتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} حيث إنهم الناقضون وباقي الكفّار تبع لهم {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَٰنَ لَهُمْ} أي لا حرمة لحَلفهم وعهدهم بعد نكثهم، وإنّما تقاتلونهم {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} عن الكفر فليكن غرضكم هدايتهم لا مجرد الانتقام منهم.

ص: 179

سبب البراءة من المشركين

بحوث

الأوّل: لما حكم اللّه تعالى بالبراءة من عهود المشركين الناقضين وأمر بالتضييق عليهم بالقتال وغيره بيّن سبب ذلك مع تقديم استثناء الذيناستقاموا على العهد، وحاصله: لا يعقل أن يبقى عهد مع الغادرين الناقضين للعهد وهم يتحينون الفرص للإيقاع بكم فيخادعونكم بالكلام المعسول مع كون قلوبهم تقصد غيره، وإنّما كان حالهم ذلك لأنهم ظلموا أنفسهم أوّلاً برفض آيات اللّه لأجل دنيا فانية، وظلموا إخوانهم الكفّار ثانياً حيث منعوهم عن الدخول في الإسلام، وظلموا المؤمنين ثالثاً بعدم مراعاة قرابة ولا ذمة معهم، ومن كان شأنه كذلك لا حريجة له عن الغدر بالعهود والمواثيق وقد غدروا بالفعل فلا معنى للبقاء على عهدهم؛ لأن إبرام العهود إنّما هو بغرض الأمن وسائر المصالح، ولا أمن ولا مصلحة مع غادر، إن تاب قبل اللّه توبته، وإن نقض العهد فلا بدّ من مقاتلته بغرض انتهائه عن الكفر لا لمجرد الانتقام، مع بيان أنه لا بدّ من التركيز على قادة الكفر الذين يتبعهم الآخرون، فإن هؤلاء ينظر إليهم سائر الكفّار فإن آمن القادة آمن الأتباع معهم وإن نقضوا نقضوا معهم، فالأولى عدم تشتيت القوى بل استئصال شأفة الكفر بقطع رأسه.

الثاني: قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ...} الآية.

شروع في تعليل البراءة، بأنه مع غدرهم لا عهد من اللّه ورسوله لهم، وبيان سبب الاستثناء الأوّل، وهو استمرار العهد مع غير الناقضين لأنهم

ص: 180

استقاموا فلا بدّ أن يقابلوا باستقامة مثلها فإن ذلك من التقوى.

وقوله: {كَيْفَ} استفهام إنكاري، وهو يفيد النفي، أي لا يعقل أن يأمر اللّه بعهد مع غادر فإن اللّه تعالى حكيم ولا حكمة في بقاء العهود مع غادر،كما أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثاقب الرأي مأمور، ومن السذاجة الوفاء لغادر يتحين الفرص للإيقاع بالمؤمنين.

وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ...} جملة معترضة لبيان أن هذه العلة لا تشمل الملتزمين منهم وأن الوفاء مع هؤلاء من التقوى المأمور بها، وعليه فلهؤلاء عهد عند اللّه حيث أمر بالتقوى، وعند الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث إنه مأمور بمكارم الأخلاق والأعمال.

وقوله: {عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كأنه لبيان مصداق الذين وفوا بالعهد من المشركين ليعرفهم المسلمون فلا يقاتلوهم، قيل: هم بنو ضمرة حيث دخلوا في عهد قريش يوم صلح الحديبية ولم ينقضوا العهد لما نقضته قريش.

وقوله: {فَمَا اسْتَقَٰمُواْ لَكُمْ} «ما» مصدرية زمانية، أي في مدة استقامتهم بالوفاء بعهدكم يلزمكم الوفاء بعهدهم.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} بيان أن الوفاء مع الملتزمين منهم من التقوى واللّه تعالى قد أمر بالتقوى.

الثالث: قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً...} الآية.

لمّا جاء استثناء الملتزمين كجملة معترضة لزم تكرار {كَيْفَ} مع عدم الحاجة إلى تكرار مدخولها لوضوحه، أي كيف يكون للمشركين عهد عند

ص: 181

اللّه ورسوله والحال أنهم يتصفون بالصفات التالية:

1- قوله: {وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ...} أي لا حريجة لهم من دين أو أخلاق عن الغدر، و{يَظْهَرُواْ} بالغلبة عليكم والسلطة عليكم و(إلّ) بمعنى قربىالرحم وقيل: بمعنى اللّه، وقيل بمعنى الحلف، و(الذمة) العهد لأنه يذمّ الإنسان على إضاعته.

2- وقوله: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَٰهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ} أي يخادعونكم بكلام فيه رضاكم وهو التزامهم بالعهود، لكن قلوبهم تخالف ذلك وتنطوي على الغدر.

3- وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فَٰسِقُونَ} أي غادرون، فالفسق هنا بمعنى الخروج عن العهد والميثاق، وأمّا الأقلّ منهم فهم الذين استقاموا على العهد ووفوا به لتعففهم عمّا يخدش في العرض.

والحاصل: أنهم عملاً غدروا، وقلوبهم تأبى الوفاء، ولا حريجة لهم من دين أو أخلاق، ومن كان كذلك فلا معنى للبقاء في عهده.

سبب نقض المشركين للعهد

الرابع: قوله تعالى: {اشْتَرَوْاْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى قوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}.

هذا بيان لحالة المشركين العامة وهي التي أدت بهم إلى نقض العهد، وبهذا يتبيّن عدم التكرار في الآيات، فحاصل المعنى أن صفة المشركين هي الاشتراء والصد وعدم المراقبة، وذلك أدّى بهم إلى نقض العهد والخداع والغدر حين القدرة، فتلك الصفات هي:

1- قوله: {اشْتَرَوْاْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} أي رفضوا الدلائل الواضحة

ص: 182

مقابل ثمن بخس هي شهواتهم وأهواؤهم.

2- وقوله: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} منعوا الناس عن الإيمان، وهذا نتيجة الاشتراء؛ لأنهم يعلمون أنه إذا آمن الناس لا يتمكنون من نيل أهوائهموشهواتهم لذا منعوهم عنه بالقوة تارة، وبالإرعاب أخرى، وبالإشاعات ثالثة، وبغير ذلك.

3- {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} أي حالتهم عدم المراعاة، وهذه الثلاثة معاً صارت سبباً لأن يغدروا حين القدرة.

وقوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} بيان أن البراءة منهم ومن عهودهم ليس اعتداء منكم ليكون منهياً عنه، بل هم المعتدون حيث نقضوا العهود فصرتم أنتم في حِلٍّ منها.

والحاصل: أن الشرك يؤدّي إلى رذائل الأخلاق وهي تؤدّي إلى سوء الأعمال.

الخامس: قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ...} الآية.

بيان سبب الاستثناء الثاني فليس تكراراً لما في الآية الخامسة فالمعنى إن توبتهم عن الشرك وخضوعهم لأحكام الإسلام سبب غفران ما ارتكبوه من نقض العهد، بل يكونون كسائر المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

وقوله: {فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي الدِّينِ} أي عاملوهم معاملة سائر المسلمين فالجميع إخوان في الإسلام، فكما أن الإخوان في النسب متساوون في الحقوق وتترتب على الأخوّة النسبية أحكام شرعية، كذلك الإخوان في الدين متساوون في الحقوق وتترتب على هذه الأخوّة جملة من الأحكام.

ص: 183

وقوله: {وَنُفَصِّلُ الْأيَٰتِ} التفصيل هو التمييز ولازمه الوضوح والظهور.

وقوله: {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} لأنهم هم المنتفعون بهذه الآيات المفصلّة، والقرآن وإن نزل للجميع إلاّ أن الجهلة لا ينتفعون به لزيغ قلوبهم وسوءأعمالهم.

كيفية قتالهم والغرض منه

السادس: قوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ...} الآية.

أي إن أصرّوا على نقض العهد ولم يتوبوا فهؤلاء لا بدّ من قتالهم، والظاهر أن الغرض من هذه الآية ليس مجرد التأكيد على البراءة منهم وقتالهم، وإنّما بيان كيفية قتالهم وبيان الغرض الأسمى في ذلك القتال، وبيان كيفية نقضهم.

1- أمّا كيفية قتالهم: فهي بالتركيز على رؤوس الكفر الذين يتبعهم الآخرون، فهم الأولى بالقتال؛ إذ بالغلبة عليهم يخضع سائر الكفّار لحكم اللّه تعالى، وأمّا مع تركهم وقتال الأتباع فذلك تشتيت القُوى وإضاعة الجهود، وقبل ذلك لما فتح اللّه مكة أسلم عامة العرب لأن أهل مكة كانوا رؤوس الكفر، قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}((1))، وهكذا كان بعد نزول آيات البراءة، وسيأتي بيانه بعد قليل.

2- وأمّا الغرض الأسمى في قتالهم: فهو انتهاؤهم عن الكفر وإسلامهم، وليس مجرد الانتقام منهم، وإن كان ذلك أيضاً مطلوباً كما سيأتي في الآيتين 14-15.

ص: 184


1- ([1]) سورة النصر، الآية: 1-2.

3- وأمّا كيفية نقضهم للعهد: فبمخالفة اليمين وبالطعن في الإسلام.

قوله: {وَإِن نَّكَثُواْ} النكث هو النقض، وأصله في نكث الغزل والحياكة ثمّ استعير في نقض العهود.

وقوله: {أَيْمَٰنَهُم} جمع يمين بمعنى القَسم؛ وذلك لأنهم إذا تعاهدوا حلفوا على الالتزام به، وهذا تشنيع عليهم.

وقوله: {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} ولعل هذا كان من مصاديق صدهم عن سبيل اللّه، بأن كانوا يقدحون في الإسلام ويعيبون عليه بالأكاذيب لئلّا يدخل الناس فيه.

قتال أهل الجمل

وقوله: {فَقَٰتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} لأنهم المضلّون لغيرهم، فالنقض بدأ منهم واتبعهم الآخرون، فإن استؤصلوا زالت شوكة الكفر وزال المانع عن إسلام غيرهم من أتباعهم.

وقوله: {لَا أَيْمَٰنَ لَهُمْ} أي لا قيمة لأيمانهم بعد نقضهم لها، أو لا أيمان لصالحهم بمعنى أن حلفكم أنتم المسلمين بالالتزام بالعهود قد انتهى أجله لأنه كان حلفاً مشروطاً فلما خالفوا الشرط صرتم في حِلّ منه.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} بيان الغرض الأسمى من قتال أئمة الكفر وهو إسلامهم، فاللّه تعالى قد أرسل رسوله لهداية الناس ولم يشرّع القتال إلاّ للدفاع ونصرة الدين، فليس الغرض مجرد الانتقام منهم.

ثمّ اعلم أن هذه الآية نزلت في السنة التاسعة من الهجرة وقد تلاها أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحج الأكبر، ولم يقاتل المسلمون بعدها أئمة الكفر في زمن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكان أهل الجمل أوّل من قوتلوا بهذه الآية، فعن أمير

ص: 185

المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «عَذَرني اللّه من طلحة والزبير، بايعاني طائعين غير مكرهين، ثمّ نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته، واللّه ما قُوتل أهل هذه الآيةمنذ نزلت حتى قاتلتهم»((1))، والروايات في ذلك كثيرة((2)).

ص: 186


1- ([1]) تفسير العياشي 2: 79؛ شواهد التنزيل 1: 209؛ عنهما في البرهان في تفسير القرآن 4: 403.
2- ([2]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 400-403.

الآيات 13-16

اشارة

{أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 13 قَٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٖ مُّؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 15 أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ 16}

13- ثمّ يحثّهم اللّه على جهاد المشركين الناقضين فقال: {أَلَا تُقَٰتِلُونَ} استفهام للحث والتحضيض أي هلّا، {قَوْمًا} اجتمعت فيهم أسباب قتالهم فأوّلاً: خانوا اللّه بأن {نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُمْ} نقضوا قَسَمهم في العهد، {وَ} ثانياً: عارضوا رسوله بأن {هَمُّواْ} عزموا {بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} من مكة حيث تشاوروا في دار الندوة على ذلك {وَ} ثالثاً: {هُم بَدَءُوكُمْ} بالقتال {أَوَّلَ مَرَّةٍ} حيث خرجوا إلى بدر لقتال المسلمين، ثمّ يبيّن اللّه تعالى سبب الإحجام عن قتالهم: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} استفهام إنكاري أي هل تخافون أن ينالكم منهم مكروه؟ {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} بأن تطيعوه في أمره بقتالهم حيث إن عذابه أشد {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} حيث إن المؤمن هو الذي يخشى اللّه ويطيعه.

14- ثمّ يأمرهم اللّه بقتالهم ويرفع خشيتهم ببيان فوائد قتالهم {قَٰتِلُوهُمْ

ص: 187

يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} بالقتل والأسر {وَيُخْزِهِمْ} يذلّهم ويفضحهم {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٖ مُّؤْمِنِينَ} وهم الذين آذاهم الكفّار وغدروا بهم.

15- {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} حيث إن أذية الكفّار ملأ قلوبهم غيظاً وهو ما تُذهبه فرحة الانتصار، {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ} من أولئك الكفّار إن آمنوا وعملوا الصالحات، وهذا بمنزلة الاستثناء {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بالمصلحة لذا أمركم بالقتال، وعليم بالقلوب والأفعال لذا يتوب على من تاب {حَكِيمٌ} في أمره بقتالهم إن لم يتوبوا.

16- ثمّ يبيّن اللّه سبب أمره بقتالهم فقال: {أَمْ} منقطعة وفيها معنى الاستفهام {حَسِبْتُمْ} ظننتم {أَن تُتْرَكُواْ} من غير أمركم بالجهاد {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} أي لم يظهر بسرعة ما علمه اللّه تعالى من التمييز بين المؤمنين {الَّذِينَ} عارضوا الكفّار بأن {جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَ} ولم يوالوهم بأن {لَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي بطانة وهم أصحاب السِرّ، وبين العصاة الذين والوا الكفّار وتركوا جهادهم، {وَاللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ} لا يخفى عليه شيء من بواطنكم وظواهركم.

بحوث

الأوّل: لما أمر اللّه تعالى بقتالهم بيّن أوّلاً: أسباب قتالهم فذكر ثلاثة أمور تصلح كل واحدة منها لقتالهم، وهي مخالفتهم اللّه بنقض أيمانهم، ومعارضتهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعزمهم إخراجه، وشروعهم قتال المسلمين.

ثمّ بيّن سبب إحجام البعض عن قتالهم وهو خشية أن ينالهم أذى منهم.

ص: 188

ثمّ بيّن اللّه تعالى فوائد قتالهم كل فائدة لوحدها تصلح للأمر بقتالهم،وهي: عذاب الكفّار في الدنيا، ونصر المسلمين عليهم، وشفاء صدور المؤمنين الذين غدر الكفّار بهم فقتلوا بعضهم.

ثمّ بيّن تعالى علة وجوب الجهاد وهو تمييز المطيع الذي يجاهد ولا يوالي الكفّار من العاصي الذي يترك الجهاد ويوالي الكفّار.

الثاني: قوله تعالى: {أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ...} الآية.

بيان أسباب قتالهم الثلاثة.

أسباب قتال المشركين

وقوله تعالى: {قَوْمًا} أي المشركين بشكل عام، وليس المراد خصوص أهل مكة؛ لأن هذه الآيات نزلت بعد فتحها بسنة، وإنّما نسب إلى غيرهم ما فعلوه لأن الكفر كلّه ملّة واحدة، ولرضا سائر المشركين بأفعال مشركي مكة، ولانطواء نفوسهم على هذه الرذائل إن استطاعوا إليها سبيلاً، والأسباب هي:

1- {نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُمْ} حيث حلفوا باللّه حين المعاهدة، وبنكثهم لم يراعوا حرمة اللّه تعالى.

2- وقوله: {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} الهمّ هو العزم على الشيء، وغير خفي أن المشركين تشاوروا في دار الندوة بين حبس الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإخراجه وقتله كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}((1))

ثمّ استقر رأيهم على قتله، فلعل ذكر خصوص الإخراج هنا لبيان أن أخفّ ما همّوا به كافٍ في الأمر بقتالهم فضلاً عن الحبس والقتل

ص: 189


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 30.

وهما أشد، أو لأن الإخراج هو الذي حصل ممّا هموا به، قال سبحانه: {مِّنقَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ}((1)).

3- وقوله: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي البدء بالقتال حيث خرجوا لقتال المسلمين في بدر، والدفاع حق مشروع مكفول.

وقوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} بيان أن سبب الإحجام عن قتالهم هو خشيتهم حيث إن الذي يحق له شرعاً وعقلاً الدفاع لا يمتنع عن القتال إلاّ لو خاف، والاستفهام إنكاري.

وقوله: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} لأن ضرر المشركين قليل إذا قيس بعقاب اللّه تعالى.

الثالث: قوله تعالى: {قَٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

فيه إزالة خشيتهم ببيان فوائد قتالهم، وذلك يتضمن وعداً منه تعالى أيضاً.

فوائد قتالهم

وقوله: {قَٰتِلُوهُمْ} هو تصريح بالأمر بالقتال بعد الحث عليه في الآية السابقة، والفوائد هي:

1- قوله: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} العذاب الدنيوي بقتلهم وأسرهم، ويمكن أن يدخل فيه العذاب الأخروي أيضاً، حيث يبدأ ذلك بموتهم قتلاً بيد المسلمين كما قال تعالى في قتلاهم ببدر: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}((2)).

ص: 190


1- ([1]) سورة محمّد، الآية: 13.
2- ([2]) سورة الأنفال، الآية: 50.

2- وقوله: {وَيُخْزِهِمْ} أي يذلّهم بفضيحة، وهذا أمر نفسي، كما أن العذاب أمر بدني.

3- وقوله: {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} وهذا يقابل عذابهم وخزيهم، فالنصر مادي ومعنوي.

4- وقوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٖ مُّؤْمِنِينَ} وهم الذين غدر المشركون بهم حيث قتلوا بعضهم، فكأن صدورهم سقيمة بما اعتلج فيها من الهم والغم، فيكون قتالهم برءاً لها وسلامة.

5- وقوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} الغيظ هو أشد الغضب، حيث إن المشركين قتلوا جمعاً من المؤمنين وآذوهم فقد امتلئت قلوبهم غيظاً عليهم، وفرحة النصر تزيل الغيظ، ثمّ إن الهمّ والغيظ صفتان مختلفتان، والهمّ كالمرض فزواله شفاء، والغيظ ليس كالمرض وقد يزول بزوال سببه فالأمر بقتال المشركين وما يترتب عليه يرفع هاتين الصفتين، وقيل: إن الشفاء في الأمر بقتالهم وإذهاب الغيظ بالنصر عليهم.

وقوله: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ} استئناف لفسح الطريق أمام الكفّار للتوبة، وإخبار المؤمنين بأن بعضهم سيؤمنون وفي ذلك زيادة سرور لهم.

الرابع: قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ...} الآية.

بيان لسبب أمره تعالى بجهادهم بالتمييز بين المطيعين والعصاة، فإن الآيتين السابقين كانتا في الفوائد التي تترتب على جهادهم، وهذه الآية لبيان علة الوجوب، وفرق بين الفائدة وبين العلة الغائية، مثلاً علة وجوب

ص: 191

الصوم هي التقوى، وتترتب عليه فائدة صحة الجسم مثلاً.

وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أم بمعنى بل وتستعمل عادة في عِدل الاستفهام فحيث قال: {أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُمْ} عادله بهذه الآية.

وقوله: {أَن تُتْرَكُواْ} أي من غير تكليف، أو آمنين في بلدكم.

وقول--ه: {وَلَمَّا يَعْلَمِ} (لمّا) لنفي ما يتوقع حصوله والمراد نفي المعلوم لا العلم، أي لم يظهر ما علمه اللّه تعالى؛ لأن الثواب والعقاب على العمل لا على العلم.

والحاصل: أن اللّه تعالى أراد التمييز بين المسلمين بأمرهم بالقتال وكان ذلك يحصل بشيئين: الجهاد وعدم موالاة الأعداء.

1- قوله: {الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ} أي من المسلمين وهم الذين استجابوا للّه ورسوله في الأمر بالجهاد.

2- وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ...} أي لم يوالوا الكفّار؛ لأن الوليجة هي البطانة التي يخفي الإنسان لديها أسراره، وهي من أظهر مصاديق التولي، فهؤلاء يرفضون جهاد أصدقائهم الكفّار، كما انخزل عبد اللّه بن أ ُبي ومجموعة من المنافقين يوم أحد قبل المعركة لأنهم كانوا يوالون مشركي مكة.

وقوله: {مِن دُونِ اللَّهِ...} أمّا اتخاذ اللّه تعالى وليجة فبحبّه وطاعته ودعائه وبث الحزن إليه، وأمّا اتخاذ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فبطاعته وعدم كتمانه شيئاً، وأمّا اتخاذ المؤمنين فبالصداقة معهم وبث ما في القلب إليهم، وفي رواية متعددة أن المراد بهم الأئمة (عليهم السلام) ((1)).

ص: 192


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 408-409.

وقوله: {وَاللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ} الخبير هو العالم ببواطن الأمور، وكأن المقصود بيان أن {لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} ليس علماً عن جهل بل علم عن خبرة، حيث أراد اللّه أن يتحقق معلومه.

ص: 193

الآيات 17-22

اشارة

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ اللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ 17 إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَى الزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ 18 أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُنَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ 19 الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ 20 يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٖ مِّنْهُ وَرِضْوَٰنٖ وَجَنَّٰتٖ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ 21 خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ 22}

17- وحيث إن اللّه بريء من المشركين ف{مَا كَانَ} أي لا يحق {لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ} بالبناء والترميم والتنوير ونحوها {مَسَٰجِدَ اللَّهِ} حال كونهم {شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم} بأقوالهم وأفعالهم {بِالْكُفْرِ} حيث لا يجتمع الكفر بآيات اللّه مع تعمير بيوته. {أُوْلَٰئِكَ} الكفّار {حَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَٰلُهُمْ} فما فائدة إعمارهم المساجد؟ {وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ} فلا تهديهم أعمالهم - ومنها الإعمار - إلى الجنّة والثواب.

18- {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ اللَّهِ} يحق له ذلك {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} هذا في جانب العقيدة، {وَ} شهد على نفسه بالإيمان بأن {أَقَامَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَى الزَّكَوٰةَ} هذا في جانب العمل حيث إنهما أهم من العمارة {وَلَمْ

ص: 194

يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} أي ليس خوفه في الدين إلاّ من اللّه لا الأصنام، وهذا لا ينافي الخوف الغريزي من المحاذير الدنيوية كالسبع واللص ونحو ذلك {فَعَسَىٰأُوْلَٰئِكَ} المتصفون بهذه الصفات {أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} إلى طريق الجنّة عكس أولئك الذين هم في النار خالدون.

19- ثمّ بيّن اللّه سبب حق المؤمن بالعمارة دون المشرك {أَجَعَلْتُمْ} استفهام إنكاري {سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي أهل السقاية والعمارة من دون إيمان {كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حيث أردتم التفاضل بينهما مع أنهم {لَا يَسْتَوُنَ عِندَ اللَّهِ}، فأولئك ظالمون بالشرك {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي} إلى ثوابه {الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} فكيف يسمح لهم بعمارة بيته وخدمة زوّاره؟ والحاصل: أن الغرض من العمارة والسقاية كسب ثواب اللّه ولكنه تعالى حرّم ثوابه على المشرك فلذا لم يشرّعهما لهم.

20- ف{الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ} تحملوا تبعة إيمانهم ف{هَاجَرُواْ وَ} أرخصوا أموالهم وأنفسهم في سبيله ف{جَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً} على من ليسوا كذلك حتى وإن عمّروا المساجد وسقوا الحجاج، {عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الذين يظفرون بالثواب.

21- {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} في القرآن وعلى لسان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {بِرَحْمَةٖ مِّنْهُ وَرِضْوَٰنٖ وَجَنَّٰتٖ} والتنكير للتعظيم {لَّهُمْ فِيهَا} في الجنات {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} دائم لا زوال له.

22- {خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} في الجنات، وإنّما يبشرهم بذلك حيث {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

ص: 195

عمارة المسجد الحرام وخدمة زواره

بحوث

الأوّل: لمّا ذكر اللّه براءته وبراءة رسوله من المشركين أتبعه ببيان منعهمعن عمارة بيته وخدمة زوّاره مع بيان سبب هذا الحكم؛ وذلك لأنهم كفّار باللّه فلا وجه لعمارتهم لبيته، ولأن المقصود من ذلك هو الثواب والجنّة، والمشرك لا ثواب له لأنه ظالم وأعماله باطلة بسبب شركه، والجنّة محرمة عليه بل مصيره إلى الخلود في النار، وحيث إن البيت بيت اللّه والحجاج زواره فلا معنى لأن يكون لأعداء اللّه تعالى شأن فيه، وإنّما الشأن لأوليائه.

الثاني: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ اللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم...} الآية.

قوله: {مَا كَانَ} أي لا يحق لهم، ولعل استعمال لفظ الماضي للدلالة على أن عدم حقهم كان من قبل أي من حين خلق اللّه البيت وأمر ببنائه حيث أمر اللّه تعالى تطهير بيته من عبادة غيره كما قال: {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ...}((1)).

وقوله: {يَعْمُرُواْ} المراد العمران المادي بالبناء، والترميم والإنارة والكنس ونحوها، لا المعنوي بعبادة اللّه؛ إذ لا يمكن ذلك منهم فلا معنى للنهي عنه. نعم، لو كان معنى {مَا كَانَ} عدم الإمكان أمكن تعميم الإعمار.

وقوله: {مَسَٰجِدَ اللَّهِ} جميع المساجد وإن كان المقصود في الآية المسجد الحرام، فالمعنى لا يحق لهم إعمار المسجد الحرام لأنه مسجد وهم ممنوعون عن إعمار المساجد.

ص: 196


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 125.

وقوله: {شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} حال وهو في موقع العِلة لهذا الحكم، أي المشركون كفّار باللّه تعالى فلا يحق لهم عمارة بيته، فلا يزعمواأنهم أولياء للّه حيث يعتقدون به ويعبدونه؛ وذلك لأن شركهم في العقيدة والعبادة أخرجهم عن ولايته إلى الكفر به، وأمّا شهادتهم فهي بأقوالهم وأفعالهم الشركية في المسجد الحرام وغيره.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ} تتمة للعلة، ببيان أن الغاية من الإعمار هو الثواب، وهؤلاء لا ثواب لهم لبطلان عملهم، فلا وجه للإذن لهم بالإعمار، وحتى لو عمّروا قهراً فلا نفع لهم منه.

وقوله: {وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ} لأن اللّه لا يغفر أن يشرك به، فإعمارهم لا يهديهم إلى طريق الجنّة.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ...} الآية.

لما بيّن عدم حق المشركين في الإعمار، ذكر أن ذلك الحق ينحصر في أولياء اللّه تعالى وذكر من صفاتهم ما يقابل صفات المشركين المذكورة في الآية السابقة، فقابل الشرك بالإيمان باللّه واليوم الآخر، وقابل شهادتهم بالكفر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقابل خلودهم في النار باهتداء المؤمنين إلى طريق الجنّة.

وقوله: {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} يدخل فيه الإيمان بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصيائه (عليهم السلام) لأن اللّه أمر به، ولا يمكن الإيمان باللّه إلاّ بالإيمان بما أنزله، فيكون ذكر الإيمان باليوم الآخر - مع أنه داخل في الإيمان باللّه - للإشعار بأن الغرض من

ص: 197

الإعمار هو ثواب الآخرة.

وقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَى الزَّكَوٰةَ} وهما شهادة على الإيمان؛ لأن اللّهيتقبل من المتقين ولا تقوى إلاّ بإطاعة اللّه في أحكامه.

وقوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} المراد الخشية الدينية، فلا يخاف من الأصنام، وليس المراد الخوف الغريزي من المحاذير فالمؤمن لا يخشى في الدين الأصنام ونحوها لكن قد يخاف من سبع أو لصّ أو كلام الناس، قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}((1))، وقال سبحانه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ}((2)).

وقوله: {فَعَسَىٰ} أي هؤلاء في رجاء أن يهديهم اللّه إلى طريق الجنّة ف(عسى) هنا لرجائهم؛ لأنّ الرجاء محال في اللّه تعالى حيث إنه بسبب عدم العلم، فالمؤمن يرجو رحمة اللّه ولا يعلم باستحقاقه لها حيث يمكن ارتداده أو حبط عمله.

وقوله: {مِنَ الْمُهْتَدِينَ} الظاهر أن المراد الاهتداء إلى طريق الجنّة، لمقابلته بخلود المشركين في النار في الآية السابقة قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}((3)).

الرابع: قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ...} الآية.

ص: 198


1- ([1]) سورة الأحزاب، الآية: 39.
2- ([2]) سورة الأحزاب، الآية: 37.
3- ([3]) سورة محمّد، الآية: 4-5.

بيان أن السقاية والعمارة لا قيمة لهما من دون الإيمان والعمل بالصالحات، وإنّما القيمة للإيمان والعمل بالصالحات حتى لو لم يكن معهسقاية وعمارة.

وقوله: {سِقَايَةَ الْحَاجِّ} قيل: لا بدّ من تقدير أهل السقاية، أو تقدير كإيمان من آمن؛ وذلك لأن (السقاية والعمارة) اسم معنى، و(من آمن) اسم ذات، ولا تقابل بينها! لكن يمكن التقابل باعتبار القيمة فيقال هذا العمل لا قيمة له لأنه من الكافر، وأمّا المؤمن فله القيمة عند اللّه، فتأمل.

ثمّ إنه قد ذكرت في هذه الآية سقاية الحاج ولم تذكر في الآية 17، ولعلّه لعدم جواز عمارة المشركين للمسجد الحرام لأن هذه العمارة عمل ديني بحت، وأمّا سقاية الحاج فلا منع للمشركين منه لأنه عمل إنساني فيجوز للمشرك أن يصنعه، ولكن لا ثواب له لحبطه بالشرك.

وقوله: {كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ...} والآية وإن نزلت حين مفاخرة العباس وشيبة للإمام علي (عليه السلام) ، إلاّ أن (من آمن) يشمل حمزة وجعفر رضوان اللّه عليهما وقد كانا قتلا قبل نزولها فهما أيضاً مقصودان بها، ففي الحديث: «نزلت في حمزة وعلي (عليه السلام) وجعفر، والعباس وشيبة إنهم فخروا بالسقاية والحجابة، فأنزل اللّه عز ذكره: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ...}، وكان علي (عليه السلام) وحمزة وجعفر هم الذين آمنوا باللّه واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل اللّه لا يستوون عند اللّه»((1)).

وغير خفى أن المفاخرة كانت في الأفضلية لا في التساوي فكان العباس

ص: 199


1- ([1]) الكافي 8: 203.

يقول إنه الأفضل، وعليه فالكاف في قوله: {كَمَنْ ءَامَنَ} ليس للتساوي، بل للتماثل في أصل الفضيلة، فيردّهم اللّه تعالى بأن السقاية والعمارة من غيرإيمان لا قيمة لهما.

وقوله: {لَا يَسْتَوُنَ عِندَ اللَّهِ} نظير قوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَٰبُ النَّارِ وَأَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ}((1))، وقوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}((2)).

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} الذي هو المقياس الحقيقي للتفضيل، فهؤلاء فضّلوا السقاية والعمران بأوهام سطروها في أذهانهم، لكن الحق الذي هو عند اللّه غير ذلك.

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} كأنه تعليل لعدم التساوي، فالمشرك ظالم لنفسه فلا يكون عمله عن اهتداء فلا فضل له أصلاً - كذا قيل - .

وقيل: هو بيان أن التساوي بين الفريقين ظلم، أو السقاية والعمارة من غير إيمان عملان محرّمان فيكونان ظلماً، والظالم غير مهتدي فلا يتساوي مع المؤمن المهتدي.

الخامس: قوله تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

لما ذكر في الآية السابقة عدم استوائهم وعدم هداية الظالمين، صرّح في هذه الآيات بأن الفضل والفوز للمؤمن العامل بالصالحات وأن الثواب له.

ص: 200


1- ([1]) سورة الحشر، الآية: 20.
2- ([2]) سورة هود، الآية: 24.

وقوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً...} أفعل التفضيل هنا منسلخ عن معنى التفضيل، بل المقصود منه بيان عظم درجة المؤمن المهاجر المجاهد، ويمكن أنيكون لبيان القاعدة العامة في الأفضلية فهذا أعظم درجة من الجميع بما فيهم سائر المؤمنين فكيف بالمشركين.

وقوله: {هُمُ الْفَائِزُونَ} وهذا مقابل عدم هداية اللّه للقوم الظالمين، فأولئك ظالمون والظالم خاسر، وهؤلاء فائزون بالثواب ظافرون به.

وقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم...} بيان للفوز، والبشارة من اللّه بأمور ثلاثة هي:

1- قوله: {رَحْمَةٖ مِّنْهُ} تنكير (رحمة) للتعظيم، كما أن (منه) للتعظيم أيضاً؛ فهي التي تليق بفضله وكرمه، والظاهر أن المراد بالرحمة هنا عدم العذاب.

2- وقوله: {وَرِضْوَٰنٖ} هو ثواب معنوي، وذلك أعظم النعم كما قال: {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}((1)).

3- {وَجَنَّٰتٖ...} وتمام الفضل والثواب فيها يكون من جهتين: بقاء النعمة فلذا قال: {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ}، وبقاؤهم فيها ولذا قال: {خَٰلِدِينَ فِيهَا}، وأكد الخلود بقوله: {أَبَدًا}.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} تعليل لهذه البشارة، فاللّه تعالى قادر حكيم ولذا حباهم بهذا الثواب العظيم.

ص: 201


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 72.

الآيتان 23-24

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَٰنَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَٰنِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ 23 قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ 24}

23- ولمّا كانت القرابة والمصالح قد تمنع عن البراءة والجهاد فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَٰنَكُمْ أَوْلِيَاءَ} ولاية اتّباع، وأمّا المعاشرة في الدنيا من غير تبعية فلا محذور فيها {إِنِ اسْتَحَبُّواْ} اختاروا وآثروا {الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَٰنِ وَمَن يَتَوَلَّهُم} يتّبعهم {مِّنكُمْ} من المسلمين {فَأُوْلَٰئِكَ} التابعون {هُمُ الظَّٰلِمُونَ} بوضع الموالاة في غير موضعها وبمخالفتهم أمر اللّه حيث ظلموا أنفسهم وغيرهم.

24- ثمّ ينهى اللّه تعالى عن ترجيح حبهم وحب غيرهم على الدين فقال: {قُلْ} يا رسول اللّه: {إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} وهم سائر القرابات قريبة أم بعيدة، وهذا في النسب، {وَ} أمّا في المال ف{أَمْوَٰلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} أي كسبتموهما وجمعتموها {وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} أي عدم رواجها {وَمَسَٰكِنُ} سواء دور أم بلاد {تَرْضَوْنَهَا}

ص: 202

ترغبون في البقاء فيها {أَحَبَّ إِلَيْكُم} أي أقرب إلى نفوسكم{مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِ} فترجّحون تلك على طاعتهما ولا تجاهدون {فَتَرَبَّصُواْ} أي انتظروا {حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي حتى يأتي أمر اللّه بحكمه فيكم أو عذابه عليكم، وذلك فسق منكم {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ} الخارجين عن طاعته بعد معرفتهم بها.

بحوث

الأوّل: لما ذكر اللّه تعالى البراءة من المشركين وأوجب التضييق عليهم بالقتال وغيره أمر المسلمين بعدم اتّباع الكفّار، وأجلى مصاديق الاتّباع هو ولاية الآباء والإخوان ولذا خصّهما بالذكر، وأمّا غيرهما من سائر القرابات فلا اتّباع لهم غالباً، ولو كان اتّباع فقطعه سهل.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَٰنَكُمْ أَوْلِيَاءَ...} الآية.

قوله: {لَا تَتَّخِذُواْ} الاتخاذ هو جعل شيء لشيء من غير أن يكون له بالذات فقد يكون حقاً أو باطلاً.

وقوله: {أَوْلِيَاءَ} المراد ولاية التبعيّة، لا مجرد الحب الغريزي والمعاشرة بالمعروف فقد يجوز ذلك لغير المجاهرين بعداوة اللّه ورسوله كما قال: {وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}((1))، وقال: {لَّا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ

ص: 203


1- ([1]) سورة لقمان، الآية: 15.

يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ}((1)).

وقوله: {إِنِ اسْتَحَبُّواْ} أي طلبوا الحُبّ بمعنى اختاروه وآثروه، وذلك بترتيب الأثر على ذلك الحبّ فقد يحب الإنسان شيئاً لكن لا يعمل بمقتضى حبّه وقد يرجّح ما يحبه على غيره، وقيل: استحب بمعنى أحبّ، أو بتضمين استحبوا معنى الترجيح ولذا عُدّي ب(على).

موانع طاعة اللّه تعالى

وقوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} أي يتّبعهم بدلاً عن طاعة اللّه ورسوله بتقديم ولايتهم على ولايتهما.

وقوله: {الظَّٰلِمُونَ} بوضع الموالاة في غير موضعها ممّا يستلزم عذاب اللّه تعالى وذلك بخس للنفس حقها.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ...} الآية.

بعد ذكر الولاية يذكر المحبة التي توجب ترجيح الأمور الدنيوية على طاعة اللّه ورسوله، ولذا عمّم في هذه الآية إلى جميع القرابات والمصالح المادّيّة فقد لا يكون اتّباع لكن محبة مرجّحة، ومتعلّقها إمّا الأقرباء أو الأموال، وقدّم الأقرباء على الأموال لأنهم أحب عادة، ثمّ في الأقرباء قدم الأحب فالأحب، ولم يذكر الغرباء لأنه إذا وجب قطع القريب فالغريب أولى، ولقلّة الترجيح بهم.

وقوله: {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي الأقرباء غير ما ذكروا سواء قربوا كالأعمام أو بعدوا، واشتقاقها من العشرة لمعاشرة الأقرباء بعضهم مع بعض عادة.

ص: 204


1- ([1]) سورة الممتحنة، الآية: 8.

وقوله: {اقْتَرَفْتُمُوهَا} أي اكتسبتموها، وفي المفردات: «استعير الاقتراف للاكتساب حسناً كان أو سوءاً»((1)).

وقوله: {تِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} الكساد هو عدم الرواج، وسببه هنا إعراض المشركين أو مقاطعتهم، وروي: «لمّا أذّن أمير المؤمنين (عليه السلام) بمكة أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك العام جزعت قريش جزعاً شديداً، وقالوا: ذهبت تجارتنا وضاعت عيالنا وخربت دورنا، فأنزل اللّه عزّ وجلّ في ذلك...»، ثمّ تلا الآية((2)).

وقوله: {وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا} أي تحبون البقاء فيها، وتشمل البلاد بعدم الهجرة عنها والدُور بعدم الرغبة في مفارقتها.

وقوله: {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ويظهر ذلك في ترك طاعتهما في الهجرة والبراءة قال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}((3)).

وقوله: {فَتَرَبَّصُواْ} هذا تهديد لهم، قيل: أصل التربص هو التثبت في الشيء حتى يجيء وقته، وفي المفردات: «التربص: الانتظار بالشيء سلعة كانت يقصد بها غلاءً أو رخصاً، أو أمراً ينتظر زواله أو حصوله»((4)).

وقوله: {يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي يأتي أمر اللّه تعالى التشريعي أو التكويني بعذابهم، وفي التقريب: «حتى يأتي اللّه بأمره فإنكم لا خير فيكم، وإنّما يأتي بأمر اللّه غيركم، كما يقال: إن كنت لا تفعل هذا فانتظر حتى يأتي غيرك

ص: 205


1- ([1]) المفردات للراغب: 667.
2- ([2]) تفسير القمي 1: 284؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 414.
3- ([3]) سورة البقرة، الآية: 165.
4- ([4]) المفردات للراغب: 338.

ليفعله، فإن اللّه غنيّ عنكم فهو القادر على أن ينفّذ أوامره بواسطة أناس غيركم»((1)).

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ} لا يهديهم بالطبع على قلوبهم وقطع الألطاف عنهم بسبب سوء اختيارهم الفسق الذي هو خروج عن طاعته تعالى بعد تمام الحجة عليهم.

ص: 206


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 380.

الآيات 25-28

اشارة

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَئًْا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ 25 ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَٰفِرِينَ 26 ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 27 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 28}

ثمّ بيّن اللّه تعالى أن عدم جهادهم لا يضرّ اللّه ورسوله شيئاً، وأن اللّه قد أتى بأمره في نصر دينه فقال:

25- {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ} مواضع الحرب {كَثِيرَةٖ} بلغث ثمانين بين غزوة وسرية، ثمّ ذكر مثالاً فقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وهو وادٍ قريب من مكة {إِذْ} في الوقت الذي {أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} حيث بلغوا اثني عشر ألفاً {فَلَمْ تُغْنِ} لم تنفع تلك الكثرة {عَنكُمْ شَئًْا} من أمر القتال حيث انهزموا في أوّل الوقعة ولم يثبت إلاّ عشرة فقط {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ} لم يجدوا ملجئاً يطمئنون إليه بسبب إحاطة العدو بهم وشدة رعبهم {بِمَا رَحُبَتْ} أي مع سعتها {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} منهزمين قد أعطيتم ظهوركم للعدو.

26- {ثُمَّ} بعد هزيمتكم {أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} وهي ما يوجب

ص: 207

الاطمئنان وسكون النفس {عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} الذين لم ينهزموا، وأمّاالمنهزمون فقد ارتكبوا كبيرة نزعت الإيمان عنهم {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} وهم ملائكة أنزلهم لنصرة رسوله {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بالقتل والأسر {وَذَٰلِكَ} العذاب {جَزَاءُ الْكَٰفِرِينَ} على كفرهم.

27- {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ} بعد نصر المسلمين وهزيمة المشركين {عَلَىٰ مَن يَشَاءُ} من المسلمين المنهزمين ومن الكفّار الذين أسلموا من بعد {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لذا يتوب عليهم.

28- وكما أمر اللّه تعالى بالبراءة منهم كذلك منعهم عن المسجد الحرام فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} خاطبهم ليعلموا ويعملوا {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أي باطنهم قذر خبيث وكذا ظاهرهم {فَلَا يَقْرَبُواْ} أي لا يدخلوا {الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} للحج ولا لغيره {بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا} وهو العام التاسع حيث أذّن الإمام علي (عليه السلام) بالبراءة، {وَإِنْ خِفْتُمْ} أيها المؤمنون والمقصود أهل مكة {عَيْلَةً} أي فقراً بانقطاع أموال المشركين عنكم حيث كانوا يأتون للحج بالتجارات والتبرعات {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ} تعالى بغيرهم وبغير حجهم {مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ} علّقه على المشيئة لأن كل الأمور بيده وليدعوه ويرجوه، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} بأحوالكم وبالمصالح {حَكِيمٌ} في ما يأمر وينهى، وفي ما يُعطي ويمنع.

بحوث

الأوّل: لمّا حثّهم اللّه على الجهاد ونهاهم عن تولي الكافرين حتى لو كانوا أقرباء، وبيّن أن ترجيحهم وترجيح المصالح المادّيّة على اللّه ورسوله

ص: 208

والجهاد في سبيله فسق وأن اللّه يأتي بأمره لنصرة دينه... بعد ذلك ذكر لهممثالاً قريباً لذلك النصر، وهو ما حصل في غزوة حنين، حيث إن المسلمين على كثرتهم انهزموا ولم يثبت إلاّ القليل جداً مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يبلغوا عشرة، وعلى أكثر تقدير مائة فقط، ثمّ رمى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكف من حصى في وجوه المشركين وقال: «شاهت الوجوه»، ثمّ رفع رأسه إلى السماء ودعا اللّه تعالى، ثمّ أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي بالمسلمين، فرجع المنهزمون ودارت الدائرة فأنزل اللّه نصره على رسوله، وانهزم المشركون وأ ُسرت نساؤهم وذراريهم وغُنمت أموالهم، وكانوا قد جاؤوا بها إلى ساحة الحرب لتقوى عزيمتهم على قتال المسلمين ولئلّا ينهزموا((1))، وبلغ قتلى المشركين مائة قتيل، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) بيده يوم حنين أربعين»((2)).

والحاصل: أن اللّه تعالى غنيّ عنهم فإذا أراد نصر رسوله ودينه نصره بما يشاء، إلاّ أن عليهم أن يمتثلوا لأمر اللّه تعالى لأنه تعالى امتحنهم بالجهاد لينالوا ثوابه.

قصة غزوة حنين

الثاني: قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ...} الآية.

بيان أن النصر من اللّه تعالى لا منهم في الغزوات والسرايا المختلفة، مع ذكر خصوص غزوة حنين؛ إذ في سائر المواطن - التي انتصروا فيها - كانوا قد ثبتوا، فلعل بعضهم يتوهم أن النصر كان منهم، أو زعم اشتراكهم مع اللّه

ص: 209


1- ([1]) راجع تفصيل غزوة حنين في البرهان في تفسير القرآن 4: 417-421.
2- ([2]) الكافي 8: 376.

سبحانه وتعالى في النصر، لكن في غزوة حنين ظهر بجلاء اختصاصه تعالى بالنصر دونهم.

وقوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ} إضافة النصر إلى ضمير الخطاب لحثهم وتحريضهم بأنه تعالى كما نصركم في ما مضى فإنه سينصركم في ما يأتي إن أطعتم اللّه ورسوله، مع إشعار ذلك بحاجتهم إليه تعالى وغناه عنهم.

وقوله: {مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ} جمع موطن وهو المحل والموضع، والمراد مواقع الحرب، وبلغت غزوات الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسراياه ثمانين غزوة وسرية، وهو عدد كثير، والكثير أمر عرفي ويختلف باختلاف متعلقه، وما ورد في تفسيره بالثمانين((1)) فهو لبيان إحدى المصاديق.

وقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} موضع قرب مكة اجتمعت فيه قبائل هوازن بعد فتح مكة لقتال المسلمين وكانوا ثلاثين ألفاً، فلما فتح اللّه على رسوله مكة في شهر رمضان من العام الثامن للّهجرة، مكث فيها قليلاً ثمّ خرج إلى قتالهم.

وقوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} الإعجاب هو السرور بالشيء المونق فيروق للإنسان، وهو غير العجب، فالعجب مذموم دائماً، وأمّا الإعجاب فقد يكون ممدوحاً إذا كان في موضعه، وقد يكون مذموماً إذا أورث الاتّكاليّة والركون إلى الشيء والغفلة عن اللّه تعالى.

ثمّ بين اللّه تعالى أمرين يرتبطان بالكثرة، فلا هي نفعتكم ولا هي بسطت قدرتكم في الأرض:

ص: 210


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 415-417؛ عن الكافي 7: 464؛ ومعاني الأخبار: 218، وغيرهما.

1- قوله: {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَئًْا} أي لم تنفعكم تلك الكثرة ولو شيئاً قليلاً، بمعنى أنها لم تكن ذات فائدة أصلاً؛ لأن الذين حفظوا الرسول بالدفاع عنه كانوا أقل القليل وهم عشرة فقط ثمّ جاء النصر من اللّه تعالى ولم يكن للكثرة دخل فيه أصلاً.

2- وقوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ} كناية عن إحاطة العدو بهم وغلبة الرعب عليهم بحيث لم يشعروا بالأمن في ساحة المعركة، وكان ذلك مقدمة لفرارهم ليلتجؤوا إلى محل آمن، وهذه الهزيمة النفسية.

وقوله: {بِمَا رَحُبَتْ} تعريض لهم، بأن الأرض كانت وسيعة، والكثرة تملأ الأرض، لكنها ضاقت عليهم.

وقوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} الفرار الذي تلا الهزيمة النفسيّة؛ لأن المنهزم يدير ظهره للعدو ليبتعد عنه.

الثالث: قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ...} الآية.

بيان لكيفية نصر اللّه تعالى وهو على ثلاث مراحل:

1- قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ...} أي ثبّت اللّه تعالى رسوله والذين لم ينهزموا، وكان ذلك التثبيت بإنزال السكينة عليهم، وهي من السكون بمعنى ثبات النفس وطمأنينتها، وهذه السكينة لطف خاص إلهي يكون بالإيمان والعلم والمعرفة، وقد مرّ بعض الكلام حولها في الآية 248 من سورة البقرة((1)).

ص: 211


1- ([1]) التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 256.

وقوله: {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وهم الذين ثبتوا ولم ينهزموا؛ لأن الفرار من الزحف معصية كبيرة كما قال تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}((1))، ومن كان هكذا فليس بمؤمن، وأمّا توبة اللّه على بعض المنهزمين فكانت بعد ذلك كما قال تعالى في الآية التالية: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ} وعليه فلم يكونوا مؤمنين وقت نزول السكينة. وهذه السكينة سبّبت استمرار ثبات المؤمنين ممّا مهّد لهزيمة الكفّار.

2- وقوله: {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} هم الملائكة نزلوا للنصر ودفعوا الكفّار، وفي تفسير القمي: «وكانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجوّ فانهزموا في كل وجه»((2)).

3- وقوله: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بيان لانهزام الكفّار، وكان عذابهم بالقتل والأسر وسلب الأموال.

الرابع: قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

فتح باب الرجاء للمنهزمين من المسلمين حيث ارتكبوا كبيرة موبقة بأن اللّه يتوب عليهم ويرجع إليهم لطفه ورحمته ومغفرته إن تابوا عن ذنبهم، وأيضاً فتح باب الرجاء للكفّار المقاتلين بأن اللّه يغفر لهم إن آمنوا وعملوا الصالحات، فالآية بإطلاقها تشمل كلا الطائفتين، ولا وجه لتخصيصها

ص: 212


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 16.
2- ([2]) تفسير القمي 1: 288؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 421.

ببعضهم.

وقوله: {عَلَىٰ مَن يَشَاءُ} لم يعدهم اللّه تعالى بالمغفرة القطعية، وإنّما علّقها على مشيئته تعالى لأن بعضهم لم يتوبوا أو نافقوا.

نجاسة المشركين

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا}.

لمّا أمر اللّه تعالى بالبراءة من عهود المشركين التي نقضوها ومنع عن موالاتهم، نهى عن دخلوهم إلى المسجد الحرام - حتى المعاهدين الذين وفوا بعهدهم - لأنه محل القدس والطهارة وهم منبع القذارة المادّيّة والمعنويّة، وبذلك يخلص المسجد الحرام لعبادة اللّه وحده لا شريك له.

وقوله: {نَجَسٌ} أي قذرون، ويستعمل النجس في المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وهذه القذارة مطلقة تشمل قذارة باطنهم بالعقيدة الفاسدة، وقذارة ظاهرهم بتركهم الغسل والتطهير ومزاولتهم للخمر والخنزير وغير ذلك، قال الوالد رضوان اللّه عليه في التقريب: «النجاسة في الشريعة هي القذارة التي توجب الغسل للشيء الذي يباشره برطوبة، وهذه النجاسة قد تكون لأضرار خارجية كالبول والغائط، وقد تكون لأضرار معنوية كالكافر، فإنه وإن كان نظيف الجسم إلاّ أن معتقده الباطل أوجب الحكم بنجاسته، وذلك خير وقاية للمسلمين من أن يتلوّثوا بعقيدته، فإنهم إذا عرفوه نجساً حتى أنه يجب الاجتناب عنه في المأكل والملبس وأنه مهما باشر شيئاً برطوبة تنجّس فوراً منه، اجتنبوا عنه فلا يتعدى إليهم ما انطوى عليه من العقيدة الباطلة، وهو بدوره إذ يعرف أنه عند المسلمين

ص: 213

نجس لا بدّ وأن يسأل عن السبب ويريد إزالة هذه الوصمة، ولدى تحقيق ذلك تظهر له خرافة معتقده ممّا يدعوه أن يتركها ويعتقد بالعقيدة الصحيحة»((1))، فكما يلزم اجتناب المصاب بمرض مُعدي لئلّا يبتلى السليم به كذلك يلزم اجتناب منحرف العقيدة لئلّا يسري الانحراف إلى غيره.

وقوله: {فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} وهو حكم متوجه إليهم وإلى المسلمين، أمّا إليهم فلأنه قانون تنفيذي لا بدّ من مراعاته حتى لمن لم يكن مسلماً ولم يكن يعتقد بالشريعة، وأمّا إلى المسلمين فتكليف عليهم بوجوب منع المشركين عنه، وهذا الحكم مطلق ليس خاصاً بالحج بل يمنعون عن دخوله دائماً. نعم، منعهم عنه يلازم منعهم عن الحج أيضاً إذ من أهم أركان الحج الطواف والسعي والصلاة في المسجد الحرام. ثمّ إن التعبير بعدم الاقتراب تشديد في النهي كقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ}((2)).

السادس: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

لما كان الحج موسم تجارة وكان المشركون يتبرعون للبيت ولأهل مكة، خافوا من انقطاع تلك المنافع، فأخبرهم اللّه تعالى بأنه يعوّضهم عن أموال المشركين بفضله، وكان الأمر كذلك حيث حج المسلمون من أهل الآفاق فاستفاد أهل مكة منهم أكثر ممّا كانوا ينتفعون به من المشركين، وقيل: هو كلام عام لا يختص بغناهم بأموال الحجاج بل يعمّ الغنى بسائر

ص: 214


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 385.
2- ([2]) سورة الأنعام، الآية: 152؛ سورة الإسراء، الآية: 34.

الوجوه أيضاً، حيث إنه باستتباب الإسلام وفتح البلدان ارتفع مستوى معيشة الناس ومنهم أهل مكة، كما حاز الكثير منهم على الغنائم والولايات والتجارات ببركة الإسلام.

وقوله: {إِن شَاءَ} وفي تفسير الصافي: «قيل: قيّده بالمشيئة لينقطع الآمال إلى اللّه تعالى ولينبّه على أنه متفضّل في ذلك، وأن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض، وفي عام دون عام، وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدراراً، ووفّق طائفة من أهل اليمن للإسلام فحملوا الطعام إلى مكة، ثمّ فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجّه إليهم الناس من أقطار الأرض»((1)).

ص: 215


1- ([1]) تفسير الصافي 3: 394.

الآيات 29-31

اشارة

{قَٰتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٖ وَهُمْ صَٰغِرُونَ 29 وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَٰرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَٰهِهِمْ يُضَٰهُِٔونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَٰتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ 30 اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ إِلَٰهًا وَٰحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَٰنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 31}

بعد بيان حكم المشركين بيّن اللّه تعالى حكم أهل الكتاب فقال:

29- {قَٰتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إيماناً صحيحاً {وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ} فلا يعتقدون به أو اعتقادهم فيه بالباطل {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيعتقدون بحليّتها ويرتكبونها {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي لا ينقادون ولا يخضعون للإسلام، فكل واحدة من هذه الأوصاف الثلاثة أباحت مقاتلتهم {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} اليهود والنصارى والمجوس، وغاية المقاتلة {حَتَّىٰ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} وهي مقدار من المال لحقن دمائهم ولحمايتهم جزاء لهم على بقائهم على الكفر {عَن يَدٖ} أي من غير امتناع {وَهُمْ صَٰغِرُونَ} خاضعون لحكم الإسلام.

30- ثمّ يبيّن اللّه سبب عدم إيمانهم باللّه إيماناً صحيحاً فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} زعموا ذلك لأنه أحيى لهم التوراة بعد فقدانها، وقد

ص: 216

انقرض القائل بذلك منهم، {وَقَالَتِ النَّصَٰرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وهم غالبالنصارى، وبعضهم قال إنه هو اللّه، {ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَٰهِهِمْ} لا حجة لهم فيه، أو هم في قرارة أنفسهم يعلمون بطلانه، {يُضَٰهُِٔونَ} يشابه قولهم {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} حيث اقتبسوا هذه العقائد الفاسدة من المشركين والوثنيين الذين كانوا قبلهم فحرّفوا بها دينهم، {قَٰتَلَهُمُ اللَّهُ} دعاء عليهم أي لعنهم اللّه {أَنَّىٰ} استفهام للتعجيب {يُؤْفَكُونَ} يُصرفون من الحق إلى الباطل.

31- وسبب آخر لكفرهم أنهم {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ} علماءهم {وَرُهْبَٰنَهُمْ} عبّادهم {أَرْبَابًا} بأن أطاعوهم إطاعة عمياء في تحليل الحرام وتحريم الحلال {مِّن دُونِ اللَّهِ} فلم يطيعوه إطاعة مطلقة {وَ} كذلك اتخذوا {الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ربّاً مع أنه بريء منهم {وَمَا أُمِرُواْ} لم يأمرهم اللّه تعالى ورسله والمسيح {إِلَّا لِيَعْبُدُواْ} في الألوهية والطاعة {إِلَٰهًا وَٰحِدًا} في حال كونه {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فلا توجد آلهة سواه، {سُبْحَٰنَهُ} أنزهه تنزيهاً {عَمَّا يُشْرِكُونَ} به.

قتال أهل الكتاب

بحوث

الأوّل: لمّا بين اللّه تعالى البراءة من المشركين وأمر بقتالهم، واستثنى منه بعضهم، عقّب ذلك بقتال أهل الكتاب مع استثناء أهل الذمة منهم، وقد بيّن اللّه تعالى خمسة أسباب لقتالهم هي: فساد عقيدتهم، وارتكابهم المحرمات، وعدم خضوعهم للدين الصحيح، ومحاولتهم إطفاء نور اللّه وأكلهم الأموال بالباطل لتغيير أحكام اللّه تعالى، وقد استثنى من القتال من يدخل في ذمة

ص: 217

المسلمين فيدفع الجزية ويلتزم بشروط الذمة، ثمّ يبيّن اللّه تعالى كفرهم فيالعبادة والطاعة فقد زعموا أن للّه تعالى ابناً وأطاعوا غير اللّه إطاعة عمياء وبذلك أشركوا فاستحقوا أحد أمرين: إمّا القتال وإمّا الصَغار.

سبب قتال أهل الكتاب

الثاني: قوله تعالى: {قَٰتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ...} الآية.

أمر بقتالهم مع بيان السبب المبيح له واستثناء أهل الذمة منهم.

وقوله: {قَٰتِلُواْ} أمر يفيد الوجوب، وهو تشريع للجهاد الابتدائي مع أهل الكتاب وهذا لا ينافي إبرام المعاهدات معهم؛ لأن سياق الآية في غير المعاهدين منهم.

ثمّ يذكر اللّه تعالى ثلاثة أوصاف لهم كانت السبب في تشريع قتالهم، الأوّل والثاني يرتبطان بالعقيدة والثالث بالعمل، وهي:

1- قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الإيمان باللّه تعالى هو الاعتقاد الصحيح فيه بتنزيهه عن الشريك والولد والصاحبة والخرافات التي لا تليق به، فمجرد الاعتقاد بوجوده تعالى وبألوهيته من دون تنزيهه عن ذلك ليس من الإيمان في شيء، فمن يعبد جسماً على شكل إنسان فيه نقائص فلا يعبد اللّه سبحانه بل يعبد صنماً حتى لو زعم أنه اللّه تعالى.

وقوله: {وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ} كذلك، فحتى لو اعتقدوا به لا يكون ذلك الاعتقاد إيماناً للتحريف فيه، فهم لا يعتقدون بالآخرة أو إذا اعتقدوا بها فاعتقادهم باطل لا يطابق الواقع، فلا يكون إيماناً بها.

سؤال: ألا ينافي هذا الحرية في العقيدة وقد قال اللّه تعالى: {لَا إِكْرَاهَ

ص: 218

فِيالدِّينِ}((1)).

والجواب: إنه لا بدّ من تطويق الانحراف وعدم السماح له بأن يكثر وأن يقوى، وذلك يكون بجعل المنحرفين في إطار خاص يجمع بين عدم إكراههم على معتقد لا يرضونه وبين عدم فسح المجال لهم ليحرّفوا الآخرين أو ليتعدّى انحرافهم إليهم، كالمريض بالمرض المعدي حيث يحجر عليه ويمنع عن بعض الأمور، وذلك الإطار الخاص هو السماح لهم بالالتزام بدينهم مع مراعاتهم لشروط الذمة - والتي تحجّم الانحراف فيهم بحيث لا يتعدّى إلى غيرهم - فإن لم يقبلوا بتلك الشروط لزم استئصالهم بالقتال لئلّا يعمّ ضررهم.

2- وقوله: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ولعلّ ذكره بالخصوص دون تحليلهم لما أحلّه اللّه ورسوله؛ لأن المحرمات فيها مفاسد عامة غالباً فارتكابها يوجب رواج الانحراف في المجتمع، وأمّا المحلّلات فلا ضرر لو تركها بعض الناس فعدم التزامهم بها لا يضر المجتمع الإسلامي.

ثمّ إن اللّه تعالى هو المشرّع، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو المبلغ، ولذا قرنهما معاً، بل إن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً مشرّع بإذن اللّه، فقد أدّب اللّه نبيّه بآدابه ففوض إليه دينه، وقد مرّ الكلام فيه وقد فصلناه في شرح أصول الكافي، فراجع((2)).

3- وقوله: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} إمّا بمعنى أنّهم لا ينقادون للإسلام فيكون هذا في الجانب العملي فالدين الذي يخضعون له باطل، وإمّا بمعنى

ص: 219


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 256.
2- ([2]) شرح أصول الكافي، للمؤلّف 4: 193-214.

لا يتخذونه ديناً أي لا يُسلمون، وإمّا بمعنى عدم التزامهم بالواجبات كما أن {لَا يُحَرِّمُونَ} بمعنى عدم التزامهم بالمحرمات، فيكون المعنى: لا يؤمنون ولا يلتزمون بترك المحرمات ولا بفعل الواجبات.

والإضافة في {دِينَ الْحَقِّ} إمّا من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الدين الذي هو دين الحق، وإمّا بمعنى اللام أي دين للحق بمعنى مطابقته له.

عدم قتال أهل الذمة

وقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} من بيانية أي المقصود هنا من الذين لا يؤمنون... هم أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى وكذلك المجوس؛ إذ دلت الأدلة المعتبرة على أنهم أهل كتاب فقد كان لهم نبيٌّ فقتلوه وكتاب فحرفوه، ولسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) فيهم حيث لم يقاتلهم وأخذ الجزية منهم والتفصيل يطلب في الفقه.

وقوله: {حَتَّىٰ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} غاية القتال، أي إلى أن يدخلوا في ذمة المسلمين، وذلك بأن يلتزموا بعدة شروط، منها: الجزية وهي من مادة (ج ز ي) إمّا بمعنى الاجتزاء بها في حقن دمائهم، وإمّا جزاءً لهم على كفرهم أو بدلاً عن حماية المسلمين لهم، وأمّا سائر الشروط فقد أشار إليها بقوله: {صَٰغِرُونَ}.

وقوله: {عَن يَدٖ} أي بغير امتناع، يقال: سلّمه بيده أي بسلاسة وانقياد.

وقوله: {وَهُمْ صَٰغِرُونَ} أي أذلاء، والصَغار هو الذل الذي يصغر قدر صاحبه، وليس المقصود إذلالهم وإهانتهم وإنّما بيان خضوعهم لحكم المسلمين وهذا ذلّ لهم حيث يزعمون أنهم شعب اللّه المختار وأنهم أبناء اللّه وأحباؤه، فخضوعهم لغير أهل مذهبهم هو ذلّ لهم في أنفسهم حتى لو عاملوهم

ص: 220

بإحسان واحترام، وهذا يتضمن سائر شروط الذمة حيث لا يتمكنون من دعوة الناس إلى معتقدهم ولا التجاهر بارتكاب ما يزعمونه حلالاً وهو حرام عند المسلمين، وغير ذلك.

وفي التقريب: «إن أهل الكتاب حيث انحرفت عقيدتهم حتى جعلوا الخرافة في معتقدهم، وحيث حرّفوا كتبهم حتى نسبوا الزنا والكفر وشرب الخمر والقسوة وشبهها إلى أنبيائهم، وحيث هدموا نظم اللّه سبحانه ليجعلوا مكانها أنظمة مخترعة، استحق الإسلام أن يشعرهم بشيء من الذلة ليتركوا الباطل إلى الحق، فإن الإنسان لا يرضى أن يبقى ذليلاً، لكنه احترمهم حيث أقرّ بهم وسمح لهم بالبقاء تحت ظله باحترام اسم الكتاب، وهذا الإذلال لا ينافي الحرية في شيء، أ رأيت من ينحرف في سلوك أو أخلاق هل يستحق ما يستحقه المستقيم؟! وليس الميزان في تقييم الإنسان الذي يراعي جهتي المادة والروح واقعاً هو النظر إلى صورته البشرية، بل الصورة والسيرة، فمن انحرفت سيرته لم تنفعه صورته»((1)).

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَٰرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ...} الآية.

لمّا ذكر في الآية السابقة عدم إيمانهم باللّه تعالى بيّن في هذه الآية والتي تليها وجوهاً لكفرهم.

وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} كان جمع منهم يعتقدون بذلك، وقد انقرضوا الآن على ما قيل.

ص: 221


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 388.

وقوله: {عُزَيْرٌ} قيل: الذي دعاهم إلى القول ببنوّته أن بخت النصر لما هجم على فلسطين سباهم إلى بابل وأحرق كتبهم ومنها التوراة، وقد طالت المدة عليهم مائة عام فجاء عزير وكتب لهم التوراة مرّة أخرى، فعظّموه وغلوا فيه حتى جعلوه ابناً للّه سبحانه وتعالى، وروي أن اليهود ناظروا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لهم: «فما الذي دعاكم إلى القول بأن عزيراً ابن اللّه؟! قالوا: لأنه أحيا لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت، ولم يفعل به هذا إلاّ لأنه ابنه، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فكيف صار عزير ابن اللّه دون موسى، وهو الذي جاء بالتوراة ورُئي منه من العجائب ما قد علمتم...» الحديث((1)).

ثمّ إن الظاهر أنهم قصدوا البنوّة التشريفية لا الحقيقية أي ابن بالتبنّي((2))، وهو زعم باطل لأنه افتراء على اللّه تعالى ولأن غاية شرف المخلوق أن يكون عبداً للّه تعالى، كما مرّ تفصيله.

وقيل: عزير هذا هو الذي أماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه، وكان ذلك سبباً لزعمهم بنوّته!

وقوله: {قَوْلُهُم بِأَفْوَٰهِهِمْ} أي هو مجرد كلام لم ينشأ عن برهان وحجة قيل: لا يذكر القول مقروناً بالأفواه إلاّ إذا كان ذلك القول زوراً، وقيل: كناية عن عدم يقينهم به.

وقوله: {يُضَٰهُِٔونَ} المضاهاة هي المشابهة والموافقة، وكأن المقصود بيان أنهم اتّبعوا في هذه العقيدة الكفّار الذين سبقوهم، وفي ذلك ذم شديد

ص: 222


1- ([1]) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : 531؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 429.
2- ([2]) راجع تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : 531؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 429.

لهم بأنهم تركوا الهدى الذي جاء به أنبياؤهم وانقلبوا على أعقابهم بإحياء عقائد الكفّار الوثنيين قبلهم.

وقوله: {مِن قَبْلُ} أي كان كفر الكفّار قبل كفر أهل الكتاب، فاتّبعوهم في كفرهم.

وقوله: {قَٰتَلَهُمُ اللَّهُ} دعاء عليهم بالهلاك، والمقصود لَعَنَهم اللّه بطردهم عن رحمته، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أي لعنهم اللّه أنّى يؤفكون، فسمّى اللعنة قتالاً، وكذلك {قُتِلَ الْإِنسَٰنُ مَا أَكْفَرَهُ}((1)) أي لعن الإنسان»((2)).

وقوله: {أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} أي يُصرفون من الحق الذي جاء به أنبياؤهم إلى الباطل الذي ابتدعه الكفّار من قبلهم.

من أسباب كفر أهل الكتاب

الرابع: قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}.

بيان سبب آخر لكفرهم، وهي عبادة غير اللّه تعالى.

ثمّ إن العبادة على نوعين:

1- إعطاء حق التشريع لشخص بالذات.

2- والخضوع لشيء بقصد تأليهه.

وقد جمعت الآية كلا الأمرين، فهؤلاء أعطوا لعلمائهم وعبّادهم حق التشريع من دون إذن اللّه وأطاعوهم في البدع التي شرّعوها، كما أن النصارى ألّهوا عيسى (عليه السلام) مع أنه ابن مريم فكان بشراً لا إلهاً.

ص: 223


1- ([1]) سورة عبس، الآية: 17.
2- ([2]) الاحتجاج 1: 240؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 438.

وقوله: {اتَّخَذُواْ} افتعال من الأخذ والمراد به هنا الاعتقاد.

وقوله: {أَحْبَارَهُمْ} جمع حبر - بفتح الحاء وكسرها - وهو العالم، وأكثر استعماله في علماء اليهود.

وقوله: {وَرُهْبَٰنَهُمْ} جمع راهب وهو الزاهد التارك للدنيا، وأكثر استعماله في قساوسة النصارى.

وقوله: {أَرْبَابًا} جمع رب، والمراد ربوبيّة الطاعة، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أما واللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون»((1)

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «واللّه ما صلّوا لهم ولا صاموا، ولكن أطاعوهم في معصية اللّه»((2)).

وقوله: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} أي اتخذوه رباً، والمقصود ربوبيّة الألوهية ولذا فصله عن الأحبار والرهبان، مضافاً إلى تكريمه (عليه السلام) بعدم جعله في سياق أئمة الكفر.

الخامس: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ إِلَٰهًا وَٰحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ...} الآية.

أي لا يُعذرون في اتخاذهم للأرباب لأن اللّه تعالى ورسله (عليهم السلام) قد أمروهم بالتوحيد في الألوهية والطاعة، إلاّ أنهم عصوا عن علم وعمد.

وقوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُواْ} عبادة بالتأليه والطاعة، وأمّا طاعة الأنبياء

ص: 224


1- ([1]) الكافي 1: 53.
2- ([2]) المحاسن 1: 246؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 439.

والأئمة (عليهم السلام) فليست عبادة لهم لأنها طاعة بأمر اللّه تعالى فهي عبادة له سبحانه لا لهم.

وقوله: {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} تأكيد، ولئلّا يتوهم أحد أن هناك آلهة غير اللّه إلاّ أن العبادة خاصة بأحدهم، بل الإله الذي يستحق العبادة هو إله واحد ولا إله غيره.

وقوله: {سُبْحَٰنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} في التقريب: «الشرك على أربعة أقسام: الشرك في ذات اللّه، والشرك في صفاته، والشرك في أفعاله، والشرك في أمره ونهيه، فمن قال: إن له شريكاً، أو أن صفاته لغيره، أو أن قسماً من الخلق لسواه، أو أنه يحق الأمر والنهي لغيره، فهو مشرك»((1)).

ص: 225


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 390.

الآيات 32-35

اشارة

{يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ 32 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ 33 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ 34 يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ 35}

ثمّ بين اللّه تعالى سبباً آخر لقتالهم هو صدّهم عن سبيل اللّه تعالى فقال:

32- {يُرِيدُونَ} اليهود والنصارى {أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ} وهو دينه ورسوله وكتابه وكل ما يرتبط به {بِأَفْوَٰهِهِمْ} بما يقولون بألسنتهم، أو هو تشبيه بالنفخ لإخماده {وَ} لكن محاولاتهم تذهب سدىً؛ إذ {يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ} أي يظهره تاماً لا نقصان فيه وذلك بإعلائه في جميع المجالات {وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ} أي لم يريدوا ذلك.

33- وهؤلاء ليس يمتنع عليهم إطفاء نور اللّه فحسب بل دينهم إيضاً سيزول؛ إذ {هُوَ} اللّه {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {بِالْهُدَىٰ} البراهين والحجج {وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} أي ليسيطره ويغلّبه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} جميع الأديان {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

ص: 226

34- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} وجّه الخطاب للمؤمنين حثّاً لهم على قتالهمببيان سبب آخر هو فسادهم المالى ف{إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ} كأخذ الرشوة لتغيير حكم اللّه {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} الإسلام خوفاً عن انقطاع تلك الأموال، ثمّ هدد اللّه أصحاب الأموال - ومنهم الذين يدفعون الأموال الباطلة إلى الأحبار والرهبان - بقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} يجمعون {الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بل ينفقونها في سبيل الطاغوت، أو لا يؤدّون حقوقها الواجبة {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ}.

35- وذلك العذاب {يَوْمَ} أي في يومٍ {يُحْمَىٰ عَلَيْهَا} أي يُوقد النار على تلك الأموال من الذهب والفضة {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} فهي في النار ويوضع عليها النار فتشتدّ حرارتها {فَتُكْوَىٰ} أي فتحرق {بِهَا} بتلك الأموال {جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ} وهو الجنب تحت الإبط {وَظُهُورُهُمْ} وكأن المقصود بيان تعذيبهم من كل الجهات الأربع، ويقال لهم توبيخاً: {هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ} جمعتم {لِأَنفُسِكُمْ} حيث أردتم نفعكم لكن بعدم الإنفاق في سبيل اللّه تحول إلى عذاب عليكم {فَذُوقُواْ} وبال {مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}.

أسباب أخرى لقتال أهل الكتاب

بحوث

الأوّل: هذه الآيات تتضمن السبب الرابع والخامس لتشريع قتال أهل الكتاب أحدهما: معارضتهم الإسلام حيث لم يكتفوا بالتمسك بالعقيدة الباطلة وإنّما حاربوا العقيدة الحق بغرض إمحائها وإزالتها لتخلو الساحة لشهواتهم وأهوائهم، والآخر: أكل الأموال بالباطل حيث يأخذ الأحبار

ص: 227

والرهبان تلك الأموال باطلاً، وعوامّهم يدفعون تلك الأموال إليهم طوعاً، فاشترك الطرفان في الجريمة.ثمّ يبيّن اللّه تعالى أن محاولتهم إطفاء نوره غير نافعة وتذهب سُدى بل أراد اللّه تعالى ازدياد ذلك النور بأن يعمّ جميع الأرض رغماً عنهم، وأنّ تلك الأموال تتحول إلى وبال عليهم يوم القيامة حيث يعذّبون بها.

الثاني: قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}.

قوله: {يُرِيدُونَ}: أي يحاربون الإسلام علناً، فالإرادة هنا بمعنى القصد الذي يستتبع العمل وليس مجرد التمني.

وقوله: {بِأَفْوَٰهِهِمْ} أي بألسنتهم وذلك بإثارة الشبهات والأكاذيب والاستهزاء ونحو ذلك، وقيل: هو كناية عن النفخ تشبيهاً لهم بمن يريد إطفاء نور عظيم بالنفخ عليه.

وقوله: {وَيَأْبَى اللَّهُ} الإباء هو الامتناع، وهذا المعنى يتضمن النفي ولذا عقّبه بالاستثناء، أي منع اللّه تعالى تكويناً ما أرادوه.

وقوله: {يُتِمَّ نُورَهُ} أي ينشره في كل مكان وفي جميع المجالات، فوصف النور بالإتمام وصف بحال المتعلّق، فإن نور اللّه تعالى تام دائماً لكن انتشاره تدريجي إلى أن يعمّ.

وقوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ} وصفهم في هذه الآية بالكفر إمّا لأن أصل الكفر بمعنى الستر فهؤلاء يسترون الحق ولذا يريدون إطفاء نور اللّه، وإمّا لأنهم كفروا بالنعمة حيث إن نور اللّه أعظم النعم على البشرية.

ص: 228

غلبة الإسلام على كل الأديان

الثالث: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

بيان علة إتمام اللّه تعالى نوره، وهو أن اللّه يتعالى عن العبث فقد أرسل رسوله لهداية الناس فلا يعقل أن يسمح لأعدائه بإطفاء نوره، بل الحكمة تقتضي عموم تلك الهداية بحيث لا يبقى ضلال أصلاً.

وقيل: هو تحريض على قتالهم؛ لأن اللّه تعالى أراد نشر دينه فلا بدّ لهم من المجاهدة في ما أراده تعالى، وأهل الكتاب يحاولون إمحائه فلا بدّ من منعهم بالمقاتلة.

وقوله: {بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ} الباء بمعنى مع أو للآلة، و(الهدى) بيان طريق الرشد ليسلك((1)) وفي المفردات: «الهُدى والهداية في موضوع اللغة واحد، لكن قد خص اللّه عزّ وجلّ لفظة الهدى بما تولاه وأعطاه، واختص هو به دون ما هو إلى الإنسان»((2))، و{دِينِ الْحَقِّ} مرّ أنه إمّا بمعنى الدين الحق أو دين للحق الثابت، ومن ذلك يتبيّن الفرق بين الهدى ودين الحق، فالهدى هو إرشادهم بالبراهين والحجج، ودين الحق هو المرشَد إليه من عقائد وأحكام وأخلاق وغيرها.

وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} اللام للعاقبة، و(الإظهار) هو الغلبة والسيطرة، وذلك يكون بالغلبة من كل الجهات، ومنها: الغلبة في الحجة، ومنها: الغلبة في الحكم بأن يسيطر الإسلام على كل ربوع الأرض بحيث لا

ص: 229


1- ([1]) معجم الفروق اللغوية: 109؛ وراجع معجم مقاييس اللغة: 1027.
2- ([2]) المفردات، للراغب: 838-839.

يبقى دين غيره، أمّا غلبة الحجة فقد تحققت من أوّل الأمر إذ لا هداية إلاّ بذلك، وأمّا الغلبة في السلطة فسيكون حين ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) حيثيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «واللّه ما نزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم (عليه السلام) »((1))، والمراد التأويل بمعناه اللغوي وليس التأويل الاصطلاحي؛ فإن الغلبة في قيامه (عليه السلام) أبرز مصاديق الآية، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إن ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمّد (عليهم السلام) ، فلا يبقى أحد إلاّ أقرّ بمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »((2)).

وقوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أصحاب الأديان الأخرى، فحيث قابل دين التوحيد بأديان الشرك ناسب وصفهم بالمشركين هنا.

الرابع: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ...} الآية.

بيان سبب آخر من أسباب مقاتلتهم وهو فسادهم المالي الذي أدّى بهم إلى منع الناس عن سبيل اللّه تعالى، وهذا يشترك فيه عظماؤهم حيث يأخذون تلك الأموال، وعوامّهم حيث يدفعونها.

وقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} وجّه الكلام إليهم لأنهم الذين يصدّقون به، ولأنهم المأمورون بقتالهم.

وقوله: {إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} وإنّما ذكر الكثير لأن بعضهم

ص: 230


1- ([1]) كمال الدين 2: 67؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 442.
2- ([2]) مجمع البيان 5: 63.

ليسوا كذلك كما قال: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَالْحَقِّ...}((1)).

وقوله: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ} الباء إمّا سببية أي الأكل بسبب باطل كالرشوة، وإمّا للبدلية أي يأكلون الأموال مقابل الباطل كتغيير أحكام اللّه تعالى، والأوّل أظهر.

وقوله: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} لخوفهم من انقطاع تلك الأموال عنهم إن أسلم الناس، وهذا دأب المبطلين حيث يرجّحون مصالحهم الدنيوية الزائلة على الحق ولذا يسعون إلى إبقاء الناس على جهلهم لتستمر لهم مصالحهم.

الخامس: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ} إلى قوله: {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}.

هذا عام شامل لأهل الكتاب وللمسلمين ولغيرهم ولذا عطفه بالواو ولم يجعله وصفاً للأحبار والرهبان، ولعلّ شأن نزوله عوام أهل الكتاب الذين يدفعون أموالهم للأحبار والرهبان بالباطل فشاركوا في جريمتهم بالصد عن سبيل اللّه، فهؤلاء العوام جمعوا الأموال وأنفقوها في سبيل الطاغوت ولم ينفقوها في سبيل اللّه تعالى.

وقوله: {يَكْنِزُونَ} مادة (ك ن ز) بمعنى الجمع، يقال: كنزت التمر في الوعاء، وناقة كناز هي السمينة التي اجتمع اللحم عليها، ومن مصاديقه

ص: 231


1- ([1]) سورة المائدة، الآية: 82-83.

إخفاء المال في الأرض، فلعل المقصود في الآية الذين يجمعون الأموال سواء ادخروها في الأرض أم لا.

وقوله: {وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} سواء احتفظوا بها من دون أداء حقها الواجب أم أنفقوها في سبيل الطاغوت وهذا هو شأن نزول الآية، وأمّا جمع المال مع أداء حقه الواجب وعدم صرفه في الحرام فليس من الكنز المذموم في هذه الآية، وضمير {لَا يُنفِقُونَهَا} يرجع إلى الأموال المكنوزة، أو إلى الذهب والفضة باعتبارهما شيئاً واحداً.

وقوله: {يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} بيان لشدة حرّها فهي من جهة في نار جهنم ومن جهة أخرى تزاد حرارة بوضع النار عليها، أو بيان أنها وقود النار والوقود أشد حرارة من النار التي تنبعث منه كما قال: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}((1)).

وقوله: {فَتُكْوَىٰ} الكي هو إحراق الجلد بحديدة ونحوها وقد يتوسع فيه بإلصاق الشيء الحامي على الأجسام.

وقوله: {جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} إمّا كناية عن الجهات الأربع أي يُكوَوْن من جميع الجهات، أو لأنهم إذا طُلب منهم الحق يعبسون وجوههم ويلوون جنوبهم ويديرون ظهورهم، فتعذب الأعضاء التي ظهرت عليها معصية اللّه سبحانه.

وقوله: {هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} يقال لهم هذا الكلام توبيخاً وتقريعاً حيث كنتم تتوقعون النفع ممّا كنزتم فإذا به يتحول إلى عذاب عليكم،

ص: 232


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 24.

والألم والحسرة في ذلك أكثر، فجمع لهم العذاب الجسمي والنفسي.

وقوله: {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} إمّا بتقدير وبال أو نحوه، أي ذوقواعقابه، وإمّا بمعنى انتفعوا به على سبيل الاستهزاء بهم، واللّه العالم.

ص: 233

الآيتان 36-37

اشارة

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَٰبِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَٰتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ 36 إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطُِٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَٰلِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ 37}

ثمّ نهاهم اللّه عن القتال في الأشهر الحرم فقال:

36- {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ} أي حسب تقديره وأمره {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} وليس ثلاثة عشر كما كان يصنعه المشركون كل سنتين مرّة ليتطابق الحج مع فصل الربيع وكما فعله بعض اليهود كل ثلاث سنوات مرّة لتتطابق السنوات مع الفصول {فِي كِتَٰبِ اللَّهِ} أي في ما كتبه وقدّره تكويناً {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} أي هذا التقدير كان منذ بدأ الخلق حيث إن الشمس بنورها والقمر والأرض بحركتهما تشكّل الشهور {مِنْهَا} من تلك الشهور {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} جمع حرام أي هي محترمة ويحرم القتال فيها، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، {ذَٰلِكَ} أي حرمة الأشهر الأربعة {الدِّينُ الْقَيِّمُ} الطريقة القويمة التي تقوم بها مصالح الناس {فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ} في الأشهر الحرم بهتك حرمتها والقتال فيها {أَنفُسَكُمْ} إذ ذلك يضرّكم في الدنيا بزوال أمنكم

ص: 234

فيها، وفي الآخرة بالعقاب. {وَ} إذا انقضت الأشهر الحرم أو إذابدأكم المشركون فيها بالقتال ف{قَٰتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} جميعهم {كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً} جميعكم أي جزاء لهم على قتالهم إياكم، وعليه فلا يدخل في الأمر بالقتال المعاهدون الذين وفوا بالعهد، {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} معية نصرة فالكفّ عن قتالهم في هذه الأشهر لا يضركم شيئاً بل هو تقوى منكم.

37- وعليكم أن تراعوا الأشهر الحرم التي عينها اللّه تعالى لا ما تلاعب به المشركون بالنسيء؛ إذ {إِنَّمَا النَّسِيءُ} وهو تأخير الأشهر {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} لأنهم زادوا على كفرهم باللّه مخالفتهم لأحكامه {يُضَلُّ بِهِ} بالنسيء {الَّذِينَ كَفَرُواْ} والمضِلّ هو الشيطان، وكيفية عملهم {يُحِلُّونَهُ} يحلّون الشهر الحرام {عَامًا} فيقاتلون فيه {وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} أي يبقون على تحريمه في عام آخر، وإنّما يحلّون ويحرّمون {لِّيُوَاطُِٔواْ} أي ليوافقوا بذلك {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي أربعة أشهر، فلا يحلّون شهراً إلاّ حرّموا شهراً آخر مكانه ليكون إيقاف القتال في كل سنة أربعة أشهر، فأخذوا بالعدد وتركوا الشهر {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} وهي الأشهر الحرم الواقعيّة {زُيِّنَ لَهُمْ} والمزيِّن الشيطان {سُوءُ أَعْمَٰلِهِمْ} حتى حسبوها حسنة {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ} وذلك لعنادهم وعدم قبولهم الاهتداء.

حكم الأشهر الحرم

بحوث

الأوّل: لما أمر اللّه تعالى بقتال المشركين وأهل الكتاب بيّن أن هذا الحكم لا يشمل الأشهر الحرم فلا يجوز القتال فيها، ثمّ بيّن أنها هي التي قدرها اللّه تعالى من حين الخلق وليست ما يتلاعب به الكفّار حيث يقدمونها

ص: 235

ويؤخرونها حسب أهوائهم وشهواتهم.

وقد بيّن اللّه تعالى أن الشهور اثنا عشر ولا زيادة عليها، خلافاً لما يصنعه اليهود من إضافة شهر كل ثلاث سنوات فتصير السنة ثلاثة عشر شهراً، وذلك لتتطابق السنة القمرية مع فصول السنة، حيث إن القمرية تنقص عن الشمسية عشرة أيام عادة، فكانوا يجمعونها حتى تصير شهراً فيزيدون في السنة شهراً.

وخلافاً لما كان يصنعه المشركون من جعل السنة ثلاثة عشر شهراً كل سنتين وكانوا يسمونه النسيء.

النسيء ونوعاه

وقد كان النسيء على نوعين، وكأنّ الآية 36 لإبطال الأوّل، والآية 37 لإبطال الثاني:

النوع الأوّل: تأخير السنة شهراً كل سنتين، فتكون السنة ثلاثة عشر شهراً كل سنتين وذلك ليكون الحج في الربيع حيث لا برد شديد ولا حرّ شديد، فلا يدور الحج في فصول السنة، ويكون الحج في ذي الحجة سنتين وفي المحرّم سنتين وفي صفر سنتين وهكذا، فكل دورة من النسيء - من تقارن الحج مع ذي الحجة إلى تقارنه مرّة أخرى معه - كانت تقدّر بخمس وعشرين سنة؛ لأن السنة اثنا عشر شهراً، والحج كل سنتين في شهر، فهذه أربع وعشرون سنة، يضاف إليها سنة أخرى لم تحسب بسبب التأخير حيث إن الحج يتأخر شهراً كل سنتين، فخلال أربع وعشرين سنة يكون مجموع التأخير سنة كاملة، فهذه خمس وعشرون سنة دورة النسيء.

ثمّ إنه تطابقت دورة النسيء مع ذي الحجة في العام العاشر من الهجرة فحجّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حجة الوداع وقال في خطبته: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض، السنة اثني عشر شهراً منها

ص: 236

أربعة حرم...»((1))، أراد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيان أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء، وقد ذكرنا تفصيله في شرح أصول الكافي فراجع((2))، ولعلّه لهذا السبب لم يحج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في السنة الثامنة حيث فتحت مكة في شهر رمضان، ومن المحتمل أن السنة التاسعة والعاشرة كانتا السنتين اللتين تطابقتا مع ذي الحجة الواقعية، فأرسل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) في السنة التاسعة لتلاوة آيات البراءة وسماه اللّه الحج الأكبر، ثمّ حج هو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في السنة العاشرة وثبت فيه الأشهر وأبطل النسيء، واللّه العالم.

النوع الثاني من النسيء: هو تأخير الشهر الحرام من المحرّم إلى صفر، وكان ذلك حينما يشق عليهم ترك القتال ثلاثة أشهر متواليات - في ذي القعدة وذي الحجة والمحرّم - فكانوا يؤخرون الشهر الحرام عن المحرّم في عام فيقاتلون فيه، ولا يؤخرونه في العام القابل فيكفّون عن القتال فيه.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَٰبِ اللَّهِ...} الآية.

الشهر القمري أمر تكويني محسوس لأنه يرتبط بمنازل القمر لكن السنة القمرية اعتبارية، عكس الأشهر والسنوات الشمسية؛ فإن دورة الفصول أمر تكويني وأمّا الشهور فاعتبارية، وهذه الآية لبيان عدد الشهور وليس أيامها، وعليه فالمعنى إن التكوين والتشريع للّه تعالى، فكما أن خلق السماوات

ص: 237


1- ([1]) بحار الأنوار 55: 339.
2- ([2]) شرح أصول الكافي، للمؤلّف 7: 8-9؛ وراجع موسوعة الفقه 68: 35-37؛ ومجمع البيان 5: 74-76؛ ومرآة العقول 5: 171.

والأرض له، كذلك تقدير عدد الشهور وتحريم أربعة منها، وهي حقيقة ثابتة لا تغيير فيها ولا تبديل.

وقوله: {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} لا ثلاثة عشر كما هو نسيء اليهود.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} تشنيع على من يتلاعب بالشهور لتغيير أحكام اللّه تعالى.

وقوله: {فِي كِتَٰبِ اللَّهِ} أي في ما كتبه وقدّره، والمراد كتابه التشريعي كما عرفت، ولعله اللوح المحفوظ.

وقوله: {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} لبيان حتمية هذا التقدير وعدم التغيير فيه حيث إنه سبق خلق الإنسان بفترة طويلة.

وقوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، و{حُرُمٌ} جمع حرام، سميت بذلك لوجوب احترامها وحرمة القتال فيها، وهذا يدل على أن الأشهر عند اللّه تعالى هي الأشهر القمرية، ثمّ لعل سبب تشريع حرمتها هي حرمة الحج في ثلاثة منها حتى يكون الحجاج آمنون ذهاباً وإياباً، وأمّا رجب فلتوسطه في السنة ليأمنوا وكذا: «لما علم [اللّه] من المصلحة في الكفّ عن الظلم فيها لعظم منزلتها، ولأنه ربّما أدّى ذلك إلى ترك الظلم أصلاً لانطفاء النائرة وانكسار الحمية في تلك المدة، فإن الأشياء تجر إلى أشكالها»، كما في مجمع البيان((1)).

وفي الأحاديث تأويل الشهور بالأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) والأربعة الحرم بمن أسماؤهم علي - وهم أمير المؤمنين وزين العابدين والرضا

ص: 238


1- ([1]) مجمع البيان 5: 70.

والهادي (عليهم السلام) -((1)).

وقوله: {ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي المقوِّم لمصلحة الناس الثابت المستحكم، فإن التشريع إذا طابق التكوين قامت مصالح الناس وإن تخالفا اختلّت شؤونهم.

وقوله: {فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} الظلم بشكل عام منهي عنه في جميع الشهور، فالمقصود هنا انتهاك حرمة الأشهر الأربعة بالقتال فيها، فإن مخالفة تشريع اللّه تعالى لا يضرّه سبحانه، بل ضرره على الناس في الآخرة بالعقاب وفي الدنيا بزوال الأمن بحيث يتضرر حتى الذي بدأ بالقتال فيها فضلاً عن سائر المفاسد المترتبة على انتهاك حرمة هذه الشهور.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَٰتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.

لعلّ المقصود أن المشركين إذا انتهكوا حرمة الأشهر الحرم وبدأوكم بقتال فيجب عليكم الدفاع، ودفاعكم ليس انتهاكاً لحرمتها كما قال: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَٰتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ}((2))، وعليه فالمعنى قاتلوا جميع المشركين بالكيفية التي يقاتلونكم جميعاً، فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه، وإن كفّوا عنكم فيه فكفّوا عنهم، ويحتمل أن يكون المقصود قتالهم جميعاً بعد انقضاء الأشهر الحرم لأنهم يقاتلونكم جميعاً ولا يستثنون أحداً منكم، وبذلك يخرج المعاهدون الذين التزموا بالعهد فلم يقاتلوكم

ص: 239


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 446 فما بعد.
2- ([2]) سورة البقرة، الآية: 194.

و{كَافَّةً} أي جميعاً، والأوّل صفة للمشركين، والثاني صفة للمسلمين.

وقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي لازموا التقوى دائماً ومن ذلك مراعاتكم لحرمة الأشهر الأربعة، ولا تخشوا فوات المشركين منكم أو استعدادهم فيها لقتالكم لأن اللّه معكم، والمعيّة هنا بالنصرة أي ينصركم عليهم، فإن من اتقى اللّه في ما أمر نصره اللّه تعالى، كما قال: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}((1)).

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ...} الآية.

نهي عن التلاعب بالأشهر الحرم بأن يحلّوا شهر المحرّم ويؤخروا الشهر الحرام إلى صفر.

وقوله: {النَّسِيءُ} من مادة (ن س أ) بمعنى التأخير.

وقوله: {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} لأنه كفر عملي إضافة إلى كفرهم في العقيدة وكلّما أحدث الكافر معصية زاد في كفره؛ لأن الكفّار مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول كما مرّ، كما قال سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}((2)).

أو لأنهم كانوا يزعمون أن التشريع لهم من دون اللّه تعالى وهذا كفرزيادة على كفرهم بالشرك.

ص: 240


1- ([1]) سورة محمّد، الآية: 7.
2- ([2]) سورة التوبة، الآية: 124-125.

وقوله: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} تأكيد على زيادة الكفر؛ لأن كل كفر ومعصية ضلال، والذي أضلّهم الشيطان والهوى.

وقوله: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} تفسير للنسيء المقصود في هذه الآية، وهو النوع الثاني منه، والضمير يرجع إلى النسيء أي كانوا يبيحون النسيء في سنة فيؤخرون الشهر الحرام إلى صفر، وكانوا يحرمونه في السنة التالية فلا يؤخرون الشهر الحرام، ويمكن رجوع الضمير إلى الشهر الحرام المستفاد من سياق الكلام.

وقوله: {لِّيُوَاطُِٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} والمواطاة الموافقة، أي كانوا يريدون الالتزام بعدد الأربعة فلم يحلّوا شهراً من الحرام إلاّ حرّموا شهراً آخر ليكمل العدد، وبهذا التلاعب يزعمون أنهم لم يخالفوا أمر اللّه تعالى، مع أنهم ارتكبوا معصيتين: تحليل الحرام وتحريم الحلال.

وقوله: {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي نتيجة النسيء هي تحليل الشهر الذي حرّمه اللّه تعالى ولا ينفعهم تلاعبهم في رفع المعصية عنهم.

وقوله: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَٰلِهِمْ} زينها لهم الشيطان حتى حسبوا القبيح حسناً، وفي ذلك انقلاب للموازين عندهم وهو من أسوء أنواع الضلال.

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ} أي يخذلهم فيتركهم حتى يضلوا، وذلك لعنادهم في كفرهم.

ص: 241

الآيات 38-40

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا مِنَ الْأخِرَةِ فَمَا مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فِي الْأخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ 38 إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَئًْا وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 39 إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٖ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 40}

بعد أن أمرهم بالجهاد نهر المتخاذلين عنه فقال:

38- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} الخطاب للجميع حيث إن المتثاقلين كانوا منهم {مَا لَكُمْ} بمعنى أيّ نفع يعود إليكم في التخلّف {إِذَا قِيلَ لَكُمُ} قاله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {انفِرُواْ} اخرجوا للقتال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} أي تثاقلتم مائلين {إِلَى الْأَرْضِ} فلا تريدون الخروج {أَرَضِيتُم} استفهام إنكاري {بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} شهواتها وملذاتها {مِنَ الْأخِرَةِ} بدلاً عن ثواب الآخرة ونعيمها، لكن اعلموا {فَمَا مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} ما يتمتع ويستلذ به {فِي} جنب ثواب {الْأخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} مستحقر، فعليكم أن لا ترجحوا الحقير الفاني على الجليل الباقي.

ص: 242

39- ثمّ يهددهم اللّه تعالى فيقول: {إِلَّا تَنفِرُواْ} إن لا تخرجوا إلىالجهاد فأنتم المتضررون؛ إذ {يُعَذِّبْكُمْ} اللّه {عَذَابًا أَلِيمًا} في الدنيا بسيطرة الكفّار عليكم، وفي الآخرة بالنار، {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} يأتي بأناس آخرين مكانكم ينصرون الدين هم أطوع منكم لا يتثاقلون {وَلَا تَضُرُّوهُ} لا تضروا اللّه {شَئًْا} لأنه الغني عنكم {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} فيتمكن من الاستبدال ومن نصر دينه.

40- ثمّ يذكر لهم مثالاً حيث استبدل أهل مكة بالأنصار ونصر رسوله حيث لا ناصر له ف{إِلَّا} إن لا {تَنصُرُوهُ} الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} أي فينصره اللّه حالاً كما نصره في ما مضى {إِذْ} في الوقت الذي {أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أخرجوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنهم كانوا السبب في الخروج حيث أرادوا قتله، حال كونه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي أحدهما حيث لم يكن له ناصر {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} حيث لا طريق للفرار {إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِ} أبي بكر: {لَا تَحْزَنْ} فلم يكن أحد يسلي الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل هو كان يسلي الصاحب {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} يعلم بحالنا، {فَ} كان نصر اللّه تعالى لرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن {أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} الطمأنينة والأمنة الخاصة {عَلَيْهِ} على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {وَأَيَّدَهُ} أيد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {بِجُنُودٖ} من الملائكة وغيرهم {لَّمْ تَرَوْهَا} أنتم فلم يكونوا من جنس البشر، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي كيدهم وتآمرهم لقتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {السُّفْلَىٰ} فاشلة مغلوبة {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} دائماً {هِيَ الْعُلْيَا} المرتفعة الغالبة، ومن كلمته وعده بنصر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإنجائه من مشركي مكة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب على أمره {حَكِيمٌ} في تدبيره.

ص: 243

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ...} الآية.

لما أمرهم اللّه تعالى بقتال المشركين وأهل الكتاب زجرهم عن التكاسل عن الجهاد، وشأن نزول الآية غزوة تبوك في السنة التاسعة حيث الطريق طويل، والعدو الروم، وكان في وقت أدركت ثمار أشجارهم، فصعوبة الطريق من جهة وقوة العدو من جهة أخرى وانشغالهم بمحاصيلهم من جهة ثالثة صارت سبباً لضعف عزيمة الكثيرين منهم، فيقرّعهم اللّه تعالى ويحثّهم على الخروج.

وقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} الخطاب وإن كان عاماً إلاّ أن المقصود به المتثاقلون، وإنّما صحّ تعميم الخطاب لأن المتكاسلين كانوا ضمن المسلمين بل الظاهر أن أكثرهم كانوا كذلك ويصح خطاب الجميع بما يفعله الأكثر.

وقوله: {مَا لَكُمْ} (ما) استفهامية، و(لكم) بمعنى النفع فالمعنى أي فائدة تعود لكم بالتثاقل؟

وقوله: {انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} النفر هو الخروج ويتضمن معنى التباعد والهياج، فكأن المقصود الخروج بسرعة.

وقوله: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} أي تثاقلتم من باب الافتعال بمعنى إظهار الشيء أي أظهرتم الثقل، وضُمّن معنى الميل ولذا عُدّي ب(إلى)، والمعنى كأنكم شيء ثقيل لا يتمكن من الحركة.

ص: 244

وقوله: {أَرَضِيتُم} استفهام إنكاري، أي هل آثرتم الدنيا على الآخرة.وقوله: {فَمَا مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا...} أي ما يتمتع ويستلذ به في الدنيا هو شيء مستحقر زائل وفاني إذا قيس بثواب الآخرة وكرامته ودوامه.

أسباب عدم خروجهم للجهاد

الثاني: قوله تعالى: {إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ...} الآية.

يبيّن اللّه تعالى ثلاثة أمور تترتب على عدم خروجهم:

1- قوله: {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} حيث آثروا متاع الدنيا لكن العاقبة هي العذاب الأليم، وهو ليس بمنحصر بعذاب الآخرة بل يشمل عذاب الدنيا أيضاً ومن ذلك سيطرة الكفّار عليهم وما تستتبعه من قتلهم وسبي ذراريهم وسلبهم أموالهم.

2- وقوله: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي يأتي بأناس آخرين ينصرون دينه فيكون ثواب النصرة والطاعة لهم دونكم، كما أن أهل مكة لما خذلوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذبوه استبدل اللّه بهم أهل المدينة فحازوا على فضيلة نصرة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

3- {وَلَا تَضُرُّوهُ شَئًْا} لأن اللّه تعالى غني عنكم ويتمكن من نصر دينه ورسوله بما شاء، وضمير {لَا تَضُرُّوهُ} إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ويمكن إرجاعه إلى اللّه تعالى.

آية الغار

الثالث: قوله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ...} الآية.

بيان مثال حاضر لهم حيث إن اللّه تعالى نصر رسوله في أشد الظروف

ص: 245

وأصعبها؛ إذ تكالب عليه أهل مكة لقتله فاضطر إلى أن يخرج ولم يكنمعه إلاّ شخص واحد والتجأ إلى غار لم يكن فيه منفذ للفرار لو وصل إليه الأعداء، ولم يكن معه من يسليه ويشد عزيمته بل بالعكس كان صاحبه هو الذي يحتاج إلى التسلية، والحاصل: لا ناصر ينصر ولا حصن يمنع ولا أحد يقوّي المعنويات، ومع ذلك نصره اللّه تعالى وهيّأ له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما أراد من الهجرة وفشلت محاولة المشركين.

وقوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} الجزاء محذوف أي إن لم تنصروه فسينصره اللّه كما نصره في قصة الهجرة.

ثمّ إن اللّه تعالى بيّن ثلاثة أمور تدل على شدة قوة الأعداء وعدم وجود الأسباب الظاهرية لنصرة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد فصل بين الأمور الثلاثة بكلمة {إِذْ} وهي:

1- قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} إنّما كان إخراجاً لأنهم كانوا السبب حيث أرادوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاضطر إلى الخروج، وهذا يدل على قوة المشركين وعدم تمكن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من مقاومتهم في الظاهر لمّا مات أبو طالب (عليه السلام) ناصره فتكالب عليه الأعداء.

وقوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال أي حال كونه وقت الخروج وحيداً لم يكن معه إلاّ شخص واحد وقد طلبه المشركون بخيلهم ومقاتليهم، و{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي أحدهما.

2- وقوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} بيان عدم وجود مفرّ له، وقد وصل المشركون إلى الغار لكن اللّه تعالى صرفهم عنه، والغار في جبل ثور قرب مكة.

ص: 246

3- وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} أي مع وجود ما يحبط المعنويات فإن الصاحب كان خائفاً حزيناً وقد ظهر عليه ذلك بحيث احتاج إلى أن يسليه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والحزن إنّما هو لأمر قد مضى كما أن الخوف ممّا سيأتي، فالحزن هنا إمّا بمعنى الخوف أي لا تخف، وإمّا بمعنى الحزن على ما فاته في مكة من مال وغيره.

والحاصل: إن الظروف العسكرية والنفسية كلها كانت بصالح المشركين لكن اللّه تعالى نصر رسوله فكذلك سينصره في ما يأتي.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} المعية هنا بمعنى العلم والإنقاذ فقد وعد اللّه رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن لا يصيبه سوء من المشركين.

الرابع: قوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٖ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ...} الآية.

أي رغم أن كل الظروف لم تكن بصالح الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ أن اللّه تعالى نصره، وقد بيّن اللّه ثلاثة أمور في نصره:

1- قوله: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي لطفه الخاص الذي أورث سكون نفس الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وطمأنينته، وقد مرّ الكلام عنها((1))، وهذا لا يعني أنه كان مضطرباً، بل السكينة زيادة اطمئنان ولطف من اللّه تعالى.

2- وقوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٖ لَّمْ تَرَوْهَا} المراد التأييد حين الخروج، وليس المقصود هنا بيان تأييده في بدر وغيره؛ لأن السياق يقتضي كون التأييد حين ذاك.

ص: 247


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 256.
مدلول آية الغار

والجنود التي لم يروها هم الملائكة، والحمام التي باضت في فوهة الغار، والعنكبوت التي نسجت على باب الغار((1))، حتى صرف اللّه المشركين عن النظر في الغار والدخول فيه، فقوله: {لَّمْ تَرَوْهَا} أعم من عدم كونها مرئية أو لم تكن حاضرة ليروها، أو الخطاب للمسلمين المتثاقلين فإنهم لم يروا تلك الجنود حتى لو فرض أن المشركين رأوها حين بحثهم عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد روي أن اللّه تعالى أرسل ملكاً في صورة رجل حثّهم على البحث عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشعاب فانصرفوا عن الغار((2))، كما روي أن سراقة بن مالك «لحق برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اللّهم اكفني شر سراقة بما شئت، فساخت قوائم فرسه...»((3)).

3- وقوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىٰ} الظاهر أن المراد من كلمتهم هو ما اتفقوا عليه في دار الندوة من قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكلمتهم كيدهم حينذاك، و{السُّفْلَىٰ} كناية عن كونها فاشلة مغلوبة.

وقوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} إخبار بالقاعدة العامة وهي أن وعد اللّه لا خلف فيه، وإنجاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من المشركين في الغار مصداق لإنجاز اللّه تعالى ما وعده (والعليا) للدلالة على أنها الغالبة المنصورة.

وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} كالتعليل لكون كلمته هي العليا؛ فإنّه سبحانه عزيز غالب على أمره، وهو حكيم في تدبيره وفي كلمته.

ثمّ إن هذه الآية قدح في الصاحب ولا مدح فيها له بشيء، وذلك من

ص: 248


1- ([1]) راجع مجمع البيان 5: 80.
2- ([2]) راجع تفسير القمي 1: 276.
3- ([3]) الكافي 8: 263.

جهات متعددة:

منها: أنه لا بدّ في البلاغة من تطابق الممثَّل والممثَّل به، والمعنى: إن لم تنصروه في غزوة تبوك فلا يضره لأن اللّه ناصره، كما أنه في الغار نصره اللّه حينما لم ينصره أحد حتى صاحبه.

ومنها: أن السكينة نزلت على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم تنزل على صاحبه، مع أنه في القرآن كلّما نزلت السكينة على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نزلت على المؤمنين أيضاً كما مرّ في الآية 26.

وقد التفت بعضهم إلى ذلك فحاولوا إرجاع ضمير (عليه) إلى (صاحبه)، مع وضوح بطلان ذلك حيث إن الضمائر السابقة واللاحقة كلها للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وسياق الكلام أيضاً في نصرة اللّه تعالى للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وزعم بعضهم عدم حاجة الرسول إلى السكينة! مع وضوح بطلان ذلك أيضاً؛ لأن اللّه تعالى أنزل سكينته على رسوله في يوم حنين وفي صلح الحديبية مع وجود أنصار متعددين له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ويوم الغار أصعب من ذينك الموقفين كما هو أوضح من أن يخفى.

وأمّا {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} و{فِي الْغَارِ} و{لِصَٰحِبِهِ} و{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فلا دلالة لها على شيء من الفضل.

إذ ثاني اثنين عدد ولا فضيلة فيه، إذ لو مشى مسلمان أو مسلم وكافر معاً كان المسلم ثاني اثنين.

ومسجد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل من الغار وقد كان يجمع المسلم والمنافق.

والصحبة من دون إيمان لا قيمة لها، كما قال تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ

ص: 249

وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ...}((1)).

كما أن اللّه مع الجميع مؤمنهم وكافرهم، قال سبحانه: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ}((2))، وقال تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ}((3))، كما أنه تعالى قد ينقذ المؤمن والكافر والمشرك، كما قال تعالى: {فَلَمَّا أَنجَىٰهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}((4)).

ص: 250


1- ([1]) سورة الكهف، الآية: 37.
2- ([2]) سورة النساء، الآية: 108.
3- ([3]) سورة المجادلة، الآية: 7.
4- ([4]) سورة يونس، الآية: 23.

الآيات 41-43

اشارة

{انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 41 لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ 42 عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَٰذِبِينَ 43}

ثمّ يحثّهم اللّه على الجهاد على كل حال فقال:

41- {انفِرُواْ} اخرجوا إلى الجهاد {خِفَافًا} جمع خفيف أي حال كونكم نشطين فيه لقلة المشاغل {وَثِقَالًا} جمع ثقيل لكثرة المشاغل ومشقته عليكم، {وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ} ببذلها {وَأَنفُسِكُمْ} بالذهاب إلى القتال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بقصد امتثال أمره ولإعلاء كلمته، {ذَٰلِكُمْ} النفر والجهاد حيث فيه العزة والثواب {خَيْرٌ لَّكُمْ} من القعود {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن كنتم تعلمون لعلمتم أن النفر والجهاد خير لكم.

42- {لَوْ كَانَ} ما دعاهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليه {عَرَضًا} مال الدنيا والغنيمة {قَرِيبًا} سهل الوصول إليه {وَسَفَرًا قَاصِدًا} ليس بالبعيد فكان يُقصد لسهولته {لَّاتَّبَعُوكَ} طمعاً في الدنيا ولأنه سهل، {وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي المسافة التي يقطعونها كانت بعيدة وفيها المشقة، {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} بعد رجوعكم معتذرين عن عدم الخروج قائلين: {لَوِ اسْتَطَعْنَا} كانت لنا القدرة

ص: 251

في المال والبدن {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} حال كونهم {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ}بعدم الخروج وبالحلف الكاذب {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ} في ادعائهم وحلفهم، فقد كانوا يستطيعون لكن آثروا الراحة.

43- ولما علم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن خروجهم يضرّ جيش الإسلام أذن لهم في البقاء فقال اللّه تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ} أي لا عتاب عليك في الإذن لهم وقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَٰذِبِينَ} ظاهر الكلام متوجه إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن المقصود به أولئك المتخلّفون، كعتاب موسى هارون (عليهما السلام) مع كون المقصود عبدة العجل، فالمعنى لا يحق للكاذبين الاستئذان والتخلّف.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

لمّا هدّدهم اللّه تعالى في تركهم الجهاد حثّهم عليه ببيان أنه خير لهم من القعود، وبيّن أن الأعذار الواهية غير مقبولة.

وقوله: {خِفَافًا وَثِقَالًا} جمع خفيف وثقيل، فالخفيف هو قليل المشاغل النشط الذي لا يمنعه عن الجهاد مانع من كبر في العمر وأهل ومال وزرع وحرث ونحو ذلك، والثقيل عكسه فيشق عليه الخروج للجهاد، والمقصود الخروج على كل حال.

وقوله: {وَجَٰهِدُواْ} من الجهد والتعب، فلا تمنعكم الصعوبة عن الجهاد، والنفر أيضاً بمعنى الجهاد إلاّ أن عطف الجهاد عليه لأجل بيان تفصيله بأنه

ص: 252

بالمال والنفس وأنه في سبيل اللّه، أو أن النفر هو خروج بقصد الجهاد،ولكن قد يخرج أحدهم ولا يجاهد أو لا ينوى القربة، فلا بدّ أن يُتبع النفر بالجهاد في سبيله تعالى.

وقوله: {ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي النفر والجهاد بصالحكم في الآخرة بالثواب، وفي الدنيا بالعزة والغنيمة.

وقوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} المعنى إن كنتم تعلمون لعلمتم أنه خير لكم.

الثاني: قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ...} الآية.

بيان بطلان أعذارهم وأنهم يريدون الدنيا، فلا يخرجون إلى الجهاد إلاّ لو كان سهلاً فيه الغنيمة، أمّا لو كان صعباً فلا، بل يعتذرون بالأعذار الكاذبة ويحلفون باللّه عليها.

وقوله: {عَرَضًا قَرِيبًا} العرض الغنيمة، ويسمى متاع الدنيا عرضاً لأنه سريع الزوال لا ثبوت له، والقريب ما كان سهل المأخذ.

وقوله: {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أي غير بعيد فيكون سهلاً، وسُمّي قاصداً لأنه ممّا يُقصد لسهولته.

وقوله: {بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي المسافة التي يشق قطعها، وكان ذلك في غزوة تبوك، حيث المسافة بعيدة جداً وكان الوقت صيفاً شديد الحرّ مع كون العدو الروم.

وقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ...} إخبار بما سيقوله المنافقون المتخلّفون بعد رجوع المسلمين من غزوة تبوك، والغرض فضحهم من أوّل الأمر ومنع ضِعاف الإيمان من اللحاق بهم، ومع ذلك فلم يجد المنافقون بداً من ذكر

ص: 253

هذا العذر إذ لم يكن لهم عذر آخر يتشبثون به.

وقوله: {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بعدم اتّباعك وقت المشقة، وبالحلف كاذباً، وهلاكهم في الآخرة بالعذاب وفي الدنيا بالذل والفضيحة، وقد قابل ادعائهم عدم الاستطاعة كذباً بهلاكهم حقيقة.

وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ} لمّا حلفوا باللّه بيّن أنه تعالى يعلم بكذبهم ويفضحهم لأن ما يعلمه اللّه تعالى من أفعالهم كائن لا محالة، فقابل بين حلفهم الكاذب وعلمه تعالى الصادق.

سبب إذن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للتخلف عن الجهاد

الثالث: قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَٰذِبِينَ}.

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعلم بأنه لا مصلحة في خروج هؤلاء المنافقين مع المجاهدين بل يترتب عليه ضرر كبير كما سيأتي في الآية 47: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ...}، وفي الوقت نفسه كان يريد أن لا يكون عدم خروجهم تمرّداً منهم بما يضعف به عزيمة المجاهدين ويذهب به هيبة الإسلام، وكان الحلّ في أن يأذن لهم في عدم الخروج، وإنّما الذم على الذين يختلقون الأعذار الكاذبة ليفروا من الجهاد، فهذه الآية ذم لهم ولكن جعل الخطاب للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليكون أوقع وأبلغ، كما في عتاب موسى (عليه السلام) لهارون (عليه السلام) وكان المقصود به عبدة العجل كما مرّ تفصيله في سورة الأعراف((1))، وسأل المأمون الإمام الرضا (عليه السلام) عن هذه الآية فقال: «هذا ممّا نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب اللّه بذلك

ص: 254


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة الأعراف: 277.

نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأراد أمّته، وكذلك قوله عزّ وجلّ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}((1)

وقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَئًْا قَلِيلًا}((2))»((3))، وقال الوالد رضوان اللّه عليه: «استأذن جماعة من المنافقين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تركهم الخروج إلى تبوك، فأذن لهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد كان هذا الإذن كسائر أوامر الرسول وكلماته بالوحي بدليل قوله سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}((4))، لكن الاستئذان من القوم كان نفاقاً فاستحقوا العقاب، ومن البلاغة أن يوجه الإنسان العتاب إلى أحد وهو يريد إفهام غيره، فإذا ألحّ الشخص المتظاهر بالفقر، فأشرت إلى ولدك بإعطائه المال، تقول له - معاتباً وأنت تريد إفهام الآخذ - : لِمَ أعطيته المال؟ مع أن إعطاءه كان بأمرك، ولكنك تريد توبيخ الآخذ بصورة بليغة، وهذا كما يظهر في الكلام يظهر في العمل، فقد تأخذ بيد الولد لتقصيره أمام الآخذ مظهراً غضبك عليه، تريد إفهام الآخذ بسوء صنيعه في الأخذ، كما تقدم في قصة موسى وهارون (عليهما السلام) »((5)).

وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ} أي لا يعاتبك ولا يؤاخذك، فلا يراد العفو عن ذنب بل المقصود نتيجة العفو أي إنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غير مؤاخَذ ولا معاتَب على إذنه لهم كقوله: {وَإِن تَسَْٔلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ

ص: 255


1- ([1]) سورة الزمر، الآية: 65.
2- ([2]) سورة الإسراء، الآية: 74.
3- ([3]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 202؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 467.
4- ([4]) سورة النجم، الآية: 3-4.
5- ([5]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 403-404.

لَكُمْ عَفَااللَّهُ عَنْهَا}((1))، وكقوله: {إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}((2)).

وقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} بيان المعفوّ عنه، فالمعنى لا يؤاخذك اللّه على إذنك لهم.

وقوله: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ...} بيان غاية عدم الإذن، أي لا تأذن حتى تعلم بالصادق في عذره عن الكاذب، وليس المعنى حتى يتبيّن لك المنافقون فإن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعرفهم كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}((3))، فالمعنى من جاءك مستأذناً - سواء كان مؤمناً أم منافقاً - فلا تأذن له حتى تعلم بمن هو صادق في عذره عمّن هو كاذب فيه، ومع ذلك فقد فوّض اللّه تعالى الإذن للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمن شاء منهم، كما سيأتي بيانه قريباً.

ص: 256


1- ([1]) سورة المائدة، الآية: 101.
2- ([2]) سورة البقرة، الآية: 237.
3- ([3]) سورة محمّد، الآية: 30.

الآيات 44-48

اشارة

{لَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ 44 إِنَّمَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ 45 وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ 46 لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّٰلِمِينَ 47 لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَٰرِهُونَ 48}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أن الاستئذان من غير عذر حقيقي لا يجتمع مع الإيمان فقال:

44- {لَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} في {أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} إذ المؤمن يمتثل أمر اللّه تعالى ولا يحتال عليه ويعلم بثوابه وعقابه، {وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ} الذين يتقون عصيانه فيطيعون أوامره ولا يتهربون منها فيجازيهم على تقواهم.

45- {إِنَّمَا يَسْتَْٔذِنُكَ} في القعود عن الجهاد وعدم بذل الأموال فيه {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} إيماناً راسخاً {بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} والريب شك مع تهمة {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} يتحيّرون.

46- وأعذارهم واهية فقد قصدوا من أوّل الأمر عدم الخروج {وَلَوْ أَرَادُواْ

ص: 257

الْخُرُوجَ} للجهاد طاعةً للّه {لَأَعَدُّواْ لَهُ} للخروج {عُدَّةً} وهيأسباب القتال بأن تهيؤوا له {وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ} انطلاقهم للجهاد أي خذلهم اللّه فلم يوفقهم للجهاد بسوء أعمالهم {فَثَبَّطَهُمْ} عوّقهم أي تركهم بحالهم {وَقِيلَ} وكأن القائل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا أذن لهم: {اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ} عن الجهاد كالمرضى والنساء والصبيان.

47- وإنّما كره اللّه انبعاثهم فأذن لهم الرسول لأنه {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} في ضمنكم {مَّا زَادُوكُمْ} بخروجهم {إِلَّا خَبَالًا} أي فساداً في الرأي، {وَلَأَوْضَعُواْ} أي أسرعوا في الدخول {خِلَٰلَكُمْ} بينكم {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} بإيقاع الخلاف بينكم، {وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ} أي يتأثرون بكلامهم أو جواسيس لهم ينقلون كلامهم فيساعدونهم على فتنتهم، {وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّٰلِمِينَ} فيعاقبهم على سوء أعمالهم.

48- وهذه الحالة متأصلة في نفوسهم تدل على نفاقهم ف{لَقَدِ ابْتَغَوُاْ} طلبوا {الْفِتْنَةَ} بتشتيت الأمر وتفريق الأصحاب {مِن قَبْلُ} أي قبل غزوة تبوك وذلك في غزوة أ ُحد حيث انخزلوا عن الجهاد وشقوا صفوف المجاهدين {وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ} والقلب تصريف الشيء عن وجهه حيث حاولوا إفشال برامج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ} الظفر {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} بغلبة الإسلام {وَهُمْ كَٰرِهُونَ} لذلك.

بحوث

الأوّل: في هذه الآيات يبيّن اللّه تعالى أن الاحتيال عن إطاعته تعالى دليل عدم الإيمان، فإن المؤمن يطيع اللّه تعالى ولا يحاول الفرار من تنفيذ أوامره،

ص: 258

وأمّا غير المؤمن فتارة يجاهر بالعصيان، فإن لم يتمكن من المجاهرة اختلقأعذاراً، لئلّا يقع في مشقة الإطاعة من جهة، ولئلّا يظهر نفاقه وعدم طاعته من جهة أخرى.

وحيث إن المؤمن الذي يريد الجهاد قد يتعذر عليه ذلك بحيث لا يتمكن منه، وهذا أيضاً يأتي للاستئذان، أراد اللّه تعالى التمييز بينه وبين العاصي المحتال، فذكر أن هؤلاء العصاة ينوون العصيان من أوّل الأمر فلذا لا يتهيّؤون منذ البداية عكس المؤمن المعذور الذي يحاول رفع عذره ويجهد في توفر الأسباب، وبذلك ينكشف العصاة الذين يريدون الفرار من الجهاد عن المؤمنين المعذورين واقعاً.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أنه سبحانه وإن أمر هؤلاء بالجهاد تشريعاً إلاّ أنه خذلهم فلم يلطف بهم اللطف الخاص الذي يوفّقهم للطاعة ولذا صدّقهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الظاهر فأذن لهم، وهذا الإذن لا يرفع التكليف بالجهاد عنهم لأنه كان مبنيّاً على ما قالوه، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مأمور بالعمل بالظاهر، كمن يأتيه ويدعي المرض في شهر رمضان فيأذن له في الإفطار، وذلك في الحقيقة قضية شرطية أي إن كان عذرك حقيقياً فقد أذنت لك.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى سبب خذلانهم وعدم توفيقهم، وهو أنهم لو خرجوا مع المسلمين أفسدوا آراءهم وأثاروا النزاع بينهم كما فعلوا من قبل فدفع اللّه سبحانه شرّهم.

الثاني: قوله تعالى: {لَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ}.

ص: 259

أي ليس من شأنهم الاستئذان للفرار من الجهاد؛ لأن المؤمن الحق يطيعاللّه تعالى في ما أمره من غير احتيال للتخلص من الحكم، إذ ذلك من لوازم الإيمان الحق، فمن يعتقد باللّه جازماً ويعلم بحكمته وأنه لا يأمر إلاّ لمصلحة وأن من شأن عبوديته امتثال أوامره أطاعه بمجرد أمره، وكذلك من يعتقد بالآخرة وثوابها وعقابها يمتثل الأمر جزماً.

وهذا لا ينافي تحقق العذر الحقيقي لبعض المؤمنين بحيث يسقط الجهاد عنهم كما قال: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَٰذِبِينَ}((1)) فتأذن للصادق دون الكاذب، لكن مع ذلك لا بدّ للمؤمن المعذور من الاستئذان لئلّا ينفرط عقد الطاعة ولئلّا تدبّ الفوضى في صفوف المسلمين، ولئلّا يستغل المنافقون والعصاة ذلك للفرار من الأحكام، قال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}((2))، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٖ جَامِعٖ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَْٔذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَْٔذِنُونَكَ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَْٔذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ}((3))، فقوله: {لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} يراد به الصادق في عذره مع كون عذره مقبولاً لإعفائه وهو ما ذكره بقوله: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ}.

وقوله: {أَن يُجَٰهِدُواْ} بتقدير في، أي لا يستأذنون في الجهاد بتركه.

ص: 260


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 43.
2- ([2]) سورة النور، الآية: 51.
3- ([3]) سورة النور، الآية: 62.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ} أي يتقون العصيان أو يخافون اللّه تعالى.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ...} الآية.

أوصاف المنافقين الذين يريدون الفرار من الجهاد

الاحتيال على الأحكام الشرعية واختلاق الأكاذيب للتهرّب منها دليل عدم الإيمان، وقد ذكر اللّه تعالى ثلاثة أوصاف لهؤلاء، وهي:

1- قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي إيمانهم باللّه ليس براسخ ولا صحيح فهؤلاء يظنون أنهم يتمكنون من مخادعة اللّه تعالى، كما قال: {وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ}((1)).

2- وقوله: {وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} فلا يعتقدون به فلا يؤمنون بثوابه وعقابه أو إيمانهم به ضعيف فيزعمون أن لا عذاب لهم لو عصوا.

3- وقوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} الارتياب هو شك مع تهمة، فكأن المقصود شكهم في حكم الجهاد واتهامهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيه، فقد لا يؤمن شخص إيماناً صحيحاً لكن لا يشك ولا يتّهم وهذا يكون غالباً في ضعاف الإيمان والذين لمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، وقد يكون لا يؤمن مع ارتياب وهذا يكون غالباً في المنافقين الظانين باللّه ورسوله ظن السوء.

وقوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي يتحيّرون لأنهم من جهة يستصعبون الجهاد ويخافون منه، ومن جهة أخرى لا يريدون أن يفتضحوا في المجتمع، فيكونون مذبذبين متحيرين دائماً.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}.

ص: 261


1- ([1]) سورة فصلت، الآية: 22.

هذا علامة عدم صدقهم في أعذارهم؛ وذلك لأن المطيع يهيّؤ نفسه وقد يفاجؤه عذر حقيقي، لكن العاصي يوطّن نفسه منذ البداية على عدم الامتثال فيظهر ذلك على عمله بعدم الاستعداد للطاعة، كما أن الذي لهمعوّقات عن الامتثال يحاول إزالة تلك المعوّقات لأن مقدمة الواجب المطلق واجبة عقلاً، وأمّا من يترهّل ويدعي وجود معوّقات ولا يحاول إزالتها فهذا يكشف عن عدم إرادته الامتثال من البداية.

وقوله: {لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} أي هيؤوا واستعدوا للخروج، و(العدة) هي أسباب المقاتلة من مال وسلاح وخيل ونحو ذلك.

سبب عدم توفيق اللّه لهم

الخامس: قوله تعالى: {وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ}.

بيان سبب عدم توفيق اللّه لهم، فإنه لا طاعة إلاّ بتوفيق منه، وذلك لمن أحسن النية والعمل، وأمّا من أساء النية والعمل فلا يلطف اللّه سبحانه به اللطف الذي يؤدّي به إلى اختيار الطاعة، كالولد الذي يريد العصيان فقد يأتي الوالد وينصحه ويزين له ويعطيه الوعود فيختار الولد الطاعة، وقد ييأس منه الوالد لكثرة سوء عمله فيتركه في براثن المخالفة والعصيان.

وقوله: {كَرِهَ اللَّهُ} هذا في الإرادة التكوينية، وذلك لا ينافي إرادته التشريعية، بمعنى أن الجهاد مأمور به ولا يسقط عن هؤلاء، فهو تعالى يريد تشريعاً بمعنى بقاء التكليف، ويكره تكويناً بمعنى عدم اللطف الموجب للطاعة.

وقوله: {انبِعَاثَهُمْ} أي قيامهم للجهاد، وفي هذا إشعار بسبب الكراهة

ص: 262

وهو تثاقلهم بحيث لا بدّ في تحقق طاعتهم من انبعاثهم وهو انطلاقهم بسرعة.

وقوله: {فَثَبَّطَهُمْ} التثبيط هو التعويق والشغل عن المراد((1))، وذلك بالخذلان وعدم التوفيق.

وقوله: {وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ} والقائل هو الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما أذن لهم، أو اللّه تعالى حينما لم يوفقهم للجهاد، و{الْقَٰعِدِينَ} هم العجزة والنساء والصبيان ونحوهم، وفي هذا أشد الذم لهم.

السادس: قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ...} الآية.

بيان سببين لكراهة اللّه تعالى انبعاثهم للجهاد، وهو أنهم لو خرجوا لحولوا طاعة الجهاد إلى معصية، كالمرائي الذي يحول عبادة اللّه تعالى إلى ويل في جهنم.

قوله: {مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} كل مجاهد صادق يزيد جيش الإسلام مقاتلاً نافعاً، أمّا هؤلاء فلا يزيدون المسلمين إلاّ خبالاً، والخبال هو فساد الرأي؛ لأنهم بكلامهم يفسدون آراء بعض المقاتلين وذلك بإثارة الشبهات والمخاوف.

وقوله: {وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} الإيضاع هو الإسراع في الدخول بين الناس، يقال للمسافر الذي دخل بدابته وسط رحل المسافرين: أوضع خلالهم، والمقصود أنهم يسرعون بينكم بالنميمة وذلك لشق صفوف

ص: 263


1- ([1]) راجع لسان العرب 7: 267.

المجاهدين وإثارة النزاع بينهم، مع أن الجيش أحوج ما يكون إلى وحدة الكلمة وصفاء القلوب.

وقوله: {وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ} فالنمام لو رفضه الناس فشل في إثارة الخلاف بينهم، لكن كان كثير من المسلمين حديثي عهد بالإسلام فلذا كانت نميمة هؤلاء مؤثرة في شق الصف، فالسمّاع بمعنى البسيط الساذج السريع القبول والتأثر، وقيل: معنى {سَمَّٰعُونَ لَهُمْ} أنهم عيون ووسائط لهم في نقل فتنتهم إلى سائر المسلمين.

السابع: قوله تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ...} الآية.

بيان أن هذه الحالة متجذّرة فيهم، وهو كالدليل على الآية السابقة.

وقوله: {لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ} المراد بها تشتيت الأمر وتفريق المجاهدين عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {مِن قَبْلُ} أي في غزوة أ ُحد حيث انخزل ثلاثمائة منهم فتركوا الرسول وسائر المسلمين، كما أنهم كادوا أن يؤثّروا في طائفتين من المسلمين ليرجعوا، وقد مرّ ذكره في سورة آل عمران((1)).

وقوله: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ} التقليب هو صرف الشيء عن وجهه، فكانت أمور المسلمين متّسقة وكلمتهم واحدة، لكنهم شتّتوا الأمر ولعل انخزالهم كان من أسباب الهزيمة في غزوة أ ُحد لأنهم كانوا يشكّلون ثلث عدد المسلمين المقاتلين.

قوله: {حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ} لعل المراد الظفر، فقد غلب المسلمون الكافرين

ص: 264


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 365.

وفتحوا مكة.

وقوله: {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} لعل المقصود غلبة الإسلام على الشرك ودخولالناس في الإسلام أفواجاً، والحاصل: كما فشلت مخططاتهم في الماضي كذلك تفشل في الحال رغماً عنهم.

ص: 265

الآيات 49-52

اشارة

{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُ بِالْكَٰفِرِينَ 49 إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ 50 قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 51 قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ 52}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى بعض أوصاف المنافقين فذكر أربعة أصناف منهم، أمّا الصنف الأوّل فذكره بقوله:

49- {وَمِنْهُم} من المنافقين {مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي} في التخلف عن الجهاد {وَلَا تَفْتِنِّي} أي لا توقعني في الفتنة بإخراجي إلى الجهاد، {أَلَا} للتنبيه {فِي الْفِتْنَةِ} وهي عصيان اللّه ورسوله {سَقَطُواْ} من حيث زعموا الفرار منها، {وَ} عاقبتهم العذاب حيث {إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُ بِالْكَٰفِرِينَ} فكل ما يصنعونه يوصلهم إلى جهنم.

50- ومن الفتنة التي سقطوا فيها أنهم يعارضون الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على كل حال ف{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} أي نعمة كالعافية والغنيمة {تَسُؤْهُمْ} تورث حزنهم لفرط عداوتهم وحسدهم، {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} كالبلاء والشدة {يَقُولُواْ} متبجّحين وشامتين: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} أي أخذنا الحذر بتخلفنا

ص: 266

{مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} بما أصابك من المصيبة.51- {قُل} في جوابهم عن فرحهم: {لَّن يُصِيبَنَا} من حسنة أو مصيبة {إِلَّا مَا كَتَبَ} قدّره {اللَّهُ لَنَا} فهو خير لنا؛ إذ {هُوَ} اللّه {مَوْلَىٰنَا} أي يتولى أمورنا بما هو بصالحنا، {وَ} حيث كان اللّه مولانا ف{عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يكلوا إليه أمورهم ويرضوا بقضائه لأنه لا يقدر إلاّ ما هو خير لهم.

52- واستنكاراً على زعمهم أخذ حذرهم {قُلْ}: إنّ المطيعين هم الذين أخذوا حذرهم دونهم ف{هَلْ تَرَبَّصُونَ} تنتظرون {بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} الظفر أو الشهادة فنحن على كل حال رابحون، {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ} نتوقع {بِكُمْ} أحد الشرّين: {أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنْ عِندِهِ} قارعة سماوية أو هلاك في الدنيا ثمّ عذاب في الآخرة {أَوْ بِأَيْدِينَا} بأن ننتصر فتفتضحوا وتذلوا أو يأذن لنا بقتلكم، ثمّ يهددهم بقوله: {فَتَرَبَّصُواْ} العاقبتين {إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} عاقبتنا الحسنة على كل حال وعاقبتكم السيئة على كل حال.

الصنف الأوّل من المنافقين وأوصافهم

بحوث

الأوّل: لما ذكر اللّه تعالى المنافقين الذين يريدون الفرار من الجهاد، عطف الكلام إلى ذكر مجموعة من أوصافهم، تحذيراً للمؤمنين عنهم وعن الاتصاف بتلك الأوصاف، فذكر أربعة أصناف منهم وهم: الذين لا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم، والذين يرضون بالعطاء ويسخطون بالمنع، والذين يؤذون الرسول، والذين ينقضون عهد اللّه تعالى وصدّر كل صنف بقوله: {وَمِنْهُم} وقد بينت هذه الآيات مجموعة من أقوالهم وأفعالهم

ص: 267

وفضحتهم.

أمّا الطائفة الأولى: فهم الذين يتهربون من الجهاد، فإن من أعرض عن عمل لا يريد نجاح ذلك العمل لئلّا يكون إدانة له ولتصرفه، فلذا يسوؤه ظفر المسلمين، ويفرح بمصيبتهم ويشمت بها ويتبجح بصحة رأيه حينما أعرض عن الجهاد، وأمّا سائر الطوائف فيأتي ذكرها لاحقاً.

الثاني: قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ...} الآية.

كأنه زعم أن امتثاله لأمر اللّه تعالى ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الخروج إلى الجهاد فتنة له، قيل: نزلت في جدّ بن قيس حيث زعم أنه لو خرج إلى الجهاد افتتن ببنات الروم((1))، ومعنى الآية عام لكل من يترك أحكام اللّه تعالى زاعماً أن فيها المفسدة، مع أن أحكامه هي الحق وفي امتثالها جلب المصلحة ودفع المفسدة.

وقوله: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} بيان أن ما صنعوه كان عصياناً للّه تعالى ولرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذلك هو الفتنة بعينها.

وقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُ بِالْكَٰفِرِينَ} تهديد لهم بأن عاقبتهم إلى جهنم، أو بمعنى أنهم وقعوا في الفتنة على كل حال سواء خرجوا أم لم يخرجوا، لأنهم مع خروجهم يزيدون المسلمين خبالاً ونزاعاً، ومع عدم خروجهم عصوا اللّه ورسوله، أو بمعنى أنهم في السيئة على كل حال ففي الدنيا سقطوا في الفتنة وفي الآخرة تحيط بهم نار جهنم.

ص: 268


1- ([1]) راجع مجمع البيان 5: 91.

ويحتمل أن تكون جهنم حالياً محيطة بهم لكن لا يشعرون بها لعدم تزويدهم بما يدركونها به حتى إذا ماتوا ذاقوا حرّها، كالجريح الذي تمّ تخدير موضع جرحه فهو لا يشعر بالألم حتى إذا زال أثر المخدّر شعر به.

الثالث: قول--ه تعال--ى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ...} الآية.

توضيح للفتنة التي سقطوا فيها فإنهم لمّا عصوا اللّه ورسوله أرادوا أن تتبيّن صحة مواقفهم، فإذا ظفر المسلمون استاؤوا لأن في ذلك فضيحتهم ووضوح بطلان موقفهم، وإن ابتلي المسلمون بمصيبة تبجّحوا بزعمهم صحة موقفهم وفرحوا بما أصاب المسلمين.

وقوله: {حَسَنَةٌ} شأن نزولها العافية والغنيمة، لكن المراد بها عام لكل نعمة سواء في حرب أم غيرها.

وقوله: {مُصِيبَةٌ} شأن النزول البلاء والشدة في الحرب، والمراد عام لكل مصيبة.

وقوله: {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} أي يتبجّحون دفاعاً عن موقفهم المتخاذل بترك الجهاد بأنهم قد احتاطوا فلم يقعوا في ما وقع فيه المجاهدون من المصيبة، كما قالوا مثل ذلك في غزوة أحد، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ}((1))، وقال سبحانه: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ

ص: 269


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 168.

فَأَفُوزَ فَوْزًاعَظِيمًا}((1))، و(أخذ الأمر) كناية عن التحذّر.

وقوله: {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} أي بالمصيبة التي أصابت المسلمين وكذلك بموقفهم المتخاذل.

وحين الحسنة لا يتمكنون من قول شيء ولذا اقتصر بقوله: {تَسُؤْهُمْ}، وأمّا حين المصيبة فردّ فعلهم يكون بالقول وبالفعل وبالقلب، فأمّا قولهم فهو التبجّح والشماتة، وأمّا فعلهم فهو التولّي وكأنهم لا يريدون سماع شيء من الجواب، وأمّا ما في قلوبهم فهو الفرح بما أصاب المسلمين، واللّه العالم.

الرابع: قوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

هذا جواب عمّا قاله المنافقون بأنهم قد أخذوا حذرهم وأن المؤمنين لم يأخذوا حذرهم لذا أصيبوا بالمصيبة، وحاصل الجواب: أن المؤمنين يمتثلون أمر اللّه تعالى، وهو الذي يتولى شؤونهم فلا يكتب لهم إلاّ ما هو خير لهم سواء كان مصيبة أم حسنة، ويتوكّلون عليه بامتثال أمره وبطلب الثواب منه.

وقوله: {إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} فالمصيبة لا تضرّنا لأن اللّه هو الذي قدّرها لنا، كمن يُسقى دواءً مُرّاً يتأذى به فهو خير له رغم التأذي.

وقوله: {هُوَ مَوْلَىٰنَا} أي المتولي لشؤوننا، فالمعنى إنه يقدّر لنا ما هو خير لنا، عكس ما يقدّره للكفّار والمنافقين فإنه شر لهم على كل حال؛ إذ النعمة استدراج لهم والمصيبة انتقام وعذاب لهم.

ص: 270


1- ([1]) سورة النساء، الآية: 72-73.

وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} حث لهم على امتثال أوامر اللّه تعالى والاعتماد عليه؛ لأنه سبحانه يقدّر الخير للمتوكّلين.

الخامس: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ...} الآية.

استفهام إنكاري مع تضمينه الجواب، فهم ينتظرون ليروا ما يؤول إليه أمر المجاهدين من الظفر أو الهزيمة، فيقال لهم: إن كليهما خصلة حُسنى؛ لأن في الظفر الفوز بالدنيا وثواب الآخرة، وفي الهزيمة الفوز بثواب الآخرة وقد يكون فيها منافع دنيوية أيضاً، وفي مقابل ذلك المنافقون خاسرون على كل حال، إمّا بعذاب من اللّه أو بأيدي المؤمنين فضلاً عن حرمانهم من فوائد النصر.

وقوله: {تَرَبَّصُونَ بِنَا} التربص هو الانتظار، وقيل: هو طول الانتظار((1)).

وقوله: {إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} الحسنى مؤنث الأحسن فما يقدره اللّه للمؤمنين هو أحسن تقدير، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «وكذلك المرؤ المسلم البريء من الخيانة ينتظر إحدى الحسنيين إمّا داعي اللّه فما عند اللّه خير له، وإمّا رزق اللّه فإذا هو ذو أهل ومال ومعه دينه وحسبه»((2))، ومن تأويل الآية ما عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إمّا موت في طاعة اللّه أو إدراك ظهور إمام»((3)).

وقوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ...} أي نعلم بأن اللّه يصيبكم بعذاب على

ص: 271


1- ([1]) راجع معجم الفروق اللغوية: 122.
2- ([2]) نهج البلاغة، الخطبة: 23.
3- ([3]) الكافي 8: 286.

كل حال فنحن ننتظره، وهو إمّا عذاب من اللّه مباشرة من السماء بالإهلاك أو المسخ ونحوهما، وإمّا بأيدي المؤمنين حيث يأمرهم اللّه بعقاب المنافقين بالفضح أو الصغار أو القتل.

وقوله: {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} في مجمع البيان: «صورته صورة الأمر والمراد التهديد كقوله: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ}((1))»((2)).

ص: 272


1- ([1]) سورة فصلت، الآية: 40.
2- ([2]) مجمع البيان 5: 94.

الآيات 53-57

اشارة

{قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ 53 وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَٰتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَٰرِهُونَ 54 فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ 55 وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ 56 لَوْ يَجِدُونَ مَلْجًَٔا أَوْ مَغَٰرَٰتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ 57}

وكان بعض المنافقين يريد الإنفاق للجهاد فراراً من القتال فقال تعالى:

53- {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا} بغير إكراه {أَوْ كَرْهًا} بإكراه وإلزام، والأمر بمعنى الشرط أي إن أنفقتم طائعين أو كارهين ف{لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} لأن شرط القبول التقوى وأنتم لستم متقين إذ {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ} بترككم الجهاد بالنفس، فلا ينفعكم إنفاق المال.

54- {وَ} لذلك الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفض قبول إنفاقهم لغزوة تبوك ف{مَا مَنَعَهُمْ} من {أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَٰتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ} باطل عقيدتهم وعملهم، أمّا عقيدتهم فقد {كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} كفراً باطنياً رغم إظهارهم الإسلام نفاقاً، {وَ} أمّا عملهم فإنهم لا يعتقدون بالعبادات فلذا {لَا يَأْتُونَ الصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ} متثاقلين بكسل {وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَٰرِهُونَ} لا يرغبون في الإنفاق.

ص: 273

55- ومن كان كذلك فلا قيمة لمظهره {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ}بل هي وبال عليهم؛ إذ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا} بتلك الأموال والأولاد {فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} حيث توجب مشقّتهم دائماً، {وَ} يريد أن {تَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} تخرج أرواحهم {وَهُمْ كَٰفِرُونَ} فلا تنفعهم تلك الأموال والأولاد في الآخرة أيضاً.

56- {وَ} كما لا تعجب بأموالهم وأولادهم لا تعجب بأقوالهم حيث {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} أي مثلكم في الإيمان والطاعة {وَمَا هُم مِّنكُمْ} لأن قلوبهم كافرة {وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخافون من الجهاد فيريدون إرضاءكم بالمال.

57- {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجًَٔا} يلتجئون إليه كالحصن {أَوْ مَغَٰرَٰتٍ} كهوف في الجبال {أَوْ مُدَّخَلًا} في الأرض كالنفق {لَّوَلَّوْاْ} فرّوا منكم أو من القتال {إِلَيْهِ} إلى كل واحد منها {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يسرعون لا يمنعهم مانع.

من طرقهم للفرار من الجهاد

بحوث

الأوّل: بعد أن ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة فرارهم من الجهاد باختلاق الأعذار الكاذبة وحلفهم عليها، ذكر في هذه الآيات طريقة أخرى اتخذوها في الفرار من الجهاد هي محاولتهم الإنفاق للجهاد عوضاً عن خروجهم إليه، ولم يكن هذا الإنفاق في سبيل اللّه تعالى بل تخلصاً عن الجهاد بالنفس، ولذا فإن إنفاقهم لا يتقبله اللّه سبحانه، فيحبطه من غير ثواب، ولا يقبله الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيرفضه.

ثمّ ينهى اللّه تعالى عن الانخداع بمظاهرهم وبأقوالهم؛ إذ كثرة أموالهم

ص: 274

وأولادهم وبال عليهم فهي عذاب عليهم في الدنيا والآخرة، وأمّا قولهم المعسول بأنهم من المؤمنين وحلفهم عليه فهو كذب ينشأ من خوفهم بل لو تمكنوا من الخروج عنكم لفعلوا ذلك مسرعين كالدابة الجموح.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ}.

أي إن اللّه تعالى لا يتقبل إنفاقهم الأموال للجهاد لأنهم كانوا فاسقين من قبل الإنفاق، واللّه سبحانه لا يتقبل إلاّ من المتقين، أو لأنهم كانوا فاسقين بترك الجهاد بالنفس فلا ينفعهم الإنفاق حيث لا يكون إنفاقهم حينئذٍ جهاداً بالأموال.

وقوله: {أَنفِقُواْ} صورته صورة أمر لكن المقصود به الخبر أو الشرط، أي سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً فلن يتقبل منكم، أو إن أنفقتم كذلك فلن يتقبل منكم.

وقوله: {طَوْعًا} أي من غير إكراه لكم.

وقوله: {كَرْهًا} أي بإكراه وإلزام وجبر.

وقوله: {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} التقبّل من اللّه تعالى بمعنى إنماء العمل والثواب عليه.

وقوله: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ} هذا تعليل لعدم القبول ولذا لم يعطفه بالواو.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَٰتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ...} الآية.

ص: 275

الظاهر أن هذه الآية ترتبط برفض الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تسلّم تلك الأموال منهم.

وقيل: (يتقبّل) و(تقبل) في الآيتين من اللّه تعالى وإنّما الآية الثانية كالتفصيل للآية الأولى ببيان تفصيلي لفسقهم المانع عن قبول اللّه سبحانه عملهم.

وقوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ...} أي المانع عن القبول سوء أعمالهم، و(هم) المفعول الأوّل و{أَن تُقْبَلَ} المفعول الثاني بتقدير (عن)، و{أَنَّهُمْ كَفَرُواْ...} الفاعل.

وقوله: {كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ...} أي كفرهم الباطني فإن المنافق يظهر كلمة الإسلام من غير اعتقاد بها، ولذا يعامل في الدنيا معاملة المسلم وفي الآخرة معاملة الكافر، هذا في جانب العقيدة.

وقوله: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَوٰةَ...} هذا في جانب العمل، حيث لا يعتقدون بالصلاة لكنهم حيث أظهروا الإسلام نفاقاً يأتون الصلاة لئلّا يفتضحوا، لكن كسلهم عنها يفضحهم، و{لَا يَأْتُونَ الصَّلَوٰةَ} إمّا بتقدير (إلى) فالمعنى لا يحضرون صلاة الجماعة إلاّ متكاسلين، أو بتقدير (الباء) أي لا يصلون إلاّ كسلاً، وذلك حيث يراهم الناس، ولولا ذلك لتركوها ألبتة.

وقوله: {وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَٰرِهُونَ} أي بكراهة قلبية بمعنى عدم الرغبة؛ لأن من لا يعتقد بشيء لا يرغب فيه، وإذا اقتضت مصلحته أتى به عن كراهة، وهذا لا ينافي قوله: {أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} لأن الطوع بمعنى عدم الإجبار، فقد لا يكون الإنسان مجبوراً على فعل شيء لكنه يأتي به من

ص: 276

دون رغبة رعاية لمصلحة من مصالحه، والحاصل: يستعمل لفظ (الكره) فيالإجبار و(الكاره) في غير الراغب.

الرابع: قوله تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا...} الآية.

ينهى اللّه تعالى عن الانخداع بمظهرهم وأقوالهم لأنهما وبال عليهم، وأمّا أموالهم وأولادهم فهي مشقة عليهم في الدنيا ولا تنفعهم في الآخرة.

وقوله: {فَلَا تُعْجِبْكَ} الإعجاب هو السرور بالشيء بما يثير التعجب لحسنه والخطاب للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمقصود الأمة، أو لا يعجبك أيها الرائي.

وقوله: {أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ} المقصود كثرتهما لأن كثرة الأموال والأولاد تثير الإعجاب لحسنها في الظاهر، لكنها لا تكون خيراً إلاّ مع الإيمان والعمل الصالح بالشكر حين الإنعام بها وبالصبر حين المصاب بها.

وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} أي هي نعمة استدرجوا وعوقبوا بها لكفرهم ولسيئات أعمالهم، قال سبحانه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}((1)).

وقوله: {لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} بمعنى المشقة والتعب وعدم التهنّأ بها، لأن جمع الأموال وحفظها وتربية الأولاد من أصعب الأمور وتثير قلق النفس واضطرابها دوماً إلاّ إذا كان الإنسان مؤمناً فتكون نفسه مطمئنة ويكون شاكراً حينما ينعم اللّه عليه بها صابراً حين المصاب بها.

وقوله: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ} عطف على {لِيُعَذِّبَهُم} أي

ص: 277


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 178.

ويريد اللّه أن يموتوا كافرين، وهذا إمّا بمعنى عدم انتفاعهم بالأموال والأولاد في الآخرة؛ لأن الكافر تحبط أعماله ولا يثاب على صنيع أولاده وخيراتهم له، وإمّا بمعنى أنهم في نقمة فلا وجه للإعجاب بظاهرهم؛ لأن الخير الدنيوي لا قيمة له مع الكفر كما لو رأيت جميلاً مريضاً بمرض فاتكٍ فلا تعجب بمنظره الجميل مع علمك بمرضه.

الخامس: قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}.

أي كما عليك أن لا تعجب بأموالهم وأولادهم كذلك لا تنخدع بأقوالهم بأنهم من المسلمين حتى وإن حلفوا عليها؛ وذلك لأنهم ليسوا مسلمين باطناً وإنّما يقولون هذا الكلام عن خوف نفاقاً.

وقوله: {إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} أي تابعون لكم، كما قال: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}((1))، أو مثلكم في الإسلام فالمعنى من زمرتكم.

وقوله: {يَفْرَقُونَ} الفَرَق تشتت القلب من الخوف، ونظيره: انصدع قلبه، وهذا الخوف إمّا من الجهاد بالنفس، فالذي يخاف منه ويحجم عنه ليس من زمرة المسلمين، وإمّا من المسلمين حيث يخافون سطوتهم على الكفّار فيظهرون الإسلام نفاقاً، والأوّل أنسب إلى السياق.

السادس: قوله تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجًَٔا أَوْ مَغَٰرَٰتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}.

هذا كالدليل على خوفهم من الجهاد بالنفس وأنهم ليسوا من المسلمين

ص: 278


1- ([1]) سورة إبراهيم، الآية: 36.

وإلاّ لشاركوهم في المصائب أيضاً ولدافعوا عنهم لا أن يفروا بجلدتهم بأيّةكيفية أمكنت.

وقوله: {مَلْجًَٔا أَوْ مَغَٰرَٰتٍ أَوْ مُدَّخَلًا} للتشنيع عليهم بأن المهم عندهم إنقاذ أنفسهم بأيّة كيفية أمكنت، ونظيره قوله تعالى: {وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسَْٔلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُم مَّا قَٰتَلُواْ إِلَّا قَلِيلًا}((1)).

وقوله: {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ} أي أعرضوا عنكم وفروا من الجهاد وأقبلوا إلى ما تمكنوا منه من الملجأ أو المغارات أو المدخل.

وقوله: {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} الجموح هو إنطلاق الفرس بسرعة بحيث لا يتمكن صاحبه من ضبطه، فالمقصود أنهم يسرعون في الفرار ولا يصغون إلى كلامكم نظير قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُنَ عَلَىٰ أَحَدٖ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَىٰكُمْ}((2)).

وقد التقى الإمام الحسين (عليه السلام) في طريق كربلاء بعبيد اللّه بن الحر الجعفي فطلب نصره، فأبى وقال إنه لم يخرج من الكوفة إلاّ كراهة ذلك، ثمّ عرض سيفه وفرسه له فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : «إذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في مالك»((3)).

ص: 279


1- ([1]) سورة الأحزاب، الآية: 20.
2- ([2]) سورة آل عمران، الآية: 153.
3- ([3]) تفسير نور الثقلين 3: 268؛ تفسير كنز الدقائق 8: 95.

الآيات 58-60

اشارة

{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَٰتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ 58 وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَٰغِبُونَ 59 إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 60}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى صنفاً ثانياً من المنافقين هم عكس أولئك الذين ينفقون للفرار من الجهاد فقال:

58- {وَمِنْهُم} من المنافقين {مَّن يَلْمِزُكَ} يعيبك {فِي} قسمة {الصَّدَقَٰتِ} أي الزكاة {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ} عنك {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنْهَا} حيث لم يكونوا من مستحقيها {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} عليك أي يغضبون بشدة، فهم طلاب دنيا فرضاهم وغضبهم حسب مصلحتهم لا حسب حكم اللّه تعالى.

59- {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ} بقلوبهم آخذين {مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} من الأموال التي يستحقونها أو يجوز إعطاؤها لهم {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ} أي يكفينا {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} من غير الصدقات بتقدير رزق أو تشريع استحقاق {وَ} سيؤتينا {رَسُولُهُ} بتنفيذ حكم اللّه في الاستحقاق أو من أمواله الشخصية حتى من غير استحقاق بهدية ونحوها {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَٰغِبُونَ} أي رغبتنا تنتهي إلى اللّه فنرضى بما أعطانا ولا نسخط على ما منعنا، وجزاء

ص: 280

«لو» مقدر أي لكان خيراً لهم.

60- ثمّ يبيّن اللّه سبب منعهم عن الصدقات فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ} أي الزكاة الواجبة {لِلْفُقَرَاءِ} الذين عندهم ما لا يكفيهم، {وَالْمَسَٰكِينِ} الذين لا شيء عندهم، {وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا} وهم الموظفون الساعون في جمعها لأن ذلك حق عملهم، {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم المنافقون أو المسلمون ضعاف الإيمان الذين يراد تحبيب الإسلام إليهم، {وَفِي} تحرير {الرِّقَابِ} أي العبيد الذين هم في شدة أو لم يتمكنوا من تسديد مال المكاتبة لحريتهم، {وَالْغَٰرِمِينَ} أي في تسديد دين المديونين، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو كل عمل خير يراد به وجه اللّه كالجهاد وسائر المصالح، {وَابْنِ السَّبِيلِ} المسافر الذي نفدت نفقته وانقطع في السفر فيُعطى مؤونة الرجوع، ويكون الحصر في هذه الأصناف الثمانية {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} تعالى فلا يجوز صرف الزكاة في غيرهم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بالمصالح والحاجات {حَكِيمٌ} في تشريعه.

الصنف الثاني من المنافقين وأوصافهم

بحوث

الأوّل: هذه الآيات بيان لصنف آخر من المنافقين - بعد الصنف الأوّل الذين يحتالون لعدم الجهاد ويريدون أن يدفعوا الأموال لذلك - وهذا الصنف الثاني عكس أولئك فهم الذين يطمعون في الأموال بحيث يكون ذلك مدار رضاهم وسخطهم، بل تعدّوا الحدود بأن عابوا على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تقسيم الصدقات، مع أن الحق أن يرضوا بفضل اللّه عليهم ويدعو اللّه في زيادة فضله عليهم فيجعلوا اللّه ورسوله المدار في الرضا والسخط.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أن منعهم عن الصدقات لأجل أنها شرعت لموارد

ص: 281

خاصة لا يجوز تعدّيها، وهي: الحاجة والعمل ومصالح الإسلام والمسلمين، أمّا الحاجة ففي الفقراء والمساكين والرقاب والغارمين وابن السبيل، وأمّا العمل فالذين يسعون في جمع الزكاة يعطون حق عملهم منها، وأمّا المصالح فالمؤلفة قلوبهم وفي سبيل اللّه.

الثاني: قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَٰتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}.

(اللمز) هو أن يعيبه في وجهه، عكس (الهمز) الذي هو أن يعيبه بظهر الغيب((1)).

وقوله: {فِي الصَّدَقَٰتِ} يراد بها الزكاة الواجبة ويدلّ عليه قوله بعد ذلك {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ}، وأصل الصدقة هو كل عمل يؤتى به لخدمة الغير ويراد به وجه اللّه تعالى؛ لأن في هذا تصديقاً للّه تعالى ولذا ورد: «عونك الضعيف من أفضل الصدقة»((2))، و«إماطتك الأذى عن الطريق صدقة»((3))، وأمّا كلمة الزكاة في القرآن فيراد بها عموم الإنفاق في سبيل اللّه وليس خصوص الزكاة المصطلحة عند المتشرعة ولذا وردت في آيات مكية كثيرة مع أن الزكاة المصطلحة شرّعت في المدينة.

وقوله: {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا} بأن كانوا من الأصناف التي تستحق الزكاة، كما لو كانوا من المؤلفة قلوبهم أو كانوا عاملين عليها، {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنْهَا} بأن لم يكونوا من مستحقيها.

ص: 282


1- ([1]) راجع معجم الفروق اللغوية: 559.
2- ([2]) الكافي 5: 55.
3- ([3]) الدعوات، للراوندي: 98.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «هم أكثر من ثلثي الناس»((1)).

ثمّ إن الآية دلت على شدة نفاقهم بحيث إنهم يبدؤون بلمز الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى قبل أن يعلموا بأن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعطيهم أو لا، فهم يلمزون لكن إن اعطوا رضوا ولذا عطفه بالفاء.

وقوله: {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (إذا) للمفاجأة كأنهم كانوا يتوقعون الإعطاء بحيث يتفاجؤون عند المنع فيسخطون، أو أنهم يسخطون فوراً من غير انتظار أموال أخرى يستحقونها أو ينيلهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إياها فكأنّهم يريدون من كل مال أتى!

الثالث: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ...} الآية.

بيان أن الخير لهم - وكذا لغيرهم - هو الرضا والقول الحسن في ما حكم به اللّه تعالى وصنعه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لا اللمز والسخط، فهنا أربع مراحل:

1- قوله تعالى: {رَضُواْ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي أن يرضوا بما قسمه اللّه لهم حيث لم يمنعهم اللّه من كل شيء، بل آتاهم من الغنائم وغيرها، بل رزقهم اللّه من فضله حيث كان اللامزون الساخطون من الأغنياء، والحاصل: أن اللّه تفضّل عليهم بالرزق حتى أغناهم وشرّع لهم موارد مالية أخرى كالغنائم وقد قسمها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بينهم، فكان عليهم أن يرضوا بذلك لا أن يطمعوا في ما لا حقّ لهم فيه بحيث يعيبوا على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويسخطوا عليه.

ص: 283


1- ([1]) الكافي 2: 412.

2- وقوله: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ} أي يكفينا اللّه تعالى؛ لأنه سبحانه يشرّع ما هو الأصلح في تقسيم الأموال، فما شرّعه لهم من سائر الأموال تكفيهم، كما أن رزقه بحكمة وقد رزقهم بما أغناهم به فلماذا الطمع؟!

3- وقوله: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} كأنّه دعاء منهم بصورة خبر، أي ندعو اللّه تعالى أن يرزقنا من أموال أخرى ليس لحقّ لنا عليه وإنّما من فضله الواسع.

4- وقوله: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَٰغِبُونَ} أي رغبتنا تنتهي إلى اللّه تعالى فلا نرغب في ما لا يريده، بل نرغب في ما يريده، فسواء آتانا أم منعنا فإنا نرغب إليه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ...} الآية.

بيان سبب منع الصدقات عن أولئك الأغنياء ببيان مواردها التي لا يجوز تعديها إلى غيرها، وهي حاجة أو مصلحة أو عمل.

بيان مصارف الزكاة

وقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ} حصر موارد الزكاة في هذه الثمانية، كي لا تعطى في غيرها، ولا دلالة للآية على وجوب تقسيم كل زكاة على جميع هذه الموارد، كما لا دلالة لها على كمية إعطاء كل صنف، بل الأمر موكول إلى المزكّي أو حاكم الشرع فيعطي لمن شاء من هذه الأصناف ما شاء من الزكاة مع مراعاة الحكمة والمصلحة، والتفصيل يطلب من كتب الفقه.

ولا يخفى أن الأصناف الأربعة الأوائل تعطى الزكاة لهم ويملكونها ولذا جيء باللام الدالة على الملك، فقال: {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا

ص: 284

وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، وأمّا الأصناف الأربعة الأواخر لا يعطى المال لهم ليتصرفوا فيه بما شاؤوا وإنّما يعطى في مصلحتهم، فقال: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، فتُعطى الزكاة لموالي العبيد، وللدائنين لإبراء ذمة المديونين، وأمّا سبيل اللّه فالزكاة تعطى للمصلحة ولذلك كرّر (في)، وهكذا ابن السبيل لا يعطى المال ليملكه وإنّما المصلحة رجوعه.

1- وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ} الفقر الحاجة، والفقير هو الذي يملك مقداراً من المال لكن لا يكفيه لمؤونته ومؤونة عياله، ولذا كثير من الفقراء لا يسألون الناس وإنّما يكتفون بما عندهم مع ضنك وشظف وشدة في العيش.

2- وقوله: {وَالْمَسَٰكِينِ} والمسكين أشد حالاً من الفقير فلا شيء عنده فيضطر إلى سؤال الناس لئلّا يموت جوعاً، ومن مصاديقهم بعض ذوي العاهات الذين لا يتمكنون من العمل ولا يوجد لهم مال ولا من ينفق عليهم.

3- وقوله: {وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا} وهم الساعون والجباة في أخذها وجمعها وحفظها حتى يؤدوها إلى من يقسّمها، فهؤلاء عملهم محترم ويوجب حقاً لهم بالأجرة، ولا وجه لدفع أجرتهم من أموال أخرى قد لا تتوفر في بيت المال وإن توفرت فلها مواردها الأخرى.

4- وقوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} تأليف القلوب هو جمعها واستمالتها، روي أنهم: «قوم وحّدوا اللّه عزّ وجلّ وخلعوا عبادة من يُعبد من دون اللّه، وشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه، وأن محمّداً رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهم في ذلك شكّاك في بعض ما جاء به محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأمر اللّه عزّ وجلّ نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقروا

ص: 285

به...»((1))، وقيل: إنّهم الكفّار الذين يستمالون للإسلام أو للجهاد، وقيل: بعمومه للكفّار والمسلمين ضعاف الإيمان، والتفصيل يطلب في الفقه((2)).

5- وقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} أي لتحرير العبيد خاصة إذا كانوا في شدة، أو كان مكاتباً ولم يستطع دفع ثمن كتابته، والتفصيل يطلب في الفقه((3)).

6- وقوله: {وَالْغَٰرِمِينَ} أي المديونين بشرط أن لا تكون تلك الديون صرفت في معصية اللّه تعالى.

7- وقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو جميع سبل الخير خاصة الجهاد والحج، وفي تفسير القمي: «وفي سبيل اللّه قوم يخرجون في الجهاد وليس عندهم ما ينفقون، أو قوم من المسلمين ليس عندهم ما يحجون به، أو في جميع سبل الخير»((4)).

8- وقوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ} الذي انقطع في سفره الذي لم يكن في معصية اللّه حتى وإن كان غنياً في بلده فيعطى مؤونة رجوعه.

وقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} الظاهر أن هذا تعليل لحصر الأصناف في هذه الثمانية؛ لأن الغرض كان إخراج الأغنياء الذين يلمزون في الصدقات فلا يجوز إعطاؤهم منها لأن اللّه حصرها في هذه الثمانية وهم ليسوا منهم، واللّه هو الذي فرض ذلك فلا يحق لهم الاعتراض على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا لمزه ولا السخط عليه.

ص: 286


1- ([1]) الكافي 2: 411.
2- ([2]) راجع موسوعة الفقه 30: 342-352.
3- ([3]) راجع موسوعة الفقه 30: 370-380.
4- ([4]) تفسير القمي 1: 299؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 478.

الآيات 61-63

اشارة

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 61 يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ 62 أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدًا فِيهَا ذَٰلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ 63}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى صنفاً ثالثاً من المنافقين فقال:

61- {وَمِنْهُمُ} من المنافقين {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} بأقوالهم وأفعالهم {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} يقبل كل كلام يقال له من غير تمييز، {قُلْ} في ردّهم: أمّا الأذن فهو {أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ} أي هو مستمع بما فيه خيركم، حيث إنه {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} أي يعتقد به فيصدّقه في ما أنزله عليه، {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يقبل كلامهم فيرتب الأثر عليه، {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ} أي للمجتمع الإسلامي فإن الاستماع وقبول الأعذار في الظاهر يوجب تماسك المجتمع، {وَ} أمّا أولئك المنافقون الكاذبون فإن اللّه سينتقم منهم ف{الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ} بكلامهم وعملهم {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا والآخرة.

62- وهؤلاء المنافقون لتغطية سوء أعمالهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} كذباً {لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} أي لترضوا عنهم بقبول كلامهم {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن

ص: 287

يُرْضُوهُ} أي يُرضوا اللّه فيرضى الرسول، أو يرضوا كل واحد منهما، وذلكبالإيمان الحق وعدم النفاق والإيذاء {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} إيماناً حقاً.

63- ثمّ يوبخهم اللّه قائلاً: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} هؤلاء المنافقون {أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ} يخالف {اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدًا فِيهَا} في النار أو في جهنم {ذَٰلِكَ الْخِزْيُ} أي الذل بفضيحة {الْعَظِيمُ} الذي لا خزي فوقه.

الصنف الثالث من المنافقين وأوصافهم

بحوث

الأوّل: هذه الآيات بيان لصنف آخر من المنافقين وهم الذين يؤذون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكلامهم وأفعالهم، مع أن ما ينقمون من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّما هو بصالحهم، ودرءاً للفضيحة ينكرون ما فعلوه مع أنه كان الأجدر بهم أن يصحّحوا أفعالهم وأقوالهم ليرضى عنهم اللّه ورسوله، لا أن يكذبوا ليغطّوا على سوء أعمالهم، ثمّ يبيّن اللّه تعالى أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إن لم يعاقبهم وأعرض عنهم فإن اللّه سبحانه سيفضحهم بعذاب جهنم، فضلاً عن نزول القرآن بفضيحتهم، كما سيأتي في الآيات اللاحقة.

وقد كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يداري الناس، ومن مداراته أنه كان يواجههم بأخلاق حسنة، وبتلك الأخلاق كان يمنعهم عن بعض المساوئ، فلا يترك الأمور من غير معالجة.

ومن ذلك أن بعض المنافقين كان ينمّ على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يجلس في مجلسه ثمّ ينقل بعض الأمور لسائر المنافقين قاصداً بذلك إفساد الأمر على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأخبر اللّه تعالى رسوله بذلك، فطلب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك المنافق وذكر له ما أخبره اللّه تعالى، فأنكر المنافق ذلك، فسكت

ص: 288

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يقل شيئاً، وهذا الموقف من جهة كان تحذيراً لذلكالمنافق بأن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد علم بفعله وهذا يكفي في ردعه، ومن جهة أخرى حفظ ماء وجهه فلم يفضحه وسكت حينما أنكر، لكن هذا المنافق أبى إلاّ أن يفضح نفسه، فلما رجع إلى شياطينه من المنافقين قال لهم إن النبي أذن، يعني به ساذج يصدّق كل ما يقال له فلا فطنة له ليميّز الصحيح من السقيم! فأنزل اللّه تعالى هذه الآيات لبيان أن موقف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الصحيح.

الثاني: قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ...} الآية.

الإيذاء قد يكون نفسياً وقد يكون جسمياً، وهو فعل أو قول يوجب كراهة شخص دون الضرر.

وقوله: {يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} كان الإيذاء بالنميمة وبغيرها.

وقوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} كان هذا تابعاً للإيذاء، أو هو عطف تفسيري لبيان الإيذاء المقصود، و(الأذن) الجارحة التي يكون بها السمع، واستعمل بمعنى ساذج سريع التصديق.

وقوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ} أي نعم النبي أذن لكن لا بالمعنى الذي قصده ذلك المنافق، بل هو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مستمع جيّد واستماعه لكلامهم فيه خيرهم، ولو كان مستمعاً سيئاً لعاقب ذلك المنافق مرتين مرّة لسوء عمله بالنميمة، وأخرى لكذبه بإنكاره جريمته.

ثمّ إن اللّه تعالى فسر الأذن الخير بأمور ثلاثة وهي:

ص: 289

1- قوله تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الإيمان إذا تعدّى بالباء كان معناه الاعتقادبه، ولازمه التصديق ويقابله الكفر به أي عدم الاعتقاد به ولازمه التكذيب، كقوله: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ}((1))، ولذا لمّا أخبر اللّه نبيّه بما يصنعه ذلك المنافق صدّقه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لاعتقاده باللّه تعالى.

2- وقوله تعالى: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} الإيمان إذا تعدى باللام كان معناه الوثوق والقبول، والمراد من {لِلْمُؤْمِنِينَ} هنا المؤمنون واقعاً الذين آمنوا بقلوبهم وألسنتهم، فالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يثق بهم ويقبل منهم، وأحياناً يُضَمّن (آمن له) معنى الانقياد والتسليم كقوله تعالى: {فَمَا ءَامَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٖ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِمْ}((2)) أي قبلوا منه منقادين ومسلّمين له.

فتحصل أن الفرق بين (آمن به) و(آمن له) أن الأوّل الاعتقاد به ويلازمه التصديق، والثاني الوثوق به والقبول منه وقد يلازمه التسليم والانقياد.

3- وقوله: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ} أي آمنوا بألسنتهم سواء آمنوا بقلوبهم أم لا، فإن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين، فمن تلك الرحمة حفظه لتماسك المجتمع الإسلامي وحل المشاكل بالتي هي أحسن ولذلك سكت عن ذلك المنافق حينما أنكر جريمته.

وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بيان أن سكوت الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهم وعدم عقابهم لا يمحو جرمهم بل اللّه سينتقم له منهم، والعذاب الأليم عام يشمل الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بالخزي وافتضاحهم

ص: 290


1- ([1]) سورة النساء، الآية: 150.
2- ([2]) سورة يونس، الآية: 83.

ولو بعد حين أو الضنك في عيشهم أو غير ذلك، وفي الآخرة بعذاب النار.

الثالث: قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}.

بيان حالتهم وهو يتضمن موعظة لهم ولغيرهم، فإن المؤمن الحق هو من يطيع اللّه ورسوله فيأتمر بأمره وينزجر بنهيه فيرضى اللّه ورسوله عنه، أمّا هؤلاء المنافقون فيؤذون اللّه ورسوله لكن يحاولون إرضاء الناس ليقبلوا عذرهم وذلك عبر الحلف باللّه كاذباً.

وقوله: {لَكُمْ} أي حلفهم ليس لأجل إثبات حق بل لأجل خداعكم.

وقوله: {لِيُرْضُوكُمْ} بقبول عذرهم حين حلفهم.

وقوله: {أَن يُرْضُوهُ} بالإيمان الصحيح وبعدم الإيذاء، وتوحيد الضمير لتلازم رضا اللّه تعالى ورضا رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكأنه رضىً واحد، وإنّما كان أحق إذ لا قيمة لرضا المسلمين من دون رضا اللّه تعالى ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كانوا مؤمنين لكان رضا اللّه ورسوله أحق عندهم، أو لعلموا أن رضاهما أحق.

الرابع: قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ...} الآية.

هذا كالتعليل للآية السابقة لأن عدم إرضاء اللّه ورسوله يلازم مخالفتهما وتلك الفضيحة المذلّة، فهم يحلفون كذباً لتجنب الفضيحة عند المؤمنين لكن عاقبتهم فضيحة أشد وأسوء بالخلود في نار جهنم.

وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} استفهام إنكاري، أي كيف لا يعلمون بهذه الحقيقة

ص: 291

مع وضوحها، أو بمعنى كيف لا يعملون بما علموا؟!

وقوله: {يُحَادِدِ} بمعنى مجاوزة الحدّ في المخالفة، قيل: هو من الحديد بمعنى المحاربة.

ص: 292

الآيات 64-66

{يَحْذَرُ الْمُنَٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ 64 وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَٰتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ 65 لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٖ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ 66}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى حذر المنافقين عن افتضاحهم مع عدم نفع هذا الحذر فقال:

64- {يَحْذَرُ الْمُنَٰفِقُونَ} أي يحترزون عما يخافونه وهو {أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} في شأنهم {سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم} تخبرهم فيفتضحوا {بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الكفر، {قُلِ اسْتَهْزِءُواْ} هذا تهديد في صورة أمر {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} باستهزائكم {مَّا تَحْذَرُونَ} من ظهور نفاقكم فإنهم كانوا يحذرون ظهور نفاقهم لكن استهزاؤهم يكشف عنه، فالمعنى إن اللّه أضلهم فاستهزؤوا فانكشف المستور.

65- {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} عن هذا الاستهزاء {لَيَقُولُنَّ} بعد أن لم يتمكنوا من إنكاره: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} في الحديث {وَنَلْعَبُ} نمزح لا عن جدّ، لكن هذا العذر لا يقل قبحاً من الذنب ف{قُلْ} مستنكراً عليهم: {أَبِاللَّهِ وَءَايَٰتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}.

ص: 293

66- {لَا تَعْتَذِرُواْ} بهذا العذر ف{قَدْ كَفَرْتُم} بهذا الخوض واللعب {بَعْدَإِيمَٰنِكُمْ} إسلامكم فاستحققتم العقاب، ف{إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٖ مِّنكُمْ} حيث تابت وأصلحت {نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {كَانُواْ مُجْرِمِينَ} لم يتوبوا فأصرّوا على جرمهم.

بحوث

الأوّل: لما بيّن اللّه تعالى إيذاءهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحلفهم الكاذب لتغطية جرمهم بيّن أنهم يحذرون نزول آيات من القرآن تفضحهم، فكانوا يبالغون في كتمان نفاقهم، إلاّ أن اللّه فضحهم بأن جعل علامة على نفاقهم من حيث لا يشعرون، فقد كانوا يستهزؤون تحت غطاء المزاح واللعب، لكن هذا الاستهزاء بنفسه علامة نفاقهم، فإن تابوا عن كفرهم فهو خير لهم وإلاّ فإن مصيرهم إلى العذاب.

الثاني: قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ...} الآية.

الحذر هو التحرز عن الأمر المخيف أو عن الضرر، فالمعنى أنهم يحتاطون لئلّا يظهر نفاقهم كي تنزل سورة بفضحهم، ولعل سبب حذرهم هو نزول آيات سابقة في سائر المنافقين في أفعالهم الظاهرة.

وقوله: {أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي على المنافقين فإن الآيات أنزلها اللّه تعالى على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليتلوها على الجميع فلذا صحّ أن يقال: نزلت على الرسول أو نزلت على المؤمنين أو على المنافقين أو على المشركين، وإنّما خصّهم هنا بالذكر لأن السورة في شأنهم.

ص: 294

وقوله: {تُنَبِّئُهُم} أي تخبرهم بنفاقهم، أي تظهره وتفضحهم، أو بمعنىأنهم كانوا يخفون نفاقهم كأنهم لا يعلمون به فتخبرهم السورة به فيكون كناية عن شدة حذرهم وكتمانهم لنفاقهم.

وقوله: {قُلِ اسْتَهْزِءُواْ} أمر يراد به التهديد، والمعنى إنهم كانوا يستهزؤون غير ملتفتين إلى أن هذا الاستهزاء هو مظهر لنفاقهم.

وقيل: {اسْتَهْزِءُواْ} بمعنى نافقوا حيث إن النفاق استهزاء كما قال: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ}((1))، لكن هذا لا يناسب السياق ولا الآية التالية.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} أي مظهر نفاقكم بهذا الاستهزاء من حيث لا تشعرون، فإن اللّه خلق الإنسان بكيفية يظهر ما في قلبه حتى لو بالغ في كتمانه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»((2))، فالمعنى: فاللّه مظهر النفاق الذي كانوا يكتمونه ويحذرون عن ظهوره.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ...} الآية.

بيان أن اللّه تعالى أخرج ما يدل على نفاقهم بكيفية لا يتمكنون من إنكاره ولذا يحاولون التبرير لعملهم.

وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} بيان أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفسح المجال لهم فيسألهم عن سبب استهزائهم، ولعلّ ذلك ليتوبوا أو ليتوقفوا عن الاستهزاء أو لكي

ص: 295


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 14.
2- ([2]) نهج البلاغة، الحكمة: 26.

يظهر للمسلمين نفاقهم عبر ما يعتذرون به، وعلى كل حال فإنه من إنصافالإسلام حيث فسح المجال ليدافع الإنسان عن نفسه حتى من عُلم إجرامه لتتم الحجة، ولئلّا يقال: أخذوا البريء فلعله كان له عذر مقبول لم يسمعوه!

وقوله: {نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} أي نتحدث ونمزح، وأصل الخوض: هو التوسط في الماء ونحوه، ثمّ استعير في الغور في الكلام فكأن الكلام أحاط بهم، وغالب استعماله في الكلام الباطل، واللعب: هو الفعل الذي لا غرض فيه، فالمعنى إن ما قلناه لم يكن لسبب إلاّ أن الحديث أخذنا فانجرفنا فيه ومزحنا من غير قصد المعنى الدال على الكفر.

وقوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَٰتِهِ...} ردّهم بأن الخوض واللعب في آيات اللّه هو الاستهزاء بعينه، فاعتذارهم كشف عن حقيقة نفاقهم.

وقيل: استهزاؤهم كان بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ أن الاستهزاء به استهزاء باللّه وبآياته! لكن الأصح أن المنافقين لا حريجة لهم من الاستهزاء باللّه سبحانه وبالقرآن الكريم وسائر آيات اللّه، وفي كلامهم المنقول عنهم الكثير من ذلك.

الرابع: قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٖ مِّنكُمْ...} الآية.

هذا حث لهم على التوبة، ببيان أن عليهم أن يتوبوا لا أن يعتذروا بالأعذار الكاذبة، وبالفعل قد تاب بعضهم فعفا اللّه عنه، أمّا من لم يتب فقد حق عليه كلمة العذاب.

وقوله: {قَدْ كَفَرْتُم} أي بسبب الاستهزاء، فإن كثيراً من المنافقين لم

ص: 296

يكن إسلامهم عن نفاق وإنّما تأثروا بالجوّ العام فأسلموا لكنهم لم يلتزموا بعدذلك بلوازم الإسلام ودبّ الكفر في قلوبهم فنافقوا.

وقوله: {بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ} أي بعد إسلامكم بإظهار الشهادتين.

وقوله: {إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٖ مِّنكُمْ} لأنهم تابوا حقيقة فاستحقوا العفو بفضل اللّه تعالى.

وقوله: {نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} هم الذين لم يتوبوا، وذكر سبب العذاب بقوله: {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}.

سؤال: عذاب الطائفة المجرمة لا يرتبط بالعفو عن الطائفة التائبة، فكيف جعل جزاءً له؟

والجواب: أن الجميع استحق العذاب بكفرهم، وتوبة البعض والعفو عنهم لا يكون سبباً لرفع العذاب عن الباقين الذين لم يتوبوا.

ص: 297

الآيات 67-70

اشارة

{الْمُنَٰفِقُونَ وَالْمُنَٰفِقَٰتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ 67 وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْمُنَٰفِقَٰتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ 68 كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَٰلًا وَأَوْلَٰدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَٰقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَٰقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ 69 أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَٰهِيمَ وَأَصْحَٰبِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَٰتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 70}

ثمّ يذكر اللّه تعالى بعض صفات المنافقين وقد تكون كالتعليل لأفعالهم وأقوالهم المذمومة المذكورة في الآيات السابقة فقال:

67- {الْمُنَٰفِقُونَ وَالْمُنَٰفِقَٰتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٖ} فكلهم من طبيعة واحدة ويتشابهون في اجتماعهم على الكفر والعصيان، ولذلك فهم {يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ} وهو ما أنكره الشرع والعقل من الكفر والمعاصي، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} وهو ما عرف الشرع والعقل حسنه من الإيمان والطاعة، {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} عن الإنفاق في سبيل اللّه تعالى، وهم بأفعالهم وأقوالهم هذه {نَسُواْ اللَّهَ} أي غفلوا عن ذكره {فَنَسِيَهُمْ} أي تركهم فلم يهدهم

ص: 298

بسبب سوء عملهم ف{إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ} الخارجون عن طاعة اللّه تعالى.

68- وحيث كانوا فاسقين فقد {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْمُنَٰفِقَٰتِ وَالْكُفَّارَ} وذكر الكفّار لبيان وحدة حال المنافقين معهم وعدم الفرق بينهم في الكفر {نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} أي تكفيهم جزاءً وعقاباً، {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم عن رحمته فلا يدخلهم جنته، {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} لا ينقطع، فعذابهم لا ينحصر في الخلود في نار جهنم بل هناك أنواع أخر من العذاب.

69- وحال هؤلاء المنافقين {كَالَّذِينَ} أي كحال المنافقين {مِن قَبْلِكُمْ} في الأمم السابقة، فهم مثلهم في النفاق ومثلهم في العذاب مع أن أولئك {كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً} ماديةً وبدنية {وَأَكْثَرَ أَمْوَٰلًا وَأَوْلَٰدًا} لازدهار العمران والتجارة وخصوبة النسل {فَاسْتَمْتَعُواْ} طلبوا اللذة فقط {بِخَلَٰقِهِمْ} نصيبهم الذي خلقه اللّه لهم ولم يشكروا المنعم تعالى {فَ} أنتم {اسْتَمْتَعْتُم بِخَلَٰقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ} أي مثل استمتاع {الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَٰقِهِمْ} بدون اعتبار بمصيرهم، هذا في الأفعال، {وَ} أمّا في الأقوال ف{خُضْتُمْ} تكلّمتم بالباطل {كَالَّذِي خَاضُواْ} أي مثل خوضهم أو مثل الكلام الذي خاضوا فيه. {أُوْلَٰئِكَ} المنافقون {حَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَٰلُهُمْ فِي الدُّنْيَا} فلم ينالوا خيرها {وَالْأخِرَةِ} فلا ثواب لهم عليها {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ} بالخسران المبين لأنهم خسروا الدنيا والآخرة.

70- ثمّ يوبّخ اللّه تعالى المنافقين بذكر مصير الأمم الكافرة وذلك لئلّا يأمنوا مغبة نفاقهم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} الاستفهام إنكاري {نَبَأُ} خبر الكفّار

ص: 299

{الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كيف أخذهم اللّه بذنوبهم، مثل {قَوْمِ نُوحٖ} (عليه السلام) حيث أغرقوا بالطوفان، {وَعَادٖ} قوم هود (عليه السلام) حيث أهلكوا بالريح، {وَثَمُودَ}قوم صالح (عليه السلام) حيث أهلكوا بالرجفة، {وَقَوْمِ إِبْرَٰهِيمَ} (عليه السلام) حيث سلب اللّه نعيمهم وسلط عليهم عدوّهم، {وَأَصْحَٰبِ مَدْيَنَ} قوم شعيب (عليه السلام) حيث أهلكوا بنار يوم الظلة، {وَالْمُؤْتَفِكَٰتِ} أي المنقلبات وهم قوم لوط (عليه السلام) حيث قلبت قراهم {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَٰتِ} الدلائل والحجج الظاهرة لكنهم عاندوا فلم يؤمنوا وعصوا {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بعذابهم {وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بتمردهم وعصيانهم فبخسوا أنفسهم حقّها.

بعض صفات المنافقين

بحوث

الأوّل: هذه الآيات كالتعليل للآيات السابقة، وذلك بذكر مجموعة من صفات المنافقين والتي صارت سبباً لإيذائهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحلفهم الكاذب ومحادّة اللّه ورسوله واستهزائهم بآيات اللّه وغير ذلك من مذموم أفعالهم وأقوالهم، فمن تلك الصفات: نهيهم عن المعروف، وأمرهم بالمنكر، وبخلهم عن الإنفاق في سبيل اللّه، وغفلتهم عن ذكر اللّه تعالى.

ونتيجة أفعالهم تلك أن اللّه يتركهم فلا يلطف بهم لطفاً يوجب هدايتهم ثمّ مصيرهم في الآخرة إلى النار.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى تشابه هؤلاء المنافقين بالكفّار والمنافقين من الأمم السابقة في التمتع كالأنعام والغفلة عن اللّه والكلام الباطل، لكنهم خسروا في الدارين فقد انقضت تلك الملذات وبقيت تبعتها.

ثمّ يحذرهم اللّه تعالى عن العذاب في الدنيا بتذكيرهم بعذاب الأمم

ص: 300

السابقة لما كفروا بآيات اللّه تعالى فلا يأمننّ هؤلاء من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك.

الثاني: قوله تعالى: {الْمُنَٰفِقُونَ وَالْمُنَٰفِقَٰتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ...} الآية.

بيان تشابه حال المنافقين، فالطبيعة واحدة والنتيجة متماثلة.

وقوله: {وَالْمُنَٰفِقَٰتُ} أضافهن لبيان أنهنّ كالمنافقين من غير فرق فلا عذر لهن في نفاقهن، بل قد تكون المنافقة أكثر تأثيراً من المنافق، أو المنافقة تجرّ غير المنافق إلى النفاق.

وقوله: {بَعْضُهُم مِّن بَعْضٖ} هذا التعبير لبيان كمال المشابهة واتحاد النفسيات ممّا يؤدّي إلى تشابه الأفعال، وهذا كالدليل على كذبهم في ادعائهم أنهم منكم كما قال تعالى قبل آيات: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ}((1))، ثمّ يذكر اللّه تعالى ثلاث علامات على النفاق يجمعها نسيانهم اللّه تعالى:

1- قوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ} وهو ما أنكره الشرع والعقل فلم يعرفا حسنه بل رفضاه، وفعل المنكر سيّء والأمر به أسوء؛ إذ فعل المنكر قد لا يكون عن نفاق بل عن عصيان وغلبة هوى، لكن الأمر به علامة النفاق.

2- وقوله: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} وهو ما عرفه الشرع والعقل بالحسن، وتركه سيّء والنهي عنه أسوء، وهو آية أخرى على النفاق.

3- وقوله: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} كناية عن شدة البخل، أو عن تركهم

ص: 301


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 56.

جميع أعمال الخير، وذلك من علائم النفاق.

وقوله: {نَسُواْ اللَّهَ} أي غفلوا عنه، وهذا جامع للأوصاف الثلاثة حيث إنمن يذكر اللّه تعالى وثوابه وعقابه لا يأمر بالمنكر ولا ينهى عن المعروف ولا يبخل عن الإنفاق الواجب وعن فعل الخير.

وقوله: {فَنَسِيَهُمْ} أي فعل بهم فعل الناسي بأن تركهم فلم يلطف بهم جزاءً لهم على سوء عملهم بنسيانهم اللّه سبحانه، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) : «إن اللّه تبارك وتعالى لا ينسى ولا يلهو وإنّما ينسى ويسهو المخلوق المحدَث، ألاّ تسمعه عزّ وجلّ يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}((1))، وإنّما يجازي من نسيه ونسي لقاء يومه بأن ينسيهم أنفسهم كما قال عزّ وجلّ: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَىٰهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ}((2))، وقوله عزّ وجلّ: {فَالْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا}((3)) أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا»((4))، وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : «إنّما يعني أنهم نسوا اللّه في دار الدنيا لم يعملوا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم من ثوابه شيئاً فصاروا منسيّين من الخير»((5))، وعنه (عليه السلام) : «فإنّما يعني أنهم نسوا اللّه في دار الدنيا فلم يعملوا له بالطاعة ولم يؤمنوا به وبرسوله، فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيباً فصاروا منسيين من الخير»((6)).

ص: 302


1- ([1]) سورة مريم، الآية: 64.
2- ([2]) سورة الحشر، الآية: 19.
3- ([3]) سورة الأعراف، الآية: 51.
4- ([4]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 125؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 504.
5- ([5]) توحيد الصدوق 1: 254.
6- ([6]) تفسير العياشي 2: 96.

وقوله: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ} أي هم في غاية التمرد والخروج عن الطاعة فكأنه لا فاسق غيرهم، وهذا كالتمهيد للآيه التالية.

الثالث: قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْمُنَٰفِقَٰتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا...} الآية.

بيان نتيجة نسيانهم اللّه تعالى وفسقهم وهو خلودهم في نار جهنم، مع أصناف أخرى من العذاب الذي لا ينقضي عنهم، وطردهم عن رحمة اللّه تعالى.

وقوله: {وَالْكُفَّارَ} الكلام حول المنافقين فذكر الكفّار هنا إمّا لبيان عدم الفرق في عذاب الآخرة بين الكفّار والمنافقين، فكلمة الإسلام تنفعهم في الدنيا لكن تسلب عنهم في الآخرة فلا تغني عنهم من عذاب اللّه شيئاً، وإمّا للتمهيد لما سيذكره اللّه تعالى من العذاب الدنيوي للأمم الكافرة تهديداً للمنافقين، أو لغير ذلك، واللّه العالم.

وقوله: {هِيَ حَسْبُهُمْ} أي تكفيهم جزاءً أو عقاباً، فإن أريد الكفاية من جهة الجزاء فهذا لبيان عدله تعالى بأن الجزاء مثل الجريمة لا أزيد، وإن أريد الكفاية من جهة العقاب فهو لبيان عظمة هذا العذاب وشدته.

وقوله: {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} اللعن هو الطرد عن الرحمة، ومعنى ذلك منعهم عن جنته ورضوانه، أو أنه لا يوجد في جهنم أي نوع من أنواع الرحمة.

وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي أصناف أخرى من العذاب غير نار جهنم وهو عذاب دائم كما قال: {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ}((1)).

ص: 303


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 162؛ سورة آل عمران، الآية: 88.

الرابع: قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَٰلًا وَأَوْلَٰدًا...} الآية.

أي حال منافقي هذه الأمة كحال منافقي الأمم السابقة في الأفعال والأقوال وفي خسارة الدنيا والآخرة، مع أن أولئك كانوا أقوى منكم وأكثر نعمة وقد خسروا الدنيا والآخرة، ويمكن تعميم الآية للكفّار من الأمم السابقة أيضاً، فكذلك حال منافقي هذه الأمة.

وقوله: {أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً...} القوة في الجسم، وفي سائر الأمور المادّيّة، وهذه الثلاثة هي النعم التي توجب بطر الكفّار والمنافقين غالباً، قال تعالى: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْۜطَةً}((1))، وقال: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}((2))، وقال: {أَلْهَىٰكُمُ التَّكَاثُرُ}((3)).

وقوله: {فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمْ} هذا في عملهم، أي طلبوا المتعة واللذة بالنصيب الذي قدّره اللّه سبحانه لهم - من القوة والمال والأولاد - ، والمقصود أنهم صرفوا تلك النعم في شهواتهم دون أن يشكروا اللّه بالطاعة وهو الذي أنعمها عليهم، و(الخلاق) هو الخير الذي خلقه اللّه تعالى أي قدّره لهم، ويقال له: قسمة؛ لأن اللّه قسمه لهم، ويقال له: نصيب؛ لأن اللّه نصبه أي أثبته لهم.

ثمّ إن قوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَٰقِهِمْ} ليس تكراراً لقوله:

ص: 304


1- ([1]) سورة الأعراف، الآية: 69.
2- ([2]) سورة الهمزة، الآية: 2-3.
3- ([3]) سورة التكاثر، الآية: 1.

{فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمْ}؛ وذلك لأن اللّه تعالى في البداية بيّن سوء صنيع أولئك بقوله: {فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمْ} ثمّ بيّن مشابهة فعل هؤلاء بأولئك فقال: {كَمَااسْتَمْتَعَ...}، وفي الكشّاف: «فائدته أن يذم الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضى به، ثمّ يشبّه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل فعله»((1)).

وقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ} هذا في أقوالهم، فقد تكلموا بالباطل في آيات اللّه ورسله كتكذيبهم والاستهزاء بهم ونحو ذلك.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ} والحبط هو بطلان العمل بحيث لا يبقى له أثر، و{أَعْمَٰلُهُمْ} هي استمتاعهم بخلاقهم، وقيل: هو أعمالهم الحسنة التي تقع طاعة من المؤمنين ويثابون عليها، والأوّل أنسب.

وقوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ} أمّا في الدنيا فلأن الاستماعات تنقضي فكأنها لم تكن لأن ملذات الدنيا تنتهي بانتهائها، وأمّا في الآخرة فلا ثواب لها عكس المؤمن الذي يتمتع في الدنيا ويطيع اللّه تعالى بما رزقه من نصيب فيثيبه اللّه عليها.

وقوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ} وهذا نتيجة حبط العمل فقد خسروا أنفسهم من غير ثواب في الدنيا ولا في الآخرة، وأمّا المؤمن فإن اللّه تعالى

ص: 305


1- ([1]) الكشّاف 2: 288.

يزكي عمله وبذلك يربح الدنيا والآخرة.

الخامس: قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ...}الآية.

كأنّ هذا تهديد لهم بعذاب دنيوي لئلّا يأمنوا عسى أن يرعوي بعضهم ويتوب، فإن أولئك الأقوام الكافرة قد تمّت الحجة عليهم حيث جائتهم رسلهم بالبينات وهي الدلائل والحجج الواضحة لكنهم كفروا عناداً فعذبهم اللّه تعالى في الدنيا بأصناف متعددة مختلفة من العذاب جزاءً على سوء أعمالهم فلم يكن ظلماً منه سبحانه بل هم الذين بخسوا أنفسهم حقها فعرضوها للعذاب.

وقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَٰتِ} جمع مؤتفكة بمعنى المنقلبة، وهي قرى قوم لوط (عليه السلام) التي قلبها اللّه تعالى رأساً على عقب.

ص: 306

الآيتان 71-72

اشارة

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 71 وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 72}

لما ذكر اللّه المنافقين وعقابهم أردفه بذكر المؤمنين وثوابهم ترغيباً لهم في التوبة وليعدل الخوف بالرجاء فقال:

71- {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ} ولاية بالنصرة والمحبة والسلطة لأنهم من جذر واحد وعقيدتهم واحدة، وأمّا صفاتهم فهي عكس صفات المنافقين فهم {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وهو ما حسّنه الشرع والعقل، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وهو ما قبّحه الشرع والعقل، {وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ} بالمداومة عليها، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ} من أموالهم، {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في سائر الأوامر والنواهي، {أُوْلَٰئِكَ} المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف {سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} في الدنيا والآخرة {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالب على أمره فيمكنه تنفيذ ذلك {حَكِيمٌ} في تقديره الرحمة لهم.

72- {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ} بساتين متشابكة الشجر {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} تحت أشجارها {الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً} أي

ص: 307

يطيب العيش فيها، وتلك المساكن {فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ} أي إقامة دائمة، {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ} أي رضاه عنهم {أَكْبَرُ} من جميع تلك الجنّات بما فيها، وذلك لأن رضاه كرامته وهي أعظم أصناف الثواب، وسائر النعم إنّما تهنأ برضاه، {ذَٰلِكَ} الرضوان أو الجنّة والرضوان {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز فوقه.

من أوصاف المؤمنين وثوابهم

بحوث

الأوّل: من دأب القرآن الكريم أن يقرن الخوف بالرجاء، والعذاب بالرحمة، حتى لا ييأس الناس من رحمته ولا يأمنوا سخطه، وحيث ذكر أوصاف المنافقين وعاقبتهم قابله بأوصاف المؤمنين وثوابهم، فأولئك {بَعْضُهُم مِّن بَعْضٖ} وهؤلاء {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}، وأولئك يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف وهؤلاء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك يقبضون أيديهم وهؤلاء يؤتون الزكاة، وأولئك نسوا اللّه وهؤلاء يقيمون الصلاة، وأولئك هم الفاسقون وهؤلاء يطيعون اللّه ورسوله، ثمّ إن اللّه وعد أولئك نار جهنم خالدين فيها ووعد هؤلاء جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأولئك لعنهم اللّه وهؤلاء سيرحمهم اللّه، وأولئك لهم عذاب مقيم ولهؤلاء الفوز العظيم، وأولئك حسبهم جهنم ولهؤلاء رضوان من اللّه تعالى أكبر.

الثاني: قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ...} الآية.

أي يتولى بعضهم أمر بعض بالسلطة والنصرة والمحبة وغير ذلك، وإنّما

ص: 308

كان بعضهم أولياء بعض لأنهم خلقوا من طينة واحدة وتجمعهم العقيدة الحقة وكلّهم يطيع اللّه تعالى ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، و{يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} في علاقتهم مع دينهم، و{يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ} في تزكيتهم أنفسهم، و{وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ} في علاقتهم مع الناس، و{وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في علاقتهم بربهم ونبيّهم، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إطاعة قولية وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إطاعة عملية، ذكرت هذه الأربعة لأهميتها ولأنها أبرز صفاتهم ثمّ عمّم بقوله: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} قيل: هي رحمة الآخرة ولذا جيء بالسين ثمّ فصّلها في الآية التالية.

وقيل: هي رحمة الدنيا والسين للتأكيد أو للتراخي لأن اللّه تعالى قد يختبر المؤمن بالصعوبات ثمّ يفتح عليه رحمته، والأوّل أظهر.

الثالث: قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ...} الآية.

كأنّ الجنّة وحدة واحدة فوقها أغصان الأشجار المتشابكة وتحتها الأنهار فالنعمة قد أحاطت بهم من جميع أطرافهم، وقد مرّ الكلام فيه.

وقوله: {طَيِّبَةً} أي يستلذ العيش فيها، وأصل الطيب ما يلائم ذوق الإنسان، والطيّب شرعاً هو ما لم يكن من حرام، وفيه تلميح إلى الحور العين وسائر النعم؛ إذ لا يطيب المنزل إلاّ بوجود الزوجة الصالحة وباقي النِعم.

وقوله: {جَنَّٰتِ عَدْنٖ} الظاهر أنه عَلَم لأفضل الجنان، فلا تكرار، فلهمجنات يتنزهون فيها، ولهم قصور في مكان آخر وهو جنة عدن، كما تقول:

ص: 309

لفلان بستان خارج المدينة وله بيت في أرقى منطقة من المدينة هو بستان أيضاً، و{عَدْنٖ} بمعنى الإقامة الدائمة، سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) : أين يسكن نبيكم من الجنّة؟ فقال: «في أعلاها درجة وأشرفها مكاناً في جنات عدن»((1)).

وعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من سرّه أن يحيى حياتي ويموت موتي ويسكن جنتي التي وعدني ربيّ جنات عدن - قضيبٍ غرسَهُ اللّه بيده ثمّ قال له كن فكان - فليوال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وذريته من بعده»((2)).

وقوله: {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أعظم من الجنّة ونعيمها؛ وذلك لأن الكرامة أعظم من كل ثواب، ولأن سائر النعم لا تهنأ إلاّ برضا المولى تعالى، ولأن رضا اللّه تعالى أجلّ من رضا النفس، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة؛ فإن الجلسة [الجنّة] فيها رضا نفسي والجامع فيها رضا ربّي»((3)).

ص: 310


1- ([1]) الخصال 2: 477؛ الاحتجاج 1: 226.
2- ([2]) الخصال 2: 558.
3- ([3]) عدة الداعي: 208.

الآيتان 73-74

اشارة

{يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ جَٰهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 73 يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلَّا أَنْ أَغْنَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْاْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ 74}

73- وحيث قد علمت بصفاتهم الذميمة ف{يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ جَٰهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ} كل واحد منهما حسب ما تقتضيه المصلحة فجهاد كل بحسبه، والجهاد بذل غاية الجهد، وهذا في العمل، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وهذا في القول {وَمَأْوَىٰهُمْ} محلهم ومصيرهم {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

74- وذلك لمقابلتهم بالمثل لعلهم يرتدعون، فمن أقوالهم أنهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} كذباً {مَا قَالُواْ} الكلام الباطل في الدين واتهام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} في تكذيب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وغير ذلك، {وَ} من أفعالهم أنهم {كَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ} أي أعلنوا كفرهم الباطني، {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} أي حاولوا أمراً لم يتيسر لهم حيث أرادوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العقبة.

ثمّ يذمهم اللّه تعالى بأنهم قابلوا الإحسان بالإساءة وكفران النعمة {وَمَا نَقَمُواْ} أي ما أنكروا وما عابوا {إِلَّا أَنْ أَغْنَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} أي من فضل اللّه تعالى حيث كانوا فقراء فاستغنوا بعد الإسلام بالغنائم وغيرها،

ص: 311

فكان الواجب عليهم الشكر لا الكفران، {فَإِن يَتُوبُواْ} عن كفرهم وأعمالهمالسيئة {يَكُ} أي يكن توبتهم {خَيْرًا لَّهُمْ} في الدنيا والآخرة، {وَإِن يَتَوَلَّوْاْ} بأن يعرضوا عن التوبة ويصرّوا على الكفر والنفاق {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} بالمعيشة في ضنك وفضحهم ومجاهدة المسلمين لهم وغير ذلك {وَالْأخِرَةِ} بعذاب النار وغيره، {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} بعد أن لم يكن لهم في السماء {مِن وَلِيّٖ} يتولى أمورهم {وَلَا نَصِيرٖ} ينصرهم من عذاب اللّه.

كيفية التعامل مع المنافقين

بحوث

الأوّل: بعد أن فضح اللّه تعالى المنافقين الذين يؤذون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعد أن أوعدهم بعذاب جهنم وبعد أن قرنهم بالكفّار وحذرهم عن مصيرهم، بعد ذلك يبيّن كيفية تعامل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معهم، وذلك بالقول والفعل كما كفروا بالقول وبالفعل؛ لأن تركهم من غير علاج لمفاسدهم فيه مضرّة عظيمة على المسلمين، وفي نهج البلاغة: «ومن كلام له - لمّا أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال - : واللّه لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً حتى يأتي عليّ يومي»((1)).

فأمر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يجاهدهم كما همّوا بما لم ينالوا، وأن يغلظ عليهم في القول كما كفروا وحلفوا كذباً.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى عدم عذرهم في ما قاموا به حيث قابلوا الإحسان

ص: 312


1- ([1]) نهج البلاغة، الخطبة: 6.

بالإسائة، ثمّ يعرض عليهم التوبة ويهددهم بالعذاب في الدنيا والآخرة إن لميتوبوا.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ جَٰهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

يبيّن اللّه تعالى الموقف العملي والقولي منهم لدفع شرّهم وقطع خطرهم:

أمّا الموقف العملي: فبالجهاد، و(الجهاد) هو بذل الجهد في الشيء، وقد يكون بالنفس عبر القتال وقد يكون بالمال عبر الإنفاق وقد يكون بغيرهما، وجهاد كل بحسبه، فقد يكون بالسيف أو بإلزامهم الحجة أو بالمقاطعة والهجران أو بإلزامهم الفرائض.

وإنّما ذكر الكفّار مع أن الآيات في المنافقين لأنه تعالى بيّن كفر المنافقين باطناً، وقد يكفرون ظاهراً فيحكم عليهم بالارتداد، كما أنه تعالى حذّرهم في الآيات السابقة من أن يكون مصيرهم كمصير كفّار الأمم السابقة.

وأمّا الموقف القولي: فبالغلظة عليهم بالكلام الخشن لردعهم.

سؤال: قد أمر اللّه تعالى رسوله بالمداراة حيث قال: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}((1)).

والجواب: أن المداراة كانت الحالة العامة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع كافة المسلمين وخاصة ضعاف الإيمان منهم لتحبيب الإسلام إليهم، وهذا لا

ص: 313


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 159.

ينافي عقوبة العصاة بالحدّ أو التعزير أو التشديد عليهم، وهذا ما بينته هذه الآية حيث كفروا بعد إسلامهم وحاولوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العقبة، وهنا لا بدّ من إيقافهم عند حدّهم عبر الجهاد والغلظة معهم، فاللام في قوله: {الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ} للعهد لا للجنس.

وقوله: {وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ...} لعل المقصود بيان أن عقوبتهم الدنيوية بالجهاد والغلظة لا ترفع عقوبتهم الأخروية، نعم المؤمن إذا عوقب على معصية في الدنيا رفع اللّه عنه عقوبة الآخرة لأنه تعالى أكرم من أن يجمع عقوبتين على المؤمن كما في بعض الأحاديث((1))، فتكون العقوبة الدنيوية تطهيراً له فيأتى الآخرة من غير ذنب.

أو المقصود أن من كان مصيره النار حري بأن يُجاهَد ويغلظ عليه.

الثالث: قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ...} الآية.

بيان سبب جهادهم والغلظة عليهم، ففي أقوالهم قد قالوا كلمة الكفر وحلفوا باللّه كذباً، وفي أفعالهم قد كفروا باللّه وتآمروا على قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قوله: {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} الآية عامة فتشمل كل كلمة تدل على كفرهم، فمنها: قول عبد اللّه بن أ ُبي {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}((2)).

ص: 314


1- ([1]) راجع تحف العقول: 214، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ما عاقب اللّه عبداً مؤمناً في هذه الدنيا إلاّ كان أجود وأمجد من أن يعود في عقابه يوم القيامة».
2- ([2]) سورة المنافقون، الآية: 8.

ومنها: تكذيبهم لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم غدير خم لما نصب علياً (عليه السلام) منبعده، ومنها: ما قالوه في غزوة تبوك، ومنها غير ذلك كما في الروايات((1)).

وقوله: {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ} أي لم تكن مجرد كلمة من غير قصد لمدلولها، بل كانت كلمة أظهرت كفرهم الباطني، فقد أسلموا ظاهراً فحكم عليهم بالإسلام، لكن بكلمة الكفر ظهر كفرهم الباطني فارتدوا عن الإسلام، وإنّما لم يجر عليهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حدّ الارتداد لأن إنكارهم لما قالوا وحلفهم عليه كذباً هو بمنزلة التوبة الظاهرية، وتوبة المرتد الملي ولو كانت ظاهرية مقبولة في رفع الحدّ عنه حتى مع العلم بكذبه، ولعل سبب ذلك الترغيب في التوبة الواقعية وأيضاً تحذير سائر المنافقين لئلّا يظهروا كفرهم الباطني.

وقوله: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} هذا جريمتهم العملية التي استوجبت جهادهم، فقد حاولوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك حينما مرّ راكباً بالعقبة التي كان أحد طرفيها جبلاً وكان الطرف الآخر وادياً سحيقاً فدحرجوا دباباً بعد أن قطعوا حبل رحل الرسول وكان غرضهم أن تنفر الناقة فيسقط الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الوادي، لكن محاولتهم بائت بالفشل وافتضحوا بعد أن عرفهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعض من كان معه، و(الهمّ) ليس مجرد التمني بل محاولة تنفيذ الفعل من غير التمكن منه.

وقوله: {وَمَا نَقَمُواْ} النقمة هي إنكار من يريد العقوبة، والغرض بيان حقارة نفوسهم حيث أنعم اللّه عليهم ورسوله لكنهم بدل الشكر كفروا

ص: 315


1- ([1]) راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 4: 509-512.

بالنعمة، ولذا قيل: «اتق شر من أحسنت إليه»((1))، فالمعنى أنهم لحقارة أنفسهم صار الإنعام عليهم سبباً لنقمتهم، حسداً وبغياً منهم على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى المسلمين.

وقوله: {مِن فَضْلِهِ} الضمير يرجع إلى اللّه تعالى لأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واسطة في إيصال فضل اللّه تعالى إليهم، فكل الفضل له تعالى.

وقوله: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ} سؤال: بعض هؤلاء المنافقين نالوا الدنيا والرئاسة والسلطة والمال فكيف عذّبهم اللّه في الدنيا؟

والجواب: إن عذاب الدنيا قد يكون نفسياً أو بسوء ذكرهم في الأجيال اللاحقة أو بلعن المؤمنين لهم، مضافاً إلى أن هذا بيان الحالة العامة وهي لا تنافي الاستثناء في بعضهم لمصلحة الاستدراج والإملاء وغير ذلك، أو يقال: إنه وعيد بعذاب الدنيا ولا يجب الوفاء بالوعيد أحياناً، وأمّا عذاب الآخرة فهو وعيد وإخبار ولا يجوز التخلف في الخبر لأنه يكون كذباً يتعالى اللّه عنه، وقد مرّ تفصيل الكلام فيه.

وقوله: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} لم يذكر السماء لوضوح أن أهل السماء لا يتولونهم ولا ينصرونهم، وأمّا أهل الأرض فقد يكون بعضهم منافقاً أو يجهل حالهم فيريد تولّيهم أو نصرتهم لكنهم عاجزون عن ذلك، و(الولي) من يتولى أمورهم بإصلاح شأنهم، و(النصير) يدفع الضرر عنهم، واللّه العالم.

ص: 316


1- ([1]) مَثَل مشهور، روض الجنان 9: 299.

الآيات 75-80

اشارة

{وَمِنْهُم مَّنْ عَٰهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَىٰنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّٰلِحِينَ 75 فَلَمَّا ءَاتَىٰهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ 76 فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ 77 أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَىٰهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ 78 الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَٰتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 79 اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ 80}

ثمّ يذكر اللّه تعالى طائفة رابعة من المنافقين وهم الذين خالفوا عهد اللّه تعالى ويعيبون على الذين يفون بالعهد في الأمور المالية فقال:

75- {وَمِنْهُم} من المنافقين {مَّنْ عَٰهَدَ اللَّهَ} أعطاه العهد قائلاً: {لَئِنْ ءَاتَىٰنَا} اللّه {مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} نعطي الصدقة {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّٰلِحِينَ} في ما آتانا بلا إفساد وإسراف.

76- {فَلَمَّا ءَاتَىٰهُم مِّن فَضْلِهِ} الذي عاهدوه عليه {بَخِلُواْ بِهِ} فلم يتصدقوا خلافاً لما عاهدوا {وَتَوَلَّواْ} انصرفوا {وَّهُم مُّعْرِضُونَ} عن طاعة اللّه تعالى.

77- {فَأَعْقَبَهُمْ} أي أورثهم بخلهم ونقضهم للعهد {نِفَاقًا} استقر {فِي

ص: 317

قُلُوبِهِمْ} إذ العصيان يؤدّي إلى الكفر والنفاق {إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي إلى حين الموت حيث لقاء اللّه تعالى {بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} أي بسببنقضهم العهد {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ}.

78- ثمّ يوبخهم اللّه تعالى فيقول: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} ما أضمروه في أنفسهم {وَنَجْوَىٰهُمْ} ما يقوله بعضهم لبعض خفية {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ} ولو كانوا يعلمون لخشوا اللّه وأطاعوه.

79- وهؤلاء لا يمتنعون عن الصدقة فحسب بل هم {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} يعيبون {الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَٰتِ} الذين يأتون بالصدقات من غير صعوبة لأنهم أغنياء، {وَ} أيضاً يلمزون المتصدقين {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أي طاقتهم وهم الفقراء الذين يتصدقون على جهد {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} يستهزء المنافقون بالمتصدقين أغنياء كانوا أم فقراء {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} من هؤلاء المنافقين أي جازاهم على سخريتهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

80- وهؤلاء تمكّن النفاق منهم ف{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي لا فرق سواء استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم فلا ينفعهم ذلك ف{إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} كناية عن الكثرة {فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} حيث إن المغفرة خاصة بالمؤمنين فلا تشمل المنافقين، {ذَٰلِكَ} أي عدم مغفرة اللّه لهم {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وبذلك خرجوا عن الطاعة {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ} الخارجين عن الطاعة، والمغفرة هداية فلا تشملهم.

الصنف الرابع من المنافقين وصفاتهم

بحوث

الأوّل: هذه الآيات حول طائفة رابعة من المنافقين، وهم الذين يخالفون

ص: 318

عهد اللّه في الأمور المالية، فقد وعدوا اللّه تعالى إن أغناهم أن يتصدقوا وأن يكونوا صالحين، لكنهم نقضوا العهد فلم يتصدقوا ولم يصلحوا، وهذا أورثهمالنفاق في قلوبهم لأن المعاصي سلسلة مترابطة كما قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}((1))، وهؤلاء لم يكتفوا ببخلهم بل عابوا المتصدقين، فالمكثر لمزوه بالرياء، والمُقلّ طعنوا عليه وشككوا في نيته وسخروا منه، ونظيره قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}((2)).

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أنّه يعذبهم ولا ينفع الاستغفار لهم وذلك بسبب سوء أعمالهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَٰهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَىٰنَا مِن فَضْلِهِ} إلى قوله: {وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}.

كان وعدهم في أمرين: دفع الصدقة، والصلاح في سائر أمورهم المالية؛ إذ يوجد تكليفان في المال وسائر عطايا اللّه تعالى وذلك بأن يعطي الحق الثابت فيه وبأن لا يصرفه في المحرمات، فمن رزقه اللّه المال عليه أن يدفع الحقوق الواجبة وأن لا يسرف فيه ولا ينفقه في المعصية.

وقوله: {عَٰهَدَ اللَّهَ} أي أعطاه العهد، ولعل الإتيان بباب المفاعلة لأن العبد يعد واللّه يجازي، أو كأنّ اللّه وعده بإعطاء المال وهو وعد بالوفاء بالحق، وكان وعدهم أمرين: الصدقة والصلاح.

ص: 319


1- ([1]) سورة الروم، الآية: 10.
2- ([2]) سورة النساء، الآية: 37؛ سورة الحديد، الآية: 24.

وقوله: {لَنَصَّدَّقَنَّ} من باب التفعّل وأصله لنتصدّقن.

وقوله: {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّٰلِحِينَ} بعدم الإسراف والإفساد في المال، وفيسائر الأمور.

وقوله: {بَخِلُواْ بِهِ} نقض لوعدهم الأوّل بالتصدق، فبدلاً من أن يتصدقوا بخلوا.

وقوله: {وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} نقض لوعدهم الثاني وهو أن يكونوا من الصالحين، فبدلاً من ذلك أعرضوا عن طاعة اللّه، و{تَوَلَّواْ} أي انصرفوا وذهبوا {وَّهُم مُّعْرِضُونَ} أي عن طاعة اللّه تعالى، أو تولوا عن الطاعة وهم معرضون عن دين اللّه، أو التولي عملاً والإعراض قلباً.

الثالث: قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ}.

بيان أن مخالفة عهد اللّه تعالى والكذب على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤدّيان إلى النفاق الدائم.

وقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ} أي أورثهم، وأصل الكلمة بمعنى جاء عقبه وبعده، فكأن المقصود أن هؤلاء لم يكونوا منافقين، لكن سوء عملهم أورثهم نفاقاً دائماً.

وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ} لعل ذكر هذا مع وضوح أن النفاق إنّما يكون في القلب لبيان تمكّنه ولزومه في قلوبهم.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} الظاهر أن الضمير يرجع إلى اللّه تعالى، ولقاء اللّه تعالى بمعنى لقاء جزائه، والظاهر أنه الموت إذ به ينكشف كل شيء فلا

ص: 320

إضمار للكفر حينئذٍ بل كفرهم يكون ظاهراً علناً وتسلب منهم كلمة الإسلام الذي كانوا في الدنيا يُعاملون بسببها معاملة المسلمين.

وقيل: الضمير للبخل أي يلقون جزاء البخل أو نفس البخل بناءً على تجسّم الأعمال! لكنه خلاف الظاهر.

وقوله: {بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} الفرق بينهما:

إمّا بأن الوعد كان على التصدق والصلاح فأخلفوا، وكذبهم كان بأضمارهم عدم الوفاء بالوعد من الأوّل.

وإمّا الوعد في الصدقة فبخلوا فأخلفوا فوعدهم بالكلام وبخلهم بالقلب وخُلفهم في العمل، والكذب في الصلاح فقد وعدوا الصلاح لكنهم كذبوا والكذب فساد وليس صلاحاً.

وإمّا خُلفهم لعهد اللّه، وكذبهم على رسول اللّه، أو كذبهم بادعاء الإسلام مع عدم طاعتهم أو كذبهم بقولهم إن الزكاة أخت الجزية، أو غير ذلك، واللّه العالم.

وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَىٰهُمْ} إنكار عليهم بأنهم كيف لم يخشوا اللّه تعالى فأخلفوا الوعد وكذبوا مع أن اللّه يعلم ما يدور في قلوبهم وما يتناجون به بينهم خفية ويعلم كل غيب آخر، والمقصود أن نفاقهم وعصيانهم لا يخفى على اللّه تعالى فيعاقبهم عليه، فكان عليهم أن يخشوه فيطيعوه لا أن يعصوه.

الرابع: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ...} الآية.

أي إنهم لم يكتفوا بالعصيان وعدم الوفاء بالوعد، بل يعيبون على

ص: 321

المطيعين ويسخرون منهم أيضاً، وهذا من فروق المنافق والمؤمن العاصي، فإن المؤمن العاصي يغبط المؤمن المطيع بل يمدحه ويذم نفسه وهذا آيةعدم نفاقه وقد يوفّقه اللّه تعالى للتوبة، أمّا المنافق فيذم ويستهزأ بالمؤمن المطيع وهذا من علائم نفاقه.

وقوله: {يَلْمِزُونَ} قد مرّ أن اللمز هو أن يعيب أحداً في وجهه علناً.

وقوله: {الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَٰتِ} أي المتطوعين، قد مرّ أن التطوع في اللغة هو الإتيان بالطاعة فيشمل الطاعة الواجبة والمستحبة، وأمّا تخصيص التطوع بالعمل المستحب فهو اصطلاح متأخر لا تحمل ألفاظ القرآن عليه، والمتطوع في الصدقة غني لذا وجبت عليه الزكاة.

وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أي يلمزون الفقراء الذين ليس لهم إلاّ المال القليل حصلوا عليه بجهد فأنفقوا بعضه في سبيل اللّه تعالى.

والحاصل: هؤلاء المنافقون يعيبون الأغنياء في الزكاة ويتهمونهم بالرياء، ويعيبون الفقراء في الإنفاق في سبيل اللّه تحقيراً لما انفقوه ويتهمونهم بأنهم لا يريدون وجه اللّه تعالى مثلاً.

وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أي أضافوا إلى اللمز السخرية منهم.

وقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} إمّا دعاء عليهم بمعنى جزائهم على سخريتهم، أو إخبار بأن اللّه يستهزء بهم حيث عاب عليهم نفاقهم وعصيانهم فأنزل آيات تتلى أبد الدهر فيها فضيحتهم.

وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عذاب آخر غير جزائهم على سخريتهم، وذلك على سائر جرائمهم من النفاق والعصيان.

ص: 322

الخامس: قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ...} الآية.

بيان أن هؤلاء المنافقين حقت عليهم كلمة العذاب بسوء أعمالهم فلا يستحقون المغفرة فلذا لا يستغفر لهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنه لا يخالف اللّه تعالى ولا يفعل اللغو أبداً.

وقوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ} أمر ونهي، بمعنى عدم الفرق بين الفعل والترك في عدم غفرانهم، فهذا التعبير هو للمبالغة في الإياس، ولعل المقصود تحذيرهم بأن لا مجال لغفرانهم فعذابهم لا بدّ من تنفيذه، وليس المقصود التخيير بين الاستغفار وعدمه كي يقال إن الآية تدل على جواز ذلك ثمّ نسخ! بل الآية في مقام بيان لغوية الاستغفار لهم وهو لا ينافي حرمته.

وقوله: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} تأكيد لعدم نفع الاستغفار لهم، والسبعين مبالغة في الكثرة وليس المقصود العدد المخصوص.

وقوله: {فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} لأن مغفرتهم خلاف الحكمة، واللّه لا يفعل خلاف الحكمة حتى لو فرض محالاً أن رسوله طلبها منه، وفي تقريب القرآن: «فلن يغفر اللّه لهم لأنهم جبلوا على النفاق، والجَبل عليه لا يفيده الاستغفار. وهذا ليس إهانة للرسول - كما زعم - بل أفرغ التوبيخ لأولئك في هذا القالب»((1)).

وقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ...} أي عدم مغفرتهم وعدم الفائدة في الاستغفار لهم لأن المغفرة هداية من اللّه تعالى إلى طريق الجنّة، وهؤلاء

ص: 323


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 434.

فاسقون لا يستحقون الهداية فلذا لا يهديهم اللّه تعالى، وكما قيل: فعدم المغفرة ليس بخلاً من اللّه سبحانه ولا لقصور في النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإنّما لعدمقابلية المنافقين، وإلاّ فإن اللّه تعالى خلق الناس ليرحمهم والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعاؤه مستجاب قطعاً إلاّ أن المانع من المنافقين أنفسهم بسبب سوء عملهم.

فيكون حاصل الكلام أن المغفرة هداية، والهداية لا تنال الفاسق، وحيث إن النفاق فسق فلا تنال المغفرة المنافقين.

نعم، لو فرض أن منافقاً تاب وأطاع اللّه ورسوله فقد خرج عن الفسق بحسن اختياره فيصبح محلاً قابلاً للّهداية فيستغفر له الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيغفر اللّه له، وقد مرّ قوله تعالى: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ}((1))، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}((2)).

السادس: شأن نزول هذه الآيات في قضايا جمع من المنافقين منها: قصة ثعلبة بن حاطب: حيث قال للنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ادعُ اللّه أن يرزقنى مالاً، فقال: يا ثعلبة، قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه، أما لك في رسول اللّه أسوة حسنة؟! والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت، ثمّ أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول اللّه، ادعُ اللّه أن يرزقني مالاً والذي بعثك بالحق لئن رزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اللّهم ارزق ثعلبة مالاً، قال: فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها، ثمّ كثرت نمواً حتى تباعد عن

ص: 324


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 74.
2- ([2]) سورة النساء، الآية: 64.

المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة، وبعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليهالمصدّق ليأخذ الصدقة فأبى وبخل وقال: ما هذه إلاّ أخت الجزية، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة، وأنزل اللّه الآيات»((1)).

ومنها: عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «فجاء سالم بن عمير الأنصاري بصاع من تمر فقال: يا رسول اللّه، كنت ليلتي أجيراً لجرير حتى نلت صاعين تمراً، أمّا أحدهما فأمسكته، وأمّا الآخر فأقرضه ربي، فأمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن ينبذه في الصدقات، فسخر منه المنافقون وقالوا: واللّه إن اللّه لغني عن هذا الصاع، ما يصنع اللّه بصاعه شيئاً، ولكن أبا عقيل أراد أن يذكر نفسه ليُعطى من الصدقات»((2)).

ومنها: عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «ذهب علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فآجر نفسه على أن يستقي كل دلو بتمرة يختارها، فجمع تمراً فأتى به النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعبد الرحمن بن عوف على الباب فلمزه - أي وقع فيه - فأنزلت هذه الآية: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ...}»((3)).

ص: 325


1- ([1]) مجمع البيان 5: 131-132.
2- ([2]) تفسير القمي 1: 301؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 515.
3- ([3]) تفسير العياشي 2: 101.

الآيات 81-85

اشارة

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَٰفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَ 81 فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 82 فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٖ مِّنْهُمْ فَاسْتَْٔذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَٰلِفِينَ 83 وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَٰسِقُونَ 84 وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ 85}

ثمّ بعد ذكر أصناف من المنافقين يرجع السياق إلى قصة غزوة تبوك فقال:

81- {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} الذين خلّفهم الشيطان أو خلّفتهم أنفسهم في ديارهم {بِمَقْعَدِهِمْ} أي قعودهم عن الجهاد {خِلَٰفَ رَسُولِ اللَّهِ} أي بعده بعدم السير معه أو لمخالفتهم أمره في غزوة تبوك، وكان فرحهم بنجاتهم من المشقة والأخطار {وَكَرِهُواْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وذلك لعدم اعتقادهم ولترجيحهم الدعة والراحة، ولم يكتفوا بذلك في أنفسهم بل ثبّطوا الآخرين أيضاً {وَقَالُواْ} للمجاهدين ولإخوانهم المنافقين {لَا تَنفِرُواْ} لا تخرجوا إلى الجهاد {فِي الْحَرِّ} حيث كان وقت غزوة تبوك صيفاً {قُلْ}

ص: 326

ردّاً عليهم: {نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} فهي أولى بالاحتراز من حرارة الصيف {لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَ} أي يفهمون عبر إعمال فكرهم، فلوكانوا يفقهون لعلموا أنهم رجّحوا جهنم على حرّ الصيف.

82- {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا} فرحاً بعدم وقوعهم في مشقة الجهاد وهذا الفرح في الدنيا وهو قليل، {وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} في الآخرة حيث عملوا ما استوجبوا به الخلود في جهنم {جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الكفر والعصيان.

83- ثمّ إنّ هنا عقوبة دنيوية أخرى {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ} عن غزوة تبوك حيث تخلّفوا عنها {إِلَىٰ طَائِفَةٖ مِّنْهُمْ} وهم الذين لم يتوبوا عن نفاقهم وتخلّفهم {فَاسْتَْٔذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} إلى غزوة أخرى بعد تبوك {فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا} هذا إخبار بمعنى النهي أي لا تأذن لهم أبداً في الخروج إلى الجهاد {وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا}، وسبب النهي عن الخروج والقتال: {إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ} عن الجهاد {أَوَّلَ مَرَّةٖ} في غزوة تبوك فلا تليقون بالجهاد بل مشاركتكم ضرر لأنكم انهزاميون لا تزيدون المسلمين إلاّ خبالاً وفساداً {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَٰلِفِينَ} وهم النساء والصبيان والعجزة الذين يتركهم الإنسان خلفه حينما يذهب إلى الجهاد.

84- {وَلَا تُصَلِّ} صلاة الرحمة {عَلَىٰ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} لعدم استحقاقهم المغفرة، {وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ} وقوف احترام ودعاء حتى يدفن، والسبب {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذا في الاعتقاد {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَٰسِقُونَ} خارجون عن الطاعة وهذا في العمل، ومن كان كذلك فلا يستحق طلب الرحمة والدعاء له.

ص: 327

85- {وَ} أمّا ما رزقهم اللّه من أموال وأولاد فليس لكرامتهم عليه ف{لَا تُعْجِبْكَ} إعجاباً مستلزماً للتكريم {أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَٰدُهُمْ} لأنها وبال عليهمف{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا} بالمشقة والتعب فيها {وَ} هي استدراج لهم وإملاء تمنعهم عن الإيمان فيريد اللّه أن {تَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ} جزاءً لسوء عملهم.

المتخلفون عن غزوة تبوك

بحوث

الأوّل: كان سياق الآيات من الآية 38 حول غزوة تبوك، ثمّ ذكر أحوال المنافقين فيها، فناسب ذكر أصناف أخر من المنافقين، بأفعال فعلوها قبل خروج المسلمين إلى الغزوة أو بتوقعات مالية مع أنهم لم ينفقوا للجهاد في تبوك أو لم يشاركوا فيه، ثمّ من الآية 81 يرجع السياق إلى غزوة تبوك وأحوال المنافقين فيها، فالآيات 81-85 تدلّ على أنهم رضوا وفرحوا بعصيانهم فلم يتوبوا منه، بل حاولوا تثبيط سائر الناس بأعذار واهية كشدة الحرّ.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى جزائهم بعقوبات تكوينية وتشريعية: أمّا العقوبة التكوينية فبنار جهنم، وأمّا التشريعية فبمنعهم عن الجهاد لاحقاً وبالنهي عن صلاة الرسول عليهم وقيامه على قبرهم.

ثمّ يبيّن أن كثرة أموالهم وأولادهم ليس لكرامتهم على اللّه تعالى بل هي ضرر عليهم في الدنيا والآخرة، وما كان كذلك لا إعجاب فيه.

الثاني: قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَٰفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَٰهِدُواْ...} الآية.

ص: 328

بيان تمكن النفاق في قلوبهم، حيث فرحوا بالمعصية وكرهوا الطاعة ونهوا الآخرين عن المعروف.

وقوله: {الْمُخَلَّفُونَ} اسم مفعول من باب التفعيل أي المتروكون خلف من خرج إلى الجهاد، والذي خلَّفهم هو الشيطان أو نفسهم الأمارة بالسوء.

وقوله: {بِمَقْعَدِهِمْ} مصدر ميمى أي بقعودهم وعدم خروجهم.

وقوله: {خِلَٰفَ رَسُولِ اللَّهِ} إمّا حال أو مفعول له بمعنى لأجل مخالفتهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعصيانهم له، وإمّا ظرف بمعنى قعودهم خلفه وعدم سيرهم معه، وهذا فرح بالمعصية.

وقوله: {وَكَرِهُواْ أَن يُجَٰهِدُواْ} هذا كراهة الطاعة.

وقوله: {وَقَالُواْ} لإخوانهم المنافقين أو لعموم المسلمين تثبيطاً لهم عن الجهاد مع ذكرهم ما يحرّك حب الراحة والدعة، فإن النهي المجرد قد لا يؤثر لكن إذا قرن بسبب يثير الشهوة وحب الدعة فقد يكون مؤثراً أو أكثر تأثيراً.

وقوله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} هذا نقض حجتهم بنفس الكيفية، حيث إنهم تعلّلوا بالحر فردّهم بحرّ أشد منه، وعليه فإن كان احتراز الحرّ سبباً لمنع الإنسان عن عمل فإن احتراز حرّ جهنم أولى لأنه أشد من حيث الحرارة ومن حيث الدوام.

وقوله: {لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَ} الفقه هو فهم الشيء على تأمله، فالمعنى لو كانوا يفهمون ويتأملون لعلموا أن نار جهنم أشد فتركوا موجباته.

الثالث: قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ

ص: 329

يَكْسِبُونَ}.

إمّا يراد به الأمر لكن على نحو التبكيت والهوان، وإمّا يراد به الخبر أيهؤلاء يفرحون لكن ضحكهم أياماً معدودة يعقبه بكاء طويل، وذلك الفرح مدة حياتهم القصيرة في الدنيا والبكاء في الآخرة أبداً، أو الفرح والضحك في أيام غياب المسلمين في الغزوة ثمّ بعد رجوعهم وانتهاء المشقة تنزل آيات في فضيحتهم وأحكام في شأنهم توجب كآبتهم وكمدهم، وفي تفسير الصافي: «إمّا على ظاهر الأمر، وإمّا إخبار عمّا يؤول إليه حالهم في الدنيا والآخرة يعني فيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً، أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب، ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغم»((1)).

الرابع: قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٖ مِّنْهُمْ فَاسْتَْٔذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل...} الآية.

بيان لعقوبة تشريعية عليهم وهي منعهم عن الجهاد لاحقاً وفي ذلك فضيحتهم وبيان غنى اللّه ورسوله عنهم وحرمانهم عن منافعه من الغنائم ونحوها.

وقوله: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ} نزلت الآية والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك ولعل التقييد بالرجوع لإخراج من التحق بالمسلمين بعد أن تخلّف لأن تخلّفه لم يكن عن إصرار فالتحاقه كان توبة، ففي تفسير القمي: «وتخلّف عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أهل ثبات وبصائر لم يكن يلحقهم شك ولا ارتياب

ص: 330


1- ([1]) تفسير الصافي 3: 444.

ولكنهم قالوا نلحق برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، منهم: أبو خيثمة وكان قوياً وكان له زوجتان وعريشتان، فكانت زوجتاه قد رشّتا عريشتيه، وبرّدتا له الماء، وهيّأتاله طعاماً، فأشرف على عريشتيه فلما نظر إليهما قال: واللّه ما هذا بإنصاف، رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر قد خرج في الصخ والريح وقد حمل السلاح مجاهداً في سبيل اللّه، وأبو خيثمة قوي قاعد في عريشته وامرأتين حسناوتين! لا واللّه ما هذا بإنصاف، ثمّ أخذ ناقته فشدّ عليها رحله فلحق برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »((1)).

ونسبة الإرجاع إلى اللّه تعالى إمّا من باب أن كل شيء بقضائه وقدره، وإمّا لأن الرجوع من غزوة تبوك لم يكن معلوماً؛ إذ لعله لو كان يحدث قتال مع الروم لتغلبوا على المسلمين وأبادوهم إلاّ أن اللّه ألقى الرعب في قلوبهم فلم يخرجوا لقتال المسلمين، وإمّا لأن اللّه تعالى حفظ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العقبة حينما أراد المنافقون قتله.

وقوله: {طَائِفَةٖ مِّنْهُمْ} أي مجموعة من المخلّفين، ولعل قوله: {طَائِفَةٖ} إمّا لإخراج من كان ذا عذر صحيح، أو تاب كالثلاثة الذين خلفوا وسيأتي في الآية 118، وإمّا لأنّ بعضهم لشدة نفاقه لم يستأذن للغزوات اللاحقة أيضاً ولم يرد الخروج إليها واللّه العالم، وإمّا الضمير للمنافقين فطائفة خرجت مع النبي وأرادوا قتله في العقبة فهؤلاء لم يعرفهم غالب الناس فالحكم لا يشملهم لأنهم أطاعوا في الظاهر الأمر بالخروج.

وقوله: {فَاسْتَْٔذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} في غزوات أخرى ولعلّه لا خطر فيها ولا

ص: 331


1- ([1]) تفسير القمي 1: 294.

مشقة.

وقوله: {فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا} إخبار يراد به النهي للمبالغة فكأنالحكم بالنهي مفروغ عنه وقد تمّ تنفيذه.

وقوله: {وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا} والفرق أن الخروج قد يكون من غير مقاتلة كما حدث في غزوة تبوك حيث رجع المسلمون من غير قتال، ومقاتلة العدو قد تكون من غير خروج كما لو داهم العدو المدينة فقاتلوه فيها.

وقوله: {إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ} هذا تعليل لمنعهم عن الجهاد؛ إذ لم يكن تخلفهم مجرد عصيان وإنّما رضا بالعصيان وهو يكشف عن الإصرار والنفاق، فإن المسلم قد يرتكب معصية لكنه بعد انجلاء الشهوة يندم ولا يرضى بما فعله، كما قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ}((1)).

وقوله: {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَٰلِفِينَ} والخالفون هم النساء والصبيان والعجزة أو العصاة الذين يخالفون اللّه ورسوله، وهذا أمر لتبكيتهم واستصغار شأنهم، وفي تقريب القرآن: «إن الذي يترك الإنسان في ساعة العسرة لا يصلح أن يكون معه، فطبعه طبع انهزامي مخلد إلى الدعة، ولو خرج لم يزد إلاّ خبالاً وخذلاناً، فلذا كان اللازم أن يجتنب عنه إطلاقاً، بالإضافة إلى أن الإسلام في غنى عنه، وهو لا يستحق شرف الجهاد فليبق في بيته ويكن مع الخالفين»((2)).

ص: 332


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 135.
2- ([2]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 437.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ...} الآية.

عقوبة أخرى لهم بحرمانهم عن صلاة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليهم واحترامه لهم بوقوفه على قبورهم؛ وذلك لعدم استحقاقهم الرحمة والاحترام وليحذر غيرهم عن النفاق.

وقوله: {وَلَا تُصَلِّ} أي لا تدعو لهم بالرحمة، وليس المراد عدم إقامة صلاة الميت عليهم، بل صلاة الميت واجبة على كل من أظهر الإسلام حتى لو كان منافقاً، وإنّما في صلاة الميت يُدعى للمؤمن ويلعن المنافق، كما صنع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على جنازة عبد اللّه بن أ ُبي حيث صلّى عليه ولعنه في صلاته، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لابن عبد اللّه بن أبي: إذا فرغت من أبيك فأعلمني - وكان قد توفي - فأتاه فأعلمه، فأخذ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نعليه للقيام، فقال له عُمر: أليس قد قال اللّه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ}؟! فقال له: ويحك - أو ويلك - إنّما أقول: اللّهم املأ قبره ناراً، واملأ جوفه ناراً، وأصله يوم القيامة ناراً»((1)). وقد وردت روايات كثيرة في اعتراضه على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بغلظة وخشونة، ولذا وضعت روايات كثيرة لتبرير موقفه حتى ادعوا أن اللّه وافق موقفه وقوله! وهي روايات متناقضة تخالف القرآن وسيرة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم.

وقوله: {وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ} أي لا تقم للدعاء له، فإن القيام على قبر

ص: 333


1- ([1]) تفسير العياشي 2: 101؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 517.

الميت والدعاء له نوع احترام له.

وقوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ...} تعليل لهذه المناهي فإن كفرهم القلبيوفسقهم العملي متجذّر في قلوبهم إلى حين الموت ومن كان كذلك فلا يستحق ترحماً ولا دعاءً.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}.

الخطاب للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمراد الأمة، أي لا يزعمَنّ أحد أن لهم عند اللّه كرامة حيث أغدق عليهم الأموال ورزقهم الأولاد، بل هو شر لهم لأنهم يقعون في مشقة تلك الأموال، ومن أشق الأمور عليهم حينما ينفقون أموالهم في ما لا يعتقدون به من الزكاة ونحوها، كما أنهم في مشقة من الأولاد لأنهم يورثونهم التعب والهم والغم، ثمّ تلك الأموال والأولاد استدراج وإملاء لهم حيث توجب غرورهم وتمنعهم عن الإيمان والعمل الصالح، فهي شر لهم في الدنيا وفي الآخرة.

ثمّ إنه قد مرّ في الآية 55 نظير هذه الآية باختلاف كلمة حيث اختلف الغرض من الآيتين، ففي تقريب القرآن: «ولعل المقصود من تكرار الآية النهي عن هذا النوع من التكريم اللاشعوري للكفّار والمنافقين، فإن نظر الإعجاب هو نظر تكريم، فيختلف المقصود هنا من المقصود هناك»((1)). أو الآيتين للتحذير من ترك حكم اللّه تعالى فهناك استأذنوا لترك الجهاد فقد يكون الإعجاب بأموالهم وأولادهم سبب الإذن لهم فنهى اللّه عنه، وهنا نهى

ص: 334


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 438.

اللّه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم حتى لا يكون الإعجاب بأموالهم وأولادهم سبباً لمخالفة نهي اللّه تعالى فلذلك حذّر عن ذلك الإعجاب،ومن هنا يتبين أن زعم بعضهم أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أقام على قبره طمعاً في إسلام قومه! لا أساس له من الصحة لأنّ ذلك مخالفة صريحة للقرآن، والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجلّ من أن يخالف أمر اللّه تعالى، واللّه المستعان.

ص: 335

الآيات 86-89

اشارة

{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَْٔذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَٰعِدِينَ 86 رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ 87 لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ جَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 88 أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 89}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى تمرّد هؤلاء المنافقين على أحكامه الواضحة فقال:

86- {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من القرآن {أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ} باستمرار المؤمن على إيمانه وبتبديل النفاق إلى الإيمان الحق {وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ} لحفظ الإيمان أو نشره أو دفع المعتدي {اسْتَْٔذَنَكَ} في ترك الجهاد بالمال والنفس من غير أن يكون لهم عذر صحيح {أُوْلُواْ الطَّوْلِ} أصحاب الثروة والجاه {مِنْهُمْ} من المنافقين {وَقَالُواْ ذَرْنَا} أتركنا {نَكُن مَّعَ الْقَٰعِدِينَ} الذين قعدوا عن الجهاد لعذر كالنساء والصبيان والعجزة.

87- ثمّ يذمهم اللّه تعالى بأنهم رضوا بالقبيح وخذلهم اللّه بقوله: {رَضُواْ} هؤلاء المنافقون {بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} جمع خالفة أي النساء اللاتي يتخلفن عن الجهاد لأنه ليس من تكليفهن، فكيف يرضى أصحاب الجاه بذلك؟ {وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} بسبب نفاقهم {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} أي لا يفهمون العز والكرامة وقبح عملهم.

ص: 336

88- {لَٰكِنِ} عدم جهادهم لا يضر الدين شيئاً ف{الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْمَعَهُ} إيماناً حقيقياً {جَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَٰتُ} أي المنافع {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ينالون خيراً دائماً، وأمّا طول أولي الطول فهو عرض زائل لا قيمة له.

89- ومن تلك الخيرات أنه قد {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا} دائمة ولا زوال لنعيمها {ذَٰلِكَ} كسب الخيرات والجنات {الْفَوْزُ} النجاة من الهلكة {الْعَظِيمُ} لدوامه وللكرامة فيه.

مخالفة المنافقين لأوامر اللّه تعالى

بحوث

الأوّل: الآيات تتضمن بيان أن هولاء المنافقين لا تنحصر مخالفتهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أوامره ونواهيه فحسب بل يخالفون اللّه تعالى في أحكامه حتى وإن نزلت سورة صريحة في الجهاد، فتارة يستأذنون في مخالفة حكم اللّه تعالى من غير عذر، وتارة مع أعذار كاذبة.

فمنهم أصحاب مال وجاه، لكن ذلك لم ينفعهم فقد رضوا لأنفسهم الهوان ليكونوا مع الخوالف كما أن اللّه أخزاهم فطبع على قلوبهم بسبب سوء أعمالهم.

والإسلام لا يحتاج إليهم لأن في الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمؤمنين معه كفاية فهم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم، فهؤلاء لهم العزة والكرامة ولهم الجنّة.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ...} الآية.

السورة تشمل كل السورة وبعضها، كالقرآن الذي هو اسم جنس يشمل

ص: 337

الكل والبعض، والآيات التي نزلت في الإيمان والجهاد عامة تشمل جميع من أسلم.

وقوله: {أَنْ ءَامِنُواْ} أمّا المؤمن فيراد منه الاستمرار في إيمانه نظير {اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ}((1)

وأمّا المنافق فيراد منه توبته ودخوله في الإيمان الحقيقي، وهذا يرتبط بالقلب.

وقوله: {وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ} يرتبط بالعمل، ولعل إضافة {مَعَ رَسُولِهِ} لبيان وجوب الجهاد حتى على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكيف يتوقع هؤلاء رفع التكليف عنهم؟ أو لمّا ذكر الإيمان باللّه ناسب ذكر الجهاد مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {اسْتَْٔذَنَكَ} دليل عدم إيمانهم ومخالفتهم لأمره ولذا يريدون التهرب من حكم اللّه تعالى.

وقوله: {أُوْلُواْ الطَّوْلِ} الطَول - بالفتح - هو ما يرتفع به الإنسان على غيره فيدخل فيه الثروة والقدرة والجاه، ولعلّ ذكرهم بالخصوص لأن غيرهم إمّا اشتركوا في الجهاد أو قعدوا من غير استئذان؛ وأصحاب الجاه والمال قد يشعرون بالحاجة إلى تبرير تهرّبهم وإيجاد عذر له حفظاً لمكانتهم الاجتماعيّة عكس الضعفاء.

وقوله: {وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن...} لعل ذكر هذا المقطع لبيان أنه لم يكن لهم أيّ عذر يعتذرون به، وإنّما أرادوا رفع التكليف عنهم لجاههم ومالهم؛ لأن بعض أصحاب الطَول يزعمون أن طولهم يميّزهم عن غيرهم فيحق لهم أن

ص: 338


1- ([1]) سورة الفاتحة، الآية: 6.

يفعلوا أو أن يتركوا ما شاؤوا!

وقوله: {مَّعَ الْقَٰعِدِينَ} وهم الذين لم يذهبوا للجهاد لسبب شرعي إمّا لعجزهم أو لعدم تكليفهم بالجهاد أو لكون الجهاد واجباً كفائياً وقد خرج من فيه الكفاية، كما قال: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ}((1)).

الثالث: قوله تعالى: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}.

بيان أن طولهم إنّما هو في الظاهر وإلاّ فهم أذلاّء؛ لأن نفوسهم حقيرة، ولأن اللّه أخزاهم بالطبع على قلوبهم.

وقوله: {رَضُواْ} أي استئذانهم إنّما هو بسبب رضاهم بالذل والهوان، وإلاّ فمن نفسه أبيّة لا يرضى بذلك.

وقوله: {مَعَ الْخَوَالِفِ} جمع خالفة وهم النساء الذين لا تكليف لهن بالجهاد فيتخلّفن في بيوتهن، و{مَعَ} أي في زمرتهن فيكون حكمهم كحكمهن، وقال الشاعر:

كتب القتل والقتال علينا *** وعلى المحصنات جرّ الذيول((2))

أي تكليفهن رعاية العفة والاحتشام، وغالب الأحكام الشرعية مشتركة بين الرجال والنساء إلاّ أن بعض الأحكام خاصة بسبب الاختلاف في الخلق والمسؤولية، فتحميل المرأة تكليف الرجل إفساد، وتحميل الرجل تكليف

ص: 339


1- ([1]) سورة النساء، الآية: 95.
2- ([2]) شرح نهج البلاغة 3: 283.

المرأة هوان.

وقوله: {وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} أي أخزاهم اللّه تعالى فهو زيادة هوان على الهوان الذي رضوه لأنفسهم.

وقوله: {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} أي لا يفهمون العزة والكرامة والسعادة التي في الإيمان والجهاد، ولا الذلّ والطبع على القلوب الذي في العصيان؛ لأن من انغمس في الدنيا انقلبت الموازين عنده، كما قال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا}((1)).

الرابع: قوله تعالى: {لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ جَٰهَدُواْ} إلى قوله: {ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

بيان أن عصيانهم لا يضر الدين شيئاً لأن اللّه ينصر دينه برسوله وبالمؤمنين، كما قال: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ}((2))، وقال: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَٰلَكُم}((3)).

فأولئك لم يؤمنوا واستأذنوا وهؤلاء آمنوا مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجاهدوا، وأولئك رضوا بالذل والهوان وهؤلاء لهم الخيرات، وأولئك طبع على قلوبهم وهؤلاء هم المفلحون.

وقوله: {لَهُمُ الْخَيْرَٰتُ} وهي المنافع، وكأنّ المراد هنا منافع الدنيا بالغنيمة والنصر والذكر الطيب ونحو ذلك، أو المراد بها النفسيّة الرفيعة والقلوب النزيهة ولذا أطاعوا اللّه ورسوله ولم يرضوا بالهوان والذل، أو أعم من منافع

ص: 340


1- ([1]) سورة فاطر، الآية: 8.
2- ([2]) سورة الأنعام، الآية: 89.
3- ([3]) سورة محمّد، الآية: 38.

الدنيا والآخرة.

وقوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفلاح هو نيل النفع والخير الباقي أثره((1)).

وقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ...} قيل: عبّر بالإعداد دون الوعد لأن الأمور بخواتيمها وعواقبها، فلو كان وعداً لجميع من آمن مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجاهد معه لوجب الوفاء به حتى مع ارتدادهم بعد ذلك لأن اللّه لا يخلف الميعاد، ولذا كلّما وعد اللّه تعالى علّقه على شرط، فإذا لم يعلّقه على شرط عبّر عنه بالإعداد، وهو أعم من أن يناله الشخص إن بقي على إيمانه وعمله بالصالحات ومن أن يُحرم عنه إن ارتدّ فيقال له قد أعددنا لك لكنك بسوء عملك حرمت نفسك! فتأمل.

وقوله: {ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الفوز هو النجاة من الهلكة إلى حال نعمة، وعظمته لدوامه ورفعته والكرامة فيه، وكأن في هذا تعريضاً بأولي الطول المستأذنين بأن عدم جهادهم ليس فوزاً من الهلكة وإنّما الفوز هو نيل الجنّة.

ص: 341


1- ([1]) راجع معجم الفروق اللغوية: 321.

الآيات 90-93

اشارة

{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 90 لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٖ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 91 وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ 92 إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَْٔذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 93}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أصناف المتخلفين وهم بين مقبول العذر وغير مقبوله:

90- {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} من عذّر أي تكلّف العذر ولا عذر له {مِنَ الْأَعْرَابِ} البدو {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} ليأذن لهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في التخلّف عن تبوك، {وَقَعَدَ} بدون أن يأتوا للاعتذار {الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي أخبروهما بخلاف الحقيقة في إظهار الإسلام وهم منافقون {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أمّا الذين لم يكفروا منهم بل تكاسلوا عن الخروج فقد يغفر اللّه لهم.

91- {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} وهم الذين لا استطاعة لهم لضعفهم كالهَر ِم والزَمِن والأعمى {وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ} الذين لا يستطيعون بسبب مرضهم {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} فليس لهم استطاعة مالية {حَرَجٌ} إثم

ص: 342

في عدم الخروج {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} في حال قعودهم بأن أخلصواولم يدخلهم نفاق وعصيان وذلك لأنهم محسنون و{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} والإحسان هو إيصال النفع من غير قبح {مِن سَبِيلٖ} طريق إلى الذم والعقوبة، {وَاللَّهُ غَفُورٌ} فلذا يقبل عذرهم {رَّحِيمٌ} فلا يحمّلهم ما لا طاقة لهم به.

92- ثمّ خصّ بالذكر والمدح طائفة من الذين لا يجدون {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ} و«ما» للتأكيد والزينة أي جاؤوك {لِتَحْمِلَهُمْ} أي تعطيهم وسيلة السفر أو نفقته {قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ} انصرفوا {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} أي من حزنهم أو لأجل حزنهم {أَلَّا يَجِدُواْ} أي لأنهم لا يجدون {مَا يُنفِقُونَ} ليشاركوا في الجهاد.

93- {إِنَّمَا السَّبِيلُ} إلى الذم والعقاب {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَْٔذِنُونَكَ} للتخلّف عن الجهاد {وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} قادرون على الجهاد ونفقته لكنهم أذلاء إذ {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} النساء اللاتي لا يجب عليهن الجهاد {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} فأخزاهم بسوء أعمالهم {فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أضرار التخلف وما فاتهم من منافع الجهاد.

أصناف المتخلفين

بحوث

الأوّل: هذه الآيات لبيان أصناف المتخلفين؛ وذلك لإخراج من كان تخلفه بعذر مقبول، مع ردّ الأعذار الواهية للمتكاسلين والكاذبين، فصنف معذِّرون وهم الذين يتكلّفون العذر مع أنهم لا عذر لهم في الواقع، وصنف تخلفوا من غير أن يتكلّفوا العذر أصلاً، وقسم معذورون حقيقة فقد

ص: 343

يحاولون إزالة العذر ولا يتمكنون.

فالصنف الأوّل والثاني إن كانوا منافقين نالهم العذاب الأليم، وإن لم يكونوا منافقين بل تكاسلوا عصياناً فأمرهم إلى اللّه إن شاء غفر لهم بفضله وإن شاء عذّبهم بعدله، وأمّا الصنف الثالث فهم إن كانوا مؤمنين حقيقة فهم محسنون فلا سبيل إلى ذمّهم وعقابهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...} الآية.

قوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ...} من عذّر من باب التفعيل وهو الذي يتكلّف العذر ولا عذر له، ولعل قوله: {مِنَ الْأَعْرَابِ} لئلّا يكون تكراراً للمذكورين في الآية 42، أو لكي لا يتوهم أحد أن صعوبة العيش في الصحراء سبب كاف لرفع الجهاد عنهم، وهؤلاء الصنف الأوّل.

قوله: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهم الذين تخلّفوا من دون أن يأتوا للاعتذار، وهؤلاء الصنف الثاني.

وقوله: {كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي أخبروهما بالكذب والمقصود المنافقون الذين كذبوا في ادعاء الإيمان.

وقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} «من» إمّا تبعيضية؛ إذ إن بعض المعذرين من الأعراب لم يكونوا منافقين وإنّما تكاسلوا عن الجهاد، والمؤمن العاصي قد يغفر اللّه له، أو بيانية لبيان أن سبب إصابة العذاب هو كفرهم، والأوّل أظهر.

الثالث: قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا

ص: 344

يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ...} الآية.

بيان الصنف الثالث وهم ذوو الأعذار المقبولة، فهؤلاء لا تكليف عليهم بالجهاد ولا يحتاجون إلى اعتذار، وهم الذين لا استطاعة لهم، إمّا في البدن بالطبع وهم الضعفاء كالمقعد والهرم والأعمى، وإمّا في البدن عَرَضاً وهم المرضى الذين سلبهم مرضهم القدرة على الجهاد، وإمّا في المال بأن لا يستطيعون الخروج لعدم امتلاكهم نفقة السفر.

وقوله: {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} إمّا بمعنى أنهم في حال قعودهم لم يخالفوا أمر اللّه تعالى بإثارة الفتن والقلاقل، أو بمعنى إذا كانوا مؤمنين أمّا الضعيف والمريض والفقير المنافق فإثم نفاقه أشد، أو بمعنى إذا كان عذرهم حقيقياً لا تظاهراً كاذباً فالشيخ قد يقوى على الجهاد، وكذلك المريض القادر، أو الفقير الذي يمكنه تحصيل النفقة، فإذا ادعوا العجز وعدم القدرة كان ادعاؤهم غشاً؛ لأن النصح هو الخلوص عن الشوائب ومنها الكذب والخداع.

وقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٖ} هذا تعليل لعدم الحرج عليهم، أي هؤلاء الناصحون هم محسنون، والمحسنون لا سبيل عليهم، وهذا التعليل أمر عام يشمل المورد وسائر الموارد، والسبيل أيضاً مطلق يشمل اللوم والعقاب والغرامة ونحوها، نعم لا بدّ أن يكون إحساناً حقيقياً، أمّا لو أراد الإحسان لكنه أخطأ فأساء فقد يكون عليه السبيل كالطبيب الذي يعالج المريض فيخطئ من غير تقصير فإنه أراد الإحسان لكنه أخطأ فأساء فهذا ضامن وعليه الدية إلاّ إذا أخذ البراءة قبل العلاج، والتفصيل يطلب في الفقه.

ص: 345

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَاأَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ...} الآية.

هؤلاء يدخلون في قوله في الآية السابقة: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} فلعلّ ذكرهم بالخصوص لمدحهم لأنهم وإن كانوا معذورين ومحسنين لكنهم يحاولون جاهدين المشاركة وإذا لم يتمكنوا يحزنون ويبكون، أو لأجل مقابلتهم مع الأغنياء الذين يتهربون بالأعذار الكاذبة، أو لأجل توضيح نصيحتهم للّه ورسوله، أو لغير ذلك.

وقوله: {لِتَحْمِلَهُمْ} أصل الحمل هو إعطاء المركوب من فرس ونحوه، لكن قد يستعمل بمعنى إعطاء نفقة السفر، وهذا هو المقصود هاهنا؛ لأن الجهاد لا يتوقف على الركوب، فقد روي أنه في غزوة تبوك كان المسلمون ثلاثين ألفاً، والفارس منهم عشرة آلاف((1))، وكان أكثرهم مشاة.

وقوله: {تَوَلَّواْ} جزاء {إِذَا مَا أَتَوْكَ...}.

وقوله: {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} فاض بمعنى امتلأ حتى سال، وفي الكشّاف: «وهو أبلغ من يفيض دمعها؛ لأن العين جعلت كأن كلّها دمع فائض»((2)).

وقوله: {حَزَنًا} قيل الحَزَن والحُزن لغتان بمعنى واحد.

وقوله: {أَلَّا يَجِدُواْ...} بتقدير لام التعليل أي لأجل أن لا يجدوا ما ينفقون.

ص: 346


1- ([1]) راجع مجمع البيان 5: 148؛ عن مغازي الواقدي 3: 1002.
2- ([2]) الكشّاف 1: 301.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَْٔذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُرَضُواْ...} الآية.

أي عكس أولئك، هؤلاء الذين تجتمع فيهم أسباب الذم والعقاب، فهم يتهربون من حكم اللّه من غير عذر، ونفوسهم حقيرة فرضوا بالذل، وهم منافقون لذلك طبع اللّه على قلوبهم، وهم جهلة، فالغرض من هذه الآية يختلف عن الغرض من الآية 87، فهناك توصيف لحالهم، وهنا بيان سبب السبيل عليهم، وحيث اختلف الغرض فلا تكرار.

وقوله: {وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} ولم يذكر قدرتهم البدنية؛ لأن الغرض بيان مقابلة الفقير الذي يحاول جاهداً المشاركة والغني الذي يتهرب من الجهاد، ولأنهم لو كانوا معذورين بدنياً بمرض أو ضعف لم يكونوا بحاجة إلى الاستئذان بعد رفع التكليف عنهم.

وقوله: {فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون مغبّة تكاسلهم عن الجهاد من منافع فاتتهم ومن أضرار أوقعوا أنفسهم فيها، أو بمعنى أن اللّه طبع على قلوبهم فغفلوا عن الحق والطاعة.

ص: 347

الآيات 94-96

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لَّا تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 94 سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 95 يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ 96}

94- والمنافقون المتخلفون كما يختلقون الأعذار قبل الخروج كذلك يكذبون في إختلاقها بعد الرجوع ف{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ} من الجهاد {إِلَيْهِمْ} إلى بلدكم وهم فيه متخلّفون، {قُل لَّا تَعْتَذِرُواْ} الأعذار الكاذبة بل استغفروا وتوبوا فإنّا {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي لن نصدّقكم في أكاذيبكم؛ إذ {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} بعضها أي أخبرنا بما أوحاه إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومع إخبار اللّه تعالى وتصديقنا له فكذبكم معلوم {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي كما رأى اللّه تعالى ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعمالكم في الماضي كذلك يريان أعمالكم في المستقبل، {ثُمَّ} في يوم القيامة {تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ} ما غاب عن الحواس {وَالشَّهَٰدَةِ} ما كان محسوساً فاللّه عالم بكل شيء {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} إخباراً للتوبيخ والجزاء كما أنبأنا ببعض أخباركم.

ص: 348

95- وهؤلاء لا يكتفون بالاعتذار بل يضيفون الحلف الكاذب ف{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} لتقوية أعذارهم {إِذَا انقَلَبْتُمْ} رجعتم {إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} أيلكي لا توبخوهم ولا تعاقبوهم {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} إعراض كراهة وإنكار لا إعراض صفح {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي قذر ونجس باطناً بسبب كفرهم وعصيانهم {وَمَأْوَىٰهُمْ} مستقرهم {جَهَنَّمُ جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.

96- ثمّ يحذر اللّه المؤمنين من الرضا عنهم، فهم {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} لتستمروا في العلاقة السابقة معهم {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} مجاملةً {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ} الخارجين عن الطاعة.

بحوث

الأوّل: هذه الآيات في بيان إصرارهم على الكذب بعد رجوع المسلمين من الجهاد، فكما كانوا يستأذنون ويعتذرون كذباً ويحلفون عليه قبل الخروج إلى الجهاد، كذلك يفعلون بعده، لكن اللّه تعالى قد كان أخبر نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعض أخبارهم وقد أخبر الرسول المسلمين به فحينئذٍ لا معنى لتصديق أولئك المنافقين، وكما يعلم اللّه ورسوله بأعمالهم الماضية كذلك يريان أعمالهم المستقبلية، وسيخبرهم اللّه بها في يوم القيامة كما أخبر المسلمين ببعضها في الدنيا.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أن غرضهم من حلفهم الكاذب هو أن لا يوبّخهم المسلمون ولا يعاقبوهم فيأمر اللّه المسلمين بأن يعرضوا عنهم بالمقاطعة، كما أنهم يريدون رضا المسلمين عنهم فيحذر اللّه تعالى بأنه غير راض عنهم فلا ترضوا عنهم.

ص: 349

الثاني: قوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لَّا تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ...} الآية.

أي هؤلاء المنافقون مصرّون على الكذب، فبدلاً من أن يتوبوا ويستغفروا ويطلبوا الصفح يستمرون في اختلاق الأعذار، بل أرادوا إيجاد القلاقل والفتن في المدينة في حال غياب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين، ولذلك أبقى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإمام علياً (عليه السلام) في المدينة ليدير أمورها ويمنعهم عن الفتنة فيها وقال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي»((1)).

وقوله: {قُل لَّا تَعْتَذِرُواْ} نهي تبكيت وتوبيخ.

وقوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} علة النهي عن الاعتذار، وقد مرّ أن الإيمان إذا عُدّي باللام كان معناه التصديق.

وقوله: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ} علة عدم تصديقهم، فالمعنى لا تعتذروا لأنّا لا نصدقكم؛ إذ أخبر اللّه.

وقوله: {مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي بعضها ممّا يرتبط بكذبهم في أعذارهم وبنفاقهم.

وقوله: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} إمّا تحذير لهم بمعنى أن أعمالكم المستقبلية أيضاً - كأعمالكم الماضية - معلومة، وإمّا فتح باب التوبة لهم فاللّه ورسوله يريان أعمالكم القادمة هل تتوبون أو تصرّون على النفاق والعصيان، ويمكن أن تكون السين للتأكيد لا للاستقبال أي إن اللّه ورسوله يريان جميع أعمالكم في الدنيا، فيكون بمنزلة الدليل على صحة ما أنبأه اللّه

ص: 350


1- ([1]) الكافي 8: 107؛ مسلم 7: 20، والحديث متواتر بألفاظ متقاربة.

من أخبارهم، وهذا أظهر.

وقوله: {إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ} الغيب هو ما غاب عن الحواس ومنه مالم يكن أصلاً، والشهادة ما حضر لدى الحواس، فاللّه تعالى محيط بكل شيء سواء شاهده أحد أم لم يشاهده، وإنّما أقام الظاهر مقام الضمير فلم يقل (ثمّ تردون إليه) لأجل بيان أنه تعالى مطلع على ضمائرهم حتى وإن أخفوها عن الناس.

وقوله: {فَيُنَبِّئُكُم} أي يخبركم بالتوبيخ والذم ليجازيكم عليها، وقيل: معناه كما يعلم اللّه ورسوله بحقيقة أعمالكم كذلك أنتم ستعلمون بحقيقتها يوم القيامة حينما يخبركم اللّه بها، أمّا في الدنيا فلا تعلمون إلاّ الظاهر منها، كما قال: {يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ}((1)).

الثالث: قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ...} الآية.

كان المنافقون في قلق واضطراب من أن يعاقبهم المسلمون على تخلّفهم فأخبر اللّه رسوله بأنهم سيأتون ويحلفون لتقوية عذرهم، ثمّ أمر اللّه تعالى المسلمين ليعرضوا عنهم لكن ليس إعراض صفح بل إعراض إنكار، فقد أمن المنافقون العقوبة لكن ابتلوا بالمقاطعة الاجتماعيّة، فقد روي أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «لا تجالسوهم ولا تكلّموهم»((2))، ولذا كرروا حلفهم الكاذب ليرضى المسلمون عنهم، لكن اللّه تعالى أمرهم بأن لا يرضوا عنهم؛

ص: 351


1- ([1]) سورة الروم، الآية: 7.
2- ([2]) مجمع البيان 5: 150.

إذ إن اللّه ساخط عليهم وحينئذٍ لا وجه للرضا عنهم.

وقوله: {سَيَحْلِفُونَ...} نزلت الآية قبل وصول المسلمين إلى المدينةليكون المسلمون على استعداد تام لمقاطعتهم، وأمّا الآية التالية فالظاهر أنها نزلت بعد وصولهم ولذا جيء ب{يَحْلِفُونَ} بدون سين.

وقوله: {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} الإعراض هنا بمعنى عدم مؤاخذتهم والصفح عنهم.

وقوله: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} بمعنى مقاطعتهم، فهم كانوا يريدون إعراض صفح لكن ليكن إعراضكم إعراض كراهة وإنكار.

وقوله: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} بيان سبب إعراض الكراهة عنهم، ورجسهم بسبب نفاقهم في قلوبهم وعصيانهم في أعمالهم، فهم كالشيء القذر الذي إذا اقترب الإنسان منه تلوّث به أو برائحته.

الرابع: قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ}.

لمّا قاطعهم المسلمون بالإعراض عنهم أرادوا إرضاءهم عبر تكرار الحلف الكاذب، فحذّر اللّه المسلمين عن الرضا عنهم، وهدّدهم بأن رضا المسلمين عنهم لا ينفعهم مع سخط اللّه عليهم، وبيّن سبب عدم رضاه تعالى عنهم بأنهم فاسقون خارجون عن الطاعة، ولم يرجعوا عن النفاق، واللّه العالم.

ص: 352

الآيات 97-101

اشارة

{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 97 وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 98 وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَٰتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 99 وَالسَّٰبِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 100 وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ 101}

أصناف الناس في غزوة تبوك

ثمّ يصنّف اللّه تعالى الناس - من حيث مشاركتهم في غزوة تبوك أو تخلّفهم - ببيان الحالة العامة فيهم إلى أصناف:

الصنف الأوّل:

97- {الْأَعْرَابُ} سكان البادية من العرب {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من سكّان المدن، لبعدهم عن الحضارة والعلم ولقساوة طبعهم {وَأَجْدَرُ} أولى {أَلَّا} أن لا {يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا} أي تفاصيل الأحكام التي {أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ} بل عليهم أن يتعلموا الأحكام إجمالاً؛ إذ ليست لهم قابلية المعرفة التفصيلية، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بحقيقتهم {حَكِيمٌ} في ما كلّفهم به.

ص: 353

98- {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ} يحسب {مَا يُنفِقُ} من أموال الصدقة وغيرها {مَغْرَمًا} أي خسارة لأنه لا يصدّق اللّه ورسوله ولا يرجو ثواباً،{وَيَتَرَبَّصُ} ينتظر {بِكُمُ الدَّوَائِرَ} بأن ينقلب الزمان بكم بالهزيمة والذلة وذلك لكي يرجع إلى الشرك ويتخلص من الإنفاق، لكن {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} فالذلة والهزيمة عليهم لا على المؤمنين، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لما يقولونه نفاقاً {عَلِيمٌ} بما يضمرون فيجازيهم عليه.

الصنف الثاني:

99- {وَمِنَ الْأَعْرَابِ} بعضهم ليسوا كذلك بل {مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} إيماناً حقيقياً {وَيَتَّخِذُ} يحسب {مَا يُنفِقُ} من الصدقة وأموال الجهاد وغير ذلك {قُرُبَٰتٍ عِندَ اللَّهِ} أي سبب التقرب إلى اللّه تعالى {وَصَلَوَٰتِ الرَّسُولِ} أي سبباً لدعاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له لأنه كان يدعو ويستغفر للمتصدقين، ثمّ يخبر اللّه بقبولها: {أَلَا} انتهبوا {إِنَّهَا} نفقاتهم {قُرْبَةٌ لَّهُمْ} أي تقرّبهم إلى اللّه تعالى، ونتيجة ذلك {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} ثوابه والجنّة، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذنوبهم {رَّحِيمٌ} بهم لذا يقبل عملهم.

الصنف الثالث:

100- {وَالسَّٰبِقُونَ} إلى الإيمان والطاعة {الْأَوَّلُونَ} في أوّل الإسلام وذلك قبل ظهور عزّته في غزوة بدر {مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ} إلى الحبشة والمدينة {وَالْأَنصَارِ} أهل المدينة الذين نصروا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم} في الإيمان والطاعة اتّباعاً موصوفاً بأنه {بِإِحْسَٰنٖ} إلى يوم القيامة، هؤلاء كلهم {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بقبول طاعاتهم وإكرامهم بالثواب والجنّة،

ص: 354

{وَرَضُواْ عَنْهُ} في قضائه وما قدّره لهم، {وَأَعَدَّ} هيّأ {لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِيتَحْتَهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ} الرضوان والجنّة {الْفَوْزُ} النجاة من الهلكة {الْعَظِيمُ} لا ثواب فوقه، وعظمته بدوامه وكرامته.

الصنف الرابع:

101- {وَ} هم المنافقون الذين يظهرون الطاعة فلا يمكن تمييزهم وقد اشتركوا في غزوة تبوك ف{مِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ} سكان البادية {مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ} عتوا وتمهّروا {عَلَى النِّفَاقِ} ولذلك {لَا تَعْلَمُهُمْ} لشدة حذرهم إلاّ بوحي من اللّه تعالى يعرّفهم لك {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لأن اللّه مطّلع على كل خافية {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} قبل يوم القيامة {ثُمَّ يُرَدُّونَ} يوم القيامة {إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ}.

بحوث

الأوّل: هذه الآيات وآيات بعدها في تصنيف عموم الناس من حيث الإيمان والكفر والطاعة والعصيان ومن ثَمَّ تطبيق ذلك على موقف المسلمين في غزوة تبوك، والأصناف هي: الأعراب الظاهرو النفاق، والأعراب المؤمنون، والسابقون الأوّلون إلى الإيمان والطاعة، والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة، ومردة المنافقين الذين أخفوا نفاقهم فلا يعرفهم أحد إلاّ بوحي اللّه، وعصاة نادمون اعترفوا بذنوبهم، وعصاة كسالى لكنهم غير منافقين، وجواسيس للعدو.

الصنف الأوّل: الأعراب المنافقون

فأمّا الصنف الأوّل: فهم أعراب منافقون ظاهرو النفاق، فهؤلاء حين كفرهم كانوا أشد الناس كفراً وبعد إسلامهم يكونون أشد الناس نفاقاً، فلا ينفقون

ص: 355

إلاّ اضطراراً وينتظرون هزيمة المسلمين ليرجعوا إلى الشرك وليتخلصوا منالصدقة.

الصنف الثاني: الأعراب المؤمنون

وأمّا الصنف الثاني: فهم أعراب مؤمنون واقعاً وينفقون قربة إلى اللّه وليدعو لهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

الصنف الثالث: السابقون الأوّلون

وأمّا الصنف الثالث: فهم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة قبل أن تظهر عزة الإسلام في غزوة بدر، ثمّ المؤمنون إلى يوم القيامة الذين اتبعوا السابقين وكان اتّباعهم بإحسان.

الصنف الرابع: المنافقون المحترفون

وأمّا الصنف الرابع: فهم المنافقون المحترفون الذين أخفوا نفاقهم بمهارة، فهم في الظاهر يطيعون وقد اشتركوا في غزوة تبوك.

وأمّا سائر الأصناف فستأتي تباعاً.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى مصير كل واحد من هذه الأصناف في الدنيا أو الآخرة.

الثاني: قوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

الأعراب هم سكّان البادية من العرب خاصة، أمّا غير العرب من البدو فلا يطلق عليهم الأعراب، وهؤلاء أغلظ وأقسى من أهل المدن؛ وذلك لبعدهم عن الحضارة والعلم من جهة، ولسراية قساوة الصحراء إلى طباعهم، فلذا إذا كانوا كفّاراً كانوا أشد في الكفر، وإذا أسلموا ونافقوا كانوا أشد في النفاق من أهل المدن، وهؤلاء بسبب خشونة طبعهم وقلة معرفتهم لا قابلية لهم لمعرفة تفاصيل الأحكام الشرعية، لأنهم لا يفهمونها بشكلها الصحيح فيحرفونها عن حدودها ويقلبونها رأساً على عقب، فلذا لا يُكلَّفون فوق

ص: 356

قابليتهم وطاقتهم فكان الأجدر بهم أن لا يعلموا إلاّ ما يطيقون وهو أصلالأحكام وكليّاتها.

وقوله: {وَأَجْدَرُ} أي أحق وأولى، وفي المقاييس: «هو جدير بكذا، أي حريّ به، وهو ممّا ينبغي أن يثبت ويبني أمره عليه»((1)).

وقوله: {حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} في تقريب القرآن: «إنّما قال: (حدود) لأن حدود الأحكام أدق من نفس الأحكام، ولذا كثيراً ما يعرف الناس الأحكام لكنهم لا يعلمون حدودها أي خصوصياتها وميّزاتها، حتى لا يدخل فيها شيء ليس منها ولا يخرج منها شيء هو منها»((2)).

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي هو يعلم بطبيعتهم وبحكمته لم يحمّلهم أكثر من قابليتهم.

الثالث: قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ...} الآية.

بعض الأعراب المنافقون قد ينفقون من أموالهم رياءً أو خوفاً أو اضطراراً، لكنهم حيث لا يعتقدون باللّه ورسوله ولا يرجون ثواباً من الإنفاق يعتبرون ذلك الإنفاق خسارة، وينتظرون هزيمة الإسلام ليرجعوا إلى شركهم ويتخلصوا من إنفاقٍ لا يعتقدون به.

وقوله: {مَغْرَمًا} المغرم هو الخسارة، وأصله بمعنى اللزوم، وفي كتاب العين: «الغرم: أداء شيء لزم من قبل كفالة أو لزوم نائبة في ماله من غير

ص: 357


1- ([1]) مقاييس اللغة: 188.
2- ([2]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 450.

جناية»((1)).

وقوله: {وَيَتَرَبَّصُ} التربص هو طول الانتظار، فلو كان الانتظار قصيراً لا يسمى تربصاً»((2)).

وقوله: {الدَّوَائِرَ} جمع دائرة، وهو دوران الفلك من حال إلى حال أخرى، والمقصود يتربصون هزيمة المسلمين وانكسارهم وذلّتهم ليتخلصوا من الإسلام والإنفاق.

وقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} هذا إخبار لبيان عاقبة أمرهم بأن ما ينتظرونه على المسلمين سيقع عليهم، وقيل: هو دعاء عليهم، لكن الأوّل أنسب بسياق هذه الآيات حيث ذكرت الأصناف وعاقبة كل صنف.

الرابع: قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ اللَّهِ...} الآية.

هؤلاء مقابل أولئك، فإيمانهم حقيقي ولا يعتبرون إنفاقهم مغرماً بل مغنماً بالقربة إلى اللّه تعالى وبدعاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم.

وقوله: {قُرُبَٰتٍ عِندَ اللَّهِ} جمع قربة، أي يحتسب ما ينفقه سبباً مقرّباً له إلى اللّه تعالى، ولعلّ الجمع في قربات لأجل بيان أن جميع إنفاقهم كذلك، فكل إنفاق يحسبونه قربة، فإن البعض قد يخلط فيرائي تارة ويتقرب أخرى فيكون من الصنف الذين {خَلَطُواْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا}((3))، لكن هؤلاء الأعراب كل عملهم قربة.

ص: 358


1- ([1]) كتاب العين 4: 418.
2- ([2]) راجع معجم الفروق اللغوية: 122.
3- ([3]) سورة التوبة، الآية: 102.

وقوله: {وَصَلَوَٰتِ الرَّسُولِ} أي وسبباً لدعاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما قال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}((1))، ومرجع هذا أيضاً إلى القربة إلى اللّه تعالى، وفي هذا دلالة على أن إتيان الطاعة قربة إلى اللّه تعالى لا ينافي قصد دعاء الرسول منها أيضاً.

وقوله: {أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} شهادة من اللّه تعالى بقبول عملهم.

وقوله: {فِي رَحْمَتِهِ} أي تغمرهم الرحمة من كل الجهات، ولذا جيء ب{فِي} الدالة على الظرفية، وهذه الرحمة هي الثواب والجنّة.

الخامس: قوله تعالى: {وَالسَّٰبِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ...} الآية.

هؤلاء هم المؤمنون حق الإيمان وهم طائفتان: السابقون والتابعون لهم.

وقوله: {وَالسَّٰبِقُونَ} أي الذين سبقوا غيرهم إلى الإيمان والطاعة، فلا تشمل الذين أظهروا الإسلام نفاقاً أو الذين ارتدوا منهم، نظير عبيد اللّه بن جحش حيث أسلم في مكة وهاجر إلى الحبشة ثمّ ارتد عن الإسلام إلى النصرانية ومات نصرانياً، أو عبد اللّه بن أ ُبي حيث كان من أوائل الذين أظهروا الإسلام من أهل المدينة لكنه كان رأس النفاق إلى أن مات.

وقوله: {الْأَوَّلُونَ} هذا القيد لبيان أن السبق هو السبق الحقيقي لا الإضافي، فالذين آمنوا في أواخر حياة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن كانوا سابقين بالنسبة إلى من جاء بعدهم لكنهم ليسوا من السابقين الأوّلين.

ثمّ إن الظاهر أن المراد بهم الذين آمنوا قبل غزوة بدر؛ إذ قبلها كان

ص: 359


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 103.

المسلمون مستضعفين، وإنّما ظهرت عزّتهم بعدها، وقيل غير ذلك.

وقوله: {مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} (من) تبعيضيّة أي هؤلاء كانوا بعض المهاجرين والأنصار لا جميعهم؛ إذ ارتد بعضهم ونافق بعضهم كما ذكرنا.

وقد زعم البعض أن {مِنَ} بيانية والآية تشمل جميع الصحابة! وهذا لا يصح البتة، وهو مخالف للقرآن الكريم حيث صرّح بوجود منافقين كثيرين في زمن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودلّ على ارتداد بعضهم، مضافاً إلى أن المناط في القرآن هو الإيمان والعمل الصالح لا مجرد إظهار الإسلام ورؤية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد دلت الأحاديث الصحيحة بأن مبغض الإمام علي (عليه السلام) منافق حيث قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق»((1))، ومن المعلوم أن بعض أولئك كانوا يبغضون الإمام علياً (عليه السلام) وحاربوه وسبّوه وسنّوا لعنه والنصب له ولأهل بيته (عليهم السلام) !

وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ} عطف على {وَالسَّٰبِقُونَ} أي سائر المسلمين الذين جاؤوا بعد السابقين الأوّلين فاتبعوهم على الإيمان والطاعة، فيشمل من آمن في أواخر حياة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن آمن بعد ذلك إلى يوم القيامة، وقيل: إنه قال: {بِإِحْسَٰنٖ} ولم يقل: (في الإحسان) للدلالة على أن الاتّباع موصوف بأنه بإحسان، أي اتبعوهم في عملهم ولم يتبعوهم بأشخاصهم، فتأمل.

وقوله: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} هذا خبر قوله: {وَالسَّٰبِقُونَ}، وحيث إن اللّه

ص: 360


1- ([1]) علل الشرائع 1: 145؛ وفي كتاب مسلم 1: 61: «قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى اللّه عليه [وآله] وسلم إليّ أن لا يحبني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق».

ليس محلّاً للحوادث وهو منزّه عن الكيف النفساني، فرضاه بمعنى نتيجة الرضا كقبوله لطاعاتهم وإكرامهم.

وقوله: {وَرَضُواْ عَنْهُ} أي رضوا بقضائه وما قدّره لهم وإن كان مصيبة وبلاءً، ودرجة الرضا بقضاء اللّه هي درجة الصديقين وهي فوق درجة الصبر والصابرين، وإنّما رضوا عنه لمعرفتهم بعظمته وحكمته ولما وعدهم من النعم في الدنيا والآخرة.

السادس: قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ...} الآية.

بيان صنف آخر وهم المنافقون المحترفون الذين يكتمون نفاقهم بمهارة بحيث لا يعلمه أحد إلاّ اللّه تعالى أو من أخبره اللّه بوحيه، فحتى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يعرفهم إلاّ بوحي اللّه تعالى له، وهؤلاء يظهرون الطاعة في كل شيء تغطيةً لنفاقهم، ولذا اشترك مجموعة منهم في غزوة تبوك ولم يستأذنوا ولم يتخلفوا، وقد تآمروا لقتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العقبة بحيث لولا لطف اللّه تعالى بنبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لتمكنوا من الوصول إلى بغيتهم، لكن اللّه سبحانه أفشل مخططهم وفضحهم كما مرّ.

وقوله: {مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} أي عتوا ومهروا فيه بحيث أخفوه، فالنفاق متجذر في قلوبهم حتى طبع اللّه عليها.

وقوله: {لَا تَعْلَمُهُمْ} أي لا تعرفهم بأشخاصهم لشدة حذرهم وإخفائهم لنفاقهم، وهذا بيان شدة مهارتهم، وعدم معرفته بهم بذاته لا ينافي معرفته بهم بوحي من اللّه تعالى وفضحه لهم.

ص: 361

وقوله: {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} كالتهديد لهم بأنه لا يخفى على اللّه شيء.

وقوله: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} هذان عذابان قبل يوم القيامة، لكن متى هما؟ قال بعض المفسرين: إن المرّة الثانية هي عذاب القبر، وأمّا المرّة الأولى فقيل: هي فضحهم، وقيل: لحظة الاحتضار، وقيل: بيد المؤمنين.

ويحتمل أن يكون المراد بالمرّتين تضاعف العذاب عليهم لأن هؤلاء كانوا رؤوس النفاق فمرّة لنفاقهم ومرّة لإضلالهم غيرهم أو لمؤامراتهم، واللّه العالم.

وقوله: {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ} في يوم القيامة بحيث لا يقاس به عذاب الدنيا والقبر، وعظمته لشدته ودوامه، وهو يساوي جرمهم فيدل على عظم جرمهم.

ص: 362

الآيات 102-106

اشارة

{وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 102 خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 103 أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 104 وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 105 وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 106}

الصنف الخامس: الذين خلطوا عملاً صالحاً وسيئاً

الصنف الخامس:

102- {وَءَاخَرُونَ} من الأعراب وأهل المدينة ليسوا منافقين ولا يعتذرون بالأعذار الكاذبة بل {اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ} فقد {خَلَطُواْ عَمَلًا صَٰلِحًا} هو إيمانهم وطاعتهم {وَءَاخَرَ سَيِّئًا} بعض المعاصي كترك الخروج إلى تبوك، واعترافهم يتضمن توبتهم، {عَسَى اللَّهُ} أي الرجاء باللّه {أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} حيث {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذا يتوب على المذنب التائب {رَّحِيمٌ} يرحمه بالثواب.

103- وحيث إن أموالهم كانت سبباً لتخلفهم فقد أرادوا التصدق بجميعها لكن {خُذْ} يا رسول اللّه {مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ} بعضها {صَدَقَةً} الزكاة الواجبة لا غيرها {تُطَهِّرُهُمْ} أنت أو تلك الصدقة عن الذنوب {وَتُزَكِّيهِم} تنميهم في الدين والمال والأولاد وغيرها {بِهَا} بتلك الصدقة، {وَصَلِّ

ص: 363

عَلَيْهِمْ} ادع لهم {إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} هدوء وسكينة لهم بقبول توبتهم، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لدعائك {عَلِيمٌ} بصدق نواياهم.

104- {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} الاستفهام للتنبيه والحث على التوبة والصدقة {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} فلا يأنفوا منها {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ} أي هو يقبلها وهذا تعظيم لها، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ} كثير اللطف بعباده فيرجع إليهم {الرَّحِيمُ} بالتفضل عليهم.

105- {وَقُلِ} حيث علمتم بأن اللّه توّاب ويأخذ الصدقات ف{اعْمَلُواْ} الأعمال الحسنة ومنها التوبة والصدقة {فَسَيَرَى اللَّهُ} السين للتأكيد أي إن اللّه يرى {عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وهم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، {وَسَتُرَدُّونَ} يوم القيامة {إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم} يخبركم للجزاء {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

الصنف السادس: المرجون لأمر اللّه

الصنف السادس:

106- {وَءَاخَرُونَ} مستضعفون لا هم مؤمنين ولا هم كفّاراً وهؤلاء {مُرْجَوْنَ} مأخّرون وموقوف أمرهم {لِأَمْرِ اللَّهِ} لإرادته تعالى في شأنهم {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} لذنوبهم بعدله {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} لإسلامهم بفضله، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بهم وبأعمالهم {حَكِيمٌ} في ما يصنعه بهم من التوبة والعذاب.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا...} الآية.

صنف آخر من الناس وينطبق على جماعة ممن تخلّفوا عن غزوة تبوك،

ص: 364

فلم يكونوا منافقين ولا كذبوا في الاعتذار، بل أرادوا التوبة عبر اعترافهم بذنوبهم.

وتدل الآية على أن الذنب إن كان في الأمور العامة لزم تصحيح الذنب والتوبة علناً، فهؤلاء تخلّفوا علناً فكان لا بدّ لهم من الاعتراف علناً. نعم، لو كان الذنب في الأمور غير العلنيّة وفي حق اللّه دون حق الناس فالأولى أن يتوب الإنسان بينه وبين ربّه ولا يعترف به عند أحد غير اللّه تعالى، بل قد لا يجوز الإعلان عنه إذا كان إشاعة للفاحشة بين الذين آمنوا. نعم، لو كان فيه حق الناس فلا بدّ من استرضائهم، كمن قتل إنساناً عمداً خفية فلا بدّ له من تسليم نفسه إلى ذوي المقتول ليأخذوا حقهم من القصاص أو الدية أو العفو.

كما تدل الآية على أن بعض الذنوب لا تحبط جميع الأعمال الصالحة، بل يمكن للإنسان أن يكون مطيعاً من جهة له في ذلك الثواب وعاصياً من جهة أخرى يستحق بذلك العقاب، وقد مرّ الكلام في الحبط.

وقول--ه: {عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} هذا لإيجاد الرجاء فيهم لئلّا يقنطوا من رحمة اللّه تعالى، فالمؤمن لا بدّ أن يكون بين الخوف والرجاء.

وغير خفي أن شرط قبول التوبة هو الاستمرار على الإيمان إلى حين الموت، فمن أذنب ذنباً ثمّ تاب عنه لكنه ارتدّ بعد ذلك أو نافق فتوبته غير مقبولة ويعاقب على ذلك الذنب في الآخرة، حتى الكافر إذا أسلم ثمّ ارتد أو نافق أخذه اللّه بذنوب زمان الجاهلية أيضاً، فإن الإسلام يقطع ما قبله بشرط استمراره، قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «إن ناساً أتوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد ما أسلموا فقالوا: يا رسول اللّه، أيؤخذ الرجل منا بما كان عمل في الجاهلية بعد

ص: 365

إسلامه؟ فقال لهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من حسن إسلامه وصح يقين إيمانه لم يأخذه اللّه تبارك وتعالى بما عمل في الجاهلية، ومن سَخُف إسلامه ولم يصح يقين إيمانه أخذه اللّه تبارك وتعالى بالأوّل والآخر»((1)).

الثاني: قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ...} الآية.

بيان أن مجرد الاعتراف القولي غير كاف بل لا بدّ من عملهم ومن شفاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم.

وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً} هذا في عملهم بأن يدفعوا الصدقة، وهي الزكاة الواجبة، حيث إن الأموال منعتهم عن الخروج إلى الجهاد، فلا بدّ لهم من التصدق ببعضها ليطهروا من دنس الذنب وليرتفعوا إلى قرب اللّه تعالى.

كيفية تطهيرهم

وقوله: {تُطَهِّرُهُمْ} الظاهر أن الضمير يرجع إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقرينة السياق حيث إن الضمير في {تُزَكِّيهِم} له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فإن أخذ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو المطهّر، أمّا لو دفعوا الصدقة من غير إذنه فقد لا تكون مقبولة ولا مطهرة.

وقوله: {وَتُزَكِّيهِم بِهَا} الزكاة النمو أي بذلك تسمو نفوسهم وترتفع إلى درجات قرب اللّه تعالى، فالزكاة تجمع بين الثواب ومحو الذنب.

وقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} هذا في شفاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}((2)).

ص: 366


1- ([1]) الكافي 2: 461.
2- ([2]) سورة النساء، الآية: 64.

وقوله: {إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} لأن المذنب التائب مضطرب البال فشفاعة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له توجب اطمئنان باله بقبول توبته، وقيل: هو جبر لما يشعر به من ألم فقد المال، فيكون الدعاء تعويضاً معنوياً يرضيه!

الثالث: قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ...} الآية.

لما أمرهم اللّه تعالى بالتوبة وبالزكاة أراد حثّهم عليهما؛ إذ قد يستنكف بعض الناس عن التوبة لأنها تتضمن اعترافاً بالخطأ، فيقال لهم: إن الذي تتوب إليه هو اللّه تعالى فلا وجه للاستنكاف عن الرجوع إليه، كما أنه تُعطى الزكاة غالباً للفقراء فقد يستعلي بعض الناس عليهم أو يعطي بإهانة أو عدم رغبة أو يقلّل من شأنها، فيقال لهم: إن آخذ الصدقة هو اللّه تعالى وكفى به فخراً لهم.

والحاصل: إن شأن التوبة والزكاة جليل لأنهما يرتبطان باللّه تعالى، وفي ذلك غاية الحث والتحريض.

قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} الاستفهام للتنبيه وليس للاستنكار؛ وذلك لأن اللّه تعالى أمر نبيّه بأن يأخذ الصدقات منهم، وقد يستصعب البعض دفعها فيتمّ حثّه بأنه يعطيها للّه تعالى، كما أن البعض قد يمتنع عن التوبة لعظم جرمه وييأس من رحمة اللّه تعالى فيقال له: إن الذنب مهما كان عظيماً فإن عفو اللّه أعظم منه.

وقوله: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} إن صحت تلك التوبة بأن استجمعت شرائط القبول وإلاّ لم تكن توبة.

وقوله: {يَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ} أي فكأنه هو الذي يأخذها، وعن الإمام

ص: 367

الصادق (عليه السلام) : «أي يقبلها من أهلها ويثيب عليها»((1))، وعنه (عليه السلام) قال: «ما من شيء إلاّ وُكِّل به ملك إلاّ الصدقة فإنها تقع في يد اللّه»((2)).

الرابع: قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ...} الآية.

لما أمر اللّه تعالى بالتوبة والزكاة وذكر أنه تعالى هو الذي يقبلهما، بعد ذلك عمّم الأمر لجميع الأعمال الصالحة، وبيّن أن اللّه ورسوله والمؤمنين يرون تلك الأعمال في الدنيا وأن اللّه في الآخرة ينبئهم بها ليجازيهم عليها، وفي ذلك أكبر حث وتحضيض على العمل بالصالحات، فإن الإنسان لو علم بانكشاف أعماله للّه وللرسول وللمؤمنين فإنه يحاول أن لا يرتكب القبائح لئلّا يفتضح عندهم ويعمل بالصالحات لينال رضاهم.

وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُواْ} الظاهر أن المراد هو الأمر بالعمل بالصالحات، وقيل: هو العمل خيراً وشراً كما قال: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}((3))، والأوّل أنسب بالسياق.

وقوله: {فَسَيَرَى} السين للتأكيد وليست للاستقبال؛ لأن اللّه تعالى عالم بالأعمال قبل تحققها وحينها وبعدها من دون تغيّر في علمه، بل التغيّر في المعلوم.

وقيل: السين لتوحيد السياق حيث إن علم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) بالعمل يكون بوقوعه! والأوّل أصح، والرؤية هنا بمعنى العلم.

ص: 368


1- ([1]) توحيد الصدوق: 161؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 538.
2- ([2]) تفسير العياشي 2: 108.
3- ([3]) سورة فصلت، الآية: 40.

وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ} المراد بهم خصوص الأئمة (عليهم السلام) كما ورد في روايات كثيرة((1)).

أمّا غير الأئمة فأوّلاً: لا يرى الكثير من المؤمنين أعمال إخوانهم المؤمنين ولا غيرهم مع أن الآية تتضمن الإخبار عن رؤية المؤمنين لأعمالهم، وثانياً: انكشاف بعض الأعمال ليس خاصاً بالمؤمنين بل قد تنكشف الأعمال للمؤمنين ولغيرهم.

وعليه فالمراد الرؤية الكاملة وهي رؤية جميع الأعمال وبحقائقها لا بظاهرها، وذلك لأجل عطف الرسول والمؤمنين على اللّه تعالى، فالمعنى إن اللّه يرى أعمالكم كلها على واقعها، ثمّ بإرادته وإذنه يراها الرسول والأئمة على حقيقتها، ولذا سيشهدون بها يوم القيامة، كما مرّ تفصيله في الآية 143 من سورة البقرة((2))، وقد ذكرنا بعض التفصيل في شرح أصول الكافي((3))، فراجع.

ثمّ إنه قد مرّ في الآية 94 قوله: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ولم يذكر المؤمنون هناك، فقد قيل: إن تلك الآية الخطاب فيها للمنافقين وهم يحذرون من علم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا يبالون بعلم الأئمة (عليهم السلام) بهم، وأمّا هذه الآية فالمخاطب بها عموم المؤمنين وهم يهتمون بعلم الأئمة (عليهم السلام) بأعمالهم كاهتمامهم بعلم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واللّه العالم.

وقوله: {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي في يوم القيامة يخبركم بها

ص: 369


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 541-549.
2- ([2]) التفكر في القرآن، سورة البقرة 2: 108-109.
3- ([3]) شرح أصول الكافي، للمؤلّف 3: 149-151.

ليجازيكم عليها، وقيل: أي ستعلمون بحقيقة أعمالكم حينما يخبركم اللّه بها كما مرّ نظيره في الآية 94، واللّه العالم.

الخامس: قوله تعالى: {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ...} الآية.

هؤلاء صنف آخر وهم المستضعفون، فقد أسلموا لكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم ولم ينافقوا، وبعض هؤلاء لم يخرجوا إلى غزوة تبوك تكاسلاً لا نفاقاً.

وقوله: {مُرْجَوْنَ} من الإرجاء بمعنى التأخير أي لم يعدهم اللّه بالمغفرة ولا بالعذاب مع علمه بما هو صانع بهم، ولم يخبر به إمّا لاختلاف صنعه فيهم، وإمّا لإرادة اللّه إبهام الأمر لئلّا يستهين الناس بالمعصية.

وقوله: {لِأَمْرِ اللَّهِ} أي لإرادته وقضائه فيهم، فلا يحكم فيهم إلاّ بعد انتهاء حساب سائر الخلق فيتأخر حسابهم عن غيرهم.

وقوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} لعدم دخول الإيمان في قلوبهم ولذنوبهم، فمن ضعف إيمانه كثرت ذنوبه.

وقوله: {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} وذلك لإسلامهم وعدم نفاقهم، والحاصل: مقتضي العفو والعذاب موجود، وإن اللّه بعلمه وحكمته يقدر ويقضي فيهم ما يشاء.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ولم يقل غفور رحيم؛ إذ لا وعد لغفرانهم وثوابهم، بل عِلم بأحوالهم وحكمة في القضاء فيهم.

وفي مجمع البيان: «وهذا يدل على صحة مذهبنا في جواز العفو عن

ص: 370

العصاة؛ لأنه سبحانه بيّن أن قوماً من العصاة يكون أمرهم إلى اللّه تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء قبل توبتهم فعفا عنهم، ويدل أيضاً على أن قبول التوبة تفضل من اللّه سبحانه؛ لأنه لو كان واجباً لما جاز تعليقه بالمشيئة»((1)).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في هذه الآية قال: «قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين، ثمّ إنهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا اللّه وتركوا الشرك، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النار، فهم على تلك الحال إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم»((2)).

وقد ورد في بعض التفاسير أن شأن نزول الآية في الثلاثة الذين خلّفوا كما ستأتي قصّتهم في الآية 118، لكن الآية لا تنطبق عليهم بل هي في المستضعفين كما ورد في الروايات المتعددة((3))، واللّه العالم.

ص: 371


1- ([1]) مجمع البيان 5: 171.
2- ([2]) الكافي 2: 407.
3- ([3]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 534-536.

الآيات 107-110

اشارة

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ 107 لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ 108 أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ 109 لَا يَزَالُ بُنْيَٰنُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 110}

الصنف السابع: المنافقون المخرّبون

الصنف السابع:

107- {وَ} هم المنافقون المخربون، ومنهم {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا} لمضارّة المؤمنين {وَكُفْرًا} لإقامة وتقوية الكفر الذي كانوا يضمرونه {وَتَفْرِيقَا} أي لإيجاد الفرقة والشقاق {بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} لتختلف كلمتهم {وَإِرْصَادًا} مراقبة وإعداداً {لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بإيصال أخبار المسلمين إليهم {مِن قَبْلُ} أي قبل بناء المسجد، وهو أبو عامر الراهب عارض الإسلام من البداية ثمّ خطط مع هؤلاء المنافقين ليوصلوا إليه أخبار المسلمين وكان يريد تهييج الروم عليهم لكنه مات قبل الوصول إلى بغيته {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} لم نرد من بناء المسجد {إِلَّا} الفعلة {الْحُسْنَىٰ} بالصلاة والتوسعة على المصلين وتسهيل الأمر على الضعفاء،

ص: 372

{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ} في حلفهم.

108- وحيث علمت سوء عملهم ونواياهم ف{لَا تَقُمْ} للصلاة {فِيهِ} في مسجد ضرار {أَبَدًا} حيث أرادوا إضفاء الشرعية لمسجدهم فطلبوا من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يصلّي فيه {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ} أي لأجل تقوى اللّه وهو مسجد قبا {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي بداية هجرة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنوّرة {أَحَقُّ} أولى {أَن تَقُومَ فِيهِ} حين خروجك من المدينة إلى تلك المنطقة {فِيهِ} في مسجد قبا {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} من القذارات المادّيّة والمعنويّة {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} فالمسجد بني على التقوى وأهله يحبون التطهّر فهو أحق من مسجد بُني على النفاق وأهله منافقون كاذبون.

109- {أَفَمَنْ} الاستفهام إنكاري أي هل الذي {أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ} أي بناءه المادي والمعنوي {عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ} لأجل التقوى باجتناب المحارم {وَرِضْوَٰنٍ} لطلب رضا اللّه بفعل الطاعات {خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ} المادي والمعنوي {عَلَىٰ شَفَا} شفير وحافة {جُرُفٍ} جانب محفور تحته لا أرضية صلبة له، وأصل الجرف هو جانب الوادي الذي حفرت السيول تحته فله ظاهر لا أساس له {هَارٖ} متصدّع متداع للسقوط {فَانْهَارَ} ذلك البناء {بِهِ} بهذا الباني {فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} يتركهم ولا يلطف بهم لمّا عاندوا ونافقوا.

110- وهؤلاء قد تمكّن النفاق في قلوبهم فلم ينفعهم لا وعظ ولا إخبار اللّه بنفاقهم ولا تخريب مسجدهم ف{لَا يَزَالُ بُنْيَٰنُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ} ما بنوه في قلوبهم وبنوه من مسجدهم {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي نفاقاً، والريبة شك مع

ص: 373

تهمة، وهذا يستمر {إِلَّا} أي حتى {أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} كناية عن موتهم فهذه القلوب لا قابلية لها للّهداية {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بنياتهم وأعمالهم {حَكِيمٌ} في فضحهم وأمره بهدم مسجدهم.

بحوث

الأوّل: في هذه الآيات يذكر اللّه تعالى طائفة أخرى من المنافقين وهم الذين يتآمرون على المؤمنين داخلياً بالإضرار بهم والتفريق بينهم وبترسيخ النفاق، وخارجياً بتأليب القوى العظمى عليهم بالتجسس لهم، وهؤلاء للتغطية على أعمالهم يختارون عنواناً دينياً كالمسجد ويحاولون أن يكسبوا الشرعية من الإسلام والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لكن اللّه تعالى يأمر بهدم مقرهم الذي بني على النفاق وعدم إعطاء الشرعية لهم، بل لا بدّ من الاحتفاء بالمؤمنين وبمساجدهم التي أقاموها على التقوى، ثمّ يبيّن اللّه عاقبة كل من الطائفتين.

وكان شأن نزولها أن أبا عامر الراهب - وكان من الخزرج - قد التحق بالكفّار في مكة واشترك في حروبهم ضد المسلمين، فلما فتح اللّه تعالى مكة لرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هرب إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام، وقد اتفق مع مجموعة من المنافقين الذين كانوا في منطقة قبا قرب المدينة أن يبنوا مسجداً ليكون محلاً لمؤامراتهم، وأن يرصدوا المسلمين ويبعثوا بأخبارهم إليه، وكان يريد تحريك الروم ليهاجموا المدينة وليخرجوا منها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين.

لكن خطتهم بائت بالفشل فقد خرج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى غزو الروم، فألقى اللّه تعالى الرعب في قلوبهم وفي فترة بقاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تبوك فتح اللّه

ص: 374

تعالى له فتحاً مبيناً فقد دخل ملك دومة الجندل في ذمة المسلمين ودفع الجزية، ودخلت بعض القبائل في معاهدات مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثمّ أسلم بعضهم، وكان في ذلك نصر للمسلمين.

فلما رجع رسول اللّه تعالى إلى المدينة أنزل اللّه تعالى هذه الآيات تخبره بحال هؤلاء المنافقين ومسجدهم، فأرسل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هدم مسجد ضرار، وخذل اللّه سبحانه أبا عامر الراهب فألقى عليه أمراضاً أهلكته بعد عذاب شديد((1)).

سبب اتخاذهم مسجد ضرار

الثاني: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ...} الآية.

عطف على {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} وما قبله، و{الَّذِينَ} مبتدأ وخبره إمّا {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}، وإمّا مقدّر أي ومنهم الذين اتخذوا.

وقد اتخذوه لأجل أربعة أمور:

1- قوله: {ضِرَارًا} مصدر باب المفاعلة، وكأن المقصود به المؤامرات التي أرادوا أن يحيكوها تحت غطاء الصلاة في المسجد، لأنهم كانوا يحتاجون إلى مكان يجتمعون بشكل طبيعي فيه من غير أن يثير انتباه أحد.

2- وقوله: {وَكُفْرًا} أي تقويةً للكفر الذي كانوا يضمرونه في قلوبهم، بحيث يحافظون عليه وينشرونه بين الناس؛ لأن العمل الجمعي المنظم يحفظ المعتقد - حقاً كان أو باطلاً - ، فالإنسان إذا كان في مجتمع يخالفه في المعتقد فإنه يضمحل ويذوب فيهم بعد حين لو لم ينظّم أمره ولم

ص: 375


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 552-556؛ مجمع البيان 5: 178-179؛ تفسير القمي 1: 305.

يجتمع مع أمثاله.

3- وقوله: {وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} باختلاف كلمتهم وتنازعهم عبر إثارة الفتن بين المؤمنين، وفي شأن النزول أرادوا تفرق أهل مسجد قبا عن الاجتماع فيه حيث كان اجتماعهم قوة للإسلام والمسلمين.

4- وقوله: {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الرصد المراقبة، وأرصد له أي راقب لأجله فهو التجسس وإيصال الأخبار إليه، والذي حارب اللّه ورسوله هو أبو عامر الراهب، وذلك حينما أراد المنافقون أن يجعلوه واسطة بينهم وبين الروم، و{مِن قَبْلُ} يتعلق بحارب لأنه كان في صفوف المشركين في بعض حروبهم مع المسلمين.

وقوله: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ} أي باتخاذ المسجد لم نرد إلاّ الخصلة التي هي أحسن الأمور، حيث زعموا أنهم أرادوا إقامة الصلاة فيه، والتوسعة على المصلين في مسجد قبا، والتسهيل على الضعفاء الذين كان يبعد عنهم مسجد قبا.

الثالث: قوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ...} الآية.

بعد انكشاف حقيقة مسجد ضرار ومؤسّسيه كان لا بدّ من اتخاذ موقف، فنهى اللّه تعالى رسوله عن إقامة الصلاة فيه، وحيث إن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة فالنهي يشمل جميع المؤمنين، ولذا أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهدم ذلك المسجد، وبه انفرط عقد أولئك المنافقين بعد فضحهم وتخريب محل اجتماعهم لمؤامراتهم، ثمّ يقارن اللّه تعالى بين مسجد ضرار ومسجد قبا ويصف

ص: 376

المؤمنين المصلين فيه.

وقوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ} أي لا تصل فيه، وهذا صار اصطلاحاً في الصلاة يقال: قائم ليله، أي بالصلاة فيه.

وقوله: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} وهو مسجد قبا حيث إنه اتخذ مسجداً قبل وصول الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة حيث مكث في قبا أياماً منتظراً أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) والفواطم عليهن السلام، فكان أساسه على التقوى، عكس ذلك المسجد الذي كان أساسه على الكفر والعصيان.

وقوله: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} أي حين خروجك من المدينة إلى تلك النواحي.

وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} بالطهارة المادّيّة عن القذارات وبالطهارة المعنويّة عن دنس الذنوب والخطايا، فأولئك أحبوا الضرار والكفر والتفريق والإرصاد وهؤلاء أحبوا التطهّر وشتان ما بينها.

الرابع: قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ...} الآية.

هذا كالتعليل للنهي عن الصلاة في مسجد ضرار والأمر بالصلاة في مسجد قبا، وذلك ببيان الفرق بين الفريقين وبين أعمالهما.

وقوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ} الاستفهام إنكاري ومصبّه الفرق بين الفريقين عن طريق بيان الفرق بين أعمالهما.

وقوله: {بُنْيَٰنَهُ} يشمل بنيان المسجد وبنيان الدين.

وقوله: {عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ} كأن المراد بالتقوى هنا اجتناب

ص: 377

المعاصي والتي تقي الإنسان النار، وبالرضوان امتثال الأوامر التي تُدخل الإنسان الجنّة.

{شَفَا جُرُفٍ هَارٖ} هذا تشبيه العمل الباطل ببناء لا أساس له وهو معرَّض للانهيار كل لحظة، نظير قوله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ}((1))، و{شَفَا} الشفير والحافة، و{جُرُفٍ} هو جانب الوادي الذي حفر السيل تحته فلم يبق منه إلاّ الظاهر، و{هَارٖ} أصله هائر وهو المتصدع المتداعي للسقوط، و(الانهيار) هو السقوط والهوي، فكما أن البناء على هكذا أرض يذهب هدراً بانهيار البناء كذلك من كان دينه الباطل فهو يقف على حافة جهنم يسقط فيها بمجرد موته.

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} بيان أن هؤلاء ظالمون وقد فقدوا القابلية للّهداية بعنادهم فخذلهم اللّه ولم يلطف بهم وتركهم في طغيانهم يعمهون.

الخامس: قوله تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَٰنُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

كأنه تعليل لعدم هداية اللّه لهم، أي إن ما بنوا أمرهم عليه من دينهم وما بنوه من مسجد ضرار يوجب استمرارهم في النفاق، وفي التقريب: «أي ما بنوا عليه حياتهم من النفاق {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} سبباً للتزلزل والشك في قلوبهم، فإن الإنسان كيفما بنى حياته وقرّر منهجه يكون معتقده وضميره، فهم مقسّمو القلوب بين المؤمنين والكافرين، لا إلى هؤلاء ولا إلى

ص: 378


1- ([1]) سورة إبراهيم، الآية: 26.

هؤلاء»((1)).

وقوله: {إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} كناية عن أن النفاق مستمر في قلوبهم إلى حين موتهم؛ لأن تقطع القلب يوجب الموت المحتم، أو كناية عن عذاب قلوبهم في جهنم حيث حينذاك يعلمون حقيقة نفاقهم والضرر الذي لحق بهم منه.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كالتعليل لكل ما مرّ، فإن اللّه تعالى عليم بنواياهم وأفعالهم، وبحكمته نهى عن إقامة الصلاة في مسجد ضرار وأمر بهدمه وفضح المنافقين بهذه الآيات ودفع شرّهم وخطرهم.

ص: 379


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 466.

الآيتان 111-112

اشارة

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 111 التَّٰئِبُونَ الْعَٰبِدُونَ الْحَٰمِدُونَ السَّٰئِحُونَ الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ الْأمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 112}

الصنف الثامن: المؤمنون المطيعون

الصنف الثامن:

111- وهم المؤمنون المطيعون ف{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم} وذلك بأن يصرفوها في مراضيه تعالى دائماً {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الباء للمقابلة، وهذا تعبير مجازي لأنه تعالى ضمن الثواب على الطاعات فكأنه ثمنها، فمن ذلك الاشتراء: أنهم {يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا لغرض دنيوي {فَيَقْتُلُونَ} الكفّار {وَيُقْتَلُونَ} فيكونون شهداء، وثواب الجنّة وَعَدَه {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ثابتاً لا تخلّف فيه {فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ} فقد ذكر في الكتب السابقة أيضاً لأنه من الأحكام العامة التي لا نسخ فيها {وَمَنْ} استفهام تقريري للتأكيد {أَوْفَىٰ} أكثر وفاء {بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} لأنه العليم القادر أمّا غيره فقد يعجز عن الوفاء أو يجهل تحقق الشرط، وحيث علمتم بهذه المعاملة {فَاسْتَبْشِرُواْ} أظهروا الفرح {بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} لأنكم أعطيتم فانياً قليلاً وأخذتم باقياً كثيراً، مع أن النفس والمال للّه

ص: 380

تعالى أيضاً فأعطيتم ما ليس لكم وأخذتم المقابل {وَذَٰلِكَ} البيع {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}لأنه نجاة دائم.

112- ثمّ وصف اللّه أولئك المؤمنين فقال: هم {التَّٰئِبُونَ} الراجعون إلى اللّه من ذنب أو من غير ذنب {الْعَٰبِدُونَ} الذين لا يعبدون إلاّ اللّه ولا يشركون به شيئاً {الْحَٰمِدُونَ} الذين يحمدون اللّه على كل حال في الشدة والرخاء {السَّٰئِحُونَ} وهم الصائمون {الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ} الذين يواظبون على الصلوات الخمس {الْأمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} والعاملون به {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} والمنتهون عنه {وَالْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} في جميع أحكامه يأتون بها على وجهها، والمتصفون بهذه الصفات مؤمنون {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بثواب الجنّة، أمّا من قاتل ولم يتصف بهذه الأوصاف فليس بمؤمن ولا بيع وعهد معه ولا وعد له بالجنّة.

بحوث

الأوّل: لما ذكر اللّه تعالى أصناف المتخلفين أعقبه بوصف المؤمنين تمهيداً لتطبيق تلك الصفات على المجاهدين، فالمؤمنون هم الذين يطلبون مرضاة اللّه تعالى بأنفسهم فيطيعونه تعالى ولا يعصونه وبأموالهم فيؤدّون الحقوق الواجبة ولا يصرفونها في الحرام، وقد شبّه اللّه تعالى عملهم وما وعدهم بتجارة رابحة لهم، فالمشتري هو اللّه تعالى، والبائع هو المؤمنون، والمبيع هو أموالهم وأنفسهم، والثمن هو الجنّة، ووثيقة البيع هو آياته في الكتب السماوية، ثمّ يبيّن أن هذا الوعد شامل لمن استشهد ولمن بقي حياً، ثمّ يبيّن أوصاف أولئك المؤمنين المبايَعين ليخرج من قاتل لأجل الدنيا.

ص: 381

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُالْجَنَّةَ...} الآية.

هذا وصف عام لجميع المؤمنين لأن هذه الآيات تبين الصفات العامة لمختلف أصناف الناس والتي انطبقت عليهم في غزوة تبوك.

وقوله: {اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بأن يصرفوا أنفسهم وأموالهم في مرضاة اللّه تعالى، بل لعل ما يصرفونه من أموال في نفقاتهم الخاصة ومتعتهم المباحة يندرج في ما اشتراه اللّه تعالى منهم.

وقوله: {يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} استئناف لبيان المصداق المقصود بيانه في هذه الآيات وهو الجهاد.

وقوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} لبيان أن هذا الوعد ليس خاصاً بالشهداء بل يشمل حتى المجاهدين الذين رجعوا عن الجهاد سالمين غانمين.

وقوله: {وَعْدًا} مفعول مطلق للتأكيد، وفعله {اشْتَرَىٰ} لأنه يتضمن الوعد.

وقوله: {فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ} أي هذا الوعد مذكور في هذه الكتب السماوية، فإنه من الحقائق الثابتة التي لا تتغيّر بتغيّر الشرائع ولا نسخ فيها، وكأن الغرض التأكيد على الوعد حيث إنّه مذكور في مختلف الكتب السماوية.

وقوله: {وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} استفهام تقريري للتأكيد، أي لا تخشوا الجهاد مع مخاطره ولا تخشوا عدم الوفاء بالوعد؛ لأن عدم الوفاء بالوعد إمّا لخبث أو جهل أو عجز، واللّه سبحانه منزّه عن كل ذلك، فقد يَعِدُ

ص: 382

المؤمن لكنه لا يتمكن من الوفاء بوعده لأنه طرأ عليه العجز أو كان جاهلاً بعجزه أو يجهل بالتزام الآخر بما وعده.

وقوله: {فَاسْتَبْشِرُواْ} بمعنى شدة الفرح حيث يظهر الفرح على صفحات الوجه والبشرة، وكانّ المقصود بيان أن التجارة رابحة؛ إذ لعلّ البعض يحزن على نقصان ماله أو الخطر على حياته أو يستثقل ترك بعض المعاصي وامتثال بعض الأوامر، فيقال لهم: إن هذه التجارة رابحة جداً بحيث لا بدّ أن تفرحوا بها فرحاً شديداً يظهر على أسارير وجوهكم؛ وذلك لأن أنفسكم وأموالكم ليست لكم بل هي للّه ومع ذلك يشتريها منكم، كما أن الأموال والأنفس فانية فلا يبقى الإنسان حتى لو بخل بها فسيموت قريباً والأموال تنتقل إلى غيره فما هو أفضل من إعطاء القليل الفاني مقابل الكثير الباقي؟!

وقوله: {وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} مرّ أن الفوز النجاة من الهلكة، وكأن فيه بيان أنه لو لم تبايعوا لخسرتم وهلكتم.

الثالث: قوله تعالى: {التَّٰئِبُونَ الْعَٰبِدُونَ الْحَٰمِدُونَ السَّٰئِحُونَ الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ...} الآية.

لمّا ذكر في الآية السابقة مبايعة اللّه المؤمنين، بيّن في هذه الآية الأوصاف التي تجعل الإنسان مؤمناً ليكون طرفاً للبيع موعوداً بالجنّة، وهذه الأوصاف فردية واجتماعية، أمّا الفردية فهي رجوعهم إلى اللّه وعبادته وعدم الشرك به، وحمده باللسان، والامتناع عما نهى عنه، والإتيان بما أمر به، وأمّا الاجتماعيّة فهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ حدود اللّه تعالى.

ص: 383

بيان أوصافهم

1- قوله: {التَّٰئِبُونَ} التوبة هي الرجوع، فأمّا من العبد فهي الرجوع إلىاللّه وطاعته، وأمّا من اللّه تعالى فهي الرجوع بلطفه ورحمته إلى العبد، وقد تكون توبة العبد عن ذنب وقد لا تكون عن ذنب، فتوبة اللّه على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بزيادة لطفه ورحمته، ومن النبي زيادة طاعته وخشوعه، ورفع {التَّٰئِبُونَ} بالقطع وللمدح.

2- وقوله: {الْعَٰبِدُونَ} بمعنى عبادته وعدم عبادة غيره، وهذان وصفان يرتبطان بالقلب ثمّ بالعمل.

3- وقوله: {الْحَٰمِدُونَ} وصف يرتبط باللسان بمدحه تعالى والثناء عليه على كل حال سواء في الشدة أم الرخاء.

4- وقوله: {السَّٰئِحُونَ} ورد في الروايات تفسيره بالصوم، وأصل السياحة هو السير في البلاد، وفي الكشّاف: «الصائمون شبّهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم»((1))، وهذا وصف يرتبط بترك المعاصي.

5- {الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ} أي المقيمون للصلوات، وهذا وصف يرتبط بامتثالهم الواجبات.

6- {الْأمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} وصفان يرتبطان بالحالة الاجتماعيّة ممّا يرتبط بعمل غيرهم، وقد مرّ أن المعروف هو ما عرف حسنه العقل والشرع، والمنكر ما استقبحاه.

7- {وَالْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} وصف يرتبط بالحالة الاجتماعيّة ممّا

ص: 384


1- ([1]) الكشّاف 2: 314.

يرتبط بعملهم أنفسهم كإجراء الحدود والتعزيرات الشرعية.

وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} تأكيد على أن هؤلاء الموصوفين بهذه الأوصاف هم مؤمنون فالبشارة بالجنّة تشملهم.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لقي عبّاد البصري عليّ بن الحسين (عليه السلام) في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينته، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم...}! فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : أتمّ الآية، فقال: {التَّٰئِبُونَ الْعَٰبِدُونَ الْحَٰمِدُونَ...}، فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج»((1)).

ص: 385


1- ([1]) الكافي 5: 22.

الآيات 113-116

اشارة

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ 113 وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٖ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٌ 114 وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 115 إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ 116}

لما ذكر أصناف المسلمين أتبعه بذكر المشركين، وأنه كما يجب جهاد المشركين يجب التبرؤ منهم فقال:

113- {مَا كَانَ} أي لا يجوز {لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ} أي كان المشركون {أُوْلِي قُرْبَىٰ} أصحاب قرابة معهم {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ} للنبي والمؤمنين {أَنَّهُمْ} أن أولئك المشركين {أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ} إمّا بموتهم على الشرك أو بوحي من اللّه بأنهم لا يؤمنون أبداً، وأمّا قبل التبيّن فيجوز لأن الاستغفار حينئذٍ دعاء لهم بالهداية.

114- {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ} آزر وكان جدّه لأمه أو عمّه {إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٖ وَعَدَهَا} وعد آزر {إِيَّاهُ} إبراهيم (عليه السلام) حيث وعد آزر أن يؤمن فاستغفر إبراهيم له ليهديه اللّه تعالى، {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} لإبراهيم (عليه السلام) {أَنَّهُ} أن آزر {عَدُوٌّ لِّلَّهِ} معاند ومصرّ على الشرك بأن مات على الشرك أو أخبره

ص: 386

اللّه بعدم إيمانه {تَبَرَّأَ مِنْهُ} فترك الاستغفار له وإنّما كان يستغفر له قبل ذلكحيث {إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ} كثير الدعاء والتضرّع {حَلِيمٌ}.

115- {وَ} أمّا الذين كانوا يستغفرون للمشركين قبل نزول هذا الحكم فلا بأس عليهم؛ إذ {مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا} أي يحكم بضلالهم بأعمال ارتكبوها قبل الأمر والنهي {بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ} إلى الإيمان {حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} أي ما يجب عليهم أن يتركوه {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يعلم بحالهم قبل نزول الأحكام وبعده.

116- فعليكم أن ترجحوا رضا اللّه بطاعته على قراباتكم ف{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّٖ} يتولى شؤونكم {وَلَا نَصِيرٖ} ينصركم على أعدائكم.

أوصاف المشركين والتبرؤ منهم

بحوث

الأوّل: لعلّ وجه اتصال هذه الآيات بما قبلها هو أن اللّه تعالى لما ذكر أصناف المسلمين من المؤمنين والمنافقين والعصاة أتبعه بذكر المشركين لتتمّ الأقسام، أو لمّا ذكر جهاد الكفّار والغلظة عليهم وهم أحياء أتبعه بذكر حالهم وهم أموات.

فبيّن اللّه تعالى عدم جواز الاستغفار لهم بعد تبيّن أنهم أصحاب الجحيم إمّا بموتهم على الشرك وإمّا بإخبار اللّه تعالى بالطبع على قلوبهم.

ثمّ يتم الجواب عن سؤال أن إبراهيم (عليه السلام) قد استغفر لآزر وكان مشركاً؟

والجواب: أن آزر كان قد وعد إبراهيم (عليه السلام) بأن يؤمن لذا دعا إبراهيم (عليه السلام) ليهديه اللّه تعالى فيغفر له، ولا بأس بالدعاء لهداية الكافر، ثمّ

ص: 387

لمّا تبيّن لإبراهيم (عليه السلام) إصرار آزر على الشرك - إمّا لموته مشركاً أو بوحيمن اللّه بعناده - ترك استغفاره وتبرأ منه.

ثمّ يجاب عن سؤال آخر أن المسلمين كانوا يستغفرون للمشركين قبل نزول هذا الحكم فكيف شأنهم؟

والجواب: أن اللّه لا يعاقب الناس على ما ارتكبوه قبل تشريع الأحكام عليهم، وإنّما يحكم بضلالهم إذا شرّع الأحكام فعصوه.

ثمّ يعظ اللّه تعالى المسلمين بأن يرجحوا رضاه على عاطفتهم؛ إذ لا ينفعهم أقرباؤهم المشركون، حيث إنّ اللّه تعالى مالك لكل شيء ولا ولي ولا نصير من دونه.

الثاني: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَىٰ...} الآية.

قوله: {مَا كَانَ} أي لا يجوز لهم، وفي التقريب: «فإن الاستغفار أي طلب غفران اللّه لعدو اللّه لا يصح؛ إذ هو غير قابل للمغفرة، وذكر بعض المفسرين: أن بعض المسلمين قالوا للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : هل لنا أن نستغفر لآبائنا الذين ماتوا على الكفر، فنزلت هذه الآية، لكن الظاهر أن ذلك غير طلب الغفران للكافر الحيّ، بمعنى طلب هدايته من اللّه ليستحق الغفران، فإذا قال: اللّهم اغفر له، عنى: اهده ليكون قابلاً للمغفرة...، كما أن الظاهر أن الخيرات للأقارب الكفّار الذين ماتوا لا بأس بها؛ فإن ذلك موجب لتخفيف العذاب، وهو غير الاستغفار بطلب المغفرة وقد ورد بذلك أحاديث كثيرة»((1)).

ص: 388


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 470-471.

وقوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ...} علمهم به إمّا لموت ذلك الكافر على الكفرأو بوحي من اللّه أنهم لا يؤمنون، وأمّا قبل التبيّن فلا بأس بالاستغفار، وأمّا وجه عدم جواز الاستغفار لهم لأنهم أعداء اللّه تعالى ولا يصح التودّد إلى أعداء اللّه سبحانه والاستغفار نوع تودّد إليهم.

سبب استغفار إبراهيم لآزر

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٖ وَعَدَهَا إِيَّاهُ...} الآية.

في استغفاره له احتمالات:

إمّا كان دعاء ليهديه اللّه فإذا هداه غفر له ما سلف من ذنوبه.

وإمّا أنه لم يستغفر له وإنّما وعده بأن يستغفر له لو آمن، فلما تبين لإبراهيم (عليه السلام) إصرار آزر على الشرك لم يستغفر له - لأن وعده كان بشرط - بل تبرأ منه.

وإمّا كان استغفاره قبل نهيه عن الاستغفار له، والأوّل أظهر.

وقد مرّ أنه لم يكن آزر والد إبراهيم بل أطلق عليه الأب إمّا لكونه عمه أو جدّه لأمه.

وقوله: {إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٖ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} أي وعد آزر إبراهيم (عليه السلام) بالإيمان فلذا استغفر له، وقيل: وعد إبراهيم (عليه السلام) آزر بأن يستغفر له كما قال تعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٖ}((1))، وقال: {قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}((2)).

ص: 389


1- ([1]) سورة الممتحنة، الآية: 4.
2- ([2]) سورة مريم، الآية: 47.

وقوله: {عَدُوٌّ لِّلَّهِ} فالكفر عن عناد وإصرار بعد تبيّن الحق هو عداوة للّهتعالى، بل حتى لو كان عن جهل وقصور فهو عداوة له تعالى وإن عبده المشرك.

وقوله: {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وذلك بقطع الاستغفار أو بالدعاء عليه، فإن التبرء هو المزايلة والابتعاد، وهو كما يتحقق بالدعاء عليه ولعنه يتحقق بترك الاستغفار له مع تبيّن حاله.

وقوله: {أَوَّٰهٌ حَلِيمٌ} كأن هذا تعليل لاستغفاره له، و{أَوَّٰهٌ} صيغة مبالغة من أوه، والمرادكثير الدعاء، و{حَلِيمٌ} بمعنى تحمل جهل الجاهل، فرغم أن آزر كان يخاشن إبراهيم (عليه السلام) إلاّ أن إبراهيم كان يحلم عليه، ولأن إبراهيم كان كثير الدعاء استغفر له.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ...} الآية.

لا بدّ للمؤمن أن يكون مؤتمراً بأوامر اللّه تعالى منزجراً عن نواهيه فتكليفه الطاعة، فإذا لم ينزل اللّه الحكم بحرمة شيء فلا غضاضة عليه لو ارتكب ذلك الشيء، وكذا لو لم يشرع وجوب شيء فلم يفعله، وهو مثاب إن عمل بالواجب قبل نسخه، قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}((1))، وقال: {لَّوْلَا كِتَٰبٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}((2))، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْ}((3))، وكان المسلمون يستغفرون للمشركين

ص: 390


1- ([1]) سورة الإسراء، الآية: 15.
2- ([2]) سورة الأنفال، الآية: 68.
3- ([3]) سورة البقرة، الآية: 143.

قبل نزول النهي، فيقال لهم: إن اللّه لا يؤاخذكم بذلك لأنه كان قبل النهي.

وقوله: {لِيُضِلَّ قَوْمَا} أي ليحكم بضلالهم، أو يعاقبهم على تلك الأفعال بأن يخذلهم فلا يلطف بهم حتى يضلوا.

وقوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ} أي حكم بإيمانهم، أو وفّقهم إلى الإيمان.

وقوله: {حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} أي ما يرضيه عما يسخطه من أوامره ونواهيه، و{حَتَّىٰ} لانتهاء الغاية بمعنى أنه إذا بيّن لهم فخالفوا يضلّهم.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ}.

كأنه تعليل لعدم جواز الاستغفار للمشركين حتى لو كانوا أقرباء، بأنكم لماذا تستغفرون لهم، هل ليتولوا أموركم، أم لينصروكم؟ وليس لهم من ذلك شيء، بل لا ولي ولا ناصر من دون اللّه؛ إذ هو المالك لكل شيء، وفي التقريب: «إن المؤمن الذي يبيع نفسه للّه قد ربح كل شيء وإن قطع صلته بأقرب الناس إليه حتى في الاستغفار»((1)).

وقد تضمنت هذه الآية أربعة أمور: مالكية اللّه تعالى لكل شيء، وأن الحياة والموت بيده، وأن النفع منه، وأن دفع الضرر منه، والحاصل: كل شيء له وأنتم عاجزون عن كل شيء من دونه، إلاّ لو وصلتم حبلكم به فيتولى أموركم وينصركم على أعدائكم.

ص: 391


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 474.

الآيات 117-119

اشارة

{لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ 117 وَعَلَى الثَّلَٰثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 118 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ 119}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى جزاء المجاهدين والتائبين بلطفه عليهم فقال:

117- {لَّقَد تَّابَ} أي عطف ولطف {اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} من غير ذنب وإنّما زيادة لطف ورحمة {وَالْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} بطاعتهم رسول اللّه {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} اتبعوا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {فِي سَاعَةِ} أي وقت {الْعُسْرَةِ} أي الصعوبة والضيق في المسير إلى غزوة تبوك، وكانت توبته {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ} أي قرب أن ينحرف عن الثبات {قُلُوبُ فَرِيقٖ} جماعة {مِّنْهُمْ} من المهاجرين والأنصار لأجل صعوبة الموقف فأرادوا البقاء في المدينة أو بقوا لكنهم التحقوا بعد ذلك، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} بتسبيب ثباتهم {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} لذلك تاب عليهم.

118- {وَ} تاب اللّه {عَلَى الثَّلَٰثَةِ} وهم كعب وهلال ومرارة {الَّذِينَ خُلِّفُواْ} تُركوا في المدينة بإغواء الشيطان فخالفوا أمر اللّه ورسوله {حَتَّىٰ إِذَا

ص: 392

ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي بسعتها لأن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر بمقاطعتهم فلم يكلّمهم أحد {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} بالوحشة والغم الذي أصابهم {وَظَنُّواْ} أي أيقنوا {أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} أي لا مفرّ من سخط اللّه {إِلَّا إِلَيْهِ} بأن يستغفروا حتى يغفر لهم {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي عطف اللّه عليهم {لِيَتُوبُواْ} ليرجعوا إلى طاعته فإنه لا يتوب الإنسان إلاّ بتوفيق من اللّه {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ} كثير الرجوع والقبول للتوبة {الرَّحِيمُ}.

119- وحيث علمتم أن اتّباع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سبب توبة اللّه عليكم ف{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ} خافوا عقابه وذلك بالالتزام بأوامره والانتهاء عن نواهيه {وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ} معيّة عملية باتّباعهم، وهم آل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

جزاء المجاهدين والتائبين

بحوث

الأوّل: لمّا ذكر اللّه تعالى مواقف مختلف الأصناف من الجهاد بين في هذه الآيات والتي بعدها جزاء المجاهدين في سبيل اللّه تعالى وكذا الذين عصوا لكنهم ندموا وتابوا توبة حقيقية، فاللّه تعالى يعطف عليهم، وكل مشقة نالوها في طريق الجهاد وكل ما أنفقوه في سبيل اللّه يكتب لهم بذلك عمل صالح ومن ثمّ الجزاء الحسن.

ثمّ يبيّن أنه كما يجب اتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذلك يجب اتّباع الصادقين وهم آل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

الثاني: قوله تعالى: {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ...} الآية.

العبد يتوب إلى اللّه بطاعته وترك معصيته، واللّه يتوب على العبد بلطفه

ص: 393

وعنايته، وليست التوبة خاصة بالمذنب بل أعم فقد تكون توبة من غيرذنب.

ثمّ إن توبة العبد - ككل طاعة - إنّما تكون بتوفيق من اللّه تعالى، فلذا يتوب اللّه على العبد فيُوفّق العبد للتوبة إلى اللّه فيقبل اللّه توبته، فكل توبة من العبد تسبقها وتلحقها توبة من اللّه تعالى عليه.

وقوله: {تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} قيل: إنّما ذكر اسم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الافتتاح تحسيناً للكلام ولأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سبب توبتهم ولذا ورد: «لقد تاب اللّه بالنبي على المهاجرين والأنصار»((1))، وهذه التوبة الأولى حيث كانت السبب في توفيقهم للخروج إلى الجهاد.

وقوله: {وَالْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} وهؤلاء بين من تاب اللّه عليه من غير ذنب بزيادة الفضل والرحمة عليه، وبين من تاب عليه بغفران معاصيه.

وقوله: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي اتّبعوا النبي في الإيمان والجهاد، فلا تشمل الآية المنافقين الذين أرادوا اغتيال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهم في معسكر المسلمين في غزوة تبوك وقد همّوا بما لم ينالوا، فالتبعية إنّما تكون في كل شيء وليس في مجرد الخروج إلى الجهاد.

وقوله: {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} (الساعة) هي جزء من الزمان - قليلاً كان أو كثيراً - والمراد هنا مدّة غزوة تبوك من الخروج من المدينة إلى الرجوع إليها، و{الْعُسْرَةِ} أي الصعوبة والمشقة، فقد كانت عسرة من جهة المركب والزاد والماء والنفقة والحر والتعب وخوف الأعداء وغير ذلك.

ص: 394


1- ([1]) مجمع البيان 5: 196.

وقوله: {يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ} زيغ القلب انحرافه عن الحق، حيثأراد بعضهم البقاء في المدينة أو بقوا لفترة قصيرة لكن حملوا أنفسهم والتحقوا بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قصة توبة المتخلفين الثلاثة

وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} هذه توبة ثانية وكأنها خاصة بالذين كادت قلوبهم أن تزيغ ممّا سببت لهم الثبات وعدم اتّباع زيغ القلب، فالضمير في {عَلَيْهِمْ} للفريق الذي كاد أن يزيغ قلوبهم.

الثالث: قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَٰثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ...} الآية.

أي تاب اللّه على ثلاثة أشخاص من الذين عصوا اللّه ورسوله فلم يخرجوا إلى تبوك لكنهم ندموا على فعلتهم، وقد أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمقاطعتهم اجتماعياً، فخرجوا إلى خارج المدينة نادمين مستغفرين مستقيلين عثرتهم، فعن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) : «أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا توجّه إلى غزاة تبوك تخلّف عنه كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الرافعي، تخلّفوا عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أن يتحوَّجوا ويلحقوه، فلهوا بأموالهم وحوائجهم عن ذلك، وندموا وتابوا، فلما رجع النبي مظفّراً منصوراً أعرض عنهم، فخرجوا على وجوههم وهاموا في البريّة مع الوحوش وندموا أصدق ندامة، وخافوا أن لا يقبل اللّه توبتهم ورسوله لإعراضه عنهم، فنزل جبرئيل (عليه السلام) فتلا على النبي، فأنفذ إليهم من جاء بهم، فتلا عليهم وعرّفهم أن اللّه قد قبل توبتهم»((1))، وفي تفسير القمي عن أحد

ص: 395


1- ([1]) البرهان في تفسير القرآن 4: 573.

الثلاثة - وهو كعب - قال: «فلما وافى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استقبلناه نهنئه بالسلامة، فسلّمنا عليه فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا، وسلّمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام، فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا، وكنا نحضر المسجد فلا يسلّم علينا أحد ولا يكلّمنا...، فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حلّ بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلّمنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا إخواننا ولا أهلونا فهلمّوا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب اللّه علينا أو نموت...» الخ((1)).

وقوله: {الَّذِينَ خُلِّفُواْ} أي لم يكن تخلّفهم عن سبب مشروع بل عن مخالفة، والذي خلّفهم الشيطان، وما ورد في قراءته ب(خالفوا)((2)) فلعلّ المراد به التفسير.

وقوله: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} حيث قاطعهم الرسول والناس وأهلوهم، ومن كان كذلك يشعر بضيق الأرض عليه مع أنها وسيعة، فالشعور بالضيق نفسي.

وقوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} كناية عن شدة الغم والوحشة، وروي أنهم حلفوا أن لا يكلّم بعضهم بعضاً((3)).

وقوله: {وَظَنُّواْ} الظن هنا بمعنى اليقين، ولعل استعمال الظن هنا باعتبار المتعلّق لأنهم كانوا يحتملون أن لا يقبل اللّه توبتهم، فكانوا يعلمون أنه لا ملجأ إلاّ إلى اللّه لكن من غير يقين بقبوله لهم.

ص: 396


1- ([1]) راجع التفصيل في تفسير القمي 1: 296؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 471-472.
2- ([2]) مجمع البيان 5: 192.
3- ([3]) راجع تفسير القمي 1: 298.

وقوله: {مِنَ اللَّهِ} أي من سخطه عليهم بتركهم الجهاد.

وقوله: {إِلَّا إِلَيْهِ} بأن يتوبوا إليه ويستغفروه حتى يرضى عنهم.

وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} أي لمّا علم اللّه تعالى صدق نياتهم عطف عليهم بعد إعراضه عنهم وبذلك وُفّقوا إلى التوبة.

فحاصل الآية أنّ هؤلاء ضاقت عليهم الأرض وأنفسهم فعطف اللّه عليهم بأن وفقهم للتوبة فتابوا فقبل اللّه توبتهم.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تعليل لتوبته عليهم.

الكون مع الصادقين (عليهم السلام)

الرابع: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}.

لما ذكر اتّباعهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ساعة العسرة أمرهم باتّباع الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) في هذه الآية قال: «الصادقون هم الأئمة والصديقون بطاعتهم»((1))، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «مع علي بن أبي طالب»((2))، وعنه (عليه السلام) : «مع آل محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »((3))، وغيرها روايات كثيرة.

والمعيّة هنا بمعنى الاتّباع في كل شيء من العقائد والأقوال والأفعال، وليس المراد المعيّة في المكان، ولا المراد مجرد الانضمام والعمل كعملهم ولو كان المقصود ذلك لقال: وكونوا من الصادقين.

ثمّ إن اللّه لا يأمر باتّباع من يحتمل صدور المعصية عنه اتّباعاً مطلقاً، بل إذا أمر باتّباعه فإنّما يأمر بذلك مادام على طاعة اللّه؛ إذ لا طاعة لمخلوق

ص: 397


1- ([1]) الكافي 1: 208.
2- ([2]) أمالي الشيخ الطوسي: 255.
3- ([3]) مجمع البيان 5: 199.

في معصية الخالق، فإذا أمر اللّه بإطاعة شخص أو جماعة إطاعة مطلقة وفي كلالحالات دلّ ذلك على عصمتهم وعدم احتمال صدور المعصية أو الخطأ عنهم أبداً، وفي هذه الآية الأمر بالكون مع الصادقين مطلق شامل لكل الحالات والأزمنة، فدلّت الآية على عصمة هؤلاء الصادقين، وقد اتفقت الأمة على عدم عصمة أحد من الصحابة والتابعين، ولم يدّع أحد من الأمة عصمة أحد إلاّ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، فتنطبق الآية عليهم، ولولا ذلك لم يوجد مصداق للصادقين المذكورين في الآية.

وعن المحقق الطوسي: «وجه الاستدلال بها أن اللّه أمر كافة المؤمنين بالكون مع الصادقين، وظاهر أن ليس المراد به الكون معهم بأجسادهم، بل المعنى لزوم طرائقهم ومتابعتهم في عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم، ومعلوم أن اللّه لا يأمر عموماً بمتابعة من يعلم صدور الفسق والمعاصي عنه مع نهيه عنها، فلا بدّ أن يكونوا معصومين لا يخطؤون في شيء حتى تجب متابعتهم في جميع الأمور، وأيضاً اجتمعت الأمة على أن خطاب القرآن عام لجميع الأزمنة لا يختص بزمان دون زمان فلا بدّ من وجود معصوم في كل زمان ليصح أمر مؤمني كل زمان بمتابعتهم»((1)).

ص: 398


1- ([1]) بحار الأنوار 24: 33؛ وراجع كشف المراد: 503؛ والقول السديد: 353.

الآيتان 120-121

اشارة

{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَُٔونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّٖ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَٰلِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 120 وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 121}

ثمّ بعد التوبة يأتي ذكر ثواب العمل بعدم التخلف فقال:

120- {مَا كَانَ} لا يحق وهو خبر يراد به النهي {لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ} خصّهما بالذكر لتوجيه الأمر بالجهاد إليهم غالباً {أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ} فلا يخرجوا معه إلى الجهاد {وَلَا} يحق لهم أن {يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي يؤثروا أنفسهم عليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يطلبوا الراحة والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مشقة {ذَٰلِكَ} النهي عن التخلف والرغبة {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} عطش {وَلَا نَصَبٌ} تعب {وَلَا مَخْمَصَةٌ} جوع شديد {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فالثواب لمن قصد القربة لا من قصد الدنيا {وَلَا يَطَُٔونَ} يضعون أقدامهم بمعنى لا يدخلون {مَوْطِئًا} موضعاً من بلاد العدو حيث {يَغِيظُ الْكُفَّارَ} والغيظ أشد الغضب {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّٖ نَّيْلًا} أي لا يصيبون الأعداء أمراً من قتل أو غنيمة منهم أو أسر ونحوها {إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ} بما أصابهم وما نالوه {عَمَلٌ صَٰلِحٌ} طاعة

ص: 399

مقبولة، وسبب الكتابة{إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ} لا يهلك ولا يفني بل يبقي وينمي {أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا بالجهاد ومكابدة صعوباته.

121- {وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} أي قليلة أو كثيرة {وَلَا يَقْطَعُونَ} يعبرون {وَادِيًا} أرضاً {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} وإنّما يكتب {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جزاءً أحسن من أعمالهم.

ثواب المجاهدين وأصناف أعمالهم

بحوث

الأوّل: بعد أن ذكر اللّه تعالى توبته على المجاهدين وعلى الثلاثة، يذكر ثوابه لهم بأن يكتب كل أعمالهم التي عملوها في سبيل اللّه تعالى ليجزيهم بأحسن الجزاء، لكن ذلك بعد أن أمرهم بالطاعة ونهاهم عن التخلّف وترجيح الراحة.

وقد ذكر اللّه تعالى أصنافاً من أعمالهم، فمنها: صعوبات في أبدانهم كالعطش والجوع والتعب، ومنها: إيقاعهم بالعدو كدخول أراضيه وإغاظته والنيل منه، ومنها: إنفاقهم في الجهاد قليلاً كان أو كثيراً، ومنها: سائر أعمالهم التي كانت مقدمة للجهاد كالسفر وعبور الصحاري، كل ذلك مكتوب مثاب عليه بشرط أن يكون في سبيل اللّه.

وأمّا الثواب فهو أحسن من عملهم كما سيأتي.

الثاني: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ...} الآية.

{مَا كَانَ} خبر يراد به الإنشاء أي لا يحق لهم ولا يجوز، والآية عامة لكل سفر كما لو أمرهم بالحج معه إلاّ أن شأن نزولها وسياقها الجهاد، بأن

ص: 400

يخرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الجهاد ويبقوا خلفه في موطنهم.

وغير خفي أن الحكم عام لجميع المسلمين إلاّ أن تخصيص أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب بالذكر لأن أكثر أوامر الجهاد تتعلق بهم، وأمّا غيرهم فقليلاً ما كانوا يؤمرون به، وهذا طبيعي لأن المدينة هي العاصمة ولأن إخراج هؤلاء حين خروج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسهل وأقلّ كلفة ومؤونة، أو لأن الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا من هؤلاء فلذا توجه الكلام إليهم لئلّا يكرّروا فعلتهم.

وقوله: {وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} يقال: رغب عنه إذا أعرض عنه ولم يُرده، والباء سببيّة، والمعنى لا يرجحوا أنفسهم على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يكابد الرسول الصعاب والمشقّات وهم في راحة ورفاهية، بل عليهم أن يواسوه بل يدفعوا عنه الصعاب بتحملهم لها، وذلك لعظيم حقه عليهم فهو الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن اللّه تعالى، كما أنه أعزّهم وأمكنهم وأغناهم بالإسلام.

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

بيان سبب النهي عن التخلّف وعن الرغبة، بأن العمل عمل صالح وإحسان واللّه يجازي عليه فعليهم أن لا يتركوه.

ثمّ إن تلك الأعمال أنواع ذكرها اللّه تعالى في هذه الآية والآية التي تليها وهي:

1- قوله: {ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ} صعوبات في البدن، والظمأ هو

ص: 401

العطش، قيل: هو عطش ناشئ من قلة الماء أو عدم وجدانه، كما أن المخمصة جوع ناشئ من قلة الطعام، وأصل الخمص بمعنى ضمور البطن، والنصب هو العناء والإعياء ويدل على شدة التعب.

2- قوله: {وَلَا يَطَُٔونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} الوطء هو وضع الأرجل على الشيء، والموطئ هو الأرض توطأ بالأقدام والحوافر، والمراد دخول أراضي العدو وإغاظته بذلك، أو عموم الكفّار حيث كل تقدم من المسلمين يغيظهم، والغيظ أشد الغضب.

3- وقوله: {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّٖ نَّيْلًا} نال منه بمعنى أصابه بما يزعجه سواء بكلام أم فعل، والمراد هنا إصابة العدو بالقتل والأسر والغنيمة منه ونحو ذلك.

ولا يخفى لطف الترتيب بين هذه الثلاثة، فأوّلاً يتحركون للجهاد بصعوباته البدنية، ثمّ يغيظون الكفّار، ثمّ يقاتلونهم ويصيبونهم.

وقوله: {كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَٰلِحٌ} أي كل ذلك عمل صالح وهو مكتوب مذخور، فلماذا التخلّف؟!

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} تعليل للكتابة، وبيان أنهم محسنون بأعمالهم هذه، ولطف اللّه وفضله ورحمته سبب جزائهم، فلا تذهب أعمالهم هباءً منثوراً.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ...} الآية.

4- قوله: {نَفَقَةً} أي ما ينفقونه في فترة خروجهم إلى رجوعهم، ثمّ إنه

ص: 402

لم يذكر هنا في سبيل اللّه ولعل ذلك للتعميم لما ينفقونه على أنفسهم من مأكل وملبس ونحوهما فقد لا يقصد به الإنسان القربة لكن اللّه بفضله يكتبه لهم ويجازيهم عليه، ولعلّه لذلك لم يقل إنه عمل صالح، عكس الأمور الثلاثة المذكورة في الآية السابقة فأن يأكل الإنسان طعاماً إنّما هو لحاجته وللذّته ولدفع ألم الجوع عنه فلا يعبّر عنه بأنه عمل صالح، لكن اللّه تعالى بفضله يكتبه لهم ويجزيهم عليه.

5- وقوله: {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا} الوادي هو المنخفض بين المرتفعات ويكون مسيلاً عادة، ثمّ استعمل في كل صحراء وبَرّ، فالمعنى أن في سفرهم أجراً حتى لو لم يكن فيه تعب.

وقوله: {أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي إنّما يكتبها ليجزيهم عليها، وهو إمّا بمعنى أحسن الجزاء على عملهم، أو يجزيهم على أحسن أعمالهم، أو يجزيهم أحسن من أعمالهم لأن اللّه يضاعفها، أو هذا تعبير يتضمن غفران ذنوبهم أيضاً لأن الطاعات أحسن الأعمال والمعاصي أسوؤها فلا يجازيهم اللّه إلاّ على الطاعات التي هي أحسن أعمالهم أمّا الأسوء فيغفرها لهم، واللّه العالم.

ص: 403

الآية 122

اشارة

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ 122}

النفر لطلب العلم

وحيث أمر اللّه الجميع بالجهاد استثنى منهم المتفقّهين فقال:

122- {وَمَا كَانَ} خبر يراد به النهي {الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ} ليخرجوا إلى جهاد العدو {كَافَّةً} جميعاً {فَلَوْلَا} حث وتحريض {نَفَرَ} خرج مسرعاً إلى المدينة {مِن كُلِّ فِرْقَةٖ} الجماعة الكثيرة {مِّنْهُمْ} من المؤمنين المجاهدين {طَائِفَةٌ} جماعة قليلة {لِّيَتَفَقَّهُواْ} ليفهموا بدقة {فِي الدِّينِ} من عقائد وأحكام وأخلاق وكل ما يرتبط بالدين {وَلِيُنذِرُواْ} ليخوّفوا بعذاب اللّه {قَوْمَهُمْ} وهم النافرون للجهاد {إِذَا رَجَعُواْ} من المدينة بعد تفقههم {إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ} لعلّ قومهم {يَحْذَرُونَ} أي يتجنبون عمّا أنذروا فيه.

بحوث

الأوّل: ظاهر السياق ارتباط هذه الآية بما قبلها، فإن اللّه تعالى لمّا أمر الجميع بالجهاد استثنى منهم جماعة قليلة لكي لا يخرجوا إلى الجهاد بل ليخرجوا إلى طلب العلم، حيث إنه أهم من جهاد المجاهدين فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إذا كان يوم القيامة جمع اللّه عزّ وجلّ الناس في صعيد واحد، ووضعت الموازين فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء،

ص: 404

فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء»((1)).

فهؤلاء لا يجب عليهم الجهاد لانشغالهم بالأهم، وإنّما يجب الجهاد على الباقين إمّا بنحو الفرض العيني إذا لم يوجد من فيه الكفاية، وإمّا الفرض الكفائي إذا لم يكن حاجة لجميعهم، والحاصل: أن وجوب الجهاد - عينياً أو كفائياً - مرفوع عن الذين ينفرون إلى طلب العلم بالدين، ثمّ بعد ذلك عليهم أن يرجعوا إلى قومهم النافرين للجهاد فيعلّمونهم ما تعلّموه؛ لأن الغرض من الجهاد إعزاز الدين ونشره ولا نفع في الجهاد مع جهل الناس بالدين وانحرافهم عنه.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ...} الآية.

أي لا يستقيم الأمر بخروج الجميع للجهاد، وقيل: الآية مستقلة لا ارتباط لها بما قبلها، بل بيان مطلب آخر أي كما يجب النفر للجهاد كذلك يجب النفر لطلب العلم لكن لا يجب ذلك على جميع المؤمنين بل على القليل منهم، وقيل غير ذلك، وما ذكرناه أنسب بالسياق وأوفق بعدم الحذف والتقدير.

وقوله: {لِيَنفِرُواْ} اللام لتقوية النفي في {مَا كَانَ} فهي للتأكيد.

وقوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ} قد مرّ أن النفر هو الخروج مسرعاً والمراد هنا الخروج لطلب العلم كما أن {لِيَنفِرُواْ} هو الخروج للجهاد.

وقوله: {فِرْقَةٖ} الفرقة هي الجماعة المستقلة عن الناس ولا تطلق إلاّ على الجماعة الكثيرة كالقبيلة ونحوها.

ص: 405


1- ([1]) من لا يحضره الفقيه 4: 398.

وقوله: {طَائِفَةٌ} في المقاييس: «ولا تكاد العرب تحدّها بعدد معلوم... ولا يكاد هذا يكون إلاّ في اليسير»((1))، وأمّا تحديدها بالثلاثة والعشرة والواحد ونحو ذلك فهي اصطلاحات متأخرة.

الغرض من النفر

ثمّ ذكر اللّه تعالى ثلاثة أغراض:

1- قوله: {لِّيَتَفَقَّهُواْ} الفقه «هو العلم بمقتضى الكلام على تأمّله ولذا لا يقال: إن اللّه يفقه لأنه لا يوصف بالتأمل، وتقول لمن تخاطبه: تفقّه ما أقوله، أي تأمّله لتعرفه»((2))، وباب التفعل يدل على مشقة ومكابدة.

وقوله: {فِي الدِّينِ} كل ما يرتبط به سواء من عقائد أم أحكام أم أخلاق أم غيرها، ثمّ اصطلح الفقه على الأحكام الشرعية والتفقّه على تعلّمها لكنه اصطلاح المتشرعة.

2- وقوله: {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} الإنذار هو إخبار فيه تخويف.

وفي تفسير الصافي: «فيه دلالة على أنه ينبغي أن يكون غرض المتفقه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد»((3)).

وقوله: {إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} يدل على أن إنذار قومهم إنّما يجب إن رجعوا إليهم، فإن ذهبوا إلى غيرهم أو استقروا في المدينة فلا، ويمكن أن يقال: إن فيه إشعاراً بأنه ينبغي لهم الرجوع إلى قومهم.

3- وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} الحذر هو الاحتراز عن الشيء المخيف، وفيه دلالة على وجوب قبول قومهم لكلامهم، فهو ترجّي يراد به الأمر،

ص: 406


1- ([1]) مقاييس اللغة: 604.
2- ([2]) معجم الفروق اللغوية: 412.
3- ([3]) تفسير الصافي 3: 483.

واستعمال (لعلّ) لأجل أن البعض يعصي ولا يحذر، أو للدلالة على محبوبية الحذر، و(لعلّ) في أمثال هذه الموارد للدلالة على الوجوب، وفي هذه الآية بحوث متعددة ذكرها علماء الأصول، وقد ذكرنا طرفاً منها في كتاب نبراس الأصول((1))، فراجع.

الثالث: ورد في روايات كثيرة تطبيق هذه الآية على مسألة من مسائل أصول الدين وهي معرفة الإمام بشخصه((2))؛ إذ إن الإمامة ومعرفة الأئمة (عليهم السلام) بأشخاصهم من أصول الدين فإنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية - كما رواه الفريقان بأسناد كثيرة((3)) - وميتة الجاهلية هي ميتة شرك وكفر.

منها: سأل محمّد بن مسلم الإمام الصادق (عليه السلام) : «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : أفيسع الناس إذا مات العالم ألاّ يعرفوا الذي بعده؟ فقال: أمّا أهل هذه البلدة فلا - يعني المدينة - ، وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم إن اللّه يقول: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً...}((4)) الآية، قال: قلت: أ رأيت من مات في ذلك؟ فقال: هو بمنزلة: مَن خرج {مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}...((5))»((6)).

ص: 407


1- ([1]) نبراس الأصول، للمؤلّف 3: 348-359.
2- ([2]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 579-584.
3- ([3]) من مصادر الشيعة راجع الكافي 1: 376؛ كفاية الأثر: 296؛ كمال الدين 2: 409؛ دلائل الصدق، المقدمة: 31؛ ومن مصادر غيرهم مسند أحمد 4: 96.
4- ([4]) سورة التوبة، الآية: 122.
5- ([5]) سورة النساء، الآية: 100.
6- ([6]) الكافي 1: 379.

الآيات 123-127

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ 123 وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ 124 وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ 125 أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ 126 وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَىٰكُم مِّنْ أَحَدٖ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ 127}

ثمّ في ختام السورة يبيّن اللّه تعالى كيفية القتال مع الكفّار وحال المنافقين والمؤمنين ويصف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال:

123- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم} يقربونكم في الأرض {مِّنَ الْكُفَّارِ} لكي تأمن بلاد الإسلام ولتتصل بعضها ببعض ولا يكون في وسطها عدو يخشى منه {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي شدة وذلك بالإقدام والصبر على القتال وبإجادة الضراب قتلاً وأسراً وغنماً وليس بالغدر والمثلة ولذا أتمّه بقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} معية نصرة، وهذا وعد بالنصر بشرط التقوى.

124- {وَ} لكن المنافقين ينزعجون من الآيات وخاصة آيات الجهاد ف{إِذَا مَا أُنزِلَتْ} «ما» للتأكيد {سُورَةٌ} في الجهاد {فَمِنْهُم} من المنافقين

ص: 408

{مَّن يَقُولُ} مستهزءاً ومنكراً: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ} السورة {إِيمَٰنًا}؟ وأجابهم اللّهتعالى بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} إيماناً حقيقياً بأن كانوا على يقين من دينهم {فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا} إذ ازدادوا علماً وطاعة {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون فرحاً يظهر على وجوههم؛ وذلك لعلمهم بزيادة كرامة اللّه وثوابه لهم.

125- {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} بأن لم تؤمن قلوبهم {فَزَادَتْهُمْ} تلك السورة النازلة {رِجْسًا} شكاً ونفاقاً {إِلَىٰ رِجْسِهِمْ} الذي كانوا عليه قبل نزولها {وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ} بإصرارهم على كفرهم ونفاقهم، والحاصل: أن ما أنزله اللّه تعالى لم ينفعهم لرجس أنفسهم.

126- كما لم تنفعهم سائر الآيات التي يرونها: {أَوَلَا يَرَوْنَ} الاستفهام للإنكار أي لماذا لا يرى المنافقون {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} يمتحنون بأمرهم بالجهاد والغزوات {فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} حيث ينصر اللّه المسلمين وتظهر آياته ويفضح اللّه المنافقين فيها {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} عن نفاقهم {وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} نِعم اللّه وآياته، والتوبة عمّا مضى، والتذكر لما سيأتي.

127- {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} كما تزداد قلوبهم رجساً كذلك عملهم ف{نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ} أي يتغامزون بينهم ليخرجوا ولا يستمعوا للسورة لأنهم لا يطيقون سماعها، ويقصدون بذلك النظر: {هَلْ يَرَىٰكُم مِّنْ أَحَدٖ} من المؤمنين؟ {ثُمَّ} لما علموا بأن لا أحد يراهم {انصَرَفُواْ} عن مجلس تلاوة السورة وهم بحال نفاقهم الأوّل وزيادة {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} دعاء عليهم أو إخبار بأن اللّه ختم عليها {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} لا يفهمون الآيات فيعاندون، لذلك طبع اللّه على قلوبهم ولم يلطف بهم جزاءً

ص: 409

على عملهم.

كيفية قتال الكفّار

بحوث

الأوّل: كأن هذه الآيات إلى آخر السورة هي كالخاتمة، حيث ذكرت الكفّار والمنافقين وذكرت المؤمنين وذكرت وصف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأمّا الكفّار فقد بين اللّه تعالى كيفية مقاتلتهم بالبدء بالأدنى وبالغلظة، وأمّا المنافقون فلا تنفعهم السور النازلة ولا الآيات التي يشاهدونها في كل عام مرّة أو مرتين، بل السور النازلة زادتهم رجساً بحيث لا يطيقون سماعها، وأمّا المؤمنون فكل سورة تنزل تزيدهم إيماناً وسروراً، وأمّا وصف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسيأتي لاحقاً.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ...} الآية.

تضمنت الآية ثلاثة أحكام في مقاتلة الكفّار:

1- قوله: {الَّذِينَ يَلُونَكُم} أي قاتلوا الأقرب فالأقرب مكاناً؛ إذ لا يصح الانتقال إلى الأبعد وترك الأقرب يكيد بالإسلام والمسلمين، بل تأمين بلاد الإسلام يستدعي تأمين الأطراف، لئلّا تبقى جيوب للكفّار في وسط بلاد المسلمين بحيث يمكن أن يتحركوا في حال غياب المجاهدين إلى المناطق البعيدة، وكلّما فتحت البلاد القريبة سهل جهاد المناطق التي تليها والتي كانت الأبعد قبل فتح القريبة.

2- وقوله: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي شدة، والمقصود الإقدام على القتال والثبات عليه من جهة وإجادة القتال بإثخانهم قتلاً ثمّ أسراً وغنماً؛

ص: 410

وذلك لاستئصال شأفة الكفّار لئلّا يتمكنوا من جمع فلولهم والعود لقتال المسلمينمرّة أخرى.

3- وقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} حث على التقوى في القتال ووعد بالنصر؛ وذلك لأن المقاتلين عادة يستولي عليهم الغضب والانتقام فيفتكون ويمثلون ويقتلون النساء والأطفال وغير ذلك من الجرائم الشنيعة التي ترتكب في الحروب عادة فيأمرهم اللّه تعالى بمراعاة التقوى وأنه ينصرهم إن اتقوا، وفي التقريب: «فلا تتركوا التقوى كما لا يرعوي المحاربون إذا فتحوا البلاد من كل إثم وشناعة، فإن الإسلام جاء محرِّراً لا فاتحاً، فليس للجيوش الإسلامية أن تفعل ما تشاء إذا غلبت، وقد زجر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بلالاً حين رأى من بعض النساء اليهوديات من أهل خيبر تغيّراً، فسألهن ما بالهن؟ فلمّا أجبن بأن بلالاً مرّ بهن على مصارع قتلاهن يعني يهود خيبر، قال الرسول لبلال زاجراً: كأنّ اللّه نزع الرحمة من قلبك»((1)).

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ} إلى قوله: {وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}.

الظاهر أن المقصود سورة في الجهاد، ويمكن تعميمه لسائر السور في الأحكام وغيرها، وفي التقريب: «فإن المنافق إذا أنزلت سورة تريب نفسه وتحمل السورة إلى محامل بعيدة عن الحقيقة والواقع ليثلج صدره بالتكذيب، وطبق ما في نفسه يطفح كلام مريب على لسانه فيتسائل ممّن

ص: 411


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 484.

حوله عن وقع السورة في نفوسهم حتى يرتب الأثر، فإن جذبت السورة ناساًردّهم، وإن لم تجذبهم يزيدهم ريباً وشكاً، أمّا حركته فإنه ينزعج من الحضور في مجلس تتلى السورة فيه لأن قلبه لا يميل إليهم ولا إليها إذن فلينصرف عن المجلس متسلّلاً حتى لا يعلم نفاقه ويستريح إلى أقرانه»((1)).

وقوله: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا} لزيادة يقينهم وطاعتهم، فينضمّ ما علموه وما أطاعوا به إلى يقينهم وطاعاتهم السابقة، وتدل الآية على أن الإيمان درجات فيمكن أن يزيد وأن ينقص، فاليقين - باعتبار منشئه ومتعلقاته - يزيد وينقص، والطاعة تزداد كلما امتثل الإنسان الأحكام.

وقوله: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي يفرحون بما يظهر على أسارير وجوههم كما مرّ؛ وذلك لأنهم يجدون طاعة جديدة تزداد بها درجتهم وكمالهم وقربهم إلى اللّه تعالى، فإن من وجد في نفسه انزعاجاً من الأحكام الشرعية ليس بكامل الإيمان، قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}((2)).

وقوله: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي انحراف فإنه مرض في القلب وهذا المرض يزداد حتى يتحول إلى نفاق، ولذا قد يعبّر عن المنافقين بأنهم في قلوبهم مرض، وقد يعطف أحدهما على الآخر كقوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}((3)).

ص: 412


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 484.
2- ([2]) سورة النساء، الآية: 65.
3- ([3]) سورة الأحزاب، الآية: 12.

وقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ} الرجس القذارة، والمراد هنا الشك،فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «شكاً إلى شكّهم»((1))، كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}((2)).

ثمّ إن اللّه تعالى قابل في الأوصاف بين الطائفتين، فأولئك هم الذين آمنوا وهؤلاء هم الذين في قلوبهم مرض، وأولئك زادتهم إيماناً، وهؤلاء زادتهم رجساً، وأولئك يستبشرون بالطاعة والثواب، وهؤلاء - كما سيأتي - نظر بعضهم إلى بعض وانصرفوا.

الرابع: قوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}.

استنكار عليهم بأن اللّه هيّأ وسيلة هدايتهم لكنهم رفضوها، وذلك بما يرونه من آيات اللّه تعالى في الغزوات المختلفة، حيث ينصر اللّه رسوله والمؤمنين ويخبرهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أمور من الغيب أوحاها اللّه إليه وغيرها من الآيات.

وقوله: {يُفْتَنُونَ} أي يُمتحنون حيث إن غالب المسلمين كان يأمرهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاشتراك في الغزوات والسرايا كل عام، وقد مرّ أن الفتنة هي الإلقاء في النار، وقد يلقى الذهب فيه ليصفو عن الغش الذي فيه، فكانت تلك الغزوات خير وسيلة لتطهير قلوبهم لكنهم رفضوا ذلك التطهير.

قوله: {مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} أي تارة كان يجب عليهم الجهاد مرّة في السنة

ص: 413


1- ([1]) تفسير العياشي 2: 118؛ وتفسير القمي 1: 308.
2- ([2]) سورة الأسراء، الآية: 82.

وتارة مرتين، أو بعضهم كان يجب عليه مرّة وبعضهم مرتين.

والحاصل: لا السور النازلة نبّهتهم ولا الآيات التي شاهدوها في الغزوات نفعتهم.

وقوله: {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} عن نفاقهم وكفرهم وهذا يرتبط بما مضى منهم.

وقوله: {وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتذكرون نعم اللّه وآياته ودلائله وهذا يرتبط بما كان يجب عليهم فعله بعد مشاهدة الآيات.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَىٰكُم مِّنْ أَحَدٖ...} الآية.

لعلّه لما ذكر في الآية 124 أن المؤمنين يستبشرون بنزول السورة، أراد أن يبيّن أن المنافقين ينزعجون من نزولها ويظهر ذلك الانزعاج في أعمالهم.

ويمكن أن تكون هذه الآية تتمة للآيتين 124-125 فقد ذكر فيهما قولهم وما في قلوبهم وأمّا هذه الآية فقد ذكرت فعلهم، وإنّما كرّر قوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} لطول الفصل فكان لا بدّ من التكرار ليعلم ارتباط الجزاء بالشرط.

وقوله: {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ} أي تغامز بعضهم مع بعض ومقصودهم من ذلك التغامز هو ما قاله: {هَلْ يَرَىٰكُم مِّنْ أَحَدٖ} أي إنهم يريدون الخروج من مجلس تلاوة السورة لكن لا يصرّحون بذلك مخافة افتضاحهم فلذا يتفاهمون بالإشارة، أو لعلّ السورة النازلة كانت في الجهاد فأرادوا الفرار من الطاعة بالخروج خفية.

ص: 414

وقوله: {ثُمَّ انصَرَفُواْ} أي تسلّلوا من مجلس التلاوة حينما اطمأنوا بأنه لايراهم أحد، ونظيره قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}((1)).

وقوله: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} دعاء عليهم بأن يصرف اللّه قلوبهم عن الإيمان فلا يؤمنوا أبداً حتى يروا العذاب الأليم جزاءً على نفاقهم وعصيانهم، ويمكن أن يكون خبراً بأن اللّه قد ختم على قلوبهم.

وقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} تعليل للدعاء أو الإخبار بصرف اللّه قلوبهم، فهم لا يتدبرون ولا يتفكرون في القرآن ولذا أغلقوا على أنفسهم الفهم فعاندوا فطبع اللّه على قلوبهم.

ص: 415


1- ([1]) سورة النور، الآية: 63.

الآيتان 128-129

اشارة

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ 128 فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 129}

لمّا ذكر كلاً من المؤمنين والمنافقين والكفّار ختم السورة ببيان وصف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن جهاده ليس إلاّ لمصلحة الناس فقال:

128- {لَقَدْ جَاءَكُمْ} أيها الناس {رَسُولٌ} من اللّه تعالى هو {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنس البشر لا الملائكة والجن، وهذان وصفان حول ارتباطه باللّه وبالناس {عَزِيزٌ} أي صعب {عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} «ما» مصدرية أي عَنَتكم وهي المشقة التي يضيق بها الصدر {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} الحرص هو شدة الرغبة أي حريص على سعادتكم وهذا بالنسبة إلى عامة الناس، وهذان وصفان يرتبطان بصفاته النفسانية {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} والرأفة شدة الرحمة، ولذا فعليكم اتّباعه، وهذان وصفان يرتبطان بصفاته العملية.

129- {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عنك وعن الإيمان {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي يكفيني، فالنبي لا يحتاج إلى إيمان أحد بل يريد إسعاد الناس، وإنّما حسبي اللّه إذ {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فلا شريك له أرجوه وأخافه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اعتمدت في أموري {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ} أي الملك {الْعَظِيمِ} لأن كل شيء ملكه

ص: 416

ومن اعتمد عليه فلا يخشى أحداً حتى لو أعرض عنه الجميع.

بحوث

الأوّل: بعد أن ذكر حال المؤمنين والكفّار والمنافقين بيّن اللّه تعالى أوصاف رسوله، ولعل ذلك لأن السورة مليئة بالأمر بجهاد الكفّار والمنافقين وفيها أحكام شديدة وعبارات غليظة والمنفّذ لذلك كلّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأراد اللّه بيان أن ما يفعله الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّما هو لمصلحة الناس فهو لا يريد شقاوتهم بل يريد سعادتهم، لكن الكثير من الناس لشقائهم يرفضون ذلك، وهو لا يضر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً لأن اللّه ناصره ولا أحد يعارض اللّه في ملكه.

أوصاف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

الثاني: قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.

الآية تتضمن الأمر باتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتشتمل على الدليل في قالب بيان صفات الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمنها: ارتباطه باللّه وبالناس، ومنها: صفاته النفسية، ومنها: صفاته العملية، وقد ذكرت لكل واحد منها نموذجين:

1- قوله: {رَسُولٌ} أي هو رسول من اللّه تعالى لكم فلا بدّ من اتّباعه.

2- وقوله: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من جنسكم أيها البشر، فأنتم تعرفونه وتعرفون تاريخه وماضيه لأنه ولد ونشأ فيكم، فرأيتم منه الصدق وعلو المرتبة والخصال الحميدة والتنزه عن الرذائل الأخلاقية والعملية، كما يمكنكم التأسي به فليس هو من الجن أو الملائكة التي تختلف خلقتهم عنكم فلا تتمكنون من الاقتداء بهم.

ص: 417

3- وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يصعب عليه وقوعكم في المشقة، وفي مجمع البيان: «والعزة: امتناع الشيء بما يتعذر معه ما يحاول منه، وهو على ثلاثة أوجه: امتناع الشيء بالقدرة أو بالقلة أو بالصعوبة، والعنت: لقاء الشدة والأذى الذي يضيق به الصدر»((1)).

4- وقوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} الحرص هو شدة الرغبة في الشيء، فإن كان في الفضائل وأمر الآخرة كان حسناً، وإن كان في الأمور الدنيوية كان قبيحاً، والمعنى إنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شديد الرغبة في إسعادكم.

5- وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي يتعامل مع المؤمنين برأفة ورحمة عكس الكفّار فهو شديد معهم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}((2))، وقال: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}((3)).

ثمّ الرحمة قد تكون مع محبة أو كراهة، ولا يوصف بالرحيم إلاّ إذا كان منطلق الرحمة المحبة والعطف، فلا ينعت بالرحيم من عفا عن قاتل أبيه مع بغضه له مثلاً، وأمّا الرأفة فلا تكون إلاّ عن محبة وعطف.

وأمّا الفرق بين الرؤوف والرحيم فقد قيل: الرأفة أشد الرحمة، وقيل: «الرحمة أكثر من الرأفة، والرأفة أقوى منها في الكيفية؛ لأنها عبارة عن إيصال النعم صافية عن الألم، والرحمة إيصال النعم مطلقاً وقد يكون مع الكراهة والألم للمصلحة كقطع العضو المجذوم»((4))، وقيل: «الرحمة رقة

ص: 418


1- ([1]) مجمع البيان 5: 209.
2- ([2]) سورة آل عمران، الآية: 159.
3- ([3]) سورة الفتح، الآية: 29.
4- ([4]) معجم الفروق اللغوية: 246-247.

عامة، والرأفة رقة خاصة عند حضور موضوعها»((1)).

الثالث: قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.

تضمنت الآية السابقة الأمر باتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما يمتلك من صفات، وهذه الآية تبين حالة إعراضهم عن الإيمان به، وأنه لا يحتاج إليهم لأن اللّه يكفيه إذ لا إله غيره، ولذا يتوكّل عليه تعالى حيث إنّ كل شيء للّه تعالى، ومن كفاه اللّه المالك لكل شيء لا يضره كفر الناس وعدم إيمانهم به، وإنّما يرشدهم ويهديهم لمصلحتهم لا لمصلحته، وقد ذكرت الآية أمرين: أحدهما ما يصنعه اللّه تعالى وهو نصر رسوله، والآخر ما يفعله النبي وهو الاعتماد على اللّه تعالى.

قوله: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي يكفيني، والمعنى أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يحتاج إلى الناس؛ فإن اللّه فضّله عليهم جميعاً، وقد أدّى ما عليه من تكليف بالتبليغ والإرشاد واللّه يجازيه بأفضل الأجر، وبعد ذلك فأيّ حاجة إلى الناس؟ فاللّه ناصره في الدنيا والآخرة وفي ذلك الكفاية.

وقوله: {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} كالدليل على كفاية اللّه تعالى، فهو الإله ولا إله غيره، فلا شريك يُرجى أو يُخاف منه.

وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي اعتمدت، وأصل التوكّل الاعتماد على الغير بجعله نائباً له في الفعل، فالمعنى إن عملي ووصوله إلى النتائج المرجوة إنّما هو بفضل اللّه تعالى ورحمته، وحينئذٍ لا يهمّ إعراض الناس مع قيام اللّه

ص: 419


1- ([1]) المفردات مع ملاحظات العاملي: 360.

تعالى بالعمل والنتيجة.

وقوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} كأنه حال، أي توكّلي عليه حال كونه هو المالك لكل شيء، فهو توكّل في محلّه ولمن بيده الأمر كلّه، و{الْعَرْشِ} هنا بمعنى الملك، وإنّما كان عظيماً لأنه يشمل الوجود بأسره، وأمّا الناس المعرضون فملكهم زائل قليل وليس بحقيقي بل عرضي.

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلى اللّه على محمّد وآله الطاهرين.

29 / شهر رمضان / 1442ه ق

ص: 420

الفهرس

سورة الأنفال

الإطار العام للسورة... 5

الآيات1-4... 7

معنى الأنفال وشأن نزولها... 9

صفات المؤمنين... 12

نتيجة الإيمان... 14

الآيات 5-8... 15

سبب غزوة بدر... 21

الآيات 9-11... 23

عدد الملائكة في غزوة بدر... 25

سبب إرسال الملائكة... 27

من نِعم اللّه يوم بدر... 28

الآيات 12-14... 30

الآيات 15-18... 35

رمي الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو رمي اللّه تعالى... 38

قصة غزوة بدر... 40

الآيات 19-23... 43

ص: 421

الآيات 24-26... 50

حيلولة اللّه بين الإنسان وقلبه... 54

الفتنة التي تعمّ الجميع... 56

الآيات 27-29... 59

من آثار التقوى... 62

الآيات 30-35... 64

مؤامرة المشركين لقتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 67

الآيات 36-40... 74

جعل الخبيث بعضه فوق بعض... 78

معنى الإسلام يجبّ ما قبله... 80

متى يكون الدين كلّه للّه تعالى... 82

الآية 41... 84

كيفية تقسيم الغنائم... 85

معنى الغنيمة... 85

وجوب الخمس في كل فائدة... 86

تقسيم الخمس على ستة أقسام... 87

الآيات 42-44... 90

من مقدمات غزوة بدر... 91

الآيات 45-48... 98

الأوامر والنواهي التي توجب النصر... 99

الآيات 49-54... 105

ص: 422

المنافقون في غزوة أحد... 107

سبب عدم تغيير النعمة إلى نقمة... 111

الآيات 55-59... 116

أهل الكتاب الذين غدروا بالمسلمين في غزوة بدر... 117

الآيات 60-63... 123

كيفية القتال مع الكفّار... 124

الآيات 64-66... 132

أسباب غلبة المسلمين مع قلة عددهم... 133

الآيات 67-71... 138

حول أسرى المشركين في بدر... 140

الهاشميون الذين كانوا مع المشركين... 145

الآيات 72-75... 147

أصناف الناس من جهة الولاية... 149

أضرار ولاية الكفّار... 154

أولوية أولو الأرحام... 157

خاتمة: في ثواب قراءة سورة الأنفال والتوبة... 159

سورة التوبة

الإطار العام للسورة... 161

الآيات 1-4... 163

عدم بدأ سورة التوبة بالبسملة... 164

عزل أبي بكر عن تلاوتها في الحج... 165

ص: 423

لا يؤدّي عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ الإمام علي (عليه السلام) ... 165

وقت الحج الأكبر... 169

الآيتان 5-6... 173

الآيات 7-12... 178

سبب البراءة من المشركين... 180

سبب نقض المشركين للعهد... 182

كيفية قتالهم والغرض منه... 184

قتال أهل الجمل... 185

الآيات 13-16... 187

أسباب قتال المشركين... 189

فوائد قتالهم... 190

الآيات 17-22... 194

عمارة المسجد الحرام وخدمة زواره... 196

الآيتان 23-24... 202

موانع طاعة اللّه تعالى... 204

الآيات 25-28... 207

قصة غزوة حنين... 209

نجاسة المشركين... 213

الآيات 29-31... 216

قتال أهل الكتاب... 217

سبب قتال أهل الكتاب... 218

ص: 424

عدم قتال أهل الذمة... 220

من أسباب كفر أهل الكتاب... 223

الآيات 32-35... 226

أسباب أخرى لقتال أهل الكتاب... 227

غلبة الإسلام على كل الأديان... 229

الآيتان 36-37... 234

حكم الأشهر الحرم... 235

النسيء ونوعاه... 236

الآيات 38-40... 242

أسباب عدم خروجهم للجهاد... 245

آية الغار... 246

مدلول آية الغار... 248

الآيات 41-43... 251

سبب إذن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للتخلف عن الجهاد... 254

الآيات 44-48... 257

أوصاف المنافقين الذين يريدون الفرار من الجهاد... 261

سبب عدم توفيق اللّه لهم... 262

الآيات 49-52... 266

الصنف الأوّل من المنافقين وأوصافهم... 268

الآيات 53-57... 273

من طرقهم للفرار من الجهاد... 274

ص: 425

الآيات 58-60... 280

الصنف الثاني من المنافقين وأوصافهم... 281

بيان مصارف الزكاة... 284

الآيات 61-63... 287

الصنف الثالث من المنافقين وأوصافهم... 288

الآيات 64-66... 293

الآيات 67-70... 298

بعض صفات المنافقين... 300

الآيتان 71-72... 307

من أوصاف المؤمنين وثوابهم... 308

الآيتان 73-74... 311

كيفية التعامل مع المنافقين... 312

الآيات 75-80... 317

الصنف الرابع من المنافقين وصفاتهم... 318

الآيات 81-85... 326

المتخلفون عن غزوة تبوك... 328

الآيات 86-89... 336

مخالفة المنافقين لأوامر اللّه تعالى... 337

الآيات 90-93... 342

أصناف المتخلفين... 343

الآيات 94-96... 348

ص: 426

الآيات 97-101... 353

أصناف الناس في غزوة تبوك... 353

الصنف الأوّل: الأعراب المنافقون... 356

الصنف الثاني: الأعراب المؤمنون... 358

الصنف الثالث: السابقون الأوّلون... 359

الصنف الرابع: المنافقون المحترفون... 361

الآيات 102-106... 363

الصنف الخامس: الذين خلطوا عملاً صالحاً وسيئاً... 364

كيفية تطهيرهم... 366

الصنف السادس: المرجون لأمر اللّه... 370

الآيات 107-110... 372

الصنف السابع: المنافقون المخرّبون... 374

سبب اتخاذهم مسجد ضرار... 375

الآيتان 111-112... 380

الصنف الثامن: المؤمنون المطيعون... 381

بيان أوصافهم... 384

الآيات 113-116... 386

أوصاف المشركين والتبرؤ منهم... 387

سبب استغفار إبراهيم لآزر... 389

الآيات 117-119... 392

جزاء المجاهدين والتائبين... 393

ص: 427

قصة توبة المتخلفين الثلاثة... 395

الكون مع الصادقين (عليهم السلام) ... 397

الآيتان 120-121... 399

ثواب المجاهدين وأصناف أعمالهم... 400

الآية 122... 404

النفر لطلب العلم... 404

الغرض من النفر... 406

الآيات 123-127... 408

كيفية قتال الكفّار... 410

الآيتان 128-129... 416

أوصاف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 417

الفهرس... 421

ص: 428

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.