عَبدُاللّه بن عَباس

هوية الکتاب

العَتَبَةُ العَبَّاسِيَّةُ المُقَدَّسَةُ

قِسمُ الشُّؤُونِ الفِكرِيَّةَ وَ الثِّقَافِيَّةَ

شعبة العلام

عَبدُ الله بنِ عَبَّاس

الجُزءُ الأَوَّل

حياته وسيرته

تأليف :السيد محمد تقي الحكيم

مُرَاجَعَة وَحدَةُ الدِّرَاسَاتِ وَ النَّشَرَاتِ

ص: 1

المجلد 1

اشارة

العَتَبَةُ العَبَّاسِيَّةُ المُقَدَّسَةُ

قِسمُ الشُّؤُونِ الفِكرِيَّةَ وَ الثِّقَافِيَّةَ

شعبة العلام

وَحدَةُ الدِّرَاسَاتِ وَ النَّشَرَاتِ

كربلاء المقدسة

ص.ب (233)

هاتف: 322600 داخلي: 175-163

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

الكتاب: عبد الله بن عباس / حياته وسيرته.

الكاتب : السيد محمد تقي الحكيم.

الناشر : قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة.

التصميم والاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.

رقم الايداع في دار الكتب والوثائق: 3001 لعام 2012 .

المطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر

الطبعة: الثالثة.

عدد النسخ: 2000 .

محرم الحرام 1434 - كانون الثاني 2012

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

ص: 3

ص: 4

تصدير

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

يشرفني ان اقدم للقراء الكرام كتاب (عبد الله بن عباس) لسماحة سيدي الوالد قدس سره.

ويتميز هذا الكتاب شأنه شأن كتب سيدي الأخرى بريادة في البحث، وجدة في النهج، ودقة في الطرح، وعمق في التحليل، وموضوعية في المعالجة، وضبط في المنهجة، وموسوعية في التتبع، وجمال في التعبير، ووضوح في الرؤية، وأدب في المناقشة، وتأصيل للتقريب وتفعيل للاصلاح، وهي ميزات تبدو واضحة فيما كتب وألف ونظّر وأسس.

وإذا كان لا بدَّ لي أن استدل على ما ذهبت اليه فإني سأشير إلى ميزة واحدة فيما كتب وأصَّل، وهي (الريادة في البحث) مكتفيا بها عن سواها مما ذكرت لأهميتها الكبيرة في مجال البحوث والدراسات العلمية، تاركا ما عداها إلى فرصة أطول، ومجال أرحب، في قابل الأيام إن شاء الله تعالى.

أما (زيادته في البحث الأصولي) فيكفيني عدّ أساتذة علم أصول الفقه كتابه (الأصول العامة للفقه المقارن) رائدا في البحث الأصولي المقارن على صعيد الإسلام(1)،

ص: 5


1- التقي الحكيم رائد البحث الأصولي المقارن على صعيد الإسلام. السيد محمد جعفر الحكيم. دار الهلال النجف الأشرف العراق . 2006م، وتنظر : دروس في أصول فقه الإمامية. د. الشيخ عبد الهادي الفضلي . ط1 . مؤسسة أم القرى. 1430ه : ص 91 . وينظر كذلك: منهج دراسة النص عند الأصوليين ودور السيد محمد تقي الحكيم في تطويره . د. الشيخ عبد الهادي الفضلي. بحث في كتاب: السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف. ط1 . معهد الدراسات العربية والإسلامية . دراسات وبحوث / 2 . لندن . المملكة المتحدة: ص 124

وحلقة سابعة هي الأحدث من حلقات المنهجيات المعاصرة لعلم أصول فقه الإمامية منذ عصر الشيخ الأنصاري قدس سره حتى عصر سيدي الوالد قدس سره.(1)

وعدّ باحثيه إياه قدس سره رائداً في دراسة النص الشرعي، وناقلاً منهج الدرس الأصولي من مرحلة الوقوف عند المنهج الكلامي المعتمد على مبادئ ومعطيات الفلسفة القديمة إلى المنهج التكاملي الذي جمع بين المنهج العلمي والمنهج الكلامي، مستخدما كلّاً في ما يناسبه، وواضعا إياه في موضعه.(2)

إضافة إلى كونه قدس سره رائدا في معالجة الأبحاث اللغوية الأصولية بروح لغوية، وبرؤية علمية جديدة، ومن ثم عرضها على طاولة البحث اللغوي في المجامع العلمية اللغوية، فإنه تل أول من فتح على اللغويين باب هذه الأبحاث(3)، وأبرز من تصدى من الأصوليين المحدثين للبحث المستقل عن المسائل اللغوية، مؤكداً على طابعها الصرف أولاً، وموضحا عمق الأبحاث التي خاضها الأصوليون في هذا المجال وسعتها ثانياً، ولافتاً نظر العلماء اللغويين إلى أهمية هذه الأبحاث والى ضرورة اطلاعهم . وإفادتهم منها، بل وخوضهم فيها ثالثاً.(4)

وهو قدس سره بعد هذا وذاك قد استطاع نقل الدراسة الفقهية من إطار (علم الخلاف) والدراسة المبتسرة إلى أفق (الدراسة المقارنة) وفق المنهج العلمي الحديث في البحث والاستقصاء والتحليل والاستنتاج والمناقشة، وهذا يعدّ بحد ذاته فتحا جديدا في نطاق

ص: 6


1- تنظر المنهجيات المعاصرة لعلم الأصول منذ عصر الشيخ الأنصاري قدس سره حتى السيد محمد تقي الحكيم . الشيخ محمد مهدي الآصفي . مجلة المبين. العدد 11 . تشرين الأول. 2007م: 45
2- منهج دراسة النص عند الأصوليين ودور السيد محمد تقي الحكيم في تطويره. سابق: ص 124
3- طبيعة البحث اللغوي الأصولي في فكر السيد محمد تقي الحكيم. الشيخ محسن الأراكي. بحث في كتاب: السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف. سابق: 155
4- المصدر السابق نفسه

الدراسات الإسلامية المقارنة، وفيما يمكن أن نتوصل اليه من نتائج مثمرة.(1)

أما ريادته في مجال البحوث الأخرى من غير البحوث الأصولية، واللغوية / الأصولية ودراسة النص، وأصول الفقه المقارن فيكفيه عد أساتذة علم التاريخ الإسلامي فكره التاريخي مضارعا لمثيله الفقهي والأصولي (المتقدم ذكره)، ذلك أن كتابه (عبد الله بن عباس) ، هو صنو كتابه (الأصول العامة للفقه المقارن) من حيث القيمة العلمية الرفيعة لكل واحد منهما في الموضوع الذي تخصص فيه.

(فكتاب عبد الله بن عباس ) ليس كتابا من كتب التراجم كما قد يوهم عنوانه، بل إنه كتاب في التاريخ الإسلامي استكمل فيه السيد قدس سره كل مقومات دراسة التاريخ كعلم له أصوله وقواعده، وأرخ فيه لحقبة صدر الإسلام محللا حوادث تلك الحقبة تحليل خبير متمكن يعلم دواخل وقائعها الدقيقة، وهي ما هي عليه من الخطورة وعظيم الأثر الذي ما زال فاعلا في حياة المسلمين حتى يوم الناس هذا»(2)

كما ان كتابيه الآخرين (شاعر العقيدة) السيد الحميري ، و (مالك الأشتر) لم يكونا من كتب التراجم المألوفة، ولم يكن اختياره لهما والموضوعيهما، ثم ضميمة كتابه (عبد الله بن عباس) اليهما اختيارا غير هادف ولا انتقاء غير مقصود.

لقد تمثلت بثلاثيته تلك « قدرته قدس سره على الجمع بين الأفكار الإنسانوية، ونظرية المعرفة، والتحقيق الإنثربولوجي، ففي مجال الإنسانوية تمكن(السيد) من صناعة أنموذجه الفكري عن الإنسان وأبعاده الثلاثة العقل ويجسده (عبد الله بن عباس)،

ص: 7


1- أسس الدراسة الأصولية المقارنة عند العلامة الحكيم. د. عبد الجبار شرارة. بحث في كتاب: السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف. سابق: 294
2- الفكر التاريخي للعلامة السيد محمد تقي الحكيم قدس سره ملامح وسمات. د. جميل موسى النجار. مجلة المبين. العدد 11 تشرين الأول . 2007 م ص 122

والعاطفة ويجسدها (السيد الحميري شاعر العقيدة)، والقوة ويجسدها (مالك الأشتر).

أما (ريادته على المستوى المعرفي والابستمولوجي) فقد اعتمد (السيد) منهجا جمع فيه بين العقل والتجربة، إذ استعرض حياة شخصياته في إطار من التقديم الحيوي الذي يعتمد ترك الشخصية تتمظهر كما هي عليه في محيطها الطبيعي، وبعد انتهاء هذا العرض الحيوي للشخصية عمد (السيد) في القسم الثاني من البحث إلى أسلوب التحديد والتحليل وتنقيط المفاصل المهمة في العرض الحيوي، وهذا هو المنهج التجريبي في أجلى صوره والذي يعتمد الملاحظة العلمية والمراقبة.

وفي مجال (الإنجاز الإنثربولوجي وقدرة الإنسان على صناعة الأفكار وخوض الأحداث وفهم الواقع)، فقد جمع (السيد) بين الأصالة والمعاصرة، بين إنجازات الإنسان المسلم في عصر النهضة الإسلامية الأول، وإنجازات الإنسان زمن الحداثة في عصر نهضة البشرية القائمة، وقدم خطابا يصعب تصنيفه أو إدراجه في شكل محدد من السرديات أو الدراسات العلمية أو الأدبية، وهذا هو الإنجاز الإنثربولوجي الكبير الذي يسجل لسماحته الريادة فيه أيضا.(1)

هذا وما يزال كتاب (الأصول العامة للفقه المقارن) وحيدا في بابه، لم يردف بثانٍ، رغم مرور أكثر من ستة عقود على كتابته(2)، كما لا يزال صنوه کتاب (عبد الله بن عباس) فريدا في بابه أيضا، رغم مرور أكثر من ستة عقود على كتابته.

ص: 8


1- من محاضرة للشيخ غالب الناصر ألقيت في مقر جمعية منتدى النشر في النجف الأشرف في 27/ 4 / 2012م. وقد تحدث في محاضرته مفصلا عن ذلك، وأشار إلى دراستها بتفصيل في كتابيه المخطوطين ثلاثية الإنسان عند السيد محمد تقي الحكيم. والأبعاد الإنسانية والمعرفية والإنثروبولوجية في مؤلفات السيد محمد تقي الحكيم
2- ينظر : الشيخ محمد علي التسخيري. ود. عبد الجبار شرارة بحثان في كتاب السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف. سابق ص: 278 و 291 على التوالي

لقد عاش سيدي الوالد قدس سره سنيَّ عمره عاكفا في محراب العلم والمعرفة، بدأ شوطه أول ما بدأه متعلما يتزود من البحث والتحليل قراءة ودراسة ومباحثة وكتابة ليل نهار ما وسعه جهده أن يتزود، حتى إذا استكملت أدواته المعرفية عدتها انعطف بشوطه معلّما يبحث ويحلل ويفكك ويسبر أغوار المسألة ثم يعيد انتاجها ما وسعته قدرته المعرفية أن يؤلف ويركبِّ ويكوِّن ويشكِّل.

وحين قدر الله له أن يطلق سراحه من سجن فحجز لا يوصفان وحشية وقساوة، وغلظة وفضاضة، وعذاباً وتعذيباً، طالا يديه قدس سره فارتعشتا، فما عادتا تستطيعان أن تمسكا بقلم، وعقلا لسانه فما عاد يستطيع النطق إلا بمعاناة شديدة تشي بها تضاعيف وجهه وحدقات عينيه. ثم إذ قدر الله لي أن يطلق سراحي بعد سنوات وسنوات عجاف من سجن واعتقال شبيهين بسجنه وحجزه بدأ بتدريسي كتاب (مستمسك العروة الوثقى) للإمام الراحل السيد محسن الحكيم قدس سره في بيته العامر في النجف الأشرف ما استطاع إلى النطق سبيلاً، حتى إذا كلَّ لسانه فأعياه عن الاستمرار في التدريس أنهى محاضرته بإيماءة موحية من عينيه وإشارة معبرة من يديه حتى مساء اليوم التالي وهكذا.

ورغم سنوات السجن والمحنة والحجز الإجباري والمرارة والمرض عكف سماحته قدس سره على إعادة النظر بكتابه القيم (عبد الله بن عباس) في بيتي المتواضع خلال رحلة علاجه من مرضه إثر ،محنته ومعاناته إثر سجنه وتعذيبه.

لم تثنه عدم قدرته على الإمساك بالقلم عن الاستمرار في مشروعه العلمي الواعداً لم تقعد به صعوبة النطق عن حث الخطى باتجاه المعرفة حتى أتمه فنشر في حياته.

والكتاب الذي بين يدك سيدي القارئ يشتمل على جزئين في مجلد واحد أولهما عن حياة عبد الله بن عباس وسيرته وثانيهما عن شخصيته وآثاره.

أما وقد تعرضت بإيجاز لريادته في مجال البحوث ومنها مجال البحث التاريخي،

ص: 9

وثنَّيت فأشرت إشارات لما احتواه كتابه (عبد الله بن عباس) من ميزات وخصائص، فإنه ليحسن بي أن أتحدث عن سيرته الحياتية والعلمية بإيجاز فأقول.

أولاً : مسيرته الحياتية وسيرته العلمية

1- ولد سماحته قدس سره في مدينة النجف الأشرف بالعراق عام 1342ه- - 1924م.

2- نشأ نشأة علمية بتوجيه من والده قدس سره وأعلام أسرته الكبار، فدرس علوم العربية والمنطق والبلاغة والفقه وأصول الفقه والفلسفة في مرحلتي المقدمات والسطوح على أيدي الأساتذة الأجلاء العلماء الأعلام شقيقه السيد محمد حسين الحكيم، والشيخ نوري الجزائري، والسيد صادق السيد ياسين والشيخ علي ثامر، والسيد يوسف الحكيم، والسيد حسن الحكيم، والسيد محمد علي الحكيم، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد موسى الجصاني (قدس الله أسرارهم).

3- حضر دروس البحث الخارج في الفقه والأصول والفلسفة على أيدي الآيات العظام، كل من أصحاب السماحة السيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي، والشيخ حسين الحلي، والسيد ميرزا حسن البجنوردي (قدس الله أسرارهم ).

4- درّس السطوح العالية في موضوعات الفقه والأصول والفلسفة لطلبة حوزة النجف الأشرف العلمية سنوات عدة.

5- قام بتدريس البحث الخارج في الفقه على متن كتاب (المكاسب) للشيخ مرتضى الأنصاري ، وأصول الفقه على متن كتاب (الكفاية ) للشيخ محمد كاظم الخراساني قدس سره في حوزة النجف الأشرف العلمية.

6- درّس طلاب البحث الخارج علم (أصول الفقه) مقارناً بآراء أئمة المذاهب الإسلامية الأخرى في حوزة النجف الأشرف العلمية، وسجّل طلابه تقریرات دروسه في هذا العلم المثمر.

ص: 10

7 - درس علم (القواعد الفقهية) مقارناً بآراء أئمة المذاهب الإسلامية الأخرى، في حوزة النجف الأشرف العلمية، وسجّل طلابه تقريرات دروسه في هذا العلم الجليل.

8 - انتمى منذ أوائل شبابه إلى (جمعية منتدى النشر) في النجف الأشرف وواكب نشاطها لأكثر من ربع قرن، ودرّس في كليتها (كلية منتدى النشر) علوم: النحو، والصرف، والبلاغة والأدب والتاريخ، والفقه والأصول، وعلمي النفس والاجتماع ابتداءً من عام 1944م.

9 - أسس مع عدد من المفكرين (المجمع الثقافي لمنتدى النشر) عام 1943 م، وساهم مساهمات فعّالة في نشاطاته الثقافية المختلفة.

10 - أسس مع عدد من العلماء (كلية الفقه) في النجف الأشرف عام 1958 م، وتولى تدريس علوم أصول الفقه المقارن، والقواعد الفقهية المقارنة، وفقه اللغة، والتاريخ الإسلامي، والأدب وتاريخه، وتاريخ التشريع الإسلامي، وعلمي الاجتماع والنفس ما كشف عن موسوعية معرفية كبيرة.

11 - انتخب عميداً لكلية الفقه في النجف الأشرف عام 1965 م، وشغل منصب عمادة الكلية حتى عام 1970م حيث استقال منها فرفض مجلس الكلية قبول استقالته، وإذ أصر على تقديمها وعلم طلاب الكلية بذلك أضربوا وتظاهروا في وقت كان التظاهر والإضراب ممنوعا، بل خطرا على حاضر ومستقبل القائمين به، ورغم الحظر الأمني الشديد فقد امتنع الطلاب عن دخول القاعات الدراسية، وأصروا على الاستمرار بالإضراب وتعليق الدراسة حتى يعود عميدهم عن استقالته.

وحين لم تنفع معهم كل مساعي الساعين من الأساتذة وغيرهم من الإداريين لثنيهم عن إضرابهم ، اضطر قدس سره لأن يدعو الطلاب بنفسه إلى عقد اجتماع عام في قاعة الكلية الكبرى، ولما دخل قاعة الاجتماع واعتلى المنصة غمرت الأساتذة والطلاب دفقة

ص: 11

من العواطف الجياشة، عندها طلب من الطلاب العودة إلى مقاعد الدراسة دون إبطاء، ووعدهم بأن يبقى معهم وبينهم، فاستجابوا الطلبه طائعين.

12 - تولى تدريس أصول الفقه المقارن في معهد الدراسات الإسلامية العليا بجامعة بغداد عام 1964 م، ولعدة سنوات.

13 - منحته جامعة بغداد درجة الأستاذية (بروفيسور) عام 1964 م بقرار من مجلس الجامعة.

14 - أشرف على العديد من الرسائل الجامعية لطلبة الدراسات العليا، وناقش مجموعة من رسائل الماجستير والدكتوراه فيها ، كما ترأس بعضاً من لجان المناقشة.

15 - أختير خبيراً علمياً أكاديمياً لترقية بعض حملة الشهادات العليا من أساتذة الجامعات العلمية الرصينة لرتبة جامعية أعلى

16 - انتخب بالإجماع عضواً عاملاً في المجمع العلمي العراقي عام 1964 م بترشيح من علامتي العراق المرحومين الشيخ محمد رضا الشبيبي والدكتور مصطفى جواد، ومثّل المجمع العلمي العراقي في عدد من المؤتمرات العلمية العربية.

17 - انتخب عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1967 م.

18 - انتخب عضواً بمجمع اللغة العربية بدمشق عام 1973 م.

19 - انتخب عضواً بمجمع اللغة العربية بالاردن عام 1980 م.

20 - انتخب عضواً بمجمع الحضارة الإسلامية الأردني عام 1981 م.

21- دعي لحضور العديد من المؤتمرات والندوات العلمية في البلاد العربية وغيرها، وشارك في جملة منها ، من ذلك :

أ- المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد بالقاهرة بدعوة من مشيخة

ص: 12

الأزهر عام 1964 م.

ب - المؤتمر المشترك بين مجمعي اللغة العربية بالقاهرة، والمجمع العلمي العراقي ببغداد عام 1965 م.

ت - المؤتمر المشترك بين مجمعي اللغة العربية بالقاهرة والمجمع العلمي العراقي المنعقد بالقاهرة عام 1967 م.

ث - مؤتمر دراسة أحرف الطباعة العربية المنعقد بدعوة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم المنعقد بالقاهرة عام 1971 م.

ج - ندوة المصطلحات القانونية المنعقدة بدعوة من اتحاد المجامع العربية بدمشق عام 1972 م.

ح - المؤتمر التأسيسي لجمعية الجامعات الإسلامية المنعقد بمدينة فاس المغربية بدعوة من جامعة القرويين عام 1974 م.

خ - ندوة معالجة تيسير النحو العربي المنعقدة بالعاصمة الجزائرية عام 1975 م.

ثانيا : مؤلفاته المطبوعة

مالك الأشتر - مطبعة الغري - ط 1 . النجف الأشرف عام 1946م. والطبعة الأخيرة عام 2000 م.

2 - شاعر العقيدة (السيد الحميري) . ط 1 - مطبعة دار الحديث - بغداد عام 1949 م. والطبعة الأخيرة عام 2000 م.

3 - الأصول العامة للفقه المقارن. ط 1 - دار الأندلس - بيروت عام 1963 م. والطبعة الأخيرة سنة 2010 م.

4 - الزواج المؤقت ودوره في حل مشكلات الجنس - دار الأندلس - بيروت عام

ص: 13

1963 م. وطبع طبعات عدة لاحقة بعد ذلك.

5 - الاشتراك والترادف - مطبعة المجمع العلمي العراقي - بغداد عام 1965 م.

6 - الوضع تحديده، تقسيماته، مصادر العلم به – مطبعة العاني - بغداد عام 1965 م.

7- المعنى الحرفي في اللغة بين النحو والفلسفة والأصول - المطابع الأميرية - القاهرة عام 1967 م.

8 - سنة أهل البيت - مكتبة المنهل - ط 1 . الكويت عام 1978 م. وطبع طبعات عدة في دول عدة بعد ذلك.

9 - مناهج البحث في التاريخ - ط 1 . مكتبة المنهل – الكويت 1978 م. وطبع طبعات عدة في دول عدة بعد ذلك.

10 - قصة التقريب بين المذاهب الإسلامية. ط 1 - مكتبة المنهل - الكويت عام 1978 م. وطبع طبعات عدة في دول عدة بعد ذلك.

11 - تاريخ التشريع الإسلامي - الجزء الأول. تاريخ التشريع الإسلامي حتى استشهاد الإمام علي علیه السلام ط 1 . كتاب المعهد - معهد الدراسات العربية والاسلامية - لندن 1998 م.

12 - من تجارب الأصوليين في المجالات اللغوية ط 1 - مؤسسة الألفين دولة الكويت - 1999 م. والطبعة الأخيرة سنة 2000.

13 - التشيع في ندوات القاهرة . ط 1 . مؤسسة الإمام علي علیه السلام ومكتب الارتباط بسماحة السيد السيستاني دامظلة. بيروت لبنان. 1999 . والطبعة الأولى بين يديك.

14 - القواعد العامة في الفقه المقارن . المؤسسة العلمية . ط 1. بيروت لبنان

ص: 14

2001 . والطبعة الأخيرة سنة 2010 م.

15 - عبد الله بن عباس. طا . دار الهادي بيروت لبنان.2001 م. طبعته الثانية عن مؤسسة مدين. قم. الجمهورية الإسلامية في إيران. 1423ه.

16 - مع الإمام علي في منهجيته ونهجه المؤسسة العلمية. بيروت لبنان 2001 م.

17 - الإسلام وحرية التملك والمفارقات الناشئة من هذه الحرية. المؤسسة العلمية بيروت لبنان. 2001 م.

18 - السنة النبوية وسنة أهل البيت. طهران الجمهورية الإسلامية في إيران بلا.

19 - زرارة بن أعين المحدث، دراسة وتحقيق علاء الدين السيد محمد تقي الحكيم (تحت الطبع).

20 - كما كتب كتبا ومقالات عدة تحت أسماء أخرى، فمن الكتب مثلا: (كلية الفقه في النجف الأشرف). كتبه سيدي الوالد تحت اسم بعض المدرسين. وطبع سنة 1960 م.

و من الأبحاث مثلا : بحثه الموسوم ( آخر محاولة للتشكيك في الغدير ). كتبه سيدي الوالد تحت اسم أبو الهدى. سنة 1948م ، كما كتب العديد من الأبحاث والمقالات تحت أسماء أخرى من قبيل: أبو الهادي وغيره.

ثالثاً : مؤلفاته المخطوطة

1 - ديوان شعري . 1944 م.

2 - زين الشباب أبو فراس الحمداني . كتب بحدود سنة 1945 م.

3 - على هامش الكفاية بلا.

ص: 15

4 - تقريرات دروس أستاذه المرجع الأعلى في وقته السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي في الأصول. 1956 م.

5 - انطباعاتي عن محاضرات الأستاذ الشيخ حسين الحلي في الأصول. 1957.

6 - تعليقة على كتاب مستمسك العروة الوثقى لأستاذه المرجع الأعلى في وقته السيد محسن الحكيم. 1967 م.

7 - تاريخ التشريع الإسلامي. الأجزاء الأخرى من الكتاب عدا الجزء الأول المعنون تاريخ التشريع الإسلامي حتى استشهاد الإمام علي علیه السلام فإنه مطبوع.

رابعاً : قدّم بمقدمات ضافية لمجموعة من الكتب منها:

كتاب(النص والاجتهاد) للسيد عبد الحسين شرف الدين - مطبعة النجف. 1956 م.

كتاب:( الكندي الرائد الأول للفلسفة الإسلامية ومفخرة الفكر العربي) للدكتور السيد محمد بحر العلوم - مطبعة النجف . 1962 م.

(ديوان السيد الحميري) جمع وتحقيق وشرح الأستاذ شاكر هادي شكر-- دار الحياة - بيروت. 1966 م.

كتاب:(القياس حقيقته وحجيته) للدكتور السيد مصطفى جمال الدين - مطبعة النعمان - النجف الأشرف. 1972 م.

كتاب:(العقل عند الشيعة الإمامية) للدكتور رشدي عرسان عليان - مطبعة دار السلام - بغداد. 1973 م.

کتاب:(عقد الفضولي في الفقه الإسلامي) للدكتور السيد عبد الهادي السيد محسن الحكيم - مطبعة الآداب - النجف الأشرف. 1975 م.

ص: 16

كتاب:(الضمان في الفقه الإسلامي) للسيد علي عبد الحكيم الصافي - مطبعة الآداب - النجف الأشرف. 1977 م.

خامساً : الدوريات والمجلات التي نشر فيها بحوثه ومقالاته

نشر العديد من البحوث والمقالات في الصحف والمجلات العراقية والعربية من أمثال مجلات البذرة النجف الهاتف الإيمان الأضواء، البيان، الدليل، الغري، النهج، العرفان، البلد، الحياة، مجلة المجمع العلمي العراقي، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وغيرها.

سادساً : وفاته ومدفنه

لبَّى نداء ربه يوم الإثنين لشهر صفر 1423ه- 29/ 4 / 2002م، ودفن جنب أبيه تدل في مقبرة علماء أسرة آل الحكيم المنفتحة على باحة المسجد الهندي في النجف الأشرف، حيث كان يلقي بحوثه ومحاضراته على طلبة (البحث الخارج) في موضوع أصول الفقه.

سابعاً : أهم ما ألف فيه من كتب وأطاريح جامعية

صدرت أو ألفت عن سيدي الوالد قذس سره العديد من الكتب، وكتب عنه باحثون أطاريح جامعية فمن هذه وتلك ما يأتي:

1 - مبحث الطلب والإرادة السيد هاشم الهاشمي . تقريرات بحث الخارج للسيد محمد تقي الحكيم. مخطوط . 1975 م.

2 - من ثمرات النجف في الفقه والأصول والتاريخ والأدب. السيد محمد تقي الحكيم الدكتور محمد كاظم مكي مطبعة الزهراء. بيروت. 1991 م.

3 - التنظير المنهجي عند السيد محمد تقي الحكيم. الدكتور عبد الأمير زاهد.

ص: 17

المؤسسة الدولية. بيروت لبنان 1999 م.

4 - السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف. مجموعة من الباحثين. معهد الدراسات العربية والإسلامية. لندن . المملكة المتحدة. 2003 .م

5 - التقي الحكيم رائد البحث الأصولي المقارن على صعيد الإسلام. السيد محمد جعفر الحكيم.. ط 1. دار الهلال. النجف الأشرف. العراق. 2006 م.

6 - السيد محمد تقي الحكيم وجهوده العلمية أطروحة ماجستير كلية الفقه. جامعة الكوفة . 2006 م.

7 - جهود حركة السيد محمد تقي الحكيم قدس سره العلمية. عدد خاص مجلة المبين الصادرة عن مؤسسة شهيد المحراب للتبليغ الإسلامي. النجف الأشرف العراق. العدد 11 . تشرين الأول 2007 م.

8 - الفكر الإسلامي المعاصر. السيد محمد تقي الحكيم أنموذجا. الشيخ غالب الناصر . ط 1 . سلسلة إصدارات مركز الهدى للدراسات الحوزوية / 6 . مطبعة البيئة. قم . إيران . 2008 م.

9 - إشكالية الطلب والإرادة في الفكر الأصولي المعاصر. الشيخ حسن هادي سلمان. مخطوط . 2008 م.

10 - الجهود اللغوية عند السيد محمد تقي الحكيم دراسة نقدية، د. عدوية حياوي الشبلي. دراسة نقدية مخطوط . 2008 م.

11 - المنهج التاريخي عند المفكر الإسلامي السيد محمد تقي الحكيم، علاء الدين السيد محمد تقي الحكيم، مؤسسة آفاق للدراسات والأبحاث العراقية، بغداد. العراق . 2009 م.

ص: 18

12 - المفكر الإسلامي السيد محمد تقي الحكيم سيرته ومسيرته الفكرية، علاء الدين السيد محمد تقي الحكيم . ط 1 . دار الحكمة النجف الأشرف. العراق 2009. م .

13 - آل الحكيم رحلة الشهادة وشهادة الرحيل آية الله السيد محمد تقي الحكيم. مؤسسة شهيد المحراب. مخطوط.

14 - ثلاثية الإنسان عند السيد محمد تقي الحكيم . الشيخ غالب الناصر مخطوط.

15 - الأبعاد الإنسانية والمعرفية والإنثروبولوجية في مؤلفات السيد محمد تقي الحكيم. الشيخ غالب الناصر مخطوط.

16 - الدرس الدلالي عند السيد محمد تقي الحكيم. رسالة دكتوراه الباحث سعد محسن جواي جامعة الجنان لبنان.

عبد الهادي الحكيم

النجف الأشرف

2014/1/10م

ص: 19

ص: 20

المقدمة

بسم اللَّهِ الرَّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.

وبعد ... فهذه دراسة تختصر عصرها لبطل يختصر عصره، علماً، وثقافة، وسياسة، و علائق اجتماعية، وقد صورت حوادث ما يقرب من سبعين عاماً من خلال منظار هذا البطل، وأكثرها من حديثه الخاص.

وقد جهدتُ أن تكون مستوعبة لمختلف نواحي حياته وسيرته. وكان الذي يؤخرني عن نشرها - بعد تدوينها منذ زمن ليس بالقصير - محاولتي أن أجد في بطون الكتب ما يضع لي خطاً جديداً في مخطط حياته.

ثم فضلت نشرها الآن، تاركاً لي - أو لغيري - في طبعات قادمة إن شاء الله إضافة ما أجده من ذلك.

والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، والحمد لله رب العالمين، وله الشكر.

النجف الأشرف

محمد تقي الحكيم

ص: 21

ص: 22

تمهيد أضواء على الكتاب

اضطراب تأريخه

بين يدي الآن - وأنا أحاول دراسة ابن عباس والترجمة له – قصاصات من أوراق مختلفة، جمعت المواد الأولية لذلك، وفيها الوان من الأحاديث لا يمكن الاطمئنان إلى أكثرها بحال؛ لتناقض قسم منها، واضطراب مداليل قسم آخر، وخروج قسم ثالث على مقتضيات ،زمنه وقد سرى مفعول ذلك إلى آراء المؤرخين ،له فأكسبها تناقضاً واختلافاً بينهم.

فاختلاف في الولادة ينشأ منه اختلاف في مدة بقائه مع النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، واختلاف في مقدار علاقته بالخلفاء الثلاثة، ثم مقدار علاقته بالإمام علیه السلام ينشأ منه اختلاف في شأنه ببيت المال في البصرة ونظائر ذلك من اختلافات سرت إلى جل ما يتعلق به، وبخاصة آراؤه ورواياته.

والحديث عنه - مع هذه الاختلافات - حديث لا يخلو من جهد، وليس من اليسير أن يخرج منه الكاتب وقد وفاه ما يستحقه من بحث وتصوير، وما أدري إلى أي مدى سأوفق في ذلك، وكل ما أرجوه أن نتعاون أنا والقارئ - الذي سيشرفني بقراءة الكتاب - على إبراز الصورة الكاملة له، وذلك بالإشارة إلى ما أكون قد أغفلته الظلال أو الألوان الضرورية في إبراز صورته والتسديد لما أكون قد وقعت فيه من الأغلاط - فمن حقه إذاً - وأنا أرجو معاونته - أن يسائلني عن المنهج الداخلي

ص: 23

والخارجي لهذه الدراسة؛ ليسايرني في ضوئها إن شاء.

كما أن من حقه أن يسألني عن أسباب هذا التناقض وعوامله، وها أنا ذا أضع بين يديه في هذا التمهيد الإجابة على كل ذلك، بادئاً بذكر العوامل التي أدت إلى كل هذا الاضطراب.

هي - على كثرتها وتشعبها - تعود إلى عاملين رئيسين:-

(أولهما) :- ما تقتضيه طبيعة تداول الأحاديث بين الرواة، وتنقلها من فم إلى فم مع اختلافهم بالفهم وحسن التلقي من الزيادة والنقيصة اللتين قد يكون لهما الأثر في تغيير مفاهيمها، وتبديلها تبديلاً ربما بعدها عن الواقع كثيراً هذا بالإضافة إلى من يوحد فيهم من أهل السهو والغفلة والتخليط ، وقد ترجم مؤلفو الرجال من هؤلاء جماعة عرفوا بالتوثيق، ومع ذلك فقد أبتلوا بهذه الآفات.

(وثانيهما) :- كثرة الوضاع والمنتحلين من أصحاب الحديث وأرباب السير في مختلف العصور، وقد الفت في هؤلاء وفي أحاديثهم كتب كثيرة ، وتعرض للكثير منهم أرباب الجرح والتعديل في كتب الرجال، ووضعوا بازاء بعضهم مقدار ما وضعوه من الأحاديث.. فصرنا نقرأ مثلاً أن عبد الكريم بن أبي العوجاء وضع أربعة آلاف حديث(1) ومحمد بن يونس الكديمي ألف حديث(2)، وجعفر بن الزبير أربعمائة حديث(3)، وقد قدروا ما ترك من حديث عباد بن صهيب البصري بخمسين الفاً(4)،

ص: 24


1- انظر تأريخ ابن الأثير - المطبعة الأزهرية ، مصر ، ط 1 ، سنة الطبع 1301 ه- ج 6: 3
2- انظر ميزان الاعتدال - مطبعة عيسى البابي ،الحلي ،مصر ، ط 1 ، سنة الطبع 1382ه- ج 4 : 74 ، رقم الترجمة 853
3- انظر خلاصة تذهيب الكمال ط 1 ، المطبعة الخيرية، مصر، سنة الطبع 1322ه-: 53
4- انظر ميزان الاعتدال ج 2 :- 367 رقم الترجمة 4122

وما رمي من حديث عمر بن هارون البلخي بسبعين ألفاً(1)، وحسبك أن تعلم أن أحمد بن حنبل لم يعتمد - من أكثر من سبعمائة وخمسين الف حديث كانت لديه - إلا ثلاثين ألفاً(2)، وهي التي حشدها في مسنده المعروف باسمه، وأن مسلما لم يحشد في صحيحه أكثر من أربعة آلاف حديث عدا المكررات، من أصل ثلاثمائة الف كان يملكها من الأحاديث(3)، والبخاري لم يذكر في الصحيح أكثر من سبعة آلاف حديث انتقاها من ستمائة الف حديث(4).

على أن هذه الكتب ونظائرها لم تسلم من الأحاديث التي لا يُطمأن إلى رواتها، لما ورد فيهم من الجرح الكثير من أعلام هذا الفن أمثال ابن حجر وغيره(5). وقد صح ليحيى بن سعيد القطان - وهو الناقد المعروف - أن يقول: «لو لم أرو إلّا عمن أرضى، ما رويت إلّا عن خمسة»(6)، كما صح لأبي حنيفة أنه لا يطمئن إلى أكثر من سبعة عشر حديثاً صحت لديه(7). ونهاية المبالغات - في ذلك كله - ما حدثوا عن يحيى بن معين أنه قال: - «كتبنا عن الكذابين وسجرنا به التنور وأخرجنا به خبزاً نضيجاً»(8).

ويعلم الله كم كان نصيب صاحبنا من الوضع عليه في ذلك، مع أن جميع العوامل الباعثة على الوضع من الوضاع والكذابين كانت تلتقي به فهو محور الحركة الثقافية والتشريعية في زمنه وبعد زمنه إلى عدة أجيال، وسنوضح في هذه الكلمات أسباب

ص: 25


1- انظر الغدير - مطبعة الحيدري، طهران، ط 2 ، سنة الطبع 1372 ه- ج 5: 248
2- انظر طبقات الشافعية المطبعة الحسينية المصرية، ط 1 ، لم تذكر سنة الطبع . ج 1 : 202
3- انظر الغديرج 5 : 293
4- انظر المصدر السابق ج 5 : 262
5- انظر دلائل الصدق المطبعة الحيدرية النجف، سنة الطبع 1372 ه- ج 1 : - 9-14
6- المصدر السابق ج 1 : 17
7- انظر میزان الاعتدال ج 1 : 209 رقم الترجمة 820
8- تأريخ بغداد - دار الكتاب العربي، لبنان ، لم تذكر سنة الطبع - ج 14 : - 184

الوضع عليه، قبل أن نذكر منهجنا في معالجة ذلك.

أسباب الوضع عليه

والأسباب كثيرة، وإن كانت في جوهرها لا تعدو ثلاثة:

(أولها) :- سبب سياسي : - ونريد بهذا السبب أن يعمد بالوضع إلى تأييد دولة قائمة وتركيزها، أو دولة يراد قيامها، تأييداً مباشراً أو غير مباشر، وذلك بخلق أحاديث تؤيدها تأييداً صريحاً، أو تحط من مراكز أعدائها في نفوس الرأي العام؛ ليتسنى لهم من هذه الطريقة إبعادهم عن الحكم.

وقد كان نصيبه من الوضع عليه لهذا السبب كثيراً، فقد قدر له أن يعاصر معتركات سياسية قوية، ويلابس معتركات أخر بعد وفاته، وكلها تساعد على الوضع عليه؛ نظراً لأهمية مركزه في تلكم العصور.

فالصراع الذي كان قائماً إذ ذاك بين أتباع الخلفاء على الخلافة بعضهم مع بعض، ثم بين الخلافة والملك ودعاتهما.

وكان يرأس الفريق الثاني مؤسس النظام الملكي في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، كما كان يرأس الفريق الأول الأئمة من أهل البيت عليهم السلام .

ومعاوية - كما تعرفون عن تأريخه - كان خالياً من الأمجاد الكبيرة التي كان يتمتع بها خصومه من الهاشميين، كما كان وصولياً إلى أبعد حد، لا يهمه في سبيل تركيز ملكيته أن يسلك إليها من أي طريق فكان لا بد من بث الوضاع؛ ليضعواله ولبعض الصحابة أحاديث عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، تشبه ما انفرد به أئمة أهل البيت علیهم السلام وعرفوا به بين الناس، وبخاصة الإمام علي علیه السلام؛ ليقلل من قيمتهم في نظر الرأي العام بمشاركة غيرهم من

الصحابة لهم في هذه الفضائل.

ص: 26

حدث المدائني في كتابه الأحداث قال: «كتب معاوية إلى عماله - بعد أن أمرهم بإفشاء الحديث عن عثمان - إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وأتوني بمناقض له في الصحابة ،مفتعله فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد إليهم من مناقب عثمان وفضله»(1).

وهنا بدأنا نسمع منهم، ومن حاملي أفكارهم في هذا التأريخ، وبعد هذا التأريخ من مختلف العصور استجابة لهذا النداء، بتتبع فضائل آل البيت الواردة في الأحاديث التي يطمئن إلى صدقها الثقات، ووضع ما يناسبها إلى كبار الصحابة والخلفاء، ثم ينسبونها إلى من يوثق بنقله من الرواة.

وقد حدث ابن عرفة عن كثرة الوضع إذ ذاك قال : - «إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم».(2)

وبالطبع كان ابن عباس في الطليعة ممن يوضع عليه في هذه الأمور لاشتهاره برواية الفضائل للإمام علي علیه السلام، حتى وجدنا لكثير من الأحاديث التي يرويها في الإمام أو واحد من آل البيت ما يضارعها في الخلفاء والسابقين منسوباً إليه.

وقد سجل الكثير من ذلك في الكتب المعنية بإحصاء الموضوعات وتتبعها،

ص: 27


1- شرح نهج البلاغة - مطبعة دار الكتب العربية ، مصر ، سنة الطبع 1329ه- ج 3: 16 نقلا عن المدائني
2- شرح نهج البلاغة ج 3: 16 نقلًا عن المدائني

وصرحوا بوضعها، وربما عينوا الواضع وشخصوه(1).

وكان لا بد أيضاً من بث الوضاع بين الرأي العام؛ ليحدثوهم عن مثالب خصومهم من الهاشميين، وينسبوها أحاديث إلى كبار الصحابة؛ ليمهدوا بذلك إلى تنشئتهم على بغضهم تنشئة تطمئنهم إلى عدم عودتهم للحكم مهما كلف الأمر، وحسب معاوية أن يسن سب علي علیه السلام وأولاده على المنابر والمآذن، وأن يبقى ذلك سنة لديهم حتى أيام عمر بن عبد العزيز.(2)

ولعلنا سننتهي – فيما بعد – إلى اعتبار الكثير مما ورد على لسان صاحبنا من الكتب في شأن بيت المال وغيرها - من الموضوعات عليه لهذا السبب.

أما المعتركات السياسية التي لا بسته ولم يدركها في حياته، فأهمها ما وقع من الصراع بين الأمويين والهاشميين بعد حادثة كربلاء، وبين الهاشميين أنفسهم في أثناء توليهم الحكم.

فكلنا يذكر جيداً الدعوة السرية إلى الرضا من آل محمد من قبل الهاشميين، ويذكر اجتماعهم في الأبواء ومبايعتهم لمحمد ذي النفس الزكية، ثم تفرقهم في البلدان لنقض الأمر على الأمويين، ثم محاولة العباسيين للاستئثار بالحكم.

ولازم هذه المحاولة أن نبدأ فنسمع التهامس بين أشياعهم على اعتبار الوراثة والوصاية بهم دون العلويين(3)، - وقد انحدرت اليهم كما جاء في بعضها - من العباس(4)، ومن محمد بن الحنفية كما جاء في

ص: 28


1- انظر سلسلة بأسماء الكاذبين والوضاعين في كتاب الغدير ج 5 : 209 - 288
2- انظر تأريخ الخلفاء - مطبعة السعادة ، مصر ، سنة الطبع 1371ه-: 243
3- انظر ذخائر العقبى - مطبعة القدسي ، مصر ، سنة الطبع 1356 ه-: 194
4- انظر الفخري في الآداب السلطانية - مراجعة وتنقيح محمد عوض إبراهيم، مطبعة المعارف، مصر، ط 2 ، سنة الطبع 1928 م: 119

بعضها الآخر(1). وأن نسمع بعضها يبشر بالسفاح على الخصوص(2)،

وبعضها بالمنصور(3)، وثالثة بالمهدي(4)، ورابعة بالعباس حتى يسلموها إلى المسيح.(5)

ومن أولى بصاحبنا من نسبة ذلك كله إليه وهو أبو الخلفاء، وأبو الخلفاء - في عرف السياسية - يجب أن لا يكون كسائر الآباء، وفي مستواهم الطبيعي، وإلا لكان أبناؤه كسائر الأبناء، بل يجب أن يرتفع عنهم ؛ ليرتفع أبناؤه بارتفاعه، فهو إذا ذهبت كريمتاه لا تذهب إلا لرؤيا جبريل، ورؤيا جبريل تورث العمى ! ولكن النبي صلی الله علیه و آله وسلم يؤخر ذلك إلى أخريات عمره رأفة به(6)، وهو إذا علم كان علمه غير طبيعي، بل يستند إلى دعاء النبي صلی الله علیه و آله وسلم له فلا يستوحش إلى مسألة أحد من الناس(7)، والخليفة عمر يدعوه إلى العضل الحادثة ولا يدعو غيره(8).. إلى آخر ما هنالك من مبالغات سنشير إلى بعضها فيما يأتي من أحاديث.

وآراؤه هي الأخرى يجب أن لا يضارعها رأي لأي كان من سائر الناس، ويكفي للشخص - مهما كان مقامه العلمي - أن يخالفه ليكون عرضة لسخط الخليفة، ما لم تكن المخالفة في صالح السلطة.

ص: 29


1- انظر الإمامة والسياسة - مطبعة مصطفى محمد، مصر ، لم نذكر سنة الطبع - ج 2 :- 128
2- انظر تهذيب تأريخ ابن عساكر - تصحيح عبد القادر أفندي، مطبعة روضة الشام، دمشق، ط1، سنة الطبع 1330 ه- ج 7 : 244
3- انظر ذخائر العقبى 205
4- انظر تهذيب تأريخ ابن عساكر ج 7: 244
5- انظر البداية والنهاية - مطبعة السعادة ، مصر ، ط 1 ، سنة الطبع 1451 ه- ج 122 : 10
6- انظر البداية والنهاية ج 298:10
7- انظر المصدر السابق ج 8: 297
8- انظر الإصابة في تمييز الصحابة - مطبعة السعادة ، مصر ، ط 1 ، سنة الطبع 1328 ه- ج 2 : 333

هذا محمد بن إسحق يريد أن ينتقم من أبي حنيفة، فيشي به عند المنصور بأنه يخالف ابن عباس في استثناء المنفصل، فيغضب عليه ويقول له :- أتخالفه؟! ويدرك أبو حنيفة حراجة موقفه، فيعمل لباقته للتخلص منه، فيقول:- لكلام ابن عباس تأويل صحيح وقد قال علیه السلام(1): - من حلف على يمين واستثنى فلا حنث عليه، والاستثناء لا يكون إلّا ،موصولاً، وهؤلاء لا يرون خلافتك، ويقولون أنهم بايعوك كرهاً وتقية، فلهم الاستثناء متى شاؤوا، ويخرجون من بيعتك، فغضب المنصور على ابن إسحق.(2)

وكما ترون لو لم يتدارك أبو حنيفة الأمر بالإشارة إلى نقطة الضعف في نفس المنصور، لكانت مخالفته لرأي ابن عباس وحدها كافية لغضب السلطة عليه.

وكما يجب أن يرتفع أبو الخلفاء عن مستواه في عرف أبنائه ليركز مقامهم، يجب أن يهبط عن المستوى في عرف خصومهم السياسيين؛ ليصح لهم أن يجردوهم من كل فضيلة.. حتى فضيلة الانتماء إلى أب في مستوى ابن عباس الحقيقي، وهنا بدأنا نسمع صوراً مشوهة عن ضعة نفسيته، وخيانته لبيت المال في البصرة، كما بدأنا نسمع عن آيات نزلت بحقه وحق أبيه أمثال : «وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا»(3) ... ونظائر ذلك(4)، مما يهبط به عن المستوى الطبيعي له .

(وثانيها) : - سبب عقيدي بحت: - ونريد به أن يقصد الواضع إلى الدس والكذب؛ لتأييد عقيدة يعتقدها هو، أو تفنيد عقيدة يعتقدها سواه، أو غير ذلك مما ينبعث له بدافع من العقيدة الخالصة.

ص: 30


1- أمير المؤمنين علي بن ابي طالب علیه السلام
2- انظر مناقب أبي حنيفة للكردري - مطبعة دار المعارف النظامية، حيدر آباد، سنة الطبع 1321ه- ج 1 : 184
3- الإسراء : - 72
4- انظر رجال الكشي - المطبعة المصطفوية، سنة الطبع 1317 ه-: 52

وهذا الضرب من الدس والوضع كثير في العصور الإسلامية وبخاصة بعد أن تعددت المذاهب وتكثرت مبانيها الفقهية وأختلفت أحكامها، وأصبح لكل مذهب أحكام قد تختلف جملة وتفصيلاً، وتستند كل منها في جزئياتها – غالباً – إلى أحاديث يوصلونها إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.

وفيهم من لا يتحرج عن الکذب عليه في سبيل تأييد ما يراه بل يكفي لدى بعضهم أن يجدوا كلاماً حسناً ليضعوا له الأسانيد وينسبوه إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم كمحمد بن سعيد المصلوب بدمشق.(1)

وكان الخوارج - فيما يحدث عن بعضهم عبد الله بن عيسى بن لهيعة - إذا هووا أمراً صيروه حديثاً.(2)

وقد كان من هؤلاء تلميذ صاحبنا عكرمة، وقد حبسه بالكنيف علي بن عبد الله بن عباس لتهمته إيّاه بالكذب على أبيه.(3)

وقد تجاوز بعض الزهاد الحدود المألوفة فجعل يتقرب إلى الله بوضع الحديث، حتى قال يحيى بن سعيد القطان «لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث»(4)، وعنه أيضاً : «ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير والزهد»(5). وقد قيل لأبي عصمة من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل القرآن سورة سورة؟ فقال : إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد

ص: 31


1- انظر میزان الاعتدال ج 3 : 560 رقم الترجمة 7592
2- انظر لسان الميزان - مطبعة مجلس دائرة المعارف حیدر آباد، ط 1 ، سنة الطبع 1330 ه- ج 1 : 10
3- انظر میزان الاعتدال ج 3: 93 رقم الترجمة 5716
4- صحيح مسلم - مطبعة محمد علي صبيح، مصر، سنة الطبع 1334 ه- ج 13:1
5- اللآلي المصنوعة اللسيوطي - المطبعة الأدبية، مصر، ط 1، 1217 ه- ج 2 : 248

بن إسحق، فوضعت هذا الحديث حسبة».(1)

ومن الطريف أن يسأل بعضهم - وقد وضع أحاديث في فضل القرآن وسوره - لم فعلت هذا ؟

فقال: رأيت الناس زهدوا في القرآن، فأحببت أن أرغبهم فيه.

فقيل : - فإن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، فقال : وهنا موضع الطرافة، أنا ما كذبت عليه وإنما كذبت له».(2)

وتأتي من هذا الباب روايات المناقب والمثالب لبعض رؤساء المذاهب الإسلامية، ممن يراد بهذا الدافع تقوية ،مذاهبهم، كالروايات الواردة في أبي حنيفة والشافعي على اختلافها في المدح والذم.

وقد قال الفيروزآبادي والعجلوني:«باب فضائل أبي حنيفة والشافعي وذمهم ليس فيه شيء صحيح، وكل ما ذكر من ذلك فهو موضوع ومفترى».(3)

وجاء في أسنى المطالب: «لم يرد في أحد الأئمة من بعينه نص لا صحيح ولا ضعیف».(4)

وقد نال صاحبنا نصيبه من الوضع عليه لذلك، فقد جاء عنه مثلاً: «ويكون بعد النبي صلى الله عليه و آله وسلم بدر على جميع خراسان يكنى أبا حنيفة».(5)

ص: 32


1- التذكار - تخريج وتعليق أحمد بن محمد بن الصديق لم تذكر المطبعة، ط1، سنة الطبع 1355ه- : 155
2- التذكار - 156
3- الغدير ج 5: 288
4- أسنى المطالب - مطبعة مصطفى أحمد، مصر، ط 1، سنة الطبع 1355 ه-: 14
5- مناقب أبي حنيفة للموفق بن أحمد المكي - مطبعة مجلس دائرة المعارف حیدر آباد، ط1، سنة الطبع 1321ه- 18

ولهذا نظائر في الأحاديث.. كما يأتي في هذا الباب الكثير من الروايات الواردة في شأن بعض المسائل الكلامية المعروفة، كمسألة خلق القرآن، والقضاء والقدر، وما شاكلها، مما أخذ من تلكم العصور مأخذه من احتدام الجدل والنقاش حوله أخذاً ورداً، حتى أريقت من أجل بعضها كثير من الدماء.

ويأتي في هذا الباب أخيراً الكثير من أحاديث بعض الدخلاء على الإسلام، كالزنادقة والكتابيين ممن اقتضتهم الظروف أن يتظاهروا في الدخول فيه، والكيد له، بوضع أحاديث تشوه من قيمته، وتترك التضارب في أحكامه، مما يحدث البلبلة في أفكار أتباعه، وقد صرح ابن أبي العوجاء الزنديق الشهير قبيل مقتله.. بأنه وضع أربعة آلاف حديث حلل فيها الحرام وحرم فيها الحلال.(1)

قال ابن قتيبة - وهو يتحدث عن أسباب اختلاف الحديث ودخول الفساد إليه :- «منها الزنادقة واحتيالهم للإسلام، وتهجينه بدس الأحاديث المستبشعة والمستحيلة».(2)

(وثالثها) : - سبب ذاتي نفعي : - ونريد به أن يعمد الواضع إلى الوضع لا لتأييد مبدأ أو سياسة خاصة، بل لإشباع شهوة عارمة في نفسه، أو ستر جانب من جوانب النقص فيها.

وهؤلاء كثيرون أيضاً، ولعلهم أكثر من غيرهم، وبخاصة في العصور التي بدأ الناس يتنافسون فيها على الحديث، وبدأنا نسمع المبالغات الواسعة في كثرة الحفظ والرواية، وأصبحت كثرة الحفظ مقياساً من مقاييس الرفعة بين المحدثين.

وقد بدأ ذلك أول ما بدأ في صدر الإسلام، حيث كثرت الفتوح، ودخل في زمرة

ص: 33


1- انظر تأريخ ابن الأثير ج 6: 3
2- لسان الميزان ج 1 : 13 . نقلا عن ابن قتيبة

المسلمين خلق كثير ، وكلهم متشوق لمعرفة هذا الدين وخصوصياته، وسيرة نبيه الكريم وأحاديثه، وبالطبع كانوا يقصدون في ذلك كله إلى كل عارف بها أو متظاهر بالمعرفة، وما أكثرهم ! وليس من السهل على غير المتورع أن يُسأل فلا يجيب، وما أيسر أن يجيب بما يخطر على ذهنه، ناسباً له إلى أحد كبار الصحابة، أو مدعياً لنفسه المشاهدة أو السماع، إن كان مما يتأتى منه ذلك، تقديراً لمركزه في نفوسهم، وتدعيماً لشهرته في الحديث، وقد حدث المؤرخون أن الخليفة عمر استكثر على أبي هريرة كثرة ما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم مع قصر المدة التي عاشها معه، وأنكر عليه ذلك.(1)

كما حدثوا أن الخليفة كان يطلب من بعض الصحابة البينة على ما يروونه من الحديث.(2)

والإمام علي علیه السلام كان - كما قيل - يحلّف من يحدثه بحديث رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم.(3)

وقد قال ابن عباس: «إنا كنا نُحدّث عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم إذ لم يكن يُكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه»(4). وفي رواية أخرى: «إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف».(5)

وقد جاء بعضهم إليه بكتاب فيه أقضية علي علیه السلام فمحاه إلا قدر ذراع، وهو ما صح لديه منها.(6)

ص: 34


1- انظر البداية والنهاية ج 8: 106
2- انظر تأويل مختلف الحديث - الدار القومية، مصر، سنة الطبع 1386ه- : 39
3- انظر المصدر السابق
4- صحیح مسلم ج 1 : 10
5- المصدر السابق
6- انظر المصدر السابق ج 1 : 11

ويدخل في هذا الباب الكثير مما ورد في مدح العرب أو الفرس، من الأحاديث المنبعثة في وضعها عن العصبيات والنزاع الشعوبي في تلكم العصور.

كما يدخل فيه الكثير من أحاديث القصاصين، قال ابن الجوزي:- «معظم البلاء في وضع الحديث من القصاص ؛ لأنهم يزيدون أحاديث تثقف وترقق والصحاح يقل في هذا»(1)، وعليه ينزل الغالب من القصص الواردة في غير القرآن من قصص الأنبياء وغيرهم في العهود البائدة.

ونصيب ابن عباس من الوضع عليه في هذه الشؤون كثير، كما تجدون ذلك في الكثير من الكتب المعنية بهذه الأمور.

وخاتمة ما نذكره مما يدخل في هذا الباب ما وجدناه في بعض الفقهاء من التزلف إلى السلطان بتبرير بعض أعماله المنافية لمبادئ الإسلام من طريق وضع الحديث له، كحدیث غیاث بن إبراهيم الذي دخل على المهدي بن المنصور - وكان يعجبه اللعب بالحمام - فروى حديث: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح».

فأمر له بعشرة آلاف درهم فلما قام يخرج قال المهدي: «أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول الله، ثم قال المهدي: أنا حملته على ذلك».(2)

مع المستشرقين

والغريب - مع هذه العوامل الداعية للوضع عليه وغيرها مما يناسبها - أن نجد بعض المستشرقين حائرين في تعليل هذا الاضطراب في أحاديثه، وربما ألقى بعضهم على عاتقه تبعة الكذب.

ص: 35


1- كتاب الموضوعات - مطبعة المجد ، مصر ، ط 1 ، سنة الطبع 1386 ه- ج 44 : 1
2- المصدر السابق ج 1 : 42

ففي دائرة المعارف الإسلامية جاءت هذه الفقرة.. «فلقد فضحوه بقولهم إنه كذاب غير منصف، وتزييفهم إياه يعود (حقاً) إلى حيلة السياسة».(1)

وما أدري من الفاضح له... أكان من القدماء المعتمدين أم من المحدثين ؟!.. أما أنا فلم أجد - في حدود ما رأيت - من ينسبه إلى الكذب وعدم الإنصاف، كيف ! وهذه الكتب التي تترجم له لم يرد فيها أي طعن من قبيل ذلك عليه، وقد نقل جواد علي عن شبر نکر رميه كذلك بالكذب والبهتان، ثم عقب عليه بقوله: «وأنا على يقين أنه لو أعمل عقله، ودرس هذه الأقوال المنسوبة إلى ابن عباس دراسة علمية دقيقة، ولو فكر في العوامل السياسية التي يمكن أن تكون هي المسؤولة أولاً عن ذلك، وهي لا تدخل في بحثنا هذا في زمننا، أقول: لو فكر في ذلك وتعمق في البحث عن هذه الأسباب ما تسرع في حكمه هذا الذي تخالفه أيسر قواعد الجرح والتعديل».(2)

والحقيقة أن ابن عباس لم يكن بدعاً من كبار الصحابة في الوضع عليه، ولم يكن الوحيد الذي نسب إليه أقوال مختلفة متضاربة، بل كان - كغيره منهم - عرضة للدس والكذب عليه، فإذا جاز أن يُنسب إلى الكذب لذلك، لم يصح بعد ذلك لدينا وجود صادق واحد في السابقين الأولين، ممن عرفوا بسعة العلم وكثرة الحديث؛ لكثرة ما وقع في تأريخهم من اضطراب.

وقد يكون صاحبنا أوفرهم نصيباً ، للعوامل التي ذكرناها في هذا الحديث ولكثرة ما شارك في مختلف النواحي الثقافية التي كانت في عصره.

على أنا - ونحن في بداية الحديث - لا يسوغ لنا أن نتعجل في إصدار الحكم عليه،

ص: 36


1- دائرة المعارف الإسلامية إعداد A.A.RGIBB وآخرون - مطبعة بريل ليدن، سنة الطبع 1960 م: مادة عبد الله
2- مجلة المجمع العلمي العراقي مجلد 1 سنة 212:1

قبل أن تستوي لنا دلائله وأماراته، وما يدريك لعلنا سننتهي فيه إلى غير ما تركز في أعماقنا عنه، متى عالجنا مختلف نواحي حياته معالجة موضوعية خالصة.

منهج المؤلف

أما كيف سنعالجها؟ وأي منهج سنسلك إليها منه مع هذه الاضطرابات، فيما خلص إلينا من تأريخ حياته وآرائه ؟ فذلك ما نتحدث فيه الآن...

أمامنا بادئ ذي بدء أن نصنف أحاديثه إلى أصناف نجعل في الأول منها ما ورد في كتب الثقات من الأحاديث الناهضة بمداليلها، التي لم نجد ما يصلح المعارضتها من الأحاديث الأخر، ولا من يكذبها من هواة التمحيص، مع أنها بمرأى منهم ومسمع. كما لم نجد فيها أي خروج على مقتضيات بيئته وعصره. ومثل هذا الصنف لا نتوقف عن الأخذ به والاعتماد عليه.

ويأتي في الصنف الثاني.. أحاديثه المتعارضة في مفاهيمها، وهذه - بالطبع - لا نأخذ منها إلا ما يصحح أسانيده أرباب الجرح والتعديل، ما لم يكن في مداليلها ما يخالف العقل، أو يخرج على إجماع المسلمين، أو يتنافى مع ما لعصره أو بيئته من اعتبارات، وإذا وجدنا فيها صحت أسانيده بعد ذلك تضارباً وتناقضاً عمدنا إلى إعمال قواعد التعادل والتراجيح من الرجوع إلى الاعتبارات الخارجية من ملابسات زمنية أو بيئية، أو حوادث جزئية وردت في خفايا التأريخ لنحكمها في تقديم بعضها على بعض.

وصنف ثالث يجمع كل ما ندر عن الصنفين السابقين، ومثل هذا بالطبع لا يكون مصيره غير الإهمال وعدم الأخذ به.

وسنحاول جهد الإمكان أن لا نعتمد من الروايات التي تمس بعض النقاط العاطفية في نفوس بعض الفرق من المسلمين غير ما صح مضمونه لدى الجميع. وما

ص: 37

تنفرد بنقله إحدى الطوائف سوف لا نحمل الطوائف الأخرى ،بلوازمه، وإذا اطمأننا إليه أخذنا به وأشرنا إلى جهة الانفراد بنقل الحديث.

ولا يفوتنا أن نسجل أننا سنجتزئ من الحوادث المتشابهة في دلالتها على ناحية من نواحي حياته، بذكر بعضها؛ لنوفر على القراء شيئاً مما يعطونه لهذا الكتاب من وقت.

أما المنهج الداخلي للترجمة له، فهو قائم على دراسته وعرض حياته منذ بدايتها، وقد وزعت البحث فيها إلى جزءين.

يبدأ الأول منها في مسايرته منذ ولادته والتدرج معه في مختلف أدوار حياته، طفولة وشباباً، وكهولة، مشيراً إلى كل ما يتعلق بحياته من الحوادث العامة، مما أعتقد بتأثيرها عليه أو تأثرها به واضعاً لها في موضعها من سني حياته.

ويبحث الجزء الثاني دراسة شخصيته دراسة سايكولوجية مستقلة ملتمساً عناصرها الأولية مما يتراءى لنا خلال بحثنا الأول من سلوكه العام، ومن آثاره العلمية والثقافية التي خلصت إلينا من بين عشرات المئات من الأحاديث.

أما بعد.. فهذا بحث شائك لا أدعي لنفسي أنني وفيته حقه من درس، وبخاصة وأن مواده الأولية لا يمكن استيعابها؛ لتفرقها في مختلف الكتب، وبعضها لا يتأتّى لمثلي الوقوف عليه.

وحسبك أن تعلم أن صاحبنا لا يكاد يخلو من ذكره كتاب إسلامي ألف في الفقه أو التفسير أو الأدب القديم أو التأريخ.

وكل ما هنالك أنها محاولة أضعها بين أيدي الباحثين المنهجيين – ممن هم أقدر مني على البحث والاستقراء والاستنتاج - لتكون نواة لبحوثهم القيمة في هذا الموضوع.

ص: 38

ولعلي أوفق إلى اتباعها بجزء ثالث يتكفل ذكر ما يقع لدي من أحاديثه، كمسند مستقل يضم مختلف آرائه ورواياته في الفقه والأدب والتفسير والتأريخ وغيرها.. إن ساعدني التوفيق.

ص: 39

ص: 40

الفصل الاول : حتى المراهقة

اشارة

ص: 41

ص: 42

هذه المرحلة

وفي ضوء المنهج الذي تحدثنا عنه، نبدأ فنصحب في هذا الفصل صاحبنا منذ ولادته إلى زمن مراهقته، ثم نستأنف الصحبة معه من جديد..

وهذه المرحلة هي التي يعدها السايكولوجيون أخطر مراحل الحياة وأكثرها تأثيراً في تلوين الصورة التي يطبعها الزمن للشخص، وعليها يتوقف جل مستقبله، وإليها تعود جملة من المؤثرات الفعالة في تكوين نواة الشخصية الثابتة له، وفيها أكثر من غيرها تتظافر العوامل الوراثية والبيئية على خلقها وتطورها، وربما تنافرت فحولت صاحبها إلى مصطرع زاخر بالعقد والانفعالات.

فاجتياز هذه المرحلة مع صاحبنا يستدعينا أن نتمهل في السير؛ لندقق النظر في ملابسات بيئته ونلتمس علاقتها بما ورثه عن آبائه من صفات.

على أن الفصل بين عوامل البيئة وعوامل الوراثة من الصعوبة بمكان؛ لما يؤثر عن العلم من التوقف في إعطاء كلمته الأخيرة في هذا الموضوع.

كما أن تحديد موروثاته كما وكيفاً لا يخلو من صعوبة، فكم يرث الولد من أبيه؟ وكم تورثه أمه ؟ وماذا ينقلون إليه عن أبويهما أو أجدادهما ؟ وما هي نوع الصفات الموروثة؟ وهل تورث الصفات المكتسبة ؟ كل ذلك لم يُبتّ به حتى الآن.

وإن كنت أعتقد برجحان ما يقوله بعض العلماء من أن الغرائز الفطرية موروثة، والذكاء موروث، وبعض الصفات المكتسبة إذا اتخذت في صاحبها طابع الثبوت

ص: 43

والاستقرار، وتحولت فيه إلى شبه غريزة، فهي موروثة أيضاً.

كما أن كثير من الصفات الفسيولوجية مما تورث عادة.

ليس من وليس من المصادفة البحتة - فيما أعتقد - أن يتفق جل البيت الهاشمي في الوسامة والجمال والكرم والشجاعة والذكاء وسلامة النفس والجاذبية والغيرية ونظائرها، ثم المصادفة البحتة أيضاً أن يقترب صاحبنا من أبيه - كما ينص المؤرخون - في الطول والجمال - وكما رأيناه من تأريخهما - وفي الذكاء والعقل وحسن الخلق وغيرها.

وربّما لا تساعف المصادفة أن يصاب عبد الله وأبوه وجده بالعمى وهم في أسنان متقاربة، وقد تكون متحدة، وربما يعزوها من يعزوها إلى عامل الوراثة التي يطلق عليها العلماء اسم الوراثة المتحدة الأزمنة.

وليس لنا أن نبت الآن في ذلك، فربما عثرنا في موضعها على عوامل نفسية او عوارض خارجية أثرت او ساعدت على ذلك.

على أن الذي يقتضينا الآن هو أن نعرض إلى بعض الصفات البارزة في أبويه، لنعرف منها بعض صفاته الموروثة من أبويه أو المكتسبة منهما، بحكم تشكيلها لبيئته الأولى، وتأثيرهما في أكثر مراحل حياته وبخاصة المرحلة التي عقد هذا الفصل للتحدث عنها.

ص: 44

أبوه

وأبوه هو أبو الفضل العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأم العباس نثيلة بنت جناب بن كليب(1)، وهي أول عربية كست الكعبة بالحرير والديباج وأصناف الكسوة.(2)

وقد ولدته قبل أن يولد النبي صلی الله علیه و آله وسلم بسنتين، وقيل بثلاث(3)، ونشأ كما ينشأ لداته من بني هاشم في بيت عز ومنعة ،ونجدة، وكانت له زعامة في قريش في الجاهلية، كما كانت له السقاية والعمارة في بيت الله الحرام(4)، وله من ثروته ووجاهته ووسامته وعقله وتدبيره ما يؤهله لكل ذلك.

أسلم - فيما يرويه غلامه أبو رافع(5)، وولده عبد الله(6) - قبل واقعة بدر، وقبل أن - يهاجر، وأوكل إليه مهمة حماية بعض المستضعفين من المسلمين من عادية خصومهم من المشركين وكان بمنزلة العين لرسول الله صلى الله عليه و آله وسلم على قريش.. يوافيه بأخبارهم ويكتب له بكل ما تجد لديهم من أمور(7)، وله من كتمان إسلامه ما يعينه على أداء هاتين الوظيفتين.

ص: 45


1- انظر طبقات ابن سعد - مطبعة ليدن سنة الطبع 1335 ه- ج 4 قسم 1 : 1
2- انظر الاستيعاب - هامش الاصابة - ج 94:3
3- انظر أسد الغابة - المطبعة الوهبية، مصر، سنة الطبع 1280 ه- ج 3: 109
4- انظر المصدر السابق ج 3: 109
5- انظر المستدرك على الصحيحين - مطبعة دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، ط 1، سنة الطبع 1334 ه- ج 3: 323
6- انظر طبقات ابن سعد ج 4 قسم 1:2
7- انظر الإصابة في تمييز الصحابة ج 2 : 271

و قد كتب إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يطلب إليه الإذن بالهجرة، فأبى عليه وأمره بالإقامة بمكة لحاجة في إقامته هناك.(1)

وأخرجه المشركون معهم إلى بدر كرهاً وأسر فيمن أسر وعامله صلى الله عليه و آله وسلم معاملة المشركين(2) إتماماً لتأدية مهمته عندما يعود إلى مكة.

وقد قيل في إسلامه غير ذلك.. فهو لدى بعضهم أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه إلى أن أسر ببدر فأظهر إسلامه(3)، ولدى آخرين أنه أسلم بعد واقعة بدر(4)، ولدى غيرهم أنه أسلم قبل حادثة خيبر.(5)

والذي أقربه هو الثاني وأقرب أن يكون قد أظهر إسلامه في أحد هذه الأوقات، ويكون ذلك بمنزلة الجمع بين الأقوال، وإلا فمن البعيد جداً أن يقف العباس من ابن أخيه هذه المواقف المشرفة من أخذه للبيعة على الأنصار(6)، ومناصرته للنبي صلى الله عليه و آله وسلم وكثير من المسلمين في أكثر من موقف، وهو مع ذلك غير مؤمن به.

وعقيدتي أن أسرة النبي صلى الله عليه و آله وسلم - إلا شذ منهم - لم نجد بداً من انشطارها إلى قسمين، يؤيد أحدهما النبي صلى الله عليه و آله وسلم ويعلن إسلامه، ويقف الآخر في جنب المشركين؛ ليخذل في صفوفهم من طريق غير مباشر .

وكان العباس وأبو طالب من الشطر الثاني، كما كان علي وجعفر وحمزة من الشطر

ص: 46


1- انظر أسد الغابة ج 3: 110
2- انظر المصدر السابق ج 3: 109
3- انظر تهذيب تأريخ ابن عساكر ج 7: 229
4- انظر الإصابة في تمييز الصحابة ج 2 : 271
5- انظر نكت الهميان - لم تذكر ،الطبعة لم تذكر سنة الطبع : 176
6- انظر طبقات ابن سعد ج 4 قسم 1:2

الأول.

وليس من الحزم أن تقف هذه الأسرة متكاتفة مجتمعة فتعرض نفسها ودعوتها لعصبيات قريش، وربما أعتبرت دعوتها قبلية صرفة، وعندها تفقد طابعها الإصلاحي العام، ويكون نجاحها لذلك بطيئاً ومحدوداً جداً.

ولم يهاجر العباس إلا بعد فتح خيبر(1)، وبعد أن أنهى مهمته في مكة ولم يبق لها موضوع ، وشهد مع النبي صلى الله عليه و آله وسلم فتح مكة وحُنيناً، وكان أحد القلائل الثابتين بعد هزيمة أصحابه(2)، كما شهد بعد ذلك بقية مشاهده كلها.

وللنبي صلى الله عليه و آله وسلم فيه كلمات تدل على منتهى عطفه عليه، وترفعه إلى مكانة قلما يبلغها أحد من الصحابة.(3)

وكان من جملة الهاشميين الذين انضموا إلى علي علیه السلام في حياة النبي صلى الله عليه و آله وسلم وبعد وفاته.

ولم يبايع لذلك أبا بكر رغم محاولته الواسعة في هذا السبيل(4)، وقد كان له نشاط ملحوظ في شأن الخلافة. سنلمس خطوطه في موضعه من هذا الحديث.

ومن الملاحظ أن معارضته للسلطة لم تؤخر مقامه في نفوس الخلفاء الثلاثة، بل كانوا يراعونه ويكرمونه ويخصونه - لمكانته من النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، ولقوة شخصيته – بمكانة ممتازة قلماً يطمع بها احد، فكانوا يترجلون له إذا رأوه وهم راكبون إجلالاً له(5). وقد

ص: 47


1- انظر طبقات ابن سعد ج 4 قسم 1 : 11
2- انظر المصدر السابق
3- انظر المستدرك على الصحيحين ج 3 : 325،328،329
4- انظر الإمامة والسياسة: - ج 1 : 14 - 15
5- انظر البداية والنهاية ج7: 162

استسقى به عمر في عام الرفادة وتشفع به إلى الله.(1)

توفي في أيام عثمان سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة(2)، بعد أن فقد بصره، وقيل سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة، وقيل سنة أربع وثلاثين من الهجرة(3)، وأشترك في تغسيله

الإمام علي علیه السلام ودفن بالبقيع(4) وله من العقب الفضل وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وقتم، ومعبد، وكثير، وتمام ، والحارث ، وأم حبيبة، وصفية، وأميمة.(5)

ص: 48


1- انظر طبقات ابن سعد ج 4 قسم 19:1
2- انظر نکت الهمیان 178
3- انظر تأريخ خليفة بن خياط - مطبعة الآداب، النجف، ط 1 ، سنة الطبع 1386 ه- ج 1 : 144
4- انظر طبقات ابن سعد ج 4 قسم 1 : 1-2
5- انظر طبقات ابن سعد ج 4 قسم 1 : 1-2

أمه

أما أمه، فهي أم الفضل لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية(1)، إحدى مفاخر النساء في بني هلال وأسرتها من الأسر العربية الثرية بأمجادها، ولها في آبائها أبطال لامعون. وحسبنا عن مكانة بيتها تسابق أشراف العرب إلى مصاهرته، والعرب – كما تعلمون - لا تصاهر غير الأكفاء، فهذا العباس - وهو من سادات قومه - يتزوج بلبابة، وهذا الوليد بن عقبة سيد قبيلته يتزوج بأختها العصماء، وتحظى ميمونة أختها الثالثة بالزواج من رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم .. وهكذا.

سارعت إلى الإسلام فكانت أول امرأة عربية تسلم بعد خديجة(2)، وتحملت في سبيل إسلامها نصيبها من العنت والضيق، مع من تحملت من نساء الهاشميين اللواتي حوصرن مع أزواجهن في الشعب، وتولت حماية بعض الضعفاء من المسلمين، فهذا أبو رافع غلام العباس يقع بعد واقعة بدر فريسة لأبي لهب، فتحمل عموداً من عُمد الحجرة وتتحامل عليه فتشج رأسه شجة منكرة، وهي تقول: «أستضعفته أن رأيت سيده غائباً»، يقول الراوي: - «فقام ذليلاً يجر رجلية جراً ولم يبق بعدها غير سبعة أيام أصيب فيها بالعدسة ومات».(3)

وكان رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يحبها حباً جماً، فكان يقيل عندها يوم كان بمكة ويزورها

ص: 49


1- انظر أسد الغابة ج 3: 193
2- انظر طبقات ابن سعد ج 203:8
3- المستدرك على الصحيحين ج 3: 322

وعاود ذلك بعد هجرتها إلى المدينة، فكان يزورها ويأتي بيتها كثيراً(1)، وقد قالت له صلى الله عليه و آله وسلم - كما في كتاب طبقات ابن سعد ضمن حديث: «إن الله نعاك لنا، فلو أوصيت بنا من يكون بعدك، إن كان الأمر فينا أو في غيرنا، قال: إنكم مقهورون مستضعفون بعدي»(2)، ونرجو أن نحتفظ بهذه الرواية لما فيها أن نحتفظ بهذه الرواية لما فيها من كشف عن مدى اهتمامها بشأن الخلافة، فربما ألقت بعض الاضواء على مفتاح عقدة سنلمسها في نفس ولدها بعد حين ....

وقد شهد صلى الله عليه و آله وسلم لها ولأخواتها بالإيمان بقوله - وقد ذكرن عنده: «إن الأخوات المؤمنات»(3)، وكانت في الحقيقة مثال المرأة المؤمنة الصالحة، وقد حدث عنها ولدها أنها كانت تصوم من كل أسبوع يومي الإثنين والخميس.(4)

تزوجت العباس فأولدها الفضل وعبد الله وعبيد الله وقثم وعبد الرحمن ومعبد وأم حبيبة. وفيها وفي زوجها وأولادها يفخر يزيد بن عبد الله شاعر بني هلال ..

«ما ولدت نجيبة من فحل***بجبل نعلمه وسهل

كستة من بطن أم الفضل***أكرم بها من كهلة وكهل»(5)

«عم النبي المصطفى ذي الفضل*** وخاتم الرسل وخير الرسل»(6)

وفي كتاب طبقات ابن سعد أنها أرضعت الحسين علیه السلام بلبن قثم.(7)

ص: 50


1- انظر طبقات ابن سعد ج 8: 203
2- المصدر السابق
3- طبقات ابن سعد ج 203:8
4- انظر المصدر السابق
5- طبقات ابن سعد ج 2:4
6- الاستيعاب ج 4 : 299
7- انظر طبقات ابن سعد ج 204:8

توفيت قبل وفاة زوجها، في أيام خلافة عثمان(1)، وقد أثر عنها أحاديث رواها ولدها عبد الله وتمام وكريب مولى ابنها وغيرهم.(2)

ص: 51


1- انظر الإصابة في تمييز الصحابة ج 4 : 484
2- انظر المصدر السابق ج 4 : 283

ص: 52

ولادته

وكانت ولادته في الشعب، وقد حُمِلَ إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فحنكه بريقه، وكان هو الوحيد الذي حصل على هذا الشرف منه الا الله كما يقول مجاهد.(1)

واختلف بعد ذلك في مولده.. فقائل أنه ولد قبل الهجرة بثلاث(2)، وآخر يقول ولد قبلها بخمس(3)، وثالث بسنتين(4)، ورابع يدعي أن ولادته كانت عام الهجرة(5)،. ولكل من هذه الأقوال سند من مأثوراته، والأخير لا يلتئم مع ولادته بالشعب، وهو ما صح لدى أكثر المؤرخين، كما لا يلتئم مع ما صح من أحاديثه القائل بعضها:- «قبض رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم و أنا ختين»(6)، وبعضها «وقد ناهزت الاحتلام»(7)، وما شابهها من الأحاديث، بالإضافة إلى أن بعض قضاياه مع النبي صلى الله عليه و آله وسلم لم يكن يناسب صدورها من ابن عشر عادة، والذي عليه الواقدي والزبير بن بكار وغيرهما من أهل العلم بالسير هو الأول منها(8)، ويناسبه حديث مناهزته للاحتلام عند وفاة النبي صلى الله عليه و آله وسلم، والقول الثاني ليس ثمة ما يمنعه، وقد ورد عن سعيد بن جبير، ويؤيده ما ورد في الصحيح

ص: 53


1- انظر البداية والنهاية ج 2958
2- انظر الأستيعاب ج 351:2
3- انظر الإصابة في تمييز الصحابة ج 2: 330
4- انظر دائرة المعارف الإسلامية - مادة عبد الله
5- انظر البداية والنهاية ج8: 295
6- الاستيعاب ج 2 : 351
7- ذخائر العقبى : - 226
8- انظر الاستيعاب ج 2 : 351

عن ابن عباس أنه قال : «قبض رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، وأنا ختين»(1)، وكانوا - فيما تحدث بعض الروايات - لا يختنون الرجل حتى يدرك(2)، وجاء عن سعيد بن جبير عنه: «توفي رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وأنا ابن خمس عشرة»(3) (3)، وليس ما يمنع القول الثالث لنفس الأعتبارات، وتحقيق ذلك ليس بمهم ما دام تقديم سنة وتأخير أخرى لا يغير في مجرى حياته مع النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، ولا يؤخر في الحكم له أو عليه، وحسبنا الآن أن نعتمد القول الأول ما دام جلّ أهل العلم بالتأريخ والسير يقدمونه على غيره ويعينونه من بين هذه الأقوال حتى قال الواقدي: لا خلاف عند أئمتنا أنه ولد بالشعب حين حصرت قريش بني هاشم، وأنه كان له عند موت النبي الا الله ثلاث عشرة سنة».(4)

وهنا تبرز الكثير من الروايات التي تحيط ولادته بملابسات غير طبيعية لتمهد لأولاده - بعد حين - إدعاء تبشير النبي صلى الله عليه و آله وسلم بهم وبخلافتهم، وبالمهدي منهم، وما شابه ذلك، وليس بينها ما يسلم من مؤاخذات أرباب الجرح والتعديل، وتركنا التعرض لعرضها ومحاكمتها احتفاظا بوقت القارئ الكريم.

ص: 54


1- الاستيعاب ج 2:351
2- انظر المصدر السابق
3- المعرفة والتأريخ - مطبعة الإرشاد بغداد سنة الطبع 1394 ه-: 515
4- الإصابة في تمييز الصحابة ج 2:330

الطفولة المبكرة

ونشأته وحياته قبل الهجرة لا تختلف - فيما أعتقده - عن نشأة وحياة أي فتى مثله، يولد في مكة وينشأ في حضني أبوين كريمين موسرين من أسرة كريمة لها زعامة في بيئتها ومركز قوي فيها. فهي لا بد أن ترعى ما أورثته من قبليات واسعة، وتكيفها حسبما تقتضيه بيئتها الخاصة ومستقبل الصبي. وقد خلف لنا التأريخ في حناياه بيتين من الشعر كانت أمه ترقصه بهما، وهما يشيران بوضوح إلى نوع تلك الرعاية...

ثكلتُ نفسي وثكلتُ بكري***إن لم يسُد فهراً وغير فهر

بالحسب العدَّ وبذل الوفر***حتى يوارى في ضريح القبر(1)

فهي - كما ترون - لا ترضى لوليدها في مستقبله أن يكون كسائر الناس، بل تريد له السيادة العامة لفهر وغير فهر، وإلا فهي تدعو على نفسها وعلى بكرها بالشكل إن لم يتحقق له ذلك، وقد عينت له أسباب السيادة، فهي تريد له أن يسودهما بالحسب الكثير، وبذل الوفر ، وما كان يدور في حسبانها أنه سيسود ولكن ليس بها فحسب، بل بالعلم الوافر والأدب الجم ، حتى يُزاحم بهما تيجان الملوك والأمراء.

وليس بعد ذلك ما يشير إلى نوع تربيته ومدى تكيفه بالبيئة الداخلية والخارجية، على أن التأريخ لم يعودنا البحث عن طفولة من يعنى بهم من الناس، ولعل ذلك يعود إلى التشابه في حيواتهم عادة، وليس فيها ما يلفت نظره ليخصها بكثير من الحديث، وما كان يحسب أن حادثة بسيطة يكفي أن تمر بحياة طفل لتوجه مستقبله جميعاً، وربما كانت

ص: 55


1- انظر القالي - مطبعة السعادة، مصر، ط 3 سنة الطبع 1373 ه- ج 2 : 114

كافية لوضع يد الباحث الحديث على مفتاح شخصيته في تمام أيام حياته.

وما أدري.. أنستطيع أن نستخرج صورة تقريبية لحياته في هذه الفترة.. أعني فترة إقامته بمكة قبل أن يهاجر مع أبويه - وهي فترة تمتد بنا إلى ما يقارب العشر سنوات - نرجو أن نحاول ذلك مستعينين عليه بما نعرفه عن أسرته الخاصة، وهي التي تشكل بيئته الداخلية، وعن محيطه العام، ثم بما يقوله أرباب الاختصاص من علماء النفس في تحديد خصائص أمثاله من الأطفال وهم بهذه الأسنان.

يقسم علماء النفس مراحل الطفولة إلى ثلاث(1)

1 - من المهد : - ولا يهمنا الحديث عنه الآن؛ لأن صاحبنا – فيما نعتقد – لم يكن يختلف عن غيره من الأطفال، ولا أقل من أن الأضواء على هذه الفترة معدومة لدينا نهائياً.

2 - الطفولة -الأولى وهي تنتهي تقريباً في سن الخامسة، ويمتاز صاحبها عادة بالميل إلى الحركة واللعب وإحداث التجارب في الأشياء المحيطة به. ويعللون ذلك بأن

العالم جديد بالنسبة إليه، فهو يميل إلى فهمه بتجاريبه الشخصية، ولا يقتصر نشاطه على اختلاف ضروبه على تعامله مع البيئة المادية بل يتعداها إلى الأشخاص من سلطة وزملاء، وبذلك يفهم غيره ونفسه فهماً أولياً، ويكون له فكرة عن ذاته وفرديته من طريق التقليد وتقمص السلطة المحيطة به؛ ولذلك تجده في هذه المرحلة شديد التقليد، كثير اللعب التمثيلي أو الإيهامي الذي قد يعوضه عما يشعر به من نقص في الواقع، عندما يجد نفسه ضعيفاً عن أكثر ما يحيط به من أشياء.

وهذه المرحلة كسابقتها قليلة الأضواء الكاشفة، وإن كنت اخال أن أسرته قد

ص: 56


1- انظر أسس الصحة النفسية - مطبعة النهضة، ط : 4 ، سنة الطبع 1371 ه-: 15-153

وفرت لديه أدوات اللعب ومكنته من الاتصال بمن يناسب بيتهم من أشراف قريش وهي بثروتها وكرمها وحسن تربيتها لا بد أن تدفع عنه كثيراً من العقد، التي تنتاب أبناء الفقراء عادة في البيئات التي تجمع بين الأغنياء والفقراء في صعيد واحد، وذلك بما توفر له من الرفاهية المعاشية وتهيئة وسائل اللهو والارتياح.

3 - الطفولة المتأخرة:- وهي تنتهي تقريباً بسن الثانية عشرة، وتمتاز بإتقان للخبرات والمهارات اللغوية والحركية والعقلية السابق اكتسابها، وبهذا ينتقل الطفل تدريجاً من مرحلة الكسب إلى مرحلة الاتقان، كما تمتاز باهتمامه بالأشياء الخارجية، من حيث كونها موضوعات متميزة عن ذاته، ثم أهتمامه بملاحظة ما يدور حوله بعناية، وبذلك يحاول تحقيق التوازن بين نزعاته الذاتية والموضوعية.

ويحاول بعض الباحثين تقسيم هذه المرحلة إلى قسمين... يبدأ أولهما من سن الخامسة إلى الثامنة، وفيها تبدأ زيادة اتصاله بالعالم المحيط به، ومحاولة تفهم عناصره المادية والاجتماعية. وهذه المرحلة بالنسبة إلى صاحبنا مهمة جداً، فهو بحكم اتصاله بعالمه الخارجي ومحاولة تفهمه، لا بد أن يكون قد سمع عن الدين الجديد كثيراً، وعرف عن مبادئه كثيراً، ولاحظ من نضال أمه وأخيه، ومن يمت إليه بصلة المبدأ - لمن يخالفهم من جوارهم وأبنائهم - الشيء الكثير ، ولعله سمع عن موقف قريش من أتباعه المؤمنين به بوجه عام، ومن قبيلته الخاصة يوم حاصروهم بالشعب، وضربوا عليهم الضائقة الاقتصادية في أيام ولادته بوجه خاص. ثم سمع عن موقف قريش من أبيه وأولاد عمه يوم أخرجوهم إلى حرب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كرهاً في بدر، ثم موقف النبي صلی الله علیه و آله وسلم منهم من معاملتهم، مع إظهار مدى عطفه على أبيه .. إلى ما هنالك من ملابسات المبدأ الجديد التي تهم أمثاله عادة.

وقد كان - بالطبع - حديث الدعوة، وتتبع كل ما يتعلق بها من أحداث هو

ص: 57

شغل أسرته الشاغل، بل شغل جميع من يتصل بهم بمكة، فهم لا يفتؤون يتحدثون عنها صباح مساء، وفي تقدمها يومياً في صفوف العرب بالفتوح والغزوات من ناحية، وتهافت أهل العقول منهم عليها من ناحية أخرى ما يقدم للمتحدثين مادة واسعة لملء الوقت بالكلام، فهو - عادة - يسمع حديثها في البيت، ويسمع حديثها خارج البيت وربما كون له الحديث عنها صورة لصاحبها تلحقه بأبطال الاساطير.

وأي طفل بهذه السن، وبهذا الذكاء والتطلع - الذي سنلمس درجتها العالية فيما يأتي من حديث - يسمع عن قريب له مثل هذه السلطة والنفوذ، ومثل هذه المواقف البطولية الواسعة فلا يرسم له تلك الصورة الرائعة، ولا يتأثرها ويهتم بها، وتأخذ من وقته أكثره تفكيراً وتحدثاً، وربما ولدت له أزمات بينه وبين رفاقه من أبناء المشركين، ممن لا يهشون إلى مثل هذا الحديث، وقد يكون فيهم الموتور بأبيه أو بأخيه، وما يدريك لعلها تتجاوز بعض الأحيان حديث الكلام إلى غيره من السباب وشبهه، وربما طغى حديثها على ما يعتادون مزاولته من العاب فهجروها إلى النزاع والشجار والعراك.

وهذه المرحلة عادة تمتد إلى المرحلة الثانية، التي تبدأ من التاسعة إلى الثانية عشرة، وفيها تبدأ القوى العقلية من تفكر وتذكر وانتباه بالنضج والاستواء، ويشتد ميله للكشف والمعرفة والتجول والمخاطرة ،والمصادقة، ويكثر اهتمامه بالعالم الخارجي من مواد وأشخاص كثرة لم يسبق لها مثيل.

وبالطبع يكون صاحبنا في هذه المرحلة أكثر اهتماماً بشأن مبدئه، وأكثر محاولة لتفهمه وتعقله وأشد تعصباً له، وقد كان يواجه الحديث عنه أينما يذهب، ويسمع النقاش والنزاع حوله بين أتباعه ومناوئيه على الدوام، كما يسمع الأنباء تتواتر بانتشاره وانتصاره في أغلب المواقع. وربما كانت تتواتر على سمعه مواقف ابن عمه علي علیه السلام الخارقة للعادة، وانتصار المسلمين به في أكثر من موقع مما يكون عادة من بواعث إكباره

ص: 58

والتشوق إليه.

وما أدري كيف استقبل نبأ قدوم ابن عمه صاحب الرسالة، ومعه ألف وأربعمائة من أبطال المسلمين للعمرة(1) ؟ وما هي الأخيلة التي ساورته قبل التقائه؟ وماذا أعد لمواجهته؟ ثم ما هي أنواع الانفعالات التي أعقبتها عندما علم بأن قريشاً لم تسمح له بالدخول، ولم يؤذن هو بقتالها. وكان ما كان من أمر الصلح والعودة من حيث أتى، وبماذا واجه رفاقه من أبناء المشركين؟ وكيف قابل ارتياحهم بمنع ابن عمه من العمرة والدخول إلى مكة أو أي أثر تركه ذلك في نفسه؟.

الذي أخاله أنه تأثر لذلك كثيراً، واهتم له كثيراً وبقي ينتظر الساعة التي يعود بها إلى مكة منتصراً لينتقم لنفسه من هؤلاء الشامتين به. ولكن الزمن قد طال به، وفوجئ بخبر الحجاج بن علاط السلمي، وهو يطوف بمكة وحوله مشركو قريش، يبشرهم بهزيمة النبي صلی الله علیه و آله وسلم في خيبر واسره وقتل أصحابه، ويستحثهم على جمع ديون له كانت في أعناقهم ليدرك بها خيبر قبل أن يسبقه إليها التجار ، ويشتري من فرار محمد وأصحابه(2). ولم يكن ذلك مفاجأة له فحسب، بل لجميع المسلمين بمكة، فقد غمهم ذلك غماً شديداً، وبخاصة أبوه العباس، فقد حدثوا عن حزنه وارتباكه بأنه فتح بابه وأخذ ابنه قثماً وجعله على صدره، وكان يشبه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم - وهو يردد من دون شعور..

ياقثم ياقثم***يا شبه ذي الكرم(3)

ولكن أثر الصدمة لم يطل، فقد اختلى العباس بالحجاج، فأخبره بأن هذه حيلة جاء

ص: 59


1- انظر تأريخ الطبري - المطبعة الحسينية، مصر ، ط 1 ، سنة الطبع 1326 ه- ج 3:72
2- انظر المصدر السابق ج 3: 96-97
3- انظر طبقات ابن سعد ج 4 قم 1: 10

بها إلى مكة؛ ليستنقذ ماله، وأن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قد فتح خيبر وظفر بأهلها وبأموالهم(1)، ولعله حدثه عن خصوصيات الفتح، وأخبره عن وقوعه على يد علي علیه الشلام، بعد أن رجع غيره عنها منكفئاً، وأن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قال - وقد ساءه رجوع سواه بالراية منهزماً: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار»(2)، ثم أخبره عن موقفه من سيدهم مرحب ومن الباب التي قلعها وتترس بها .. إلى غير ذلك من شؤون الفتح (3)، وبالطبع فقد سارع العباس إلى أهله وجمعهم حوله، ثم حدثهم بكل ذلك، ولا بد أن يكون ذلك الحديث قد لفت هذا الطفل وأصغى إليه بكل جوارحه، ولفته منه على الخصوص موقف ابن عمه البطولي، وما فيه من غرائب لا يتسنى وقوعها لأكثر الشجعان. وإن حديث القضايا الغريبة مما يستهوي من هم بسنه أكثر من غيرهم. وما يدريك لعله وجد فيه صدى لما يملأ شعوره بالعزة بعد أن جرحه من رفاقه هزء

الهازئين ، وقد يكون خرج مع أبيه حين تطيب ولبس أحسن ثيابه، وطلع على قريش في البيت فطاف بالكعبة واستقبله منهم الشامتون فقال قائلهم: «يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة قال : كلا والله الذي حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر وترك عروساً على بنت ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه»(4). ثم جلس لتقبل التهاني من المسلمين.

وقد قيل: إن العباس هاجر بعد هذه الحادثة إلى المدينة وأعطاه النبي صلی الله علیه و آله وسلم فيمن

ص: 60


1- انظر تأريخ الطبري ج 3: 96
2- سيرة ابن هشام - مراجعة محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة حجازي، مصر، لم تذكر سنة الطبع - ج 3: 386
3- انظر المصدر السابق
4- سيرة ابن هشام ج 3: 400 ، وانظر طبقات ابن سعد ج 4 قسم 1 : 10

أعطى من المسلمين من غنائمها(1)، ولعله هاجر وحده - إن صحت هجرته - ثم عاد إلى حمل عائلته بعد ذلك، وربما كانت عودته مع النبي صلی الله علیه و آله وسلم عندما جاء معتمراً في ذي القعدة من هذه السنة - أعني السنة السابعة من الهجرة - ومعه الفا فارس من فرسان المسلمين.

ولك أن تحدث ما شئت عن شعور صاحبنا وقد استقبل ابن عمه بعد ذلك الشوق الأكيد، ورآه بتلك القوة والمنعة ، ورأى فيه ما يملأ نفسه شعوراً بالعز والكرامة. وبالطبع كان استقبال النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولأسرته استقبالا يطغى عليه الشوق والعطف الواسعين، وبخاصة بعد ذلك الفراق الطويل، وما أدري أكان بهذه السفرة ما حدثوا عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنه كان يجمع صاحبنا وأخويه عبيد الله وكثيراً ثم يصفهم بعيداً عنه وهو يقول: «من سبق إلي فله كذا فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبّلهم ويلتزمهم».(2)

وقد شاهد خالته ميمونة وهي تُزفّ من قبل أبيه إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وكان يأمل - بالطبع - أن يشاهد مراسيم الزواج، ويحضر الوليمة التي وعد النبي صلی الله علیه و آله وسلم بها قريشاً إن تركوه يبني بزوجته في مكة ولكنهم أبوا عليه ذلك، فاضطر للنزول على عهدة أن لا يبقى أكثر من ثلاثة أيام.. ثم ارتحل عنهم بأصحابه(3)، وأبقى اللوعة في نفس عبد الله وغيره من أسرته على فراقه.

وبقي عبد الله ينتظر الساعة المباركة التي يتم بها الالتحاق برسول الله صلى الله عليه و آله وسلم والهجرة إلى المدينة، ولم تطل كثيراً فقد بدأت أُسرته تتهيأ للسفر وبدأ هو يهيئ جوه لملاقاة أسعد الفرص، وبعد أشهر من سفر النبي صلى الله عليه و آله وسلم كان له ما أراد.

ص: 61


1- انظر طبقات ابن سعد ج 4 قسم 10:1
2- أسد الغابة ج 3 : 340
3- انظر تأريخ الطبري ج 3 100 - 101

ص: 62

العودة إلى مكة

وما كان يدور بحسبانه أنه سيعود إلى بلده قريباً، ويعود مع النبي صلى الله عليه و آله وسلم فاتحاً لمكة، مسيطراً عليها، قامعاً لأصنامها، فقد قدّر له ولأسرته أن تلتقي النبي صلى الله عليه و آله وسلم بعض الطريق، ومعه عشرة آلاف من المسلمين وهم بأعظم عُدّة ، وقد قصد بهم إلى مكة ليتولّى فتحها بعد أن نقضت قريش العهود.

قال ابن هشام: «ولقيه - يعني العباس - بالجحفة مهاجراً بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله عنه راض»(1) وكم كان سرور صاحبنا عظيما ساعة رأى زعيماً من زعماء المشركين وكبير قوادهم في يوم الأحزاب مستخذياً أمام قوة الإسلام ولائذاً بأبيه، يستجير به من عادية المسلمين، وقد أردفه أبوه خلفه على بغلة النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، وتعهد له بالحماية حتى أدخله على رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، وعمر يتهدده بالقتل، ثم قف النبي صلى الله عليه و آله وسلم من قبول حمايته، وقوله له : «إذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به»(2) ويبيت في رحل العباس بمرأى من ابنه وأخوته ولا بدّ أن يكون حديثهم في تلك الليلة قد ملأ نفسه نشوة وارتياحاً عظيمين، فقد كان - في طبيعة الحال - منصباً على ما بلغه الإسلام من العز والمنعة، وما أدري أسر صاحبنا بعد ذلك لدخوله في الإسلام مرغماً بعد تلك المحاورة بينه وبين النبي صلى الله عليه و آله وسلم، ثم بينه وبين أبيه في صبيحة تلك الليلة، فقد حدّثوا عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال : «ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن

ص: 63


1- سيرة ابن هشام ج 4 : 18
2- سيرة ابن هشام ج 4 : 22

تعلم أنه لا إله إلا الله.

قال: - بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك!. والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً. قال:- ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك!. أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً.

قال العباس:- ويحك أسلم قبل أن تُضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق، ومنّ عليه رسول الله بالعفو، وجعل له (من دخل داره فهو آمن).

ثم أمر رسول الله عمه بأن يحبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، لتمرّ به جنود الله فيراها».

وهنا نترك الحديث للعباس، ليحدثنا عن انطباعات صاحبه عن جنود الله. وما أدري أكان معه ولده ليلتمس أثرها على صفحات وجهه؟ أم حدثه بعد ذلك أبوه - فيمن حدث من الأُسرة - فسُرّ لاستخذائه أعظم سرور.

قال العباس:- «فخرجت حتى حَبَسْتُهُ بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله أن أحبسه قال ومرّت القبائل على راياتها كلما مرّت قبيلة قال : يا عباس من هذه، فأقول: - سليم، فيقول : مالي ولسليم!!، ثم تمرّ القبيلة فيقول:- يا عباس من هؤلاء؟ فأقول :- مزينة، فيقول : - مالي ولمزينة !! ، حتى نفدت القبائل، ما تمر قبيلة إلّا يسألني عنها، فإذا أخبرته قال مالي ولبني فلان حتى مرّ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والانصار لا يُرى منهم إلا الحلق من الحديد فقال: - سبحان الله يا عباس من هؤلاء ؟! ، قال : قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم في المهاجرين والأنصار، قال:- ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك

ص: 64

الغداة عظيماً !، قال : قلت:- يا أبا سفيان إنها النبوة - وكأنه نسي أنه كان قد أسلم قبل قليل - قال فنعم إذاً».(1)

وسار النبي صلى الله عليه و آله وسلم إلى مكة بهذه الجيوش وسار معه عمه العباس، وسار معهم صاحبنا الصغير فيمن سار من أسرة العباس.

وراية النبي صلى الله عليه و آله وسلم مع سعد وهو يردد بزهوة الفاتح:- «اليوم يوم الملحمة اليوم تُستحلّ الحُرمة».(2)

ويفزع رجل من المهاجرين إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم ويبلغه بمقالة سعد بن عبادة، فيأمر صلى الله عليه و آله وسلم علياً يأخذ الراية منه وإدخالها إدخالاً رفيقاً ويدخل بها الإمام إلى مكة فيتم الفتح، ويشهده ابن عباس ويشهد معه فزع قريش وتهافتهم على دور الأمان التي جعلها لهم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، ثم يشهد - بالطبع - خطبة النبي صلى الله عليه و آله وسلم، وهو واقف على باب الكعبة، وجماهير قريش حضور، وعيونهم معلقة بشفاه النبي صلى الله عليه و آله وسلم، وهم أذلاء ينتظرون مصيرهم بما يصدر من أمر. ولعله كان ينتظر أن يأخذ صلى الله عليه و آله وسلم بحقه أو بجزء من حقه، فيشدّد عليهم جزاء ما فعلوه معه ومع أسرته من منكرات، ولكن النبي صلى الله عليه و آله وسلم كان قد أراد أن يعطيهم درساً في الأخلاق عظيماً فتناسى معهم كل شيء.

فلنستمع إليه مع صاحبنا كيف يقول، وأرجو أن نتدبر معه هذه الكلمات لنعرف موقعها على نفسه، ولا ننسى أن عمره إذ ذاك كان إحدى عشرة سنة، وهو بداية دور التعقل والتفكر والتفهم - كما سبق أن قلناه - أقول: - بدأ صلى الله عليه و آله وسلم خطبته بقوله: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ألا كل

ص: 65


1- سيرة ابن هشام ج 4 : 22 - 23
2- سيرة ابن هشام ج 4 : 26

مأثرة أو دم أو مال يدعى، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج».(1)

وهنا نلاحظ أن صاحبنا قد استشرف وتلفت مزهواً لهذه الكلمة (وسقاية الحاج) لأن السقاية كانت تخص أباه دون سائر الزعماء من قريش إلى أن يقول .. «يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم خلق من تراب – ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم-«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(2)»(3)

وهنا نلاحظ صاحبنا يستشرف أيضاً؛ لينظر أصحابه من أبناء المشركين، ويلمس وقع هذه الكلمة على نفوسهم، بعد أن سمعهم يسخرون بلسان آبائهم من بعض أتباع هذا الدين، لا لشيء إلا لأنهم لا ينتمون إلى فلان أو فلان، ممن يسمونهم الأشراف، أو لا يملكون الكمية الكبيرة من المال، وربّما يسمونهم بالأراذل استهانة بهم وتوهيناً للدعوة التي جمعت شملهم من هنا وهناك، فكأن الفقر أو ضعة النسب – في تقاديرهم من بواعث الخزي والعار. وقد جاءت هذه الفقرة من بيان هذا المشرع الكبير شاجبة لجميع هذه العنعنات التي لا تستند في دعائمها على أيّ أساس.

ويعود صاحبنا إلى شفاه النبي صلى الله عليه و آله وسلم، لينظر بعد ذلك ما يقول، إنه يقول:- «يا معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم»، وتطلّع الناس بعضهم لبعض، وهم يعلمون سلفاً ما يستحقونه من جزاء ولكن ثقتهم بهذا النبي العظيم وبأخلاقه العالية تترك لهم بعض الاطمئنان فيجيبون بلسان واحد «أخ كريم وأبن أخ كريم» وهنا يدوّي

ص: 66


1- تأريخ الطبري ج 2 : 337
2- الحجرات : 13
3- تأريخ الطبري ج 2 : 337

صوته الشريف فيملاً الأسماع: «إذهبوا فأنتم الطلقاء».(1)

عفو عام يبعث النشوة في نفوس الجميع، وما أدري كيف كان وقعه على نفس صاحبنا ؟ وهل سره أن يرى طغاة قريش من آباء أصحابه الذين سخروا منه ومن مبادئه غير مرة معافين من كل سوء؟، أحسب أن لذة العفو كانت أوقع على نفسه من أي إجراء آخر يتخذ تجاههم، وللعفو لذة لا يتحسسها إلّا أقوياء النفوس عادة، وحسبه أن يكون من آل هذا البيت الذين أشتقت أخلاقهم من خلق رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، كما كان هو يقول.

شاهد كل ذلك، وشاهد قريشاً رجالها ونساءها يبايعون لرسول الله صلى الله عليه و آله وسلم على الإسلام، ويدخلون في دينه أفواجاً أفواجاً، ثم لاحظ ابن عمه علیه السلام وهو يطهر البيت من الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله، فملأه كل ذلك زهواً وارتياحاً، وتركه ركه يتابع ابن عمه في روحاته وغدواته، ولا يفارقه عادة إلّا في القليل من الأحيان، بل لم يفارقه حتى في ذهابه بالمسلمين وبمن أسلم من قريش لغزو هوازن، وكانت عدّتهم اثني عشر ألفاً.. عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفين من أهل مكة(2)، وقد التقاهم في حنين والمسلمون في تخايل من كثرتهم، حتى قال أبو بكر: «لن نغلب اليوم من قلة»(3)، وكأن الله قد أو كلهم إلى هذه الكثرة – بادئ بدء - ليريهم أنها لا تغني عنهم شيئاً، وقد كانوا من قبل يحاربون بسند عقيدي يمدهم بأقوى عُدّة ، فيربحون المعارك غالباً. وكان ما كان من أمر هزيمتهم الفظيعة وتركهم لرسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وحده ومعه سبعة من بين تلك الجماهير، وأكثرهم من أسرة بني هاشم كعلي علیه السلام- وكان أشدهم قتالاً بين يديه(4)-، والعباس وابنه الفضل، وربيعة وأبي سفيان ابني الحارث بن عبد المطلب، وكان الفضل

ص: 67


1- تأريخ الطبري ج 3: 120
2- انظر المصدر السابق ج 3:127
3- البداية والنهاية ج 4 : 322
4- انظر كنز العمال - مطبعة دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، سنة الطبع 1312 ه- ج 5 : 306

يعود إلى العباس في عودة المسلمين إلى القتال وذلك حين أمره رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بأن يخاطب تلك الفلول المنهزمة - وكان صيّتاً - ويعيد إليهم النخوة الإسلامية فناداهم: «يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة يا أصحاب سورة البقرة» يقول الراوي: «فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنّت على أولادها، يقولون يا لبيك يا لبيك، فحملوا على المشركين، فأشرف رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم إلى مقاتلهم، فقال: الآن حمي الوطيس ... ثم قال للعباس بن عبد المطلب : - ناولني حَصَيَات.. فناولته حصيات من الأرض، ثم قال: شاهت الوجوه، ورمى بها وجوه المشركين» .. (1) وكانت الهزيمة، وتم النصر بها للمسلمين.

وبعد هذا العرض السريع للواقعة، أرجو أن نعود إلى ابن عباس لنتابعه في انفعالاته القوية ونلمس أثرها في نفسه، فهو ولا شك قد فوجئ بالهزيمة وهو يتطلع للقتال، واضطرب فيمن اضطرب من الأطفال، وساورته أخيلة متلاحقة قائمة يُحضر بعضها بعضاً، ويأخذ بعضها برقاب بعض، وتجسمت أمامه خيبة أمله بما سبق له أن بناه من صروح، وربّما تمثل له مصيره المظلم وهو أسير ورفاقه يسخرون منه ويهزؤون، ولكن هذه الأخيلة لم تسايره كثيراً، فها هو ذا ينظر هذه الفلول المنهزمة وهي تعود بأشدّ ما تكون، وأبوه يستثير بصوته الجهوري ما بقي لهم من الهمم، ثم ينظر ما هدمته الأخيلة السود من آماله وهي تُشاد من جديد بأحكم بناء، وإذا بالنصر الذي كان قد أبطأ قليلاً يعود بأقوى عدة، وها هي ذي أسرى المشركين تقاد بين يديه بما يملكونه من حلي وحلل وأموال، وكم سره أن يرى أن النصر يعود في أكثر عوامله إلى سيف ابن عمه علي علیه السلام وصوت أبيه العباس، ونضال أخيه الفضل، وغيرهم من أسرته.

ويعود مع النبي الله صلى الله عليه و آله وسلم، وإذا به ينحو بهم نحو الطائف إلى حيث اعتصمت ثقيف بعد هزيمتها، وكانت للطائف أسوار تقيها من الغارات، فأغلقوا عليهم أبوابها، وحوصروا

ص: 68


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 1 : 109

هناك وكانت مدة الحصار من قِبَل جيوش المسلمين نيفاً وعشرين يوماً.(1)

وقد رأى النبي صلى الله عليه و آله وسلم أن لا فائدة ترجى من إطالة الحصار، وأن الزمن وحده كفيل بتأديبهم، فتركهم وعاد إلى مكة، وعاد معه صاحبنا، وشاهد في الأثناء كيف جاءت رسل هوازن تستوهب من النبي صلى الله عليه و آله وسلم نساءها وأطفالها وكان معهم مقدمهم مالك بن عوف، فوهب لهم النبي صلى الله عليه و آله وسلم نصيبه ونصيب أسرته من آل عبد المطلب، ثم تتابع الناس بالهبات فكان مجموع من ردّ عليهم من السبي ستة آلاف ثم شاهد كيف هزت هذه المأثرة مقدّمهم فدخل في الإسلام، وولاّه النبي صلى الله عليه و آله وسلم على من أسلم من قومه وغيرهم من تلك القبائل وشاهد بعد ذلك توزيع النبي صلى الله عليه و آله وسلم للأموال، وسره - بالطبع - أن يتألف قريشاً بالإحسان إليهم وتخصيصهم بالوافر منه كما سره من قبل أن يرى غيرة ابن عمه وأريحيّته، فيما مَنّ وأطلق من أسرى المشركين.

ولم يطل مكث رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بمكة فقد اعتمر وخرج إلى المدينة .(2)

ص: 69


1- انظر تأريخ أبي الفدا - المطبعة الحسينية، مصر، ط 1 ، سنة الطبع 1332 ه- ج 1 : 147
2- انظر تأريخ الطبري ج 134:3

ص: 70

نقطة التحوّل

فخرج معه عبد الله إليها، وكانت رحلته هذه وإقامته فيها نقطة التحوّل في حياته فيما أعتقد - فقد قُدّر له أن ينتقل من بيئة جاهلية متأخرة إلى بيئة متحضرة نسبياً . ومن أمة داعرة متفسخة إلى أمة محافظة متضامنة ، ومن مُرَبِّ محدود الثقافة والمعارف إلى أعظم مُرَبِّ عرفته الإنسانية وهو رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم.

وإذا صح ما ذكرناه من أن الطفل وهو بين التاسعة والثانية عشرة يبدأ فيه نمو القوى العقلية من تذكّر وتفكير وانتباه، فإن حياته الجديدة من أحفل الحيوات بما يُعمل فيها هذه القوى جميعاً، وحسبه أن يكون - بما عُرف عنه من خِفّة روح وحبّ تطلّع يقل نظيرهما في أمثاله، وبما هيأت له بيئته - كما لمسناه سابقاً - من التشوق للنبي صلى الله عليه و آله وسلم والرغبة بملازمته - حسبه من كل ذلك أن يكون قريباً من نفس النبي صلى الله عليه و آله وسلم قرباً يشجعه على كثرة التردد عليه، والتزام مجلسه، ووعي كل ما يصدر عنه من حركات.

وأنا أعتبر أن هذا الدور كان دور تعلّمه وتهذيبه وكان النبي صلى الله عليه و آله وسلم يرعاه لذلك، ويكثر من تعاهده بالمعرفة، ومن ذلك ما حدثوا عنه أن النبي ذلك ما حدثوا عنه أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال له - وكان رديفاً له - : «يا - غلام - أو يا غليم - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن»، فقلت:- بلى فقال: «إحفظ الله يحفظك، إحفظ الله تجده أمامك، تعرّف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله قد جفّ القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن الصبر على ما

ص: 71

تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج من الكرب، وأن مع العسر يسراً»(1)، وهي كلمات حافلة بأهم ما يُربّي فيه ملكة الاعتماد على النفس والثقة بها، ورفعها عن الشعور بالحاجة إلى غيرها من البشر ممن يخشون ويُرجون عادة، وخلق وازع قوي فيها يصنع أمامها قوة مسيطرة عادلة تملك التصرف في جميع شؤونه، ولا يملك معها حولاً ولا قوة، فهو لا بد أن يقصر رعايته عليها لا على سواها ممن لا تملك له نفعاً ولا ضراً «فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه .. الخ».

ولِمَ لا يرعاها ويفنى في العمل على ما تريده وهي وحدها المالكة لأزمته المتصرفة فيه! ولم يخشى سواها وهي لا تملك أن تضره أو توقف عنه أيهما نفع ! فليراعها إذاً، وليعلم أن ما يصيبه من مكروه سوف لا يبقى عليه كثيراً ولا يصحبه كثيراً وأن الصبر عليه لا بدّ أن يعقبه النصر «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» .

وما له لا يؤمن بذلک كله ! والمعلم له رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، وفي حياته ونضاله العقيدي خير مثل يضرب من أمثال هذه الأمور.

ولعل ما توحيه سيرته لأمثاله من الصغار هو أبلغ وآثر من أي درس س لأيّ أستاذ كان

وكانت هوايته المحببة أن يقتفي آثار النبي صلى الله عليه و آله وسلم ويتتبع خطواته، ومتابعته في كل ما يعمل، ومن ذلك ما حدث عن نفسه قال: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فقام إلى سقاء فتوضأ وشرب قائماً، قلت: - والله لأفعلن كما فعل النبي صلى الله عليه و آله وسلم، فقمت وتوضأت وشربت قائماً، ثم صففت خلفه، فأشار إليَّ لأوازي به أقوم عن يمينه فأبيت فلمّا قضى صلاته

ص: 72


1- مسند أحمد - المطبعة الميمنية، مصر، سنة الطبع 1313 ه ج 1 : 307

قال: ما منعك أن لا تكون وازيت بي؟ قلت: يا رسول الله أنت أجلّ في عيني وأعزّ من أن أوزاي بك فقال اللهم آته الحكمة»(1). فهو - كما ترون - يقسم على نفسه أن يفعل كما فعل صلى الله عليه و آله وسلم لها ويقلده حتى في الشرب قائماً، ويتم له كل ذلك.

وهذه القصة قد رويت عنه بمختلف الطرق، وفيها بعض الزيادة والنقيصة وفيها - مع الدلالة على ما سقناه له - دلالة على منتهى ذكائه وتأدبه، فهو - على صغره - لا يجهل لنفسه قيمتها وللنبي صلى الله عليه و آله وسلم قيمته ، فيأبى أن يوازي برسول الله صلى الله عليه و آله وسلم تأدباً معه وحفظاً لمقامه، وقد أعجبت هذه اللفتة البارعة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، فدعا له بهذا الدعاء الكريم. وقد روى هذا الدعاء كل من ترجم له، وصحح نسبته إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم وهو طبيعي بمثله من مثل النبي علي الهلال. وقد لفته منه هذا الحرص على تفهم مبادئه، والعمل عليها بهذا السن وهذا الذكاء. وقد رويت لهذا الدعاء وما هو بمعناه مناسبات أخرى لا يبعد أن يكون قد تكرر بتكرارها، فهم يحدّثون عنه أيضاً قال: «أتى النبي الخلاء فوضعت له وضوءً، فلما خرج قال:- من وضع ذا؟ فقالوا: ابن عباس، فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»(2)، وفي بعضها أن عمر كان يقول لابن عباس : - إني رأيت رسول الله دعاك يوماً فمسح رأسك وتفل في فيك، وقال: - اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل(3)، والمأثور عنه أنه دعا له مرتين فقط. وإذا صح ما أثر عنه تكون هذه الروايات ونظائرها متداخلة، تحكي عن تينك المناسبتين حسب، وإن اختلفت لغة الحكاية، وعلى أي حال فإن له من ذكائه وحبه للمعرفة ما يستحق بهما أمثال هذه الدعوات المباركة.

ونظير هذه اللغة التي تحدّثنا عنها ما حدثنا هو من أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، هو

ص: 73


1- حلية الأولياء - مطبعة السعادة، مصر، ط 1 ، سنة الطبع 1351 ه- - ج 1 : 315
2- ذخائر العقبى - 227
3- انظر المصدر السابق:- 228

وابن خالته خالد بن الوليد على ميمونة زوجة النبي صلى الله عليه و آله وسلم فسقتهم لبناً وبدأت برسول الله فشرب، ثم قدّمه رسول الله إليه يقول: «أنا عن يمينه صلى الله عليه و آله وسلم وخالد عن شماله، فقال لي :- الشربة لك وإن شئت آثرت بها خالداً فقلت: ما كنت لأؤثر بسؤرك على أحد»(1)،

تأملوا لفتته البارعة فهو يأبى أن يقدّم - ولو كان من باب الإيثار – على نفسه ابن خالته، ما دام ذلك يحرمه شرف التبرك بسؤر النبي صلى الله عليه و آله وسلم، وتذكروا أن هذا الكلام يصدر من صبي، وبهذا الأسلوب كان يعلّمه ابن عمه آداب المعاشرة فهو ينبه أن صاحب اليمين مقدّم على غيره بحقوق المجالسة، ثم يشير عليه بإيثاره على نفسه، ولكن الصبي يرى في سؤر النبي صلى الله عليه و آله وسلم ما يفضل أيها إيثار.

وكان له من وجود خالته ميمونة في بيت النبي صلى الله عليه و آله وسلم ما يشجعه على متابعته وكثرة صحبته والتأثر بعمله، فقد كان ربّما يأتي فيبيت معه عند خالته وقد حدث هو قال:- «أتيت خالتي ميمونة فقلت : إني أريد أن أبيت عندكم الليلة، فقالت:- وكيف تبيت وإنما الفراش واحدة فقلت: لا حاجة لي في فراشكم أفترش نصف إزاري، وأما الوسادة فإني أضع رأسي مع رؤوسكما من وراء الوسادة، قال:- فجاء النبي فحدثته ميمونة بما قال ابن عباس فقال رسول الله : هذا شيخ قريش»(2)، يريد إنه سيكون - بحكم ما له من الذكاء والنباهة والعقل - شيخاً لقريش في قابل من الأيام، وقد صدقت فراسته صلى الله عليه و آله وسلم فيه .

وربّما كان يبتغي من وراء مبيته أن ينظر نوع عبادته صلى الله عليه و آله وسلم وهو يعانق الأسحار، وقد حدّث عن ذلك فقال: - «بتّ عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله فتوضأ ثم قام يصلي، فقمت فتوضأت، وقمت عن يساره فأخذ بيدي وأدارني عن يمينه، فتتامت صلاة

ص: 74


1- مسند أحمد ج 5 : 225
2- ذخائر العقبى : 235 - 236

رسول الله من الليل ثلاث عشرة ركعة».(1)

وربّما أمره والده العباس - لما يأنس فيه من قوة الحافظة ودقة الملاحظة وصدق التأدية - أن يبيت عند رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ليخبره عن دقائق أعماله العبادية في الليل ليتأثرها قال: «أمرني العباس قال بت بآل رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم الليلة، فانطلقت إلى المسجد فصلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم العشاء الآخرة، حتى لم يبق في المسجد أحد غيره قال: ثم مرّ بي هذا فقلت: - عبد الله قال: - فمه قلت: - أمرني أبي أن أبيت بكم الليلة، قال فألحق.. فلمّا دخل قال: أفرشوا لعبد الله قال :- فأُتيت بوسادة من مسوح، قال:- وتقدّم إلي العباس أن لا تنامن حتى تحفظ صلاته، قال:- فقدم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فنام حتى سمعت غطيطه قال:- ثم استوى على فراشه فرفع رأسه إلى السماء، فقال:- سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، ثم تلا هذه الآية من آخر سورة آل عمران حتى ختمها «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ...»(2)، ثم قام فبال، ثم أستنّ بسواكه ثم توضأ، ثم دخل مصلاه ، فصلى ركعتين ليستا بقصيرتين ولا طويلتين، قال:- فصلى ثم أوتر، فلما قضى صلاته سمعته يقول : - اللهم اجعل في بصري نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في لساني نوراً ، واجعل في قلبي نوراً، واجعل عن يميني نوراً، واجعل عن شمالي نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل من خلفي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، واجعل من أسفل مني نوراً، واجعل لي يوم لقائك نوراً، وأعظم لي نوراً».(3)

وقد سقت هذا الحديث - الذي صح على شرط الشيخين - بطوله لتتبينوا معي إلى أي حد كان في قوة الحافظة ودقة الملاحظة، فهو يسجل فيه دقائق مشاهدته، ويصف

ص: 75


1- ذخائر العقبى : 235
2- آل عمران: 190 -194
3- المستدرك على الصحيحين ج 3: 535 - 536

جميع ملابساته، ولا يغفل حتى سماع الغطيط منها ، ثم يحفظ هذا الدعاء الطويل، وهو لا يُلقي عادة من قبل النبي صلى الله عليه و آله وسلم أكثر من مرة ؛ لأنه سيق في مقام العبادة وليس في مقام التلقين، ولكن قوة حافظته وتنبهه الخصوصيات ما يقول أعانه على حفظ كل ذلك.

وليس من البعيد بعد هذا أن نسمع عنه أنه حفظ في هذه المدة والتي بعدها في عهد النبي صلى الله عليه و آله وسلم المحكم وهو المفصل من القرآن، وسجّل حتى الجزئيات من كيفية نطق النبي صلى الله عليه و آله وسلم به ، فهو يحدّث بعد حين تلميذه ابن جبير عن قوله تعالى : - «لَا تُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ»(1) ثم يقول له : - أحركهما لك كما كان رسول الله يحرّكها يعني شفتيه – ثم يحركهما له(2)، وليس من البعيد بعد هذا أن يبحث عن أسباب النزول فيعبها وعباً تاماً، ويحدّثنا عما يهمّه منها .

وقد أحصى بعد حين ما نزل في علي علیه السلام على الخصوص من الآيات، فبلغ بها ثلاثمائة آية(3)، ثم فصل لنا الكثير في ذلك.. ولعلنا سنذكر بعضها في مظانها من هذا الحديث.

ص: 76


1- القيامة : 16
2- انظر صحيح البخاري - المطبعة العثمانية، مصر، سنة الطبع 1355 ه- ج 9 : 153
3- انظر نور الأبصار - المطبعة الميمنية، مصر، سنة الطبع 1322 ه- 73

على أبواب المراهقة

وكانت حجة الوداع، فكان صاحبنا على أبواب المراهقة والبلوغ، كما كان يحدث هو عن نفسه. وما دمنا مقبلين معه على هذه الفترة - وهي تمتد بنا إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله وسلم وفيها من الأحداث العظام ما أحدث في نفسه عقدة سايرته في أكثر حياته، فعلينا أن نقف قليلاً لنستشير ذوي الاختصاص من السايكولوجيين في الخطوط العامة لحياته النفسية كمراهق، ثم نعود إلى دراسة بيئته الاجتماعية، وفي ضوء ذلك كله نبدأ معه بالسير خطوة خطوة.. لعلنا نقف على مفتاح تلكم العقد النفسية.

يقول القوصي - وهو يتحدّث عن هذه الفترة فيما يتحدّث -: «يبدأ المراهق على وجه العموم يستقل عن المنزل ويتصل بالمجتمع، ويبحث عن شخص يتجسم فيه المثل الأعلى الذي يرتضي لنفسه أن يحتذيه، وتصل علاقته من ناحيته بالبطل الجديد أحياناً إلى درجة تشبه العبادة، وتسمى عادة عبادة البطل، وتصل عبادة البطولة إلى درجة يصعب على الكبار تصورها» ويقول : «وينزع المراهق في هذه المرحلة إلى إكمال رجولته والاعتزاز بكيانه ويعمل على الاستقلال في فكره وعمله ويجرّب أساليب متعددة ليحقق لنفسه شعوره بخروجه من دور الطفولة واكتمال نموه واستقلاله».(1)

وفي مجلة علم النفس من مقال بعنوان (الشعور الديني عند المراهق): «ولا تكاد تقبل هذه الفترة من حياته، حتى تكون مقدراته العقلية قد تفتحت، وكاد ذكاؤه يبلغ نهاية مستواه»، ويقول – بعد أن يتحدث عن العوامل التي تزيد معرفته بالعالم الخارجي

ص: 77


1- أسس الصحة النفسية :- 159

من مدرسة وغيرها -: «وتتظافر مع عامل خطير آخر هو النضج الجنسي على إحداث يقظة عامة في الشخصية وتفتح عام، وازدهار شامل لجميع القوى النفسية من حب استطلاع يأخذ أشكالاً عِدّة منها الفلسفة أو اللاهوت، ومن نشاط اجتماعي قد يكون خدمة اجتماعية أو كفاحاً وطنياً».(1)

وإذا صح ما ذكروه فهل نستطيع أن نلتمس في حياته البطل الذي تأثره واتخذ منه مثله الأعلى في سلوكه العلمي ؟ ثم هل نستطيع أن نعرف نوع نشاطه الاجتماعي، إن كان له في هذا المجال نشاط ؟

والجواب على السؤال الأول لا يكلّفنا كثيراً، ما دمنا قد بلغنا معه إلى هذه المرحلة ومهدت لنا الصور التي مرّت علينا في مراحله السابقة ما يكفي للتعرف عليه.

وأظننا في غنى عن القول بأن بطله الأول كان رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، وكان يتأثره حتى في نوع لبسته ،للإزار فكان يرخي مقدم إزاره حتى تقع حاشيتاه على ظهر قدميه، ويرفع الإزار من ورائه، فإذا سئل عن أسباب ذلك قال: رأيت رسول الله يأتزر هذه الأزرة(2)، وقد رأيتم كيف كان يحاكيه في صلواته ،ووضوئه، ويتتبع خطواته خطوة خطوة، وسترون نماذج من ذلك في هذا الحديث.

ولكن الذي إخاله أن حياته كانت قد اتسعت لأكثر من بطل واحد، وإن شئت أن تقول بأن البطل الثاني كان امتداداً للبطل الأول، فهو بحكم ملازمته للنبي صلى الله عليه و آله وسلم وتكرر ذكر الإمام علي علیه السلام في مجلسه، واهتمام النبي صلى الله عليه و آله وسلم بشأنه على نحو لم يعهد له نظير بالنسبة إلى غيره من الصحابة مهاجرين وأنصاراً ، فهو نفس النبي صلى الله عليه و آله وسلم (3)كما في آية المباهلة، وهو

ص: 78


1- مجلة علم النفس مجلد 3 العدد 2: 196 أكتوبر 1947
2- انظر طبقات ابن سعد ج 1 قسم 153:2
3- انظر الدر المنثور - المطبعة الإسلامية، طهران، سنة الطبع 1377 ه- ج 2 : 39

أخوه دون سائر المسلمين(1)، وهو منه بمنزلة هارون من موسى - باستثناء النبوة فقط(2) وهو «أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين وخاتم الوصيين»(3) أحبّ الخلق إليه (4)، وهو الكفء الوحيد لابنته (5)، ثم هو إذ تصدّق بخاتمه نزل بذلك قرآن(6)... ولم يعهد له شبيه في نظائر في هذا المقام، فإذا اعتاد الكتاب العزيز أن يمدح المتصدّقين عادة، فإنه هنا لا يكتفي دون أن يجعل للإمام صفة الولاية العامة، ويقصرها عليه بعد الله والرسول، ولا تكون هذه الحادثة إلّا بمنزلة الأثارة للدلالة على صاحب هذه المنزلة، وهو.. هو إلى آخر ما هنالك مما شاهده هذا الغلام من بطله الأول الذي لا ينطق عن الهوى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يرى أن حديثه يملأ عليه بيته صباح مساء فمثار الحديث عن بطولة الإمام علیه السلام ومفاجأته المتكررة، وموقف النبي صلى الله عليه و آله وسلم منه، مثار خصب، تتلذذ به نفوس أسرته عادة، وتتعطر به أحاديثهم كل يوم، بالإضافة إلى أن حديثه كان يأخذ من الناس مأخذه خارج البيت نقضاً وإبراماً، على خلاف المجتمعين ومدى ترحيبهم بما يسمعون، على أنا في غنى عن التدليل فحسبنا ملازمته له في تمام أيام حياته وتتبعه لجميع آثاره وتسجيل كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم، ففيه ما يكشف لنا عن كل ذلك.

وإذا تم كل هذا تفتح لنا منفذ للجواب على السؤال الثاني، فلم يعد خافياً عن

ص: 79


1- انظر أنساب الأشراف - تحقيق محمد باقر المحمودي، مؤسسة الأعلمي، لبنان، ط1، سنة الطبع 1394 ه- ج 2 : 91
2- انظر الرياض النضرة - مطبعة دار التأليف، مصر، ط 2 ، سنة الطبع 1372 ه- ج 2 : 216
3- حلية الأولياء ج 1 : 63
4- انظر سنن الترمذي - تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي المكتبة الإسلامية - ج 2 : 319
5- انظر فضائل الخمسة من الصحاح الستة - مطبعة النجف النجف، سنة الطبع 1384 - ج 2 : 133
6- انظر أسباب النزول - مطبعة هندية غيط النوبي، مصر، سنة الطبع 1315 ه: 149

المسلمين في ذلك الحين أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم كان يعد الإمام علیه السلام للنهوض بمسؤولية الحكم من بعده، وكان يمهد لذلك بالتصريح تارة والتلميح أخرى فهو يقول يوماً لأُسرت الأولين وقد جمعهم لينذرهم ويبشرهم ويمنّي من يؤازره منهم بالخلافة من بعده،فلا ينبري له غير الإمام علیه السلام فيقول: «هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»(1)، ويوماً يقول - وقد وُشي بالإمام وهو متأثر ومنفعل من هؤلاء الوشاة : «ما تريدون من علي؟ إن علياً مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن»(2)، ويقول - في يوم آخر -: «من كنت وليه فعلي وليه»(3) .. إلى آخر ما هنالك من نصوص وافية الدلالة، ولكنها لم تأخذ - بعد - طابع البلاغ العام شأن التشريعات الهامة التي تقرر مصائر أمة، ولعلهم كانوا ينتظرون الزمن الذي يعلن فيه مثل ذلك التشريع، وتلميحاته أكثر من أن تحصى، فيوماً يسد الأبواب الشارعة في المسجد ويترك باب علي علیه السلام؛ ليدل الناس على تميّزه بالحكم عن سائر المسلمين، فهو كالنبي صلى الله عليه و آله وسلم ، له أن يجتاز جُنُباً في المسجد(4)، ويوماً يبعث أبا بكر بسورة براءة ليقرأها على الناس بمكة، ثم يرسل عليه عليا علیه السلام ليأخذها منه؛ لأن جبرئيل جاءه فأخبره أنه لا يؤدي عنه إلا هو أو رجل منه(5)، وهو يخصه بحكم ما أُوحي إليه من بين الرجال بتطبيق آية : - «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(6)يؤكد ذلك تسعة أشهر ، كما شاهده صاحبنا فيما يحدث عنه قال: - «شهدنا رسول الله تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة، فيقول: - السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ

ص: 80


1- تأريخ الطبري ج 1 : 217
2- المستدرك على الصحيحين ج 111:3
3- مسند أحمد ج 5 : 350
4- انظر خصائص النسائي - مطبعة التقدم ، مصر ، سنة الطبع 1348 ه: 13
5- انظر مسند أحمد ج 3 : 212
6- الأحزاب: 33

لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» ، رحمكم الله كل يوم خمسر مرات»(1). وأي تأكيد وتقرير لهذه المأثرة في نفوس الملسمين أكثر من هذا ؟! ونظائرذلك من أمور إن وافقت – بالطبع - هوىً في بعض نفوس المسلمين فإنها لا توافق قبول أكثرهم إذ ذاك.

ص: 81


1- الدر المنثور ج 5: 199

ص: 82

أحزاب المسلمين

والمسلمون لم يكونوا بدعاً من الناس فيتفقوا على كل تشريع، وإن مس نقاط الضعف في نفوسهم، بل كان لكل فئة منهم عواطف خاصة تمتاز عن غيرها ببعض الشؤون، وقد تصطدم ببعضها فتحدث ما بينهم صراعاً قد لا يخلو من عنف، وطبيعة البحث هنا تدعونا إلى أن نخصها بالتحدّث عنها من وجهة عامة أولاً، ثم من وجهة نظرتها لخلافة الإمام علي علیه السلام علی الخصوص ؛ ليتسنى لنا الجواب على السؤال الثاني بسهولة؛ ولنعرف تأثير هذه الخلافات على نفسية صاحبنا في هذه الفترة.

نستطيع - استناداً إلى ما بأيدينا من النصوص التأريخية – أن نوزّع الإتجاهات التي كانت سائدة بين المسلمين إلى فئات ثلاث أو فقل إلى أحزاب ثلاثة.

(أولها ) : - حزب الأنصار، ويضم أكثرية الصحابة من أهل المدينة، وله من نصرته

للنبي صلی الله علیه و آله وسلم بعد الهجرة، واحتضان فكرته وتبنّيها والدفاع عنها ، وإيواء كثير من المهاجرين، وبذل أمواله، ما يجعل له الدالة الكبيرة على الدعوة وعلى سائر المسلمين، وكان لهذا الحزب جناحان هما الأوس والخزرج، وكانا متنابذين قبل الإسلام، وكانت بينهما حروب، فألّف بينهم الإسلام ودفنت أحقادهم في عقولهم الكامنة، وما كانت تظهر إلّا في فترات يختفي فيها العقل الواعي كفترات الغضب ونظائرها. وها نحن أولاء نذكر لكم بعض النماذج لنضع أيديكم على نقطة الضعف في هذا الحزب، وسنعرف بعد حين كيف أستغلّت هذه النقطة للنفوذ منها إلى الغلبة عليه في أهم صراع وقع بينه وبين حزب قريش، فمن ذلك ما حدثوا عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أنه خطب الناس بعد قصة الإفك فقال:

ص: 83

يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلّا معي». وفهم الناس أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم كان يستعذر من عبد الله بن أُبيّ بن سلول المنافق - المشهور - صاحب هذه المقالة، فقام سعد بن معاذ الأنصاري - وهو زعيم الأوس- فقال: «أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك». قالت عائشة - وهي محدّثة هذا الحديث -: «فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً ولكن اجتهلته الحمية، فقال لسعد بن معاذ كذبت - لعمر الله - لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت - لعمر الله - لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين تقول عائشة : «فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله قائم على المنبر فلم يزل رسول الله يُخفّضهم حتى سكتوا وسكت».(1)

وهذه الحادثة - على تفاهتها - أثارت في نفوسهم رواسب الحقد القديم وأنستهم موقع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم منهم.

وأتفه من هذه الحادثة وأقوى دلالة على تأصل هذه الرواسب ومدى تمكنها من نفوسهم ما حدثوا عن أنس: «قيل للنبي صلی الله علیه و آله وسلم : - لو أتيت عبد الله بن أبي - ولعل غرضهم من ذلك تألّفه - فأنطلق إليه وركب حماراً، وأنطلق المسلمون - وهي أرض سبخة - فلما أتاه النبي صلی الله علیه و آله وسلم قال : إليك عني فوالله لقد آذاني نتن حمارك.

قال: فقال رجل من الأنصار - والله الحمار رسول الله أطيب ريحاً منك. قال:- فغضب لعبد الله رجل من قومه فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهما ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنعال قال: «فبلغنا أنها نزلت فيهم: «وَإِن طَائِفَنَانِ مِنَ

ص: 84


1- صحیح مسلم ج 8 : 115

الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا».(1)

وكما ترون فقد عاودتهم رواسبهم، وتغافلوا عن مقام رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بينهم، وانتصر الخزرجيون لعبد الله على النبي صلى الله عليه و آله وسلم لشيء إلا لأن فلاناً الأوسي قد انتصر لرسول الله صلى الله عليه و آله وسلم على صاحبهم، وقد اتهموه ببواعث نصرته واعتبروها تعريضاً بهم.

ولهاتين الحادثتين نظائر يجدها القارئ متفرقة هنا وهناك، وهي كما يظهر- لا تبدو إلّا في فترات من أمثال هاتين، وإلا فالأخوة الظاهرية بينهم ليس عليها غبار، وكثيراً ما توحدهم المصيبة كما سترونه في ما يأتي من حديث...

وزعماء هذا الحزب سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وأُسيد بن حضير، وغيرهم.

(وثانيها ) : حزب قريش، وينتظم أكثرية المهاجرين وغيرهم من أهل مكة وبعض الأنصار، وقد دخل أكثر هذا الحزب إلى الإسلام بسيف علي علیه السلام، وسيوف الانصار وبعض المهاجرين، ولم يستطع الإسلام - لقصر المدة - أن يقضي على رواسب أكثرهم؛ لدخولهم فيه متأخرا؛ ولأنهم لم يُقبلوا عليه طواعية ورغبة فيه، بل كان دخولهم تحت ضغط القوة، وبالطبع كانت نقمتهم على الفاتحين كبيرة، وبخاصة بعد أن كانوا لا يرونهم من الأكفاء لهم في الحروب.

وكانت مهمة النبي صلى الله عليه و آله وسلم في التأليف بين الحزبين شاقة للغاية، فهو إذ فتح مكة وقال قولته المعروفة: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»، قالت الأنصار: «أمّا الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته»(2)، متهمين إياه بمصانعة قومه، ناسين مهمته في تأليف أمثال هؤلاء؛ لإدخالهم

ص: 85


1- صحیح مسلم ج 5 : 183
2- صحیح مسلم ج 5 : 172-173

في زمرة المسلمين، ثم ناسين أنه رسول الله، وأنه لا يفعل في أمثال هذه الأمور دون أن يرد إليه فيها أمر ، ثم هو إذا وزّع أسلاب حنين وخصّ قريشاً والمهاجرين بها ليتألفهم قال قائلهم : «إذا كانت شديدة فنحن ندعى، ويعطي الغنيمة غيرنا».(1)

وفي سيرة ابن هشام، أن سعد بن عبادة زعيم الأنصار دخل على النبي صلى الله عليه و آله وسلم فقال: «يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال:- فأين أنت من ذلك يا سعد؟ - وأرجو أن نتأمل في جوابه - قال: يا رسول الله ما أنا إلّا من قومي. قال:- فاجمع لي قومك في هذه الحضيرة. قال:- فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحضيرة»(2). وكان ما كان من خطبة النبي واسترضائهم بها. فهم لم يقدروا ظروف الإسلام ولم يلحظوا جانب المصلحة العامة، أو خفيت عليهم معالمها فاتهموا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بمصانعة قومه.

ثم هو أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي، أو يعطيه كفناً من ثياب، ليتألف منافقي قومه ويجلبهم إلى حضيرة الإسلام، أو كما قال صلى الله عليه و آله وسلم: «والله إني لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من الخزرج»(3) اندفع بعض المهاجرين ليقف بصدر النبي صلى الله عليه و آله وسلم ويمنعه من عليها ويمنعه من الصلاة عليه بشدة، ثم يعدد له مساوئ ابن أُبي.(4)

ومثل هذا الحديث عادة يثير في نفوس أهل الميت كوامن الأحقاد.

وقد رأينا مدى تقديرهم له - على نفاقه - في الحديثين السابقين، ومدى خضوعهم

ص: 86


1- البداية والنهاية ج 4 : 357
2- سيرة ابن هشام ج 4 : 147
3- ) الدر المنثور ج 3: 266
4- انظر سيرة ابن هشام ج 4 : 210

للدوافع القبلية من أجله.

ولولا أن يقف رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم موقفه الحازم فيغضب على القائل، ويصر على الصلاة عليه، لما انتهت تلكم الحادثة بسلام.

وهكذا نرى في الأنصاري أنه ينكر على النبي صلى الله عليه و آله وسلم تألف قريش، ولا ينكر عليه تألّف قومه بالصلاة على ابن أبي، كما نرى في المهاجري إنكاره عليه صلى الله عليه و آله وسلم تألف الأنصاري ولا نراه قد أنكر عليه في تألّفه لقريش مما يدل على سعة ما بينهم من الفجوات.

ولعل خير ما يمثل هذه السعة الخطب والأشعار المتبادلة بينهم بعد حادثة السقيفة .. وسنأتي على بعضها في موضعها من هذا الحديث.

و من رؤساء هذا الحزب الخلفاء الثلاثة، وخالد بن الوليد، وأبو عبيدة، وسالم مولى أبي حذيفة، وغيرهم.

( وثالثها ) : حزب الهاشميين، ومن يمتّ إليهم بسبب الولاء إذ ذاك، كعمار وسلمان والمقداد والزبير وابي ذر ونظائرهم، ومن رؤساء هذا الحزب – بعد رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم- علي علیه السلام والعباس. وكانت الفحوة بينه وبين حزب قريش واسعة جداً، كما تدلّ على ذلك تصريحات أقطاب الحزبين وسيتكرر عندنا ذكر هذه التصريحات في مواضعها، كما يتكرر التعرض لأسباب هذه الفجوة، فلا نطيل بذكرها الآن.

أما الفجوة بين الحزبين الأول والثالث فلم يكن لها جذور عميقة، بل لم يكن لها جذور إذا أستثنينا ما نشأ عن قضية الخلافة بعد حين.. وكما قلنا إن المسلمين لم يكونوا بدعاً من البشر ليتفقوا على الأخذ بكل تشريع، حتى وإن مس أهم نقاط الضعف فيهم، فقد رأيناهم يختلفون في شأن بعض التشريعات، فيقبلها فريق، ويغضب لها فريق، وقد رأينا سابقاً كيف غضبت الأنصار لتألّف قريش، وبعض قريش لتألّف الأنصار. وترون

ص: 87

الآن كيف غضب الحيّان من قريش والأنصار معاً حين قسم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ما بعثه علي علیه السلام من اليمن بين أربعة .. الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الخير الطائي، وعلقمة بن علاثة، وقالوا: -«أيعطي صناديد أهل نجد ويدعنا»(1) فأوضح لهم النبي صلى الله عليه و آله وسلم سر إعطائه بأنه يتألّفهم بهذا العطاء، بل رأيناهم يسخرون من بعض التشريعات - وإن لم تمس شيئاً من نقاط الضعف - فقد حدّث جابر قال: «أهللنا أصحاب محمد بالحج خالصاً وحده، قال عطاء قال جابر : فقدم النبي صلى الله عليه و آله وسلم صبح رابعة

مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل .. قال: حلّوا وأصيبوا النساء. فقلنا : لم يكن بيننا وبين عرفة إلّا خمس»، وهنا أرجو أن تتأملوا موضع السخرية في قولتهم هذه: «أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني»، وقد غضب رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم لهذا الكلام فقام فيهم خطيباً وقال: «قد علمتم أني أتقاكم لله واصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت.. ألخ»(2)

ومن يرجع إلى كتب السيرة وروايات الفقه في الكتب المصنفة يجدها مليئة بالاعتراضات فردية وجماعية حتى في أمثال هذه التشريعات، التي لا تمس مواضع العاطفة في النفوس. فكيف نرجو لهم بعد ذلك أن يتفقوا على مثل هذا الشأن الخطير وهو يوحد مصير أمة في أدق شؤونها، وأهمها مصير الحكم بعد رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، فليس بدعاً - كما قلنا - أن تختلف وجهات النظر بالنسبة إليه، ويتناسى من أجله أمر كل تشريع سماوي يصدر فيه.

ص: 88


1- صحیح مسلم ج 3: 110
2- المصدر السابق ج 4 : 36-37

موقفهم من الخلافة

ولم يعد خافياً على المسلمين - كما قلنا - أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم كان يعد النفوس لقبول هذا التشريع بالنسبة للإمام علي علیه السلام سواء بتصريحاته التي لم تأخذ طابع البلاغ العام بعد، والتي يراد بها تهيئة أجوائهم لقبوله في حينه، أو بتلميحاته التي ذكرنا قسماً منها، أو بإعلان أبرز ما في الإمام علیه السلام من صفات يقتضيها منصب النيابة العامة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم بقوله : «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها»(1)، و«أقضى أمتي علي»(2). والقضاء من أهم مناصب الولاية العامة، إلى غير ذلك من تمهيدات لا .(2) بد أن يكون قد وعاها صاحبنا ورواها ما دامت تتعلق ببطله الجديد.

ولكن أقطاب الأنصار كانوا ينظرون الأمر من زاوية أخرى، فهم إذا قبلوا بهذا التشريع فقد أعطوا السيادة لقريش، ويوشك أن لا تخرج منها بعد حين، ومعنى ذلك أنهم يُحرمون من هذه الإمارة، مع أنها قامت على أكتافهم، ولولا تضحياتهم بنفوسهم وأموالهم لما تمّ للإسلام ما تمّ على أن الأمر بالنسبة إليهم يهون لو اعتقدوا بأن الإمام علياً علیه السلام سوف يتمكن من مزاولة الحكم، فهم ينظرون أنها لا تتم له ما دامت أكثرية قريش لا ترضى به .

وأمّا قريش - بأكثريّتها طبعاً - فقد كانت لها منافد للرؤية قد تختلف باختلاف الأشخاص ولكنها تلتقي جميعاً بمعارضة هذا التشريع، فبعضهم كان يرى فيه انتصار

ص: 89


1- المستدرك على الصحيحين ج 3 : 127
2- الرياض النضرة ج 2 : 262

القبيلة على قبائل وهذا ما يسوء منافسيها من قبائل قريش، وقد عبّر عن ذلك بعد حين لسان الحزب بقوله لابن عباس: «إن قريش كرهت أن تجمع لكم النبوة والخلافة»(1)، فكأنما كانت النبوة هبة منهم لهذا البيت فهم لا يريدون أن يضموا إليها هبة أخرى فتمتاز بالزعامة المطلقة عليهم. وقد كان يخشى البعض في دخولها لهذه القبيلة أن لا تتسع بعد ذلك لغيرها من القبائل، فهو يقول لبعض صحابته من المهاجرين: «مالكم أتريدون أن تنتظروا وصل الحبلة من أهل هذا البيت وسعوها في قريش تتسع».(2)

على أن كثيراً منهم كان يخضع في معارضته لعوامل نفسية يصعب التحلل من تأثيرها، فالموتوتر بأبيه أو بأخيه والمغلوب على أمره في الدخول بالإسلام، يجد نفسه مسوقاً بدافع لا شعوري إلى الانتقام من الواتر، فإن عجز عنه انتقم من أقرب الناس إليه.. وما أكثر المنتقمين من النبي صلى الله عليه و آله وسلم بشخص الإمام علي علیه السلام بعد أن أعجزهم الانتقام منه نفسه صلى الله عليه و آله وسلم. وقد كانوا يجدون فيه صدى للنبي صلى الله عليه و آله وسلم سواء بتبنيه لمبادئ الإسلام والنضال فيها أو بالتزامه صلى الله عليه و آله وسلم الله على نحو ما عرفتموه سابقاً من الالتزام والعربي - كما تعلمون

- لا ينام على وتر بحال.

وبعض أهل السابقة ممن يكبرونه بالسن كانوا يحسبون للسن ألف حساب، وسترون بعد هذا كيف طعنوا بإمرة أسامة بن زيد لصغره، يوم امره عليهم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، وكيف خرج رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم مغضباً، وخطب خطبته المعروفة وهو مريض، ومن الصعب جداً أن تكلف من كانت لهم قدم في السن وثقة بالنفس بالخضوع لمن هو دونهم فيها، وبخاصة إذا كان ذلك الشخص من ذوي القابليات الواسعة، وكان إبراز أية منها ينبه في أعماقهم جانباً من جوانب شعورهم بالقصور عن مجاراته، واللجوء إلى التعويض

ص: 90


1- تأريخ ابن الأثير ج 3 : 31
2- شرح نهج البلاغة ج 2 : 18

إما بالتعالي أو بالتفاخر أو التهوين من شأن كل ما يتعلق به من أمور، وربّما جعلوا من ذرائع تهوينه وتأخيره عن حقه تأخره عن منافسيه في السن، فكأن السن وحدها كافية للطعن بكل ما فيه من إمكانيات، وقد صوّر هؤلاء الخليفة الثاني في حديث له مع صاحبنا في أيام خلافته قال: يا ابن عباس ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلّا أنهم استصغروه».(1)

وهناك عامل آخر .. وهو ما يحسبه البعض من خشونته وعدم تساهله في ذات الله . وعلى اختلاف هذه العوامل وتفرقها في أفراد هذا الحزب أو التقائها أو بعضها في كثير منهم فإن هناك وحدة تجمعهم جميعاً وهي محاولة إبعاده عن الحكم بمحاربة هذا التشريع بأي ثمن كان.

وإذا صح ما صورناه من بيئته، وما قرّبناه في تشخيص بطله، فقد سهل علينا النفوذ إلى الجواب على السؤال الثاني. فإن نشاط هذا الشاب كان - بالطبع - منصباً في درجته الأولى على ملاحقة هذه الأحزاب والتماس ما لها من نشاط في هذا السبيل، ثم ملاحقة بطله، ووعي كل ما يجد من شؤونه العامة والخاصة، وربما نشط لإحباط حركة أو معارضة فكرة تتعلق بهذا البطل من خصومه السياسيين.

ص: 91


1- شرح نهج البلاغة ج 18:2

ص: 92

في حجة الوداع

وقد كانت هذه الفترة فترة نشاط ليس له فحسب، بل لجميع أسرته ولغيرهم من سائر المسلمين، على اختلاف ما لهم من أحزاب، وكما لم يعد خافياً على المسلمين - كما قلنا - قيام النبي صلی الله علیه و آله وسلم بمحاولة تهيئة أجوائهم لإصدار بلاغه العام، لم يعد خافياً على النبي له مدى ترحيبهم بهذا البلاغ ومدى ما لهم من نشاط لإحباطه.

فقد كان صلی الله علیه و آله وسلم أعرف الناس بأصحابه، وبعواطفهم وميولهم تجاه هذا الموضوع، وما أيسر أن يتهموه بمصانعته، كما سبقت لهم نظائر هذه التهمة. وقد ذكر لنا صاحبنا مدى تخوفه من ذلك بما جاء عنه من حديث قال: «لما أُمر النبي أن يقوم بعلي بن أبي طالب المقام الذي قام به، فانطلق النبي إلى مكة فقال:- رأيت الناس حديثي عهد بكفر وجاهلية، ومتى أفعل هذا به، يقولوا صنع هذا بابن عمه».(1)

ويبدو من هذا الحديث أن الأمر صدر إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قبل حجة الوداع، وتُرك إليه تعيين وقت الصدوع به فكان يتهيب التعجيل به؛ لئلا يفسّر على غير وجهه فيفقد قيمته التأريخية. فكان لا بد من التسويف حتى يتم له أتخاذ جميع ما يحتاجه الأمر من تمهيد.

وسار رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلى مكة، وسار معه الخلق الكثير من المسلمين، بعد أن أذنهم بالمسير إلى الحج، فتجمعوا لديه من هنا وهناك، وقد قدّر موكبه إذ ذاك بمائة وعشرين ألفاً.(2)

ص: 93


1- الغدير ج 1 : 52 نقلا عن الحافظ المحاملي في أماليه
2- انظر تذكرة الخواص - المطبعة العلمية، النجف، ط 2 ، سنة الطبع 1369 ه-: 35

وخرج معه ابن عباس فيمن خرج من صغار المسلمين، وهو مأخوذ بروعة هذا الموكب العظيم، وما يطغى عليه من التهليل والتكبير والتسبيح والدعاء، وما إلى ذلك من معالم الروح الإسلامية. وبالطبع كان لا يفارق رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في رواح ولا مغدى وقد أشحذ فكره وقلبه لوعي كل ما يصدر عنه سواء فيما يتعلق ببطله أم بشؤون مبدئه، وبخاصة وقد أقبل على طقوس لم يكن يعرف عنها من قبل كل ما فيها من خصوصيات.

وبلغوا مكة فخرجت - كما تقتضي العادة - بأجمعها لاستقبال الموكب الرائع، وخرج - بالطبع - فيمن خرج أصحابه وَلِداته وخفّ إلى استقبالهم عادة بشيء من الشوق، وداخله شيء من الزهو لما يرى فيهم من الدهشة بما بلغه الإسلام - موضع أحاديثهم السابقة السابقة - من القوة ،والمكانة وربّما وجد في نفسه ما يرفعها عن مستوى هؤلاء؛ لقربها من مصدر التشريع وأخذها بأطراف من المعرفة واسعة لم يكن لهم إلى إدراكها من سبيل، ووجد فيها معالم رجولة لم يجد ملامحها في أصحابه فهم إذاً ما يزالون أطفالاً وهو في مستوى الكبار.

وكان - كما عودنا من قبل - قوي الملاحظة حاضر الفكر سريع الحافظة، يسجل كل ما يقع عليه نظره من شؤون الحج وغيرها من الملابسات، فكان يحدّث أن رسول الله أهل بالحج عند الظهر من ذي الحليفة، ويحدّث عن لون تلبيته فيقول: «كان يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك». وقد أذن له فيمن أذن له من أهل الضعف نساءً وأطفالاً أن يأتي قبل حطمة الناس إلى منى فيرمي. قال: وجعل يلطّخ أفخاذنا ويقول: «يا بني لا ترموا حتى تطلع «الشمس»(1)، وكان هو يلقط لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الحصى الصغار بعد أن أمره بذلك يقول: فلما وضعتها في يده قال: «نعم بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغُلُو، إنما هلك من كان قبلكم

ص: 94


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 1 : 125

بالغُلُو في الدين».(1)

وهكذا سجل لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حتى أمثال هذه الكلمات التعليمية، ولم يترك الحديث عن أكثر ما جاء في أمور الحج من تعاليم.

ولم يكن بطله وابن عمه علي علیه السلام مع الموكب الفخم حين خرج من المدينة، وقد كان على رأس جيش بعثه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلى اليمن، ولما أنجز مهمته عاد الإمام مسررعاً ليلحق بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم، وأمر بعض أصحابه على ذلك الجيش، وقد لحق به بمكة بعد أن أهلّ كما أهلّ رسول الله وشاركه صلی الله علیه و آله وسلم بهديه.

وجاء ذلك الجيش فخرج الإمام علیه السلام لاستقباله، وما أدري.. أخرج صاحبنا معه وشاهده مع الإمام علیه السلام وعليه ما عليه من الحلل التي جاء بها من اليمن؟ ثم شاهد الإمام علیه السلام كيف غضب وأنكر عليهم هذا التصرف قبل أن يلتقوا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وكيف

أخذها منهم واحده واحدة وهم مغضبون؟. وشاهد بعد ذلك كيف شكوه إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أغضبه ذلك وخطب فيهم خطبته المعروفة التي قال فيها: «يا أيها الناس لا تشكوا علياً، فوالله إنه لأخشن في ذات الله وفي سبيل الله».(2)

ثم ما أدري.. أقدّر صاحبنا في نفسه أن هذه الخشونة وعدم التساهل في أمور الدين ستكون من عوامل إبعاد الإمام علیه السلام عن الحكم؟.

والذي إخاله أنه شاهد وقدّر – بحكم ذكائه واهتمامه ببطله – كل ذلك.

وما أدري أيضاً.. كيف كان شعوره وهو يسمع النبي صلی الله علیه و آله وسلم يتحدث إلى المسلمين بخطبته المعروفة، وهو - بالطبع - حاضر ؛ لما نعرفه عنه من ملازمته صلی الله علیه و آله وسلم ، وقد

ص: 95


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 1 : 130
2- المستدرك على الصحيحين ج 3: 134

أوقف صلی الله علیه و آله وسلم ربيعة بن أمية بن خلف تحت صدر راحلته ليقوم بنقل صوته إلى هذه الجماهير.

ونظراً لأهمية هذه الخطبة التأريخية - واهتمام صاحبنا عادة بما جاء فيها من تسجيل وتلخيص لأهم بنود التشريعات الإسلامية التي ترتبط بالشؤون الاجتماعية من ناحية، وبالتمهيد لإعلان بلاغه العام في شؤون الخلافة من بعده من ناحية أخرى – سنورد أهم ما جاء فيها من فقرات متمثلين صاحبنا في الحضور، ومحاولين التماس تأثيرها على شعوره

قال صلی الله علیه و آله وسلم : «يا ربيعة قل يا أيها الناس إن رسول الله يقول: لعلكم لا تلقونني على مثل حالي هذه وعليكم هذا هل تدرون أي بلد هذا؟ وهل تدرون أيّ يوم هذا؟».. تأملوا هذه اللغة التقريرية وتأثيرها على نفوس الجماهير، وهم يستمعون إليها ويجيبون بصوت واحد، وعيونهم شاخصة لشفاه النبي صلی الله علیه و آله وسلم: «نعم هذا البلد الحرام والشهر الحرام، واليوم الحرام»، لينظروا بعد ما يريد بهذا الاستفهام.. قال صلی الله علیه و آله وسلم: «فإن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة بلدكم هذا وكحرمة شهركم هذا وكحرمة يومكم هذا، ألا هل بلّغت؟»، وهذا الاستفهام التقريري أيضاً تأملوه.. كيف يؤكد هذا التشريع، ويمكنه من نفوسهم، ويتركهم يجيبون بصوت واحد (نعم)»، قال: «اللهم اشهد»، ثم قال : «واتقوا الله، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها» ، ثم قال صلی الله علیه و آله وسلم - وقد لخص أهم الأسس التي ترتكز عليها أية عدالة اجتماعية واقعية - «الناس في الإسلام سواء، الناس طف الصاع لآدم وحوّاء، ولا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بتقوى الله، ألا هل بلّغت؟»

وما أدري.. كيف كان وقع هذا الكلام على نفوس الكثير من أولئك الذين دخلوا في الإسلام أخيراً وهم مثقلون برواسب التعاظم بالآباء، وستر جوانب النقص فيهم

ص: 96

بادّعاءات هذا الشرف الكاذب، ومحاولة إعطائهم بعض الميزات لذلك، وإذا بهذا التبليغ يشجب هذه الادعاءات من الأساس، ويريهم أن الإسلام لا يعترف بالشرف العنصري وأن الناس أمامه شرع سواء، ثم أكد صلی الله علیه و آله وسلم هذه الحقيقة فقال: «لا تأتوني بأنسابكم وأتوني بأعمالكم، فأقول للناس هكذا ولكم هكذا ألا هل بلغت قالوا: نعم»(1). وهنا أعتقد أنها خرجت تتعثر من بعض الأفواه بينما انطلقت من بعضها الآخر سريعة عالية تملأ الفضاء، ثم أراد أن يلاحق هذه النزعات فيقضي على أهم ما لها من عوامل فقال: «كل دم كان في الجاهلية موضوع تحت قدميّ». ولم يكتف بذلك بل أعطاهم درساً عملياً لتطبيقه على نفسه وأسرته أولاً؛ لئلا يقال بأن التشريعات الإسلامية تجامل فريقاً على حساب فريق اسمعوه: «وأول دم أضعه دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - وقد سبق أن قتله بنو سعد - ألا هل بلغت قالوا: نعم». وهنا أيضاً أعتقد أنها لم تخرج من جميع الأفواه على حد سواء، وما أكثر الدماء المطلوبة في الجاهلية، وما أكثر ما أطلّ منها في سبيل الإسلام بسيف الإمام علیه السلام، والإسلام يأتي فيشجب كل ذلك ويجعلها نسياً منسياً.

إن هذا الكلام ليصعب سماعه على كل عربي يعيش برواسب الجاهلية، وبخاصة إذا لم يكن في الإسلام عريقاً.

ثم يأتي صلی الله علیه و آله وسلم إلى عامل آخر، كان مثاراً للتفاوت والإثراء غير المشروع فيشخصه بكلمة واحدة، قال: «وكل ربا كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين وأول ربا اضعه ربا العباس بن عبد المطلب». وهنا نلمح صاحبنا وقد استشرف لينظر وقع هذا الكلام على أبيه ، وهو يعلم كم كان له من الديون الربوية في أعناق الناس في الجاهلية، والنبي صلی الله علیه و آله وسلم يضربه مثلاً لتنفيذ هذا التشريع، وكأنه يقول.. لو كان يعرف الإسلام استثناءً

ص: 97


1- تأريخ اليعقوبي - مطبعة الغري النجف، سنة الطبع 1385 ه- ج 91: 2

في الحكم لحساب مخلوق، لكان العباس خير من يراعى في هذا السبيل؛ لقربه من النبي صلی الله علیه و آله وسلم، ولكن النبي صلی الله علیه و آله وسلم يضرب به مثلاً لصرامة التنفيذ ليدلَّهم على أن محمداً لا يراعي في تطبيق أحكامه أي شخص كان ، وكأنه صلی الله علیه و آله وسلم يريد أن يومئ إلى أنه كما لا يجامل في سبيل الإسلام قرابة قريبة منه لا يجامل عليها ما حباها الإسلام من حقوق، ثم قال صلی الله علیه و آله وسلم - وهو يحاول القضاء على عامل انحلالي آخر كان ينخر في جسم المجتمع العربي، وهو عامل احتقار المرأة وعدم الاعتراف لها بأي حق -: «أوصيكم بالنساء خيراً، فإنما هنّ عوار عندكم، ولا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكتاب الله، ولكم عليهنّ حق ولهنّ عليكم حق كسوتهن ورزقهن بالمعروف، ولكم عليهنَّ أن لا يوطئن فراشكم أحداً، ولا يأذنَّ في بيوتكم إلا بعلمكم وإذنكم، فإن فعلن شيئاً من ذلك فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، ألا هل بلغت؟، قالوا: نعم ، قال : اللهم اشهد»(1)، ثم قال بعد حديث - وقد تمكن من نفوس القوم : «لا ترجعوا بعدي كفاراً مضلين يملك بعضكم رقاب بعض، إني قد خلّفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ألا هل بلغت؟، قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد ثم قال النبي - مؤكداً ذلك - : إنكم مسؤلون فليبلغ الشاهد منكم الغائب».(2)

ورواية الصواعق المحرقة: «إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا بِمَ تخلّفونني فيهما».(3)

ص: 98


1- تأريخ اليعقوبي ج 2 : 92
2- المصدر السابق، وانظر صحيح مسلم ج 7: 123 ، والمستدرك على الصحيحين ج 143:3
3- الصواعق المحرقة - دار الطباعة المحمدية، مصر، سنة الطبع 1375 ه-: 148

والملاحظ هنا أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم لم يصرح الاسم الإمام علیه السلام ولعله أراد أن يختبر موقع هذا الكلام من نفوسهم ويمهد به لإصدار بلاغه في وقته، وهنا أرجو أن نلمس ما يومئ إليه هذا التمهيد من محاولة تغيير ذهنيتهم عن الحكم وتفسير موقفه صلی الله علیه و آله وسلم تجاه ابن

عمه بالاستجابة للنزعة القبلية فهو أولاً شجب كل نزعة جاهلية قبلية، فيما مهد به من كلام ليلمّح إلى أنه لم يندفع إلى أختيار أهل بيته للخلافة بدافع عاطفي، وإنما كان ذلك لتمثل روح الإسلام بهم، ووعيهم الجميع ما جاء في الكتاب، وفهمهم لأساليب تطبيقه. ولا يراد من الحاكم إلا أن يفهم روح الأنظمة والقوانين ويتقيد بها ولا يحيد عنها مهما كلف الأمر، وقد كنّى عن كل ذلك بعدم افتراقهم عن الكتاب. وأية ضمانة لذلك أقوى من إخبار اللطيف الخبير ؟!، ثم أرجو أن نلمس هذه الإيماءة الخفيفة إلى ما ينطوي عليه من التخوّف عليهم من عدم الاستجابة لهذا النداء بقوله: «فانظروا بِمَ تخلفونني فيهما». وكم كان مهماً لو قُدّر لنا أن نعرف أثر هذه الخطبة في نفوس المسلمين، وفي نفس صاحبنا على الخصوص، وإن كنت واثقاً بأنه تأثر بها إلى حد بعيد. وغيّرت كثيراً من نظرته القبلية - لو قدر لها أن تكون فيه بحكم طفولته ونشأته بمكة، وإلفته للتفاخر مع أصحابه ولداته من قبل - وجعلته ينظر القضية من زاوية أخرى..

زاوية المصلحة التي نظرها النبي صلی الله علیه و آله وسلم للمسلمين، باختيار عترته لشؤون الولاية العامة.

أما المسلمون.. فالذي أعتقده أنها لم تهن على الكثير منهم؛ لما وجدوا فيها من محاربة كثير من ميولهم ونزعاتهم - على اختلافها واختلاف ما جاء فيها من تعاليم - وبخاصة أولئك الذين كانوا لا يرون في الإمام علیه السلام ما يوافق ميولهم في الحكم، ولا يسيغون له خشونته وعدم تسامحه في تطبيق ما جاء في الإسلام من تعاليم . وبالطبع كان صاحبنا نشيطاً في تتبع هذه الانطباعات، ومعرفة مدى ما تحدثه من نشاط في معارضة هذا التشريع.

ص: 99

والذي يبدو لي أن نشاط المعارضة كان منصباً على التشكيك في مدلول هذا الكلام، بلحاظ أنه لا يفيد ،الإلزام، وسنرى فيما بعد.. من تأكيدات النبي صلی الله علیه و آله وسلم في حادثة الغدير، واندفاعة ابن عباس إلى التصريح بأنها وجبت في أعناق القوم، ما يكشف عن بعض هذه الخطوط وأمثالها من التشكيكات.

وكانت هذه الحجة هي حجة الوداع فيما يسمّيها الأصحاب؛ لما استشعروه من عدم عودة النبي صلی الله علیه و آله وسلم إليها . وكان صاحبنا بعد ذلك يكره لها هذه التسمية ويسميها بحجة الإسلام، وكأنّه لما تحضره كلمة الوداع من إيذان بموت النبي صلی الله علیه و آله وسلم ما جره عليهم من ملابسات سنأتي على بعضها في موضعها من هذا الحديث، وسماها بعضهم بحجة البلاغ؛ لكثرة ما بلّغ فيها النبي صلی الله علیه و آله وسلم من أحكام وبخاصة في خطبته السابقة التي كان يكرر فيها قولته هل بلّغت؟.

البلاغ العام

و خرج النبي صلی الله علیه و آله وسلم من مكة ولم يقم بها - ولعل صاحبنا كان يود أن يقيم قليلاً ليتزوّد من الذكريات التي توحيها ملاعب صباه – وكان صلی الله علیه و آله وسلم يكره النزول بها، وقد سئل في ذلك فقال: «ما كنت لأنزل بلداً أُخرجت منه».(1)

فخرج معه المسلمون وخرج فيمن خرج منهم صاحبنا وأسرته، وهو قلق - عادة لتأخر النص والتصريح باسم بطله، ولعله قدّر في نفسه أن الفرصة ستفلت منهم والمسلمون سيتفرقون وتذهب القبائل إلى مواضعها، وإذا تفرقوا صعب جمعهم بعد ذلك. ومثل هذا الأمر لا يُصدع به عادة على غير أكبر عدد ممكن من الناس في مختلف الجهات.

ص: 100


1- تأريخ اليعقوبي ج 2 : 92

ويفاجأ النبي صلی الله علیه و آله وسلم - وقد أشرف على غدير خم، وكاد الركب يتفرق لبلوغه مفترق الطرق - بالوحي يستوقفه، ويأمره بالتبليغ ، ويهدده على الترك، ويضمن له العصمة من الناس بهذه اللهجة الرفيعة...

«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»(1).. وماذا يصنع أمام هذا الأمر الصارم ؟ وهل يملك له له رداً وهو يتهدده بالحرمان من شرف النبوة؟! وأيّ تهديد هذا التهديد أبلغ من«وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَغْتَ رِسَالَتَهُ» ولماذا يتخوف وقد ضمن له العصمة من الناس؟ وهل بعد ضمان الله ضمان؟ .

وقد حدّث المؤرخون أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم فرق عنه الحرس بعد نزول هذا الوعد(2). ويبدو من ذلك أنه كان صلی الله علیه و آله وسلم يتخوّف على نفسه من إعلان هذا البلاغ.

ويقف النبي صلی الله علیه و آله وسلم ويقف من حواليه، ويبعث على من تقدّمه من الركب ليعود به، وعلى من تأخر عنه ليسرع به، وعلى وسطه ليوقفه، ويدهش الجمع لذلك؛ فليس المنزل بمنزل استراحة ولا الجو يساعد على ذلك فقد كان الوقت ضحى والحر شديد، ويجتمع الناس ويتساءلون ويهتم صاحبنا ويتساءل، وإذا بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم يقطع عليهم كل تساؤل بالخروج إليهم، وهو آخذ بعضد علي علیه السلام.. ولنترك الحديث لابن عباس فهو أبلغ على أداء ما نريد وليس الشاهد كالغائب - كما يقولون -.

قال: «لما أمر الله رسوله أن يقوم بعلي فيقول له ما قال، فقال: يا ربي إن قومي حديثو عهد بجاهلية. ثم مضى بحجة فلما أقبل راجعاً ونزل بغدير خم أُنْزِلَ عليه: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ

ص: 101


1- المائدة : 67
2- انظر تفسير الطبري - مطبعة مصطفى البابي ، مصر ، ط 2 ، سنة الطبع 1373 ه- ج 6 : 308

النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ» .

فأخذ بعضد علي فقال: أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟! قالوا: بلى یارسول الله قال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأعن من أعانه واخذل من خذله وانصر من نصره، وأحبَّ من أحبّه وابغض من أبغضه»(1). وحسب صاحبنا - وهو من هو بذكائه ودقة معرفته - أن يرى في هذا الكلام وفي هذا الدعاء - بما احتواه من ملابسات - نصاً على الإمام علیه السلام لا يقبل الأخذ والردّ، وفيه من الإلزام بالإطاعة ما يدفع أية شبهة في هذا السبيل، وأين مجال التأويل؟! والنبي صلی الله علیه و آله وسلم يبدأ أولاً فيأخذ عليهم الإقرار له بأنه أولى بهم من أنفسهم، وكأنه يذكرهم بهذا الحق المجعول له بآية «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(2)، فإذا أقروا بذلك، بدأ فأعمل هذا الحق باختياره الأصلح لهم، والأقدر على إدارة شؤونهم، ثم أعطاه هذا الحق المجعول له، وأبلغهم ذلك بهذه الصيغة الرائعة، اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه - ثم أعقبه بهذا الدعاء الذي لا يليق بغير ولاة الأمور، فهو يدعو لمن والاه وأعانه ونصره وأحبه بالموالاة والإعانة والنصرة والحب من الله، وعلى من عاداه وخذله وأبغضه بمعاداة الله وخذلانه وبغضه، ثم حسبه من كل ذلك لأن يندفع إلى التصريح بقوله : وجبت والله في رقاب القوم، كما جاء في تتمة هذه الرواية.

وقد جاء في الكثير من الأحاديث(3) أن الله تبارك وتعالى لم يترك الحفل يتفرق دون أن يباركه بآية من كتابه العزيز تصلح أن تكون مادة دستورية لأعظم عيد يمرّ على المسلمين وذلك بقوله .. «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

ص: 102


1- الغدير :ج 1 : 52 ، وانظر حديث الغدير في البداية والنهاية :ج 7 347، والمستدرك على الصحيحين ج 3 : 134 ، وذخائر العقبى: 67 ، والاستيعاب ج 3: 36، وغيرها
2- الأحزاب: 6
3- انظر الغدير ج 1 : 232 - 238

لَكُمُ الْإِسْلَمَ دِينًا»(1). وأيّ عيد أعظم من إتمام النعمة وإكمال الدين؟! وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. وقد حدّث أبو سعيد الخدري أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قال بعد نزول الآية -: «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وبالولاية لعلي ثم قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».(2)

وقام المسلمون وهم يهنئون الإمام علیه السلام على ما حباه الله من هذه النعمة وشاهد صاحبنا - فيمن شاهد عمر بن الخطاب وهو يقول له: «هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن».(3)

ولاهتمام ابن عباس بهذا الحدث العظيم؛ لارتباطه ببطله سابقاً، ومولاه – بنص هذا الحديث - لاحقاً، فقد حدّث عنه جملة وتفصيلاً، وورد على لسانه عدة مرات، كما تكرر عند ذكر بعض ملابساته معه من حديث التخوّف من اتهام قومه له بالمصانعة لحداثة عهدهم بالجاهلية وقولته: - «وجبت والله في أعناق القوم». وهي كلمة تصوّر لنا مدى فهمه للهجة الإلزام من كلام النبي صلی الله علیه و آله وسلم والذي أخاله أنها لم تصدر منه لو لم يشاهد التشكيك من بعضهم في دلالة حديث الثقلين بالسابق على ما يريده النبي صلی الله علیه و آله وسلم من إلزامهم بالولاية لأهل البيت عليهم السلام.

وبهذه المناسبة نذكر أن حديث الثقلين ورد على لسان النبي صلی الله علیه و آله وسلم بمضمونه السابق في خطبة الغدير، فيما جاء عن غير ابن عباس وكأنه إنما ورد ليربط بين هاتين الواقعتين.

وقد ذكروا للنبي صلی الله علیه و آله وسلم خطبة مطوّلة تشتمل على تمهيدات وتأكيدات أوفر قالها في

ص: 103


1- المائدة : 3
2- ناقب الخوارزمي - المطبعة الحيدرية، النجف، سنة الطبع 1385 ه-: 80
3- البداية والنهاية ج 7: 349

هذا اليوم التأريخي ولم يذكرها ابن عباس(1). وكأنه قد اجتزأ منها بما يهمه من نتائجها .

ومما يجب أن يذكر أن هذه الحادثة قد أخذت من اهتمام المحدثين والرواة ما لم تأخذه أية حادثة أخرى، فقد أوصلها صاحب كتاب الغدير - في حدود تتبعه وهو شخص واحد - إلى مائة وعشرة من أعاظم الصحابة من طرق أهل السنة(2)، فما رأيكم بروايتها من طرق الشيعة، وأكثر طرقها بين صحيحة وموثقة وحسنة، وقد سجّلها شاعر النبي الله - فيما حفظ ابن عباس - حسان بن ثابت بأبيات من الشعر أنشدها المسلمين في ذلك اليوم جاء فيها ...

فقال له قم يا علي فإنني***رضيتك من بعدي إماماً وهادياً(3)

وتتابع على ذكرها مئات الشعراء في مختلف العصور، واعتبر آل البيت هذا اليوم من أهم أعيادهم، والتزمه شيعتهم حتى هذا العصر.

ولما تمّ كل شيء نهض النبي صلی الله علیه و آله وسلم بالمسلمين ليواصل سيره إلى المدينة، ونهض معه صاحبنا وهو في غاية النشوة والاطمئنان لاعتقاده - فيما أعتقد - بأن الأمر قد تم لابن عمه وبطله، وليس بعد بيان النبي صلی الله علیه و آله وسلم بيان ولا بعد هذه التأكيدات مجال للشك والارتياب، وربّما كان هذا الاعتقاد سائداً شائعاً بين عامة المهاجرين وجُلّ الأنصار .. فقد حدّث الزبير بن بكار قال: وكان عامة المهاجرين وجُلّ الأنصار لا يشكون أن علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(4)، وقال معاوية في كتابه لمحمد بن أبي بكر:

ص: 104


1- انظر الصواعق المحرقة :- 120
2- انظر الغدير ج 1 : 14-16
3- مناقب الخوارزمي: 80-81
4- الموفقيات - تحقيق سامي مكي العاني مطبعة العاني، بغداد سنة الطبع 1972 م: 58

«فقد كنا - وأبوك معنا - في حياة نبينا نعرف حق ابن أبي طالب لازماً لنا»(1)

وبالطبع كان شعور المهاجرين والأنصار وعدم شكهم بأن الأمر سيكون بعد النبي صلی الله علیه و آله وسلم للإمام علیه السلام واقعاً بعد هذه الحادثة، كما أن شعور معاوية - ومن حدّث عنه بضمير الجمع - بلزوم حقه لم يكن عادة إلا بعد هذا الإلزام.

والذي أعتقده أن هذه الحادثة كانت من بواعث مضاعفة إلفته للإمام وشدة تعلقه به، ومثل هذا الأمر يملك عادة عواطف أمثاله من المراهقين، وربّما بلغ بها إلى درجة تشبه العبادة والفناء في البطل، وهي درجة يصعب على الكبار تصوّرها كما سبق أن تحدّث إلينا القوصي.

ص: 105


1- جمهرة رسائل العرب - مطبعة مصطفى البابي ، مصر ، ط 1 ، سنة الطبع 1356 ه- ج 1 : 545

ص: 106

طرق المعارضة

وكانت الفترة بين واقعة الغدير وموت النبي صلی الله علیه و آله وسلم لا تبلغ ثلاثة شهور على أكثر تقاديرها، وهى فترة كافية لأن تعيد الحزب قريش وعيه ورشده بعد هذه الصدمة، وتوسع من آفاقه للعمل على إحباط هذا الأمر مهما كلف الحال، وبخاصة وقد انضم إليه كثير من القرشيين الموتورين ممن لم تسبق لهم هجرة؛ لدخولهم في الإسلام بعد الفتح ، وربّما كان الكثير منهم قد جاء مع النبي صلی الله علیه و آله وسلم من مكة، وفي مجيئه هذا وهو غير

مزوّد بما يركّز أفكاره الإسلامية في أعماقه، وكانت لهم إلى إحباطه خطوات..

(أولاها): التهوين من شأن أهل البيت في نفوس الأنصار، والتطاول عليهم والاستهانة بمركزهم من قريش. وقد بلغ بهم التطاول أن شبهوهم بالكناسة، حتى قالوا عنهم وما مثل محمد في أهل بيته إلّا كمثل نخلة في كباء. وقد تضايق بعض الأنصار فشكوهم إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم . حدّث عبد المطلب بن ربيعة قال: «أتى أناس من الأنصار النبي صلی الله علیه و آله وسلم فقالوا: إننا لنسمع من قومك حتى يقول القائل منهم: إنما مثل محمد مثل نخلة نبتت في كباء»(1)، وحتى أنهم جاهروا بهذا القول أمام صفية بنت عبد المطلب، وقد اجتمع بعضهم عندها وجعلوا يتفاخرون ويذكرون الجاهلية، فقالت صفية: منّا رسول الله ، فقالوا تنبت النخلة أو الشجرة في الأرض الكبا، فقالت وما الكبا؟ قالوا: الأرض التي ليست بطيبة، فذكرت صفية للنبي صلی الله علیه و آله وسلم فغضب وقال: يا بلال هجر بالصلاة، فهجر فقام صلی الله علیه و آله وسلم على المنبر فنادى بصوت فقال: «أيها الناس من أنا؟ قالوا:

ص: 107


1- مسند أحمد ج 4 : 166

أنت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، قال : أنسبوني، قالوا: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: ما بال أقوام تبتذلون أهلي فوالله إني لأفضلهم أصلاً».(1)

وما كان الله ليغضب لدوافع قبيلته، بل أدرك ما يكمن وراء هذه الألفاظ من محاولة تأخيرهم حقهم من هذه الطريق، وكأنهم يستثيرون في نفوس الأنصار، رواسبهم التي تأبى عليهم أن يملك أمورهم من هو أحط منهم منهم نسباً، ويبدو أنهم تجاوزوا بذلك إلى النيل من الإمام علیه السلام نفسه والتصريح بأنهم سوف لا يطيعونه ولا يوالونه، وربّما صرح بعضهم ببغضه، وبالطبع كانت هذه الأحاديث تبلغ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فيرد عليها بأمثال: «من أحبّ علياً فقد أحبّني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن أذى علياً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل»(2)، و«من أحبّ علياً فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغض علياً فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل»(3)، وفي رواية عمار بن ياسر زيادة: ومن تولاه فقد تولاني ومن تولاني فقد تولى الله»(4)، وفي حديث أبي ذر «من أطاعك فقد أطاعني ومن أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاك فقد عصاني»، وفي بعضها زيادة: «ومن عصاني فقد عصى الله»، وفي رواية أخرى: «يا علي من فارقني فقد فارق الله ومن فارقك فقد فارقني» (5)، وبالطبع كان صاحبنا يسمع نظائر هذه الأحاديث ويحدّث بها، وقد جاء عنه أنه قال: «أشهد بالله لسمعته من رسول الله يقول : من سب علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله أكبّه الله على منخريه»(6)

ص: 108


1- ذخائر العقبى: 14
2- ذخائر العقبى : 65
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق
5- المصدر السابق 66
6- المصدر السابق

وهذه الأحاديث بمضامينها متواترة، وهي لا تثار عادة دون أن يكون لها مواضع للإثارة، وإلّا فمن البعيد جداً أن يحدث بها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ابتداء وبلا أية مناسبة على أنبعضها صرحت بمناسبتها، ففي حديث بريدة - وكان يبغض علياً علیه السلام ويقع فيه - : «لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه ، وهو وليكم بعدي»(1)، وفي رواية عمر بن شاش الأسلمي، وكان من أصحاب الحديبية، وقد شكا علياً علیه السلام في مسجد النبي بعد عودته من اليمن لموجدة حدثت بينهما هناك، وقد بلغ رسول الله فحد النظر إليه فقال: «أما إنه والله يا عمرو لقد آذيتني، فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون أعوذ بالله والإسلام أن أؤذي رسول الله، فقال: بلى من آذى علياً فقد آذاني».(2)

ويبدو أن الأزمة بين حزب بني هاشم وحزب قريش قد تطورت وأصبحت مكشوفة لدى الجميع، وتجاوزت حتى حدود المجاملة الظاهرية، فقد كان القرشيون إذا شاهدوا هاشمياً عبسوا في وجهه وقطعوا حديثهم من بينهم إذا كانوا يتحدثون - وبالطبع - فهم يقطعون الأحاديث التي تمس شؤون الخلافة وملابساتها، وإلّا فما يدعوهم إلى قطع الأحاديث إن كانت من الأحاديث المتعارفة لديهم!، وقد صح فيما يحدثون أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال - مستنكراً - وقد شكا إليه العباس ما يلقون من قريش، من تعبيسهم في وجوههم وقطعهم حديثهم عند لقائهم، فغضب صلی الله علیه و آله وسلم لذلك غضباً شديداً حتى أحمر وجهه وعرق بين عينيه قال: «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم الله ولرسوله».(3)

والذي يظهر أن العباس - وهو الحازم الطلعة - كان يحس بشيء من النشاط

ص: 109


1- ذخائر العقبى : 68 نقلا عن مسند أحمد والترمذي
2- البداية والنهاية ج 7: 346
3- الصواعق المحرقة: 228

من قِبلهم بإحباط هذا العمل، فكان يتتبعهم لذلك، وكانوا لذلك، وكانوا هم يضيقون به لإفساده عليهم تشاورهم وربّما سرى ذلك الإحساس إلى جل رجال البيت الهاشمي، فكان نصيبهم نصيب العباس، ففي حديث صحيح عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم: «ما بال أقوام يتحدثون فإذا رأوا الرجال من أهل بيتي قطعوا حديثهم، والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتهم مني»(1) وما أدري كم كان نصيب صاحبنا من هذه التعبيسات والسكوت، وكم أثّرت على نفسه بحكم شدة تحسّسه وهو بهذا السن، وفي مثل هذه القضايا التي ترتبط ببطله رأساً!.

والذي أعتقده أن نصيبه كان وافراً منها ؛ لما نعرف في طبعه من الحركة المتواصلة والنشاط المتناهي، ولكنه ترك التحدّث عنها، لما يشعر فيها من جرح بكبريائه قد لا يقوى على هضمه، فهو يحاول تناسيها جهده، وسنعرف في ما بعد أثر هذا الجرح بما يطغى على لسانه من كلام.

(وثانيها): تخلفهم عن جيش أسامه وتمردهم عليه وطعنهم في إمرته، وربّما قدّروا في أنفسهم.. أن الهدف من إصرار النبي صلی الله علیه و آله وسلم على بعث الجيش - بما فيه من شيوخ المهاجرين والأنصار - هو إخلاء المدينة من هذه الوجوه ليصفو للإمام علیه السلام وجهها من أقطاب المعارضة، وبالطبع كانوا يقدرون أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم بعد أن مرض سوف لا يعافى من مرضه هذا، وقد أحسّوا بذلك من إطباق المرض عليه ونعيه لنفسه أكثر من مرة، وقد الجؤوه أن يخرج مغضباً فيستحثهم على الخروج، ويؤنبهم على الطعن في إمارته، وقد جاء في كتاب طبقات ابن سعد : أن النبي بعث سرية فيهم أبو بكر وعمر واستعمل عليهم أسامة ابن زيد فكان الناس طعنوا فيه أي في صغره، فبلغ ذلك رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فصعد

المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن الناس قد طعنوا في إمارة أسامة وقد كانوا طعنوا

ص: 110


1- الصواعق المحرقة: 228

في إمارة أبيه من قبله وإنهما لخليقان ،لها ، وإنه لمن أحبّ الناس إليَّ، ألا فأوصيكم بأسامة خيرا».(1)

وهذه هي المرة الأولى التي نشاهد فيها تخلّفاً في أكثر صحابة النبي صلی الله علیه و آله وسلم، عن أمر يصدره في بعث سرية من السرايا، وإذا كنا قد شاهدنا من قبل اعتراضاً على حكم شرعي أو على تعيين قائد من القوّاد، كما حدثنا صلی الله علیه و آله وسلم عن اعتراضهم على تعيين زيد فإن ذلك لم يعد الاعتراض في الكلام فقط أما التأخر والتمرد على القائد فلم يكن إلا نادراً ومن أفراد معدودين، كما وقع في وقعة تبوك .(2)

على أني لا أرى أن السبب في تخلّفهم عنه هو ما أبدوه في طعونهم في صغر سنه لأن هذا السبب لم يزل بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله وسلم، قائماً، مع أنا لم نعهد في أحد منهم التأخر عن الالتحاق بالجيش والسير تحت لوائه حيث ألقذه أبو بكر بعد ذلك، وإن كنت أتخيل أن هذا الطعن كان ذريعة للتأخر أولاً وللإيماء إلى أن السن دخيل في قابليات ذوي المناصب الكبيرة ثانياً؛ ليصح لهم بعد ذلك اعتذارهم - بلسان قادتهم كعمر وأبي عبيدة

- من استصغار سن الإمام علیه السلام وحمل النفوس - من طريق غير مباشرة - إلى تقبل مثل هذه الأعذار.

وكم ساءه صلی الله علیه و آله وسلم أن يرى هذه السابقة الخطرة .. سابقة التمرد على أوامره والاعتراض عليها ، ولعلّه قدر ما يرمون إليه من ورائها، فألح على الإنفاذ أكثر من مرة، ثم لعن من تخلّف عن جيش أسامة(3)، ومع ذلك فإن الجيش لم يتكامل ولم ينبعث إلى مهمته مدة

ص: 111


1- طبقات ابن سعد ج 2 : قسم 2 : 41
2- انظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 52
3- انظر الملل والنحل - مطبعة حجازي، مصر، ط 1 ، سنة الطبع 1368 ه- ج 1 : 14

بقاء النبي صلی الله علیه و آله وسلم وقد قدّروا هذه المدة بما يقارب الشهر.(1)

(وثالثها): إشاعة بعضهم أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أوصى إلى غير علي علیه السلام بأمور الخلافة؛ ليكون ذلك بمنزلة النسخ لنصه الأول، وقد علم بها العباس فأحبطها في الوقت. فقد حدث المقريزي في النزاع والتخاصم: أن العباس خلا بعلي فقال له: هل تعلم أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أوصى إلى غيرك بشيء، فقال علي : اللهم لا، فخرج العباس على بغلة له حتى أتى عسكر أسامة بن زيد فلقي أبا بكر وعمر وغيرهما، فقال: هل أوصاكم رسول الله بشيء، قالوا: لا، فرجع إلى علي فقال : إن رسول الله مقبوض فامدد يدك أبايعك، فيقال: عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله، ويبايعك أهل بيتك فإن مثل هذا الأمر لا يؤخر».(2)

ويأبى عليه الإمام علیه السلام ويعتذر - كما في رواية أخرى - بأن له في رسول الله شغلاً . وهذا الاهتمام من العباس والتأكد من الإمام أولاً، ثم ذهابه إلى معسكر أسامة لأخذ اعترافهم بعدم الإيصاء لهم ، لم يكن عادة بغير منشأ انتزاع - كما يعبّر الأصوليون . والمنشأ هنا لا بد أن يكون أمثال هذه الإشاعات، والذي يبدو أن هذه الإشاعة بلغت النبي صلی الله علیه و آله وسلم نفسه فردّ عليها بالتأكيد من نصه على الإمام، ففي رواية ابن حجر: «أنه قال - في مرض موته - : أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم، ألا إني مخلّف فيكم كتاب ربي عز وجل، وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض، فاسألوهما ما خلّفت فيهما» (3). ومثل هذا الكلام لا يحتاج إليه

ص: 112


1- انظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 93
2- النزاع والتخاصم - المطبعة الإبراهيمية، مصر، سنة الطبع 1937م - : 49
3- الصواعق المحرقة: 124

عادة بعد ما سبق نظيره منه صلی الله علیه و آله وسلم، و لو كانت القضية تسير سيراً طبيعياً، ولم يكن فيها مجال للنقض والإبرام، ولكنّه ما يصنع صلی الله علیه و آله وسلم والأمر محتاج إلى التأكيد، ما دامت دواعيه متوفرة بأمثال تلكم الإشاعات، وهنا أرجو أن نتأمل فى هذه الصيغة فهي كسابقاتها..

همّها التأكيد على اختياره لمنصب الخلافة لم يكن لولا ملازمته للكتاب، وعدم افتراقه عنه حتى يردا عليه الحوض، وماذا ينتظر من الحاكم - كما سبق أن قلنا - أكثر من هضمه لدساتير الحكم، فهماً وتطبيقاً؟ وهل للمسلمين دستور غير ما جاء في الكتاب وما هو بحكمه من سنّة الرسول؟.

ولم يكتف صلی الله علیه و آله وسلم بهذا التأكيد، فعمد إلى الوصية حيث قال - كما في الموفقيات: «أوصي من آمن بالله وصدقني بولاية علي بن أبي طالب من تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى الله، ومن أحبه فقد أحبني، ومن أحبّني فقد أحبّ الله عز وجل».(1)

وبالطبع كان صاحبنا يتابع هذه الخطوات، بما عُرف عنه من نشاط، وما كان ليخفى عليه نشاط أبيه العباس في هذا السبيل، وقد زاده ذلك علقة ببطله واهتماماً بأمره، كيف ! وهو يرى أباه – وهو من هو بمقامه من النبي صلی الله علیه و آله وسلم وزعامته في قريش - يخضع هذا الخضوع لأبن أخيه،وينشط هذا النشاط لإتمام الأمر له ، وقد سمعتم رأيه بالمسارعة إلى البيعة والنبي صلی الله علیه و آله وسلم حي؛ ليقطع بها السبيل على كل محاولة لإحباط ذلك.

(ورابعها): وكانت أشدَّ الخطوات على صاحبنا وأمضاها أثراً في أعماقه وهي - فيما يبدو لي – أنها كانت وليدة فشل سابقتها، بعد أن أحبطها العباس بأخذ إقرارهم بعدم الإيصاء لهم، والقضاء على تلك الإشاعة من الأساس، وقد أخذت على أثرها لهجة المعارضة لوناً آخر ينطوي على التشكيك في وجود بعض الألفاظ في نصوصه مثلاً، وتأويل بعض ما لها من مداليل، وكان الجواب الوحيد من النبي صلی الله علیه و آله وسلم أن يثبت

ص: 113


1- الموفقيات: 312

عهده على ورق ليكون مرجعاً للجميع عند الاختلاف(1)، وهنا نترك الحديث لابن عباس، فقد شهد هذه الحادثة وحدَّث عنها بقوله لما حضر رسول الله قال: «ائتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لا يختلف منكم رجلان بعدي، قال: فأقبل القوم في لَغَطهم فقالت المرأة: ويحكم عهد رسول الله»(2)، فالمسألة إذاً مسألة عهد كما هو واضح حتى لهذه المرأة وقد حيل عنه، وقد حدثنا صاحبنا عن كيفية حيلولتهم دونه.. قال: «لما حضر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلی الله علیه و آله وسلم: هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول : ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي، قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : قوموا».(3)

وقد كّنى ابن عباس عن قول عمر هنا، ولفظه الصريح - كما في روايات أخر عنه أنه قال (4) (5)

وهنا نلاحظ أن عمر لم ينفرد بالمعارضة، بل انضم إليه جملة ممن حضر في البيت، وأنهم نجحوا بإيقاف النبي صلی الله علیه و آله وسلم عن قصده بما أو مؤوا إليه من أسلوب محاربة هذا الكتاب لو أصر النبي صلی الله علیه و آله وسلم على كتابته، وما قيمة كتاب يصدر عن صاحبه وهو في حالة هجر؟!،

ص: 114


1- حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا تضلون من بعده قال: فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها». مسند أحمد ج 3: 346
2- مسند أحمد ج 3: 346
3- صحيح البخاري ج 7: 120
4- انظر مسند أحمد ج 1 : 222

وكأنه صلی الله علیه و آله وسلم لذلك توقف عن كتابته، وأعلن غضبه عليهم بطردهم من البيت، ويبدو أن صاحبنا قد اعتبر هذه الحادثة الأساس في حرمانهم من الخلافة. وحرمان الأمة من الهداية وعدم الضلال وهي التي حالت بينه وبين ما كان لنفسه من أحلام دينية أو دنيوية، فيما إذا تسنّم بطله كرسي الخلافة للنبي صلی الله علیه و آله وسلم ، فكان إذا ذكرها يبكي حتى يبل دمعه الحصى. يقول سعيد بن جبير : وكأنّي انظر إلى دموع ابن عباس على خدّه، كأنها نظام اللؤلؤ، وكان يقول : الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب(1)، ويقول : يوم الخميس وما يوم الخميس فإذا سُئل عن يوم الخميس، نقل هذه القصة، فهو يذكرها حتى بعد عشرات من السنين.

وأظننا بحكم مسايرتنا له حتى الآن وفهمنا لمدى علائقه ببطله – استطعنا أن نضع أيدينا على مفتاح هذه العقدة النفسية التي لا زمته آثارها في أكثر أيام حياته على نحو ما سترون ..

وقبل أن ننتقل عن هذه الخطوة لنلمس نتائجها، أحب أن أنقل لكم حديثاً لصاحبنا مع عمر بن الخطاب في أيام خلافته يلقي أضواء على بعض ما قلناه.. يقول: «دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة، فدعاني إلى الأكل فأكلت تمرة واحدة، وأقبل يأكل حتى أتى عليه ثم شرب من جر كان عنده، واستلقى على مرفقة له وطفق يحمد الله يكرر ذلك ثم قال: من أين جئت يا عبد الله؟ قلت: من المسجد. قال: كيف خلّفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر. قلت: خلّفته يلعب مع أترايه قال: لم أعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت، فقلت خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن. قال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت: نعم.

ص: 115


1- انظر طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 37

قال: أيزعم أن رسول الله نص عليه . قلت : نعم، وأزيدك سألت أبي عما يدعيه فقال: صدق . فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذرو من قول لا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعته من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام، لا وربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً، ولو وليها لانفضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم» .(1)

ولعل في قوله «ولا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً» - مع اعترافه بوجود القول . امتداداً لما تخيلناه، وإلا فسنرى - فيما بعد - أن ابن عباس سيحتج عليه بالنص فلا يملك إلى ردّه سبيلاً.

والذي نعجب منه لباقته في الحديث، فهو لا يكتفي بأن يقول له نعم، بل يزيده - في غير طلب للاستزادة - بأنه سأل أباه عما يدعيه فقال: صدق.

وعلى أيٍّ، فالذي يهمنا من هذا الحديث اعتراف الخليفة بأن النبي صلی الله علیه و آله وسلم أراد أن يصرح بالنص في مرض الموت فمنعه، لأن قريشاً لا تجتمع عليه، والنبي صلی الله علیه و آله وسلم عرف ذلك فأمسك، وقد سبق لصاحبنا أن حدثنا عن أسلوبه في المنع ، وعن مدى ترحيب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم به حين طردهم بقوله: «قوموا عني» بعد أن قالوا ما قالوه وكثر لغطهم وغموه كما في رواية كتاب الطبقات.(2)

وقد جسّمت هذه الحوادث ونظائرها للبيت الهاشمي هول ما ينتظرهم من مصير، ودبّت إليهم حالة من اليأس والقلق بدأت تظهر على ألسنتهم، ففي حديث أم الفضل زوجة العباس وأم صاحبنا أنها قالت: «أتيت النبي صلی الله علیه و آله وسلم في مرضه فجعلت أبكي

ص: 116


1- شرح نهج البلاغة ج 3 97
2- انظر طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 37

فرفع رأسه وقال : ما يبكيك؟ قلت: خفنا عليك وما ندري ما نلقى بعدك يا رسول الله، فأجابها صلی الله علیه و آله وسلم بتأثر وانفعال أنتم المستضعفون بعدي»(1)، وفي رواية ابن سعد في الطبقات «إنكم مقهورون مستضعفون بعدي»(2)، ومن حديث العباس مع الإمام علي علیه السلام: «أنت والله بعد ثلاث عبد العصا»(3)، يريد إنك ستمنع من حقك وتساق بها إلى البيعة سوقاً.

ومن حديث صاحبنا عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم أنه قال لعلي : «أما إنك ستلقى بعدي جهداً. قال: في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة ؟ قال: في سلامة من دينك(4)، وفي عهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم و عن علي علیه السلام قال : إن مما عهد إلي النبي أن الأمة ستغدر بي بعده»(5)، وقد مرّ بكاء ابن عباس لحادثة الخميس، ولهذا نظائر كثيرة لا يهم استقصاؤها الآن.

ويقال أن العباس وقد استبد به اليأس والهلع كان يرى أن يمضي ومعه الإمام علیه السلام إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم ليسألاه أن يوصي بهم إن لم يكن يرى أن الأمر سيكون فيهم، وكان الإمام لا يرى ذلك ومعه حق لأن أية كلمة يفوه بها النبي صلی الله علیه و آله وسلم ربّما تأخذها التأويلات مأخذاً قد تنتهي بها إلى غير صالحهم، ويبدو من بعض الروايات أن العباس لم يقتنع بوجهة نظر الإمام فذهب إلى رسول الله وحده وسأله أن يكلم الناس فأبى عليه صلی الله علیه و آله وسلم، قال الراوي - والرواية صحيحة - : « قال العباس: إني أعلم ما بقاء رسول الله فينا إلا قليلاً، قال: فأتاه فقال : يا رسول الله لو اتخذت مكاناً تكلم الناس منه، قال : بل أصبر عليهم ينازعونني ردائي، ويطؤون عنقي، ويصيبني غبارهم، حتى يكون

ص: 117


1- مسند أحمد ج6 : 339
2- طبقات ابن سعد ج 8: 204
3- المصدر السابق ج 2 قسم 2 : 38
4- المستدرك على الصحيحين ج 3: 140
5- المستدرك على الصحيحين ج 3: 140

الله هو الذي يريحني منهم»(1) ، وهي كلمات تدل على منتهى تأثره، وتحمل في أعماقها ما كان يحسه من سوء المصير... تأملوا كلمة ينازعونني ردائي»، وما فيها من كناية رائعة على تجاذبهم لحقه وعملهم على الاستئثار به، وقد عبّر عن مدى تأثير ذلك في نفسه بقوله : يطؤون عنقي - الله أكبر ! - ويصيبني غبارهم حتى يكون الله هو الذي يريحني منهم».

وكان لا بد لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم - مع هذا الشعور وهذه المقابلة التي لمسها لإحباط تشریعه - أن يحسب للإسلام حسابه، فلا يتركه يذهب ضحية للمشاحنات على الخلافة من بعده، وهو عندما اختار لهم - وما ينطق عن الهوى - أقدرهم على إدارة الشؤون وأكثرهم هضماً لمبادئ الإسلام وأوفرهم ،عدالة، لم يكن غرضه إرضاء هوى في نفسه - وحاشاه - بل كان غرضه التماس أصلحهم لمبدئه الذي جاهد مر الجهاد في سبيله - ثم لهم أنفسهم - وإذا كانوا هم لا يحسنون أن يفهموا هذه الجهات، أو لا يريدون أن يفهموها على الأقل - لأي اعتبار - فإن عليه صلی الله علیه و آله وسلم أن يحسب للظروف حسابها، فلا يترك لولي عهده مجالاً لأخذ حقه بأي أسلوب ،كان، وإن أدى ذلك إلى معارك دموية قد يكون من ضحيتها الإسلام نفسه، فإذاً لا بد من رسم خطط خاصة يعهد بها إلى وليه ليسير في حدودها إلى ما يريد ولا يتجاوزها إلى غيرها، وإن أدى ذلك إلى ضياع حقهم من الأساس.

وقد حدثنا صاحبنا عن وجود مثل ذلك العهد وإن لم يرسم لنا خطوطه واضحة، ففي حديث له مع معاوية: «فأما الذي منعنا من طلب هذا الأمر بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فعهد منه إلينا، قبلنا فيه قوله ودنا بتأويله، ولو أمرنا أن نأخذه على الوجه الذي نهانا عنه لأخذناه أو أعذرنا فيه، ولا يعاب أحد على ترك حقه، إنما المعاب من يطلب ما ليس له

ص: 118


1- ذخائر العقبى : 204

وكل صواب نافع وليس كل خطأ ضاراً».(1)

ومن حديث للإمام علیه السلام مع أبي سفيان وقد جاءه ليبايعه: «إنك تريد أمراً لسنا من أصحابه، وقد عهد إلي رسول الله عهداً فأنا عليه»(2)، وقد حدّث ذلك أيضاً عن الفضل بن العباس من كلام له مع قريش بعد أيام من حادثة السقيفة يقول: «وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه».(3)

أما متى كان ذلك العهد ومتى رسم خطوطه لهم صلی الله علیه و آله وسلم فالذي أعتقده أنّه كان في يوم الاثنين.

ص: 119


1- عيون الأخيار - مطبعة دار الكتب المصرية ، القاهرة، سنة الطبع 1341 ه- ج 1 : 6
2- شرح نهج البلاغة ج 2 : 7
3- المصدر السابق ج 2 : 8

ص: 120

يوم الاثنين

وجاء هذا اليوم، فكان أفظع يوم يمر لا على صاحبنا فحسب ولا على آل الرسول وحدهم، بل على المسلمين عامة فقد قدّر لهم أن يفجعوا بنبيهم صلی الله علیه و آله وسلم في ضحوته ويفقدوا حظهم من بقائه، وإذا خصّ آل الرسول بمزيد من الأسى فلموقع النبي صلی الله علیه و آله وسلم من نفوسهم، ولما أنتهى إليه هذا اليوم من إنجاز ما توقعوه من حرمان.

وكانت بوادره تؤذن بنتائجه فها هو بلال يؤذن النبي صلی الله علیه و آله وسلم بصلاة الغداة، فيقعد به المرض عن الخروج إلى الصلاة، ويصلي بالناس أبو بكر، ويعلم النبي صلی الله علیه و آله وسلم بذلك فيخرج وهو متوكئ على علي علیه السلام والعباس، ويدرك صلی الله علیه و آله وسلم المسلمين قبل أن يتمّوا، فيصلي بهم من جلوس، وتكون هذه الحادثة بعد ذلك مثار اختلاف كبير بين السنّة والشيعة.

أما أهل السنة فإنهم يقولون : إن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم هو الذي أمر أبا بكر بالصلاة، وتختلف بعد ذلك رواياتهم وتتضارب ويدخلها التناقض من عدة زوايا.

ويقول الشيعة : إن النبي صلی الله علیه و آله وسلم لم يأمره بذلك وإنما قال: مروا الناس فليصلّوا، فتزيد متزيد وتحدّث متحدّث، ورواياتهم في ذلك كثيرة، وربما وجدوا لهم سنداً في أحاديث أهل السنّة، أمثال رواية أم سلمة القائلة: «إن رسول الله كان في وجعه إذا خفّ عنه ما يجد خرج فيصلي بالناس ، وإذا وجد ثقلاً قال : مروا الناس فليصلوا فصلى بهم ابن أبي قحافة يوماً الصبح .. الخ )»(1)فهي - كما ترون - لا تعني أمراً خاصاً من النبي صلی الله علیه و آله وسلم له لأي أحد، وربّما اعتبروا أم سلمة أقرب إلى الحياد في هذه القضية، لأن بقية روايات المسألة

ص: 121


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 22

كانت تنتهي غالباً إلى عائشة، وفيها تقول: إنه أمر أباها بالصلاة. وعلى أي فلسنا هنا في صدد محاكمة هذه القضية لنبحثها من جميع أطرافها، والذي نخاله أن خروج النبي صلی الله علیه و آله وسلم بهذه الحالة المؤلمة - وهو متوكئ على العباس وشخص لم تسمه عائشة لأنها لا تطيب نفسها له بخير - كما يقول صاحبنا - وسماه ابن عباس وقال : إنه علي(1) - لم يكن طبيعياً ولم يكن لخفة وجدها في نفسه - كما تعلل بعض الروايات(2)- وأين موضع الخفة وقد خرج ورجلاه تخطّان الأرض من المرض، وصلى بهم من جلوس، وقد كان قبل لحظات لا يقوى على الخروج، وأمر الناس أن يصلوا فهل أتته القوة دفعة واحدة؟!! وربّما يقرب من يقرّب بأنه صلی الله علیه و آله وسلم ما كان ليخرج لو لم ير أن دعوة هذا الشخص المعيّن إلى الصلاة في هذا الظرف الدقيق ربّما سيحمّل أكثر من طاقته، فيتذرع متذرع ويتأول متأول، فخرج على هذه الحالة المشجية؛ ليدفع ما ربّما سيتذرّع به المتذرعون بعد حين.

وربّما اتضح هذا المعنى إذا أخذنا برواية أم سلمة والطائفة التي تعضدها، ولا تشير إلى تعيينه شخصاً معيناً للصلاة.

على أن هذا المعنى الدال على تأثره بخروجه قد يستطيع أن يجلو لنا خطبته بعد صلاته تلك، فقد توجه إلى الحاضرين بالكلام فرفع صوته وهو يقول: «أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون عليّ بشيء إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرّم القرآن».(3)

تأملوا هذه الصورة القائمة التي رسمها صلی الله علیه و آله وسلم ، لأمته، نيران تسعر وفتن كقطع الليل المظلم، وهي بمثابة نذير شر لما سيحدث من بعده، ثم تأملوا هذا القس«إني والله ما

ص: 122


1- انظر طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 29
2- انظر المصدر السابق ج 2 قسم 2 : 17
3- سيرة ابن هشام ج 4 : 332، وانظر تأريخ الطبري ج 3: 196

تمسكون عليّ بشيء»، والقسم لا يؤتى به عادة إلّا في مقام التهمة والإنكار ليؤكد به الحقيقة التي يراد إثباتها من ورائه، فهو يقسم أنهم لا يمسكون عليه بشيء، فإذا المسألة مسألة تهمة من قبلهم – أو بعضهم على الأقل – توجه إليه بأنه خارج على حدود رسالته وحدود القرآن، فهو يؤكد بهذه السلسلة من التأكيدات «إني لم أحلّ إلّا ما أحلّ القرآن ولم أحرّم إلا ما حرّم القرآن»، ليرفع صلی الله علیه و آله وسلم هذه التهمة عن نفسه، وما أدري إلى أي مدى ترتبط هذه التهمة بما كان يتخوفه على قومه من اتهامهم له بالمصانعة في ابن عمه كما سبق لابن عباس أن حدّثنا عنه.

وعاد صلی الله علیه و آله وسلم إلى بيته فدعا علياً ليوصيه - والظاهر أن دعوته له كانت بهذا اليوم - فقالت عائشة: «لو بعثت إلى أبي بكر. وقالت حفصة: لو بعثت إلى عمر. فاجتمعوا عنده جميعاً .. يقول صاحبنا - وهو المحدّث بهذا الحديث - : فقال رسول الله: انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم (1)، وهي كلمة تدل على ضجر وسأم من هذه المضايقات، فهم يأبون عليه أن يخلّوا بينه وبين أخيه حتى في هذه الحالة.

وتشتد حالته صلی الله علیه و آله وسلم فيكثر من الاستفسار عن علي حتى تقول له فاطمة عليها السلام : كأنك بعثته في حاجة تقول أم سلمة - فيما صحّ عنها من هذا الحديث -: «والذي أحلف به إن كان على لأقرب الناس عهداً برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، عدنا رسول الله غداة وهو يقول: جاء علي؟ جاء علي؟ مراراً، قالت: «فاطمة سلام الله علیها كأنك بعثته في حاجة، قالت: فجاء بعد. قالت أم سلمة : فطننت أن له إليه حاجة فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب - وكنت من أدناهم إلى الباب - فأكبّ عليه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وجعل يساره ويناجيه، ثم

قبض رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من يومه ذلك، فكان على أقرب الناس عهداً»(2)

ص: 123


1- تأريخ الطبري ج 3: 195
2- المستدرك على الصحيحين ج 3: 138 - 139

ولعله صلی الله علیه و آله وسلم في هذه المسارّة والمناجاة جمع لوصيه فأوعى، وذكر فيما ذكر له ذلك العهد الذي حدثنا عنه صاحبنا والفضل، وتحدّث عنه الإمام علیه السلام وجعله دستوراً يسير في حدوده إلى المطالبة بحقه، ولا يحيد عنه مهما كلّف الحال ، ونظير ما حدثت به أم سلمة ما جاء عن الإمام علیه السلام أنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في مرضه: أدعوا لي أخي.

قال: فدعي له علي فقال: أدن مني.

فدنوت منه فاستند إليّ فلم يزل مستنداً إليّ وإنه ليكلمني حتى أن بعض ريق النبي صلی الله علیه و آله وسلم ليصيبني، ثم نزل برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وثقل في حجري، فصحت يا عباس أدركني فإني هالك.

فجاء العباس فكان جهدهما جميعاً أن أضجعاه».(1)

ولكن السيدة عائشة التي كانت لا تطيب له نفساً تأبى عليه هذه المكرمة وتنسبها إلى نفسها، فكانت تحدّث: أن رسول الله مات بين سحرها ونحرها، حتى اضطر ابن عباس إلى تكذيبها يقول ابن غطفان «سألت ابن عباس أرأيت رسول الله توفّي ورأسه في حجرأحد، قال: توفي وهو لمستند إلى صدر علي.

قلت: فإن عروة حدّثني عن عائشة أنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري. فقال: ابن عباس أتعقل ! والله لتوفّي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وإنه لمستند إلى صدر علي.. الرواية»(2)

ص: 124


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 51
2- المصدر السابق

وفاة الرسول

وجاءت الساعة المنتظرة فكانت أسوأ ساعة تمر على آل البيت من ذلك اليوم، وقبض رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم و أعلن الخبر فسرت في الحضور وجمة طبقت أرجاء البيت ثم ندت من أحدهم صيحة نبهت الحاضرين إلى ما أحاط بهم من هول الفاجعة، فتجاوب الصياح من الجميع، وتسامع الناس فأقبلوا يهرعون، وجاء - فيمن جاء عمر بن الخطاب ومعه المغيرة وكان أبو بكر إذ ذاك بالسنح فدخلا عليه – فيما تحدّث عائشة : «وكشفنا الثوب عن وجهه فقال عمر : واغشيا ما أشد غشي رسول الله ثم قاما فلما انتهينا إلى الباب قال المغيرة يا عمر مات والله رسول الله، فقال عمر: كذبت ما مات رسول الله ولكنّك رجل تحوشك فتنة، ولن يموت رسول الله حتى يفني المنافقين .. »(1)قام خطيباً فتوعد أهل النفاق وقال فيما قال - كما في رواية عكرمة -: «إن رسول الله لم يمت ولكن إنما عُرج بروحه كما عُرج بروح موسى، لا يموت رسول الله حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم، قال: فما زال عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه ..».(2)

وما أدري.. أين كان صاحبنا عند موت النبي صلی الله علیه و آله وسلم

وهل شاهد ابن الخطاب وهو يشكّك الناس بموته، ويتهدد من يقول بذلك - كما في رواية أخرى - بالقتل (3) وهل داخله الشك به لهذا الكلام؟.

ص: 125


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 54
2- المصدر السابق ج 2 قسم 2 53 ، وانظر تأريخ اليعقوبي :ج 2 : 95 ، وانظر تأريخ ابن خلدون ج 2 : 269 ، وانظر تأريخ الطبري ج 3: 197
3- انظر تأريخ الطبري ج 3: 198

الذي أقربه أنه كان حاضراً إذ ذاك وما كان ليغيب عن أمثال هذه المشاهد، وشاهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم وهو يلقي بنفسه الأخير وإنه لمستند إلى صدر علي كما تشعر به الرواية السالفة .

وجزع فيمن جزع من آل البيت - وقد يكون من أكثر هم جزعاً – واستمع لحماسة ابن الخطاب، وربّما تأثر فألهته عن التفكير فيما عداها عن التفكير فيما عداها من الشؤون، وود لو أنها تصدق فيرجع رسول صلی الله علیه و آله وسلم ، واسترسل بتلكم الأحلام لولا أن يقطعها عليه صوت أبيه – وهو مَن هو بيقظته وحزمه - وقد رابه ما رابه من أمر هذا التشكيك غير الطبيعي، وتوجس خيفة مما يراد به فأراد أن يوقفه عند حده بقوله: «إن رسول الله قد مات فادفنوا صاحبكم، أيميت أحدكم إماتة واحدة ويميته إماتتين؟! هو أكرم على الله من ذلك فإن كان كما تقولون فليس على الله بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء الله، ما مات حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً، أحل الحلال، وحرّم الحرام، ونكح وطلّق، وحارب وسالم وما كان راعي غنم يتبع بها صاحبها رؤوس الجبال، يخبط عليها الغضاة بمخبطه، ويمدر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله كان فيكم»(1) فيعيده إلى هذه الحقيقة المرة.

ولكن ابن الخطاب بقي على حماسته وتهديده حتى جاءه أبو بكر من السنح وخطب خطبته وتلا هذه الآية «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(2) فقال عمر – - متعجباً -: «هذا في كتاب الله؟! قال: نعم، - تقول هذه

ص: 126


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 53-54
2- آل عمران : 144

الرواية - فقال: أيها الناس هذا أبو بكر وذو شيبة المسلمين فبايعوه».(1)

وإذا صح مدلولها فإن الدعوة لأبي بكر بالبيعة كانت قبل حادثة السقيفة، ولعل ذلك أقرب لمنطق الحوادث كما سنراه بعد حين وعلى أي فإن المهم أن نعرف عن صاحبنا - وهو يشهد هذه الرواية بجميع فصولها - هل استطاع أن يوفق بين إصرار عمر هنا على أنه صلی الله علیه و آله وسلم لا يموت ، وإنما غاب كما غاب موسى علیه السلام وبين قولته يوم الخميس حين أراد رسول الله أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا من بعده أن الرجل ليهجر وحسبنا كتاب الله، مما يدل على أنه كان حاسباً لموته ألف حساب، ومقدّراً للأمة العصمة من الضلالة - بعد موته - مكتفية بكتاب الله عن هذا الكتاب؛ لذلك يقول : حسبنا كتاب الله ، وهل اعتبرها صدمة نفسية وهي عادة لا تكون إلا بعد المفاجأة بالخبر المفجع الذي لم تسبقه بوادره مع أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم عندهم مريض يكرر نعي نفسه يوماً بعد يوم، ويُعد أجواءهم لتقبل ذلك، على أن الصدمة في العادة لا تكون إلا بعد سماعه للخبر بلا فصل، وهو - كما شاهدتم - يسمع الخبر بهدوء فيأتي مع المغيرة ليكشف عن وجه النبي صلی الله علیه و آله وسلم فيقول: واغشياً، ويجيبه المغيرة وهما عند الباب «مات والله رسول الله»... إلى آخر هذه اللعبة.

وهل اعتبرها مع من اعتبرها من الناس ثورة مصطنعة دبرها هو والمغيرة بمجيئهم ليؤخروا الناس عن التفكر في شؤون الخلافة حتى يجيء أبو بكر، وإلا فما باله لم ينصع إلى العباس وهو ينكر عليه هذه الثورة بتلك اللهجة المركزة التي تنطوي على مرارة الواقع، وأنصاع لأبي بكر ، وماذا قال أبو بكر أكثر من تلاوته للآية التي تشعر بانقلابهم بعد موته، وهي لا تحدد زمن الموت وهو لا ينكره بتاتاً، بل يقول: حتى تقطع أيدي أقوام وألسنتهم، ثم استفهامه أهذه في كتاب الله، ليصعق بعده كمن صدّق بالخبر كما

ص: 127


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 54

تحدث بعض الروايات(1)، فينسى كل شيء إلا دعوة الناس إلى بيعة أبي بكر ذي شيبة المسلمين.

وعلى أي حال فقد أخذت هذه الحادثة مأخذها في التماس المبررات، فهو يقول تارة للمسلمين في اليوم الثاني من بيعة أبي بكر : أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدتها في كتاب أنزله الله ولا في عهده إلي رسول الله، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله - يقول الراوي - فقال كلمة يريد حتى يكون آخرنا فاختار الله لرسوله الذي عنده».(2)

فهو هنا يصرح بأنه لم يجد هذه المقالة بكتاب الله ولا بعهد من رسوله، وهو أمام صاحبنا يلتمس بعد حين آية من القرآن يبرر بها موقفه ذاك قال ابن عباس: «والله إني لأمشي مع عمر في خلافته، وهو عامد إلى حاجة له وفي يده الدرّة، وما معه غيري، قال وهو يحدّث نفسه ويضرب وحشيّ قدمه بدرّته قال : إذ التفت إلي فقال: يا ابن عباس هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله ؟

قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين أنت أعلم، قال: فإنه والله إن كان الذي حملني على ذلك أني كنت أقرأ هذه الآية «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا».(3)، فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها فإنه الذي حملني على أن قلت ما قلت».(4)

فهي - كما ترون - تسايره خواطرها حتى إلى ما بعد أيام خلافته، حتى إذا وجد

ص: 128


1- انظر تأريخ الطبري ج 3: 198
2- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 56 وانظر سيرة ابن هشام ج 4 : 340
3- البقرة : 143
4- سيرة ابن هشام ج 4 : 341

آية من القرآن تحتمل الظن بما يريد حملها وأستند إليها لتبرير هذه الفعلة، ولم يبررها بالدهشة، كما حاول أن يبررها بعد ذلك ابن روزبهان(1)وغيره.

ومهما يكن من أمر فقد نجح عمر بموقفه هذا وأخر الناس عن التفكير بالخلافة حتى مجيء أبي بكر.. وسنحاول أن نتعرف إلى خطوات الأحزاب الثلاثة التي سبق أن تحدثنا عنها في هذه القضية الهامة .

ص: 129


1- انظر دلائل الصدق ج 3 قسم 1 : 72

ص: 130

اجتماع السقيفة

أمّا أهل البيت عليهم السلام - وهم أصحاب الحق الشرعي - فقد اجتمعوا - ومعهم بعض كبار أنصارهم كالزبير وعمار والمقداد وسلمان - على صاحبهم وأغلقوا الباب عليهم، واشتغلوا بتجهيز رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم

وقد اختلفت وجهتا نظر زعيمي الحزب علي علیه السلام والعباس تجاه هذا الأمر، فالعباس كان يرى أن يستبق الحوادث ويعجّل بالبيعة للإمام علیه السلام؛ ليقول الناس: عم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بايع ابن عم رسول الله، ثم يبايعه أهل بيته عليهم السلام، فهو يقول له - كما تحدث الرواية - وهم في الدار مشغولون بجهاز النبي صلی الله علیه و آله وسلم: «أبسط يدك أبايعك فيقال: عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله ويبايعك أهل بيتك فإن هذا الأمر إذا كان لم يُقَل» وكان جواب الإمام علیه السلام جواب من يتجاهل الأحداث؛ ليقطع على محدثه سبيل الأخذ والرد، فهو يقول له : «ومن يطلب هذا الأمر غيرنا».(1)

وفي رواية أخرى: «أو يطمع فيها طامع غيري ، فيجيبه العباس - كمن ينطوي على مضض - «ستعلم».(2)

وكانت وجهة نظر الإمام علیه السلام- فيما كشفها بعد للأنصار - هي قوله : «أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا أجهزه وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه».(3)

ص: 131


1- الإمامة والسياسة ج 1: 4 - 5
2- شرح نهج البلاغة ج 1 : 53
3- المصدر السابق ج 2 : 5

وقد تكون وجهة نظر العباس لا تخلو من ارتجال والحق في جانب الإمام علیه السلام فبيعة العباس ومن معه وحدها لا تجدي كبير نفع إذا لم يخرج الإمام علیه السلام بنفسه ليدعو الناس إلى بيعته - وبالطبع هو يعرف أن استجابتهم لندائه لا تأتي بسهولة ولا بلا اخذ وَرَد - وقد عرف مدى معارضتهم السابقة لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم - بما فيها من رميه بالهجر - ليوقفوا النص عند حدّه.

وإذا قدر له أن يخرج لينازع الناس في أمر الخلافة فأي خزي سيلحق المسلمين وأهل بيته علیهم السلام على الخصوص، إذا قيل أنهم تركوا نبيهم صلی الله علیه و آله وسلم مسجّىّ لم يدفن بعد ودخلوا في مشاحنات على سلطانه.

على أن جانباً آخر لم يكشفه الإمام علیه السلام تماماً، وإنما كشفته الأحداث فيما بعد، فلو قُدّر للإمام علیه السلام أن يستجيب للعباس ويتقبل بيعته وبيعة أهل بيته، ولم يقدّر لبقية المسلمين أن يستجيبوا إليها ، فماذا يكون موقفه ؟ .. أيتنازل عنها ؟!.. وفيه من الفشل الكبير ما يسدّ كل منفذ للتفكير فيه، وإذا أصر واستمر واعتبر نفسه هو صاحب الحق، كان عليه أن یعمل قوته لإجبارهم وهو أمر يتنافى وخلقه، كما عرفناه فيما بعد حين ترك جماعة من المسلمين أمثال سعد بن أبي وقاص وابن عمر لمجرد عدم رغبتهم فيها ، وإلا فما الفائدة من مثل هذه البيعة التي لا توصل صاحبها إلى الحكم؟! على أن الأمر قد لا ينتهي – لو أراد إجبارهم – إلى خير، وربّما عرّض الإسلام في عاصمته إلى ثورة دموية لا يستفد من ورائها غير الطامعين والانتهازيين من أعداء المسلمين، أو من المسلمين الذين لم يتركز الإسلام في نفوسهم بعد، وسيأتي حديثه مع أبي سفيان ما يشرح هذا الجانب.

فكان لا بدّ لهذا وأمثاله أن يأبى على العباس قبول بيعته في الوقت، ويجيبه بذلك الجواب الذي يقطع على صاحبه سبيل المناقشة في الموضوع ، ويرجئ الإجابة الصريحة إلى وقت يسعها درساً وعملاً، وما أدري.. ما كان رأي صاحبنا في هاتين النظرتين؟ وإلى

ص: 132

أيهما مال؟ وإن كنت أعتقد أن سنّه لم تساعده على الدخول في الموضوع نقضاً وإبراماً، أو ما كان على مثله إلّا أن يسمع فيطيع، وبخاصة وأن الحديث يدور بين قطبي جزبه الكبيرين.

وأما حزب قريش فهو - مع اتفاق أكثره على معارضة الإمام علیه السلام والوقوف دون إتمام الأمر له للأسباب التي أشرنا إليها فيما سبق - لم تكن كلمته بعد متفقة على مرشح مخصوص وإن كان رأي الكثير منهم متجهاً إلى أبي بكر، ولعل كلمة عمر السابقة «هذا أبو بكر ذو شيبة المسلمين فبايعوه» كانت بمنزلة الإثارة للتفكير الجدي السريع من قبل أقطاب بعض القبائل وقبائلهم، فقد اجتمعت بنو أمية إلى عثمان بن عفان، وبنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن(1)، ويبدو أن هاتين القبيلتين كانتا أهم القبائل القرشية التي ترى لنفسها شأنا في قبالة بقية قبائل قريش.

وبقية الأقطاب - فيما يبدو - كانوا مع أبي بكر كعمر وأبي عبيدة وسالم مولى حذيفة وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وأضرابهم.

وكان موقف الأنصار طبيعياً في اجتماعهم على سعد بن عبادة كبير زعمائهم وأظهرهم إذ ذاك، فما كانوا ليتركوا الأمر لقريش وبينهم ما بينهم من الترات والمفارقات التي أشرنا إلى قسم منها فيما سبق، وسنشير إليها مفصلاً فيما يأتي .

على أن الأمر يهون بالنسبة إليهم لو قدّر لقريش أن لا تخرج على أمر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وتسلم الحق إلى صاحبه.

أما وقد أجمعت كلمتها على معارضته وصرف الأمر عنه - كما أحسّوا بذلك من مجموع ما مر عليهم من أحداث - فإنهم لا يطيقون أن يسلّموا الأمر إليهم وبينهم ما

ص: 133


1- انظر شرح نهج البلاغة ج 2 : 5

بينهم من تنافس وترات المسنا فيما سبق شيئاً من آثارها.

وقد أوجز سعد بن عبادة لقومه ما لهم من حقوق على قريش تستوجب أن يكون

الحق لهم بكلمات جاء فيها : «إن لكم سابقة إلى الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب. إن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلا قليل.

والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله ولا يعزوا دينه ولا يدفعوا عنه عداه، حتى أراد الله بكم خير الفضيلة وساق إليكم الكرامة، وخصكم بدينه ورزقكم الإيمان به وبرسوله والإعزاز لدينه والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على من تخلّف عنه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم حتى استقاموا لأمر الله طوعاً وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغراً داحضاً حتى أنجز الله لنبيكم الوعد ودانت لأسيافكم العرب، ثم توفاه الله تعالى وهو عنكم راض، وبكم قرير عين، فشدّوا أيديكم بهذا الأمر فإنّكم أحق الناس وأولاهم به».

وكانت هذه الكلمة وحدها - بما اشتملت عليه من تعداد فضائلهم ومواقفهم المشرفة تجاه قريش وإيماءتها الخفيّة إلى ما بينهم من ترات في سبيل الإسلام – كافية لأن تجمع كلمتهم على التمسك بحقهم قبالة حزب قريش مهما كلّف الحال.

وبالفعل «فقد أجابوه جميعاً أن وُفِّقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدو ما أمرت، نوليك هذا الأمر فأنت لنا مقنع ولصالح المؤمنين رضا».(1)

والغريب في أمر هذه الخطبة أنها تناست كل ما يتعلّق بالنص والإمام علي علیه السلام ونظرت المسألة من زاوية قبلية بحتة، وكأنّ ذلك إنّما كان؛ لما يحسّه، في أعماقه هو

ص: 134


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 3 ، انظر تأريخ الطبري ج 3 : 207 ، وانظر الإمامة والسياسة ج 1 : 5

وجماعته من اليأس من انتهائها للإمام علیه السلام، ما دامت قريش لا تريد ذلك، وإذا تمت لقريش خافوهم على أنفسهم.

وعلى أيٍّ فقد أحدث هذا التناسي لحديث النص عقدة عائلية بين سعد وابنه بعد حادثة السقيفة، ويبدو أن قيساً كان متأثراً أول الأمر بأقوال المعارضين وتشكيكاتهم في أمر النص؛ لذلك وقع في ركاب أبيه في الدعوة له، ولكنه عدل بعد ذلك لتصريح من أبيه فأحدث بينهما هذه العقدة.

حدّث أبو الحسن النوفلي قال: «سمعت أبياً يقول: ذكر سعد بن عبادة يوماً علياً بعد يوم السقيفة، فذكر أمراً من أمره نسيه أبو الحسن يوجب ولايته، فقال له ابنه قيس بن سعد : أنت سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب ثم تطلب الخلافة، ويقول أصحابك منا أمير ومنكم أمير، لا كلمتك والله من رأسي بعد هذا كلمة أبداً».(1)

والحقيقة إن هذا التصريح من سعد لا يهمنا أن يحدث عقدة بينه وبين ولده أو لا يحدث، بقدر ما يهمنا من معرفة أثره في نفس صاحبنا إن كان قد قدّر له سماعه ومدى تأثره - وهو يشهد هذا الحق الصراح كيف يُتجاهل ثم يُعترف به ولكن بعد فوات الأوان وبعد أن ذهب شعاعاً على مذبح الأهواء والأطماع ، وسنرى بعد حين اعترافات أُخر من أقطاب آخرين تبلغ سمع ابن عباس فيتلقاها بما عوّدنا عليه من السكوت على مضض.

ثم هل سمع محاورته مع أبي علقمة؟ وما كان رأيه بهذه التصريحات المهمة التي اضطره الزمن لكشفها ؟ يقول أبو علقمة - فيما يحدّث الطبري - : قلت لابن عبادة -

ص: 135


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 18

وقد مال الناس إلى بيعة أبي بكر - : «ألا تدخل فيما دخل فيه المسلمون قال : إليك عني فوالله لقد سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول : إذا أنا مت تضل الأهواء ويرجع الناس إلى أعقابهم، فالحق يومئذ مع علي، وكتاب الله بيده مع علي وكتاب الله بيده لا تبايع أحداً غيره، فقلت له: هل سمع هذا الخبر أحد غيرك من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقال : أناس في قلوبهم أحقاد وضغائن،قلت: بلى نازعتك نفسك أن يكون هذا الأمر لك دون الناس، فحلف أنه لم يهمّ بها ولم يردها، وأنهم لو بايعوا علياً كان أول من بايعه»(1)

وإذا صحت هذه التصريحات فإنها تكشف عن جانب من السر في حضور سعد للأنصار ، فهو لم يردها لنفسه، وإنّما كان ذلك لمعارضة حزب قريش، وإلا فهو أول من يبايع لو قُدّر لكلمتهم أن تجتمع على الإمام علیه السلام، وما يدرينا لعله كان صادقاً في دعواه، وكانت هذه المحاولة منه إقداماً على وأد فكرة المعارضة في قريش بأخذ البيعة له أولاً ثم تسليمها للإمام علیه السلام.

وسنرى كيف أجمع الأنصار أو معظمهم - بعد فشل هذه المحاولة - على القول: بأنا لا نبايع إلّا علياً ولولا أن يستغل أبو بكر - كما سيأتي – نقاط الضعف في هذا الحزب فيشطره على نفسه، لما استطاع أن يكسب الموقف في ذلك اليوم.

ولعلّكم تذكرون ما سبق أن قلناه من أن أهم نقطة ضعف في هذا الحزب هو انقسامه إلى قبيلتين كانتا متنافستين في الجاهلية، وبقيت رواسب ذلك إلى الإسلام، ونزيد الآن أن قبيلة الخزرج نفسها كانت منقسمة على نفسها، وكان التحاسد بين قطبيها بشير بن سعد وسعد بن عبادة قائماً على ساق، فسعد كان مبغوضاً مقامه للأوس؛ لانتمائه إلى الخزرج، ولقسم كبير من الخزرج للمنافسة بينه وبين زعيمهم(2)، ونضيف أيضاً أن

ص: 136


1- تنقيح المقال - المطبعة المرتضوية، النجف، سنة الطبع 1352 ه-ج 2 : 16 نقلا عن الطبري
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 2 : 7

قسماً من هؤلاء كانوا يعملون للمهاجرين في صفوف الأنصار، كعويم بن ساعدة ومعن بن عدي، وهما اللذان أخبرا المهاجرين وطلبا إليهم أن يتداركوا الأمر قبل أن يفلت من أيديهم الزمام، وكان بينهما وبين سعد بغض وشحناء كما تقول الرواية.(1)

وهنا نترك الحديث لابن عباس ليحدّثنا عن موقف هذه الأحزاب الثلاثة من الخلافة - وبالطبع هو لم يشاهد قسماً منه بنفسه، وإنما كان طريقه إليه زميله بعد حين عمر بن الخطاب - قال مالك بن أنس: حدّثني ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن ابن عباس أخبره - والحديث طويل ولعلنا نأتي عليه في موضعه ونجتزئ الآن منه بما يتعلّق بحديث السقيفة من خطبة عمر - يقول عمر: «وقد بلغني أن قائلاً منكم يقول : لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن أمرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ألا وإنها كانت كذلك، ألا وإن الله عز وجل وقى شرها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ، ألا وإنه كان من خبّرنا حين توفي رسول الله أن علياً والزبير ومن كان معهما تخلّفوا في بيت فاطمة علیه السلام بنت رسول الله، وتخلّفت عنا الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة. واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان فذكر ا لنا الذي صنع القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلت: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار.

فقالا : عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين.

فقلت والله ،لنأتينهم فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا هم يجتمعون، وإذا بين ظهرنا رجل مزمل فقلت من هذا ؟ فقالوا سعد بن عبادة، فقلت: ماله؟ قالوا: وجع.

ص: 137


1- انظر شرح نهج البلاغة ج 2 : 8

فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله، وقال: أما بعد فنحن أنصار الله عز وجل وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دقت داقة منكم يريدون أن يخزلونا من أصلنا ويغصبونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زوّرت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الحد، وهو كان أحلم مني وأوقر.

فقال أبو بكر : على رسلك، فكرهت أن أغضبه وكان أعلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلّا قالها في بديهية وأفضل حتى سكت.

فقال: أما بعد، فما ذكرتم من خير فأنتم أهله ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش.

هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، وكان والله أن أقدّم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحبّ إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر إلّا أن تغير نفسي عند الموت.

فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.

فقلت لمالك: ما معنى أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجب؟ قال: كأنه يقول أنا داهيتها.

قال : وكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر.

فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة

ص: 138

فقال قائل منهم قتلتم سعداً، فقلت: قتل الله سعداً.

وقال عمر : أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أقوى من مبايعة أبي بكر ،حتى خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد، فمن بايع عن غير مشورة فلا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغِرّةً أن يُقتلا».(1)

وهذه الخطب - التي ينقلها ثقات المؤرّخين باختلاف بسيط جدا لا يضر بجوهر المضمون - تصحح بعض الأخطاء التأريخيّة في نقل بعض الناقلين، وتملا أكثر الفجوات في هذه الحادثة فهي ظاهرة:

1 - باجتماع المهاجرين على أبي بكر قبل اجتماع الأنصار على سعد، كما يبدو من قوله: «واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر وتخلّفت عنا الأنصار بأجمعها»، وكما يبدو من قول خطيب الأنصار: «وقد دفّت دافّة».

ولعلّ اجتماعهم كان بعد نداء عمر السابق: «هذا أبو بكر ذو شيبة المسلمين فبايعوه كما مر في حديث عكرمة ، بل إذا توسعنا وأخذنا بتلكم الرواية - وهو بعيد - فإن بيعة أبي بكر كانت قبل حادثة السقيفة؛ لأن تلك تقول في تتمتها: «فبايعه الناس»، ولا ينافي ذلك ما ذكرناه سابقاً من انحياز بعض قبائل قريش إلى زعمائها، فالحكم إنما يساق بلحاظ أكثريتهم، وأكثرية المهاجرين كانت مع أبي بكر.

2 - إن أبا بكر لم يذهب إلى الأنصار هو وعمر وأبو عبيدة وحدهم - كما تصوّرهم بعض الروايات(2) - بل ذهب معهم المهاجرون كما يشعر بذلك خطاب الرجلين

ص: 139


1- مسند أحمد ج 1 : 56 ، انظر تأريخ الطبري ج 3 : 200 - 201 ، وانظر شرح نهج البلاغة ج 1 : 123 ، وانظر تأريخ الخلفاء: 67 - 68 ، وانظر سيرة ابن هشام ج 4 : 336-339
2- انظر الإمامة والسياسة ج 1 : 5

الصالحين لهم : «يا معشر المهاجرين »(1)، والمعشر لا يطلق على اثنين(2)، وهو أقرب إلى منطق الحوادث عادة، وإلا فما كان ليقدم شخص كمثل أبي بكر – يعد نفسه ويعدّه حزبه لتحمّل أكبر مسؤولية في الأمة - على الذهاب إلى حزب آخر يعارضهم بالفكرة ليخذلهم عن مرشحهم المعد للخلافة، مع ما في ذلك من تعريض نفسه للخطر المتوقع من أمثال هذه الاجتماعات.

3 - إن البيعة لم يسبق إليها الأنصار ، بل سبق إليها المهاجرون، كما في صريح قوله: «فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار».

4 - إن أبا بكر لم يحتج عليهم بحديث الأئمة من قريش كما جاء في بعض الأحاديث(3)، بل قال: كما جاء في أكثرها – : «ولم تعرف العرب هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسباً وداراً».

لأن هذا الحديث لو صح وروده عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم لما احتج به أبو بكر؛ لما فيه من تذكير الأنصار بحديث النص عن الإمام علیه السلام، وربما انتقض عليه الأمر بالأساس، وهو - بالطبع - لو صدر لكان بمنزلة التمهيد والتعميم الذي يسبق التخصيص عادة في مثل هذه الأمور المهمة التي تحتاج إلى ترويض الأفكار، وكان طبيعياً بعد ذلك أن يشير لهم الخليفة بطرف خفي إلى ما ينتظرهم من مصير، لو قدر للبيعة أن تتم المرشحهم، فالعرب لا ترضى بهم ولا تخضع لهم، بل لا تخضع إلا لهذا الحي من قريش.

وعلى أي فقد تمت البيعة لأبي بكر، وكانت كما حدث عمر فلتة وقى الله المسلمين

ص: 140


1- انظر تأريخ الطبري ج 3: 200
2- انظر لسان العرب - دار صادر، بيروت سنة الطبع 1375 - مادة (عشر)
3- انظر أنساب الأشراف - تحقيق محمد حميد الله سلسة ذخائر العرب : 27، مطبعة دار المعارف، مصر، سنة الطبع 1959م - ج 1 : 582

شرها، وكادت تذهب بأرواح كثير من صحابة النبي صلی الله علیه و آله وسلم بما أحدثوا من نزاع في السقيفة عبّر عنه الخليفة بكثرة اللغط وارتفاع الاصوات، وأشار بعض المؤرخين إلى ما فيه من خطوط، عرفنا منها مصادمة عمر للحباب وتجريد سيف الحباب في وجهه، وتهديد عمر له بالقتل بقوله : إذن يقتلك الله.

وجواب الحباب له .(1)

ولو قدر لنا أن نسمع هذا اللغط لوجدنا فيه أصواتاً ترتفع من الأنصار أو بعضهم وهم يقولون: لا نبايع إلا علياً.(2)

ولولا أن تتوافر في أبي بكر صفات الخطيب الجماهيري المبدع الذي يحسن أن يتلاعب بعواطف المستمعين، بما أوتي من قدرة وخبرة بنقاط الضعف فيهم، واستغلال ذلك في وقته المناسب لرأينا كيف انتهى أمر الإسلام ذلك اليوم.

أما ماذا قال أبو بكر حتى شقهم على أنفسهم، فذلك ما يحدثنا عنه الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، يقول: قال أبو بكر : نحن أهل الله واقرب الناس بيتاً من بيت الله وأمس الناس رجماً برسول الله .

إن هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عنه الخزرج.

وقد كانت بين الحيين قتلى لا تنسى وجراح لا تداوى، فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي أسد يضغمه المهاجري ويخرجه الأنصاري».(3)

ص: 141


1- انظر الإمامة والسياسة ج 1 : 7-8 ، وتأريخ الطبري ج 3: 209 - 210
2- انظر تأريخ الطبري ج 3 : 181
3- البيان والتبيين - الجاحظ - تحقيق حسن السندوبي، المطبعة ،الرحمانية، مصر، ط 2 ، سنة الطبع 1351ه-ج 3:181

تصوّروا هذه اللباقة الكبيرة التي استطاعت أن تضع يدها على مفتاح الضغائن بين هاتين القبيلتين «وقد كانت بين الحيين قتلى لا تنسى وجراح لا تداوى» وذكّرتهم بها بعد أن أثارت فيهم روح التنافس «فإن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس»، ثم جسّمت لهم سوء المصير بتيقظ الهيآت المعارضة من المهاجرين والأنصار الذين لم يحصلوا عليها «فإن نعق ناعق فقد جلس بين لحيي أسد يضغمه المهاجري ويجرح الأنصاري».

وكان من ثمرات هذا القول ونظائره أن سمعنا بعض الأوسيين يقول لبعض: «لئن وليتموها سعداً عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم فيها نصيباً أبداً فقوموا فبايعوا أبا بكر».(1)

وما أيسر أن تخضع النفوس للغريب عنها ولا تخضع لمنافسها القريب.

وهذا المعنى هو الذي ترك الأوس والخزرج الذين هم من أتباع بشير بن سعد منافس سعد بن عبادة يتسابقون بزعمائهم إلى بيعة أبي بكر، وتركت عمر وجماعته ينزون على سعد وهو يقول - لمن قال: قتلتم سعداً - : قتل الله سعداً.(2)

على أن هناك عاملاً نفسياً مهماً أثر أثره الكبير في تخاذلهم عن مرشحهم، وما ينطوون عليه من عدم الثقة بأنفسهم وضعفهم عن منافسيهم من قريش، وقريش بمكانتها في العرب وجبروتها وقوّة شخصيتها لا يتطاول إلى مقامها أمثال هؤلاء من الأوس والخزرج.

وإذا قدّر لهم أن يعزّوا بالإسلام وتذلّ قريش به، فليس معنى ذلك أنهم تخلّوا عن

ص: 142


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 9
2- انظر سيرة ابن هشام ج 4 : 339

رواسبهم المنطوية على إكبارها والشعور بالضعف أمامها ، وبخاصة وقد فقدوا سندهم القوي وهو رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، وقد بدا ذلك الضعف حين بدأوا يتشاورون قبل مجيء المهاجرين وقال قائلهم - وقد ذكروا ما سوف يحتج به المهاجرون - تقول لهم منا أمير ومنكم أمير.

فقال سعد: هذا أول الوهن.(1)

على أن اجتماعهم على مرشحهم لم يكن لولا تخوّفهم من استغلال قريش لمركزهم لو قدر لهم أن يملكوا، وربّما استأثر بالملك منهم من قتل أبوه أو أخوه في سبيل الإسلام، وقد أفصح عن ذلك خطيبهم حباب بن المنذر حين قال - راداً على المهاجرين منا أمير ومنكم أمير -: «والله ما ننفس هذا عليكم أيها الرهط ولكنّا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم».(2)

وهذا الكلام صريح في دوافع اجتماع السقيفة، فهم لا ينفسون على المهاجرين هذا المقام لو قدر له أن يكون في أهله، ولكنهم كانوا - لما يرون من عمل حزب قريش المتواصل للوقوف دونه - يخشون أن يلي هذا الأمر منهم من قتلوا آباءهم وإخوانهم في سبيل هذا الدين.

ولعلّ من عوامل اندفاعهم إلى بيعة أبي بكر ورضاهم بها شعورهم بشيء من التنفيس عن الكابوس الذي جاء من ذلك الشعور بالخوف؛ لأن أبا بكر كان من ذوي السابقة إلى الإسلام، ولم يكن بينه وبينهم شيء من الترات، وربّما أمنوا بجنبه من تحكم الموتورين.

ص: 143


1- انظر تأريخ الطبري ج 2083
2- کنز العمال ج 3: 130

ص: 144

أحداث ما قبل الدفن

وأخالنا أنّا بعدنا عن صاحبنا - إلى حدّ ما - في هذه الفترة، ودخلنا في شؤون قد لا تعتبر في الصميم من حياته.

والحقيقة أن ما عرضناه من الحوادث كان من أهم الأمور التي اهتم بها عادة وتساءل عنها وتتبع جزئياتها، وما كان لمثله أن يغفل منها شأناً من الشؤون، وهي تمثل بالنسبة إليه قمّة المأساة.

فنحن إذاً مضطرون إلى ذكرها والتوسع فيها، ثم التوسّع بكل ملابساتها بعد حين.

وقد سبق إلينا أن تركنا العباس وهو على مضض لامتناع الإمام علیه السلام عن قبول بيعته في الحال، وبالطبع كان أهل بيته علیهم السلام لا يقلون عنه مضضاً ولا قلقاً، وهم يتوجسون طلائع الأخبار.

وها هو ذا الباب يطرق بعنف وشدّة فتضطرب له النفوس ويسارعون إلى فتحه - وربّما كان صاحبنا أول من سارع - وإذا بالبراء بن عازب وقد جاءهم بخبر هام، فلنستمع إليه .. يقول البراء: «لم أزل لبني هاشم محبّاً فلما قبض رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم ، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في الحجرة، فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبي صلی الله علیه و آله وسلم في الحجرة وأتفقد وجوه قريش، فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر، وإذا قائل يقول : القوم في سقيفة بني ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر،

ص: 145

فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانيّة، لا يمرّون على أحد إلّا خبطوه وقدّموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى، فأنكرت عقلي، وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم والباب مغلق، فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً، وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة.

وكان لهذا الخبر على نفوسهم وقع شديد لا يطاق، وقد أخذتهم المفاجأة وعلتهم الدهشة له، فما كان يدور بحسبانهم أو بحسبان أكثرهم أن القوم سيتركون رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم هو وهو بعد لم يدفن ، ويجهزون على سلطانه فيخرجونه من بيته، وإذا كان فيهم من تحسب لهذه الأمور حسابها فهو العباس، كما سبق له أن حذر الإمام علیه السلام، والإمام - فيما نعتقد - صاحب عهد وخطة خاصة لا يعدوها.

وقد تلقّى العباس هذا النبأ بهذا التصريح الذي نقله البراء بن عازب نفسه يقول: «فقال العباس: تربت أيديكم إلى آخر الدهر، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني»(1). وفي رواية أخرى أنه أنشد قول دريد..

«أمرتهم أمري بمنعرج اللوى***فلم يستبينوا النصح إلّاضحى الغد».(2)

والحقيقة أن هذه الرواية تكشف عن أيّ جو تمت به البيعة وكيف أُخذت من لناس أخذاً لا هوا ادة فيه، وقد صورتهم بأزرهم الصنعانية وهم «لا يمرون على أحد إلّا خبطوه وقدّموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أم أبى».

ولما انتهوا إلى المسجد - كما في رواية أُخرى - إلتفت عمر إلى بني أمية وهم مجتمعون على عثمان، وإلى بني زهرة وهم مجتمعون على سعد وعبد الرحمن، فقال: «مالي أراكم

ص: 146


1- شرح نهج البلاغة ج 1: 73-74
2- المصدر السابق ج 1 : 54

ملتاثين، قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايع له الناس وبايعه الأنصار فقام عثمان ومن معه، وقام سعد وعبد الرحمن ومن معهما فبايعوا أبا بكر».(1)

ورغم كل ذلك فقد لوحظ على الناس الانقباض .. يقول أبو سعيد الخدري: «لما بويع أبو بكر رأى من الناس بعض الانقباض، فقال: أيها الناس ما يمنعكم؟... ألست بأحقكم بهذا الأمر ..؟ ألست.. الخ».(2)

و تم كل شيء، ولم يبق إلّا علي علیه السلام ومعه بنو هاشم وخُلَّص أصحابه، وهم الصفوة من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ساعياً، «فرجع من سعايته وقد مات رسول الله» كأبي ذر، وعمار، وسلمان، والمقداد، ونظائرهم من أعاظم أصحاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم وإلا سعد

وولده وخواصه من الخزرج ، ثم جماعة من سائر الناس لا يحسب لهم حساب.

ويأتي بعد ذلك خالد بن سعيد بن العاص وأبو سفيان الأمويان، ولم يكونا ساعتها في المدينة.

أما أبو سفيان فقد جاء - فيما أخال - بعد تمام البيعة لأبي بكر من ذلك اليوم، وكان قد أرسله رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فلقيه قوم ،فسألهم فقالوا مات رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فقال: من ولي بعده؟ قيل : أبو بكر ، قال : أبو فصيل ! قالوا: نعم.

قال فما فعل المستضعفان علي والعباس ؟! أما والذي نفسي بيده لأرفعنّ لهما من أعضادهما».(3)

أما خالد بن سعيد فقد كان والياً من قبل النبي صلی الله علیه و آله وسلم على اليمن، فلما جاء ودعي إلى

ص: 147


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 5 ، وانظر الإمامة والسياسة ج 1 : 10
2- تأريخ الخلفاء: 70-71
3- شرح نهج البلاغة ج 1 : 130

بيعة أبي بكر - وذلك بعد يومين أو ثلاثة من حادثة السقيفة - أجاب بأني لا أبايع إلا علياً.(1)

وكان من نشاط أبي سفيان في ذلك اليوم أن مرّ على بيت علي بن أبي طالب علیه السلامفوقف وأنشد ..

«بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم***ولا سيما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلّا فيكم وإليكم***وليس لها إلّا أبو حسن علي

أبا حسن فأشدد بها كف حازم***فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي

وأي أمرئ يرمي قصيا ورأيها***منيع الحمى والناس من غالب قصي

فقال علي علیه السلام لأبي سفيان إنك تريد أمراً لسنا من أصحابه وقد عهد إليّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عهداً فأنا له».(2)

وما كان الإمام بحاجة إلى كشف أستار الغيب ليفهم نفسيّة أبي سفيان وهدفه من هذه المعارضة، فأبو سفيان ما يزال ينظر القضية بمنظار قبلي بحت، فيأسي على إعطائها لتيم وهي أحقر قبيلة في قريش.

والإمام علیه السلام حرب على هذه الفكرة، فما كان يرى الخلافة لنفسه لأنه من بني هاشم، وبنو هاشم من أسياد قريش ، بل يراها وظيفة شرعية أثقل كاهله بها ؛ ليتم رسالة الإسلام عن طريقها، وما دام المنظار مختلفاً فإن تقبّل البيعة من أبي سفيان معناه المساومة على المبادئ، والإمام علیه السلام يرفع نفسه عن هذا المستوى، على أن إقبال أبي سفيان أو إدباره لا يفرح له ما دامت عواطفه تشترى بالمال، وهو لا يحضر أن يساوم على العواطف مهما كلّف الحال، كما عودنا على معرفة ذلك في أيام تولّيه للحكم.

ص: 148


1- انظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 105
2- الموفقيات: 577 - 578

وكانت الخطوة الثانية أن يذهب أبو سفيان إلى العباس زميله القديم ليعرض عليه بيعته، وهنا ما ندري هل رضي صاحبنا بهذا الرأي من أحد شيوخ قريش؟ وهل هش له ورحّب به حيث شاهد كفه تمد إلى كف أبيه لتقول له: «يا أبا الفضل أنت لها أهل وأحق بميراث ابن أخيك، أمدد يدك لأبايعك فلا يختلف عليك الناس بعد بيعتي إياك»، وما أدري هل ضحك مع أبيه أم قطب الجوابه حين قال: «يا أبا سفيان يدفعها علي ويطلبها العباس»(1)، وهو جواب كافٍ لأن يبعث اليأس في نفوس أمثال أبي سفيان، والظاهر أن صاحبنا - في حدود ما عرفناه - أصبح قادراً على النظر بالمنظار الذي كان ينظر به الإمام علیه السلام وأبوه من رعاية المصلحة الإسلامية قبل أي اعتبار.

وقد شهد هذا اليوم التأريخي نشاطاً منقطع النظير، وشهد بالطبع صاحبنا معه ذلك النشاط، ولا بد أن يكون قد رأى - فيما رأى هذا الاجتماع الذي عقد في بيت النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، وكان قوامه الزبير وأبا سفيان وجماعة من المهاجرين، وذلك حيث طلبوا الخلوة بالإمام علیه السلام وأبيه ، وربّما شهد حديثهم ورآهم كيف كانوا يستعملون أساليب التهيج والاستنهاض وتحضير أنفسهم للنضال معهم، وعلي علیه السلام محتب يستمع إلى الحديث فابتدرهم العباس قائلاً: «قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم، ولا لظنة نترك آراءكم، فأمهلونا نراجع الفكر، فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصر بنا وبهم الحق صرير الجدجد، ونبسط إلى المجد أكفا لا نقبضها ، أو نبلغ المدى، وإن تكن الأخرى فلا لقلة في العدد ولا لوهن في الأيد، والله لولا أن الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلي».

يقول الراوي: «فحلّ علي علیه السلام حبوته، وقال: الصبر حلم، والتقوى دين، والحجة محمد، والطريق الصراط.

ص: 149


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 7 ، وانظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 105، والموفقيات: 578

أيها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح ، هذا ماء آجن، ولقمة يغضّ بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقل يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت هيهات بعد اللتيا والتي ! والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجت على مكنون علم لو بحث به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة».(1)

ثم نهض فدخل إلى منزله وافترق القوم.

وهذه المحاورة تكشف عن اختلاف المنظار، فهؤلاء - فيما يبدو من الجواب كانوا يستثيرونهم على أي حال، ويدعونهم للحرب، ولا يحسبون للمصلحة الإسلامية حسابها والعباس يلتمس المخرج من المأثم ليريهم كيف يجرؤون على غصب حقهم، ولكنّه يرى نفسه مقيداً في حدود المبادئ الإسلامية، فيمتنع عن الفتك.

فإذاً المسألة في رأيه مسألة دين ولا بد أن يكون السير في حدوده إلى الغاية.

والإمام علیه السلام يوضح لهم هذا، ثم يأخذ إلى واقعهم وينأى بهم عن المسارح العاطفية التي قربتهم من الخيال تأمّلوا هذه السياسة الواقعية: «شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة».

فهو يبعدهم عن هذه العاطفة التي تسدّ أمامهم كل باب للعقل والتدبير، ثم تأمّلوا قوله: «أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح» ، وما تنطوي عليه من إيماءة رائعة إلى أن عددهم وحده غير كافٍ للنهوض بهذا الأمر.

وما أبلغ قوله بعد ذاك : «ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه»،

ص: 150


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 72

وأي جدوى يبلغه مثل الزارع من زراعته بغير ما يملكه من أرض ما دام لا ينتهي ينتهي ثمره إليه ؟!

وقد صوّر بعد ذلك كله حراجة موقفه بين عاذليه، فهو إذا سكت اتهم بالجبن، وإن نطق قالوا: إنه حريص على الملك، ولم يقدّروا في ذلك كله ظروفه الخاصة، ولم يحسبوا للمنظار الذي ينظر به الواقعة أيّما حساب.

وماذا يصنع وهو أمام خطة مرسومة لا يستطيع أن يحيد عنها - بحكم مبدئه وكان مقطع القول أن يشير لهم إشارة إلى هذه الخطة فيقول: «بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة»..

يقول ابن أبي الحديد في تفسير هذا الكلام: «وهذا إشارة إلى الوصية التي خصّ بها إنه قد كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه».(1)

وهكذا تفرّق اجتماعهم عن فشل المحاولة العاطفية التي قاموا بها، وظلّوا في انتظار سياسة حكيمة يمليها عليهم واقعهم وواقع مبدئهم الإسلامي.

وقد أعقب هذا النشاط في يومها نشاط آخر لا يقل أهمية عنه - وقد يكون أقرب إلى السياسة الواقعية - فقد اجتمع ثلة من كبار صحابة النبي صلی الله علیه و آله وسلم ومن شيعة علي علیه السلام؛ لالتماس منفذ لإلغاء هذه البيعة التي لم تؤخذ من المسلمين أخذاً طبيعياً، بل كانت كما عبّر هو عنها بالفلتة في إحدى خطبه، وعبّر عنها كذلك زميله عمر كما مر في الحديث السابق، ومهما أرادوا بالفلتة من البغتة والمفاجأة أو الزلّة والخطيئة، فإنها لم تكن عن تدبر واختيار صحيح وإنّما أُخذوا بها أخذاً كما قلنا، سواء بتنويه الخليفة لهم بخطبته السابقة وسوقهم إليها سوقاً لا شعورياً بما أبدع من بيان، أو بأخذها بالرغم من بعضهم كما

ص: 151


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 72

صوّر ذلك البراء في حديثه السابق.

وعلى أيّ حال فقد صحا المسلمون وأظهر الأنصار ندمهم، وكان من جرّاء ذلك هذا الاجتماع الذي عقد في فضاء بني بياضة في جنح الليل، وكان مؤلفاً من المقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري، وحذيفة بن اليمان وأبي الهيثم بن التيهان ثم البراء بن عازب - وهو المحدّث بهذا الحديث - وكانوا يفكرون بالأمر، وقد حدّثهم حذيفة بعزم الأنصار على نقض ما كان منها، وقال قائلهم له: أفتعلم حقاً؟ قال : والله ما كذبت وما كذبت، ثم والله ليكونن ما أخبرتكم به..

وبعد حديث توجهوا إلى أبي بن كعب ليتأكدوا من أمر الأنصار وعزمهم على نقض البيعة، فأكّد لهم أُبي ذلك (1)، وتفرّقوا في انتظار ما يمليه عليهم الصباح من العمل.

وبات آل محمد عليهم السلام في تلكم الليلة وهم أشدّ ما يكونون قلقاً وانفعالاً وتألماً، لا يدرون ماذا يبيت لهم الغدو من أحداث، وبالطبع فقد بات صاحبنا - بحكم سنه وشدة حساسيته - وهو من أشدّهم توجّساً ،وخيفة وما أخال أن ليلة مرّت عليهم كانت أوحش ولا أطول منها، فهذا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم - وهو سندهم الوحيد - ما يزال ملقى بين أيديهم لم يدفن بعد وهاهم أولاء صحابته قد انشغلوا بأمور الخلافة عنه، وقد أجهزوا على حقهم فيها فحازوه دونهم ، وباعدوا بينهم وبينه، ولم تبق إلا محاولات يدرك الإمام علیه السلام تماماً مدى نجاحها، بعد أن فلت من أيديهم الزمام.

وأسفر الصبح عن محاولة قام بها عمر ، فأحبط كل أمل للتفكير بحركة انقلاب من أي شخص كان، وذلك بدعوة المسلمين لتجديد البيعة لأبي بكر(2)، وبالطبع فإن فكرة

ص: 152


1- انظر شرح نهج البلاغة ج 1 : 132
2- انظر سيرة ابن هشام ج 4 : 340

ندم الأنصار ومحاولتهم للقيام بنقض البيعة قد بلغته، وبلغه أيضاً أن هذه المحاولة لم توضع خطوطها بعد، ولم يجمعوا على كلمة في هذا الموضوع، فعجّل عليهم بالدعوة إلى تجديد البيعة، ومعنى ذلك أن كل فرد منهم كان يخشى التخلّف ما دام لا يعرف مصير فكرتهم بعد، وربّما فكر أنه إن تخلف وحده كان عرضة للعقاب الصارم.

وعلى أي حال فقد نجحت هذه الدعوة، وكانت بما فيها من مفاجأة أساساً لإحكام الأمر والقبض على زمام الموقف الخطير.

وتسامع أبو بكر وعمر باجتماع من اجتمع من كبار الصحابة في فضاء بني بياضة، وغمّها الأمر ، وضاعت عليهما سبل الرأي، فأرسلا على عضُدَيهما أبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة، وفكّروا مجتمعين، وقلّبوا وجوه الرأي، فانتهى بهم الأمر إلى الأخذ برأي المغيرة - وكان من دهاة العرب - قال المغيرة:« الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له ولولده في هذا الأمر نصيبا»؛ ليقطعوا بذلك ناحية علي بن أبي طالب علیه السلام.

وهذا الرأي - على ما فيه من وصولية قد لا يقرّها الإسلام - يكشف عن عمق في تفكير هذا الرجل ودقة تجربة في هذه الشؤون، وقد كاد ينجح لو كان أبو الفضل ممن تشترى عواطفه بالمال أو السلطان.

والحقيقة أنهم لو استطاعوا أن يخذلوا العباس عن الإمام علیه السلام، ويشقوا بني هاشم على انفسهم لقضوا على أكبر جبهة معارضة، ولكن حزم العباس وإيمانه بعدالة قضيتهم وقفا هذه المحاولة، يقول محدّث الحديث ومضى ابو بكر يتبعه عمر إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم - وتضم بعض الروايات إليهما المغيرة وأبا عبيدة - ودخلوا عليه وبدأ أول ما بدأ الخليفة الحديث، فقال: «إن الله ابتعث لكم محمداً نبياً وللمؤمنين ولياً، فمنّ الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم حتى اختار له ما عنده، فخلّى على الناس أمورهم ليختاروا

ص: 153

لأنفسهم متفقين غير مختلفين، فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعياً.. وما أنفكّ يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين، يتخذكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع وخطبه البديع، فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس أو صرفتموهم عما مالوا إليه، فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً ولمن بعدك من عقِبَك».(1)

وهنا أرجو أن نتتبع هذا الحوار بدقة، ثم نتتبع وقعه على نفس صاحبنا، وما أخال أنه غاب عن هذا المجلس الخطير وغفل من ملاحقة ما دار فيه من حوار، فهو يهمه إلى حدَّ بعيد، وبخاصة أنه يجري مع أبيه في أمور تهمهم على الخصوص، وإذا قدر أن لا يكون حاضراً فما من شك أن تكرر على سمعه حديثه مراراً.

وأخال أن عيون الأمة تعلقت بشفتي أبيه لتنظر بمَ تتحركان، وقد أرهف لهما سمعه ليعي كل ما يقول، قال العباس: «... فإن كنت برسول الله طلبت، فحقنا أخذت وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم .. فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين، وما أبعد قولك... إنهم طعنوا من قولك أنهم مالوا إليك».(2)

وهو منطق تعضده الحجّة ويقف عنده الجدال، لو كان لسماع الحجج والأخذ بها مسرح في لغة السياسة، وإلا فماذا يقولون في الجواب عليه؟!..

أيقولون إنهم أخذوه برسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فما بالهم إذاً يزوونه عن أخص الناس وأقربهم منه؟ ولم لا يسلّمونه إليهم وهو في لغة الحجة أولى بها ؟ وإن كانوا أخذوه بالمؤمنين فآل البيت وغيرهم منهم وهم لم يتقدموا في أمرهم فرطاً - كما تقول الروايات الأخر(3)- بل هم كارهون لها، وهذه اللغة القوية في الحجج هي التي حفّزت عمر لاستعمال

ص: 154


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 74 ، وانظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 103 - 104
2- المصدر السابق
3- انظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 104

خشونته ليبعد بالحديث عن منطق المناظرة ، وما جاءوا ليناظروا آل البيت في هذا الأمر بل ليشقوهم على أنفسهم، فليجمع إذاً إلى ترغيب الخليفة توعيداً أو تهديداً لعلّه يستطيع النفوذ بهما إلى قلب العباس.. قال عمر: «إنا لم نأتكم حاجة إليكم، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم فانظروا لأنفسكم»(1)، وقبل أن يجيب العباس على هذا التهديد فيتفاقم الخطب بكم وبهم سارع أبو بكر إلى الترغيب ليقطع عليه السبيل إلى استعمال لغة الثورة العاصفة - وهو يعرف أن العباس لا يسكت على مثل هذا التهديد - وربّما دخلوا في جو محموم قد لا ينتهي في صالحهم بحال.. وقال: «وقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في أمرنا نصيباً لك ولمن بعدك من عقبك ، إذ كنت عم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم.(2)

وهنا برز إيمان العباس بحقهم وإباؤه وشممه؛ ليقف دون ذلك الغرض، بهذا الأسلوب الرفيع: «فما تريد أن تعطيناه حقك أم حق المؤمنين أم حقنا، فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك، وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه، وإن يكن حقنا لم نرض لك ببعضه دون بعض».(3)

وماذا يقول له الخليفة بعد هذا الترديد البليغ ؟.. أيقول: حقي؟.. والعباس أرفع من أن ينال من هذا الحق، وهو يعرف مقامه وزعامته في الجاهلية والإسلام، ثم هو يسمع ترفعه عنه بقوله : «فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك» على أن هناك تساؤلاً يأتيه.. من أين جاءك هذا الحق ولم ينحدر إليك من ميراث، ولم يُجعل لك بنص ولم تقلّده باختيار جارٍ على أصوله، وإن يقل: حق المؤمنين يأتيه التساؤل عن المسوّغ في

ص: 155


1- تأريخ اليعقوبي ج 2 : 104
2- شرح نهج البلاغة ج 1 : 74 ، وانظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 103 - 104
3- المصدر السابق

التصرف فيه من دون أخذ رأيهم واستشارتهم واستيها بهم له؛ لجعله فيمن يشاء، وقد عودهم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم- مع أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم - أن يستشيرهم إذا أراد التصرف بحقوقهم الخاصة، ويترك لهم الاختيار في هبتها، وكما صنع ذلك في رده سبايا هوازن (1) ونظائره، ولم يعمل حقه في حرية التصرف إلا في موارد ورد فيها نص أو دعته إليها ضرورات، وإن يقل: إنه حق آل البيت - ولا يقوله – جاءه قول العباس بأنهم: «لا يرضون ببعضه دون بعض».

ويسكت الخليفة، ويسكت معه أصحابه فلا يجيبون على شيء من هذه النقاط، ويمسك من كلامه الكلمة الأخيرة؛ لأنها تقبل شيئاً من المغالطة، وقد تدعوه المجاملة إلى السكوت فيقول: «قد كان رسول الله منا ومنكم يا أبا الفضل»، فيبتسم العباس لذلك ويجيبه لا لرجاء في جدوى ما يأتي به من جواب، وهو يعلم أن القوم لا يثنيهم عن أمرهم شيء ولكن للحجة نصيبها من البيان.. إسمعه: «وما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه، ولكن للحجة نصيبها من البيان»(2)، «وأما قولك: إن يك رسول الله منا ومنكم فإنه قد كان من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها».(3)

وكانت هذه المحاورة كافية لفهم نفسيّة العباس، ويأسهم من أن يبلغوا منها إلى ما يريدون.

وما أدري ما كانت انطباعة صاحبنا عن هذا الحديث؟ وهل ساءه أن يحرم من هذا النصيب الذي لوّح له به الخليفة بقوله : ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً ولمن بعدك من عقبك» ! .. الذي أخاله أن موقف أبيه - بما فيه من ترفع وشمم - بعث

ص: 156


1- انظر تأريخ الطبري ج 3: 135
2- شرح نهج البلاغة ج 1 : 74
3- الإمامة والسياسة ج 1 : 15

في نفسه الشعور بالعزة والاستهانة بأمثال هذه المساومات.

وإذا قدّر للعباس أن يرتفع عن هذا المستوى، ويحتفظ بعواطفه فلا يبيعها بأيّ ثمن، فإن أبا سفيان كان أهون شأناً من أن يسمو إلى هذا المرتفع، وكان قليل من المال يكفي لاستدراجه وضمه إلى صفوفهم، وما كانت انتهازيته لتخفى على علي علیه السلام- وإن خفيت على العباس - حين جاء ليحفّز الإمام علیه السلام على الوثوب، فيجبهه بذلك الردّ، وأيأسه من أن يكون طرفاً لمساوماته التي إن أنتفع بها الإمام علیه السلام مؤقتاً، فإن خسارتها سوف لا تكون إلا على الإسلام.

وكان لا بدّ للقوم من شراء هذه العواطف؛ ما دام لا يكلفهم شراؤها كثيراً، وحسبهم أن يدفعوا إليه ما جاء به من أموال الصدقات؛ ليضمّوه إلى جانبهم ويضعفوا به جانب المعارضة، يقول الراوي - بعد أن ذكر شيئاً من كلام أبي سفيان ونشاطه في الدعوة للإمام علیه السلام -: «فكلّم عمر -: «فكلّم عمر أبا بكر فقال إن أبا سفيان قد قدم وإنا لا نأمن من شره، فدفع إليه ما في يده، فتركه فرضي»(1)، وأراد أن يؤكد من صداقته فولى ولده يزيد.. يقول الراوي: قيل لأبي سفيان وكان يقول : مالنا ولأبي فصيل، إنما هي بنو عبد مناف قال: فقيل له: إنه قد ولي أبنك قال : وصلته رحم (2)، ويبدو أن الخليفة قد تجاوز المساومة على العواطف حتى بلغ النساء وكنَّ - فيما يبدو - أجرأ على المعارضة من رجالهن ولهن من المواصفات التي ترفع من أقدار الرجال على مقابلتهن بالشدة ما يشجعهن على ذلك... وسنرى بعد حين كيف خرجت أم مسطح بن أثاثة فوقفت عند القبر لما اشتدوا على الإمام علیه السلام وأنشدت :

«كانت أمور وأنباء وهنبثة***لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

ص: 157


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 130
2- انظر تأريخ الطبري ج 3 : 202

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها***واختل قومك فاشهدهم ولا تغب»(1)

وقد خصّهن بتوزيعة من المال لاستمالتهن والحد من نشاطهن، فأدركت ذلك امرأة من بني عدي بن النجار بعث إليها بيد زيد بن ثابت نصيبها من المال فقالت: «ما هذا؟ قال: قسم أبو بكر قسمة للنساء، قالت: أتراشوني عن ديني والله لا أقبل منه شيئاً وردته عليه»(2)، وهكذا سمت نفسها عن قبوله بينما انهار أبو سفيان أمامهم ذلك الانهيار.

ص: 158


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 132
2- المصدر السابق ج 1 : 131

دفن النبي صلی الله علیه وآله وسلم

وما أدري.. هل شغلت هذه الأحداث ابن عباس عن متابعة بطله ومعه أبوه وأخوه الفضل وبعض الصحابة، وهم بين مباشر لتغسيل الجسد الطاهر ومناول له الماء؟ وهل شاهدهم وهم يكفّنونه ويعدّونه للصلاة عليه؟ ثم هل شاهد آل البيت وهم يصلّون عليه ؟ .. وما يدريك؟ لعلّه كان في طليعة المصلّين، وما كان ليفوته شرف هذه الصلاة على سيدهم.

ثم شاهد المهاجرين والأنصار والنساء والصبيان والإمام علیه السلام يدخلهم رسلاً رسلاً لا يؤمهم أحد في الصلاة(1)، حتى إذا انتهوا منها بعث كما يروي هو - رجلًا إلى أبي عبيدة بن الجراح، وكان يضرح على طريقة أهل مكة، وآخر إلى أبي طلحة زيد بن سهل وكان يلحد لأهل المدينة، ثم قال: اللهم خر لرسولك(2)، وكانت الخيرة لأبي طلحة فقد سبق صاحبه إليه وجاء به مسرعاً، فنال حظه من شق القبر له.

وأُنزل النبي صلی الله علیه وآله وسلم إلى القبر ونزل معه إلى القبر ونزل معه - فيما يحدث - هو وأبوه وأخواه الفضل وقثم والإمام علیه السلام وشقران مولى رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم هو أسامة بن زيد(3)وخرجوا جميعاً عنه، وكان أخوه قثم آخر الناس عهداً به.(4)

ص: 159


1- انظر طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 68
2- انظر المصدر السابق ج 2 قسم 2: 74
3- انظر تأريخ الطبري ج 3: 204
4- انظر المصدر السابق

وأهيل التراب عليه، ووقف آل البيت على القبر - وكان من أفجع المناظر العاطفية ذلك الموقف الرهيب، وهم يتململون من الجزع والألم - ووقف بينهم بطله وهو يلتمس منافذ للصبر فلا يجد إليها سبيلاً وإذا بصوته ينطلق وقد أكبّ على القبر بوجهه:

«إن الصبر لجميل إلا عنك يا رسول الله، وإن الجزع لقبيح إلّا عليك، وإن المصاب بك لجليل، وإنه قبلك وبعدك للجلل» .(1)

وهي كلمات - على إيجازها - تصوّر مدى ما تحمّله من طاقة شعورية محرقة من اللوعة والآلام، وبخاصة إذا عرفنا أنها صدرت من أقوى الناس على ضبط الأعصاب، وأقدرهم على الصبر، فهو هنا لا يطيق الصبر بل لا يستحسنه، وما كان المقام مقام صبر وتسل والمفقود رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم

ثم توجه بآل بيته إلى حيث يتفرقون؛ ليفرغ كل منهم إلى التنفيس عن هذا الشعور بالبكاء والعويل ومعاودة الذكريات الحرار.

ولك أن تحدّث عن مدى شعور صاحبنا بهذا الخطب بعد أن فرغ إلى نفسه، وقد سبق أن عرفت مدى علائقه برسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وكأني به الآن وهو شارد الفكر موزع الإحساس بين صور متلاحقة يحضر بعضها بعضاً ويأخذ بعضها برقاب بعض، وتداعي المعاني ينقله بينها، وربّما شرق به ،وغرّب فهو يستحضر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهو حي ثم يجرّه تفكيره إلى موقفه من بطله، ومواقفه من النص عليه، ثم محاولاته لتأكيد ذلك، ثم موقفهم من حديث الدواة يوم الخميس، ثم معاملاتهم لهم وتعبيسهم في وجوههم واستهانتهم بمركزهم ، وقولة قائلهم : ما رسول الله إلا كنخلة في كباء، ونظائر ذلك مما صدر قبل وفاة النبي، ثم موت النبي صلی الله علیه وآله وسلم ، ومسارعة القوم إلى أخذ حقه، ومجيئهم لأبيه

ص: 160


1- الإمام علي بن أبي طالب - مطبعة دار الكتب، مصر، سنة الطبع 1947م - ج 1 : 191

ليخذلوه عن بطله ، وموقف أبيه منهم.. وهكذا تتسلسل في خواطره حتى تنتهي به إلى موقفه مع أسرته وبطله قبل قليل على القبر، والمساحي تعمل عملها لتهيل التراب عليه، وما أدري هل استطاع أن ينام وهو في غمرة هذه الخواطر؟!.. وما يدريك لعله نام ولاحقته في منامه بشكل كابوس مفزع فأيقظته مراراً، وهو خائف فزع ينتظر الصباح بما يملكه من صبر ، لعله يخفف من أثقال هذا الكابوس الجاثم على صدره، على أنه كان لا يدري ما يبيته لهم الصباح من أحداث.

ص: 161

ص: 162

أحداث ما بعد الدفن

(1)

وأقبل الصباح، فأقبل عليهم بفكرة جديدة على الخليفة ومشاوريه – بعد أن أخفقت محاولتهم بالأمس من شق بني هاشم على أنفسهم – وكانت خلاصة الفكرة الجديدة أن يذهب الخليفة بنفسه إلى الإمام علیه السلام ومعه صاحباه عمر وأبو عبيدة، ويستعملوا أساليبهم الخاصة في الترغيب والترهيب، فلربما أثروا عليه فبايع، وإذا بايع هو لم يبق لبني هاشم مجال للمعارضة.

و دخلوا عليه الدار - وما كان ليفارقه بنو هاشم وبخاصة العباس - وبدأ الخليفة حديثه بما عُرف عنه من لين وقدرة على التلاعب بالعواطف بأساليبه البيانية.. فقال: «ابن عم رسول الله وختنه على ابنته يريد أن يشق عصا المسلمين»، وساءت العباس هذه اللهجة الناعمة التي تفترض لصاحبها أن يكون هو صاحب الحق، وأن المخالف له الف له باغ للفتنة وشاق لعصا الطاعة، فيبادر إلى ردّه بقوله: «ما أحد أولى بمقام رسول الله منه»، ومهّد بهذا الجواب للإمام علیه السلام أن يقول لهم: «أنا أحق بهذا الأمر منكم فلا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي»، وقبل أن يشرح وجه الأولوية بدره الخليفة بقوله: «فهل كانت بيعتي عن غير رضا من الناس، وكان لا بد للإمام علیه السلام أن يعطف زمام الحديث - بعد هذا التساؤل - إلى قضية البيعة، وكيف أخذت من الأنصار وبأية حجّة تمت لهم؛ ليريهم

ص: 163

أنهم ملزمون حتى بلغة هذه الحجّة يقول : ولكنكم زعمتم للأنصار أنكم أولى بها منهم إذ كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة، ولست أحتج عليكم إلا بمثل ما سلف لكم من الحجة على الأنصار»

وكانت هذه الحجة وحدها كافية لوقف الأمر عند حده، لو أريد من وراء المحاججة التماس جانب الحق والخضوع له، وإلا فماذا يقولون في جوابها؟!.. أينكرون احتجاجهم على الأنصار بالقرب من النبي صلی الله علیه و آله وسلم أم يقولون إنهم أقرب إليه منه أم ينكرون فائدة القرب وبها أخذوا الخلافة من هؤلاء؟!!.

ويعود عمر إلى النغمة التي سبق لأبي بكر أن وقعها في الاحتجاج مع العباس وسمع جوابها منه، يقول عمر «قد كان رسول الله منا ومنكم» فيلتفت الإمام علیه السلام غاضباً لهذه المغالطات وهو يقول : نحن أولى برسول الله حياً وميتاً، يا عمر إنا آله وموضع سرّه ولجأ أمره، وعيبة علمه وموئل حكمه، لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمته عليهم أبداً».

وهنا نرى الإمام علیه السلام لا يكتفي بذكر مزية الأقربية من النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، بل يعمد إلى ذكر الصفات التي استحقوا بها الإمامة ليصحح خطأ تداوله القوم، وخرج بالقضية من معناها الإنساني العام إلى أفق قبلي ضيق فقال: «إنا آله وموضع سره ولجأ أمره وعيبة علمه» ، فهم لهذه الصفات التي امتازوا بها على سائر المسلمين كانوا موئل حكمه، لا لأنهم أقرب الناس إليه فحسب بل هم بما عندهم من أسرار النبي صلى الله عليه و آله وسلم، وبما أودع فيهم من العلوم كان لا يقاس بهم من سائر الأمة أحد .

وهنا لجأ ابن الخطاب - بعد أن أفحمته الحجة - إلى لغة الحاكم الذي لا يريد أن يصيخ إليها فيصيح: «إنك إذاً لست متروكاً حتى تبايع»، فصاح به علي علیه السلام«أفتلزمني

ص: 164

البيعة يا ابن الخطاب»، ويجيب الخليفة بأعصاب هادئة ويتناسى كل ذلك الحديث: «يا أبا الحسن إن الناس قد اختاروني عليهم وإني أحبّ لك أن تدخل فيما دخل فيه الناس»، وكأنّ كلمة «أحبّ» بما فيها من لين لم تعجب عمر، واعتبرها من الخليفة ضعيفاً فالتفت إليه قائلاً: «يا خليفة رسول الله لقد لزمته طاعتك إذ بايعك الناس»، وضاق الإمام علیه السلام من هذا التحدي وأدرك سر ما ينطوي عليه من إصرار عمر - وما كان ليخفى عليه - فجبهه بقوله: «يا عمر إحلب حلباً لك شطره، وشدّه له اليوم يردده عليك غداً»، ثم ألتفت إلى أبي بكر - فيما تقول الرواية - : «أما والله لقد تقمصتها، وإنك لتعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير»، وأراد عمر أن يتكلم وخشي الخليفة أن يتطور الحديث إلى غير صالحهم فالتفت إلى عمر قائلاً: «على رسلك يا عمر» ، ثم التفت للإمام علیه السلام وهو يهمّ بالقيام: «لا عليك يا أبا الحسن فإن لم تبايع فلا أكرهك».

وخرج عمر وأبو بكر وتركوا أبا عبيدة ليحكم لهم الأمر .. يقول المحدّث : فالتفت إلى الإمام علیه السلام قائلاً: «يا ابن عم إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم بالأمور»، وعاود الإمام علیه السلام الهدوء وإجابه بمرارة وسخرية: «أما السن فما أزعم لي بها على الرجل قدم»، ومتى كانت السن مقياساً من مقاييس الكفاءة في أمثال هذه المجالات(1)؟! ولكنّ أبا عبيدة يعاود الحديث فيقول: «فهلّا يا ابن عم بايعت إني أرى أبا بكر أقوى على الأمر منك»، ويغيض الإمام علیه السلام هذا الإصرار فيلتفت إليه متسائلاً: «أفأنتم خير أم رسول الله خير».

فيجيبه: «بل رسول الله»، وهنا كنا ننتظر ان يقول الإمام علیه السلام له إنه صلی الله علیه و آله وسلم تحدى السن

ص: 165


1- من طريف ما يروى من السخرية في اعتبار السن ما حدثوا عن أبي قحافة والد أبي بكر وقد سأل عن أسباب اختيارهم لولده قالوا لسنّه قال: أنا أسنّ منه، انظر شرح نهج البلاغة ج 1 : 74

بالنص عليه - كما هو معروف لديهم - ولكنّه لم يقل ذلك، لئلا يجعل من الحديث حول النص مسرحاً للتأولات، وما كان ليخفى عليه أنهم قد أعدوا لهذه المسألة جوابها، - وهي أول ما يُفكّر به عادة - وإن أي كلمة تشكيكية تصدر منهم تأخذ من نفوس الناس مأخذها؛ لما يجدون فيها من تنفيس عن ضغط الضمير عليهم بمخالفتهم الصريحة له، فلا بد إذا أن ينأى عن كل ما يشير إليه مؤقتاً ويلزمهم بما ألزموه به أنفسهم من أمثال تلكم الاحتجاجات، وها هو ينقض عليه بما لم يكن بحسبانه: «لقد كان رسول الله بعث أسامة بن زيد على جيش فيه مشيخة قومك هؤلاء لم يطعن فيه أنه صبي».

وماذا ترون؟ أينكرون بعث أسامة وتأميره على كبار المهاجرين والأنصار من أمثال أبي بكر وعمر واستصغارهم لسنه وغضب النبي صلی الله علیه و آله وسلم وإصراره على ذلك؟! أم ينكرون صغر سنّه أم ماذا؟!..

وهنا يضطر أبو عبيدة لتصحيح كلمته فيقول : «إني يا ابن عم إنما عنيت أنك حديث السن أنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك ونسبك وصهرك»، ويثير هذا الكلام الإمام علیه السلام ويجيبه بغضب:

«الله الله يا معشر المهاجرين تخرجون سلطان محمد في العرب في داره إلى دوركم، وتدفعون أهله عن مقامهم في الناس! أما والله لنحن أهل البيت أحق منكم بالأمر؛ ما دام فينا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، الدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية وإنه والله لفينا يا أبا عبيدة، إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله، وتزدادوا من الحق بعدا».(1)

ص: 166


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 11 - 12 ، وانظر الإمام علي بن أبي طالب - لعبد الفتاح عبد المقصود - ج 1: 195-199

وهو هنا ينأى بحديثه عن النزعة القبلية، ويقرب بهم نحو الهدف الإنساني الذي توخاه الإسلام من تخصيصها بهم، فهي لهم لا لأنهم من بني هاشم رهط النبي صلی الله علیه و آله وسلم وإلا لا ستحقها من بقي منهم ، وإن لم يكن مرضي السيرة، وإنما هي لهم ما دام فيهم من كان مستكملاً لصفات الخليفة الصحيح التي عدّدها في حديثه هذا، وأشار إليها فيما سبق من حديث الثقلين.

وخرج أبو عبيدة فلحق يائساً بصاحبيه؛ ليدبّروا خطة جديدة لحملهم على البيعة حملاً.

ولسنا بحاجة إلى أن نؤكّد هنا أن صاحبنا قد تتبع هذه المحاورة - كما تقتضي العادة - ووعاها وعياً تاماً وأنس بقوة حجتها، وتخاذل القوم أمامها وربّما لمسنا آثار هذه الاحتجاجات على كلامه وتأثره بها تأثراً واضحاً فيما يأتي من حديث ..

(2)

ونشط الإمام علیه السلام بعد هذا المجلس - فيما يبدو - للمطالبة بحقه في حدود ما عهد إليه به ابن عمه.

فخرج في الليل ومعه فاطمة وولداها علیهم السلام وجعل يطوف بهم على مجالس الانصار ، وفاطمة تذكّرهم بما كان له من حق، فكانوا يجيبون: «يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به» وكان الإمام علیه السلام يجيب: «أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس بسلطانه»، وكانت فاطمة عليها السلام تؤيد وجهة نظره فتقول: «ما صنع أبو الحسن إلا ما

ص: 167

كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم».(1)

وما كانت هذه الحادثة لتخفى على الحاكمين، أو تخفى نتائجها لو قدر لها أن تتسع، ففكروا بخنقها من الأساس، وذلك باللجوء إلى العنف وإخراج الإمام علیه السلام ومن معه من بني هاشم وغيرهم من الصحابة إلى البيعة وهو آخر سلاح يملكونه في هذا السبيل.

يقول ابن قتيبة - بعد أن ذكر الحديث السابق -: «وإن أبا بكر تفقد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه، فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار علي فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقتها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة قال : وإن».(2)

وفي تأريخ الطبري بعد أن ذكر قوله : والله لأحرّقنّ عليكم أو لتخرجن إلى البيعة، قال: «فخرج عليه الزبير مصلتاً السيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه».(3)

وما كان ليهون على فاطمة عليها السلام هذا الموقف الشديد منهم، وهذا التهديد بالإحراق فوقفت على بابها - كما يقول ابن قتيبة - فقالت: «لا عهد لي بقوم حضروا أسوء محضر منكم تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا ولم تردّوا إلينا حقاً».(4)

ويبدو من رواية النظام - ورأس الفرقة النظامية من السنة - أن عمر - وقد فقد أعصابه - تحامل على فاطمة فضربها على بطنها - وكانت حاملاً - «حتى ألقت المحسن

ص: 168


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 12
2- الإمامة والسياسة ج 1 : 12
3- تأريخ الطبري ج 3: 198
4- الإمامة والسياسة ج 1 : 12

من بطنها ، وكان يصيح أحرقوها بمن فيها».(1)

وفي رواية المسعودي قال: «وضغطوا سيدة النساء بالباب حتى أسقطت محسناً»(2)

وعاد عمر ومعه جماعة إلى دار علي علیه السلام من جديد بعد أن ذهب بالزبير والجماعة إلى البيعة، يقول المسعودي: «وتوجهوا إلى منزله فهجموا عليه وأحرقوا بابه واستخرجوه منه كرها»(3)، فلما سمعت فاطمة عليها السلام أصواتهم نادت بأعلى صوتها: «يا أبت رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة»؟! فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تتصدع وأكبادهم تتفطر، وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا علياً علیه السلام فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له: بايع فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ :قالوا: إذن والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ، قال : تقتلون عبد الله وأخا رسوله ؟! قال عمر : أمّا عبد الله فنعم وأمّا (أخو) رسوله فلا وأبو بكر ساكت لا يتكلم».(4)

وبالطبع قد شغله عن الحديث التفكير بنتائج هذا العنف، وماذا سيجنون من ورائه لو استمروا به حتى النهاية، وها هو ذا يرى الناس من حوله وهم بين باك لحديث فاطمة عليها السلام ومتهيج لها .

وفاطمة - مهما قدّروا في أنفسهم - لا تعدو أن تكون بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وحبيبته، فإذاً لا بدّ من التريث في الأمر والاكتفاء ببيعة من بايع من أصحاب علي علیه السلام يقول الراوي: فقال له :عمر: ألا تأمر فيه بأمرك ، فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه، تقول الرواية: فلحق علي بقبر رسول الله يصيح ويبكي وينادي: «يا ابن أم إن

ص: 169


1- الملل والنحل ج 1 : 77
2- إثبات الوصية - المطبعة الحيدرية، النجف، لم تذكر سنة الطبع - : 143
3- إثبات الوصية : 143
4- الإمامة والسياسة ج 1: 13

القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني».(1)

وما أدري.. هل كانت أعصاب صاحبنا تساعده على متابعة هذه المشاهد وملاحقة فصولها؟! وكيف كان حاله وهو يشهد هذه الجرأة على هتك حرمة هذا البيت مع ما له من مقام رفیع برسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، ثم يشهد فاطمة علیه السلام وهي تتضور من الألم تحت ضربة ابن الخطاب - كما حدث به النظام - ويشهدها بعد ذلك وهي تتحامل على نفسها في الذود عن ابن عمها ، ثم يشهد بطله - وهو يعرف ما يعرف عن مواقفه في الحروب - كيف يؤخذ أخذاً لا هوادة فيه، ويرى أخيراً هذه اللغة العنيفة التي قابلوه بها، وجردوه فيها حتى من شرف مؤاخاته لرسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، مع أن عهدهم بالمؤاخاة ليس ببعيد، وإذا بَعد وأمكن أن يتطرق إليهم نسيانه فيما بعد قوله صلى الله عليه و آله وسلم في غزوة تبوك: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي»(2)، وزاد في البداية والنهاية «أنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي»(3)، وقد وعى ذلك كله ورواه، أم ترى أنهم تجاهلوه لئلا يلزموا بمضمونه؛ ليقطعوا بذلك السبيل على كل جدل ومحاجحة.

وأخال أنّ أفجع منظر شاهده اذ ذاك ولم تتحمله أعصابه هو استضعافهم لبطله و تهديدهم له بالقتل ؛ حتى الجؤوه أن يعلن عن مظلوميته بهذا الأسلوب المفجع: «يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني».

ص: 170


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 13
2- صحيح البخاري ج 6: 3 ، وانظر صحیح مسلم ج 7 : 120
3- البداية والنهاية ج 7: 338
(3)

وكان لهذه الحادثة آثار - فيما يبدولي - مهمة...

(أولها): ندم كثير من الأنصار على ما فرّطوا في حق الإمام علیه السلام، واحتجاب الإمام علیه السلام في دراه وعدم إجابتهم بالإيجاب أو السلب؛ لعدم إيمانه - فيما أعتقد - في جدوى ما يرد به من جواب حدّث الزبير بن بكار قال: «لما بويع أبو بكر وأستقر أمره - طبعاً بعد هذه الحوادث - ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب وهتفوا باسمه وإنه في داره لم يخرج إليهم، وجزع المهاجرون وكثر في ذلك الكلام، وكان أشد قريش على الأنصار نفر منهم سهيل بن عمرو وأحد بني عامر بن لؤي والحرث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل المخزوميان، وهؤلاء أشراف قريش الذين حاربوا النبي صلی الله علیه و آله وسلم ثم دخلوا في الإسلام، وكلّهم موتور قد وتره الأنصار».. إلى أن يقول: «فلما اعتزلت الأنصار تجمّع هؤلاء فقام سهيل بن عمرو فقال : يا معشر قريش إن هؤلاء القوم قد سماهم الله بالأنصار وأثنى عليهم في القرآن، فلهم بذلك حظ عظيم وشأن غالب، وقد دعوا إلى أنفسهم وإلى علي بن أبي طالب، وعلي في بيته لو شاء لردّهم، فادعوهم إلى صاحبكم وإلى تجديد بيعته، فإن أجابوكم وإلّا قاتلوهم، فوالله إني لأرجو الله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم».(1)

وتتابع هؤلاء على هذا النسق من الكلام المثير، وجاء أبو سفيان فنحا نحوهم في الكلام، وبلغ الأنصار ذلك فغاضهم وأثارهم، وقام خطيبهم ثابت بن قيس بن شماس، فهدأ من خواطرهم وعرّض بهؤلاء الخطباء فقال: «يا معشر الأنصار إنما كان يكبر عليكم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش، فأما إذا كان من أهل الدنيا لا سيّما

ص: 171


1- الموفقيات: 547 - 548

من أقوام كلّهم موتور، فلا يكبرنّ عليكم ، إنما الرأي والقول مع الأخيار من المهاجرين، فإن تكلمت رجال قريش الذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء، فعند ذلك قولوا ما أحببتم وإلّا فأمسكوا».(1)

ثم تناول الموضوع شاعر الأنصار ، فهجا هؤلاء بمقذع القول، وأجابه شاعر قريش مروان بن أبي عزة، وكادت الفتنة تهدأ لولا أن يجيء من سفره عمرو بن العاص، فيثيرها من جديد بكلام بذيء تناول به الأنصار بالشتم والسباب، فساءهم ذلك فبعثوا إليه بشاعرهم النعمان بن العجلان، فوقف عليه وتكلم، ثم أنشد شعراً يعرض فيه وجهة نظر الأنصار وبعد أن ذكر مفاخرهم وتفضلهم على المهاجرين قال فيما قال:-

وقلتم حرام نصب سعد و نصبكم***عتيق بن عثمان حلال أبا بكر

وأهل أبو بكر لها خير قائم***وإن علياً کان أخلق بالأمر

وكان هواناً في علي وإنه***لأهل لها يا عمر و من حيث لا تدري

فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى***وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر

وصي النبي المصطفى وأبن عمه***وقاتل فرسان الضلالة والكفر»(2)

.. إلى آخر ما قال.

وصادف في الأثناء قدوم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن ، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم استعمله عليها، وكان له ولأخيه شأن عظيم قديم في الإسلام، وهما من أول من أسلم من قريش ولهما عبادة وفضل، فغضب للأنصار وشتم عمرو بن العاص وقال: يا معشر قريش إن عمراً دخل في الإسلام حين لم يجد بداً من الدخول فيه، فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه، وإن من كيده الإسلام تفريقه وقطعه بين المهاجرين

ص: 172


1- الموفقيات: 585
2- شرح نهج البلاغة ج 2 : 13

والأنصار . والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا، لقد بذلوا دماءهم الله تعالى فينا، وما بذلنا دماءنا الله فيهم. وقاسمونا ديارهم وأموالهم وما فعلنا مثل ذلك بهم، وآثرونا على الفقر وحرمناهم على الغنى، ولقد وصى رسول الله بهم وعزّاهم عن جفوة السلطان فأعوذ بالله أن أكون واياكم الخلف المضيع والسلطان الجاني».(1)

يقول ابن أبي الحديد قلت: «هذا خالد بن سعيد بن العاص هو الذي امتنع من بيعة أبي بكر وقال : لا أبايع إلّا علياً»(2).. ثم أنشد شعراً في مدح الأنصار.

قال الزبير: «ثم إن رجلاً من سفهاء قريش ومثيري الفتن منهم اجتمعوا إلى عمرو بن العاص، وقالوا له إنك لسان قريش ورَجُلها في الجاهلية والإسلام، فلا تدع الأنصار وما قالت وأكثروا عليه من ذلك، فراح إلى المسجد وفيه ناس من قريش وغيرهم، فتكلم وقال : إن الأنصار ترى لنفسها ما ليس لها وايم الله لوددت أن الله خلّى عنا وعنهم ، وقضى فيهم وفينا بما أحبّ، ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا، أحرزناهم على كل مكروه، وقدمناهم إلى كل محبوب، حتى أمنوا المخوف، فلما جاز لهم ذلك صغروا حقنا،ولم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم.. والتفت فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب وندم على قوله : للخؤولة التي بين ولد عبد المطلب وبين الأنصار، ولأن الأنصار كانت تعظّم علياً وتهتف باسمه حينئذ، فقال الفضل يا عمرو إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعناه منك، وليس لنا أن نجيبك وأبو الحسن شاهد بالمدينة إلّا أن يأمرنا فنفعل».(3)

وهنا نرى أن أهل البيت عليهم السلام قد وضعوا لأنفسهم نهجاً خاصاً يسيرون في ضوئه ولا يحيدون عنه، وتركوا زمامه بيد ولي الأمر منهم، فهذا الفضل - كما ترون

ص: 173


1- الموفقيات 594
2- شرح نهج البلاغة ج 2 : 13
3- الموفقيات: 595-596

لا يجيب عمراً ما دام علي علیه السلام في المدينة ما لم يأذن له بذلك، ثم يمضي فيبلغه بمقالة عمرو، فيساء الإمام علیه السلام ويغضب، ويرى أن يضع حداً لمهاترات هؤلاء الدخلاء على الإسلام الذين لا يريدون من وراء شتم الأنصار إلا الدس والكيد لمبادئه، فيخرج إلى المسجد ويتكلم مغضباً وقد اجتمع إليه كثير من قريش يقول: (يا معشر قريش إن حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق، وقد قضوا ما عليهم وبقي ما عليكم، واذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة فنقله إلى المدينة وكره له قريشاً فنقله إلى الأنصار، ثم قدمنا عليهم دارهم فقاسمونا الأموال وكفونا العمل، فصرنا منهم بين بذل الغني وإيثار الفقير، ثم حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم، وقد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن، جمع لهم فيها بين خمس نعم فقال:«وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».(1)

ألا وإن عمرو بن العاص قد قام مقاماً آذى فيه الميت والحي، ساء به الواتر وسر به الموتور، فاستحق من المستمع الجواب ومن الغائب المقت، وإنه من أحبّ الله ورسوله أحبّ الأنصار، فليكفف عمرو عنا نفسه».(2)

ولم يكتف الإمام علیه السلام بهذه النصرة التي كشفت عن مدى قيمة الأنصار في نفسه علیه السلام ومدى أثرهم في الإسلام، بل أضاف إليها نصرة ثانية بأمره الفضل بن العباس أن ينصرهم شعرا .. يقول الزبير بن بكار : «وقال على للفضل بن العباس: أنصر الأنصار بلسانك ويدك، فإنهم منك وإنك منهم، فقال الفضل:

قلت یا عمرو مقالاً فاحشاً***إن تعد يا عمرو والله فلك

ص: 174


1- الحشر : 9
2- الموفقيات: 595 - 596

إنّما الأنصار سيف قاطع***من تصبه ظبة السيف هلك

وسيوف قاطع مضربها***وسهام الله في يوم الحلك

نصروا الدين وآووا أهله*** منزل رحب ورزق مشترك

وإذا الحرب تلظّت نارها***بركوا فيها إذا الموت برك»(1)

وكان لهذا الشعر صدى قوي في نفس الإمام علیه السلام حتى قال في تقريضه: «وريت بك زنادي يا فضل أنت شاعر قريش وفتاها فأظهر شعرك وابعث به إلى الأنصار»، وبعث به إلى الأنصار فكان له نفس الصدى، وأمروا شاعرهم حساناً أن يجيب عليه، فاستمهلهم حتى يحاكيه في قوافيه لئلا يفتضح ، «فقال له خزيمة بن ثابت : أذكر علياً وآله يكفك عن كل شيء فقال:

جزى الله عنا والجزاء بكفه***أبا حسن عنا ومن كأبي حسن

سبقت قريشاً بالذي أنت أهله***فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

تمنت رجال من قريش أعزّة***مكانك هيهات الهزال من السمن

وأنت من الإسلام في كل موطن***بمنزلة الدلو البطين من الرسن

غضبت لنا إذ قام عمرو بخطبة***أمات بها التقوى وأحيا بها الإحن

فكنت المرجّى من لؤي بن غالب***لما كان منهم والذي كان لم يكن

حفظت رسول الله فينا وعهده***إليك ومن أولى به منك مَن ومَن

الست أخاه في الهدى ووصيّه***وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن

فحقك ما دامت بنجد وشيحة***عظيم علينا ثم بعد على اليمن»(2)

وهنا نرى أن حديث الوصية والعهد إليه والمؤاخاة والأعلمية بدأ يطفح على ألسنة

ص: 175


1- المصدر السابق: 597
2- الموفقيات: 598 - 599

الأنصار، كما شاهدناه في أبيات حسان هذه، وشهدنا قسماً منه في أبيات النعمان بن العجلان السابقة.

ويبدو أن كلام الإمام علیه السلام السابق لم يكف من غلواء عمرو، بالرغم من ذهاب قريش إليه وقولتهم له - كما يحدّث الزبير بن بكار - : «أمّا إذ غضب علي فاكفف».(1)

فقد خرج الإمام علیه السلام مرة ثانية إلى المسجد وقال لمن به من قريش وغيرهم: «يا معشر قريش إن الله جعل الأنصار أنصاراً فأثنى عليهم في الكتاب، فلا خير فيكم بعدهم، إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وَتَرَه الإسلام ودفعه عن الحق وأطفأ شرفه وفضّل غيره عليه، يقوم مقاماً فاحشاً فيذكر الأنصار ، فاتقوا الله وارعوا حقهم، فوالله لو زالوا لزلت معهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال لهم: أزول معكم حيثما زلتم».(2)

وكان هذا التهديد من الإمام علیه السلام «لو زالوا لزلت ..» كافياً لاهتمام قريش في الأمر وموافقتها له، وارتباط عمرو بن العاص وتخوّفه، ثم خروجه من المدينة وعدم عودته إلا بعد رضا الإمام علیه السلام والمهاجرين عنه كما تحدّث هذه الرواية.

وكان لهذه الخُطَب والمشاجرات بين حزب قريش وحزب الأنصار نظائر ذكرها المؤرخون(3).. ولقد اكتفينا منها بما نخال أنه كان وافياً بتصوير الفجوات بين الحزبين، بما لها من جذور عميقة، ثم بتصوير الجانب المهم الذي نعتقد أن له أعمق الآثار في نفسية صاحبنا المراهق، ولعلّ من فضول القول أن نصرح أنه كان يتتبع هذه الأحداث باهتمام كبير، وبخاصة بعد أن بلغنا معه في الحديث إلى هذه المرحلة، فلنتحوّل إلى بحث آثارها الأخر فلربما كانت أعمق أثراً في نفسه.

ص: 176


1- المصدر السابق 597
2- الموفقيات 599
3- انظر الفتوح - مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 ، سنة الطبع 1406 - ج 1 : 12

«وثانيها»: هو ضرب لون من الضائقة الاقتصادية على هذا البيت وتجريده من جميع موارده الخارجية؛ ليحدّ من نشاطه السياسي؛ وليربطه بالسلطة في شؤونه الماديّة على الدوام.

وقد كانت لهذا البيت موارد في حياة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، وكان يرى أهله أنها من قبيل الحق المفروض لهم فلا تقبل الأخذ والرد.

وهذه الموارد بعضها كان عاماً يشترك فيه جميع أعضاء الأسرة، وبعضها كان خاصّاً ينفرد بواحد أو أكثر منها، ويأتي في القسم الأول نصيبهم من الخمس المفروض لهم بآية:«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...».(1)

وقد قسم رسول الله له على عهده خمس خيبر، وخصّ نصيبهم بحصن الكتيبة، كما حدّث بذلك الطبري (2)، وفي رواية بعض المؤرخين - كما سبق أن ذكرنا – أن النبي ع الله أسهم للعباس من هذا الخمس.

وتأتي في القسم الثاني فدك التي أقطعها رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم م فاطمة عليها السلام في حياته، يقول ابن عباس - كما عن ابن مردويه -: «لما نزلت آية «وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ...»(3) أقطع رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فاطمة فدكاً».(4)

وهناك موارد خاصة حدثت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، وهي ما خلّفه لوارثيه من أموال، ثم ما تركه من صدقات كانت بيده، وقد قبض إليه الخليفة ذلك كلّه، فأثار

ص: 177


1- الأنفال: 41
2- انظر تأريخ الطبري ج 3: 97
3- الإسراء : 26
4- الدر المنثور ج 4 : 177

استغراب آل البيت وتساؤلهم واحتجاجهم، وبخاصة سيدة النساء فاطمة عليها السلام، وقد حملت لواء المعارضة، فوقفت أمام الخليفة من ذلك كلّه مواقف صارمة، وكان للخليفة من كل واحدة منها حديث.. فهو يدفع حقهم من الإرث بحديث يرويه عن أبيها جاء فيه: «أن رسول الله قال: لا نورث ما تركناه صدقة، وإنما يأكل آل محمد في هذا المال».(1)

وقد كان هذا الحديث موقع استغرابها؛ بانفراد روایه به؛ ولأنه يناقض ظاهر آيات عدّة في القرآن الكريم حكت وراثة أنبياء سابقين، بالإضافة إلى أن هذا الحكم من الأحكام التي تخص الوارثين أنفسهم، فمن البعيد جداً أن لا يؤذنهم به رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، وتركهم عرضة للجدل والخصام، بل لا يؤذن به إلّا شخصاً واحداً من بين سائر المسلمين.

وكان حديثه عن الخمس بعد أن سألته فاطمة عنه أنه قال: «إن الله طعم نبيه طعمة ثم ،قبضه، وجعله للذي يقوم بعده، فوليت أنا بعده أن أرده على المسلمين».(2)

أما حديث فدك فقد كان حديثاً طويلاً شغل الناس قديماً وحديثاً، وتقوم خطوطه الأولى - بعد أن اعتبرتها فاطمة عليها السلام نحلة - أن الخليفة أقام من نفسه قاضياً، وطالب فاطمة بالبيّنة، وقد كان هذا الإجراء منه مثار تساؤل من علماء آل البيت؛ لأن المعتاد في امثال هذه المسائل أن يترك الحكم فيها لغيره؛ لأنه كان طرفاً في الدعوى - باعتبار ما يراه لنفسه من الولاية على المسلمين - ولأنه طالب بالبينة وهي صاحبة اليد، كما يظهر من رواية ابن عباس السابقة وغيرها، مع أن من أوليّات الفقه أن البينة على من ادعى والمدعي من خالف قوله الحجّة، وقولها هنا موافق لها ما دامت يدها على المال

ص: 178


1- صحیح مسلم ج 5: 153
2- شرح نهج البلاغة ج 4 : 81

ووظيفتها اليمين.

ولهم فيها مناقشات دقيقة للحكم وظروفه لا يهمنا التعرض لها الآن.

على أن القضيّة لو أخذت مجراها الطبيعي لكان التكرّم - كما يقول ابن أبي الحديد - «رعاية حق رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وحفظ عهده يقتضي أن تعوّض ابنته بشيء يرضيها، إن لم يستنزل المسلمون عن فدك ويسلم لها تطييباً لقلبها، وقد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه».(1)

ولسيدة النساء عليها السلام خطبة في الجامع العام عرضت فيها على المسلمين مظلوميتها باسلوبها الرائع وحججها القوية واستنهضتهم للأخذ بحقها(2)، وقد أخذت من نفوسهم مأخذها، حتى خشي أبو بكر أن يفلت الزمام من يديه، فالتجأ إلى لغة القوة يعزّز بها ،مرکزه قال جعفر بن محمد بن عمارة بإسناده: «فلما سمع أبو بكر خطبتها وشق عليه مقالتها صعد المنبر فقال : أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة، لئن كانت هذه الأماني في عهد رسول الله، ألا من سمع فليقل ومن شهد فليتكلّم، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة ، يقول كروها جذعة بعدما هرمت يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء كأم طحال أحبّ أهلها إليها البغي ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت، ولو قلت لبحت إني ساكت ما تركت ، ثم التفت إلى الأنصار فقال: «قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم وأحق من لزم عهد رسول الله أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ألا إني لست باسطاً يداً أو لساناً على من لم يستحق ذلك منا»(3)، ثم نزل - فيما يقول الراوي -

ص: 179


1- شرح نهج البلاغة ج 4 : 106
2- انظر بلاغات النساء - المطبعة الحيدرية، النجف، سنة الطبع 1361ه- - : 14 - 20 ، وانظر أعلام النساء - المطبعة الهاشمية، دمشق، ط 2 ، سنة الطبع 1378 ه- - 116 - 119
3- شرح نهج البلاغة ج 4 : 80

فانصرفت فاطمة إلى بيتها .

وحسب هذه اللغة بما فيها من توهين وازدراء ومقابلة للحجة بالتهديد -وهي سلاح الضعيف بأقوى منها وأشدّ تأثيراً، وذلك بإسكاته وكم فمه عن المطالبة بحقه من طريق التهديد والوعيد.. أقول حسب هذه اللغة أن تُغضب فاطمة عليها السلام وتُسكتها وتُسكت معها أهل البيت عليهم السلام عن المطالبة بحقهم مؤقتاً.

وظل أهل البيت عليهم السلام يُصرون على حقهم بعد ذلك ويسعون للحصول عليه، وكان لهم إلى ذلك أساليب يتخذ بعضها طابع النزاع بين علي علیه السلاموالعباس، حتى استطاعوا أن يحصلوا على قسم منه في أيام عمر، وقسم آخر في أيام عمر بن عبد العزيز(1)، وظل صاحبنا كبقية أهل البيت مالم يصر على أن الخمس لهم ، وأنهم منعوا من الوصول إليه، وقد كان له مع الخليفة عمر في هذا الشأن كلام سنأتي عليه في موضعه، وسنرى كيف أحدث له إيمانه بهذا الحق أهمّ فحوة في تأريخ حياته، اضطرب في تأويلها المؤرخون.

وقد كتب إليه بعد حين نجدة الحروري يسأله عن الخمس ومسائل أخر فأجاب فيما يتعلّق بهذه المسألة: «هو لنا القربى رسول الله قسمه رسول الله لهم، وكان عمر عرض علينا منه شيئاً دون حقنا فرددناه عليه».(2)

( ثالثها) حدوث فجوة واسعة بين آل البيت والسلطة الحاكمة، ومجانبة ومباعدة لم يصبر عليها الخليفتان، بل أقبلا على هذا البيت يترضّيانه بترضيهم لفاطمة عليها السلام ، قال ابن قتيبة : قال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما ، فأتيا علياً فكلّماه، فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها فلم تردّ السلام.

ص: 180


1- انظر شرح نهج البلاغة ج 4 : 81 - 82
2- مسند أحمد ج 1 : 320

فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله والله إن قرابة رسول الله أحبّ إلي من قرابتي، وإنك لأحبّ إليَّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني مت ولا أبقى ،بعده، فتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله ! إلّا أني سمعت رسول الله يقول: لا نورث ما تركناه فهو صدقة، فقالت: أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله تعرفانه و تفعلان به قالا ،نعم، فقالت نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني، قالا: نعم سمعناه من رسول الله، قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه، فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله منسخطه وسخطكِ ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها، ثم خرج باكياً».(1)

وبقيت مدّة حياتها وماتت - كما في رواية البخاري - وهي غضبى عليه(2)، وآذنت زوجها أن يدفنها بليل لئلا يشهد أبو بكر وعمر جنازتها والصلاة عليها(3) وكأنها أرادت أن تخلّد - بما يثيره هذا الدفن من تساؤل - أقوى صرخة احتجاج ما دام لها في التأريخ ذكر ، يقول الزهري: سألت ابن عباس متى دفنتم فاطمة؟ قال: دفناها بليل بعد هدأة قال: قلت: فمن صلى عليها ؟ قال : علي».(4)

وبالطبع ما كان يهون على صاحبنا ولا على أحد من أهل البيت علیهم السلام أن تُشيّع ابنة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وتدفن بليل، وأن لا يشهد جنازتها من غير بني هاشم إلّا نفر قليل

ص: 181


1- الإمامة والسياسة ج 1: 13 - 14
2- انظر صحيح البخاري ج 4: 79
3- انظر شرح نهج البلاغة ج 4 : 104
4- المصدر السابق ج 4 : 103

لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة في العد، ولكن ما يصنعون وواقع الوصيّة ألجأهم إلى ذلك.

أمّا بعد فقد أطلنا بهذا الحديث وبعدنا في بعضه عن ابن عباس ودخلنا في تفصيلات ربّما يراها القارئ ضعيفة العلائق به ولكن الحقيقة أن دراستنا لا تكون مستوفاة ما لم تدخل بمثل هذه التفصيلات ما دمنا نعتقد أنه شاهدها جميعاً ووعاها جميعاً، وخلّفت في نفسه رواسبها، وبرزت آثار تلكم الرواسب على فلتات لسانه من دون شعور ، وربّما كان معرفة مفتاح شخصيته في قابل أيام حياته معلّقة بهذه الأحداث ونظائرها مما لم نعرض له المشابهته لها، فماذا تركت في نفسه مخلفات؟؟ .

ص: 182

النبوغ المبكّر

يبدو لي أن هذه المقابلات لأسرته، وهذه الضربات المتوالية عليهم منذ حادثة الغدير حتى وفاة فاطمة عليها السلام، مع ما ناله منها من نصيب شككته في تقييم شخصيته وزعزعت من الثقة والاعتزاز اللذين كوّنهما لها منذ بداية حياته، بتأثير بيئته الخاصة، وصحبته لبطليه، و مشاهدته لمواقفهما البطوليّة الخالدة على نحو ما عرضناه في هذه الفصول

وربّما تعمق هذا التشكيك فكَمَنَ في لا شعوره على شكل عقدة ظلت تبحث عن طريقة للتعويض؛ لتستعيد به ما تخيلته من فقدان صاحبها لدعائم مركزه، وربّما أشارت إلى نفسها بما يسبق به لسانه من حديث والمرء - كما يذكر عن ادلر -: «إذا شعر بنقص ما ، تشكّل سلوكه بأحد أشكال ثلاثة: الانحلال، أو المرض العصبي، أو النبوغ ، فإذا لم يتغلب على الشعور بالنقص، انزلق إلى الفساد والإنحلال أو هرب إلى الأوهام يحتضنها ويعيش في ظلّها، وهذا هو المرض العصبي، فإذا استطاع تعويض نقصه أصبح نابغاً».(1)

وكان صاحبنا - بما وهب من إمكانيات واستعداد موروث ومكتسب الفريق الثالث، فقد وجهت به هذه العقدة إلى تأكيد ذاته من طريق الثقافة والمعرفة،

وقد استغل - فيما أخال - فراغ أستاذه وبطله وابتعاده عن السياسة للتزود من ثقافته العميقة من ناحية، ومن ناحية أخرى تصوّر أن جملة وافرة من علوم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم كانت عند أصحابه، ورأى أن قرب العهد به يجعلهم على ذكر منها ، وفيما لديه من فراغ وقته متسع للأخذ عنهم، وكان ذلك منه ، فأقبل عليهم يتزوّد جهده مما لديهم من أحاديث،

ص: 183


1- مجلة الكتاب، السنة الثانية، ج 1 : 141

يقول - فيما يروي عكرمة عنه -: «لما قُبض رسول الله قلت لرجل من الأنصار : هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله فإنّهم اليوم كثير قال : فقال واعجباً لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله من فيهم، قال: فتركت ذلك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسّد ردائي على بابه تسفي الريح على التراب، فيخرج فيراني فيقول لي : يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ؟! ألا أرسلت إلي فآتيك فأقول: لا أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي ليسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني».(1)

وهذا الحديث يكشف لنا صفحة من إقباله المبكّر على المعرفة، وفهمه لقيمتها وقيمة حامليها، ويكشف عن الفارق في المستوى الذهني بينه وبين صاحبه الأنصاري، ومثل هذا الإقبال - بما له من عوامله ومواهب صاحبه - لا بدّ أن ينهيه إلى النبوغ.

وفي حديث آخر عنه يؤكد لنا مدى ذلك الإقبال قال : «ووجدت عامة حديث رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عند الأنصار، فأني كنت لآتي الرجل فأجده نائماً، لو شئت أن يوقظ لأوقظ لي فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح حتى يستيقظ متی استيقظ، وأسأله عما أريد ثم أنصرف».(2)

وهو بالإضافة إلى تأكيده للمضمون السابق يشير بطرف خفي إلى مفعول تلكم العقدة في نفسه وإلّا فما حاجته إلى تأكيد ذاته بقوله : «لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ» لو كان يشعر بأن هذا من حقوقه الطبيعية، نظراً لعلاقته برسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، وهذا التأكيد نسمعه منه أكثر من مرة، فهو يقول مثلاً من حديث: «ما حدّثني أحد قط حديثاً

ص: 184


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 121
2- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 121

فاستفهمته، فلقد كنت آتي باب أبي بن كعب وهو نائم فأقيل على بابه، ولو علم بمكاني لأحبّ أن يوقظ لي لمكاني من رسول الله ولكني أكره أن أمله».(1)

وإقحام هذه الجملة «ولو علم بمكاني .. الخ » لا دافع له إلّا اندفاعيّته اللاشعورية لتأكيد ،ذاته، كنتيجة طبيعية لتلكم العقدة، وأخال أنا لا نستكثر عليه قوّة الحافظة، حتى أنه لا يجد نفسه في حاجة إلى استفهام محدثه، ما دمنا قد سايرناه في هذه الفترة، وأدركنا أن معالم نبوغه ومعداته وثقافته لم يقصرها على الحديث، بل تجاوزه إلى المغازي، وغيرها.

يقول أبو سلمة الحضرمي: «سمعت ابن عباس يقول: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله وما نزل من القرآن في ذلك».(2)

وتأبى العقدة إلّا أن تشير إلى نفسها فهو يقول في تتمّة الحديث - وكأنة يدفع بذلك شبهة خالجت السامعين من مضايقته المسؤوليه - : وكنت لا آتي أحداً إلا سُرّ بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم».(3)

وقد بلغ من تشبثه أنه كان يسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم كما حدث بذلك طاووس.

وهكذا قضى بقيّة هذه الفترة - فترة المراهقة - التي امتدت به إلى نهاية خلافة أبي بكر أو قبلها بقليل - إذا صح ما حددناه سابقاً من زمن ولادته - ليستقبل مراحل الشباب وهو مزوّد بثقافة عالية لفتت إليها أنظار كبار الصحابة، وبرواسب خلّفها ما مر به من أحداث.

ص: 185


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم :2 123
2- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 124
3- انظر البداية والنهاية ج 8: 299

ص: 186

الفصل الثاني : مراحل الشباب

اشارة

ص: 187

ص: 188

مع الخليفة الثاني

(1)

وهذه المراحل تفتح لصاحبنا عهداً لا يخلو من جدّة عليه وعلى أسرته، فالعلائق تدريجياً.

بين السلطة القائمة وبينهم بدأت تأخذ طوراً جديداً وبدأ التقارب يدبّ إليها تدريج

فأبو بكر يعزم على حرب الروم، فلا يقدم قبل أن يستشير الإمام علیه السلام، فإذا أشار عليه وبشره بالنصر، أقدم مطمئناً وهو يقول: بشّرت بخير.(1)

وهو يعلن قُبيل وفاته ندمه على كشفه لبيت علي علیه السلام، ويتمنى لو تركه ولو أنه أعلن عليه الحرب.(2)

وكان من رأيه أن يجعل له نصيباً في الخلافة، لولا رأيه بعمر، كما حدث عمر بذلك صاحبنا فيما بعد (3)، والإمام نفسه كان يحسّ بذلك أيضاً، فهو يقول في كتابه لأهل العراق: «وما طمعت أن لو حدث به حادث - يعني أبا بكر - وأنا حي أن يرد إليَّ الأمر الذي نازعته فيه طمع مستيقن ولا يئست يأس من لا يرجوه، ولولا خاصة ما كان بينه وبين عمر لظننت أنه لا يدفعها عني» .(4)

ص: 189


1- انظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 111
2- انظر الإمامية والسياسة ج 1 : 18
3- انظر شرح نهج البلاغة ج 3: 94
4- جمهرة رسائل العرب ج 1 : 564

ولما أراد أبو بكر أن ينص على عمر لم نجد في الهاشميين من وقف دونه أو طعن فيه ولو من طريق الهجر، مع أنه كان يغمى عليه وهو يملي العهد على عثمان.(1)

ووثق الخليفة الجديد من مسالمتهم، والسكوت عن الطلب بحقهم، فبدأ يقبل عليهم ،ويجاملهم، وكان من إقباله عليهم ومجاملته أن أعاد إليهم شيئاً من حقهم في الخمس، ولكنهم ردّوه عليه؛ لأنهم لم يقبلوا أن يأخذوا بعضه ويدعوا البعض - كما قد سبق لنا أن نقلنا حديث صاحبنا مع الحروري في هذا الشأن-.(2)

وقد أعاد عليه صدقات النبي صلی الله علیه و آله وسلم في المدينة إثر النزاع - فيما يقال - بين علي علیه السلام والعباس ثم تنازل عنها العباس لعلي علیه السلام بعد إشارة من ولده عبد الله.(3)

وكان من مظاهر إقباله أيضاً وتحببه إلى أهل البيت علیهم السلام وترضيهم أنه جذب إلى حضيرته صاحبنا، وهو يعلم أن له - بحكم علائقه ببطله ونبوغه المبكر في العلم والمعرفة - مكانة في نفس الإمام علیه السلام، وكبار بني هاشم لا تعد لها مكانة، وربّما استطاع عن هذا الطريق أن يصل إلى نفوسهم تدريجياً.

شيء آخر دعاه إلى مزاملة هذا الشاب والتأكيد على صداقته - فيما يبدو لي - وهو أن يصل إلى معرفة ما ينطوي عليه هذا البيت من نشاط سياسي، والبلوغ إلى أسراره الخفية، وبخاصة الإمام علي علیه السلام بطل صاحبنا، وذلك من طريق تقريره لصاحبه الذي لا تخفى عليه من شؤونهم عادة أية خافية، يقول ابن عباس: «دخلت على عمر في أول خلافته فقال - بعد حديث سبق أن ذكرناه : «عليك دماء البدن إن كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قال: نعم.. الخ».

ص: 190


1- انظر تأريخ الطبري ج 4 : 52
2- انظر مسند أحمد ج 1 : 320
3- انظر شرح نهج البلاغة ج 4 : 82

وكان ابن عباس أعمق من أن يؤخذ من هذه الطريقة لو كان لديهم من الأسرار ما يدعو إلى إخفائه، وقد عرفنا أن نشاطهم الحزبي وقف عند حده منذ أحسّوا وأحسّ إمامهم علیه السلام أن مثل ذلك النشاط لا ينتفع به غير الانتهازيين والوصوليين من أعداء الإسلام، وما كانوا يرون في التصريح بحقهم غضاضة ما دام لا يعقب ذلك شيء من النشاط.

لذلك لم نجد من زعماء هذا البيت أي تحرّج من استجابة هذا الشاب لمزاملة الخليفة الجديد، وربّما وجدنا من بعضهم ترحيباً بذلك، فالإمام علي لا يمتنع من أن يأمر عبد الله بصحبة الخليفة إلى البقيع ، يقول صاحبنا: «مرّ عمر بعلي وأنا معه بفناء داره فسلّم عليه، فقال له علي أين تريد ؟ قال : البقيع، قال: أفلا نصل جناحك ونقوم معك؟ :قال: بلى، فقال لي :علي قم معه، فقمت فمشيت إلى جانبه فشبك أصابعه في أصابعي ومشينا قليلاً».

ومن الجدير أن نسمع حديثهما وقد انفردا بعد أن خلفا البقيع، يقول ابن عباس: «قال لي: يا ابن عباس أما والله إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله، إلّا أنّا خفناه على اثنين.

قال ابن عباس فجاء بكلام لم أجد بداً من مسألته عنه، فقلت: ما هما يا أمير المؤمنين؟ قال: خفناه على حداثة سنه وحبه بني عبد المطلب».(1)

فالإمام علیه السلام هنا يوصل جناحه بعبد الله ويأمر به، ولا يجد بذلك بأساً، وربما وجد فيه طريقاً إلى تحصيل أمثال هذه الاعترافات من الخليفة بأولويته في الحكم، وهو لا يريد أكثر من تأكيد هذه الأولوية.

ص: 191


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 20

والعباس يرى في الخليفة مدى اهتمامه بولده ودعوته مع كبار الصحابة للاستشارة وأخذ الرأي وتقديمه عليهم، فلا يسوؤه ذلك، بل يرى فيه تقديراً لمواهبه العقلية، فيحرص عليها ويبعث عليه ليسمعه دروساً قيّمة تضيف إلى تجاربه النفسية تجارب جديدة من شأنها أن تمدّ في عُمُر أمثال هذه الزمالات، يقول: «يا بني إني أرى أمير المؤمنين يستفهمك ويقدّمك على الأكابر من أصحاب محمد صلی الله علیه و آله وسلم وإني أوصيك بخلال أربع لا تفشينّ له سرّاً، ولا يجربن عليك كذباً ، ولا تطوي عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً».

وهي تجارب تدلّ على عمق في ثقافة صاحبها، وفهم للأصول التي تبتني على أسس المودّة الدائمة عادة، وقد أثرت في نفس صاحبنا أثراً عميقاً نعرفه من تقييمه لها في حديثه مع الشعبي، يقول الشعبي - وهو يعقب على هذا الحديث - : قلت لابن عباس: «كل واحدة خير من ألف قال: إي والله ومن عشرة آلاف».(1)

وعلى أيٍّ فإن صاحبنا لم يخرج بتقبله لهذه الزمالة على خطة أسرته التي رسمتها لنفسها في الوقوف من السلطة، وربّما وجد فيها ضروباً من تأكيد الذات اقتضتها رواسب الفترة السالفة من حياته، ومجالاً واسعاً لإبراز مواهبه وإمكانياته الثقافية وعقيدته في حقهم بالخلافة، وربّما وجدوا هم أيضاً فيها مجالاً لتأكيد حقهم في الأمر عن طريق يقظة هذا الشاب وعدم تركه لأية مناسبة تمرّ دون أن يعلن هذا الحق إعلاناً صريحاً لا مواربة فيه، وله من دالّته على الخليفة، ومن صغره، ورغبة الخليفة في استكناه دفائنهم من طريق إثارته، ما يخلق لذلك أوسع المجالات.

ص: 192


1- العقد الفريد - المطبعة العامرة ، مصر ، سنة الطبع 1316ه- ج1 : 4
(2)

وكانت إثارة هذا الشاب وتحفيزه للكلام من قبل الخليفة تأخذ أطواراً مختلفة، فهو تارة يتظلم للإمام علیه السلام ، وأخرى ينتقصه ، وثالثة ينتقص أهل البيت علیهم السلام... إلى ما هنالك من أساليب الإثارة التي كان يتبعها الخليفة مع صاحبه في اختلاف المناسبات.

وكان صاحبنا في جوابه يعمل كثيراً من اللباقة، فلا يترك فرصة إلا واستفاد منها في إعلان عقيدته نقضاً أو إبراماً، وفي كثير من أجوبته لفتات ذهنيّة رائعة..

يقول ابن عباس : «إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة، يده بيدي إذ قال لي: يا ابن عباس ما أظن صاحبك إلّا مظلوماً، فقلت في نفسي: والله لا يسبقني بها، فقلت: يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ومضى يهمهم ساعة، ثم وقف فلحقته فقال : يا ابن عباس ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلّا أنّهم استصغروه، فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى فقلت: والله ما أستصغره الله ورسوله حين أمره أن يأخذ براءة من أبي بكر».(1)

ويبدو أن الخليفة كان في إعلانه التظلّم يريد أن يحمل الشاب على الإفاضة في الشكوى، فيستدرجه إلى معرفة ما يريده، وما كان ينتظر أن يقطع عليه الطريق بهذه اللفتة الرائعة.. «فاردد إليه ظلامته» فيوقفه أمام أمر واقع بعد تحصيل هذا الاعتراف منه، ولكن الخليفة يستجمع أفكاره من جديد بعد أن يهمهم ساعة، ويأتيه بهذا الجواب الذي يرفع فيه من عاتقه ظلامته، ويلقيها على قومه، بعد أن يلتمس لهم المبررات من صغره، وكأنه يقول: إن المانع الذي منع من تقبل خلافته لدى قومه ما يزال قائماً وهو صغره، ولكن ابن عباس يجبهه بلفتة ثانية لا تقل براعة عن الأولى، فهو يقول له: «والله

ص: 193


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 18

ما استصغره الله ورسوله»، وكأنه يقول : متى كان السن مانعاً من توفر الكفاءات لدى الأكفاء من الرجال.

ويدخل عليه يوماً فيثيره إلى الحديث من طريق انتقاص الإمام علیه السلام، يقول ابن عباس : دخلت على عمر يوماً فقال : يا ابن عباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياءً، قلت من هو ؟ فقال: هذا ابن عمك يعني علياً - قلت: وما تقصد بالرياء يا أمير المؤمنين؟ قال: يرشّح نفسه بين الناس بالخلافة، قلت: وما يصنع بالترشيح؟ قد رشّحه لها رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فصرفت عنه، قال: إنه كان شاباً حدثاً فاستصغرت العرب سنه وقد كمل الآن ألم تعلم أن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا بعد الأربعين قلت: يا أمير المؤمنين أما أهل الحجى والنهى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملاً منذ رفع الله منار الإسلام، ولكنهم يعدّونه محروماً مجدوداً.. الحديث».(1)

وكأن الخليفة وقد شقّ عليه أن يتحدّث الناس بعبادة الإمام علیه السلام أراد أن يتعرّف أسرارها من زميله بهذه الإثارة، ولكن ابن عباس - على طريقته البارعة - يقطع عليه طريق الإستفادة «وما يصنع بالترشيح قد رشّحه رسول الله فصرفت عنه»، ولكن الخليفة يعود إلى وتره ليضرب عليه من جديد، فينسب أسباب تأخره إلى صغره وعدم كماله إذ ذاك، فيسوء ابن عباس نسبته لعدم الكمال، فيبادر إلى الإجابة «أما أهل النهى والحجى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملاً.. الخ».

ويخرج الخليفة إلى الشام، ويطلب إلى الإمام علیه السلام أن يخرج معه فيأبى عليه، ويسوؤه ذلك فيشكوه إلى ابن عباس ليرى أسباب ذلك الامتناع يقول: «خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته، فانفرد يوماً يسير على بعيره فاتبعته فقال : يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ولم أزل أراه واجداً، فيم تظن موجدته؟

ص: 194


1- شرح نهج البلاغة ج 3: 115

قلت: يا أمير المؤمنين إنك لتعلم، قال: أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة، قلت:ذاك، هو إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له». ويبدو أن الحديث أثار الخليفة فأغضبه، فهو يقول له: «وأراد رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم الأمر له فكان ماذا ؟! إذا لم يرد الله تعالى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أراد ذلك وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله.. الحديث».(1)

ويبدو أن غضب الخليفة أسكت عبد الله فلم يرد عليه بجواب، ولم ينكر عليه تفرقته بين إرادتي الله ونبيه، مع أنه يقرأ في الكتاب الكريم :« وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى»(2) ، وإلا فإنا نرى في محاججة أخرى للخليفة مع زميله، أن عبد الله يثبت أن اختيار الإمام علیه السلام للخلافة كان من الله، ويسكت الخليفة عن جوابه.. إقرأ معي هذه المحاورة التي أثار بها الحديث من طريق طعنه بآل البيت:

قال - بعد حديث سنأتي عليه في موضعه، وراوي الحديث عبد الله بن عمر وكان في المجلس نفر من الناس - : «يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم؟ قال: لا يا أمير المؤمنين قال لكني أدري، قال: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتجحفوا الناس جحفاً، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ووفقت فأصابت».(3)

وما أخال أن صاحبنا كان يثار ويغضب لو اقتصر الحديث على أسباب المنع، فقد سمعها عن الخليفة كثيراً، ولكن الذي أثاره وأغضبه - فيما يبدو لي - أن الحديث كان بمحضر من هؤلاء النفر، وأنه اشتمل على الطعن فيهم، وتصحيح وجهة نظر المانعين وربّما كانوا من الحضار، فأراد أن يسمعهم كلمة الحق صريحة لا مواريه فيها، فاستأذن

ص: 195


1- شرح نهج البلاغة ج 3: 114
2- النجم : 3
3- شرح نهج البلاغة ج 3 : 107

الخليفة أن يتحدّث بصراحة..

يقول المحدّث : فقال ابن عباس أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع؟ قال:

قل ما تشاء، قال: أما قول أمير المؤمنين : إن قريشاً كرهت، فإن الله تعالى قال لقوم: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ»(1) ، وأما قولك: إنا كنا نجحف، فلو جحفنا بالخلافة جحفنا بالقرابة، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم الذي قال الله تعالى فيه : «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(2)، «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(3)، وأمّا قولك: إن قريشاً اختارت فإن الله تعالى يقول: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة»(4) ، وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لوفقت وأصابت قريش».

وكنا ننتظر بعد هذا الكلام أن نسمع للخليفة تشكيكاً أما في تطبيق الآية، كأن يقول له : إن ما كرهته قريش هنا ليس مما أنزل الله وهو خلافة أهل البيت عليهم السلام ، أو في تطبيق الآية الثانية السابقة للاختيار عنهم في أمثال هذه الشؤون الهامة، أو يقول مثلاً: إني لا أعلم من اختار الله ردّاً عليه في نسبة العلم إليه .. «وقد علمت يا أمير المؤمنين من اختار»، ولكن لم يكن شيء من ذلك، وإنّما كانت لفتة من الخليفة، ربّما فسّرها من فسّرها بالمحاولة من قبله إلى توسعة الشقة بينهم وبين قريش، فهو يقول له:

«على رسلك يا ابن عباس أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول وحقداً عليها لا يحول»، وتسوء ابن عباس نسبة قلوبهم إلى الغشّ فيثيره إلى الجواب

ص: 196


1- ) محمد: 9
2- القلم : 4
3- الشعراء: 215
4- القصص: 68

ويلتمس المبررات لحقدهم على قريش فيقول: «مهلاً يا أمير المؤمنين لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغشّ فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله وزكّاه، وهم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1)، وأما قولك: حقداً فكيف لا يحقد من غصب شيؤه، ويراه في يد غيره».(2)

ويبدو أن هذه الأجوبة كانت مغيظة للخليفة ومزعجة له، فقد جرته من التعميم في الحديث إلى التخصيص، ووجهته به إلى العتاب الشخصي مع زميله فهو يقول له: «أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي، قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ أخبرني به فإن يك باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه، وإن يك حقاً فإن منزلتي عندك لا تزول به».

قال: «بلغني أنك لا تزال تقول: أخذ هذا الأمر منا حسداً وظلماً».

ويرى ابن عباس أنه يقول ذلك حقاً ويتبنّاه، فلا يجد إلى إنكاره سبيلاً، بل ما حاجته إلى الإنكار وهي عقيدة له، وهو لا يجامل في سبيل عقيدته ؛ فليجهر بذلك أمام الخليفة؛ وليترك المواربة والالتواء في إبرازها قال: «أما قولك يا أمير المؤمنين: حسداً، فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة، فنحن بنو آدم المحسود ، وأما قولك ظلماً فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو».

وإذاً هم مظلمون ما دام الحق لهم، وصاحب الحق معروف لديهم، وقد عينه الله لهم واختاره من بين المسلمين - كما سبق أن قال - ثم عقب على ذلك وكأنه يقول له: إنّكم مؤاخذون حتى بلغة الحجّة التي لجأتم إليها لاختصاص قريش بالخلافة، يقول: «يا أمير

ص: 197


1- الأحزاب: 33
2- شرح نهج البلاغة ج 3 : 107

المؤمنين ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله، واحتجّت قريش على سائر العرب بحق رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فنحن أحق برسول الله من قريش».

فإذا هم أصحاب الحق على أي حال، سواء أخذوه بالقرابة أم بالنص.

ويبدو أن الخليفة ضاق من وجوده بعد هذا الحديث في المجلس، وخشي أن لا ينتهي مجلسهم إلى خير فقال له: «قم الآن فارجع إلى منزلك فقام».

وعاود الخليفة حلمه وحبّه لزميله فهتف به يترضاه: «أيها المنصرف إني على ما كان منك لراع حقك»(1)

وكان ابن عباس ما يزال غاضباً فردّ عليه : «إن لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقاً برسول الله، فمن حفظه فحق نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع»، ثم مضی فقال عمر لجلسائه: «واهاً لابن عباس ! ما رأيته لاحى أحداً قط إلّا خصمه».(2)

وهو أعتراف صريح بقيمة ابن عباس في مجال الجدل والخصام، نحتفظ به من الخليفة لزميله، فربّما أفادنا في تقييم شخصيته فيما يأتي من أحاديث.

وفي ليلة مسيره إلى الجابية دعا زميله ليشكو إليه تخلف الإمام علیه السلام عن المسير معه فقال له ابن عباس: «أو لم يعتذر إليك ؟ فقال : بلى فهو ما اعتذر به، ثم قال: أول من ريتكم عن هذا الأمر أبو بكر، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة».

ثم ينقل الجوهري قصة طويلة يهملها صاحب الأغاني، لأنها ليست من موضوعها في كتابه.

والمهم هنا أن الخليفة يركّز مسؤولية إبعادهم عن الحكم على أبي بكر، بينما نراه في

ص: 198


1- شرح نهج البلاغة ج 3 : 107
2- المصدر السابق ج 3 : 107 ، وانظر تأريخ الطبري ج 5 : 31، وتأريخ ابن الأثير ج 3: 31

مقام آخر يشرك نفسه بهذه المسؤولية.

يروي الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء أنه قال لابن عباس: «يا بني عبد المطلب لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر، ولكن خشينا أن لا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها».(1)

وفي ثالثة يركّزها على نفسه، ففي حديثه مع صاحبنا: «لقد أراد - رسول الله - في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام».(2)

والحقيقة - فيما يبدو - أن الخليفة - وقد أقلقته هذه الحادثة وملكت عليه من أعماقه مركزها الأول - كان ما يزال يلتمس لها بمناسبة وبغير مناسبة ما يبررها، ويقلّل من ضغط الضمير بما يرضيه من الأسباب والعوامل النافعة إلى ذلك، فإذا لم يرض أحد التعاليل ضميره لجأ إلى غيره. وهكذا..

وله من وجود صاحبه الذي يهمّه هذا الأمر جدّاً ما يثيره على الدوام إلى مثل هذا الحديث.

ومن الجدير بالذكر أن كتباً أخرى عرضت لنظائر هذه الأحداث – كتأريخ الطبري، والعقد الفريد، وشرح النهج، وغيرها، وهي مشابهة لها في مداليلها ومثيراتها - أعرضنا عنها لئلاً نثقل عليكم بتكرار الحديث في أمور متشابهة، فلننتقل عنها إلى أجواء أخر من علائق صاحبنا مع زميله.

ص: 199


1- محاضرات الأدباء - المطبعة العامرة الشرفية، مصر ، سنة الطبع 1326 ه- ج 2 : 313
2- شرح نهج البلاغة ج 3: 97
(3)

وكان الخليفة - بحكم مركزه، وانتشار الإسلام بكثرة الفتوح على عهده - مفزعاً للمسلمين قدماء ومحدثين، يقصدونه فيما يغمض عليهم من مشكلات الفقه ودقائق التشريع، ولم يكن لدى الخليفة من المعارف ما يسع مشاكل الناس وليحيط بدقائق أمورهم، فكان يفزع فيما يشكل عليه إلى فقهاء الصحابة، ثم إلى الإمام علیه السلام إذا لم يجد لديهم ما يملأ نفسه إيماناً بصدق الجواب، ما كان الإمام علیه السلام ليضن عليه بما يملكه من معارف؛ احتفاظا بكرامة الإسلام على أن يرمى بالضيق عن سعة مشاكل الناس، وقد قال الخليفة غير مرّة : لولا على لهلك عمر».(1)

و «وأعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا ابا الحسن»(2) وما شاكلها من التعابير.(3)

وكان في الكثير من الأسئلة ما يقصد بها صاحبنا الشاب، فيتعاون معه على حلّها، وكثيراً ما يأخذ بجوابه فيرسل في حقه كلمة إعجاب تدلّ على عمق ما يكنه الخليفة لزميله الشاب من تقدير.

هذا يعلى بن أمية يكتب إلى الخليفة من اليمن عن مسألة، فيسأل عنها زميله ويجيبه عنها بالجواب فيرسل في حقه هذه الشهادة «أشهد أنك تنطق عن بيت نبوة»(4)

ص: 200


1- الاستيعاب ج 3: 39
2- المستدرك على الصحيحين ج 1 : 457
3- انظر الغدير ج 6 : 327
4- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 122

و«غص غواص»(1) وقال له : «لقد علمت علما ما علمناه».(2)

وقد حدّث سعد بن أبي وقاص عن مدى تقدير الخليفة لعلمه بقوله: «ما رأيت أحداً أحضر فهماً ولا ألبّ لبّاً ولا أكثر علماً ولا أوسع حلماً من ابن عباس ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات، ثم يقول: عندك قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله وإن حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار»(3)، وقد قال له مرّة: «جزاك الله عنا الخير يا ابن اخي شفيتنا»(4) بعد أن سأله فأجابه - كما حدث بذلك عبيد الله بن عمر - .

وفي حديث عبيد الله بن عبد الله قال: «ما رأيت أحداً كان أعلم بالسنّة، ولا أجلد رأياً ولا أثقب نظراً من ابن عباس ، ولقد كان عمر يعدّه للمعضلات مع اجتهاد عمر ونظره للمسلمين»(5)، وكان يقول له: إنك لأصبح فتياننا وجهاً، وأحسنهم عقلا وأفقههم في كتاب الله عز وجل»(6). إلى ما شابه ذلك من التعابير المتواترة عنه مضموناً، والتي تدل على مدى تقييمه لمواهب هذا الشاب العلمية.

ومن طريف ما استراح إليه عمر من استنتاجه ما جاء في الدر المنثور عن المرأة التي جيء بها إليه وقد ولدت لستة أشهر، واستنكر الناس ذلك.. يقول ابن عباس: «فقلت لعمر: لا تظلم قال كيف؟ قلت: اقرأ «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا»(7)،

ص: 201


1- البيان والتبيين ج 1 : 263
2- البداية والنهاية ج 8: 299
3- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2: 122
4- ذخائر العقبى: 228
5- المصدر السابق: 230
6- البداية والنهاية ج 8: 299
7- الأحقاق: 15

«وَالْوَالِدَتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»(1) ، كم الحول؟ قال: سنة، قلت: كم السنة؟ قال: اثنا عشر شهراً، قلت: فأربع وعشرون شهراً حولان كاملان، ويؤخّر الله من الحمل ما شاء ويقدّم . قال ابن عباس فاستراح عمر إلى قولي».(2)

وكان من تحرّج ابن عباس أنه لا يفتي إذا لم يكن لديه مصدر لفتياه..

سأله الخليفة - فيما يحدّث كريب مولاه عنه - فقال يا ابن عباس إذا اشتبه على الرجل في صلاته، فلم يدرِ أزاد أم نقص ؟ قلت: يا أمير المؤمنين ما أدري ما سمعت في ذلك شيء، وجاءهم عبد الرحمن بن عوف بعد ذلك، وكان عنده سماع من النبي صلی الله علیه و آله وسلم المسألة فحدّثهم بما عنده.(3)

وكان لا يتسرع بالفتيا قبل أن يُسأل من قبل الخليفة، وربّما ها به أن يشير عليه ابتداءً فيما يختلف معه في بعض الأحكام..

حدّث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت أنا وزفر بن أوس بن الحدثان على ابن عباس بعدما ذهب بصره : فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال: ترون الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً، إذا ذهب نصف ونصف فأين موضع الثلث؟! فقال له :زفر يا ابن عباس من أول من أعال الفرائض ؟ قال : عمر بن الخطاب ، قال : ولم ؟ قال : لما تدافعت عليه وركب بعضها بعضاً قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم والله ما أدري أيكم قدّم الله وأيكم أخر ، قال : وما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص، ثم قال ابن عباس: وايم الله لو قدّم

ص: 202


1- البقرة : 233
2- الدر المنثور ج 6 : 40
3- انظر سنن البيهقي - مطبعة مجلس دائرة المعارف حيدر آباد سنة الطبع 1352 ه- - ج 2 : 332

من قدّم الله و أخر من أخّر الله ما عالت فريضة، فقال له زفر وأيهم قدم وأيهم أخر ؟ فقال: كل فريضة لا تزول إلا إلى فريضة، فتلك التي قدّم الله وتلك فريضة الزوج له نصف، وإن زال فإلى الربع لا ينقص منه، والمرأة لها الربع، فإن زالت عنه صارت إلى الثمن لا تنقص منه، والأخوات لهن الثلثان والواحدة لها النصف، فإن دخل عليهم البنات كان لهن ما بقي، فهؤلاء الذين أخر الله.

فلو أعطى من قدّم الله فريضة كاملة ثم قسمه ما يبقى من أخر الله بالحصص ما عالت فريضة ، فقال له :زفر فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر ؟ فقال : هبته والله».(1)

ويبدو لي أن هذه الهيبة هي التي منعته من الإنكار عليه في كثير من الأحكام التي كانوا يختلفون فيها معه كالمتعتين والطلاق ونظائرها مما كان لمدرسة أهل البيت رأي خاص بها يختلف مع رأي الخليفة اختلافاً كبيرا.. ولعلّنا سنبحثها بحثاً مفصلاً في موضعها من الأحاديث الآتية إن شاء الله.

ومن الحق أن نسارع فنذكر أن مدرسة أهل البيت عليهم السلام في الفقه كانت تختلف عن مدرسة الخليفة في أهم معالمها وهي التعبد بالنصوص الثابتة شرعاً، واعتبار أحكامها دائمة لا تزول إلى يوم القيامة، وإذا قدّر أن تطرأ عليها عناوين ثانوية فتبدل من أحكامها فإن أحكامها الجديدة تبقى ما دام العنوان الثانوي قائماً، فإذا زال عادت إلى أحكامها الأوليّة.

والعقول في نظرهم ليس لها مسرح في عالم النسخ وتبديل الأحكام، وكانت مدرسة الخليفة لا ترى ذلك، وما أكثر ما استحسن أمراً فبدل وغيّر من حكمه الواقعي، وبقي الحكم الجديد ثابتاً، وما قوله - فيما يحدث صاحبنا وقد سمعه منه: «والله إني لأنهاكم

ص: 203


1- سنن البيهقي ج 6: 253

عن المتعة، وإنها لفي كتاب الله، ولقد فعلها رسول الله يعني العمرة في الحج»(1)- إلاّ نموذج لذلك.

وسنری بعد حين - كيف كان ابن عباس يقول - بغضب - عندما يفتي بالفتيا موافقة للكتاب والسنة - فيقول له القائل : نهى أبو بكر وعمر عنها - : «أراهم سيهلكون، أقول : قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم، ويقول : نهى أبو بكر وعمر».(2)

ولعلّ سر الهيبة كان يعود إلى أن الخليفة نفسه كان لا يرضى له الحديث ابتداءً ، وربّما زبره إذا سارع من دون أن يطلب منه ذلك، يقول صاحبنا : «قدم على عمر رجل فسأله عن الناس فقال : قرأ منهم القرآن كذا وكذا، فقال ابن عباس : ما أحبّ أن يسأل عن آي ،القرآن قال فزبرني ،عمر ، فانطلقت إلى منزلي فقلت : ما أراني إلا قد سقطت من نفسه فبينما أنا كذلك إذ جاءني رجل فقال : أجب.. فأخذ بيدي ثم خلا بي فقال: ما كرهت مما قال الرجل، فقلت يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فأستغفر الله، قال: لتحدّثني، قلت: إنهم متى ما تنازعوا اختلفوا، ومتى اختلفوا اقتتلوا قال الله أبوك لقد كنت أكتمها الناس».(3)

ولهذا وأمثاله كان لا يتسرع في الإجابة، وعلى الأخص إذا كان بمحضر من شيوخ المهاجرين والأنصار.(4)

ص: 204


1- سنن النسائي - شرح السيوطي، تصحيح حسن محمد المسعودي، المطبعة المصرية، مصر ج 5: 153
2- مسند أحمد ج 1 : 337
3- الإصابة في تمييز الصحابة ج 2 : 332
4- انظر البداية والنهاية ج 8: 299
(4)

وبالطبع كان هو يدرك أن تكريم الخليفة له ودعوته من هؤلاء من كبار الصحابة - وهو لا يرتفع بسنّه إلى أسنان أبنائهم - لا يهون عليهم بحال، وبخاصة وهم يسمعونه يقول له إذا عرض في الأمر معهم: «غص غواص»(1)، ويقول له وهو يجلس معهم: «نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس»(2)، ويقول له إذا رآه مقبلا: «جاء فتى الكهول وذو اللسان السؤول والقلب العقول»(3).. إلى ما هنالك من ألقاب التشريف التي كان يخصه بها من بين أبنائهم.

وكان يرى ويسمع عنهم ما يشير إلى تأثرهم واستيائهم، ففي حديث لعبد الرحمن بن عوف - كما حدّث هو - أنه قال لعمر: أتسأله ولنا أبناء مثله ؟ قال : فقال عمر: إنه من حيث علمتم ».(4)

وفي حديث آخر عنه بهذا المضمون: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم : لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ قال: إنه ممن علمتم.

قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني - وما دعاني إلا ليريهم مني – فقال: ما تقولون في «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ...»(5) إلى أن ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نستغفر ونتحمد إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم : لا ندري ولم يقل بعضهم شيئاً .

ص: 205


1- البيان والتبيين ج 1: 263
2- البداية والنهاية ج 8: 299
3- البداية والنهاية ج 8: 299
4- ذخائر العقبى ،228، وانظر المعرفة والتأريخ - تحقيق أكرم ضياء العمري، مطبعة الإرشاد، : ،بغداد سنة الطبع 1394ه- ج 1 : 515
5- النصر: 1-3

فقال لي: يا ابن عباس أكذلك تقول ؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: أجل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أعلمه الله له إذا جاء نصر الله وفتح مكة فذلك علامة أجلك «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً» .

فقال عمر : ما أعلم فيها إلّا ما يعلم هذا».(1)

ومهما يكن حظ هذا التأويل من الصحة، فإنه يدلّ - إذا صح عنه – على بصر مبكر بعلم التأويل.

وكان يراعي لذلك شعورهم، فلا يتسرع بالإجابة، بل لا يجيب قبل أن يُسأل تأدباً مع من يكبرونه بالسن، ويسبقونه بالجهاد والصحبة، وعن عمر أنه قال يوماً لأصحاب النبي: «فيم نزلت هذه الآية«أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ»(2) فسأل الحاضرين فيم نزلت؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس في نفسي شيء منها يا أمير المؤمنين، قال: ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس : ضُربت مثلاً لعمل قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لعمل ، رجل عمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى غرق عمله».(3)

فهو - كما ترون - لا يتسرع في هذا الحديث احتراماً لمن يكبرونه بالسن، والخليفة يحسّ ذلك فيقول له: «يا ابن أخي قل ولا تحقّر نفسك» وفي حديث آخر قال له: «قل

ص: 206


1- ذخائر العقبى : 228 ، وانظر المعرفة والتأريخ ج 1 : 515 - 516
2- البقرة: 266
3- ذخائر العقبى : 229

ولا تمنعك الحداثة».(1)

والخليفة نفسه كان يراعي شعورهم فينهى صاحبه الشاب عن الحديث إذا دعي

معهم، ولكن أمر نهيه لم يطل ، فقد وجد في هذا الشاب ما يملأ نفسه سرعة بديهة وحسن إجابة، فأذن له أن يتكلم إذا دعي متی شاء.

يقول ابن عباس في حديث صحيح - كما يقول الحاكم النيسابوري -: «كان عمر بن الخطاب إذا دعا الأشياخ من أصحاب محمد صلى الله عليه و آله وسلم دعاني معهم، فدعانا ذات يوم أو ذات ليلة فقال : إن رسول الله قال في ليلة القدر ما قد علمتم ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، ففي أيّ الوتر ترونها ؟ فقال بعضهم : تاسعة، وقال بعضهم: سابعة وخامسة وثالثة، فقال: مالك يا ابن عباس لا تتكلّم؟ قلت: إن شئت تكلّمت، قال: ما دعوتك إلا لتتكلّم فقال: أقول برأيي، فقال: عن رأيك أسألك، فقلت إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن الله تبارك وتعالى أكثر ذكر السبع فقال السموات سبع والأرضون سبع، وقال ث«ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا»«فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا»«وَعِنَبًا وَقَضْبًا»«وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا»«وَحَدَائِقَ غُلْبًا»«وَفَاكِهَةً وَأَبًّا»(2) ، - إلى أن قال - فقال عمر: أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي لم تستو بعد شؤون رأسه ؟! ثم قال: إني كنت نهيتك أن تتكلّم، فإذا دعوتك معهم فتكلّم».(3)

وهذه الالتفاتة - إذا صحّت عنه - وإن لم تصلح لإثبات شيء، فالواقع في عالمه محفوظ وافقته السبعات هذه او خالفته .

وكثرة ذكر الأمور السباعية لا يوجب أن تكون جميع المغفلات من الذكر من قبيل

ص: 207


1- انظر حلية الأولياء ج 1 : 317
2- عبس: 26 - 31
3- المستدرك على الصحيحين ج: 539

السباعيّات، والأخذ بالأمور الاستحسانية ليس من مذهبه فيما رأينا، والتكلّف عليها ظاهر.

ولكنها على أي حال تدلّ إذا صحّت - كما قلت - على براعة صاحبها، وحسبها أن تأخذ من ألباب الحاضرين مأخذها وتستحق لهم كل هذا التأنيب من الخليفة: «أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام» ، وتطلق لصاحبها سراح الحديث إذا دعي مع هؤلاء.

والغريب من شأن بعض الروايات الناقلة لها بالمعنى أنها زادت في عدد السبعات حتى بلغت بها اثنتي عشرة سبعة .

وما أدري متى سمع الحطيئة - وهو الذي لم يرض عن أحد، ولم يترك حتى أبويه من الهجاء - صاحبنا يتكلّم في مجلس عمر بن الخطاب فأعجبه، وقال فيه ما قال من .الشعر. يقول أبو عمرو بن العلاء: «نظر الحطيئة إلى ابن عباس في مجلس عمر بن الخطاب غالباً عليه فقال : من هذا الذي برع الناس بعلمه ونزل عنهم بسنه؟ قالوا: عبد الله بن عباس، فقال فيه أبياتاً منها ..

إني وجدت بيان المرء نافلة***تُهدى له ووجدت العيّ كالصمم

والمرء يفنى ويبقى سائر الكلم***وقد يُلام الفتى يوماً ولم يلم».(1)

(5)

وعلى ذكر الحطيئة وشعره لابن عباس في مجلس الخليفة، نذكر ان الخليفة كان من هواة الشعر ومتذوّقيه والداعين له، وقد قال مرّة: «أيها الناس عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ ، قال : شعر الجاهليّة فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم» .(2)

ص: 208


1- الاستيعاب ج 2 : 354
2- تفسير الكشاف - دار الكتاب العربي، بيروت سنة الطبع 1366 ه- ج 2 : 608 - 609

وله فيه من الكلمات الدقيقة ما يدلّ على ذوق فني رفيع، وكان ميل صاحبنا إلى الشعر ايضاً لا يقل عن ميل صاحبه، يقول عبد الله (خرجت مع عمر في بعض أسفاره فإنا لنسير ليلة وقد دنوت منه إذ ضرب مقدم رحله بسوطه وقال:

كذبتم وبيت الله يقتل أحمد***ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرّع حوله***ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ثم قال: أستغفر الله ثم سار فلم يتكلّم إلا قليلاً ثم قال:

وما حملت من ناقة فوق رحلها***أبرّ وأوفى ذمة من محمد

وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله***وأغطى لرأس السابق المتجرد

ثم قال : أستغفر الله».(1)

ويبدو أن تداعي المعاني كان كثيراً ما يُحضر في ذهن الخليفة أمر الخلافة وصاحبها، فمحمد صلی الله علیه و آله وسلم هنا يحضر في ذهنه علياً علیه السلام، ويطفر الذهن إلى عدم خروجه معهم فيسائل صاحبنا عن الأسباب يقول: «يا ابن عباس ما منع علياً من الخروج معنا؟ قلت: لا أدري».

ويطفر ذهنه إلى الخلافة على ذكر علي علیه السلام فتساءل : يا ابن عباس أبوك عم رسول الله وأنت ابن عمه فما منع قومكم منكم ؟ قلت: لا أدري، قال: لكنّي أدري، يكرهون ولا يتكم لهم، قلت: لِمَ؟ ونحن لهم كالخير، قال: اللهم غفراً.. يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة فيكون بجحاً بجحاً، لعلكم تقولون إن أبا بكر فعل ذلك، لا والله ولكن أبا بكر أتى أحزم ما حضره ولو جعلها لكم ما نفعكم مع قربكم.

ص: 209


1- تأريخ الطبري ج 5 : 30-31

أنشدني لشاعر الشعراء زهير قوله:

إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية***من المجد من يسبق إليها يُسِّود

فأنشدتّه.. وطلع الفجر، فقال: إقرأ الواقعة فقرأتها، ثم نزل فصلّى وقرأ بالواقعة ... ».(1)

فهذه الرواية تدلّ على مدى اهتمامه بالشعر وحفظه له وإنشاده وطلب سماعه، ثم إعطاء رأي فيه وفي بعض اقطابه، وإن لم تعلّله، فزهير هنا شاعر الشعراء، أمّا لماذا كان شاعر الشعراء في رأيه؟

فذلك ما تُحدّث به رواية الأغاني يقول: «قال ابن عباس: خرجت مع عمر في أول غزوة غزاها فقال لي ذات ليلة يا ابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء، قلت: ومن هو ؟ :قال ابن أبي سلمى ، قلت : وبِمَ صار كذلك؟

قال: لأنه لا يتبع حوشي الكلام ، ولا يعاظل من المنطق ولا يقول إلّا ما يعرف، ولا يمتدح الرجل إلا بما يكون فيه، أليس الذي يقول:

إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية***من المجد من يسبق إليها يسوِّد

سبقت إليها كل طلق مبرّز***سبوقاً إلى الغايات غير مزنَّد

كفعل جواد يسبق الخيل عفوه***فيسرع وإن يجهد وتجهدن يبعد

ولو كان حمد يخلد الناس لم تمت***ولكن حمد الناس ليس بمخلد

أنشدني له فأنشدته له حتى برق الفجر ، فقال : حسبك الان فاقرأ القرآن».(2)

وقد تكون هذه هي الرواية الأولى والواقعة واحدة، وإن اختلف التعبير باختلاف

ص: 210


1- تأريخ الطبري ج 5 : 30-31
2- الأغاني - تصحيح أحمد الشنقيطي، مطبعة التقدم، مصر، لم تذكر سنة الطبع - ج 9: 140

رواتها عنه، ولكنّها بما اشتملت عليه من زيادة - إذا صحّت عنه - تكشف عن بصر الخليفة بأساليب الشعراء، ودقة في الموازنة قد لا نجدها إلا لدى القليل من نقاد ذلك العصر، كما تدلّ على أن ابن عباس كان لا تفوته فرصة دون أن يغنمها في التزوّد من الثقافة، فهو إذا سمعه يطلق لقب شاعر الشعراء على زهير لا يتركه دون أن يستفسر عن أسباب تلقيبه؛ لينتفع بتجاربه في هذا الشأن، ثم هو بعد ذلك ينشده حتى يبرق الفجر، وهذا كما يدلّ على اهتمام الخليفة بالشعر، يدلّ على وفرة في محفوظات صاحبنا الشعرية، وربّما كان لوفرة حفظه هذه ودقة رأيه وعمق ،ثقافته ما استحقه من الخليفة من تلقيبه بأعلم الناس بها.

يقول عبد الله بن عباس : «بينما عمر بن الخطاب وبعض أصحابه يتذاكرون الشعر فقال بعضهم: فلان أشعر، قال: فاقبلت، فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها فقال عمر: من شاعر الشعراء يا ابن عباس؟ قال: فقلت زهير بن أبي سلمى فقال عمر: هلم من شعره ما نستدل به على ما ذكرت فقلت: أمتدح قوماً من بني عبد الله بن غطفان فقال :

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم***قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا

قوم أبوهم سنان حين تنسبهم***طابوا وطاب من الاولاد ما ولدوا

إنس إذا أمنوا، جنّ إذا فزعوا***مرزؤون بهاليل إذا حشدوا

محسّدون على ما كان من نعم***لا الله ينزع منهم ماله حسدوا

فقال عمر: أحسنت، وما أعلم أحداً أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم؛ لفضل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وقرابتهم منه، فقلت:

وُفِّقتَ يا أمير المؤمنين ولم تزل موفقاً».(1)

ص: 211


1- تأريخ الطبري ج 5 : 31

ثم يأتي على حوار دار بينه وبين زميله في شؤون الخلافة وصاحبها، أتينا على ذكر مضمونه في حديث سابق.

وما أدري.. أيهما تأثر صاحبه في تفضيل زهير على بقية الشعراء؟

وهل تكفي هذه الأبيات للتدليل على أنه شاعرهم؟.. الظاهر أن ابن عباس جرى على طريقة النقاد إذ ذاك، فقد كانوا يكتفون للحكم بالتفضيل بذكر بيت أو بيتين من جيّد الشعر فيجعلونها مستنداً لما يأتون به من أحكام.

والأبيات - بعد - من خيرة شعر زهير ، ورأيه في بني هاشم الفضل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وقرابتهم منه، لا بد أن يكون قد بعث النشوة في نفس صاحبنا فدعا له بذلك الدعاء.

(6)

وهذا الرأي في بني هاشم كان مستنداً للخليفة في البدء بهم بالعطاء، يوم أراد أن يوزّع المال الذي تكدّس لديه من كثرة الفتوح، ويدوِّن في ذلك ديواناً يكون المرجع في التوزيع، ونظراً لأهمية هذه المبادرة في تأريخ الإسلام، وتأثيرها الواسع في الفترات التي أعقبتها نعطيها شيئاً من الأهمية في الحديث.

لقد كانت السنة المتبعة في عهد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في توزيع ما يرد على المسلمين من أموال هي المساواة بين المسلمين جميعاً، لا يفرّق بين محدث الإسلام وقديمه، وكثير البلاء في الدفاع عنه وقليله، ثم لا يفرّق بين أبناء قبيلة وقبيلة، بل لا يفرّق بين سيّد ومسود ورئيس ومرؤوس .(1)

ص: 212


1- انظر الأحكام السلطانية - المطبعة المحمدية، مصر، لم تذكر سنة الطبع - : 193

وجاء أبو بكر فسار على سيرة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في المساواة بالعطاء.

وكان من رأي عمر وجماعة من الصحابة أن يقدّم أهل السبق في الإسلام على قدر منازلهم فقال أبو بكر: «أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني وإنما ذلك شيء ثوابه على الله جلّ ثناؤه، وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة».(1)

وجاء عهد عمر واتسع المال في زمنه ، فرأى أن يحقق فكرته فيفاوت بالعطاء، ويعطي الناس على قدر منازلهم في الإسلام، وقربهم من الرسول، فكانت تصنيفته للطبقات على هذه الكيفية، يقول عبد الله - فيما يروى عنه -: «لما أجمع عمر بن الخطاب على تدوين الديوان وذلك في المحرم سنة عشرين، بدأ ببني هاشم في الدعوة ثم الأقرب فالأقرب برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، فكان القوم إذا استووا في القرابة برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قدم أهل السابقة حتى انتهى إلى الأنصار فقالوا: بمن نبدأ ؟ فقال عمر ابدأوا برهط سعد بن معاذ الأشهلي، ثم الأقرب فالأقرب بسعد بن معاذ.

وفرض عمر لأهل الديوان، ففضل أهل السوابق والمشاهد في الفرائض، وكان أبو بكر الصديق قد سوّى بين الناس في القِسَم فقيل لعمر في ذلك فقال: لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه».(2)

ثم تدخل الرواية في تفاصيل القِسَم فمن اثني عشر ألف درهم إلى ثلاثمائة(3)، ويرتفع بعضهم بالتفاوت فيجعل البدء بالعباس بن عبد المطلب، ويجعل له من النصيب خمسة وعشرين ألف درهم(4)، وتهبط بعض الروايات بالحد الأدنى إلى المائتين

ص: 213


1- كتاب الخراج لأبي يوسف - مطبعة السلفية، مصر، ط 2 ، سنة الطبع 1352ه-: 41 - 42
2- طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1 : 213
3- انظر المصدر السابق: 213 - 214
4- انظر تأريخ أبي الفداء ج 1 : 160

كما في أعطية أهل هجر.(1)

وكان رأي الإمام علیه السلام - بالطبع - من رأي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وقد أعلن عنه في منهاجه الذي ألقاه أثناء خُطبته الأولى بعد بيعته العامة، وقد جاء فيه: «ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يرى أن الفضل له على من بصحبته فإن الفضل غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، ألا وأيما رجل استجاب لله ولرسوله، فصدّق ملّتنا ودخل ديننا واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله أحسن الجزاء».(2)

وقد نكون - لو قدّر لنا أن نُخيّر فنختار - في جنب رأي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والفريق المتابع له؛ لا لأن الرأي الثاني يعتبر تشريعاً جديداً وليس من وظيفة العباد أن يشرعوا في قبالة رسول الله، ولا لأنا مكلفون بالتعبد بأقواله وإن لم تبد لنا أوجه الحكمة فيها، فتلك وظيفة الفقهاء، ولسنا منهم في هذا البحث، بل لأنا نرى أن إحداث مثل هذا التفاوت في العطاء مما يزيد في ضخامة رؤوس الأموال بيد طبقة خاصة، ويضاعفها باستثمارها عاماً بعد عام، وبذلك يفقد المجتمع الإسلامي توازنه، ويزيد في نقمة الطبقة الضعيفة على سابقاتها، وبخاصة إذا كان بعضها يرى أنه أحق بهذا المال من غيره؛ لأنه كان هو السبب المباشر في تهيئته وجلبه ، وذلك ببذله أعز ما يملك من تضحيات، بينما تكون هذه الطبقات السابقة عليهم متنعمة في مواضعها، والمال يجبى إليها بحساب وبغير حساب، وهي تعطاه بلا أي جهد أو عمل.. اللهم إلا ما كان لها من تضحيات سابقة في عهد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، أو قرب من نفسه، أو غير ذلك من الاعتبارات التي لا تفهم لغتها أكثرية

ص: 214


1- انظر تأريخ الطبري ج 4 : 163
2- شرح نهج البلاغة ج 2 : 171

الطبقات المنكوبة والضعيفة غالباً.

والغريب أن الخليفة - وقد رأى نتائج توزيعاته الطبقية في أواخر أيام حياته - أعلن عن ندمه على تشريعه بقولته المشهورة: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين».(1)

ولكن - كما يقول سيد قطب - «وا أسفاه.. لقد فات الأوان وسبقت الأيام عمر، ووقعت النتائج المؤلمة التي أودت بالتوازن في المجتمع الإسلامي، كما أدّت فيما بعد إلى الفتنة بما أضيف إليها من تصرف أميّة وإقرار عثمان»(2) ..

وسنرى بأنفسنا فيما بعد نتائج هذا التوزيع.

ومهما يكن.. فقد تم هذا التشريع، وصادف هوى في نفوس أكثر أرباب الحل والعقد، ممن ضوعفت أعطياتهم من المسلمين، وكان له - من صرامة عمر في التنفيذ، وعدم استئثاره بالنصيب الأوفى، ووضعه لنفسه ولقبيلته حيث وضعهما الله كما قال للمدوّنين - أكبر الضمانة لتقبله واستمراره

وكان العباس أكثر المسلمين من الرجال نصيباً من المال، فقد بدأ به الخليفة، واختلفوا بعد ذلك في نصيبه ومقداره، فقائل : إنه خمسة وعشرون ألفاً، وقائل: إنه اثنا عشر ألفاً، وثالث يهبط به إلى خمسة آلاف - كما في رواية ولده السابقة - ورابع إلى سبعة آلاف - كما عرضت له الرواية السالفة أيضاً - والاتفاق الذي نقله ابن الجوزي أنه لم يفرض لأحد أكثر مما فّرض له، وروى أنه فرض له أثنا عشر ألفاً(3) كما روى ذلك أبو

ص: 215


1- تأريخ الطبري ج 5 : 33
2- العدالة الاجتماعية في الإسلام - دار احياء الكتب العربية ، مصر ، ط4 ، سنة الطبع 1373 ه-: 210
3- انظر شرح نهج البلاغة ج 3: 153 نقلا عن ابن الجوزي

يوسف يعقوب بن إبراهيم.(1)

واختلفوا - بعد ذلك - أنه متى كان هذا التشريع فالطبري(2)، وابن الأثير(3)، ومؤرخون آخرون(4)، يعتبرونه في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، ورواية صاحبنا في الطبقات(5)واليعقوبي في تأريخه(6) وغيرهما أيضاً(7) يقولون أنه سنة عشرين.

وإذا صحّت الرواية الأولى واعتبرنا التشريع نافذاً مدة بقاء خلافة عمر، أي: ما يساوي ثمانية سنوات من حياته، وعلمنا أن الأموال لدى الطبقات الأولى كانت مما تفيض عن حاجتها السنوية كثيراً، وبخاصة في البيوت التي كان يدخلها أكثر من نصيب واحد لوفرة أهل السهام فيها، أدركنا مدى تكدس الثروات في أيدي هذه الفئات القليلة جداً بالنسبة إلى غيرها، وسر ندم الخليفة على تشريعه هذا، ومحاولته إن بقي أن يردّهم إلى التشريع الإسلامي، ولعلنا سننتهي إلى أن ندمه هذا وإعلانه عنه سيكون من أسباب التعجيل عليه بالقتل قبل فوات الأوان.

والذي يهمنا التعرّض له من أمر هذا التشريع الآن أنه أدخل بعض اليسر على بيوت الهاشميين، وبخاصة بيت العباس؛ لوفرة نصيبه ونصيب ولده من المال، بعد أن أصابتهم أثارة من عسرة في أيام الخليفة الأول، وشطراً من أيام خلافة الثاني؛ لمنعهم عن

ص: 216


1- انظر كتاب الخراج: 43
2- انظر تأريخ الطبري ج 4 : 162
3- انظر تأريخ ابن الأثير ج 2 : 247
4- انظر تأريخ أبي الفداج 1: 160
5- انظر طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1 : 213
6- انظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 130
7- انظر فتوح البلدان - تعليق ومراجعة رضوان محمد ،رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة الطبع 1398ه-: 426

حقهم في الخمس وفدك - كما مر (1) - .

وقد كان نصيب صاحبنا من المال أربعة آلاف درهم في كل توزيعة كما حددت ذلك بعض الروايات(2)، وربّما كلّفه الخليفة في القيام بالتوزيع على قومه، وإيصال حقهم إليهم من المال كما جاء في بعض الأحاديث.(3)

أما مظاهر الثراء فلم نرها لديهم، والظاهر أن المال كان لا يبقى بأيديهم وكانوا يوصلونه إلى مستحقيه من بقية الطبقات كما يبدو من كثير من الأحاديث.(4)

(7)

والحق أن هذا الرأي للخليفة في بني هاشم وفي زعيميه على الأخصّ علي علیه السلام والعباس، كان يبدو منه كثيراً، ولم يمنعه ما حدث بينهم من فجوات من التصريح بفضلهما، ففي حديث لأبي بكر الأنباري في أماليه :

«إن علياً علیه السلام جلس إلى عمر في المسجد وعنده ناس فلما قام عرّض واحد بذكره ونسبه إلى التيه والعُجب، فقال عمر حق لمثله أن يتيه والله لولا سيفه لما قام عمود الإسلام، وهو بعد أقضى الأمة وذو سابقتها وذو شرفها، فقال له ذلك القائل: فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه ؟! قال : كرهناه على حداثة السن، وحبّه بني عبد المطلب».(5)

ص: 217


1- انظر الصفحات: 166 - 170 من هذا الكتاب
2- انظر تأريخ الطبري ج 4 : 162
3- انظر طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1: 218
4- انظر طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1 : 218 - 219
5- شرح نهج البلاغة ج 3 : 115 نقلا عن ابن الأنباري في أماليه

وفي خروجه إلى الشام لم يمنعه ذلك من تخليفه على المدينة.(1)

وكان يستشيره في تدبير شؤون الخلافة، كاستشارته له في غزو الفرس بنفسه، وإباء الإمام علیه السلام ذلك، وقد أبدى له وجهة نظره بكلام دقيق جداً يدلّ على منتهى العمق في تجاربه في هذه الشأن(2) وكان الإمام علیه السلام لا يضنّ عليه بشيء من الرأي.

والعباس نفسه كان موضعاً لاستشارته، وكان يعرف له جودة رأيه، وربّما استشار ولده فأعجبه الرأي فقال له: «شنشنة أعرفها من أخزم»(3)، يريد عمر - فيما يقول الراوي -: إني أعرف فيك مشابهاً في أبيك في رأيه وعقله».(4)

قال الجاحظ: «ويقال : أنه لم يكن لقريش مثل رأي العباس».(5)

وكان من إكباره له إذا رآه وهو راكب ترجّل له إكباراً لمقامه(6)وإذا ركبا لا يتقدمه بالسير تأدباً معه (7) وكان ذلك لا يمنعه من مداعبته أحياناً، يقول اليعقوبي: «كان العباس يسايره - يعني عمر – وتحت العباس دابة مصعب، فتقدمه عمر، ثم وقف له حتى لحقه، فقال : تقدمتك وما كان لأحد أن يتقدمكم معشر بني هاشم، «ولكنكم قوم فيكم ضعف»، فأجابه العباس: رآنا الله نقوى على النبوة ونضعف عن الخلافة!».(8)

وكادت تقع جفوة بينهما؛ لما أراد عمر أن يوسِّع مسجد رسول الله فيأخذ دار

ص: 218


1- انظر تأريخ الطبري ج 4 : 159
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 2 : 424 - 425
3- البيان والتبيين ج 1 : 263
4- المصدر السابق
5- المصدر السابق
6- انظر ذخائر العقبى: 200
7- انظر المصدر السابق
8- تأريخ اليعقوبي ج 2 : 127

العباس ويلحقها به يقول ابن عباس : كانت للعباس دار إلى جنب المسجد في المدينة،فقال عمر بن الخطاب: بعنيها أو هبها لي حتى أدخلها في المسجد فأبى، فقال: أجعل بيني وبينك رجلاً من أصحاب النبي ، فجعلا بينهما أُبي بن كعب فقضى للعباس على عمر».

وتأثر عمر لهذا الحكم فأعلن عن استيائه من أُبي بقوله: «ما أحد من أصحاب النبي أجرأ عليَّ منك»، فقال أبي بن كعب: «أو أنصح لك مني» ثم أدلى له بمستند حكمه، يقول صاحبنا : «فقال العباس: أليس قد قضيت لي بها وصارت لي؟ قال: بلى، قال: فإني أُشهدك أني قد جعلتها الله عز وجل».(1)

وكأنّه فهم من الخليفة التحدّي بطلبه لها، وأراد أن يقصد في التنازل عنها إلى التقرّب المحض، ولم يرد أن يشيبها بشيء من مجاملة الخليفة، فتنازل عنها بعد أن أخذ الحكم وأيأسه منها.

و كادت تقع فجوة أخرى بينهما بسبب تقطير ميزاب العباس عليه أثناء دخوله المسجد يوم الجمعة(2)، لولا تلافي الخليفة لها بالتنازل له فقد عمد مرة إلى ميزاب داره فقلعه بیده فاستاء العباس وقال له غاضباً: «والذي بعث محمداً بالحق إنه هو الذي وضع الميزاب في هذا المكان ونزعته أنت يا عمر فقال عمر: ضع رجليك على عنقي لتردّه إلى ما كان»(3)، ففعل العباس ذلك ، وكان هذا الخضوع من الخليفة - إن صحت الرواية - بمثابة الترضّي له.

وكان من احترام عمر له أنه استسقى به عام الرمادة - بإجماع المؤرّخين - يوم

ص: 219


1- المعرفة والتاريخ ج 1 : 512
2- انظر المصدر السابق ج 1 : 511
3- المستدرك على الصحيحين ج 3 : 332

أجدبت الأرض ومنعت السماء..

يقول ابن عمر «استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فقال : اللهم هذا عم نبيك العباس، نتوجه إليك به فاسقنا.

فما برحوا حتى سقاهم الله ، قال : فخطب عمر الناس فقال: أيها الناس إن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده يعظمه ويفخّمه ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله عز وجل فيما نزل بكم».(1)

وبالطبع أن هذه الحوادث ونظائرها من الخليفة مع أبيه وبطله الإمام علیه السلام كانت مما تزيد في تقاربهما وتؤكّد من شؤون الزمالة بينهما عادة.

(8)

وأخال أن هذه الزمالة بلغت من القوّة حداً لا تحتاج معه إلى تأكيد، فقد كان الخليفة لا يكاد يفارق صاحبه في سفر ولا حضر، وكان يلقي إليه بذات نفسه، ولا يخفي عليه من أموره المهمة شيئاً .

وعبد الله نفسه كان لا يتوقف عن أن يحدّثه حتى في شؤونه الخاصة، ويستشيره فيها ويأخذ بإشارته، يقول ابن عباس من حديث له: «فركب ومشيت إلى جانبه ولا ثالث لنا، فقلت: يا أمير المؤمنين إني في خطبة فأشر عليّ، قال: ومن خطبت؟ قلت: فلانة ابنة فلان قال : النسب كما تحب وكما قد علمت ، ولكن في أخلاق أهلها دقة لا تعدمك أن تجدها في ولدك قلت: فلا حاجة لي إذاً فيها .. الحديث».(2)

ص: 220


1- المستدرك على الصحيحين ج 3 : 334
2- الموفقيات: 619

ولمّا مرض عبد الله وعاده ،زميله كانت تحيته منه أنه قال له: «أخلّ بنا مرضك، فالله المستعان».(1)

على كثرة اطمئنان الخليفة لصاحبه وحبّه له، لم يكن ليوليه إمارة من إماراته، مع علمه بما يملكه من إمكانيات تؤهله لها ولأكثر منها، وقد يكون ذلك عائداً في دوره إلى عقدة كامنة في أعماقه، وربّما أشارت إلى نفسها في بعض أحاديثه معه، يقول - بعد أن ذكر أنه أرسل عليه فجاءه - إنه قال: «يا ابن عباس إن عامل حمص هلك، وكان من أهل الخير - وأهل الخير قليل - وقد رجوت أن تكون منهم، وفي نفسي منك شيء لم أره منك، وأعياني ذلك، فما رأيك في العمل ؟ قال : لن أعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك، قال: وما تريد إلى ذلك ؟ قال : أريده، فإن كان شيء أخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت، وإن كنت بريئاً من مثله، علمت أني لست من أهله، فقبلت عملك هنالك.

فإني قلّما رأيت شيئاً أو ظننت شيئاً إلا عاينته ، فقال : يا ابن عباس إني خشيت أن يأتي عليّ الذي هو آت وأنت في عملك، فتقول : هلم إلينا ولا هلم إليكم دون غيركم ..».

فالخليفة هنا يخشى أن يستغل ابن عباس المركز الذي يتولى للدعوة إلى هذا البيت دون غيره؛ لما يعلم من انطوائهم على الإيمان بحقهم إلى حد بعيد.

والغريب أن ابن عباس لم ينكر عليه هذا الرأي بهم، ولم يدافع عن نفسه، وربّما رأى أن المسألة أعمق من أن يزيلها عن نفسه دفاع أو إنكار ، أو كان هو ينطوي عليه؛ فلم يرد أن يختاله في النفي بل أجابه بصراحة : «أراني لا أعمل لك قال: ولم؟ قلت: إن عملت لك وفي نفسك ما فيها لم أبرح قذى في عينك» وأقره الخليفة على استعفائه، ثم استشاره

ص: 221


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 123

فيمن يوليه فأشار عليه أن يستعمل : «صحيحاً منك صحيحاً لك».(1)

وتقول بعض الروايات - وربما كان ذلك إن صح على سبيل المداعبة -: «كدت أستعملك، ولكنّي أخشى أن تستحل الفيء على التأويل»(2) مشيراً إلى إصراره على رأيه في الخمس وكونه لبني هاشم بآية:«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(3)، وأن القوم منعوهم منه، كما سبق أن ذكرناه في جوابه للحروري.

والغريب من بعض الروايات - المجهول راويها - أنها تنسب إليه أنه كان على شرطة عمر وكان حاجبه(4) وانفراد هذا الراوي المجهول بها، وعدم اهتمام المؤرّخين بنقلها، وقيام مثل تلكم العقدة في نفس الخليفة، وارتفاع مستوى صاحبنا عن مثلها ..

كل ذلك لا يترك لنا المجال لاعتمادها وإعطائها شيئاً من الأهميّة في الحديث.

وطال أمد الخليفة على قريش، وأصيبوا بشيء من خيبة الأمل، فما كان يقدّر هذا الحزب أن صاحبه سيقف له بالمرصاد، فلا يترك له المجال للضرب في بلاد الله الواسعة، واستغلال نفوذه في إنماء ثروته، وتركيز مقامه في نفوس المسلمين، ثم ما كان يأمل أن يتوسّع في الحجر عليهم، فلا يتركهم يخرجون إلا بإذن وأجل ، فإذا أعلنوا عن شكواهم وبلغه ذلك قال : «ألا وإن قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأما وابن الخطاب حي فلا، إني قائم دون شعب الحرة، آخذ بحلاقيم قريش وحُجَزها

ص: 222


1- مروج الذهب ج 2 : 213
2- العقد الفريد ج 2 : 208
3- الأنفال: 41
4- انظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 137

أن يتهافتوا في النار».(1)

يقول الشعبي: «لم يمت عمر حتى ملّته ،قريش وقد كان حَصَرهم بالمدينة فامتنع عليهم وقال إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد، فإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو، وهو ممن حُبس بالمدينة من المهاجرين ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة - فيقول : قد كان لك في غزوك مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ما يبلغك وخير لك من الغزو اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك».(2)

وبالطبع إن مثل هذا الحجر عليهم، والحدّ مما كانوا يملكونه من حريات واسعة في عهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم وأبي بكر ، بالإضافة إلى ما أصابهم من يسر مادي كان يبحث له عن مجالات لإنماء ما تكدّس منه، وكان يبعث في نفوسهم التطلّع إلى آفاق أوسع.. كل ذلك مما يبعث الملل في نفوسهم، ويفسح أمامها المجال للتفكير بمنفذ للخلاص من هذا العهد.

وكان الملل بطبيعة الحال متبادلاً بين الطرفين فسياسة مثل هؤلاء ومراقبة حركاتهم، والوقوف دون قيامهم بأي نشاط ضدّ الوضع القائم لا يهون بحال.

وقد آلمه جداً وأثاره ما سمعه عن بعضهم من القول بأنه لو مات لبايع فلاناً، يقول ابن عباس: «أخبرني عبد الرحمن بن عوف قال - وكنت في منزله بمنى أنتظره، وهو عند عمر في آخر حجّة حجّها عمر، قال: فرجع عبد الرحمن من عند عمر فوجدني في منزله بمنى أنتظره وكنت أقرئه القرآن - قال ابن عباس فقال لي عبد الرحمن: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: والله لو قدمات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً، والله ما كانت بيعة أبي بكر إلّا فلتة فتمّت

ص: 223


1- تأريخ الطبري ج 5 : 134
2- المصدر السابق

قال: فغضب عمر، فقال: إني إن شاء الله لقائم العشيّة في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم قال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وإني أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير، ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار السنّة، وتخلص بأهل الفقه واشراف الناس، فتقول ما قلت بالمدينة متمكناً، فيعي أهل الفقه مقالتك ويضعوها على مواضعها ، قال فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة».(1)

ثم قدم - فيما يحدّث صاحبنا - وخطب خطبته المعروفة، وقد أتينا على ذكرها في حوادث السقيفة من هذا الكتاب، وحذر فيها الناس من الانصياع إلى الفوضى في انتخاب الخليفة، وقد كان الخليفة يلقي بذات نفسه أمام ابن عباس - كما قدمنا - ويبدي له جزعه وملله وربّما أكثر من تمنّي الموت حتى قال له يوماً: «لقد أكثرت التمنّي للموت، حتى خشيت أن يكون عليك غير سهل عند أوانه .. فماذا سئمت من رعيتك؟ إما أن تعين صالحاً أو تقوم فاسداً» قال: «يا ابن عباس إني قائل قولاً فخذه إليك : كيف لا أحبذ فراقهم وفيهم من هو فاتح فاه للشهوة من الدنيا، أما الحق لا ينويه وأما الباطل لا يناله، والله لولا أن أسأل عنكم لبرئت منكم، فأصبحت الأرض مني بلاقع، ولم أقل ما فعل فلان وفلان».(2)

وكان مما يضاعف ملله أنه يرى بعينيه ما أحدثه تشريعه السابق من مفارقات تبتعد بروحها عن روح الإسلام، ولا يملك إلى تغييرها سبيلاً، فليس من السهل على من

ص: 224


1- سيرة ابن هشام ج 4 : 336 - 337
2- شرح نهج البلاغة ج 3: 105

حدث في أعماقه الشعور بالطبقية، وتغلغل كنتيجة حتمية للتفاوت الماديّ، أن تعيده إلى حضيرة الشعور بالمساواة والجماعيّة التي كانت سائدة قبل حدوث هذا التشريع، يقول ابن عباس: «إن عمر قال لناس من قريش: بلغني أنكم تتخذون مجالس لا يجلس اثنان معاً؛ حتى يقال من صحابة فلان من جلساء فلان حتى تحوميت المجالس، وايم الله إن هذا السريع في دينكم سريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم، ولكأنّي بمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسّموا الإسلام أقساماً، أفيضوا مجالسكم بينكم، وتجالسوا معاً، فإنه أدوم لإلفتكم وأهيب لكم في الناس اللهم ملوني ومللتهم، وأحسست من نفسي وأحسوا مني، ولا أدري بأينا يكون الكون، وقد أعلم أن لهم قبيلاً منهم فاقبضني إليك».(1)

وهذا النص التأريخي القيّم له أهميته الواسعة في تصوير المشكلة وتطوّرها، فقد أصبح التكتل الطبقي بارزاً، وأصبحت الطبقة الدنيا تتحامى حتى الجلوس مع سابقتها؛ لما ترى فيها من ترفع وامتياز، وهو يخشى أن ينسب إليه فيما بعد أسباب هذا التفاوت..

«لكأنّي بمن يأتي بعدكم يقول هذا رأي فلان»، ومثل هذا الوضع لا يعالج بالوعظ عادة، ما دامت مشكلته كامنة في الاعماق، فلو قيل لهؤلاء ألف مرة أفيضوا مجالسكم بينكم لما أفاضوا إليها وهم يشعرون بهذا الامتياز.

والذي أخاله: أنه وضع يده على مفتاح المشكلة حين قال قولته المشهورة: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين»(2)، ولكن بعد فوات الأوان، وربّما كان هذا القول من عوامل يقظتهم؛ لتوقع نتائجه لو قدر له أن يعمل على تنفيذه، فكان من أسباب ب عملهم الجاهد لإيقافه

ص: 225


1- تأريخ الطبري ج 5 : 25
2- المصدر السابق ج 5: 33

عنه ولو من طريق القضاء عليه احتفاظاً باليسر المادي والشعور بالامتياز.

وبالطبع كان هذا الوضع باعثاً له على الملل وعلى أكثر من الملل، فالذي يبدو: أنه كان شاعراً بالمؤامرة ضده وكان يقظاً لإحباطها، فهو يقول: «اللّهم ملّوني ومللتهم، وأحسست من نفسي وأحسّوا مني، ولا أدري بأينا يكون الكون وقد أعلم أن لهم قبيلاً منهم فاقبضني إليك».

تأمّلوا.. «ولا أدري بأينا يكون الكون».. فهي تلقي بعض الأضواء على ما قلناه.

ولسنا بحاجة لأن تؤكّد أن مثل هذا الوضع المتأزّم كان من دوافع تفكير الخليفة بالمرشح للخلافة من بعده، وما كان ليخفى على صاحبنا هذا التفكير، وهو أعرف الناس بصاحبه وأوصلهم إلى دخائل نفسه، يقول عبد الله: «طرقني عمر بن الخطاب بعد هدأة من الليل فقال: أخرج بنا نحرس نواحي المدينة، فخرج وعلى عنقه درته حافياً، حتى أتى بقيع الغرقد فاستلقى على ظهره، وجعل يضرب أخمص قدميه بيده وتأوّه صعداء، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما أخرجك إلى هذا الأمر؟ قال: أمر الله يا ابن عباس قال قلت إن شئت أخبرتك بما في نفسك، قال: غص يا غواص إن كنت لتقول فتحسن قال: قلت ذكرت هذا الأمر بعينه وإلى من تصيّره، قال: صدقت، قال: فقلت: أين أنت من عبد الرحمن بن عوف؟ فقال: ذلك رجل ممسك، وهذا الأمر لا يصلح إلا لمعط في غیر سرف، ومانع في غير إقتار ، قال : قلت : سعد بن أبي وقاص، قال: مؤمن ضعيف، قال فقلت : طلحة بن عبيد الله قال : ذاك رجل يناول للشرف والمديح، يعطي ماله حتى يصل إلى مال غيره، وفيه بأو ،وكبر ، قال : فقلت فالزبير بن العوام فهو فارس الإسلام قال : ذاك يوماً إنسان ويوماً شيطان، وعقه لقس(1) إن كان ليكادح على المكيلة من بكرة

ص: 226


1- وعقة بفتح الواو وسكون العين المهملة : الذي يضجر ويتبرم واللقس بفتح اللام وكسر القاف: السيء الخلق انظر المادتين في النهاية لابن الأثير - المطبعة العثمانية، مصر، سنة الطبع 1311ه -

إلى الظهر حتى تفوته الصلاة، قال: فقلت : عثمان بن عفان قال : إن ولّي حمل بنى أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس، وأعطاهم مال الله ولئن ولّي ليفعلن، والله لئن فعل لتسيرنّ العرب إليه حتى تقتله في بيته، ثم سكت.

قال ثم قال: أمضها يا ابن عباس أترى صاحبكم لها موضعاً؟ قال فقلت: وأين يبتعد من ذلك ؟! مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه :قال هو والله كما ذكرت ولو وَليهم لحمهم على منهج الطريق، فأخذ المحجّة الواضحة إلّا أن فيه خصالاً ... الدعابة في المجلس، واستبداد الرأي والتبكيت للناس مع حداثة السّن».

ولم يكن ابن عباس - وهو أعلم الناس بخلق ابن عمه وبطله - ليهمه أن يردّ على الخليفة ما نسبه إليه من خصال، وينقضها واحدة واحدة، وكلما أهمه أن يبعد عنه معرّة أسطورة السن، وهي التي أبعد بها عن الحكم قديماً، ويبدو أنها ما تزال تلاحقه حتى الآن، وربما اتخذت ذريعة لإبعاده عنه من جديد، فقال: «يا أمير المؤمنين هلا استحدثتم سنّه يوم الخندق إذ خرج عمرو بن عبد ود، وقد كعم عنه الأبطال وتأخرت عنه الأشياخ ، ويوم بدر إذ كان يقط الأقران قطاً، وهلا سبقتموه بالإسلام، فقال: إليك يا ابن عباس أتريد أن تفعل بي كما فعل أبوك وعلي بأبي بكر يوم دخلا عليه»، وربّما كان ذلك في إحدى مجادلاتهم معه ولم ينقلها إلينا التأريخ، يقول ابن عباس: «فكرهت أن اغضبه فسکت فقال: والله يا ابن عباس إن علياً - ابن عمك - لأحق الناس بها، ولكن قريشاً لا تحتمله، ولئن وليهم لأخذهم بمرّ الحق لا يجدون عنده رخصته، ولئن فعل لينكثن بيعته ثم ليحاربن».(1)

وهذا المضمون في تقييمه لكفاءة الإمام علیه السلام في الحكم ورأيه في المرشحين الأخر،

ص: 227


1- تأريخ اليعقوبي ج 2 : 136 - 137

يكاد يكون متواتراً عنه، وإن نقل بشيء من الزيادة والنقيصة على اختلاف الناقلين.

وأخال أن رأي عمر بالإمام علیه السلام طرق أسماع القرشيين، وربّما تحدّث الخليفة به أمام بعضهم، فكان من عوامل يقظتهم ضدّه أيضاً، فقريش كما يقول: لا تحتمله لأنها لا تريد مر الحق، ولأن لها من الترات وغيرها - مما تحدثنا عنه سابقاً - ما يوقفها عن قبول خلافته، وما دام الخليفة يرى فيه هذا الرأي فما أوشكه أن يجعل ذلك ذريعة إلى النص عليه، وبخاصة وقد عرف رأيه ببقية المرشحين من أسياد هذا الحزب، على أنا لا نحتاج إلى تأكيد هذا الاحتمال إلى خصوص هذا الحديث، فما أكثر الأحاديث الكاشفة عن مثل هذا الرأي في الإمام علیه السلام وقد سبق الكثير منها في حنايا ما سبق من أحاديث.

(10)

وكان ما توقّعه عمر ووقع الكون عليه، فطعن بيد أبي لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وما أدري.. أكان من الصدف البحتة أن يكون المغيرة - داهية الحزب هو الوسيط لإدخال هذا العلج إلى المدينة، في حين قد سبق من الخليفة المنع عن دخول أمثاله إليها(1)؟ .

وهل يكفي ما ذكره من الأسباب لأن يقدم هذا الغلام على هذه الفعلة؟..

وهل يستطيع الإقدام على مثله من دون أن يشعر بأن له ركيزة يعتمد عليها لنحاته ؟ .. أمّا أنا فأشك أن يكون قد جرى ذلك كله بهذه السهولة.

وأخال أن مؤامرة حيكت له في الخفاء كان بطلها المغيرة ومن يعمل لهم من أقطاب

ص: 228


1- انظر مروج الذهب ج 2 : 212 ، وانظر طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1: 253

الحزب، وقد اتخذوا لها هذا العلج ذريعة لتنفيذها ومنوّه بالأماني، فلما وقع في الشرك وتدافع الناس عليه ندم فنحر نفسه، وأضاع على الرأي العام خيوط المؤامرة.

وأخال أيضاً أن كعب الأحبار اليهودي الداهية كان على علم بأطرافها، وربّما كان طرفاً فيها، فقد حدّثوا أنه جاء إلى عمر قبل مقتله بثلاثة أيام فقال له: «يا أمير المؤمنين إعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال: وما يدريك ؟ قال أجده في كتاب الله عز وجل التوراة، قال عمر : إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا ولكن أجد صفتك وحليتك وإنه قد فني أجلك قال: وعمر لا يحس وجعاً ولا ألما، فلما كان من الغد جاءه كعب فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يوم وبقي يومان، قال: ثم جاءه من غد الغد فقال : ذهب يومان وبقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها، قال: فلما كان الصبح خرج عمر إلى الصلاة، قال: ودخل أبو لؤلؤة في الناس، في يده خنجر له رأسان، نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات ...»(1)، ولم يعد إلى البيت إلا محمولًا.

وبالطبع ما كان كعب ليعلم من التوراة غير ما يعلمه الأحبار ، وما كانت التوراة لتحدد أعمار الناس بهذه الدقة وكل ما هنالك أنهم أرادوا أن يشغلوا الخليفة بالتفكير بما ينتظره من مصير من كعب، وكأنه شيء طبيعي محدّد أمره من السماء، وكان موضع غرابة الخليفة أنه لا يشكو ألماً ولا وجعاً وقد كان هذا بمنزلة المخدر له عن التفكير بما يحاك له في الخفاء مما سبق أن أحس به إحساساً غامضاً، وأعلنه أمام ابن عباس في حديثه - كما مر - وكانوا على ثقة من أن هذا القلق لا يبلغ به درجة الإيمان بنتائجه، وكان عمر أعمق من أن يعهد ويرقب آثار الموت الخارجية لمجرّد قولة كعب، وإن كان لها مفعولها

الطبيعي في إحداث قلقه النفسي وانشغاله بالتكفير بها عن أي شيء آخر.

وكان الخليفة فيما يبدو لا يكاد يصدق أن هذه الحادثة جرت بهذه السهولة، فهو لا

ص: 229


1- تأريخ الطبري ج 5 : 12

يفتأ يسأل الداخلين عليه من القوم : «أعن ملأ منكم هذا؟» ، وهو يبعث بصاحبنا - ابن عباس - ليسألهم بهذا السؤال، يقول ابن قتيبة : ثم دعا عبد الله بن عباس وكان يحبه ويدنيه ويسمع منه، فقال له: يا ابن عباس إني لأظن أن لي ذنباً، ولكن أحب أن تعلم لي أعن ملأ منهم كان هذا؟ فخرج ابن عباس فجعل لا يرى ملأ من الناس إلّا وهم يبكون .. الحديث»(1)

وبالطبع إن خطوط المؤامرة كانت أخفى من أن يعلم بها الرأي العام، وإذا كان هناك تدبير – وصح الفرض – فهو لا يتجاوز الآحاد من رؤساء الحزب القرشي، وغاية ما يدلّ عليه هذا التساؤل المتكرر من الخليفة وزميله هو إعلان تشكيكهم ببساطة الحادثة، وأخال أن لو قدر له أن ينجو منها لكشف - بما له من حزم - عن كل ما يتعلق بها من خطوط.

ومهما يكن فقد أوقفوه أمام أمر واقع ، وبدأ يفكر تفكيراً جدياً فيمن يخلفه على الحكم، وقد وقع - فيما أخال - تحت وطأة من صراع نفسي قوي، فهو يفكر أن مصلحة المسلمين تقتضيه أن يولّي عليهم الإمام علیه السلام ليحملهم على المحجة البيضاء، ويرى أن قريشاً لا تحتمله؛ لأنها لا تريد مر الحق وتريد أن يقدم مرشحها الأول عثمان، أو غير علي علیه السلام على أقل تقدير، ويراها مع ذلك مخطئة، فعثمان لو ولّي عليهم - وهو أعرف بنفسيته - لحمل عليهم بني أمية، وهم أبعد ما يكونون عن روح الإسلام، وربّما ثار به المسلمون فقتلوه، وماله لا يتركهم لأنفسهم يختارون من يشاؤون، ولكن كيف يتركهم وهذا ولده عبد الله يقول له : «زعموا أنك غير مستخلف، وأنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيّع فرعاية الناس أشد».(2)

ص: 230


1- الإمامة والسياسة : 21
2- صحیح مسلم ج 6 : 5

وكادت تطغى عليه رعاية المصلحة الإسلامية على رعاية عواطف قريش فيجزم بتوليتهم علياً وقال لهم في ذلك - بعد أن عاودوه بالحديث عن العهد -: «قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن انظر فأولى رجلاً أمركم ، هو أحراكم أن يحملكم على الحق واشار إلى علي».(1)

ولكنه عاد تحت وطأة الصراع فترك ذلك لرؤيا رآها ، وفسرها بأنه سيموت ولا يريد أن يتحملها حياً وميتاً، وانتهى أخيراً إلى حل وهو أن يحمّل مسؤوليتها ستة من رؤساء سائر المسلمين على اختلاف نزعاتهم، وهم علي وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، وهم يختارون بينهم من يختارون، وأبلغهم هذا القرار وخرجوا.

فكان من رأي العباس أن لا يدخل معهم علي علیه السلام فقال له الإمام: أكره الخلاف وأجابه العباس محذراً: إذن ترى ما تكره (2)

وعادوا في اليوم الثاني فعاودته فكرة أن يخصها من بينهم لعثمان، ولعله أراد بموافقة حزبه أن يلمسهم خطأ رأيهم في إصرارهم على مرشحهم عثمان، أو أنه أراد أن ينتقم لنفسه من قريش التي سئمت حكمه وملّته ليريهم الفرق بين العهدين، وكان تعيينه من طريق عبد الرحمن بن عوف، فقد جعل له رجحان الرأي إذا تساوت الكفتان وإنه ليعلم أن عبد الرحمن لا يعدل بها عن عثمان.

ولم يكن هذا الأمر ليخفى على صاحبنا - الغواص - وهو أوصل لأعماق صاحبه من أي أحد، فقال لما قال عمر - فيما يروي القطب الراوندي - : كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها فقال ابن عباس لعلي : «ذهب الأمر مِنّا الرجل يريد أن يكون الأمر

ص: 231


1- تأريخ الطبري ج 5 : 34
2- انظر تأريخ الطبري ج 5 : 34-35

العثمان».(1)

وأثار ذلك استياء الإمام علیه السلام، وإن لم يواجه به عمر، مراعاة لتردّي حالته الصحية قال سهل بن سعد الانصاري: مشيت وراء علي بن أبي طالب حيث انصرف من عند عمر، والعباس بن عبد المطلب يمشي في جانبه ، فسمعته يقول للعباس: ذهبت منا والله فقال كيف علمت؟ قال:

ألا تسمعه يقول: كونوا في الجانب الذي فيه عبد الرحمن، لأنه ابن عمه، وعبد الرحمن نظير عثمان وهو صهره، فإذا اجتمع هؤلاء فلو أن الرجلين الباقيين كانا معي لم يغنيا عني شيئاً، مع أني لست أرجو إلّا أحدهما، ومع ذلك فقد أحب عمر أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلاً علينا.

لعمر الله ما جعل الله ذلك لهم علينا، كما لم يجعله لأولاهم على أولادنا، أما والله لئن عمر لم يمت لأذكرته ما أتى إلينا قديماً، ولأعلمته سوء رأيه فينا وما أتى إلينا حديثاً، ولئن مات - وليموتن - ليجتمعن هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنّا، ولئن فعلوها - وليفعلن - ليروني حيث يكرهون، والله ما بي رغبة في السلطان ولا حب الدنيا، ولكن لإظهار العدل والقيام بالكتاب والسنّة»، يقول سهل: «ثم التفت فرآني وراءه، فعرفت أنه قد ساءه ذلك فقلت: لا ترع أبا الحسن لا والله لا يستمع أحد الذي سمعت منك في الدنيا ما اصطحبنا فيها، فوالله ما سمعه مني مخلوق حتى قبض الله علياً إلى رحمته».(2)

والغريب أن الخليفة دعاهم فدخلوا عليه وهو ملقى على فراشه يجود بنفسه، فنظر

ص: 232


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 63 نقلا عن القطب الراوندي
2- شرح نهج البلاغة ج 2 409 - 410 . نقلا عن السقيفة للجوهري، وانظر أنساب الأشراف - باعتناء S.D.F. GOLTEIN، سنة الطبع 1936م - ج 5 : 19 . وانظر تأريخ الطبري ج 5 : 35

إليهم فقال: «أكلكم يطمع في الخلافة بعدي؟ فوجموا، فقال لهم ثانيةً، فأجابه الزبير وقال: ما الذي يبعدنا منها؟ ولّيتها أنت فقمت بها، ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة..

فقال عمر: أفلا أخبركم عن أنفسكم قالوا: قل فإنّا لو استعفيناك لم تعفنا»، ثم أنحى عليهم بذكر عيوبهم ونقائصهم حتى بلغ إلى الإمام علیه السلام فقال: « لله أنت لولا دعابة فيك أما والله لئن وليتهم لتحملتهم على الحق الواضح، والمحجة البيضاء، ثم أقبل على عثمان فقال : (هي ها) إليك، كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك، فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذوبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً، والله لئن فعلوا لتفعلن ولئن فعلت ليفعلن ثم أخذ بناصيته فقال : فإذا كان ذلك فاذكروا قولي فإنه كائن».(1)

وهذا الحديث يدل على مدى ثورته النفسية، وتأثره من هؤلاء أو بعضهم على الأقل، وربّما دل على اتهامه الباطني لهم بالمؤامرة عليه لأجل الحكم، وفي تأكيده على إعلان فراسته لعثمان وتذكيره بقوله هذا، مع تعيينه من طريق عبد الرحمن ما يشير إلى ما ذكرناه من أهدافه في هذا التعيين.

وهذا الحديث - فيما يذكر ابن أبي الحديد - يرويه أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية، ويذكره غيره في باب فراسة عمر(2) وهو متواتر المضمون في سائر الكتب التأريخية، ويروي أبو عثمان عقيب هذا الخبر عن صاحبنا أنه سمع عمر بن الخطاب يقول لأهل الشورى: «إنكم إن تعاونتم وتوازرتم وتناصحتم أكلتموها وأولادكم، وإن تحاسدتم وتقاعدتم وتدابرتم وتباغضتم غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي

ص: 233


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 62
2- انظر المصدر السابق

سفيان».(1)

وإذا صح هذا كله وهو صحيح في خطوطه الأولى وربّما تُزيد في بعضه - كما تقتضي أمثال هذه الأحاديث عادة - فلم يكن ذلك من الخليفة من باب الإخبار بالمغيبات، وإنما كان من باب فهمه لنفسيّة أصحابه وبصره بالعقول الجماعية للجماهير المعاصرة له.

وفي رواية ابن قتيبة أنه أمر أهل الشورى بإحضار ولده عبد الله مشيراً، وليس له في الأمر شيء وقال لهم أيضاً : «وأحضروا معكم الحسن بن علي وعبد الله بن عباس فإن لهما قرابة، وأرجو لكم البركة في حضورهما وليس لهما من أمركم شيء».(2)

وتوفي عمر أخيراً ولم يفارقه صاحبه حتى الممات، وقد سراه قبل الموت بكلمات طيبة فيما يروي المؤرخون، وحده فأبدع بحده عندما سئل عنه بعد وفاته فأجاب: «كان كالطير الحذر الذي يرى أن له بكل طريق شركاً يأخذه».(3)

هي من أبدع ما قرأت دقة تصوير الحزمه ويقظته وقلقه من شعبه، مع وجازه في أدائها .

وأخيراً فقد وقع في الشرك الذي كان يحذره، وانطوت بموته صفحة من تأريخ الإسلام مستقلة بخطوطها، وفتحت صفحة جديدة تختلف عنها في أهم ما لها من عناصر .

وقبل أن نودع هذا العهد نود أن نلخص لأنفسنا ما أفاده ابن عباس منه، وما أدخل عليه من تجارب جديدة.

ص: 234


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 62
2- الإمامة والسياسة ج 1: 23
3- تأريخ الخلفاء: 121

وأول ما نلاحظه أنه قوّى علائقه ببطله الإمام علیه السلام، بما تبنى من أفكاره العقيدية التي كان يدافع عنها كلما فسح له المجال - وما أكثر ما فسح له في هذا العهد - وبالطبع فإن المرء إذا تبنى شيئاً ودافع عنه ازداد فناؤه فيه.

ويأتي بعد ذلك ما كسبه من قوة جدلية خلقها مرانه الكثير لهذا الفن، واهتمام الخليفة به ودعوته مع كبار الصحابة - مع صغر سنّه - كان لها التأثير الواسع في إنماء شخصيته وشعوره بذاتيته، وقد كان نهي الخليفة له أحياناً عن المسارعة في الكلام وما وعاه من تجارب سابقة في فوائد التواضع بمثابة نقطة الانطلاق إلى الإحالة بينه وبين طغيان الشعور بالذات، وتحوّله إلى ضرب من الأنانية الواسعة.

واحتياج الخليفة إليه في الفقه، وتمكينه من الفتيا في عهده، وأخذه القرآن عنه، من بواعث زيادة إقباله على تثقيف نفسه؛ لسد هذه الحاجات إليه احتفاظاً بمركزه لدى الخليفة، ومشاورته في الشؤون العامة وكثرة صحبته له واطلاعه على دقائق السياسة الداخلية والخارجية .. كل ذلك مما أزاد خبرته - عادة - في شؤون الحكم.

وأخال أنه بمفارقته لهذا العهد فارق أوسع المجالات وأهمها في إبراز مواهبه وإنماء رصيده من التجارب العلمية والأدبية والاجتماعية، وإن كان قد أصبح له من قوة الشخصية وتكاملها ما يرفعه إلى مصاف الكبار من أعيان ذلك العصر وعلمائه على صغره في السن.

ص: 235

ص: 236

مجلس الشورى

ومن الحق - ونحن نستقبل مع صاحبنا عهداً جديداً عليه إلى حد ما – أن نصحبه إلى مجلس الشورى، لنلمس مدى صدق فراسته السابقة، فقد دعي المجلس - بعد دفن الخليفة - للاجتماع، ودعي - فيما يرويه ابن قتيبة - هو والحسن وابن عمر الشهوده، وإن لم يعط لهم شيء من الصلاحيات – كما أوصى بذلك الخليفة -

وبالطبع إنهم شاهدوا -أول ما شاهدوا قوة الصراع بين المرشحين، وإن شئت أن تقول بين علي علیه السلام وعثمان، فما كان يطمع الزبير أن يكون له شيء مع الإمام علیه السلام وطلحة لم يكن فيما تقول بعض الروايات - حاضراً في المجلس(1)، وتقول بعضها كان حاضراً(2)، وكان لا يرى لنفسه شيئاً مع عثمان واندكت شخصية سعد بشخصية عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن كان لا يريدها لنفسه، فانحصر الترشيح إذاً بين هذين الشخصين، وكان لكل منهما حزبه القوي خارج المجلس يؤيده ويرشّحه.

أمّا علي علیه السلام فكان زعيماً لحزب كبير تمثل في بني هاشم وفي حزب الأنصار، فقد انضم إليه أكثر أفراده بعد فشله السابق في قضية تعيين مرشحه للخلافة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وانضم إليه أكثر الطبقات الضعيفة من موالين وغيرهم.

وكان عثمان زعيماً لحزب قريش، وكانت الطبقة الأرستقراطية المترفة منهم تؤيده جميعاً، وتعمل على فوزه بالمنصب بأي ثمن كان.

ص: 237


1- انظر تأريخ الطبري ج 5 : 34
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 1: 63

فكان علي علیه السلام وجماعته يتكلمون باسم الإسلام، وكان جماعة عثمان يتكلمون باسم قريش وتأمير قريش لأنفسها.

وسنرى - فيما يدور بين الحزبين من حديث - مدى تفاوت الذهنية التي واجه بها كل منهما قضية الخلافة وشؤون الحكم.

وكاد ينتهي الاجتماع عن شيء لولا أن يقول عبد الرحمن بن عوف - فيما يروي الشعبي - : «من رجل منكم يخرج نفسه عن هذا الأمر ، ويختار لهذه الأمة رجلاً منكم، فإني طيّبة نفسي أن أخرج منها وأختار لكم قالوا: رضينا إلّا علي بن أبي طالب فإنه اتهم».(1)

وقد عرفنا سر اتهامه من رأيه السابق في عهد عبد الرحمن هذا.

وتَدَخلَتْ القوة في الموضوع فقال أبو طلحة - كان على رأس الشرطة الذين وكَّلَهُم عمر في مراقبة مجلس الشورى، وأمره بقتل من يخالف عبد الرحمن إذا تساوت الكفّتان : «يا أبا الحسن إرض برأي عبد الرحمن كان الأمر لك أو لغيرك»، وكان لا بد له بعد ذلك أن يرضى، فقال لعبد الرحمن : «أعطني يا عبد الرحمن موثقاً من الله لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى، ولا تمل إلى صهر ولا ذي قرابة ولا تعمل إلا لله، ولا تألو هذه الأمة ان تختار خيرها .. قال فحلف له عبد الرحمن...».

وخرج يشاور ثلاثة أيام وكانت اجتماعات منفردة مع كل من علي علیه السلام وعثمان، ولم يعط رأيه إلّا بعد نهاية الثلاثة وبعد أن أمسك بيده زمام الموقف.

يقول الشعبي - وحديثه هذا من أدق الأحاديث وأوفاها تصويراً للقصة وعرضاً لمختلف الآراء الحزبية وغيرها - : «واجتمع الناس وكثروا على الباب لا يشكّون أنه

ص: 238


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 410

يبايع علي بن أبي طالب، وكان هوى قريش كافة - ما عدا بني هاشم - في عثمان، وهوى طائفة من الأنصار مع علي، وهوى طائفة أخرى مع عثمان وهي أقل الطائفتين، و لا يبالون أيهما بويع، قال: فأقبل المقداد بن عمرو والناس مجتمعون، فقال: أيها الناس اسمعوا ما أقول: أنا المقداد بن عمرو إنكم إن بايعتم علياً سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم عثمان سمعنا وعصينا، فقام عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي فنادى: أيها الناس إن بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا ، وإن بايعتم علياً سمعنا وعصينا، فقال له المقداد: يا عدو الله وعدو رسوله وعدو كتابه، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون ! فقال له عبد الله : يا ابن الحليف العسيف، ومتى مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش، فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيها الملأ إن أردتم أن لا تختلف قريش فيما بينها فبايعوا عثمان، فقال عمار بن ياسر : إن أردتم أن لا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا علياً، ثم أقبل على عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال يا فاسق يا ابن الفاسق أأنت من يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في أمورهم، وارتفعت الأصوات ونادى مناد - ولا يدرى من هو، فقريش تزعم أنه رجل من مخزوم، والأنصار تزعم أنه رجل طوّال آدم مشرف على الناس لا يعرفه أحد منهم - : يا عبد الله أفرغ من أمرك وامض على ما في نفسك فإنه الصواب».(1)

وهذه المحاورة تمثل لك الذهنيّة العامة لكل من الحزبين، فحزب قريش وأبطاله أمثال هذين المتكلمين باسمه - كانوا يرون أن الأمر لا يعدو أن يكون أمراً قبلياً يخص طائفة من الناس، ترى أن الحق لها في التحكم برقاب الناس كيف تشاء، فالأمر أمر قريش وكل حديث من غيرهم باطل.

وحزب علي علیه السلام وأبطاله - أمثال عمار والمقداد وغيرهم - يرى أن القضية قضية عامة فهي للمسلمين لا لقريش وما قريش بها إلّا كسائر الناس:

ص: 239


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 410

وقام عبد الرحمن فأقبل على علي علیه السلام - فيما يقول الشعبي - فقال: «عليك عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق، إن بايعتك لتعملنّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر».(1)

وكان هذا القيد الأخير هو الشرك الذي نصبه عبد الرحمن لعلي علیه السلام عبد الرحمن - فيما أعتقد - كان من أعرف الناس بخلق الإمام علیه السلام وصلابته، وكان يعرف أنه لا يعدل بكتاب الله وسنّة نبيه ثم باجتهاد رأيه في التطبيق شيئاً مهما كان، وهو يُعمل رأيه في الكثير مما انفردت به سيرتهما عن الكتاب والسنّة ومدى اختلافه معه فيهما، وبخاصة في الأمور التي شرعها الخليفة الثاني باجتهاده، رغم وجود نصوصها التشريعية كتوزيعه السابق للمال مثلاً، وهو ما يهم أرستقراطيي قريش، وغيرهم من المسلمين ممن أثراهم هذا التوزيع بالدرجة الأولى ، وكان الإمام يأباه أشد الإباء - كما عرفنا ذلك منه فيما بعد لمنافاته لذوقه الخاص فضلاً عن النصوص الواردة «والله لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف والمال مال الله».

وقد ضرب الإمام علیه السلام أعلى الأمثال في احترام حرفية ما يعطيه من عهد والتقيد بمدلوله، واعتباره عقداً اجتماعياً بينه وبين رعيته، لا يصح أن يخرج عليه بحال، لذلك أقدم على التضحية بأعظم منصب كان يستطيع أن يظفر به لو كان من الوصوليين الذين يبررون الوسائط - مهما كانت دنيئة - في سبيل البلوغ إلى غاياتهم، فردّ عليه وهو يعلم ما يدخل عليه هذا الردّ من حرمان بقوله: «طاقتي ومبلغ علمي وجهد رأي» والناس يسمعون.

فأقبل على عثمان فقال له مثل ذلك فقال: «نعم لا أزول عنه ولا أدع شيئاً منه، ثم أقبل على علي فقال له ذلك ثلاث مرات ولعثمان ثلاث مرات، في كل ذلك يجيب علي

ص: 240


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 410

على مثل ما كان أجاب به ويجيب عثمان بمثل ما أجاب به، فقال: أبسط يدك يا عثمان فبسط يده فبايعه، وقام القوم وخرجوا وقد بايعوا إلّا علي بن أبي طالب فإنه لم يبايع».(1)

وأنفض الاجتماع وخرج عثمان على الناس - فيما يقول الشعبي - ووجهه متهلّل، وخرج علي - وخرج بالطبع معه صاحبنا وولده الحسن وقد شهدا فصول المأساة كلها – وهو يقول لابن عوف: «ليس هذا بأول يوم تظاهرتم علينا من دفعنا عن حقنا والاستئثار علينا .. الحديث».(2)

وأخالكم تودون بعد هذا معرفة رأي المغيرة بن شعبة مولى أبي لؤلؤة – قاتل عمر - في هذه البيعة، إنه أقبل على عثمان فقال له: «أما والله لو بويع غيرك لما بايعناه».(3)

وكان من الطبيعي أن يجتمع بنو أمية على مرشحهم بعد فوزه، كما يجتمع الهاشميون على الإمام علیه السلام للتداول في نتائج هذه الانتخابات، وسارع الخليفة الجديد إلى بيته قبل أن يواجه المسلمين ويصعد المنبر ، واجتمعت عليه أسرته - فيما يحدّث الشعبي -: «حتى امتلات بهم الدار ثم أغلقوها عليهم، فقال أبو سفيان بن حرب أعندكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا، قال يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة».(4)

وكان جوابه من الخليفة أنه نهره وأمر بإخراجه ولم يصنع شيئاً آخر، مع أنه أفصح عن ارتداد بهذه اللغة البذيئة وحكم المرتد في الإسلام معروف.

وأمّا الهاشميون فقد اجتمعوا على الإمام علیه السلام - وكان ابن عباس في الطليعة بطبيعة

ص: 241


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 410
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق
4- شرح نهج البلاغة ج 2 : ج 411

الحال - فأعلن الإمام علیه السلام عن استيائه لهذه المقابلة الصريحة على إقصائهم عن حقهم فقال: «يا بني عبد المطلب إن قومكم عادوكم بعد وفاة النبي كعداوتهم للنبي في حياته، وإن يطع قومكم لا تؤمروا أبداً، ووالله لا ينيب هؤلاء إلى الحق إلّا بالسيف».

وتشاء الصدفة أن يدخل عبد الله بن عمر ويسمع هذا الكلام فيقول له: «يا أبا الحسن أتريد أن تضرب بعضهم ببعض ؟ فقال : اسكت ويحك، فوالله لولا أبوك وما ركب مني قديماً وحديثاً ما نازعني ابن عفان ولا ابن عوف».(1)

وجاء المقداد بن عمرو في اليوم الثاني إلى الإمام علیه السلام وصادف في الطريق عبد الرحمن بن عوف ووضع يده في يده فقال له: «إن كنت أردت بما صنعت وجه الله فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة، وإن كنت إنما أردت الدنيا فأكثر الله مالك، فقال عبد الرحمن: إسمع رحمك الله إسمع قال : لا أسمع والله، وجذب يديه من يده».(2)

و دخل على الإمام علیه السلام فاستحثه على جهاد القوم. ودخل جندب بن عبد الله بعد أن سمع حديثاً بين المقداد وعبد الرحمن قال فيه عبد الرحمن: «أما والله لقد أجهدت نفسي لكم»، وأجابه المقداد: «أما والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون، أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد».(3)

ونقله إلى الإمام ثم استحثه على مجاهدتهم، فكان الإمام يصبّره ولا يجيبه إلى ذلك.

ووقف عمار في قريش في ذلك اليوم وهو ينادي: (يا معشر قريش إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم تحولونه ههنا مرّة وههنا مرّة، ما أنا آمن أن ينزعه الله

ص: 242


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : ج 411
2- المصدر السابق
3- شرح نهج البلاغة ج 2 : 412

منكم ويضعه في غيركم، كما نزعتموه عن أهله ووضعتموه في غير أهله، فقال له هشام بن الوليد بن المغيرة: «يا ابن سميّة لقد عدوت طورك وما عرفت قدرك، ما أنت وما رأت قريش لأنفسها، إنك لست في شيء من أمرها وإمارتها، فتنح عنها، وتكلمت قريش بأجمعها فصاحت بعمار وانتهرته».(1)

وبهذا الحديث انتهت صفحة من التأريخ وابتدأت صفحة جديدة، وعلى رأسها عثمان بن عفان.. فلنفتش عن معالم ابن عباس فيها ولنقرأها في ضوء حديثه وانطباعاته عنها، ثم لنلمس حياته في غضونها ومدى ما كان له من نشاط.

ص: 243


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : ج 412

ص: 244

مع الخليفة الثالث

(1)

وسار الخليفة الجديد في بدايته سيراً مجيباً إلى الناس فيه يسر وفيه دعة وفيه رفاهية، فقد ازداد في أعطيات المسلمين مائة مائة.(1)

وإذا كانت الطبقة الأرستقراطيّة لا ترحّب كثيراً بهذه المائة لكثرة المئات لديها، فإن الرأي العام المسلم كان يراها كثيرة عليه، وجامل الطبقة الأرستقراطية فأطلق لها من الحريات ما عقله الخليفة السابق، وتركها تسيح في بلاد الله الواسعة، لا يصدّها عن التعرف على الناس في هذه المناطق النائية شدة عمر ، ولا تمنعها صرامته عن الإتجار وإنما ثرواتهم المكدّسة بما فتحت لهم من أسواق جديدة، إنماء مشروعاً أو غير مشروع.

والغريب أن المسلمين لم ينكروا على خليفتهم الجديد ما أزاده من العطاء وما فسح لهم من حريات، مع أن ذلك مخالف لشرط عبد الرحمن الأخير، فعمر لا يزيد بسيرته العطاء من بيت المال لا لسبب ظاهر إلّا تحبيب نفسه إلى الرأي العام، وعمر كان لا يسمح لقريش أن تضرب في بلاد الله الواسعة.

والظاهر أنهم اعتبروا هذا الشرط نافذ المفعول ما دام يدخل عليهم من الرغبات ما يشبع نفوسهم، أمّا إذا خالف رغباتهم فهم لا يرون لأنفسهم بداً من التسامح فيه،

ص: 245


1- انظر تأريخ الطبري ج 5 : 45

يقول الطبري: «لم يمت عمر حتى ملّته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة.. إلى أن يقول: فلما ولي عثمان خلّى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس فكان أحب إليهم من عمر».(1)

وأخال أن هيأة المعارضة كانت منحصرة إذ ذاك بالحزب الهاشمي وعلى رأسهم الإمام علیه السلام والعباس وصاحبنا، وكانت خطتهم فيها ما أعلن عنه الإمام علیه السلام في حديث الشورى: «والله لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عليَّ خاصة .. »(2)وأمور المسلمين في هذا التصرف - فيما كان يبدو - سالمة، فالمائة المائة التي وزعها عليهم كانت من حقوقهم المدخرة، وليس على الإسلام من البأس أن يعجل المسلمون بأخذ بعض حقوقهم من بيت المال، وقد سبق للإمام علیه السلام لحين استشاره عمر في تدوين الديوان أنه قال: «تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من مال ولا تمسك منه شيئاً».(3)

وكأنّه لاحظ أن توزيع المال بوقته وإيصاله إلى أهله يكون اقرب لإبعاد السلطة الحاكمة عن التهمة من قبل شعوبها، وأكد في إحداث الالفة بينها، وأسلم لها من خطر التجاوز على ما في بيت المال لأتفه الأسباب.

وخالفه عثمان في ذلك، وأخذ عمر برأي ،عثمان وكان بعض المفارقات التي سنعرض لها من نتائج هذا الرأي، وعلى هذا فالإمام - ومعه صاحبنا بالطبع -كان لا يرى بأساً في إيصال هذه المائة إليهم لأنها من حقوقهم الخاصة وقد أخرت عنهم والتعجيل بها خير من التأخير.

ص: 246


1- تأريخ الطبري ج 5 : 134
2- شرح نهج البلاغة ج 2 : 60 - 61
3- طبقات ابن سعد ج 3 قسم 2 : 312

وحبس قريش لم يكن من رأي الإمام علیه السلام، فالإنسان حر في تصرفاته وليس لأحد أن يحد من هذه الحرية ما دام صاحبها لا يستعملها للإضرار بالآخرين، فإذا استعملها ساغ للسلطان أن يحافظ على حرية الآخرين منها ، أما أن يعجل السلطان من الحدّ منها، فيكون من قبيل تعجيل العقوبة قبل الذنب، وكان يكفي للخليفة أن يعمل حزمه ويقظته بإرسال ضربته في وقتها المناسب، لا أن يعجل بها قبل الوقت، وفي فتحنا على أنفسنا هذا الباب تشريع للقضاء على الحريات من الاساس، ووضع سلاح بيد السلطة لا يقاوم في تنفيذ هذا التشريع، فالإمام علیه السلام - كما سنرى من سيرته وموقفه من بعض الصحابة في أيام خلافته - كان لا يتفق مع الخليفة الثاني في هذا الرأي، وربّما كان لذلك وشبهه إباؤه على عبد الرحمن - كما قدمنا - قبول اشتراطه لسيرة الشيخين في ضمن عقد البيعة، فليس إذاً على الإمام علیه السلام وصاحبه من البأس إذا لم ينكروا عليه هاتين المخالفتين؛ لأنهما لا يعترفان ابتداءً بهذا الشرط.

وإذا كنّا ننعى على الخليفة شيئاً فهو إطلاق سراحهم بدون مراقبة دقيقة لما يصدر عنهم من مفارقات، وسنرى – بعد حين – مدى تأثيرها على الإسلام ثم عليه أيضاً، وربّما يقال مثل هذا في بعض ما ورد عنه من مخالفات السيرة صاحبيه، مما لم ينكر الإمام علیه السلام أو صاحبنا عليه شيئاً منه.

وكان أول إنكار للإمام علیه السلام عليه في ترك إقامته حدود الله تعالى على عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان(1)، وهو رجل مؤمن لم تقم عليه أية بينة في المشاركة بقتل الخليفة، بل لم يحاكم إلى أحد من المسلمين ليسمع منه، وكانت هذه الجرأة من هذا الشاب مثاراً لنقمة واستياء كثير من المسلمين، ولم يجد الإمام علیه السلام فيها سلامة لأموره، لتعطيلها حداً من حدود الإسلام، فأنكرها طبقاً لمنهجه الخاص له بالمعارضة.

ص: 247


1- انظر الرياض النضرة ج 2 : 186

ثم سارت الأمور سيراً هادئاً خلال سنوات قد يرتفع بها بعضهم إلى ست سنوات، ولم تبخل المعارضة بمد يد العون إلى السلطة ما رأت ضرورة ذلك، حتى أن صاحبنا انتظم في جيش تحت قيادة عبيد الله بن أبي سرح لغزو أفريقية، ويقال: إنه لقي هناك جرجيراً ملك الغرب فتحدث إليه وأعجب بحديثه فأرسل فيه قوله: «ما ينبغي إلّا أن تكون حبر العرب».(1)

وشارك - فيما يقال - في غزو «طبرستان وجرجان»(2)وكان في أثناء ذلك لا يترك رسالته في نشر أحاديث النبي صلی الله علیه و آله وسلم يقول ابن ربيع : «دخل مصر في خلافة عثمان، وشهد فتح المغرب ولأهل مصر عنه أحاديث».(3)

وقد استغل هو وأستاذه الإمام علیه السلام فرصة ابتعادهم عن الحكم والانشغال بشؤون السياسة، فاتجهوا إلى تغذية الحركة العلمية وتوجيهها .

يقول السيد أمير علي - وهو يتحدث عن هذا العهد -: «وفيما كان الإسلام ينتشر وتخفق رايته على ربوع تلك الأمصار ، كان علي بن أبي طالب يصرف جهوده في المدينة، لتوجيه نشاط العنصر العربي الناشئ إلى الناحية العلمية فشرع مع ابن ابن عمه عبد الله بن العباس في إلقاء محاضرات أسبوعية في المسجد الجامع في الفلسفة والمنطق والحديث والبلاغة والفقه».(4)

وأخال أنه يريد بالفلسفة والمنطق غير مدلوليهما المصطلح بشكله الواسع لدى

ص: 248


1- الموفقيات: 120
2- تأريخ الطبري ج 5: 58
3- حسن المحاضرة للسيوطي - مطبعة الموسوعات، مصر، لم تذكر سنة الطبع - ج 2 : 97
4- مختصر تأريخ العرب والتمدن الإسلامي - نقله إلى العربية رياض رأفت، مطبعة لجنة التأليف، مصر، سنة الطبع 1937م : 43

العلماء، وإلا فما عهدنا في ذلك العصر لهذين العلمين أثراً يذكر، والظاهر أنهما دخلا إلى الإسلام من اليونان بعد هذا العصر بكثير ، وإن كان لبعض المسائل الفلسفية الإلهية خلاصة وافية في الكتاب العزيز ونهج الإمام مصبوبة بقوالب عربية خالصة لا تمت إلى النهج اليوناني بأيّة صلة.

والبلاغة كعلم من العلوم لم تؤسس في اللغة العربية إلّا بعد عصور، وإن كانت في موادها الخام قديمة قدم البلاغة العربية.

وما عدا ذلك فقد كانت مدرستهما عامرة بالحديث والفقه كما ذكر أمير علي .

وقد جلّى صاحبنا واشتهر ببعض العلوم كالتفسير ، حتى لفت إليه أنظار كبار العلماء في هذا العهد، وقد قال عنه ابن مسعود «ولنعم ترجمان القرآن ابن عباس» و«لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا رجل».(1)

وكان في هذا الحزب - مع تجميده لنشاطه السياسي ومع اتجاهه العلمي - لا يألو جهده من إسداء النصيحة للخليفة الجديد ما سمع منه.. ولم يمنعه ما حدث بينهم وبينه من مباعدة من أن يبادروا إليه كلما احتاج إليهم لأخذ الرأي.

هذا العباس - والد صاحبنا وزعيم الحزب بعد الإمام علیه السلام - يرسل عليه عثمان بعدما بويع بالخلافة فيدعوه إليه ثم يقول له: «لم أكن قط أحوج إليك مني اليوم» فيقول له العباس - وكأنه أدرك حاجته إلى نصيحته «إلزم خمساً لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها، قال: وما هن؟ قال: الصبر عن القتل والتحبّب، والصفح، والمداراة، وكتمان السر».(2)

ص: 249


1- كتاب المعرفة التأريخ ج 1 : 495
2- تأريخ الطبري ج 5 : 136

وحفظ له الخليفة - فيما يبدو - هذه اليد وجزاها، حين سمع يوماً رجلاً يستخف بالعباس في منازعة، فأساءه ذلك وضربه الخليفة، فسئل عن أسباب ضربه فقال: «نعم، أيفخّم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عمه، وأرخص في الاستخفاف به، لقد خالف رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم من فعل ذلك، ومن رضي به منه».(1)

(2)

وكانت هذه السنوات الست التي مضت على المسلمين، وعلى الطبقة الأرستقراطية منهم على الأخصّ - وقد طاف منهم من طاف في البلدان، وتعرف على مختلف العناصر المسلمة - كافية لأن تخلق للخليفة أحزاباً جديدة معارضة تطمع في الحكم، وترجو لأنفسها أن تصل إليه ولو بأي ثمن ، وكان لترشيح عمر لبعضهم وإدخاله في الشورى ركيزة مهمة يعتمدونها لبلوغ هذ الهدف ولجمع الأنصار حولهم من مختلف البلدان، فأصبحنا نسمع مثلاً لطلحة جماعة يلتفون حوله، وللزبير جماعة يرجونها له.

وقد أدرك فيما بعد معاوية سر تكوّن هذه الأحزاب فقال - وقد سأل ابن حصين ما الذي شتت أمر المسلمين فأجابه بما لا يرضيه - فقال معاوية: «أنا أخبرك، لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم إلّا الشورى التي جعلها عمر على ستة نفر..».

إلى أن يقول: «فلم يكن رجل منهم إلّا رجاها لنفسه ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف».(2)

ص: 250


1- تأريخ الطبري ج 5 : 136
2- العقد الفريد ج 2: 182

على أن أمر هؤلاء كان هيناً لو أن الخليفة كان بمنجى عما يؤاخذ به مثله كإمام للمسلمين. وقد صدق بعد مدة قليلة من الزمن ظن عمر فيه، فحمل بني أمية وآل أبي معيط على رقاب الناس وولاهم جملة ما لديه من ولايات مهمة، فمعاوية للشام وولاياتها كحمص وفلسطين والأردن والوليد بن عقبة ثم سعيد بن العاص للكوفة وعبد الله بن أبي سرح لمصر وملحقاتها، وعبد الله بن عامر بن كريز للبصرة(1)... وهكذا.

وكان كل واحد من هؤلاء - بما له من بعد عن فهم روح الإسلام وجرأة على أحكامه - كافياً لأن يفسد قلوب من حواليه من المسلمين، اللهم إلّا معاوية، فإنه تمكّن من خلال إقامته بالشام والياً من قبل عمر ثم من قبل عثمان – أن يركز نفسه بإنشاء جيل لا يعترف لغير الحكم الأموي، ولا يعرف من السابقين غير من يذكرهم واليه وأن الشام – منذ فتح في أيام أبي بكر – لم يشهد من الولاة غير يزيد بن أبي سفيان ثم أخيه معاوية واستمر عليها إلى هذا العهد.

وقد أفصح معاوية عن لون تربيته لهذا الجيل في كلامه مع رؤساء الأحزاب الإسلامية يوم جاء إلى المدينة، يقول ابن قتيبة بعد ذكر حديثه مع بعضهم: «ثم أقبل على عمار بن ياسر ، فقال : يا عمار إن بالشام مائة ألف فارس كل يأخذ العطاء مع مثلهم من أبناءهم وعبدانهم لا يعرفون علياً ولا قرابته ولا عماراً ولا سابقته، ولا الزبير ولا صحابته، ولا طلحة ولا هجرته، ولا يهابون ابن عوف ولا ماله، ولا يتقون سعداً ولا دعوته.. الحديث».(2)

وكانت الشام لذلك مأمناً من الأحداث الطارئة، وقد اتخذها الأمويون بمنزلة

ص: 251


1- انظر تأريخ الطبري ج 5 : 47 ، 48، 54
2- الإمامة والسياسة ج 1 : 27

المنفى لمن يخشون سطوته من زعماء المسلمين، وقد بعد إليها جماعة من زعماء الكوفة(1) كما بعد إليها أبو ذر من المدينة (2) وكان يتخذ معاوية أساليب مغرية لإسكاتهم فإذا أعيوه وخشي من بقائهم على أهل الشام بعّدهم عنه.(3)

وكان وجود هؤلاء الولاة وثقة الخليفة بهم - مع نقمة شعوبهم عليهم لاستهتارهم بمقدراتهم - أول سلاح قوي بيد المعارضة.

شكا أهل الكوفة عاملهم سعيد بن العاص إلى خليفتهم، فلم يحفل بشكواهم مدة من الزمن، واجتمع ولاته من الأمصار فاستشارهم في الأمر، فكان رأي سعيد أن لا يحفل بالشكوى ويعمد إليهم فيجهزهم في البعوث حتى يكون هم أحدهم أن يموت على ظهر دابته يقول الراوي: «فسمع مقالته عمرو بن العاص فخرج إلى المسجد» فإذا بطلحة والزبير وهما من أصحاب الشورى، ومن رؤساء الأحزاب في المدينة، وكان الزبير قد جمع قلوب أهل الكوفة عليه، فقالا له: «إلينا فصار إليهم فقالا: ما وراءك؟ قال: الشر، ما ترك شيئاً من المنكر إلا أتى به وأمر به، وجاء الأشتر فقالا له: إن عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد ردّ عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث وبكذا وبكذا، فقال الأشتر : والله قد كنا نشكو سوء سيرته وما قمنا به خطباء، فكيف وقد قمنا؟! وايم الله على ذلك ، لولا أني أنفدت النفقة وأنضيت الظهر لسبقته إلى الكوفة حتى أمنعه دخولها، فقالا له: فعندنا حاجتك»(4) ثم أقرضاه مائة ألف درهم فقسمها بين اصحابه، وسبق سعيد إلى الكوفة فصدّه عنها ، وهكذا استفاد طلحة والزبير من الموقف وبذلا ما بذلا من الأموال لإقلاق الكوفة عليه.

ص: 252


1- انظر أنساب الأشراف ج 5: 43
2- انظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 138
3- انظر تأريخ الطبري ج 5 : 66
4- مروج الذهب ج 2 : 226

وثاني الأسلحة التي استفاد منها المعارضون خروجه على سيرة النبي صلی الله علیه و آله وسلم والخليفتين في توزيعه للأموال، فقد اختط لنفسه أخيراً منهجاً لا يرتبط بسيرته صلی الله علیه و آله وسلم ، فلم يسوّ بينهم بالعطاء، ولا بسيرة عمر الذي وزع الأموال على أساس السابقة والقرب، وإذا سبق أن رحب الرأي العام المسلم بزيادته في أول خلافته لما دخل عليهم جميعاً من حقوقهم المدخرة فإنهم - بالطبع - لا يرحبون بخطته الجديدة التي تجعل المال كله للخليفة يتصرف به كيفما يشاء.

وقد أفصح عن هذه الخطة في حديثه مع عامل الصدقات بالمدينة، حين دافعه عن تسليم المال إلى الحكم بن أبي العاص، قال: «إنما أنت خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت فقال: كذبت والله ما أنا لك بخازن ولا لأهل بيتك، إنما أنا خازن المسلمين، وجاء بالمفتاح يوم الجمعة وعثمان يخطب فقال: أيها الناس زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازناً للمسلمين ، وهذه مفاتيح بيت مالكم ورمى بها، فأخذها عثمان ودفعها إلى زيد بن ثابت».(1)

وبهذه الذهنية تحدّث سعيد بن العاص حين استقرضه واليها من قبل الخليفة الوليد بن عقبة فأقرضه ولما اقتضها إياه، كتب الوليد في ذلك إلى عثمان، فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود : «إنما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من مال» يقول: «فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال: كنت أظن أني خازن للمسلمين فأما إذا كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك».(2)

وجرياً على نهجه الجديد وزع على طبقة خاصة منهم كميات من المال ما كانوا ليحلمون بها قبل ذلك، فقد أعطى زيد بن ثابت عشرة آلاف دينار، وأعطى أزواج بناته

ص: 253


1- تأريخ اليعقوبي ج 2 : 145 - 146
2- أنساب الاشرف ج 5 : 30-31

الأربع كل واحد منهم مائة ألف دينار، وأعطى عبد الله بن الأرقم ثلاثمائة الف فردّها تورعاً عن قبوله(1).. وغيرها كثير ، وكان لقرباه من ذلك كله نصيبها الأوفر.

فالحكم بن أبي العاص طريد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كان من أنصبته - فيما يحدّث ابن عباس- ثلاثمائة ألف وهي ما جباه من صدقات قضاعة ووهبه إياها جملة، ولولده الحارث جملة ما ورده من إبل الصدقة ثم ثلاثمائة ألف درهم، ولمروان خمس أفريقية أو خمس الخمس، ولعبد الله بن خالد بن أسيد الأموي أربعمائة ألف درهم، ولمن وفدوا عليه معه مائة ألف مائة ألف، ولأزواج بناته الثلاث أو الأربع مائة ألف مائة ألف (2)، وفي رواية اليعقوبي أنه أعطى ابن خالد هذا بعد أن زوجه ابنته ستمائة ألف درهم(3) وكتب إلى عامله على البصرة أن يدفعها إليه من بيت المال، وأعطى أبا سفيان مائتي ألف، وفي يومها - فيما يروي ابن أبي الحديد - «أعطى مروان مائة ألف، فجاءه زيد بن الأرقم صاحب المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى، قال: أتبكي أن وصلت قال : لا ولكن أبكى لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضاً عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيراً عليه، فقال: ألق بالمفاتيح يا ابن الأرقم فإنا سنجد غيرك»، ويقول: «وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة فقسمها كلّها في بني أمية»(4).. إلى ما هنالك من أعطياته الوافر هذا بالإضافة إلى ما وزّع عليهم وأقطع من الأراضي الشاسعة، وما حمى من الحما لإبله وإبل قومه .. إلى غير ذلك من اسباب ثرائهم الواسع.

وقد تضاعفت على عهده - بفضل سياسته المالية ، وما فسح لبعضهم من الاتجار

ص: 254


1- انظر شرح نهج البلاغة ج 1 : 224 ، 235 ، 233
2- انظر أنساب الأشراف جه: 27-28 ، وشرح نهج البلاغة ج 1 : 234
3- انظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 145
4- شرح نهج البلاغة ج 1 : 66

وشراء الأراضي في الأقاليم الإسلامية الأخرى - ثروة جماعة من الرأسماليين في المدينة كالزبير بن العوام وقد قدرت ثروته لدى موته إحدى وخمسين أو اثنتين وخمسين ألف الف(1) وكان غلّة طلحة في العراق في كل يوم ألف وافٍ درهم ودانقين(2)، وقد قدّر إبراهيم بن محمد بن طلحة قيمة ما تركه من العقار والاموال بثلاثين مليون درهم(3)، وقد قال عنه عثمان: «ويلي على ابن الحضرمية - يعني طلحة - أعطيته كذا وكذا أبهاراً ذهباً وهو يروم دمي».(4)

وعبد الرحمن بن عوف كان ما خلّفه من ذهب قطع بالفؤوس حتى ملجت أيدي الرجال منه(5) وكذلك كان ما خلّفه زيد بن ثابت أمين ماله الجديد، فقد ذكروا أنه خلّف الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس أيضاً(6)، عدا متروكاته من الأموال من والضياع.

أما الخليفة نفسه فقد قدّر ابن سعد في الطبقات ما نُهب من مال يوم قتله «بثلاثين ألف الف درهم وخمسمائة ألف درهم، وخمسون ومائة ألف دينار».(7)

هذا عدا ما خلّفه الأمويون الذين أثروا على عهده - بما حصلوا عليه من هبات الخليفة من بيت المال - ثراءهم المعروف.

ولسنا بحاجة - فيما أخال - لأن نؤكد أن تزايد الثروات بيد طبقة خاصة يكون

ص: 255


1- انظر طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1 : 77
2- انظر المصدر السابق ج 3: 157
3- انظر المصدر السابق ج 3 قسم 1 : 157 - 158
4- شرح نهج البلاغة ج 2 : 404
5- انظر طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1 : 96
6- انظر مروج الذهب ج 2 : 223
7- طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1 : 53

ولید سوء التوزيع عادة الذي يُنتج بدوره حتماً طبقة تعاكسها مبالغة في الفقر، فإذا عرفنا أن أكثر هذه الأموال كانت من أنصبة المسلمين جميعاً بمقتضى التشريع الإسلامي الأولي - وأن الخليفة آثر بها هذه الفئات الخاصة - أدركنا مدى نقمتهم جميعاً على هذه التصرفات، وما تنتجه هذه النقمة عادة من عوامل الثورة عليه.

وثالث أسلحة المعارضة هو ما اشترعه لنفسه من بعض الأحكام، كالإتمام بمنى، وقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، والخليفتان، وشطراً من خلافته يقصرون بها، وقد بدا له أن يتم فأتم وأثار استغراب أكثر المسلمين(1)، وكان ذلك من جملة ما طعن عليه.

يقول صاحبنا: «إن أول ما تكلم الناس في عثمان ظاهراً أنه صلى بالناس بمنى في ولايته ركعتين، حتى إذا كانت السنة السادسة أتمها ، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.»(2)

ومن الإنصاف له نقول إنه لم يبتدع سنّة الخروج على الأحكام الأولية الإسلامية بل تأثر بسنّة سابقة في ذلك، وقد سبق أن ذكرنا حديث ابن عباس عنه حين قال: «سمعت عمر يقول : والله إني لأنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله، ولقد فعلها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يعني العمرة في الحج».(3)

وقد علّل ذلك الخليفة عمر بقوله كما في حديث آخر: «قد علمت أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرّسين بهنّ في الآراك، ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم».(4)

ص: 256


1- انظر انساب الأشراف ج 5: 39
2- تاريخ الطبري ج 5 : 56
3- سنن النسائي ج 5: 153
4- صحيح مسلم ج 4 : 46

ولكن الفارق بينهما أن الخليفة السابق كان يحسن اختيار المواقع التي يقدم على وضع تشريعه فيها، فلا يقدم إلا إذا وثق أن لتشريعه صدى استحسان في نفوس أكثر المسلمين.

وقد رأينا مدى إنكارهم سابقاً على النبي صلى الله عليه و آله وسلم في هذه القضية حين صدع بها، فعن عائشة قالت: «قدم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم الأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل وهو غضبان فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال: أو ما شعرت إني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت.. الحديث».(1)

والسر في إنكارهم هو ما حدثنا عنه صاحبنا قال: «كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفر ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الوبر وانسلخ صفر أو قال دخل صفر فقد حلّت العمرة لمن اعتمر، فقدم النبي صلى الله عليه و آله وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم.. الحديث».(2)

فهذا التشريع - كما ترى - يتنافى مع ما قر في أعماقهم من رواسب تعتبرها في عرفهم من أفجر الفجور، وهذا هو السر في عدم إنكارهم على الخليفة تشريعه له، اللهم إلّا ما كان من أهل البيت عليهم السلام.

وما يقال في هذا يقال في أكثر تشريعاته الأخرى.

أمّا عثمان فما كان في تشريعه ما يستوجب الترحيب - وما يضر المسلم أن يصلي مقصراً ما دام لا يصدم ذلك عاطفة من عواطفه - وعلى العكس فإن ما كوّنه خلال

ص: 257


1- صحيح مسلم ج 4 : 33 - 34
2- سنن النسائي ج 5 : 180 -181

اعتياده لهذا الطقس الديني خلق منه عقيدة يصعب التحلّل من مفعولها.

وتجري تشريعاته الأخرى التي استنكرت عليه كلها على هذا المجرى، وليس فيها ما يتقبله الرأي العام المسلم ليسلم من الإنكار عليه، وما يقال هنا يقال نفسه في تسامحاته في بعض الأحكام، كتغافله عن إقامة بعض الحدود، وجلبه لبعض أقربائه المبعدين من قبل النبي صلى الله عليه و آله وسلم كالحكم بن العاص وولده، ونظائر ذلك مما لا يجد له الصدى الكافي في نفوس أكثرية المسلمين.

ورابع الأسلحة التي صالوا بها عليه موقفه الصارم من المعارضة وفيهم من أعاظم أصحاب النبي صلى الله عليه و آله وسلم أمثال عمار وأبي ذر وابن مسعود وغيرهم، وفيها من كبار زعماء الأمصار أمثال مالك الأشتر وغيره.

واستعمال مختلف الوسائل الإرهابية لإخضاعهم كالتهديد والنفي والضرب والسب والأمر بالقتل وما شابه ذلك من اساليب التخويف، حتى اتسع الخرق عليه، واجتمعت المعارضة - على اختلاف أهدافها وبرامجها - على الوقوف منه موقفها الصارم.

وأخال أن المهم لدينا في هذا البحث - وقد لخصنا الأسس التي كان يستند عليها

المعارضون على اختلاف بواعثهم - أن نعرف مدى نشاط الحزب العلوي في ذلك، وموقف أقطابه من هذه السياسة وبخاصة صاحبنا وأستاذه الإمام علیه السلام.

(3)

وأرجوا أن لا ننسى منهاجهم في المعارضة «الأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين

ص: 258

ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة».

وأمور المسلمين في هذه السياسية التي انتهجها أخيراً غير سالمة؛ لمنافاة أكثرها للكتاب والسنّة، فكان من الطبيعي أن لا يسكت الإمام علیه السلام على هذه الأحداث وأن ينصح للخليفة جهده في أن يكفّ عنها، وكان من الطبيعي أن لا يسكت معه تلميذه وابن عمه، وكان ذلك مما يغيظ عثمان وبطانته أمثال مروان بن الحكم وغيره من الأمويين، وكانت هذه البطانة لا تفتأ عن العمل على توسيع عن العمل على توسيع الشقة بينهما؛ لما تعلم من أن صاحبها إذا سمع لعلي علیه السلام أو استجاب له لم يعد لها إلى العبث بمقدرات المسلمين مجال، فكانوا يغرونه بعلي علیه السلام بأساليب عاطفية تنفذ إلى أعماقه - وهو شيخ كبير - يقول ابن عباس فيما يروي الطبري : «وقد كان والله علي له صاحب صدق حتى أوغر نفس علي عليه جعل مروان وسعيد وذووهما يحملونه على علي فيتحمل ويقولون لو شاء ما كلمك أحد وذلك أن عليا كان يكلمه وينصحه ويغلظ في المنطق في مروان وذويه فيقولون لعثمان هكذا يستقبلك وأنت إمامه وسلفه وابن عمه وابن عمته فما ظنك بما غاب عنك منه»(1) وقد جرّهم هذا الوضع إلى شيء من العتاب كاد ينهيهم إلى خير لولا موقف مروان منه.

يقول ابن عباس فيما يروي الواقدي: شهدت عتاب عثمان لعلي يوماً، فقال له في بعض ما قاله: نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً، فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولست و بدون واحد منهما، وأنا أمس بك رحماً وأقرب إليك صهراً، فإن كنت تزعم أن هذا الأمر جعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) لك، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت، فإن كانا لم يركبا من الأمر جداً، فكيف أذعنت لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة وإن كانا أحسنا فيما وليا - ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي

ص: 259


1- تأريخ الطبري ج 5: 139

وقرابتي - فكن لي كما كنت لهما .

وأخال أن الإمام علیه السلام لم يرتح لعتاب عثمان هذا؛ لتجاهله لحقه في الخلافة بتعبيره عنها بالزعم، ونسبته إليه، فكأن هذا الأمر كان مجهولاً لدى الصحابة جميعاً، ثم ولهذه المقارنة بينه وبين سابقيه، ورجاء أن يسويه بهم لادعائه مساواته في الدين والحسب، ثم هذه الرحم الماسة التي أقحمها في حديثه؛ ليؤثر بها عليه من طرق العاطفة، كل ذلك مما فعله وأثاره للجواب على نقطة نقطة من هذا الحديث.

قال علیه السلام: «أما الفرقة فمعاذ الله أن أفتح لها باباً وأسهل إليها سبيلاً، ولكنّي أنهاك عما ينهاك الله ورسوله عنه وأهديك إلى رشدك، وأما عتيق وابن الخطاب فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون».(1)

وإذا المسألة ليست مسألة زعم ينسب القول به إليه خاصة، وإنما هو أمر معروف يعرفه الخليفة نفسه ويعرفه المسلمون، وكيف يجهلونه وعهدهم بحادثة الغدير ليس ببعيد ؟! ثم عاد وكأنّه يجاريه بمنطقه ويمهد بذلك للإجابة على هذه المقارنة بسابقيه: «ومالي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين، فإما أن لا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع فقد أصاب السهم الثغرة، وإما أن يكون حقي بدونهم فقد تركته لهم، طبت به نفساً ونفضت يدي عنه استصلاحاً» يقول صاحبنا ثم قال: «وأما التسوية بينك وبينهما فلست كأحدهما ، إنهما وليا هذا الأمر فظلما أنفسهما وأهلهما عنه، وعمت فيه وقومك عوم السابح في اللجّة»، ثم رقّ له الإمام علیه السلام ولطف من لهجته في إرشاده فقال: «فارجع إلى الله أبا عمرو، وانظر هل بقي من عمرك إلا كظم الحمار، فحتى متى وإلى

متى لا تنهي . بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم.. والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس، لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك». وكان

ص: 260


1- شرح نهج البلاغة ج: 2 : 397 نقلا عن الواقدي

لهذا الكلام أثره الكبير في نفسه، يقول ابن عباس: «فقال عثمان: لك العتبى، وأفعل وأعزل من عمالي كل من تكرهه ويكرهه المسلمون»، ثم افترقا، فصده مروان بن الحكم عن ذلك وقال: «يجترئ عليك الناس فلا تعزل أحداً منهم».(1)

ويبدو أن ابن عباس كان نشيطاً في حزبه وكان لا يقيم لأوامر الخليفة التي لا تتفق ومبادئه أيما وزن.

غضب عثمان على عبد الرحمن بن عوف حين قال له - وقد رأى منه بعض ما اعتبره من منافيات شروط بيعته التي عقدها له: يا ابن عفان لقد صدّقنا عليك ما كنا نكذب فيك، وإني أستعيذ بالله من بيعتك، فأمر بإخراجه من المجلس ونهى الناس عن مجالسته فامتنعوا إلّا صاحبنا فإنه لم يجد مبرراً لهجره فظل على مواصلته له(2). وقد لاقى عبد الرحمن هذا لائمة المسلمين ومخاصمة حزب صاحبنا على اختياره لصاحبه وحمّل مسؤولية ما قام به من أعمال منافية حتى قال له الإمام علیه السلام يوماً على أثر وفاة أبي ذر بالربذة: «هذا عملك ! فقال عبد الرحمن : إذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي، إنه قد خالف ما أعطاني»(3). وكان عبد الرحمن يقول في مرض موته: «عاجلوه قبل أن يتمادى ملكه» (4)، وتوفي وهو مغاضب له.

وقد اتهم الخليفة صاحبنا بتأليب الناس عليه، يقول البلاذري فيما أخرجه عن عبد الله بن عباس: «إن عثمان شكا علياً إلى العباس فقال له: يا خال إن علياً قد قطع رحمي وألب الناس ابنك، والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تيم

ص: 261


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 397 - 398 نقلا عن الواقدي
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 1 : 66
3- أنساب الأشراف ج 5 : 57
4- المصدر السابق

وعدي، فبنو عبد مناف أحق أن لا تنازعوهم فيه ولا تحسدونهم عليه» يقول صاحبنا: «فأطرق أبي طويلاً ثم قال: يا ابن أخت لئن كنت لا تحمد علياً فما يحمدك له، وإن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يدفع ولا يجحد، فلو رقيت فيما تطأطأ، أو تطأطأت في ما رقى، تقاربتها، وكان ذلك أوصل وأجمل ، قال : قد صيّرت الأمر في ذلك إليك فقرّب الأمر بيننا» تقول الرواية: «فلما خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه»(1). فالخليفة هنا - كما ترون - يتهم صاحبنا بتأليب الناس عليه بقوله: «وألب الناس ابنك» ولا يدفع هو عن نفسه هذه التهمة، وإن كنت أخال أن تأليبه كان لا يتعدى تحسس الشعور والنقد البريء وهي خطة الحزب.

وكانت للخليفة في أعوامه الأولى من الستة الباقية من عمره - وهي التي شغلت حديثنا الآن - من الأحداث ما يتنافى مع مبادئهم المعروفة، فكانوا - كما قلنا - ينكرونها عليه، وكان هو وحزبه الأموي يضيقون بهذا الإنكار.

ومعارضة أبي ذر لسياستهم - وهو من أهم رجالات حزب الإمام علیه السلام، ومن ذوي السابقة والمكانة العالية في الإسلام ، وشهادات النبي صلی الله علیه و آله وسلم له لا يمكن أن يتجاهلها أحد من المسلمين في ذلك العهد - كانت في تلكم الأيام ، وقصته معهم نموذج من أعلى النماذج للنضال العقائدي نسوقها كمثل من الأمثلة على جهاد هذا الحزب في تلكم الأيام..

يقول البلاذري: «لما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، أعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم جعل أبو ذر يقول : بشّر الكانزين بعذاب أليم، ويتلو قول الله عز وجل: «يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ

ص: 262


1- أنساب الأشراف ج 5 : 13 - 14

أَلِيمٍ» (1)، فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه أن انته عما بلغني عنك، فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله، فوالله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أن أسخط الله برضاه». فالمسألة في خطوطها الأولى معارضة هذا الصحابي الجليل تنطوي على إنكار هذا التصرف في مقدرات المسلمين، وادّخار هذه الأموال من قبل ،قابضيها، وهي لا تحل لهم لأنها مما تزيد على حقوقهم في هذا المال، فأخذها لا بد أن يكون أخذاً في غير حله، وتصرفهم فيها تصرف ما لا يملكون، وفي ادّخارها حبس لها عن الوصول إلى مستحقيها من عامة المسلمين، وهذا بالطبع مما يستحق من مثل أبي ذر وحزبه أعظم الإنكار، وما يهمه بعد ذلك أن يغضب عثمان أو لا يغضب، ما دام لا يريد أن يسكت عن كلمة الحق مهما كلّفه ذلك، يقول البلاذري: «وقال عثمان يوماً أيجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضی؟ فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك، فقال أبوذر يا ابن اليهوديين أتعلمنا ديننا، فقال عثمان : ما أكثر اذاك لي وأولعك بأصحابي، إلحق بمكتبك».(2)

أخالكم تذكرون موقف كعب هذا من الخليفة السابق في المؤامرة عليه، ولعلّه يتضح بذلك سر التزام حزب بني أمية له، حتى صيروه من أصحاب الخليفة، يسدد من خطواته، ويفتيه بما أحب، وكيف يخفى مثل ذلك على أبي ذر فيسكت عليه ؟!.. أوليس مال المسلمين موضوعاً لمصالحهم، والخليفة من قبيل القيم عليه؟ فهل يجوز للقيّم أن يتصرف بمال غيره في غير التماس لمصلحة تعود إلى أرباب المال أنفسهم ؟ مع ما في ذلك عادة من تعريضه للخطر، وعهدنا - بقرض الوليد بن عقبة من بيت مال الكوفة، وموقف الخليفة منه - ليس ببعيد، حتى كان ما كان من أمرهم مع ابن مسعود وغيره

ص: 263


1- التوبة : 34
2- أنساب الأشراف ج 5 : 52

كما مر ، وكان جزاؤه من ذلك الإنكار أن حرم من عطائه وسُيّر به إلى الشام فأراد معاوية أن يترضاه بالمال، فقال أبو ذر الحامله إليه : «إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها».

وبعث إليه الفهري صاحب معاوية بمائتي دينار فقال: «أما وجدت أهون عليك مني حين تبعث إلي بمال .. وردّها».

ووقف منهم بالشام موقفاً صارماً، لما رأى لديهم من كثرة المفارقات، بنى معاوية داره الخضراء بدمشق فهال ذلك أبا ذر فقال: «يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة وإن كانت من مالك فهذا «الإسراف وكان يقول: «والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيّه والله إني لأرى حقاً يطفأ وباطلاً يحيى وصادقاً يُكذب وأثرة بغير تُقى وصالحاً مُستأثراً عليه».(1)

وضاق معاوية بمعارضة أبي ذر فكتب إلى عثمان في أمره فأجابه: «أما بعد فاحمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره»، فوجه معاوية من سار به الليل والنهار، يقول البلاذري: «فلما قدم أبو ذر المدينة جعل يقول : تستعملون الصبيان وتحمي الحمى وتقرّب أولاد الطلقاء»(2)، فسيره عثمان إلى الربذة وحرم على الناس مشايعته والحديث معه ، ولكنّ الإمام علیه السلام - فيما يحدّث صاحبنا - وبعض أقطاب حزبه لم يجدوا لهذا التحريم مبرراً، فخرجوا المشايعته، وضربوا بذلك أعلى الأمثال في التضامن على إنكار المنكر في حدود ما حدّدوه لهم من نهج.

وكان لمروان موقف، وللخليفة موقف من الإمام علیه السلام ذكره صاحبنا ورواه ابن أبي

ص: 264


1- أنساب الاشراف ج 5: 53
2- المصدر السابق

الحديد في شرح نهج البلاغة عن الجوهري.(1)

كما روى الموقف المؤثر الذي وقفه الإمام علیه السلام وجماعته من أبي ذر في توديعهم له وجواب أبي ذر لهم واحداً واحداً.. ما لا نطيل بذكره الآن.

والمهم أن نذكر أن أبا ذر كان ينطق بلسان حزبه في إنكاره عليهم وكان إنكاره منصباً على هذه الفئة التي أثرت من أموال المسلمين ثراءً غير مشروع، وسنرى - في منهج الإمام علیه السلام عند بيعته - تصريحه في تأميم أموال من أثرى على عهد عثمان من هبات الخليفة وأعطياته المعروفة من بيت المال، تلافياً لما أحدثه التصرف من الخليفة في الأمة من مفارقات.

والظاهر أن صاحبنا لم يستمر على المجاهرة بنقد الوضع القائم، وإن شارك الصحابة ،بالرأي، وذلك لوصية صدرت من أبيه إليه أن لا ينطق بالحديث عنه حتى يرى ما لا بد منه، يقول الزبير بن بكار من حديث عن صاحبنا أنه كان عند أبيه وكانوا على مائدة العشاء إذ أوذنوا بقدوم الخليفة عليهم واستئذانه في الدخول يقول عبد الله: «فأذن له وأوسع له على فراشه، وأصاب من العشاء معه، فلما رُفع قام من كان هناك، وثبت أنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا خال فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك علي، سبّني، وشهر أمري، وقطع رحمي، وطعن في ديني، وإني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب، إن كان لكم حق تزعمون أنكم غلبتم عليه فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم، وأنا أقرب إليكم رحماً منه وما لمت منكم أحداً إلا علياً، ولقد دعيت أن أبسط يدي عليه فتركته الله والرحم ، وأنا أخاف أن لا يتركني فلا أتركه» يقول صاحبنا فحمد أبي الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا ابن أختي فإن كنت لا تحمد علياً لنفسك، فإني أحمدك لعلي، وما علي وحده قال فيك بل غيره، فلو انك أتهمت نفسك للناس، اتهم

ص: 265


1- انظر شرح نهج البلاغة ج 2 : 375

الناس أنفسهم لك، ولو أنك نزلت مما رقيت وارتقوا مما نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك ما كان بذلك بأس، قال عثمان : فذلك إليك يا خال وأنت بيني وبينهم قال أفأذكر لهم ذلك عنك؟ قال : نعم وانصرف» .

يقول عبد الله: «فما لبثنا أن قيل هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب، قال أبي: إئذنوا له فدخل فقام قائماً، ولم يجلس وقال: لا تعجل يا خال حتى أؤذنك، فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره حتى خرج، فهو الذي ثناه عن رأيه الأول، يقول: فأقبل عليّ أبي وقال: يا بني ما إلى هذا من أمره شيء ثم قال: يا بني إملك عليك لسانك حتى ترى ما لا بدّ منه»(1). وكان هذا الحديث - فيما يروي الزبير - قبل وفاة العباس بأسبوع.

وفي مرض العباس - فيما يروي أبو حيان التوحيدي عن الجاحظ (2) - وصيّة للعباس مطوّلة أوصى بها علياً علیه السلام ونصح له بالمسألة ، وقد أعرضنا عنها لما يبدو عليها من أثر الصناعة التي لا تناسب جوها بحال، بالإضافة إلى بعض مضامينها القلقة، وقد جاء فيها مما يتعلق بصاحبنا فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك، وبعثته على متابعتك، وأوجرته محبتك»(3)

وقد اشترك صاحبنا والإمام علیه السلام في تغسيل العباس .(4)

ص: 266


1- الموفقيات: 611
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 3 : 282
3- المصدر السابق ج 3: 283
4- انظر طبقات ابن سعد ج 4 قسم 1 : 22
(4)

ولاحظ الخليفة على صاحبنا صمته وسكوته عن ملاحقته فيما جدّ لديه من أحداث، مع علمه بأن مثله لا يرتضي مثلها بحال، فشكر له موقفه، وبدأ يستنصحه ويستشيره، قال مرّة وقد أمسك به بعد أن انصرف عنه حضار مجلسه: «يا ابن عمي ویا ابن خالتي فإنه لم يبلغني عنك في أمري شيء أحبه ولا أكرهه علي ولا لي، وقد علمت أنك رأيت بعض ما رأى الناس فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر ما أظهروا وقد أحببت أن تعلمني فيما بيني وبينك فاتعذر».(1)

قال ابن عباس - وقد أوقفه الخليفة أمام أمر واقع -: «يا أمير المؤمنين إنك قد ابتليتني بعد العافية وأدخلتني في الضيق بعد السعة»..

إلى أن يقول: «والله لوددت أنك لم تفعل ما فعلت مما ترك الخليفتان قبلك، فإن كان شيئاً تركاه لما رأيا أنه ليس لهما علمت أنه ليس (لك ) كما ( ليس) لها، وإن كان ذلك لهما فترکاه خيفة أن ينال منهما مثل الذي نيل منك تركته لما تركاه له ، ولم يكونا أحق بإكراه أنفسهما منك بإكراه نفسك».

قال الخليفة: «فما منعك أن تشير عليّ بهذا قبل أن أفعل ما فعلت؟» قال ابن عباس: وما علمي أنك تفعل ذلك قبل أن تفعل»(2)

ويطلب الخليفة منه بعد ذلك أن يصمت، فيصمت.

ص: 267


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 29
2- المصادر السابق

ويخال أن في صمته هذا خروجاً على مبادئ حزبه، فيصحح صاحبنا له وجهة نظره فيه، ويصرح أمامه أنه ما يزال مع الإمام علیه السلام في كلّ ما يراه.

يقول ابن عباس - فيما يروي الزبير في الموفقيات -: «صليت العصر يوماً ثم خرجت، فإذا أنا بعثمان بن عفان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانته، فقال لي هل رأيت علياً، قلت: خلّفته في المسجد، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله، قال: أما منزله فليس فيه فابغه لنا في المسجد، فتوجهنا إلى المسجد وإذا علي علیه السلام يخرج منه، قال ابن عباس : وقد كنت ذلك اليوم عند علي فذكر عثمان وتجرّمه عليه وقال: أما والله يا ابن عباس إن من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه، فقلت له: يرحمك الله كيف لك بهذا، فإن تركته ثم أرسل إليك فما أنت صانع؟ قال: أعتل وأعتل فمن يقسرني ؟ قال : لا أحد، قال ابن عباس: فلما تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من التفلّت والطلب للانصراف ما استبان لعثمان فنظر إلي عثمان وقال: يا ابن عباس أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا فقلت : ولم، وحقك ألزم، وهو بالفضل أعلم، فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام فردّ عليه فقال عثمان : إن تدخل فإياك أردنا، وإن تمض فإياك طلبنا، فقال علي: أي ذلك أحببت؟ قال: تدخل، فدخلا وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصّر عنها وجلس قبالتها فجلس عثمان إلى جانبه فنكصت عنهما، فدعواني جميعاً فأتيتهما، فحمد عثمان الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد يا أبني خالي وأبني عمي فإذا جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية على رضائي عن أحدكما ووجدي على الآخر، إني أستعذركما من أنفسكما ، وأسألكما فيأتكما وأستوهبكما ،رجعتكما، فوالله لو غالبني الناس ما انتصرت إلّا بكما، ولو تهضموني ما تعززت إلّا بعزكما، ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه، ولقد ها جني العدوّ عليكما وأغراني بكما، فمنعني الله والرحم مما أراد، وقد خلونا في مسجد

ص: 268

رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وإلى جانب قبره، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما وما تنطويان لي عليه، وتصدقا فإن الصدق أنجى وأسلم، وأستغفر الله لي ولكما».(1)

فالخليفة هنا راض عن أحدهما وواجد على الآخر، وبالطبع إن هذا الرضا كان من نصيب صاحبنا خاصة، وقد أدرك ما يريد من وراء هذا الكلام، فقطع على صاحبه طريق الاستفادة منه، وكان لا بدّ من الجواب على كل نقطة نقطة منه، يقول ابن عباس: «فأطرق على وأطرقت معه طويلاً، وأما أنا فأجللته أن أتكلم قبله، وأما هو فأراد أن أجيب عني وعنه، ثم قلت له: أتتكلّم أم أتكلّم أنا عنك؟ قال: بل تكلّم عني وعنك.

فحمدت الله وأثنيت عليه وصليت على رسوله، ثم قلت: أما بعد يا ابن عمنا وعمتّنا فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك - زعمت - عن أحدنا ووجدك على الآخر، وسنفعل في ذلك فنذمّك ونحمدك اقتداءً منك بفعلك فينا، فإنّا نذم مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلّا ظناً، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك، ثم نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من ونستوهبك فيأتك استيهابك إيانا ،فيأتنا، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا» .. إلى أن يقول من حديث طويل : «وأما مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننطوي عليه لك، فإنّا نخبرك أن ذلك إلى ما تحب لا يعلم واحد منا من صاحبه إلا ذلك، ولا يقبل منه غيره، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به، وقد برّأت أحدنا وزكيته وأنطقت الآخر وأسكته، وليس السقيم منا مما كرهت بأنطق من البريء فيما ذكرت، ولا البريء منا مما سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت، فإما جمعتنا في الرضا وإما جمعتنا في السخط لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع فقد أعلمناك رأينا، وأظهرنا لك ذات أنفسا وصدقناك والصدق - كما ذكرت -

ص: 269


1- الموفقيات: 614 - 615

أنجى وأسلم».(1)

وأعجب الإمام علیه السلام فيما يبدو صراحته وقوة منطقه واستيعابه لنقاط الحديث، فنظر إليه نظر هيبة - كما تقول الرواية - وعلق عليه بحديث عقب عليه ،عثمان وما افترقوا حتى أخذ صاحبنا بيديهما فتصافحا وتصالحا.

وكما كان مروان سفير السوء بين الإمام علیه السلام،و عثمان كان ابن عباس سفير الخير بينهما، يقارب من خطوهما، ويعمل جاهداً على ملء ما يحدثه الانتهازيون بينهما من فجوات.

قال عثمان له يوماً - وكان في ثورة نفسيه عارمة -: «ما لي ولكم يا ابن عباس! ما أغراكم بي وأولعكم بتعقب أمري»! ثم انحدر بكلام طويل فيه لوم وفيه تقريع، فلطَّف من جوّه ابن عباس قليلاً قليلاً، وقال فيما قال: «فما دعاك إلى هذا الأمر الذي كان منك؟ قال : دعاني إليه ابن عمك علي بن أبي طالب، فقال ابن عباس: وعسى أن يكذب مبلغك، قال عثمان : إنه ثقة، قال ابن عباس: إنه ليس بثقة من بلّغ وأغرى، قال عثمان: يا ابن عباس الله إنك ما تعلم من علي ما شكوت منه؟ قال: اللهم لا إلّا أن يقول كما يقول الناس، وينقم كما ينقمون، فمن أغراك به وأولعك بذكره دونهم؟».(2)

وكان عثمان ما يزال غاضباً يهدر بكلام جاء فيه : «إني أنشدك يا ابن عباس الإسلام والرحم، فقد والله غلبت وابتليت بكم، والله لوددت أن هذا الأمر كان صار إليكم دوني، فحملتموه عنّي، وكنت أحد أعوانكم عليه، إذن والله لوجدتموني لكم خيراً مما وجدتكم لي، ولقد علمت أن الأمر لكم، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم،

ص: 270


1- الموفقيات: 616
2- الموفقيات: 605

فوالله ما أدري.. أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه؟».(1)

ومسّ هذا الكلام عواطف ابن عباس، وبلغ موضع العقدة منه، فثار إلى الجواب لغة لا تخلو من عنف، وبخاصة بعد أن صدر من الخلفية هذا الاعتراف بحقهم بالخلافة ولقد علمت أن الأمر لكم قال: «مهلاً يا أمير المؤمنين فإنا ننشدك الله والإسلام والرحم، مثل ما أنشدتنا، أن تُطمع فينا وفيك عدواً، وتشمت بنا وبك حسوداً، إن أمرك إليك ما كان قولاً ، فإذا صار فعلاً فليس إليك ولا في يديك، وإنا والله لنخالفنّ إن خولفنا ولننازعنّ إن نوزعنا، وما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلّا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ويعيب كما عابوا ! ».(2)

ثم عاد بعد هذا التهديد والتبكيت إلى غمزة الخليفة في التعقيب على اعترافه بحقهم «ما أدري أدفعوه عنكم وهو في ثورته فأما صرف قومنا عنا الأمر فعن حسد قد والله عرفته، وبغي قد والله علمته فالله بيننا وبين قومنا ! أما قولك: إنك لا تدري أدفعوه عنا أم دفعونا عنه . نا عنه فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر ما زدنا به فضلاً إلى فضلنا ولا قدراً إلى قدرنا ، وإنا لأهل الفضل» .. إلى آخر ما جاء في حديثه..، وما نقض عثمان عليه بعد ذلك شيئاً من كلامه هذا، وإنما عاد إلى تقريعه، فاستمهله ابن عباس ريثما يلقى الإمام علیه السلام فيسمع حجته ليسعى بالصلح بينهما .

ولهذه المواقف نظائر لا نطيل بذكرها ... وفي شرح نهج البلاغة لها صور فلتراجع هناك.(3)

ص: 271


1- الموفقيات: 606
2- المصدر السابق
3- انظر شرح نهج البلاغة ج 2 : 35 - 396
(5)

وزادت الفجوة بين المعارضة وحزب الخليفة، واتسعت معالمها باتساع المفارقات التي كانت تصدر من الفئة الحاكمة، وتضيف إلى الأحزاب المعارضة أنصاراً جدداً؛ حتى لم يبق للخليفة رصيد شعبي يعتمده للساعة الرهيبة.

وكانت أهم خطوة جريئة قامت بها المعارضة بعثها بكتاب موقع من أصحاب الشورى وبقية المهاجرين إلى من قام بمصر من الصحابة والتابعين، يستنهضونهم للحدّ من تصرفات الخليفة، ويستحتّونهم على الثورة عليه، جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من المهاجرين الأولين وبقية الشورى، إلى من بمصر من الصحابة والتابعين أما بعد.. أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يُسلَبَها أهلها، فإن كتاب الله قد بدّل، وسنّة رسوله قد غُيّرت وأحكام الخليفتين قد بدّلت فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله والتابعين بإحسان إلّا أقبل إلينا، واخذ الحق لنا وأعطاناه، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم، وفارقكم عليه الخلفاء.

غُلبنا على حقنا، واستولي على فيئنا، وحيل بيننا وبين أمرنا، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة، وهي اليوم ملكاً عضوضاً من غلب على شيء أكله».(1)

وربّما وُجهت صور منه إلى من بالكوفة والبصرة من الصحابة والزعماء وقد أخرجه مالك الأشتر - وهو من زعماء الكوفة - محتجاً به على طلحة والزبير حين مناهما الخليفة

ص: 272


1- الإمامة والسياسة ج 1: 33 - 34

أن يعطيهما النصف من نفسه وأرادا تهدئة الوضع، يقول الراوي : فقام مالك الأشتر فقال: أليس هذا كتابكم إلينا؟!».(1)

والظاهر أن هذا الكتاب كان له أثره الكبير في إلهاب النفوس وتحفيزها للنهوض، لما فيه من لغة عاطفية مثيرة.

وأيّ مؤمن بالله واليوم الآخر يكتب له كبار الصحابة وبقية الشورى بأن «كتاب الله قد بُدّل، وسنة رسوله قد غُيّرت» فلا يثار هذا التبديل والتغيير؟! ..

فإذا أضفت إلى ذلك نقمة المبعوث إليهم وغيرهم من أهل الأمصار على الفئات الحاكمة عندهم؛ لاستئثارهم بجلّ مقدراتهم، وتحكّمهم في رقابهم من دون دالة لهم عليهم، من سابقة أو جهاد.. اللّهم إلّا قربهم من الخليفة، أدركت مدى أثره، وهكذا كان.

فقد أقبلت وفود الأمصار من الكوفة والبصرة ومصر، واجتمعوا في المدينة ناقمين واستغلت المعارضة وجودهم أبشع استغلال، اللهم إلا ما كان من حزب الإمام علیه السلام وصاحبنا، فقد وقف موقفاً مشرفاً في تهدئة الخواطر والعمل على استصلاح الفئة الحاكمة، وكاد بذلك يحبط كل مؤامرة تحاك على الخليفة ولولا وجود مروان ونظائر مروان من بطانته لانتهى اجتماع المؤتمرين في صالح الأمة جمعاء.

وكان من أشد الأحزاب عليه حزب طلحة، وله من تأييد السيدة عائشة - وهي من أشد الناس علقة به؛ لقرابتها منه - رصيد قوي وما كانت هذه السيدة لتدّخر من جهدها للعمل ضد الخليفة حتى كانت تصيح : «أقتلوا نعثلاً فقد كفر».(2)

ص: 273


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 34
2- تأريخ الطبري :ج5 : 172 ، وتأريخ ابن الأثير ج 3 : 102

وكان من ذلك أن اجتمع حول طلحة جماهير من أهل الأطماع خشي الخليفة منهم على نفسه فاستنجد بالإمام لتفريقهم عنه ، يقول الطبري فيما يروى: «فدخلنا - يعني هو والإمام علیه السلام- دار طلحة بن عبيد الله وهي رجاس من الناس، فقام إليه فقال: يا طلحة ما هذا الأمر الذي وقعت فيه ؟ فقال : يا أبا الحسن بعدما مس الحزام الطبيين فانصرف علي ولم يحر إليه شيئاً حتى أتى بيت المال، فقال: افتحوا هذا الباب..» ثم أخرج ما فيه من مال ووزّعه على الناس، وأقبل من كان مع طلحة لأخذ نصيبهم منه وبقي طلحة ،وحده، فاضطر أن يقبل على عثمان معتذراً، يقول المحدّث: «فقال عثمان:

إنك والله ما جئت تائباً ولكنك جئت مغلوباً، الله حسيبك يا طلحة».(1)

ولما اشتدّت وطأة المصريين على الخليفة، وبعث إليهم من يترضاهم فعادوا خائبين استنجد بالإمام علیه السلام من جديد، يقول البلاذري: «وأتى المغيرة بن شعبة - والمصريون محيطون بدار عثمان - فقال له دعني آت القوم فانظر ما يريدون، فمضى نحوهم، فلما دنا منهم صاحوا به يا أعور وراءك، يا فاجر وراءك، يا فاسق وراءك، فرجع.

ودعا عثمان عمرو بن العاص فقال له : ائت القوم فادعهم إلى كتاب الله والعتبى مما ساءهم، فلما دنا منهم سلّم، فقالوا: لا سلّم الله عليك، إرجع يا عدو عدو الله، إرجع يا ابن النابغة، فلست عندنا بأمين ولا مأمون، فقال له ابن عمر وغيره، ليس لهم إلا علي بن أبي طالب، فلما أتاه قال : يا أبا الحسن ائت هؤلاء القوم فادعهم إلى كتاب الله وسنّة نبيه قال -الإمام - نعم إن أعطيتني عهد الله وميثاقه على أنك تفي لهم بكل ما أضمنه عنك، قال: نعم»، ولم يكتف الإمام علیه السلام بهذا القول دون أن أخذ عليه أوكد المواثيق وأغلظها، ثم خرج إلى القوم فقالوا: وراءك قال: لا بل أمامي، تعطون كتاب الله وتعتبون من كل ما سخطتم عرض عليهم ما بذل عثمان، فقالوا: أتضمن ذلك عنه؟ قال: نعم قالوا:

ص: 274


1- تأريخ الطبري: ج 5 : 154

رضينا».

ونجح الإمام علیه السلام بسفارته هذه، وجاء إلى الخليفة بوجوههم وأشرافهم، فأعتبهم عثمان من كل شيء فقالوا: أكتب بهذا كتاباً فكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين... إن لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه، يعطى المحروم، ويؤمن الخائف، ويردّ النفي، ولا تجمّر البعوث، ويوفّر الفيء، وعلي بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء بما في هذا الكتاب»(1). ثم أشهد عليه جماعة منهم الزبير وطلحة وسعد وغيرهم وتفرق المصريون عنه.

وأراد الإمام علیه السلام - تتميماً لرسالته - أن يلطف من جوّه في نظر الرأي العام الساخط عليه، فدعاه إلى أن يخطب في الناس، ويعلن لهم ندمه على ما وقع منه، وخطب فأقرّ بما فعل، واستغفر الله منه، وتكلم بكلام رقّ له الناس وبكى له من بكى منهم، ثم عاد

إلى البيت وإذا بمروان يعنّفه على موقفه ذاك وإعلانه التوبة، ويقول فيما يقول: «والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوّف عليها»(2)، ولم يزل به حتى أمره أن يخرج إلى الناس فيكلّمهم عنه، يقول الطبري: «فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضاً فقال : ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه.. الخ»(3). وغضب الناس فأقبلوا على الإمام علیه السلام فأقبل على عثمان مغضباً وهو يقول: «أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلّا بافساد دينك وخديعتك عن عقلك ؟!

ص: 275


1- أنساب الأشراف ج 5: 63-64 ، وانظر تأريخ ابن خلدون - اعتناء علاء الفاسي، مطبعة النهضة ، مصر ، سنة الطبع 1936م - ج 2: 396-397
2- تأريخ الطبري ج 5 : 111
3- المصدر السابق ج 5 : 112

وإني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك.. الخ ..».(1)

وأنبته بعد خروج الإمام علیه السلام نائلة بنت الفرافصة زوجته، وقالت له فيما قالت: «قد سمعت قول علي بن ابي طالب في مروان، وقد أخبرك أنه غير عائد إليك، وقد أطعت مروان ولا قدر له عند الناس ولا هيبة. فبعث إلى علي فلم يأته»(2). ويبدو أن الخليفة ضعف عن تدبير الأمر وألقى الزمام إلى مروان وغيره من بطانته، يوجهونه كيفما يشاؤون، وكانت مهمتهم الأولى هي إبعاد الشقة بينه وبين الإمام علیه السلام وقد استغلوا هتاف الجماهير لعلي علیه السلام بالخلافة منفذاً ينفذون منه إلى أعماق الخليفة، حتى أنهم استصدروا منه أمراً لإخراج الإمام علیه السلام عن المدينة، ثم عادوا - تحت ضغط الرأي العام - فطلبوا إليه العودة إليها لتهدئة الثائرين ثم طلب إليه الخليفة أن يخرج من جديد، وكان حامل الرسالة إليه في هذه المرة ابن عباس يقول صاحب نهج البلاغة: «ومن كلام له علیه السلام قاله لعبد الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان، وهو محصور يسأله الخروج إلى ماله بينيع، ليقل هتف الناس باسمه للخلافة بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل، فقال علیه السلام: يَا ابْنَ عَبَّاس مَا يُرِيدُ عُثْمَانُ - إِلَّا أَنْ يَجْعَلَنِي جَمَلًا نَاضِحاً بِالْغَرْب أَقْبلُ وأَدْبَرْ - بَعَثَ إلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ - ثُمَّ هُوَ الْآنَ يَبْعَثُ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ - واللهِ لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ أَثِماً».(3)

وفي العقد الفريد عن ابن عباس أنه قال: «أرسل إليّ عثمان فقال لي: إكفني ابن عمك ، فقلت له: إن ابن عمي ليس بالرجل يُرى له ، ولكنه يرى لنفسه، فأرسلني إليه بما أحببت، قال: قل له فليخرج إلى ماله بينبع فلا أغتم به ولا يغتمّ بي، فأتيت علياً فأخبرته،

ص: 276


1- انساب الأشراف 5 : 65
2- أنساب الأشراف ج 5 : 65
3- شرح نهج البلاغة ج 3: 282

فقال : ما اتخذني عثمان إلا ناضحاً،

ثم أنشد يقول:

فكيف به إنّي أداوي جراحه***فيدوى فلا مل الدواء ولا الداء..

إلى أن يقول: فخرج علي إلى ينبع».(1)

(6)

ولكن الإمام علیه السلام - مع ذلك - لم يغير من سياسته تجاه عثمان، فلم يشترك في تحريض عليه ولم يأذن بثورة مسلحة ضده، حتى أن المصريين – وقد عثروا على الراكب الذي كان معه كتاب عثمان بقتل بعضهم وصلب آخرين - استأذنوا أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في العودة إلى عثمان فأذنوا لهم إلا الإمام علیه السلام

يقول عمر بن الاصم : «كنت فيمن أرسلوا من ذي خشب، فقالوا: سلوا أصحاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم وأجعلوا علياً آخر من تسألونه، قال: فسألناهم فقالوا: أقدموا إلّا علياً فإنه قال: لا امركم، فإن أبيتم فبيض سيفرّخ»(2)، وكان يهدّدهم بما سيعقب حركتهم هذه من أخطار.

وتأزمّ الموقف بعد عودة المصريين واشتد طلحة بن عبيد الله - فيما يقول البلاذري في الحصار، ومنع أن يدخل إليه الماء، حتى غضب علي بن أبي طالب من ذلك، فأدخلت عليه روايا الماء»(3)

ص: 277


1- العقد الفريد ج 2 : 193
2- أنساب الاشراف ج 5 : 71
3- المصدر السابق

وأشرف عثمان يوماً على الثائرين فسأل عن علي علیه السلام فأجابوه أنه ليس حاضراً، فقال: ألا أحد يبلّغه فيسقينا ماءً، يقول الراوي: «فبلغ ذلك علياً فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماءً، فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصلت».(1)

وكان - في أثناء الحصار - يصلي صاحبنا بالناس أحياناً.(2)

وحان موعد الحج وخشي الخليفة إن أمر أحداً من قرابته على الحاج أن لا يستجيب إليه الناس، وربّما حدثت من أجل ذلك مناوشات بين السلطة وبين بعضهم، قد لا تنتهي إلى خير فرأى أن يتلافى الأمر ابتداء باختيار رجل لا يتمارى أحد في الانقياد له، وكان هذا الرجل هو عبد الله بن عباس فانتدبه لهذه المهمة.

يقول عبد الله: «قال لي عثمان: إني قد استعملت خالد بن العاص بن هشام على مكة، وقد بلغ أهل مكة ما صنع الناس، وأنا خائف أن يمنعوه الموقف فيأبى، فيقاتلهم في حرم الله جل وعزّ وأمنه وقوماً جاءوا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم فرأيت أن أولّيك أمر الموسم»(3) وكان لا بد له أن يمر على الإمام علیه السلام؛ ليخبره، ويمر فلا يمانع في ،سفره، يتأهب للحج ويخرج.

وهي أول مرّة يتولى فيها إمارة هامة كهذه، وفي الصلصل - وهي موضع بنواحي المدينة على سبعة أميال منها - التقى عائشة كانت قد خرجت إلى الحج قبله فقالت: يا ابن عباس أنشدك الله - فإنك قد أُعطيت لساناً إزعيلاً - أن تخذل عن هذا الرجل، وأن تشكك فيه الناس، فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت ورفعت لهم المنار وتجلبوا من

ص: 278


1- ) أنساب الأشراف ج 5 : 68 - 69
2- انظر الرياض النضرة ج 2: 162
3- تأريخ الطبري ج 5 : 140

البلدان الأمر قد جم»(1)، وفي لفظ البلاذري: «إن الله قد آتاك عقلا وفهما وبياناً، فإياك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية».(2)

ومن طريف المفارقات أنها حاولت أن تقنع ابن عباس لجره إلى حزبها الذي كانت تعمل له، وتعتقد أنه لا بد أن يتولى الحكم بعد مقتل هذا الخليفة، فقالت - كما في رواية الطبري -: «وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح، فإن يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر».

يقول ابن عباس: فقلت: «يا أمه لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلّا إلى صاحبنا فقالت إيهاً عنك إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك».(3)

وفي مكة التقى خالد بن العاص فعرض عليه أمر عثمان، وطلب إليه أن يحج بالناس فأبى وقال: «هل لي طاقة بعداوة من ترى؟ فأبى أن يحج، وقال: فحج أنت بالناس، فأنت ابن عم الرجل - يعني علياً - وهذا الأمر لا يفضي إلّا إليه، وأنت أحق أن تحمل له ذلك يقول فحججت بالناس».

وأخال أن ابن عباس كان في طليعة من ملؤوا هذا المنصب كفاءة وحسن إدارة وأداء لأهم وظائفه، وقد استغل وجود هذه الجماهير المجتمعة من مختلف البلدان، فدأب على إفادتها، وهو من نعرف عمق ثقافة وسعة أفق، وقد كشف في مواقفه الخطابية عن قدرة نادرة في فن الخطابة لا تكاد تُجارى، يقول أبو وائل: «خطب ابن عباس وهو على الموسم فافتتح سورة البقرة فجعل يقرؤها ويفسّرها، فجعلت أقول : ما رأيت ولا سمعت كلام

ص: 279


1- تأريخ الطبري ج 5: 68 - 69
2- أنساب الأشراف ج 5 : 75
3- تأريخ الطبري ج 5 : 140

رجل مثله لو سمعته فارس والروم لأسلمت».(1)

وفي روايته الأخرى أن ذلك كان عام قتل عثمان، وفيها سورة النور بدل سورة البقرة (2)، وقد يكون سماعه له أكثر من مرّة في هذا الموسم، وفي كل مرة كان يقرأ من القرآن شيئاً غير ما قرأه أولاً ويفسّره.

وفي إحدى خطبه وافاه نافع بن طريف بكتاب من عثمان، يستنجد به من حضر الحج من المسلمين ففسح له المجال لإلقائه بنفسه، فألقاه عليهم حتى إذا أتمه نافع مضى ابن عباس بخطبته ، ولم يعرض - فيما يقول ابن قتيبة - لشيء من شأنه.(3)

كما أنه لم يحدث أحد عنه أنه عرض لكتاب عثمان - الذي أرسله معه ، وألقاه قبل التروية بيوم - بشيء من التعليق (4)، ولعله كان يائساً من جدوى ما يأتي به من حديث، بعدما تأزمت الحوادث عليه، وتكثّرت الأحداث منه ومن بطانته، على نحو لا يمكن

الاعتذار عنها بحال.

وعاد بعد أن أنهى حجّه إلى المدينة؛ ليستقبل أحداثاً هامة تكاد تستأثر بأهم ما له من تأريخ وأولها مقتل عثمان وبيعة الإمام عليه علیه السلام.

ص: 280


1- البداية والنهاية ج 8 : 303
2- انظر المصدر السابق
3- انظر الإمامة والسياسة ج 1 : 34
4- انظر تأريخ الطبري ج 5 : 142

مع الإمام علي علیه السلام في خلافته

(1)

أمّا متى وصل المدينة فهنا تختلف الأخبار وتضطرب، فالذي يظهر من بعضها أنه وصل قبل أن تتم بيعة الإمام علیه السلام بأيام.(1)

وفي بعضها أنه حضر اجتماع الناس عليه في الدار يطالبونه بالحضور لبيعتهم وهو يقول «لا تفعلوا، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً»، وهم يقولون: «لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، فيقول الامام علیه السلام ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون إلّا عن رضا المسلمين».(2)

يقول سالم بن أبي الجعد : «فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يُشغب عليه، وأبى هو إلّا المسجد، فلما دخل، دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه الناس».(3)

وهذه الرواية تحدد في بدايتها مجيء الناس إليه حين مقتل عثمان، يقول محمد بن الحنفية - فيما يروي عنه سالم بن أبي الجعد -:

ص: 281


1- انظر تأريخ الطبري ج 5: 165
2- المصدر السابق ج 5 : 152
3- المصدر السابق

«كنت مع أبي حين قُتل عثمان، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ..الخ».(1)

وكما يبدو منها أن صاحبنا كان حاضراً معهم، وكان في لهفة لإتمام الأمر لبطله بأسرع صورة، فهو لا يرضى بالتأخير حتى يجتمع الناس في المسجد؛ لئلا يُشغب عليه.

وأخال أن هذه الرواية لا تصحّ بحال، فما كان ابن عباس بهذه السذاجة ليرضى لبيعة صاحبه أن تتمّ في البيت وفي مثل هذه السرعة، وهو يعلم أنها جاءت على أعقاب ثورة شعبية عارمة، أطاحت بخليفة له أنصاره وموالوه، وفيهم الطامع في الحكم كمعاوية بن أبي سفيان، وله من طاعة أهل الشام رصيد لا يستهان به، وفي الثائرين والمحرّضين والساكتين من يرجوها لنفسه، أو يرجوها له أصحابه، أمثال طلحة والزبير وابن عمر وسعد، ولكل منهم حزب يعمل له.

ولو كان صاحبه من الانتهازيين أو الوصوليين الذين يعبرون إلى مآربهم من أي طريق لهان الأمر ، ولقلنا إنه أراد له أن يتشبث بالحكم، ثم يعود فيمكن له منه بمختلف الوسائل، أما وصاحبه الإمام غلیه السلام، وهو من يعرف مدى واقعيته بما خبر من خلقه، وعهده ليس ببعيد بإبائه على عبد الرحمن بن عوف أن يضيف إلى شرط البيعة كلمة لا يؤمن بالالتزام بها، وهي سيرة الشيخين، مع أنه كان يستطيع أن يعبر من طريق التغافل عنها إلى الحكم الهادئ المستقر.

ومن الطبيعي جداً أن الإمام علیه السلام لم يقبلها إلا بعد أن اضطروه إليها اضطراراً، وتدافعها المرشحون واحداً واحداً، ووجدوا فيه المنقذ الوحيد لهذه الأمة من أزمتها، ولم يقبلها إلّا بعد أن لوّح لهم بمبادئه المعروفة..

ص: 282


1- تأريخ الطبري ج 5 : 152

يقول سيف: «فقالوا لهم - يعني الثائرين - دونكم يا أهل المدينة فقد أجّلناكم يومين، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن غداً علياً وطلحة والزبير وأناساً كثيراً، فغشي الناس علياً، فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من ذوي القربى، فقال علي: دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، فقالوا: ننشدك الله ألا ترى ما ترى؟! ألا ترى الإسلام؟! ألا ترى الفتنة؟! الا تخاف الله؟! فقال: قد أجبتكم لما أرى واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم».(1)

ومع ذلك لم يجئ إلى الحكم إلا بعد أن وقف الزبير فأعلن ترشيح ذوي الرأي للإمام علیه السلام بخطبته التي قال فيها: «أيها الناس إن الله قد رضي لكم الشورى، فأذهب بها الهوى وقد تشاورنا فرضينا علياً فبايعوه».(2)

وتمت البيعة للإمام علیه السلام في المسجد بعد خمسة أيام من مقتل عثمان - على تقدير رواية سيف - وجاء صاحبنا - كما تصرّح بقيّة الروايات - بعد تمام البيعة له، ولم يشهدها كما تصرّح هذه الرواية.

(2)

وما أخال أن ابن عباس - وقد سرّه عودة حقهم في الحكم إليهم على يد بطله بعد أن أخرجوهم عنه، وعرفنا مدى ما تركه هذا التأخير في نفسه من انفعالات - ليجهل

ص: 283


1- تأريخ الطبري ج 5 : 156
2- الإمامة والسياسة ج 1 : 44

أن الأمر لم يأتهم هنيئاً ميسّراً، بل جاءهم وهو في زحمة من الأزمات والمشاكل، وأمامه زحمة أخرى عبّر عنها الإمام علیه السلام فأبلغ بقوله:«فإنّامستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول».

فطبيعة الثورة التي قضت على سلفه، وجاءت به إلى الخلافة رغماً، لم تكن ثورة على شخص بعينه، وإنما كانت ثورة على أسلوب في الحكم ونظام في الإدارة، تمثل بذلك العهد وعلى يد هذا الخليفة ثم على مفاهيم للعدالة الاجتماعية استحدثت من قبل القائمين بالحكم، ولم توافق كتاب الله ولا سنّة نبيّه ولا سيرة الشيخين.

وكان على الإمام الجديد إذا أراد القضاء على جذور الثورة، وإعادة الاستقرار إلى الأمة، أن يعمل على تغيير التشكيلة الإدارية التي كانت مبعث الشكوى والنقمة من قبل الشعوب، ثم إلى تصحيح المفاهيم التي حورت لصالح الحكام، بعد أن كانت مشرعة لصالح الجمهور، فكان لابدّ للإمام علیه السلام أن يسارع إلى تطهير جهاز الحكم، وإحلال طبقة صالحة نزيهة تطمئن إليها النفوس مكانها، فيعزل الحكام والولاة من بني أميّة، الذين استغلوا قربهم من الخليفة للعبث بمقدرات الناس، وكانوا من أهم مصادر الثورة السابقة عليه.

وما أخال أن الرأي العام - وكان هو المالك لزمام الموقف بعد - ليرضى للخليفة الجديد بغير هذا الحل مهما كلف الأمر ، فكيف إذا كانت طبيعة الخليفة الجديد تأبى عليه أن يداهن أو يصانع مثل هؤلاء؟!.

وصاحبنا وهو من هو بصراً بالسياسة، وغوصاً على دقائق الأمور، لم يكن ليرضى لأميره - عادة - الصبر على أمثال هؤلاء؛ ليكون إقرارهم ولو إلى أمد أقوى حجة بيد الانتهازيين وخصوم الإمام علیه السلام، وربما استغل بعضهم لإثارة الرأي العام عليه وهو بعد

ص: 284

متهيئ للثورة، فكيف إذا كان لأميره هذه الطبيعة التي لا تعرف المداهنة والمصانعة في ذات الله ؟! وهو أعرف الناس بها ؛ لكثرة ما خبر من خلقه منذ عاشره وهو طفل، واتخذ منه بطلاً يتأثر حركاته وسكناته فكان لا بد لصاحبنا - لو استشير في إبقائهم من قبل الإمام علیه السلام - أن لا يشير عليه بذلك أصلاً، ولكنّ كثرة من الرواة يأبون عليه ذلك، فيجعلونه من موافقي المغيرة بن شعبة، الذي أشار على الإمام علیه السلام أن يبقى الولاة على مواضعهم - ولا أقل من إبقاء معاوية - حتى يستحكم له الوضع، يحدث بعضهم عنه أنه قال: «دعاني عثمان فاستعملني على الحج، فخرجت إلى مكة، فأقمت للناس الحج وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم، ثم قدمت المدينة وقد بويع لعلي، فأتيته في داره فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت: ماذا قال لك هذا ؟! فقال : قال لي قبل مرته هذه أرسل إلى عبد الله بن عامر وإلى معاوية وإلى عمال عثمان بعهودهم تقرهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس فإنهم يهدئون البلاد ويسكنون الناس فأبيت ذلك عليه يومئذ، والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ولا وليت هؤلاء ولا مثلهم يولى قال ثم انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يرى أني مخطئ ثم عاد إلي الآن فقال إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت عليك وخالفتني فيه ثم رأيت بعد ذلك رأيا وأنا أرى أن تصنع الذي رأيت فتنزعهم وتستعين بمن تثق به فقد كفى الله وهم أهون شوكة مما كان قال ابن عباس: فقلت لعلي: أمّا المرة الأولى فقد نصحك وأمّا المرة الآخرة فقد غشّك، قال له علي : ولم نصحني؟ قال ابن عباس : لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا ، فمتى تثبتهم لا يبالوا بمن ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا أخذ هذ الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا، ويؤلبون عليك فينتفض عليك أهل الشام وأهل العراق مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرًا عليك، فقال علي: أما ما ذكرت من إقرارهم، فوالله ما أشك أن ذلك خير في

ص: 285

عاجل الدنيا لإصلاحها، وأما الذي يلزمني من الحق، والمعرفة بعمال عثمان، فوالله لا أولي منهم أحداً أبداً، فإن أقبلوا فذلك خير لهم، وإن أدبروا بذلت لهم السيف، قال ابن عباس : فأطعني وادخل دارك والحق بمالك بينبع وأغلق بابك عليك فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم؛ ليحملنك الناس دم عثمان غداً، فأبى علي فقال لأبن عباس: سر إلى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني أمية، وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي لعثمان أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني، فيتحكم عليَّ فقال له علي : ولِمَ؟ قال: لقرابة ما بيني وبينك، وإن كل ما حمل عليك حمل عليَّ، ولكن أكتب لمعاوية فمنّهِ وعِدْهُ، فأبى علي وقال: والله لا كان هذا أبداً».(1)

وهذا المضمون موجود في عدّة روايات، وإن اختلفت أساليبها في الأداء وفي الزيادة والنقيصة، كأن تنقص بعضها إشارته عليه بالخروج إلى ماله بينبع، وتزيد «فقلت: يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع لست بأرب بالحرب؛ أما سمعت رسول الله يقول: الحرب خدعة، فقال علي : بلى، فقال ابن عباس: أما والله لئن أطعتني لأصدرن بهم بعد ورود، ولأ تركنّهم ينظرون في دبر الأمور لا يعفون ما كان وجهها في غير نقصان عليك، ولا إثم لك فقال : يا ابن عباس لست من هنياتك وهنيات معاوية في شيء، تشير عليَّ وأرى، فإذا عصيتك فأطعني، قال: فقلت: أفعل، إن أيسر ما لك عندي الطاعة».(2)

وما أدري أيصح نسبة مثل هذا الكلام إلى ابن عباس؟! وهو يرى أمام عينيه أن نقمة الشعوب وثورتها على عثمان لم تكن لتحدث لو أصاخ عثمان لرأي الثائرين بتبديل ولاتهم من بني أمية، ومثل هؤلاء هل يقبلون من الخليفة الجديد أن يقرّ سياسة سابقة

ص: 286


1- تأريخ الطبري ج 5: 159 - 160
2- المصدر السابق ج 5 : 161

في الاحتفاظ بالولاة أنفسهم؟ وما شأن المصريين أو البصريين - مثلاً - والمدينة ما تزال تعج بجماهيرهم الناقمين على ولاتهم ومفتاح الثورة ما يزال بأيديهم، إذا علموا بأن أصحابهم الذين نقموا منهم ما يزالون ولاة يستطيعون التحكم برقابهم إذا عادوا إلى بلادهم؟

ثم أيصح نسبة مثل هذا الكلام إليه ؟ وهو يقترح على الإمام علیه السلام أن يترك المدينة؟! وما أدري كيف يتركها الإمام علیه السلام وقد قبل من رعاياه بيعتهم، وعاهدهم وعاهدوه على السير بهم على كتاب الله وسنّة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم؟!.. وماذا يكون جوابه لهم إذا كاتبوه بعهده ولم تبدر منهم أية بادرة من عصيان أو تمرّد ؟!... يقول : أخضعوالي معاوية وغيره من الولاة، وأنا أعود إليكم أم ترى أن هؤلاء الولاة إذا علموا ذلك بادروا مسرعين وقدّموا له البيعة عن يد وهم صاغرون؟!.

ومثل هذا الكلام كان يمكن أن يقال قبل أن تتم البيعة للإمام علیه السلام أو في أثناء الثورة؛ لتضعف حجّة الأمويين في توجيه التهمة إليه بالمشاركة فيها على صاحبهم على أنها لا تضعفها بحال؛ لأن أصحابها لا يريدون معرفة الجاني حقيقة، وإنما يريدونه أن يكون هو الإمام مهما كلف الأمر ؛ ليتم لهم إبعاده عن الحكم، ولديهم من وصوليتهم ما يبيح لهم أفانين الكذب والتمويه.

ولكن ابن عباس لم يقل هذا الكلام في وقته بل أشار على الإمام علیه السلام بالبقاء، وخالف أسامة بن زيد في رأيه، يقول البلاذري: وقال أسامة بن زيد بن حارثة لعلي بن أبي طالب والله يا أبا الحسن والله لأنت أعزّ عليَّ من سمعي وبصري، فأطعني واخرج إلى أرضك بينبع، فإن عثمان إن قتل وأنت بالمدينة رميت بدمه، وإن أنت لم تشهد أمره لم يعدل الناس بك، فقال ابن عباس لأسامة : يا أبا محمد أتطلب أثراً بعد عين ؟! أبعدَ ثلاثة

ص: 287

من قريش ينبغي لعلي أن يعتزل؟!»(1)

والطبيعي في الحادثة - فيما أخال - أن ابن عباس سأل الإمام علیه السلام عن رأي المغيرة فلما كشف له عن وجهتي نظره قال له: غشك في الأولى ونصحك في الثانية، على العكس مما جاء في هذا الحديث، وقد غير الحديث وزيد فيه؛ ليسلم الأعداء الإمام علیه السلام من الوضاعين أن يُسمِعوا الناس نقد سياسة الإمام علیه السلام من لسان ابن عمه وأعز الناس عليه، وسنسمع لهذا نظائر، والذي يؤيد هذا ما حدث به البلاذري: من أن المغيرة بن شعبة أشار على علي علیه السلام بأن يثبت معاوية على الشام ، ويولّي طلحة الزبير مصري العراق ليستقيم له الأمر، وأن عبد الله بن عباس عارض هذا الرأي بأن البصرة والكوفة هما عين المال ومصدر الفيء، فإذا وليهما هذان الشيخان ضيّقا على الخليفة المقيم بالمدينة، وبأن ولاية معاوية للشام تضر علياً علیه السلام أكثر مما تنفعه..

يقول : فاستمع علي لرأي ابن عباس ولم يقبل مشورة المغيرة بن شعبة.(2)

ولنا وقفة عند رأيه في طلحة والزبير فيما يأتي من حديث.

(3)

وكانت الخطوة الثانية للإمام علیه السلام - وقد تكون هي الأولى في تقدّمها الزماني - هي تغيير تلك المفاهيم المستحدثة للعدالة الاجتماعية، والعودة بها إلى التشريعات الأولية الإسلامية، التي كان يستوي عندها الناس بما لهم من طبقات مزعومة لا يعترف بها الإسلام.

ص: 288


1- أنساب الأشراف ج 5 : 77
2- انظر أنساب الاشراف ج 2 : 209

وكانت نظرة الإمام علیه السلام في منتهى الأصالة حين وضع يده على أساس الداء فعالجه بقوة وصرامة وصراحة.

وأساس الداء في ذلك كله، هو سوء التوزيع للموارد الاقتصادية بين المسلمين،حتى أحدث ما أحدث من تفاوت طبقي كبير وثروات طائلة بيد فئة خاصة، تقابلها فئة أخرى مسرفة بالعوز والفاقة والفقر، وهي معرّضة لإفراغ نقمتها على السلطة - منشأ فقرها - في أي وقت وكان مبعث هذا التفاوت في بدايته هو الخليفة الثاني - كما قدّمنا - وقد سبق لنا أن ذكرنا أنه لمس بيديه ما أحدثه تشريعه من مفارقات بين المسلمين، فقال قولته: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسّمتها على فقراء المهاجرين».(1)

ثم جاء الخليفة الثالث فوجد الباب أمامه مفتوحاً ، فنفذ منه بعد أن وسعه، وغيّر فيه إلى ما تحدثنا عنه من سياسته المالية المعروفة ، التي شاركت في تعجيل مصيره المحتوم فكان لا بد للإمام علیه السلام أن يسارع إلى إعلانها حرباً شعواء على أولئك الذين أثروا على حساب الآخرين إثراء غير مشروع حرصاً على إعادة ما فقده المجتمع من التوازن، ورفعاً لما دخل على الطبقة الضعيفة من الحيف.

وقد أعلنها في اليوم الثاني لبيعته وضمنها منهاج حكمه، وقد حضر صاحبنا فيما يبدو خطبته، وحدّث عن ذلك.. يقول أبو صالح: إن ابن عباس حدثه: «إن علياً خطب في اليوم الثاني من بيعته فقال : أيها الناس إنما أنا رجل منكم، لي مالكم، وعلي ما عليكم، وإني حاملكم على منهج نبيكم، ومنفّذ فيكم ما أُمرت به، ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به النساء وفرّق به البلدان لرددته إلى حاله، فإن في

ص: 289


1- تأريخ الطبري ج 5: 33

العدل ،سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عنه أضيق (1)، وتتمّة الخطبة: «ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة واتخذوا الوصائف المرققة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يرى أن الفضل له على سواه لصحبته، فإن الفضل النير غداً عند الله، ثوابه وأجره على الله، ألا وأيما رجل استجاب لله ولرسوله فصدّق ملتنا ودخل ديننا واستقبل قبلتنا فقد أستوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله والمال مال الله يقسم بينكم بالسويّة، ولا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً وما عند الله خير للأبرار.

فإذا كان غد إن شاء الله فاغدوا علينا، ولا يتخلفنّ أحد منكم عربي أو عجمي كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر إذا كان مسلماً حراً».(2)

وبالطبع إن هذا الخطاب أحدث هزّة في نفوس أرباب الثروات المحرمة وأفلتها عليهم، وتركهم في حيرة من مستقبل أموالهم، كما أحدث هزة في نفوس الوصوليين والانتهازيين ممن حرموا من الثروات في أيام عثمان لبعض الاعتبارات، أو كانوا على أمل في ازدياد ثرواتهم على يد خليفتهم الجديد، سواء كانوا زعماء أم ذوي سابقة في صحبته أو جهاده، ورضي عنه سواد الناس وغوغاؤهم من فقراء ومستضعفين وموالي وغيرهم.

ص: 290


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 90
2- المصدر السابق ج 2 : 171

وكان موضع الغرابة - فيما أخال - سرعته في تنفيذ منهاجه حرفياً، وأمره بالوقت: «أن تسترجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو اصيب أصحابها»(1)، حتى إذا جمع لديه شيء من المال أمر بتوزيعه على السواء، وبذلك أعاد للنظام الاقتصادي في الإسلام جدته وروعته بعد أن بعد به العهد وتقادم منذ تشريع الخليفة الثاني لنظام الطبقات.

ومن الطريف أن يأتي إليه بعض من أصابهم الغرم بهذا التوزيع وهم متقمصون ثوب الناصحين له، ليدلوا إليه بنصيحتهم بالعزوف عن هذه السياسة والعودة بهم إلى النظام السابق؛ مراعاة لميول الطبقة المرفهة، فيجيبهم الإمام علیه السلام بقوله: «أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أم نجم في السماء نجماً، ولو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله؟! ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة»(2)، وكأنه يقول: إن لدي حاجزين عن تقبّل نصيحتكم.. حاجز ديني يمنعني من الانتصار بالجور؛ لأن المال مال الله، ووظيفتي أن أسوّي، بين عباده، كما صرح بذلك دستورنا الإسلامي، وحاجز نفسي يمنعني من حرمان الضعيف، لا لشيء إلّا لأنه ضعيف، ولو كنت أنا مالك المال لأبت على نفسيتي أن أفاوت في توزيعه على الناس، فكيف والمال مال الله ؟!.

وقد كان هذا الإجراء الصارم السريع من الإمام علیه السلام بمثابة المنبه لوعي أصحاب رؤوس الأموال من المسلمين حيث بدأت موازناتهم - فيما أخال - بين الاحتفاظ بدينهم، وذلك بتقبل هذه السياسة ونظائرها من الإمام علیه السلام ، وهي تذكّرهم بسياسة

ص: 291


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 90
2- المصدر السابق ج 2 : 305

النبي صلى الله عليه و آله وسلم ومنهاجه في الحكم، والاحتفاظ بأموالهم وثرواتهم وقيمهم الاجتماعية.

وكان أكثر المهاجرين والأنصار وأبنائهم ممن تركزت مبادئهم في أعماقهم في جنب سياسة الإمام علیه السلام فأقبلوا معه على التضحية لا بأموالهم فحسب، بل بنفوسهم وما يملكون ، وقد أسلموا له القياد إلى حيث يوجه بهم في الحياة، وأما من أسلم من قريش متأخراً، ومعهم بعض المهاجرين والأنصار من ذوي المصالح الخاصة، فإنهم آثروا الاحتفاظ بها مهما كلّفهم الأمر . ويأتي على رأس هؤلاء طلحة والزبير ومن يعمل لهما، ثم الأمويون، وابن العاص، ونظائرهم من الناس.

(4)

ولطلحة والزبير حديث خاص وعاه صاحبنا - فيما أخال - منذ رافقهما في أيام عثمان، بل منذ عهد الشورى حين تركت في نفوسهم الميل إلى الخلافة والسعي نحوها، وقد رآهما على رأس حزبين قويين في أيام عثمان، ورأى مدى ما بذلاه من نشاط في إقلاق الرأي العام، كانت كفّة طلحة - من كفّتيهما - هي الراجحة، وكان يظن أن الخلافة صائرة إليه حتماً؛ وبما شارك في قيادة الثورة على الخليفة السابق، وما جمع حوله من أنصار، وكان له من عائشة - أم المؤمنين - ركيزة قوية يعتمدها في المهمات.

وصاحبنا لم ينس بعد محاولتها لجره إلى حضيرتها، وهي تذكره بمقام طلحة وحسن سيرته، ثم لم ينسَ موقفها من عثمان، وإنه ليعلم أنها ما خرجت من المدينة حتى حرّقت عليه البلاد على حد تمثل مروان، وذلك حين طلب إليها أن تتأخر لتردّ عن صاحبه الناس فأبت عليه ... يقول الراوي : فقام وهو يقول:

«وحرّق قيس عليَّ البلا***دحتى إذا اضطرمت أجذما».

ص: 292

فقالت عائشة: يا مروان وددت والله أنه - تعني عثمان - في غرارة من غرائري هذه، وأني طوّقت حمله حتى ألقيه في البحر»(1)

ولما بلغها قتله بشراف لم تشك - كما يقول المدائني - : «في أن طلحة هو صاحب الأمر، وقالت: بُعداً لنعثل وسحقاً، إيه ذا الإصبع، إيه أبا شبل، إيه يا ابن عم، لكأني انظر إلى إصبعه وهو يبايع له.. ثم قالت: حثوا الإبل ودعدعوها».(2)

وقد كان من إيمان صاحبها بانتهاء الأمر إليه أنه أخذ مفاتيح بيت المال - بعد مقتل عثمان - ونجائب كانت له في داره ، يقول المدائني : « ثم فسد أمره فدفعها إلى علي بن أبي طالب».(3)

وما كان الزبير -فيما أخال - يأمل أن الأمر سينتهي إليه مع وجود الإمام علیه السلام ، ولكنّه كان يطمع أن يكون له شأن من الشأن في ولايته علیه السلام ، نظراً لوقوفه في جنبه منذ حادثة السقيفة، وربّما اعتبر نفسه هو المرشح الوحيد بعده لها، وما كان يظن - فيما أعتقد - أن الإمام علیه السلام سيسوّي بينه وبين سائر المسلمين ممن لهم سابقة، وربما قدم عليه من المغمورين من يطمئن إلى دينه وتقواه ومحافظته على دستوره ومنهاجه أكثر منه، وكان في الزبير غمزات استدعتها ثروته الواسعة والتسامح في جمعها من جهة، واستيلاء ولده عبد الله عليه، مع ما فيه من نواح لا يمكن لمثل الإمام علیه السلام أن يطمئن إليها من جهة ثانية، ومثل هذه الغمزات لا بد أن تثير في نفس الإمام علیه السلام شكوكاً لا يصح معها التسرع في إفساح المجال أمامه للاستيلاء على رقاب الناس.

ومثل هذه الغمزات موجودة في أخيلة طلحة أيضاً، فمن الطبيعي إذاً أن لا يجد

ص: 293


1- أنساب الأشراف ج 5 : 75
2- شرح نهج البلاغة ج 2 : 77، نقلا عن المدائني في كتابه الجمل
3- المصدر السابق

هذان الشيخان ما كانا ينتظرانه لأنفسهما في هذا لعهد الجديد، وأن يهجس معاوية ذلك؛ فيعمل على إفساد قلوبهما على الإمام علیه السلام ، وما كان ليخفى عليه أن الزبير كان أركز في نفوس الناس من ،طلحة، وأكثر علقة بالإمام علیه السلام من صاحبه، فإبعاده عن الإمام علیه السلام ثروة لا تعادلها ثروة، فكتب لذلك إليه: «لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك ، أما بعد فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الحلب، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب فإنه لا شيء بعد هذين المصرين، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهر الطلب بدم عثمان وادعوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجد والتشمير أظفركها الله وخذل مناوئيكا يقول الراوي: «فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سر به، وأعلم به طلحة وأقرأه إياه، فلم يشكّا في النصح لهما من قبل معاوية، وأجمعا عند ذلك على خلافة على علیه السلام».(1)

وكانت بداية الخلاف أنهما جاءا إلى الإمام علیه السلام يطلبان إليه أن يولّيهما البصرة والكوفة، وكان جواب الإمام علیه السلام قاطعاً عندما طلب إليهما إمهاله حتى يرى الرأي، ثم لوّح لهما بمقياسه في التولية بقوله - كما في بعض الروايات -: «واعلما إني لا أشرك في أمانتي إلّا من أرضى بدينه وأمانته من أصحابي» وكان هذا المقياس وحده كافياً لبعث اليأس في نفسيهما، يقول الراوي: «فانصرفا عنه وقد دخلها اليأس».(2)

وعلى طريقة النبي صلی الله علیه و آله وسلم في استشارة أصحابه فيما يعِنّ له من أحداث، يقال: إن الإمام علیه السلام استشار المغيرة في أمرهما، فأشار عليه بتوليتهما؛ حتى يستقيم له أمر الناس، ولكن الإمام علیه السلام لم يأخذ برأيه وأخذ برأي صاحبنا وكان أبصر بهما وأعمق نظرة، وذلك حين خلا به واستشاره في أمرهما ، فأجابه قائلاً: «يا أمير المؤمنين إن الكوفة

ص: 294


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 77
2- المصدر السابق

والبصرة عين الخلافة وبهما كنوز الرجال، ومكان طلحة والزبير من الإسلام ما قد علمت ولست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمراً، يقول محدّث الحديث : فأخذ علي علیه السلام برأي ابن عباس»(1)، وهذا هو الطبيعي أيضاً لما نعرف من عمق صاحبنا وإخلاصه لبطله، وبصره بشؤون السياسة، وحسن معرفته بهما، ولكن بعض من أراد أن يُسمع الناس نقد سياسة الإمام علیه السلام من لسان ابن عباس؛ لما اشتهر عنه من العمق وعدم التهمة، أراد له أن يكون في جنب المغيرة في إشارته بتوليتهما؛ ليتم لهم بعد حين أن يقولوا إن الإمام علیه السلام لو أخذ برأي هذين الداهيتين ،وولاهما لما وقعت في عهده هذه الحروب.

وما أدري ما كان قيمة رأيهما لو استقل معاوية بالشام، وطلحة بالبصرة، والزبير بالكوفة، وقد رأينا سرورهما بكتاب معاوية لهما، وأين يكون موقع إشارة هاتين الداهيتين من مصلحة الإمام علیه السلام لو عمل برأيهما ؟! - إن صح أن صاحبنا قد أشار بذلك مع المغيرة - وسنرى من وصولية هذين الشيخين - فيما يجد من أحداث - ما يكشف لنا عن مدى مدى تقيّدهما بما يعطيانه من عهود

(5)

ولو كان للإمام علیه السلام خلق بعض السياسين - الذين سوّغوا لأنفسهم الأخذ بالجريرة قبل حدوثها، فضربوا على المشتبه بهم سياجاً من حديد قبل أن تقوم عليه حجّة يصح الاستناد إليها في خنق حرياتهم - لكان له مع هذين الشيخين حديث آخر، وإلا فما كان الإمام علیه السلام ولا كان صاحبنا بغافلين عنهما، وعما ينطويان عليه من غدر حين ارتأيا منعهما من الولاية.

ص: 295


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 77

ثم ما كان الإمام علیه السلام بغافل عن ذلك أيضاً، حين جاءا يستأذنانه بالعمرة، فحدّرهما مغبة خروجهما ، ولوّح لهما بما ينويان القيام به. يقول الراوي: «دخل الزبير وطلحة على علي علیه السلام فاستأذناه في العمرة، فقال: ما العمرة تريدان فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة، فقال لهما ما العمرة تريدان، وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة، فحلفا بالله ما الخلاف عليه، ولا نكث بيعته يريدان، وما رأيهما غير العمرة، قال لهما فأعيدا البيعة لي ثانية فأعاداها بأشد ما يكون من الأيمان والمواثيق، فأذن لهما، فلما خرجا من عنده قال لمن كان حاضراً : والله لا ترونهما إلا في فتنة يقتتلان فيها، قالوا: يا أمير المؤمنين فمر بردّهما عليك ، قال : ليقضي الله أمراً كان مفعولا».(1)

وكانت هذه الالتزامات والأيمان وحدها كافية لأن تصدّهما عن القيام بأية حركة، لو كان هناك وازع من ضمير يحسن التصرف في سلوك أمثالهما من الناس.

وكان موقف الإمام علیه السلام مع غيرهما من أمثال مروان بن الحكم ونظائره من بني أمية ،وقريش ممن بايعوا الإمام علیه السلام ، لا يختلف عن موقفه معهما في التسامح وعدم الحجر، قبل أن تقوم الحجّة عليهم، وقد كان من ذلك أن اجتمع على عائشة بمكة لفيف غريب، لا يمكن أن يلتقي في ميوله بغير بغض الإمام علیه السلام .

ولعائشة - ما دمنا بصدد حديثها - مع الإمام علیه السلام في عهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم حديث قديم وهو ذو شعب وشجون يهمنا تفصيلها الآن، وربّما كانت بعض أصولها معروضة فيما سبق لنا من حديث، وقد يشير إلى بعضها حديثها الآتي مع أم سلمة.

وحسب صاحبنا أن يعطينا عنها فكرة إجمالية بما سبق له من قول، وكانت لا تطيب له نفسها بخير، ثم جاءت حوادث السقيفة فأزادتها تعقيداً على تعقيد، وجاء بعد ذلك

ص: 296


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 77

عهد عثمان ولمسنا موقفها منه وتحريضها عليه، ودعوتها في الأثناء إلى طلحة، وتوثّقها بأن الأمر سينتهي إليه بما مهدت له، وما كانت لتظن - فيما أخال - بأن صاحبها سيخفق في نضاله، وتذهب تلكم الجهود الواسعة سدى، ولكنها تفاجأ وهي عائدة من مكة بقريبها ابن أم كلاب يحمل لها أكثر من خيبة أمل واحدة أثارت في نفسها أعقد رواسبها القديمة - وربّما ذكرتها بقولة ابن عباس : «يا أمّه لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا» - قال: «قتل عثمان وبقوا ثمانية، قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي فقالت ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك، ردوني.. ردوني.. فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه، فقال لها ولم؟ والله إن أول من أمال حرفه ،لأنت، ولقد كنت تقولين: أقتلوا نعثلاً فقد کفر، قالت إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت.. وقالوا.. وقولي الأخير خير من قولي الأول، فقال لها ابن أم كلاب:

فمنك البداء ومنك الغير***ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام***وقلت لنا إنه قد كفر

إلى آخر الأبيات..»(1)، ثم تلت بعد ذلك كتاباً من طلحة والزبير جاء به ابن أختها

عبد الله قبل مجيء الشيخين يأمرانها بتخذيل الناس عن الإمام علیه السلام وإظهار الطلب بدم عثمان، فكاشفت الناس بذلك، وأظهرت الطلب بدم عثمان.(2)

ومن طريف المفارقات أن يجتمع هؤلاء - على ما بينهم من تباين وترات - على المطالبة بدمه مع أنهم موزعون في موقفهم منه، بين قائد للثورة عليه كطلحة، ومحرّض ملحف في التحريض كعائشة والزبير، وخاذل كبعض ولاة بني أُمية، ممن استنصرهم

ص: 297


1- تأريخ ابن الأثير ج 3: 102
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 2 : 77

فأبطؤوا عنه، وموغر لقلوب الناس عليه بسوء تصرفاته، كمروان وأشباهه من بطانته، وقد عرفنا - بما عرضنا من فصول - مدى موقف الإمام علیه السلام من عوامل الفتنة، وموقف أمثال هؤلاء، وعلى أيّهم تقع تبعة قتل عثمان.

وربّما عرفنا ابن عباس فيما يأتي من أحاديث أطرافاً مهمة تكشف عن كثير من أسرار هذه المفارقات.

وأطرف من ذلك أن تطمع عائشة في أم سلمة وتعمل جاهدة على حملها معها للنهوض، مع ما بينهما من تباين في الخلق والمزاج والنظرة لآل البيت، وفيما دار بينهما من حديث صورة من صور ذلك التباين، يقول أبو مخنف : «جاءت عائشة إلى أم سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان، فقالت لها : يا بنت أبي أُمية، أنت أول مهاجرة من أزواج رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وأنت كبيرة أمهات المؤمنين ، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقسم لنا من بينك، وكان جبرائيل أكثر ما يكون في منزلك»، فقالت أم سلمة - وقد أدركت بثاقب وعيها أن هذا الثناء غير طبيعي من ضرتها، ولا بد وراءه ما وراءه - فاستفسرتها قائلة: «لأمرٍ ما قلت هذه المقالة، فقالت عائشة : إن عبد الله أخبرني أن القوم استتابوا عثمان، فلما تاب قتلوه صائماً في شهر حرام، وقد عزمت على الخروج إلى البصرة، ومعي الزبير وطلحة فاخرجي معنا لعل الله أن يصلح هذا الأمر على أيدينا وبنا».

قالت أم سلمة وقد هالها أن يبلغ الأمر بعائشة هذا المبلغ فتنتهي إلى مثل هذه المفارقات فأرادت أن تعود بها من طريق الوعظ والتذكير إلى وظيفتها كأم للمؤمنين - : «أنا أم سلمة - وكأنها تذكرها أن مثل هذه اللغة لا يمكن أن ينطلي عليها ما تهدف إليه من ورائها - إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان وتقولين فيه أخبث القول، وما كان اسمه عندك إلا نعثلاً، وإنك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب علیه السلام عند رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، أفأذكّرك؟ قالت : نعم قالت: أتذكرين يوم أقبل علیه السلام ونحن معه، حتى إذا هبط من قديد

ص: 298

ذات الشمال خلا بعلي يناجيه فأطال فأردت أن تهجمي عليهما، فنهيتك فعصيتني، فهجمت عليهما، فما لبثت أن رجعت باكية، فقلتُ : ما شأنك؟ فقلت: إني هجمت عليهما وهما يتناجيان، فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلا يوم من تسعة أيام، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي ؟ فأقبل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم على وهو غضبان محمر الوجه فقال : ارجعي وراءك، والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلا وهو خارج من الإيمان، فرجعتِ نادمة ساخطة، قالت عائشة : نعم أذكر ذلك.

قالت: وأذكرك أيضاً كنت أنا وأنت مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأنت تغسلين راسه، وأنا أحيس له حيساً، وكان الحيس يعجبه، فرفع رأسه وقال: يا ليت شعري أيتكنّ صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب ، فتكون ناكبة عن الصراط، فرفعت يدي من الحيس وقلتُ: أعوذ بالله وبرسوله من ذلك، ثم ضرب على ظهرك وقال: إياك أن تكونيها، ثم قال : يا بنت أبي أمية إياك أن تكونيها يا حميراء، أما أنا فقد أنذرتك، قالت عائشة: نعم أذكر هذا.

قالت : وأذكرك أيضاً كنت أنا وأنت مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في سفر له، وكان علي يتعاهد نعلي رسول الله فيخصفها، ويتعاهد أثوابه فيغسلها، فنقبت له نعل فأخذها يومئذ يخصفها وقعد في ظل سمرة، وجاء أبوك ومعه عمر فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب ودخلا يحادثانه فيما أرادا ثم قالا: يا رسول الله إنا لا ندري قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعاً؟ فقال لهما: أما إني قد أرى

مكانه، ولو فعلت لتفرقتم عنه، كما تفرّقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران، فسكتا

ثم خرجا، فلما خرجنا إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم هل قلت له - وكنت أجرأ عليه منا - من كنت يا رسول الله مستخلفاً عليهم ؟ فقال : خاصف النعل، فنزلنا فلم نر أحداً إلا علياً، فقلتِ: يا رسول الله ما أرى إلّا علياً ، فقال : هو ذاك، فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك.

ص: 299

فقالت فأي خروج تخرجين بعد هذا، فقالت: إنّما أخرج للإصلاح بين الناس وأرجو فيه الأجر إن شاء الله .

وكان هذا الإصرار من عائشة - رغم هذا الوعظ والتذكير - مبعث يأس في نفس أم سلمة، فقالت لها: «أنت ورأيك».(1)

ثم رأت أن تكتب للإمام علیه السلام بهذا الحديث، فكتبته إليه فيما يقول روايه.

ثم كتبت إليه بعد تصميم القوم على الخروج - فيما يروي ابن الكلبي -: «أما بعد، فإن طلحة والزبير وأشياعهم أشياع الضلالة، يريدون أن يخرجوا بعائشة إلى البصرة ومعهم ابن الحزان عبد الله بن عامر بن كريز، ويذكرون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنهم يطلبون بدمه والله كافيهم بحوله وقوته، ولولا ما نهانا الله عنه من الخروج وأمرنا به من لزوم البيوت، لم أدع الخروج إليك، والنصرة لك ولكني باعثة نحوك إبني عدل نفسي مر بن أبي سلمة، فاستوص به يا أمير المؤمنين خيراً».(2)

وفي تأريخ ابن خلدون أن والدة صاحبنا - أم الفضل - هي التي بعثت بخبر طلحة والزبير إلى الإمام علیه السلام.(3)

وأخال أن ذلك جاء من خلط الرواة بينها وبين أم سلمة، وإلا فالذي قربناه - فيما سبق - أنها توفيت في عهد عثمان، قبل وفاة زوجها بقليل.

ويبدو أن حديث أم سلمة وتذكيرها لعائشة بقول النبي صلی الله علیه و آله وسلم ترك في نفس عائشة قلقاً كبيراً، وقف دون نسيانها للحديث أو تناسيه، وظهر أثر ذلك القلق عندما شاهدت

ص: 300


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 77 - 78
2- المصدر السابق ج 2 : 78
3- انظر تأريخ ابن خلدون ج 2 : 408

كلاب الحوأب وهي تنبحها في أثناء الطريق.. يقول صاحبنا - فيما حدّث عنه صالح - وغير صاحبنا من رواة الحادثة: «لما خرجت عائشة وطلحة والزبير من مكة إلى البصرة ، طرقت ماء الحوأب ، وهو ماء لبني عامر بن صعصعة، فنبحتهم الكلاب فنفرت صعاب إبلهم، فقال قائل منهم : لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها، فلما سمعت عائشة ذكر الحوأب قالت أهذا ماء الحوأب ؟ ! قالوا: نعم، فقالت ردوني.. ردوني فسألوها من شأنها ما بدا لها، فقالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت بعض نسائي، ثم قال لي : إياك يا حميراء أن تكونيها، فقال لها الزبير : مهلاً يرحمك الله فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب ؟ فلفّق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابياً جعلا لهم جعلاً، فحلفوا لها وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب، فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام».(1)

ويبدو أن هذه الشهادة المزوّرة كان لها أثرها في تخفيف ما وقعت فيه من ضغط الضمير وكانت من التبريرات التي يلتمسها اللاشعور عادة؛ لتسكين ثورته الكامنة.

ويظهر أن حادثة الحوأب وتحذير النبي صلى الله عليه و آله وسلم لها كانت مشهورة لدى أهل البيت عليهم السلام، فقد حدّث بها ابن عباس عكرمة فيما يروي ، وفيها زيادة على المضمون السابق : «يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة، كلهم في النار، وتنجو بعدما كادت».(2)

وفي رواية الطبري وأبن الأثير أنها قامت في الموضع لا تبرحه يوماً وليلة، حتى جاءها عبد الله بعد أن أعجزته الحيل في إقناعها على المسير - وهو يقول: «النجاء النجاء

ص: 301


1- شرح نهج البلاغ ج 2 : 497 ، وانظر تأريخ الطبري ج 5 : 171
2- المصدر السابق ج 2 : 497

قد أدرككم والله علي بن أبي طالب».(1)

(6)

وكان الإمام علیه السلام في أثناء ذلك، وكان صاحبنا معه، يتأهبون لغزو الشام قبل أن يبدأهم معاوية، بعد أن أعلن معارضته وأظهر تباكيه على عثمان، وإلقاء التبعة على الإمام علیه السلام، وشرع في إعداد أهل الشام للحرب، وكان من ثقة الإمام علیه السلام بصاحبنا، وكفاءته وحسن قيادته، أن اختاره قائداً لميمنة جيوشه(2)، وهو اختيار في موضعه.. كما سنشاهد بعد حين دلائل ذلك.

وبينما هم يتأهبون وإذا بالمخبر يخبرهم بخروج طلحة والزبير وعائشة، فكان لا

بدّ لهم أن يسارعوا ليقطعوا عليهم الطريق، ولكن القوم كانوا أسرع منهم ففاتوهم، وبلغ الإمام علیه السلام ذلك وهو بالربذة فأقام بها، ثم بعث برسله إلى أهل الكوفة على دفعات يستنفرونهم للجهاد، وان في جملة الرسل ابن عمه ودارت هناك محاورات عدة بينهم وبين أبي موسى الاشعري والي الكوفة من قبل عثمان ، ثم من قبل الإمام علیه السلام وكان يميل في أعماقه إلى ابن عمر، ويعمل له تحت الستار، فكان يخذل عن الإمام علیه السلام ويدعو الناس إلى الخلود إلى السكون والهدوء(3)حتى تنجلي هذه المعارك، وكاد يحدث في نفوسهم ،بلبلة ولولا أن تتعاون عليه ألسنة صاحبنا ومحمد بن أبي بكر وابن جعفر ثم الإمام الحسن علیه السلام وعمار، ثم مالك الأشتر وقد سبق له أن زكّاه لدى الإمام علیه السلام ورغّب إليه بإبقائه والياً على الكوفة، وما كان ليظن أن الأمر يبلغ به هذا المبلغ ، فأرسله الإمام علیه السلام

ص: 302


1- تأريخ الطبري ج 5 : 171، تأريخ ابن الأثير ج 3: 104
2- انظر تأريخ ابن خلدون ج 2 : 406
3- انظر شرح نهج البلاغة ج 3: 294

ليصلح من أمره ما أفسد.. فأقبل إلى قصر الإمارة رأساً فاحتله وأخرج منه خدمه، فجاؤوا يهرعون وهو على المنبر يثبط الناس، والإمام الحسن علیه السلام يقول له : «اعتزل عملنا - لا أم لك - وتنح عن منبرنا»، وهم ينادون: «أيها الأمير هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا».(1)

ونزل عن المنبر واقبل على القصر، فنهره الاشتر ومنعه عن الإقامة فيه، ثم هرعت الكوفة إلى نصرة الإمام علیه السلام ، وكان قد ارتحل من الربذة إلى ذي قار، فاستقبلهم بذي قار واستقبلهم معه ابن عباس فيما يقول ابن الاثير.(2)

وكانت عدتهم كما أخبر عنها الإمام علیه السلام قبل مجيئهم اثني عشر ألف رجل ورجل واحد ، لم يزيدوا ولم ينقصوا، كما حدّث بذلك أبو الطفيل.(3)

ومن الطريف أن يحدّث صاحبنا عن قيمة الحكم في نفس الإمام علیه السلام بحديث وقع له معه قبل أن يرحل من هذا المكان ، يقول : «دخلت على أمير المؤمنين علیه السلام بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذه النعل فقلت: لا قيمة لها فقال علیه السلام: والله لهي أحب إليَّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً».(4)

وفي الربذة أو ذي قار - على اختلاف في الرواية - جاءهم عثمان بن حنيف وهو أمرد، وكان والياً من قبل الإمام علیه السلام على البصرة ، فلما رأى الإمام : بكى وقال له: فارقتك شيخاً وجئتك أمرد فقال الإمام علیه السلام: إنا لله وإنا إليه راجعون.(5)

ص: 303


1- تأريخ الطبري ج 5 : 190
2- انظر تأريخ ابن الأثير ج 3: 116
3- انظر تأريخ الطبري ج 5: 199
4- شرح نهج البلاغة ج 1 : 176
5- انظر تأريخ الطبري ج 5 : 186 ، انظر تأريخ ابن خلدون ج 2 : 414

ومأساة عثمان هذا، وموقف طلحة والزبير وعائشة منه يريويها صاحبنا مفصلاً، ويرويها غيره من الرواة، وهي تصوّر لك كيف تطغى شهوة الحكم في بعض النفوس على جميع ما تملكه من قيم فتنسيها حتى أبسط مبادئ اللياقة.

وملخص هذه القصة أن عثمان هذا لم يشأ أن يبادئ القوم بحرب، رغم اجتماع أكثريّة البصرة عليه، وبيده القوة والمال، ورغم إشارة جماعة من زعمائها عليه بذلك، إلا أن خُلقه كان يأبى عليه ذلك، شأن تلاميذ الإمام علیه السلام، ولأنه كان ينتظر أمر إمامه بهم، بعد أن راسله في ذلك.

وقد حاولوا أن يدخلوا البصرة بالرغم عليه، فمنعهم ودارت بينهم معارك انتهت في غير صالحهم (1) وهم يتذرعون بالطلب بدم عثمان، وكان فيمن جاءهم عاذلًا لهم عبد الله بن حكيم التميمي، ومعه كتب كان طلحة والزبير كتباها إليه فقال لطلحة: «يا أبا محمد أما هذه كتبك إلينا ؟ قال بلى قال فكتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله حتى إذا قتلته أتيتنا ثائراً بدمه فلعمري ما هذا رأيك، لا تريد إلّا هذه الدنيا».(2)

وكان آخر ما انتهى إليه الفريقان المتحاربان بعد معركة دامية هو التصالح بشروط سجّلوها بهذا الكتاب: «هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين، من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما، أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاؤوا من البصرة، ولا يضار بعضهم بعضاً في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة ولا مرفق، حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فإن أحبّوا دخلوا فيها دخلت فيه الأمة وإن أحبّوا لحق

ص: 304


1- انظر شرح نهج البلاغة ج 2 : 500
2- شرح نهج البلاغة ج 2 : 500

كل قوم بهواهم وما أحبّوا من قتال أو سلم،أو خروج أو إقامة، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه، وأشدّ ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمّة».(1)

وكان تقيّد الشيخين بما جاء فيه من عهود لا يختلف عن تقيّدهما بما أعطياه للإمام علیه السلامفي أثناء بيعته وبعد بيعته..

يقول المحدّث : «فلما استوثق لطلحة والزبير أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما أصحابهما، قد ألبسوهم الدروع وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر، وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه.. وأقيمت الصلاة، فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره أصحاب طلحة والزبير، وقدّموا الزبير، فجاءت السبابجة - وهم الشرط حرس بيت المال - فأخرجوا الزبير وقدموا عثمان، فغلبهم أصحاب الزبير فقدموا الزبير وأخروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع، وصاح بهم أهل المسجد : ألا تتقون أصحاب محمد وقد طلعت الشمس!! فغلب الزبير فصلى بالناس، فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المسلحين أن خذوا عثمان بن حنيف فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفيهما، فلما أُسر ضُرب ضرب الموت ونتف حاجباه وأشفار عينيه وكل شعرة في رأسه ووجهه، وأخذوا السبابجة وهم سبعون رجلاً فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة، فقالت لأبان بن عثمان: أخرج إليه فاضرب عنقه، فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله، فنادى عثمان: يا عائشة و يا طلحة ويا زبير إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة، واقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي منكم أحداً. فكفّوا عنه»(2)، ثم عمدوا إلى السبابجة فذبحوهم جميعاً كما يذبح الغنم، وضمّوا بذلك

ص: 305


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 500 ، وانظر تأريخ الطبري ج 5 : 177
2- شرح نهج البلاغة ج 2 : 500

إلى نكث البيعة نقض العهد وسفك الدماء، وهكذا انتهت مأساة هذا العبد الصالح الذي ذهب إلى البصرة شيخاً - كما يقول - فعاد منها وهو أمرد.

وسار الإمام غلیه السلام بعد ذلك بمن جاءه من الكوفة ومن انضم إليه من أهل المدينة ومن القبائل في أثناء الطريق، وكان على مقدمته عبد الله بن العباس(1)، حتى بلغ البصرة فدخلها مما يلي الطّف، يقول المنذر بن الجارود وهو يصف موكبه الرائع: «فورد موكب نحو ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب عليه قلنسوة وثياب بيض، متقلد سيفاً معه راية، وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصفرة، مدججين في الحديد والسلاح فقلت : من هذا قيل : أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وهؤلاء الأنصار ،وغيرهم، ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض، متقلد سيفاً متنكب قوساً معه راية على فرس معه راية، على فرس أشقر، في نحو ألف فارس، فقلت: من هذا فقيل: هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين»، وهكذا تتابع في وصف من مرّ عليه كعمار بن ياسر في عدة من الصحابة مهاجرين وأنصاراً وأبناءهم، وقيس بن سعد في الأنصار وغيرهم من قحطان.. إلى أن يقول: «ثم مر بنا فارس على فرس أشهل، وما رأينا أحسن منه، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه بلواء، قلت: من هذا قيل : هو عبد الله بن العباس في عدة من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم»، وكانت الراية العظمى مع محمد بن الحنفية، وهو أمام الإمام علیه السلام وحولها فتيان هاشم ومشايخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار،يقول المحدّث : «فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية، فصلى أربع ركعات وعفر خديه على التربة، وقد خالط ذلك دموعه، ثم رفع يديه يدعو: اللهم ربّ السموات وما أظلّت والأرضين وما أقلّت، وربّ العرش العظيم، هذه البصرة أسألك من خيرها وأعوذ بك من شرها اللهم أنزلنا فيها خير منزل وأنت خير

ص: 306


1- انظر تأريخ خليفة بن خياط ج 1: 164

المنزلين، اللهم هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا عليّ ونكثوا بيعتي، اللهم أحقن دماء المسلمين».(1)

(7)

وعلى خطة الإمام علیه السلام ونهجه في دعوته للسلام وحقن الدماء، لم يبادئ القوم بقتال، وكان جل همّه أن يعود بهم من طريق المفاوضات والتفاهم إلى حضيرته، فكان صاحبنا من أهم سفرائه للتفاهم، أرسله مرة إلى الزبير، وكان طمعه فيه أكثر من طمعه في صاحبه ، يقول الرضي - ومن كلام له لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير، قبل وقوع الحرب يوم الجمل؛ ليستفيئه إلى طاعته - : «لا تلقينَّ ،طلحة، فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه، يركب الصعب ويقول : هو الذلول، ولكن الق الزبير فإنه ألين عريكة، فقل له يقول ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عدا مما بدا!»(2) وفي رواية أبي مخنف أنه قال له : «إن أمير المؤمنين يقول لكم : ألم تبايعني طائعاً غير مكره، فما الذي رابك مني فاستحللت به قتالي؟!» وذهب صاحبنا فأدى رسالته، وما كان جواب الزبير عليها إلّا أنه قال: «إنّا مع الخوف الشديد لنطمع ولم يقل غير ذلك، قال أبو إسحق : سألت محمد بن علي بن الحسين علیهم السلام ما تراه يعني بقوله هذا فقال: «أما والله ما تركت ابن عباس حتى سألته عن هذا فقال: يقول إنا مع الخوف الشديد مما نحن عليه نطمع أن نلي مثل الذي ولّيتم».(3)

وبعثه مرة ثانية - فيما يبدو إلى طلحة والزبير معاً، ومعه كتاب الله يدعوهما إليه،

ص: 307


1- مروج الذهب ج 2 : 244 - 245
2- شرح نهج البلاغة ج 1 : 169
3- شرح نهج البلاغة ج 2 : 499

يحدّث هو عن نفسه : «بعثني علي يوم الجمل إلى طلحة والزبير، وبعث معي بمصحف منشور، وإن الريح لتصفّق ورقه، فقال لي: قل لهما هذا كتاب الله بيننا وبينكم، فما تريدان؟ فلم يكن لهما جواب إلا أن قالا : نريد ما أراد، كأنهما يقولان الملك، فرجعت إلى علي فأخبرته».(1)

وفشلت كل محاولة للإمام علیه السلام في جرّهما إلى الصلح وتعبّأوا اللقتال، وبلغ الإمام علیه السلام ذلك فعبّأ أصحابه، ووضع صاحبنا على مقدمة جيشه.(2)

«وبعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء، وقال: علام يقاتلونني؟ فأبوا إلا الحرب، فبعث رجلاً من اصحابه يقال له مسلم معه مصحف يدعو إلى الله، فرموه بسهم فقتلوه فحمل إلى علي، وقالت أمّه :

يا ربّ إنّ مسلماً أتاهم***يتلو كتاب الله لا يخشاهم

فخضّبوا من دمه لحاهم***وأُمّه قائمة تراهم

وأمر علي أن يصافوهم ولا يبدؤوهم بقتال، ولا يرموهم بسهم ولا يضربوهم ولا يطعنوهم برمح حتى جاء عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخ له مقتول، وجاء قوم من الميسرة برجل قد رُمي بسهم فقتل، فقال علي : اللهم اشهد».(3)

ثم ألقى الإمام علیه السلام بتعاليمه إلى جيشه فقال فيما قال: «أيها الناس إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً ولا تتبعوا مولياً، ولا تطلبوا مدبراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل ولا تهتكوا ستراً، ولا تقربوا من أموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع أو عبد أو أمة، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على

ص: 308


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 499
2- انظر الإمامة والسياسة ج 1 : 65
3- مروج الذهب ج 2 : 246

كتاب الله».(1)

وكان الإمام علیه السلام ما يزال طامعاً في الزبير، فخرج علي بنفسه حاسراً على بغلة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، لا سلاح عليه فنادى: يا زبير أخرج إلي فخرج شاكاً في سلاحه، وعلمت عائشة بذلك فصاحت واحرباه يا أسماء، فقيل لها إن علياً حاسر فاطمأنت، واعتنق كلّ صاحبه، فقال له علي : ويحك يا زبير ما الذي أخرجك قال: دم عثمان، قال: قتل الله أولانا بدم عثمان، أما تذكر يوم لقيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في بني بياضة، وهو راكب حماره فضحك إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم و وضحكت أنت معه ، فقلت أنت يا رسول الله ما يدع عليّ زهوه، فقال لك: ليس به زهو، أتحبّه يا زبير ؟ فقلت : إني والله لأحبّه، فقال لك: إنك والله ستقاتله وأنت له ظالم، فقال الزبير : أستغفر الله لو ذكرتها ما خرجت، فقال: يا زبير أرجع فقال : كيف أرجع الآن؟! وقد ألتقت حلقتا البطان، هذا والله العار الذي لا يُغسل، فقال : يا زبير إرجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار».(2)

فعاد الإمام علیه السلام لأصحابه وهو يبشرهم بترك الزبير لقتالهم، للحديث الذي حدثه به، وفرح أصحابه بذلك وقالوا: «الحمد لله يا أمير المؤمنين، ما كنا نخشى في هذه الحرب غيره، ولا نتقي سواه، إنه لفارس رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، وحواريه، ومن عُرفت شجاعته وبأسه ومعرفته بالحرب، فإذا قد كفانا الله فلا نعدّ من سواه إلّا صرعى حول الهودج».(3)

وقال الزبير لعائشة وقد رجع إليها بعد لقائه: «يا أمّاه ما شهدت موطناً قط في الشرك ولا في الإسلام إلا ولي فيه رأي وبصيرة غير هذا الموطن، فإنه لا رأي لي فيه ولا بصيرة، وإني لعلى باطل، وأرادت أن تهيجه عائشة فقالت: «خفت سيوف بني عبد

ص: 309


1- مروج الذهب ج 2 : 246 - 247
2- مروج الذهب ج 2 : 247
3- الإمامة والسياسة ج 1 : 37-38

المطلب».(1)

وحاول ولده ذلك أيضاً فلم يفلح ، وقيل : إنه أغضبه فحمل على جيش الإمام علیه السلام ثلاث حملات، فقال لهم الإمام علیه السلام : أفرجوا له فقد هاجوه، ثم عاد إلى ابنه فقال: أيفعل هذا ،جبان، وترك الجيش ومضى وكان ما كان من اغتيال ابن جرموز ،له ومجيئه بسيفه للإمام علیه السلام وقول الإمام علیه السلام وهو يقلب سيفه : «سيف طالما جلا الكرب عن وجه رسول الله».(2)

وفي مروج الذهب: «ثم نادى علي علیه السلام طلحة حين رجع الزبير : يا أبا محمد ما الذي أخرجك قال الطلب بدم عثمان قال علي قتل الله أولانا بدم عثمان، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأنت أول من بايعني ثم نكثت، وقد قال الله عز وجل: «فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُتُ عَلَى نَفْسِهِ»(3)، فقال: أستغفر الله ثم رجع، فقال مروان بن الحكم رجع الزبير ويرجع طلحة ما أبالي رميت هاهنا أم هاهنا فرماه في أكحله فقتله».(4)

وفي تأريخ الطبري أن طلحة ظلّ مصرّاً على القتال حتى مقتله.(5)

واحتدم القتال بعدها واشتدّ وتطايرت أيد ورؤوس، ونظر الإمام علیه السلام صاحبنا وهو يمشي بين الصّفين في ذلك اليوم، فقال - فيما يحدّث الزهري -: «أقرّ الله عین

ص: 310


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 37-38
2- تأريخ الطبري - تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار المعارف، مصر، سنة الطبع 1398 ه-ج 4 : 535
3- الفتح: 10
4- مروج الذهب ج 2 : 248 - 249
5- انظر تأريخ الطبري ج 4 : 206

من له ابن عم مثل هذا»(1)، وهي كلمة تدل على إعجاب كبير واعتزاز وارتياح من الإمام علیه السلام بموقف ابن عمه في ذلك الموقف الرهيب.

وتجمّع الناس حول الجمل، وعائشة تحرّض الناس على النضال، والجيوش متكافئة، وصبر الفريقين على الجلاد عظيم، حتى التفت الإمام علیه السلام إلى من حوله وقال: إعقروا الجمل فإنه شيطان، وتحامل عليه أصحاب الإمام علیه السلام حتى عقروه، فانهزم أهل البصرة ومن معهم من قريش وبني أمية، وبعث الإمام علیه السلام منادياً ينادي: «ألا لا تتبعوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور».(2)

وأمر بحمل هودج عائشة من بين القتلى وقيل : إن الذي تولّى حمله هو أخوها محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وقال لأخيها : «اضرب عليها هودجاً، وانظر هل وصل إليها شيء من جراحة؟» فأدخل أخوها رأسه في هودجها فقالت من أنت؟ فقال: أبغض أهلك إليك، قالت ابن الخثعمية؟ قال: نعم، قالت يا بأبي، الحمد لله الذي عافاك»(3) وقيل : إنها قابلته وقابلها بجفاء لا يخلو من قسوة.(4)

وفي الليل أدخلها أخوها البصرة، وأنزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي، ثم أذن الإمام علیه السلام بدفن القتلى بعد أن صلّى عليهم، فدفنوا، ودخل البصرة في يوم الاثنين، فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة، ووزّع ما وجد في بيت المال من الأموال فأصاب أصحابه خمسمائة خمسمائة.(5)

ص: 311


1- البداية والنهاية ج 8: 299
2- تأريخ ابن الأثير ج 3: 128
3- المصدر السابق
4- انظر المصدر السابق
5- انظر تأريخ الطبري ج 5: 323

وبالطبع لم يكن لابن عباس من العطاء ما يفضل به عن غيره، ما دام إمامه علیه السلام نفسه لم يصبه أكثر من أي أحد من صحابته، وحتى نصيبه الخاص لم يأخذه، بل أعطاه إلى رجل جاءه متأخراً وقال له: «يا أمير المؤمنين كنت شاهداً معك بقلبي وإن غاب عنك جسمي، فأعطني من الفيء شيئا فدفع إليه الذي أخذه لنفسه وهو خمسمائة درهم».(1)

وضرب الإمام علیه السلام في ذلك اليوم أعلى الأمثال في الصفح والعفو عن كل من شهد المعركة وشمل عفوه حتى عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وأشباهه من بني أُمية ممن ألحوا في التأليب عليه.(2)

وكان لا بدّ لعائشة أن لا تبقى في البصرة بعد الذي كان منها، فأرسل إليها الإمام علیه السلام صاحبنا ليأمرها بالرحيل إلى المدينة، وجاء إليها فقابلته بشيء من الجفوة لم يصبر عليها، وهو صاحب اللسان الإزعيل - كما سبق أن وصفته - ودار بينهما حوار تحكمت فيه كوامن اللاشعور، وطغت عليه، فكشفت عما يكنّه كلّ منهما لصاحبه من انفعالات، يقول ابن عباس: «فأتيتها فدخلت عليها ، فلم يوضع لي شيء أجلس عليه، فتناولت وسادة كانت في رحلها فقعدت عليها، فقالت يا ابن عباس - وكأنها أرادت أن تأخذه من الناحية التي اشتهر فيها وهي الفقه - : أخطأت السنة قعدت على وسادتنا بيتنا بغير إذننا» وكان أعرف بمواضع السنّة حين أجابها بلسانه الإزعيل: «ليس هذا بيتك الذي أمرك الله أن تقرّي فيه، ولو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلّا بإذنك» .

وأراد أن يكتفي بهذا المقدار ليؤدي مهمته التي جاء من أجلها، وإلّا فما جاء للجدل والمماراة يقول: «ثم قلت إن أمير المؤمنين أرسلني إليك يأمرك بالرحيل إلى المدينة»، ولكن عائشة - فيما يبدو - كانت ما تزال ثائرة فقالت: وأين أمير المؤمنين ذاك عمر»

ص: 312


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 83
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 1 : 83

فأجابها: «عمر وعلي» قالت: «أبيت»، وثار ابن عباس لهذه المماراة فاندفع عليها بقوله: «أما والله ما كان أبوك إلا قصير المدة عظيم المشقة قليل المنفعة ظاهر الشؤم بين النكد وما عسى أن يكون أبوك ، والله ما كان أمرك إلّا كحلب شاة حتى صرت لا تأمرين ولا تنهين ولا تأخذين ولا تعطين، وما كنت إلّا كما قال أخو بني أسد...

ما زال إهداء الصغائر بيننا***نث الحديث وكثرة الألقاب

حتى نزلت كأن صوتك بينهم***في كل نائبة طنين ذباب

قال: فبكت حتى سُمع نحيبها من وراء الحجاب، ثم قالت: إني معجّلة بالرحيل إلى بلادي إن شاء الله تعالى، والله ما من بلد أبغض إلى من بلد أنتم فيه وعاود ابن عباس هدوءه وتطامنت ثورته النفسية فأجابها قائلاً: «ولم ذاك فوالله لقد جعلناك للمؤمنين أُماً، وجعلنا أباك صديقاً قالت : يا ابن عباس أتمن علي برسول الله؟ قلت: ما لي لا أمنّ عليك بمن لو كان منك لمننت به عليّ» وكان لهذا الكلام وقعه النفسي في نفس الإمام علیه السلام يقول: ثم أتيت علياً فأخبرته بقولها ، وقولي فسر بذلك وقال لي : «ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(1)، وفي رواية ابن أبي الحديد: «أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك»(2)

(8)

ولما تمّ للإمام علیه السلام كل شيء فكّر فيمن يتولى إمارة البصرة من قبله، فانتهى بادئ ذي بدء إلى أن يوليها أبا بكرة، وكان ممن تقاعد عن الإمام عن الإمام علیه السلام ولم ينصره، يقول ابن الأثير : وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة في المستأمنين أيضاً فبايعه، فقال له علي: وما عمل

ص: 313


1- آل عمران : 34
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 2 : 82

المتربص المتقاعد بي أيضاً - يعني أباه أبا بكرة - فقال: والله إنه لمريض وإنه على مسرتك لحريص، فقال علي : إمش أمامي، فمشى معه إلى أبيه، فلما دخل عليه علي قال له: تقاعدت بي وتربّصت ووضع يده على صدره، وقال هذا وجع بيّن، واعتذر إليه فقبل عذره يقول: وأراده على البصرة فامتنع وقال رجل من أهلك يسكن إليه الناس وسأشير عليه» (1)، وبعد تداول الرأي انتهوا إلى ضرورة تعيين عبد الله بن العباس أميراً، وزياد والياً على الخراج وبيت المال.

وأخال أن الإمام علیه السلام لم يؤثر أهل البصرة بتلميذه هذا إلّا لشعوره بأهمية هذا المصر، وضرورة السيطرة عليه، وإعادة الأمن والاستقرار إليه، بعدما دبّ إليه من القلق والاضطراب ما لمسناه في حادثة الجمل.

وكان لا بد للإمام علیه السلام وهو يخلّفه أن يزوّده بوصاياه وتعاليمه، فكان مما قال له:

«سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك، وإياك والغضب فإنه طيرة من الشيطان، واعلم أن ما قربك من الله يباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار».(2)

وفي رواية ابن قتيبة أنه قال له : «أوصيك بتقوى الله عز وجل، والعدل على من ولاك الله أمره، إتسع الناس بوجهك وعلمك وحكمك، وإياك والإحن فإنها تميت القلب والحق واعلم أن ما قربك من الله بعدك من النار، وما قربك من النار بعدك من الله، اذكر الله كثيراً ولا تكن من الغافلين»(3)

وفي تأريخ الطبري أن الذي أشار على الإمام علیه السلام هو زياد لا أبو بكرة(4)، كما جاء

ص: 314


1- تأريخ ابن الأثير ج 3: 129
2- شرح نهج البلاغة ج 4 : 236
3- الإمامة والسياسية ج 1 : 80
4- انظر تأريخ الطبري ج 5 : 224

في تأريخ ابن الأثير، وأن الإمام علیه السلام أمر ابن عباس أن يسمع منه بعد أن ولأه الخراج وبيت المال، وربّما كان ذلك - إن صحت الرواية - لخبرة زياد هذا في شؤون البصرة وأهلها، لإقامته مدة طويلة فيها، واتصاله بالحاكمين منذ عهد عمر، ولما يعرف عنه من أصالة الرأي.

يقول ابن عباس: «استشرته عند هنة كانت من الناس فقال: إن كنت تعلم أنك على الحق، وأن من خالفك على الباطل، أشرت عليك بما ينبغي، وإن كنت لا تدري أشرت عليك بما ينبغي كذلك، فقلت: إني على الحق وإنهم على الباطل، فقال: اضرب بمن أطاعك من عصاك ومن ترك أمرك، فإن كان أعز للإسلام وأصلح له أن يُضرب عنقه فاضرب عنقه».(1)

وما أدري أأخذ بهذا الرأي في سياسته معهم أم أعمل رأيه الخاص؟..

والذي أتصوره أنه لم يأخذ به؛ لأنه يتنافى مع سياسة أمير المؤمنين علیه السلام في أمثال هذه المواضع، فهو إلى الرفق والأناة واستصلاح حالهم أميل، ولا يلتجئ إلى مثل هذه السياسة إلّا إذا الجؤوه إليها بالثورة أو التمرد والاعتداء، وأعجزته الحيل في استصلاحهم.

وهذا كتابه ،له كتبه في جواب رسالة منه تصف اختلاف أهل البصرة بعد خروج الإمام علیه السلام منها، وفيه كشف لأصول السياسة التي كان ينتهجها إمامه علیه السلام في تدبير شؤون رعاياه، وقد جاء فيها: «أما بعد فقد قدم عليَّ رسولك، وذكرت ما رأيت، وبلغك عن أهل البصرة بعد انصرافي، وسأخبرك عن القوم. هم بين مقيم لرغبة يرجوها، أو عقوبة يخشاها ، فأرغب راغبهم بالعدل عليه والإنصاف له والإحسان إليه، وحلّ عقدة الخوف عن قلوبهم، فإنه ليس لأمراء أهل البصرة في قلوبهم عظم إلا قليل منهم، وانته

ص: 315


1- تأريخ الطبري ج 5 : 224

إلى أمري ولا تعده وأحسن إلى هذا الحي من ربيعة، وكل من قبلك فأحسن إليهم ما استطعت إن شاء الله».(1)

وأخال أنه لم يعد رأي أمير المؤمنين علیه السلام في سياسته، فأنصف راغبهم بالعدل والإحسان إليه، وحلّ عقدة الخوف على الخائفين منهم، وربّما كان هذا الاختلاف من أهل البصرة بعد خروج الإمام علیه السلام هو مبعث استشارته لزياد، ولم ترضه إشارته، فأراد أن يعرف رأي إمامه علیه السلام فكتب إليه ذلك الكتاب.

وأخال أن سر نجاحه واجتماع القلوب على اختلافها عليه بعد مدة من الزمن وجيزة - كما سنلمس آيات ذلك - كان وليد انتهاجه من جهة لما جاء في جواب الإمام علیه السلام وإغفاله لإشارة زياد؛ ولتوفيره العطاء لهم من جهة ثانية، فقد جاء كتاب من الإمام علیه السلام يأمره فيه أن يوزّع ما تجمع لديه من المال عليهم، وأن يغنيهم، ثم يبعث بفاضله له، ولسانه: «أما بعد فانظر ما اجتمع عندك من غلات المسلمين وفيئهم، فاقسمه على من قِبَلك حتى تغنيهم ، وابعث إلينا بما فضل، نقسمه فيمن قِبلنا والسلام»؛ ولقوة شخصيته من جهة ثالثة.

وفي الجزء الثاني من هذا الكتاب سنقف طويلاً عند بحث شخصيته إن شاء الله؛ لنكشف جوانب القوة فيها، وحسبنا أن نعجل الآن بذكر كلام لصعصعة يتعلق بهذا البحث.

وما أخال أنني سأجد أبلغ منه في تصوير بعض جوانبها المهمة.. يقول صعصعة - وقد سأله الإمام علیه السلام على أثر مجيئه من البصرة عن صاحبنا بعد أن خلّفه الإمام علیه السلام عليها - : «ا أمير المؤمنين إنه آخذ بثلاث وتارك لثلاث آخذ بقلوب الرجال إذا حَدّث

ص: 316


1- وقعة صفين ابن مزاحم المنقري - تحقيق عبد السلام محمد هارون، مطبعة المؤسسة العربية، مصر، ط 2 ، سنة الطبع 1382ه-: 105

وبحسن الاستماع إذا حُدِّث وبأيسر الأمرين إذا ،خولف، وترك المراء، ومقارنة اللئيم، وما يُعتذر منه»(1)، وهو - على إيجازه - أقوى معبر عن اسرار النجاح لأمثاله من الولاة، وكانت أبغض ما تكون إليه الوشاية بالآخرين... «سعى ساع إلى ابن عباس - فيما يقول ابن سلام - برجل فقال: إن شئت نظرنا فإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن كنت صادقاً نفيناك ، وإن شئت أقلتك قال : هذه»(2)، فإذا أضفنا إلى ذلك ما استغله من ولايته لتثقيف رعاياه أدركنا مدى نجاحه، جاء في كتاب الطبقات : «إن أول من عرف بالبصرة عبد الله بن عباس قال: وكان متجة كثير العلم»(3) ، وقال الجاحظ: «وكان عبد الله بن عباس أول من عرف بالبصرة صعد المنبر فقرأ البقرة وآل عمران، ففسّرهما حرفاً حرفاً، وكان والله مثجاً يسيل غرباً، وكان يسمّى البحر وحبر قريش».(4)

وفي البداية والنهاية: «كان أهل البصرة مغبوطين به يفقههم ويعلم جاهلهم ويغظ مجرمهم ويعطي فقيرهم»(5)، ولأبي بكرة - وهو الذي أراد توليته الإمام علیه السلام كما سبق فأبى ورشح لها صاحبنا - كلام طريف فيه، يكشف عن بعض هذه الجوانب في شخصيته يقول: «قدم علينا عبد الله البصرة، وما في العرب مثله جسماً وعلماً وثياباً وجمالاً وكمالاً»(6) ، ومثل هذا لا بد أن تجمع عليه القلوب وتغبط له ما دامت قد توفّرت لديه كل هذه الصفات.

وأول ظاهرة لمسناها في إجماعهم عليه وانقيادهم له - على ما بينهم من اختلاف

ص: 317


1- البداية والنهاية ج 8: 300
2- الإصابة في تمييز الصحابة ج 2 : 334
3- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 121
4- البيان والتبيين ج 1 : 262
5- البداية والنهاية ج 8 : 304
6- المستدرك على الصحيحين ج 3: 545

في القرب من الإمام علیه السلام والبعد عنه والحب والبغض له - حين جاءه كتاب إمامه يأمره فيه بالشخوص بأهل البصرة الحرب معاوية، بعد أن يئس من استصلاحه، وفيه يقول: «أما بعد فأشخص إليّ مَن قِبَلك من المسلمين والمؤمنين، وذكرهم بلائي عندهم، وعفوي عنهم واستبقائي لهم ورغبهم في الجهاد وأعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل».(1)

وما كنا بحاجة إلى إعمال الفكر لإدراك صعوبة مهمته في حملهم على التوجه معه، إذا تصورنا أن البصرة قد فقدت من أبطالها اللامعين في حرب الجمل أكثر من عشرة آلاف وأن النوائح ما تزال قائمة عليهم في بيوتهم، وربّما نقم من نقم منهم على الفاتحين، وبخاصة أولئك الذين لا يخضعون في أعماقهم لوازع من دين يهوّن عليهم - بعد معرفتهم بقيمة الإمام علیه السلام - ما أحدثه المصاب في نفوسهم من لوعة وحزن وإن بعض من لم يشترك في القتال في يوم الجمل كبني تميم، وجدوا في اعتزالهم الحرب بقاءً لعزهم ومجدهم فيهم، وحفظاً للكثير من أبطالهم، فسوق مثل هؤلاء وهؤلاء إلى حرب جديدة ربّما يكون من أشق الأمور، ولكن ابن عباس كشف عن مدى تمكنه من نفوسهم باستجابتهم له جميعاً، يقول نصر: «فقام فيهم ابن عباس فقرأ عليهم كتاب علي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس استعدوا للمسير إلى إمامكم، وانفروا في سبيل الله خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، فإنكم تقاتلون المحلّين القاسطين، الذين لا يقرؤون القرآن، ولا يعرفون حكم الكتاب، ولا يدينون دين الحق، مع أمير المؤمنين، وابن عم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والصادع بالحق، والقيم بالهدى، والحاكم بحكم الكتاب، الذي لا يرتشي في الحكم، ولا يداهن الفجّار، ولا

ص: 318


1- وقعة صفين : 116

تأخذه في الله لومة لائم».(1)

على أننا لا ننسى أن الذي شارك في تخفيف مهمته أنه ندبهم إلى حرب معاوية، وليس له من المآثر الإسلامية ما يستحق أن يرتفع معها - في نظر الرأي العام المسلم - إلى مقابلة مثل الإمام علیه السلام ، وإذا كان لعائشة وهي أم المؤمنين ولطلحة والزبير وهما من ذوي السوابق في الإسلام ومن أهل الشورى، في ترشيح عمر، ما يبرر لهم - في أنظار بعضهم – ذلك، فليس لمعاوية على أي حال ما يبرر موقفه من الإمام علیه السلام.

يقول نصر : فقام الأحنف بن قيس - وهو ممن اعتزل الحرب ببني تميم في يوم الجمل - فقال : والله لنجيبنّك، ولنخرجن معك على العسر واليسر، والرضا والكره نحتسب في ذلك الخير، ونأمل من الله العظيم من الأجر، وقام إليه خالد بن المعمر السدوسي فقال: سمعنا واطعنا، فمتى استنفرتنا نفرنا، ومتى دعوتنا أجبنا.

وقام إليه عمرو بن مرجوم العبدي فقال: وفّق الله أمير المؤمنين، وجمع له أمر المسلمين، ولعن الله المحلّين القاسطين الذين لا يقرؤون القرآن نحن والله عليهم حنقون، ولهم في الله مفارقون فمتى اردتنا صحبك خيلنا ورجلنا».(2)

وهكذا نشط الناس وأجابوا وخفّوا معه فخرج بهم ومعهم رؤوس الاخماس،وهم خالد بن المعمر السدوسي على بكر بن وائل وعمرو بن مرجوم العبدي على

عبد القيس، وصبرة بن شيمان الأزدي على الأزد ، والأحنف بن قيس على تميم وضبة والرباب، وشريك بن الأعور الحارثي على أهل العالية حتى قدم على الإمام علیه السلام وهو بالنخيلة، وخلّف مكانه أبا الأسود الدؤلي والياً على البصرة .(3)

ص: 319


1- وقعة صفين: 116
2- وقعة صفين: 116 - 117
3- انظر المصدر السابق
(9)

وقبل أن ننتقل مع الإمام علیه السلام وصاحبنا من النخيلة إلى صفين، لنشهد حرب معاوية وأهل الشام يحسن بنا أن نقف قليلاً لندرس حياة معاوية من بدايتها، فربّما أعاننا ذلك على فهم الكثير من ملابسات خصومته للإمام علیه السلام ثم لصاحبنا.

ومعاوية هو ابن أبي سفيان عدو رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وقائد كل ثورة ضده في الجاهلية، أظهر الإسلام عام الفتح بتأثير من والد صاحبنا - كما سبق أن رافقنا كيفية إسلامه - وأسلمت زوجته هند الملقبة بآكلة الأكباد - لمضغها لكبد حمزة بعد أن مثلت به على أثر اغتيال وحشي له في يوم أحد – ثم اسلم ولدهم معاوية، ومن عليهم النبي صلی الله علیه و آله وسلم فيمن منَّ يوم الفتح، فأطلق سراحهم، وتألّفهم في المؤلفة قلوبهم، واستكتب معاوية لبعض

شؤونه.

وصاحبنا ما يزال يذكر حين أرسله رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إليه يدعوه يقول: «كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله له فتواریت خلف باب قال: فجاء فحطأني حطأة، وقال اذهب فادع معاوية، قال فجئت فقلت: هو يأكل، ثم قال : اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت هو يأكل ، فقال : لا اشبع الله له بطنه».(1)

وكان من آثار هذا الدعاء ما عُرف عن معاوية من كثرة الأكل وعدم الشبع.

وقد كان إسلامهم قلقاً لا يتجاوز الشفاه، وربّما بغوا له فأحبط بغيهم في وقته.. هذا أبو سفيان أراد أن يستغل الفجوة بين الإمام علیه السلام والخليفة أبي بكر؛ لينفذ منها إلى فريق كلمة الإسلام، فوقف وقفته تلك، ووقف الإمام علیه السلام منه موقف الزاجر، رغم إظهار دعوته له، وطلب مبايعته.

ص: 320


1- أسد الغابة ج 4 : 386

وقد عرفنا - سابقاً - كيف اشتريت عواطفه من قبل السلطة بالرشوة أولاً، وبالوعد بتولية بعض ولده ثانياً، وقد وفت له فكان يزيد ابنه والياً على الشام، ثم كان معاوية من بعده إلى نهاية أيام عثمان.

وأخالنا لم ننس بعد كلمته في بداية خلافة عثمان: «تلقفوها يا بني أُمية تلقف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان، لا جنة ولا نار..».

وكان من قلق إسلام معاوية ما حدّث به الزبير بن بكار في الموفقيات عن المطرف بن المغيرة عن أبيه، من حديث طويل جاء فيه أنه قال لمعاوية في إحدى خلواته به: «إنك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً، قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه، فقال: هيهات هيهات.. اي ذكر أرجو بقاءه، ملك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلّا أن يقول قائل أبو بكر، ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلّا أن يقول قائل عمر ، وإن ابن أبي كبشة !! ليصاح به كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول الله فأي عمل يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا - لا أبا لك - لا والله إلّا دفناً دفناً».(1)

وقد استغل معاوية إقامته في الشام هذه المدة الطويلة - وهو الوصولي البارع - فربّاها تربيةً خاصة أفصح عنها - كما سبق - بقوله: «إن بالشام مائة ألف سيف لا يعرفون علياً ولا سابقته.. الخ»، وقال المسعودي: «وذكر بعض الإخباريين أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم: من أبو تراب هذا الذي

ص: 321


1- الموفقيات: 577

يلعنه على المنبر؟ قال: أراه لصاً من لصوص الفتن».(1)

وفي عهد السفّاح وجّه إليه عبد الله بن علي أشياخاً من الشام من أرباب النعم والرياسة، فحلفوا لأبي العباس السفّاح إنهم ما علموا لرسول الله قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أُمية حتى ولّيتم الخلافة».(2)

وهذا بالطبع من آثار تلكم التربية، وقد بقيت مخلّفاتها إلى ذلك العهد.

وقد خالجته - فيما أخال - فكرة السعي للخلافة من قولة للخليفة عمر بعد أن عيّن أهل الشورى وقال لهم: «إنكم إن تعاونتم وتوازرتم وتناصحتم أكلتموها وأولادكم، وإن تحاسدتم وتقاعدتم وتدابرتم وتباغضتم غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان».(3)

وبدأ السعي الحثيث لها منذ ذلك الوقت، وقد قرّب بعض الباحثين المحدثين أن مقتل عثمان ربّما عاد في خطوطه الأولى إلى تآمر من قبل مروان ومعاوية وغيرهما من عقلاء بني أمية، لأنهم يعلمون بأن الأمر لو ترك وشأنه لما عاد إليهم بوجه، ولأن مقتل هذا الشيخ يعطيهم حق المطالبة بدمه، والتشبث بالحكم من هذا الطريق.

يقول علي الوردي: إني أتّهم مروان بأنه كان السبب الأكبر في مقتل عثمان، وأتهم معاوية بأنه هو الذي أوعز إلى مروان بذلك»، ودلائل التهمة أنه رأى مروان بعد مقتل عثمان على شيء من الاتزان والتروي وبعد النظر، أما في أيام عثمان فقد كان طائشاً إلى أبعد حدود الطيش، فما هو السبب ؟

ص: 322


1- مروج الذهب ج 2 : 333
2- المصدر السابق ج 2 : 334
3- شرح نهج البلاغة ج 1 : 62

ثم يعرض بعد ذلك صوراً من التسوية التي صنعت بين عثمان والثائرين والمحاولات الاصلاحية التي كان يقوم بها بعض المصلحين، وكان عثمان يتقبلها ثم

يعود عنها بتأثير مروان (1) على نحو ما صوّرناه في حديث سابق.

وقد تساءل طه حسين عن الأسباب في إبطاء عمال عثمان عن نصره؛ حتى أتيح للثائرين أن يحاصروه فيطيلوا حصاره، ثم تساءل عن أسباب عدم موافاتهم له في الموسم مع أنه عوّدهم أن يوافوه، ثم تساءل أخيراً عن الأسباب التي أخرت عامله على مكة من موافاته، مع أن ابن عباس كان قد حمل كتاباً من عثمان يستنهض فيه من شهد الموسم لنصرته، وظل عامله عليها ساكناً، والجواب في نظره أنهم ملّوا طول عمره وملّوا سیاسته.(2)

ولكن هذا الجواب لا يملأ النفس، فإذا كان الشعب قد مل فما بال الولاة والمرتزقة من الجيش لديهم، وهم من أكبر المنتفعين من عهده ، يقول الشهرستاني : «إن ولاة عثمان رفضوا مساعدة عثمان في محنته وخذلوه حتى أتى قدره عليه».(3)

والغريب أن معاوية أرسل جيشاً لنجدة عثمان ولكنه أمره أن يتوقف في وادي القرى دون المدينة، وقد توقف حتى قتل عثمان فرجع، ثم يقول الوردي: «ومن المدهش أن ترى قميص عثمان الذي قتل فيه، وأصابع زوجته التي قطعت أثناء مقتله، ترسل حالاً إلى معاوية وكأنه أمر دبّر بليل».. وينتهي بعد ذلك إلى قوله: «ويبدو أن الخطة أحكم تدبيرها، ووضعت تفاصيلها بدقة وسار كل شيء على ما يرام»(4)، وسنرى فيما

ص: 323


1- انظر وعاظ السلاطين لعلي الوردي - لم تذكر المطبعة ولا سنة الطبع - : 217 - 230
2- انظر الفتنة الكبرى (عثمان) - دار المعارف، مصر، سنة الطبع 1947 م - : 219-220
3- الملل النحل ج 1 : 20-21
4- وعاظ السلاطين: 217 - 220

بعد كيف يلتقي الوردي بصاحبنا في توجيه التهمة إلى معاوية بذلك ثم إلى مروان.

ويبدأ النزاع بعد هذا بينه وبين الإمام علیه السلام.

والنزاع في حقيقته - كما صوّره أكثر الباحثين الموضوعيين - من المحدثين - لم يكن بين شخصين، بل كان بين مزاجين وذهنيتين، مزاج لا يتحرّج من ارتكاب أية وسيلة للوصول إلى غايته، وإن كان لها ما لها من الدناءة، ومزاج مقيد برواسب دينية وخلقية لا يستطيع أن يتعداها.

فكان الأول - بحكم مزاجه وخلقه - لا يتألّم من ارتكاب أية خلّة تتنافى مع مبادئ الدين أو الشرف، كإيواء المجرمين أو الانتهازيين، وشراء عواطفهم بالولاية أو المال، ثم الكذب والدسّ والتبذير على حساب أطماعه، بحساب وبغير حساب، بينما يتقيد الآخر بالسير نحو نهج معلوم رسمه الكتاب، وطبقته سنة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم

والغريب أن يحسب البعض أن في سلوك معاوية وسيرته دهاءً لا يجده في علي علیه السلام ناسياً ما كان بين الرجلين من فوارق في الخلق والمزاج و«الذين يرون في معاوية دهاءً وبراعة لا يرونها في علي، ويعزون إليهما غلبة معاوية في النهاية إنما يخطئون في تقدير الظروف، كما يخطئون فهم علي وواجبه لقد كان واجب علي الأول والأخير أن يردّ للتقاليد الإسلامية قوّتها، وأن يردّ إلى الدين ،روحه، وأن يجلو الغاشية التي غشت هذا الروح على أيدي أميّة في كبرة عثمان ،ووهنه، ولو جارى معاوية في إقصاء العنصر الأخلاقي من حسابه لسقطت مهمته ولما كان لظفره بالخلافة خالصة من قيمة في حياة هذا الدين، فما جدوى استبدال معاوية بمعاوية ؟!.

إن علياً إما أن يكون عليا أو فلتذهب الخلافة عنه بل فلتذهب حياته معها، وهذا هو الفهم الصحيح الذي لم يغب عنه - كرّم الله وجهه - وهو يقول : والله ما معاوية

ص: 324

بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس».(1)

وفي ضوء هذين المزاجين نبدأ فنساير صاحبنا وإمامه علیه السلام لنشهد معه حرب صفين ونلمس بأيدينا آثار ما يدور بينهما وبين خصمهما من صراع ليستعمل الطرفان فيه كل ما يملكانه من سلاح.

(10)

وتحرّك الجيش بقيادة الإمام علیه السلام باتجاه ،صفين وكان ابن عباس قائداً لجيش البصرة (2)، وفي الطريق صادفتهما حوادث قبل وصولهما - لا يهم التعرض لها الآن - حتى إذا بلغوها وجدوا أمامهم معاوية، وقد انتقى لجيشه أفضل المواقع الاستراتيجية، واحتل شريعة الفرات ليمنع من ورودوها جيش الإمام علیه السلام ، وهو يعتقد بذلك أنهم سيموتون ظمأ، ويتمّ له النصر من ايسر طريق، وحجّته المضلة لأهل الشام أنه يحاول أن يكافئهم بالظمأ على ما صنعوا مع عثمان، حين منعوا عنه الماء، مع أن الأمويين الذين كانوا معه لا بد أنهم حدّثوه عن موقف الإمام والهاشميين في إيصال الماء إليه غير مرّة، حتى كادوا يقتتلون مع الثوار في بعضها، على ما تحدثنا عنه، ولكنَّ وصوليته تبيح له أكثر من هذا الكذب في سبيل إثارة النفوس على الإمام علیه السلام

وما كان الإمام علیه السلام ليظمأ ومعه أهل بيته، ثم معه أشاوس أهل العراق وغيرهم، وما كان إلا قليلاً حتى ملكوا الماء بعد حروب دامية، أذاقوا بها أهل الشام ما أذاقوهم

ص: 325


1- العدالة الاجتماعية في الإسلام - دار إحياء الكتب العربية، ط4 ، سنة الطبع 1373 ه-: 197 - 198
2- انظر الإمامة والسياسة ج 1 : 97

من حرارة النضال.

وكان أخشى ما يخشاه معاوية أن يقابله الإمام علیه السلام بالمثل فيضطره إلى الاندحار، وما علم أن الإمام علیه السلام أسمى من أن يرتكب هذه الطرق الملتوية التي لا تلائم نفسيته، فكان الماء مباحاً للجميع، يلتقي عنده هؤلاء وهؤلاء، فيشربون ويتحدّثون.(1)

وقد أراد أصحاب الإمام علیه السلام أن يعجّلوا على أهل الشام بعد اندحارهم عن الماء، فأبى الإمام علیه السلام إلّا أن يقيم عليهم الحجة على طريقته في المحافظة على السلم، وأقامها عليهم أكثر من مرة (2)، وبخاصة في فترة الأشهر الحرم التي تعاقدوا على الهدنة فيها احتراماً للشهر الحرام، وطمعاً في الصلح، فلم يزد الأمر معاوية إلا إصراراً.

وتجهز الفريقان للحرب وكتبوا الكتائب فاستعمل علي علیه السلام على الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرجالة عبد الله بن بديل، ودفع اللواء إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري، وجعل على ميمنته الأشعث بن قيس - ولما أثبت صاحبنا من كفاءة نادرة في حرب الجمل وهو من أكبر قواد المعركة فيها - جعله على الميسرة (3)، وكانت زعامة قريش وأسد وكنانة إليه (4) ، فهو قائد للمسيرة وهو زعيم لهذه القبائل.

وبدأت الحرب بينهم في أول يوم من صفر ، وخرج في ذلك اليوم مالك الأشتر على رأس من خرج من أهل العراق، وخرج حبيب بن مسلمة على رأس من خرج من أهل الشام، واقتتلوا يومهم قتالاً شديداً معظم النهار ثم تراجعوا، وقد انتصف بعضهم من

ص: 326


1- انظر الفخري في الآداب السلطانية: 80
2- انظر تأريخ خليفة بن خياط ج 1 : 177
3- انظر وقعة صفين : 205
4- انظر الفخري في الآداب السلطانية : 80 . وفي تأريخ خليفة بن خباط ج1 : 177، أن عامة قريش وأسد وكنانة لعبد الله بن جعفر

بعض»(1)، بعد أن ذهب من النهار معظمه، ثم تتالت الأيام، فخرج في خامسها صاحبنا على رأس من خرج من جيشه معه، وخرج على رأس أهل الشام الوليد بن عقبة، وتطاول الوليد على بني عبد المطلب وسبّهم، فأساء فتاهم ذلك، فدعاه إلى مبارزته وألحف عليه، فجبن عنه وأبى عليه مقابلته .. يقول نصر : «فأرسل إليه ابن عباس أن أبرز إلي، فأبى أن يفعل، وقاتل ابن عباس قتالاً شديداً ، ثم انصرفوا وكلٌّ غير غالب».(2)

والذي يبدو - من بعض الروايات - أن الإمام علیه السلام نهاه وإخوته عن المبارزة، كما نہی حسناً وحسيناً وولده محمد عن ذلك (3)، وهو إن صح فلا بد أن يكون بعد هذا الزمان ، وإلّا فلم يكن ابن عباس ليقدم على عصيان إمامه علیه السلام ويدعو الوليد للمبارزة.

ولما كان يوم الخميس صلى علي علیه السلام بغلس، وخرج بالناس إلى اهل الشام فزحف إليهم، وزحفوا معه، وكان على ميمنته عبد الله بن بدیل بن ورقاء الخزاعي، وعلى ميسرته عبد الله بن عباس

والقرّاء مع ثلاثة نفر، عمار بن ياسر وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل والناس على راياتهم ومراكزهم، وعلي في القلب في أهل المدينة.(4)

وإن أصحاب علي ليذكرون مكان علي من النبي صلى الله عليه واله وسلم وقول النبي صلى الله عليه واله وسلم لأصحابه: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فلما قالوا له : بلى، أخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ويذكرون كذلك قول الله عز وجل: «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا

ص: 327


1- تأريخ ابن الأثير ج 3: 148
2- وقعة صفين: 222
3- انظر المصدر السابق: 463
4- انظر تأريخ ابن الأثير ج 3: 149 ، وانظر تاريخ الطبري ج6: 9

وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».(1)

فهم كانوا يرون أنهم حين يقاتلون مع علي، كأنهم يقاتلون مع النبي صلى الله عليه واله وسلم نفسه، جهاداً في سبيل الله، فليس الغريب إذن أن يطلبوا الشهادة ويتهالكوا عليها، وإنما الغريب أن يحجموا أو يدبروا أو يترددوا» .(2)

والأغرب من ذلك - لولا تضليل معاوية لهم - أن يرتاب أهل الشام من أنفسهم، لحديث سمعه ذو الكلاع من ابن العاص قديماً، وسمعه منه حديثاً سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أن عماراً تقتله الفئة الباغية ولا يرتابون!، وهم خارجون لحرب الإمام علیه السلام ، مع أن الأحاديث الواردة فيه من النبي صلى الله عليه واله وسلم أهم من هذا الحديث بكثير، يقول أبو نوح الحميري - وقد جاءه ذو الكلاع ليسأله عن صحة الحديث وعن جد عمار في محاربتهم -: «واعجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار، ولا يعتريهم الشك لمكان علي، ويستدلون على أن الحق مع أهل العراق بكون عمار بين أظهرهم ولا يعبؤون بمكان علي، ويحذرون من قول النبي : تقتلك الفئة الباغية، ويرتاعون لذلك ولا يرتاعون لقوله صلى الله عليه واله وسلم في علي علیه السلام : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ولا لقوله : لا يحبّك إلا مؤمن ولا يغضبك إلّا منافق».(3)

ولمّا رغب ذو الكلاع أن يجمع بين عمار وابن العاص؛ ليسمعه جده في قتالهم واجتمعوا لذلك قال عمار لابن العاص فيما قال: «وسأخبرك على ما أقتالك عليه وأصحابك، أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أمرني أن أقاتل الناكثين فقد فعلت، وأمرني أن أقاتل

ص: 328


1- التوبة: 24
2- الفتنة الكبرى (علي وبنوه) - مطبعة دار المعارف، مصر، سنة الطبع 1953م - : 86
3- شرح نهج البلاغة ج 2 : 271

القاسطين وأنتم ،هم، وأما المارقون فلا أدري أدركهم أو لا، أيها الأبتر ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال : «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فأنا مولى الله ورسوله وعلي مولاي بعدهما».(1)

وكان كل واحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الذين كانوا معه، وغيرهم من أهل ،العراق، على مثل هذا اليقين أو قريب منه، وكانوا على بصيرة من دينهم، ومع ذلك فقد قام ابن عباس فيهم خطيباً ليزيدهم ثباتاً على ثبات، وبصيرة في الدين على بصيرة، وكان ذلك على إثر خطاب لعمرو بن العاص في أهل الشام، وقد جاء في خطابه بعد الحمد والتشهد: «وقد ساقنا قدر الله إلى ما ترون؛ حتى كان فيما اضطرب من حبل هذه الأمة وأنتشر من أمرها، أن ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعواناً على علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله وصهره، وأول ذكر صلى معه، بدري، قد شهد مع رسول الله كل مشاهده التي فيها الفضل، ومعاوية وأبو سفيان مشركان يعبدان الأصنام.

واعلموا والله الذي ملك الملك وحده، فبان به وكان أهله، لقد قاتل علي بن أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم و علي يقول : صدق الله ورسوله، ومعاوية وأبو سفيان يقولان: كذب الله ورسوله، فما معاوية في هذه بأبر ولا أتقى ولا أرشد و لا أصوب منه في قتالكم، فعليكم بتقوى الله والجد والحزم والصبر ، وإنكم لعلى الحق، وإن القوم لعلي الباطل، فلا يكوننّ أولى بالجد في باطلهم منكم في حقكم، أما والله إنا لنعلم أن الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم، اللهم ربنا أعنا ولا تخذلنا، وانصرنا على عدونا، ولا تخل عنا، وافتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أقول قولي واستغفر الله لي ولكم».(2)

ص: 329


1- شرح نهج البلاغة : ج 2 : 273
2- وقعة صفين : 318

وكان هذا اليوم مشهوداً من أيام صفين، فقد تقدمت ميمنة أهل العراق وهي بقيادة ابن بديل، حتى بلغت معاوية أو كادت، واضطرب على معاوية أمره، لولا أن تجمع عليه جميع أهل الشام، فترتد عنه منهزمة إلّا فئة قليلة منها، وتعرضت في ذلك اليوم ميسرة أهل العراق وهي بقيادة صاحبنا لأعنف هجوم من قبل أهل الشام يقول ابن الأثير :«وخرجت حمير في جمعها ومن انضم إليها من أهل الشام ومقدمهم ذو الكلاع ومعه عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وهم ميمنة أهل الشام فقصدوا ربيعة وكانت ربيعة ميسرة أهل العراق وفيهم ابن عباس على الميسرة ، فحملوا على ربيعة حملة شديدة فتضعضعت راية ربيعة ، وكانت الراية مع أبي ساسان حضين بن المنذر ، فانصرف أهل الشام عنهم، ثم كرّ عبيد الله بن عمر، وقال: يا أهل الشام إن هذا الحي من أهل العراق قتلة عثمان وأنصار علي، فشدّوا على الناس شدّة عظيمة، فثبتت ربيعة وصبروا صبراً حسناً إلا قليلاً من الضعفاء والفشلة، وثبت أهل الرايات وأهل الصبر والحفاظ وقاتلوا قتالاً حسناً».(1)

وانضم إلى ربيعة عبد القيس بن بكر فقاتلوا معهم وقتل ذو الكلاع وعبيد الله بن عمر، وكثرت القتلى من الطرفين.

و خرج عمار بن ياسر - ولعمار حديث لا يصح إغفاله في هذه الدراسة؛ لما اكتنفت حياته من ملابسات كان لها التأثير الكبير على نفسيه الجيشين المتقابلين، وكان لها بطبيعة الحال أكبر الأثر على نفس صاحبنا وإمامه علیه السلام ، فلنعطها لذلك شيئاً من الأهميّة.

قال ابن الأثير: «وخرج عمار بن ياسر على الناس فقال: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته، اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبّة سيفي في بطني، ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلته، وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك، من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم عملاً هو

ص: 330


1- تأريخ ابن الأثير ج 3: 155

أرضى لك منه لفعلته، والله إني لأرى قوماً ليضر بنكم ضرباً يرتاب منه المبطلون، وايم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هَجَر ؛ لعلمت أنا على الحق وأنهم على الباطل».

ثم قال : «من يبتغي رضوان الله ربه ولا يرجع إلى مال ولا ولد، فأتاه عصابة فقال: اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم ،عثمان والله ما أرادوا الطلب بدمه، ولكنّهم ذاقوا الدنيا واستحبّوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها، ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم :وقالوا: أمامنا قتل مظلوماً؛ ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً، فبلغوا ما ترون، فلولا هذا ما تبعهم من الناس رجلان.

اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت، وإن تجعل لهم الأمر فادّخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم».

يقول المحدّث : «ثم مضى ومعه تلك العصابة فكان لا يمر بواد من أودية صفين إلّا تبعه من كان هناك من أصحاب النبي الله ، ثم جاء إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وهو مرقال، وكان صاحب راية علي، وكان أعور فقال: يا هاشم أعوراً وجبناً! لا خير في أعور لا يغشى البأس، إركب يا هاشم فركب ومضى معه وهو يقول...

أعور يبغي أهله محلاً***قدعالج الحياة حتى ملا

لا بد أن يفلّ أو يُفلاً** يتلّهم بذي الكعوب تلاً

وعمار يقول: تقدم يا هاشم الجنة تحت ظلال السيوف، والموت تحت أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه.

وتقدم حتى دنا من عمرو بن العاص فقال له : يا عمرو بعت دينك بمصر تبّاً لك، فقال له: لا ولكن أطلب بدم عثمان، قال: أنا أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشيء

ص: 331

من فعلك وجه الله، وإنك إن لم تقتل اليوم تمت غداً، فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم ما نيتك.. لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثاً مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وهذه الرابعة ما هي بأبّر وأتقى».(1)

وقاتل في ذلك اليوم قتالاً شديداً، يقول حبّة بن جوين العربي: «قلت لحذيفة بن :اليمان: حدّثنا فإنا نخاف الفتن فقال : عليكم بالفئة التي فيها ابن سمية فإن رسول الله قال : تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق، وإن آخر رزقه ضياح من لبن - وهو الممزوج بالماء من اللبن - قال: فشهدته يوم قتل وهو يقول : إئتوني بآخر رزق لي في الدنيا، فأتي بضياح من لبن».(2)

وأحدث موت عمار - بعد أن شاع - رجّة في الجيشين معاً، أما جيش الإمام علیه السلام فقد طبّقه الأسى والحزن، وأما جيش معاوية فقد سرت فيه موجة ارتياب لحديث ابن العاص، وكان من سوء حظهم أن يموت ذو الكلاع قبله بقليل، وكان عمرو بن العاص على طريقته في الوصوليّة - يمنيه أن سينتقل عمار إلى صفوفهم، فلما قتلا معاً قال عمروا بن العاص لمعاوية : «ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً بقتل عمار أو بقتل ذي الكلاع، والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام إلى علي».

وطغت موجة الارتياب في صفوفهم، فاضطر معاوية أن يدلي بهذا التصريح الغريب أنحن قتلناه إنما قتله من جاء به !!..

يقول الراوي: «فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم - وقد نفّس عنهم هذا التصريح - وهم يقولون إنما قتل عماراً من جاء به، فلا أدري من كان أعجب أهو أم

ص: 332


1- تأريخ ابن الأثير ج 3: 155-156
2- المصدر السابق

هم».(1)

وبلغ تصريح معاوية جيش العراق، وطبّق مسامع صاحبنا، فأدلى بجواب على تصريحه يغيض المرارة، وهو - على اختصاره - قامع لأية شبهة - لو كان لأهل الشام قلوب يعقلون بها يقول الراوي: « فقال ابن عباس: فقد قتل رسول الله حمزة لأنه جاء به إلى الكفار».(2)

وثار الإمام عهلیه السلام لمقتل ،عمار، فأقبل على ربيعة وهمدان، وقال لهم: أنتم درعي ورمحي فانتدب له نحو من اثني عشر ألفاً، وسار بهم إلى أهل الشام فلم يبق لهم صفّ إلّا انتقض وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية، والإمام علیه السلام يقول...

أقتلهم ولا أرى معاوية***الجاحظ العين العظيم الحاوية

ثم نادى الإمام علیه السلام معاوية فقال: «علامَ يُقتل الناس بيننا، هلم أحكامك إلى الله، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور»، وهنا تبرز وصوليّة صاحبه ابن العاص بأبشع صورها يقول: فقال له عمرو : «أنصفك ، فقال له معاوية : ما أنصفت، إنك لتعلم أنه لم يبرز إليه أحد إلّا قتله».(3)

(11)

ومن الغريب أن يطمع معاوية في ابن عباس، وهو يعلم مبلغ عقله ويقظته وإيمانه بالله وببطله الإمام علیه السلام؛ فيحاول خداعه، والتأثير على الإمام علیه السلام من طريقه؛ لما يعرف

ص: 333


1- تأريخ ابن الأثير ج 3: 157
2- دلائل الصدق ج 3 قسم 1 : 209
3- تأريخ ابن الأثير ج 3م: 157

من تمكنه من نفسه، حتى كأنها نفس واحدة .. يقول نصر: «إن معاوية لما يئس من جهة الأشعث - وكان قد راسله؛ ليفسد قلبه على الإمام - قال لعمرو بن العاص : إن راس الناس بعد علي هو عبد الله بن عباس، فلو ألقيت إليه بكتاب لعلك ترققه، فإن قال شيئاً لم يخرج علي منه، وقد أكلتنا الحرب ولا أرانا نصل إلى العراق إلا بهلاك أهل الشام، قال له عمرو - وهو يعرف قيمة ابن عباس ويقظته -: إن ابن عباس لا يخدع ولو طمعت فيه لطمعت في علي، فقال معاوية: عليَّ ذلك فاكتب إليه، فكتب إليه عمرو: أما بعد فإن الذي نحن وأنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء وساقته العافية، وأنت رأس هذا الجمع بعد علي، فانظر فيما بقي ودع ما مضى فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولكم حياة ولا صبر، واعلموا أن الشام لا تملك إلّا بهلاك ،العراق، وأن العراق لا تملك إلا بهلاك الشام، وما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم، وما خيركم بعد هلاك أعدادكم منا، ولسنا نقول : ليت الحرب غارت، ولكنا نقول ليتها لم تكن، وإن فينا من يكره القتال كما أن فيكم من يكرهه، وإنما هو أمير مطاع أو مأمور مطيع أو مؤتمن مشاور، وهو أنت، وأما الأشتر الغليظ الطبع القاسي القلب فليس بأهل أن يدعى في الشورى، ولا في خواص أهل النجوى، ثم ألحق الكتاب بهذه الأبيات:

طال البلاء وما يرجى له آس***بعد الإله سوى رفق ابن عباس

قولا له قول من يرضى بحظوته***لا تنس حظك إن الخاسر الناسي

يا ابن الذي زمزم سقيا الحجيج له***أعظم بذلك من فخر على الناس

كل لصاحبه قرن يساوره***اسد العرين أسود بين أخياس

لو قيس بينهم في العرب لاعتدلوا***العجز بالعجز ثم الراس بالراس

انظر فدى لك نفسي قبل قاصمة***للظهر ليس لها راق ولا آسی

إن العراق وأهل الشام لن يجدوا***طعم الحياة من المستغلق القاسي

ص: 334

بسر وأصحاب بسر والذين هم***داء العراق رجال أهل وسواس

قوم عراة من الخيرات كلهم***فلما يساوي به أصحابه كاسي

إني أرى الخير في سلم الشام لكم***والله يعلم ما بالسلم من باس

فيها التقى وأمور ليس يجهلها***إلّا الجهول وما النوكى كأكياس

يقول نصر: «فلما قرأ ابن عباس الكتاب أتى به علياً فأقرأه شعره، فضحك وقال: قاتل الله ابن العاص ما أغراه بك يا ابن العباس؟! أجبه ، وليردّ شعره الفضل بن العباس فإنه شاعر».(1)

وكان جواب ابن عباس من أروع الأجوبة في بابها، فقد وضع يده على جوانب

المراوغة في كتابه السابق، وكشف عن انحاء من وصوليّة ابن العاص، ومساومة معاوية له على مناصرته، وإن من أحطّ صور الوصولية أن يساوم الشخص على بيع دينه وضميره مساومة مكشوفة، ويكون الثمن يسيراً بالنسبة إليه..

يقول في جوابه: «أما بعد فإني لا أعلم رجلاً من العرب أقل حياءً منك، إنه مال بك معاوية إلى الهوى وبعته دينك بالثمن اليسير، ثم خطبت بالناس في عشوة طمعاً الملك، فلما لم تر شيئاً أعظمت الدنيا إعظام أهل الذنوب، وأظهرت فيها نزاهة أهل الورع، فإن كنت ترضي الله بذلك فدع مصر وارجع إلى بيتك، وهذه الحرب ليس فيها معاوية كعلي ابتدأها علي بالحق وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف، وليس أهل العراق فيها كأهل الشام.

بايع أهل العراق علياً وهو خير منهم، وبايع معاوية أهل الشام وهم خير منه، ولست أنا و أنت فيها بسواء ، أردتُ الله وأردتَ أنت مصر، وقد عرفت الشيء الذي باعدك مني، ولا أرى الشيء الذي قربك من معاوية، فإن ترد شراً لا نسبقك به، وإن

ص: 335


1- وقعة صفين: 410

ترد خيراً لا تسبقنا إليه .

ثم دعا أخاه الفضل بن العباس فقال له يا ابن أم أجب عمراً، فقال الفضل:

يا عمر و حسبك من خدع ووسواس***فاذهب فليس لداء الجهل من آسى

إلّا تواتر طعن في تحوركم***يشجي النفوس ويشفي نخوة الراس

هذا الدواء الذي يشفي جماعتكم***حتى تطيعوا علياً وابن عباس

أمّا علي فإن الله فضّله***بفضل ذي شرف عال على الناس

إن تعقلوا الحرب تعقلها مخيّسة***اوتبعثوا فانا غیر اکناس

قد کان منا ومنکم في عجاجتها***ما لا يرد وكل عرضة الباس

قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة***هذا بهذا وما بالحق من باس

لا بارك الله في مصر لقد جلبت***شراً وحظك منها حسوة الحاسي

يا عمرو إنك عارٍ من مغارمها***والراقصات ومن يوم الجزاكاسي».(1)

وقصة مصر وجعلها ثمناً لعواطف عمرو بن العاص قصة مشهورة إذ ذاك، وقد ذكرها جلّ من أرّخ له، ففي الإمامة والسياسة أن معاوية كتب له يستدعيه للقدوم عليه بعد حادثة الجمل، فاستشار ولديه في القدوم فاختلفا، وتردد بادئ ذي بدء، فأدرك مولاه وردان ما في نفسه من صراع فقال له: «أما إنك إن شئت نبّأتك بما في نفسك فقال عمروهات یا وردان فقال: اعترضت الدينا والآخرة على قلبك، فقلت: مع علي الآخرة بلا دنيا ومع معاوية الدنيا بغير آخرة، فأنت واقف بينهما، فقال عمرو: ما أخطأت ما في نفسي».(2)

وفضّل أخيراً الدنيا على الآخرة، فرحل إليه، ودعاه معاوية إلى بيعته فقال عمرو:

ص: 336


1- وقعة صفين 413 - 414
2- الإمامة والسياسة ج 1 : 90

«لا والله لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك، قال معاوية: صدقت سل تعط فقال: مصر طعمة»، يقول الراوي: فغضب مروان بن الحكم وقال: ما بالي لا أُشترى، فقال معاوية : أسكت يا ابن العم فإنما نشتري لك الرجال، فكتب معاوية لعمرو مصر طعمةً».(1)

وفي حديث أنه قال لمعاوية: «أترى إننا خالفنا علياً لفضل منا عليه، لا والله، إن هي إلّا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعنّ لي قطعة من دنياك وإلّا نابذتك»(2)

وهكذا انتهت عملية البيع والشراء، وان المغبون في نظر صاحبنا هو من باع دينه بالثمن اليسير كما مرّ في الكتاب .

وكان لهذا الكتاب وقعه في نفس الإمام علیه السلام فقد قرّضه بقوله: «لا أراه يجيبك بشيء بعدها إن كان يعقل، ولعله يعود فتعود عليه»، وبالعكس فقد ساء وقعه في نفس ابن العاص، وأنّب معاوية على إقحامه في هذا المأزق .. يقول الراوي: «فلما انتهى الكتاب إلى عمرو أتى به معاوية فقال : أنت دعوتني إلى هذا ما كان أغناني وإياك عن بني عبد المطلب».(3)

ولكن معاوية فيما يبدو سُر للفقرة الأخيرة فيه؛ لأنها لم تسد بوجهه باب المفاوضات في سبيل إنهاء الحرب التي يئس معاوية - فيما يبدو - من الظفر فيها، والعبارة: «فإن ترد شراً لا نسبقك به، وإن ترد خيراً لا تسبقنا إليه»، ويبدو أن عمراً لم يفهمها، فنبهه معاوية إلى ذلك، يقول: فقال: «إن قلب ابن عباس وقلب علي واحد، كلاهما ولد عبد المطلب، وإن كان قد خشن فلقد لان، وإن كان قد تعظم أو عظم صاحبه فلقد قارب

ص: 337


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 91
2- معاوية بن أبي سفيان في الميزان للعقاد – كتاب الهلال - : 55
3- وقعة صفين : 414

وجنح إلى السلم».(1)

وكان معاوية «فيما يقال - يكاتب ابن عباس، وكانت أجوبة ابن عباس له أجوبه تمليها عليه حنكته ، فكان يلاينه ويجاريه ، حتى أفصح له معاوية برغبته في إنهاء الحرب، على أن تكون الشام له، ولعلّ هذه المراسلة جاءت على إثر جواب ابن عباس السابق لابن العاص ، وفهم معاوية منه مقاربته وجنوحه إلى السلم، وكان كتاب معاوية بهذا اللسان أما بعد فإنكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع منكم بالمساءة إلى أنصار عثمان، فإن يك ذلك لسلطان بني أُمية، فقد ورثها عدي وتيم وقد وقع من الأمر ما قد ترى، وأدالت هذه الحرب بعضنا من بعض ؛ حتى استوينا فيها، فما أطمعكم فينا أطمعنا فيكم، وما آيسكم منا آيسنا منكم، وقد رجونا غير الذي كان، وخشينا دون ما وقع، ولستم ملاقينا اليوم بأحد من حدّكم أمس، وقد منعنا بما كان منا الشام، وقد منعتم بما كان منكم ،العراق، واتقوا الله في قريش فما بقي من رجالها إلا ستة، رجلان بالشام ورجلان بالعراق ورجلان بالحجاز ، فأما اللذان بالحجاز فسعد وعبد الله بن عمر، وأمّا اللذان بالشام فأنا وعمرو، وأما اللذان بالعراق فعلي وأنت، ومن الستة رجلان ناصبان لك وآخران واقفان عليك، وأنت رأس هذا الجمع اليوم وغداً ولو بايع الناس لك بعد عثمان، كنا أسرع إليك منا إلى علي».(2)

وقد أغاظ هذا الكتاب صاحبنا بما جمع من التبكيت والتهمة والإغراء والتهديد والطمع بالملك، فخرج على طريقته بالمراسلة، وأفصح له عن ذات نفسه بجواب بليغ، أخذ عليه منافذ القول وأسلمه إلى الغليظ واليأس المريرين .. يقول الراوي: فلما انتهى الكتاب إلى ابن عباس «ضحك ، ثم قال : حتى متى يخطب إليّ معاوية عقلي، وحتى متى

ص: 338


1- وقعة صفين: 414
2- الإمامة والسياسة ج 1 : 105

أجمجم له عمّا في نفسي فكتب إليه أما بعد فقد جاءني كتابك، فأما ما ذكرت من سرعتنا بالمساءة إلى أنصار عثمان ولسلطان بني أمية، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك، لقد استنصرك فلم تنصره؛ حتى صرت إلى ما صرت إليه، وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان الوليد بن عقبة، وأما قولك:

إنه لم يبق من رجال قريش غير ستة ، فما أكثر رجالها وأحسن بقيتها، وقد قاتلك من خيارها من قاتلك ولم يخذلنا من خذلك، وأما إغراؤك أيانا بعدي وتيم، فأبو بكر وعمر كانا خيراً منك ومن عثمان، كما أن علياً خير منك، وأما قولك: إنا لن نلقاك إلّا بما لقيناك به، فقد بقي لك منا يوم ينسيك ما قبله وتخاف له ما بعده، وأما قولك أن لو بايعني الناس استقمت، فقد بايعوا علياً وهو خير مني فلم تستقم له، وأن الخلافة لا تصلح إلا لمن كان في الشورى، فما أنت والخلافة وأنت طليق الإسلام، وابن رأس الأحزاب، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر».(1)

ورغم ثورة ابن عباس النفسيّة في هذا الكتاب فقد حافظ على لباقته في الإجابة على جميع النقاط فيه، وأبدع تحميله لمسؤولية قتل عثمان؛ لتركه لنصرته رغم استنصاره؛ ليصير إلى ما صار إليه من البلوغ إلى الاستئثار بالملك والاحتفاظ بالشام باسم المطالبة بدمه، وما أجمل تخلصه من حديث تيم وعدي بتفضيلهما على عثمان، ثم تفضيل عثمان عليه، وما أروع تهديده له «وقد بقي لك منا يوم ينسيك ما قبله»، ثم غمزته له بعد استحقاقه للخلافة؛ لكونه طليقاً وابن طليق، وكان أروع ما فيه جوابه على دسّه الرخيص في التفرقة بينه وبين الإمام بتفضيله عليه باجتماع الكلمة له، لو قدر له أن يبايع من قبل الناس، تأمّلوا «وأما قولك : إنه لو بايعني الناس استقمت، فقد بايع الناس علياً وهو خير مني فلم تستقم له».

ص: 339


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 105 - 106

وأقلق هذا الكتاب معاوية، فتحامل على نفسه لكتابته له .. يقول الراوي: فقال: «هذا عملي بنفسي، لا والله لا أكتب إليه كتاباً سنة كاملة».

وفي شعره الذي نُسب له بعد وصول هذا الكتاب ما يكشف عن مدى أفعاله وتأثره له يقول...

«دعوت ابن عباس إلى حدّ خطة***وكان امرءً أهدي إليه رسائلي

فأخلف ظني والحوادث جمة***ولم يك فيما قال مني بواصل

وما كان فيما جاء ما يستحقه***وما زاد أن أغلى عليه مراجلي

فقل لابن عباس تراك مفرّقا***بقولك من حولي وإنك آكلي

وقل لأبن عباس تراك مخوّفا***بجهلك حلمي إنني غير غافل

فأبرقُ وأرعد ما استطعت فإنني***إليك بما يشجيك سَبْط الأنامل».(1)

وذكروا للفضل جواباً على الشعر جاء فيه:

«دعوت ابن عباس إلى السلم خدعة***وليس لها حتى تدين بقابل

فلا سلم حتى تشجر الخيل بالقنا***وتضرب هامات الرجال الأماثل

ومنها ..

وقلت له لو بايعوك تبعتهم***فهذا علي خير فهذا علي خير حاف وناعل

وصي رسول الله من دون أهله***وفارسه إن قيل هل من منازل

فدونكه إن كنت تبقي مهاجراً أشم كنصل السيف غير حلاحل»(2)

وكانت آخر محاولة لمعاوية في الاحتفاظ بالشام حين دعا أحد أصحابه الإمام علیه السلام،

ص: 340


1- وقعة صفين: 416
2- المصدر السابق

وعرض عليه أن يدع لهم الشام وللإمام علیه السلام العراق، وكان جواب الإمام علیه السلام للشامي قاطعاً فقد جاء فيه :

«ولقد أهمّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينيه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على امام محمد صلی الله علیه و آله وسلم .

إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت ،مذعنون، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة الأغلال في جهنم».(1)

وصدق ابن عباس معاوية حين قال له : «وقد بقي لك منا يوم ينسيك ما قبله»، فقد تزاحف بعضهم إلى بعض ، فالأشتر في ميمنة الناس وصاحبنا في الميسرة وعلي علیه السلام في القلب .(2)

وكانت ليلة الهرير، فكانت أفظع ليلة تمر على أهل الشام، لكثرة من قتل منهم، وبان الوهن بهم، وحاول معاوية الهروب، واستدعى بفرسه ليركبه ، لولا أن يتذكر شعر عمرو بن الأطنابة كما في رواية ابن حاطب(3) - وفي رواية صاحبنا أنه حدثه: «أنه كان يومئذ قد قرب إليه فرساً له أنثى بعيدة البطن من الأرض، ليهرب عليها، حتى أتاه آت من أهل العراق، فقال له: إني تركت أصحاب علي في مثل ليلة الصدر من منى فأقمت».(4)

ص: 341


1- وقعة صفين : 474
2- انظر المصدر السابق
3- انظر شرح نهج البلاغة ج 1 : 188
4- المصدر السابق

واستفسر ابن عباس عن ذلك الرجل، فأبى عليه معاوية أن يخبره به(1)، وربّما كان ذلك رسولاً من الاشعث بن قيس، أرسله بعد خطبته المهولة للحرب والمنذرة لهم من الفناء؛ ليمهد بها لقبول التحكيم - إذا صحّ ما يظنه بعضهم من اشتراكه في المؤامرة - فاضطر معاوية وابن العاص إلى خدعة التحكيم، وفوجئ أهل العراق - وهم على أبواب النصر - بالرماح وهي تحمل المصاحف، وأمامها مصحف المسجد الأعظم، يمسكه عشرة رهط ، وهم ينادون «يا معشر العرب الله الله في نسائكم بناتكم، فمن للروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فُنيتم الله الله في دينكم، هذا كتاب الله بيننا وبينكم».(2)

(12)

ونجح ابن العاص في مكيدته هذه، فقد استطاع أن يشقّ جيش العراق إلى نصفين.. نصف يرى الحرب ويرى أن هؤلاء ليسوا أهل دين، وإنما هي مكيدة لجؤوا إليها ليسلموا من فشل الهزيمة، وقسم يرى أن يجابوا إليه، وعلى رأسهم الأشعث بن قيس.

ويرى طه حسين أن موقف الاشعث لم يكن طبيعياً في ذلك اليوم، وربّما أتهمه بالتآمر مع ابن العاص على ذلك فهو يقول: «فما أستبعد أن يكون الأشعث بن قيس وهو ماكر أهل العراق وداهيتهم قد اتصل بعمرو بن العاص ماكر أهل الشام وداهيتهم ودبروا هذا الأمر بينهم تدبيراً، ودبروا أن يقتتل القوم، فإن ظهر أهل الشام فذاك، وإن خافوا الهزيمة أو أشرفوا عليها رفعوا المصاحف فأوقعوا الفرقة بين أصحاب علي

ص: 342


1- انظر شرح نهج البلاغة ج 1 : 188
2- وقعة صفين : 478

وجعلوا بأسهم بينهم شديداً».(1)

وملابسات هذه الحادثة ربّما تؤيد هذا الرأي وليس المهم عرضها الآن.

ومثل هذه المكيدة لا يمكن أن تنطلي على الإمام علیه السلام ولا على صاحبنا، ممن عرفوا معاوية وأبن العاص وغير معاوية وأبن العاص من صحابتهم، وقد صحبوهم فقدّروا مقدار إيمانهم وتمسكهم بالقرآن وربّما كان عهد صاحبنا غير بعيد بحديث رسول صلی الله علیه و آله وسلم عنهما يقول: «قال: سمع النبي صلی الله علیه و آله وسلم صوت رجلين يتغنيان وهما يقولان ..

ولا يزال جوادي تلوح عظامه***ذو الحرب عنه أن يجن فيقبرا (2)

فسأل عنها فقيل له: معاوية، وابن العاص، فقال: اللهم أركسهما في الفتنة ركسا، ودعّهما إلى النار دعّا».(3)

وقام الإمام علیه السلام فحدّر أصحابه مغبة هذه المكيدة، وبصرهم بحال أعداءهم وما يهدفون إليه منها فقال لهم: «عباد الله أمضوا على حقكم، وصدقكم قتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا ،قرآن وأنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً، فكانوا شر أطفال وشر رجال، وَيْحَكم إنهم ما رفعوها، ثم لا يرفعونها، ولا يعلمون بما فيها، وما رفعوها لكم إلّا خديعة ودهناً ومكيدة» .(4)

ص: 343


1- الفتنة الكبرى (علي وبنوه) : 89
2- كذا البيت في المصدر في وقعة صفين: 219. يزال حواريّ تلوح عظامه***زوى الحرب عنه أن يحس فيقبرا
3- دلائل الصدق ج 2 قسم 1 : 229 ، ويوجد مضمون هذا الحديث في وقعة صفين : 219 برواية أبي برزة الاسلمي عن رسول الله
4- تأريخ الطبري ج 6 : 27

واختلفت كلمة زعماء أهل العراق فمنهم المؤيد له في الحرب، ومنهم الداعي إلى قبول التحكيم، وقد طلب هؤلاء منه أن يرسل إلى الأشتر ، وكان قريباً من النصر؛ أن يكفّ عن القتال، فأرسل إليه، وامتنع بادئ ذي بدء، ثم استجاب، وجاء إلى الإمام علیه السلام وهم محيطون به، فطلب إليه أن يمهله ،فواقاً فقد طمع في النصر، فأبوا عليه فشتمهم وشتموه، وكان من رأيه أن يقلب الصف على الصف، ويستأصل شأفة الجميع، فأبى عليه الإمام علیه السلام .. وبعد أخذ ورد أعلن قبول التحكيم.

وجاء دور اختيار الحكمين ، فأما أهل الشام - وطاعتهم لمعاوية معروفة – فلم تختلف لهم كلمة في تعيين مرشحهم وأما أهل العراق فقد اختلفت كلمتهم أيضاً، فالإمام علیه السلام كان لا يرى لها غير ابن عباس، وكان يقدّر في نفسه أن أهل الشام لا يعدون ابن العاص في اختيارهم..

يقول محمد بن علي : «لما أراد الناس علياً أن يضع الحكمين، قال لهم: إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحداً هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص، وأنه لا يصح للقرشي إلّا مثله، فعليكم بعبد الله بن العباس فارموه به، فإن عمراً لا يعقد عقدة إلّا حلّها عبد الله، ولا يحلّ عقدة إلّا عقدها، ولا يبرم أمراً إلّا نقضه، ولا ينقض أمراً إلا أبرمه..»

وكان الاشعث لسان المعارضة .. فكان جوابه: «لا والله لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة، ولكن اجعل رجلاً من أهل اليمن؛ إذ جعلوا رجلاً من مضر ...

وأجاب الإمام علیه السلام: إني أخاف أن يُخدع يَمَنّيكم؛ فإن عمراً ليس من الله في شيء إذا كان له في أمر هوى.. فقال الأشعث: والله لئن يحكما بعض ما نكره، وأحدهما من

ص: 344

أهل اليمن أحب إلينا من أن يكون بعض ما نحب في حكمهما وهما مضريّان».(1)

وكان مرشح المعارضة هو أبو موسى الأشعري.

يقول طه حسين في تتمة حديثه السابق : «وأكبر الظن عندي كذلك أن المؤامرة لم تقف عند هذا الحد، وإنما تجاوزته إلى ما هو أشد منه خطراً، وهو اختيار الحكمين، فلأمر ما الح الأشعث ومن تبعه من اليمانية في أن يختار علي أبا موسى الأشعري، ولم يطلقواله الحرية في اختيار حكم يثق به ويطمئن إليه، وهم يعلمون أن أبا موسى قد خذل الناس عن علي في الكوفة حتى عزله عن عمله، فقد كان علي إذاً مكرهاً على قبول التحكيم، ومكرهاً على اختيار أحد الحكمين، ولم تأت الأمور مصادفة، وإنما جاءت عن ائتمار وتدبير بين طلاب الدنيا من أصحاب علي وأصحاب معاوية جميعاً».(2)

وألحّ الإمام على تعيين عبد الله بن عباس، وألحوا على خلافه وكان من قوله لهم: «إنكم قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن إني لا أرى أن أولّي أبا موسى»، وعلّل لهم ذلك بقوله: «إنه ليس لي بثقة، قد فارقني وخذل الناس عني، ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس نولّيه ذلك، قالوا: ما نبالي إنك كنت أم ابن عباس، لا نريد إلّا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكما بأدنى منه إلى الآخر».(3)

وأراد الإمام علیه السلام الأشتر مكانه(4)فأبوا عليه أيضاً ولم يسعه إلا أن يوافقهم، فوافقهم وهو يعلم أن لا خطر عليه ما دام الكتاب والسنة هما المحكّمين، وحجته فيهما على

ص: 345


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 189
2- الفتنة الكبرى (علي وبنوه): 90
3- تأريخ الطبري ج 6 : 28
4- انظر تأريخ الطبري ج 6: 28

خصومه أبرز من أن يتخوف عليهما من الغموض، وبلغ أهل الشام اختيار أهل العراق لأبي موسى الاشعري، فسرهم - بالطبع - وساء منهم بعض من اعتزل الحرب، ولم یساند معاوية فيها أمثال أيمن بن خريم الأسدي، ولأيمن هذا أبيات أرسلها إلى معاوية تصوّر مدى أسفه لوقوع هذا الاختيار غير الموفق من أهل العراق.. نوردها لتعلقها بصاحبنا وتحدّثها عن كفايته يقول...

«لو كان للقوم رأي يعصمون به***من الضلال رموكم بابن عباس

الله درّ أبيه أيما رجل***ما مثله لفصال الخطب في الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن***لا يهتدي ضرب أخماس لأسداس

إن يخلُ عمرو به يقذفه في لجج***يهوي به النجم تيساً بين أتياس

أبلغ لديك علياً غير عاتبة***قول امرئ لا يرى بالحق من باس

ما الأشعري بمأمون أبا حسن***فأعلم هديت وليس العجز كالرأس

فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهم***إن ابن عمك عباس هو الآسي».(1)

ولكن ما يصنع الإمام علیه السلام، والفتنة واقعة في صفوفه لو أصر عليه، وقد رأينا - قبل قليل - مدى حرصه على تمثيله في هذه الحكومة، والأبيات بعد تعطيك فكرة واضحة عن انتشار تركّز صاحبنا وأهميته في نفوس أمثال هذا الشاعر من أهل الشام، وما أجمل قوله في مطلع أبياته...

لو كان للقوم رأي يعصمون به***من الضلال رموكم بابن عباس

وأخيراً كُتب ..الكتاب. وكان من جملة موقعيه صاحبنا عن أهل العراق، وقيل: إن الذي كتبه ابن عباس .. فلما كتب «هذا ما قاضى عليه أمير المؤمنين لمعاوية بن أبي سفيان، قال عمرو بن العاص : أمح أمير المؤمنين فإنا لا نعرفه، فلو عرفنا أنه أمير المؤمنين

ص: 346


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 190

ما ناز عناه، فقال أمير المؤمنين لابن عباس أمحه، فقال ابن عباس: لا أمحوه، فمحاه أمير المؤمنين، وقال: أما والله لعلى يدي دار هذا يوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول اللهصلی الله علیه و آله وسلم ، هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو، فقال سهيل: لا أجبيك إلى كتاب تسمّى فيه رسول الله لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك.. الحديث»(1). وحمله الأشعث إلى مختلف القبائل يقرؤه عليهم واحدة واحدة والغريب أن يندم بالوقت بعض هؤلاء الخارجة الذين أصروا على الإمام علیه السلام في قبول التحكيم، فيدعونه إلى نقض ما أعطاه من عهد، ولكنَّ الإمام علیه السلام يأبى ؛ لأنه مأمور بحفظ العهود، ومثله لا ينقض عهداً أعطاه مهما كلف الحال.(2)

(13)

وكان أبو موسى الأشعري إذ ذاك بأرض من أرض الشام، فأُرسل إليه بالخبر.. ولما حضر أتاه ابن عباس وعنده وجوه الناس وأشرافهم، والقى عليه نهجاً لو قدّر له أن يتبعه في حديثه مع ابن العاص لأخذ التأريخ مجرى آخراً، وقد حذره من مكره فأبلغ.. يقول المدائني: «فقال له - يعني صاحبنا - أبا موسى إن الناس لم يرضوا بك ولم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارك فيه، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمتقدمين قبلك، ولكن أهل العراق أبوا إلا أن يكون الحكم يمانياً، ورأوا أن معظم أهل الشام يمان، وايم الله إني لأظن ذلك شراً لك ولنا، فإنه قد ضم إليك داهية العرب، وليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة، فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه، وإن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك، وأعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق

ص: 347


1- وقعة صفين : 508
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 1 : 193

الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة، فإن زعم لك أن عمر وعثمان استعملاه فلقد صدق؛ استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي ويوجره ما يكره، ثم استعمله عثمان برأي عمر و أكثر من استعملا ممن لم يدّع الخلافة، واعلم أن لعمرو مع كل شيء يسرّك خبءاً يسوؤك.

ومهما نسيت فلا تنسى أن علياً بايعه القوم الذي بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وإنها بيعة هدى، وإنه لم يقاتل إلّا العاصين والناكثين».(1)

وما أعلم كلاماً أبلغ من هذا الكلام في الجمع بين تلقين الحجة وإعداد الجواب لما يحتمل أن يحتج به الخصم والتحذير من خطر الطرف الثاني في الحكومة وقد ترك هذا الكلام أثراً بليغاً في نفوس مستمعيه؛ حتى قام شاعر قريش فأنشد على إثره هذه الأبيات كما في رواية الموفقيات...

«والله ما كلّم الأقوام من بشر***بعد الوصي علي كابن عباس

أوصى ابن قيس بأمر فيه عصمته***لو كان فيها أبو موسى من الناس

إني أخاف عليه مكر صاحبه***أرجو رجاء مخوف شيب بالياس».(2)

وكأنّ أبا موسى بحكم عقدته النفسية - التي نشأت له من موقفه مع الإمام علیه السلام وموقف الإمام منه - استشعر التهمة له في الممالأة على حساب الإمام علیه السلام فدفعها عن نفسه بقوله : «رحمك الله والله مالي إمام غير علي، وإني لواقف عندما رأى، وإن حق الله أحب إلي من رضا معاوية وأهل الشام، وما أنت وأنا إلّا بالله».(3)

وافترق بعد ذلك الجيشان على أن يجتمع المحكمان في دومة الجندل أو أذرح في شهر

ص: 348


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 195
2- الموفقيات: 575
3- شرح نهج البلاغة ج 1 : 195

رمضان ذلك العام، كما في أكثر الروايات وقيل : أنهما سارا من صفين إلى دومة من الجندل .(1)

وفي الموعد المعين أرسل معاوية عمراً وأرسل معه أربعمائة رجل ، وأرسل الإمام علیه السلام أبا موسى وأرسل معه أربعمائة رجل أيضاً، وجعل عليهم شريح بن هاني الحارثي وأرسل معه ابن عباس ليصلي بهم ويلي شؤونهم.

وحمَّل الإمام علیه السلام شريح بن هاني رسالة إلى عمرو بن العاص رجاء استصلاحه وقد جاء فيها :

«إن علياً يقول لك: إن أفضل الناس عند الله عز وجل من كان العمل بالحق أحبّ

إليه، وإن نقصه من الباطل وإن زاده، يا عمرو والله إنك لتعلم أين موضع الحق، فلمَ تتجاهل ؟ إن أوتيت طمعاً يسيراً كنت الله به ولأوليائه عدواً وكأن والله ما أوتيت قد زال عنك، ويحك فلا تكن للخائفين خصيماً وللظالمين ظهيراً.

أما إني أعلم بيومك الذي أنت فيه نادم وهو يوم وفاتك، تتمنى أنك لم تظهر لمسلم عداوة، ولم تأخذ على حكم رشوة».(2)

ويبدو أن طمع عمرو كان أبلغ في نفسه تركّزاً من أن يستمع إلى مثل هذه النصيحة، فقال لشريح - وقد تغير وجهه - : «متى كنت أقبل مشورة علي أو أنتهي إلى أمره أو أعتد برأيه، فقال له وما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم مشورته ؟! فقد كان من هو خير منك ، أبو بكر وعمر ، يستشيرانه ويعملان برأيه».(3)

ص: 349


1- انظر الأخبار الطوال - تحقيق عبد المنعم ،عامر ، مطبعة عيسى البابي، مصر - 184
2- تأريخ ابن الأثير ج 3: 167
3- تأريخ ابن الأثير ج 3: 167

وكان ابن عباس بمثابة الموجّه لأبي موسى، والمسدد لخطواته - لو كان أبو موسى ممن يقبلون التوجيه والتسديد - وكانت كتب الإمام علیه السلام التوجه إليه كما توجّه كتب معاوية إلى ابن العاص.

وكان فضول أهل العراق وتطلّعهم إلى معرفة جميع ما يتعلق بشؤون أميرهم، واستسلام أهل الشام وإطاعتهم العمياء له، يضايق ابن عباس كثيراً؛ لما فيه من تعريض أسراره للشيوع؛ لكثرة ما يستفسرون، بينما يحتفظ الآخر بأسراره. يقول المحدث: «وكان أهل العراق يسألون ابن عباس عن (كل) كتاب يصله من علي، فإن كتمهم ظنوا به الظنون وقالوا أتراه كتب بكذا وكذا، فقال لهم ابن عباس : أما تعقلون.. أما ترون رسول معاوية يجيء ولا يعلم أحد بما جاء به، ولا يسمع لهم صياح، وأنتم عندي كل يوم تظنون فيَّ الظنون».(1)

وبدأت المفاوضات بين الطرفين، وحضرها بعض من اعتزل من قريش كابن الزبير وابن عمر وسعد بن أبي وقاص - على قول - وحضر غير هؤلاء، ودارت بينهم أحاديث جمة لم يعطنا التأريخ خلاصة وافية لمختلف جلساتها، وكان - كما يبدو من رواية الأمالي لأبن الأنباري - أكثر تخوّف جانب أهل الشام من يقظة صاحبنا.

يقول عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: «حضرت الحكومة، فلما كان اليوم الفصل جاء عبد الله بن عباس فقعد إلى جنب أبي موسى، وقد نشر أذنيه حتى كاد أن ينطق بهما، فعلمت أن الأمر لا يتم لنا ما دام هناك، وأنه سيفسد على عمر و حيلته، فأعملت المكيدة في أمره، فجئت حتى قعدت عنده، وقد شرع عمرو وأبو موسى في الكلام، فكلمت ابن عباس كلمة استطمعت جوابها فلم يجب ، فكلمته أخرى فلم يجب، فكلمته ثالثة فقال: إني لفي شغل عن حوارك الآن فجبهته وقلت يا بني هاشم لا تتركون بأوكم وكبركم

ص: 350


1- تأريخ ابن الأثير ج 3: 167

أبداً، أما والله لولا مكان النبوة لكان لي ولك شأن قال: فحمي وغضب واضطرب فكره ورأيه، وأسمعني كلاماً يسوء سماعه، فاعرضت عنه وقمت فقعدت إلى جانب عمرو بن العاص فقلت : قد كفيتك التقوّي له - أي قد شغلت باله - بما دار بيني وبينه، فأحكم أنت أمرك، قال فذهل والله ابن عباس عن الكلام الدائر بين الرجلين، حتى قام أبو موسى فخلع علياً».(1)

ونظير هذه الرواية مع شيء من الاختلاف في مجالس ثعلب، ولكنها منسوبة إلى عتبة، «قال: قال معاوية لعتبة يوم الحكمين يا أخي أما ترى ابن عباس قد فتح عينيه ونشر أذنيه؟ ولو قدر أن يتكلم بها ،فعل، وغفلة أصحابه مجبورة بفطنته،وهي ساعتنا الطولى فاكفنيه... إلى آخر ما جاء».(2)

ورواية ثعلب لا تتم ما دام التأريخ يحدث أن معاوية لم يكن حاضراً مع الحكمين في يوم التحكيم؛ ليقول العتبة ما قال.. ورواية الأمالي ربّما شاركتها في عدم التمامية بصورتها المفصّلة؛ للطابع السري الذي كان يطغى على مفاوضيهما، ولا أقل من سرية الجلسة الأخيرة؛ ودهاء ابن العاص يأبى عليه أن يتحدث في مثل هذه الشؤون الهامة أمام مجتمع عام، على أن التأريخ يُجمع على أن صاحبنا لم يكن في ذهول حين حذر أبا موسى من التقدم على ابن العاص ؛ قبل إعلان النتائج التي انتهى إليها الفريقان المتفاوضان.

ومن الحق أن نعرض خلاصة لمختلف الأحاديث التي دارت بينهما لنلمس فيها موقع الكتاب والسنة اللذين أُخذ العمل بهما أساساً للتحكيم فيما كُتب من عهد؛ ثم لنلمس نفسية الحكمين بمختلف رواسبها، ومدى طغيانها على ما دار بينهما من حديث .. يقول أحمد بن داود وهو يؤرخ هذه الحادثة : ثم إن عمرو بن العاص جعل يظهر تبجيل

ص: 351


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 200
2- مجالس ثعلب - شرح عبد السلام محمد هارون، مطبعة دار المعارف مصر - قسم 2 : 477

أبي موسى وإخلاصه وتقديمه في الكلام وتوقيره ويقول: صحبت رسول الله قبلي، وأنت أكبرسناً مني ثم اجتمعا ليتناظروا في الحكومة، فقال أبو موسى: يا عمرو هل لك فيما فيه صلاح الأمة ورضا الله؟.. قال: وما هو ؟... قال: تولّي عبد الله بن عمر؛ فإنه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحروب قال له عمرو: وأين أنت من معاوية؟.. قال أبو موسى ما معاوية موضعاً لها، ولا يستحقها بشيء من الأمور، قال عمرو: الست تعلم بأن عثمان قتل مظلوماً ؟ .. قال: بلى، قال: فإن معاوية ولي دمه، وبيته بعد في قريش ما قد علمت فإن قال الناس : لِمَ ولي الأمر وليست له سابقة؟ فإن لك في ذلك عذراً، تقول: إني وجدته ولي عثمان، والله تعالى يقول: «وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَنَاً»(1)، وهو مع هذا أخو أم حبيبة زوج النبي، وهو أحد أصحابه، قال أبو :موسی اتق الله يا عمرو وأما ما ذكرت من شرف معاوية، فلو كان يستوجب بالشرف الخلافة، لكان من أحق الناس بها أبرهة بن الصباح، فإنه من أبناء ملوك اليمن التبابعة الذين ملكوا شرق الأرض وغربها ، ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب؟!.

وأما قولك : أن معاوية ولي عثمان فأولى منه ابنه عمرو بن عثمان، ولكن إن طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره، بتوليتنا ابنه عبد الله الحَبر.

قال عمرو : فما يمنعك من ابني عبد الله مع فضله وصلاحه وقدم هجرته وصحبته، فقال أبو موسى: إن ابنك رجل صدق ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمساً، ولكن هلم نجعلها للطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر قال عمرو: يا أبا موسى إنه لا يصلح لهذا الأمر إلّا رجل له ضرسان، يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر، قال أبو موسى يا عمرو إن المسلمين قد أسندوا إلينا امراً بعد أن تقارعوا بالسيوف، وتشاركوا بالرماح، فلا نردهم في فتنة، قال: فما ترى؟.. قال : أرى أن نخلع هذين الرجلين علياً ومعاوية،

ص: 352


1- الإسراء: 33

ثم نجعلها شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم من أحبّوا، قال عمرو: فقد رضيت بذلك، وهو الرأي الذي فيه صلاح الناس».(1)

وبذلك انتهت المفاوضات.. فإذا سألت وأين موقع هذا الحكم من الكتاب والسنّة؟ ومتى كان النزاع في أحقية معاوية في الأمر من علي؟ ومتى شُك في شرعية خلافة علي علیه السلام، وقد بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان؟ وبيدهم الحل والعقد - كما كانوا يرون - وهل تجاوزت دعوى معاوية اتهام الإمام علیه السلام بإيواء قتلة عثمان، ورغبته للدخول فيما دخل فيه الناس إذا سُلّموا إليه ؟! وكان المجرى الطبيعي للدعوى أن يبحث في استحقاق معاوية للمطالبة بدمه وعدمها ومدى شرعية طلبه، قبل أن يدخل فيما دخل فيه الناس، ويرفع قضيته إلى الإمام علیه السلام، ولكن الحكمين - كما رأيتم - تناسوا كل ذلك ابتداءً، وتكشفت نفسياتهما بأبشع صورها، أما أبو موسى فقد خضع لرواسبه؛ فتناسى إمامه، والمهمة التي اختير طرفاً للنظر فيها، ووجه كل همه لترشيح صاحبه عبد الله بن عمر والعمل له، وأما ابن العاص فقد طمع في جرها إلى ولده عبد الله بعد أن أفحمه أبو موسى في رده لمؤهلات معاوية وتقديم الإمام علیه السلام عليه بهذا الميزان، ثم انتهيا إلى هذه النهاية الغريبة، وهي خلع الإمام علیه السلام ومعاوية، في حين أن معاوية لم يدّع الخلافة المشروعة بيعة أو بمشورة، ولا ادعيت له إلى ذلك الوقت، فكيف يعمد إلى خلعه؟! وقد طرب ابن العاص لهذه النتيجة، وبخاصة بعد أن بيت ما بيت من الغدر، وكان ابن عباس على عهدنا به من اليقظة والحزم ، وقد أدرك أن صاحبه مخدوع فخلا به وقال:

«ويحك يا أبا موسى أحسب والله عمراً قد اختدعك، فإن كنتما قد اتفقتها على شيء فقدّمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم بعده، فإن عمراً رجل غدار، ولست آمن من أن يكون قد

ص: 353


1- الأخبار الطوال: 200

أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت به في الناس خالفك، قال أبو موسى : قد اتفقنا على أمر لا يكون لأحدنا على صاحبه خلاف إن شاء الله».(1)

ومضت توصيات صاحبنا وتحذيره في طريقها، ومضى أبو موسى في غير ذلك

الطريق، فقد قال له عند إعلان نتائج المفاوضة: «إصعد المنبر فتكلم، فقال عمرو ما كنت لأتقدمك وأنت أفضل مني فضلاً وأقدم هجرة وسناً.

فبدأ أبو موسى فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة ويصلح أمرها، فلم نر شيئاً هو أبلغ في ذلك من خلع هذين الرجلين علي ومعاوية، وتصييرها شورى؛ يختار الناس لأنفسهم من رأوه لها أهلاً، وإني قد خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم، ثم نزل.

فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا

وصعد عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه ألا وإني قد خلعت صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي أمير المؤمنين عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه، فقال له أبو موسى: لا وفقك الله غدرت وفجرت، وإنما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، وقال له عمرو: ومثلك مثل الحمار يحمل أسفارا».(2)

وأثرّت هذه الخديعة أثرها في نفوس أهل العراق فحمل شريح بن هاني على عمرو فضربه بالسوط وحجز الناس بينهم، وكان شريح يقول بعد ذلك: «ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ولم أضربه بالسيف»(3)... وهرب أبو موسى إلى

ص: 354


1- الأخبار الطوال : 186 ، وأنساب الأشرف ج 2 : 351
2- المصدر السابق: 201
3- تاريخ ابن الاثير ج 3: 169

مكة، وظل ابن عباس يقول: «لحى الله ابا ،موسى لقد نبهته فما انتبه، وحذرته ما صار إليه فما انحاش.. وكان أبو موسى يقول: لقد حذرني ابن عباس غدر عمرو فاطمأننت إليه، ولم أظن أنه يؤثر شيئاً عن نصيحة المسلمين».(1)

وكانت خدعة ابن العاص هذه - مع ما فيها من صراحة الغدر ، وعدم العمل بما شرط عليهما من الكتاب والسنة - كافية لأن تبعث في أهل الشام طاقة تعيد إليهم ما فقدوه من ثقة بأنفسهم في انهزامهم أمام أهل العراق، وتوحي لسذجهم صحة خلافة صاحبهم، فقد عاد ابن العاص - كما يقول المؤرخون - وعادوا معه فبايعوا معاوية بإمرة المؤمنين.

أما أهل العراق - وهم أعرف الناس بمواقع الخدعة في كلام ابن العاص - فلم تزعزع هذه الحادثة شيئاً من ثقتهم بإمامهم علیه السلام وعلمهم بأحقيته بالأمر كتاباً وسنّة، وقد قال صاحبهم سعيد بن قيس الهمداني : «والله لو اجتمعنا على الهدى ما زادنا على ما نحن عليه بصيرة»(2)، وقالوا جميعاً مثله، إلا أن تأثيرها النفسي عليهم كان بالغاً للغاية؛ ولما أشعرتهم به من مرارة الخيبة بتفويت الفرصة على أنفسهم وهم على أبواب النصر؛ ولما عرّضتهم لسخرية أهل الشام وغير أهل الشام ممن شمتوا بهم، ومن مناوئيهم ومناوئي الإمام علیه السلام؛ ولشعور خصمهم بالانتصار عليهم، وقد عادوا وهم يتلاومون ويتدافعون المسؤولية فيما بينهم، بينما عاد خصومهم وهم منتشون وسنعرف - بعد حين - مدى تأثير هذه الحادثة في نفوسهم، فيما يجد لدينا من أحداث.

ولصاحبنا خطبة - بعد عودته إلى الكوفة - خَطَبَها الناس فيمن خطب من بني هاشم بدعوة من الإمام عندما أرادوا معرفة رأيهم بالحكمين وكانت –على إيجازها

ص: 355


1- الأخبار الطوال: 201
2- المصدر السابق: 202

- من أبدع ما يقال في موضعها، وقد جاء فيها .. «إن للحق أهلاً اصابوه بالتوفيق فالناس بين راض به وراغب عنه، فإنه بعث عبد الله بن قيس بهدى إلى ضلالة وبعث عمرا بضلالة إلى هدى فلما التقيا رجع عبد الله بن قيس عن هداه ، وثبت عمرو على ضلالته، وايم الله لئن كانا حكما بما سارا به، لقد سار عبد الله وعلي إمامه، وسار عمرو ومعاوية إمامه، فما بعد هذا من غيب ينتظر».(1)

وقد رويت هذه الخطبة بزيادة قليلة واختلاف يسير في الإمامة والسياسة لابن قتيبة(2)لا يهم تحقيقها الآن.

وسُئل بعد ذلك صاحبنا عن المانع الذي منع الإمام علیه السلام من إرساله مكان أبي موسى الأشعري، فأجاب - بما لا يخلو من مرارة -.. يقول البلاذري: «قيل لعبد الله بن عباس: ما منع علياً أن يبعثك مع عمرو يوم التحكيم، فقال: منعه حاجز القدر، ومحنة الابتلاء، وقصر المدة، أما والله لو كنت لقعدت على مدارج أنفاسه، ناقضاً ما أبرم، ومبرماً ما نقض، أطير إذا أسف وأسفٌ إذا طار ، ولكن قد سبق قدر وبقي أسف، ومع اليوم غد، الآخرة خير لأمير المؤمنين».(3)

وكأن السائل لم يسمع بملابسات القضية، وإصرار الإمام علیه السلام على إدخاله، وقوله من خطبة له : «فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن عباس، وخذوا مهل الأيام، وحوطوا قواصي الإسلام».(4)

وهكذا انتهت هذه المأساة وخلّفت ما خلّفت من رواسب في نفوس أهل العراق،

ص: 356


1- العقد الفريد ج 2 : 207
2- انظر الإمامة والسياسة ج 1 : 128
3- شرح نهج البلاغة ج 1 : 195 - 196 نقلاً عن البلاذري
4- المصدر السابق ج 3: 286

وعاد صاحبنا بعد ذلك إلى مقر عمله في البصرة.

(13)

وكان من الرواسب ان يضرى هؤلاء المحكمة، وينشطون لإعلان حركتهم التمردية على الإمام علیه السلام في الكوفة، وعلى صاحبنا في البصرة، بينما كان الإمام علیه السلام يعد العدة بخطبه البليغة لتخليص أهل العراق من تلكم الرواسب، وإعادة الثقة إلى أنفسهم، وتحفيزهم إلى العودة إلى عدوهم.

وقد علم صاحبنا بأن خوارج البصرة قد خرجوا للالتحاق بأصحابهم من أهل الكوفة؛ ليجمعوا كلمتهم على الثورة، فبعث إليهم أبا الأسود الدؤلي؛ ليلحق بهم ويردهم إليها، وأدركهم بالجسر الأكبر وكانوا خمسمائة، وقد تركوا قيادتهم لمسعر بن فدكي التميمي، فتواقفوا حتى حجز بينهم الليل، وفي الليل أدلجوا حتى لحقوا بعبد الله بن وهب بالنهر.(1)

ولمّا أجمع الإمام علیه السلام أمره على الخروج إلى الشام كتب إلى صاحبنا: «أما بعد فإنا قد خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة، وقد أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل المغرب فاشخص بالناس حتى يأتيك رسولي، وأقم حتى يأتيك أمري والسلام»، فقام في الناس خطيباً، وأمرهم بالشخوص مع الأحنف بن قيس، فلم يشخص معه غير ألف وخمسمائة رجل، فاستقلّهم عبد الله وساءه ذلك، فاضطر إلى إعمال شيء من العنف، فقام خطيباً وقال فيما قال: «أما بعد يا أهل البصرة فإنه جاءني أمر أمير المؤمنين يأمرني بهم بإشخاصكم، فأمرتكم بالنفير إليه مع الأحنف بن قيس، ولم يشخص معه منكم إلّا

ص: 357


1- انظر تأريخ الطبري ج 6: 43

ألفاً ألف وخمسمائة، وأنتم ستون سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم... الا أنفروا مع جارية بن قدامة السعدي، ولا يجعلن رجل على نفسه سبيلاً، فإني موقع بكل من وجدته متخلفاً عن مكتبه عاصياً لإمامه، وقد أمرت أبا الأسود الدولي بحشركم، فلا يلم رجل جعل السبيل على نفسه إلّا نفسه».(1)

وكانت نتيجة هذه الخطبة - فيما يروي الطبري - خروج ألف وسبعمائة رجل انضموا إلى جارية، فسار الجيشان إلى النخيلة وانضموا بها إلى جيوش الإمام علیه السلام.

وقد بلغ جيش البصرة - برواية الطبري - ثلاثة آلاف ومائتي رجل(2)، وهو عدد قليل جداً، يبعد أن يرضى عنه صاحبنا بعد صدور ذلك التهديد منه، والأنسب - فيما أخال - أن نأخذ تختلف برواية الدينوري، وهي عن تلكم الرواية في لسان الكتاب الذي كتبه له الإمام علیه السلام وفيه أمر بالشخوص إليه حين مجيء الكتاب لا الإقامة حتى يأتيه الأمر..

يقول الدينوري: «فقدم عليه عبد الله بن عباس في فرسان البصرة، وكانوا زهاء سبعة آلاف رجل».(3)

والغريب من أمر طه حسين أنه قال: «وقد رأينا أن ابن عباس لم يقدم على علي حين أراد الشخوص إلى الشام ، ولم يشهد معه النهروان وإنما أقام بالبصرة وسرح الجند إلى علي، كأنه قد ضاق بهذه الحرب التي لا تغني، فقعد عنها وانتظر عاقبتها».(4)

وما أدري أي مصدر اعتمده؟! مع أنها جميعاً بين صريحة بشهوده النهروان، وبين

ص: 358


1- تأريخ الطبري ج 6 : 44
2- انظر تأريخ الطبري ج 6 : 44
3- الأخبار الطوال: 191
4- الفتنة الكبرى (علي وبنوه) : 134

ساكتة عن ذلك لا مصرحة بالعدم، وربّما أو همت بعضها ذلك لقولها: بأنه أرسل هذين الجيشين إلى الإمام علیه السلام والإرسال يقضي بقاءه بالبصرة، كما يبدو ذلك من رواية الطبري السابقة، ولو صح هذا الوهم لقلنا أنه بقي في انتظار أمر الإمام علیه السلام فصريح كتابه السابق وأقم حتى يأتيك أمري»، ومقتضى الجمع بينها وبين الروايات المصرحة بشهوده للنهروان - عادة - أنه ظل فيها حتى جاءه الأمر، فالتحق بالإمام علیه السلام

على أن رواية الطبري لو تمت - فهي معارضة برواية الدينوري السابقة، وهي صريحة بخروجه على رأس الجيش، وربّما يبدو من ذيل عبارة الطبري أن صاحبنا سبق الجيشين معاً إلى النخيلة، فهو يقول بعد الخطبة: «فخرج جارية فعسكر، وخرج أبو سود فحشر الناس، فاجتمع إلى جارية ألف وسبعمائة ثم أقبل حتى وافاه علي بالنخيلة، فلم يزل بالنخيلة حتى وافاه هذان الجيشان من البصرة».(1)

وبالطبع فالضمير في «أقبل » لا يعود إلى جارية ؛ لأنه كان على رأس أحد الجيشين وقد جاء متأخراً، وليس في الكلام معاد للضمير غيره وغير جارية، فصاحبنا إذاً هو الذي التقاه أمامه.

وما أدري لم تناسى طه حسين أقوال مترجميه ؟! مع أن أكثرهم صرحوا بشهوده للنهروان معه، ولم أجد - فيما رأيت - من صرح بعدم حضوره هذه الواقعة.. كل ذلك ليسلم له ما أراد من تمهيد لقصة بيت المال التي أخذ الدكتور بأفظع رواياتها، وحاكمه إليها، كما سنرى ذلك بعد حين ..

ومهما يكن، فقد تهيأ الإمام علیه السلام - بعد تكامل جيشه - للمسير إلى الشام ولكنه فوجئ بتكتل الخوارج وارتكابهم فظائع لا يصح السكوت عليها بحال، كقتلهم

ص: 359


1- تأريخ الطبري ج 6 : 44 - 45

لعبد الله بن خباب الصحابي الجليل، والقضاء على زوجته بعد أن بقروا بطنها وقتلوا حملها، ثم قطعهم الطريق وتعرضهم لكل من يجدونه من المسلمين، وقد ضجّ عسكر الإمام علیه السلام لكثرة فظائعهم ، وطلبوا إليه السير إليهم لتأديبهم(1)، ثم العودة إلى الشام، ووافق الإمام على ذلك، وأراد التوجه إليهم ، فجاءه فيما يحدث صاحبنا - مسافر بن عوف بن الأحمر ، وكان ينظر في النجوم، فنهاه عن مسيره في تلكم الساعة، وعيّن له ساعة للخروج ، وضمن له الظفر بها فثار الإمام علیه السلام على الإيمان بأمثال هذه الخرافات وحاججه في ذلك، ونهاه عن النظر فيها، وهدده على ذلك، ثم أقبل على الناس وقال: «إياكم وتعلّم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر... الخ(2)وسار علیه السلام في الساعة التي نهاه عن المسير فيها فظفر بالخوارج».(3)

ولهؤلاء الخوارج قصة بدأت - كما سبق أن قلنا - بصفين، حين وافق الإمام علیه السلام - على التحكيم، بعد أن اضطروه إليه اضطراراً، ثم عدلوا واعلنوا معارضتهم له، وطلبوا إلى إمامهم علیه السلام أن ينقض ما أعطاه من عهد ، فأبى عليهم ذلك، وجاؤوا إلى الكوفة فاشتدوا بالمعارضة وكان الإمام علیه السلام يلاينهم، ويستصلح أمرهم وقد اجتمع قسم منهم بحروراء فذهب إليهم بنفسه، وقيل: أرسل إليهم ابن عباس، فحاججهم أولاً، ثم أدركه الإمام علیه السلام فاتم الاحتجاج عليهم، وعادوا معه جميعاً إلى الكوفة بعد أن أفحمهم، ثم استأنفوا نهضتهم بعد إعلان نتائج التحكيم، وهربوا من الكوفة إلى النهر وانضم إليهم خوارج البصرة، فأدركهم الإمام فيها .

ومن بديع كلمات الإمام علیه السلام وقد شاهد بعضهم ما حدّث عنه ابن عباس فقال: «لما

ص: 360


1- انظر تأريخ الطبري ج 6 : 46
2- انظر تذكرة الخواص: 167
3- المصدر السباق

خرجنا إلى قتال الخوارج سمع علي علیه السلام رجلاً منهم يتهجد بالقرآن، فقال: نوم على يقين خير من صلاة في شك».(1)

وعلى طريقة الإمام علیه السلام في الدعوة إلى السلام ما لم يلجئوه إلى الحرب، حاول أن يردّهم من طريق المحاججة تارة والوعظ أخرى، ويبدو من بعض الروايات أن صاحبنا كان طرفاً من قبل الإمام في الاحتجاج.

ومحاججة عبد الله هذه للخوارج رغم تواترها في كتب المؤرخين إلّا أنهم مختلفون في مكانها وزمانها ونصوصها، فهي لدى بعضهم أنها بحروراء قبل ذهابه مع أبي موسى إلى دومة الجندل، ويبدو من بعضها أنها كانت بالنهروان بعد حادثة التحكيم، ثم هو لدى بعضهم مستقل بالاحتجاج، وأنه أفحمهم وعاد بألفين منهم إلى الإمام أو أربعة آلاف (2)، ولدى آخرين أن الإمام علیه السلام انضم إليه في المحاججة، ولدى ثالث أنه سمع حجتهم وكان الإمام علیه السلام معه فترك الجواب إليه .(3)

وأخال أن الاحتجاج عليهم كان في حروراء أولاً ثم كان في النهروان ثانياً، وليس ما يمنع هذا الفرض -وهو بمثابة الجمع بين الروايات المتعارضة - إذا وجدنا له أساساً في التأريخ، ومثل هذه الحادثة تدعو عادة إلى أكثر من احتجاج، واعتماد الإمام علیه السلام على ابن عباس وكفاءته معروف وأساس هذا الفرض ما جاء في تأريخ اليعقوبي.. يقول: «وصارت الخوارج إلى قرية يقال لها حروراء، بينها وبين الكوفة نصف فرسخ، وبها سموا الحرورية، ورئيسهم عبد الله بن وهب الراسبي أبن الكوا وشبث بن ربعي، فجعلوا يقولون : لا حكم إلا الله، فلما بلغ علياً ذلك قال : كلمة حق أريد بها باطل، ثم

ص: 361


1- تذكرة الخواص : 113
2- انظر البداية والنهاية ج 7 : 281 ، وتذكرة الخواص: 106
3- انظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 168

خرجوا في ثمانية آلاف، وقيل: في اثني عشر ألفاً، فوجه إليهم علي علیه السلام عبد الله بن عباس فكلّمهم واحتجوا عليه فخرج إليهم علي علیه السلام فقال : أتشهدون عليَّ بجهل؟ قالوا: لا، قال: فتنفذون أحكامي قالوا نعم قال: ارجعوا إلى كوفتكم حتى نتناظر، فرجعوا من عند آخرهم، ثم جعلوا يقومون فيقولون: لا حكم إلا الله، فيقول علي علیه السلام: حكم الله أنتظر فيكم، وخرجوا من الكوفة، فوثبوا على عبد الله بن خباب بن الأرت فقتلوه وأصحابه، فخرج إليهم علي علیه السلام فناشدهم الله ووجّه إليهم عبد الله بن عباس فقال: يا ابن عباس قل لهؤلاء الخوارج ما نقمتم على أمير المؤمنين؟! ألم يحكم فيكم بالحق ويقيم فيكم العدل، ولم يبخسكم شيئاً من حقوقكم؟! فناداهم عبد الله بن عباس بذلك، فقالت طائفة منهم : والله لا نجيبه، وقالت الأخرى : والله لنجيبنه ثم لنخصمنه، نعم يا ابن عباس نقمنا على علي خصالاً، كلها ،موبقة، لو لم نخصمه منها إلّا بخصلة خصمناه، محا اسمه من إمرة المؤمنين يوم كتب إلى معاوية، ورجعنا عنه يوم صفين فلم يضربنا بسيفه حتى نفيء إلى الله، وحكّم الحكمين، وزعم أنه وصي فضيّع الوصية، وجئتنا يا ابن عباس في حلة حسنة جميلة تدعونا إلى مثل ما يدعونا إليه، فقال ابن عباس: قد سمعت يا أمير المؤمنين مقالة القوم، وأنت أحق بالجواب، فقال: حججتهم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة قل لهم : ألستم راضين بما في كتاب الله وبما فيه من أسوة رسول الله ؟ قالوا بلى قال فعلي بذلك أرضى كتب كاتب رسول الله يوم الحديبية إذ كتب إلى سهيل بن عمرو وصخر بن حرب ومن قبلهما من المشركين من محمد رسول الله، فكتبوا إليه لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، فاكتب إلينا من محمد بن عبد الله لنجيبك، فمحا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم اسمه بيده وقال : إن اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي وأمري، فكتب من محمد بن عبد الله.

وكذلك كتب الأنبياء، كما كتب رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم إلى الآباء ففي رسول الله أسوة

ص: 362

حسنة.

وأما قولكم إني لم أضربكم بسيفي يوم صفين؛ حتى تفيؤوا إلى أمر الله، فإن الله جل وعز يقول: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(1) و كنتم عدداً جماً، وأنا وأهل بيتي في عدة يسيرة.

وأما قولكم: إني حكّمت الحكمين فإن الله عز وجل حكم في أرنب يباع بربع درهم فقال : «يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْ»(2) ولو حكم الحكمان بما في كتاب الله، لما وسعني الخروج من حكمهما.

وأما قولكم: إني كنت وصيّاً فضيعت الوصية، فإن الله عز وجل يقول: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(3)، أفرأيتم هذا البيت لو لم يحج إليه أحد كان البيت يكفر ؟! إن هذا البيت لو تركه من استطاع إليه سبيلاً كفر، وأنتم كفرتم بترككم إياي، لا أنا كفرت بتركي لكم.

فرجع يومئذ من الخوارج ألفان وأقام أربعة آلاف، والتحمت الحرب بينهم».(4)

وهذا الخبر يدلنا على أن صاحبنا ذهب إليهم مرتين إحداهما في حروراء، والثانية في النهروان، والاحتجاجات - بعد - على طولها وقصرها، منفرداً بها أو مشتركاً مع الإمام علیه السلام، تحوم أفكارها العامة حول ما ذكره الإمام علیه السلام في احتجاجه هذا عليهم، وإن اختلفت ألسنتها بالزيادة والنقيصة، فلا يهم الإطالة بذكرها وتمحيصها، وهي معروضة في أكثر مصادر التأريخ.

ص: 363


1- البقرة : 195
2- المائدة: 95
3- آل عمران: 97
4- تأريخ اليعقوبي ج 2: 167 - 169

والخوارج قوم تظافرت الأحاديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في الإخبار عن تمردهم على

إمامهم ومروقهم من الدين وما جاء عن صاحبنا قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: يقرأ القرآن أقوام من أمتي، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»(1)، وقد أخبر النبي صلی الله علیه و آله وسلم الإمام علیه السلام بأنه سيتولى قتلهم بالنهروان دون الجسر، وذكر عدّة من يتبقى منهم، ثم ذكر ذا الثدية من جملة قتلاهم، وأخبر الإمام علیه السلام بكل ذلك قبل حربهم فصدق في كل ما قال، وطلب بعد انتهاء القتال ذا الثدية هذا فلم يجده في القتلى، وطال البحث عنه، ثم وجدوه، ووجد فيه ما ذكره من صفات، فكبّر بأعلى صوته ثم سجد، وكبّر الناس كلهم معه.(2)

وقد روى هذه الحادثة كل من أرّخ لوقعة النهروان من المؤرخين واعتبروها من دلائل النبوة التي لا تقبل الأخذ والرد، والذي يبدو أن إخبار النبي صلی الله علیه و آله وسلم عن ذي الثدية كان معروفاً، حتى أن ابن العاص - بحكم وصوليته - يبعث إلى عائشة بأنه قتله بنيل مصر، ولما أُخبرت بأن الإمام علیه السلام هو الذي تولى قتله وتوثقت من ذلك بكتابة سبعين من أسباع الكوفة، شهدوا لها بأنهم رأوه في القتلى، قالت: لعن الله فلاناً، وفي رواية المدائني تصريح لعن الله ابن العاص ؛ فإنه كتب إلى أنه أصابه بنيل مصر، ثم أرخت عينيها فبكت فلما سكنت عبرتها قالت رحم الله علياً لقد كان على الحق، وما كان بيني وبينه إلّا كما يكون بين المرأة وأحمائها».(3)

وفي رواية المدائني أنها قالت لمحدّثها: «ألا إنه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعت من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول : يقتله خير أمتي من بعدي».(4)

ص: 364


1- البداية والنهاية ج 7: 302
2- انظر أنساب الأشراف ج 2 : 376
3- البداية والنهاية ج 7 : 304
4- شرح نهج البلاغة ج 1 : 202

ولو كان ابن عباس في حاجة إلى زيادة إيمان بقيمة بطله لكان لهذه الخوارق وأمثالها أوقع الأثر في نفسه، ولكن إيمانه بصاحبه كان قد تجاوز حد الحاجة إلى مثل هذه الأحاديث.

وعاد الإمام علیه السلام إلى الكوفة وذهب صاحبنا إلى مقر عمله بالبصرة ليستقبل بعض الأحداث.

(14)

وكان من أهمها حديث الخرّيت بن راشد الناجي، فقد قدّر لهذا الخارجي أن يخرج على إمامه علیه السلام بعد حادثة النهروان، ويخرج معه جماعة من بني ناحية، ويهربوا من الكوفة سراً، ويعلم الإمام علیه السلام أنهم ذهبوا في اتجاه البصرة، فأتبعهم زياد بن خصفة ويأمره بالتوقف بدير موسى، ثم يكتب إلى عماله: «أما بعد فإن رجالاً خرجوا هراباً، ونظنهم توجهوا نحو بلاد البصرة، فسل عنهم أهل بلادك، واجعل عليهم العيون في كل ناحية من ارضك واكتب إليَّ بما ينتهي إليك عنهم».(1)

فيجيبه أحد عماله بأنهم ذهبوا في اتجاه نفر بعد أن يذكر له بعض مفارقاتهم الإجرامية، كقتلهم مسلماً سألوه عن الإمام علیه السلام فقال: إنه أمير المؤمنين، وسيد البشر، ووصي رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بينما عفوا عن ذمي كان معه، ويكتب إلى زياد أن يتبعهم فيتبعهم ويدركهم بالمذار، فيدعوهم إلى الدخول فيما خرجوا منه، ويأبوا عليه، فيواقفهم إلى الليل، وفي الليل هربوا منه واتجهوا نحو الأهواز، واتجه زياد إلى البصرة في انتظار أمر الإمام علیه السلام، ولما بلغ الإمام علیه السلام ذلك سيّر إلى الخرّيت معقل بن قيس على رأس ألفين من

ص: 365


1- تأريخ الطبري ج 6 : 67

أهل الكوفة ثم كتب إلى صاحبنا : «أما بعد فابعث رجلاً من قبلك صليباً شجاعاً معروفاً بالصلاح في ألفي رجل فليتبع معقلاً، فإذا مر ببلاد البصرة فهو أمير أصحابه حتى يلقى معقلاً، فمعقل أمير الفريقين، وليسمع من معقل وليطعه ولا يخالفه، ومر زياد بن خصفة فليقبل إلينا فنعم المرء زياد ونعم القبيل قبيله والسلام».(1)

وسار معقل حتى أتى الأهواز، وبقي في انتظار اهل البصرة، وإذا بكتاب ابن عباس إليه : «أما بعد فإن أدركك رسولي بالمكان الذي كنت فيه مقيماً، أو أدركت وقد شخصت منه فلا تبرح المكان الذي ينتهي فيه إليك رسولي، واثبت فيه حتى يقدم عليك بعثنا الذي وجهناه إليك، فإني قد بعثت إليك خالد بن معدان الطائي، وهو من أهل الصلاح والدين والبأس والنجدة فاسمع منه واعرف ذلك له والسلام».

وسرّى هذا الكتاب عن معقل وسرّى عن جنده أيضاً، فهم قد هالهم ذلك الوجه، وبقي في انتظار الجيش حتى وافاه وسار بالجميع إلى جماعة الخرّيت وقد انضم إليه أناس كثر، بعضهم من النصارى ممن أسلم ثم ارتد، وبعضهم من أهل الجزية، وآخرون امتنعوا عن دفع الصدقات، وبعد حروب ظفر بهم معقل، فأما المسلمون فقد أطلق لهم عيالهم وخلّى سبيلهم بعد أخذ البيعة، وأما المرتدون فقد استتابهم وأطلقهم أيضاً، وحمل أسرى النصارى مقبلاً بهم نحو الإمام علیه السلام ، وفي طريقه على أردشير فزع الأسرى إلى مصقلة بن هبيرة فاشتراهم وأعتقهم، وبقي المال في ذمته، وطال أمد التسديد على الإمام فكتب إليه الإمام علیه السلام : «أما بعد فإن من أعظم الخيانة خيانة الأمة وأعظم الغش على اهل المصر غش الإمام، وعندك من حق المسلمين خمسمائة ألف درهم، فابعث بها إليّ ساعة يأتيك ،رسولي، وإلّا فاقبل حين تنظر في كتابي، فإنني تقدمت إلى رسولي

ص: 366


1- تأريخ الطبري: ج 6 : 70

إليك ألّا يدعك أن تقيم ساعة واحدة بعد قدومه عليك إلّا أن تبعث بالمال».(1)

وجاء على إثر هذا الكتاب إلى البصرة فبقي فيها أياماً، فطالبه صاحبنا به، وكان عمال البصرة يحملون المال من كوّر البصرة إلى ابن عباس، ويكون ابن عباس هو الذي يبعث به إلى علي.(2)

فاستنظره أياماً وأقبل على الإمام علیه السلام فدفع إليه مائتي ألف درهم، ثم عجز عن دفع الباقي فهرب إلى معاوية، فقال الإمام : «ما باله برحه الله فعل فعل السيّد، وفرّ فرار العبد وخان خيانة ،الفاجر، أما والله لو أنه اقام فعجز ما زدنا على حبسه ...».(3)

وكانت أهم الحوادث التي أقلقته - فيما أخال - وأشجته وآلمته ورود كتاب من إمامه علیه السلام ينعى فيه محمد بن أبي بكر، ويخبره عن فتح مصر، وتخاذل أهل الكوفة عن نصرته، وفيه من اللوعة والأسى ما يبعث أعمق الشجا في نفسه ولسانه بعد البسملة والحمد: «أما بعد فإن مصر قد افتتحت، وقد استشهد محمد بن أبي بكر، فعند الله عزوجل نحتسبه وقد كنت كتبت إلى الناس وتقدمت إليهم في بدء الأمر وأمرتهم بإغاثته قبل الوقعة، ودعوتهم سراً وجهراً وعوداً و بدءً فمنهم الآتي كارها ومنهم المتعلل كاذباً ومنهم القاعد خاذلاً، أسأل الله أن يجعل لي منهم فرجاً، وأن يريحني منهم عاجلاً، فوالله لولا طمعي عند لقاء عدوي في الشهادة، وتوطين نفسي عند ذلك؛ لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً، عزم الله لنا ولك على تقواه وهديه إنه على كل شيء قدير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».(4)

ص: 367


1- تأريخ الطبري ج 6 : 75
2- انظر تأريخ الطبري ج6 : 75
3- المصدر السابق ج 6 : 76
4- شرح نهج البلاغة ج 2 : 35

وكان تألّم ابن عباس - فيما أخال - لسأم الإمام علیه السلام من قومه؛ لتخاذلهم يقل عمقاً عن فتح مصر وقتل محمد هذا، فكان لا بد له من تسرية عنه وتعزية، فكتب إليه في جواب بعد البسملة : «سلام الله عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه افتتاح مصر وهلاك محمد بن أبي بكر، فالله المستعان على كل حال، ورحم الله محمد بن أبي بكر، وآجرك يا أمير المؤمنين ، وقد سألت الله أن يجعل لك من رعيّتك التي ابتليت بها فرجاً ومخرجاً، وأن يعزّك بالملائكة عاجلاً بالنصرة، فإن الله صانع لك ذلك، ومعزّك ومجيب دعوتك وكابت عدوك.

أخبرك يا أمير المؤمنين أن الناس ربّما تثاقلوا ثم ينشطون، فارفق بهم يا أمير المؤمنين وداجنهم ومنهم واستعن بالله عليهم كفاك الله المهم والسلام».(1)

وهذا الكتاب - على إيجازه - عميق الدلالة على ما أصاب صاحبنا من انفعال لهذه الحوادث أولاً، والجو الإمام علیه السلام النفسي الذي تمثل بكتابه ثانياً، والذي يبدو أنه رأى أن كتابه هذا لا يكفي في التسرية عن إمامه علیه السلام، وتخفيف حدة انفعاله، ورأى نفسه مسؤولاً عن ذلك فركب إلى الكوفة بنفسه يعزّيه عنه، وخلّف على البصرة زياداً من بعده».(2)

وقد استغل أنصار الأمويين في البصرة غياب صاحبنا عن بلدهم، فكتب عباس بن صحار العبدي منهم إلى معاوية كتاباً يستحثه على بعث أيدٍ للطلب بدم عثمان، ويقول في ذیل :كتابه: «فإني لا أخال الناس إلّا مجمعين عليك، وإن ابن عباس غائب عن المصر».(3)

ص: 368


1- تأريخ الطبري ج 6: 63
2- انظر المصدر السابق
3- شرح نهج البلاغة ج 1 : 350
(15)

ومن الغريب أن يفرغ الكوفيون عن التفكير في ملابسات ما أحاط بهم من أحداث، أو يتجهوا إلى إثارة تساؤلات لا ترتبط بصميم مشاكلهم، كأن يدخل على الإمام علیه السلام بعض أهل العراق، فيسالوه عن أبي بكر وعمر ويطلبوا رايه فيهما وفي عثمان، ويجيب الإمام علیه السلام بمضض : «أوتفرغتم لهذا ؟! .. وهذه مصر قد افتتحت، وشيعتي فيها قد قتلت، إني مخرج إليكم كتاباً أنبئكم فيه ما سألتموني عنه، فاقرؤوه على شيعتي».

ثم أخرج كتاباً مطولاً يذكره المؤرخون(1) و أخال أن خطبته الشقيقية كانت في هذه الفترة من الزمان، لا كما ذكر سبط ابن الجوزي من أنها كانت عند بيعته بالمدينة(2) - فيما حدّث عن ابن عباس ، لأن مضامينها لا تلتئم مع ذلك الوقت؛ لاشتمالها على الإخبار - عن حوادث صدرت معه ولم تكن صادرة إذ ذاك؛ ولملاءمة مضامينها لجو الإمام علیه السلام في هذه الفترة على الخصوص.

ونظراً لأهمية هذه الخطبة تأريخياً واهتمام صاحبنا بها على الخصوص نوردها مقتطفة من نهج البلاغة، يقول:

«أما والله لقد تقمصها فلان (ابن أبي قحافة) وإنه ليعلم أن محلّي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليَّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا ،أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق ،شجى، أرى تراثي نهباً حتى مضى

ص: 369


1- انظر الإمامة والسياسة ج 1 : 142 - 147 ، وجمهرة رسائل العرب ج 1 : 562-572
2- انظر تذكرة الخواص: 133

الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان (ابن الخطاب) بعده – ثم تمثّل بقول الأعشى - :

شتان ما يومي على كورها***ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجباً!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدّما تشطّرا ضرعيها؛ فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقدّم، فمني الناس - لعمر الله - بخبط وشماس وتلوّن واعتراض، فصبرت على طول المدة وشدّة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيالله وللشورى! متى اعترض الريب في مع الأول منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكنني أسففت إذ أسفّوا وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هَنٍ وهَن.. إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبته الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته، فما راعني إلا والناس - كعرف الضبع إليَّ - ينثالون عليّ من كل جانب؛ حتى لقد وطئ الحسنان، وشُقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(1)، بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدينا في أعينهم وراقهم ،زبرجها، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سعب مظلوم؛ لألقيت حبلها على غاربها؛ ولسقيت آخرها بكأس أولها؛ ولألفيتم

ص: 370


1- القصص: 83

دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز».(1)

وكان ابن عباس في الأثناء يتطلع إلى الإمام علیه السلام باهتمام كبير، وكأنّ إعلان هذه المظلومية - بجميع أدوارها - لا مس من نفسه مواقع العقدة المتأصلة فيها، وكان حريصاً على إتمامها لذلك، ولما قام إليه رجل من أهل السواد وسلّم الإمام علیه السلام كتاباً شغله النظر فيه عن الاستمرار في الخطبة قال له ابن عباس - فيما يقول الرواة -: « يا أمير المؤمنين لو اردت خطبتك من حيث أفضيت» فقال : «هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرّت» يقول صاحبنا - وهو يحدّث عن أثر هذه الخطبة في نفسه -: «فوالله ما أسفت على كلام قطّ كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين علیه السلام بلغ منه حيث أراد».(2)

وكانت هذه الخطبة، وذلك الكتاب السابق، وحديث الوصاية في احتجاجه على

ص: 371


1- شرح نهج البلاغة ج 1 : 50-68
2- يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 1 : 69 : «حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة، فلما انتهيت إلى هذا الموضع قال لي لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد، والله ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله، قال مصدق وكان ابن الخشاب صاحب هزل ودعابة فقلت له أنقول إنها منحولة ؟ فقال : لا والله ، وإني أعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق. قال: فقلت: إن كثيراً من الناس يقولون إنها من كلام الرضي فقال: أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب، قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر . ثم قال : والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة لقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي»

الخوارج وأمثالها مثار جدل وحديث - فيما أخال - بين أهل الكوفة، وربّما سرى في بعضهم - ممن يعمل لبني أمية تحت الستار، أو يوافق الخوارج في مبدئهم - شيء من التشكيك وإثارة الريبة في تصديقه بدعوى الأحقية بالأمر؛ فاضطر الإمام علیه السلام إلى الاستشهاد بمن حضر من الصحابة قطعاً لذلك الجدل... ففي مسند أحمد بن عباس: «جمع علي علیه السلام الناس في رحبة مسجد الكوفة، فقال أنشد الله كل أمرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول يوم غدير خم ما سمع، فقام سبعة عشر رجلاً وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم حين أخذ بيدك قال للناس: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا نعم قال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».(1)

وعلى حين غرّة تلقى ابن عباس من خليفته على البصرة كتاباً يحمل إليه خبراً مقلقاً ولسانه:

«للأمير عبد الله بن عباس من زياد بن عبيد .. سلام عليك.. أما بعد فإن عبد الله بن عامر الحضرمي اقبل من قِبَل معاوية، حتى نزل في بني تميم، ونعى ابن عفان، ودعا إلى الحرب، فبايعه تميم وجلّ أهل البصرة، ولم يبق معي من أمتنع به، فلما رأيت ذلك استجرت بالأزد ، بصبرة بن شيمان وقومه لنفسي ولبيت مال المسلمين، ورحلت من قصر الإمارة، فنزلت فيهم، وإن الأزد معي وشيعة أمير المؤمنين من فرسان القبائل تختلف إلي، وشيعة عثمان تختلف إلى ابن الحضرمي والقصر خالٍ منا ومنهم فارفع ذلك إلى أمير المؤمنين ليرى فيه رأيه، وأعجل إلي بالذي ترى أن يكون منه فيه، والسلام

عليك ورحمة الله وبركاته».(2)

يقول الراوي: فرفع ذلك ابن عباس إلي علي وبالطبع فقد تداول معه في وجوه

ص: 372


1- ينابيع المودة - مطبعة العرفان، صيدا، لم تذكر سنة الطبع - : ج 1 : 36 نقلا عن مسند أحمد
2- جمهرة رسائل العرب ج 1 : 577

الرأي، وربّما يكون الرأي الأول - باديء ذي بدء - أن يعجل صاحبنا السفر إلى البصرة ؛ ليمسك بنفسه زمام الموقف، ولكن هذا الرأي لا يستقيم إذا علمنا أن الفتنة كانت أخرى من أن تخمد بهذه السهولة، كما يبدو من كتاب زياد، فجل أهل البصرة بايعوه، بالإضافة إلى بني تميم، وزياد رجل لا يتهم بحزمه وقوته، ومع ذلك فقد اضطر إلى ترك القصر والاستجارة بالأزد، وعلى هذا فليس من الحزم أن يذهب ابن عباس وحده، والفتنة في ابانها، وربّما كان الأفضل أن لا يسير إلّا على رأس جيش، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وأن يرسل إلى بني تميم من يخذلها عن ابن الحضرمي، وليكن المرسل تميمياً، وهكذا كان.. فقد أرسل الإمام علیه السلام أعين بن ضبيعة المجاشعي؛ ليفرّق قومه عن ابن الحضرمي، وكتب معه إلى زياد:

سلام عليك.. أما بعد فإني قد بعثت أعين بن ضبيعة ليفرق قومه عن ابن الحضرمي فارقب ما يكون منه، فإن فعل وبلغ من ذلك ما يظن به، وكان في ذلك تفريق تلك الأوباش فهو ما نحب وإن ترامت الأمور بالقوم إلى الشقاق والتمادي في العصيان، فانبذ من أطاعك إلى من عصاك، فجاهدهم، فإن ظهرت فهو ما ظننت، وإن رأيت ممن قِبَلَك تثاقلاً وخفت ألا تبلغ ما تريد، فطاولهم وماطلهم، ثم تسمّع وأبصر ، فكأن كتائب المسلمين قد أطلّت عليك، فقتل الله المفسدين الظالمين، ونصر المؤمنين المحقين والسلام» .(1)

وقدم أعين على زياد، وقام بمهمته أفضل قيام وكاد يتم له النجاح لولا أن يبعثوا له من يغتاله فيقتل ويرسل زياد إلى إمامه علیه السلام بالخبر، ويرجو أن يبعث لهم بجارية بن قدامة «فإنه نافذ البصيرة مطاع في العشيرة، شديد على عدوّ أمير المؤمنين».(2)

ص: 373


1- جمهرة رسائل العرب ج 1 : 578، وانظر تأريخ الطبري ج 6 : 64
2- شرح نهج البلاغة ج 1: 353

ويقر الإمام علیه السلام وجهة نظره، فيبعثه إليهم ويرسل معه كتاباً إلى أهل البصرة، يستتيبهم فيه، ويتهددهم إن أصروا على التمرد والطغيان، يقول في ختامه: «وإني لظان أن لا تجعلوا إن شاء الله على أنفسكم سبيلاً، وقد قدمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم، ولن أكتب إليكم من بعده كتاباً، إن أنتم استغششتم نصيحتي.

ونابذتم رسولي، حتى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شاء الله تعالى والسلام»(1).

وجاء جارية فكلم قومه بالحسنى فلم يجيبوه وشتمه أوباشهم، فناهضهم وقضى على ابن الحضرمي وجماعته، بعد أن خذله بنو تميم وبقية أنصار الأمويين، وتم له النصر فكتب زياد إلى الإمام علیه السلام بذلك.

والغريب من أمر طه حسين أنه يريد أن يحمّل مسؤولية انتقاض البصرة على ابن

،عباس، ويجعل ذلك كله وليد نكوله عن إمامه علیه السلام ، فهو يقول بعد عرضه للمحادثة:

«ولو قد اقام عبد الله بن عباس على عهد ابن عمه لهابه معاوية ولما طمع في ملك ضيّعه أصحابه؛ وتركوه نهباً لمن شاء أن ينهبه، بل لو أقام ابن عباس على عهد ابن عمه، لحال بين العصبية وبين هذا الظهور الفجائي البشع، ولجنّب إمامه هذه المحنة القاسية التي تضاف إلى محن قاسية أخرى فلا تزيدها إلّا نكراً».

وقال: «وبعض المؤرخين يزعم أن هذه الأحداث حدثت حين كان ابن عباس قد ذهب إلى الكوفة، مواسياً لعلي، بعد مقتل محمد بن أبي بكر ، واحتياز عمرو بن العاص لمصر، وهذا كلام لا يستقيم، فلو قد كان ابن عباس عند علي؛ لعاد إلى البصرة مسرعاً، حين بلغته هذه الأنباء؛ ولما أقام عند علي، ينتظر أن يغني عنه زياد وأعين عنه زياد وأعين بن ضبيعة وجارية بن قدامة».(1)

ص: 374


1- جمهرة رسائل العرب :ج 1 : 580 - 581

«والواقع أن ابن عباس قد ضعف عن أمر ابن عمه بعد قضية الحكمين، فهو لم ينهض معه إلى الشام حين هم بالنهوض إليها، ولم يشهد معه النهروان وإنما أرسل إليه جنداً من أهل البصرة، ثم لم يزد على ذلك، وإنما أقام حتى كان من أمره ما كان».(1)

وكلامه هذا متين على نكول ابن عباس وحمله لبيت المال قبل هذه الحادثة، مع أنني لم أجد في المؤرخين من قدم قصة بيت المال إلى هذا التأريخ، فهم بين ساكت عن التحديد، ومحدّد سنة أربعين لها، وكأن طه حسين - وقد أخذ بأفظع الصور المنقولة عنها - لم يقنع نفسياً بوفاء ما تبقى من سنة أربعين - وهي السنة المحددة لذلك - لتداول كل هذه الكتب، مع جميع ملابساتها، فقدّم بالحادثة اجتهادا؛ لتسلم له نتيجة ما أراد.

واجتهاده هذا له دعامتان:

أولاهما إرساله للجيش إلى الإمام علیه السلام، وعدم حضوره واقعة النهروان وقد رأينا - فيما سبق - مدى صحة هذا القول في كثرة من صرح بشهوده للحادثة، أو حضوره على راس الجيش.

وثانيهما أنه لو كان مع الإمام علیه السلام في الكوفة - كما صرح بعض المؤرخين - عند مجيء ابن الحضرمي؛ لسارع إلى البصرة، ولم يترك الأمر لزياد وغير زياد، مع أنا رأينا - فيما سبق – كتاب زياد إلى ابن عباس، وهو يصور أهمية الحادثة، وليس من الحزم أن يسارع ،وحده، وربّما كانت الفتنة أعمق من أن تطفأ بغير جيش، أفما كان انتظاره لنتائج استصلاحهم والسير مع الإمام علیه السلام على راس الجيش أصوب من مسارعته وحده؟.. ولو قدر له أن يسارع فينزل دار الإمارة، أم يقصد الأزد مع زياد، فإن قصد الأزد مستجيراً مع خليفته كان في ذلك أكبر الوهن عليه، وأقوى مشجع لاستمرار هؤلاء

ص: 375


1- الفتنة الكبرى (علي وبنوه) : 146

العصاة على حركتهم التمرديّة، وإن قصد دار الإمارة.. أفيضمن أن يدخلها بسلام؟ ويتركه ابن الحضرمي دون أن يثير عليه الغبار ! وجل أهل البصرة معه - كما قال خليفته في كتابه له - وليس معه من القوة ما يضمن معها النصر.

ولو سلمنا أن حادثة بيت المال كانت قبل مجيء ابن الحضرمي إليها أفترون عباس بن صخّار يغفل ذكرها في كتابه السابق إلى معاوية ؟!..

وهي أهم نقطة ضعف تذكر في أمثال هذه الأحداث.

والحق إنني لم أوفق إلى فهم وجه الضرب على جلّ هذه النصوص التأريخية لا لشيء إلا لتقريب صحة حادثة استل رواياتها طه حسين من بين عدة روايات تتنافى معها بصراحة، بالإضافة إلى أن جملة من الملابسات التي لا ترقى إليها أخيلة الواضعين عادة، تؤيد غيرها من الفروض ... كما سنرى في عرضنا لهذه الحادثة في موضعها .

ومهما يكن فقد كان لهذه الحادثة ذيول ، ومن ذيولها أن يضرى أهل فارس وكرمان ويطمعوا في كسر الخراج ويخرجوا عمالهم، وكان العامل للإمام علیه السلام على فارس سهل بن حنيف، فيستشير الإمام أصحابه في من يولّيه أمرها، فيقترح جارية بن قدامة أن يولّي زياداً؛ لأنه رجل صليب الرأي عالم بالسياسة كافٍ لمن ولي. وربّما كان ذلك منه بعد اختباره في حادثة ابن الحضرمي، التي أبدى فيها زياد حزماً منقطع النظير، وقد أمر - فيما يقول الطبري - صاحبنا أن يوجّه بزياد إليهم... يقول: «وفي هذه السنة – - يعني سنة تسع وثلاثين هجرية - وجّه ابن عباس زياداً عن أمر علي إلى فارس وكرمان، عند

منصرفه من عند علي من الكوفة إلى البصرة ».(1)

وفي رواية الشعبي: «قال ابن عباس لعلي : أكفيك ،فارس، فقدم ابن عباس البصرة،

ص: 376


1- تأريخ الطبري ج6 : 79

ووجه زياداً إلى فارس في جمع كثير، فوطأ بهم أهل فارس ، فأدوا الخراج».(1)

فهو إذاً - كما ترون من صريح هذه الروايات - كان بالكوفة مع الإمام إلى ذلك التأريخ.

ويبدو أن ابن عباس جاء إلى البصرة بعد هذه الحادثة، وفي نفسه ثورة على بني تميم؛ لانضمامهم إلى ابن الحضرمي؛ ونقضهم لعهد إمامهم، وربّما اتخذ معهم إجراءات لا تخلو من عنف، وأخال أن الإمام علیه السلام كتب إليه في هذا العهد بالذات، بعد أن بلغه موقفه منهم: «اعلم أن أهل البصرة مهبط إبليس ومغرس الفتن فحادث أهلها بالإحسان إليهم، وأحلل عقدة الخوف عن قلوبهم، وقد بلغني تنمرك لبني تميم وغلظتك عليهم، وإن بني تميم لم يغب لهم نجم إلّا طلع لهم آخر، وإنهم لم يسبقوا برغم في جاهلية ولا إسلام، وإن لهم بنا رحماً ماسة وقرابة خاصة، نحن مأجورون على صلتها، وموزورون على قطيعتها، فاربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشر، فإنا شريكان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك، ولا يفلين رأيي فيك والسلام».(2)

والحق أن للإمام هلیه السلام مزاجاً لا يشبهه مزاج، وقد ضرب أعلى الأمثال - في جميع مواقفه - في الصفح والعفو وعدم مؤاخذة الجناة بعد القدرة مهما كان ذنبهم معه مالم يتجاوزوا حداً من حدود الله، وإلحاحه بالعفو عن بني تميم مع موقفهم السابق منه من أقوى الأمثلة لذلك.

ص: 377


1- تأريخ الطبري ج 6 : 79
2- شرح نهج البلاغة ج 3: 425
(16)

وفي هذا العهد بالذات وقعت قصة بيت المال، وكانت مسرحاً لعواطف المؤرخين والرواة على اختلافهم من القرب منه، والبعد عنه، وقد اختلفوا فيها اختلافاً كبيراً، وتعددت وجهات نظرهم، فمنهم النافي لها نفياً باتاً، ومنم المتوقف في أمرها، ومنهم المثبت لها، وهؤلاء مختلفون، فبعضهم يثبتها وينقل الملاحاة بينه وبين الإمام علیه السلام حولها بكتب عدة تنتهي إلى استعفائه من العمل، وذهابه بالمال إلى مكة، بعد استعانته بأخواله، ووقوف أهل البصرة منه موقف الممانع، حتى كادت تنتهي القضية بينهم إلى قتال.

وفي مكة تبدأ ملاحاة أخرى تنتهي بتهديد ابن عباس بحمل المال إلى معاوية، ليستعين به على الإمام علیه السلام، وبعضهم يعود به إلى الكوفة تائباً نادماً، وبعضهم يبقيه بالبصرة بعد إرجاعه للمال على إثر مكاتبة بينه وبين الإمام علیه السلام

وهؤلاء المثبتون يختلفون في عدد ما حمل من بيت المال فقائل: ستة ملايين من الدراهم وآخر مليونين، وثالث سبعمائة ألف ورابع أربعمائة ألف، وخامس عشرة آلاف درهم، ويختلفون في المبرر الشرعي لفعله، فبعضهم يلتمسه له، وآخر ينفيه عنه.

ونظراً لأهمية الحادثة فإننا نعرضها بشيء من التفصيل مع شيء من العرض لوجهات نظرهم.

أما النافون - وعلى رأسهم أبو عبيدة - فاعتمادهم ما أثر من أنه بقي في البصرة إلى عهد الحسن علیه السلام، وشهد الصلح معه، وأيد ذلك عمرو بن عبيد في حديث له مع سليمان بن علي حين نسب إلى الحسن: «أنه كان يقول في عبد الله بن عباس : إنه يفتينا في القملة والقميلة، وطار بأموالنا في ليلة ، فقال له عمرو : فكيف تقول هذا وابن عباس لم يفارق علياً حتى قتل وشهد صلح الحسن ؟!»، ثم يقول: «وأي مال يجتمع في بيت مال البصرة

ص: 378

مع حاجة علي إلى الأموال؟! وهو يفرّغ بيت مال الكوفة في كل خمس ويرشّه؟ وقالوا: إنه كان يقيم فيه، فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة ؟! هذا باطل».(1)

وأما المثبتون، فأقدم ما قرأت من رواياتهم - ذات الغلوّ في تصويرها - رواية الطبري، وعنه - فيما يبدو - أخذ جملة المتأخرين؛ لاتحاد لسان الرواية لديهم غالباً، فقد عرض هذه الحادثة مروية عن عمر بن شبة قال: حدثني جماعة عن أبي مخنف، عن سليمان بن راشد عن عبد الرحمن بن عبيد عن أبي الكنود، قال: مر عبد الله عبد الله بن عباس على أبي الأسود الدؤلي، فقال: لو كنت من البهائم كنت جملاً، ولو كنت راعياً ما بلغت من المرعى، ولا أحسنت مهنته في المشي قال فكتب أبو الأسود الدؤلي إلى علي: أما بعد فإن الله جل وعلا جعلك والياً مؤتمناً وراعياً مستولياً، وقد بلوناك فوجدناك عظيم الأمانة، ناصحاً للرعيّة توفّر لهم فيأهم، وتظلف نفسك عن دنياهم، فلا تأكل أموالهم ولا ترتشي في أحكامهم، وإن ابن عمك قد أكل كل ما تحت يديه بغير علمك، فلم يسعني كتمانك ذلك، فانظر رحمك الله فيما هناك، واكتب الي برأيك فيما أحببت أنته إليك والسلام.

فكتب إليه علي : أما بعد فمثلك نصح الإمام والأمة وأدى الأمانة، ودلّ على الحق، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلي فيه من أمره ، ولم أعلمه أنك كتبت، فلا تدع إعلامي بما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاح، فإنك بذلك جدير، وهو حق واجب عليك والسلام.

وكتب إلى ابن عباس في ذلك، فكتب إليه ابن عباس: أما بعد فإن الذي بلغك باطل وإني لما تحت يدي ضابط قائم له، وله حافظ، فلا تصدّق الظنون والسلام.

ص: 379


1- أمالي المرتضى - مطبعة السعادة ، مصر ، ط 1 ، سنة الطبع 1907 م - ج 1 : 123

قال: فكتب إليه علي: أما بعد فأعلمني ما أخذت من الجزية؟ ومن أين أخذت؟ وفيم وضعت؟.

قال : فكتب إليه ابن عباس : أما بعد فقد فهمت تعظيمك مرزأة ما بلغك أني رزأته من مال أهل هذا البلد فابعث إلى عملك من أحببت، فإني ظاعن عنه والسلام.

ثم دعا ابن عباس أخواله بني هلال بن عامر فجاءه الضحاك عامر فجاءه الضحاك بن عبد الله، وعبد بن رزين بن أبي عمرو الهلاليان، ثم اجتمعت معه قيس كلّها، فحمل مالاً، قال أبو زيد قال أبو عبيدة: كانت أرزاقاً قد اجتمعت فحمل معه مقدار ما اجتمع له فبعثت الأخماس كلها، فلحقوه بالطف فتوافقوا يريدون أخذ المال، فقالت قيس: والله لا يوصل إلى ذلك وفينا عين تطرف، وقال صبرة بن شيمان الحداني : يا معشر الأزد والله إن قيساً لإخواننا في الإسلام وجيراننا في الدار، وأعواننا على العدو، وإن الذي يصيبكم من هذا المال لو ردّ عليكم لقليل، وهم غداً خير لكم من المال، قالوا: فما ترى؟ قال: انصرفوا عنهم ودعوهم، فأطاعوه فانصرفوا، فقالت بكر وعبد القيس: نعم الرأي رأي صبرة لقومه فاعتزلوا ايضاً، فقالت بنو تميم: والله لا نفارقهم، نقاتلهم عليه، فقال الأحنف: قد ترك قتالهم من هو أبعد منكم رحماً، فقالوا: والله لنقاتلنهم، فقال: إذن والله لا أساعدكم عليهم فاعتزلهم، قال: فرأسوا عليهم ابن المجاعة من بني تميم فقاتلوهم وحمل الضحاك على ابن المجاعة فطعنه، واعتنقه عبد الله بن رزين فسقطا إلى الأرض يعتركان، وكثر الجراح فيهم، ولم يكن بينهم قتيل، فقالت الأخماس: ما صنعنا شيئاً، اعتزلناهم وتركناهم يتحاربون، فضربوا وجوه بعضهم عن بعض، وقالوا لبني تميم: فنحن أسخى منكم انفساً، حين تركنا هذا المال لبني عمكم وأنتم تقاتلونهم عليه.

إن القوم حملوا وحموا فخلوهم، وإن أحببتم فانصرفوا.

ص: 380

ومضى ابن عباس ومعه نحو عشرين رجلاً حتى قدم مكة».(1)

وهذه الرواية نفسها - فيما تبدو - رواها بنفس السند صاحب العقد الفريد بادئاً بأبي مخنف مع اختلاف يسير، ثم ضم إليها تتمة عن سليمان بن أبي راشد عن عبد الله بن عبيد عن أبي الكنود (كذا) وفيها أن أبا الكنود وكان من أصحاب ابن عباس ولكن لما رأى حمله لبيت المال ذهب إلى الإمام فأخبره فقال: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ».(2)

كتب معه كتاباً إليه، وأرسله به إلى مكة، وهنا يذكر عدة رسائل تبودلت بينهما، وكان آخرها تهديد ابن عباس له بحمل المال إلى معاوية يستعين به عليه.(3)

وأظن أننا في غنى عن التساؤل من أبي الكنود هذا، كيف استحصل على كل هذه الوثائق والمستندات الخطيرة؟ وهل مكنه ابن عباس منها وهي تدينه في مضامينها؟! أو أن الإمام علیه السلام أعطاه صورة من رسائله ومن أجوبة ابن عمه له واختصه بها دون سواه؟! أو سطا هو على هذه الرسائل ففتحها واطلع عليها في أثناء سفارته بينهما - إن كان هو الوسيط فيها جميعاً - ومع الغضّ عن هذه الناحية، وعن قيمة أبي الكنود من وجهة أمانته ووثاقته، والفجوات الموجودة في قصته هذه، فإن الجهالة في أسانيدها كافية لتوهينها، فالجماعة الذين حدّثوا الطبري عن أبي مخنف مجهولون عندنا، وربّما كانوا أناساً غير موثوقين.

وصاحب العقد الفريد لم يتصل بأبي مخنف - بطبيعة الحال - لاختلاف زمنهما، ولم نعرف الواسطة بينهما ؛ لنحكم على قيمة روايته، وربّما كان المصدر له الطبري، أو

ص: 381


1- تأريخ الطبري ج 6 : 81-82 ، وانظر جمهرة رسائل العرب ج 1 : 587 - 590
2- الأعراف: 175
3- انظر العقد الفريد ج 2 : 208 وما بعدها

بعض هذه الجماعة فالرواية من حيث أسانيدها لا تبعث على الاطمئنان على أن مثلها لا تروى عادة بأحاديث الآحاد؛ نظراً لأهميتها من جهة وشهرة ابن عباس من جهة أخرى.

وفي كتاب الكشي طريق آخر لبعض الكتب التي تبودلت بينهما وهو بمكة، قال : «قال شيخ من أهل اليماني يذكر عن معلى بن هلال عن الشعبي قال: لما احتمل عبد الله بن عباس بيت مال البصرة، وذهب به إلى الحجاز كتب إليه علي»(1) .. الحديث.

أمّا ابن أبي الحديد - وهو المتوقف في الأمر - فالذي يبدو منه أنه لم يقم وزناً لكل هذه الأحاديث، وإنما كان مبعث قلقه الكتاب الذي ذكره الرضي في النهج، ولم يذكر من أرسل إليه هذه الكتاب، فهو بحكم تصريح المؤرخين بأن الكتاب موجه إليه بالذات، ولسان الكتاب يؤيد ذلك، ثم هو بحكم ما يذكره من بعض الملابسات التي تقتضي بقاءه بالبصرة حتى مقتل علي علیه السلام .. مال إلى التوقف.

والحقيقة - كما يذهب إلى ذلك منكروها وهم القلّة في المؤرخين - تأباه طبيعة البحث الموضوعي؛ لأن هذه القضايا الكبرى في التأريخ، والتي يكثر الحديث فيها لا تكون بغير منشأ انتزاع غالباً كما يعبّر الأصوليون مع أن عامة أهل السير فيما يبدو من الطبري (2) أو أكثرهم فيما يبدو من ابن الأثير (3) قد تعرّضوا لذكرها، وليس من السهل تكذيبهم جميعاً، وبخاصة وأن هناك بعض الملابسات ربّما تؤيد وجود أساس لها، كورودها على لسان ابن الزبير في ملاحاة له مع صاحبنا، وعدم إنكاره لها، وهي عادة مما لا يهتدي إليها الواضعون وكورودها على لسان قيس بن سعد في بعض الروايات،

ص: 382


1- رجال الكشي : 41
2- انظر تأريخ الطبري ج 6: 81
3- انظر تأريخ ابن الأثير ج 3: 196

حين خطب بعد صلح الحسن علیه السلام.(1)

والإيمان بها بشكلها الواسع الذي ذكره الطبري، ونقله أو أخذ به جملة ممن تأخر عنه من ذوي الموسوعات والتراجم كابن الأثير (2) وابن خلدون (3) وابن كثير(4) وغيرهم، وبخاصة إذا ضممنا إليه ضميمة ابن عبد ربه في العقد (5) والكشي (6) في رجاله.

قلت: الإيمان بهذا الشكل أمر لا يمكن الاطمئنان إليه أيضاً؛ لأن في ذلك تجاهلاً لوظيفة الوضاع في تلكم العصور.

وقد ذكرنا في مقدمة هذا الكتاب مختلف العوامل الداعية للوضع عليه في زمنه وبعد زمنه، وبخاصة في ما دار من ملاحاة بين السلطة في بداية العصر العباسي، وبين الثائرين من أئمة الزيدية على الحكم، والتماس كل منهما لجهات الطعن في مؤهلات الآخرين، على أنها لو كانت إذ ذاك مشهورة بهذا الشكل شهرة يُطمأن إليها، لكان الأولى لمحمد ذي النفس الزكية أن يتخذها طريقاً للتوهين في مؤهلات البيت العباسي للحكم مع أنه أتخذ في كتابه إلى المنصور ما هو أهون منها بكثير، كانتسابهم لأمهات الأولاد، وككونهم من الطلقاء، وما شاكل ذلك .(7)

وحتى الشعراء من مناوئي ابن عباس الذين تعرضوا لهجوه لم يشيروا إلى هذه الحادثة ولو من طرف خفي، في حين إنهم تزيدوا عليه بما هو أهون منها بكثير، أفترون

ص: 383


1- انظر مقاتل الطالبيين - شرح و تحقيق أحمد صقر، مطبعة دار المعرفة - : 35
2- انظر تأريخ ابن الأثير ج 3: 196
3- انظر تأريخ ابن خلدون ج 2 : 451
4- انظر البداية والنهاية :ج 7: 322
5- انظر العقد الفريد ج 2 : 209
6- انظر رجال الكشي: 42
7- انظر تأريخ الطبري ج 9: 211

أنهم كانوا يغفلونها وهي بهذه الصورة البشعة التي لا يمكن أن يخفى أمرها على أمثالهم عادة؟!.. فلو ثبتت هذه السرقة في وضح النهار - مثلاً - وما استتبعت من قتال وغيره لكان ذكرها في وثائق الإدانة أولى من ذكر غيرها عادة، ومما لا يصلح للإدانة بحال، على أنها لو كانت تمت بهذه الشهرة والفظاعة التي رويت بها، لما جرأ مثل سليمان على إثارة حديثها مع عمرو بن عبيد، وهو المعروف بإيمانه وصراحته وعدم ممانعته حتى قال عنه المنصور ..

کلنا یطلب صید***کلنا يمشي رويد

غير عمرو بن عبيد

هذا عيينة بن مرداس المعروف بابن فسوة - وكان قد عوده عمال الخلفاء على البصرة أن يشتروا لسانه بالمال - يجيء إلى صاحبنا فيجيبه بقوله: «ما جاء بك إليَّ يا ابن فسوة ؟ فقال له : وهل عنك مقصر ووراءك معدى ؟ جئتك لتعينني على مروءتي وتصل قرابتي، فقال له ابن عباس: وما مروءة من يعص الرحمن ويقول البهتان ويقطع ما أمر الله به أن يوصل والله لئن أعطيتك لأعيننك على الكفر والعصيان، انطلق فأنا أقسم بالله لئن بلغني أنك هجوت أحداً من العرب لأقطعن لسانك.

فأراد الكلام فمنعه من حضر، وحبسه يومه ذلك ثم اخرجه عن البصرة، فوفد إلى المدينة بعد مقتل علي علیه السلام فلقي الحسن علیه السلام وعبد الله بن جعفر، فسأله عن خبره مع ابن عباس فأخبرهما فاشتريا عرضه بما أرضاه»، فقال يمدحهما ويلوم ابن عباس:

أتيت ابن عباس فلم يقض حاجتي***ولم يرج معروفي ولم يخش منكري

حبست فلم أنطق بعذر لحاجة***وشد خصاص البيت من كل منظر

وجئت وأصوات الخصوم وراءه***كصوت الحمام في القليب المغوّر

وما أنا إذ زاحمت مصراع بابه***بذي صولة باق ولا بحزوّر

ص: 384

فلو كنت من زهران لم ينس حاجتي***ولكنني مولى جميل بن معمر

وباتت لعبد الله من دون حاجتي***شميلة تلهو بالحديث المقتر

ثم يتسلسل على هذا النحو من الهجاء.(1)

فهو - كما ترون - يعرض لصوت الخصوم، واتهامه بمصانعة أنسبائه من زهران؛ لأن زوجته شميلة منهم.. إلى آخر ما جاء فيها من دسّ رخيص، ومع ذلك يهمل هذه الثروة التي تستحق أعنف الهجاء، وكان أيسر من أعنف الهجاء، وكان أيسر من هذا كله - لو صحت الرواية – على أن يقول : منعني المال كما منع سائر المسلمين؛ لينهبه بعد حين، ويشتري الجواري بمكة.. إلى ما هنالك من عنيف الهجاء.

ثم حديث سليمان بن علي مع عمرو بن عبيد السابق، لا موضع له، ولم يكن ليجرؤ على إثارته عادة لو كانت القضية مكشوفة ومشهورة في البصرة بهذا الشكل الفظيع ومثلها - بوصفها الذي ورد في الطبري، مع قرب العهد بها - لا بد أن تكون معروفة لدى الجميع، ولو كانت بهذه المثابة لما أنكرها عمرو بن عُبيد مع شهرته بالتقدّس؛ ولالتمس لها المبررات الشرعية، لو كانت التقية وحدها هي الدافعة له على هذا التكذيب.

على أن هناك ملابسات غير ما ذكرنا تمنع من تصديقها أشار إلى بعضها ابن أبي الحديد، كإغفال معاوية وابن العاص وغيرهم من أتباع الأمويين، وعدم تطرّق حتى وضاعهم لها على كثرة مواقف صاحبنا الصارمة منهم ، وكثرة ما حدث بينهم من تفاخر و مناقشات - سنأتي عليها في موضعها - عادة لا يغفل في أمثالها، مع تعرضهم لهنات أقل منها شأناً، وهي التي يجب أن يقام لها الوزن، وكسكوت أهل البيت عليهم السلام عنها، وعدم حدوث أية جفوة بين أي أحد منهم وبينه مع أن مثل هذه الحادثة بما دار فيها

ص: 385


1- انظر الأغاني ج 19: 143 - 144

من مكاتبات مشحونة بالجرأة وإساءة الأدب، بالنسبة لمقام الإمام علیه السلام لا يمكن أن تمر بسلام، دون أن تحدث ما تحدث بينهم من عداء، ودون أن يستغلها الأمويون أبشع استغلال، وكحدوث فجوات في التأريخ لا يمكن أن تملأ في هذا الحال.. وسنرى في عرض الحوادث الواقعة بعد هذا ما يشير إلى كل هذه الفجوات والملابسات، وبعضها لا ترقى إلى أخيلة الواضعين قطعاً.

على أننا لو حكمنا نصوصها تأريخياً، وجدنا ما بأيدينا من الروايات المسندة إلى مشاهديها تنتهي إلى أبي الكنود أو الشعبي.

والطريق إلى أبي الكنود في الطبري عمر بن شبة عن جماعة، فلو صححنا الجميع كانت الجهالة في الجماعة كافية لوهن الحديث، مع أن صاحب العقد يغفل ابن شبة في الجماعة، ويتحول رأساً إلى أبي مخنف، مع تعدد الوسائط بينهم بحسب الزمن عادة، والطريق إلى الشعبي في رجال الكشي رجل ،يماني، وجهالته كافية في وهن ما يرويه.

على أننا لو صححنا ما يقوله الطبري من ذكر عامة أهل السير لها على صورتها المروية لديه؛ لانتهت إلينا عادة من عشرات الطرق والجرى هو فيها على ما عوّدنا عليه من ذكر مختلف الروايات بفوارق بسيطة للحادثة التافهة، فكيف بمثل هذه ! وإذا أغفلنا هذه الجهة وعدنا إلى مضامينها، وجدنا أكثرها يتنافى مع أبسط مبادئ اللياقة، وأكثرها يدينه لمشاركته فيها، وهي لا يمكن أن تصدر من شخصيّة مركزة جداً كشخصية ابن عباس.

فلهذه الاعتبارات وأمثالها لا نستطيع الإيمان بها بهذا التفصيل، كما لا نستطيع الإيمان بأنها مختلقة من الأساس.

والطبيعي أن نقول: إن يده امتدت - لأي اعتبار إلى بيت المال، فتجاوزت حدودها

ص: 386

المرسومة من قبل الإمام علیه السلام، وإن أبا الأسود كتب بذلك إلى إمامه علیه السلام والإمام كتب إليه مؤنّباً؛ لأن الإمام علیه السلام لم يعوّد عماله السكوت على هناتهم، وهم المسؤولون عن حفظ حقوق الناس.

ثم دارت بينهما بعض المكاتبات انتهت بإرجاع ما أخذ من مال ورضا الإمام علیه السلامعنه، وبقائه على موضعه بالبصرة.

ومثل هذا الفرض على بساطته - إذا حصلنا على سند تأريخي له - تأريخي له - يملأ جميع الفجوات السابقة؛ لأن مثله لا يعلم به عادة إلّا الأقلون، وهو لا يستوجب وصمته إذا كان له مبرره - كما سنرى - ليتمسك به أعداؤه إذا علموا ، كما أنه ينسجم مع تأريخه بعد هذه الفترة تمام الانسجام، وهذه التزيّدات التي حدثت بعد زمن طويل طبيعية جداً إذا أحطنا بدافع الوضع عليه كما جاء في مقدمة هذا الكتاب، وإلّا فمن المستحيل أن يجد من يهمّهم الوضع عليه كوّة ينفذون منها فلا يوسعونها، ويسلكون إلى انتقاصه من طريقها.

وهذا الفرض لا يتنافى مع مذهب النافين إذا كان مصدرهم الوحيد هو بقاءه بالبصرة حتى وفاة الإمام علیه السلام وحتى صلح الحسن علیه السلام ولا ينافي مذهب المثبتين في أساسه أيضاً، وإن نافاه في تفاصيله.

والذي أخاله أن حادثة استعانته بأخواله - ووقوف بني تميم منه، وخروج من خرج من أهل الأخماس للحجز بينهم - كانت صحيحة، ولكن في غير ما وضع لها من تأريخ، وتأريخها الذي أظنه كان بعد صلح الإمام الحسن علیه السلام وخروجه من البصرة بمتاعه، وما فضل لديه من عمالته (1)، وإن بني تميم أرادو الانتقام لأنفسهم منه بعد ذهاب السلطة من يده؛ لموقفه الصارم منهم بعد عودته من الكوفة - على ما شرحناه

ص: 387


1- انظر تأريخ الطبري ج 6 : 82

فيما سبق - وربّما برروا خروجهم بالتهمة له بحمله لبيت المال، ولكنهم أخفقوا إذ لم يجدوا الصدى الكافي لما أحدثوه في النفوس فعادوا خائبين.

أما السند التأريخي لهذا الجمع بين الروايات فهو ما ورد في تأريخ اليعقوبي، وهو من أقدم الكتب التأريخية عهداً وأوثقها نقلاً قال: وكتب أبو الأسود الدؤلي - وكان خليفة عبد الله بن عباس في البصرة - إلى علي علیه السلام يعلمه أن عبد الله بن عباس أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم فكتب إليه يقسم له بالله لتردّنها، فلما ردّها عبد الله بن عباس، أو ردّ أكثرها كتب إليه علي علیه السلام: «أما بعد فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت مالم یکن ،لیدرکه، فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعاً، واجعل همك لما بعد الموت والسلام.. فكان ابن عباس يقول: ما اتعظت بكلام قطّ اتعاظي بكلام أمير المؤمنين».(1)

وهذا الكتاب يذكره أكثر المؤرخين، ويذكرون تأثر ابن عباس له هذا التأثر البالغ ولكنهم لا يذكرون له مثيراً، ولسان الكتاب يختلف عن بقية ألسنة كتب الإمام علیه السلام له، بما فيه من تعزية وتسرية ووعظ، مما يدل على وجود مثل هذا المثير، وتأثر ابن عباس له على أن جوه النفسي الخاص كان مهيئاً لتقبّل مثل هذا النوع من الوعظ، وتصريحه بمدى تأثره به قد يكون وليد عوامل لا شعورية، انبعثت عن ملابسات هذه الحادثة.

أما التماس مبرر شرعي له، فقد ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد عن أبي بكرة بن شيبة ما يصلح لذلك التبرير .. يقول : وكان عبد الله بن عباس من أحب الناس إلى عمر بن الخطاب، وكان يقدّمه على الأكابر من أصحاب محمد صلی الله علیه و آله وسلم ولم يستعمله قط، فقال له يوماً كدت أستعملك ولكن أخشى أن تستحل الفيء على التأويل، فلما صار الأمر إلى علي فاستحل الفيء على تأويل قول الله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ

ص: 388


1- تأريخ اليعقوبي ج 2 : 181

خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1) واستحله من قرابته لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(2) وهذا اجتهاد من قبل أبي بكرة استمده – كما ترون - من قبل معرفته لرأيه في الخمس وهو رأي مشهور معروف قد حدّث عنه في جوابه السابق، وجوابه للحروري عندما سأله عن رأيه في الخمس وقوله بأنه لنا.. الخ.

ولكنّ طه حسين لا يرتضي هذا التبرير فهو في رأيه أصح رأياً وأعقل عقلاً وأعلم بدينه من هذا التأوّل، فهو كان يعلم من غير شك أن حقه في هذا الخمس لن يعدو أن يكون كحق غيره من أولي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وكان يعلم أنه لا ينبغي، بل لا يحلّ له أن يأخذ حقه من هذا الخمس بنفسه، وإنما ينبغي أن يتلقاه من الإمام الذي نصب ليقسم بين المسلمين فيأهم ، وينفق منه في مرافقهم، وهو الذي يقسم بين أولي القربى واليتامى والمساكين حقهم من هذا الخمس.(3)

وهذه المناقشة قد لا تكون جارية على مقتضى الفن، وإذا اعترفنا بأن له حقاً في المال بحكم كونه من آل البيت، وتوقف تسلّمه على إذن الإمام علیه السلام في خصوص حق ذوي القربى أمر لا يقرّه الفقهاء، ولو سلمنا له بذلك فهو بحكم نيابته عنه علیه السلام في توزيع الأموال على مستحقيها بالبصرة، يسوغ له أن يأخذ ما يراه من حقه كمستحق من المستحقين إلا أن يثبت ردع من إمامه علیه السلام عن تناوله لمصلحة يراها هو.

والحقيقة أن العنوان الأوّلي، بمقتضى نص الكتاب على الخمس، لا يمنع من أخذه، و مذهب أهل البيت علیهم السلام وعلى رأسهم الإمام في هذه القضية معروف، ولكن الذي

ص: 389


1- الأنفال: 41
2- العقد الفريد ج 2 : 208
3- انظر الفتنة الكبرى (علي وبنوه): 141

يبدو من بعض الأحاديث أن الإمام علیه السلام لم يجبر على ما يقتضيه هذا العنوان لطرو عنوان ثانوي عليه ، يكون هذا العنوان هو ما أشار إليه الإمام الباقر علیه السلام في جوابه لأبي إسحق .. يقول: «سألت أبا جعفر محمد بن علي علیه السلام، قلت : أرأيت علياً حين ولّي العراق وما ولّي من أمر الناس كيف صنع في سهم ذوي القربى؟ قال: سلك بهم طريق أبي بكر وعمر قلت كيف ولم وأنتم تقولون ما تقولون؟ قال: أما والله ما كان أهله يصدرون إلّا عن رأيه، فقلت فما منعه؟ قال : كان يكره أن يدعى عليه مخالفة أبي بكر وعمر».(1)

والواقع إن كثيراً من الأحكام التي شرعها ،سابقوه، وخالفهم فيها الإمام علیه السلام لم يعمل على تغييرها في عهده؛ لتركّزها في نفوس الرأي العام وتمسكهم بها، وربّما كان يخشى من تغييرها حدوث بلبلة قد تنتهي إلى مفسدة.

وقد حاول في صلاة التراويح أن يعيدها إلى عهدها في أيام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فتنادى المسلمون واعمراه (2) ووقفوا دون امتثال أمره في ذلك.

وقضية الخمس قضية حساسة لا ترقى إليها صلاة التراويح في أهميتها لدى الجماهير؛ لما تدخل عليهم من المال، فلو أراد الإمام علیه السلام أن يصر على تقسيمها في أقاربه خاصة بمقتضى الآية، لكان أيسر ما يقوله المهرجون منهم : علام قتلنا عثمان ولربطوا بين السيرتين في مراعاة الأقارب دون إصغاء لما تقتضيه الآية أو غير الآية من الأحكام.

وربّما اعتبر بعضهم أن ما يدخله توزيعه هذا من اليسر عليهم، وعلى أهل بيته، هدفاً من مطالبته بحقه بالخلافة لسابقيه، مع أنا عرفنا - فيما حدثنا صاحبنا من قبل - مدى تقييمه للخلافة عندما وزنها بالنعل، ما لم يقم حقاً أو يدفع باطلاً.

ص: 390


1- شرح نهج البلاغة ج 4 : 86
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 3: 178

فمنعه إذاً لأقربائه - لهذا العنوان الثانوي - أصلح للأمة ولهم من تعريضهم لما يحدثه هذا التغيير من فساد

فإذا صح هذا وأردنا أن نلتمس المبرر لصاحبنا في حينه، وجدناه قائماً، فأخذه للمال بدافع الحاجة إليه من دون أن يثير حوله الغبار لتكتمه له أمر لا يتنافى مع العنوان الأولي لحكم الخمس، وهو حق له، وموقف الإمام علیه السلام بعد كتاب أبي الاسود الدؤلي وأمره بإرجاعه إلى بيت المال طبيعي أيضاً؛ لطرو العنوان الثانوي الملزم بعد اطلاع أبي الأسود، وخوفه من أن يدبّ التهامس بين الناس حول هذا الموضوع، وكان لا بد له أن يرجع المال بعد إصرار الإمام علیه السلام عليه وعدم إقراره على وجهة نظره، وما كان لمثله أن يصبر على نهي إمامه، ففي مكارم الأخلاق للطبرسي : «عن عبد الله بن عباس لما رجع من البصرة وحمل المال ودخل الكوفة، وجد أمير المؤمنين علیه السلام قائماً في السوق وهو ينادي بنفسه معاشر الناس.. الخ قال ابن عباس: فسلمت عليه فردّ عليّ السلام، ثم قال: يا ابن عباس ما فعل المال؟ فقلت: ها هو يا أمير المؤمنين وحملته إليه فقربني ورحّب بي ..».(1)

فأخذه إذا كان بحق؛ لتوفّر العنوان الأولي فيه، وربّما تخيل أن أبا الأسود كان أقدر على فهم وجهة نظره هذه، وهو الذي عُرف بتلمذته عليه، وإرجاعه كان بحق أيضاً؛ لطرو العنوان الثانوي عليه، ومع هذا فأين موضع الخيانة واللصوصية من عمله؛ حتى يلزم الإمام علیه السلام بعزله وتنحيته عن منصبه ؟! وهو ينم على مدى تورّعه وصلوحه لما ينهض به

وعلى أية حال فقد كانت له وجهة نظر لها أساس من الشرع في عقيدته، كما صرح قيس بعد سعد في خطبته - كما يرويها أبو الفرج -: «وهو يزعم أنها حلال» وكما صرّح

ص: 391


1- مكارم الأخلاق - مطبعة النعمان النجف لم تذكر سنة الطبع - : 131

في جوابه لابن الزبير : «وأما جملي المال فإنه كان مالاً جبيناه، وأعطينا كل ذي حق حقه، وبقيت بقية هو دون حقنا في كتاب الله، فأخذنا بحقنا»(1)، ولا أقل من اعتباره مجتهداً مخطئاً لا متحدياً لأهم مبادئ الدين كما هو فحوى كلام طه حسين.

أما مقدار ما أخذ من المال فالذي أقربه أنه لم يتجاوز العشرة آلاف درهم التي ذكرها اليعقوبي(2)، وإلا فمن البعيد جداً أن يتناول ستة ملايين أو مليونين أو حتى أربعمائة ألف - كما ذكر في روايات سابقة - وفي عزمه أن يخفي ذلك على الناس وعلى إمامه علیه السلام، وكأنه لم يصنع شيئاً.

كما ربّما يدل على ذلك ما ذكروا من مراسلاته مع الإمام علیه السلام كقوله: «إني لما تحت يدي ضابط»، وإن كان هذا المقدار لا يكون طبيعياً إذا صدّقنا رواية الطبري السابقة.

وليس المهم بعد ذلك تحقيق الكمية التي أخذها إذا آمنًا مع اليعقوبي وغيره ببساطة الحادثة، وإرجاع المال، وبقائه في منصبه مدة بقاء الإمام علیه السلام .. فلنعاود سيرنا معه في هذه الحقبة على هذا الضوء؛ لنرى ما جدّ له بعد هذه الحادثة من أحداث؛ ولنلمس بأيدينا بعض ما أشرنا إليه من ملابسات.

(17)

ومن الطبيعي جداً أن يستدعي الإمام علیه السلام صاحبنا بعد رضاه عنه، ليسري عن نفسه بعض ما علق بها من ألم لملابسات هذه الحادثة، وأن يسارع ابن عباس إلى إجابة الدعوة؛ ليتمنّى له شرح بواعثه على أخذ المال، ولا يبعد أن يبدأ بالسفر، إذا لم تأته دعوة

ص: 392


1- شرح نهج البلاغة ج 4 : 490
2- انظر تأريخ اليعقوبي ج 2 : 181

من إمامه علیه السلام، ولا يكتفي بما دار بينهما من مراسلات مهما قيل في روعة أدائها فإنها دون ما تأتي به المشافهة عادة من تطييب النفوس، وفهم وجهات النظر على اختلافها.

والرواية التي نسبها سبط ابن الجوزي إلى القيل فقال - بعد تعرضه لحادثة بيت المال :-: «وقيل: إنه عاد إلى الكوفة»(1) لا تخلو - فيما أخال - من صحة وطبيعة الحادثة ،تقتضيها، بالإضافة إلى تمشيها مع جملة من الروايات صرحت بصدور بعض الحوادث عنه وهو بالكوفة في هذا العهد بالذات.

ولست أبعد أن في شرحه لظروف الحادثة وبواعثها ما جلب عطف الإمام علیه السلام عليه واهتمامه بترضيه، فكان يتفقده إذا غاب عن موضع يقتضي حضوره فيه ويسأل عنه، ففي الكامل للمبرد : «يروى عن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، أنه افتقد عبد الله بن العباس رحمه الله فقال: ما بال أبي العباس لم يحضر ؟ فقالوا: ولد له مولود، فلما صلّى علي رحمه الله :قال: أمضوا بنا إليه فأتاه فهناه فقال شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، ما سميته؟ قال: أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه؟! فأمر به فأخرج إليه فأخذه وحنّكه ودعا له، ثم ردّه إليه، وقال: خذه إليك أبا الأملاك قد سميته علياً وكنّيته أبا الحسن»و(2)

وفي بعض الروايات أن الذي سماه هو أبوه «وقال : سميته باسم أحب الناس إلي وكنّاه أبا الحسن».(3)

وفي أسلوب تفقّده هذا «ما بال أبي العباس لم يحضر»، ومسارعته إلى الحضور بنفسه لتهنئته ما ربما يشير إلى ذلك العطف .

ص: 393


1- تذكرة الخواص: 162
2- الكامل في اللغة والأدب - مطبعة مصطفى محمد، مصر، سنة الطبع 1355 ه- ج 1 : 367
3- تأريخ ابن الأثير ج 5 : 92

وبالطبع كان لهذه الزيارة أوقع الأثر لا في نفسه فحسب، بل في نفوس أهل بيته جميعاً، وما أظنهم كانوا يحسبون بأن القدر قد خبأ لهم في تلك الليلة ما يقضي على كل ما تبقى لهم من فرح وسرور، حيث فاجأهم عبد الرحمن بن ملجم بقتل الإمام علیه السلام وهو يصلي بالناس صلاة الصبح في نفس ذلك اليوم، وقد حدد كثير من المؤرخين الذين عرضوا لولادة علي - هذا - ميلاده بليلة مقتل الإمام علیه السلام.(1)

وأمضّ من ذلك أن هذه الحادثة جاءت بعد بارقة من الأمل في إعادة ما أفقدهم التحكيم من الظفر، فقد أسلمت الكوفة قيادها إلى إمامها علیه السلام ، بعد تخاذل وتقاعس ونكول، حتى ملّهم إمامهم وتمنى لنفسه الشهادة من على منبرها وقال مراراً: «ما يحبس أشقاكم أن يجيء فيقتلني، اللهم إني قد سئمتهم وسأموني فأرحني منهم وأرحهم مني».(2)

وأخال أننا لا نستطيع أن ندرك هول الفاجعة في نفس صاحبنا، ومدى ما ألم به، إذا لم نحط خبراً بما صورناه من علائقه به منذ طفولته المبكرة، حيث اتخذ منه بطلاً يتأثره في حركاته وسكناته ، ثم ملازمته له حتى ساعته الأخيرة، على نحو ما صورناه فيما سبق من فصول.

وقد ذكروا له أبياتاً قالها في رثائه، ربّما صوّرت جانباً من جوانب هول الواقعة في نفسه..

يقول:

«وهزّ عليّ بالعراقين لجّة***مصيبتها جلّت على كل مسلم

ص: 394


1- انظر تأريخ ابن الأثير ج 5 : 92
2- أنساب الأشراف ج 2 : 501

وقال سيأتيها من الله نازل***ويخضبها أشقى البرية بالدم

فعاجله بالسيف شُلّت يمينه***الشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم

فيا ضربة من خاسر ضل سعيه***تبوّاً منها مقعداً في جهنم

ففاز أمير المؤمنين بحظه***وإن طرقت إحدى الليالي بمعظم

ألا إنما الدنيا بلاء وفتنة***حلاوتها شيبت بصاب و علقم».(1)

فهو هنا يخبر عن إخبار الإمام علیه السلام بقتله على يد أشقاها، ومعاجلة هذا الأشقى له، وفوز الإمام علیه السلام بحظه من الشهادة «وإن طرقت إحدى الليالي بمعظم» ثم يعقب بهذه التجربة الخالدة، وكأنه يشير إلى اجتماع الحزن والسرور عليه في وقت واحد..

ألا إنما الدنيا بلاء وفتنة***حلاوتها شيبت بصاب وعلقم

ولعلّه يريد بالحلاوة والعلقم ما اجتمع له ولأسرته في تلكم الليلة من سرور وشجو.

وظل الإمام علیه السلام ثلاثة أيام يعاني ألم الضربة وألم السم، وظل آله في أمض وأشجى حالة، وحتى أسلم نفسه علیه السلام وجهزه ولده الحسن علیه السلام وتولّى معه صاحبنا تغسيله(2) ودفن سراً.

وكان أهم ما يهم ابن عباس بعد ذلك أن يتمّ الأمر لولده الحسن علیه السلام، ولكن يريده أن يتم عن رضا الجماهير، فلا بد إذاً من ترشيحه وبالطبع إن الذي يخرج إلى الناس فيرشّحه لا بد أن يكون من أبرز آل البيت شأناً، ومن هو أولى بهذه المهمة منه فليخرج إليهم إذا، يقول المدائني :

«ولما توفي علي علیه السلام خرج عبد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس فقال: إن

ص: 395


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 46
2- انظر مقاتل الطالبين : 41 ، وانظر شرح نهج البلاغة ج 2 : 45

أمير المؤمنين علیه السلام توفي وقد ترك خلفاً، فإن أحببتم خرج إليكم، وإن كرهتم فلا أحد على أحد.

يقول: فبكى الناس وقالوا: بل يخرج إلينا».(1)

وفي رواية أبي مخنف - كما يذكرها أبو الفرج - إن قيام صاحبنا كان بعد خطبة الإمام الحسن علیه السلام يقول : ثم قام ابن عباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا له قالوا ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة»(2)، وقد قال كما في كشف الغمة: «هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه».(3) (3).

ولما تم للإمام الحسن علیه السلام كل شيء وجّه بعماله إلى الأمصار وأعاد صاحبنا إلى موضع عمله بالبصرة.(4)

ص: 396


1- شرح نهج البلاغة ج 4 : 8
2- مقاتل الطالبين : 35
3- كشف الغمة - مطبعة محمد حسين الطهراني، كربلاء، سنة الطبع 1294ه- : 161
4- انظر المصدر السابق

مع الإمام الحسن علیه السلام في خلافته

وعلم معاوية بقتل الإمام علیه السلام فسر لذلك أعظم السرور، وكان أكبر همه أن يفسد الكوفة والبصرة على الإمام الحسن علیه السلام، فدسّ إلى كل منهما رجلاً يكتب إليه بالأخبار، والذي أخاله أن مهمة الرجلين كانت أعمق من التجسّس له، وإلّا فما أيسر الجواسيس في البلدين، وما أغناه عن إرسال رسل من الشام لتولي ذلك، وإنما كانت مهمتها شراء عواطف الناس، وإحداث روح تمردية في نفوسهم، وأخال أن مهمة رسوله إلى البصرة كانت لا تقل عن مهمة الحضرمي الذي أرسله لبني تميم وكان ما كان من أمره وأمرهم - كما مر ، ولكنّ يقظة صاحبنا أحبطت مهمته من الأساس فقبض عليه في بني سليم وأُعدم فوراً، وكتب صاحبنا إلى معاوية: «أما بعد فإنك ودسّك أخا بني القين إلى البصرة، تلتمس من غفلات قريش مثل الذي ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية - يعني ابن الأسكر - وفي الأغاني كما قال الشاعر ..

لعمرك إني والخزاعي طارقاً***كنعجة عادٍ حتفها تتحفّر

أثارت عليها شفرة بكراعها***فظلت بها من آخر الليل تجزر

شمت بقوم هم صديقك أهلكوا***أصابهم يوم من الدهر أعسر».(1)

وكان لهذا الكتاب وقعه في نفس معاوية فأجاب عليه «أما بعد فإن الحسن قد كتب إلي بنحو ما كتبت به وأنبني مما لم أجز ظناً وسوء رأي، وإنك لم تصب مثلنا، ولكن مثلنا كما قال الشاعر طارق الخزاعي ...

ص: 397


1- الأغاني ج 18 : 162 . مقاتل الطالبيين: 36

فوالله ما أدري وإني لصادق***إلى أيّ من يظنّني أتعذر

أعنّف إن كانت زبينة أهلكت***ونال بني لحيان شر ونفّروا

و تجاوز نشاط معاوية حده، واستعمل مختلف الأساليب لإحداث روح التمرد حتى في الولاة، فهو يتنقل بينهم بين الترغيب والتهديد، وقد كتب إلى زياد عامل صاحبنا على فارس، يتهدده بعد مقتل الإمام علیه السلام فيما يروي الشعبي، ولكن زياداً كان أقوى من أن يوهنه تهديد أو تخويف، فقام في فارس خطيباً وقال: «العجب من ابن اكلة الأكباد وكهف النفاق ورئيس الأحزاب، كتب إلي يتهددني، وبيني وبينه ابنا عم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم - يعني ابن عباس والحسن بن علي - في تسعين ألفاً، واضعي سيوفهم على عواتقهم لا ينثنون، لئن خلص إلي الأمر ليجدني أحمز ضراباً بالسيف».(1)

والذي أظن أن هذه الحوادث وأمثالها هي التي حفزت صاحبنا للكتابة إلى الإمام علیه السلام يستحثه على جهاد عدوه، ويعطيه خلاصةً لتجاربه في السياسة ورأيه في مناوئيه

وكتابه هذا يعد في قمة ما كتبه من محاسن الكتب، وإن كنا نختلف معه في جدوى آرائه في معالجة المشاكل القائمة.. كتب إليه: «أما بعد فإن المسلمين ولوك أمرهم بعد علي علیه السلام فشمّر للحرب، وجاهد عدوك ، وقارب أصحابك، واشتر من الضنين دينه بما لا يثلم لك دنيا، ووال أهل البيوتات والشرف، تستصلح بهم عشائرهم، حتى يكون الناس جماعة ، فإن بعض ما يكره الناس - مالم يتعد الحق وكانت عواقبه تؤدي إلى ظهور العدل وعزّ الدين - خير من كثير ما يحبه الناس، إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور، وذلّ المؤمنين وعزّ الفاجرين، واقتد بما جاء عن أئمة العدل فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلا في حرب أو إصلاح بين الناس فإن الحرب خدعة، ولك في ذلك سعة

ص: 398


1- تأريخ الطبري ج: 97

إذا كنت محارباً مالم تبطل حقاً.

واعلم أن علياً أباك إنما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه آسى بينهم في الفيء وسوّى بينهم في العطاء، فثقل عليهم.

واعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله في ابتداء الإسلام حتى ظهر أمر الله، فلما وحد الرب ومحق الشرك وعزّ الدين، أظهروا الإيمان وقرأوا القرآن مستهزئين بآياته وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى، وأدوا الفرائض وهم لها كارهون، فلما رأوا أنه لا يعزّ في الدين إلّا الأتقياء الأبرار، توسّموا بسيما الصالحين؛ ليظن المسلمون بهم خيراً، فما زالوا حتى أشركوهم في أماناتهم، وقالوا: حسابهم على الله فإن كانوا صادقين فإخواننا في الدين، وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين، وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم، والله ما زادهم طول العمر إلا غيّاً، ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلّا مقتاً، فجاهدهم، ولا ترض دنيّة و لا تقبل خسفاً، فإن علياً لم يجب إلى الحكومة حتى غُلب على أمره فأجاب، وإنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل، فلما حكموا بالهوى، رجع إلى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله، لا تخرجن من حق أنت أولى به حتى يحول الموت دون ذلك، والسلام».(1)

وهذه السياسة - بما فيها من واقعية دينية حكيمة - قد تكون مؤثرة إن نهج عليها؛ لو كان لخصمهم شيء من الواقعية والتقيّد بالدين.

وكان الكثير من زعماء القبائل في الكوفة لم يسأموا بعد من سياسة الإمام علي علیه السلام في مساواتهم بشعوبهم، ولم يتخلّوا عن رواسبهم الموروثة في إعطائهم حق الامتياز على أفراد قبائلهم، سواء في العطاء أم النفوذ والوساطة على حساب أصحاب الحقوق من

ص: 399


1- شرح نهج البلاغة ج 4 : 8-9 ، وانظر جمهرة رسائل العرب ج 2: 1-3

الفقراء والضعفاء أم غيرها، ثم لم تبدأ المساومة وعملية البيع والشراء على الضمائر والمبادئ بين هذين الطرفين، وبَذَلَ الخصم أغلى الأثمان وأسخى الوعود في سبيل هذه الصفقة الرابحة.

أما وقد كان ذلك كله فمن الصعوبة بمكان أن تنفع في مسك زمام الموقف والسيطرة على الأمر على أن الخروج على سياسة أمير المؤمنين علیه السلام في المؤاساة والمساواة، وإن أومأ إيماءة خفية إلى مبررها الشرعي بقوله: «وأعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله في ابتداء الإسلام.

فكأنه يقول : إذا كان هؤلاء هم أولئك، فاستعن عليهم كما استعان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بالتألف ما دام طريق النصر منحصراً به.

ولكن الحقيقة أن المشكلة أعمق من أن تحل بتألّف الزعماء، ما دامت سياسة أهل البيت علیهم السلام - حتى التي نهجها صاحبنا في كتابه هذا - مقيدة بقوانين، وفي يد خصمهم تحلّل من جميع المسؤوليات والقوانين، سواء في ترغيبه أم ترهيبه، وفي عواطف زعماء أهل الكوفة وصولية لا تشبع، ومجال إشباعها لدى الخصم أوسع وأوفى، فالزمن مع الخصم بما مهد له من سياسة بعض السابقين، وأهل البيت عليهم السلام لا يقوون على المخاصمة ما

داموا لا يملكون خلق الخصم فيها.

هذا بالإضافة إلى أن تألف الزعماء بانتهاج سياسة التفاوت المؤقتة التي يميل إليها صاحبنا لا أخال أنها تنجح في يد الإمام الحسن علیه السلام؛ لاحتمال إثارتها للشعوب عليه، بما أدخل عليها التساوي مع الوفر والغنى وتعرّضه لنقمتها لو فاوت بالعطاء.

لهذا وذاك لم يأخذ الإمام علیه السلام - فيما أخال - بما رسم صاحبنا من سياسة في هذا الكتاب.

ص: 400

ويبدو لي أن الكتاب صدر منه بعد حديث بلغه عن محاولة الإمام علیه السلام التقبل الصلح بعد يأسه من النصر ، ولعلّ في ذيل الكتاب ما يومئ إلى ذلك ولا تخرجن من حق أنت أولى به حتى يحول الموت دون ذلك».

والظاهر أن ابن عباس لم يشهد الصلح مع الإمام الحسن علیه السلام ، ولو شهده لكان في جملة الموقعين عادة على كتاب الصلح ولنُقِلَ ذلك كثيراً وربّما لم يستشر في أمره.

وما جدوى استشارته ورأيه لدى الإمام الحسن علیه السلام معروف من كتابه هذا؟

وقد وقع بعض الخلط بينه وبين أخيه عبيد الله بن العباس الذي كان أميرا على مقدمة الجيش، وأغراه معاوية بالانضمام إليه وقصته معروفة، فلا بهم عرض ما وقع فيه بعض المؤرخين من اشتباه قد يكون مردّ أكثره إلى أخطاء النساخ؛ لتقارب في كتابة الاسمين، وربّما أيد عدم حضوره ما كتب إليه معاوية بعد ذلك، وما أجاب به يقول ناقل الكتاب: «وكتب معاوية إلى ابن عباس عند صلح الحسن علیه السلام له كتاباً يدعوه إلى بيعته ويقول له فيه : ولعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك الله رضاً وأن يكون رأياً ،صواباً، فإنك من الساعين عليه والخاذلين له والسافكين دمه، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني ولا بيدك أمان».(1)

وكان جوابه على هذا الكتاب جواباً قاطعاً بما فيه من قوة الحجة والثقة بالنفس، مع اعتراف بالواقع المرير يقول والجواب فيما يظهر طويل وقد اكتفى منه المحدّث بهذه الفقرات -: «وأما قولك : إني من الساعين على عثمان، والخاذلين له، والسافكين دمه، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني، فأقسم بالله لأنت المتربص بقتله والمحب لهلاكه والحابس الناس قِبَلَكَ عنه على بصيرة من أمره، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك

ص: 401


1- شرح نهج البلاغة ج 4 : 58 ، وانظر جمهرة رسائل العرب ج 2 : 17

ويستصرخ، فما حفلت به؛ حتى بعثت إليه معذراً بآخره وأنت تعلم أنهم لن يتركوه حتى يقتل فقتل كما كنت أردت ، ثم علمت عند ذلك أن الناس لن يعدلوا بيننا وبينك، فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه، وتقول: قُتل مظلوماً، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين، ثم لم تزل مصوّباً ومصعداً وحائماً ورابضاً تستغوي الجهال، وتنازعنا حقنا بالسفهاء، حتى أدركت ما طلبت، وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين».(1)

والظاهر أن هذا الكتاب وجه إليه وهو بعد في البصرة بعد انتهاء الصلح مباشرة وما كان معاوية مع شعوره بأهمية مركزه يتركه طويلاً من دون بيعة، وفحوى جواب صاحبنا بما يوحي به من مرارة الخيبة مع التماسك وخشونة الجواب، ربّما تؤيد ذلك.

وعلى أي حال فقد أصبح وجوده في البصرة غير ذي موضوع فتحمّل منها بأهله وبما بقي له من ثقل ومال، وكان ما كان من موقف بني تميم وأهل الأخماس معه إذا صح ما ارتأيناه سابقاً في تعيين زمن هذه الحادثة.

وبذلك ختمت صفحة من حياته كانت ملأى بالنشاط منذ بدايتها، وختم بها شبابه بما فيه من قوة وحركة واستقبل كهولته بما خلّفته هذه الحياة من تجارب ورواسب.. سنلمسها فيما يأتي من فصل.

ص: 402


1- شرح نهج البلاغة ج 4 : 58 ، وانظر جمهرة رسائل العرب ج 2 : 17 - 18

الفصل الثالث : حتى الوفاة

اشارة

ص: 403

ص: 404

مع معاویة في ایام حکمه

(1)

وأول ما يواجهنا في ذلك، مظاهر انصراف عن الاتصال بالسلطة وابتعاد عن أجوائها، إلّا في حدود ما تدعو إليه ضرورة اقتصادية أو دينية.

وهذا طبيعي إذا لا حظنا أوزان خصومه من القائمين على سياسة البلاد في نفسه، بالإضافة إلى ما تقتضيه طبيعة الخصومة بين أي شخصين.

وطبيعة الخصومة هنا متأصلة لا بين شخصيهما أو بيتهما فحسب، بل بين مبدأين ونفسيتين.

وكان معنى تغلّب أحدهما هو تغلّب قيمة على قيمة ومبدأ على مبدأ، لا شخص على شخص أو بيت على بيت وكان هو - بحكم رواسبه الإسلامية - يحتقر ذلك المبدأ وتلكم القيمة، ويحتقر القائم عليهما، فمن الطبيعي إذا أن يبتعد جهده عن الوقوع في ركابه، وأن يتحين الفرص للوقوف دون تنفيذ خططه، سواء بتركيز المبادئ التي يدين بها في نفوس الرأي العام من طريق تثقيفه وتعليمه، أم بالتنديد بأساليب هذه السياسة ومناهجها تنديداً مباشراً وغير مباشر تبعاً لاختلاف الظروف.

وكانت هذه الظاهرة - ظاهرة احتقاره لخصمه - تبدو أكثر ما تبدو عندما يثار بينهما حديث من احتجاج أو مفاخرة. وفي أول اجتماع بينهما في المدينة – عندما قدمها

ص: 405

معاوية بعد عام الجماعة - تجلّى ذلك الاحتقار.

وقبل أن نتحدث عن ذلك الاجتماع نعرض لشيء من سياسة معاوية خلال انفراده بالحكم بعد صلح الإمام علیه السلام، وموقف صاحبنا منها لنلقي بعض الأضواء على أسرار موقفه هذا منه.

وسياسة معاوية نستطيع أن نعرفها جيداً إذا علمنا أنه ما كان ليجهل أن غلبته على خصومه وسيطرته على الحكم، لم تكن سيطرة طبيعية وغلبة اقتضتها عوامل تعود إلى امتياز فيه؛ لتوفر القيم التي خلقها الإسلام وتواضع عليها المسلمون في طبعه، وتخلّيها عن خصومه من الهاشميين، أو لرجحانه عليهم في موازين تلكم القيم على الأقل، وإنما كان - لظروف طارئة - هو أعرف الناس بكيفية حدوثها وتكوّنها، والأساليب التي اتبعت في سبيل إتمامها، بما فيها من مكر وخداع ومساومة على المبادئ، وشراء للعواطف إلى ما هنالك من الأساليب التي كان هو بالذات بطل استعمالها ضد خصومه، وهم لا يملكون منها شيئاً

وإذا استطاع أن يجذب بها طبقة خاصة من قادة الرأي العام، الذين حرمهم الإسلام امتيازاتهم، ووقف منها الإمام علیه السلام موقفه المعروف، بينما أعادها هو عليهم بأوسع صورها، فإنه لا يأمن أن تثور الشعوب ثورتها فتعصف به وبالزعماء؛ ما دام رصيد خصومه من القيم الإسلامية متوفراً فيهم، وفي الشعوب أثارة من خلق إسلامي مركز، وبينهما بقية موجهة وهي لا تؤمن بغير أولئك الخصوم.

لهذا وذلك ولإبقاء الحكم بيده ويد ولده ويتوارثونه جيلاً بعد جيل، لا بدّ من العمل على ضمان ذلك كله له بأي ثمن كان ، وكانت امامه عقبات مهمة:

أولاها : إعطاؤه ولاية العهد للإمام الحسن علیه السلام من بعده، وسنرى موقفه منها في

ص: 406

قادم من الأحاديث ...

ثانيها : توفر أنصار خصومه من آل البيت وكثرة محبيهم من المسلمين، وبخاصة أولئك الذين أدخلت عليهم عدالة الإمام علیه السلام الاجتماعية شيئاً من الوفر؛ لمساواته في العطاء، ورفعه للامتيازات الطبقية التي خلقها بعض سابقيه.

ثالثها : أهمية رصيدهم من الفضائل والقيم الإسلامية، وقد جاء ذكر الكثير منها على لسان النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وتداوله المسلمون، وربّما ميزهم بأحاديث تشير إلى صفات ينفردون بها من بينهم كما ورد في حق الإمام علیه السلام كثير من ذلك.

رابعها : فقده وفقد أسرته لذلك الرصيد، واحتياجهم إلى مثله، لكسب عطف الشعوب المسلمة عليهم .

وضمان استمراره بالحكم أن يأتي على كل تلكم العقبات، مهما كلفه الأمر، فكانت أول خطوة له أن أصدر أمراً إلى عماله بتحريم رواية فضائل الإمام واهل البيت عليهم السلام، يقول المدائني في كتاب الأحداث: «كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضائل أبي تراب وأهل بيته».(1)

وكانت خطوته الثانية أن يعزّز رصيدهم من أحاديث المناقب، فكتب إلى عماله أيضاً: «أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه، وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته» يقول الراوي: «ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه؛ لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل

ص: 407


1- شرح نهج البلاغة ج 3: 15

والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه وقربه وشفّعه».(1)

وكتب ثالثاً... بعد أن فشت الأحاديث في عثمان: «أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجهة وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وأتوني بمناقض له في الصحابة مفتعلة، فإن هذا أحبّ إلي وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله».(2)

وكانت نتائج هذه الكتب - فيما يحدّث الراوي -: «أن رويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وألقي إلى معلمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علموه بناتهم ونسائهم وخدمهم .. الخ».(3)

ثم قام بعد ذلك بحملة إرهابية قوية أسكت بها الشيعة عن الحديث في فضائل أهل البيت عليهم السلام، وتجاوز ذلك بالكتابة إلى عماله.. «أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة»(4) ، وكتب أيضاً : «انظروا إلى من قامت عليه البينة أنه يجب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه...».(5)

ص: 408


1- شرح نهج البلاغة ج 3: 16
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق
5- المصدر السابق

ثم تجاوز ذلك بالكتابة إليهم «من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره».(1)

وبهذه الخطوات تصوّر معاوية أنه وضع يده على زمام الموقف، بما كوّن له ولأسرته من الرصيد، وبما أضعف من رصيد خصومه، واستأصل من أمر شيعتهم بالضغط والتنكيل، غافلاً عن أن طبيعة الشعوب - كطبيعة - لا بد أن يفجرها الضغط ولو بعد حين.

وكانت هذه الأعمال ونظائرها مما تبلغ سمع صاحبنا وغيره من أهل البيت عليهم السلام ، فلا يملكون لدفعها سبيلاً، اللهم إلا أن يجندوا من أنفسهم أبطالاً للتنديد بها وبأساليبها، ثم نشر ما حاولوا طمسه من فضائل هذا البيت.

وبالطبع إن مثل هذه المهمّة لا بد أن تلقى على عاتق ابن عباس بالدرجة الأولى، وما كان لمثله أن يسكت ولديه من ثقة الناس بصدقه وسعة أفقه ووفرة رصيده ما يعزز كل حديث يصدر عنه .

وهكذا كان، فقد نشط للحديث في فضائل أهل البيت عليهم السلام ونشر ما يتعلق منها بالإمام علیه السلام على الأخص ، وبالطبع ما كان ليخفى على معاوية ذلك، وما كان ليهون عليه هذا التحدي السافر له ولسياسته، وفي أول اجتماع بينهما تكشفت عواطف كل منهما تجاه الآخر، بما في عواطف ابن عباس من مظاهر الاحتقار له.

حدّث الزبير بن بكار قال: «حج معاوية فجلس إلى ابن عباس، فأعرض عنه ابن عباس فقال معاوية : لم تعرض عني ! فوالله إنك لتعلم أني أحق بالخلافة من ابن عمك».

فكانت هذه المفارقة مثار سخرية لصاحبنا لم يطق الصبر عليها رغم احتقاره له

ص: 409


1- شرح نهج البلاغة ج 3: 16

بإعراضه عنه، فأجاب عليها بقوله : لم ذاك ! لأنه كان مسلماً وكنت كافراً قال: معاوية: لا ولكن ابن عمي عثمان قتل مظلوماً» قال ابن عباس : «وعمر رحمه الله قتل مظلوماً»، وضاعت منافذ القول على معاوية بعد أن جُبه بهذه الحجة، وظهر الارتباك على جوابه حين قال: «إن عمر قتله كافر، وإن عثمان قتله المسلمون» فقال ابن عباس والسخرية على شفتيه : «ذاك أدحض لحجتك فسكت معاوية».(1)

وهذه الرواية ذكرها سُليم بن قيس الهلالي، وحدد زمنها على رواية بعد صلح الإمام الحسن علیه السلام، أي بعد عام الجماعة وفي أول حجة حجّها معاوية، وفيها: «أن معاوية مر بحلقة من قريش فلما رأوه قاموا إليه غير عبد الله بن عباس فقال له يا ابن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك؟ إلا لموجدة عليّ لقتالي إياكم يوم صفين».. ثم يأتي على حديث الزبير بتغيير يسير، ثم ينتهي إلى نهي معاوية لصاحبنا عن التحدّث بفضائل أهل البيت عليهم السلام وتهديده له عليها وازدراء ابن عباس له يقول معاوية: وكتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب على وأهل بيته فكفّ لسانك يا ابن عباس واربع على نفسك»، وكان يظن أنه بهذا التهديد يقوى على إسكاته، ولكن ابن عباس أجابه بجواب قاطع لا يخلو من ازدراء قال: «فتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: لا، قال: فتنهانا عن تأويله؟ قال: نعم، قال: فنقرؤه ولا نسأل عما عنى قال فنقرؤه ولا نسأل عما عنى الله به؟ قال: نعم، قال: فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال العمل ،به قال فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا ! قال سل عن ذلك من تأوّله على غير ما تتأوّله أنت وأهل بيتك»، وساء صاحبنا أن تبلغ المفارقة بمعاوية إلى هذا الحد، فأجابه بتأثر بالغ : «قال: إنما أنزل القرآن على أهل بيتي فاسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط واليهود والنصارى والمجوس؟! قال: فقد عدلتنا بهم؟ قال: لعمري ما أعدلك بهم إلّا إذا نهيت الأمة أن

ص: 410


1- كشف الغمة: 128 نقلا عن الزبير بن بكار

يعبدوا الله بالقرآن، وبما فيه من أمر ونهي أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ أو عام أو خاص أو محكم أو متشابه، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا».

قال معاوية - وقد ضاق بمنطق ابن عباس -: «فاقرؤا القرآن ولا ترووا شيئاً مما أنزل الله فيكم ومما قال رسول الله، وارووا ما سوى ذلك..

ثم يقول : يا ابن عباس أكفني نفسك وكفّ لسانك ، وإن كنت لا بدّ فاعلاً فليكن سراً، ولا تسمعه أحداً علانية».. تقول الرواية ثم رجع إلى منزله فبعث إليه بخمسين ألف درهم»(1)، وفي رواية أخرى بمائة ألف درهم (2)، ثم لم تحدث بعد ذلك عن قبول هذا المبلغ أو ردّه، والظاهر أنه لم يرده.. وسنرى وجهة نظره في قبول أمثال هذه الأموال من خصمه.

ولكن هل كان لهذا التهديد ولهذه الصلة مفعولها في نفسه ؟ وهل أسكتته عن الجهر برسالته؟ أو قللت من مظاهر احتقاره لخصمه؟ الظاهر أنها لم يكن لها ذلك المفعول.

وفي أحاديثه بعد هذا الزمن معه ما يدل على استمراره من موقفه منه ومن مبدئه... وسنأتي عليها في مباحث قادمة.

وقد لاحظ فيما يتعلق في احتقاره حتى بعد هذا الزمن بعض مؤرخيه، فسجّلوا انطباعاتهم عنها، ففي العقد الفريد اجتمعت قريش الشام والحجاز عند معاوية وفيهم عبدالله بن عباس، وكان جريئاً على معاوية حقّاراً له فبلغه عنه بعض ما غمّه».

وربّما كان ما بلغه هو إصراره على التنديد بسياسته ونشره لفضائل الإمام علیه السلام، فقال معاوية وهو يجمع بين ترضيه واستجلاب عاطفته من جهة، وتوعيده وتهديده

ص: 411


1- کتاب سليم بن قيس الهلالي - لم تذكر المطبعة ولا سنة الطبع -: 129
2- المصدر السابق

من جهة أخرى: «رحم الله أبا سفيان والعباس كانا صفيين دون الناس، فحفظت الميت في الحي والحي في الميت، استعملك علي يا ابن عباس على البصرة، واستعمل عبيد الله أخاك على اليمن، واستعمل أخاك على المدينة، فلما كان من الأمر ما كان هنأتكم ما في أيديكم ولم أكشفكم عما وعت غرائركم، وقلت: آخذ اليوم وأعطي غداً مثله، وعلمت أن بدء اللؤم يضر بعاقبة الكرم، ولو شئت لأخذت بحلاقيمكم وقيأتكم ما أكلتم، لا يزال يبلغني عنكم ما تبرك له الإبل، وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم، خذلتم عثمان بالمدينة وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وحاربتموني بصفين، ولعمري لبنو تيم وعدي أعظم ذنوباً منا إليكم، إذ صرفوا عنكم هذا الأمر وسنوا فيكم هذه السنة، فحتى متى أغضي الجفون على القذى، وأسحب الذيول على الأذى واقول : لعلّ الله وعسى، ما تقول يا

ابن عباس!».

وكان جواب ابن عباس رائعاً جداً تناول بنفس اللباقة المعروفة عنه الإجابة على كل كلمة بكلمة أمضّ منها، بتعال يشعر بهوان خصمه عليه: «رحم الله أبانا وأباك كانا في صفين متفاوضين، لم يكن لأبي من مال إلّا ما فضل لأبيك، وكان أبوك كذلك لأبي، ولكن من هنا أباك بإخاء أبي أكثر ممن هنا أبي بإخاء أبيك.

نصر أبي أباك في الجاهلية وحقن دمه في الإسلام، وأما استعمال علي إيانا فلنفسه دون هواه، وقد استعملت أنت رجالاً لهواك لا لنفسك، منهم ابن الحضرمي على البصرة فقتل، وبسر بن أرطاة على اليمن فخان وحبيب بن مرة على الحجاز فرد، والضحاك بن قيس الفهري على الكوفة فحصّب».

وما كان أيسر على معاوية - لو كان لأسطورة بيت المال نصيبها من الصحة بالشكل الذي عرضه بعض المؤرخين - أن يجبهه وهو يعرّض بهذه اللهجة المتعالية بخيانة أصحابه بقوله: وأنت تقول ذلك ولك بطولة بيت المال بالبصرة، وخيانتك

ص: 412

لصاحبك وموقفك منه لا تعدلها خيانة، وبذلك ينتقم لنفسه من هذا الخصم المتعالي عليه أمام هذا الحشد من القريشيين.

ثم يستمر ابن عباس بطلاقته فيجيب على تهديده بتهديد : ولو طلبت ما عندنا وقينا أعراضنا، وليس الذي يبلغك عنا بأعظم من الذي يبلغنا عنك، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مائة حسنة لمحقها، ولو وضع أدنى عذرنا إليكم على مائة سيئة لحسنَها.

وأما خذلنا عثمان فلو لزمنا نصره لنصرناه، وما قتلنا أنصاره يوم الجمل فعلى خروجهم مما دخلوا فيه. وأما حربنا إياك بصفين فعلى تركك الحق وادعائك الباطل، وأما إغراؤك إيانا بتيم وعدي فلو أردناها ما غلبونا عليها».(1)

ومن طريف ما يدخل في هذا الباب ما حدّثوا عنه من أنه قال: «قدمت على معاوية وقد قعد على سريره وجمع اصحابه ووفود العرب عنده، فدخلت فسلّمت وقعدت فقال: من الناس يا ابن عباس؟» وربما انتظر أن يُسمع الحاضرين كلمة فيه تقال في أمثال هذه المقامات، ولو على سبيل المجاملة، ولكنه كان أعمق من أن يؤخذ من هذه السبيل يقول: «فقلت: نحن»، واحتملها معاوية، ثم استدرجه لعله يظفر بالمرتبة الثانية لهم «فقال: فإذا غبتم، يقول: فقلت: لا أحد»، قال - وقد خرج عن إهابه -: «أترى إني قعدت عن هذا المقعد بكم فقال : قلت نعم فيمن قعدت؟ قال : بمن كان مثل حرب بن أمية، قلت: بل بمن أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه» ... تقول الرواية «فغضب وقال: وارِ شخصك عني شهراً فقد أمرت لك بصلتك وأضعفتها لك، فلما خرج ابن عباس قال لخاصته : ألا تسألوني ما الذي أغضب معاوية»(2)، فلما سألوه شرح لهم قصة استجارة

ص: 413


1- جمهرة خطب العرب - مطبعة مصطفى البابي ، مصر ، سنة الطبع 1352 ه - ج 2 : 86-87
2- المحاسن والمساوئ - تصحيح محمد بدر الدين النعساني، مطبعة السعادة، مصر، سنة الطبع 1325 ه - ج 1 : 67

جده حرب بعبد المطلب من ابنه الزبير في حديث طويل ..

(2)

ويبدو أن أهل البيت عليهم السلام كان موقفهم من معاوية يشبه هذا الموقف، وكان هو يضيق بهم وربه وربّما جرّه الحديث إلى عتابهم فينبري ابن عباس إلى جوابه، يقول صاحب العقد: «اجتمع بنو هاشم عند معاوية فاقبل عليهم فقال : يا بني هاشم والله إن خيري لكم لممنوح ، وإن بابي لكم لمفتوح ، فلا يقطع خيري عنكم علّة، ولا يوصد بابي دونكم مسألة، ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمراً مختلفاً، إنكم لترون أنكم أحق بما في يدي مني وإذا أعطيتكم عطيّة فيها قضاء حقكم قلتم : أعطانا دون حقنا وقصر بنا عن قدرنا، فصرت كالمسلوب، والمسلوب لا حمد له وهذا مع إنصاف قاتلكم وإسعاف

سائلكم».(1)

وبالطبع كان هذا الكلام بما اشتمل عليه من دالّة بإعطاء الهاشميين من خيره واعتبار ما يعطيه من أمواله الخاصة مثيراً لهم جداً، وأي هاشمي يحضر ويسمع هذا الكلام فلا يثور ؟! وهم الذين عودوا الناس بصلاتهم الخاصة، أفيحضرون أن يتقبلوا الصَّلات من أمثال معاوية على ما بينه وبينهم من عداء متصل ترتفع رواسبه إلى بيتيهما قديماً وحديثاً، فكان لا بد لصاحبنا أن يجيب وأن يوضح لمعاوية بأن تقبلهم لصلاته وحضورهم لذلك لم يكن لو كان هو صاحب المال، وإنما كان ذلك من قبيل انتزاع الحق الذي يملكونه، وقد حال بينهم وبين بلوغه إليهم بحكم تحكمه واستيلائه على جملة مواردهم الاقتصادية العامة، يقول: «والله ما منحتنا شيئاً حتى سألناه ولا فتحت لنا باباً

ص: 414


1- العقد الفريد ج 2 : 94

حتى قرعناه، ولئن قطعت عنا خيرك، الله أوسع منك، ولئن أغلقت دوننا بابك، لنكفّن أنفسنا عنك، وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما لرجل من المسلمين، ولنا في كتاب الله حقان، حق في الغنيمة، وحق في الفيء، فالغنيمة ما غلبنا عليه، والفي ما اجتبيناه ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائر يحمله خفّ ولا حافر، اكفاك أم أزيدك».

وهذا الحديث - على إيجازه - يملأ كثيراً من الفجوات في أسرار تقبّلهم لصلاته، مع ما بينهم من المفارقات، فهم لا يعتبرون لمعاوية أكثر مما لسائر المسلمين من الحق في بيت المال وادعاؤه التملك ،له ونسبته إلى نفسه، وتصرفه الشاذ في تبذيره كل ذلك لا يجعله مالكاً حقيقياً، وما دام المال للمسلمين لا لخصمهم ، وكانوا هم يملكون منه أكثر مما يملك غيرهم بآية الخمس، وما دام خصمهم قد أمسك بهذا المال عنهم، فليس لديهم ما يمنع من مطالبته وانتزاع هذا الحق منه في حدود ما تقتضيه ظروفهم الخاصة.. تقول الرواية وكان جواب معاوية: «كفاني فإنك لا تُعزّ ولا تُشجّ».(1) أي لا تغلب ولا تجرح.

(3)

وربّما كانت وفادته على معاوية، ووفادة غيره من آل البيت منبعثة في بعض خطوطها عن هذا الباعث وإن كنت أتخيل أن هذا الباعث وحده لا يكفي في تفسير وفودهم عليه، وربّما خضع آل البيت لسياسة التآلف بمجاملته إتقاءً لشره، وتخفيفاً من ضغطه على أتباعهم وشيعتهم، وما يدرينا لعلهم - مع ذلك - كانوا يتوخون أن يعرّفوا أنفسهم على أهل الشام للقضاء على الرواسب التي كوّنها لهم معاوية تجاه أهل البيت علیهم السلام بتربيته التي عرضنا لبعض خطوطها في سالف من الأحاديث.. وسنرى

ص: 415


1- العقد الفريد ج 2 : 94-95

بعد حين مدى تأثير ابن عباس في الشام وتخوّف معاوية منه.

ويبدو من بعض الأحاديث أن وفود صاحبنا عليه كان أكثر من مرة، وفي بعضها أنه لم يكن ،وحده، وإنما كان مع الإمام الحسن علیه السلام، وكانت كل رحلة لا تخلو من نقاش وأخذ وردّ.

وطبيعة اجتماع فئتين بينهما ما بينهما من الخصومة والمنافسة تدعو عادة إلى إثارة ما بينهما من شجون، وربّما جرتهما إلى ألوان التفاخر وعرض الأمجاد التي يتمتع بها كل فريق، أو عرض بعض المفارقات والهنات التي ينسبها بعضهم إلى بعض.

وقد ذكر المؤرخون وعارضوا المحاسن والمساوئ جملة مفاخرات ومشاجرات جرت بين أهل البيت عليهم السلام وبين الأمويين كان بطل الكثير منها الإمام الحسن علیه السلام وابن عباس، وكانوا يداً واحدة في جملة تلكم المخاصمات التي اشتركوا بها مع معاوية.

والذي يبدو على أكثر ما ذكروه أثر التعمّل وفقدان الطبيعة في الأحاديث، كما يبدو أثر الصنعة العباسية أو الجاحظية على بعضها، والظاهر أن مضامين قسم منها صحيحة تقتضيها طبيعة ظروفها، وإن لوّنت وأضيف عليها بعد ذلك الشيء الكثير، وليس ما يمنع من عرض شيء منها في هذا الحديث كنموذج لما يقع فيه التحدث، أو لما يُتخيل وقوعه بينهم عادة.

يسأل معاوية يوماً جلساءه وفيهم ابن عباس: «إذا جاءت بنو هاشم بقديمها وحديثها، وجاءت بنو أمية بأحلامها وسياستها، وبنو أسد بن عبد العزى بوافدها ودياتها، وبنو عبد الدار بحجابتها ولوائها، وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها، وبنو تيم بصديقها وجوادها، وبنو عدي بفاروقها ومتفكّرها، وبنو سهم بآرائها ودهائها، وبنو جمح بشرفها وأنوفها، وبنو عامر بن لؤي بفارسها ،وقريعها، فمن ذا يجمل مضمارها

ص: 416

ويجري إلى غابتها؟» ثم خص صاحبنا من بين هؤلاء بالسؤال : «ما تقول يا ابن عباس؟» قال: «لا أقول ليس حي يفخرون بأمر إلا وإلى جنبهم من يشركهم إلّا قريشاً، فإنهم يفخرون بالنبوة التي لا يشاركون فيها، ولا يساوون بها ولا يدفعون عنها، وأشهد أن الله لم يجعل محمداً من قريش إلا وقريش خير البرية، ولم يجعله في بني عبد المطلب إلّا وهم خير بني هاشم، يريد أن يفخر عليكم إلا بما تفخرون به، أن بنا فتح الأمر وبنا يختم ، ولك ملك معجّل ولنا ملك مؤجّل ، فإن يكن ملككم قبل ملكنا فليس بعد ملكنا ملك، لإنا أهل العاقبة والعاقبة للمتقين».(1)

ومثل هذا الحديث ربّما يوافق هوىً في نفوس السلطة العباسية الحاكمة، ويسرهم سماعه من ناقليه أو واضعيه لما يبدو فيه من التبشير بملكهم وامتداده إلى آخر الزمان.

وقد يكون طبيعياً في شطره الأول فمثل ابن عباس لا بد أن يأخذ خصمه بالفخر برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ولو كان لهذا التفاخر أساس من الصحّة.

وفي رواية للمدائني قال: «إن عبد الله وفد على معاوية مرة فقال معاوية لابنه يزيد ولزياد بن سمية وعتبة بن أبي سفيان ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن أم الحكم: أنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس وما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه، ولقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه فحركوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته ، ونقف على كنه معرفته، ونعرف ما صرف عنا من شبا حده، وروي عنا من دهاء رأيه، فربّما وصف المرء بغير ما هو فيه، وأعطي من النعت والاسم ما لا يستحقه، ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس فلما دخل واستقر به المجلس ابتدأه ابن ابي سفيان فقال : يا ابن عباس ما منع علياً أن يوجه بك حكماً ؟ فقال : أما والله لو فعل لقرن عمراً بصعبة من الإبل، يوجع كتفيه مراسها ، ولأذهلت عقله، وأجرضته

ص: 417


1- جمهرة خطب العرب ج 2 : 90-91

بريقه وقدحت في سويداء قلبه، فلم يبرم أمراً ولم ينقض إلّا كنت بمرأی ومسمع، فإن نكثه أرمت ،قواه، وإن أرمه فصمت عراه، بغرب مقول لا يفلّ حدّه وأصالة رأي كمتاح الأجل لا وزر منه، أصدع به أديمه وأفل به شبا حدّه وأشحذ به عزائم المعتنز وأزيح به شبه الشاكين».(1)

وهذا الكلام بالطبع غير حارٍ على مقتضى السؤال، فسؤاله عن ما منع علياً من أن يوجّه به ولكن ابن عباس - فيما يبدو - استشعر أن السؤال لم يرد به ظاهره، وإنما أريد التعرض منه بكفاءته ومقدرته ، وإلّا فمعاوية لا يخفى عليه ما حاوله الإمام علیه السلام في إرساله حكماً، ووقوف الأشعث ونظائره ،دونه، فكان جوابه هذا وافياً في مجال المفاخرة، لذلك ثار له عمرو بن العاص فقال: «هذا والله يا أمير المؤمنين نجوم أول الشر، وأفول آخر الخير، وفي حسمه قطع مادته، فبادره بالحملة، وانتهز منه الفرصة، واردع بالتنكيل به ،غیره و شرد به من خلفه» فقال ابن عباس - وقد ساءه هذا التحدي له وإيغار قلب معاوية عليه - «يا ابن النابغة ضلّ والله عقلك، وسفه حلمك، ونطق الشيطان على لسانك هلا تولّيت ذلك بنفسك يوم صفين، حين دعيت نزال وتكافح الأبطال، وكثرت الجراح وتقصفت الرماح، وبرزت إلى أمير المؤمنين مصاولاً، فانكفأ بالسيف نحوك حاملاً، فلما رأيت الكواثر من الموت أعددت حيلة السلامة قبل لقاءه، والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه فمنحته رجاء النجاة ،عورتك، وكشفت له خوف بأسه سوأتك، حذراً أن يصطلمك بسطوته أو يلتهمك بحملته، ثم أشرت على معاوية كالناصح له ،بمبارزته، وحسّنت التعرض لمكافحته، رجاء أن تكتفي مؤونته وتعدم صورته، فعلم غل صدرك وما انحنت عليه من النفاق أضلعك، وعرف مقرّ سهمك في غرضك، فاكفف غرب لسانك واقمع عوراء لفظك، فإنك بين أسد خادر وبحر زاخر، إن

ص: 418


1- جمهرة خطب العرب ج 2: 92-93

تبرزت للأسد افترسك وإن عمت في البحر قمسك».(1)

واللباقة في هذا الحديث أنه استطاع أن يذكره بأكثر من نقطة ضعف، ويوغر قلب معاوية عليه بتذكيره بالمفارقة التي جرت بينهما بصفين على أثر اقتراح عمرو أن يبارز معاوية علياً حين دعاه، واتهام معاوية له بأنه أراد بهذا الاقتراح أن يقضي عليه، ليصل إلى الحكم من هذا الطريق.

ويبدو أن ابن العاص نقطع فتولى الجواب عنه مروان بن الحكم يقول: «يا ابن عباس إنك لتصرف بنابك وتوري نارك، كأنك ترجو الغلبة وتؤمل العاقبة، ولولا حلم أمير المؤمنين عنكم لتناولكم بأقصر أنامله، فأوردكم منهلاً بعيداً صدره، ولعمري لئن سطا بكم ليأخذن بعض حقه منكم ، ولئن عفا عن جرائركم لقديما ما نسب إلى ذلك».

وكان جوابه على هذا الكلام بنفس اللباقة في إدارة الحوار وتبكيت الخصم وكشف نقاط الضعف فيه يقول: «وإنك لتقول ذلك يا عدو الله وطريد رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم» والمباح دمه،والداخل بين عثمان ورعيّته بما حملهم على قطع أوداجه وركوب أثباجه، أما والله لو طلب معاوية ثأره لأخذك به، ولو نظر في أمر عثمان لوجدك أوله وآخره، وأما قولك لي : إنك لتصرف بنابك وتوري نارك، فسل معاوية وعمراً يخبراك ليلة الهرير كيف ثباتنا

للمثلات، واستخفافنا بالمعضلات، وصدق جلادنا عند المصاولة، وصبرنا على اللأواء والمطاولة، ومصافحتنا بجباهنا السيوف المرهفة، ومباشرتنا بنحورنا حدّ الأسنة، هل خمنا على كرائم تلك المواقف، أم لم نبذل مهجنا للمتالف؟ وليس لك إذ ذاك فيها مقام محمود ولا يوم مشهود ولا أثر معدود، وإنهما شهدا ما لو شهد لأقلقك، فاربع على ظلعك ولا تتعرض لما ليس لك، فإنك كالمغروز في صفد، لا يهبط برجل ولا يرقأ بيد».

ص: 419


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 105

وأراد زياد أن يحوّر مجرى الحديث - بعد أن عرف وزن صاحبيه فيه - بفتح ثغرة للحديث جديدة فقال: «يا ابن عباس إني لأعلم ما منع حسناً وحسيناً من الوفود معك على أمير المؤمنين، إلّا ما سوّلت لهما أنفسهما، وغرّهما من هو عند البأساء يسلمها، وايم الله لو ولّيتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما ويقل بمكانهما لبثهما»

وكان هذا التعرض لمقام الحسنين مع غيبتهما ، وهذا التهديد والتعالي من زياد مبعث ثورة له تبدّت بجوابه حين قال: «إذن والله يقصر دونهما باعك، ويضيق بهما ذراعك، ولو رمت ذلك لوجدت من دونهما فئة صدق صبراً على البلاء، لا يخيبون عن اللقاء؛ فلعركوك بكلاكلهم، ووطؤوك بمناسمهم، وأو جروك مشق رماحهم، وشفار سيوفهم ووخز أسنّتهم حتى تشهد بسوء ما أتيت، وتتبين ضياع الحزم فيما جنيت، فحذار حذار من سوء النية فإنها ترد الأمنية، وتكون سبباً لفساد هذين الحيين بعد صلاحهما، وسعياً في اختلافهما بعد ائتلافها، حيث لا يضر هما إبساسك ولا يغني عنهما إيناسك».

وكان بهذا التهديد والتبكيت والتحذير - بما أبان فيه من مقام الحسن والحسين عليها السلام - مفحماً جداً؛ لذلك سكت عن جوابه زياد وتولى الحديث عبد الرحمن بن أم الحكم - وان هذا أخبثهم نفساً وأقذرهم لساناً حين عبّر عن شماتته بقتل الإمام علي علیه السلام - بقوله «لله در ابن ملجم فقد بلغ الأمل وأمن الرجل وأحد الشفرة وألان المهرة وأدرك الثأر ونفى العار وفاز بالمنزلة العليا ورقى الدرجة القصوى»، فقال ابن عباس في جوابه: «أما والله لقد كرع كأس حتفه بيده، وعجّل الله إلى النار بروحه، ولو أبدى لأمير المؤمنين صفحته لخالطه الفحل القطم والسيف الخذم، ولألعقه صاباً، وسقاه سماماً، وألحقه بالوليد وعتبة وحنظلة، فكلهم كان أشد منه شكيمة وأمضى عزيمة، ففرى بالسيف هامهم، ورمّلهم بدمائهم، وقرى الذئاب أشلاءهم، وفرق بينهم وبين أحبائهم، وأولئك حصب جهنم هم لها واردون، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم

ص: 420

ركزاً، ولا غرو إن ختل ولا وصمة إن قتل، فإنّا لكما قال دريد بن الصمّة:

فإنّا للحم السيف غير مكرّه***ونلحمه طوراً وليس بذي نكر

يغار علينا واترين فيشتفى***بنا إن أصبنا أو نغير على وتر»

وكان حديثه مع المغيرة بعد هذا من أروع الأحاديث فقد سبق للمغيرة أن أشار على الإمام علیه السلام بإبقاء معاوية على الشام وخالفه - فيما رأينا سابقاً - الإمام علیه السلام وابن عباس، وإن ذكر بعض المؤرخين موافقة ابن عباس له.

وقد أراد المغيرة أن يسجّل يده هذه على معاوية ويحرج صاحبنا في الجواب فقال: «أما والله لقد أشرت على علي بالنصيحة، فآثر رأيه ومضى على غلوائه، فكانت العاقبة عليه لا له، وإني لأحسب أن خَلَفَه يقتدون بمنهجه»، فأجاب ابن عباس بما يكشف عن رأي الإمام علیه السلام في معاوية وأمثال معاوية غير مجامل ولا موارب حين قال: «كان والله أمير المؤمنين علیه السلام أعلم بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأمور من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنف عليه، قال سبحانه وتعالى: «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(1) ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوة قوله تعالى: «وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا».(2)

هل كان يسوّغ له أن يحكّم في دماء المسلمين وفيء المؤمنين من ليس بمأمون عنده ولا موثوق به في نفسه؟! هيهات هيهات هو أعلم بفرض الله وسنة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر إلا للتقيّة، ولات حين تقيّة مع وضوح الحق وثبوت الجنان وكثرة الأنصار ، يمضي كالسيف المصلت في أمر الله مؤثراً لطاعة ربه والتقوّي على آراء أهل الدنيا».

ص: 421


1- المجادلة: 22
2- الكهف: 51

ويبدو أن هذا الجواب بما اشتمل عليه من بيان وجهة نظر الإمام علیه السلام في معاوية قد أغاظ يزيد فأطلق لسانه قائلاً: «يا ابن عباس إنك لتنطق بلسان طلق ينبئ عن مكنون قلب حرق، فاطو على ما أنت عليه كشحاً فقد محا ضوء حقنا ظلمة باطلكم» فقال ابن عباس : «مهلاً يزيد فوالله ما صفت القلوب لكم منذ تكدرت بالعداوة عليكم ولا دنت بالمحبة إليكم منذ نأت بالبغضاء عنكم، ولا رضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمس من أفعالكم، وإن تدل الأيام نستقض ما شدّ عنا، ونسترجع ما ابتزّ منا، كيلاً بكيل ووزناً بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله ولياً لنا ووكيلاً على المعتدين علينا».

وهذه الصراحة في بغض الهاشميين للأمويين، والتهديد من قبل صاحبنا ليزيد أثار معاوية نفسه فقال: «إن في نفسي منكم الحزازات يا بني هاشم، وإني لخليق أن أدرك فيكم الثأر وأنفي العار، فإن دماءنا قبلكم وظلامتنا فيكم».

وأجاب على هذا التهديد بتهديد أشد منه، مع إشارة إلى إرغام لا يمكن أن يتناساها معاوية فقال: «والله إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أسداً مخدّرة وأفاعي مطرقة، لا يفثؤها كثرة السلاح ولا تعضها نكاية الجراح، يضعون أسيافهم على عواتقهم يضربون قدماً قدماً من ناوأهم يهون عليهم نباح الكلاب وعواء الذئاب، لا يفاتون بوتر ولا يسبقون إلى غير ذكر، قد وطنوا على الموت أنفسهم وسمحت بهم إلى العلياء هممهم .. كما قالت الأزديّة:

قوم إذا شهدوا الهياج فلا***ضرب ينهنههم ولا زجر

وكأنهم آسادغينة [قد]***غرثت وبل متونها القطر

فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك، وكان أكبر همك سلامة حشاشة نفسك، ولولا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم وبذلوا دونك مهجهم، حتى إذا ذاقوا وخز الشفار وأيقنوا بحلول الدمار، رفعوا المصاحف مستجيرين بها

ص: 422

وعائذين بعصمتها، لكنت شلواً مطروحاً بالعراء، تسفي عليك رياحها ويعتورك ذئابها، وما أقول هذا أريد صرفك عن عزمتك، ولا إزالتك عن معقود نيّتك، لكن الرحم التي تعطف عليك والأوامر التي توجب صرف النصيحة إليك».

وأراد معاوية أن يختم الحديث فاستعمل لغته المألوفة في تطييب خواطر خصومه بالتحلم والملاينة لكسب عطفهم عليه ، يقول الراوي: «فقال معاوية: لله درك يا ابن عباس ما تكشف الأيام منك إلّا عن سيف صقيل ورأي أصيل، وبالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عددهم ، ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قد كثرهم، ثم نهض فقام ابن عباس وانصرف».(1)

وهذه الرواية قد تكون من أسلم ما أثر عنه مع هؤلاء من احتجاج ومفاخرة، وأقربها إلى الصحة، فليس من مضامينها ما يأبى ذلك ، وإذا صحت تأريخياً ففيها أقوى الأدلة على تركز ابن عباس وقوة نفسيته وتماسكه أمام خصومه وحسن إدارته للحوار.

وأمثال هذه المفاخرات والمشاجرات جرت للإمام الحسن علیه السلام مع هؤلاء بمحضر معاوية، وكان عبد الله حاضراً في بعضها وقد أراد أن يتكلّم بعد الإمام الحسن علیه السلام فأقسم عليه معاوية أن يكفّ فكف ولما خلا صاحبنا بالإمام الحسن علیه السلام قبل ما بين عينيه وقال: «أفديك يا ابن عم والله ما زال بحرك يزخر، وأنت تصول حتى شفيت نفسي من أولاد البغايا».(2)

وله دفاع عن عبد الله بن جعفر على اثر انتقاص عمرو بن العاص له بمحضر معاوية يجري في اسلوبه هذا المجرى ويلتحق بهذه الفصول.(3)

ص: 423


1- شرح نهج البلاغة ج 2 : 105 - 107 ، وانظر جمهرة خطب العرب ج 2: 92 - 101
2- المحاسن والمساوئ ج 1 : 59 - 60
3- انظر المصدر السابق ج 1 : 68

وهو إن صحّ - ولست أبعد صحته في خطوطه الأولى - فهو مما يدلّ على تعاضد البيت الهاشمي وأخذ بعضهم بيد بعض في أحرج الظروف.

ولصاحبنا بعد ذلك أحاديث جمة مع ابن العاص في مكة ومعه في الشام وفي بعض مواسم العرب وعند الموت نترك ذكرها خوف الإطالة فيما لا طائل فيه وربّما عرضنا لبعضها في الجزء الثاني؛ لالتماس بعض معالم شخصيته إن شاء الله.

(4)

ويبدو أن معاوية - وقد اطمأن إلى نجاح خططه في إبعاد خصومه عن الحكم، بالقضاء على مآثرهم وفضائلهم التي لم يدع للمسلمين مجال ذكرها والتنويه بها، وخلق أمجاد لخصومهم في ظل ذلك العهد الإرهابي الذي لم تشاهد شيعة آل البيت نظيراً له بما لاقته من عنت وإرهاق وتعذيب وتنكيل - لم يكن له من الهمّ إلّا أن يعدّ العدّة لنقض ما أعطاه للإمام الحسن علیه السلام

من ولاية العهد، وتهيئة شعبه لقبول البيعة ليزيد، وكان أن جمع لذلك جمعاً من زعماء الأمصار ، وأوعز إلى الضحاك بن قيس أن يقوم فيرشح يزيد لولاية العهد، وينظر مدى استجابة الجماعة لهذا الأمر.

وتكلم الضحاك ، وتتابع الجماعة على الكلام بما يرضي معاوية، حتى إذا جاءت النوبة إلى الأحنف بن قيس قام فقال فيما قال - والخطاب لمعاوية -: «.. وقد حلبت الدهور وجرّبت الأمور ، فاعرف من تسند إليه عهدك ومن تولّيه الأمر من بعدك واعص رأي من يأمرك ولا يقدر لك، ويشير عليك ولا ينظر لك، وأنت انظر للجماعة واعلم باستقامة الطاعة، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ولا يبايعون

ص: 424

ليزيد ما كان الحسن حياً».

وثارت ثائرة الضحاك بن قيس، فقام وقال في ردّه فيما قال: «ما للحسن ولذي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه»، ثم نصح لأهل العراق بالطاعة بعد أن شتمهم أشنع شتيمة، فقام الأحنف - وكان صريحاً في جوابه إلى أبعد حدود الصراحة - فقال - بعد أن مهّد لكلامه بملاينة معاوية بالخطاب - : ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت؛ ليكون له الأمر من بعدك، فإن تفِ فأنت أهل الوفاء، وإن تغدر تعلم والله ان وراء الحسن خيولاً جياداً وأذرعاً شداداً وسيوفاً حداداً ، إن تدن له شبراً من غدر تجد وراءه باعاً من نصر، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبّوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا علياً وحسناً منذ أحبوهما، وما نزل عليهم في ذلك خبر خبر من السماء، وأن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى اتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم، وايم الله إن الحسن لأحبّ إلى أهل العراق من علي».(1)

وكان هذا الكلام وشبهه من الأحنف مبصراً لمعاوية في أن محاولاته تلك لم تأت بالثمرة المطلوبة له وما دام الحسن موجوداً فإن محاولته في عزله لا تخلو من أخطار.

والذي يبدو من رواية ابن قتيبة أنه أعرض عن إثارة الحديث حولها بالشام، ولكنّه أثارها بالحجاز يقول: «قالوا: فاستخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتى قدم المدينة سنة خمسين فتلقاه الناس، فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وإلى عبد الله بن عمر وإلى عبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر، فلما جلسوا تكلم معاوية...»، وقال فيما قال: «أما بعد فإني قد كبر سني ووهن عظمي وقرب أجلي، وأوشكت أن أدعى

ص: 425


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 156

فأجيب، وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي يزيد ورأيته لكم رضاً، وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن أحضر حسناً وحسيناً إلّا أنهما أولاد أبيهما، على حسن رايي فيهما وشديد محبتي لهما فردّوا على أمير المؤمنين خيراً يرحمكم الله».

وكان عبد الله بن عباس أسبقهم إلى الكلام، وكلامه - على إيجازه - كاف لبعث اليأس في نفس ،معاوية، فقد قال فأبدع ، وكان مما قاله: «أمّا بعد فإنك قد تكلمت فأنصتنا وقلت فسمعنا ، وإن الله جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه اختار محمداً علیه السلام لرسالته واختاره لوحيه وشرفه على خلقه، فاشرف الناس من تشرف به وأولاهم بالأمر أخصهم به، وإنما على الأمة التسليم لنبيها إذا اختاره الله لها، فإنه إنما اختار محمداً بعلمه وهو العليم الخبير واستغفر الله لي ولكم».

فهو هنا يرى أن أولاهم بالأمر أخصهم به، يريد بذلك أهل البيت عليهم السلام، وأخال أن لكلامه تتمّة لم يذكرها المؤرخون وأشار إليها تمهيده «وإنما على الأمة التسليم لنبيها إذ أختاره الله لها، فإنه إنما اختار محمداً بعلمه»، وربّما كانت وقد اختار لها النبي من أختار من أهل بيته وإلّا فما جدوى قوله : وإنما على الأمة التسليم لنبيها إذا لم يصدر من النبي صلى الله عليه و آله وسلم وسلم أمر في شأن الخلافة ليسلّم إليه؟ وقد سبق لابن عباس أن قال لعمر بن لخطاب نظير هذه الكلمة في محاججة سبقت له معه، وأتينا عليها في موضعها من هذا الكتاب.

وتتابع العبادلة في الجواب، كل من زاويته الخاصة، وردّ عليهم معاوية بقوله: «قد قلت وقلتم، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الابناء، فابني أحب إلي من أبنائهم مع أن ابني (إن) قاولتموه وجد مقالاً، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله، فلما مضى رسول الله ولى الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك ولا الخلافة، غير أنهما

ص: 426

سارا بسيرة جميلة، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة، وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله» يقول: «ثم أمر بالرحلة، وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد».(1)

(5)

وكان فشله هذا في أخذ البيعة لابنه يزيد كافياً لإعطائه درساً بأنه سوف لا يستطيع إتمام الأمر له والحسن بن علي علیه السلام في الأحياء ينتظر دوره لتولّي الحكم، ومعه أمثال ابن عباس والأحنف بن قيس، ونفوس الناس ما تزال معه.

فضمان نجاحه موقوف على إبعاد الحسن علیه السلام عن طريقه باي ثمن كان فليدبر الأمر للقضاء عليه..

وهكذا تمت محاولته الدنيئة في إغراء زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس بالمال،وبالوعود بتزويجها من ولده يزيد،هي إذا سمت الحسن علیه السلام، وقامت هي بدورها.. وقضي على الإمام (2) وتمّ له ما أراد.

والغريب أن معاوية - مع ما عُرف عنه من ضبط الأعصاب والسيطرة على عواطفه - لم يكد يبلغه هذا الخبر إلّا ويفقد توازنه ويبدي عواطفه سافرة.

وكان ابن عباس إذ ذاك بالشام، كما في أصح الروايات وأشهرها.. يقول ابن قتيبة: فلما أتاه الخبر - يعني معاوية - أظهر فرحاً وسروراً، حتى سجد وسجد من كان معه، فبلغ ذلك عبد الله بن عباس، وكان بالشام يومئذ، فدخل على معاوية، فلما جلس

ص: 427


1- الإمامة ولسياسة ج 1 : 157 - 159
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 4 : 4

قال معاوية : يا ابن عباس هلك الحسن بن علي فقال ابن عباس - واللوعة تأكل قلبه -: «نعم هلك، إنا لله وإنا إليه راجعون ترجيعاً مكرراً. وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته، أما والله ما سدّ جسده حفرتك، ولا زاد نقصان أجله في عمرك، ولقد مات وهو خير منك، ولئن أصبنا به لقد أصبنا بمن كان خيراً منه جده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فجبر الله المصيبة، وخلّف علينا من بعده أحسن الخلافة». وهنا لم يتمالك ابن عباس - على ما عرف به من صبر وجلد - وهو يتحدّث بهذا الحديث دون أن شهق وبكى، وأبكى من في المجلس ، وبكى معاوية - كما تقول الرواية - ثم يقول راويها: «فا رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم»، وكانت فترة صمت - تقتضيها طبيعة الموقف عادة - بدّدها معاوية بسؤال تقليدي، ربّما يقال في أمثال هذه الأحوال، قال والحديث موجه لابن عباس: «إنه ترك بنين صغاراً؟»، قال ابن عباس - وهو بعد في ثورته النفسية : «كلنا كان صغيراً فكبر» ثم أعقبتها فترة صمت ثانية.. بدّدها معاوية أيضاً بهذا السؤال: «كم أتى له من العمر؟» وكان سؤاله - و بدا لصاحبنا غير طبيعي - فأجابه بثورته السابقة: «أمر الحسن أعظم من أن يجهل أحد مولده».

ثم عادوا إلى الصمت وعاد معاوية إلى الكلام، وكان كلامه في هذه المرة لا يخلو من خبث في بواعثه.. يقول الراوي: «فسكت معاوية يسيراً ثم قال: يا ابن العباس أصبحت سید قومك من بعده»، وربّما كان كلامه هذا منبعثاً عن رغبته في إلقاء الشقاق بين أفراد هذا البيت، فهو إذا أوغر في نفس صاحبنا حديث الزعامة للهاشميين، والحسين علیه السلام - هو سيد قومه وإمامهم بعد أخيه بالطبع - استطاع أن يشق هذا البيت على نفسه، وقديماً حاول غيره من السابقين مع أبيه العباس ذلك فلم يوفق كما مر في سابق من الأحاديث..

وكان ابن عباس أعمق من أن يؤخذ بهذا الدس الرخيص وهو يعرف من مقام الحسين علیه السلام وجلالة قدره ما يعرف، فأجابه بجواب قاطع:

ص: 428

«أما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا»، ويؤخذ معاوية بهذا الجواب فلا يتمالك دون أن يرسل فيه كلمة إعجاب: «لله أبوك يا ابن عباس ما استنبأتك إلا وجدتك معدّاً»(1). وفي رواية الزبير بن بكار : «لله درّه ما هيجناه قط إلا وجدناه سيداً».(2)

ويبدو أن حادثة الإمام الحسن علیه السلام قد أثرت عليه أثرها الكبير، فكان يعتبرها - فيما أخال - هي الحد الفاصل بينه وبين عودة الحكم إليهم، وقد كان الحسن علیه السلام هو أمله الوحيد في الوقوف دون تنفيذ خطط معاوية، في وضع كابوس الأمويين على رقاب العرب والمسلمين، من طريق تنقل الخلافة في بيت أمية، وموقفه من الإسلام معروف.

وربّما كانت كلمة أبي سفيان لعثمان ما تزال تملأ سمعه: «صارت إليك بعد تيم وعدّي فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك وما من جنة ولا نار..»(3). فهو يعتقد أن الذل لم يدخل على العرب قبل موت الإمام الحسن علیه السلام.

يحدّث محمد بن حبيب في أماليه عن ابن عباس أنه قال: «أول ذلّ دخل على العرب موت الحسن علیه السلام».(4)

ويبدو أن معاوية أقام عزاءً بعد موقف ابن عباس منه، أو أن ابن عباس نفسه أقام العزاء في الشام على ابن عمه، تقول رواية الزبير : «ودخل على معاوية بعد انقضاء العزاء فقال : يا أبا العباس أما تدري ما حدث في أهلك؟

قال: لا، قال: هلك أسامة بن زيد فعظم الله لك الأجر، قال: إنا لله وإنا إليه

ص: 429


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 159 - 160
2- كشف الغمة: 127 نقلا عن الزبير بن بكار
3- النزاع والتخاصم : 31
4- شرح نهج البلاغة ج 4 : 4

راجعون، رحم الله أسامة».(1)

والذي يظهر أن معاوية لم ييسّر له سبيل العودة إلى بلده حتى عزم - فيما يروي الزبير - على محاقّته، والمحاقّة: هي المخاصمة وطلب الحق، وربّما فهم معاوية عنه هذا الأمر، وصادف أن لاحظ انصراف الناس عنه إليه يسألونه عن الحلال والحرام، فخشي من بقائه في الشام.

يقول الزبير بعد حديثه السابق: «وخرج وأتاه بعد أيام، وقد عزم على محاقته، فصلى في الجامع يوم الجمعة، واجتمع الناس عليه يسألونه عن الحلال والحرام والفقه والتفسير وأحوال الإسلام والجاهليّة وهو يجيب، وافتقد معاوية الناس فقيل: إنهم مشغولون بابن عباس، ولو شاء أن يضربوا معه بمائة ألف سيف قبل الليل لفعل».

وكان هذا الحديث مبعث قلق لمعاوية، وندم على تأخيره.

يقول المحدّث: «فقال : نحن أظلم منه حبسناه عن ،أهله ومنعناه حاجته، ونعينا إليه أحبته، انطلقوا فادعوه...» يقول: «فأتاه الحاجب فدعاه، فقال: إنّا بني عبد مناف إذا حضرت الصلاة لم نقم حتى نصلي، أصلي إن شاء الله وآتيه.. فرجع وصلى العصر وأتاه» .

وكان من مظاهر اهتمامه بأمره أنه لم يسأله حاجته - فيما تقول الرواية - إلا قضاها، وزاد على ذلك بفتحه لأبواب بيت المال أمامه وقوله له: «أقسمت عليك لما دخلت بيت المال فأخذت حاجتك»، وكان هدفه من ذلك فيما يقول الزبير بن بكار: «أن يعرف أهل الشام میل ابن عباس إلى الدنيا».

وما كان ليخفى ذلك عليه - هو الغواص - فردّ عليه بلباقة عزّزت من مركزه في

ص: 430


1- کشف الغمّة: 127

نفوس الرأي العام .. يقول: «فقال : إن ذلك ليس لي ولا لك، فإن أذنت أن أعطى كل ذي حق حقه فعلت»، فأعاد عليه معاوية قَسَمَه فدخل، وبدلاً من أن يأخذ من أمواله شيئاً عمد إلى برنس خز أحمر يقال أنه كان لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب فأخذه ثم خرج

وكان هذا الموقف من معاوية مطمعاً له في أن يطلب منه طلباً أهم من ذلك وأوقع على نفسه فقال: «يا أمير المؤمنين بقيت لي حاجة، فقال: ما هي؟ قال: علي بن أبي طالب قد عرفت فضله و سابقته وقرابته، وقد كفاكه الموت أحبّ أن لا يشتم على منابركم.

فقال: هيهات يا ابن عباس هذا أمر دين أليس فعل وفعل، فعدّد ما بينه وبين علي كرم الله وجهه» فقال ابن عباس - وقد ساءه هذا الجواب -: «أولى لك يا معاوية والموعد القيامة، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، وتوجه إلى المدينة».(1)

وفي بعض الروايات أن ابن عباس كان عند موت الحسن بالمدينة وله مع مروان والسيدة عائشة حديث(2).. وربّما كان ذلك وليد الخلط بينه وبين أخيه عبيد الله إذا صحّ هذا القسم من الروايات.

(6)

ونشط موقف معاوية بعد هذه الحادثة نشاطاً كبيراً، لإتمام الأمر لولده، وأشاع في المناطق الشيعية وبخاصة الكوفة جواً من الرعب والخوف، تجاوز حتى حدوده المألوفة منه .

ص: 431


1- کشف الغمة: 127
2- انظر الإرشاد - المطبعة الحيدرية، النجف، سنة الطبع 1381 ه-: 193

يقول بعض المؤرخين بعد عرضه لصور من مواقف السلطة وأحاديثهم: «حتى مات الحسن بن علي فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلّا وهو خائف على دمه أو طريد في الارض».(1)

ثم كانت حادثة حجر بن عدي وأصحاب حجر، وتقتيلهم بتلكم الصور الفظيعة المشهورة في التأريخ (2)، وكان موقف زياد - وإليه - من كل شيعي لا يقلّ فظاعة عن ذلك، يقول ابن أبي الحديد: «فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم منهم أيام علي، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل»(3).. إلى ما هنالك من صور التعذيب والتنكيل.

وبعد أن أمن جانب المعارضة دعا إلى بيعة ولده فبويع له بالشام، وكتب إلى عامله بالمدينة يستحثه على طلب البيعة له من أهلها والكتابة له في شأن من يبطئ منهم فكان، جوابه أن أهل المدينة كلّهم بطاء، ولا سيما أهل البيت من بني هاشم، فإنه لم يجبني منهم أحد.

وكتب معاوية إلى كل من الحسين وعبد الله بن العباس وابن جعفر وابن الزبير كتباً، وأمر عامله أن يوصلها إليهم، وأن يأتيه بجواباتها، وكان أشدّ الكتب وأكثرها تهديداً كتاب ابن عباس، فقد جاء فيه: «أما بعد فقد بلغني إبطاؤك عن البيعة ليزيد بن أمير المؤمنين، وإني لو قتلتك بعثمان لكان ذلك إليّ؛ لأنك ممن ألّب عليه وأجلب، وما معك من أمان فتطمئن به، ولا عهد فتسكن إليه ، فإذا أتاك كتابي هذا فاخرج إلى المسجد

ص: 432


1- شرح نهج البلاغة ج 3: 16
2- انظر تأريخ الطبري ج 4 : 154
3- شرح نهج البلاغة ج 3: 15

والعن قتلة عثمان وبايع عاملي، فقد أعذر من أنذر وأنت بنفسك أبصر» .(1)

وأخالكم تذكرون ما كتب معاوية قبل هذا إليه وذلك عند صلح الحسن علیه السلام فقد قارب كتابه ذاك لهجة هذا الكتاب.

والذي يبدو أن ابن أبي سفيان كان يعتبر عدم دخول ابن عباس في قائمة أهل الصلح نقطة ضعف يُغزى من قبلها عند الحاجة، فهو يلوح له بها بين الحين والحين.

وقصة عثمان والتأليب عليه كانت - فيما يبدو - بيد السلطة هي شعار الخطر الأحمر الذي يكفي أن يلقى على أي شخص؛ لينتهي به إلى مصيره المعروف، وكان الرأي العام الشامي يغتفر للسلطة أي إجرام تقوم به تجاه من يتهم بهذا الاتهام.

وأخال أن ابن عباس أدرك من هذا لكتاب ومن ترديد نفس النغمة فيه أن خصمه كان يستهدف من جوابه انتزاع كلمة تشعر بذلك؛ ليشهد بها أمام أهل الشام وليبرر القضاء عليه.

والقضاء على ابن عباس - من دون عذر مبرر - أمر لا يقوى عليه خصمه، وبخاصة بعد أن ركّز نفسه بالشام على النحو الذي لمسناه قبل صفحات.

وما يدريك لعل هذا التهديد والتشدّد عليه بالخصوص كان وليد ذلك التركيز، فهو يخشى على مركزه منه إذا لم يبعده عن وجهه بمثل هذا الأسلوب.

ولعل لذلك كان صاحبنا حذراً في جوابه إلى أبعد حدود الحذر، وبخاصة في إجابته على ما يتعلق بعثمان وبالمقارنة بين جوابه السابق له على مثل هذه التهمة، وبين جوابه هذا ندرك أسرار حذره هذا.. يقول في جوابه وكان أول من أجاب: أما بعد فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت، وأن ليس معي منك أمان، وإنه والله ما منك يطلب

ص: 433


1- الإمامة والسياسة ج 1: 163

الأمان يا معاوية، وإنما يطلب الأمان من الله رب العالمين، وأما قولك في قتلي، فوالله لو فعلت للقيت الله ومحمدا صلی الله علیه و آله وسلم خصمك ، فما أخاله أفلح ولا أنجح من كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم خصمه، وأما ما ذكرت من أني ممن ألب في عثمان وأجلب، فذلك أمر غبت عنه، ولو حضرته ما نسبت إلي شيئاً من التأليب عليه، وايم الله ما أرى أحد غضب لعثمان غضبي ولا أعظم أحد قتله عِظَمي، ولو شهدته لنصرته، أو أموت دونه، ولقد قلت وتمنيت يوم قتل عثمان : ليت الذي قتل عثمان لقيني فقتلني معه ولا أبقى بعده، وأما قولك لي: العن قتلة عثمان، فلعثمان ولد خاصة وقرابة هم أحق بلعنهم مني، فإن شاؤوا أن يلعنوا فليلعنوا، وإن شاءوا أن يمسكوا فليمسكوا».(1)

وبهذا الجواب.. إن صح - قطع على معاوية - فيما أخال - طريق الاستفادة منه، فهو بهذا التأكيد على بعده من قصة عثمان وإظهاره شدة التأثر، سدّ أمام خصمه أهم كوّة كان بوسعه أن ينفذ منها إليه، وبعد أن أمن هذا الجانب بدا أمامه متماسكاً إلى أبعد حدود التماسك في الإجابة على بقية نقاط الكتاب.

وتتابع الجماعة على الإجابة على هذا النحو، وكان أشدّ الكتب وأصرحها كتاب الإمام الحسين علیه السلام، ففيه عرض وافٍ لمفارقات السلطة، وشرح لأسباب معارضتها، ومعارضة مرشحها لولاية العهد، ثم كتب إليه واليه أن لا مندوحة له من الشخوص بنفسه إذا أراد إتمام الأمر لولده بالمدينة.

وجاء موسم الحج فأقبل معاوية، وكان في مستقبليه الإمام الحسين علیه السلام وابن عباس، فلما التقاهما بالجرف قال : مرحباً يا ابن بنت رسول الله وابن صنو أبيه، ثم انحرف إلى الناس فقال : هذان شيخا بني عبد مناف، واقبل عليهما بوجهه وحديثه فرحب وقرّب،

ص: 434


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 163 - 164

وجعل يواجه هذا مرّة ويضاحك هذا أخرى حتى ورد المدينة».(1)

وبعد أن استقر به المقام بالمدينة بعث على زعماء المعارضة فاجتمع بهم واحداً واحداً، ولا ينهم فلم يظفر منهم بشيء.

وفي اليوم الثاني أرسل على الحسين علیه السلام وابن عباس وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن ،قرب، وجاء ابن عباس أولاً فاستقبله معاوية استقبالاً حاراً، وأجلسه على يساره، وجعل يحادثه ويجامله، وكان من حديثه: «يا ابن عباس لقد وفر الله حظكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول»، فقال ابن عباس بلباقته المعهودة: «نعم أصلح الله أمير المؤمنين، وحظنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكل أوفر» يقول الراوي: «فجعل معاوية يحدّثه ويحيد به عن طريق المجادلة، ويعدل إلى ذكر الأعمار على اختلاف الغرائز والطبايع، حتى أقبل الحسين بن علي، فلما رآه معاوية جمع له وسادة كانت على يمينه فدخل الحسين وسلم فأشار إليه فأجلسه على يمينه مكان الوسادة، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم، فأخبره، ثم سكت».

ثم بدأ معاوية بكلام ساقه مساق الخطبة.. نأتي عليه وعلى جوابه لأهميته؛ ولما فيه وفي جوابه من شرح لمختلف وجهات النظر بين السلطة ومعارضيها .

قال معاوية بعد المفتتح التقليدي بالحمد والصلاة على النبي صلی الله علیه و آله وسلم : «ثم خلفه رجلان محفوظان، وثالث مشكوك ، وبين ذلك خوض طالما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعاً، وما أعلم منه فوق ما تعلمون، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم الله ما أحاول به من أمر الرعية من سد الخلل ولم الصدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين وأحمد الفعل هذا معناي في يزيد ، وفيكما فضل القرابة وحظوة العلم وكمال

ص: 435


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 166

المروءة ، وقد أصبت من ذلك عن يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما، مع علمه بالسنّة وقراءة القرآن والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب وقد علمتها أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدّم على الصديق والفاروق، ودونها من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة ذات السلاسل، من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة، ولا سنّة مذكورة، فقادهم الرجل بأمره وجمع بهم صلاتهم وحفظ عليهم فيأهم وقال ولم يقل معه، وفي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أسوة حسنة، فمهلاً بني عبد المطلب فإنا وأنتم شعبا نفع وجد، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما، فردّا على ذي رحم مستعتب ما تحمد به البصيرة في عتابكما، واستغفر الله لي ولكما».(1)

وهذه الخطبة تجمع إلى مؤهلات يزيد في نظر أبيه استدلالاً على جواز تقديمه على أمثال الحسين علیه السلام وابن عباس، مع فضلهما بعمل النبي صلی الله علیه و آله وسلم في تأمير ابن العاص على مثل أبي بكر وعمر في غزوة ذات السلاسل، وما كانت لتخفى ما في خطبته على صاحبنا من مفارقات «فتيسّر - فيما تقول الرواية - للكلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الحسين وقال على رسلك فأنا المراد ونصيبي من التهمة أوفر، فامسك ابن عباس، فقام الحسين فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ثم قال: أما بعد يا معاوية، فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من جميع جز جزءاً، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة والتنكب عن استبلاغ البيعة، وهيهات هيهات يا معاوية، فضح الصبح فحمة الدجى، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضّلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجرت حتى جاوزت وما بذلت لذي حق من أتم حقه بنصيب حتى أخذ الشيطان

ص: 436


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 168 - 169

حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمة محمد صلی الله علیه و آله وسلم، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عما كان احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبق لأترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي تجده ،ناصراً ، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدّم باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملئت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فَتَقدِم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص.

ورأيتك عرّضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً، ولقد - لعمر الله - أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة وجئت لنا بها ما حجبتم به القائم عند موت الرسول عليه الصلاة والسلام، فأذعن للحجة بذلك، وردّه الإيمان إلى النصف؛ فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله و تأميره له، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وبقيته له وما صار لعمرو يومئذ حتى أنِف القوم إمرته وكرهوا تقديمه، وعدّوا عليه أفعاله فقال صلی الله علیه و آله وسلم: لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً؟! وحولك من لا يؤمن في صحبته ولا يعتمد في دينه وقرابته وتتخطاهم إلى مسرف مفتون تريد أن تلبس الناس شبهة، يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك،

ص: 437

إن هذا لهو الخسران المبين وأستغفر الله لي ولكم».

وكان الإمام علیه السلام بليغاً جداً حين أجاب على كل نقطة نقطة، وشرح جوانب المغالطة في كلام معاوية، وأبان واقع يزيد وواقع سياسة أبيه، بما اشتملت عليه من ظلم وجور واستهتار بشؤون الرعيّة، وما أجمل فضحه للمغالطة بقصة عمرو بن العاص، المنسوخ لازمها بكلام الرسول، إلى ما هنالك بما أبانه الإمام علیه السلام في خطبته من المغالطات...

يقول محدّث الحديث: «فنظر معاوية إلى ابن عباس فقال: ما هذا يا ابن عباس؟! ولما عندك أدهى وأمر».

وكان جواب ابن عباس من أبلغ الاجوبة حين كشف له - على إيجازه - عن تضامن أهل هذا البيت وأخذ بعضهم بيد بعض يقول : «فقال ابن عباس: لعمر الله إنها لذرية الرسول عليه الصلاة والسلام وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر، فالهَ عما تريد، فإن لك في الناس مقنعاً، حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين».

وكان هذا الكلام كافياً لبث اليأس في نفس معاوية وإنهاء الجلسة بقوله: «أعود الحلم التحلم وخيره التحلم عن الأهل ، انصرفا في حفظ الله».(1)

ثم بعث على الباقين ولم يظفر منهم بجواب يرضيه.

وكانت آخر محاولة له أن أمر من حرسه وشرطته قوماً أن يحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن العباس، وعبد الرحمن بن ابي بكر ، وأوصاهم معاوية قال: إني خارج العشيّة إلى أهل الشام فأخبرهم أن هؤلاء النفر قد بايعوا وأسلموا، فإن تكلم أحد منهم بكلام يصدّقني أو يكذبني فيه فلا ينقضي كلامه حتى يطير رأسه!!» يقول الراوي: «فحذر

ص: 438


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 170 - 171

القوم ذلك».

وتتمّة هذه المأساة التي أعطت أبلغ درس للمحافظة على الحريات ما جاء في المصدر نفسه: «فلما كان العشيّ خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر، وهو يضاحكهم ويحدّثهم ، وقد ألبسهم الحلل، فألبس ابن عمر حلّة حمراء، وألبس عبد الله بن عباس حلّة خضراء، وألبس ابن الزبير حلّة يمانية، ثم خرج بينهم وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم أي القوم، وأنهم بايعوا فقال : يا أهل الشام إن هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين وقد بايعوا وسلّموا، قال ذلك والقوم سكوت لم يتكلموا شيئاً حذر القتل، فوثب أناس من أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين إن كان رابك منهم ريب فخلّ بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم، فقال معاوية: سبحان الله ما أحل دماء قريش عندكم يا أهل الشام، لا أسمع ذكراً بسوء، فإنهم قد بايعوا وسلّموا وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم، ثم ارتحل معاوية راجعاً إلى مكة».(1)

ويبدو أن هذا الإجراء من معاوية قد اعتبره وافياً بإتمام الأمر لولده بالنسبة إلى جميع هؤلاء النفر عدا الإمام الحسين علیه السلام، فأضاف إليه خطوة عدائية صريحة تشلّ من حركتهم، وتقضي عليها من الأساس، فقد وزّع على الناس أعطياتهم وأجزل العطاء، وأخرج إلى كل قبيلة جوائزها وأعطياتها، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء».

وقد أدرك ابن عباس ما يرمي إليه معاوية من هذه الخطوة، من القضاء عليهم اقتصادياً، وربّما تبعتها خطوات من قبله، مع العلم بأن السلطة إذ ذاك كانت هي المتحكمة في مواردهم الاقتصادية، وموارد أمثالهم من كبار المسلمين وذوي السابقة في الإسلام، فقام بإجراء سريع حازم ولحق بمعاوية - بالروحاء - وحاول معاوية أن يحجبه عن مواجهته فلم يأذن له، حتى إذا خرج وثب إليه عبد الله بن عباس فأخذ

ص: 439


1- الإمامة والسياسة ج 1: 173 - 174

بلجام البغلة ثم قال: أين تذهب؟ قال إلى مكة قال: فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا قال : والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم، قال ابن عباس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا، فقال معاوية : لستم كغيركم لا والله، لا أعطيكم در هماً حتى يبايع صاحبكم».

ربّما قال ذلك معاوية لما يعرف من تضامن الهاشميين واجتماعهم على الإمام الحسين علیه السلام، وما يدريك لعله قدّر في نفسه أنه سوف يستطيع بهذا الإجراء شق الهاشميين على إمامهم، أو حمله على المبايعة حملاً من قبلهم، ولكن ابن عباس أفهمه بأنه سوف لا يقوى على هضم حقوقهم ، وفيهم مثله ومقامه بالشام معروف .. يقول ابن قتيبة: «فقال ابن عباس: أما والله لئن لم تفعل لألحقن بساحل من سواحل الشام، ثم لأقولنّ ما تعلم، والله لأتركنّهم عليك خوارج».

وتراجع معاوية أمام هذا التهديد، ولعله ذكر تأثيره بالشام وتحوّل قائلهم بالأمس له.. والله لو شاء أن يضرب معه مائة ألف سيف لفعل، فقال: «لا بل أعطيكم جوائزكم، فبعث بها من الروحاء».(1)

(7)

واتجه معاوية إلى مكة بموكبه المعروف، واتجه ابن عباس معه - فيما أخال - إليها، ولكل منهما موكب لا يقل في ضخامته عن موكب صاحبه، وإن اختلف معه من حيث النوع، فمعاوية كان محاطاً بجنده وبالوصوليين وذوي الأطماع من الناس، وكان صاحبنا

ص: 440


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 174

محاطاً بطلاب العلم وهواة المعرفة، يقول يزيد بن الأصم: «خرج معاوية حاجّاً معه ابن عباس، فكان لمعاوية موكب ، ولأبن عباس موكب ممن يطلب العلم».(1)

وقد حجّ معاوية وهو ملك مرتين إحداهما في سنة أربع وأربعين للهجرة، والأخرى في سنة خمسين للهجرة، وكانت له معه أحاديث في مكة، وما ندري في أيهما كانت، وليس المهم تعيين زمنهما فعبد الله هو عبد الله لا يختلف في جرأته وصلابته معه في أي زمن كان.

ومن تلك الأحاديث ما جاء عنه «من أنه طاف مع معاوية بالبيت، فجعل معاوية يستلم الأركان كلّها، فقال له ابن عباس: لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله يستلمها؟ فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجوراً، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقال معاوية : صدقت».(2)

و شاهد ابن عباس ظاهرة غريبة عليه فساءته وألمته، وعمد إلى إنكارها إنكاراً لا هوادة فيه.. شاهد أن الناس قد تركوا التلبية يوم عرفة، والتلبية - فيما يقول - زينة الحج، فسأل عن أسرار ذلك، فقيل له : إن معاوية نهى عنها، لأن علياً كان يُلبّي في مثل هذا اليوم، حدّث سعيد بن جبير قال: «كنت مع ابن عباس بعرفات.. فقال: مالي لا أسمع الناس يُلبّون، فقلت: يخافون من معاوية، فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال: لبيك اللهم لبيك لبيك.. فإنهم قد تركوا السنة من بغض علي».(3)

والغريب من أمر معاوية أنه كان يُخضع الأحكام الشرعية لعواطفه لحبه ولبغضه، فهو هنا يترك السنّة بغضاً لعلي علیه السلام؛ لأن علياً كان يتقيد بالسنّة، وهو يتم الصلاة في منى

ص: 441


1- الاستيعاب ج 2 : 353
2- مسند أحمد ج 1 : 217
3- سنن النسائي ج 5: 253

بعد أن كان قد صلاها قصراً مجاراة لعواطف الأمويين وحفظاً لكرامة عثمان!! يقول المحدّث: «لما صلّى بنا معاوية الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان، فقالا له : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح مما عبته به، فقال لهما: وما ذلك؟ قال فقالا له : ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة، قال فقال لهما : ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟! قد صليتهما مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ومع أبي بكر وعمر ، قالا : فإن ابن عمك قد كان أتمها، وإن خلافك إياه عيب له، قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلاها أربعاً بنا».(1)

وهاتان القصتان - ومثلهما بالطبع كثير - تكشفان عن مدى ايمان معاوية بأحكام الشريعة وتمسكه بها من جهة، واستهتاره وعدم مبالاته بالرأي العام المسلم من جهة أخرى.

وهذا الاستهتار هو الذي دعا ابن عباس أن يقف منه ذلك الموقف؛ فيجاهر بسبه ويتحداه بالتلبية كما ورد في الحديث السابق.

(8)

ثم كانت فترة بين أخذ البيعة ليزيد وموت معاوية، لا نعرف لابن عباس فيها - كأي معارض آخر - نشاطاً سياسياً ملحوظاً، وإنما كان منصرفاً فيها إلى ما عوّد الناس عليه من إلقاء محاضرات في الفقه أو التفسير أو الحديث وما إلى ذلك .. مما سنأتي عليه مفصلاً عندما نبحث هذا الجانب من جوانب شخصيته في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

وفي هذه الفترة - فيما يبدو - ذهبت كريمتاه وتركت آثارها العميقة في نفسه، ويبدو أنهما ذهبتا على التدريج، ففي حديث أنه قد أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه،

ص: 442


1- مسند أحمد ج 4 : 94

فلما أصيبت الأخرى عاد إليه لحمه فقيل له في ذلك فقال: أصابني ما رأيتم في الأولى شفقة على الأخرى، فلما ذهبتا أطمأن قلبي».(1)

وقد اختلفوا في تعليل ذلك، والذي عليه جملة من المنقبين أن منشأه رؤيته لجبرئيل في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ومصدرهم في ذلك ما أثر عنه من أنه رأى رجلاً مع النبي صلی الله علیه و آله وسلم فلم يعرفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أرأيته؟ قال: نعم قال ذاك جبرئيل، أما إنك ستفقد بصرك يقول الراوي: فعمي في آخر عمره.(2)

وهذه رواية لها نظائر، وفي بعضها تعدد رؤيته، وقلّما يخلو كتاب يعرض لترجمته من ذكرها، ولسنا نملك لها تعليلاً طبيعياً، اللهم إلّا أن يكون من خصائص جبرئيل علیه السلام أن رؤياه تورث العمى ولو بعد زمان طويل، وهو تعليل لابد من الأخذ به إذا كانت هذه الروايات وأضرابها صحيحة في نسبتها إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم و لم تكن للمنقبين من أنصار بني العباس علاقة بها؛ لملامستها لعواطف ملوكهم بما تدفع عن أبيهم من معرّة العمى إن صح أن للعمى معرّة تستوجب أن يلتمس لدفعها أمثال هذه الاسباب.

وهناك تعليل آخر ذك-ره المسعودي وعزاه إلى بكاءه على علي، والحسن، والحسين عليهم السلام.(3)

وذكر الحسين علیه السلام في هذا الموضع لا يلتئم مع الواقع التأريخي، فالظاهر أن ذهاب بصره كان قبل مقتل الحسين وبعد سمّ الحسن عليه السلام .

والتأريخ وإن حدثنا عن مدى تأثره لفقدهما وبكائه عليهما ولكنّه لم يحدّث عن كثرة البكاء واستمراره كل هذه المدة على نحو يؤثر مثل هذا الأثر البليغ؛ ومثله يتواتر

ص: 443


1- البداية والنهاية ج 8: 305
2- انظر ذخائر العقبى: 233
3- انظر مروج الذهب ج 3: 45

في الحديث عادة.

وقد حاول بعضهم أن يلتمس له تعليلاً آخر يرتبط بشدة احتياطه في الدين فقال: «قيل: لأنه كان في وضوءه يدخل الماء في عينيه مبالغة في استقصاء».(1)

وما ندري أكان مصاباً بداء الوسوسة؟ وكثيراً ما يصاب به أمثاله من المتشرعين ومنشؤه المبالغة في الحيطة لأمر أو أكثر من أمور الدين، على نحو يفقدهم الثقة بالنفس في أدائها بسهولة.

فهم محتاجون إلى تكرار الشيء، والمبالغة في تتبع أطرافه؛ للتأكد من صحته، ومع الأيام يصبح ذلك من أهم الأمراض النفسية التي يصعب معالجتها، وإذا كان.. فهل مثل هذا الاحتياط بإدخال الماء على عينيه مما يوجب إصابته بالعمى؟.. أُبعد ذلك، فإن إصابته - في الظاهر - كانت وليدة نزول الماء على عينيه، وهو لا يرتبط بإدخال الماء من الخارج إليهما .

والذي أخاله أن لمرضه هذا جذوراً وراثية، فقد أصيب الكثير من بني هاشم بهذه الآفة، وأصيب هو وأبوه، وجده في أسنان متقاربة وقد تكون متحدة، وقد حدثنا العلم عن وراثة نوع من أنواع العمى أسموه بالوراثة المتحدة الأزمنة.(2)

وعلى أي فعروض مثل هذه الآفة لا يحتاج إلى تجشم الأسباب، وربّما كان ذلك لعوارض وقتيّة نجهلها الآن، وتحقيقها لا يهم كثيراً، وإنما المهم التماس أثر هذه العاهة في نفسه.

والذي أتخيله أنها كانت ذات أثر بليغ جداً، فقد جاءته وهو في صراع سياسي قوي،

ص: 444


1- نكت الهمیان: 182
2- انظر مجلة الاعتدال سنة: 4 ،عدد: 3

لمسنا خطوطه فيما سبق ... ربّما كان ينتظر دوره في الحكم ليتمكن من أداء رسالته الدينيّة التوجيهية كاملة، وذلك إذا استطاعت المعارضة أن تثبت وجودها بعد معاوية، وينجح مرشح أهل البيت.

وقد كان ابن عباس يعتبر لنفسه حقاً في الحكم - طبعاً في طول الحسين - ولا يمنعه وجود معاوية أن يجاهر به، فمن حديث لمعاوية معه «واقلّ من ذكر حقك، فإنه إن كان لك فقد تركته لمن هو أبعد منا حبّاً، وإن لم يكن فلا حاجة بك إلى ذكره، مع أنه صائر إليك، وكل آت قريب، ولتجدنا إذا كان ذلك خيراً لكم منا»، يقول ابن عباس: «وأما ما سألتني من الكف عن ذكر حقي، فإني لم أغمد سيفي وأنا أريد أن أنتصر بلساني، ولئن صار هذا الأمر إلينا، ثم وليكم من قومي مثلي كما ولينا من قومك مثلك، لا يرى أهلك إلّا ما يحبون».(1)

فهو ينتظر أن يصير الأمر إليهم وأن يتولى الأمة مثله، وإنما قلت في طول الحسين فلأنه كان يرى أن الحسين علیه السلام مقدّم عليه بحكم إمامته فهو يروي عن النبي قوله: «إن وصيي علي بن أبي طالب وبعده سبطاي الحسن والحسين ..»(2). وقوله لمعاوية حين قال له: أصبحت سيد قومك قال: «ما أبقى الله أبا عبدالله الحسين فلا» ، وقوله للإمام الحسين : «وإن نصرك لفرض على هذه الأمة كفريضة الصلاة والزكاة والتي لا يقدّر أن يتقبل أحدهما دون الأخرى»(3).. يكشف عن ذلك.

وقد بلغ من احترامه له أنه كان يمسك بركابه حتى يركب، جاء في تذكرة الخواص:

ص: 445


1- العقد الفريد - تحقيق محمد سعيد العريان، مطبعة الاستقامة، مصر، ط 2 ، سنة الطبع 1372 ه-ج 5 : 109
2- ينابيع المودة - مطبعة العرفان، صيداً - ج 3 : 99، نقلا عن فرائد السمطين
3- الفتوح ج 5 : 26

«وكان ابن عباس يمسك بركاب الحسن والحسين حتى يركبا، ويقول : هما ابنا رسول الله».(1)

ومثل هذه العاهة لا بدّ وأن تقعد به عن بلوغ هذا المرمى، ولا أقل من شعوره بذلك، وكلماته عندما دعي لبيعة يزيد بعد موت معاوية تكشف لنا - إن صحت - عن جانب من هذا الأثر، يقول عتبة بن مسعود: «جاء رسول خالد بن الحكم إلى ابن عباس: أن انطلق فبايع، فقال للرسول : إقرأ الأمير السلام وقل له: والله ما بقي في ما تخافون، فاقض من أمرك ما أنت ،قاض فإذا سهل الممشى وذهبت حطمة الناس، جئتك ففعلت ما أحببت».(2)

فهو - كما ترون - يعتقد في أعماقه أنه لم يبق فيه - وطبعاً بعد ذهاب عينيه - ما يخاف الأمويون منه.

وإذا قارنّا هذه الكلمة بكلامه السابق معاوية حتى نهاية المطاف، أدركنا مدى مع تأثره لذلك، وشعره الذي قال بعد ما أصيب يكشف عن المحاولات التعويضية اللاشعورية كشفاً تاماً، فهو يقول - وكأنه يقنع نفسه بأن ذهاب البصر لم يفقده شيئاً له أهميته ما دام يملك هذه المعوضات - :

«إن يأخذ الله من عيني نورهما***ففي لساني وقلبي منها نور

قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخلٍ***وفي فمي صارم كالسيف مأثور».(3)

وأخال أن في تعداد هذه الصفات، ولم يكن قد عودنا سابقاً على ذكر مثلها - في غير موارد الفخر طبعاً - محاولة في تأكيد الذات بعد ما زعزعت هذه النازلة ثقتها فيها، على

ص: 446


1- تذكرة الخواص: 245
2- الإمامة والسياس ج 1 : 185
3- أسد الغابة ج 3: 195

أن هذا شيء طبيعي لمن هو في سنه، وله مؤهلاته، فلو لم يطفح على لسانه بما يشير إليه لاهتدينا إلى ذلك من طريق الفرض عادة.

و مما يأتي من أحاديثه هذا المأتى ما جاء عنه من أنه مرّ :« بقوم ينالون من علي علیه السلام ويَسبونه، فقال لقائده: أدنني منهم فأدناه، فقال: أيكم السابّ الله؟ قالو: نعوذ بالله أن نسبّ الله ، فقال : أيكم السابّ لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : قالوا نعوذ بالله أن نسب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.

فقال: أيكم السابّ علي بن ابي طالب؟ قالوا: أما هذه فنعم، فقال: أشهد لقد سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول : من سبّني فقد سبّ الله ومن سب علي بن أبي طالب فقد سبني، فأطرقوا.. فلما ولّى، قال لقائده: كيف رأيتهم فقال:

نظروا إليك بأعين مزورّة***نظر التيوس إلى شفار الجازر

إلى هنا والأمر طبيعي لا يشير إلى شيء، ولكن استزادته بعد ذلك من قائد تشير إلى محاولته في تأكيد الذات، يقول الراوي: «قال: زدني فداك أبي وأمي، فقال:

خزر العيون منكسي أذقانهم***نظر الذليل إلى العزيز القاهر

فقال : زدني فداك أبي وأمي قال ما عندي مزيد، قال: ولكن عندي:

أحياؤهم تجني على أمواتهم***والميتون فضيحة للغابر».(1)

والمهم هنا هي الاستزادة من معرفة أثر كلامه في نفوسهم، وهي لا تكون عادة لو كان في سلامة من هذه العاهة.

وما أدري.. أين التقى معاوية ؟! - والظاهر أنه لم يسافر إليه، ولم يأت إلى الحجاز

بعد أخذه البيعة - فقال له معاوية: «ما بالكم تصابون في أبصاركم يا بني هاشم؟!»وهي كلمة نابية لا يصلح لها غير ما أجاب عليه بقوله: «كما تصابون في بصائركم يا بني

ص: 447


1- مروج الذهب ج 2 : 229 - 230 ، وانظر الرياض النضرة ج 2 : 219

أمية».(1)

والقصة مأثورة لمعاوية مع عقيل بن أبي طالب، وقد تكون معهما معاً، لو صح أن صاحبنا كان قد اجتمع به بعد أن أصيب.

ويقول بعض مؤرخيه: «إنه لما نزل الماء في عينيه فأذهب بصره ه فأتاه الذي يثقب العين ويسيل الماء، فقال: خلّ بيننا وبين عينيك نسيل ماءهما، ولكن تمسك خمسة أيام عن الصلاة، قال: لا والله ولا ركعة واحدة إني حدثت أن من ترك صلاة واحدة لقي الله وهو عليه غضبان.

وفي رواية «إنه لما فقد بصره قيل :له نداويك ولكن تمكث كذا وكذا ولا تصلي إلّا على قفاك، فأبى وقال : بلغني أن رسول الله قال : من ترك صلاة لقي الله وهو عليه غضبان».(2)

وتطبيق هذه الكبرى - من ترك الصلاة - على الموضع تطبيق غريب، لا يلتئم مع ما نعرف من سعة معرفته في الفقه.

فالمضطرّ - في حالة اضطراره - لا يشرع له غير هذا النوع من الصلاة، فكيف يصدق عليه أنه تارك ! اللّهم إلّا إذا كان من رأيه عدم مشروعية صلاة المضطر، إذا كان قد أوقع نفسه في الاضطرار بمحض اختياره.

وتسليم نفسه إلى الطبيب هنا لمداواته مع علمه بأنه لا يطيق الصلاة معها من قيام إيقاع لنفسه بالاضطرار ، فلا تصح منه مثل هذه الصلاة.

وليس هذا موضع مناقشة هذا الرأي وربّما كانت الرواية مدخولة عليه من

ص: 448


1- نكت الهميان في نكت العميان: 182
2- ذخائر العقبى : 234

الأساس إبرازاً لشدة احتياطه في أمور الدين.

وعلى أي فالذي يهمنا من هذا الحديث هو إبراز أثر ذلك في نفسه، وقد قلنا إن هذا الأثر قد يكون طبيعياً لمثله، وربّما كان عمقه لا يقل - عما التمسناه سابقاً - من أثر (يوم الخميس)، وإن كان هذا الأثر كسابقه، سوف يضعف تدريجاً بالاعتراف به من جهة، والاعتياد عليه من جهة أخرى.

ص: 449

ص: 450

مع يزيد في أيام حكمه

(1)

وانقضت تلكم الفترة ومات معاوية، فاستقبل ابن عباس فترة حافلة بأشد الأزمات وأعقدها، وما أخاله مرّ بعد فترة مرض النبي صلی الله علیه و آله وسلم وموته بما يشبهها مشاكل وأزمات أثرت على نفسه وأثرها الكبير ، حتى أسلمته إلى نهايته المحتومة.

فكانت بيعته ليزيد بعد ان وقف منها في حياة معاوية موقفه السابق، وكان جل هم يزيد يوم تسلّم زمام الحكم أن يؤمن جانب المعارضة، بحمل المعارضين على بيعته حملاً، أو القضاء عليهم مهما كلفه الأمر ، فكتب إلى عامله على المدينة ينعى إليه معاوية، ويؤكد على دعوة أهل المدينة لبيعته، وفيه يقول : «وليكن أول من يبايعك من قومك وأهلنا الحسين وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن ،جعفر، ويحلفون على ذلك بجميع الأيمان الملازمة بصدقة أموالهم غير عشرها، وجزية رقيقهم، وطلاق نسائهم بالثبات على الوفاء بما يعطون من بيعتهم».(1)

وكان ابن عباس إذ ذاك بمكة، فلم يدع في جملة هؤلاء، وإنما دعاه - على بعض الروايات - عامل مكة على البيعة، وبايع بعد إلحاح وإلحاف من قبله.(2)

ص: 451


1- الإمامة والسياسة ج 1 : 186
2- انظر المصدر السابق ج 1 : 185

وتقول رواية أخرى أنه لم يؤذن بموت معاوية إلا بعد مدة من الزمن، وكان هو وابن عمر في طريقهما إلى المدينة فالتقاهما الحسين علیه السلام وابن الزبير وهما خارجان منها، فقال ابن عمر : «ما وراء كما ؟ قالا: موت ،معاوية والبيعة ليزيد بن معاوية» ..

إلى أن تقول: «وقدم ابن عمر وابن عباس إلى المدينة، فلما جاءت البيعة من الأمصار بايع ابن عمر مع الناس».(1)

ثم سكتت عن ابن عباس ولم تشعر بموقفه أو موقف السلطة منه، والظاهر أن السلطة لا يمكن أن تسكت عنه، وربّما حملته على البيعة حملاً، كما يبدو من الرواية الأولى، ولعل ليأسه من نجاحه في الاستمرار على المعارضة بعد إصابته بالعمى كما تشعر كلمته السابقة «ما بقي فيّ ما تخافون»، أو ليأسه من معاضدة مجتمعه، وهو إنما يصول به كما تشعر به كلمته لعتبة بن مسعود حين قال له: «أتبايع ليزيد وهو يشرب الخمر ويلهو بالقيان ويستهتر بالفواحش» يقول عتبة بن مسعود فقال: «مه فأين ما قلت لكم - يشير إلى حديث سابق - وكم بعده من آت يشرب الخمر ، أو هو شر من شاربها أنتم إلى بيعته سراع ، أما والله إني لأنهاكم وأنا أعلم أنكم فاعلون ما أنتم فاعلون».(2)

تأمّلوا قوله: «والله إني لأنهاكم وإني أعلم أنكم فاعلون ما أنتم فاعلون» - إذا صح عنه - فإنه كاشف عن مدى يأسه من استجابة الناس له، وقد كاد يحمله مثل هذا اليأس من استصلاحهم على هجرهم، والانقطاع عنهم، لولا أنه كان يخشى على نفسه أن تكون فكرته هذه من وحي الشيطان، ومن ذلك قوله : «ولولا الوسواس ما باليت أن لا أكلم الناس»(3). وربّما كان هذا اليأس في موضعه، إذا تصوّرنا اختلاف الزمنين، زمن

ص: 452


1- البداية والنهاية :ج 8 : 148
2- الإمامة والسياسة ج 1 : 185
3- البيان والتبين ج 1 : 218

امتناعهم عن البيعة على عهد معاوية وهذا الزمن ، فمرور عشر سنوات كافٍ لأن يبدل من جو الناس، بتأثير سياسة معاوية المعروفة بعناصرها الانتهازية وغيرها، مما عرضنا بعض خطوطه فيما سبق من حديث ..

ومع هذا اليأس والعطل الذي أصابه بسبب عينيه، لا يبقى مجال لمناوأة سافرة يتحدى بها السلطة، وهو لا يملك عدّة الدفاع، فالرواية التي تسجل عليه بيعته هي أقرب في عقيدتي إلى واقع صاحبنا من الروايات الأخرى الساكتة، أو المصرحة بعدم البيعة - لو وجدت - على أن مصلحة البيت الهاشمي كانت تقتضيه - فيما أخال ذلك؛ ليتولى هو - والمبايعون من الأسرة - حفظ كيانها، لو قدر لحركة زعيمهم الحسين علیه السلام أن لا تحصل على النجاح المأمول.

(2)

وكانت حركة الحسين علیه السلام وامتناعه عن البيعة - وخروجه من المدينة إلى مكة ومعه ابن الزبير - مبعث اضطراب السلطة وتخوّفها، وما أسرع أن تلقى صاحبنا من يزيد كتاباً يطلب إليه أن يتولى تسوية الموقف، وفيه يقول: «أما بعد فإن ابن عمك حسيناً وعدو الله ابن الزبير التويا ببيعتي، ولحقا بمكة مرصدين للفتنة معرّضين أنفسهما للهلكة، فأما ابن الزبير فإنه صريع الفنا وقتيل السيف غداً، وأما الحسين فقد أحببت الإعذار إليكم أهل البيت مما كان منه، وقد بلغني أن رجالاً من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم، ويمنّونه الخلافة، ويمنّيهم الإمرة، وقد تعلمون ما بيني وبينكم من صلة وعظيم الحرمة ونتائج الأرحام، وقد قطع ذلك الحسين وبته، وأنت زعيم أهل بيتك وسيد أهل بلادك، فالقه فاردده عن السعي في الفرقة، وردّ هذه الأمة عن الفتنة، فإن قبل منك وأناب

ص: 453

إليك، فله عندي الأمان والكرامة الواسعة، وأجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه، وإن طلب الزيادة فاضمن له ما أراك الله أنفذ ضمانك، وأقوم له بذلك، وله عليّ الأيمان المغلّظة، والمواثيق المؤكدة بما تطمئن به نفسه، ويعتمد في كل الأمور عليه، عجّل بجواب كتابي وبكل حاجة لك إليّ وقِبَلي والسلام».(1)

وما كانت لابن عباس من حاجة إلى مثله ليكتب إليه بها، وقد أحس أن وراء كتابه ما وراءه، فبعث إليه بالجواب ممنياً وواعظاً ومحذراً، بعد أن شرح له أسباب مجيء الإمام الحسين علیه السلام إلى مكة يقول: «أما بعد فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكة، فأما ابن الزبير فرجل منقطع عنا برأيه وهواه، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرها في صدره، يوري بها علينا وري الزناد، لا فكّ الله أسيرها، فأراً في أمره ما أنت راء، وأما الحسين فإنه لما نزل مكة وترك حرم جده ومنازل آبائه سألته عن مقدمه، فأخبرني أن عمالك بالمدينة أساؤوا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش؛ فاقبل إلى حرم الله مستجيراً به، وسألقاه فيما اشرت إليه، ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ويطفئ به النائرة ويخمد به الفتنة ويحقن به دماء الأمة».

ثم عقّب ذلك بما يشير إلى تحسّسه وتخوّفه مما بيت للإمام الحسين على رغم هذه الوعود، فيجابهه بقوله: فاتق الله في السر والعلانية ولا تبيتن ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة، ولا ترصده بمظلمة، ولا تحفر له مهواة، فكم من حافر لغيره حفراً وقع فيه، وكم من مؤمل أملاً لم يؤت أمله ..» ثم عقب ذلك بشيء من الوعظ والتبكيت له على ارتكاب المنكرات: «وخذ بحظك من تلاوة القرآن ونشر السنة، وعليك بالصيام والقيام، لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها، فإن كل ما اشتغلت به عن الله يضّر

ص: 454


1- تذكرة الخواص: 248-249

ويفني، وكل ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى والسلام...».(1)

ويبدو أن يزيد لم ينتظر سفارة ابن عباس ومحاولته التهدئة، بل بيت للحسين علیه السلامالغائلة بإرسال جماعة من أتباعه لاغتياله في الحرم.

وما كان ذلك ليخفى على الحسين علیه السلام.

ومثل الحسين لا يصح أن يعرّض مكة - وهي دار الأمان - لمعركة لا بد أن تُنتهك فهيا حرمتها، فكان لا بد له أن يخرج عنها، وبخاصة قد وردت عليه من شيعته في الكوفة ، ثم من رسوله إليهم مسلم بن عقيل، كتب تستحثه على المبادرة إليهم، وسمع صاحبنا بعزيمته على إجابتهم، فعظم عليه ذلك، وحضّر أمامه كل ما لديه من رواسب عن غدر الكوفيين منذ حادثة صفين سواء بالإمام أم بولده الحسن عليهه السلام، وربما تصوّر أن سياسة أمثالهم لا تنجح ،بحال إلا إذا قامت دعائمها على ركيزتين، المساومة على العواطف بأموال المسلمين من جهة، واستعمال ضروب الإرهاب والتنكيل بحق وبغير حق من جهة ثانية، وكلا الركيزتين لا يعتمدهما الإسلام ولا يقرّهما.

ومثل الحسين علیه السلام وهو إمام المسلمين وسيّدهم لا يمكن له أن ينجح وهو لا يملك بحكم مزاجه الخاص - فضلاً عن تقيّده بالدين - شيئاً من عدّتها، وربّما كان مصيره مصير أبيه وأخيه الحسن عليها السلام مع هؤلاء ، وقد بادر لذلك إليه فقال له: «يا ابن عم قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع؟ قال: إني أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى، فقال له ابن عباس: فإني أعيذك بالله من ذلك، أخبرني رحمك الله أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم، فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم .

ص: 455


1- تذكرة الخواص : 249 - 250

وفي رواية مروج الذهب: «وما أنا لغدرهم بآمن»(1)، «وإن كانوا إنما دعوك إليهم - وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم - فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك، وإن يستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك.

فقال له الحسين وإني أستخير الله وانظر ما يكون».(2)

وخرج ابن عباس من عنده والقلق يساوره، وظلمة المصير تأخذ عليه جوانب تفكيره، ولم يصبر كثيراً دون أن عاد إلى إمامه علیه السلام، وهو يقول: «يا ابن عم إني أبصر ولا أصبر، إني أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال .

أهل العراق قوم غدّر قلا تقربنهم أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز فإن كانوا يريدونك - كما زعموا - فاكتب إليهم فلينفوا عدوهم ثم أقدم عليهم؛ فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن، فإن بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة؛ فتكتب إلى الناس وترسل وتبثّ دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية» فقال الإمام : «يا ابن عم إني لأعلم أنك ناصح، وعلي شفيق، ولكن مسلم بن عقيل كتب إليّ باجتماع أهل المصر على بيعتي ونصرتي، وقد أجمعت على المسير، فقال صاحبنا: «إنهم من جربت وجرّبت، وهم اصحاب أبيك وأخيك» ثم استبدت به العاطفة فأضاف: «وَقَتَلَتُكَ غداً مع أميرهم، إنك لو قد خرجت فبلغ ابن زياد خروجك استنفرهم إليك، وكان الذين كتبوا إليك أشد من عدوك، فإن عصيتني وأبيت إلا الخروج إلى الكوفة فلا تخرجن نساءك وولدك معك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه»، فأجابه

ص: 456


1- مروج الذهب ج 3 : 4
2- جمهرة خطب العرب ج 2 : 34 - 35

الإمام وهو مؤمن في أعماقه بما سينتهي إليه من مصير : «لئن أقتل والله بمكان كذا أحبّ إليّ من أنْ استحلّ بمكة».(1)

وكانت فترة صمت قطعها ابن عباس بلهجة أسف «لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز، والخروج منها ، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك».

ثم ثارت به عاطفته من جديد فقال: «لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع عليّ وعليك الناس أطعتني لفعلت ذلك».

تقول الرواية : «ثم خرج ابن عباس من عنده فمر بعبد الله بن الزبير فقال: قرّت

عينك يا ابن الزبير ثم قال...

يالك من قبّرة بمعمر***خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقّري ما شئت أن تنقري

هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك الحجاز».(2)

وفي رواية عن طاووس عنه أنه قال: «استشارني الحسين بن علي في الخروج، فقلت: لولا أن يزري بي وبك الناس لشبثت يدي في رأسك فلم أتركك تذهب، فكان الذي ردّ عليّ أن قال: لئن أقتل في مكان كذا وكذا أحب إلي من أن أقتل بمكة، قال: فكان هذا الذي سلّى نفسي عنه».(3)

ص: 457


1- مروج الذهب ج 13 : 5
2- جمهرة خطب العرب ج 2 : 36
3- البداية والنهاية ج 8: 159 - 160
(3)

ويبدو أن هذا الحديث ونظائره - مما لم يروه المؤرخون - كان كافياً لأن يشدّه إلى الأمر الواقع، فيقنعه بوجهة نظر الإمام الحسين علیه السلام، ويسلّي نفسه عن الإصرار على وجهة نظره هو، فالحسين علیه السلام لا يمكن أن يبقى بمكة ما دام أعداؤه لا يقيمون حرمةً للبيت، ولا يهمهم أن يتخذوا منه قاعدة حربية، وليس من خلق أهل البيت عليهم السلام فضلاً عما تقتضيه أحكام دينهم التفريط بكرامته مهما كلف الحال، وصاحبنا هو الذي يقول: «لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما قتلته».(1)

وقصة دسّ يزيد رجالاً وأمرهم أن يقتلوا حسيناً علیه السلام ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، لم تعد خافية عليهم، وسيأتي تصريح ابن عباس فيها..

فخروجه إذاً من مكة أمر لا معدى عن واقعه، أما ذهابه إلى اليمن وهو رأيه الذي سبق أن عرضه على الإمام الحسين علیه السلام فما أخال أنه كان جاداً فيه، وهو أعرف الناس بموقعها الإستراتيجي وبعدها عن المراكز الحساسة في البلاد الإسلامية، بالإضافة إلى ضعف إمكانيتها الاقتصادية، وعدم تكوّن بذور الثورة لديهم؛ لعدم تعرّض أهلها لنقمة الأمويين وظلمهم مباشرة ، اللهم إلّا ما كان منهم في حادثة بسر بن أرطاة وغارته عليهم، وقتله لولدي عبيد الله بن عباس واليهم من قبل الإمام علي علیه السلام.

وقد كشفوا في تلك الحادثة عن عدم قدرتهم على المقاومة، مع قلة الجيش الغازي لهم.

فلو قدر للإمام الحسين علیه السلام أن يستجيب لهذا الرأي، لكان من أيسر الأمور حصر دعوته في هذا النطاق الضيق، وخنقها في مهدها.

ص: 458


1- أنساب الأشراف ج 4 : قسم 2 : 30

وهذا بخلاف الكوفة، فإن جميع إمكانيات الثورة متوفرة فيها.. من إحساس بظلم، وهدر كرامة إلى وفرة في العقيدة إلى موقع استراتيجي حساس.. إلى غير ذلك من أسبابها، فاقتراح إبدالها باليمن لم يكن عن جد وإلّا لكان إصراره عليه كبيراً.

وإنما انبعث عن حماسة في التنفير عن الكوفة ذات المواقف المعروفة في سرعة تبدّل عواطفها، وكأنه يقول : إذهب إلى أي مكان شئت فهو أجدى عليك من الذهاب إليها، على أن الحسين علیه السلام - وهو عالم بمصيره - كان يتخير أنسب البقاع لشهادته، وأجداها في إحداث النقمة في نفوس الجماهير.

وكلمته: «لئن أقتل في مكان كذا وكذا أحب إلي من أن أقتل بمكة».. ربما تشير إلى ذلك.

وربما كان حمله العيال معه يعود في بعض عوامله إلى محاولة الاستفادة من وجودها لتحسيس الرأي العام بالخطر المحدق بالإسلام؛ وذلك بشرحها لأسباب الثورة التي أدت بريحانة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلى الشهادة، على أن الأمويين ما كانوا ليتركوها بمكة والإمام علیه السلام خارج للثورة عليهم، وربما اتخذوا من إلقاء القبض عليها وأسرها وسيلة من وسائل إقناع الإمام علیه السلام.

وما أدري أشرح الإمام علیه السلام الصاحبنا كل ذلك وغير ذلك، مما تخفى جوانبه علينا، فسلّى نفسه عن الإصرار على آرائه السابقة، لا أبعد ذلك، وطبيعة علاقتهما تقتضيه، وإن لم يعرض لذكره مؤرخوه.

والغريب أنا لم نجد في قتلى الطف من أولاد عبد الله بن عباس أحداً، وربما لم يكن أولاده الذين يطيقون حمل السلاح معه بمكة يوم خروج الحسين علیه السلام ليبعث بهم مع سیدهم

ص: 459

أما هو فحسبه من شيخوخته وعماه معذر عن الخروج معه، هذا بالإضافة إلى ما ربما تقتضيه ضرورة بقائه بمكة؛ للتبشير بمبادئ الحسين علیه السلام، ولحفظ كيان الاسرة بعده لو قدر لإمامهم علیه السلام أن ينتصر بنهضته.

وهذا وحده كافٍ - فيما أخال - عن الاعتذار بمثل ما نُسب إليه من دفاع عن نفسه، وقد عوتب - فيما يقال - على عدم الخروج معه، فقال: «إن أصحاب الحسين علیه السلام لم ينقصوا رجلاً ولا يزيدوا رجلا نعرفهم بأسمائهم من قبل شهادتهم» كما حدثوا عنه في روايات مرسلة لا نعرف مدى صحتها.(1)

(4)

وأثر عليه خروج الحسين علیه السلام - وانتظار المصير الذي يعتقده - أثراً لا يكاد يمحى من ذاكرته، وربما عاوده طيفه مرات عديدة فأقضّ عليه مضجعه، ومن ذلك ما حدّث به زید بن جدعان قال: استيقظ ابن عباس من نومه فاسترجع وقال: قتل الحسين والله فقال له أصحابه: لم يا ابن عباس ؟ فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ومعه زجاجة من دم:فقال: أتعلم ما صنعت أمتي من بعدي قتلوا الحسين وهذا دمه ودم أصحابه أرفعهما إلى الله».(2)

وفي رواية عمار بن أبي عمار عنه: «قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم في المنام نصف النهار أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا؟ قال:هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل ألتقطه منذ اليوم قال عمار: فأحصينا ذلك اليوم

ص: 460


1- انظر كتاب محمد بن الحنفية - مطبعة سبهر ، سنة الطبع 1368ه- : 66
2- البداية والنهاية ج 8: 200

فوجدناه قد قتل في ذلك اليوم» (1)، وفي الرواية السابقة: «فكتب ذلك اليوم الذي قال فيه، وتلك الساعة، فما لبثوا إلّا أربعة وعشرين يوماً حتى جاءهم الخبر بالمدينة، أنه قتل في ذلك اليوم وتلك الساعة» .

وهذا المضمون مأثور عنه في سند ،قوي، وقد قوّى ابن كثير سند رواية عمار بن أبي عمار (2)، وهو طبيعي لمثله، وقد عرفنا مدى تشاؤمه من هذه الرحلة في حديثه السابق مع الحسين علیه السلام، ولا بد أن هذا التشاؤم كان قد بلغ مبلغاً ملأ عليه آفاق لا شعورية، فليس من الغريب إذاً - وقد سبق لنا أن رأينا مدى علقته بالإمام الحسين علیه السلام سيّد قومه، والبقية الباقية التي يرجو أن يعاد على يدها مجد النبوة والخلافة - أن يشغله حديثه في نومه ويقظته، وأن يتمثل تشاؤمه أمامه بمثل هذه الرؤيا، وإنما الذي يبدو غريباً أن تصدق إلى هذا الحد.

وإذا صحّ ما حدثنا بعض علماء النفس عن وجود أمثال هذه الرؤيا الصادقة، والتماسهم لها تعليلاً يبعدها عن الصدفة (3)، فليس ثمة ما يدعو إلى مناقشتها والتشكيك بصدورها بحال.

ولك بعد أن تحدّث عن مدى استيائه عما ساوره من انفعالات حين اكتشف صدق رؤياه عندما استقبلوا تفاصيل الحادثة بما رافقتها من فضائع تكشف فيها لؤم الأمويين على ابشع صوره من قتل ونهب وسلب وسبي (4) ، وبخاصة حين اجتمع بالأسرى عند عودتهم من الشام، وحدّثوه عن تفاصيل ما جرى عليهم من مفارقات، وكان علي

ص: 461


1- البداية والنهاية ج 8: 200
2- انظر المصدر السابق
3- انظر خوارق اللاشعور لعلي الوردي - لم تذكر المطبعة ولا سنة الطبع - : 119 . وما بعدها
4- انظر تأريخ الطبري ج 6 : 260 - 262

بن الحسين علیه السلام وهو البقية الباقية من هذا البيت - يزوره، فيستقبله بقوله: «مرحباً بالحبيب ابن الحبيب»(1) ، وبالطبع ما كان يدور بينهما الحديث - في غالب أمره - إلا عن فظائع هذه الحادثة.

ومن غريب مفارقات يزيد ووقاحته أن يبلغ به الصلف حداً يسوغ له أن يتناسى كل ما فعله مع آل البيت ويكتب إلى ابن عباس وقد بلغه امتناعه عن بيعة ابن الزبير، شاكراً له وممنياً وطالباً أن يعلن حسن رأيه فيه، يقول اليعقوبي: «وأخذ ابن الزبير عبد الله بن عباس بالبيعة له فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أن عبد الله بن عباس قد امتنع على ابن الزبير فسره ذلك، وكتب إلى ابن عباس : أما بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وعرض عليك الدخول في طاعته؛ لتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وإنك امتنعت عليه واعتصمت ببيعتنا، وفاءً منك لنا وطاعة الله فيما عرّفك من حقنا، فجزاك الله عن ذي رحم بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم، فإني ما أنسى من الاشياء فلست بناس برّك، وحسن جزائك، وتعجيل صلتك بالذي أنت مني أهله في الشرف والطاعة والقرابة برسول الله .

فانظر رحمك الله فيمن قِبَلك من قومك ومن يطرأ عليك من الآفاق ممن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله، فأعلمهم حسن رأيك في طاعتي والتمسك ببيعتي، فإنهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للمحل الملحد والسلام».(2)

وثارت ثائرته عند تسلّم هذا الكتاب، واستفظع ما جاء فيه من مفارقات، فامتناعه عن البيعة لابن الزبير لم يكن مجاملة ووفاءً ليزيد، وأين موضع ذلك وهذه الفظائع التي ارتكبها بأهل بيته لا تبقي موضعاً لأي مجاملة؟! بالإضافة إلى استهتاره في شؤون الدين،

ص: 462


1- طبقات ابن سعد ج 5 : 157
2- تأريخ اليعقوبي ج 2 : 220 - 223

ثم هذه المساومة الدنيئة على مبدئه بتعجيل عطائه - وكأنه ليس حقاً من حقوقه، أو هو دون حقه في كتاب الله - ما قيمتها في رأيه بعدما هدر من كرامة أهل البيت عليهم السلام ما هدر؟! وما أدري كيف يرجو له أن يعلن حسن رأيه فيه ؟! وهو بعض ثأره لو تسنّى له أن يدرك منه ذلك الثأر. ومثل دم الحسين علیه السلام لا يمكن أن يسكت عليه.

وكان جوابه ثورة صاخبة تتزاحم فيها شتّى الانفعالات، وتلتقي بها عواطف كل حاقد على الأمويين لهذه الفظائع المستنكرة، وكأنه يعبّر عن لسان كل منهم فيما كتب.. من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية.. أما بعد فقد بلغني كتابك بذكر دعاء ابن الزبير إياي إلى نفسه، وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته، فإن يك ذلك كما بلغك فلست حمدك أردت ولا ودّك ، ولكن الله بالذي أنوي عليم.

وزعمت أنك لست بناس ودّي ولعمري ما يأتينا مما في يدك من حقنا إلّا القليل، وإنك لتحبس عنا منه العريض الطويل.

وسألتني أن أحثّ الناس عليك وأخذلهم عن ابن الزبير، فلا ولا سروراً ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن علي، بفيك الكثكث، ولك الأثلب، إنك إن تمنّيك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنك لأنت المفنّد المهوّر.

لا تحسبني - لا أبا لك - نسيت قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطلب.. مصابيح الدجى ونجوم الأعلام، غادر هم جنودك مصرعين في الصعيد مرمّلين بالتراب مسلوبين بالعراء، لا مكفّنين تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتنتابهم عرج الضباع حتى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم فأجنوهم في أكفانهم.

وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست يا يزيد.

وما أنسى من الاشياء فلست بناس تسليطك عليهم الدعي العاهر ابن العاهر

ص: 463

البعيد ،رحماً،اللئيم أباً وأماً، وأما الذي في ادعاء أبيك إيّاه.. ما اكتسب أبوك به إلّا العار والخزي والمذلّة في الآخرة والأولى، وفي الممات والمحيا.

إن نبي صلی الله علیه و آله وسلم قال : الولد للفراش وللعاهر الحجر، فألحقه بأبيه كما يلحق بالعفيف النقي ولده الرشيد.

وقد أمات أبوك السنّة جهلاً وأحيا البدع والأحداث المضلّة عمداً.

وما أنس من الأشياء فلست بناس اطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلى حرم الله ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين.. لو تبوّأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً.

ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فأكبر من

ذلك ما لم تكبر، حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم، وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام وعرّضه - كذا - وأنت لأنت المستحل فيما أظن، بل لا أشكّ فيه إنك للمحرق العريف، فإنك حلف نسوة، صاحب ملاهي.

فلما رأى سوء رأيك شخص إلى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

ثم إنك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالرجال، وأمرته بمعاجلته وترك مطاولته، والإلحاح عليه حتى يقتله ومن معه من بني عبد المطلب.. أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

فنحن أولئك لسنا كآبائك الأجلاف الجفاء الأكباد الحمير.

ص: 464

ثم طلب الحسين بن علي إليه الموادعة، وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلة أنصاره، واستئصال اهل بيته، فعدوتم عليهم فقتلتموهم، كأنكم قتلتم أهل البيت من الشرك والكفر.

فلا شيء عندي أعجب من طلبك ودّي ونصري وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري، فإن يشأ الله لا يطل لديك دمي، ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قتل النبيون وآل النبيين، وكان الله الموعد وكفى به ناصراً ومن الظالمين منتقماً، فلا يعجبنك أن ظفرت بنا اليوم، فوالله لنظفرن بك يوماً.

فأما ما ذكرت من وفائي، وما زعمت من حقي إن يك ذلك كذلك، فقد والله بايعت أباك وإني لأعلم أن بني عمي وجميع بني أبي أحق بهذا الأمر من أبيك».

ثم هاجت نفسه على ذكر حقهم، وبرزت آثار عقدته النفسية الناشئة عن موقف يوم الخميس السابق فقال : «ولكنكم معاشر قريش كاثرتمونا فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقنا، فبعداً على من اجترأ على ظلمنا واستغوى السفهاء علينا، وتولى الأمر دوننا، فبعداً لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط وأصحاب مَديَن، ومكذبو المرسلين».

ثم تذكّر قصة أسرى الطف وما رافقتها من أحداث ، فقال والحسرة تأكل قلبه: «ألا ومن أعجب الأعاجيب - وما عشت أراك الدهر العجيب - حملك بنات عبد المطلب وغلمة صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب، ترى الناس أنك قهرتنا، وأنك تأمرت علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمناً الجرح يدي، إني لأرجو أن، يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستغر بك الجذل ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إلا قليلاً، حتى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً،

ص: 465

فعش - لا أبا لك - فقد والله أرادك عند الله ما اقترفت، والسلام على من أطاع الله».(1)

فهو - كما ترون - نجيب على كل فقرة فقرة من الكتاب هذه اللغة المتحدية الصارخة، وهو يعلم جيداً مدى ما يتركه هذا الكلام في نفس يزيد من آثاره، وكأنها آثر صاحبنا أن يُستشهد على يد هذا الطاغية ليلتحق بالإمام الحسين علیه السلام، وإلا فمثل يزيد الذي أحاله سوء التربية إلى قطعة من غرور، بالإضافة إلى ما كسبه من نصر بالقضاء على خصومه لا يمكن أن يسكت على مثل هذا التهديد والتحدي .

والكتاب في واقعة يصور مدى تأثير الحادثة على نفسه بما كرر من ذكرها فيه، وبخاصة عندما يصل إلى قصة السي «ألّا ومن أعجب الأعاجيب - وما عشت أراك الدهر العجيب - حملك بنات عبد المطلب.. الخ».

ولقد حدّث الواقدي عن تأثير هذا الكتاب على نفس يزيد بقوله: «فلما قرأ يزيد كتابه أخذته العزة بالإثم وهم بقتل ابن عباس، فشغله عنه ابن الزبير».(2)

والذي يبدو أنه لم يرد أن يقتله بهذا الكتاب، وإنما أراد أن يتذرع أمام أهل الشام - ومقام ابن عباس لديهم معروف - بالذريعة التي كانوا يلجؤون إليها، كلما ضاق ضائقهم بأحد الصحابة فكتب إليه «كتاباً يأمره فيه بالخروج إلى الوليد بن عتبة ومبايعته له، وينسبه إلى قتل عثمان والممالاة عليه.

يقول الراوي: «فكتب ابن عباس إليه ايضاً كتاباً يقول فيه..

إني كنت بمعزل عن عثمان، ولكن أباك تربّص به وأبطأ عنه بنصره، وحبس من

ص: 466


1- تأريخ اليعقوبي ج 2 : 220 - 223. وانظر أنساب الأشراف ج 4 قسم 2: 19. وانظر تذكرة الخواص: 286-287
2- تذكرة الخواص: 287

قبله عنه حين استصرخه واستغاث به، ثم بعث الرجال إليه معذراً، حين علم أنهم لا يدركونه حتى يهلك».(1)

فهو هنا مع احتفاظه بدفع التهمة عن نفسه؛ ليقرّر واقعاً؛ وليقطع على خصمه - الذي حاول أن يستفيد من غضبه، بما يجري على لسانه من كلام - طريق الاستفادة منه، حمل أباه مسؤولية قتل عثمان بنفس اللهجة المتعالية، وأخال أن الظروف خدمته بإشغال يزيد عنه في ابن الزبير ، وإلّا لما انتهى أمره إلى غير ما انتهى إليه أمر الحسين علیه السلام.

(5)

ويبدو أن هذه الحادثة - بما أعطته من روح الاستهانة بالحياة والتحدي لخصومه - أيقظت فيه روح النشاط والعمل السياسي، بعد فترة من الاستجمام، تعقبت ابتلاءه ،بافته ورأينا آثارها فيما سلف من حديث وربما أنسته حكمته القائلة: «يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، فإنك إن لا تفعل تندم»(2)، والتي كانت فيما يبدو من وحي اليأس.

وكان من أمثلة نشاطه مباركته لقسم من الحركات الانتفاضية التي وقعت إذ ذاك، وشجبه لقسم آخر منها، وكانت هذه الفترة - التي وقعت بين قتل الحسين علیه السلام ووفاته هو - مليئة بالقلق والانتفاضات، وكأن ثورة الحسين علیه السلام كانت بمنزلة الصمام لفوهة بركان ثائر ، فلما رفع ذلك الصمام بقتله انطلق البركان يرسل قذائفه هنا وهناك.. فكانت ثورة بالمدينة، وأخرى بمكة، وثالثة بالكوفة.

ص: 467


1- أنساب الأشراف ج 4 : قسم 2: 19
2- البداية والنهاية ج8: 304

وحديث الحسين علیه السلام وإباؤه، وفظائع ما ارتكبه الأمويين معه، بمنزلة الوقود لهذه الثورات جميعاً، وفي حدود ما يرتبط ببحثنا سنعرض لبعض هذه الثورات بشيء من الكلام.

وأول هذه الثورات وأهمها بالنسبة إليه ثورة ابن الزبير.

وكانت بدايتها بعد مقتل الحسين علیه السلام حين خطب الناس على أثر مجيء خبر شهادته إلى مكة، فعرّض بفظائع ما ارتكبه الأمويون وأهل الكوفة مع الإمام علیه السلام وعرض لمنكرات يزيد في خطبة طويلة، قام على أثرها أصحابه وقالوا له: «أظهر بيعتك، فإنك لم يبق أحد إذ هلك الحسين ينازعك هذا الأمر، وقد كان يبايع سراً ويظهر أنه عائذ بالبيت»(1)

ثم أعلن بعد ذلك تمرده ودعا إلى بيعته.

وكان من طريف مفارقاته أن يدعو ابن عباس إلى البيعة فيمن يدعوهم، وكان امتناعه عن الإجابة طبيعياً، إذا عرفنا رأيه في ابن الزبير، والفجوات التي كانت بينهما منذ نشأته، وبخاصة بعد موقفه مع الإمام علي علیه السلام في وقعة الجمل، والتلاعب بعواطف أم المؤمنين عائشة، وإفساده لقلب أبيه وشقه على الإمام علیه السلام حتى قال الإمام علیه السلام فيه: ما زال الزبير يعد منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله»(2).. إلى ما هنالك مما سبق أن

عرضنا لبعض أطرافه في أحاديث سابقة.

وقد سبق لصاحبنا أن أشار إلى مجمل رأيه فيه في كتابه الأسبق إلى يزيد «فأما ابن الزبير فرجل منقطع عنا برأيه وهواه، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرها في صدره، يوري

ص: 468


1- تأريخ ابن الأثير ج 4 : 51
2- شرح نهج البلاغة ج 4 : 480

بها علينا وري ،الزناد، لا فكّ الله أسيرها، فارأ في أمره ما أنت راء .. كما سبق لصاحبنا أن افصح عن رأيه حين صادفه بعد خروجه من الحسين علیه السلام وهو يائس من تأخيره في مكة بإنشاده...

يالك من قّبرة بمعمر***خلا لك الجو فبيضي واصفري

وقوله حانقاً: «هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز».

وقد روى الجاحظ طرفاً من هذه القصة عن الشعبي، وأتمها بحديث دار بينهما على أثر ذلك، نذكره - وإن كنا لا نعرف مداه من الصحة، وربما كان له جذور تقتضيها طبيعة الواقعة - .

قال: فغضب ابن الزبير وقال : «والله إنك لترى أنك أحق بهذا من غيرك، فقال ابن عباس: إنما يرى من كان في حال شك، وأنا من ذلك على يقين، قال: وبأي شيء تحقق عندك أنك أحق بهذا الأمر مني، قل ابن عباس : لأنا أحق بمن يُدلّ بحقه، وبأي شيء تحقق عندك أنك أحق بها من سائر العرب إلا بنا، فقال ابن الزبير: تحقق عندي أني أحق بها منكم لشرفي عليكم قديماً وحديثاً فقال: أنت أشرف أم شرفت به، فقال: إن من شرفت به زادني قد كان لي قديماً وحديثاً شرفاً إلى شرفي، قال: أفمني الزيادة أم منك، قال : بل منك. فتبسم ابن عباس، فقال: يا ابن عباس دعني من لسانك هذا الذي تقلبه كيف شئت، والله لا تحبوننا يا بني هاشم أبداً، قال ابن عباس: صدقت نحن أهل بيت مع الله عز وجل لا نحبّ من أبغضه الله فقال: يا ابن عباس أما ينبغي لك أن تصفح عن كلمة واحدة فقال : إنما يصفح عمن أقرّ، وأما من هرّ فلا، والفضل لأهل الفضل.

قال ابن الزبير : فأين الفضل قال عندنا أهل البيت لا تصرفه عن أهله فتظلم،ولا تضعه في غير أهله فتندم، قال ابن الزبير أفلست من أهله قال : بلى إن نبذت الحسد

ص: 469

ولزمت الجدد..).(1)

وما أخال أن التكلّف يخفى في مثل هذا الكلام وبخاصة في حواره الأخير.

ومما يشير إلى جذور ما بينهما من خلاف محاورة جرت بينهما بمحضر مروان بن الحكم أيام ولايته على المدينة، يقول المحدث: «وكان يوضع إلى جانب سرير مروان بن الحكم - وهو يومئذ أمير المدينة - سرير آخر أصغر من سريره، فيجلس عليه عبد الله بن عباس إذا دخل، وتوضع الوسائد فيما سوى ذلك.

فأذن مروان يوماً للناس وإذا سرير آخر قد أحدث تجاه سریر مروان، فاقبل ابن عباس فجلس على سريره، وجاء عبد الله بن الزبير فجلس على السرير المحدث».

ثم تكلم ابن الزبير وكأنه يعرّض بصاحبنا، ويوغر قلب مروان عليه: «إن أناساً يزعمون أن بيعة أبي بكر كانت غلطاً وفلتة ومغالبة إلّا أن شأن أبي بكر أعظم من أن يقال فيه هذا، ويزعمون أنه لولا ما وقع لكان الأمر لهم وفيهم، والله ما كان من أصحاب النبي أحد أثبت إيماناً ولا أعظم سابقة من أبي بكر، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله فأين هم حين عقد أبو بكر لعمر ، فلم يكن إلا ما قال، ثم ألقى عمر حظهم في حظوظ، وجدهم في جدود، فقسمت تلك الحظوظ، فأخّر الله سهمهم، وأدحض جدهم، وولى الأمر عليهم من كان أحق به منهم، فخرجوا عليه خروج اللصوص على التاجر خارجاً من القرية، فأصابوا منه غرّة، فقتلوه ثم قتلهم الله به كل قتلة، وصاروا مطرودين تحت بطون الكواكب».

ويبدو أن قسماً من الرواسب كان منشؤها بينهما يعود إلى علاقة ابن الزبير بأبي بكر من جهة أمه أسماء بنت أبي بكر.

ص: 470


1- المحاسن والمساوئ ج 1 : 66 ، وانظر المحاسن والأضداد - مطبعة السعادة، مصر، ط1، سنة الطبع 1324ه-: 99

ومعروف رأي أهل البيت عليهم السلام في خلافة أبي بكر والنزاع الذي حدث بينهما، وعهدنا - بيوم الخميس وملابساته وموقف صاحبنا منه غير بعيد وهذا الدس الرخيص والتعريض به أمام مروان لم يقم له صاحبنا أي وزن، وأجاب بلباقته المعهودة على كل فقرة فقرة، قال المحدّث : «فقال ابن عباس : على رسلك أيها القائل في أبي بكر وعمر ،والخلافة، أما والله ما نالا ولا نال أحد منهما شيئاً إلّا وصاحبنا خير مما نالا، وما أنكرنا تقدّم من تقدّم لعيب عبناه عليه، ولو تقدم صاحبنا لكان اهلاً وفوق الأهل».

فالمسألة إذاً مسألة عقيدة لا مسألة التماس للعيوب، ثم استدرك وكأنه خشي أن يحمل كلامه على التخاذل فاشتدّ قائلاً: «ولولا أنك إنما تذكر حظ غيرك وشرف امرئ سواك لكلّمتك ، ولكن ما أنت وما لاحظ لك فيه، اقتصر على حظك ودع تيماً لتيم، وعديّاً لعدي، وأمية لأمية، ولو كلّمني تيمي أو عدوي أو أموي، لكلّمته وأخبرته خبر حاضر عن حاضر، لا خبر غائب عن غائب».

فابن عباس لم يتبنّ فكرة الخلافة ومؤاخذة السابقين إلا لأنه شهد بعينه خبرها،وجمله من ملابساتها،وتابعها بوعي - كما سبق أن ذكرنا - على الرغم من صغر سنّه إذ ذاك، فخبره في ذلك خبر حاضر لا غائب، ثم استدرك وهو يسجل على صاحبه مفارقة غريبة: «ولكن ما أنت وما ليس عليك، فإن يكن في أسد بن العزى شيء فهو لك، أما والله لنحن أقرب بك عهداً، وأبيض بك ،يداً، وأوفر عندك نعمة ممن أمسيت تظن أنك تصول به علينا، وما أخلق ثوب صفية ،بعد ، والله المستعان على ما تصفون».(1)

وما لنا نطيل وصريح قول ابن الزبير له: إني لأسر بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة».(2)

ص: 471


1- جمهرة خطب العرب ج 2 : 109
2- مروج الذهب ج 3: 26

ص: 472

مع عبد الله بن الزبير

(1)

وكانت وقعة الحرّة بما رافقها من فظائع، ثم كان من أمر ابن الزبير مع جيش يزيد ما كان، وكان ابن عباس في أثناء ذلك ينهى عن مساعدة الطرفين، ويدعو الناس إلى الهروب منهما.

ومن أقواله في ذلك: «إن هذا الأمر بدأ بنبوّة ورحمة، وخلافة، وإنّه اليوم ملك عقیم،فمن سمع مقالتي فليهرب من بني أمية وآل الزبير فإنّهم يدعون إلى النار».(1)

وكان من حديثه مع أبي حمزة حين استفتاه في المقاتلة مع ابن الزبير أن نهاه عن ذلك، يقول أبو حمزة: «قلت لابن عباس: إني بايعت ابن الزبير فأعطاني وحملني على فرس أفأقاتل معه؟»، يقول: «قال : لا تقاتل معه، وردّ عليه ما أعطاك، واشتر بغلاً أو بغلين وغلاماً، واغز المشركين، فإن قتلت على ذلك كنت شهيداً إن شاء الله تعالى».

فقال أبو حمزة: «فرددت على ابن الزبير ما أخذت منه».(2)

وحين تغلب ابن الزبير بعد موت يزيد كان من همه أن يبايع له صاحبنا، وابن الحنفية، يقول المحدّث : «فلما جاء نعي يزيد بن معاوية وبايع ابن الزبير لنفسه ودعا

ص: 473


1- أنساب الأشراف :ج5 : 195 - 196
2- المصدر السابق ج 5 : 196

الناس إليه، دعا ابن عباس ومحمد بن الحنفية إلى البيعة له، فأبيا يبايعان له وقالا : حتى يجتمع لك البلاد، ويتسق لك الناس، فأقاما على ذلك ما أقاما، فمرة يكاشرهما، ومرّة يلين لهما، ومرة يباديهما، ثم غلظ عليهما فوقع بينهم كلام وشر».(1)

وقد امتنع على أثر ذلك عن ذكر النبي صلی الله علیه و آله وسلم في خطبه حتى في خطبة الجمعة، وقد عوتب على ذلك فقال: «والله ما تركت ذلك علانية إلا وأنا أقوله سراً واكثر منه، لكني رأيت بني هاشم إذا سمعوا ذكره اشر أبوا واحمرت الوانهم وطالت رقابهم، والله ما كنت لآتي لهم سروراً وأنا أقدر عليه»، ثم استبدت به عاطفته فقال: «بيت سوء لا أوّل لهم ولا آخر، والله ما ترك فيهم نبي الله خيراً، استفرغ نبي الله صدقهم فهم أكذب الناس» يقول الراوي: «فقام إليه محمد بن سعد بن أبي وقاص - وكان بغض بني هاشم متركّزاً في أعماق هذا البيت - فقال : وفّقك الله يا أمير المؤمنين أنا أول من أعانك في أمرهم.

فقام عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي فقال: والله ما قلت صواباً ولاهممت ،برشد أرهط رسول الله تعيب وإياهم تقتل ! والعرب حولك، والله لو قلت عدّتهم أهل بيت من الترك مسلمين ما سوّغه الله لك، والله لو لم ينصرهم الناس منك لنصرهم الله بنصره، فقال: اجلس أبا ،صفوان فلست بنا موس».(2)

ويبلغ ابن عباس هذا الحديث فيسوؤه أن يبلغ الحقد بهذا الرجل هذا المبلغ، حتى يعبّر عن آل الرسول بأنهم لا أول لهم ولا آخر ويخرج مغضباً مع ابنه حتى يأتي المسجد، فيصعد المنبر فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ثم يقول والحمم يخرج من فمه : «أيها الناس إن ابن الزبير يزعم أن لا أول لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ولا آخر، فيا عجباً كل العجب لافترائه وتكذّبه والله إن أول من أخذ الإيلاف وحمى عيرات قريش لهاشم

ص: 474


1- طبقات ابن سعد ج 5: قسم 1 : 73
2- شرح نهج البلاغة ج 4 : 489

وإن أول من سقى بمكة عذباً، وجعل باب الكعبة ذهباً لعبد المطلب، والله لقد نشأت ناشئتنا مع ناشئة قريش، وإن كنا لقالتهم إذا قالوا وخطباءهم إذا خطبوا، وما عد مجد كمجد أولنا، ولا كان في قريش مجد لغيرنا؛ لأنها في كفر ماحق ودين فاسق، وضلة وضلالة في عشواء عمياء، حتى اختار الله تعالى لها نوراً وبعث لها سراجاً، فانتجبه طيّباً من طيبين، ولا يسبّ بمسبة ولا يبغي عليه غائلة، فكان أحدنا وولدنا وعمنا وابن عمنا، ثم إن أسبق السابقين إليه منا وابن عمنا، ثم تلاه في السبق أهلنا ولحمتنا واحداً بعد واحد، ثم إن لخير الناس بعده أكرمهم أدباً وأشرفهم حسباً وأقربهم منه رحماً.

وعجباً كل العجب لابن الزبير... يعيب بني هاشم، وإنما شرف هو وأبوه وجده بمصاهرتهم، أما والله إنه لمسلوب ،قريش ومتى كان العوّام بن خويلد يطمع في صفية بنت عبد المطلب ؟! . قيل للبغل من أبوك يا بغل فقال : خالي الفرس»(1).. وقد وردت : جملة: «أما والله إنه لمسلوب قريش مقحمة، وما أدري من أين جاءت؟! وربما كان لجانبها الغيبي أثر في هذا الإقحام.

وكان أكثر حقده - فيما يبدو - موجهاً إلى صاحبنا؛ لعلمه بمدى ما يحسنه ابن عباس من تقييمه، ومن جرأة صاحبنا عليه، واجتماع الطبقة المثقفة حوله، فكان لذلك لا يفتأ يحاول من تهوين شأنه بانتقاصه، لكن ابن عباس كان أقدر منه على الدفاع عن نفسه، وأسلط لساناً في رد الهجوم بهجوم مماثل ، ومن ذلك ما أثر عنه أنه خطب الناس بمكة، وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر ، فقال : «إن ههنا رجلاً قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، يزعم أن متعة الناس حلال من الله ورسوله، ويفتي في القملة والنملة، وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس، وترك المسلمين يرتضخون النوى، وكيف ألومه في ذلك وقد قاتل أم المؤمنين وحواري رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ومن وقاه بيده» يقول الراوي:

ص: 475


1- شرح نهج البلاغة ج 4 : 489 ، وانظر جمهرة خطب العرب ج 2 : 112 - 113

«فقال ابن عباس لقائده سعد بن جبير بن هاشم مولى بني أسد بن خزيمة - وكان ابن عباس قد كفّ بصره - : استقبل بي وجه ابن الزبير، وارفع من صدري، فاستقبل قائده وجه ابن الزبير وأقام قامته، فحسّر عن ذراعيه،« ثم قال: يا ابن الزبير ...

قد أنصف القارّة من راماها***إنّا إذا ما فئة نلقاها

نرد أولاها على أخراها***حتى تصير حرضاً دعواها

يا ابن الزبير أما العمى فإن الله تعالى يقول: «فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور»(1)، وأما فتياي في القملة والنملة فإن فيها حكمين لا تعلمها أنت ولا أصحابك، وأما حملي المال فإنه كان مالاً جبيناه فأعطينا كل ذي حق حقه، وبقيت بقية هي دون حقنا في كتاب الله فأخذناها بحقنا».

وقد سبق أن تحدثنا عن قصة بيت المال وانتهينا إلى ما انتهى إليه في هذا الحديث.

وكانت هذا القصة بواقعها لا تستدعي أن تذكر لولا تشبّث خصومه بأقل ما يشتبه بالهنات، وكان جوابه هنا كافياً لأن يقطع على خصمه طريق الاستفادة منها بالتشنيع.

وكان جوابه عن المتعة طريفاً جداً حين قال: «وأما المتعة فسل أمك أسماء إذ نزلت على بردي عوسجة».

ثم جاء حديثه عن أم المؤمنين: «وأما قتالنا أم المؤمنين فبنا سمّيت أم المؤمنين لا بك وبأبيك، فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مده الله عليها، فهتكاه عنها، ثم اتخذاها فتنة يقاتلون دونها، وصانا حلائلهما في بيوتهما، فما أنصفا الله ولا محمداً من أنفسهما أن أبرزا زوجة نبيه وصانا حلائلهما .

وأما قتالنا إياكم فإنا لقيناكم زحفاً، فإن كنا كفاراً فقد كفرتم بفراركم منا وإن كنا

ص: 476


1- الحج: 46

مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيانا، وايم الله لولا مكان صفية فيكم ومكان خديجة فينا؛ لما تركتُ لبني أسد بن عبد العزى عظماً إلّا كسرته».

ومن الطريف أن يعود ابن الزبير بعد هذه المحاورة الطريفة إلى أمه ليسألها عن بردي عوسجة وما ندري بماذا أجابته عنها ، فلم يذكر المؤرخون ذلك، وإن ذكروا تأنيبها له بقولها: «الم أنهك عن ابن عباس وعن بني هاشم فإنهم كعم الجواب إذا بدهوا، فقال: بلى وعصيتك فقالت: يا بني إحذر هذا الأعمى الذي ما أطاقته الإنس والجن، واعلم أن عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها ، فإياك وإياه آخر الدهر».(1)

وقد رويت في العقد الفريد(2)على غير هذا الوجه وإن قاربته مضموناً، وليس المهم تحققها، وربما كان النقل في إحداهما بالمعنى، وكذا في مروج الذهب (3) وليس فيها حديث بيت المال، وألحقها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أبياتاً لأيمن بن خزيم بن فاتك الأسدي في ذكر الواقعة يقول...

«يا ابن الزبير لقد لاقيت بائقة***من البوائق فالطف لطف محتالِ

لاقيته هاشمياً طاب منبته***في مغرسيه كريم العم والخالِ

ما زال يقرع عنك العظم مقتدراً***على الجواب بصوت مسمع عالِ

حتى رأيتك مثل الكلب منجحراً***خلف الغبيط وكنت البازح العالي

إن ابن عباس المعروف حكمته***خير الأنام له حال من الحالِ

عيّرته المتعة المتبوع سنتها***وبالقتال وقد عيّرت بالمالِ

لما رماك على رسل بأسهمه***جرت عليك كسوف الحال والبالِ

ص: 477


1- شرح نهج البلاغة ج 4 : 490
2- انظر العقد الفريد ج 2 : 235
3- انظر مروج الذهب ج 3 : 27

فاحتز مقولك الأعلى بشفرته***حزاً وحيّاً بلا قيل ولا قالِ

واعلم بأنك إن عاودت غيبته***عادت عليك محاز ذات أذيالِ».(1)

وفي كتب الأدب تروى له معه مناظرات في مجال الفخر، يقرب بعضها في مضامينه من حكايات الاساطير ، وأثر الصنعة بارز في أكثرها فلا نثقل عليكم بنقلها في هذا الحديث.

(2)

واشتد ابن الزبير على بني هاشم، وعلى صاحبنا ومحمد بن الحنفية على الأخص وكان يضايقه منه اجتماع كثير من الناس عليه يطلبون ما لديه من معارف وعلوم وانصرافهم عنه، وربما سمع من بعض من يشفقون عليه ما يسوؤه لذلك، ومن ذلك حديث عبد الله بن صفوان بن أمية وقد مر يوماً بدار عبد الله بن عباس بمكة، فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه ومر بدار عبيد الله بن عباس فرأى فيها جماعة ينتابونها للطعام، فدخل على ابن الزبير فقال له أصبحت والله كما قال الشاعر ...

فأن تصبك من الأيام قارعة***لم نبك منك على دنيا ولا دين

يقول المحدث: «فقال له: وما ذاك يا أعرج قال: هذان ابنا عباس أحدهما يفقه الناس والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مكرمة». وأثر حديثه في نفس ابن الزبير وكان - كما يبدو من حديثه - من خاصته وذوي الدالة عليه، فأرسل على عبد الله بن مطيع وقال: «انطلق إلى ابني عباس فقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين: أخرجا عني أنتما ومن انضوي إليكما من أهل العراق وإلّا فعلت وفعلت».

ص: 478


1- شرح نهج البلاغة ج 4 : 490

وساء صاحبنا ذلك «فقال لابن الزبير: والله ما يأتينا من الناس إلّا رجلان.. رجل يطلب فقهاً ورجل يطلب فضلاً فأي هذين نمنع» ، وقد تألم أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني وكان حاضراً في المجلس فاندفع يقول...

«لا در درُ الليالي كيف تضحكنا***منها خطوب أعاجيب وتبكينا

ومثل ما تُحدث الأيام من عبر***في ابن الزبير عن الدنيا تسلّينا

كنا نجيء ابن عباس فيسمعنا***فقهاً ويكسبنا أجراً ويهدينا

ولا يزال عبيد الله مترعة***جفانه مطعماً ضيفاً ومسكينا

فالبر والدين والدنيا بدارهما***ننال منها الذي نبغي إذا شينا

إن النبي هو النور الذي كشطت***به عمایات ماضينا وباقينا

ورهطه عصمة في ديننا لهم***فضل علينا وحق واجب فينا

ففيم تمنعنا منهم وتمنعهم***مناوتؤذيهم فينا وتؤذينا

فلست فاعلم بأولاهم به رحماً***يا ابن الزبير ولا أولى به دينا

لن يأتي الله أنساناً يبغضهم***في الدين عزاً ولا في الأرض تمكينا»(1)

ويبدو لي أن الحوادث بعد ذلك أزّمت ما بينهما، فأمر ابن الزبير بإبعاد ابن عباس إلى الطائف، وإبعاد ابن الحنفية إلى رضوى.

وإن رواحه إلى الطائف لم يكن مرة واحدة، وإنما سُيّر أولاً ثم عاد إلى مكة .

وفي المرة الثانية لم يخرج إليها قسراً، وإنما خرج ومعه جيش أهل العراق، ومعهم محمد بن الحنفية احتفاظاً بالبيت الحرام أن تراق فيه الدماء، وبقي فيها حتى توفي.

وعن المرة الأولى كان يحدّث المدائني عن مدى تأثره وانفعاله لهذا الإبعاد عن

ص: 479


1- الاستيعاب ج 2 : 355-356

بيت الله .. يقول «لما أخرج ابن الزبير عبد الله بن عباس من مكة إلى الطائف، مرّ بنعمان فنزل فصلى ركعتين ثم رفع يديه يدعو فقال : اللهم إنك تعلم أنه لم يكن بلد أحب إلي من أن أعبدك فيه من البلد الحرام، وإنني لا أحب أن تقبض روحي إلا فيه، وإن ابن الزبير أخرجني منه ليكون الأقوى في سلطانه ، اللهم فأوهن كيده واجعل دائرة السوء عليه».(1)

ولما بلغ أهل الطائف نبأ قدومه عليهم سرت فيهم موجة فرح وسرور، وخرجوا إلى استقباله وهم يهتفون «مرحباً بابن عم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، أنت والله أحبّ إلينا وأكرم علينا ممن أخرجك، هذه منازلنا تخيّرها فانزل منها حيث أحببت».(2)

وفي تأريخ اليعقوبي: «وأخرج عبد الله بن عباس إلى الطائف إخراجاً قبيحاً».(3)

ويبدو أن ذلك الإخراج قد بلغ ابن الحنفية فكتب إليه من رضوى يسري عنه: «أما بعد فقد بلغني أن عبد الله بن الزبير سيّرك إلى الطائف، فرفع الله بك أجراً، وأحتط عنك وزراً، يا ابن عم إنما يبتلى الصالحون، وتعدّ الكرامة للأخيار، ولو لم تؤجر إلا فيما نحب وتحب قل الأجر، فاصبر فإن الله قد وعد الصابرين خيراً والسلام».(4)

وكان في الطائف موضع حفاوتهم، وقد استغل أهلوها وجوده بين أظهرهم، فاجتمعوا عليه يأخذون عنه ويستمعون إليه، وكان هو لا يترك التنديد بسياسة

خصومه، فكان «يحمد الله ويذكر النبي والخلفاء بعده ويقول: ذهبوا فلم يدعوا أمثالهم ولا أشباههم ولا م يدانيهم ، ولكن بقي أقوام يطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون

ص: 480


1- شرح نهج البلاغة ج 4 : 487
2- شرح نهج البلاغة ج 4 : 488
3- تأريخ اليعقوبي ج 3: 9
4- المصدر السابق

جلود الضأن تحتها قلوب الذئاب والنمور ؛ ليظنّ الناس أنهم من الزاهدين في الدنيا يراؤون الناس بأعمالهم، ويسخطون الله بسرائرهم، فادعو الله أن يقضي لهذه الأمة بالخير والإحسان فيولي أمرها خيارها وأبرارها ويهلك فجارها وأشرارها.. ارفعوا أيديكم إلى ربكم وسلوه ذلك».(1)

ويفعل مستمعوه - كلما أمرهم - ذلك فيدعون الله بدعواته.

وبالطبع لم تكن عيون ابن الزبير لتخفي عليه هذا الأمر، ولم يطق هو الصبر عليه، وكان من إجراءاته أن كتب إليه يتهدده..

«أما بعد فقد بلغني أنك تجلس بالطائف العصرين، فتفتيهم بالجهل، تعيب أهل العقل والعلم، وإن حلمي عليك واستدامتي فيأك جراك عليّ، فاكفف - لا أباً لغيرك - من غربك، واربع على ضلعك واعقل إن كان لك معقول؛ وأكرم نفسك فإنك إن تهنها تجدها على الناس أعظم هواناً.. ألم تسمع قول الشاعر..

فنفسك أكرمها فإنك إن تهن***عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما

وإني اقسم بالله لئن لم تنته عما بلغني عنك لتجدن جانبي خشناً، ولتجدنني إلى ما يردعك عني عجلاً، فإن أشقى بك شقاؤك على الردى فلا تلم إلا نفسك».(2)

وكان جواب ابن عباس على عادته قوياً متماسكاً، يأخذ جوانب الضعف في كل فقرة فقرة فيه، فيردّها عليه فيقول: «أما بعد فقد بلغني كتابك... قلت: إني أفتي الناس بالجهل وإنما يفتي بالجهل من لم يعرف من العلم شيئاً، وقد آتاني الله من العلم ما لم يؤتك.

ص: 481


1- جمهرة رسائل العرب ج 2 : 141
2- جمهرة رسائل العرب ج 2 : 141

وذكرت أن حلمك عني واستدامتك فيئي جراني عليك، ثم قلت اكفف من غربك، واربع على ضلعك، وضربت لي الأمثال.

متى رأيتني لعرامك هائباً، ومن حدّك ناكلاً، وقلت: لئن لم تكفف لتجدن جانبي خشناً، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا أرعى عليك إن أرعيت، فوالله لا أنتهي عن قول الحق وصفة أهل العدل والفضل وذمّ الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدينا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً والسلام».(1)

وهكذا ظل عند رأيه لا يقيم لخصمه وزناً مهما اشتد في تهديده واستعمال القوة ضده.

(3)

ويبدو لي أنه عاد بعد ذلك إلى مكة، وعاد ابن الحنفية من رضوى إليها، وكانت في الأثناء ثورة المختار وتمرده على ابن الزبير وإخراج عامله ابن مطيع عن الكوفة ثم محاولته الدعوة إلى بني هاشم، وقد «كتب كتاباً إلى علي بن الحسين السجاد، يريده على أن يبايع له، ويقول بإمامته ويظهر ،دعوته، وأنفذ إليه من ذلك مالاً كثيراً».(2)

ولكن الإمام علیه السلام - وهو أعرف الناس بنجاح مثل هذه الدعوة - لم يقم لهذا الكتاب وزناً، وبعد اليأس منه كتب إلى محمد بن الحنفية، وكان رأيه من رأي الإمام علیه السلام ، وحاول - فيما يقال - أن يشهر بالمختار واستشار ابن عباس في ذلك فقال له: «لا تفعل فإنك لا تدري ما أنت عليه من ابن الزبير»، يقول الراوي: «فأطاع ابن عباس وسكت

ص: 482


1- جمهرة رسائل العرب ج 2 : 142
2- مروج الذهب ج 3 : 21

عن عيب المختار».(1).

وكان يعطف في نفسه على ثورة المختار، لا لأنها ثورة على ابن الزبير فحسب؛ بل لأن حركتها كانت هادفة في الدرجة الأولى إلى الأخذ بثأر الحسين علیه السلام

وقد عرفنا فيما سبق مدى انفعاله لقتله، ولما رافق قتله من مآس لم يقع لها نظير في التاريخ، وقد أوقع بقتلة الحسين علیه السلام واستأصلهم أو كاد، وكان ممن قتل عمر بن سعد وعبيد الله بن زياد، وكان لقتل عبيد الله بن زياد صدى في نفوس الهاشميين أجمع، وبخاصة ابن عباس، وان يحفظ له هذا الجميل ويجاهر به ومما كان يقول «أصاب بثأرنا وآثرنا ووصلنا».(2)

وكان هو وابن عمر ومحمد بن الحنفية يقبلون هداياه.(3)

وقد ازداد على أثر ذلك - فيما يبدو - حنق ابن الزبير، فقام بآخر محاولة للبيعة، وكان أكثر همه - بعد حركة المختار - هو محمد بن الحنفية لأن المختار قد أتخذ منه إماماً يدعو الناس إلى الثورة باسمه، فإذا بايع له هذا الإمام فقد قطع على خصمه طريق الاستفادة من ذلك، ولكنّ محمداً وجميع الهاشميين أبوا عليه أمره فأمرهم «أن يلزموا شعبهم بمكة، وجعل عليهم الرقباء، وقال لهم فيما يقول : والله لتبايعن أو لا حرّقنكم بالنار».(4)

والذي يبدو أنه فرّق بين صاحبنا ومحمدا ليقطع عليهم سبيل التشاور، فحبس محمداً في زمزم ومنع الناس من الدخول عليه...

ص: 483


1- مروج الذهب ج 3 : 21
2- طبقات ابن سعد ج 5: 73
3- انظر أنساب الأشراف ج 5: 272
4- طبقات ابن سعد ج 5 : 74

«قال سليم أبو عامر: فرأيت محمد بن الحنفية محبوساً في زمزم، والناس يمنعون من الدخول عليه، فقلت: والله لأدخلن عليه.. فدخلت فقلت: ما بالك وهذا الرجل فقال : دعاني إلى البيعة، فقلت: إنما أنا من المسلمين، فإذا اجتمعوا عليك فأنا كأحدهم فلم يرض بهذا مني»(1).. ثم بدا له أن يتخذ منه رسولًا إلى ابن عمه، يسأله رأيه في البيعة بعد هذا الضغط، فقال له فيما يقول: «فاذهب إلى ابن عباس فاقرأه مني السلام، وقل: يقول لك ابن عمك ما ترى؟ قال سليم فدخلت علی ابن عباس وهو ذاهب البصر، فقال: من أنت قلت: أنصاري فقال رُبّ أنصاري هو أشد علينا من عدونا، فقلت: لا تخف أنا ممن لك كله، قال: هات فأخبرته بقول ابن الحنفية فقال: قل له لا تطعه ولا نعمت عين».(2)

ثم أقسم عليه أن يبلّغ ولا يزيد.

ثم بدا لابن الزبير أن يُلقي بآخر سهم لديه في سبيل ذلك، فجمع محمداً وعبد الله بن عباس ومعهم أربعة وعشرون هاشمياً في حجرة زمزم، ووضع عليها الحطب وهددهم بحرقها إن لم يبايعوه - بعد أن ضرب لهم موعداً - وارتئى أن يستنجد محمد بالمختار، فكتب إليه : «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن علي ومن قبله من آل رسول الله إلى المختار بن أبي عبيد ومن قبله من المسلمين .. أما بعد فإن ابن الزبير أخذنا فحبسنا في حجرة ،زمزم وحلف بالله الذي لا إله إلا هو لنبا يعنّه أو ليضر منها علينا بالنار... فيا غوثاه».(3)

وقبيل انهاء الموعد فوجئت مكة ببعث المختار بقيادة أبي عبد الله الجدلي.. يقول

ص: 484


1- طبقات ابن سعد ج 5 : 74
2- طبقات ابن سعد ج 5 : 74
3- تأريخ اليعقوبي ج 3: 8

الراوي: «فقطع المختار بعثاً إلى مكة فانتدب منهم أربعة آلاف، فعقد لأبي عبد الله الجدلي عليهم وقال له: سر فإن وجدت بني هاشم في الحياة فكن لهم أنت ومن معك عضداً، وأنفذ لما أمروك به، وإن وجدت ابن الزبير قد قتلهم فاعترض أهل مكة حتى تصل إلى ابن الزبير، ثم لا تدع من آل الزبير شعراً ولا ظفراً، وقال: يا شرطة الله لقد أكرمكم الله بهذا المسير ، ولكم بهذا الوجه عشر حجج، وعشر عمر.

وسار القوم ومعهم السلاح حتى أشرفوا على مكة، فجاء المستغيث: أعجلوا فما أراكم تدركونهم، فقال الناس لو أن أهل القوة عجّلوا، فانتدب منهم ثمانمائة رأسهم عطية بن سعد بن جنادة العوفي حتى دخلوا مكة، فكبر وا تكبيرة سمعها ابن الزبير فانطلق هارباً حتى دخل دار الندوة، ويقال بل تعلق بأستار الكعبة وقال : أنا عائذ الله».(1)

وهناك نترك لعطية بن سعد مجال التحدث عما شاهده من ضغط ابن الزبير، وكيفية حصاره للهاشميين .. يقول: «ثم مِلنا إلى ابن عباس وابن الحنفية وأصحابهما في دور قد مُجمع لهم الحطب، فأحيط بهم حتى بلغ رؤوس الجدر ، لو أن ناراً تقع فيه ما رئي منهم أحد . . حتى تقوم الساعة، فأخّرناه عن الأبواب وعجّل علي بن عبد الله بن عباس – وقد أحس بنشوة الظفر - وهو يومئذ رجل فاسرع في الحطب يريد الخروج فأدمى ساقيه، وأقبل أصحاب ابن الزبير فكنا نحن وهم في المسجد نهارنا ونهاره، لا ننصرف إلا إلى صلاة، حتى أصبحنا وقدم أبو عبد الله الجدلي في الناس فقلنا لابن عباس وابن الحنفية: ذرونا نريح الناس من ابن الزبير».(2)

وهنا يتجلى الفارق بين النفسيتين.. بين نفسة آل البيت التي تركت الحسين علیه السلام يخرج عن مكة لئلا يستباح به حريمها، وخصومهم من الأمويين وآل الزبير، وقد عرفنا

ص: 485


1- طبقات ابن سعد ج 5 : 74
2- المصدر السابق ج 5 : 75

موقفهم من هتك حرمتها في الحرب التي عرّضت الكعبة للحريق.

فكان جواب ابن عباس وصاحبه - على ما كان لديهما من ثورة نفسية وتألم من

موقف خصمهما منها ، ثم إحساسهما بالظفر -: «هذا بلد حرّمه الله، ما أحلّه لأحد إلّا للنبي صلی الله علیه و آله وسلم ساعة، ما أحلّه لأحد قبله، ولا يحلّه لأحد بعده، فامنعونا وأجيرونا».(1)

ثم خرجوا بهم إلى منى «وإن منادياً لينادي في الجبل ما غنمت سرية بعد نبيها ما غنمت هذه السريّة، إن السرايا تغنم الذهب والفضة، وإنما غنمتم دماءنا».(2)

وفي منى أقاموا ما شاء الله أن يقيموا، ثم خرجوا بهم إلى الطائف.

ومن طريف المفارقات أن يعرض عروة بن الزبير إلى هذا الموقف من أخيه تجاه الهاشميين، ولقد لحقه عارها، فحاول تبريره بالاعتذار بأنه لم يرد حرقهم، «وإنما أراد بذلك إرهابهم؛ ليدخلوا في طاعته، كما أرهب بنو هاشم وجمع لهم الحطب لإحراقهم إذا أبوا البيعة فيهما سلف».(3)

وكأنه يشير إلى حادث السقيفة، وما جرى فيه لأهل البيت عليهم السلام، فكأن وجود مشابه لهذه الحادثة فيما سلف كان كافياً لتبرير هذه الجرأة!! بتعريض هذه الأسرة إلى الحرق لو أصاب ذلك الحطب شرار من نار، ولو كان عابراً.

وما أدري أي المشهدين أعظم أثراً في نفس صاحبنا ، وقد كُتب له أن يكون بطلاً فيهما، وقد سبق أن التمسنا أثر أولهما فيه، فماذا كان أثر الثاني؟....

ص: 486


1- طبقات ابن سعد ج 5 : 75
2- المصدر السابق، وانظر أسد الغابة ج 3: 195
3- مروج الذهب ج 3 : 24

آخر المطاف

أخاله أن مرض وفاته كان مستنداً في بعض عوامله إليه، فحسبه – من كبر السن و ازدحام الحوادث عليه وتنوعها على نحو ما مر - ما يكفي لتهيئة جو للتأثر بأية صدمة من هذا النوع، فقد كُتب لصاحبنا أن لا يطول أمده بعد خروجه إلى الطائف، وأن يفاجأ بمرض الوفاة.

والمؤرخون لا يحددونه، فلا نملك أن نقول فيه كلمة.

وكأنني أتمثله وقد قعد به المرض وهو يعرض صوراً من حياته مليئة بالأسى، وربما وقف فأطال الوقوف في الفترة التي قضاها مع بطله الإمام علیه السلام ؛ لشدة علقته به وإعجابه بسيرته، وها هو ذا أحد عوّاده يحدّث عنه فيما يحدّث، وقد أغمي عليه وهو في البيت فأخرجوه إلى صحن الدار، ولما أفاق سمعه يردد بهذا الدعاء: «اللهم إني أحيى على ما حيي عليه علي بن أبي طالب، وأموت على ما مات عليه علي بن أبي طالب».(1)

وقد صدق في شهادته على نفسه، وله - من سيرته التي عرضناها وبعض صفاته التي سنعرضها - شاهد على ذلك.

وكان آخر قربان قدّمه بين يديه هو إيمانه بولاية علي بن أبي طالب علیه السلام ، وقد سمعنا - فيما سبق - صداها في نفسه في مختلف أدوار حياته، وها هو ذا يسمعنا إياها وقد حضرته الوفاة، أخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن السدي عن أبي صالح: «لما حضرت

ص: 487


1- رجال الكشي : 54 - 55

قال : أللهم إني أتقرب إليك بولاية علي بن أبي طالب»(1). وفي قول يحيى بن الحسن بن البطريق أنها كانت خاتمة عمله.(2)

وهكذا انتهت حياته وأعلن خبر الوفاة، وبالطبع كان لهذا الخبر أسوأ الوقع في نفوس أهل الطائف عامة، وتلامذته وأهليه على الأخص.

وقد رافق موته بعض الظواهر ولا نعرف مدى صحتها، وقد أجمع أو كاد على روايتها مؤرخوه، وربما ناغمت عواطف أبنائه من خلفاء بني العباس، فكان لأتباعهم فيها نصيب

والذي أقربه أن لبعضها نواة من الصحة، وقد يكون للصدفة فيها بعض الأثر.. وإلا فمن البعيد أن يُجمع مؤرخوه على ذكرها وهي مختلقة من الأساس.. يقول سعيد بن جبير فيما يُؤثر عنه: «لما مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته، فجاء طائر أبيض لم ير على خلقه، فدخل في نعشه ولم ير خارجاً منه».(3)

وفي رواية بعضهم أنه الغرنوق.(4)

وربما سقط هذا الطائر على نعشه صدفة، وشاهده المحدّث وغيره، ولم يلتفتوا له عندما طار.

ومثل هؤلاء المحدّثين كانوا ينطوون على إكباره وتقديسه بحكم صحبتهم له،

ص: 488


1- الدرجات الرفيعة - المطبعة الحيدرية، النجف سنة الطبع 1381 ه- - : 140 نقلًا عن مسند أحمد، وانظر بشارة المصطفى - المطبعة الحيدرية، النجف سنة الطبع 1383 ه-: 239
2- انظر المصدر السابق
3- أسد الغابة ج 3: 195
4- انظر الإصابة في تمييز الصحابة ج 2 : 334

وخبرتهم لجملة صفاته، وفي بعضها ما يلحقه بمقام القديسين، فليس من البعيد أن لا يخطر في أذهانهم وقد شاهدوا هذه الظاهرة غير تفسيرها بما يعود إلى الكرامات.. يقول عفان: «وكانوا يرون علمه وعمله»(1). وفي بعض الروايات أن الطائر خرج من قبره لا وقع على نعشه، فأوّلوا ذلك علمه خرج إلى الناس.(2)

(2)

ولك - بعد ذلك - أن تتساءل عن علاقة علمه أو عمله بالطائر الأبيض، ولم تشكل علمه بشكله دون غيره من الطيور ؟! وهل سبق أن تجسد علم أو عمل لأحد الأولياء وشاهده الناس ؟! ولم اختص هو بهذه الكرامة؟! إلى ما هنالك من تساؤلات لا أعرف لها جواباً.

ومهما يكن، فمثل هذه الأحاديث إن فقد مدلولها الغيبي، بالتماس تأويل لها من الصدفة أو غيرها، فلن تفقد دلالتها - على تقدير صحتها - على تركّزه في نفوس الناس، حتى كاد يلتحق بمقام القديسين والأولياء في أنظار معاصريه، وتلتمس له أمثال هذه التأولات.

وما يقال عن هذه يقال عن الهاتف الذي سُمع يقول - وقد دلّيت الجنازة في قبرها - : «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ»«ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً»«فَادْخُلِي فِي عِبَادِي»«وَادْخُلِي جَنَّتِي»(3) يقول الراوي: ولا يدرى من تلاها».(4)

ومثلها حديث السحابة التي أمطرت قبره ثلاثة أيام، حتى قال يزيد بن عتبة مسجلاً هذه الظاهرة..

ص: 489


1- البداية والنهاية ج 8: 306
2- انظر ذخائر العقبى: 237
3- الفجر : 27 - 30
4- المستدرك على الصحيحين ج 544:3

«صبت ثلاثاً سماء الله رحمتها***بالماء مرت على قبر ابن عباس

قد كان يخبرنا هذا ونعلمه***علم اليقين فمن واع ومن ناسي

إن السماء يروّي القبر رحمته***هذا لعمري أمر في يد الناس».(1)

وقد أقحمت من الراوي على هذه الأبيات أبيات أخرى من قصيدة ثانية، قالها شاعرها في مدحه بعد حادثة الحكمين، وقد سبقت الإشارة إليها وهي..

لو كان للقوم رأي يعصمون به***عند الخطوب رموكم بابن عباس

لله درّ أبيه أيا رجل***هل مثله عند فصل الخطب في الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن***لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس.(2)

وقد تولى أمره والصلاة عليه ابن عمه محمد بن الحنفية، ومن أولى به منه، وقال في تأبينه : «اليوم مات رباني هذه الأمة»(3)، وفي رواية : «مات والله اليوم حبر هذه الأمة».(4)

وقيلت كلمات في تأبينه ربما جئنا عليها عند تقييمنا لعلمه، كقول رافع بن خديج: «مات اليوم من كان يحتاج إليه من بين المشرق والمغرب من العلماء»(5)، وكقول جابر بن عبد الله - حين بلغه موت ابن عباس وصفق بإحدى يديه على الأخرى : «مات اليوم أعلم الناس وأحلم الناس، وقد أصيبت به هذه الأمّة مصيبة لا تُرتق».(6)

وضرب محمد بن الحنفية على قبره فسطاطاً .(7)

ص: 490


1- المستدرك على الصحيحين ج 544:3
2- انظر شرح نهج البلاغة ج 1 : 190
3- ذخائر العقبى : 237
4- الإصابة في تمييز الصحابة ج 2 : 334
5- البداية والنهاية ج 8: 300
6- البداية والنهاية ج 8 : 300
7- انظر ذخائر العقبى: 237

أما متى كانت وفاته فالذي عليه أكثر مؤرخيه - بل نقل في الإصابة (1) الاتفاق عليه - هو سنة ثمان وستين من الهجرة، ولكن روايات شاذة - لا تستحق أن يطال فيها الحديث - تروي غير ذلك، ففي بعضها أنه توفي سنة ثلاث وستين، وفي أخرى سبع وستين، وثالثة تسع وستين ورابعة سبعين، وخامسة ثلاث وسبعين، وكلها كلمات - كما في البداية والنهاية - شاذة غريبة مردودة .(2)

ويبدو من بعض الروايات أنه أدرك من هذه السنة - الثامنة والستين أو التي بعدها - مقتل المختار، وكان المخبر له عبد الله بن الزبير، وما أدري أين اجتمع به فتوجّع له، يقول المحدث: «وقال عبد الله بن الزبير لابن عباس وقد أخبره بأمر المختار فرأى منه توجعاً وإكباراً لقتله : أتتوجع لابن أبي عبيد وتكره أن تسميه كذاباً؟ فقال له: ما جزاؤه ذلك منا، قتل قتلتنا، وطلب بدمائنا، وشفي غليل صدورنا»(3). ثم يذكرون له حديثاً مع عروة بن الزبير بعد أن أخبره بقتل المختار والمجيء برأسه، فقد قال له: «قد بقيت لكم عقبه إن صعدتموها فأنتم أنتم ، يعني عبد الملك وأهل الشام» .(4)

ويقال إنه ذكر عنده المختار - وظاهر الدعاء أنه بعد مقتله - فقال: «صلّى عليه الكرام الكاتبون».(5)

وما أدري قيمة هذه الروايات وقربها من الصحة، وملابسات الأحوال كلّها لا تساعد على تقبّلها

ص: 491


1- انظر الإصابة في تمييز الصحابة ج 2 : 334
2- انظر البداية والنهاية ج 8: 306
3- أنساب الاشراف ج 5 : 265
4- أنساب الاشراف ج 5 : 265
5- المصدر السابق ج 5 : 266

وفي بعض الأحاديث محاولة لمد عمره إلى ما بعد مقتل ابن الزبير، ففي حديث هشام بن عروة قال: «قال عبد الله بن عباس للجائز به جنبني خشبة ابن الزبير، فلم يشعر ليلة حتى عثر فيها، فقال: ما هذا؟ فقال: خشبة ابن الزبير .

فوقف ودعا له فقال : لئن علتك رجلاك لطالما وقفت عليهما في صلاتك، ثم قال لأصحابه: أما والله ما عرفته إلّا صوّاماً قواماً، ولكنني ما زلت أخاف عليه منذ رأيته أن تعجبه بغلات معاوية الشهب .

قال: وكان معاوية قد حج فدخل المدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء، عليها رجائل الأرجوان، فيها الجواري عليهن الجلابيب والمعصفرات ففتن الناس».(1) (1).

وأثر الافتعال على هذه الرواية ظاهر، والأمر لا يدعو إلى إطالة الحديث فيها وفي أمثالها، بعد ما صح لدينا ما عر لدينا ما عرضناه من تحديد سنة الوفاة.

لنختم الحديث في هذا الجزء فنتحول إلى التحدث عن شخصيته وعرض آثاره، وهو ما يشكل الجزء الثاني لهذا الكتاب...

ص: 492


1- العقد الفريد - تحقيق محمد سعيد العريان، مطبعة الاستقامة ، مصر ، ط 2 ، سنة الطبع 1372ه- ج 5 : 157

المحتويات

ص: 493

ص: 494

المحتويات

تصدير...5

أولاً: مسيرته الحياتية وسيرته العلمية....10

ثالثاً: مؤلفاته المخطوطة....15

رابعاً: قدّم بمقدمات ضافية لمجموعة من الكتب منها:....16

خامساً: الدوريات والمجلات التي نشر فيها بحوثه ومقالاته....17

سادساً: وفاته ومدفنه....17

المقدمة....21

تمهيد أضواء على الكتاب....23

اضطراب تأريخه....23

أسباب الوضع عليه....26

مع المستشرقين....35

منهج المؤلف....37

الفصل الأول :

حتى المراهقة....41

هذه المرحلة....43

أبواه....45

أمه....49

ص: 495

ولادته....53

الطفولة المبكرة....55

العودة إلى مكة....63

نقطة التحوّل....71

على أبواب المراهقة....77

أحزاب المسلمين....83

موقفهم من الخلافة....89

في حجة الوداع....93

البلاغ العام....100

طرق المعارضة....107

يوم الاثنين....121

وفاة الرسول....125

اجتماع السقيفة....131

أحداث ما قبل الدفن....145

دفن النبي صلی الله علیه و آله وسلم....159

أحداث ما بعد الدفن....163

النبوغ المبكّر....183

الفصل الثاني

مراحل الشباب....187

مع الخليفة الثاني....189

مجلس الشورى....237

ص: 496

مع الخليفة الثالث....245

مع الإمام علي علیه السلام في خلافته....281

مع الإمام الحسن علیه السلام في خلافته....397

الفصل الثالث

حتى الوفاة....402

مع معاوية في أيام حكمه....405

مع يزيد في أيام حكمه....451

مع عبد الله بن الزبير....473

آخر المطاف....487

المحتويات....493

ص: 497

ص: 498

المجلد 2

هویة الکتاب

العَتَبَةُ العَبَّاسِيَّةُ المُقَدَّسَةُ

قِسمُ الشُّؤُونِ الفِكرِيَّةَ وَ الثِّقَافِيَّةَ

شعبة العلام

عَبدُ الله بنِ عَبَّاس

الجُزءُ الثّاني

حياته وسيرته

تأليف

السيد محمد تقي الحكيم

مُرَاجَعَة

وَحدَةُ الدِّرَاسَاتِ وَ النَّشَرَاتِ

ص: 1

العَتَبَةُ العَبَّاسِيَّةُ المُقَدَّسَةُ

قِسمُ الشُّؤُونِ الفِكرِيَّةَ وَ الثِّقَافِيَّةَ

شعبة العلام

وَحدَةُ الدِّرَاسَاتِ وَ النَّشَرَاتِ

كربلاء المقدسة

ص.ب (233)

هاتف: 322600 داخلي: 175-163

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

الكتاب: عبد الله بن عباس / حياته وسيرته.

الكاتب : السيد محمد تقي الحكيم.

الناشر : قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة.

التصميم والاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.

رقم الايداع في دار الكتب والوثائق: 3001 لعام 2012 .

المطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر

الطبعة: الثالثة.

عدد النسخ: 2000 .

محرم الحرام 1434 - كانون الثاني 2012

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

ص: 3

ص: 4

الشخصية وعناصرها

وأخالنا بعد هذه الجولة في مختلف أنحاء حياته، وبعد هذه الرفقة المتأنيّة لأغلب ما أُثر : عنه، سواء في مجالاته النفسية، أم الاجتماعية، ثم بعد هذه الاستعانة بما ألقى عليه معاصروه من اضواء التمسنا الكثير منها في بحثنا السابق، وما ألقى هو على نفسه الواعية وغير الواعية منها، أخالنا بعد هذا كله نستطيع أن نعود إليه؛ لنلتمس بعض معالم شخصيته ونحددها وندرسها دراسة واعية في حدود ما نملكه في هذه المجالات من معرفة ، وبخاصة بعد أن تكاملت هذه المعالم ، وبرزت جملة خصائصها بما اكتنفها من عوامل فسلجيّة أو بيئية أو بيولوجية، ظهر بعضها في أواخر حياته.

والشخصيّة في مدلولها النفسي التكاملي من أشد المفاهيم وأكثرها غموضاً؛لاشتمالها على «جميع الصفات الجسمانية والوجدانية والعقلية والخلقية، وفي حالة تفاعلها بعضها مع بعض وتكاملها في شخص معين يعيش في بيئة اجتماعية معينة»(1) فهي «كالكهربائية أو الأثير أو المغناطيسية لا تعرف إلا بآثارها».(2)

وكل ما ذكر لها من تعاريف فهي لا تعدو أن تكون من قبيل الرسوم الناقصة، التي تعمد إلى التحديد باللوازم والآثار ، وليس فيها ما يتلاءم وواقعها طرداً أو عكساً، وقد عرفها بعضهم بأنها «المجموعة المنظمة من الأفكار والسجايا والميول والعادات التي

ص: 5


1- مبايء علم النفس العام - يوسف مراد، مطبعة المعارف، مصر، سنة الطبع 1948م -: 337
2- شخصية الفرد العراقي - مطبعة الرابطة، بغداد سنة الطبع 1951 - : 8

يتميز بها شخص ما عن غيره»(1)، وهو تعريف لا يتمشى مع واقعها كوحدة؛ لما توحي به كلمة (المجموعة) من تجزيئيّة وتجريديّة.. ونظيره كل ما ورد لها من تعاريف.

وإذا كنا لا نرضى للعلماء بهذه التجزيئيّة في مجال التعريف فإننا نساق إليها سوقاً حين نحاول دراسة صاحبنا، والتماس عناصر شخصيّته، فعرضها كوحدة مما يستحيل على الباحث مهما كان له من الشأن.

فنحن إذاً مضطرون إلى تفكيك أواصرها تفكيكاً قد لا يرضى عنه المعنيون بهذه البحوث

وتيسيراً للبحث نوزّعها كما وزّعها بعض العلماء النفسيين إلى ثلاثة أقسام:-

أولاً : الصفات الجسمية والمزاجية.

ثانياً : الاستعدادات الفطرية المختلفة، وما ينشأ عنها عادة من عواطف وأخلاق وعقد.

ثالثاً : القدرات العقليّة فطرية ومكتسبة.(2)

وفي حدود هذا التقسيم سنتكلّم عن أهم ما ورد من عناصر شخصية ابن عباس هذه المجالات الثلاثة.

ولنا - من انطباعاته الذاتية وتأمله الباطني، ثم من انطباعات وتأملات معاصريه عنها - روافد تمدّنا بالمزيد من هذا الحديث.

ونختمها بعد ذلك في التحدّث عن جاذبيته والتماس عواملها.

ص: 6


1- شخصية الفرد العراقي: 9
2- انظر أسس الصحة النفسية - مطبعة النهضة المصرية، ط4 ، سنة الطبع 1371 ه-: 89

أولاً: صفاته الجسمية والمزاجية

ذكر المؤرخون صفاته الجسمية وأطنبوا فيها على اختلاف بينهم في بعضها، واتفاق على تكاملها ، فهو فيما يصفه معاصروه« كان جسيماً ، إذا جلس يأخذ مكان رجلين جميلاً له وفرة»(1)، «وكان وسيما أبيض طويلًا».(2)

وقد اعترى لونه - بعد ما اصابته عاهة العمى - شيء من الصفرة(3)، وفي وصف الدار قطني له أنه كان «أبيض مشرباً بشقرة جسيماً وسيماً صبيح الوجه».(4)

ولكنّ ابن مندة يقول إنّه كان «مشرباً بصفرة»(5) لا بشقرة، وربّما كان الاختلاف ناشئاً من تعدّد الزمن الذي وصف به، وفي الرواية السابقة أنّ الصفرة اعترته بعد أن أصيب بعاهته، أو أنّ الرؤية وقعت عليه بعد أن أبل من مرض أصيب به؛ فاعتراه ما اعتراه من الصفرة.

ومهما يكن فإن ما سجّلوه له من الصفات يدلّ على حسنه وجماله، ولا أقلّ من رؤيتهم له كذلك، فقد كان يراه مسروق أجمل الناس وأفصحهم (6)، ويراه عمر بن

ص: 7


1- البداية والنهاية - مطبعة السعادة ، مصر ، ط 1 ، سنة الطبع 1351ه- ج 8: 306
2- ذخائر العقبى - مطبعة القدسي والسعادة، مصر، سنة الطبع 1356 ه-: 226
3- انظر البداية والنهاية ج 8: 306 ، وانظر الإصابة في تمييز الصحابة - مطبعة السعادة، مصر، ط 1 ، سنة الطبع 1328 ه- ج 2 : 331
4- ذخائر العقبى : 226
5- الإصابة في تمييز الصحابة ج 2 : 331
6- انظر ذخائر العقبی 229 ، وانظر الإصابة في تمييز الصحابة ج 2 : 333

الخطاب أصبح الفتيان وجهاً (1)، وما أكثر ما ورد في حقه من أمثال هذه الأوصاف.

وقيل : إن رجلاً نظر إلى هيأته وطوله فلفته ذلك، وسأل عنه فقيل : ابن عم رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فقال: «الله أعلم حيث يجعل رسالته».(2)

وقد سبق أن قلنا: أنّ صفاته هذه كانت جلّها موروثة عن أبيه العباس، لتقارب ما يذكرون عنهما.

والظاهر أنّ البيت الهاشمي كان - في أغلب أفراده - ذا طابع جمالي متميّز .

ويبدو أنّ ابن عباس كان يقيم لكماله الجسمي وزناً، فكان يعالج ما يطرأ عليه بالمحسنات، فهو يعالج كريمته بعد الشيب بالخضاب؛ لتحتفظ بطالعها الرائع، وكان خضابه الحنّاء على رواية والسوداء في أخرى والصفرة في ثالثة.(3)

وكان يعنى بالطيب، والمسك منه على الأخص ، فكان - فيما يحدث مولاه عكرمة - : «يطلي جسده بالمسك»(4)، وكان يقول الناس إذا مر : «أمرّ ابن عباس أم مرّ المسك؟»(5)، وقد رآه الهاشمي فيما يقول: «حين أحرم والغالية على صلعته كأنّها الرُّب».(6)

كما كان يعنى بملبسه، فكان يلبس الرداء بألف(7)، وكان يلبس المطرف من الخز المنصوب الحوافي بمزالف، ويأخذه بألف (8)، وعلى كثرة ما عُرف من كرمه كان يضنّ

ص: 8


1- انظر البداية والنهاية ج 8: 299
2- ذخائر العقبى : 227
3- انظر المصدر السابق: 226
4- عيون الأخبار - مطبعة الكتب المصريّة، سنة الطبع 1343 ه- ج 1 : 304
5- المصدر السابق ج 1 : 304
6- المصدر السابق ج 1 : 303
7- انظر عيون الأخبار ج 1 : 298
8- انظر المستدرك على الصحيحين - مطبعة دار المعارف حیدر آباد، ط 1، سنة الطبع 1334ه- ج 3: 545

بالثياب الثمينة عن إهدائها ... يروى أنّ صديقاً أهدى له «ثياباً من ثياب مصر وعنده أقوام، فأمر برفعها، فقال له :رجل ألم تخبرنا أنّ من أهديت له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها ! فقال : إنّما ذلك فيما يؤكل ويشرب ويشم، فأما في ثياب مصر فلا».(1)

وربما آخذه بعض المتزمتين على شدّة ترفه في لباسه، فجبههم بالآية المباركة «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ».(2)

يقول بعض الرواة وهو يصف موقفه من الخوارج حين بعث به الإمام علي علیه السلام المحاججتهم: «ثم لبس حلّتين من أحسن الحلل، قال: وكان ابن عباس جميلاً جهيراً - ثم يحدّث عنه - يقول: قال فأتيت القوم فلما بصروا إلي قالو: مرحباً بابن عباس فما هذه الحلّة ؟ قال : قلت : وما تنكرون من ذلك، لقد رأيت على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حلّة من أحسن الحلل، قال: ثم تلوت عليهم «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ»(3) .. إلى آخر ما جاء.

ويبدو لي أن قواه الجسميّة كانت متكاملة في أغلب سنيّ حياته، وفي حدود ما قرأت من تأريخه لم أعثر على مرض أصيب به، اللهم إلّا أيام عمر بن الخطاب، حين مرض وعاده وقال له – كما سبق - : أخل بنا مرضك، وإلّا حادثة العاهة التي أصيب بها، ومرض الوفاة.. على رغم ما شاهد من الحوادث المؤلمة ، فإنّه قابلها وتغلب على عوارضها، بما يملكه من صحّة قد تكون لجذورها الوراثية، ثمّ لحسن التغذية التي حصل عليها منذ صغره - بحكم يسر أبيه ، ثم يسره هو وعدم اشتهاره بالزهد والتقشف - أعمق الأثر

ص: 9


1- عيون الأخبار ج 3: 36
2- الأعراف: 32
3- ذخائر العقبى : 232

في ذلك.

أمّا مزاجه فهو - فيما أعتقده وتدلّني عليه جملة أخباره الماضية والقادمة - وسط الانطواء، إذا صح تصنيف يونج للشخصية إلى هذين الصنفين (1)، وربما كان أقرب إلى الانبساط منه إلى الانطواء، ففيه من مميزات الانبساط سرعة الملاءمة بينه وبين المواقف الجديدة الطارئة، وطبعاً في حدود عقيدته - كما سبق أن رأينا مواقفه في مراحل الشباب في الجزء الأول من هذا الكتاب من بعض الحوادث الجديدة عليه - كما أن فيه من مميزات تحقيق التوافق من طريق التعويض ، وقد سبق أن رأينا ذلك منه أيضاً حين كان عرضة لبعض العقد النفسيّة، التي ولّدت من الشعور ما يحتاج معه إلى ذلك.

واهتمامه بالأمور الخارجيّة، وتوجيه سلوكه إليها، هو الآخر من مميزات انبساطه.. كما سنرى في الفصول الآتية .. إلى ما هنالك من تلكم المميزات التي توفرت فيه.

وإذا صحّ ما اعتبروه من المميّزات الجسمية للمنبسط، فإنّ الكثير منها يتوفّر فيه أيضاً، فهذه السمنة التي مكنته من أن يأخذ مكان رجلين ، ثم هذا الصلع الذي اعتراه، كما تشعر به الرواية السابقة، كل ذلك من أمارات الانبساط فيه، وإذا كان فيه ما يبعده عن بعضها، كبعده عن السطحية في أفكاره، وتعمقه في المجالات التي تحتاج إلى عمق في معالجة مشاكلها، ونظرته إلى الغيب من ستر رقيق - كما ورد في وصفه - فإن ذلك وأمثاله مما سوّغ لنا أن نعتبره من الأنماط المتوسطة بين هذا وذاك، وليس المهم أن نطيل الوقوف في هذا الجانب من جوانب شخصيته؛ ما دامت أضواؤه في الغالب ماثلة فيما يأتي من فصول.

ص: 10


1- انظر مبادئ علم النفس العام: 348

ثانياً: استعداداته الفطرية

اشارة

ویراد بالاستعدادات الفطرية تلك القوى الموروثة التي تدفع صاحبها «للقيام بسلوك خاص إذا ما أدرك نفسه في موقف أو مجال معين».(1)

وعلى اختلاف العلماء في عددها، وفي مركز الثقل فيها، فإنّ رأي مكدوجل هو أكثرها شيوعاً وأقواها حتى الآن، وقد بلغ بها في أواخر مراحل حياته ثماني عشرة غريزة، لعل أهمها غريزة السيطرة، والمقاتلة، والخلاص، والوالدية، والاستطلاع، والغريزة الجنسيّة، والتملك، والضحك.(2)

وقد أضاف إليها العلماء دوافع عامة، عدّوا من بينها المشاركة الوجدانية، والتقليد،والقابلية للاستهواء واللعب.(3)

وابن عباس - كغيره من الناس - ولد وهو مزوّد - بحكم الوراثة - بهذه الاستعدادات على اختلافها، وإن اختلف عن الكثير منهم في طرق تحقيقها والتعبير عنها، وهي تختلف باختلاف بيئات الأشخاص ومجتمعاتهم، وأساليب تربيتهم، تبعاً لما تخلقه من أثر الرقابة الدقيقة التي تقوم فيهم بوظيفة الموازن بين ما تهضمه عادات وتقاليد المحيط من أساليب التعبير عن هذه الدوافع وتحقيقها، وما لا تهضمه، فتأذن لما تكيف منها وفقها وتحول دون غيرها مما تأباها تقاليد المحيط.. اللهم إلّا إذا طرأ على

ص: 11


1- أسس الصحة النفسية : 63
2- انظر المصدر السابق: 63 - 64
3- انظر المصدر السابق: 68

الرقيب ما يعطّل وظيفته أو يضعفه أو يخدّره من العوامل، حسب ما نراه في قسم من الشواذ، أو في حالات شاذة للمستوين من البشر.

وهذا الرقيب أو الضمير يستمد مثله عادة من المحيط الذي يعيش صاحبه فيه، مهما كان في تلكم المثل من المفارقات، ويظل حارساً أميناً عليها، يسير صاحبها وفقها في حدود ما يستطيع، فإذا شدّ صاحبه عن بعضها بتأثير بعض العوامل النفسية التي تتغلّب عليه اوقعه تحت وطأة من تأنيبه وتقريعه بصورة لا تعرف إلى الرحمة سبيلاً، وكثيراً ما يلتجئ صاحبه إلى خلق التبريرات النفسية، ليخفّف بها من ثقل ذلك التأنيب والتقريع.

ولكن العباقرة والمصلحين هم الذين لا يخضعون لمثل وقيم المحيط وإنما يرسمون لضمائرهم مُثُلاً عليا، يخضعون لها التعبير عن تلكم الدوافع الأولية، ولولا هؤلاء لما أمكن تطوير المجتمعات ورفع مستواها الخلقي بحال.

وإذا صحّ هذا رجعنا إلى بيئة ابن عباس لالتماس مثلها وتقاليدها لنعرف مدى ما به ضميره منها ، ثم رجعنا إلى واقع صاحبنا للموازنة بين ما تقبل منها وسار عليه في سلوكه العام، وبين ما خرج عليه مما يراه من مفارقات، ثم مدى تحكّم هذا الضمير أو الرقيب الاجتماعي في ذلك السلوك.

وبيئة صاحبنا بيئة إسلامية محافظة تستمد تعاليمها منذ بدايتها من رسالة الإسلام.

وقد سبق أن قلنا في حديث مضى إن الإسلام دخل بيته قبل ولادته بإسلام أمه وأهل بيته، ومن لم يُسلم منهم إذ ذاك كأبيه - على رواية - فخلقه العام - فيما نعلم - متأثر بأجواء الإسلام

ولا ننسى أنّ الإسلام فاجأ العرب بقيم جديدة، ولطف من قيم أخرى، وكان من جراء ذلك صراع قوي بين القديم منها والحديث أدرك ابن عباس خطوطه الواضحة

ص: 12

حين وعى على نفسه وعلى مجتمعه، وشاهد بعض معالم ذلك الصراع.

وفي الجزء الأول من هذا الكتاب رافقناه مرحلة مرحلة، وسجّلنا الكثير من ملابسات ما شاهده من صراع، كان في أكثر أيام حياته طرفاً له من أنصار القيم الحديثة،وهذا - بالطبع - مما يؤكد من اهتمام ضميره بتعلم تلكم القيم والمثل الجديدة، ويعطيه يقضة دائمة تحول بين صاحبها وما يتنافى معها من دوافعه واستعداداته الذاتيّة

فضميره إذاً وليد قِيَم الإسلام ومثله، وعلى ضوء هذه القيم تقوم محاولاته في تكييف دوافعه واستعداداته وفق ما تقتضيه وتدعو إليه.

وهنالك بعض المثل التي رسمها لنفسه، وقيّد نفسه فيها ربّما تكون جذورها مستمدة من روح الإسلام، وإن لم نستطع إرجاعها إلى نصوص إسلامية في حدود ما وصل إلينا منها .

وهي تتعلّق غالباً بأدب اللياقة الاجتماعيّة التي تحدد صلاته بالآخرين.

وهذه القيم والمثل يحدد بعضها علائقه بربّه، وبعضها علائقه بمجتمعه وبيئته، وثالثة بذاته.

1- علائقه بربه.

اشارة

ونريد منها ما يدعوه الفقهاء بالأحكام الإسلامية سواء ما تعلّق منها بالمعاملات أم العبادات، ومدى التزامه بها.

وفي حدود ما قرأته من تأريخ حياته لم أعثر على مفارقة واحدة صحت عنه تخرجه على هذه المبادئ ، اللّهم إلّا ما يبدو من حادثة بيت المال، وقد عرفنا واقعها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وانتهينا - أو هكذا نخال - إلى أنه لم يخرج - فيها على حكم

ص: 13

إسلامي في حدود اجتهاده الخاص.

وفي معالم سيرته ما يشير إلى شدّة احتياطه في شؤون الدين، وربّما عرضته شدّته إلى نقمة بعض الانتهازيين من الشعراء، يوم كان والياً على شؤون البصرة.. كما سنراه في موضعه من هذا الحديث، ولو صدر من مثله ما يتنافى مع هذه الأحكام؛ لأقام عليه الدنيا وأقعدها، وبخاصة وأنّ له ولولده من الخصوم ما لا يصبرون على أية فضيحة يرونها أو يمكنهم إلصاقها به، ومع ذلك لم نجد من هذا النوع، بل كلّ ما وجدناه على اختلاف مؤرخيه في القرب منه ،ومن آله، والبعد عنهم ما يرفعه إلى القمة، وبخاصة فيما يتعلّق بشؤون علائقه القريبة بربّه، فلنخصها بشيء من الحديث ..

عبادته

لقد اهتم مؤرخوه في التأكيد على هذا العنصر من عناصر شخصيته فأكثروا من الحديث عنه، وربّما دخل في بعضه عنصر المبالغة، وإن كنت لا أشك في أكثر ما ورد عنه في هذا الباب.

وليس كثيراً على من ترسم خطى بطليه - النبي صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علي علیه السلام - وهما من هما في عوالم العبادة أن يكون بهذا المستوى منها.

وفي الحقيقة أنّ العوامل التي أكدت فيه هذا الجانب تعود في أصولها إلى أربعة:

1- نوع تربيته. وقد سبق لنا أن رأينا كيف كان أبوه يبعث به إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم ليبيت عنده ويحفظ له كل ما يأتي به من الأفعال العبادية كالصلوات والأدعية والأوراد، وكان يقوم له بهذه المهمة، ثم رأيناه كيف كان يتأثر خطاه، سواء عن طريق الاستهواء أم التقليد، فيصلّي كما يصلّي، ويدعو كما يدعو.

والنبي صلی الله علیه و آله وسلم يرسل في حقه كلمات التشجيع.

ص: 14

ويتعاهده بتعاليمه الخاصة في هذا المجال ثم ملازمته للإمام علي علیه السلام وترسّم خطاه.

2- اعتبار المحيط لها قيمة من أهم قيمه التي يقام للأشخاص بها أعظم الأوزان، وبخاصة بعد أن استتب الإسلام، وقضى على العهد الجاهلي.

3- إيمانه من وجهة عقلية بالله خالقاً ومدبّراً ومنعماً، ومن أيسر شكره أن يؤدّي له هذه الطقوس العبادية، كوسيلة من وسائل الشكر التي يؤمن بها أحرار العقلاء، ويرونها ضرورة عقليّة تقتضيها طبيعة الإنعام.

4- إيمانه باليوم الآخر بما فيه من وسائل الجزاء ثواباً وعقاباً.

ومع هذه العوامل مجتمعة لا نستكثر عليه جلّ ما جاء عنه من أحاديث عباداته، بما رافق بعضها من ألوان الخضوع والخشوع والبكاء، يقول عبد الله بن أبي ملكيه: صحبت ابن عباس (رضي الله تعالى عنه) من مكة إلى المدينة، فكان إذا نزل قام شطر الليل. ويسأله أيوب: كيف كانت قراءته ؟

فيجيبه أنه كان يقرأ: «وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَعِيدُ»(1) ، فجعل يرتّل ويكثر في ذاكم النشيج».(2)

ويقول غيره: كان يصوم يوم الاثنين والخميس، ويقول: أُحبّ أن يرتفع عملي وأنا صائم.(3)

وقد بالغوا في كثرة بكائه، حتى قال شعیب بن درهم كان«في هذا المكان، وأومأ

ص: 15


1- ق: 19
2- حلية الأولياء - مطبعة السعادة، مصر، ط1 ، سنة الطبع 1351ه- ج 1 : 327
3- انظر البداية والنهاية ج 8: 303

إلى مجرى الدموع من خدّيه، - يعني خدّي ابن عباس - مثل الشراك البالي من البكاء».(1)

ولهذا ونظائره من عباداته الكثير، وتقيّده بالأحكام الشرعيّة على اختلافها - صحّ لطاووس أن يقول فيه: «ما رأيت أحداً كان أشدّ تعظيماً لحرمات الله تعالى من ابن عباس».(2)

وكان - لاشتهاره بالتقوى وتركّزها في نفسه - يُقصد للموعظة والتوجيه، «جاء إليه رجل يقال له جندب فقال: أوصني فقال: أوصيك بتوحيد الله والعمل له، إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن كلّ خير آتيه أنت بعد ذلك منك مقبول، وإلى الله مرفوع، يا جندب إنك لن تزداد من موتك إلا قرباً؛ فصل صلاة مودع، وأصبح في الدنيا كأنك غریب مسافر، فإنّك من أهل القبور وابكِ على ذنبك، وتب من خطيئتك، ولتكن الدنيا عليك أهون من شسع نعلك، فكأن قد فارقتها ، وصرت إلى عدل الله، ولن تنتفع بما خلّفت، ولن ينفعك إلا عملك».(3)

ومن وصاياه في أمثال هذه المجالات قوله - فيما يحدّث الضحاك - : «يا صاحب الذنب لا تأمن من سوء عاقبته ، ولما يتبع الذنب أعظم من ذنب إذا عملته، فإنّ قلّة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال، وأنت على الذنب، أعظم من الذنب الذي عملته، وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب إذا ظفرت به، وخوفك من الريح إذا حرّكت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك، أعظم من الذنب إذا عملته ويحك هل تدري ما كان ذنب أيوب علیه السلام

ص: 16


1- البداية والنهاية ج 8: 303
2- ذخائر العقبى : 234
3- البداية والنهاية ج8: 305

فابتلاه الله تعالى بالبلاء في جسده وذهاب ماله؟ إنّما كان ذنب أيوب علیه السلام أنه استعان به مسكين على ظلم يدرؤه عنه، فلم يعنه، ولم يأمر بمعروف وينه الظالم عن ظلم هذا المسكين؛ فابتلاه الله عز وجل».(1)

وهذه الوصيّة - وربّما تزيد فيها الرواة وأضافوا إليها بعض الفقرات - كما تدلّ على تغلغل الروح الوعظية فيه، تدلّ على عمق نظرته بالتماس هذه الملابسات التي لو قدّر للمذنب أن يحسّ بها وهو مقيم على الذنب ولا يتألّمها، فإن دلالتها على استهتاره وفقدان ضميره الديني أعظم من دلالة ارتكاب الذنب نفسه على ذلك.

ويسأله بعضهم عن الخائفين الله فيجيبه : «هم الذين صدقوا الله في مخافة وعيده، وقلوبهم بالخوف فرحة ، وأعينهم على أنفسهم باكية، ودموعهم على خدودهم جارية، يقولون: كيف نفرح والموت من وراءنا، والقبور من أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي ربنا موقفنا».(2)

وربما اتخذ في الوعظ أسلوباً قصصياً، ضرب فيه الأمثال بتجارب سابقة؛ ليصل منها إلى أعماق مخاطبيه ، ويطغى على الكثير منها عنصر التمثيل والخيال، ونرجو أن نقف عند قسم منها عندما نتحدّث عن أدبه في لاحق من الأحاديث.

2- علائقه بمجتمعه وبيئته

اشارة

أمّا ما يحدّد علائقه ،بمجتمعه، فإنّ ذلك مختلف باختلاف المجال الذي يجمعه بالآخرين، فمنها ما يرتبط بأدب اللياقة والمعاشرة.

ص: 17


1- حلية الأولياء ج 1 : 324
2- العقد الفريد - تحقيق محمد سعيد العريان، مطبعة الاستقامة ، مصر ، ط 2 ، سنة الطبع 1372ه- ج : 112

وله في هذا المجال قِيَم يكاد ينفرد بها بين معاصريه، فهو يحترم جليسه، ويرى أنّ له حقوقاً عليه يقول: «الجليسي على ثلاث أن أرميه بطرفي إذا اقبل، وأن أوسع له إذا جلس، وأصغي إليه إذا تحدّث »(1)ولا يرى أحداً أكرم عليه من جليسه، «إنّ الذباب يقع عليه فيشق علي».(2)

كما يقول...

ومن أدب لياقته قوله : ما من داخل إلا وله حيرة، فابدؤوه بالسلام، وما من مدعو إلّا وله حشمة، فابدؤوه باليمين».(3)

ومن وصاياه في أدب عيادة المحتضر «إذا دخلتم على الرجل وهو في الموت فبشّروه بلقى ربه، وهو حسن الظن ولقنوه الشهادة ولا تضجروه».(4)

وكان يعود بعض المرضى في أشق الأوقات بالنسبة له؛ لما يشعر به من ارتياح المريض لذلك، واعتباره رمز اهتمام وتقدير بشأنه..

«اعتل المسوّر فجاءه ابن عباس يعوده نصف النهار، فقال المسوّر : يا أبا عباس هلا ساعة غير هذه! فقال ابن عباس : إن أحب الساعات إليّ أن أؤدّي فيها الحق، أشقها عليّ».(5)

وكان يرى من آدابها أيضاً أن يردّ التحية على من حيّاه، حتى إذا كان مختلفاً معه في

ص: 18


1- عيون الأخبار ج 1 : 306
2- المصدر السابق ج 1 : 307-308
3- الإمتاع والمؤانسة - تحقيق أحمد أمين وآخر، مطبعة لجنة التأليف، مصر، سنة الطبع 1944 - ج 3: 76-77
4- العقد الفريد ج 2 : 254
5- عيون الأخبار ج 3: 51

العقيدة، ومن ذلك قوله: «لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه مثله»(1)، حكاه سعید بن جبير حين استفتي «المجوسي يوليني خيراً فأشكره، ويسلّم عليّ فأردّ عليه، فقال سعيد: سألت ابن عباس عن نحو هذا فقال لي : لو قال لي فرعون مصر خيراً لرددت عليه، وقال ابن عباس أيضاً: «لو أنّ فرعون مصر أسدى إليّ يداً صالحة لشكرته عليها».(2)

وكان يكبر المعروف تمن يسديه إليه.. ومما يرتبط ببحثنا قوله: «ثلاثة لا أكافئهم.. رجل بدأني بالسلام ورجل وسّع لي في المجلس، ورجل اغترت قدماه في المشي إلي؛ إرادة التسليم عليّ، فأما الرابع فلا يكافئه عني إلّا الله جل وعزّ، قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي».(3)

وكان للمجلس الذي يجلسه آداباً خاصة، وقد وصف بعضهم مجلسه فقال: «ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلاً قطّ».(4)

والذي أخاله أنّ بعض وصاياه تكشف عما كان يأبى أن يدور في مجلسه من أحاديث، قال لبعض جلسائه يوماً : «لا تكلّمني فيمن لا يعنيك حتى ترى له موضعاً، ولا تمار سفيهاً ولا حلياً ؛ فإنّ الحليم يغلبك والسفيه يزدريك، ولا تذكرنّ أخاك إلّا بمثل الذي تحبّ أن يتكلم فيك إذا تواريت عنه».

وقد تركت هذه الكلمات أثر بليغاً في نفس صاحبها فقيّمها بقوله: «هذا خير من ة آلاف، فقال ابن عباس.. كلمة منه خير من عشرة آلاف»(5)، ومن وصاياه في

ص: 19


1- عيون الأخبار ج 3: 165
2- العقد الفريد ج 1: 191
3- عيون الأخبار ج 3: 176
4- ذخائر العقبی : 230
5- البداية والنهاية ج8: 305

ذلك أيضاً : اذكر أخاك بما تحبّ أن يذكرك به، ودع منه ما تحب أن يدع منك».(1)

وكان أبغض ما تكون إليه الماراة والمخاصمة، وفي ذلك قوله: «كفى بك ظالماً أن لا تزال مخاصماً وكفى بك آثماً أن لا تزال ممارياً، وكفى بك كاذباً أن لا تزال محدثاً بغير ذكر الله» (2)... وما أكثر ما ورد عنه في هذا ومثله، مما لا يسعنا الإفاضة فيه، ولعلّ في الكثير من البحوث الآتية ما يضيف إلى ما ذكرناه.

ولعل من أهم ما يربطه بالآخرين من الميول، وما ينشأ عنها من القيم هي المشاركة الوجدانية.

المشاركة الوجدانية

ویراد بها انتقال الحالات الانفعالية من شخص أو جماعة إلى شخص انتقالاً تلقائياً لا دخل للإرادة فيه، كأن يشاهد منظراً من مناظر البؤس، أو مشهداً من مشاهد السرور، فيشارك الآخرين ما يجدونه من شعور.

وقد كان صاحبنا غنياً بأمثال هذه الانفعالات، وربّما شارك الآخرين انفعالاتهم وإن لم يشاهد الحادثة، وقد ضرب أعلى الأمثال في ذلك، حين حدّث عن نفسه وقد شتمه رجل فقال: «إنّك لتشتمني وفي ثلاث: إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأحبّه، ولعلي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع بالغيث يصيب البلاد من بلاد المسلمين فأفرح به، ومالي به سائمة ولا راعية، وإني لآتي على آية من كتاب الله تعالى فوددت أنّ المسلمين كلّهم يعلمون منها مثل ما أعلم» .(3)

ص: 20


1- العقد الفريد ج 2 : 161
2- عيون الأخبار ج 2 : 108
3- الإصابة في تمييز الصحابة ج 2 : 334

فهو يفرح هنا للغيث يصيب البلاد مشاركةً لأهلها في فرحهم، وإن لم يدخل عليه ذلك الغيث شيئاً، وإذا كنا نعجب لإنسانية الشاعر الذي كان يقول :

فلا هطلت عليّ ولا بأرضي***سحائب ليس تنتظم البلادا

لأنه أراد للآخرين ما اراده لنفسه، فإنّ صاحبنا كان أبلغ منه في الدلالة على إنسانيته، حين تناسى ذاته وهو يشارك الآخرين بأفراحهم.

ودلالة هذه الفقرات على نكرانه للذات وحبّه الخير للمجموع لا تقلّ عن دلالة بعضها بفحواها على تركّز المشاركة الوجدانية فيه، وبخاصة حبه في تعميم المعرفة

والعدل .

وتأريخ حياته مليء بما يدلّ على مشاركاته الوجدانية للآخرين في مختلف انفعالاتهم، وقد سبق لنا أن رافقناه في سيرته، ولمسنا الكثير منها في تلكم الأحاديث، فلا نثقل بإعادتها .. فلنتحوّل عنها إلى دراسة بعض معطياتها من القيم وأهمها الغيريّة.

الغيريّة

ويراد بها - غالباً - أن يتجاوز المرء حدود الانفعال والمشاركة الوجدانية إلى إسداء معونة ماديّة أو أدبيّة للغير؛ لتخفيف أزمة أو إسداء يد من حاجةٍ إليها.

وقد كانت هذه من القيم العربية قبل الإسلام ، وكان لها من الأهمية في مقاييسهم ما يرفعها إلى القمّة بالنسبة إلى بقية المثل، وربّما اعتبرت من أهمّ أدوات الزعامة .

ومن طبيعة البيئة التي كانوا يعيشون فيها، وما تجرّه عليهم من الفقر والفاقة، والتعرّض إلى اعتداء بعضهم على بعض عن طريق الغزو، وأمثال ذلك.. جاءتها هذه الأهمية، فالفقير الذي لا يجد القوت في بيته، والرائد الذي ينقطع به الطريق ولا يجد ما يسد به رمقه، والضعيف الذي يحتاج إلى النجدة عندما يتعرّض لظلم القوي.. كلّ

ص: 21

هؤلاء يحتاجون إلى من يخفّف عنهم أزماتهم من القادرين على ذلك، فهم إذن محتاجون إلى خلقها قيمة عليا، يعرض عليها تقييم الرجال بحكم الحاجة إلى ذلك، والحاجة - كما يقولون - أم الاختراع ، وربّما اعتبرت هذه القيمة لازمة من لوازم الاجتماع، فالمجتمع مهما كان شأنه لا يستغني أفراده عن معونة بعضهم بعضاً، وإن اختلفت جهات الاستعانة وتفاوتت بتفاوت المجتمعات.

فالغيرية في الجاهليّة كرم، وضيافة، ونجدة، وحماية، وعلى مقدار ما يملكه الناس منها يكون التفاوت في مكانتهم الاجتماعية وربّما أسرفوا فيها فتجاوزوا الهدف من تشريعها، وجرّتهم إلى مشاكل اجتماعية ونفسيّة واسعة.

وقد جاء الإسلام فاعترف بها من جملة ،قيمه، وأعطاها مكانتها اللائقة بها، وأكّد منها بعد أن رسم لها حدوداً لا تتجاوز في موضع دلالتها الحاجة إليها، وشجب جوانب الإسراف فيها شجباً لا هوادة فيه، وما أكثر ما ندّد بالإحسان لمن يسألون الناس وهم في غنى عن معونتهم ، لقدرتهم على الاكتساب من الطرق المشروعة لتحصيل القوت، ثم ما أكثر ما ندّد بإعانة الظالمين ومساعدتهم على الظلم، مهما أُلبست ذلك من ثياب.

وبحكم تربية صاحبنا على القيم الإسلامية - كما قلنا - وتشبّع مثلها في نفسه كان من أكثر الناس غيريّة، ولكن في حدودها الإسلامية المعتدلة، فهو لا يؤمن بالكرم للكرم فحسب، وقصة واحدة وقعت له مع أخيه عبيد الله بن العباس وهو من أجواد العرب المشهورين، تدلّنا على مدى تشبثه بحقه، وسحقه لبعض الاعتبارات الغيرية التي لا تخضع لمنطق الحاجة، حدث غير واحد من قريش قالوا: «أراد عبد الله وعبيد الله ابنا العباس أن يقتسما ميراثهما من أبيهما بمكة، فدعي القاسم ليقسم، فلما مدّ الحبل قال له عبد الله : أقم المطمر يعني الحبل الذي يُمدِّ.

ص: 22

فقال له عبيد الله يا أخي الدار دارك لا يمدّ والله فيها اليوم مطمر ».(1)

فعبد الله هنا لا يتسامح بهذا المقدار الضئيل من حقه لأخيه؛ لأنه لا يرى حاجةً في أخيه إلى مثل هذا المقدار، بينما أنف عبيد الله أن يسمع منه هذا الحرص على الحق، فوهب له جملة حقه من الدار.

ومن يقرأ هذه الحادثة يعتقد أن صاحبنا كان بعيداً عما يدعونه بالكرم، فالذي يبخل على أخيه بمقدار جرّة حبل.. أينتظر منه من أن يفيض بكرمه على الناس! ولكنّ الحقيقة أن مفهوم الكرم لديه يختلف عن مفهومه لدى الآخرين، فهو في الوقت الذي يندد بأولئك الذين يسألون الناس على حساب كرامتهم بأمثال قوله: «المساكين لا يعودون مريضاً ولا يشهدون جنازة ولا يحضرون جمعة، وإذا اجتمع الناس في أعيادهم ومساجدهم يسألون الله من فضله، اجتمعوا يسألون الناس ما في أيديهم».(2)

ونرى له في التأريخ قصصاً تلحقه في الطليعة من أجواد العرب، وإليكم منها ما يحدّد لنا بعض جوانب كرمه.

كرمه

يقول عبد الله بن علي بن سويد : «مرّ عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بمعن بن أوس المزني، وقد كف بصره وقال له يا معن كيف حالك؟ فقال: ضعف بصري وكثر عيالي وغلبني الدين، قال: وكم دينك ؟

قال عشرة آلاف درهم فبعث بها إليه، ثمّ مر به من الغد فقال له: كيف أصبحت يا معن؟ فقال:

ص: 23


1- عيون الأخبار ج 1 : 334
2- العقد الفريد ج 2 : 316

أخذت بعين المال لمّا نهكته***وبالدين حتى وبالدين حتى ما أكاد أدان

وحتى سألت القرض عند ذوي الغنى***وردّ فلان حاجتي وفلان

فقال له عبد الله الله المستعان إنّا بعثنا إليك بالأمس لقيمة فمالكتها حتى انتزعت من يدك، فأيّ شيء للأهل والقرابة والجيران! وبعث إليه بعشرة آلاف درهم أخرى فقال:

فإنك فرع من قريش وإنما***تمجّ الندى منها البحور الفوارع

ثووا قادة للناس بطحاء مكة***لهم وسقايات الحجيج الدوافع

فلما دعوا للموت لم تبك منهم***على حادث الدهر العيون الدوامع».(1)

فهو - كما ترون - لم يبخل بهذه المساعدة السخية على شاعر عُرف بالمروءة وكرم النفس، ثم ركبه الدين فاحتاج إلى مثلها. ويبدو أنّ بني عبد المطلب أصيبوا بضائقة اقتصادية مرة، وجاءته صلته من معاوية وكانت أربعة آلاف دينار ففرّقها فيهم، وظنّوها صدقة منه «فقالوا: إنّا لا نقبل الصدقة، فقال: إنّها ليست صدقة، وإنما هي هدية».(2)

وكان يقول : «لئن أعول أهل بيت من المسلمين شهراً أو جمعة أو ما شاء الله أحبّ إلي من حجّة بعد حجّة، ولطبق بدانق أهديه إلى أخ لي في الله عز وجل أحب ألي من دينار أنفقه في سبيل الله عز وجل»(3)

وفي مأثوراته عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم «ليس بمؤمن من بات شبعان ريان وجاره جائع طاو»(4). وفيها عنه صلی الله علیه و آله وسلم«ألا أنبئكم بشرار الناس قالو : بلى يا رسول الله، قال: من نزل

ص: 24


1- الأغاني – تصحيح أحمد الشنقيطي، مطبعة التقدم، مصر، لم تذكر سنة الطبع - ج 10: 157
2- ذخائر العقبی ج 3: 234
3- حلية الأولياء ج 1 : 328
4- الإمتاع والمؤانسة ج 3: 72

وحده ومنع رفده...».(1)

وكان يدعو إلى صدقة السرّ وتعجيلها، فيقول: «لا يتمّ المعروف إلا بثلاث.. تعجيله وتصغيره، وستره»، ثم يعلّل ذلك بقوله : «فإنّه إذا عجله هناه، وإذا صغره ،عظمه، وإذا ستره تممه».(2)

وفي رواية البداية والنهاية : «تمام المعروف تعجيله وتصغيره وستره يعني أن تعجّل العطّية للمعطى وأن تصغر في عين المعطي، وأن تسترها عن الناس فلا تظهرها، فإنّ في إظهارها فتح باب الرياء، وكسر قلب المعطى واستحياؤه من الناس».(3)

ولعلّ من أروع ما ورد عنه وأثر في مجال الإحسان قولته السابقة: «فأما الرابع فلا

يكافئه عني إلا الله جلّ وعزّ ، قيل : ومن هو ؟ قال رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكّر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي».(4)

وكان مجاهد يبالغ فيقول : إنه «كان أعظمهم جفنة» (5)، ولو لم يكن فيه موضع للمبالغة لما صح إطلاق مثل هذا القول فيه، وقد قارن شاعر بين جفنته وجفنة ابن الزبير حين قصد إليهما، وكان الشاعر معن بن أوس، حدّث العتبي قال: «قدم معن بن أوس مكة على ابن الزبير فأنزله دار الضيفان، وكان ينزلها الغرباء وأبناء السبيل والضيفان، فأقام يومه لم يطعم شيئاً، حتى إذا كان الليل جاءهم ابن الزبير بتيس هرم هزيل فقال: كلوا من هذا، وهم نيف وسبعون رجلاً، فغضب معن وخرج من عنده

ص: 25


1- البيان والتبيين - تحقيق حسن السندوبي، المطبعة الرحمانية، مصر، ط2، سنة الطبع 1351 ه- ج 2 : 27
2- عيون الأخبار ج3: 177
3- البداية والنهاية ج 8: 305
4- عيون الأخبار ج 3: 176
5- البداية والنهاية ج 8: 302

فأتى عبد الله بن العباس فقراه وحمله وكساه ، ثم أتى عبد الله بن جعفر وحدّثه حديثه فأعطاه حتى أرضاه، وأقام عنده ثلاثاً حتى رحل، فقال يهجو ابن الزبير ويمدح ابن جعفر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ..

ظللنا بمستن الرماح غديّة***إلى أن تعالى اليوم في شرّ محضر

لدى ابن الزبير حابسين بمنزل***من الخير والمعروف والرفد مقفر

رمانا أبو بكر وقد طال يومنا***بتيس من الشاء الحجازيّ أعفر

وقال اطعموا منه ونحن ثلاثة***وسبعون إنساناً فيا لؤم مخبر

فقلناله لا تقربا فأمامنا***جفان ابن عباس العلا وابن جعفر

وکن آمناً وارفع بتيسك إنه***له أعتز ينزو عليها وابشر»(1)

ولهذه القصص في التأريخ أمثال لا أخالنا في حاجة إلى استيعابها، وكلّها - في حدود ما رأيت - ترفعه إلى مستوى الطليعة من أجواد العرب، وإن كان يختلف عن الكثير منهم في تحديد البواعث والأسباب الداعية إليه، فهو لدى الحاجة إلى الكرم من أكرم الناس، ومع عدم الحاجة إليه أبعد ما يكون عنه، وبخاصة إذا كان فيه بعض التشجيع على الجريمة.

وقد عرّض نفسه لأقسى هجاء من شاعر كان بوسعه أن يشتري لسانه لقليل من العطاء، حدّث جماعة قالوا: أتى عيينة بن مرداس، وهو ابن فسوة عبد الله بن العباس وهو عامل لعلي بن أبي طالب - صلوات الله عليه - على البصرة، وتحته يومئذ شميلة بنت جنادة ابن بنت أبي أزهر الزهرانية، وكانت قبله تحت مجاشع بن مسعود السلمي، فاستأذن عليه فأذن له، وكان لا يزال يأتي أمراء البصرة فيمدحهم فيعطونه ويخافون ،لسانه، فلما دخل على ابن عباس قال له ما جاء بك إلي يا ابن فسوة، فقال له وهل

ص: 26


1- الأغاني ج 10: 158

عنك مقصراً ووراءك معدى ؟ ! جئتك لتعينني على مروءتي وتصل قرابتي، فقال له ابن عباس وما مروءة من يعصي الرحمن ويقول البهتان ويقطع ما أمر الله به أن يوصل، والله لئن أعطيتك لأعيننك على الكفر والعصيان، انطلق فأنا أقسم بالله لئن بلغني أنك هجوت أحداً من العرب لأقطعن لسانك ، فأراد الكلام فمنعه من حضر، وحبسه يومه ذلك ثم أخرجه عن البصرة».

يقول الرواة: فوفد إلى المدينة بعد مقتل علي علیه السلام فلقي الحسن بن علي علیه السلام وعبد الله بن جعفر، فسألاه عن خبره مع ابن عباس فأخبرهما»، ويبدو أنه أطلق لسانه في ابن عباس منذ تلك الحادثة، يقولون : «فاشتريا عرضه بما أرضاه، فقال يمدح الحسن وابن جعفر عليهما السلام ويلوم ابن عباس..

أتيت ابن عباس فلم يقض حاجتي***ولم يرج معروفي ولم يخش منكري

حبست فلم أنطق بعذر لحاجة***وشدّ خصاص البيت من كل منظر

وجئت وأصوات الخصوم وراءه***كصوت الحمام في القليب المغوّر

وما أنا إذ زاحمت مصراع بابه***بذي صولة باقٍ ولا بحزوّر

فلو كنت من زهران لم ينس حاجتي***ولكنني مولى جميل بن معمر

وباتت لعبد الله من دون حاجتي***شميلة تلهو بالحديث المقّتر».(1)

.. إلى آخر ما جاء في القصيدة - فهو كما ترون - كان يرى في إعطائه مثل هذا الشاعر تشجيعاً له على الجريمة «والله لئن أعطيتك لأعيننك على الكفر والعصيان».

وكما تجلّت غيريته في أريحيّته وكرمه بماله تجلّت في كرمه بجاهه، فقد كان - بحكم علائقه بالسلطة في مختلف أدوار حياته ومكانته الاجتماعية الواسعة – مفزعاً لذوي الحاجات، وما رأيت - على كثرة ما قرأت في تأريخه - أنه ردّ وافداً، أو اعتذر صاحب

ص: 27


1- الأغاني ج 19: 143

حاجة، أو توقف عن إسداء ،معروف حدث حسان بن ثابت قال: «كانت لنا عند عثمان - أو غيره من الأمراء - حاجة فطلبناها إليه لجماعة من الصحابة، منهم ابن عباس، وكانت حاجة صعبة شديدة، فاعتل علينا فراجعوه إلى أن عذروه، وقاموا إلّا ابن عباس فلم يزل يراجعه بكلام جامع، حتى سدّ عليه كل حاجة، فلم ير بداً من أن يقضي حاجتنا، فخرجنا من عنده وأنا آخذ بيد ابن عباس فمررنا على أولئك الذين كانوا عذروا وضعفوا فقلت: كان عبد الله أو لاكم به قالوا: أجل، فقلت أمدحه:

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل***بمنتطمات لا يرى بينها فصلا

كفى وشفى ما في الصدور ولم يدع***لذي إربة في القول جدّاً ولا هزلا

سموت إلى العليا بغير شبيهة***فلنت ذراها لا دنياً ولا وعلا»(1)

«خلقت خليقاً للمروءة والندى***فليجاً ولم تخلق كهاماً ولا جبلا»(2)

وثالث الجوانب التي تجلّت فيها غيريته بذله المعرفة على اختلاف أصنافها لطالبيها، سواءً كانت في الفقه أم التأريخ أم الأدب أم غيرها من العلوم، يقول أبو صالح: «لقد رأيت من ابن عباس مجلساً لو أنّ جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر، لقد رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق به الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب قال: فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه فقال لي: ضع لي وضوء، قال: فتوضأ وجلس وقال: أخرج فقل لهم من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أريد منه فليدخل قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلّا أخبرهم عنه، وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر، ثم قال: إخوانكم، فخرجوا.

ص: 28


1- الإصابة في تمييز الصحابة 2 : 330
2- الاستیعاب 2 : 354

ثم قال: أخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل، قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلّا أخبرهم به وزادهم مثله أو أكثر، ثم قال: إخوانكم فخرجوا.

ثم قال : أخرج فقل : من كان يريد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل، فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلّا أخبره وزادهم مثله أو أكثر ، ثم قال : إخوانكم فخرجوا.

ثم قال : أخرج فقل : من كان يريد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل، فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا اخبرهم به وزداهم مثله، ثم قال : إخوانكم، فخرجوا، قال أبو صالح : فلو أن قريشاً كلّها فخرت بذلك لكان فخراً، فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس».(1)

ونظائر هذا الحديث كثيرة، وربما دخل بعضها المبالغة في بعض جوانبها، كما تؤذن به العادة في أمثال هذه المواضع، إلّا أنّ الذي لا شكّ فيه أن غيريته في توزيع المعرفة كانت موقع إجماع المؤرخين، وسنقف من هذا الجانب عندما نعرض إلى ثقافته وتقييمها بشيء من الحديث، وقفة فيها شيء من الأناة، وربّما رأينا هنالك أن نزعته الإنسانية هي الطاغية عليه، حيث لم يكن ليفرّق في توزيع معارفه على طلابها بين من يقرب أو يبعد منه، ويتفق معه أو يختلف في المذهب.

وهنالك جانب مهم من جوانب غيريتّه، تجلّت فيها إنسانيته على أفضل صورها، هو جانب رعايته لعبيده ومواليه فقد كان يعمل على تربيتهم وتهذيبهم وتعليمهم وربّما فرض المعرفة على من يأنس فيه القابلية منهم فرضاً لا هوادة فيه... هذا عكرمة

ص: 29


1- البداية والنهاية 8: 302

مولاه يحدّث عن لون تربيته له فيقول : كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني القرآن ويعلّمني السنّة».(1)

وكان من رعايته لمواليه، محاولة إبعادهم عن كلّ ما يشعرهم بأنهم عبيد حتى في أسمائهم فقد كان يسميهم - فيما يحدث مجاهد - بأسماء العرب كعكرمة وسميع وكريب.(2)

وكان يأمرهم بالتزوج إبعاداً لهم عما ربما يقعون به من الزنا، وكان يعلل لهم ذلك بأن العبد «إذا زنى نزع الله منه نور الإيمان، ردّه إليه أم أمسكه»(3)... إلى ما هنالك من جوانب الرعاية مما يدلّ على تأكد نزعته الإنسانية الواسعة.

الشجاعة

وهي قيمة من أهم قيم عصره وأرقاها كانت هي الأخرى قيمة عربية جاهلية،

يعرض عليها الرجال في تقييماتهم، فإن زاد رصيد أحدهم منها، كان ثريّاً في قوّة الشخصيّة ورفعتها، ولكنّها كانت توجه - على الأكثر - في غير صالح المجموع، وكان أصحابها يتخذون منها موضع استغلال للتحكم بالضعيف، والاستيلاء على مقدراته، سواء من طرق الغزو السافر أم المقنّع.

وجاء الإسلام فوجهها لصالح المجموع، واتّخذ منها ركيزةً للدفاع عن مبدأ أو نفس أو عرض أو كرامة.

ونريد بالشجاعة هو مفهومها العام ، أعني قدرة تحكّم الشخص بمختلف قواه،

ص: 30


1- طبقات ابن سعد - تصحيح أدوارد نخو، مطبعة ليدن سنة الطبع 1359 ه- ج 5 : 212
2- انظر طبقات ابن سعد ج 5 : 212
3- المصدر السابق

والسيطرة عليها وتوجيهها حسب ما يريد ولها مظاهر تختلف باختلاف مجالاتها منها ..

أ- الصراحة وعدم المواربة في المواضع التي تقتضيها. وقد كان أمثولة طيبة في ذلك، فقد كان صريحاً إلى أبعد حدود الصراحة، حيث كانت الظروف تقتضيه المجاملة، والسكوت على مفارقات من يواجهه بالكلام الصريح، وقد سبق أن رأينا مواقفه من الخليفتين عمر وعثمان ثم مواقفه من معاوية ويزيد وابن الزبير وولاتهم، وهي ملأى بصور من الصراحة، تبعث على الإكبار ، وفيها مئات الشواهد على ذلك، وهي تغني عن إعادة بعضها في هذا الحديث.

ب- الحلم وضبط النفس عندما تواجه بما يؤلمها ويثيرها من الانفعالات، مع قدرته على ردع من يواجه بذلك وتأديبه.

وصاحبنا كان ثرّياً جدّاً في هذه الخلّة الكريمة، وكان متماسكاً أمام من يحاولون أن يثيروه بإساءتهم، وهو يعلّل هذا التماسك والعفو عنهم بقوله: «إنّه ما بلغني عن أخ لي مکروه ، إلّا نزلته إحدى ثلاث منازل، إما أن يكون فوقي؛ فأعرف له قدره، أو نظيري تفضلت عليه، أو يكون دوني فلم أحفل به».(1)

وهو تعليل يدلّ على مبلغ قدرته وتمكنه من تحكيم عقله بعواطفه وانفعالاته، فهو يفلسف بعقله لقواه النفسية أفعالها، ويربّيها من طريق العادة على هذه الفلسفة وإن لم تع واقعها؛ لأن مبعثها دوافعها الفطرية، وهي لا شعورية غالباً، وإذا عدما إلى واقع هذه الفلسفة كشفت عن أهمّ جانب من جوانب كبر نفسيته، فهو لا يعلّل لها ذلك بتعليل نفعي، يبتني على المقايضة وقبض الثمن، كأن يقول : إذا عفوت عنه فقد كسبت عطفه

ص: 31


1- ذخائر العقبى : 233

وصداقته، أو حبّبت نفسي إلى الناس، وما يشبه ذلك.. وإنّما قال: «إمّا أن يكون فوقي فأعرف له قدره فهذه الفوقيّة - وهي طبعاً في عرف ابن عباس - لا تكون إلا فوقية علم أو دين لا فوقيه مال ولا سياسة، كما سبق أن رأيناه في مواقفه ممن بيدهم الحكم والمال يتصرفون بهما كيف يشاؤون كيف كان يزدريهم إذا خالفوا له مبدأ من مبادئه، ويواجههم بالكلام ، ويصرع الذي لا يدلّ على عرفان قدر ولا إقامة وزن، وغير هؤلاء لا بد من احترامهم لما يحملونه من علم أو دين، وارتكاب مفارقة معه لا تصحح له تناسي ما يفضلونه به، والتغافل عنه واحترامهم بالتغاضي عن مساءتهم إليه، وإذا كان مساوياً له كانت الإساءة مبعث إسداء يد له وتفضّل عليه «أو نظيري تفضّلت عليه» أمّا إذا كان أدون منه فإنّ مقابلته معناها النزول بمستوى نفسه إلى ما لا يليق بمكانتها الدينية أو الاجتماعيّة.

وكانت تصرفاته إزاء من قابلوه بالإساءة مبعث إكبار معاصريه، حتى صحّ لغير واحد منهم أن لا يرى أوسع حلماً منه (1) ، فهو يقول لمن شتمه: إنك تشتمني وفي ثلاث خصال، ثم يعدد خصاله التي تدل على حبّه للخير العام - وقد سبق أن ذكرناه في الحديث عن غيريته – وكأنه يقول له: أتقابلني بالإساءة وأنا الذي أرجو لك نفعك، ولا أريد الاستئثار لنفسي بشيء دونك، وهو يقول للقوم الذين سألوا عنه - فيما يحدث كريب بن سليم الكندي وكان يأكل معه - بلهجة مزرية : «أين ابن عباس الأعمى؟ قال: فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور».(2)

ولعلّ هذا أخشن جواب أسمعه له في أمثال هذه المجالات؛ لما فيها من إيماءة خفية إلى شتم خصومه ولكن تعمى القلوب» وربما كانت ملابسات هذه الواقعة هي التي

ص: 32


1- انظر طبقات ابن سعد ج 2: قسم 2: 122
2- ذخائر العقبى : 234

اقتضته هذه الإيماءة إلى شتمهم، وكثيراً ما تجاوز في عفوه عمّن أساء إليه بالإحسان إلى المسيء.. يقول عكرمة: «سبّ رجل ابن عباس فلما قضى مقالته قال: عكرمة انظر هل للرجل حاجة، فتقضيها له، قال: فنكس الرجل رأسه استحياءً».(1)

وكأنه قدّر في نفسه أن كثيراً من بواعث هؤلاء إلى الإساءة إلى الآخرين هي بواعث تمليها الفاقة والحاجة لا الرغبة في الإساءة للإساءة، فإذا سدّ حاجتهم طهر نفوسهم من هذه الخلّة السيئة، ولعلّ من أروع ما قرأت له وينتظم في هذا البحث موقفه من النمامين في أيام ولايته للبصرة، والوالي عادة يكون أُذناً لتسقط الأخبار ، ومعرفة ما يضر بسياسته، ولكنّ صاحبنا - فيما يبدو - كان قوي الفراسة، يدرك من كلام الشخص ما يبّيت به للآخرين.. يقول محمد بن سلام: «سعى ساع إلى ابن عباس برجل، فقال: إن شئت نظرنا ، فإن كنت كاذباً عاقبناك ، وإن كنت صادقاً نفيناك، وإن شئت أقلتك قال: هذه» (2)، فهو ينظر إلى أنّ هذا الشخص لم يزوده بالزاد - كما يقولون - لتسقّط الأخبار وجمعها له، فما باله يسعى بالآخرين لدى السلطان؟ أو ليس في ذلك مبعث لاتهامه بسوء النية النيّة معهم، لا عدم المحايدة في النقل ؟

على أن النميمة - مهما كانت بواعثها - من أقبح الخصال، فهو يقول له: «إن كنت كاذباً ،عاقبناك، وإن كنت صادقاً نفيناك»؛ لأنّ مثلك لا يصلح للمجالسة ولا يؤتمن على حديث، وما يدريني أن تنقل عني كما نقلت إلي، ثم فتح له باب الإقالة ليسلم على نفسه، وحسبه من فحوى هذا الحديث أن يعلم أن صاحبه لم يكن أُذناً لقبول النمائم والوشايات، وهذا لا يتنافى مع الحزم الذي تقتضيه السياسة، فربّما كان له من العيون من يأتمنه على واقع الناس؛ ليبلغه إليه، وليس من الحزم أن يكون مسرحاً لأطماع ذوي

ص: 33


1- ذخائر العقبى : 234
2- الإصابة في تمييز الصحابة ج 2 : 334

الأحقاد من الناس، تمثل على رأسه أدوارهم الدنيئة في الإساءة إلى الآخرين، وأخال أن لهذا ومثله ورد وصفه بأحلم الناس في كثير من ألسنة معاصريه.

ج- الصبر هو الآخر من مظاهر الشجاعة، وذلك عندما تواجهه مصيبة في نفسه، أو ولده أو أحد أقاربه، لا يجدي في دفعها الجزع، فيتماسك أمامها، ويحكم قواه في ،أعصابه، ويشدُّ منها، لتقف إزاءها موقف الصابر المتجلد، وليس معنى الصبر أن لا يتألم الشخص، أو لا يعبر عن ألمه بالطرق المألوفة، وإنّما معناه أن لا ينهار أمامها انهياراً يفقده توازنه وقد مرّت على صاحبنا مصائب عدّة، تماسك أمام بعضها، فلم يعبّر عن مدى ألمه إلّا ببعض الكلمات: «نعي إليه أخوه قثم، فاسترجع ثم أناخ عن الطريق وصلى ركعتين، فأطال فيهما، ثم قام فمشى إلى راحلته ، وهو يقرأ «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ»(1). و«نُعي إليه ابنه وهو في السفر، فاسترجع ثم قال مسلّياً نفسه: عورة سترها الله ومؤنة كفاها الله وأجر ساقه الله» (2)، وغلبه الألم في بعضها الآخر ، ففزع إلى التعبير عن تألمه بالبكاء، والبكاء الشديد أحياناً، وقد سبق أن رأينا في مواضع من الجزء الأول من هذا الكتاب مواقفه المحزنة من بعض المصائب التي مرت عليه كحادثة يوم الخميس، وحوادث استشهاد الأئمة علي والحسن والحسين عليه السلام ، ولكننا لم نقرأ في تعبيراته ما يخرجه عن حدود اللياقة بالجزع، وقول ما يسخط خالقه وإمامه.

ومن أدب النبي صلی الله علیه و آله وسلم «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب»(3) ما يصلح لأن يتأثره في أمثال هذه المواضع.

ص: 34


1- ذخائر العقبى : 236
2- العقد الفريد ج 3: 130
3- أنساب الأشراف - تحقيق محمد حميد الله ، دار المعارف، مصر، سنة الطبع 1959 - ج 1 : 355

د- الشجاعة الأدبية صفة ربّما تكون من أبرز مظاهر الشجاعة، لعمق دلالتها على ثقة الإنسان بنفسه، وقدرته على التحكم بأعصابه، وذلك عند مواجهة الآخرين بآرائه ومبادئه سواء كان في مجالاته الخطابية أم الجدليّة.

وقد كان صاحبنا من الأمثال العالية في ذلك وفيما مر علينا من مواقفه الخطابية والجدلية ما يغني عن إطالة الكلام فيه، ويكفينا أن نسجل له أن مؤرخيه لم يسجلوا عليه - ربّما لم يشاهدوا له - موقفاً واحداً حُصر فيه، أم لم يتدفق في بيانه، أو تدفق ولم يملك زمام التصرف في لسانه ينقله كيفما يشاء، وقد أجمع من عني بتأريخه، على إكباره في هذا المجال وحدّثوا عن إكبار معاصريه له وفيهم بعض خصومه ومناوئيه.

یروی «أن معاوية نظر إليه يوماً يتكلم فأتبعه بصره وقال متمثلاً:

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل***مصيب ولم يثن اللسان على هجر

يصرف بالقول اللسان إذا انتخى***وينظر في أعطافه نظر الصقر»(1)

وقد لفت كلامه - وهو في مجلس عمر - الشاعر الحطيئة فقال - كما مرّ في الجزء الأول من هذا الكتاب - :«من هذا الذي برع الناس بعلمه ونزل عنهم بسنيّه؟ قالوا: عبد الله بن عباس فقال فيه أبياتاً منها :

إني وجدت بيان المرء نافلة***يهدي له ووجدت العيّ كالصمم

المرء يبلى ويبقى سائر الكلم***وقد يلام الفتى يوماً ولم يلم».(2)

والخوارج - على كثرة من فيهم من الخطباء المفوّهين وأهل الجدل - تحاموا مقامه حين أقبل عليهم للمحاججة «فقال بعضهم لا تكلموه فإن الله تعالى يقول : «بَلْ هُمْ قَوْمٌ

ص: 35


1- الاستيعاب - هامش الإصابة - ج 2 : 355
2- الاستيعاب ج 2 : 354

خَصِمُونَ».(1)»(2)

وما أكثر ما ورد في ذلك، والحديث فيه يعدّ من نافلة القول، وحسبنا منها ما مرّ من شهادة الخليفة عمر «واهاً لابن عباس ما رأيته لاحى واهاً لابن عباس ما رأيته لاحى أحداً قطّ إلّا خصمه».(3)

ه- الشجاعة في الحروب وهي من أظهر مظاهر الشجاعة.

كان من أقطابها في الصميم وقد تركت له قيادات هامة في جيوش الإمام علیه السلام سواء في البصرة، أم صفّين، أم النهروان، وأبلى فيها بلاءً حسناً بإجماع مؤرّخيه، وحسبه أن يكون موضع إعجاب أمير المؤمنين علیه السلام - وهو من هو في شجاعته النادرة - فيرسل فيه كلمة خالدة..

ففي حديث الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه علیهم السلام: قال: «نظر أبي إلى ابن عباس يوم الجمل يمشي بين الصفّين، فقال: أقرّ الله عين من له ابن عم مثل هذا».(4)

وقد مرّت بنا مواقفه على اختلافها في مواضعها من الجزء الأول فلا حاجة لإعادة الحديث فيها.

وهناك قسم من القيم التي تحدّد علائقه بالآخرين ربّما عرضنا لها في تضاعيف أحاديثنا القادمة.

3- علائقه بذاته

أمّا ما يحدّد علائقه بذاته من المثل والقيم فكثيرة أيضاً ولعلّ أهمها ..

ص: 36


1- الزخرف: 58
2- ذخائر العقبى: 232
3- الدرجات الرفيعة - المطبعة الحيدرية النجف سنة الطبع 1381 ه- 122
4- البداية والنهاية ج8: 299

أ- التواضع ونكران الذات والتواضع من الصفات التي باركها الإسلام وحتّ عليها، وكانت من أهم صفات نبيه محمد صلی الله علیه و آله وسلم ، وهو الذي اتخذه في سلوكه مثلاً أعلى يحتذيه، وقد رافقته هذه الصفة من طفولته فلم يطغه شرف بيته، ولا زعامة أبيه، ولا علائقه النَسَبية بالزعيم الاعلى للمسلمين، فكان يعرف لنفسه قدرها فلا يتعداه بحال، وإن لم يرض طموحه.

ومن تجاربه في ذلك قوله : «من لم يجلس في الصغر حيث يكره، لم يجلس في الكبر حيث يحبّ».(1)

فتعبيره (حيث يكره) يدلّنا على مدى صراعه مع نفسه، في إخضاعها لنكران ذاتها منذ صغره، وقد سبق أن رأيناه كيف كان يقبل على أبواب الأنصار ويتوسّد رداءه.. يقول وهو يصف نفسه: «تسفي الريح عليّ من التراب فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عمّ رسول الله ما جاء بك؟! ألا أرسلت إليّ فآتيك فأقول : لا أنا أحق أن آتيك».(2)

وكيف كان يتأدبّ مع من يكبره سنّاً، حين كان يدعوه عمر مع كبار المهاجرين والأنصار؛ ليستشيرهم في حكم من أحكام الدين أو أمر من أمور الدنيا، وربما استحثّه على الكلام بقوله: «ما لك يا ابن عباس صامت لا تتكلّم؟! تكلّم ولا تمنعك الحداثة»(3). ويقول له: «قل ولا تحقّرنّ نفسك».(4)

وكان لا يمنعه مقامه الاجتماعي، ولا قرابته ولا مكانته الاجتماعيّة من أن يأخذ بركاب زید بن ثابت تقديراً لمقامه العلمي.. يقول الشعبي: (ركب زيد بن ثابت، فأخذ

ص: 37


1- العقد الفريد ج 2 : 242
2- البداية والنهاية ج: 298
3- حلية الأولياء ج 1 : 317
4- ذخائر العقبى : 229

ابن عباس ،بركابه فقال : لا تفعل يا ابن عم رسول الله قال : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال زيد: أنى يداك ؟ فأخرج يديه فقبلهما فقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بیت نبينا».(1)

وما أكثر ما ورد عن تواضعه ونكرانه لذاته، مع احتفاظه بالمستوى اللائق بها، وحتى في الحالات التعويضيّة - التي مرّ علينا قسم منها في الجزء الأول من هذا الكتاب - كان لا يفزع إلى التكبّر والتعالي، بل إلى تأكيد ذاته من طريق العلم والمعرفة، كما سبق أن رأينا في أكثر من موضع.

وفي الحق أنه كان يداري نفسه بحشد أكبر عدد ممكن من عوامل تأكيد الذات ولكن بتواضع واتزان كما كان يعمل على إبعاد كل ما يوجب لها القلق، كبعض العادات الغريبة التي لم تكن خاضعة لمنطق معروف وأظهرها ..

ب- التشاؤم والتطير من بعض الظواهر كصياح بعض الطيور.. يقول عكرمة:

«كنا جلوساً عند ابن عمر وابن عباس، فمرّ طائر يصيح ، فقال رجل من القوم خير. خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شرّ»(2)، وأية علاقة تربط بين صياح هذا الطائر وبين الشر الذي تخوّفه، لولا تحكّم هذه العادة الخرافية في النفوس، وقد سئل عن الطيرة فقال: «لا طير إلا طير الله، ولا خير إلا خير الله، ولا إله إلا الله، ولا قوة إلا بالله».(3)

ج_- السأم كان ابن عباس يبعد عن نفسه بواعث السأم، ويريحها جهده،حتى أنّه كان إذا أفاض بالحديث عن بعض العلوم والمعارف التي تطغى عليها صفة الجدية كالفقه، والتفسير، والحديث، وطرأ على نفسه السأم، قطع الحديث عنها وقال:

ص: 38


1- البداية والنهاية ج 2 : 301
2- عيون الأخبار ج 1 : 146
3- المصدر السابق

«أحمضوا».

جاء في نهاية ابن الأثير في حديث ابن عباس كان يقول: «إذا أفاض من عنده في الحديث بعد القرآن والتفسير أحمضوا يقال أحمض القوم إحماضاً إذا أفاضوا فيما يؤنسهم من الكلام والأخبار، والأصل فيه الحمض من النبات، وهو للإبل كالفاكهة للإنسان».(1)

قال أبو حيان التوحيدي : «وما أراه أراد بذلك إلا لتعديل النفس لئلا يلحقها كلال الجد؛ ولتقتبس نشاطاً في المستأنف ؛ ولتستعدّ لقبول ما يرد عليها فتسمع».(2)

وسيأتي عرض بعض النماذج التي كان يروّح بها نفسه.

وهكذا كان حريصاً على البرّ بنفسه وإسعادها، ورفع مكانتها، وقد سبق أن سمعنا كيف كان يعنى بالمظهر الخارجي لجسمه، سواء بتطييبه، أم باختيار أفخر اللباس له.

وأخال أننا قد أطلنا في الوقوف عند هذا القسم من أقسام شخصيته، حيث عرضنا القسم من قيمه كنموذج لما كان يتصف به من كريم الأخلاق، واكتفينا بها عن استقصاء قيمه مّما تسالم عليه مؤرّخوه ودلّت عليه جملة ما حُرّر من سيرته، كالصدق، جميع والإخلاص، وأمثالهما.

ونهاية الحديث أنّ عواطفه وأخلاقه التي رأيناها كانت تنتظم جميعاً في الإطار الذي وضعه الإسلام، أو أقره، من قيم وعادات العرب.

ص: 39


1- النهاية لابن الأثير - المطبعة العثمانية، مصر، سنة الطبع 1311 ه- مادة حمض
2- الإمتاع والمؤانسة ج 2: 60

ص: 40

ثالثاً: قدراته العقلية

اشارة

ويراد بالقدرات العقليّة تلك القوى التي تبعث بصاحبها على التصوّر والانتباه والإدراك والتذكّر والتخيّل والتفكير.. وما إلى ذلك.

وهذه القوى ربّما تعتبر في بذورها الأولى موروثة غالباً، ولكنّها تتسع وتنمو تبعاً لما يطرأ عليها من تجارب وخبرات بحكم وضعها في بيئة وزمن معيّنين.

وبما أن هذه القوى من القوى الداخليّة التي لا يمكن بلوغها بالملاحظة الخارجية، فإن طريقنا إليها ينحصر بملاحظاته الذاتية أولاً، ثمّ بمعطياتها من التجارب، سواء في مجالاته العلميّة أم الأدبية أم غيرهما، مما يمكن بلوغه بالملاحظة الخارجيّة المنظّمة ثانياً .

وعلى هذا فإن دراستنا لابن عباس في هذا القسم من أقسام شخصيته سوف تعتمد على ما أُثر عن انطباعاته الذاتية عنها، وانطباعات معاصريه على آثارها، ثمّ على آثاره التي تركها، والتي تحدد له مستواه الثقافي العام، وهذه القدرات يندرج جملة منها تحت عنوان الذكاء ..

الذكاء

وقد فسّروا الذكاء «بحضور الذهن وسرعة الخاطر وصفاء القريحة»(1)، وعرّفه بعضهم بأنّه «القدرة على تحقيق التكيف بين الشخص والمواقف الجديدة» .(2)

ص: 41


1- الشخصية - محمد عطية الأبراشي، مطبعة دار المعارف، مصر، ط 6 ، سنة الطبع 1373 ه-: 18
2- مبادئ علم النفس العام: 290

وارتأى يوسف مراد - اعتماداً على ما تمدّه به اللغة من عناصر معنى عناصر معنى الذكاء، ومن الخبرة اليومية - أن يكون تعريفه «بأنّه حدّة الفهم الفطرية، التي تهيئ الإنسان لاكتساب أكبر قدر من المعارف، في أقصر مدة ممكنة ولاستخدام هذه المعارف على أحسن وجه لحلّ المشاكل الجديدة».(1)

ومهما كان شأن هذه التعريفات من الدقّة، فإنّها لا تخرج في مدلولها عن الرسوم الناقصة التي تحدّد معرّفاتها باللوازم الخاصة دون إدراك لواقعها إدراكاً محدداً، وحسبنا في هذا البحث أن ندركه بآثاره لنبلغ به إلى مرحلته التطبيقية بالنسبة لابن عباس.

وفي حدود هذه التعاريف، فإن ابن عباس من أكثر الناس حضور ذهن وصفاء قريحة وأقدرهم على تحقيق التكيف بينه وبين المواقف الجديدة، وأعظمهم قدرة على اكتساب المعارف في أقصر مدّة وقد أمدّنا الجزء الأول من هذا الكتاب بمختلف الشواهد على ذلك، وبخاصة في الفصلين الأوّلين: حتى المراهقة ، ومراحل الشباب.

ورأيناه هناك . سواء بمحاوراته أم بسعيه الحثيث في طلب المعرفة، أم بتكيفه مع ما جد له من المواقف - مضرب الامثال في ذلك كلّه.

وأخالنا على ذكرٍ من مواقفه مع النبي صلی الله علیه و آله وسلم حين كانت تبعث في نفسه بواعث النشوة، فيرسل فيه كلمة إعجاب أو دعاء

أمثال قوله: «هذا شيخ قريش»(2) و «اللهم علّمه الحكمة»(3)، و«زده فهماً وعلماً»(4)، ثم مدى وعيه عنه على صغره، وتتبعه لمختلف شؤونه، ثم مواقفه مع عمر، وما كان

ص: 42


1- مبادئ علم النفس العام : 290
2- ذخائر العقبى : 235 - 236
3- أسد الغابة - المطبعة الوهبية، مصر، سنة الطبع 1280 ه- ج 3: 193
4- ذخائر العقبى : 227

يرسل فيها من كلمات الثناء أمثال قوله : «من ظنّ أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم فقد ظنّ عجزاً»(1)، وكان يراه أحسن فتيانهم عقلا ويدعوه مع أكابر الصحابة، ولا يعدو رأيه كما كانت تقول الروايات(2) مع صغر سنّه ، وقد كان موضع إعجاب معاصريه - على اختلافهم - في مختلف أدوار حياته.. وستأتي بعض تقييماتهم له في مواضعها من الصفحات الآتية ..

وإذا صحّ ما قيل من أنّ الذكاء هو «سرعة الفهم وحدته»(3)، وأن السرعة عندما تصل إلى أقصى حد يقال عن الشخص أنه ألمعي(4) ، فصاحبنا كان موفور الحظ من الألمعيّة.

الألمعية

والألمعي هو «الفطن الذكي الذي يتبين عواقب الأمور بأدنى لمحة تلوح له».(5)

كما يقول الشاعر:

الألمعيّ الذي يظنّ بك الظ***نّ كأن قد رأى وقد سمعا

وكثيراً ما كان يقرأ أفكار أصحابه وينبئهم فتصدق فراسته، كما صنع مع الخليفة ،عمر، وسبق أن ذكرنا ذلك في موضعه .. وكثيراً ما كان يقول له - وهو يعرض في الأمور مع جلّة أصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم - : «غص غواص».(6)

ص: 43


1- أسد الغابة ج 3: 193
2- انظر ذخائر العقبی: 229
3- مبادئ علم النفس العام : 287
4- انظر المصدر السابق
5- المصدر السابق
6- البيان والتبيين ج 2 : 139

وكانت قريش تعدّه من أهل الجزالة في الرأي (1)، وله نظرات جد صائبة يرسلها بكلماته القصار.

قيل له - في حادثة الحرّة - إن الانصار أمروا عبد الله بن حنظلة وأمرت قريش عبد الله بن مطيع، فقال: «أميران! هلك القوم».(2)

وذُكر الغوغاء عنده فقال: «ما اجتمعوا قط إلّا ضرّوا ولا افترقوا إلّا نفعوا، قيل له قد علمنا ما ضر ،اجتماعهم، فما نفع افتراقهم؟ قال: يذهب الحجام إلى دكانه، والحداد إلى أكياره، وكلّ صانع إلى صناعته».(3)

وما أروع وأصدق تصوير الإمام علیه السلام العبقريته حين قال: «لله در ابن عباس إن كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق» (4) ، وفي رواية «لله بلاء ابن عباس إنّه لينظر إلى الغيب بستر رقيق»، ويقال أنه قالها على أثر تنبئه بغلبة معاوية، ففي - له مع الإمام علیه السلام وقد قال له : «لا أعطيه إلّا السيف حتى يغلبه الحق» .. «والله لا يعطيك إلا السيف حتى يغلبك الباطل، قال: وكيف ذلك قال : لأنك تطاع اليوم وتعصى غداً، وإنه يطاع ولا يعصى»، يقول الراوي: «فلما انتشر عن علي أصحابه قال : لله بلاء ابن عباس.. الخ».(5)

وقد سبق تنبؤه أمام عمر عن اختلاف أهل الكوفة، ونظائر ذلك كثير .. يقول ابن أبي مليكة : «ما رأيت أكثر صواباً ولا أحضر جواباً من ابن عباس».(6) (6) .

ص: 44


1- انظر البيان والتبيين ج 2 : 139
2- العقد الفريد ج 5: 129
3- المصدر السابق ج 2 : 132 - 133
4- المصدر السابق ج 2 : 181
5- العقد الفريد ج 5: 89
6- المصدر السابق ج 4 : 81

وربّما وردت عنه بعض الاخبار الغيبية، وهي لا ترتبط بما ذكرناه - وإن صحت عنه - فهي تستقى من مورد آخر لا يخضع لما نعرفه من تعاليل.

النبوغ

وإذا صحّ ما ذكره بعض العلماء من توسعة معنى الذكاء إلى القدرة على تحصيل

المعلومات، واعتباره «الفارق هنا بين متوسط الذكاء وبين النابغة هو السرعة في التحصيل من جهة، وكثرة ما يحصل وحذقه من جهة أخرى»(1)، فإن ابن عباس ذو قدرة واسعة في تحصيل المعلومات وعلى درجة كبيرة من النبوغ، لسرعة تحصيله الفائقة لمختلف معلوماته ، وكثرتها كثرة كادت تستوعب مختلف معارف عصره، وله أساليب في تحصيلها يكاد ينفرد بها بين معاصريه

وقبل أن ندخل في تقييم هذا الجانب من جوانب شخصيّته، ونشخّص مستواه الثقافي العام، من طريق ما قيمه معاصروه، أو خلّفه هو من آثار ، أرى أن نعرض لمختلف معارف عصره بشيء من الحديث، كتمهيد لمعرفة مدى علقته بثقافة عصره تأثيراً وتأثّراً.

من الواضح جداً أن الثقافة العربية قبل الإسلام في الحجاز كانت محدودة في غالبها، تبعاً لضيق حضارتهم، وكانت لا تعدو في واقعها الشعر نظماً ورواية، وبعض الفنون الأدبية الأخرى كالخطابة والكلم القصار ، ثمّ التأريخ وأخبار العرب في غزواتهم ومآثرهم بما فيها من جوانب أسطورية كان يعتمدها رواة الحديث والقصاصون غالباً.

وجاء الإسلام فوسّع من حضارتهم، ونشأت تبعاً لذلك علوم أخرى، تناول بعضها القرآن تدويناً وتفسيراً، وبعضها السيرة، وسنّة النبي صلی الله علیه و آله وسلم جمعاً ورواية، وبعضها الثالث الفقه والتشريع.

ص: 45


1- مبادئ علم النفس العام: 289

وكثرت الفتوح وامتزجت الثقافات وتفاعلت، فتولّد من ذلك نواة علوم أخرى، يرتبط بعضها بالكلام والفلسفة، وبعضها بالأديان السابقة وملابساتها.

وقد توسّع التأريخ فشمل أمماً أخرى، وتناول في روايته أكثر من جانب من جوانبهم .

معارف وتقييم

وقد قدّر لابن عباس أن يدرك هذا العصر بجميع معارفه، فيعيها وعياً كاملاً، ويضيف إليها من تجاربه ما يعمّق الكثير منها أو يزيد في رصيدها، وقد حدّد لنا بعض رواته ما وعاه منها ، وما طرقه من بحوث، يقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: «كان ابن عباس قد فات الناس بخصال، بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم وسبب وتأويل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم منه، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا بتفسير القرآن، ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أعلم بما مضى ولا أثقف رأياً فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يوماً ولا يذكر فيه إلّا الفقه ويوماً التأويل ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، وما رأيت عالماً قطّ جلس إليه إلّا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً».(1)

ومن هذا الحديث - وله نظائر سبق بعضها - يتبيّن لنا عدة أمور، يتعلق بعضها بتقييمه من وجهة نظره فيه، كقوله : (قد فات الناس بخصال)، وقوله : (ما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه.. الخ).

وبعضها بتقييم معاصريه وبخضوعهم له، وثالثة بالمعارف التي يحسنها، وهي

ص: 46


1- أسد الغابة ج 3: 193 ، انظر طبقات ابن سد ج 2 قسم 2: 122

ترجع في أصولها إلى ستة:

1 - القرآن.

2 - التفسير .

3 - الحديث.

4 - الفقه .

5 - السيرة والتأريخ.

6 - الأدب والشعر.

ونضيف إليها بعض المسائل الكلامية التي كان يطرقها ابن عباس ولم يتعرّض له- هذا الراوي.

ويحسن قبل أن ندخل في دراسة هذه الجوانب وتقييمها أن نلتمس آراء معاصريه فيها جملة، ونلقيها كأضواء بين يدي بحثنا ، فربّما عثرنا فيها على ما يضيء لنا السبيل إلى الحكم له أو عليه.

وما ورد عن هؤلاء أساتذة، وزملاء، وتلاميذ، يكاد يتفق على رفعه إلى القمة من أعلام ذلك العصر، وفي الكثير منها تفضيله على مختلف معاصريه، اللهم إلّا بعض الروايات، فقد استثنت كبير أساتذته بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الإمام علي علیه السلام من ذلك(1) .. وسيأتي في تضاعيف حديثه ما يقرّ هذا الاستثناء ويعترف به.

فالخليفة عمر يقول له - كما سبق -: « لقد علمت علماً ما علمناه»، ويقول له:

ص: 47


1- انظر مذاهب التفسير الإسلامي - ترجمة عبد الحميد النجار، المطبعة المحمدية، مصر، سنة الطبع 1374ه- : 84

«اشهد أنك تنطق عن بيت نبوّة »(1) ويقول فيه: «لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منّا رجل».(2)

وقد جاء نظير هذا عن ابن مسعود: «لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد»(3)، إلا أن رواية النهاية وغيرها «ما عاشره منا رجل»، وقد عقب عليها بقوله: «أي لو كان في السن مثلنا ما بلغ أحد منّا عشر علمه».(4)

ويقول فيه سعد بن أبي وقاص: «ما رأيت أحداً أحضر فهماً، ولا ألبّ لباً، ولا أكثر علماً، ولا أوسع حلماً من ابن عباس، ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، ثم يقول: عندك، قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله ، وإن حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار».(5)

وكان ابن عمر يقول: «أعلمنا ابن عباس» (6) وترى فيه أم سلمة - أم المؤمنين - أنه أعلم من بقي قالتها حين قال لها نبهان: أرى الناس على ابن عباس منقصفين».(7)

ومما أُثر عن أبيّ بن كعب «وكان عنده ابن عباس فقام فقال: هذا يكون حبر هذه الأمة، أوتي عقلاً وعلماً وفهماً».(8)

ص: 48


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 122
2- المعرفة والتأريخ : 495
3- البداية والنهاية ج 8: 300
4- النهاية في غريب الحديث - مادة عشر
5- البداية والنهاية ج 8: 300
6- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 122
7- المصدر السابق ج 2 قسم 2 : 123
8- المصدر السابق

وقال فيه طلحة بن عبيد الله : «لقد أعطي ابن عباس فهماً ولقناً وعلماً».(1)

ويقول جابر بن عبد الله وقد بلغه موت ابن عباس -: «مات أعلم الناس وأحلم الناس»(2).. إلى جملة من أمثالها صدرت عن أمثال هؤلاء في حقه، وهي تجمع أو تكاد على رفعه إلى المقام الأول من بين العلماء المعاصرين له، وربّما دخلت بعضها بعض المبالغات، وتُزيّد في الكثير منها، كما تقتضيه عادة أمثالها بالنسبة إلى أمثاله تمن كان موضعاً لازدحام العوامل للوضع عليه، على نحو ما شرحناه في مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب ولكن ذلك لا يمنعنا من الاعتراف بتواتر مضمونها ؛ لكثرة رواته وتنوّعهم وامتناع تواطئهم على الكذب عادة.

أما تلامذته ورواته فقد كانوا هم الآخرين أكثر إعجاباً بعلمه من أي أحد، وكلماتهم طافحة بالإكبار له بأمثال التقييمات السابقة، وما يفوقها إعجاباً وإكباراً.

فأبن المسبب يقول : «ابن عباس أعلم الناس»(3)، ويقول مجاهد: «ما رأيت مثله قط ولقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الأمّة».(4)

ويقول عطاء: «ما رأيت مجلساً أكرم من مجلس ابن عباس، ولا أكثر فقهاً، ولا أعظم هيبة، أصحاب القرآن يسألونه، وأصحاب العربية يسألونه، وأصحاب الشعر يسألونه، فكلهم يصدر في واد أوسع» ( ) .(5)

وقال رافع بن خديج يوم مات: «مات اليوم من كان يحتاج إليه من بين المشرق

ص: 49


1- طبقات ابن سعد
2- المصدر السابق: 124
3- البداية والنهاية ج 8 : 301
4- المصدر السابق
5- المصدر السابق

والمغرب في العالم».(1)

وقيل لطاووس: «لزمت هذا الغلام - يعني ابن عباس - وتركت الأكابر من

أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقال : إني رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إذا تدارؤوا في شيء صاروا إلى قول ابن عباس».(2)

وفي رواية «أدركت نحو خمسمائة من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، إذا ذكروا ابن عباس فخالفوه لم يزل يقرّرهم حتى ينتهوا إلى قوله».(3)

وكان يراه «قد سبق على الناس كما تسبق النخلة السحوق على الودي الصغار».(4)

وكان عطاء إذا حدّث عنه قال : «قال البحر وفعل البحر»(5) .. إلى كثير من أمثال هذا الكلم، وهي كسابقاتها في دخول المبالغة لبعضها، إلّا أنّها متواترة مضموناً ايضاً.

وهناك كلمات خصّصت في إكباره في بعض العلوم، كالفقه والتفسير والحديث.. ستأتي في مواضعها من الأحاديث الآتية...

وخلاصة ما انتهينا إليه أنّه كان موضع إكبار معاصريه من الصحابة والتابعين، وما رأيت من وهّن من مقامه العلمي حتى من قبل أعدائه، أو من لا يميل إليه، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص يقول «ابن عباس أعلمنا بما مضى، وأفقهنا فيما نزل، مما لم يأت فيه شيء».(6)

ص: 50


1- البداية والنهاية ج 8 : 300
2- طبقات ابن سعد ج 2 : قسم 2 : 120 - 121
3- الاستيعاب ج 2 : 353
4- البداية والنهاية ج 8 : 301
5- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 20
6- المصدر السابق ج 2 : قسم 2 : 124

ومعاوية - فيما يحدّث عكرمة - كان يراه أفقه من مات وعاش(1)، وسيأتي رأي عائشة فيه .. وهكذا.

أمّا رأي من تأخّر عنه من العلماء والمؤلّفين فهو لا يختلف عن رأي معاصريه بشيء، وحسبك أن تعرض إلى أي كتاب من كتب الفقه أو التفسير أو الحديث أو التأريخ أو التراجم – وفيه تقييم لعلماء ذلك العصر وعرض لآرائهم - لترى ما يحيطونه به من إكبار، وما رأيت من طعن أو شكك في مقامه العلميّ أو الأدبي في جملة ما رجعت له في دراستي من مراجع قديمة كانت أو حديثة، وفي قائمة ما رجعت إليه منها في ذيل الكتاب ما يغني عن الإطالة في عرضها لمن أراد التوسع في هذا الموضوع.

أمّا رأي صاحب هذا البحث عنه - إن صح أنّ له رأياً - فهو يتضح من دراسته له في مختلف مجالاته الثقافية، وتقييمه في ضوء ما ينتهي إليه من رأي.

ص: 51


1- انظر طبقات ابن سعد ج 2 قسم2 : 123

ص: 52

1- القرآن

اشارة

فإنه كان يقدّم حديثه على غيره من معارفه، يقول بعض مؤرخيه: «كان يبدأ في مجلسه بالقرآن ثم بالتفسير ثم بالحديث».(1)

ونحن - تبعاً له - سنعطي هذا الجانب أهمية، ونبدأ بالتحدّث عنه، ثم نتبعه بالحديث عنها واحدة واحدة.

والقرآن هو الكتاب المنزل على رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم في نوب متفرقة تبعاً لبواعث وأسباب النزول، وقد حدّث عن أكثر تلكم الاسباب، وهي تلقي كثيراً من الأضواء على فهم النصوص القرآنية فهماً كاملاً، وفي كتب التفسير عرض لأحاديثه المختلفة في ذلك.

يقول صاحب كتاب المباني في مقدمته - وهو يحدّث عن هذا الجانب من جوانب معرفته -: «ومنه ما يعرف من جهة الأسباب التي أنزلت الآيات فيها، والأحوال التي وجهت إليها، وذلك ما قد كان ابن عباس شاهد الكثير منها ، وما لم يشاهده، فقد كان يحدّث به ليلاً ونهاراً في بيت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، و في مجالسه، حتى كان ذلك عنده بمنزلة المشاهد الذي لا استرابة فيه، ومن هذا الوجه يعرف العام والخاص، وما هو من الأوامر

حتم وما ليس بختم و به يفرّق بين الناسخ والمنسوخ».(2)

وهو كلام متين جداً، وفي عرضنا العلائقه بالنبي صلى الله عليه و آله وسلم وتتبعه لمختلف شؤونه - في فصل حتى المراهقة - ما يؤكّد من صحة هذا الكلام، ولو لم يكن هناك سند تأريخي

ص: 53


1- مقدمات في علوم القرآن - مطبعة السنة المحمديّة ، مصر ، سنة الطبع 1954 -: 262
2- المصدر السابق: 56

يؤيد ما جاء فيه لكان لنا من فهمنا لنفسيته وذكاءه، وما تقتضيه طبيعة الأحوال بالنسبة إلى مثله من ذوي العلائق المؤكدة ببطليه النبي صلى الله عليه و آله وسلم والإمام علي علیه السلام ، ما يكفي لتأييده، وبخاصّة وأنه كان في سن قربته من درجة اكتمال ذكائه، وقد «دلّت البحوث المختلفة على أن نمو الذكاء يقف حوالي سن الخامسة عشر»(1) ، وإن لم يكن معنى ذلك «أن النمو العقليّ يقف، ولكن النمو العقلي - بمعنى نمو الخبرة - يستمرّ ما دامت عملية كسب الخبرة فعالة».(2)

يقول: «كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله، وما نزل من القرآن في ذلك»(3)، على أن كثيراً من الأسباب كانت تهمه معرفتها والحديث عنها؛ لعلاقتها ببطله أو بيته.. أمثال آية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»(4) وآية: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ».(5)

وقد مرّ الحديث عنهما وعن نظائرهما في موضعهما من الجزء الأول من هذا الكتاب.

والذي يظهر من بعض المعنيين بهذه البحوث أن لصاحبنا مصحفاً خاصاً يختلف بعض جوانبه عن مصحف عثمان، وقد عنون له السجستاني في كتابه (المصاحف) بمصحف ابن عباس...

مصحف ابن عباس

ويبدو من مصحفه هذا أن هناك اختلافات في بعض مأثوراته من الآيات مع

ص: 54


1- أسس الصحة النفسية: 160
2- المصدر السابق
3- البداية والنهاية ج8: 298
4- المائدة: 3
5- المائدة: 67

مصحف عثمان، وقد سجّل له السجستاني في ستة عشر موضعاً خالف فيها المصحف المتداول(1) ، وكلّها لا تخلو من زيادة أو نقيصة، والآيات التي سجّلها هي:

1- فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، بزيادة لا، فالآية المقروءة اليوم «أَن يَطَّوَفَ بِهِمَا».(2)

2- لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من الله في مواسم الحج، والآية في القرآن «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًاً مِّن رَّبِّكُمْ».(3)

3- ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من الله في مواسم الحج، والآية في القرآن «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًاً مِّن رَّبِّكُمْ»

4- إنما ذلكم الشيطان يخوّفكم أولياءه، وفي القرآن «إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ»(4)، بحذف الضمير.

5 - وأقيموا الحج والعمرة للبيت والمرسوم في القرآن «وَأَتِمُّوا الْحَجَ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه»ِ.(5)

6- وشاروهم في بعض الأمر، والمرسوم في القرآن «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ».(6)

7- وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث، وليس في القرآن المتداول ولا محدّث.

ص: 55


1- المصاحف للسجستاني - تصحيح آرثر جفري، المطبعة الرحمانية، مصر، ط1، سنة الطبع 1355ه- - : 73-77
2- البقرة : 158
3- البقر: 198
4- آل عمران: 175
5- البقرة: 196
6- آل عمران: 159

8- يا حسرة العبادة و في القرآن «يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ».(1)

9- كأنك حفي بها، وفي القرآن عنها.

10- وإن عزموا السراح ، وفي القرآن «وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».(2)

11- وما يعلم تأويله، ويقول الراسخون آمنا به والآية في القرآن :هكذا: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَاّسِحُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ».(3)

12- فان آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا، وفي القرآن «فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَا ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا».(4)

13 - حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، بزيادة وصلاة العصر.

14 - فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، وفي القرآن «فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ».(5)

15- طيبات كانت أحلت لكم ، وفي القرآن «حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ».(6)

16- إذا جاء فتح الله والنصر، والمقروء،«إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ».(7)

وقد أثر نظيرها عنه، كما أثر قسم منها وغيرها من غيره من الصحابة، كعمر،

ص: 56


1- يس: 30
2- البقرة: 227
3- آل عمران: 7
4- البقرة: 137
5- النساء: 24
6- النساء: 160
7- النصر : 1

وعائشة، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود وابن عمر، وابن الزبير، وأمثالهم،ممن حفل كتاب المصاحف وغيره من الكتب المعنية بتسجيل هذه الأمور.

وصاحبنا نفسه يروي عن عمر آية الرجم، ففي حديث له قال: «قال عمر بن الخطاب وهو يخطب على المنبر : إنّ الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلی الله علیه و آله وسلم بالحّق وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فرجم رسول الله ورجمنا بعده، وإني أخاف والله أن يطول بالناس زمان، فيقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا لترك فريضة أنزلها الله ... إلخ » (1) ، ويروي عنه :آية لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أو شران كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم.(2)

والمأثور عن ابن مسعود أنه كان يرى وجود الزيادة في القرآن المتداول، بالإضافة إلى ما يرى في بعض آياته من التحريف بالنقيصة، وقد حذف من مصحفه أمّ الكتاب، والمعوذتين، وهو يقول: «لِمَ تزيدون في كتاب الله ما ليس فيه».(3)

والغريب ما أثر عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وأُبيّ بن كعب من تسجيلهم بمصاحفهم سورتين غريبتين في اسلوبهما ومضامينهما، وهما «بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجر».

و «بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدّ إن عذابك بالكافرين ملحق».(4)

ص: 57


1- انظر مقدمات في علوم القرآن: 37
2- انظر المصدر السابق
3- تأويل مشكل القرآن - شرح أحمد صقر ، دار إحياء الكتب، مصر - : 19
4- الإتقان في علوم القرآن - مطبعة حجازي، القاهرة، سنة الطبع 1368 ه- ج 1 : 67

وقد سماها الراغب الأصفهاني بسورتي القنوت.(1)

وسماهما غيره بسورتي الخلع والحفد؛ لورود مادّة هاتين الكلمتين فيهما.(2)

ولهذه الزيادات أو النقائص أمثال وردت عنه، لا يهم استقصاؤها الآن، والمهم أن نتحدّث - فيما تجرنا إليه من الحديث - عن تحريف القرآن..

التحريف في القرآن

وقصة التحريف والزيادة والنقيصة فيه من القصص التي ملكت على العلماء كثيراً من أفكارهم وأقلامهم، فأطنبوا في البحث عنها، والحديث فيها، والاستدلال لها أو عليها، وقد استقرت كلمة محققيهم على دفعها سواء منهم الشيعة أم السنة، وانفرد قسم قليل من كل منهما بالقول بالنقيصة، كالحشوية من السنة وبعض المحدّثين من الشيعة (3)، وكتب في نقض أقوالهم عشرات الصفحات من مختلف المؤلّفين.

أمّا زيادة السورة في القرآن فالظاهر إجماعهم على خلافها، ولم يعرف بها قائل يقام لرأيه ،وزن اللّهم إلّا ما نسب إلى ابن مسعود، وربّما اعتبر عدمها ضرورة من الضرورات.

وأين من البلغاء من يطيق مجاراة القرآن - وهو المعجز بالإتيان بسورة من مثله لنحلق ،به ويخفى شأنها على المعنيين به جمعاً، وحفظاً، وتقييماً، مع ما عرف من تحدّيه للعرب وغيرهم بذلك، وعجزهم عن مجاراته ومحاكاته.

ص: 58


1- انظر آلاء الرحمن - مطبعة العرفان، صيداً، سنة الطبع 1351 ه- ج 1 : 23 ، نقلا عن الراغب الأصفهاني
2- مناهل العرفان في علوم القرآن - مطبعة عيسى البابي ،مصر ، ط 2 ، سنة الطبع 1361ه-: 264
3- انظر البيان في تفسير القرآن - المطبعة العلمية، النجف، لم تذكر سنة الطبع - ج 1 : 139

أمّا النقيصة، أو زيادة كلمة أو كلمتين، فشأنهما أهون من شأن زيادة سورة كاملة، فقد استدل لدفعها بأدلّة وافرة من الكتاب أمثال قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(1)، بالإضافة إلى بعض الاعتبارات من لزوم تعطيل الكتاب عن الاستدلال بآياته، على ما ورد فيها من أحكام لاحتمال طرو النقص والتحريف عليها، وهو بمنزلة القرينة المتصلة التي لا ينعقد للكلام ظهور قبل الاعتماد على دفعها، ولو بأصل عقلائي، مثل أصالة عدم القرينة، وهو اصل لا يجريه العقلاء - وهو مستند حجيته - في أمثال هذه المقامات، كما هو مذهب المحققين من علماء الأصول.

ومن خير ما يمكن أن يقال في دفع النقيصة : أن ثبوت القرآن لا يكون إلا بالتواتر، ومثله لا بد أن يتحقق ذلك فيه؛ لاهتمام المسلمين به على الإطلاق، وهذه الزيادات التي أُثرت سوا سواء عن ابن عباس أم عن غيره، مهما قيل في صحة نسبتها إليهم، فإنّها لا تخرجها عن أخبار الآحاد، وهي لا تنهض بالحجيّة في أمثال هذه الموارد، وإن نهضت حجيتها في موارد أخر مما لا يتهيّاً أو يتحقق فيه التواتر عادة.

على أن هذا لوصح لكان الإنكار به على عثمان أولى من كثير مما أنكروه عليه من مفارقاته التي أدّت به إلى القتل، وقد سبق أن رأينا ما هو دونها في الأهمية، كيف كان موضعاً لإنكار أكابر الصحابة من أمثال الإمام علیه السلام وابن عباس، وأبي ذر وعمار وابن مسعود وطلحة والزبير وعائشة، وغيرهم.

فأين هم عن هذه النقائص في كتاب الله ؟!... وما لنا نبعد وصاحبنا نفسه ينكر على عثمان أن قرن بين سورة براءة والأنفال .. يقول لعثمان: «ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال - وهي من المثاني - وإلى براءة - وهي من المئين - فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموهما في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟.. فقال

ص: 59


1- الحجر : 9

عثمان: كان رسول الله ما يأتي عليه الزمان وهو ينزّل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وكانت براءة من أواخر لقرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها ، فقبض رسول الله ولم يبيّن لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال»(1) فالذي ينكر على عثمان وضعه السورة في غير موضعها .. أتراه يسكت على إسقاط آية أو سورة من الكتاب أو جملة ذات دلالة ؟!..

وفي حدود ما قرأت من تأريخه لم أجد له نقداً، أو إنكاراً عليه ينتظم في أمثال هذه المواضع ، على أنّ بعض ما أثر عنه في ذلك يمكن المناقشة في سنده، وبعضه يقطع بعدم صدوره عنه، كسورتي الخلع والحفد السابقتين.

و مثل ابن عباس - وهو من أخبر الناس بنظم القرآن وأساليبه، وأعرفهم في الفصاحة والبلاغة - أتراه يمكن أن يدعي أن مثلها مما يمكن أن ينسب إلى القرآن؟!..

مع ما فيها من ركّة الأسلوب وضعف التأليف، وسخف المضامين، والخروج على أبسط قواعد النحو.. أتراه يمكن أن يؤمن أنّ من القرآن: «ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك وأمثالها تما مر عليكم منها.

وما صحّ عنه - إن كان وجد - فهو لا يتجاوز أن يكون من قبيل الإيضاحات والهوامش والتفاسير التي وضعها هو وأخذها من النبي صلى الله عليه و آله وسلم وسلم أمثال قوله: «في مواسم

الحج» قوله: «إلى أجل مسمّى» أو «صلاة العصر» ، وليست من صميم القرآن بشيء، واشتبه على الراوي، ولعلّ بعضها كان من قبيل سبق اللسان، كقوله: «فتح الله والنصر»

ص: 60


1- الإتقان في علوم القرآن ج 1 : 62

إذا صحت رواية أبي نوفل عن أبي عقرب عنه قال سمعت ابن عباس يقرأ في المغرب: إذا جاء فتح الله والنصر».(1)

ومثله ليس بمعصوم، فما أيسر ورود السهو عليه، وعلى أنها لو صحت وصح إيمانه بها، لكان إيماننا باشتباهه - وهو راءٍ واحد - أكثر من إيماننا باشتباه سائر المسلمين، مع امتناع تواطئهم على الكذب؛ لعدم الحاجة إليه.

بقيت هناك فيما يؤثر عنه مخالفات للنص القرآني المتداول، وهي لا تتجاوز التغيير في هيأة الكلمة أو في إعرابها مما يرجع إلى اختلاف القراءات.

اختلاف القراءات

أمثال اكتسب وكسب.. يقول سعيد بن حبير : جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن أكريت نفسي إلى الحج، واشترطت عليهم أن أحجّ ، أفيجزيني ذلك؟ قال: أنت ممن قال الله تعالى أولئك لهم نصيب مما اكتسبوا(2) ، والآية مرسومة في القرآن ممّا كسبوا.

وكذا قراءته لمالك يوم الدين: ملك يوم الدين(3)، وقراءته لصراط الذين أنعمت:سراط الذين أنعمت (4) ، ثم قراءته واذكر بعد أمة: وادكر بعد أمه.(5)

وأمثال ذلك كثير جداً، وقد وقع من أكثر قراء الصحابة، ومثله عادة يقع، وليس في أمثاله تواتر ليمنع من الأخذ بأخبار الآحاد، وربّما أشارت روايته عن نزول القرآن على

ص: 61


1- المصاحف للسجستاني : 81
2- المصاحف : 74
3- انظر مقدمتان في علوم القرآن - تصحيح آرثر جفري، مطبعة دار الصاوي، القاهرة، ط2، سنة الطبع 1392 ه-: 140 . 1392
4- انظر المصدر السابق: 146
5- انظر تأويل مشكل :القرآن 19

سبعة أحرف - كما جاء عن بعضهم - في بعض محاملها إلى هذه الاختلافات.. «روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله: أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف»، وزاد مسلم «قال ابن شهاب: بلغني أنّ تلك السبعة في الأمر الذي يكون واحداً لا يختلف في حلال وحرام».(1)

وقد حمل أبو الفضل الرازي ما جاء عن السبعة أحرف - سواء في هذه الرواية أم غيرها - على أنّ «الكلام لا يخرج عن سبعة أحرف في الاختلاف»(2)، كاختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث ، واختلاف تصريف الأفعال من ماضٍ ومضارعٍ وأمر ، واختلافٍ وجوه الإعراب واختلافِ بالنقص والزيادة، واختلاف بالتقديم والتأخير، واختلاف بالإبدال، ثم اختلاف اللغات.. إلخ.

ولكنّ الذي يظهر من رواية له أخرى أنها أرادت بالسبعة أحرف هي الاختلاف باللغات، ففي رواية أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف يردّد منها في هوازن خمسة أحرف وفي سائر العرب حرفان»(3)، وفي أخرى أنه قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف خمسة منها للعجوز من هوازن سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية وثقيف».(4)

وقد شغل حديث هذه السبعة، واختلاف الرواية فيها باختلاف الرواة أقلام الكتاب فحبّروا فيها وفي توجيهها مئات الأوراق ، وفيهم من أنكر صحّتها؛ لاضطراب

ص: 62


1- صحیح مسلم - مطبعة محمد علي صبيح، مصر، سنة الطبع 1334 ه-: ه - : ج 2 : 202
2- مناهل العرفان : 148
3- مقدمتان في علوم القرآن: 211
4- المصدر السابق

روايتها وتناقض و اختلاف مضامينها، وليس المهمّ تحقيقها الآن، وإن كان مضمون رواية ابن عباس من المراجعة لجبرائيل واستزادته ما يثير فيها بعض علائم التعجب والاستفهام.

وعلى أيِّ فاختلاف القراءات في ضمن هذه الحدود مما لا شك فيه، وربّما ادعى بعضهم أن هذه القراءات المعروفة بالقراءات السبع - وهي قراءة عاصم، وابن عامر، وابن كثير، وأبي عمرو، وحمزة، ونافع، والكسائي.

أو العشر وهي نفسها بضميمة قراءة يزيد بن القعقاع، ويعقوب بن إسحق الحضرمي وخلف بن هشام - متواترة، يقول الزرقاني : «والتحقيق الذي يؤيده الدليل هو أن القراءات العشرة كلّها متواترة، وهو رأي المحققين من الأصوليين والقراء كابن السبكي، وابن الجزري، والنويري . الخ»(1) ، وخالف في ذلك أكثر الباحثين، وليس هنا موضع تحقيقها.

وإذا صح مثل ذلك التواتر، وعلمنا أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، جوّز هذه القراءات، وعنه وردت للتخفيف عن أمته أو غير ذلك من الأسباب التي ذكرت، ولا يمكن أن يطمأن إليها سهل علينا تأويل رجوع أكثر هؤلاء القراء بأسانيدهم المسلسلة إلى ابن عباس، ثم إلى أحد مقرئيه وهو أبي بن كعب، فقراءة نافع عن أبي جعفر القارئ وعن سبعين من التابعين، وهم أخذوا عن عبد الله بن العباس وأبي هريرة عن أبي بن كعب (2) كما أن يزيد بن القعقاع أخذ عنهما عن أبي (3) ، وقد روى أبو عمرو زبان بن العلاء «عن مجاهد بن

ص: 63


1- مناهل العرفان : 434
2- انظر المصدر السابق: 454
3- انظر المصدر السابق 456

جبر وسعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم».(1)

وكذلك ابن كثير، فقد روى عن «مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول صلی الله علیه و آله وسلم».(2)

ومن البعيد أن يقع في هذا الاختلاف الذي تقتضيه طبيعة اختلاف قراءاتهم عنه بحكم وقوعه في سلسلة الإسناد، إذا كانت الواقعة واحدة لا تقبل أكثر من قراءة واحدة، وما يقال بالنسبة له يقال بالنسبة لمقرئه أُبيّ، أو لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الذي يرجعون إليه جميعاً اللهم إلّا إذا كان في بعض أسانيدها ما يوجب القلق، وهي لا تخرج عن كونها أخبار آحاد، ولا أقل من كونها أخبار آحاد في بعض طبقات رواتها، ومن شروط التواتر أن يكون متسلسلاً في جميع الطبقات، ولا يكون في طبقة دون طبقة، ولو تسلسل في جميع الطبقات لكان انتهاؤها إلى أحد العشرة - وهو واحد – يوجب اعتبارها من أخبار الآحاد حتماً.

والذي أخاله أن الواقعة لا تحتمل أكثر من قراءة فمع التعارض في ورودها عن صاحبنا، تأخذ بأوثق الروايتين سنداً وأرفعهما مضموناً وأبلغهما أسلوباً، تبعاً لما يتناسب مع صدق صاحبنا وعلقته بالمصادر الأولية للقرآن الكريم وتقييمه لمنزلته البلاغية التي لا تجارى، وحسبه في ضبطه لكل ما يتعلق بقراءة القرآن أن يكون مقرئاً على صغر سنّه لأمثال عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف بالإضافة إلى رجال من المهاجرين (3)، وعشرات من التابعين، ممن أخذوا عنه وقد مرت قبل قليل الرواية القائلة بتلقي سبعين تابعياً القراءة عنه.

ص: 64


1- مناهل العرفان: 452
2- المصدر السابق: 45
3- انظر ذخائر العقبی: 233

ويبدو أن مصادره على الأكثر في قراءاته - إذا استثنينا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الذي جمع المحكم على عهده(1)، والإمام علي علیه السلام بحكم علائقه بهما وسماعه بالطبع عنهما – أبي بن كعب، - وكان يعدّه من الراسخين في العلم (2) - وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود.

وممّا يؤثر عنه بالنسبة إلى الآخرين قوله: «قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفاً من قراءة ابن مسعود، هذا أحدها «من بقلها وقتائها وثومها وعدسها وبصلها».(3)

وهؤلاء أشهر قراء الصحابة على الإطلاق، وكان من إكباره لعلم زيد أنه حين دُلّي في قبره قال: «من سرّه أن يرى كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم».(4)

فضل القرآن

والحث على حمله وقراءته موضوع أخذ من أحاديث ابن عباس كثيراً، ومن أحاديث الوضاع عليه كثيراً أيضاً، فمن مأثوراته عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم «الأشراف أمتي حملة القرآن».(5)

ومن مأثورات الوضاع عليه ما جاء عن أبي عصمة المروزي، فقد قيل له: «من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس فضل سور القرآن سورة سورة، فقال : إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحق، فوضعت هذا الحديث حسبة».(6)

ص: 65


1- انظر مقدمتان في علوم القرآن: 55
2- انظر البداية والنهاية ج 8: 298
3- المصاحف : 55
4- عيون الأخبار ج 2 : 128
5- مقدمتان في علوم القرآن: 257
6- التذكار - تخريج وتعليق أحمد بن محمد بن الصديق، لم تذكر المطبعة، ط1، سنة الطبع 1355ه- 155

ونظائره كثير ممّا صرحوا أو صرّح راويه بكذبه ووضعه من قبله.

شبه حول القرآن

وكان من أهم ما يُعني به صاحبنا بالنسبة للكتاب دفع شبه حول القرآن.

والذي يبدو أن محاولات تشكيكية كانت ترسل حول ما يشعر - في بدو النظر من اختلاف القرآن وتضارب آياته ونقض بعضها البعض، وربّما كان منشأ هذه المحاولات - بعد انتشار الإسلام - دخول كثير من ذوي الأديان الأخر، وفيهم من لا يرجو لهذا الدين خيراً، أو يرجو له الخير، ولا يدرك أسرار لغته، وأصول الجمع بين الكلام بعضه مع بعض ، ويرى أمثال تلكم الآيات فيثير التساؤل حولها.

وكان ابن عباس - بحكم ثقافته - مفزعاً للكثير ممن يتأثرون بأمثال هذه التساؤلات، يقول سعيد بن جبير : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : رأيت أشياء تختلف من القرآن فقال ابن عباس ما هو ؟ أشكّ ؟ قال : ليس بشكَ ولكنه اختلاف، قال: هات ما اختلف عليك من ذلك، قال أسمع الله يقول: «ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبَّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ»(1) وقال: «وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا» (2) فقد كتموا واسمعه يقول: «فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ» (3)، ثم قال: «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ»(4) وقال : قُلْ «أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ» وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ

ص: 66


1- الأنعام: 23
2- النساء: 42
3- المؤمنون: 101
4- الصافات: 27

سَوَاءٌ لِلسَّائِلِينَ»(1) حتى بلغ طائعين، ثم قال في الآية الأخرى: «أَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاها»(2) ثم قال : «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا»(3) واسمعه يقول: كان الله ما شأنه أن يقول كان» يقول المحدّث «فقال ابن عباس: أما قوله: «ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ» ، فإنّهم لما رأوا يوم القيامة وأنّ الله يغفر لأهل الإسلام، ويغفر الذنوب ولا يغفر شركاً، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحده المشركون – كذا - رجاء أن يغفر لهم، فقالوا: «وَاللهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ» ، فختم الله على أفواههم، وتكلّمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك يود الذين عصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً .

وأما قوله «فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ»،فإنّه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله «فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ» ، «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَام يَنظُرُونَ»(4) ، «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ» ، وأما قوله : «خلق الأرض في يومين، فإن الارض قبل السماء، وكانت السماء دخاناً، فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض.

وأما قوله : «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا» لا يقول جعل فيها جبلاً، وجعل فيها نهراً وجعل فيها شجراً، وجعل فيها بحوراً.

وأما قوله : كان الله فإن الله كان، ولم يزل كذلك، كذلك وهو عزیز حکیم علیم قدير لم يزل كذلك»، ثم عقب ابن عباس على ذلك بقوله:«فما اختلف عليك من

ص: 67


1- فصلت: 9 - 10
2- النازعات: 27
3- النازعات: 30
4- الزمر: 68

القرآن فهو يشبه ما ذكرت لك، وأن الله لم ينزل شيئاً إلا وقد اصاب به الذي أراد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون».(1)

وقد شرح ابن حجر هذا الحديث بتلخيص الشبه والجواب عليها بقوله: «حاصل ما فيه السؤال عن أربعة مواضع.. الأول: نفي المسألة يوم القيامة وإثباتها، الثاني: كتمان المشركين حالهم وإفشاؤه، الثالث: خلق الأرض أو السماء أيهما تقدم، والرابع: الإتيان بحرف كان الدالة على المضي مع أن الصفة لازمة.

و حاصل جواب ابن عباس عن الأول أن نفي المسألة فيما قبل النفخة الثانية، وإثباتها فيما بعد ذلك، وعن الثاني أنهم يكتمون بألسنتهم فتنطق أيديهم وجوارحهم، وعن الثالث أنه بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوّة، ثم خلق السموات فسواهن في يومين، ثم دحا الارض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين، فتلك أربعة أيام للأرض، وعن الرابع بأنّ كان وإن كانت للماضي لكنّها لا تستلزم الانقطاع، بل المراد أنه لم يزل كذلك».(2)

ومن شبه اليهود التي واجهوه بها ما حدثوا من: «أنّ يهودياً قال له إنّكم تزعمون أنّ الله كان عزيزاً حكيماً، فكيف هو اليوم؟ فقال : إنّه كان في نفسه عزيزاً حكيماً».(3)

وكثير من أمثال ذلك جاءت عنه جملة منها يتعلّق بالمتشابه من القرآن، وكان يجيب ما وسعه الجواب، ولا يتأبى أن يعتذر عما لا يحسن الإجابة عليه، وهو الذي كان يقول: «إذا ترك العالم قول لا أدري أصيبت مقالته».(4)

ص: 68


1- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 27
2- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 27
3- المصدر السابق ج 2 : 28
4- عيون الأخبار ج 2 : 125

يقول ابن أبي مليكة: «سأل رجل ابن عباس عن «يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ»(1)، وقوله «يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»(2) ، فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه ألله أعلم بهما»(3)، وزاد ابن أبي حاتم على هذا المقدار حين خرج الحديث بهذا الوجه: «ما أدري ما هي وأكره أن أقول فيهما ما لا أعلم».(4)

يقول ابن أبي مليكة: «فضربت البعير حتى دخلت على سعيد بن المسيب فسئل عن ذلك فلم يدر ما يقول، فقلت له: ألا أخبرك بما حضرت من ابن عباس، فأخبرته فقال ابن المسيب للسائل : هذا ابن عباس قد اتقى أن يقول فيها وهو أعلم مني».(5)

وهناك روايات تذكر له أنه أجاب على هذه المسألة بتعيين اليومين(6)، وما أدري ما قيمة جوابها؟! وهي إن صحت عنه فربّما كان طريق الجمع بينهما أنه فحص عن معناهما ممن أنس منه المعرفة من الصحابة وأهل البيت علیهم السلام بعد هذه الواقعة، ثم كان جوابه ثانياً على ضوء معرفته الجديدة، فتكون الروايات قد حدثت عن أكثر من واقعة واحدة.

وعلى أيّ حال فإنّ له طرق جمع بين الآيات يرجع بعضها إلى الجموع المتعارفة كالعموم والخصوص، وبعضها إلى علمه بالناسخ منها والمنسوخ، وما شابه ذلك تما سنعرض له في تفسيره وفقهه.

والحقيقة أنه لم يترك شيئاً عن القرآن إلا وحدّث به، فقد حدّث عن نزول القرآن إلى

ص: 69


1- السجدة: 5
2- المعارج: 4
3- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 28
4- المصدر السابق
5- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 28
6- انظر المصدر السابق

السماء الأولى جملة، ثم نزوله تفاريق في عشرين سنة.(1)

وحدّث عن السور المكية والمدنية منه (2) وعن أول ما نزل (3) وآخره (4).. إلى ما هنالك من أحاديث تجدها مبثوثة في الكتب المعنيّة بهذه البحوث، ومنها تعرف مدى ما وضع عليه في ذلك كلّه، عندما تجد الواقعة منها لا تخلو عن أكثر من صورة من صور التضارب والاختلاف.

وأخال أننا قد أطلنا في الوقوف عند هذا الجانب فلنتركه إلى ما يتعلق بتفسير القرآن.

ص: 70


1- انظر مناهل العرفان: 37
2- انظر مقدمتان في علوم القرآن: 8
3- انظر المصدر السابق: 289
4- انظر المصدر السابق: 41

2- التفسير

اشارة

(1)

ومن نافلة القول أن نؤكّد على قيمته العلميّة في هذا المجال، وعظم مقامه بين معاصريه فإنّ معاصريه أنفسهم كانوا يرون له مقام الصدارة في التفسير، وربّما كان أكثرهم تأثيراً في تكوين رأي عام علمي فيه؛ لكثرة من أخذ عنه هذا العلم.

وترجمان القرآن لقب يكاد يكون علماً عليه، إذا أطلق في كلام، وقد أطلقه عليه غير واحد من الصحابة كعمر(1) وابن مسعود(2) ، ونسبت إليه بعض الروايات - التي لا نعلم مداها من الصحة - أنّ تلقيبه بذلك كان من النبي صلی الله علیه و آله وسلم فعن مجاهد: «أنه قال: قال لي ابن عباس : قال لي رسول الله : نعم ترجمان القرآن أنت».(3)

وكان ابن عمر يقول : «ابن عباس أعلم الناس بما أنزل على محمد» .(4)

وقد أثنى أستاذه الإمام علیه السلام على تفسيره وحضّ على الأخذ عنه.(5)

وقد اعتبره ابن عطية بعد الإمام علیه السلام بلا فصل في رتبته في التفسير فقال: (فأمّا صدر

ص: 71


1- انظر البداية والنهاية ج 8: 299
2- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 188
3- المصدر السابق ج 2 : 187
4- البداية والنهاية ج 8 : 300
5- انظر مقدمتان في علوم القرآن: 264

المفسّرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب، ويتلوه عبد الله بن عباس وهو تجرّد للأمر وكمّله»(1).. إلى ما هنالك من عشرات التقييمات صدرت عمّن عاصره وغيرهم من العلماء، وبخاصة تلامذته، وكلّها تُجمع على وضعه في مستوى لا يرقى إليه إلّا القليل من الأعلام في ذلك العصر.

وربما سمعه بعضهم وهو يفسّر آيات من الكتاب فاهتز إعجاباً، وضاقت عليه التعابير ، فالتمس أساليب من الكلام تختلف عن تلكم التقييمات.. يقول أبو وائل: «حججت أنا وصاحب لي وابن عباس على الحجّ فجعل يقرأ سورة النور ويفسّرها، فقال صاحبي : يا سبحان الله ماذا يخرج من راس هذا الرجل؟ ! لو سمعت هذا الترك لأسلمت».(2)

وفي رواية شقيق قال: «خطب ابن عباس وهو على الموسم، فافتتح سورة النور فجعل يقرأ ويفسّر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، لو سمعته فارس والروم لأسلمت».(3)

يقول جولد تسيهر : «وتجلو للتصوّر الذهني رفيع اختصاصه بعمل المفسّر للقرآن كلمة منسوبة إلى تلميذه مجاهد كان إذا فسّر القرآن رأيت على وجهه النور».(4)

ودلالة هذه الكلمة على إعجاب صاحبها وتأثّره بأستاذه بحيث كان يملك عليه حتى بصره، فلا يبصر فيه غير النور ينطلق من أساريره وهو يفسّر القرآن، أبلغ من دلالتها على تصوير واقع تأريخي.

ص: 72


1- مقدمتان في علوم القرآن: 263
2- المستدرك على الصحيحين ج 3: 537
3- المصدر السابق
4- مذاهب التفسير الإسلامي: 84

وحين فسّر الآية الثالثة والعشرين من سورة النور وثب بعض مستمعيه فقبّل راسه إعجاباً.(1)

ويبدو أن تقبيل الرأس كان من أبلغ تعبيراتهم عن الإعجاب.

والغريب من أمر جولد بسيهر أنه حين عرض هذه القصّة عرضها بسخرية لاذعة فقال: «واختلافهم إلى هذا المفسّر القديم لم يعرض دائماً في أسلوب مدرّس جاف، بل أحياناً في مظهر مسرحي زاخر بالحياة، فقد روي مثلاً أن مستمعيه غمرتهم النشوة والسرور إذا فسّر الآية الثالثة والعشرين من سورة النور .. الخ».(2)

وما أدري أين موضع الغرابة فيها إذا عرفنا أن هذه عادة كانوا يلجؤون إليها للتعبير عن إعجابهم أحياناً؟! وقد قبل عمر رأس عبد الله بن سلام إعجاباً(3)، وقال سعيد بن جبير: «كان ابن عباس ليحدثني ،الحديث ، فلو يأذن لي أن أقبل رأسه لفعلت»(4)، اللهم إلّا إذا كان لا يرى في ابن عباس موضعاً لأي إعجاب، حتى إذا قيس إلى الزمن الذي جاء فيه، أو يرى في هذا المعجب ما يسمو به عن الإعجاب بأمثال ابن عباس!!.

والحق أن هذا الكاتب - في كتابه هذا - لم يكن موضوعياً كما يرجى له أن يكون، وإنما كان صاحب هوى يطغى عليه هواه في عرضه لمختلف أنحاء ما بحثه من مذاهب التفسير، وقد نبه المترجم على كثير من مفارقاته في الهوامش، وأغفل الكثير منها.

والذي يهمنا الآن.. بعد كل هذا الإعجاب والإكبار له من معاصريه أن ندخل في دراسة علم التفسير وبعض ما علق بها من ملابسات، ثم موقف ابن عباس منه ومنها.

ص: 73


1- انظر مذاهب التفسير الإسلامي: 92
2- المصدر السابق 91 - 92
3- انظر هامش المصدر السابق: 92
4- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 123

ويراد بالتفسير - فيما يقول الفناري -: «معرفة أحوال كلام الله سبحانه وتعالى من حيث القرآنية، ومن حيث دلالته على ما يُعلم أو يُظن أنه مراد الله سبحانه وتعالى، بقدر الطاقة الإنسانيّة».(1)

وعرّفه غيره بتعاريف لا تخلو كلّها من الإشكال عكساً وطرداً، وقد اعتبروا هذا التعريف أهمها على الإطلاق، وأسلمها من المؤاخذات، وناقش بعضهم فيه من حيث عدم كونه مانعاً لدخول البحث عن أحواله من حيث القرآنية فيه، وهي خارجة عن علم التفسير، وإنّما هي من شؤون علوم أخر كعلم القراءات وأسباب النزول ونظائرها، وقد قدمنا فيها الحديث لذلك مستقلة عن علم التفسير، وإن لابسته، وألقت الأضواء على بعض مباحثه

وكلمة«على ما يُعلم أو يُظن» وقعت في غير موقعها من التعريف لأن العلم والظن بمرادات الله ناشئان عن الدلالة ، لا أنها واقعة عليهما .

فكلمة التفسير أوضح من أن تعرف بأمثال هذه التعاريف، وجلّها يعود إلى شرح الاسم لا التعريف حقيقةً.

ومهما يكن فإن الدلالة على مرادات المولى من الآيات القرآنية تتوقف على..

1- معرفة مفردات القرآن ودلالتها اللغوية على معانيها.

2- معرفة الجمل التركيبية وأساليب أدائها، بما تكشف عنه من استعمالات حقيقية أو مجازيّة أو كنائيّة أو غيرها من أساليب البيان.

3- الخبرة بأساليب الجمع العرفية بين الأدلّة، إذا ظهر بينها ما يشعر بالتناقض والاختلاف.

ص: 74


1- كشف الظنون - مطبعة وكالة المعارف، مصر، سنة الطبع 1941 - ج 1: 428

4- الخبرة بمختلف المعارف التي يعرض إليها القرآن بما فيها أحاديث الأمم السابقة.

5- معرفة أساب النزول وغيرها - تما عرضناه سابقاً - لما يلقى من الأضواء على مرادات المولى.

وهذه مجتمعة تشكل أهم الركائز للثقافة التي يحتاج إليها المفسرون.. فأين موقع ابن عباس منها؟ .

ثروته اللغويّة

وفي حدود ما ذكر له المؤرخون، كان من أثرى معاصريه من العرب خبرة بمفردات اللغة، واطّلاعاً على معانيها، وحفظ الشواهد عليها من أشعار العرب.

وهو طبيعي لمثله ممن ولد ونشأ بمكة عاصمة الثقافة العربية إذ ذاك، واتصل بأهلها

فوعى عليهم لغتهم منذ طفولته .

ولغة القرآن في أكثرها هي لغة أهلها من قريش، ثم هاجر إلى المدينة، فتعرف على بلغائها وشعرائها، وكانت له من الحافظة ما جعلته مضرب الأمثال فيها، ولو لم يكن له إلّا بيته – وفيه من سادة البلغاء أمثال النبي صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علي علیه السلام ، وأبيه، وأخيه الفضل - لكفاه ذلك .

ومن الطبيعي أن لا يسمع كلمة لغويّة يستعصي عليه فهمها دون أن يسأل عنها من أحد هؤلاء، أو غيرهم من معاصريه، وبخاصة إذا كانت في القرآن دستور المسلمين، وقد عرفنا مدى علقته به حين وعى منه محكمه، وجمعه، وهو بعد في سن المراهقة ومن هنا لا نستكثر عليه - وهو ذو اللسان السؤول والقلب العقول كما كان يلقّبه عمر(1)-

ص: 75


1- انظر الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 188

إذا أدرك جلّ ما في القرآن من ألفاظ لغويّة، وميّز بين ما يكون منها عربياً في أصله، وما يكون غير عربي، أو دخل إلى لغة العرب فتعرّب باستعمالاتهم، كالألفاظ التي وردت إليهم من الحبشة وغيرها، ثم ميّز العربي في لهجاته المختلفة كالقرشيّة واليمانية وغيرهما.

وقد نص - كثير ممّن عني بالبحث عن مفردات القرآن من المؤلّفين - على تلكم الألفاظ، وابن عباس هو المصدر في الكثير منها، فمن الألفاظ التي نص على أنها وردت بلغات غير حجازية - فيما حدّثوا عنه - «سامدون» بمعنى الفناء، و «بعل» بمعنى رب في لغة أهل اليمن ، و «الوزر» بمعنى ولد الولد في لغة هذيل ، و «مسطور» بمعنی مکتوب في لغة حمير(1) ، وما شابه ذلك ، وما شابه ذلك من عشرات الكلمات غير الحجازية.

كما حدّث عن بعض الكلمات التي وردت بلغة أهل الحبشة وغيرهم من غير العرب أمثال «حوب» بمعنى الإثم بلغة الحبشة، «وراعنا» كلمة سبّ بلسان

اليهود، «صرهنّ» بمعنى شققهنّ بلغة أهل النبط .. وهكذا.(2)

ويبدو لي أنّ حركة قويّة قامت - بعد انتشار الفتوح - للتشكيك بعربية القرآن من طريق الشك بعربية الكثير من ألفاظه، وبدأت المطالبة في الاستدلال على عربيته بأمثال ألفاظه من الشعر العربي، وليس ببعيد أن يكون ابن عباس على علم من هذه الحركة، تما تدعوه الحاجة إلى أن يزوّد نفسه بالعدّة الكافية لذلك؛ فيبحث في الشعر العربي عن الألفاظ التي لم تعد كثيرة الاستعمال، وورد نظيرها في القرآن، فيحفظها للتدليل بها على عربية ألفاظ القرآن، دحضاً لتلكم الشبه التي يثيرها من لا يريد الخير للإسلام ودستوره بحال.

وليس بعد هذا ما يستبعد على صاحبنا استحضاره للإجابة على كل سؤال يوجّه

ص: 76


1- انظر الإتقان في علوم القرآن ج 1 : 135
2- انظر المصدر السابق ج 1 : 140

إليه في هذا الشأن، ما دامت الضرورة الزمنية تفرض عليه الإعداد والتحضير لذلك.

على أنّ بعضهم - فيما يبدو - كان يريد ذلك منه للتأكد من صحة تفاسيره للكلمات اللغوية الواردة في القرآن لا من جهة التشكيك في صدقه وأمانته، فما كان موضعاً للشكّ فيهما في نظر أصحابه، وإنّما كان ذلك للتوثق والاطمئنان من عدم اشتباهه فيما يكثر فيه الاشتباه عادة.

وما لنا نبعد في التماس أسباب روايته للشعر، وهو نفسه يحدثنا عن نفسه في اعتباره له من مصادر التفسير لما غمض عليه من ألفاظ القرآن ومن مأثوراته في ذلك «الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه».(1)

ثم هو نفسه كان يؤكد على سائليه عن غريب القرآن أن يلتمسوه في الشعر، وكان يحملهم على الإيمان بصحة ما يرويه، يقول عكرمة :

«عن ابن عباس قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإنّ الشعر ديوان العرب» (2) وربّما استشهد ابتداءً على تفسيره بالمأثور من الشعر.. يحدّث عبد الله بن عتبة عنه «أنه كان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر قال أبو عبيدة: يعني كان يستشهد به على التفسير».(3)

وأُثر عنه في ذلك الكثير.. يقول ابن أبي مليكة: «سئل ابن عباس عن «وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ»(4) فقال : وما جمع، ألم تسمع قول الشاعر..

ص: 77


1- الإتقان في علوم القرآن ج 1: 121
2- الإتقان في علوم القرآن ج 1 : 121
3- المصدر السابق
4- الانشقاق: 17

إنّ لنا قلائصاً حقائقاً***مستوسقات لو يجدن سائقاً».(1)

وعن أبي صالح «أنه سمع ابن عباس ينشد للناس هذا البيت في قوله تعالى ي«َوْمَ تُبَدِّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ».(2)..

وما الناس بالناس الذي عهدتم***وما الدار بالدار التي كنت أعرف».(3)

وعن المستدرك أنه سئل عن قوله : «يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ».(4)

قال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر ..

إصبر عناقُ إنّه شرباق***قد سنّ لي قومك ضرب الأعناق

وقامت الحرب بنا على ساق

قال ابن عباس : هذا يوم كرب وشدّة»(5) وفي العمدة لابن رشيق «كان ابن عباس يقول : إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب فإن الشعر ديوان العرب، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعراً».(6)

يقول السيوطي: «قلت: قد روينا عن ابن عباس كثيراً في ذلك وأغرب ما رويناه عنه مسائل نافع بن الأزرق، وقد أخرج بعضها ابن الأنباري في كتاب الوقف، والطبراني

ص: 78


1- مقدمتان في علوم القرآن: 198
2- إبراهيم: 48
3- مقدمتان في علوم القرآن: 199
4- القلم : 42
5- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 8 نقلًا عن المستدرك
6- العمدة لابن رشيق تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة حجازي، مصر، ط1، سنة الطبع 1353ه- ج 1 : 17

في معجمه الكبير ، وقد رأيت أن أسوقها هنا بتمامها لتستفاد».(1)

ويبدو من هذه القصة أنّ هذا الخارجي لم يقصد في اسئلته إليه إلّا طلباً في إحراجه، وربّما كان ذلك لما يحمله له من الرواسب عن مواقفه منهم أيام النخيلة والنهروان.

يقول الراوي: «بينما عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة، قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر : قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به فقاما إليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بمصاديقة من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين فقال: ابن عباس: سلاني عما بدا لكما فقال نافع: أخبرني عن قوله تعالى «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ»(2) قال : العزون حلق الرفاق، قال: وهل تعرف العرب ذلك، قال: نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول...

فجاؤا يهرعون إليه حتى***يكونوا حول منبره عزینا

قال : أخبرني عن قوله: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»(3) قال: الوسيلة الحاجة، قال: وهل تعرف العرب ذلك قال : نعم أما سمعت قول عنترة وهو يقول..

إن الرجال لهم إليكِ وسيلة***أن يأخذوكِ تكحلي وتخضّبي

قال: أخبرني عن قوله : «شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا»(4) قال: الشرعة الدين والمنهاج الطريق، قال: وهل تعرف العرب ذلك، قال: نعم أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يقول ..

ص: 79


1- الإتقان في علوم القرآن : ج 1 : 128
2- المعارج: 37
3- المائدة: 35
4- المائدة : 48

لقد نطق المأمون بالصدق والهدى***وبيّن للإسلام ديناً ومنهجا

قال: أخبرني عن قوله تعالى : «إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ»(1). قال: نضجه، قال: وهل : تعرف العرب ذلك، قال: نعم أما سمعت قول الشاعر ...

إذا مامشت وسط النساء تأودت***كما اهتز غصن ناعم النبت يانع

وهكذا ساق ما يقارب المائتي شاهد كلّها مائتي كلمة من كتاب الله تجدونها جميعاً في الإتقان (2) ، وقد حذف منها - فيما يقول - «بضعة عشر سؤالًا وهي أسئلة مشهورة أخرج الأئمة أفراداً منها بأسانيد مختلفة إلى ابن عباس».(3)

وفي الكامل للمبرّد قطعة منها، رواها، وأطنب في التعليق عن بعض ما جاء فيها من أبيات، ومما قال في التعليق على بعضها هذا قول ابن عباس وهو الحق الذي لا يقدح فيه قادح».(4)

وقد شكك تسيهر في هذه القصة وسخر منها على عادته بقوله:

«وبذلك المبدأ المنهجي المنسوب إلى ابن عباس اقترنت على النمط العربي أسطورة مدرسية عظيمة الإفادة وجدت مدخلاً إلى المعجم الكبير للطبراني».

ثمّ يأتي على قصة نافع باختصار، ويعقب عليها بقوله: «وهذه مبالغة من عالم اللغويين المتأخرين لأبي التفسير الذي نمّى الطريقة اللغويّة في تفسير القرآن».(5)

أمّا لماذا كانت هذه أسطورة؟ وأين موضع الكذب فيها؟ وهل هي خارجة على

ص: 80


1- الأنعام: 99
2- انظر الإتقان في علوم القرآن ج 1 : 121 - 134
3- المصدر السابق ج 1 : 134
4- الكامل في اللغة والأدب - مطبعة مصطفى محمد، مصر، سنة الطبع 1355 ه- 1355 ه- ج 2 : 140
5- مذاهب التفسير الإسلامي: 90

طبيعة زمنها ؟.. ذلك مالم يحدّثنا عنه تسيهر ، وحدّثنا عنه طه حسين في الأدب الجاهلي حين اعتبرها موضوعة في أكثر ابياتها ؛ وذلك بإرساله على طريقته الخاصة في التشكيك فيها، وكأنما إنما وضعت - وهذه أهم الأسباب التي ذكرها - «لإثبات أنّ ألفاظ القرآن كلّها مطابقة للفصيح من لغة العرب، أو لإثبات أن عبد الله بن عباس كان من أقدر الناس على تأويل القرآن وتفسيره، ومن أحفظهم لكلام العرب الجاهليين.. أو أنها وضعت لغرض تعليمي يسير، وهو أن يسمع الطالب لفظاً من ألفاظ القرآن، ويجد الشاهد من غير مشقة ولا عناء، وأراد أحد العلماء أن يفسّر طائفة من ألفاظ القرآن فوضع هذه القصة واتخذها سبيلاً إلى ما أراد».(1)

أمّا لماذا بلغ نكران الذات بهذا العالم إلى هذا الحد بحيث تناسى نفسه وعبقريته، و نسب نتاجها إلى الآخرين ؟!..

وكان بوسعه أن يخلق لنفسه مسائل ويجيب هو؛ ليوفّر لها هذا المجد.. فهذا ما لم يحدّثنا عنه.

والحقيقة أن هذا النهج في التشكيك والحكم على أساسه لا يكفي في إنكار القصّة في غالب أبياتها ، وقد كان يقتضيه الإنصاف أن يحاكمها من وجهة سندها أولاً، فإذا أطمأنّ إلى سلامة رواتها، نسبها إلى الزمن الذي وقعت فيه، فإن كانت ناشزة عنه - لأيّ سبب كان - التمس لوضعها أحد هذه الأسباب أو غيرها، أما أن يعمد ابتداءً إلى شجبها ، وليس في واقع زمنها ما يأباها، والدواعي كما سبق متوفّرة لوجود مثلها، فهذا ما لا نتفق عليه معه بحال.

ولو أردنا أن نفتح أبواب هذه المحتملات لإيقاف الروايات، لم نستطيع أن نسلم

ص: 81


1- في الأدب الجاهلي - دار المعارف، مصر، سنة الطبع 1962م - : 109 - 110

في التأريخ على رواية واحدة.

والظاهر أن القصّة واقعة فعلاً، وربّما أوجد تنقلها بين الرواة تزيدها في بعض الشواهد، كما تقتضي العادة في أمثالها، ولكن الزيادة فيها لم تكن من الكثرة بحيث تطغى على أصلها، كما ربّما يبدو من طه حسين حين ختم كلامه السابق بقوله: «ولعلّ لهذه القصة اصلاً يسيراً جداً .. لعلّ نافعاً سأل ابن عباس عن مسائل قليلة فزاد فيها هذا العالم ومدّها حتى أصبحت رسالة مستقلّة يتداولها الناس».(1)

وإلّا فمن البعيد أن يقصد هذا الخارجي - وهو في مقام التحدّي والتعجيز له بمسائل يسيرة جداً ثم تنتهي المسألة عند هذا الحدّ.

على أن روايته في الكامل تصرح بأنه ساءله - وربّما في أكثر من مجلس - حتى أمله، ومثله لا يمل عادة لسؤالات يسيرة جداً يجيب عليها بدقائق ..

يقول المبرد: «ويروى من غير وجه أنّ ابن الأزرق أتى ابن عباس فجعل يسائله حتى مله، فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس وهو يومئذ غلام ، فسلّم وجلس .. فقال له ابن عباس : ألا تنشدنا شيئاً من شعرك فأنشده ..

أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر***غداة غدٍ أم رائح فمهجّر(2)

في حديث طويل .. وربّما جاء في موضعه من هذا البحث.

ويبدو أن ابن الأزرق قد استاء لهذا الإعراض عنه، والاهتمام بهذا الشاعر ، فقال له: «لله أنت يا ابن عباس أنضرب إليك أكباد الإبل، نسألك عن الدين فتعرض! ويأتيك

ص: 82


1- في الأدب الجاهلي: 110
2- الكامل في اللغة والأدب ج 2 : 144

غلام من قريش .. الحديث».(1)

وهذه الثروة اللغوية التي كانت لديه لم تمنعه من التصريح بأنه كان يجهل الفاظاً من القرآن ولا يعرف معناها، فهو يُسأل عن قوله تعالى: «وَحَنَانَا مِن لَّدُنَّا» (2) فلا يجيب ثمّ يسأله عكرمة عنها فيقول: «لا والله ما أدري ما حنانا».(3)

وهو يجهل معنى «فاطر السماوات» حتى يدلّه عليها أعرابيان جاءا يختصمان عنده فقال أحدهما: «يا ابن عباس بئري أنا فطرتها، فقال: خذها يا مجاهد فاطر السموات».(4)

ويروى عكرمة عنه أنه قال: «كلّ القرآن أعلمه إلا أربعاً «غِسلِينِ»،و«وَحَنَاناً»،و«أَوَّاهُ»،و«وَالرَّقِيمِ».(5)

وفي رواية أخرى يقول: «لا أعرف «وَحَنَانًا» ولا «غِسْلِينِ» ولا «وَالرَّقِيمِ».(6)

ولذلك نظائر لا يهمّ عرضها، وما دام بشراً فلا يبعد أن يقع عنده جهل ببعض الألفاظ.

وما يقال عن ثروته اللغوية يقال عن فهمه للأساليب وتقييمها، وقد يكون من نافلة القول، بعدما عرفنا ونعرف عن وعيه لأكثر ما أثر من بليغ

التحدّث عن ذلك

ص: 83


1- الكامل في اللغة والأدب ج 2 : 145
2- مریم: 13
3- الإتقان في علوم القرآن ج 1 : 115
4- الكنى والأسماء - مطبعة مجلس دائرة المعارف حیدر آباد، سنة الطبع 1322 ه- ج 1 : 82
5- الإتقان في علوم القرآن ج 1 : 115
6- ثلاث رسائل في إعجاز القرآن (الرسالة الأولى) للخطابي - تحقيق محمد خلف الله وآخر، سلسلة ذخائر العرب : 16 ، دار المعارف، مصر - 33

الكلام شعراً ونثراً، وحسبه أن يكون تلميذاً للعربي الأول في بلاغته رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ثمّ لصاحب النهج ومن سنّ الفصاحة لقريش كما كانوا يقولون عنه علیه السلام.

وسيأتي في موضعه نماذج من كلمه وخطبه التي يرتفع بها إلى مستوى القمة من بلغاء ذلك العصر.

وبالطبع إن أصول الجموع العرفية بين كلام وكلام من شؤون وعيه لأساليبهم، وما تعارف فيها من أساليب الجمع، وما لنا نبعد وهو الذي «وضع فكرة الخاص والعام»(1) و «حكي عنه تخصيص عموم»(2) ، وإليه تنسب الكلمة المعروفة التي اشتهرت على ألسنة الأصوليين «ما من عامّ إلا قد خصّ»(3)، وقد استثنى من ذلك «والله بكل شيء عليم».(4)

وبالطبع ما كان ليضع هذه القواعد لولا وعيه على مختلف استعمالاتهم واستفاداتهم من أمثال هذه الجموع، وكان من أكثر من تكلّم بالنسخ وحدّد مواقعه من الكتاب.

معارف القرآن

أمّا علاقته بمعارف القرآن بما فيه من أخبار الأمم السالفة فقد حدّثوا عنه بالشيء الكثير منها، وأكثر ما ورد عنه لا يُطمأن إلى صحة روايته لتناقض مداليله، وخروج الكثير منها على مقتضيات زمنه.

والشيء الذي نستطيع أن نطمئنّ إليه منها هو ما كان جارياً على وفق ما اشتهر من معارف عصره، وما صح عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم هو أستاذه الإمام علیه السلام منها .

ص: 84


1- مناهج البحث عند مفكري الإسلام - دار المعارف، مصر، ط 2 ، سنة الطبع 1965 ، .: 66
2- تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية - لجنة التأليف، مصر، ط 2 ، سنة الطبع 1379 ه- : 234
3- كنز العرفان في فقه القرآن - السيوري، مطبعة دار الخلافة، طهران، سنة الطبع 1313 ه-: 40
4- المصدر السابق

وقد ورد الحديث عنه في كثير من أخبار الأمم السالفة وغيرها مما ينتظم في الإسرائيليات، وقرّبوا أن تكون قد دخلت عليه من اليهود الذين دخلوا في الإسلام أمثال كعب الأحبار ووهب بن منبه وأبي الجلد.

«وفي الطبري والتفاسير ما يفيد أن ابن عباس كان له علم بالتوراة وأنه كان يقرأ التوراة».(1)

والذي أخاله أنه أعمق من أن يؤمن أو يحدّث بما ورد فيها من خرافات، وأنها أقحمت بعد ذلك عليه إقحاماً لغرض تبشيري بحت، وقد استغلت شهرته في التفسير ستاراً تخفي به عن السذج ما استهدفته من هذا الإقحام، وإلّا فمن البعيد جداً أن يحدّث بها، ومصدره الوحيد ،هم، ثم ينهى عن الأخذ عنهم ، ومن مأثوراته «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء»(2)، و «الا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم».(3)

وفي صحيح البخاري «أن ابن عباس قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أحدث؟! تقرؤونه محضاً لم يشب، وقد حدّثكم أنّ أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيّروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً، الا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أُنزل عليكم ..».(4)

ومع إيمانه بأن أهل الكتاب قد بدلوا كتابهم وغيّروه.. أيصح أن يتخذ منه مصدراً التفسير القرآن؟! وهل يجتمع ذلك مع هذا الإصرار على ترك مسألتهم؟! أترونه كان

ص: 85


1- مجلة المجمع العلمي العراقي س 1 ، ج 1 : 227 ، نقلا عن الطبري
2- المصدر السابق: 228
3- المصدر السابق
4- صحيح البخاري - المطبعة العثمانية، مصر، سنة الطبع 1355 ه- ج : 111

يسلم من مؤاخذة خصومه - وهم كثر في مكة والمدينة - لو سجل على نفسه هذا التناقض ؟! وكعب الأحبار وابن منبه وأبو الجلد وعبد الله بن سلام وأمثال هؤلاء، وإن أسلموا، ولكنّ إسلامهم لم يعط المروياتهم عن كتبهم السابقة طابع الصحة، ما دامت الكتب نفسها محرّفة كما ورد في هذا الحديث ونظائره.

وعلاقته بهؤلاء على الخصوص، وهم الذين ذكرهم البعض في مصادر روايته، لم أجد تصريحاً واحداً يطمأنّ إليه في الأخذ عن أحدهم – فيما يخص الإسرائيليات - وكلّ ما وجدته روايات تظهر الصنعة على الكثير منها تنسب إليه الأخذ عن بعضهم تفسير بعض الألفاظ اللغوية... «روي عن عمرو بن ميمون بن مهران قال: سمعت حاضراً وأبا حاضر رجل من الأسد يقول : سمعت ابن عباس يقول: إني لجالس عند معاوية إذ قرأ الآية «وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» ، فقلت : ما تقرؤها إلّا «حَمِئَةٍ»(1) فقال معاوية لعبد الله بن عمر : وكيف تقرؤها ؟ فقال ما قرأتها يا أمير المؤمنين، فقال ابن عباس: فقلت: في بيتي نزل القرآن».. إلى هنا كل شيء في الرواية طبيعي ولكنّ الجوانب غير الطبيعية في تتمّتها فيما يقول الراوي: فأرسل معاوية إلى كعب فقال: أين

تجد الشمس تغرب في التوراة يا كعب ؟

فقال : فأمّا العربية فأنتم أعلم بها ، وأما الشمس فإني أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين، وأشار كعب بيده إلى المغرب، أما إني لو كنت عندكما لرفدتك كلاماً تزداد بصيرة في قولك: حمئة ، فقال ابن عباس وماهو ؟ قلت: فيما عاش من قول تبع، فيما ذكر ذو القرنين في تخلّقه للعلم وابتغائه إياه هو قوله.

بلغ المشارق والمغارب يبتغي***أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى مغار الشمس عند غروبها***في عين ذي خلب وتأط حرمد

ص: 86


1- الكهف : 86

فقال: ابن عباس: وما الخلب؟ قلت الطين بكلامهم، قال: وما الثأط؟ قلت: الحمئة قال: وما الحرمد ؟ قلت الأسود قال : فدعى رجلاً أو غلاماً فقال: «أكتب ما يقول هذا».(1)

وأمر هذه الرواية أيسر من أن يطال في نقدها، والجهالة في سندها، ثم اضطراب مضامينها، وتحوّلها من ضمير المتكلم إلى الغيبة وهو يحدّث عن نفسه، وإقحام تبعّ وذي القرنين مع ارتباك عبارتها .. كل ذلك ممّا يغني عن إطالة الوقوف عندها.

وكذا أُثر عنه في رواية - لا أعلم مدى صحتها - أنه سأل كعباً عن أمّ الكتاب والمرجان(2)، وأنه اختلف مع عمرو بن العاص في قراءة «مِن لَدُنّيِ»(3)هل هي بتشديد نون لدني أو تخفيفها، وأنهما قصدا إلى كعب الأحبار لتسوية هذا الخلاف.(4)

ومثلها ما ورد عن سؤاله من أبي الجلد غيلان بن فروة الأسدي عن معنى كلمة برق، فكتب إليه أبو الجلد إن معناها هنا المطر .(5)

وما أدري أتكفي أمثال هذه الأسئلة والاستفسارات من امثالهم من مسلمة اليهود - وهي لا تتجاوز الألفاظ اللغوية - أن تعطي مدرسته التفسيرية طابعاً ذا مسحة يهوديّة، كما أراد لها المستشرقان أتولوث وتسيهر (6)؟! وإلا فأين ما صح عنه - فيما عداهما - من الروايات التفسيرية المتأثرة بالمسحة اليهودية؛ ليصح لهما الحكم على أساسها ، وحتى هذه أتروننا نستطيع أن نؤمن بسهولة ويسر بصدورها عن مثله؟! أترى

ص: 87


1- مقدمتان في علوم القرآن: 109
2- انظر مذاهب التفسير الإسلامي: 88
3- الكهف : 76
4- انظر مذاهب التفسير الإسلامي: 88
5- انظر هامش مذاهب التفسير الإسلامي: 85
6- انظر مذاهب التفسير الإسلامي: 87

ابن عباس - وهو من هو في علمه وعلقته بكبار الصحابة وعلمائها – يفزع إلى أبي الجلد - مثلاً - مستفسراً عن أشياء قد تكون مطروحة في الطريق من أمثال كلمة (برق)، ويبلغ بها اهتمامه أن يكتب إليه بذلك، ويجيبه ذاك كتبياً؟! أو أنه يختلف مع ابن العاص في قراءة كلمة قرآنية، فيفزعا معاً إلى رجل لم يكن معروفاً بالتخصص بالقراءات! وأين هما عن عن أعلام الصحابة ليلجأ إليهم في فضّ هذه المشكلة، وهم أخبر بها عادة؟!.

ومهما يكن من أمر هذه الروايات فإنّ صحتها لا تدلّ على شيء، والذي صحّ عنه - وكان طبيعياً جداً - هو ما سبق أن ذكرناه من نهيه عن الأخذ من أهل الكتاب، معللاً ذلك بأن أهل الكتاب بدلوا كتابهم المنزل ،وغيّروه، فلا يمكن الوثوق والاطمئنان إلى شيء من رواياتهم - فيما يخصها على الأقل - ومع هذا فهل يمكن لنا أن ننسب إليه الأخذ بالإسرائيليات لنلوّن تفسيره بها ونعطيه صبغة يهودية، كما أراد له هذان المستشرقان؟! .

(3)

وإذا تم ما ذكرناه عن ركائزه التي زوّدته بثقافة المفسّر على أفضل صورها، لم نستكثر عليه بعد ذلك أن يخوض في فهم دقائق القرآن، وأن يكون ترجماناً له، كما لقبه معاصروه ومن تأخر عنه(1)، وقد نال إعجاب أساتذة الإمام علیه السلام الذي أثنى على تفسيره وحضّ على الأخذ عنه وإعجاب الإمام علیه السلام له أهميته الواسعة بعدما عرف مقامه العلمي ومكانته الكبرى بين أعلام المفسرين، يقول ابن مسعود: «إن القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن ، وإن علي بن أبي طالب عنده من الظاهر

ص: 88


1- انظر مقدمتان في علوم القرآن: 264

والباطن».(1)

ويقول هو - أعني الإمام - عن نفسه وهو الصادق: «والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت وأين أنزلت.. إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً».(2)

ثمّ يقول صاحبنا عنه ما رأيت أعلم من علي(3)، وأمثالها مما سترد عنه.

ويبدو أن صاحبنا - مع هذه المؤهلات لديه - لم ينفرد عن أستاذه بتفسير، وإنّما كان يعرض عليه آراءه في ذلك، أو ما يحصله من آراء الآخرين، فإذا وافقت آراء الإمام صح نسبتها إليه، هذا بالإضافة إلى ما كان يأخذه عنه من التفسيرات ابتداءً، حتى صح له - بعد ذلك أن يصرح عن هذا الواقع - كما حدث ابن عطية في مقدمة تفسيره الجامع المحرر - بقوله: «ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب.(4)

وبهذا النص حدّث الزرقاني عنه وعقب عليه: حسبك هذه الشهادة من ترجمان القرآن».(5)

على أنّ هذا الأمر يكاد يكون طبيعياً - حتى إذا لم يصرح به - فطبيعة التلمذة عنه، والملازمة التي عرفنا خطوطها - فيما سبق - كافية في إثبات الدلالة على ذلك.. يقول ابن أبي الحديد: «ومن العلوم علم تفسير القرآن وعنه - يعني الإمام - أخذوا ومنه فرع، وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك، لأن أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه

ص: 89


1- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 187
2- مناهل العرفان : 483
3- انظر الكامل في اللغة والأدب ج 2 : 145
4- مناهل العرفان : 486
5- المصدر السابق

وخرّيجه وقيل له أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط».(1)

(4)

والتفسير بعد ذلك في الحدود التي قسّمه فيها يعود إلى أربعة أقسام:

«1 - تفسير لا يعذر أحد بجهالته.

2 - وتفسير تعرفه العرب بكلامها .

3 - وتفسير يعلمه العلماء.

4 - وتفسير لا يعلمه إلا الله».(2)

ثمّ عقب ناقل الحديث - فيما يبدو - بإلقاء بعض الأضواء على هذا التقسيم، قال: «فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته، فهو ما يلزم به الكافّة من الشرائع التي في القرآن وجل دلائل التوحيد، وأما الذي تعرفه العرب بلسانها فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم، وأما الذي يعلمه العلماء فهو تأويل المتشابه وفروع الأحكام، وأما الذي لا يعلمه إلا الله فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة».(3)

وقد تكلم - فيما أُثر عنه من تفسير - في الجهات الثلاث الأول وترك - بالطبع - ما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحداً من عباده، وكذب من يدعي العلم به فقال

ص: 90


1- شرح نهج البلاغة - مطبعة دار الكتب العربيّة، مصر، سنة الطبع 1399 ه-ج 1 : 6
2- مقدمة مجمع البيان في تفسير القرآن - مطبعة ،العرفان صيدا، سنة الطبع 1333 ه- ج 1 : 7
3- المصدر السابق

- كما في رواية ابن جرير -: «أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسّره العرب، وتفسير تفسّره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه سوی الله فهو كاذب».(1)

والذي يظهر من جملة أحاديثه أن المتشابه على قسمين .. قسم يمكن إدراك مضامينه، ولو من طريق التمسّك بالمأثور من الحديث في تفسيره والقسم الآخر هو الذي لا يعلمه إلّا الله، وبخاصة إذا أخذنا بتفسيره بالمتشابه.

يحدّث علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: «المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأحكامه وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به».(2)

فالمقدّم والمؤخّر والأمثال والأقسام والمنسوخ ، كلّها يمكن البلوغ إليها من طريق الجمع بينها بالمأثورات في تفسيرها، ولكن ما يؤمن به ولا يعمل به ربّما يدخل في ذلك القسم الذي استأثر الله بعلمه، فلم يطلع عليه أحداً.

وجهالته بهذا القسم لا تمنعه من الإيمان به ما دام يعتقد أنه من عند الله، كالمحكم تماماً، وفي ذلك تصريحه : «نؤمن بالمحكم وندين به، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به، وهو من عند الله كلّه».(3)

وأظنّ أن هذه الأحاديث وما شابهها - تما أُثر عنه - لا تبقي مجالاً للنزاع في جواز التفسير بالرأي ،وعدمه، فالقرآن بعضه يمكن البلوغ إلى معانيه من طريق الظهورات المتعارفة، وهو الذي عبّر عنه بالتفسير الذي تعرفه العرب بكلامها، ومثل هذا لا

ص: 91


1- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 4
2- المصدر السابق ج 2 : 1
3- المصدر السابق

يحتاج إلى الاستعانة بالمأثورات، وبخاصة إذا تجلّت هذه الظهورات بالإحاطة بأسباب النزول، والباقي يرجع فيه إلى المأثور عن أهله، وبخاصة القسم الثالث، وهو التفسير الذي يعلمه العلماء، كتفسير ما يمكن تفسيره من المتشابهات.

وربّما عبّروا عن القادرين على تفسير هذا القسم بالراسخين بالعلم واعتبروا آية «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»(1) ، بناءً على عطف الراسخين على اللهمشيرة إليهم، وقد أثر عنه في تفسير هذه الآية أنه قال: «أنا ممن يعلم تأويله».(2)

وقال في تفسير قوله تعالى: «مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلّ»(3): «أنا من أولئك القليل وهم سبعة»(4)، وكانوا يرونه كذلك، يقول طاووس : «كان ابن عباس من الراسخين في العلم».(5)

والذي يبدو من بعض مروياته - التي لا نعرف مدى صحتها - أنه كان يستأثر ببعض علوم القرآن فلا يحدّث بها أحداً؛ لعقيدته أنّ عقول العامة لا تتحملها، أو على الأخص ما جاء منها في تفسير بعض الآيات المتعلّقة بأسلوب الخلق، فقد جاء في تعليقه على آية «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا».(6)

حيث يقول ابن عباس في ذلك: «لو ذكرت تفسيره لرجمتموني»، وفي لفظ آخر

ص: 92


1- آل عمران: 7
2- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 3
3- الكهف : 22
4- طبقات ابن سعد ج 2: قسم 2: 120
5- المصدر السابق ج 2 : قسم 2 : 123
6- الطلاق: 12

«لقلتم : إنّه كافر».(1)

وقد اعتبر ذلك عبد الحليم النجار من وضع الباطنية، وقد استدل عليه بقوله:«وإنّ كلّ ما يتعلّق من علم يجب بثّه ونشره، ويحرم حجبه وكتمانه» مستدلاً عليه بآية «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ» .. (2) ، وحديث «من كتم علما عن أهله ألجم يوم القيامة بلجام من نار».(3)

وما أدري ما علاقة الاستدلال بالدعوى فابن عباس - على تقدير صحة الرواية لم يكتم شيئاً مبيناً في الكتاب وإنما كتم منه ما حجب علمه عن العباد، إلّا أمثاله من خاصة العلماء، وحديث من كتم علماً عن أهله لا يتناولها أيضاً، فهو لم يكتم علماً عن أهله؛ لأنّه لم ير في العامّة أهلاً له حتى يبثّه بينهم ، فهو من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، وعقولهم أضيق من أن تتحمّل الخوض في شؤون ما وراء الطبيعة، وربّما جره الحديث فيها إلى تكفيره، أو كفر من يأخذها عنه من دون هضم.

والحقيقة أن الرواية إن صحت سنداً فليس ما يمنعها من أمثال هذه الأدلّة والاعتبارات.

هذا وقد ورد عنه في تفسير كثير من المتشابهات أشياء لا يمكن الاطمئنان إليها؛ لاضطراب في مضامينها، وربّما ألحق بعضها بكلام المنحرفين من الباطنية وأشباههم منه بكلام أمثاله من نوابغ البلغاء.

ص: 93


1- مذاهب التفسير الإسلامي : 236
2- البقرة : 159
3- هامش مذاهب التفسير الإسلامي: 237

(3)

والحق أن ابن عباس على كثرة ما أثر عنه في التفسير في مختلف مجالاته الثلاثة، إلّا أنّ ما سُجّل ووصل إلينا منه لا يمكن الإيمان بصدور أكثره عنه، وربّما استحال أن يصدر مثله عن شخص واحد ؛ لكثرته كثرة لا يتسع لها وقت رجل واحد مهما كان له من العمر، وتناقضه واضطراب محتوياته حتى أنك لا تكاد تعثر - لو قدر لك أن تبحث - على واقعة واحدة لم يرد فيها أكثر من قول، وبعضها تما يستحيل فيها أن ترقى بمضمونها إلى ذلك العصر.

وإذا كنا على ذكر من التمهيد الذي دخل بنا إلى هذه البحوث، أدركنا أسباب هذا الاضطراب بإدراكنا لعوامل الوضع عليه، وهي متكثّرة كما سبق أن بحثنا أكثرها مفصلاً في ذلك التمهيد.

وقد ساعد على ذلك ما عُرف عنه من أنه لم يترك تفسيراً مكتوباً يمكن أن يكون مرجعاً لدى اختلاف تلامذته بالرواية عنه، وإن قيل أنه ترك كتباً يقدر ما عند مولاه كريب بن مسلم منها بحمل بعير ، وإن ولده علي كان إذا «أراد الكتاب كتب إليه ابعث إلي بصحيفة كذا وكذا، فينسخها فيبعث إليه بأحداهما ».(1)

كما قيل أنّ بعض ثقات تلاميذه كانوا يكتبون عنه، وربّما أمرهم هو بذلك يقول ابن أبي مليكة : «رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس في تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال: فيقول له اين عباس أكتبه، حتى سأله عن التفسير كلّه».(2)

وقد جاء عن مجاهد هذا أنّه «عرض المصحف عليه ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، يوقفه عند كلّ آية منه ويسأله عنها».(3)

ص: 94


1- طبقات ابن سعد ج 5 : 216
2- تفسير الطبري - مطبعة مصطفى البابي ، مصر ، ط 2 ، سنة الطبع 1373 ه- ج 1 : 40
3- المصدر السابق

ولكن أين هذه الكتب؟ - إن صحت عنه أو عن الثقات من تلامذته - وهل بقيت لتكون مرجعاً يمكن الوثوق به في مواضع الاختلاف؟.

وكلّ ما بقي هو ما دوّن من آرائه بعد ذلك من طريق المئات من تلامذته، وفيهم - فضلاً عن غيرهم - من لا يؤتمن عليه في النقل، كعكرمة ونظائره.

وقد ميّز لنا بعض النقاد من أئمة الجرح والتعديل ما اعتبروه صحيحاً من غيره، بما عيّنواله من الطرق التي وثقوها في البلوغ إليه، والطرق التي طعنوا فيها .

فمن الطرق التي وتقوها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه: «قال أحمد بن حنبل : بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً»(1)، قال السيوطي في التعقيب على هذا الحديث: «أسنده أبو جعفر النحاس في ناسخه، قال ابن حجر : وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيراً فيما يعلّقه عن ابن عباس».(2)

وأهمّ نقد وجّه إليه أن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير، وإنّما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير.(3)

وقال الخليلي في الإرشاد: «وأجمع الحفاظ على أن ابن أبي طلحة لم يسمعه من ابن عباس».(4)

وقد أجاب ابن حجر على ذلك بعد أن عرفت الواسطة - يعني مجاهداً وابن

ص: 95


1- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 188
2- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 188
3- انظر المصدر السابق
4- المصدر السابق ج 2 : 189

جبير - وهو ثقة فلا يضير».

وهو جواب متين لو أن ابن أبي طلحة قد صرّح بأن جميع رواياته في التفسير مستندة إلى هذين، وأين لنا منه ذلك التصريح ؟! وما عدا ذلك فإن تفسيره لا يخرج عن كونه مرسلاً تجري عليه أحكام الأحاديث المرسلة، صحيح أن الخلل لا يدخل إليه من جهته، مع كونه ثقة – كما يبدو من توثيقهم له واعتمادهم عليه - إلا أنه يدخله من جهة الإرسال

ومن جيّد الطرق عنه - فيما يقول صاحب كشف الظنون - طريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة 120 ه- عن عطاء بن السائب».(1)

في الإتقان «ومن جيّد الطرق عن ابن عباس طريق قيس عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عنه، وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين، وكثيراً ما يخرج منها الفريابي والحاكم في مستدركه».(2)

ومن ذلك فيما يقول أيضاً : طريق ابن إسحق عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عنه - هكذا بالترديد - وهي طريق جيدة، وإسنادها حسن، وقد أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيراً، وفي معجم الطبراني الكبير منها أشياء».(3)

ولكنّ احترام هذا الطريق موقوف على ثبوت سلامة عكرمة عن الكذب على مولاه، وسيأتي موقف المؤرّخين منه.

ص: 96


1- کشف الظنون ج 1 : 429
2- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 189
3- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 189

وقد ذُكر لعكرمة هذا تفسير عن ابن عباس(1) أيضاً، كما ذُكر لسعيد بن جبير ذلك (2)، وربّما كانا هما المرويين بأحد تلكم الأسانيد.

وهناك تفاسير غير مرضية ورواتها مجاهيل، وأمثال تفسير جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.(3)

وأوهى طرق تفاسيره - فيما يروي السيوطي - «طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدّي الصغير، فهي سلسلة الكذب، وكثيراً ما يخرج منها الثعالبي والواحدي».(4)

وقد دافع ابن عدي في الكامل عن الكلبي فقال: «للكلبي أحاديث صالحة وخاصة عن أبي صالح، وهو معروف بالتفسير، وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشبع، وبعده مقاتل بن سليمان، إلّا أن الكلبي يفضل عليه؛ لما في مقاتل من المذاهب الردية».(5)

وقد تبنّى الدفاع عنه صاحب مقدّمة كتاب المباني في كلام طويل..

قال: «ثمّ إنّ أبا صالح روى عن محمد بن السائب الكلبي، ولقد كان مشهوراً بعلم التفسير والبراعة فيه، وقد روى عنه الأئمّة، ولو لم يكن له راو غير أبي يوسف قاضي القضاة لكان كافياً، وطعن فيه قوم وسمّوه كذاباً ، وهذا ممن قاله إقدام عظيم لما ذكرناه، وقد روى عنه سفيان الثوري، ونظراؤه من العلماء الكبار من أهل الفقه والعلم، ولم يطعن فيه، وروى عنه سفيان بن عيينة وهمام بن يحيى، ومعمّر بن أسيد، وحمّاد بن

ص: 97


1- انظر الفهرست - المطبعة الرحمانية، مصر، سنة الطبع 1348 ه- : 51
2- انظر المصدر السابق
3- انظر الإتقان في علوم القرآن ج 2: 189
4- المصدر السابق ج 2 : 189
5- الإتقان في علوم القرآن ج 2 : 189

سلمة، وهشيم بن بشير ، وأبو بكر بن عيّاش وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجرّاح، وذكره أئمة أهل الإعراب أمثال الكسائي وأبي عبيدة، والأخفش، والفرّاء.

وفي الجملة فإن من طعن فيه ولم يبين المعنى الموجب لذلك، فإنّه لا يقبل ذلك منه، فلسنا نأمن من أن يكون الشيطان أغرى بين علماء كل عصر سبيل التحاسد والتنافر، كما أغرى بين بني يعقوب من الأنبياء علیهم السلام، كما أغرى بين الحسن وابن سيرين من العلماء.

مع أنه لم يذكر الكلبي في تفسيره إلا وقد نقله الثقات من غيره، إلّا أنه رضي الله عنه كان مّمن سعى في الروايات ولم يكن غيره بذلك المحل؛ فلذلك قيل فيه».(1)

ومهما يكن من شأن هذا النقد والردّ عليه، فإن الذي بين أيدينا من تفاسيره لا يخلو من القلق من مضامينه، وبخاصة ما جاء في «تنوير المقباس»، وهو التفسير المتداول الذي يحمل على غلافه «تفسير حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس».

والظاهر أنه هو الذي قيّد بسلسلة الكذب التي يذكرها السيوطي وأوله «أخبرنا عبد الله الثقة ابن المأمون الهروي قال أخبرنا أبي قال أخبرنا أبو عبد الله قال أخبرنا أبو عبيد الله محمود بن محمد الرازي قال: أخبرنا عمار بن عبد المجيد الهروي قال أخبرنا علي بن إسحق السمرقندي عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.. الخ».(2)

وقد جمعت هذه السلسلة بين محمد بن مروان والكلبي وهما موضع ريبة السيوطي.

وإذا صحّ دفاع من سبق من الباحثين عن خصوص الكلبي، فإن المؤاخذة تصب

ص: 98


1- مقدمتان في علوم القرآن: 197
2- تفسير تنوير المقباس هامش الدر المنشور - المطبعة الإسلامية، طهران، سنة الطبع 1377 ه- ج 1 : 2

على خصوص محمد بن مروان في هذا الكتاب.

والكتاب - كما قلت - لا يخلو من قلق في بعض مضامينه، يبعث على الشبهة والربية فيه.

خذوا على ذلك مثلاً تفسيره لآية «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . يقول ابن عباس - إذا صحت نسبة هذه الرواية بذلك السند إليه - : «الباء بهاؤه وبهجته وبلاؤه وبركته وابتداء اسمه باري، السين سناؤه وسموه أي ارتفاعه وابتداء اسمه سميع، الميم ملكه ومجده ومنته على عباده الذين هداهم الله تعالى للإيمان وابتداء اسمه مجيد، الله معناه الخلق يؤلّهون ويتألّهون إليه، أي يتضرعون إليه عند الحوائج ونزول الشدائد، الرحمن العاطف على البَرِّ والفاجر بالرزق لهم ودفع الآفات عنهم، الرحيم خاصة على المؤمنين بالمغفرة وإدخالهم الجنة، ومعناه الذي يستر عليهم الذنوب في الدنيا ويرحمهم في الآخرة فيدخلهم الجنة».(1)

وهذا الكلام إذا أمكن أن ينسب إلى قسم من مفسّري الصوفية والباطنية فإنّه لا يمكن أن ينسب إلى من يعيش في عصر ابن عباس، بل إليه من بين معاصريه وبخاصة هذا التقطيع في تفسير(بسم).

وعلى أيٍّ فإن أمر هذا التفسير أهون من أن يطال فيه الحديث على أن الكثير من مضامينه السليمة لا يقع فيها الريب في إمكان نسبتها إلى مثله فهو كغيره من التفاسير تمن جمع أقوال ابن عباس جمعاً لا يبتني على موازنة وتمحيص.

وهناك طرق أخرى شكك فيها السيوطي كطريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس فإن الضحاك لم يلقه، فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة عن أبي روق عنه،

ص: 99


1- تفسير تنوير المقياس ج 1 : 3

فضعيفة لضعف بشر، وقد أخرج من هذه النسخة كثيراً ابن جرير وابن أبي حاتم، وإن كان من زواية جويبر عن الضحاك فأشد ضعفاً ؛ لأنّ جويبراً شديد الضعف متروك، ولم يخرج ابن جرير ولا ابن أبي حاتم من هذا الطريق شيئاً، إنّما أخرجها ابن مردويه وأبو الشيخ ابن حيان، وطريق العوفي عن ابن عباس أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيراً، والعوفي ضعيف ليس بواءٍ، وربّما حسّن له الترمذي».(1)

وهناك كتب في بعض جوانب المعرفة من القرآن منتهية في الرواية إليه ككتاب «أحكام القرآن للكلبي رواه عن ابن عباس»(2)، وحكمها حكم سابقاتها، والحديث فيها واحد من حيث الاطمئنان عليها .

والحقيقة - التي يجب أن تقال في هذا الموضع - إننا لا نستطيع – بحكم منهجنا الذي رسمناه في بداية الجزء الأول من هذا الكتاب - أن نأخذ بما صح سنده و تناقضت واضطربت ،مدالیله ولا ان نهمل ما سلمت ،مداليله وكانت وفق ما تقتضيه طبيعة الزمن، لا لشيء إلا لتهمة عامة توجّه إلى راويه، اللهم إلا إذا كانت التهمة موجهة إليه في وضع خصوص الرواية موضوعة البحث، وان لها من الاعتبارات والملابسات ما يساعد عليها .

وفي هذه الحدود فإن ما نسب إلى ابن عباس في ذلك لا يصح أن تتضمّنه وحدة لتكون مقياساً يرجع إليه في مقام التقييم، بل لكل رواية حكمها الخاص بها، فلا يصح إذا أن نلجأ إلى التعميمات في الأحكام على ما نسب إليه من تفاسير، فنأتي على جميع ما ورد في بعضها، ونصحح البعض الآخر جميعاً، مع ما في بعضه من مفارقات صريحة.

والغريب ما ورد عن الشافعي من أنّه قال: «لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا

ص: 100


1- الإتقان في علوم القرآن ج 2: 189
2- الفهرست: 57

شبيه بمائة حديث».(1)

وكأنّ حكمه هذا جاء كردّ فعل للكثرة الخارقة التي وردت عنه في ذلك، وهي مبالغة في القلة لا تلتئم وواقع ما اعتمدوه من مأثورات في هذا الباب.

ثمّ واقع ما تقتضيه طبيعة الأحوال، وإلا فإنّ من البعيد جداً أن يعيش ضمن هذه المدّة، ويتفرّغ لأداء علومه - مع كثرة الطلب عليه وهو ترجمان القرآن ووارث علمه (2) - ثم لا يثبت عنه غير هذا المقدار.

ص: 101


1- الإتقان في علوم القرآن ج 2: 189
2- انظر ثلاث رسائل في إعجاز القرآن (الرسالة الأولى): 33

ص: 102

3- الحديث

(1)

والحديث وهو ثالث معارفه التي كان يقدّم التحدّث عنها في مجلسه، - كما تقول الرواية: «كان يبدأ في مجلسه بالقرآن ثمّ بالتفسير ثمّ بالحديث»(1) - كان هو الآخر من أهمّ ما عُني به ورافقه طيلة حياته.

ویراد به نقل السنّة - أعني قول المعصوم أو فعله أو تقريره.(2)

وقد عرفنا في الجزء الأول من هذا الكتاب في فصل حتى المراهقة مدى اهتمامه به على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، وعهد أبي بكر، حين كان يتتبع الصحابة ليحدث بمأثوراتهم عنه، وبخاصة الأنصار منهم، وظل موضع اهتمامه نقلاً وأداءً حتى قبيل وفاته.

والحديث عنه في هذا المجال بثير أمامنا عدة أبحاث يتعلّق بعضها بشرائط قبول الرواية، ومدى حصوله عليها، وبعضها بكميّة أحاديثه، وثالثة بنوعيّتها.

أما شرائط قبول الرواية فأهمها شرطان:-

1- سلامة الراوي من آفة النسيان والسهو، والغفلة، والتخليط، كأمراض يُعرف بها

ص: 103


1- مقدمتان في علوم القرآن: 262
2- انظر مقدمة النص والاجتهاد - مؤسسة الأعلمي، ط4 ، بيروت سنة الطبع 1386 ه-: 44

أمّا احتمال ذلك فيه - وهو طبيعي من غير المعصوم - فأصالة الصحة تدفعه، وهذا يكاد يكون موضع اتفاق أرباب الجرح والتعديل.

2- عدالته لدى بعض، وكونه ثقة لا يكذب لدى آخرين، وإن صدرت عنه ذنوب أخرى لا ترتبط بالصدق والكذب.

وشرط العدالة أضيق من شرط التوثيق لاعتباره بالإضافة إلى الصدق التزامه ببقية الواجبات، وانتهاءه عن الكبائر من المحرّمات أو هي والصغائر منها، على خلاف في الصغيرة والكبيرة لديهم.

ومن شؤون هذا الخلاف ما اختلفوا فيه من قبول قول صاحب البدعة فيما يخص بدعته، وإن عُرف بالصدق، فمن قائل يرفض قوله مطلقاً، خصّ بدعته في قوله أم لم يخصها ، ومن قائل بقبول قوله فيما لا يخصها من الأحاديث إذا كان ثقة في عوالم الصدق والكذب.(1)

وهو فيما يخص الشرط الأول كان مستوفياً لشروط الصحة، فما عُرف بالنسيان ولا التخليط والسهو ولا غيرها من الآفات التي تعرّضه للتزييد والتنقيص تزيداً أو تنقيصاً لا شعورياً.

وقد ذُكر عنه من سرعة الحافظة وقوّة الذاكرة ما يعتبر مضرب الأمثال فيه، وقد مرّ علينا.. ويمرّ فيما يأتي الكثير مما ورد عنه ما ينتظم في هذا المجال.. وليس المهم إطالة الكلام فيه ما دام موضع اتفاق مؤرّخيه، وما رأيت من سجّل عليه في ذلك سهواً أو نسياناً أو تخليطاً أو تناقضاً، مع كثرة الدواعي المتوفّرة لتسجيل ذلك عليه لو وقع منه، على أنه كان يكتب الحديث أحياناً وقد حدّث عبيد الله بن علي عن جدته سلمى قالت:

ص: 104


1- انظر مقدمة لسان الميزان - مطبعة دار المعارف النظاميّة، الهند، ط 1 سنة الطبع 1329 ه-

«رأيت عبد الله بن عباس معه ألواح يكتب عليها عن أبي رافع شيئاً من فعل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.(1)

وقد سبق حديث ما ترك من الكتب لدى بعض مواليه..

أمّا الشرط الثاني - أعني عدالته - فالأقوال مختلفة فيه وتعود في أساسها إلى أربعة أقوال:

1. قول بعد الته وتوثيقه.

2. قول بالوثاقة دون العدالة

3. وقول بعدالته مع نسبة الكذب إليه.

4. قول بتكذيبه ونسبة البهتان إليه مع السكوت عن شؤونه الأخر.

أما القول الأول فهو القول السائد بين جمهور المسلمين - سنة وشيعة - ويتضح من شبه إجماعهم على إكباره واحترامه، وعدم نسبة ما يوجب الطعن في عدالته في أكثر كتب الجرح والتعديل.

وينفرد بالقول الثاني بعض أرباب الجرح والتعديل من الشيعة، فيحكمون بحسنه، ولا يحكمون ،بعدالته ، استناداً إلى روايات وردت عن بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام، وفي بعضها ما يدلّ على نفي العدالة عنه، وكلّها ضعيفة السند؛ لورودها عن رواة طعن فيهم أئمة الجرح والتعديل من الشيعة أنفسهم.

قال العلامة الحلي في رجاله: «عبد الله بن عباس من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كان محباً لعلي وتلميذه حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين أشهر من أن يخفى، وقد ذكر الكشي أحاديث تتضمن قدحاً فيه، وهو أجلّ من ذلك، وقد ذكرناها في كتابنا

ص: 105


1- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 123

الكبير وأجبنا عنها ، رضي تعالى عنه».(1)

وقد عدّه في القسم الأول من كتابه وهو المختص بالثقات، وعلّق الشهيد الثاني على ذلك بقوله: «قوله : ما ذكره الكشي من الطعن فيه خمسة أحاديث كلها ضعيفة السند جداً».(2)

و في الدرجات الرفيعة: «الذي اعتقده في ابن عباس أنه كان من أعظم المخلصين لأمير المؤمنين وأولاده، ولا شكّ في تشيّعه وإيمانه».(3)

وفي التحرير الطاووسي للسيد ابن طاووس : «عبد الله بن عباس حاله في المحبة والإخلاص لأمير المؤمنين والموالاة والنصرة والذبّ عنه والخصام في رضاه والمؤازرة ممّا لا شبهة فيه، وقد كان يعتمد ذلك مع من يحبّ اعتماده معه بعده على ما نطق به لسان السيرة، وقد روى صاحب الكتاب - يعني الكشي - أخباراً شاذة ضعيفة تقتضي قدحاً أو جرحاً، ومثل الحبر موضع أن يحسده الناس وينافسوه، ويقولوا فيه ويباهتوه..

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله***فالناس أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها***حسداً وبغياً إنّه لذميم

ولو اعتبر العاقل حال الناس كافّة رأى أنه ليس أحد منهم خالياً من معترض، أو قائل فيه، أو مباهت له.

ومعلوم أن ذلك غير جارٍ عن قانون ونمط السداد، إذ فيهم من لا شبهة في نزاهته وبراءته..

ص: 106


1- الرجال - مطبعة مرسيده بود طهران سنة الطبع 1300 ه-قسم 1 : 51
2- تنقیح المقال - المطبعة المرتضويّة، النجف، سنة الطبع 1352ه- ج 2 : 191
3- الدرجات الرفيعة: 101

وما زلت أستصفي لك الودّ أبتغي***محاسنه حتى كأنّي محرم

الأسلم من قول الوشاة وتسلمي***سلمت وهل حيّ من الناس يسلم

ولو شكّ العاقل في كل شيء، لما شكّ في حال نفسه، عند قول باطل يقال فيه، و بهت يبهت به لا أصل له، وفي كلام مشاهد بأن السلامة من التعرّض بعيدة لأنّ الرفيع بمظنّة حسد المتوسط ومن دونه فيقولان فيه والمتوسط بمظنّة الحسد الساقط، فيقول فيه، الساقط بمنزلة قدح الرفيع والمتوسط حقاً فيه.

وأنا مورد ما رواه الكشي في خلاف ما مدحت به ومجيب عن ذلك إن شاء الله».(1)

وقد عرض الشيخ المامقاني في جملة الروايات فناقشها ووقف عند أسانيدها وقفة طويلة، ونقد أكثر محتوياتها، ولم تسلم منها إلّا رواية واحدة اعتبرها صحيحة، رغم تصريح الغضائري بضعف بعض رواتها، وفي مضامينها غرابة - ولو صحت - فغاية ما تدلّ عليه الطعن في أبيه وليس فيه مجال.

وكان أكثر قلقه من أحاديث بيت المال، فقد عرضها وأطال فيها القول وانتهى منها إلى القول بإيمانه وأنّه «ممدوح غاية المدح، معلوم العدالة سابقاً، ومعلوم الزوال بأخذ بيت المال، ومشكوك حصول عدالته بعد ذلك فيجري على حديثه حكم الحديث الحسن».(2)

وقد عرفت سابقا أن قصّة بيت المال - بالشكل الذي انتهينا إليه - لا تستوجب له قدحاً في العدالة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في موضعه من الجزء الأول من هذا الكتاب،ولا نثقل بإعادته في هذا الحديث.

ص: 107


1- تنقيح المقال ج 2 : 191 - 192 نقلا عن كتاب التحرير لابن طاووس
2- المصدر السابق ج 2 : 192-195

والغريب من صاحب إتقان المقال عدّه في القسم الثالث من كتابه، وهو قسم الضعفاء مع أنه عرض لأمره وانتهى إلى قوله : «وكيف كان فالظاهر ما قاله العلامة»(1)، والعلامة يعدّه من الثقات كما سبق كلامه في ذلك.

وعلى أيٍّ فشأن روايات الكشي أهون من أن يطال فيها الحديث من وقوع جماعة من الوضّاع في طريقها وتصريح جملة الرجاليين بذلك، وما رأيت تصحيحاً لبعضها إلا من الشيخ المامقاني - كما سبق - فإنه صحح واحدة منها مع نصّ الغضائري على ضعف بعض رواتها على أنّ ما في مضامينها من بواعث الريبة مع مخالفتها لروايات أخر أسلم منها محتويات وأبعد عن القلق كافٍ في طرحها وتحميل مسؤوليتها رواتها؛ للجزم بعدم صدورها من أهل البيت علیهم السلام، وفي عرضها ومناقشتها تطويل في غير موضعه، فلتراجع في تنقيح المقال وغيره.

أما القول الثالث أعني بعدالته مع نسبة الكذب إليه فهو الذي يشعر به قول سعيد الأفغاني، حين عرض الحديث الحوأب في كتابه (عائشة والسياسة)، واعترف بصحته، وحاول صرفه عن عائشة؛ لرواية وردت في مادة حوأب من معجم البلدان وفحواها «أنّ صاحبة هذا الخطاب سلمى بنت مالك الفزارية، وكانت سبية وهبت لعائشة، وهي المقصودة بخطاب الرسول الذي زعموه، وقد ارتدت مع طليحة الأسدي، وقُتلت في حروب الردّة».(2)

وما أدري أين كان عن هذه الرواية أنصار السيّدة عائشة من المؤرّخين وأرباب كتب الحديث ؟! ولم لم يصححوها ، كما صححوا نسبتها إليها، أو يعارضوا بينها وبين غيرها ممّا تظاهر من الروايات.

ص: 108


1- إتقان المقال - المطبعة العلوية، النجف، سنة الطبع 1340ه- : 315
2- عائشة والسياسة - مطبعة لجنة التأليف والنشر ، مصر ، ط 2 ، سنة الطبع 1957 - : 89

وما أدري أيضاً لِمَ لم يحاكم الأفغاني سندها؟! وهي مروية عن كتاب سيف كما جاء في تأريخ الطبري ومعجم البلدان.(1)

وسيف فيما جاء في كتب الجرح والتعديل يروي عن خلق كثير من المجهولين.. ضعیف الحديث.. ليس بشيء.. متروك.. يضع الحديث.. وهو في الرواية ساقط يروي الموضوعات عن الثقات.. عامة حديثه منكسر .. متهم بالوضع والزندقة».(2)

وكيف عارض بين ما صح سنده لديه، وما كانت هذه قيمته من صحة الإسناد؟!. أما نقده الدلالي لتلكم الرواية الصحيحة، فقد جاء من وجهين نعرضها؛ لنعرف قيمتهما العلميّة ...

وقد تحدّث عن الأول منها بقوله: «لو كان هذا الخبر صحيحاً لرجعت عائشة من فورها، فليست بالتي تلقي بنفسها في التهلكة على بصيرة»

وهذا يتمّ على تقدير نسبة ما يشبه العصمة إليها، على أنها كادت تعود لولا أن يقدّم لها ابن الزبير خمسين قسّامة يحلفون لها على أنّهم اجتازوا ماء الحوأب، مع ما أغروه بها من طلب الإصلاح - كما سبق حديثها في الجزء الأول من هذا الكتاب -.

وتحدّث عن الثاني: «أن سند الذهبي ينتهي في إحدى روايتيه إلى ابن عباس، وابن عباس على عدالته - كذا - تمن خبّ وأوضع في الحزبية السياسية، فهو أكبر أنصار علي وألد خصوم عائشة في خلافها عليه، فلعل هذا جعله - إن صحت نسبة الحديث إليه يتسامح ويغضّ عما فيه لتأييد مذهبه السياسي وإلا فإنّي أسأل: هل كان ابن عباس

ص: 109


1- انظر تأريخ الطبري - مطبعة الحسينية، مصر ، ط 1 ، سنة الطبع 1326 ه- ج 3: 233 - 234 . وانظر معجم البلدان - منشورات مكتبة الأسدي طهران سنة الطبع 1965م - مادة حوأب
2- ميزان الاعتدال - تحقيق علي محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي، ط 1 ، سنة الطبع 1382ه- ج 2 : 255 رقم الترجمة : 3637

حاضراً قول النبي صلی الله علیه و آله وسلم هذا وهو بين نسائه ؟.

إنّي - استناداً إلى سكوت الرواية عن ذلك من جهة، وإلى ضرورة التصريح بذلك هنا من جهة ثانية - أقطع بالنفي، وإنّ على المثبت أن يأتي بدليل ينص على أنّ ابن عباس كان حاضراً مجلس النبي صلى الله عليه و آله وسلم مع نسائه، ولا يغني هنا خاصة قولهم أن مراسيل الصحابة يحتجّ بها؛ لأن وجود ابن عباس هنا مع النساء في حديث خاص بهنّ غير مألوف، فيحتاج إثباته إلى النصّ الصريح.

هذا ولم أذكر ما في ذوقي الخاص لقاء هاتين السجعتين في رواية الزمخشري «ليت شعري أيتكنّ صاحبة الجمل الأدبب تسير حتى تنبحها كلاب الحوأب»، من بعد عن البلاغة النبوية، عند من كثر إلفه لها، ولست أدري لم لا يطبق أولئك الأفاضل قواعد المحدّثين على المتن والسند معاً».(1)

فهو - كما ترون - يميل إلى أن واضعها ابن عباس؛ لغرض سياسي وعدائي للسيّدة ،عائشة كما يشعر به كلامه وحجّته في ذلك سكوت الرواية عن حضور ابن عباس معهم في البيت، وما أدري ما يمنع من حضوره؟ وهو إذ ذاك طفل لم يبلغ الحلم بعد، وتأريخه يصرح - كما مرّ في فصل حتى المراهقة - أنه كان يرتاد بيوت النبي صلی الله علیه و آله وسلم كثيراً،وربّما بات عند النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وطبيعة القرابة، وصغر السنّ تقتضيه ذلك، وليست هي من الأحاديث النسائية التي لا تقع أمام من هم بسنّه من المراهقين.

وهبهّ لم يشاهد الحادثة بعينه، أفيمنع مانع من نقل النبي صلی الله علیه و آله وسلم لها لعلي علیه السلام وهو حاضر، ومثلها عادة مما يُنقل لمثل الإمام علیه السلام ، لأنها تخصه في الدرجة الأولى، وأن الإمام نقلها له.

وما دمنا قد اعتبرنا مرسلات الصحابي حجّة ، فلِمَ لم نعتبرها هنا؟! وليس من

ص: 110


1- عائشة والسياسة : 89-90

شروط الإرسال أن يشهد المرسل ،الحادثة، وإلا لم يكن مرسلاً، ومعنى إرسالها أنّ هناك واسطة بينه وبين مصدرها الأول، والصحابي - فيما يروون - لا يرسل إلّا عمّن يعتمده، فالرواية وإن تك مرسلة، فأي مانع يمنع من الأخذ بها، إذا كان يعتمد صاحبنا روايتها، كما هو شأن الصحابة في مرسلاتهم.

على أنّ المسألة لم تختص روايتها بابن عباس، فقد رويت عن عائشة نفسها كما في مستدرك الحاكم (1)، ورويت عن أم سلمة، والأفغاني نفسه يقول بها - كما سبق - في أحدى روايتيه، فما بال الرواية الثانية لم يتّهم راويها ؟!.

وحديث السجع - إن وجد - وكان كما يقول منافياً لبلاغة النبي صلی الله علیه و آله وسلم، فإنه لم يوجد جميع صورها، ولذلك اختار من بينها رواية الزمخشري ، وربّما كان النقل منه بالمعنى وهو - مع هذه المفارقات في نقده - يعتب على المحدّثين عدم نقدهم للحديث نقداً دلالياً.

ثم ما أدري بعد ذلك هل سأل نفسه عن كيفية جمعه بين العدالة - التي اعترف له بها - وبين أن يخبّ ويوضع في الاغراض السياسية حتى يبلغ الخب به إلى أن يجرأ بالوضع والكذب على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وهو نفسه المحدّث عنه بقوله : «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: اتقوا

الحديث إلا ما علمتم فإنّه من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»(2)، ثم يبقى - أعني صاحبنا - مصراً على خطيئته فلا يتوب منها حتى الوفاة، بدليل أنه لم يؤثر تصريح أو تلميح بتوبته عن هذا الحديث، وتصريحه لبيان واقعه دفعاً للشبهة التي ألقاها في نفوس سامعيه بالنسبة إلى أم المؤمنين.

وأين عائشة وابن الزبير وجماعتهما من هذا الزور والبهتان؟

ص: 111


1- انظر المستدرك على الصحيحين ج 3: 119 - 120
2- مناهل العرفان: 107

ولم لم ينكروه ؟ على كثرة ما اختلفوا معه وأنكروا في أمور أخرى، وربّما تكون أي- من هذا الأمر.

والحق أن ابن عباس - كما هو كذلك في نظر معاصريه وهم أخبر بحاله - اتقى الله من أن ينسب إليه أمثال هذا الكذب والبهتان.

أما القول الرابع وهو الذي ينسب إليه الكذب دون تعرّض الجوانبه الأخر، فأمره أهون الأمور؛ لصدوره عن بعض المستشرقين غير المؤتمنين على تأريخ الإسلام.

وقد هال هذا المستشرق أن يرى كثرة مروياته من ناحية، ودخول التناقض إليها من ناحية أخرى، فنسب إليه الكذب والبهتان..

يقول جواد علي:« دفعت هذه المشكلة - شبرنكر - إلى التحامل على ابن عباس فرماه بالكذب والبهتان، وأنا على يقين أنه لو أعمل عقله، ودرس هذه الأقوال المنسوبة إلى ابن عباس دراسة علمية دقيقة، ولو فكّر في العوامل السياسية التي يمكن أن تكون هي المسؤولة أولاً عن ذلك.. أقول : لو فكر في ذلك وتعمّق في البحث عن هذه الأسباب ما تسرع في حكمه هذا الذي تخالفه أيسر قواعد الجرح والتعديل».(1)

وهو كلام متين جدّاً. وفي بحثنا لأسباب الوضع عليه في مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب ما يلقي بعض الأضواء على هذا الكلام.

(2)

وإذا صح ما انتهينا إليه من صدقه وعدالته - كما هو رأي جمهور المسلمين - عدنا

ص: 112


1- مجلة المجمع العلمي العراقي س 1 ، ج1 : 212

إلى التماس ما أُثر عنه من الحديث في مختلف الكتب المعنية بذلك؛ لنلتمسها كمّاً وكيفاً.

وأظن أن عدّها على نحو الاستيعاب مما يتعذر على أي أحد، وعلى الأقل في عصرنا الذي كثرت فيه المؤلّفات وكتب الحديث كثرةً أصبح معها عدّها وتتبعها شبه متعذّر على مثلي، فضلاً عن التغلغل في أعماقها؛ لاستخراج ما ضمته في حناياها من مأثوراته.

والأفضل أن نعود إلى ما قام بهذه المهمة من الباحثين للاستعانة بهم على ذلك.

ولكن هؤلاء أنفسهم مختلفون في عدّها، وأكبر رقم وصل إلينا منهم هو ألف وستمائة وستون حديثاً، وهو الذي ذكره صاحب خلاصة تذهيب الكمال، وعقبه بقوله: «إتفقا على خمس وسبعين - يريد مسلماً والبخاري - وانفرد البخاري بثمانية وعشرين ومسلم بتسعة وأربعين»(1)، وفي رواية أنهما اتفقا على تسعين(2)، بينما زاد فيها بعضهم إلى أربعمائة وخمسة أحاديث وقد احتاط صاحب هذا الرقم فقال: «والذي حفظنا عنه نحو أربعمائة حديث».(3)

وهناك أرقام متوسطة ذكرها غير هؤلاء لا يهم عرضها .

والغريب أنّ صاحب خلاصة تذهيب الكمال يعتقد بأنّ مروياته التي سمعها من النبي صلی الله علیه و آله وسلم بلا فصل هي خمسة وعشرون حديثاً فقط، وباقي حديثه عن الصحابة عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، ثم يقول : «واتفقوا على قبول مرسل الصحابي».(4)

وما أدري من أين أخذ هذا العدد، ولم يؤثر له تصريح بذلك حتى يصح أن يعتمده، وطبيعة الأحوال تأبى الاقتصار على هذا المقدار، مع ما سبق أن عرفنا من

ص: 113


1- خلاصة تذهيب الكمال - المطبعة الخيرية، مصر، ط 1 ، سنة الطبع 1322 ه- : 172 . 172
2- انظر مجلة المجمع العلمي العراقي س 1 ، ج 1 : 211
3- المستدرك على الصحيحين ج 544:3
4- خلاصة تذهيب الكمال: 172

اهتمامه بالحديث مدة إقامتة معه صلی الله علیه و آله وسلم، وبواعث ذلك الاهتمام.

وإذا عمّمنا السُنّة إلى فعله وتقريره - كما جاء في تعريف الأصوليين لها - فإنّ ما شاهده من أفعاله وأفعال معاصريه مع تقرير النبي صلی الله علیه و آله وسلم لهم، وما حدث به أضعاف ذلك بكثير، كما تقتضيه العادة لأمثاله، ومن هم في سنه وذكاءه إذ ذاك.

وهذه الأحاديث التي أُثرت عنه فيها الصحيح والحسن، وفيها الضعيف والمتروك على اختلاف في بواعث الترك أو الضعف، فقد يكون الإرسال أو الانقطاع في سنده مانعاً من الأخذ به، وقد يكون وقوع بعض الكذابين أو المتهمين في سلسلته باعثاً على رميه بالضعف، وربّما كان الحديث صحيحاً، وإلّا أنّ القلق والارتباك في مضامينه هو الذي يمنع من الأخذ به.

وكما قلنا سابقاً إنّ لكلّ حديث حكمه الخاص ، وربّما أجرينا - في هذا الموضوع بالخصوص، عند تعارض الأدلة - قواعد التعادل والتراجيح، من عرضها على الكتاب وما صح من السنة، فإن وافقتهما أخذ بها، وإلّا رُمي بها عرض الجدار، كما أمرت بذلك الأحاديث.

وإن كانت لها شبهة في الموافقة عرضت على المرجّحات السنديّة أو الجهتية، وعمل بها على وفقها وإن تساوت من جميع الجهات حكم بتساقطها، أو التخيير بينها على اختلاف في المبنى، يذكر تحقيقه في موضعه من علم الأصول.

ومن الحقّ أن نذكر ما قام به أحمد محمد شاكر من خدمة مهمة - ما دمنا بهذا الصدد - في شرحه المسند أحمد بما فيه مسند ابن عباس، الذي أخذ من روايات كتاب مسند أحمد ألفاً وسبعمائة ونيفاً بما فيه من مكرّراتها، حيث قام بمحاولة جاهدة في تخريج الأحاديث، وشرح ما يحتاج منها إلى شرح، وليس يمنعنا اختلافنا معه في بعض مقاييس

ص: 114

الجرح والتعذيل من إظهار شكرنا واحترامنا لما بذله من جهد.

(3)

ونظرة واحدة نلقيها على ما وضعناه من فهرسة المواضيع أحاديثه – وما وضعه الأستاذ شاكر الخصوص ما جاء منها في مسند أحمد - ندرك مدى استيعابها لأكثر ما ورد عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم من المواضيع الإسلامية.

فهو حدّث في القرآن بمختلف مجالاته من حيث القرآنية أو التفسير، وفي الفقه على اختلاف أبوابه من عبادية وغير عباديّة.

وقد وردت فيها كثير من القواعد العامة التي اعتمدها الفقهاء ككبريات لما تصدر عنهم من فتاوى ذُكرت في مواضعها أمثال لا ضرر ولا ضرار في الإسلام(1)، واليمين على المدعى عليه (2)، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم(3)، وليس للولي مع الثيب أمر (4)، وأن التي شربها حرم بيعها(5)، ومن أحيى شيئاً من موتات الأرض فهو أحق (6) .. وعشرات أمثالها .

كما حدّث عن الآداب العامة والأخلاق والاجتماع، وعما يتعلق بشؤون المناقب

ص: 115


1- انظر کتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي - تصحيح وشرح أحمد محمد شاكر، المطبعة السلفية، مصر، سنة الطبع 1347 ه- : 97
2- انظر مسند أحمد - شرح أحمد محمد شاكر ، دار المعارف، مصر، سنة الطبع 1369 ه- ج 5 : 68
3- انظر المصدر السابق ج 5: 18
4- انظر المصدر السابق ج 5 : 6
5- انظر المصدر السابق ج 5 : 127
6- انظر الخراج ليحيى بن آدم القرشي : 85

المأثورة عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علي علیه السلام، وخديجة أم المؤمنين، والحسن والحسين علیهما السلام وبعض الصحابة، ولكن في حدود مجيئها في الأحاديث النبوية.

وقد صح عنه الكثير من ذلك، وأكثر ما ورد عنه في ذلك عن الإمام علي علیه السلام، وربّما كانت لذلك أسباب وبواعث تدعوه إلى ذكرها والتحدّث فيها أكثر من غيرها، وجلّ تلك البواعث محاولات إثاريّة كان يواجهه بها خصوم الإمام علیه السلام فيضطر أن يردّ عليها بما أُثر لديه من فضائله ومناقبه، وقد سبق لنا أن ذكرنا منها – في فصول متفرقة من الجزء الأول - نماذج تبعاً لمواقعها من سيرته، ونضيف الآن بعضاً مما لم نذكره هناك.

قال أحمد بن حنبل: «حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، حدثنا أبو بلج، حدثنا عمرو بن ميمونة قال إني لجالس إلى ابن عباس؛ إذ أتاه تسعة رهط، فقالوا يا أبا عباس إما أن تقوم معنا وإما أن يخلونا هؤلاء، قال: فقال ابن عباس: بل أقوم معكم، وهو يومئذٍ صحيح قبل أن يعمى قال: فابتدؤوا فتحدّثوا فلا ندري ما قالوا، قال: فجاء ينفض ثوبه ويقول: أُفْ وتُف، وقعوا في رجل له عشر ، وقعوا في رجل قال له النبي صلی الله علیه و آله وسلم: لأبعثنّ رجلاً لا يخزيه الله أبداً، يحبّ الله ورسوله قال : فاستشرف لها من استشرف قال : أين علي؟ قالوا: هو في الرحل يطحن ، قال : وما كان أحدكم ليطحن! قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد يبصر ، قال : فنفث في عينيه ثم هزّ الراية ثلاثاً فأعطاها إياه، فجاء بصفية بنت حيي.

قال : ثمّ بعث فلاناً بسورة التوبة، فبعث علياً خلفه فأخذها منه، قال: لا يذهب بها إلا رجل منّي وأنا منه.

قال : وقال لبني عمه أيكم يواليني في الدنيا والآخرة، قال: وعلي معه جالس فأبوا، فقال علي : أنا أواليك في الدنيا والآخرة، قال: أنت وليي في الدنيا والآخرة، قال:

ص: 116

فتركه، ثم أقبل على رجل منهم، فقال: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة فأبوا، قال: فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة، فقال: أنت وليي في الدنيا والآخرة.

قال : وكان أول من أسلم من الناس بعد خديجة.

قال : وأخذ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، ثوبه، فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين، فقال: «إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا».

قال وشرى على نفسه لبس ثوب النبي صلی الله علیه و آله وسلم ثم نام مكانه، قال: وكان المشركون يرمون رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، فجاء أبو بكر وعلي نائم، قال: وأبو بكر يحسب أنه نبي الله، فقال: يا نبي الله، قال: فقال له علي إن نبي الله صلی الله علیه و آله وسلم قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه، قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار، وجعل علي يُرمى بالحجارة، كما كان يُرمى نبي الله صلی الله علیه و آله وسلم وهو يتضوّر، قد لفّ رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح، ثم كشف رأسه، فقالوا: إنّك للئيم ! كان صاحبك نرميه فلا يتضوّر وأنت تتضور، وقد استنكرنا ذلك !

قال : وخرج بالناس في غزوة تبوك، قال: فقال له علي : أخرج معك؟ فقال له نبي الله صلی الله علیه و آله وسلم: لا ، فبكى علي فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبي، إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي.

قال : وقال له رسول الله : أنت وليي في كل مؤمن بعدي.

وقال: سدّوا أبواب المسجد غير باب على فقال : فيدخل المسجد جنباً وهو طريقه، ليس له طريق غيره.

قال: وقال: من كنت مولاه فإن مولاه علي».(1)

ص: 117


1- مسند أحمد - شرح وفهرسة أحمد محمد شاکر، دار المعارف، ،مصر ، ط2، سنة الطبع 1369 ه- ج 5: 25 - 27 رقم الحديث 3062

وقد اعترف بصحة هذا الحديث غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، كالحاكم في المستدرك، حيث ذكر الحديث بطوله، وعلّق عليه بقوله: «هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة»(1)، وذكره أيضاً أحمد محمد شاكر في تعليقه على المسند وغيره.

ولاهتمام المؤرخين والمحدّثين به رواه غير واحد منهم في كتابه، كابن كثير في البداية والنهاية(2)، ومحبّ الدين الطبري في كتابيه ذخائر العقبى(3)والرياض النضرة(4)، وقد ذكرناه بطوله نظراً لموضعه من نفوس الثقات من مؤرّخيه.

وعلى هذا النسق روى أكثر ما ورد للإمام علیه السلام من فضائل.

وقد روى أيضاً أحاديث في مسائل كلامية، يرتبط بعضها بالإيمان، وبعضها بالمعاد وشؤونه من جنّة، ونار، وحساب، وثالثة في القدر، كما روى أحاديث في الفتن والملاحم وأشراط الساعة.

والحقيقة أنّه - في رواياته تلك - ربّما يُعدّ مستوعباً أو شبه مستوعب للمواضيع التي طرقتها الأحاديث النبوية - على اختلافها - حتى صح لعبد الله بن عبيد الله أن يقول: «ما رأيت أحداً كان أعلم بالسنة ولا أجل رأياً ولا أثقب نظراً من ابن عباس».(5)

ص: 118


1- المستدرك على الصحيحين ج 3: 134
2- انظر البداية والنهاية ج 7: 337
3- انظر ذخائر العقبى: 86-87
4- انظر الرياض النضرة - مطبعة دار التأليف، مصر، سنة الطبع 1372 ه- ج 2 : 270
5- الاستيعاب ج 2 : 353

4- الفقه

اشارة

(1)

وأما الفقه فقد اتفقت كلماتهم - أو كادت - على وضعه في القمة من كبار الصحابة وفقهائهم في صدر الإسلام وربّما فضّله في السنة الكثير منهم على معاصريه على الإطلاق.

ومن الحقّ أن نسجّل هنا على تقييمات ذلك العصر أنّها تفتقد - في الكثير منها - مداليلها اللغوية، فهي لا تراد حرفيّاً، ولذلك نجد جملة من النقاد يطلقون هذه التقييمات على أكثر من شخص بصيغة (أفعل التفضيل).

وغاية ما تدلّ عليه - فيما أعتقد - أنّ صاحبنا ذو مكانة كبيرة في المجالات التي يطلق عليه فيها ذلك التقييم، ولا أقل من إكبار صاحبها وإعجابه بفقهه.

وفي هذا الضوء أرجو أن نواجه ما مر أو يجيء من تقييمات معاصريه له، ما لم يثبت لدينا صدقها في مدلولها الحرنّي، بعد فحص ودراسة وموازنة، وقد قلنا أن جملة من معاصريه كانوا يطلقون في تلقيبه أفعل التفضيل ، فهو لدى ابن أبي مليكة أفقه الناس إذا افتى، أو كما يقول: «إذا أفتى فأفقه الناس»(1)، ويقول مجاهد: «ما سمعت فتيا أحسن من

ص: 119


1- العقد الفريد ج 4 : 81

فتيا ابن عباس إلّا أن يقول قائل قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم»(1)، ونظيره ما ورد عن القاسم بن محمد (2)، وفي حديث عبد الله بن عبيد الله - الذي مرّ -: «ولا أعلم بقضاء أبي بكر وعمر ولا أفقه في رأي منه» (3). وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : «ابن عباس أعلمنا بما مضى، وأفقهنا فيما ،نزل ممّا لم يأتِ فيه شيء».(4)

وقالت عائشة – وقد نظرت إليه ومعه الحلق ليالي الحجّ وهو يسأل عن المناسك -: «هو أعلم من بقي بالمناسك»(5) .. إلى عشرات أمثالها من تقييمات معاصريه.

ولكثرة ما سُئل وأفتى، ودخل عليه مما لم يقله، فقد جمع أحد أحفاده وهو أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون ما نسبت إليه من فتاوى في عشرين كتاباً.(6)

وأخال أن هذه الرواية طبيعيّة بالنسبة إلى مثله وليس فيها ما يُستكثر عليه ؛ لطول المدة التي يُسأل فيها ويفتي فقد تصدى للفتوى منذ عهد عمر، واستمر حتى نهاية حياته (7)، وقد انحصرت به الفتيا أو كادت في أواخر عمره.(8)

ومع ذلك فلا نستكثر عليه أن تجمع فتاواه خلال نصف قرن تقريباً فتبلغ هذا المقدار، وكم كان مهماً لو قدر لها أن تبقى؛ لنعرف واقعها من حيث صحة النسبة وعدمها؛ ثم لندرس صاحبها في ضوئها دراسة مستوعبة لجملة نواحيه الفقهية.

ص: 120


1- الاستيعاب ج 2 : 352 -353
2- انظر الاستيعاب ج 2: 353
3- طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 122
4- المصدر السابق ج 2 قسم 2 : 124
5- المصدر السابق ج 2 قسم 2 : 122
6- انظر تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية: 153
7- انظر طبقات ابن سعد ج 2 قسم 2 : 120، 124
8- انظر المصدر السابق

(2)

والحديث عمّا بقي لدينا من هذه الفتاوى وموقعها من التقييمات السابقة يجرنا إلى التحدّث عن جملة من البحوث تعود في أسسها إلى :-

1- شرائط الإفتاء والمرجعيّة، ومدى توفرها لديه.

إن أول شرائط الفتيا والمرجعية لديه وأهمها : -

الاجتهاد: ومفهومه في حدود ما انتهيت إليه في البحث الذي وضعته كمقدمة لكتاب النصّ والاجتهاد هو «الملكة التي يقتدر بها على ضمّ الصغريات لكبرياتها لإنتاج حكم شرعي، أو وظيفة عملية شرعية أو عقلية».(1)

وقد قلت ذلك بعد عرض ومحاكمة لعدّة تعريفات له صدرت من أئمة الأصوليين أمثال الآمدي والدهلوي والخضري وغيرهم.

وهذه الملكة لا تحصل - بالطبع - ما لم يتوفّر في صاحبها مستوى ثقافي خاص، يقوم في أهم أسسه على وعي وفهم لأصول تحقيق النصوص، وإيصالها إلى مصادرها الأصلية، ثم فهمها فهماً كاملاً، سواء ما يتعلّق منها بمفرداتها، أم بأسلوبها الخاص، مع فهم لبواعث ودواعي صدورها وإدراك لعامها ،وخاصها، ومطلقها ومقيدها، وحاكمها ومحكومها.. وغير ذلك من القواعد الأصولية التي تصلح أن تقع كبرياتها في القياس المنطقي المنتج للحكم الشرعي، أو الوظيفة العملية؛ ليتسنى له الإفتاء على طبق

ص: 121


1- مقدمة كتاب النص والاجتهاد: 42

ما ينتهي إليه منها.

ومثل هذه الملكة قد لا تحصل لنا اليوم بسهولة لبعدنا عن زمن التشريع، وتوسّط كثير من العلوم التي يقتضيها اليوم تحقيق النص، والتأكد من نسبته للمشرع الأول، مع تعدّد الوسائط بيننا وبينه بالإضافة إلى كثير من العلوم اللسانيّة التي تقف في طريق فهم النص واستنباط الأحكام منها عادة، ثم تعقد قسم من العلوم التي تلابسها ملابسة مباشرة، كعلم أصول الفقه وغيره.

ولكنّ ذلك بالنسبة إلى ابن عباس ومن يعاصره قد لا يكون فيه مؤونة مجهدة؛ لأنّ تحقيق النصوص والتأكد من نسبتها لم يكن ذا مشقة؛ لقربه من عهد المشرع؛ وكثرة من اتصل به اتصالاً مباشراً، مما يمكن إرجاع النص إلى صاحبه بسهولة؛ ولأن كثيراً من العلوم اللسانية - فيما انتهت إليه من نتائجها كانوا في الغالب يدركونها إدراكاً تلقائياً - بحكم ورودها بألسنتهم الخاصة السائدة في مجتمعاتهم - ثم وعيهم لأكثر ما ورد من بليغ الكلم لبلغائهم، وإدراكهم للخصائص البلاغية فيها، مما يتناسب مع ما جاء في تلكم النصوص أو يقاربها من حيث المستوى.

والأصول التي نحكّمها اليوم في التماس بعض الأحكام الظاهرية أو الوظائف العلميّة، لم يكونوا بحاجة ماسة إليها؛ لاستغنائهم عنها بما توفّر لديهم من أسباب العلم بأحكامهم الواقعية؛ بسبب قربهم من المشرع أو من وعى عليه علومه من أهل البيت عليهم السلام والصحابة، ممن يحصل العلم بإخبارهم عادة.

وقد سبق أن عرفنا - بما درسنا من تفسيره - أن ابن عباس كان غني الرصيد في مختلف مجالات المعرفة المعاصرة له، وبخاصة في كل ما يتعلّق بفهم النصوص وأصول الجمع بينها فيما لو اختلفت بالعموم والخصوص والناسخ والمنسوخ وما أشبهه.

ص: 122

فصاحبنا بهذا المعنى من ألمع المجتهدين في ذلك العصر، وأقدرهم على استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها، ولربما كان الحديث في ذلك من نافلة القول.

أما ما يعتبرونه من الشروط الأخر كالإيمان، والذكورة، والحرية، والعدالة،

وأمثالها، على خلاف بينهم في اعتبارها أو اعتبار بعضها، فإنّ توفّرها فيه لا يحتاج إلى أن يعرض ذكره ؛ لبداهة معرفتها فيه على الإطلاق.

2- مصادر التشريع التي يعتمدها في فتاواه

يحدث سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي زيد قال : كان ابن عباس إذ سُئل عن الأمر، فإن كان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أخبر به، فإن لم يكن في القرآن ولا عن رسول الله، وكان عن أبي بكر وعمر أخبر به، فإن لم يكن في شيء من ذلك اجتهد رأيه».(1)

ويقول هو عن نفسه: «إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لا نعدوها»(2)، ويقول كما في رواية ابن طولون: «وإذا ثبت لنا الشيء عن علي علیه السلام لم نعدل إلى غيره».(3)

فمصادره إذاً في حدود هذه الأحاديث هي:-

أ - القرآن والسنّة.

ب - اجتهاد الخليفتين.

ج_ - فتيا الإمام

د - الرأي والقياس.

ص: 123


1- طبقات ابن سعد ج 2 : قسم 2 : 120
2- المصدر السابق ج 2 قسم 2 : 101
3- الأئمة الإثنا عشر - دار صادر، بيروت، سنة الطبع 1377 ه- : 51

فلنستعرضها واحدة واحدة ...

أ- القرآن والسنة

أمّا القرآن والسنّة فأمرهما وأمر الرجوع إليهما من قبله يكاد يكون من الضرورات التي لا تحتاج إلى إثارة حديث.

وقد سبق التحدّث عن الكتاب وعلاقته بالأخذ عنه، وكذا الحديث عن السنة واعتمادها في فتاواه. وقد حدّث هو عن استدلال النبي صلی الله علیه و آله وسلم على حجيتها بقوله تعالى: «موَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا».(1)

ب- اجتهاد الخليفتين

وأمّا اجتهاد الخليفتين فما أذكر أنني قرأت له تصريحاً واحداً بذلك، والذي رأيته أنّ الخليفة عمر كان يرجع إليه ويستفتيه ويعجب بفتواه، وربّما اختلف معه في الرأي، فهابه في الإنكار عليه تارة، كما صنع في قصة العول، ولم يهبه أخرى كما في قصة المرأة التي وضعت لستة أشهر وكانت موضع إنكار الناس.

يقول - فيما يحدّث نافع بن جبير عنه -: «.. فقلت لعمر:

لا تظلم، قال: كيف؟ قلت: إقرأ «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا»(2)، «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»(3) كم الحول؟ قال: سنة، قلت: كم السنة؟ قال: اثنا عشر شهراً، قلت: فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان، ويؤخّر الله ما شاء ويقدّم،

ص: 124


1- انظر مسند أحمد ج 5 : 102 حدیث: 3300
2- الأحقاف: 15
3- البقرة: 233

قال: فاستراح عمر إلى قولي».(1)

وهذا الاستدلال متين جداً، وهو من مصاديق ما يسميه الأصوليون بدلالة

الإشارة، وهي الدلالة التي لا تكون بينة بالمعنى الأخصّ، وإنما تكون بينة بالمعنى الأعم، واستفادتها من طريق الجمع بين النصين؛ للانتهاء إلى حكم جديد وصدورها من مثله في ذلك العصر يدلّ على موهبة اجتهادية موفقة.

وهيبته للخليفة وعدمها إنّما يكونان تبعاً لظروف كلّ منهما، وأجوائهما النفسية ثم لأهمية الحادثة نفسها.

-على أنّ اجتهاد الخليفتين فيما لا نص فيه - كما هو مقتضى وضعه في الحديث السابق - لا يتمشى الإيمان به مع ما عرف من رأيه في الرأي والقياس.

كما سيأتي..

ج_ - فتيا الإمام

ومن جملة مصادر فتياه - كما هو صريح قوله السابق -: «إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لا نعدوها»، فلأنه يعود - فيما أعتقد - إلى اعتبار أن فتياه من السنة؛ لاعتقاده أنه لا يفتي إلّا على وفقها، وحسبه من الأمر بالرجوع إليه في أحاديث رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم التي أُثرت عنه، وحدّث بها هو وغيره، كما مرّ في أكثر من موضع من هذا الكتاب كحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها ..».. وكونه علیه السلام أحد الثقلين، وهو مع القرآن معه .. والقرآن م إلى عشرات أمثالها مما توجب الرجوع إليه واعتبار قوله حجّة.

وقياسه على بقية الصحابة قياس مع الفارق - فيما يرى ابن عباس – فهو فيما خبر من معارفه - بحكم التلمذة - أعلمهم بربه وبسنّة نبيه على حد قوله للخوارج حين

ص: 125


1- الدر المنثور - المكتبة الإسلامية، طهران سنة الطبع 1377ه- ج 6 : 40

خرج عليهم قائلاً: «جئتكم من عند صهر رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم و وابن عمه، وأعلمنا بربّه وبسنة نبیّه».(1)

وقوله في تحديد النسبة بينهم : «والله لقد أعطي علي تسعة أعشار العلم وايم الله لقد شارككم في العشر العاشر»(2)، وفي رواية ابن طولون عنه: «أعطي علي تسعة أعشار العلم، والله لقد شاركهم في العشر الباقي».(3)

على أن هذا طبيعي بالنسبة لمثل الإمام علیه السلام تمن نشأ وتربى في أحضان النبوّة، وأُعدّ من قبل النبي صلى الله عليه و آله وسلم لهذا المنصب إعداداً لا يشبهه إعداد وكان بما أوتي من لسان سؤول وقلب عقول - كما كان يقول - لا يدع بالطبع شأناً من شؤون الكتاب أو السنة إلّا ووعاه وسجله.

وكثير من السنة كانت تسند إلى أفعال النبي صلى الله عليه و آله وسلم و تقريراته، فضلاً عن أقواله، وهي في حاجة إلى من لا يفارق النبي ليستطيع إحصاءها، وحفظها والتماس الأحكام الكلية منها.

والإمام علیه السلام يكاد يكون وحيداً بين الصحابة في ذلك، لشدّة مسايرته ومصاحبته له منذ بدء النبوة، حتى فاضت نفسه الكريمة على صدره ، وسنعرف مبناه في عدم الرجوع إلى الرأي، وهو مبنى ابن عباس نفسه، وربّما كان هو مصدر صاحبنا فيه، وعرفنا أنه كان من الإيمان والتقوى، والواقعية، واليقظة، بالدرجة التي يستحيل فيه عادة أن يحكم أو يفتي على غير ما أنزل الله ، فإذا عرفنا ذلك كله صح لابن عباس أن يعتبر فتواه من السنة التي يجب الأخذ بها واعتمادها، وبخاصة بعد أن أمر باعتبارها بأمثال تلكم الأحاديث السابقة.

ص: 126


1- العقد الفريد ج 2 : 207
2- ذخائر العقبى: 78
3- الأئمة الاثنا عشر: 51

ويبدو من هذا القيد - إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لا نعدوها - أن الكذب قد كثر على الإمام علیه السلام في زمنه ونقلت عنه فتاوى لا يقول بها، ولا تلتئم مع مبانيه، مهما كانت بواعث الكذب التي سبق أن وضعنا لها مخططاً في مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب.

وقد جمعت كثير من أحكامه وجيء بها لابن عباس فمحاها إلّا قدر ذراع، وأشار سفیان بن عيينة - وهو الذي حدّث بهذا الحديث - إلى ذراعه(1)وهي التي صحّت لديه منها .

على أنا لم نعرف له مخالفة صريحة لإمامه علیه السلام تحدّاه بها إلا في واقعة واحدة حدّث عنها عكرمة وهي: «أن علياً حرّق ناساً ارتدوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال: لا تعذبوا بعذاب الله، بل كنت قاتلهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم من بدل دينه فاقتلوه، فبلغ ذلك علياً فقال: ويح ابن عباس، وفي رواية: ويح ابن عباس إنه لغوّاص على الهنات، وقد كافأه علي فإن ابن عباس كان يرى إباحة المتعة، وأنها باقية، وتحليل الحمر الإنسية، فقال علي: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الإنسية يوم خیبر».(2)

ولكن هذا الحديث تدخله علامات الاستفهام والتعجب في أكثر من موضع، وفيه مجال لعدّة مؤاخذات بعضها يرتبط بسنده وبعضها بأسلوبه، وثالثة بملائمة وقائعه لما صح عن الإمام علیه السلام في مؤداه.

أما سنده فحسبه أن يكون فيه عكرمة، وهو رجل خارجي أباضي (3)، متهم في نقله بالنسبة إلى كلّ ما يسيء للإمام علیه السلام ولمولاه؛ لموقفهما من الخوارج أولاً؛ ولأنه كان يرى

ص: 127


1- انظر تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية: 202
2- البداية والنهاية ج 8: 300
3- انظر طبقات ابن سعد ج 5 : 216

كفر الإمام علییه السلام ومن يعتنق مبادئه، ومثله لا يؤتمن في النقل بما يوافق هواه، وإن كنا أسرع إلى تصديقه حين يحدّث في فضائله مثلاً؛ لمخالفتها لصميم عقيدته ومثله في مثلها لا يبدو أن يكون بعيداً عن الكذب عادة، وربّما لاحظ عليه ذلك معاصروه فاتهموه بالكذب على مولاه

هذا سعيد بن المسيب يقول لمولى له «لا تكذب عليَّ كما كذب مولى ابن عباس على ابن عباس»(1)، وهذا عبد الله بن الحارث يقول: «دخلت على علي بن عبد الله فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت له: ألا تتقي الله؟ فقال: إن هذا الخبيث يكذب على أبي».(2)

وقد طعن فيه غير واحد من أرباب الجرح والتعديل، وصرحوا بكذبه، كمحمد بن سيرين (3)، وكونه غير ثقة كابن أبي ذؤيب(4)، أو «لا أرى أن يقبل حديثه، كمالك فيما(5)يحدّث الشافعي عنه » .. إلى غير ذلك من دلائل الجرح.

وقد نسبه إلى الخوارج غير واحد منهم، كأحمد، وعطاء بن أبي رباح، ومصعب بن الزبير، ويحيى بن أبي بكر، وقد قال يحيى: «الخوارج الذين في المغرب عنه أخذوا»(6)، وما أشبه ذلك مما ورد في تجريحه مما يوجب أن لا يطمأن إلى أحاديثه مطلقاً، اللهم إلّا ما ورد منها وصح عنه مما هو جارٍ على خلاف هواه، ولا أقل من ترك رواياته التي جاءت

ص: 128


1- انظر طبقات ابن سعد ج 5 : 100
2- میزان الاعتدال :ج3: 94 رقم الترجمة 5716
3- انظر المصدر السابق
4- انظر دلائل الصدق - المطبعة الحيدرية، النجف سنة الطبع 1372 ه- ج 1 : 48 نقلا عن تهذيب التهذيب
5- میزان الاعتدال ج 3: 96
6- المصدر السابق

على وفق رغباته، وقبول ما عداها من الأحاديث التي لا تضره ولا تنفعه، أو تضره ولا تنفعه.

فهذه الرواية لا يمكن قبولها؛ لمجيئها على وفق هواه من محاولة الطعن بالإمام علیه السلام بالطعن بأحد أفعاله، وكذلك الطعن بابن عباس من طريق الطعن بفتاواه.

أمّا مضمونها ففيه عدة مفارقات، يتعلّق بعضها بأصل صدور قضيّة الحرق من الإمام علیه السلام، فضلاً عن نقده له على ذلك، فالحرق لم يعرف زمنه ولا مكانه، ولم يذكر ذلك في رواية تسلم من نقاد الحديث في أسانيدها، ومثلها عادة لا بد أن تشتهر زماناً ومكاناً، فهي حادثة تكاد تكون منفردة في ذلك الحين، ومثلها لا يصح أن يرد كلّ هذا الإهمال.

ونقد الإمام لابن عباس هو الآخر لا يتمشى مع ما نعرفه من حديث أهل البيت عليهم السلام.

والذي يبدو من أحاديثهم فيما يخص الحمر الإنسية، أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم نهى عنها - يوم خيبر - نهي كراهة لا تحريم ففي حديث محمد بن علي بن الحسين علیهم السلام : «قال: أما نهى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم اللهم عن أكل لحوم الحمر الإنسية بخيبر ؛ لئلا تفنى ظهورها، وكان ذلك نهي كراهة لا نهي تحريم».(1)

وأخبار الكراهة كثيرة في هذا الباب لا يهمّ الإطالة فيها .

ولو كان الحكم بهذا الوضوح من التحريم، بحيث يعتبر الخارج عليه امرءً تائهاً - كما جاء في حديث عكرمة - لما خرج عليه بعد ذلك الأئمة من أهل البيت عليهم السلام وهم أولاد علي، ومذهبهم واحد - كما سبق تصريح لهم بذلك -، ثم لأعلن ابن عباس

ص: 129


1- وسائل الشيعة - المكتبة الإسلامية، طهران، سنة الطبع 1312 ه- ج 16 باب: 4 من أبواب الأطعمة والأشربة حديث: 5

رجوعه عنه وتوبته، كما أعلنها في الصرف حين تبيّن له خطؤه (1) ، وبخاصة وقد نبّهه الإمام علیه السلام عليه بهذه اللغة من التأنيب، وسكت هو عن الإجابة عليه.

والمتعة وهي الأخرى من دلائل القلق في هذا الحديث؛ لأنها من الأحكام التي تبنّاها أهل البيت علیهم السلام بما فيهم الإمام علي علیه السلام، والروايات المأثورة عن ابن عباس في ذلك كثيرة، أمثال قوله: لولا «أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شفا» (2)، ونسبة هذا الحكم إلى أئمة أهل البيت علیهم السلام يعد من الضروريات، فأين هذا من دعواه أن الإمام قال بنهي النبي عنها في يوم خيبر ؟!.. وكيف يلتئم مع تصريحات الإمام علیه السلام وأولاده بتحليلها على أنّ لسان الرواية وأسلوبها يتمان عن مواضع القلق فيها، مثل قوله ( فكافأه ) .. فكأنّ المسألة مسألة انتقام ومكافآت لا مسألة بحث عن واقع.

وعلى أيٍّ فأمر هذه الرواية أهون من أن يُطال فيها الحديث.

د- الرأي والقياس

وحسبه أن يكون من آل البيت، ورأيهم في قسم من الأقيسة معروف، وأن يتلمذ على الإمام علیه السلام وهو القائل : لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان باطن الخفّ أولى بالمسح من ظاهره».(3)

وما لنا نبعد وتصريحاته - أعني صاحبنا - كثيرة ، فمنها قوله من أحدث رأياً ليس في كتاب الله، ولم تمض به سنة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي إذا لقي الله عز وجل».(4)

ص: 130


1- انظر شرح نهج البلاغة ج 4 : 459
2- تفسير الطبري ج 5: 13
3- الإحكام في أصول الأحكام - مطبعة محمد علي صبيح مصر - ج 3: 83
4- أعلام الموقعين - مطبعة السعادة، القاهرة، ط 1 ، سنة الطبع 1374 ه- ج 1 : 253 - 254

وقوله في التأكيد على الردع عنه ، وعدم تسويغه لأي أحد : «إن الله تعالى قال لنبيه: «وَأَن أَحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله»(1)، ولم يقل بما رأيت، ولو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم .(2)

فإذا كان لا يرى أن ذلك سائغ لرسول الله ، أفتراه يمكن أن يسوّغه للخليفتين؟ ثم يعتبر قولهما حجّة عليه مع علمه بأنهما يستسيغان ما لا يستسيغه من الاجتهاد على خلاف النص .

وقد أنكر على عروة بن الزبير اعتباره حجيّة قولهما في مقابل الكتاب والسنة أكثر من مرة، حتى قال له: «والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، نحدّثكم عن النبي وتحدّثوننا عن أبي بكر وعمر».(3)

على أن رأيهما - وهما مجتهدان مثله في استنتاج الأحكام - لا يكون حجّة على من هو مجتهد مثلهما؛ للزوم إعمال اجتهاده الخاص في التماس أحكامه الشرعية، وعدم جواز التقليد له في شيء من ذلك.

فالرواية - فيما أخال - موضوعة أو هي مبتنية على اجتهاد من الراوي في استنتاج مصادر فتياه.

اجتهاد رأيه

وهو الذي عرضته الرواية أخيراً، فإن عاد إلى اجتهاده في مداليل النصوص

ص: 131


1- المائدة: 49
2- الإحكام في أصول الأحكام ج 3: 83
3- الغدير - مطبعة الحيدري، طهران، ط 2 ، سنة الطبع 1372 ه- ج 6 : 208

واستخراج الأحكام الشرعية منها فهو طبيعي له ، ولا يمكن الاستغناء عنه بحال، وإن لم يعد لذلك وعاد إلى الاجتهاد والرأي - المردود عنه في أحاديثه السابقة - فهو كسابقه اجتهاد من الراوي ظاهراً، ولا يؤثر له تصريح واحد يمكن الاطمئنان إليه بذلك، نعم سجّلوا عليه فتاوى اعتبروها من قبيل الأخذ بالقياس والرأي، كقوله عند سماعه بحديث نهي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عن بيع الطعام قبل أن يُقبض -: «لا أحسب كلّ شيء إلّا مثله»(1)، فهذا التعميم - فيما يرون - أخذ بالعلّة المستنبطة وهي من القياس.

والظاهر أنّ هذا ليس من قبيل الأخذ بالعلة، وإنّما هو من قبيل استفادة التعميم من الرواية باعتبار استفادته أنّ ما ذكر فيها من متعلّق النهي لم يذكر إلا على سبيل المثال، وما دام الأمر يرجع إلى الاستفادة من النصّ ولو بمناسبة الحكم والموضوع، فهو ليس من قبيل الأخذ بالرأي وإنّما هو أخذ بالسنّة.

والحقيقة التي يجب أن تتضح .. أن ما ذكروه للقياس من أقسام لا تنتظمه للحكم وحدة يرجع إليها من حيث الحجيّة، فما كان منه راجع إلى إفادة النصّ له كالعلّة المنصوصة، ومفهوم الموافقة ودلالة الإشارة، بل كل مدلول للفظ ولو كان بالدلالة البينة بالمعنى الأعم أو غير البينة، فضلاً عن الدلالات الثلاث... المطابقة، والتضمن، والالتزام، فهو مما يأخذ به أهل البيت علیهم السلام، وهو معنى الاجتهاد في مدلول النصّ، وما قام على التخرّصات والتمحلات والتخمينات التي لا تكون مدلولة له، فهي التي التي ورد الردع عنها بأمثال أحاديث ابن عباس السابقة.

وإذا صحّ هذا عدنا إلى ما نسب إليه من الفتاوى مما ينتظم في هذه المجالات؛ لنرى موضعها من تلكم الأقسام.

ص: 132


1- مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه - دار الكتاب العربي، مصر ، سنة الطبع 1955م - : 28

وفي حدود ما رأيت مما يمكن أن تصح نسبته إليه فإنّه راجع إلى القسم الأول منها، وهو الذي لا يأبى أهل البيت عليهم السلام من الأخذ به؛ لرجوعه إلى النص نفسه لا إلى الرأي المحض، وما عدا ذلك فلا طريق إلى إثباته عليه هذا كلّه إذا كان هناك نص يُركن إليه، ولو في التماس المؤمن لاستنتاج الحكم الشرعي او الوظيفة العملية، أما إذا لم يكن فيرجع إلى البراءة العقليّة في التماس المؤمن من العقاب، وربّما أشعر بذلك قوله: «كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء هذراً، فبعث الله نبيه، وأنزل عليه كتابه، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، فما أحلّ فهو حلال وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو».(1)

فهو يستنتج هنا أنّ ما لا يرد فيه نص فهو عفو لا يعاقب المولى عليه، وحاشاه أن يعاقب على شيء يريده ولا يصدر في إرادته بياناً، وهو الذي وضع عن عبيده المؤاخذة على ما أخطأوا فيه أو نسوه أو أُكرهوا عليه، كما حدث بذلك صاحبنا عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : «إنّ الله وضع عن أمتي - وقال البيهقي تجاوز عن أمتي - الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».(2)

فكيف يعاقبهم على ما لا بيان فيه أصلاً وهو قبيح يتعالى الله عنه.

3- طابع مدرسته الفقهية

وفي حدود ما انتهينا إليه من مصادر فتياه بعدما صحّ لدينا ما صح من تلكم المصادر والمراجع لأحكامه وفتاواه، لم تعد مدرسته الفقهيّة وطابعها الخاص خافيةً علينا.

فمدرسته هي مدرسة أهل البيت علیهم السلام، وطابعها هو طابعهم الخاص، ولذا نراه

ص: 133


1- أعلام الموقعين ج 1 : 252
2- المصدر السابق ج 4 : 51

في جملة من المسائل الخلافية بين الصحابة - وهي المسائل التي انتشرت بعد ذلك بين أرباب المذاهب الإسلامية - كان ينحو - فيما يُؤثر عنه - منحى مذهب أهل البيت علیهم السلام وعلى الأخص أستاذه الإمام علیه السلام وهو مصدر هذا المذهب وأساسه التشريعي.

وقد رأيت - في حدود ما استقصيت من فتاواه - أنّ أكثر ما يصح منها ينتظم في هذا الباب.

وهذه المسائل التي كانت موضع اختلاف الصحابة، يتعلّق بعضها بالعبادات، وبعضها بالمعاملات، وثالثة بالأحوال الشخصية، كالطلاق والنكاح والفرائض.

فمن الأمور العبادية التي وقع فيها الاختلاف مسح الأرجل وغسلها في الوضوء؛ والجمع بين الصلاتين واعتبار البسملة جزء من السورة يلزم الإتيان به في الصلاة، والتقصير في السفر والإفطار فيه.. وما إلى ذلك.

وكان ابن عباس في جميعها موافقاً لمدرسة أهل البيت عليهم السلام، وله في ذلك مأثورات نعرض إلى بعضها في هذا الحديث

مسح الأرجل

فمن مأثوراته في الوضوء قوله: «افترض الله غسلتين ومسحتين، ألا ترى أنه ذكر التيمّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين».(1)

وقال:«الوضوء غسلتان ومسحتان»(2)، وظل مصراً على قوله، رغم دعوى بنت معوّذ بن عفراء الأنصارية التي كانت تزعم أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم توضأ فغسل رجليه، وقد أتاها

ص: 134


1- كنز العمال - مطبعة دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد سنة الطبع 1312 ه- ج 5 : 103 رقم الحدیث: 2213
2- المصدر السابق رقم الحديث: 2211

يسألها عن ذلك فحدّثته، إلّا أنه أنكر عليها بقوله : «أن الناس أبوا إلّا الغسل ولا أجد في كتاب الله إلّا المسح»(1)، وهو عين ما جاء عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في هذا الباب.

الجمع بين الصلاتين

فمن مأثوراته ما حدّث عنه سعيد بن جبير .. قال : قال صلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: الظهر والعصر والمغرب والعشاء جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير وهو راوي الحديث عن سعيد هذا: فسألت سعيداً لم فعل ذلك فقال: «أراد أن لا يحرج أحداً من أمته».(2)

وفي رواية عنه: «صلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر».(3)

يقول عبد الله بن شقيق: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وعلق الناس ينادونه الصلاة، وفي القوم رجل من بني تميم فجعل يقول الصلاة الصلاة قال: فغضب قال: فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنّة، قال: شهدت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال عبد الله: فوجدت من نفسي من ذلك شيئا، فلقيت أبا هريرة فسألته فوافقه».(4)

وقد ورد عنه كثير من أمثال هذه الأحاديث.

وقد قام بعض الأعلام بمحاولات للجمع بينها وبين غيرها من الأحاديث التي وردت عن غيره ولا توافق مذهب أهل البيت علیهم السلام وكلها جموع تبرعيّة يأباها ظاهر

ص: 135


1- سنن ابن ماجة - المطبعة التازية، ط 1 - ج 1: 171
2- صحیح مسلم: 151
3- صحیح مسلم: 151
4- مسند احمد - المطبعة الميمنية ، مصر ، سنة الطبع 1313 ه- ج 1 : 251

الكلام.

وهنا يجب أن نؤكّد أنّ هذه الروايات وأشباهها لم ينفرد بها ابن عباس من بين الصحابة، وإنّما وافقه عليها برواية مضامينها جماعة من أعلام الصحابة.. تراجع أقوالهم في مظانّها من كتب الفقه والحديث.

وما يقال فيها هنا يقال في لا حقاتها من المسائل على اختلافها مثل البسملة باعتبارها جزء من السورة ، فهي - فيما صح عنه - كان يعدّها آية من القرآن، وأحاديثه في ذلك كثيرة، نكتفي منها بذكر بعضها ..

حدّث سعيد بن جبير عنه في قوله تعالى «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي»(1) قال :فاتحة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العاملين، وقرأ السورة، قال ابن جريج: فقلت فقلت لأبي - وهما في سلسلة الحديث - : لقد أخبرك سعيد عن ابن عباس أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم آية ، قال : نعم».(2)

التقصير في السفر

فقد استفتي في ذلك من قبل موسى بن سلمة الهذلي .. يقول: «سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلی الله علیه و آله وسلم»(3)، وفي رواية ثانية عنه:«فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة».(4)

وواضح من هذا التعبير أن الصلاة المشرعة في السفر هي الركعتان لا غير، كما أنّ

ص: 136


1- الحجر : 87
2- المستدرك على الصحيحين ج 2: 257 وانظر تلخيص المستدرك ج 2 : 257
3- صحيح مسلم ج 2 : 143 - 144
4- المصدر السابق ج 2 : 143

الأربع هي المشرعة لمن كان حاضراً، وهو مدلول كلمة الفرض.

الصوم في السفر

ففي حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس: «أنّه أخبره أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم خرج عام الفتح فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر ، قال : وكان صحابة رسول الله يتبعون الأحدث فالأحدث في أمره».(1)

وكأنه يشير إلى ما عرف من أنّ الإفطار في السفر كان رخصة في ابتداء التشريع وقد نسخ من قبله صلی الله علیه و آله وسلم في عام الفتح، وأصبح عزيمة يلزم اتباعها.

وفي قوله «كان صحابة رسول الله يتبعون الأحدث فالأحدث في أمره» ما يشير إلى ذلك النسخ.

وما لنا نبعد وصريح قوله - كما في رواية أخرى -: «الإفطار في السفر عزيمة»(2)يدلّ على رفع حكم الرخصة فيه، لو صح ثبوته من قبل الشارع يوماً ما.

المتعة في الحج

كان يراها ويصرّ عليها رغم موقف الخليفة عمر منها ، ومن رفيقتها متعة النساء، ونظراً لأهميتهما وتنبه صاحبنا لهما تبعاً لأستاذه الإمام علیه السلام ، ثم اهتمام جمهور الفقهاء بهما نعطيهما أهمية في الحديث.

ويراد بمتعة الحج أن يجمع - من وظيفته حج التمتع - بين العمرة والحج، ويبدأ بالعمرة، فإذا اتمتها، وأحلّ من إحرامه، حلّ له كل شيء، ثم يستأنف عمله بعد ذلك للحج، فيُحرم من جديد ويشرع في أداء أعماله حتى يتمها.

ص: 137


1- تفسير الطبري ج 5: 13
2- تفسير الطبري ج 5: 13

ويبدو من بعض أحاديث ابن عباس أن للتفرقة بين الحج وبينها جذوراً ورواسب في الجاهليّة، حاول أن يقضي عليها الإسلام، ففي حديث طاووس عنه: «قال: كانوا يرون أن العمرة في اشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفر، ويقولون إذا برئ الدبر وعفا الوبر وانسلخ صفر، أو قال: دخل صفر، فقد حلّت العمرة لمن اعتمر .

فقدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم عندهم، فقالوا: يا رسول الله أيّ الحل؟ قال: الحلّ كلّه».(1)

وقد تقبّلوا هذا التشريع على مضض - كما سبقت الإشارة إليه في الجزء الأول من هذا الكتاب - لما رسب في أعماقهم بأنّه أفجر الفجور لذلك تعاظم عليهم قبوله، وقد وجدوا في إلغاء الخليفة عمر لهذا التشريع ومنعه منفذاً للتنفيس عما تركه قبوله من ضغطه للرواسب المتأصلة نتيجة للصراع القوي بين عقيدتهم السابقة وهذا التشريع؛ لذلك لم نجد منكراً على الخليفة في الوقت - وإن لم يعمل بهذا التشريع كثير - منهم ولده عبد الله وقد أُثر أنه سئل عن متعة الحج قال : «هي حلال، فقال الشامي: إنّ أباك قد نهى عنها، فقال عبد الله بن عمر : أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله !! فقال الرجل : بل أمر رسول الله صلی اله علیه و آله وسلم، فقال: لقد صنعها رسول الله الله وصنعناها معه».(2)

وكان يعلّل الخليفة فتياه بكراهته لأن يظلوا معرّسين بهنّ في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم.. فعن أبي موسى أنّه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: «رويدك

ص: 138


1- سنن النسائي - تصحيح حسن محمد المسعودي، المطبعة المصرية - ج ه : 180 -181
2- سنن الترمذي - تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية - ج 3: 185 - 186 رقم الحديث 824

ببعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، حتى لقيه بعد فسأله فقال عمر : قد علمت أن النبي الله صلی اله علیه و آله وسلم قد فعله واصحابه ، ولكني كرهت أن يظلوا معرّسين بهنّ في الأراك ، ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم ..».(1)

وما أدري أيصلح هذا التعليل ونظائره تما علّلوا به هذا الإقدام من قبله على تعطيل هذا الحكم برفع اليد عنه ؟! وهل مثل هذا الاجتهاد في قبالة النص مما يسوّغه الفقهاء؟! وماذا يبقى لنا من الأحكام لو فتحنا لأنفسنا باب النسخ بمثل هذه الاجتهادات؟! وأيّ حكم توجه لتعطيله أمثال هذه البواعث الاستحسانية على التعطيل ؟!

أمّا صاحبنا - فعلى ما عرفنا من مبناه - فإنه يأبى أن يقابل السنّة بالرأي والاجتهاد، لذلك رأيناه يصر تبعاً لأهل البيت عليهم السلام على إبقاء هذا الحكم وعدم رفع اليد عنه باجتهاد الخليفة في تحريمه، وقد اختلف لذلك مع جملة من الآخذين به، حتى قال لمن كان يعارضه : «يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلی اله علیه و آله وسلم وتقولون : قال أبو بكر وعمر».(2)

وفي رواية سعيد بن جبير عنه قال: «تمتع رسول الله صلی اله علیه و آله وسلم، فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: أراكم ستهلكون أقول : قال رسول الله صلی اله علیه و آله وسلم وتقول: قال أبو بكر وعمر».(3)

ويبدو أن اسم ابي بكر أقحم في وقت متأخّر عن الحادثة؛ لتعزيز رأي الخليفة ،عمر، وإلا فإنّ المعروف - وربّما كان شبه متواتر - أنّ التحريم صدر من الخليفة الثاني، وكلامه الآتي صريح في ذلك.

ص: 139


1- صحیح مسلم ج 4 : 45 - 46
2- زاد المعاد - مطبعة مصطفى البابي، مصر، ط 2 ، سنة الطبع 1369 ه- ج 1 : 209
3- المصدر السابق ج 1 : 212 - 213

وعلى أي فإنّ ابن عباس كان يفتي بها استناداً إلى مأثوراته عن النبي صلی اله علیه و آله وسلم في ذلك، ومنها قوله صلی اله علیه و آله وسلم: «هذه عمرة استمتعناها، فمن لم يكن عنده هدي فليحل الحلّ كلّه،فقد دخلت العمرة في الحج»(1)، وقوله في رواية أخرى صحيحة: «قد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»(2)).. ومثلها كثير ، وقد استفتاه أبو حمزة نصر بن عمران – فيما حدثوا عنه - يقول: «سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها، وسألته عن الهدي فقال : فيها جزور أو بقرة أو شاة .. الحديث».(3)

ويبدو أن تلكم الرواسب - التي حدثنا عنها - لم يطل أمدها بعد ذلك، فقد شاعت الفتوى بها بين كثير من العلماء، وبخاصة في زمن التابعين ومن بعدهم، وماذا يهم الأجيال اللاحقة - وهي خالية من الرواسب - أن يراها آباؤهم من أفجر الفجور.

متعة النساء

وهي رفيقتها في التحريم، فقد ظلت متحكّمة بين الجماهير، وكأن تشريعها صادف هوى في نفوسهم، وظل يتجاوب معها؛ لما ربطوا بينها وبين جريمة الزنا، حتى أن المأمون في عهد خلافته حاول أن يعمّم حلّيتها بتشريع فمنعه الخوف من هياج الرأي العام لذلك يقول المحدّث: وأمر المأمون أيام خلافته فنودي بتحليل المتعة، فدخل عليه محمد بن المنصور وأبو العيناء فوجداه يستاك ويقول - وهو متغيظ - : «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلی اله علیه و آله وسلم وعلى عهد أبي بكر ، وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا (...) حتى تنهى عما فعله رسول الله صلی اله علیه و آله وسلم وأبو بكر؟! فأومأ أبو العيناء إلى محمد بن المنصور، وقال:

ص: 140


1- سنن النسائي ج 5 : 181
2- صحیح مسلم ج 3: 57
3- الدر المنثور ج 1 : 217

رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول، نكلّمه نحن فأمسكنا»(1)، ودخل عليه يحيى بن أكثم فخوّفه من الفتنة، وذكر له أن الناس يرونه قد أحدث في الإسلام - بسبب هذا النداء - حدثاً عظيماً لا ترتضيه الخاصّة ولا تصبر عليه العامة، إذ لا فرق عندهم بين النداء بإباحة المتعة والنداء بإباحة الزنا.. ولم يزل به حتى صرف عزيمته، احتياطاً على ملكه وإشفاقاً على نفسه.

وقد تعرّض لذلك صاحبنا ، حتى تبنى - على وفق مبانيه - تحليلها إلى كثير من الإنكار وربّما السخرية اللاذعة، حتى قال فيه الشاعر :

أقول للركب إذ طال الثواء بنا***يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس

في بضّة رخصة الأطراف ناعمة***تكون مثواك حتى مرجع الناس(2)

ولكنه كان لا يرى للعاطفة مجالاً في الأمور التشريعية، وليقل فيه من شاء بما شاء، ما دام الدليل الشرعي يتمشى معه، بالإضافة إلى أنه كان يرى - مع أستاذه الإمام علیه السلام - أنها المنفذ الوحيد للقضاء على جريمة الزنا؛ لعقيدته أن أكثر من يعمد إلى هذه الجريمة لا يعمد إليها بدافع التحدّي للمبادئ التي يدين بها، وإنّما يساق إليها - بدافع الحاجة - للتحلّل من ضغط الغريزة عليه، وليس الزواج دائماً مهيئاً لكل أحد، فهناك من تقف دونه بعض الضرورات المادية وبعض المشاكل الاجتماعية لتمنعه من الزواج المبكر، وليس كل أحد يقوى على مدافعة الغريزة، مما يضطره الأمر إلى سلوك إحدى الطرق الشاذة للتنفيس، والطرق الشاذة جميعاً بما فيها العادة السرية والمثلية والزنا وما أشبه، بالإضافة إلى أضرارها الصحية والاجتماعية الكبيرة، مما نهى الشارع أشدّ النهي عنها، وألحف في الوقوف دونها، بما شرع من حدود وتعزيرات.

ص: 141


1- وفيات الأعيان - المطبعة الميمنية، مصر، سنة الطبع 1310 ه- ج 2 : 218
2- الغدير ج 6 : 231 . نقلا عن تفسير القرطبي

وقد كان هذا التشريع - فيما يرى ابن عباس - هو المنفذ الوحيد للمنع من الوقوع في الزنا، وقد صرح بذلك حين قال: «رحم الله عمر .. ما كانت المتعة إلّا رحمة من الله تعالى رحم الله بها أمة محمد صلی الله علیه و آله وسلم ، و لو لا نهيه لما احتاج إلى الزنا إلّا شفا».(1)

وأرجو أن نتأمل هنا كلمة (رحمة) ، ثم كلمة ( ما احتاج إلى الزنا)، فهما من أدق التعبيرات عن تصوّره لبواعث مثل هذا التشريع، وقيمته في تلافي ما ينشأ من الاقتصار على الزواج - في معالجة المشاكل الجنسية - من عميق المشاكل.

ومن الغريب أن يلتقي ابن عباس في إدراكه لأصل المشكلة وعلاجها - وهو من أبناء القرن السادس للميلاد - مع فيلسوف كبير يعيش في القرن العشرين.

وقد بحث وجهات النظر في إيجاد حل للمشاكل الجنسية فلم ينته إلى غير هذا الحل وما يشبه لسد الحاجة الجنسيّة، مع عدم الوقوع في أي ضرر نفسي أو جسمي أو اجتماعي.(2)

ومن الحق أن نسجل - قبل أن ندخل في التماس أدلّة صاحبنا على هذا الحكم - ماوُجّه إلى هذه الفتوى، أو قل إلى هذا التشريع من نقود، وأكثرها ناشئ عن عدم وقوفهم على واقع هذا النكاح.

وواقعه عقد زواج بين طرفين معلومين إلى أجل معيّن، بمهر يذكر في متن العقد، فإذا انتهى الأجل أو وهبها المدّة انجلت العقدة بينهما دون حاجة إلى طلاق، وتعتدّ الزوجة بحيضتين أو خمسة وأربعين يوماً، وإن كانت لا تحيض وهي بسنّ مَن تحيض وأما إذا مات الزوج وهي عنده لحقتها عدّة الموت، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام،

ص: 142


1- أحكام القرآن - المطبعة البهية، مصر، سنة الطبع 1347 ه- ج 2 : 179
2- انظر الفلسفة القرآنية - مطبعة لجنة التأليف والنشر، مصر، سنة الطبع، 1947 -: 73-75

والولد يلحق بأبيه بعد انتهاء دور الحضانة والنفقة في أثنائها على الأب، ويتوارثان كما يتوارث الآباء والأبناء، وحكمه حكم سائر أولاده بلا فرق اصلاً، وهو – أعني زواج المتعة – كالزواج الدائم في أكثر أحكامه المهمّة، اللّهم إلّا الميراث، وللزوجة أن تشترطه في ضمن العقد، وإذا اشترطته لزم.

والتشريع - بعد هذا - صدر من النبي صلی الله علیه و آله وسلم...

وأصبح سنة يعمل بها باتفاق كلمة المسلمين، ودلّت عليه من الكتاب آية: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَئاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً».(1)

وقد سبق لنا أن سمعنا قراءة صاحبنا وأبي بن كعب وبعض الصحابة لها بزيادة إلى أجل مسمى، وهي في هذه القراءة تكون أصرح في الدلالة على هذا التشريع.

وقيل إن هذه الآية نسخت بآيات ذكروها، وهي أجنبية عن دلالتها على النسخ كقوله تعالى : «يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ»(2)، وما أدري من أين تجيء دلالتها على النسخ ! وهي لم تتعرض إلا لحكم الزوجة التي تُطلق، وليس في زواج المتعة ،طلاق، فهي خارجة موضوعاً عنها، ولو جاءت الآية مثلاً بلسان يشعر بأن كل زوجة قابلة لأن تُطلق؛ لأشعرت إذ ذاك بالنسخ لزواج المتعة، على أنها لو تمت لكانت دلالتها على تشريع الطلاق في المتعة في أثناء المدّة أكثر من دلالتها على نسخها من الأساس.

والغريب أنّ بعضهم نسب هذا القول إلى ابن عباس(3)، وسنعرف أنّ ذلك بعيد عنه؛ لما دلّ على إصراره في البقاء على فتياه طيلة أيام حياته ولتصريحه بأن هذه الآية

ص: 143


1- النساء: 24
2- الطلاق : 1
3- انظر الناسخ والمنسوخ - مطبعة مصطفى البابي ، مصر ، سنة الطبع 1379 ه- ج 1 : 105

محكمة غير منسوخة.(1)

وقيل إنها منسوخة بآية «وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ»(2)، وهي تدل على نفي زوجية المتمتع بها؛ لأنها لا ترث ولا تورّث والمفروض أن الآية اعتبرت كل زوجة ترث، وهذا لا يلتئم إلّا مع رفع الزوجية عنها، وهو معنى النسخ، والاستدلال بذلك غريب فأيّ تلازم بين الزوجة والميراث، حتى يلزم من ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر، فالكافرة زوجة ولا ترث زوجها المسلم، والقاتلة لزوجها زوجة وهي لا ترثه أيضاً.

والحقيقة أن الحكم الوارد في الآية عام وهو قابل للتخصيص، فكما أمكن تخصيصه بذينيك الحكمين أمكن ذلك بزواج المتعة أيضاً، فتكون الآية بعد الجمع بينهما وبين ما دلّ على التخصيص هكذا ولكم نصف ما ترك أزواجكم إلّا في المتمتع بها مثلاً .

وقيل إنها منسوخة بآية: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ»«إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ»(3)، بتقريب أنها ظاهرة في الحصر بهذين الصنفين، والمتمتع بها ليست زوجة ولا ملك يمين ولكنّ هذا التقريب لا يلتئم مع دعوى من أفتى بحليتها؛ لاعتقادهم بأن هذا زواج - كأيّ زواج - فهو مشمول لنفس الآية.

وهكذا نرى أن القول بنسخها بهذه الآيات وأمثالها غير جار على المتعارف في أصول الجمع بين الأدلة لدى الاصوليين.

ولكن آخرين قالوا إن ناسخها هو السنّة ، واضطربت كلماتهم في ذلك، سواء في تعيين الزمان والمكان أم غيرهما من ملابسات الحديث.

ص: 144


1- انظر الغدير ج 6 : 230 نقلا عن الحاكم البغوي
2- النساء: 12
3- المؤمنون: 5، 6

وقد اعتمدوا - فيما اعتمدوا - على الحديث السابق عن الإمام علي علیه السلام : «إنك امرؤ تائه، نهى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر»، مع أن الذي صح عن الإمام غير هذا - كما سبق - وأن الرواية مُناقَش فيها سنداً، بالإضافة إلى اشتمالها على زمن خيبر، وهو ظاهر في رجوع القيديّة إلى الطرفين، وذلك لا يلتئم مع اتفاق المسلمين على حليتها عام الفتح.

كما اعتمدوا على رواية سلمة عن أبيه: «قال: رخص رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً ثم نهى عنها ، ورواية الربيع بن سبرة قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قائماً بين الركن والباب وهو يقول: يا أيها الناس إنّي قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً».(1)

وما أدري أين كان عن هذه التحريمات جمهور الصحابة لترد متواترة؟!، ومثل هذا الحكم عادة مما يتواتر وبخاصة بناءً على رواية ابن سبرة من أنه صلى الله عليه و آله وسلم وقف خطيباً في الناس، ثم أين كان عنها الإمام وابن عباس وجابر وعشرات غيرهم؟! وهم من حصار ذلك الموقف عادة، بل أين كان عنها مناوئو أهل البيت عليهم السلام في في عصرهم؛ ليحتجّوا بها على صاحبنا وغيره ممن تبنّى الدعوى إلى تحليلها ؟!.

على أن هذه التحريمات - لو صحت عن رواتها - لا تخرج عن كونها أخبار آحاد،وهي لا تصلح لنسخ ما ثبت حكمه في الكتاب، وواضح أن الكتاب لا ينسخ بأخبار الآحاد، كما هو مبنى المحققين من علماء الأصول.

وقيل إن ناسخها ثبوت الإجماع على تحريمها، وما أدري متى حصل هذا الإجماع !

ص: 145


1- البيان ج 1 : 220 نقلا عن الناسخ والمنسوخ

وكيف عرفه مدّعيه؟! وأين موقعه مع مخالفة جماعة من الصحابة، وأئمة وعلماء أهل البيت عليهم السلام وبعض العلماء من التابعين وغيرهم ؟! ، كابن جريج فقيه مكة وتلاميذ ابن عباس وسائر فقهاء مكة، حتى قال الأوزاعي : «يترك من قول أهل الحجاز خمس، منها المتعة».(1)

هذا مع أن دعوى الإجماع - لو ثبتت وثاقته - لا تخرجه عن كونه إجماعاً منقولاً وحكمه حكم خبر الواحد، لا يوجب قطعاً ولا يصلح لنسخ ما جاء في الكتاب، والمحصل منه وهو الذي يوجب القطع بالانتهاء من طريقه إلى رأي المعصوم، أو أيّ سبب من الأسباب التي توجب قطعاً بالحجية، فهو - مع امتناع تحصيله لكثرة العلماء وتشعبهم واندثار آثار الكثير منهم - لا يكون حجّة قطعيّة على غير محصله، تما لا يتوجب سريان حكم النسخ بالنسبة للآخرين من العلماء المعاصرين لمدعيه، فضلاً عن غيرهم ممن لم يدع في زمانهم أي إجماع كابن عباس مثلاً.

والذي تصرّح به صحاح الأحاديث أن التحريم وبخاصة ما ورد منها عن ابن عباس - وهو الذي يهمنا هنا - كان مستنداً إلى الخليفة عمر بن الخطاب، وفي بعض الروايات إليه وإلى أبي بكر، وكلمة أبي بكر - كما سبق أن قربنا - مقحمة على الرواية؛ لثبوت التحريم عن عمر في أثناء خلافته، وقد عرفنا موقف صاحبنا من الرأي بقول مطلق، فضلاً عما إذا كان في قبالة نص صريح.

لذلك نراه قد أنكر أشدّ الإنكار على من خاصمه في هذه المسألة مستدلاً بنهي عمر عنها، قال عروة لابن عباس: «ألا تتقي ترخص في المتعة؟!، فقال ابن عباس: سل أمك يا عريّة، فقال عروة: أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا، فقال ابن عباس: والله ما أراكم

ص: 146


1- الغدير ج6 : 227 ، نقلا عن الحاكم في علوم الحديث

منتهين حتى يعذبكم الله، أحدّثكم عن رسول الله وتحدّثوننا عن أبي بكر وعمر..»(1). فهو يشير بذلك إلى قصة تمتع أسماء بنت أبي بكر من أبيه الزبير، وقد مرّ ذكرها مفصلاً في ملاحاة صاحبنا مع ابن الزبير في موضعه من الجزء الأول من هذا الكتاب.

ويبدو أن آل الزبير - بدافع ما تأصل بينهم وبين ابن عباس وأهل البيت عليهم السلام من رواسب الحقد والعداء - تبنوا فتوى الخليفة كردّ فعل لإصرارهم في التمسك فيها بالنصوص الواردة، وعدم إبطالها بتحريم الخليفة فكان ابن الزبير ينهى عنها، وكان ابن عباس يأمر بها، وكانت موضع جدل بين الطرفين ربّما تعدى حدوده التي تقتضها آداب البحث.

ومنها ما حدثوا من أنّ «عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال: إن أناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم، يفتون بالمتعة يعرّض برجل فناداه: إنك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين - يريد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم - فقال ابن الزبير : فجرب بنفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك»(2)، وقال النووي في شرح صحيح مسلم : «يعرض برجل يعني يعرّض بابن عباس».

ويظهر أن هذا الجدل قد أثار التشكيك في بعض من استمع إليه، فأحبّ معرفة واقع القصة فذهب إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله يستوضحه كأبي نصرة قال: قلت - والخطاب مع جابر - : إن ابن الزبير ينهي عن المتعة، وإن ابن عباس يأمر بها، قال: على يدي جرى الحديث...

تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ومع أبي بكر ، فلما ولي عمر خطب الناس فقال: إنّ رسول الله هذا الرسول، وإنّ القرآن هذا القرآن وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول الله

ص: 147


1- زاد المعاد ج 1 : 213
2- صحیح مسلم ج 4 : 133

وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، إحداهما متعة النساء، ولا أقدر على رجل تزوّج امرأة إلى أجل إلّا غيبته بالحجارة، والأخرى متعة الحج».(1)

وما أكثر ما ورد عنه من الروايات في هذا المضمون، وقد أعرضنا عن استقصائها لعدم الحاجة إليه، وهي معروضة في كتب الحديث...

وخلاصة ما انتهينا إليه أن فتوى ابن عباس هذه كانت وفق مبانيه من التعبد بالنصوص، وعدم تجويزه الاجتهاد في مقابلها، ثمّ وفق فتاوى أهل البيت عليهم السلام . وعلى رأسهم أستاذه الإمام علیه السلام في المسألة نفسها، وقد واقفه عليها جماعة من الصحابة والتابعين.

الطلاق الثلاث

وعلى هذه المباني التي عرضناها تجيء فتواه في الطلاق الثلاث في مجلس واحد وبلفظ واحد، باعتبارها واحدة، خلافاً لاجتهاد عمر حيث اعتبرها ثلاثاً، وربما اعتمد في ذلك ظهور قوله تعالى: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(2)، في لزوم التعدّد في البينونة، وعدم الاكتفاء بلفظ الثلاث لجعلها ثلاثاً واقعاً، بالإضافة إلى ما حدّث به عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم من «أنّ رُكانة طلق أمرأته ثلاثاً في مجلس عليه والله واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : كيف طلّقتها؟ قال: طلّقتها ثلاثاً في مجلس واحد، قال: نعم فإنّما تلك واحدة، فأرجعها إن شئت».(3)

ص: 148


1- السنن الكبرى - مطبعة دائرة المعارف حيدر آباد سنة الطبع 1352ه- ج 7 : 206
2- البقرة : 229
3- الدر المنثور ج 1 : 279

وقال أبو الصهباء لابن عباس: «أتعلم أنها كانت الثلاث تُجعل واحدة على عهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم و أبي بكر وثلاث من إمارة عمر فقال ابن عباس : نعم».(1)

وقد حدثنا ابن عباس عن وجهة نظر الخليفة في هذا التشريع قال: «لمّا كان زمن عمر قال : يا أيها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة وأنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إيّاه»(2)، وفي رواية أخرى عنه : «وكان الطلاق على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث ،واحدة فقال : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم»(3).. وهكذا تتابعت عنه بهذا المضمون روايات عدة، لا يهمّ عرضها.

والمهمّ أن مذهب أهل البيت عليهم السلام - ومعهم هو طبعاً - لا يعتبر لفظ الثلاث كافياً في جعلها ثلاثاً ما لم تتعدّد الواقعة، وبهذا صرّحت فتواه فيما حدّث عكرمة عنه قال: «إذا قال أنت طالق ثلاثاً بفم واحد فهي واحدة»(4)، وقيل إنه أفتى بالثلاث أيضاً، وهي فتوى لا نعلم مدى صحة نسبتها إليه - ولو صحت - فهي لا تلتئم مع مبانيه،وربّما كانت خاضعة لبعض الملابسات كالتقيّة مثلاً.

وعلى هذا المجرى في موافقة مذهب أستاذه الإمام علیه السلام جرى في طلاق السكران والمستكره، فاعتبرهما غير جائزين.

ومن فتواه في ذلك قوله : طلاق السكران والمستكره ليس بجائز»(5)، وقال: «ليس

ص: 149


1- صحیح مسلم ج 4 : 184
2- الغدير ج6 : 179. نقلان عن العيني في عمدة القاري
3- صحیح مسلم ج 4 : 183 - 184
4- أعلام الموقعين ج 3: 46
5- أعلام الموقعين ج 4 : 48

على المكره ولا المضطهد طلاق».(1)

الفرائض

وكان يختلف أيضاً مع الخليفة عمر في قسم من فتاواه التي لا تلتئم مع ما ورد في مواضعها من نصوص شرعيّة، ومنها فتوى الخليفة فيمن ترك أختاً وبنتاً حيث جعل لكل منهما النصف، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء ابن عباس رجل فقال: رجل توفي وترك ابنته وأخته لأبيه وأمه، فقال ابن عباس لابنته النصف وليس لأخته شيء، فما بقي فهو لعصبة، فقال الرجل : إن عمر قضى لغير ذلك.. قد جعل للأخت النصف وللبنت النصف، فقال ابن عباس : أأنتم أعلم أم الله».(2)

وقال طاووس: «قال ابن عباس : قال الله تعالى:«إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ»(3) فقلتم أنتم لها النصف وإن كان له ولد»(4).. يشير بذلك إلى الفتوى السابقة.

وربّما ضاق بمن كان يخالفه في الفريضة فقال - وهي كلمة تدلّ على مدى وثوقه من سلامة فتاواه - : «وددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، ما حكم الله بما قالوا».(5)

العول

وقد اختلف أيضاً مع الخليفة عمر في قضية العول، وفقاً لمبانيه الخاصة، وقد حكى

ص: 150


1- أعلام الموقعين ج 4 : 52
2- المستدرك على الصحيحين ج 4 : 339
3- النساء: 176
4- المستدرك على الصحيحين ج 4 : 339
5- كنز العمال ج 1 : 11 رقم الحديث: 188

لنا ابن عباس قصتها في إحدى رواياته حين سأله زفر بن أوس : يا ابن عباس من أول من أعال الفرائض ؟ قال : أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب قال: ولم؟ قال: لما تدافعت عليه وركب بعضها بعضها .

قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم، ما أدري أيكم قدّم الله ولا أيكم أخّر».

ومع ذلك هذه اللاأدرية كان من المنتظر أن يسأل من يعلم من الصحابة - كما عوّدنا في كثير من المواضع التي سبق ذكر ما يرتبط بصاحبنا منها – ولكنه لم يفعل وآثر الاجتهاد يقول في تتمة تلك الرواية :

«ما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص».(1)

وفي رواية عبيد الله الفتيا مع رأي ابن عباس فيها مفصلاً يقول: «دخلت أنا وزفر بن أوس بن الحدثان على ابن عباس بعدما ذهب بصره، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال: ترون الذي أحصى رمل عالج عدداً، لم يحص في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً، إذا ذهب نصف ونصف فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر يا ابن عباس من أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب ، قال : ولم؟ قال : لما تدافعت عليه، وركب بعضها بعضاً، قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم والله ما أدري أيكم قدّم الله، ولا أيكم أخّر، قال:

بن عبد الله بن عتبة حديث مطوّل عن جل ملابسات هذه وما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص» يقول الراوي: ثم قال ابن عباس: وايم الله لو قدّم من قدّم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، فقال له :زفر وأيهم قدّم وأيهم أخر ؟ فقال : كل فريضة لا تزول إلا إلى فريضة، فتلك التي قدّم الله، وتلك فريضة الزوج له نصف وإن زال فإلى الربع لا ينقص منه، منه، والمرأة

ص: 151


1- كنز العمال ج 6 : 7 رقم الحديث: 118

لها الربع، فإن زالت عنه صارت إلى الثمن لا تنقص منه، والأخوات لهنّ الثلثان، والواحدة لها النصف، فإن دخل عليهن البنات كان لهن ما بقي، فهؤلاء الذين أخّر الله.

فلو أعطى من قدم الله فريضة كاملة، ثم قسمه ما يبقى من أخر الله بالحصص ما عالت فريضة، فقال له :زفر: فما منعك من أن تشير بهذا الرأي على عمر ؟! فقال: هبته والله»(1) .. إلى ما هنالك من المسائل الخلافية التي أعطى فيها رأيه الخاص.

وهكذا كانت مدرسته الفقهيّة ذات طابع يلتقي في مخططه مع فقه أستاذه الإمام علیه السلاموهو مصدر أئمة أهل البيت علیهم السلام وعلمائهم في فتاواهم على الإطلاق.

وفي حدود تتبعي لم أجد فتوى تصح نسبتها إليه وهي مخالفة صراحة لما صح عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وقد طبعت هذه الفتاوى مدرسة الحجاز الفقهيّة مدة من الزمن يوم استأثر تلامذته بالمرجعية فيها، وربّما سرت مع تلامذته إلى غيرها من البلدان.

ونفس هذا الطابع نجده أيضاً متمثلاً في بعض مسائله الكلامية، كالجبر والرجعة، كما سيأتي..

مسألة الجبر

ويبدو أن فكرة الجبر انتشرت أول ما انتشرت في بلاد الشام، وفي أوائل الحكم الأموي، وقد تكون لها جذور سياسيّة اقتضت خلقها أو تبنيها وتغذيتها على الأقل، إيهاماً للرأي العام بأن ما يُشاهدانه من تدهور الأوضاع وتردّيها، والتلاعب بمقدراتهم من قبل الساسة، إنّما هو ضريبة الله عليهم، وقد ارتأتها لهم مشيئته، ولا رادّ لمشيئته.

وربّما وضعوا لذلك أحاديث تؤكد من هذه الجهة، كالحديث الموضوع على لسان الحسن البصري من أنه كان يقول: «قال رسول الله : لا تسبوا الولاة، فإنهم إن أحسنوا

ص: 152


1- سنن البيهقي ج 6 : 253

كان لهم الأجر وعليكم الشكر ، وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وإنّما هم بهم ممن يشاء، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحميّة والغضب، واستقبلوها نقمة ينتقم الله بهم بالاستكانة والتضرع».(1)

فإذا كان وجود هؤلاء من الحكام نقمة، فلا يسوغ أن تقابل بالحمية والغضب، بل تقابل بالاستكانة والتضرع والخضوع، وأي فائدة من الحمية والغضب؟ وهل يجدي ذلك في صدّها وهي منصبة من الله عليهم ؟! وإرادته لا تقابل ولا تردّ بحال.

وقد أدرك ابن عباس هذه الجوانب جميعاً، حين كتب إلى مجبّرة الشام: «أما بعد أتأمرون الناس بالتقوى وبكم ضلّ المتقون؟! وتنهون الناس عن المعاصي وبكم ظهر العاصون؟!.

يا أبناء سلف المقاتلين وأعوان الظالمين وخزّان مساجد الفاسقين وعمار سلف الشياطين، هل منكم إلّا مفتر على الله، يحمل إجرامه عليه وينسبها علانية إليه؟ وهل منكم إلّا من السيف قلادته؟ والزور على الله شهادته ؟ .. أعلى هذا تواليتم أم عليه تماليتم حظكم منه الأوفر، ونصيبكم منه الأكبر.

عمدتم إلى موالاة من لم يدع الله مالاً إلّا أخذه، ولا مناراً إلا هدمه، ولا مالاً ليتيم إلّا سرقه أو خانه، فأوجبتم لأخبث خلق الله أعظم حق الله، وتخاذلتم أهل الحق حتى ذلّوا وقلّوا، وأعنتم أهل الباطل حتى عزّوا وكثروا ، فأنيبوا إلى الله وتوبوا تاب الله على من تاب وقبل من أناب»(2)، فهو هنا يحمّل هؤلاء مسؤولية تردي الأوضاع الفاسدة، ويتهمهم بالممالات مع الظالمين على حساب شعوبهم، مبررين ذلك بفكرة الجبر، فهو ينقمها عليهم، وينكرها بهذا الأسلوب من الإنكار .. «هل منكم إلا مفترٍ على الله يحمل

ص: 153


1- الخراج لأبي يوسف - المطبعة السلفية، مصر، 2 ، سنة الطبع 1352 ه- : 10
2- جمهرة رسائل العرب - مطبعة مصطفى البابي ، مصر ، ط 1 ، سنة الطبع 1352 ه- ج 2 : 25 - 26

إجرامه عليه وينسبها علانية إليه» ، فهم ينسبون ما يعملونه أو يعمله الحاكمون من الجرائم إلى إرادة الله ومشيئته، وكأنهم لا يد لهم في ذلك كلّه.

والكتاب يعدّ من روائع الكتب فكرة وأسلوباً، ونقمة على أمثال هؤلاء من الانتهازيين الذي كانوا أداة بيد الساسة والمتحكّمين ، يوجهونها كيف يشاؤون.

وقد كان مبدأ استاذه الإمام علیه السلام هو مبدأ حرية الإرادة فيما تناله يد الاختيار، بل هو مبدأ الإسلام في جملة نصوصه - وإن أوهمت خلافه بعضها - ولكنها بدراستها ودراسة ملابساتها، ومحاولة فهمها في ضوء ما يقرره الإمام علیه السلام وتلامذة مدرسته، يتضح واقعها تماماً.

فإذا علمنا ذلك، وعلمنا عمق صاحبنا - وهو الغواض - ادركنا سرّ إنكاره على هؤلاء الجبريين الذين اتخذوا من انفسهم أداة لمعونة الظالمين والسير في ركابهم، والعمل على تخدير الشعوب بمثل هذه التبريرات؛ لعلمه بما يريدون أو يراد لهم من وراء هذه الدعوة ونظائرها ؛ لذلك عمد إلى فضيحتهم بهذا الكتاب.

ومسألة كلاميّة أخرى طرقها صاحبنا وظهر فيها على غير عادته من الخروج على مدرسة أهل البيت عليهم السلام وهي مسألة الرجعة.

مسألة الرجعة

وفحوى هذه المسألة أن أهل البيت علیهم السلام لا بدّ أن يرجعوا، ويرجع ثلة من المؤمنين معهم إلى دار الدنيا؛ لينشروا العدل في أجوائها، ويستأصلوا جميع ما فسد من الأوضاع في ظلّ مبدأ إسلامي موحّد.

وقد وردت فيها عن الأئمة عليهم السلام عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم روايات عدّة، وأنتشر القول بها بين شيعتهم وأتباعهم، ولكنه لم يصل إلى درجة اعتباره ضرورياً من ضروريات الدين

ص: 154

بحيث يعتبر الخارج عليه خارجاً على مبادئهم، وهي كسائر الأحاديث الواردة عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم إن صحت وسلمت مداليلها من الاستحالة لزم الإيمان والتعبد بها، أسوة بما صح - بالضرورة - عنه كالمعاد مثلاً، مما لا يأباه العقل، وصحة وروده كافٍ في لزوم التعبد به.

وأمر الرجعة مع صحة الروايات أهون من أمر المعاد، وهو من ضروريات الإسلام، أما إذا لم تصح رواياتها فلا ملزم للإيمان بها، وقد صرّح بإنكارها بعض مجتهدي الشيعة علانية، ولم ينكرها عليه أحد في محيطه من الأعلام.

والذي ورد عن ابن عباس إنكارها بتاتاً في رواية مأثورة عن عبد الله بن شداد قال: «قال لي عبد الله بن عباس: لأخبرنك بأعجب شيء... قرع اليوم علي الباب رجل، لم وضعت ثيابي للظهيرة، فقلت: ما أتى به في مثل هذا الحين إلّا أمر مهم.. أدخلوه، فلما دخل قال : متى يبعث ذلك الرجل؟ قلت أي رجل ؟ قال : علي بن أبي طالب، قلت: لا يبعث حتى يبعث الله من في القبور ، قال : وإنّك لتقول بقول هذه الجهلة، قلت: أخرجوه عني لعنه الله».(1)

وهذه الرواية إن صحت عنه ولم تكن هناك ملابسات تقتضي صدورها منه - وإن كانت على خلاف عقيدته - فإنها تصلح لمعارضة ما أُثر عن الرجعة من أحاديث، وإلّا فمن البعيد جداً أن تصدر أخبار الرجعة عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم أو الإمام علیه السلام ، وينتشر أمرها، ثم لا ا يعلم بها صاحبنا، وما يدرينا لعلّه كان يعتبرها موضوعة على الإمام علیه السلام من قبل أمثال هذا الذي جاءه في ذلك الوقت.

وعلى أي حال فصحتها - إن تمت - تلحقها بالأخبار النافية، ويجري عليها أحكام

ص: 155


1- العقد الفريد ج 1 : 197

التعارض مع ما أثبتها من الروايات، والتقديم لأرجحها سنداً، ما دام لا يمنع العقل من وقوعها خارجاً.

4 . تدوين العلم

وقبل أن ننهي الحدیث عن علمه نود أن نعرض إلى بعض الملابسات التي ترتبط به وأولها رأيه في تدوين العلم.

فالذي نسبوه إليه أنه كان في جملة المعارضين لتدوينه وتخليده.. يقول مصطفى عبد

الرزاق: «وقد كان كثير من الصحابة والتابعين يكره كتابة العلم وتخليده في الصحف، كعمر، وابن عباس والشعبي، والنخعي، وقتادة، ومن ذهب مذهبهم».(1)

وقد اعتمد في ذلك على رواية ابن عبد البر حيث قال: «قال أبو عمر : من ذكرنا قوله في هذا الباب فإنّما ذهب في ذلك مذهب العرب لأنّهم كانوا مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك، والذين كرهوا الكتابة كابن عباس والشعبي، وابن شهاب، والنخعي؛ وقتادة، ومن ذهب مذهبهم وجبل جبلّتهم كانوا قد طبعوا على الحفظ».(2)

والمأثور عن صاحبنا يتنافى مع هذه الدعوى، وإن كان بهذه المنزلة من الحافظة، إلّا أنه لم يستغن عن التدوين، وقد سبق حديث كتابته عن أبي رافع شيئاً من فعل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، وأمره لبعض تلاميذه أن يكتب عنه ما كان يفسّره له من آيات القرآن، ثم الرواية القائلة بأنه ترك من الكتب ما يقدّر بحمل بعير .. إلى ما هناك مما يدلّ على عنايته بالكتابة وتدوين العلم، فأين تقع هذه الروايات من حديث صاحب التمهيد ؟

وهي أقرب إلى ذوق ابن عباس وذهنيته العامة كمثقف عرف بعمق التفكير

ص: 156


1- تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية: 193
2- المصدر السابق: 194

وأصالة الرأي ومثله لا يمكن أن تخفى عليه فوائد التدوين بل لا يمكن أن يدع ما لديه من التجارب الواسعة عرضه للضياع.

فنسبة التدوين إليه أو الأمر بتقييد ما يصدر عنه من معارف هو الذي تقتضيه طبيعة الأحوال بالنسبة إلى مثله، فقبولها أولى من قبول معارضتها من الأحاديث.

رأيه في بعض المسائل الغريبة

والذي يبدو أن شهرة صاحبنا العلمية، وحضور بديهيته، وتوفّر جملة من العوامل للوضع عليه، سوّغت لبعض الوضاع أن ينسبوا إليه بعض الأجوبة على جملة من المسائل طلب إليه أجوبتها، وهي أقرب إلى الأحاجي منها إلى الأسئلة المتعارفة، قال الراوي: «إن ملك الروم كتب إلى معاوية يسأله عن أحبّ الكلام إلى الله عزّ وجلّ، وأكرم العباد إلى الله عزّ وجلّ، ومَن أكرم الإماء على الله عزّ وجلّ، وعن أربعة فيهم الروح فلم يركضوا في رحم، وعن قبر سار بصاحبه، وعن مكان في الأرض لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة، وعن قوس قزح ما هو، وعن المجرّة».

وأظن أن ملك الروم كان له من شغله في أمور السياسة والإدارة ما يغنيه عن جميع أمثال هذه الأحاجي، وإرسالها من دولة إلى دولة؛ التماساً للجواب عليها.

يقول المحدّث : «فبعث معاوية فسأل ابن عباس عنهن، فكتب ابن عباس إليه : أما أحبّ الكلام إلى الله فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأكرم العباد على الله آدم خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وعلّمه أسماء كلّ شيء، وأكرم الإماء على الله مريم بنت عمر

وأمّا الأربعة الذين لم يركضوا في رحم فآدم وحواء، وعصا موسى، وكبش إبراهيم الذي فدى به إسماعيل، وفي رواية وناقة صالح.

ص: 157

وأمّا القبر الذي سار بصاحبه فهو حوت يونس، وأما المكان الذي لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة فهو البحر لما انفلق لموسى حتى جاز بنو إسرائيل فيه، وأما قوس قزح فأمان لأهل الأرض من الغرق، والمجرّة باب السماء، وفي رواية الذي ينشق منه...».

وما أدري من أين عرف صاحبنا ذلك كلّه؟! وكيف اهتدى إلى هذه الحلول؟!.. صحيح أن بعضها موجود في القرآن، وكأنّ السؤال وضع بعد أن عُثر عليه، ولكن بعضه الآخر كالمجرّة وقوس قزح وأمثالها لم ترد إجابتها في القرآن، فكيف اهتدى إليه؟!.

ومهما يكن فإن ملك الروم - فيما أراد له الراوي - قد أعجب بهذه الأجوبة وقال: «والله ما عند معاوية ولا من قوله، وإنما هي من عند أهل النبي».(1)

ما أدري إذا كانت هذه عقيدته في آل النبي، وكان هذا اعترافاً بنبوته، فلم لم يعلن إسلامه أو يظهره لخاصته على الأقل؟!.

مثل ذلك ما ورد عنه من إرساله قنينة فارغة إلى معاوية ليملأها له من بزر كل شيء، وعجز معاوية عن ملئها وأرسلها إلى صاحبنا فملأها له ماءً(2)..

مشيراً إلى الآية: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ»(3).. وأمثال ذلك كثير لا يهم التوسع في عرضه، وهو طبيعي بالنسبة إلى من تؤثر عنه الإحاطة بكثير من المعارف والعلوم، وما كان ابن عباس بدعاً من العلماء ليسلم من ذلك كله، مع توفر الدواعي للوضع عليه، ومنها سر إحاطته بهذه العلوم.

وقد سبق في أحاديثنا أن التمسنا له أكثر من تعليل وقلنا إن بعض العوامل يعود إلى

ص: 158


1- البداية والنهاية ج 8 : 303 - 304
2- أنظر العقد الفريد ج 2 : 60
3- الأنبياء: 30

أسس وركائز نفسيّة، وبعضها إلى طبيعة وجوده في بيئة معيّنة، وثالثة إلى علائقه ببطلبه النبي صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علیه السلام .

ولكن التعليل الذي يذكره لتفوّقه وإحاطته ربّما كان من أروع التعليلات وهو يشير إلى أكثر من علّة، وإن أغفل جملة منها، اقتضته إغفالها طبيعة الزمن، يقول الراوي: سئل ابن عباس: «أنّى لك هذا العلم؟ فأجاب : قلب عقول ولسان سؤول».(1)

وهي إجابة - على قصرها - وافية بالكثير من عوامل إحاطته واستيعابها، وقد رويت - كما سبق - عن غيره في تقييم شخصيته، وربّما كان أساسها عمر، فهو أقدم من أطلق عليه لقب (ذو اللسان السؤول والقلب العقول) - فيما رأينا - وقد مرّت روايته في موضعها من الجزء الأول من هذا الكتاب.

5 - السيرة والتأريخ

والحديث عن روايته عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم يجرنا إلى التحدث عن رواياته لأخر، التي يتعلق بعضها بتأريخ ما قبل الإسلام على إطلاقه، وبعضها على أخبار العرب وأشعارهم، وثالثة بأنسابهم، ورابعة بالسيرة النبوية، وخامسة بما أعقبها وعاصره من تأريخ.. وقد أفاض في ذلك كلّه حتى أنّه يُقصد لذلك من قبل مختلف الهواة.

يقول عطاء : «كان ناس يأتون ابن عباس في الشعر والأنساب، وناس لأيام العرب ووقائعهم وناس للعلم، فما صنف إلا يقبل عليهم بما شاؤوا».(2)

ويقول عمرو بن دينار: «ما رأيت مجلساً أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس،

ص: 159


1- البيان والتبيين ج 1 : 141
2- ذخائر العقبى: 230

الحلال والحرام والعربية والأنساب»(1)، ويقول الراوي: «وأحسبه قال: والشعر».(2)

وأمثال هاتين الروايتين كثير ، وقد سبق بعضها، وحسبك أن تعلم أن اسمه ورد في خصوص تأريخ الطبري مائتين وست وثمانين مرّة (3)، فكيف بغيره من كتب الأدب والأنساب والتاريخ.

وأخال أن أكثر ما دخل عليه من الموضوعات ينتظم في هذا الباب لهوى القصاص فيها غالباً؛ ولأنها من البضائع التي تروج سوقها في مجالات بيع العواطف وشرائها؛ ولأن العوام يقبلون ولا يميلون في الدرجة الأولى لغير الغرائب والمناكير.

يقول ابن قتيبة: «والقُصّاص فإنّهم يميلون وجوه العوام إليهم، ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغرائب والأحاديث، ومن شأن العوام ملازمة القصاص ما دام يأتي بالعجائب الخارجة عن نظر العقول».(4)

وكأنّ هؤلاء القصّاص لم يجدوا منفذاً لقبول رواياتهم لدى العامة في غير إلقائها على هذا الحبر.

وفي الجزء الأول من تأريخ الطبري وتأريخ ابن خلدون وأمثالها - تما يعرض لتأريخ ما قبل الإسلام - الكفاية لعرض النماذج لما يدخل ضمن هذه الأبواب.

ص: 160


1- ذخائر العقبي
2- المصدر السابق
3- انظر مجلة المجمع العلمي العراقي س 1 ، ج 1 : 210
4- لسان الميزان ج 1 : 13 . نقلا عن ابن قتيبة
6 - الأدب

(1)

والحديث عن أدبه يثير أمامنا عدّة أبحاث لا بد أن نأتي عليها وهي: -

1 - مدى اهتمامه وعنايته بالأدب تشجيعاً ونقداً.

أمّا اهتمامه بالأدب فقد كان بالغاً جداً وبخاصة ما يتعلّق منه بالشعر، بل لا يمنعه نقد يوجه إليه في ذلك، وقد مرّت الإشارة إلى حديث نافع بن الأزرق ونقده له على اهتمامه بعمر بن أبي ربيعة، وإقباله على استماع شعره، مع ما كان في شعره من مجون.

وقصته كما في الأغاني: «بينا ابن عباس في المسجد الحرام، وعنده نافع بن الأزرق، وناس من الخوارج يسألونه، إذا أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين مورّدين أو ممصّرین، حتى دخل وجلس فاقبل عليه ابن عباس، فقال: أنشدنا فأنشده

أمن آل نُعمٍ أنت غادٍ فمبكر***غداة غدٍ أم رائح فمهجّر

حتى أتى على آخرها.. فأقبل عليه نافع بن الأزرق فقال: الله يا ابن عباس، إنّا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد، نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، ويأتيك مترف من متر في قريش فينشدك :

رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت***فيخزى وأما بالعشيّ فيخسر

فقال: ليس هكذا :قال فكيف قال؟ فقال : قال :

رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت***فيضحى وأما بالعشي فيخصر

فقال: ما أراك إلّا قد كنت قد حفظت البيت قال : أجل وإن شئت أن أنشدك

ص: 161

القصيدة أنشدتك إياها .. فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها».(1)

وقد رواها أبو الفرج عن عمر بن شبة هكذا، وفي رواية غيره: «أن ابن عباس أنشدها من أوّلها إلى آخرها، ثم أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة، وما سمعها قط إلاّ تلك المرّة ،صفحاً ، قال : وهذا غاية الذكاء».(2)

وهي مبالغة في سرعة حافظته، دخلتها الصناعة فأفسدتها، والطبيعي أن يحفظ القصيدة وينشدها ، أما أن ينشدها ،مقلوبة، فهذا من العبث الذي ينزّه عنه عادة .

يقول الراوي: وقد لامه بعض أصحابه في حفظ هذه القصيدة»(3)، وكأنهم استكثروا عليه ذلك لمكانته العلميّة والمقامه الكبير الذي ينزّه عن سماع وحفظ مثل هذا الشعر الماجن، لكنّه فيما يبدو لم يقم لنقدهم أيّ ،وزن، بل يتتبع أحاديث هذا الشاعر الماجن.

يقول الزبير في خبره عن عمر: «فكان ابن عباس بعد ذلك كثيراً ما يقول: هل أحدث هذا المغيري شيئاً بعدنا».(4)

ويبدو أنّ عمر كان يألفه ويسرّ باستماعه، فكان يقصده لإنشاد ما يجد لديه من شعر، وربّما بدأ صاحبنا بالطلب، يقول الزبير:

«ثم أقبل على ابن أبي ربيعة فقال: أنشد، فأنشده:

تشطّ غداً دار جيراننا

ص: 162


1- الأغاني ج 1 : 22-33
2- المصدر السابق ج 1 : 33
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق

فسکت فقال ابن عباس:

وللدار بعد غدٍ أبعد

فقال له عمر كذلك قلت أصلحك الله أفسمعته قال: لا ولكن كذلك ينبغي».(1)

وهي تقفية تدلّ على خبرة واسعة وذوق أدبيّ رفيع.

وكان أبغض ما يطرقه الشعراء من مواضيع إليه الهجاء، فقد حدثوا عن الحطيئة أنه استفتاه في ذلك، فأجابه بما يكشف عن وجهة نظره فيه.

يقول المتنوّف : «بينا ابن عباس جالس في مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بعدما كف بصره، وحوله الناس من قريش، إذ أقبل أعرابي يخطر وعليه مطرف خز وجبه وعمامة خز حتى سلم على القوم، فردّوا عليه السلام، فقال: يا ابن عم رسول الله أفتني، قال: في ماذا؟ قال: أتخاف علي جناحاً أن ظلمني رجل فظلمته ، وشتمني فشتمته، وقصر بي فقصّرت به؟

فقال : العفو خير، ومن انتصر فلا جناح عليه فقال : يا ابن عم رسول الله أرأيت امرءاً أتاني فوعدني وغرّني ومنّاني، ثم أخلفني واستخف بحرمتي، أيسعني أن أهجوه؟ قال: لا يصلح الهجاء؛ لأنه لا بد لك من أن تهجو غيره من عشيرته، فتظلم من لم يظلمك ، وتشتم من لم يشتمك، وتبغي على من لم يبغ عليك، والبغي مرتع وخيم، وفي العفو ما قد علمت من الفضل قال: صدقت وبررت».(2)

يقول الراوي: «فلم ينشب أن أقبل عبد الرحمن بن سيحان المحاربي حليف قريش فلما رأى الأعرابي أجلّه وأعظمه وألطف في مسألته، وقال: قرب الله دارك يا أبا مليكة،

ص: 163


1- الأغاني ج 1 : 33
2- الأغاني ج 2 : 55

فقال ابن عباس أجرول؟! قال جرول، فإذا هو الحطيئة، فقال ابن عباس: الله أنت أي مردي قذاف وذائد عن عشيرته ومن بعارفة تؤتاها أنت يا أبا مليكة، والله لو كنت عرکت بجنبك بعض ما كرهت من أمر الزبرقان كان خيراً لك، ولقد ظلمت من قومه من لم يظلمك وشتمت من لم يشتمك ، فقال : إنّي والله بهم يا أبا عباس العالم، قال: ما أنت بأعلم بهم من غيرك، قال: بلى والله يرحمك الله .. ثم أنشأ يقول:

أنا ابن بجدتهم علماً وتجربة***فسل بسعدى تجدني أعلم الناس

سعد بن زيد كثير إن عددتهم***ورأس سعد بن زيد آل شماس

والزبرقان ذناباهم وشرهم***ليس الذنابا أبا العباس كالراس

فقال ابن عباس : أقسمت عليك أن لا تقول إلا خيراً، قال: أفعل».(1)

فهذه وجهة نظره في بغضه لهذا النوع من الشعر وردعه عنه، وأية قيمة لمتعة فنيّة يتلذذ بها السامع على حساب أعراض الغير ، ثم أيّ مسوّغ لقول مثل هذا الشعر وفيه ما فيه من ظلم صريح يقع به الهجاؤون عادة، فهب أن المهجوّ كان يستحق الهجاء لظلمه للهاجي، فما باله يتجاوز بهجائه إلى أهله وعشيرته، وهم لم يسيؤوا إليه!.. وقد سبق أن رأينا موقفه من ابن فسوة الشاعر الهجاء حين طلب إليه مثوبته، فلم يقابله بغير الطرد والحرمان.

1 - النقد والتقييم

وقد استغل صاحبنا وجود الحطيئة - وهو مَن هو في ذوقه وخبرته بتقييم الشعر - فوجّه إليه أسئلة تتعلّق بالنقد والتقييم؛ ليلتمس رأيه في أشعر الشعراء.

يقول المحدّث . «ثم قال ابن عباس: يا أبا مليكة من أشعر الناس؟

ص: 164


1- الأغاني ج 2 : 55-56

قال: أمن الماضين أم من الباقين؟ قال: من الماضين قال: الذي يقول:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه***يفره ومن لا يتقي الشتم يشتم

وما بدونه الذي يقول :

ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمّه***على شعث أيّ الرجال المهذّب

ولكن الضراعة أفسدتا - كذا – كما أفسدت جرولاً .. يعني نفسه.. والله يا ابن عم رسول الله لولا الطمع والجشع ، لكنت أشعر الناس الماضين فأما الباقون فلا تشكّ أنّي أشعرهم، وأصر دهم سهماً إذا رميت».(1)

وفي رواية العمدة لابن رشيق أن صاحبنا أمن على كلامه بقوله: «كذلك أنت يا أبا مليكة»(2)، ومن هذا التأمين ندرك أنّه كان على وفاق معه في وجهة نظره التقييميّة هذه.

ويبدو من هذا النقد أن مقاييس التفضيل لدى هذا الشاعر لا ترتبط بالهيكل الفني للشعر، وإن كان هذان البيتان في القمة منه، وإنّما ترتبط في الدرجة الأولى بالصدق الشعوري فهو يرى أن الضراعة والجشع والطمع كل ذلك مما يؤخر الشاعر عن الإبداع لوقوفه دون إرسال قولة الحق التي يعتقدها الشاعر فيما يطرقه من مديح.

وهذه النظرة - فيما يظهر - هي نظرة عمر بن الخطاب حين يسأل ابن عباس هل تروي الشاعر الشعراء؟.. يقول : «قلت : ومن هو ؟ قال: الذي يقول:

ولو أن حمداً يخلد الناس أخلدوا***ولكن حمد الناس ليس بمخلد

قلت: ذلك ،زهير قال فذاك شاعر الشعراء :قلت وبم كان شاعر الشعراء؟ قال: لأنه كان لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنّب وحشي الشعر، ولم يمدح أحدا إلّا

ص: 165


1- الأغاني ج 2 : 56
2- العمدة ج 1 : 97

بما فيه».(1).

وفي رواية أخرى جواباً على سؤال صاحبنا له : بمَ صار كذلك؟ قال: لأنه لا يتبع حوشي الكلام، ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلّا ما يعرف، ولا يمتدح الرجل إلا بما يكون فيه، أليس الذي يقول:

إذا اتبدرت قيس بن عيلان غايةً***من الجد من يسبق إليها يسوّد

سبقت إليها كل طلق مبرّزٍ***سبوقاً إلى الغايات غير مزند

كفعل جواد يسبق الخيل عنوة***فيسرع وإن يجهد ويجهدن يبعد

ولو كان حمد يخلد الناس لم تمت***ولكن حمد الناس ليس بمخلد»(2)

وقد سبق أن ذكرنا بعض ذلك في أحاديثه مع عمر بن الخطاب وذكرنا شهادة عمر له لكونه أعلم الناس بالشعر.

وربّما كان سر إعجابه بزهير منصباً على هذه الجوانب، لا للنواحى الفنية فحسب، فهو - أعني ابن عباس - حينما يسمع بيته الخالد:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً***ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

يقول : «إنها كلمة نبي».(3)

2 - رصيده من حفظ ووعي التجارب الأدبية لسابقيه.

وقد كان من نتاج هذا الاهتمام بالشعر الجيد وتتبعه وتقييمه، أن تضخم رصيده الأدبي واتسعت بمرور الأيام عليه حشود مأثوراته.

ص: 166


1- الأغاني ج 9 : 129 - 140
2- المصدر السابق: 140
3- عيون الأخبار ج 2 : 191

والذي يبدو أن أكثر ما حفظ منها - بعد القرآن وبليغ الرسول صلى الله عليه و آله وسلم وكلام أستاذه

الإمام علیه السلام - أشعار العرب.

وقد يكون نصيب أشعار أهل الحجاز أوفرها في مروياته، فقد كان يحثّ على تعلّم الشعر، وشعر أهل الحجاز على الأكثر .. يقول بعض رواته محدثاً عنه: إنّه كان يقول: «الشعر علم العرب وديوانها فتعلّموه، وعليكم بشعر الحجاز».(1)

وقد علّل بعضهم اهتمامه بشعر الحجاز بكون لغتهم أوسط اللغات يقول: «فأحسبه ذهب إلى شعر الحجاز وحضّ عليه، إذ لغتهم أوسط اللغات».(2)

وقد يكون لهذا التعليل أساسه المتين، إلا أنه لا ينفرد بالعلية عادة، فهناك شعوره بالحاجة إلى مثله؛ لتفسير بعض ما غمض من ألفاظ القرآن والقرآن نزل بلغة أهل الحجاز؛ وإلفته له - بحكم نشأته الحجازية - وغيرهما، مما يصلح للمشاركة في العليّة.

ومهما يكن فقد وردت نصوص تصور مبلغ مروياته من الشعر، كالنصوص التي

عرضناها في سيرته مع عمر بن الخطاب.. وفيها «فأنشده حتى طلع الفجر».

وكحديثه الذي عرضناه مع نافع بن الأزرق واستحضاره لهذه الكمية من الشعر التي استشهد بها على ألفاظ القرآن، حتى قال له ما رأيت أروى منك، وقد ساعده على ذلك ما عرف به من سرعة الحافظة وشدّة الذاكرة.

وقد مرّ حفظه لشعر عمر بن أبي ربيعة لمجرّد سماعه.

وقد يكون هذا لميله إلى مثل هذا النوع من الشعر، وإقباله عليه وتأثره به إلّا أن بعض الروايات حدثت عنه بأنه كان يتمتع بحافظة مستوعبة لا تفرق بين ما تميل إليه

ص: 167


1- العقد الفريد ج6 : 114
2- المصدر السابق

نفسه وما لا تميل إليه يقول : «ما سمعت شيئاً إلا ورويته، وإنّي لأسمع صوت النائحة فأسد أذني كراهة أن أحفظ ما تقول ».(1)

وقد قال له بعضهم: «ما رأيت أذكر منك فقال: لكنّي ما رأيت قط أذكر من علي بن أبي طالب».(2)

وفي رواية الكامل للمبرد «أن نافعاً قال له ما رأيت أروى منك قط فقال ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر ولا أعلم من علي»(3)، وذلك بعد أن شهد منه قصته مع عمر بن أبي ربيعة السابقة.. إلى ما هنالك من أحاديث تدلّ على سرعة حافظته ثم وفرة مأثوراته من النصوص الأدبية البليغة، شعريّة ونثرية.

وقد كان يرى أنّ الأدب ضروري في تكميل الإنسان، ويحدد له موضع الحاجة منه بقوله: «وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل».(4)

وقد كان بالطبع لهذا الرصيد أثره في عطائه الأدبي، إلّا أنّ هذا الأثر لمسناه واضحاً فيها أثر له من نتاج نثري .

3 -نتاجه الأدبي.

ويمكن تقسيمه إلى :

أ- شعره

أمّا شعر فعلى قلّته لا يدلّ على موهبة شعريّة تتناسب مع مواهب صاحبها في

ص: 168


1- الأغاني ج 1 : 33
2- المصدر السابق: 33
3- الكامل في اللغة والأدب ج 2 : 145
4- الكامل في اللغة والأدب ج 6: 114

المجالات الأخر، وإن كان في بعض ما أثر له ما يسمو به إلى مقام الشعراء المقبولين في ذلك العصر.

وجميع ما عثرت عليه من شعره لا يتجاوز العشرات وهي مختلفة في أسلوبها اختلافاً كبيراً ، وليس من المعقول أن تصدر من شاعر ،واحد ، والذي يناسب صدوره عنه ويلتئم مع زمنه وبيئته أبيات ذكرها ابن رشيق له وهي:

«إذا طارقات الهمّ ضاجعت الفتى***وأعمل فكر الليل والليل عاكر

وباكرني في حاجة لم يجد بها***سواي ولا من نكبة الدهر ناصر

فرحت بالي همّه من مقامه***وزایله هم طروق مسامر

وكان له فضل عليّ***بظنه بيَ الخير إني للذي ظنّ شاكر»(1)

وقد مرّت فكرة هذه الأبيات نفسها في كلام له - سبق أن ذكرناه في غيريته - ونصه: «وأما الرابع فلا يكافئه عني إلّا الله قيل له: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر بمن ينزله ، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي» .

والأبيات - بعدُ - من الشعر المعبّر الناهض بمدلوله، وإن لم تكن فيه لفتة تدلّ على شاعرية متأصلة، وكذا أبياته التي قالها في رثاء أمير المؤمنين وقد مرت في موضعها، وهي تشبه هذه الأبيات من حيث أسلوبها، ومثلهما بيتاه المشهوران:

إن يأخذ الله من عيني نورهما***ففي لساني وقلبي منهما نور

قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخلٍ***وفي فمي صارم كالسيف مأثور

وربّما كان سرّ القلة - فيما أُثر عنه - أنه لم يكن ينظم الشعر إلّا في فترات نادرة، وقد يكون ذلك؛ لانشغاله بما يعتقد أنّه أجدى وأنفع له من بقية فنون المعرفة.

ص: 169


1- العمدة ج 1 : 37

والشعر لا تخلقه القابلية، ولا الرصيد الأدبي وحدهما ، وإنما للمران أثره في الإبداع ممّا ولد في نفسه عدم الثقة في شاعريتها، وبخاصة وأنه لم يشجع عليه من معاصريه.

والإمام علیه السلام أحد الذين لم يثقوا بشاعريته وإن وثقوا بكفاءته البيانية في بقية فنون الأدب، فلم يشجّعه على قول الشعر، وقد صارحه بذلك حين أراد أن يردّ على ابن العاص في بعض مراسلاته، وكان قد كتب إليه شعراً ونثراً، يقول الراوي: فقال - يعني الإمام علیه السلام -: «قاتل الله ابن العاص ما أغراه بك يا ابن العباس، أجبه، وليردّ شعره الفضل بن العباس فإنّه شاعر» .. وقد مرّت قصته في الجزء الأول من هذا الكتاب.

فالإمام علیه السلام تخطّى شاعريته إلى الفضل بن العباس؛ لأنّه وجد في الفضل شاعراً، ولم يجد فيه ذلك.

وأصالة رأي الإمام علیه السلام على أفضل صورها في إبعاده له عن قول الشعر، إذا استطعنا أن نؤمن بصحة بعض ما نسب إليه منه أمثال هذه الأبيات:-

«إذا كثر الطعام فحذّروني***فإن القلب يفسده الطعام

إذا كثر المنام فنبّهوني***فإن العمر ينقصه المنام

إذا كثر الكلام فسكّتوني***فإن الدين يدمه الكلام

إذا كثر المشيب فحرّكوني***فإن الشيب يتبعه الحمام».(1)

والأبيات في غنى عن التنبيه على سخف أسلوبها ومضامينها، وعصره يربأ عن تقبّلها فضلاً عن نسبتها إلى مثله مهما ساء ظنّنا في شاعريته.

والذي ينتج تلكم الأبيات السابقة لا يعقل أن ينتج هذه الأبيات، مع تباين لغتهما وأسلوبهما.

ص: 170


1- زهر الربيع - المطبعة الحيدرية، النجف، سنة الطبع 1375ه- : 334

وأمثال هذه الأبيات كثير فيما نسب إليه.. لا يهمّ عرضه وإطالة الكلام فيه، وحسب صاحبنا أن تكون فيه نفحة من نفحات النبوّة خصها القرآن بقوله: و«َمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ»(1)، وإذا فاته الإبداع في الشاعرية لم يفته أن يبدع في بقية فنون الأدب.

ب- الخطابة والمناظرة والرسائل.

وقد مرّت في جملة كبيرة منها ، ومرّ التعليق على قسم منها، وبخاصة فيما يتعلق بإيضاح مضامينها، وتلخيصها، وفيها تظهر مقدرته البيانية الفائقة، وربّما صلحت لأن ترتفع به إلى الطبقة الأولى من بلغاء ذلك العصر، ففيها الاصالة، والوجازة، والوضوح، وجمال العرض، واللفتات البيانية التي لا تتأتى إلا لأمراء البيان - إن صح أن للبيان أمراء - .

وأخال أن في العودة إليها ودراستها على هذا الضوء تطويلاً، قد يكون القارئ في غنى عنه، ما دمنا قد أدركنا الطابع العام الذي ينتظم جملة مميزاتها .

ج_- كلمه القصار

وربّما كان في دراستها وتجلية مضامينها والتأكيد على جوانب الإبداع فيها ما يشير إلى ذلك الطابع، مما يغني عن إعادة ما سبق ما عرضناه من بقية جوانب أدبه النثري.

والكلم القصار نوع من الأدب اشتهر به عصرا الجاهلية وصدر الإسلام ويقوم أساسه على ضغط التجارب العامة وإبرازها بفقرة أو فقرتين، ينهض عطاؤها بما لا تنهض به عدة فقرات وتعتمد في عطائها على اللفتة الموحية المعمّقة أكثر من اعتمادها على الإقناع المنطقي العقليّ، وتأثيرها في نقل الأفكار والتجارب، ونشرها أوسع من أي تأثير لأي نوع آخر من أنواع الأدب؛ ليسر حفظها ، واستظهارها، وإرسالها مثلاً فيما

ص: 171


1- يس: 69

يناسبها من تجارب.

وما أكثر ما توفّر لدى ابن عباس من هذا النوع، وهي تدلّ على وفرة تجاربه، وقدرته على تركيز أفكاره، وضغطها بقليل من الكلم لتُرسل مثلاً .

وهو في هذه الكلم بل في مطلق أدبه النثري، متأثر - على الأكثر - بمدرسة أستاذه الإمام علیه السلام ، وربّما كان في بعض ما نسب إليه هو من آثار أستاذه، وطغى على لسانه في مقام الاستشهاد فظُنّ أنّه له، ومن هنا نرى أن بعضه - في نهج البلاغة أو غيره - منسوب إلى الإمام علیه السلام ، ودلالة ذلك على تقارب أسلوبهما تكاد تكون من أوضح الدلالات، ما دام أمر الكثير منها يخفى على المعنيين بالأدب ونقاده، ومميزي أساليبه، وهذه نماذج مما أثر من كلمه القصار ..

صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متكأ».(1)

وهي كلمة على قصرها ذات دلالة واسعة على تقييمه من وجهة بلاغية وبخاصة

هذا المتكأ الذي التمسه لصاحب المعروف عندما يقع، وما فيه من استعارة رائعة ودلالتها على شعوره بقيمة إسداء المعونات للآخرين، وتغلغل ذلك في أعماقه من أروع الدلالات.

وله من الكلم المعبّرة عن نفسيّته في هذه الجوانب الإنسانية الشيء الكثير كقوله:

«ما رأيت رجلاً أولَيتُه معروفاً إلا أضاء ما بيني وبينه، ولا رأيت رجلاً أوليته سوءً إلّا أظلم ما بيني وبينه».(2)

وكلمتا أضاء وأظلم، واستعارتها للأجواء النفسية التي تحيط بالجانبين من أبلغ

ص: 172


1- عيون الأخبار ج 3: 175
2- المصدر السابق

الاستعارات، وقوله:

«لا يزهدنّك في المعروف كفر من كفره، فإنّه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه».(1)

وهي لفتة بارعة جداً لا تتوفّر إلا لقليل من البلغاء.

وكثيراً ما كان يحثّ على الألفة والتقارب بأمثال قوله:

«القرابة تقطع، والمعروف يكفر، وما رأيت كتقارب القلوب».(2)

وقوله:

«اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحبّ أن يذكرك به، ودع منه ما تحبّ أن يدع منك».(3)

وقد سيقت له بعض الكلمات القصار مساق الخطبة وهي أقرب إلى أن تكون من هذا النوع إلى الخطبة ،المصطلحة، ومنها ما جاء في كتاب جمهرة خطب العرب..

«الحرمان خير من الامتنان ملاك أمركم الدين وزينتكم العلم، وحصون أعراضكم الأدب، وعزّكم الحلم، وحليتكم الوفاء.

القرابة تقطع والمعروف يكفر ولم ير كالمودّة.

لا تمار سفيهاً ولا حليماً فإن السفيه يؤذيك والحليم يقليك.

واعمل عمل من يعلم أنه مجزي بالحسنات مأخوذ بالسيئات».(4)

والظاهر أنها كلم قيلت متفرّقة، فجمعت بعد ذلك في كلام واحد انتظمها كخطبة،

ص: 173


1- عيون الأخبار ج 3: 178
2- المصدر السابق
3- العقد الفريد ج 2 : 143
4- جمهرة خطب العرب - مطبعة مصطفى البابي ، مصر ،ط 1 ، سنة الطبع 1353 ه- ج 1: 171

وإن لم يرع ناظمها فيها تسلسلها الطبيعي، والتماس الروابط في فقراتها ومما يجري له هذا المجرى قوله:

«الدنيا العافية والشباب الصحة والمروءة الصبر والكرم التقوى، والحسب المال».(1)

ومن كلمه الرائعة التي تمثل جانباً من تجاربه و حِكَمِه قوله: «الهوى إله معبود».. ثم أستشهد عليها بقوله تعالى «أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ».(2)

«ذللت طالباً فعززت مطلوباً».(3)

«العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا من كلّ شيء أحسنه».(4)

«منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا».(5)

«كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل».(6)

«لا تحقرنّ كلمة حكمة أن تسمعها من الفاجر، فإنّما مثله كما قال الأول: ربّ رمية من غير رام».(7)

ص: 174


1- العقد الفريد ج 2 : 307
2- البيان والتبيين ج 1 : 199
3- عيون الأخبار ج 2 : 122
4- البيان والتبيين ج 1 : 380
5- العقد الفريد ج 2 : 68
6- المصدر السابق ج 2 : 66
7- العقد الفريد ج 2 : 151

«سادات الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء».(1)

«الحدث حدثان حدث من فيك وحدث من فرجك».(2)

«الكذب فجور والنميمة سحر فمن كذب فقد فجر ومن نمّ فقد سحر».(3)

«لا يعاب أحد على ترك حقه، إنّما المعيب من يطلب ما ليس له، وكل صواب نافع، وليس كل خطأ ضاراً».(4)

«إنّ لكل داخل دهشة، فآنسوه بالتحية».(5)

«لا تكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى له موضعاً»(6).. إلى أمثالها من روائع الكلم التي اثرت عنه، ولا يسعنا استقصاؤها في هذا البحث.

د- أدبه القصصي

كان يتمثّله أحياناً للوصول بتجربته إلى أعماق الآخرين من أقصر الطرق وأيسرها، وفيه صور رائعة نعرض منها نموذجاً في هذا الحديث يقول الراوي: «كان ابن عباس يقول: مثل المرأة السوء.. كان قبلكم رجل صالح له امرأة سوء، فعرض له رجل فقال: إنّي رسول الله إليك .. بأنّه قد جعل لك ثلاث دعوات فسل ما شئت من دنيا وآخرة، ثم نهض فرجع الرجل إلى منزله فقالت له :أمرأته مالي أراك مفكّراً محزوناً؟! فأخبرها فقالت ألست امرأتك وفي صحبتك وبناتك مني ؟! فاجعل لي دعوة، فأبى، فأقبل

ص: 175


1- العقد الفريد ج 2 : 151
2- عيون الأخبار ج 2 : 25
3- المصدر السابق ج 2 : 26
4- المصدر السابق ج 1 : 6
5- المصدر السابق
6- البداية والنهاية ج 8: 305،0

عليه ولده وقلن: أمنا فلم يزلن به حتى قال لك دعوى فقالت: اللهم اجعلني أحسن الناس وجهاً، فصارت كذلك ، وجعلت توطئ فراشها وهو يعظها فلا تتعظ، فغضب يوماً فقال: اللهم اجعلها خنزيرة، فتحوّلت كذلك فلما رأين بناته ما نزل بأمهنّ بكين و ضربن وجوههن، ونتفن شعورهن فرق لهنّ قلبه فقال: اللهم أعدها كما كانت أولاً، فذهبت دعواته الثلاث فيها».(1)

وهو مثل رائع للمرأة التي لا تعنى بشؤون زوجها ولا تحرص على حفظ ثروته، وكلّ ما لديها هو الحرص على منافعها الشخصية، وإن ذهب ذلك بجميع إمكانيات الزوج وحرمه من جملة ما يملكه، وحوّله وحوّلها معه إلى فقر وحرمان مدقعين.

وهو - بالطبع - حين يعرض هذا الجانب الأسطوري من القصة لا يقصد ثبوت محتواها تأريخياً وإنّما يسوقه للتدليل على هذه المرأة السوء، كعبرة تلتمس في أمثال هذه الأساطير.

ومثل آخر أُثر عنه، وقد أرسله للتدليل به على تأثير إرادة الله التكوينية وعدم تخلّفها عن مرادها، رغم بعض المحاولات التي يقوم بها بعض منكري القدر ومكذبيه.. يقول الراوي: «كان رجل ممن كان قبلكم يكذب بالقدر وكان مسيئاً إلى امرأته، فخرج إلى الجبانة فوجد فيها قحف رأس مكتوب عليه يحرق ثم يذرى في الريح، قال: فأخذه فجعله في سفط، ودفعه إلى امرأته، ثم أحسن إليها ، ثم سافر فجاءتها جاراتها فقلن:

يا أم فلان بمَ كان يحسن زوجك الصنيعة إليك ؟ فهل استودعك شيئاً؟ قالت:نعم، هذا السفط قلن: فإنّ فيه رأس خليلة له، فقامت غيوراً مغضبة حتى فتحته، فإذا فيه قحف رأس فقلن: تدرين يا أم فلان ما تصنعين به ؟ أحرقيه ثم ذريه في الريح

ص: 176


1- عيون الأخبار ج 4 : 117

ففعلت .. فقدم زوجها من سفره - وهي مغضبة - فقال لها : ما فعل السفط؟ فحدّثته بالحديث :فقال : آمنت بالله وصدّقت بالقدر».(1)

ومثل هذه القصص - على ما فيها من فجوات - لها تأثيرها الإقناعي في نفوس سامعيه، وهي - لو صحت عنه – فليس فيها ما يتنافى مع ما سبق ذكره من إنكاره للجبر، فإنّ إرادات الله التكوينية وهي التي لا تتخلّف عنها مراداتها بحال، تختلف باختلاف متعلّقاتها، فبعضها أراد لها أن تتحقق، ولكن بتوسّط إرادة العبد واختياره وبعضها أراد لها ذلك من دون توسّط إرادة العبد.

والجبر الذي يأباه وتأباه مدرسة أهل البيت الا هو القسم الأول منهما، أما الثاني وهو الذي سيقت القصّة لبيانه فموضع اتفاقهم هو الإيمان به، وكلماتهم صريحة بذلك.

وأسطورة ثالثة ساقها لتهويل تأثير الذنوب على العبد تنفيراً لمستمعيه منها قال: «كان رجل فيمن كان قبلكم عبد الله ثمانين سنة ثم إنّه أخطأ خطيئة خاف منها على نفسه فأتى الفيافي، فناداها أيتها الفيافي الكثيرة رمالها الكثيرة عضاهها، الكثيرة دوابها، الكثيرة تلاعها هل فيك مكان يواريني من ربي عزّ وجلّ؟ فأجابت الفيافي - بإذن الله -: يا هذا والله ما في نبت ولا شجر إلا وملك موكّل به، فكيف أواريك عن الله تعالى؟ فأتى البحر فقال : أيها البحر الغزير ماؤه الكثير حيتانه ، هل فيك مكان يواريني عن ربي عزّ وجلّ ؟ فأجابه - بإذن الله - فقال : يا هذا والله ما في حصاة، ولا دابة إلّا وبها ملك موكل، فكيف أواريك عن الله عزّ وجلّ؟ فأتى الجبال فقال: يا أيتها الجبال الشوامخ في السماء الكثيرة غيرانها ، هل فيك مكان يواريني من ربي تعالى؟ فقالت: الجبال والله ما فينا من حصاة، ولا غار إلّا وملك موكّل به، فأين أواريك؟ قال: فقام يتعبّد هنالك ويلتمس التوبة حتى حضره الموت فبكى فقال : يا ربّ اقبض روحي في

ص: 177


1- حلية الأولياء ج 1 : 326 - 327

الأرواح، وجسدي في الأجساد، ولا تبعثني يوم القيامة».(1)

وهو مثل يصلح - بالإضافة إلى ذلك - لبيان عظمة الله في استيعاب سطوته وقدرته وسعتها لجميع المخلوقات؛ لاستيلائه عليها.

وله فيما أُثر عنه أمثال أخر، وقد يكون الكثير منها موضوعاً عليه، إلّا أنّ الذي لا أشكّ فيه أنه كان يعمد - للتأثير على سامعيه - إلى سوق بعض الأساطير؛ لالتماس العبرة منها، وهي طريقة مألوفة لبلغاء ذلك العصر، وفي الكثير من آيات القرآن قصص سيقت للوازمه الكنائية أكثر من تسجيل واقع تأريخي كآية: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ»(2) وما يشبهها من بليغ الآيات.

الجاذبيّة

بقي من عناصر الشخصية - مما نذكره - عنصر الجاذبية.. وهو من أهم العناصر وأقواها، وربّما اعتبر هو الشخصية، مبالغة في أهميته.

ویراد به القوّة التي تجمع القلوب حول صاحبها، وتشدّها إليه، وربّما اشترك في تكوينها أكثر من منشأ واحد من المناشئ السابقة كالجمال، والذكاء، والشجاعة، وقوة البيان، وحسن الحديث، وكرم الخلق والغيرية والمشاركات الوجدانية، والعلم، والأدب، وما إليها مما سبق ذكره، وقد يكون من مناشئها الظرف وخفّة الروح.

وقد كان ابن عباس من الأمثلة الجميلة في ذلك.. تصوّروا أن شيخاً بمثل تقواه وفضله، وهو مهوى أفئدة العلماء، يفدون إليه لأخذ العلم عنه يُسأل – وهو مقبل على الصلاة - هل الشعر من رفث القول فينشد

ص: 178


1- حلية الأولياء : ج 2 : 327
2- الأحزاب: 72

وهنّ يمشین بنا همیسا***إن تصدق الطير - كذا (1) - لميسا

ويقول: «إنّما الرفث عند النساء، ثم أحرم للصلاة».(2)

وفي مكة أتاه قوم «بفتى محمول ضعفاً فقالوا: استشف لهذا الغلام، فنظر إلى فتى حلو الوجه عاري العظام، فقال له: ما بك؟ فقال:

بنا من جوى الشوق المبرّح لوعة***تكاد لها نفس المشوق تذوب

ولكنّما أبقى حشاشة ما ترى***على ما به عود هناك صليب

فقال ابن عباس: «أرأيتم وجهاً أعتق، ولساناً أذلق، وعوداً أصلب، وهوى أغلب، مما رأيتم اليوم، هذا قتيل الحب لا قود ولا دية».(3)

تأمّلوا روعة الجواب: «هذا قتيل الحب» وما تنطوي عليه من خفّة الروح.

وقد مرّ علينا إقباله على عمر بن أبي ربيعة واستماعه لشعره، وحفظه له، ثم تطلّبه وفحصه عما يجد لديه من شعر، مع ما في ما في ذلك منافاة للتقشف عادة.

ومن ظرفه ما أُثر عنه من سرعة الإجابة في مجالاتها، قال له معاوية يوماً: «أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم» ، وربّما أراد التعريض بأبيه، وجده، وابن عمه عقيل، وإلّا فما عهدنا لصاحبنا اجتماعاً بمعاوية بعد إصابته بعاهته، فأجابه ابن عباس على البديهة: «وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم».(4)

وقال له يوماً: «ما أبين الشبق في رجالكم ، فقال : هو في نساءكم أبين».(5)

ص: 179


1- الكلمة من فحش القول
2- العمدة ج 1 : 30
3- زهر الآداب - مطبعة حجازي،مصر ، ط 2 ، سنة الطبع 1344 ه- ج 4 : 143
4- عيون الأخبار ج 2 : 210
5- المصدر السابق

ودخل على عمرو بن العاص في مرضه فقال له - في حديث -: «عظني بعِظة أنتفع بها يا ابن أخي فقال له ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله صار ابن أخيك أخاك،ولا تشاء أن تبكي إلا بكيت، كيف يُؤمر برحيل من هو مقيم على حبها من حين، فقال عمرو : ابن بضع وثمانين سنة تقنطني من رحمة الله ربّي، اللهم إن ابن عباس يقنّطني من رحمتك، فخذ مني حتى ترضى قال ابن عباس - وهنا روعة الجواب -: هيهات يا أبا عبد الله أخذت جديداً وتعطي خلقاً، فقال عمرو ومالي ولك يا ابن عباس ما أرسل كلمة إلّا وأرسلت نقيضها».(1)

ومثل ذلك في محاوراته كثير ، وبعضه مصنوع وموضوع عليه حتماً، وليس تحقيق أكثره بمهم.

وخير ما يصوّر جاذبيته كلمة لصعصعة بن صوحان قالها لأمير المؤمنين علیه السلام عندما سأله عنه: «يا أمير المؤمنين إنّه آخذ بثلاث وتارك لثلاث.. آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، وبحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر الأمرين إذا خُولِف، وترك المراء، ومقارنة اللئيم، وما يعتذر منه».(2)

وهي غاية ما يمكن أن يصوّر جاذبيته، ويشير إلى أسبابها بكلام يُعد - لإيجازه - آية من آیات بلاغة العرب، فهو آخذ بقلوب الرجال بحسن حديثه ، وهو آخذ بحسن الاستماع إذا حُدّث، وحسن الاستماع من أهم الروابط التي تربط بين الجليسين عادة، وتشدّهما لبعضهما شداً، ثم هو آخذ بأيسر الأمرين إذا خولف، وهذه من أهم ما توجب عطف القلوب عليه، وهكذانراه يأخذ بجوامع القلوب، بأخذه لمختلف أسبابها، وقد مر علينا الكثير من تصريحات

معاصريه فيما يؤدي إلى عظم جاذبيته.. تراجع في الفصول السابقة.

ص: 180


1- الاستيعاب ج 2 : 513
2- البداية والنهاية ج 8: 200

شكر وتقدير

والذي أرجوه - وأنا في ختام الحديث - أن لا يفوتني تقديم أجزل الشكر، وأعمق الامتنان لأعضاء المجمع الثقافي لمنتدى النشر، الذين صرفوا كثيراً من وقتهم للاستماع إلى بعض هذه الفصول، وعلى الأخص من لاحقني منهم باستفساراته ومناقشاته.

كما أثمن جهود ولدي البار السيد علاء الدين، الذي قام بتهيئة الكتاب للطبع،

والإشراف على إخراجه، ومطابقة النصوص الواردة فيه مع مصادرها، ووضع الفهارس العامة له، سائلاً المولى عزّ وجلّ أن يوفقهم إلى ما فيه خير الفكر إنه ولي التوفيق.

محمد تقي الحكيم

ص: 181

ص: 182

الفَهَارِس العَامَة

اشارة

ص: 183

ص: 184

فهرست الآیات القرآنیة

الصورة

ص: 185

الصورة

ص: 186

الصورة

ص: 187

الصورة

ص: 188

فهرست الحادیث النبویة

الصورة

ص: 189

الصورة

ص: 190

الصورة

ص: 191

الصورة

ص: 192

الصورة

ص: 193

فهرست الابیات الشعریة و الاراجیز

الصورة

ص: 194

الصورة

ص: 195

الصورة

ص: 196

الصورة

ص: 197

فهرست الاعلام

الصورة

ص: 198

الصورة

ص: 199

الصورة

ص: 200

الصورة

ص: 201

الصورة

ص: 202

الصورة

ص: 203

الصورة

ص: 204

الصورة

ص: 205

الصورة

ص: 206

الصورة

ص: 207

الصورة

ص: 208

الصورة

ص: 209

الصورة

ص: 210

الصورة

ص: 211

الصورة

ص: 212

الصورة

ص: 213

الصورة

ص: 214

الصورة

ص: 215

الصورة

ص: 216

الصورة

ص: 217

الصورة

ص: 218

الصورة

ص: 219

الصورة

ص: 220

الصورة

ص: 221

الصورة

ص: 222

الصورة

ص: 223

الصورة

ص: 224

الصورة

ص: 225

الصورة

ص: 226

فهرست الامکنة و البقاع

الصورة

ص: 227

الصورة

ص: 228

الصورة

ص: 229

الصورة

ص: 230

الصورة

ص: 231

الصورة

ص: 232

الصورة

ص: 233

فهرست المک و النحل و الاقوام

الصورة

ص: 234

الصورة

ص: 235

الصورة

ص: 236

الصورة

ص: 237

الصورة

ص: 238

الصورة

ص: 239

الصورة

ص: 240

الصورة

ص: 241

فهرس المصادر والمراجع

. آلاء الرحمن

حرف الألف

محمد جواد البلاغي النجفي، (ت 1352ه)، مطبعة ،العرفان، صيدا، سنة الطبع 1351ه- .

. الأئمة الاثنا عشر

محمد بن طولون (ت 953ه) ، دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر، سنة الطبع 1377ه- .

. اتقان المقال في أحوال الرجال

محمد طه نجف، (ت 1323ه)، المطبعة العلوية، النجف، سنة الطبع 1340ه- .

. اثبات الوصية

أبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي الهذلي، (ت) (345 ه-)، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف لم تذكر سنة الطبع

. الأحكام السلطانية والولايات الدينية

أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي (ت 450 ه) ، المطبعة المحمدية، مصر، لم تذكر سنة الطبع

. الأحكام في أصول الأحكام

أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي (ت 631 ه)، مطبعة محمد علي صبيح مصر.

. أحكام القرآن

أبو بكر احمد بن علي الرازي الجصاص ، (ت 370ه)، المطبعة البهائية، مصر، سنة الطبع 1347ه

. الأخبار الطوال

ص: 242

احمد بن داود الدينوري، (ت 280 ه)، تحقيق عبد المنعم ،عامر ، مطبعة عيسى البابي الحلبي، مصر

. الأخبار الموفقيات

الزبير بن بكار، تحقيق سامي مكي العاني مطبعة العاني سنة الطبع 1972م،

. الارشاد

محمد بن النعمان العكبري المعروف بالشيخ المفيد (ت) 413ه-)، المطبعة الحيدرية، النجف، سنة الطبع 1381ه

. أسباب النزول

أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري (ت) سنة 467ه-)، مطبعة هندية غيط النويي، ،مصر، سنة الطبع 1315ه

. الاستيعاب في أسماء الأصحاب

أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر (ت 463 ه) ، هامش الإصابة في تمييز الصحابة، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1328ه

. أسد الغابة في معرفة الصحابة

عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الأثير (ت 630ه-)، المطبعة الوهبية، مصر، سنة الطبع 1280ه-

. أسس الصحة النفسية

عبد العزيز القوصي مطبعة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الرابعة سنة الطبع 1371ه-

. أسنى المطالب في أحاديث مختلف المراتب

محمد بن السيد درويش،(ت 1276ه)، مطبعة مصطفى أحمد، مصر، الطبعة الأولى سنة الطبع 1355ه

. الاصابة في تمييز الصحابة

شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي الكناني العسقلاني المعروف بابن حجر (ت852ه)، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى سنة الطبع 1328ه

. أضواء على السنة المحمدية

محمود أبو رية، مطبعة دار التأليف، مصر، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1377ه

. أعلام الموقعين عن رب العالمين

أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية (ت 715ه)، مطبعة السعادة، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1374ه

ص: 243

. أعلام النساء

عمر رضا كحالة المطبعة الهاشمية دمشق الطبعة الثانية، سنة الطبع 1378ه

.الأغاني

أبو الفرج الأصفهاني (ت 356ه)، تصحيح احمد الشنقيطي مطبعة التقدم، مصر، لم تذكر سنة الطبع

. الأمالي

أبو إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي (ت356ه) مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1373ه

. الأمالي

الشريف علي بن الحسين المعروف بالسيد المرتضى (ت 430ه-) ، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1907م

. الامام علي بن أبي طالب

عبد الفتاح عبد المقصود، مطبعة دار الكتب، مصر، سنة الطبع 1947م.

. الامتاع والمؤانسة

أبو حيان التوحيدي (ت في حدود سنة 380ه)، تحقيق وشرح أحمد أمين واحمد الزين، مطبع لجنة التأليف والنشر، مصر، سنة الطبع 1944م .

. أنساب الأشراف

أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ت (279 ه)، الجزء الأول، تحقيق محمد حميد الله، سلسلة ذخائر العرب : 27، مطبعة دار المعارف مصر سنة الطبع 1959م. والجزء الثاني، تحقيق محمد باقر المحمودي، مؤسسة الأعلمي، لبنان، الطبعة الأولى سنة الطبع 1394ه-، والجزء الرابع والخامس، باعتناء . .goltien.d سنة الطبع 1936م.

حرف الباء

. البداية والنهاية

عماد الدين أبو الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي (ت774ه)، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1351ه.

. بشارة المصطفى الشيعة المرتضى

ص: 244

أبو جعفر محمد بن أبي القاسم محمد بن علي الطبري (لم تعرف سنة الوفاة)، المطبعة الحيدرية، النجف الطبعة الثانية، سنة الطبع 1383ه.

. بلاغات النساء

أبو الفضل احمد بن أبي طاهر المعروف بابن طيفور ، (ت 280ه)، المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف، سنة الطبع 1361ه

. البيان في تفسير القرآن

أبو القاسم الموسوي الخوئي، المطبعة العلمية، النجف، لم تذكر سنة الطبع .

. البيان والتبيين

أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت255ه)، تحقيق حسن السندوبي، الطبعة الثانية، المطبعة الرحمانية، مصر، سنة الطبع 1351ه.

حرف التاء

. تاريخ الأمم والملوك تاريخ الطبري

أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310ه)، مطبعة الحسينية، مصر، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1326ه .

تاریخ بغداد

أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463ه-) ، دار الكتاب العربي، لبنان، لم تذكر سنة الطبع.

. تاريخ الخلفاء

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 910ه)، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الأولى سنة الطبع 1371ه .

. تاريخ الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية (الإمامة والسياسة)

أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت (276ه-)، مطبعة مصطفى محمد، مصر، لم تذكر سنة الطبع

. تاريخ خليفة بن خياط

أبو عمرو خليفة بن خياط شباب العصفري (ت 290ه)، تحقيق أكرم ضياء العمري، مطبعة الآداب النجف الاشرف، الطبعة الأولى سنة الطبع 1386ه.

ص: 245

. التأريخ الكامل (تاريخ ابن الأثير)

أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري (ت 630 ه)، الطبعة الأولى، المطبعة الأزهرية، سنة الطبع 1301ه.

. التاريخ الكبير (تهذيب ابن عساكر)

أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر الشافعي (ت 517ه)، مطبعة روضة الشام، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1330ه.

. تاريخ اليعقوبي

أحمد بن أبي يعقوب بن وهب الكاتب المعروف بابن واضح الأنباري (ت 284ه) ، مطبعة الغري، النجف الاشرف، سنة الطبع 1358ه .

. تأويل مختلف الحديث

أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت276ه)، الدار القومية، مصر، سنة الطبع 1386ه .

. تأويل مشكل القرآن

أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276ه)، شرح احمد صقر، دار إحياء الكتب العربية، لم تذكر سنة الطبع .

. التذكار في أفضل الأذكار

أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت 671ه)، تحقيق احمد بن محمد بن الصديق الغماري، الطبعة الأولى سنة الطبع 1355ه .

. تذكرة الخواص

أبو المظفر يوسف شمس الدين الملقب (سبط ابن الجوزي)، (ت 560ه)، المطبعة العلمية، النجف، سنة الطبع 1369ه .

. تلخيص المستدرك على الصحيحين

شمس الدين أبو عبد الله محمد بن احمد الذهبي (ت 748ه) ، ذيل المستدرك، على الصحيحين الطبعة الأولى، مطبعة مجلس دائرة المعارف حيدر آباد سنة الطبع 1338 ه.

. تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية

مصطفى عبد الرزاق، (ت 1366ه)، لجنة التأليف، مصر، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1379ه.

. تنقيح المقال في أحوال الرجال

عبد الله المامقاني (ت 1351ه)، المطبعة المرتضوية النجف الأشرف، سنة الطبع 1352ه-. تنوير المقباس

ص: 246

هامش الدر المنثور المطبعة الإسلامية، طهران، سنة الطبع 1377ه.

حرف الثاء

. ثلاث رسائل في إعجاز القرآن

أبو سليمان محمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت 383 ه أو 388ه)، تحقيق محمد خلف الله وآخر، سلسلة ذخائر العرب : 16 ، دار المعارف مصر .

حرف الجيم

. جامع البيان عن تأويل القرآن

أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310ه)، مطبعة مصطفى ألبابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1373ه.

. جمهرة. خطب العرب في عصر العربية الزاهرة

احمد زكي صفوت، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، سنة الطبع 1352ه .

. جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة

احمد زكي صفوت، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الأولى سنة الطبع 1356ه .

حرف الحاء

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة

جلال الدين السيوطي الشافعي (ت 910 ه)، مطبعة الموسوعات، مصر، لم تذكر سنة الطبع .

. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء

أبو نعيم

احمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 402 ه)، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1351ه .

ص: 247

حرف الخاء

. خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

أبو عبد الرحمن احمد بن شعيب النسائي ( ت 303 ه-)، مطبعة التقدم، مصر، سنة الطبع 1348ه.

. خلاصة تذهيب الكمال في أسماء الرجال

صفي الدين احمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري (ت بعد سنة 923ه)، الطبعة الأولى، المطبعة الخيرية، الطبعة الأولى، مصر، سنة الطبع 1322ه-

. خوارق اللاشعور

علي الوردي، (ت 1998م) ، لم تذكر المطبعة، لم تذكر سنة الطبع .

حرف الدال

دائرة المعارف الإسلامية

إعداد A.A.RGIBB ، وآخرون، مطبعة بريل ليدن، سنة الطبع 1960م.

. الدر المنثور في التفسير بالمأثور

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، (ت 910 ه)، المكتبة الإسلامية، طهران، سنة الطبع 1372ه.

. الدرجات الرفيعة

صدر الدين السيد علي خان الحسيني المدني (ت 1120 ه)، المطبعة الحيدرية، النجف، سنة الطبع 1381ه

. دلائل الصدق

محمد حسن المظفر (ت 1376ه)، المطبعة الحيدرية النجف، سنة الطبع 1372ه .

. ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى

احمد بن عبد الله الشهير بالمحب الطبري (ت 694ه) ، مطبعة القدسي والسعادة، مصر، سنة الطبع 1356ه

ص: 248

حرف الراء

. الرياض النضرة في مناقب العشرة

أبو جعفر احمد بن عبد الله الشهير بالمحب الطبري (ت 694ه)، مطبعة دار التأليف، مصر، سنة الطبع 1372ه

. حرف الزاي

زاد المعاد في هدى خير العباد

شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية (ت 751ه)، الطبعة الثانية، مصطفى البابي الحلبي، مصر، سنة الطبع 1369ه .

. زهر الآداب وثمرة الألباب

أبو اسحق الحصري القيرواني (ت 488ه)، مطبعة الرحمانية، مصر، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1344ه .

. زهر الربيع لما فيه من المقال البديع

نعمة الله ،الجزائري (ت 1112ه) المطبعة الحيدرية النجف، سنة الطبع 1375ه .

حرف السين

. سر العالمين وكشف ما في الدارين

أبو حامد الغزالي (ت 505ه)، مطبعة الحجر الباهرة، بومبي، سنة الطبع 1314ه.

. سنن الترمذي

أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (ت 279ه)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الاسلامية .

. السنن الكبرى

أبو بكر احمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 ه) ، مطبعة مجلس دائرة المعارف، حیدر آباد، سنة الطبع 1352ه .

. سنن المصطفى (سنن ابن ماجة)

محمد بن يزيد أبو عبد الله بن ماجة القزويني (ت 273ه)، المطبعة التازية، مصر، الطبعة الأولى.

. سنن النسائي

ص: 249

أبو عبد الرحمن احمد بن شعيب النسائي (ت 303ه) ، شرح الحافظ جلال الدين السيوطي تصحيح حسن محمد المسعودي، المطبعة المصرية بالأزهر.

. سيرة النبي (سيرة ابن هشام)

أبو محمد بن عبد الملك بن هشام (ت (218 ه)، مراجعة محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة حجازي، مصر، لم تذكر سنة الطبع .

حرف الشين

. الشخصية

محمد عطية الأبراشي مطبعة دار المعارف، مصر، الطبعة السادسة، سنة الطبع 1373ه.

. شخصية الفرد العراقي

علي الوردي مطبعة الرابطة، سنة الطبع 1951م.

. شرح نهج البلاغة

أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشهير بابن أبي الحديد (ت 655ه)، مطبعة دار الكتب العربية الكبرى مصر، سنة الطبع 1329ه- .

حرف الصاد

. صحيح البخاري

أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري (ت 256ه)، المطبعة العثمانية، مصر، سنة الطبع 1355ه .

. صحیح مسلم

أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261ه)، مطبعة محمد علي صبيح، مصر، سنة الطبع 1334ه.

. الصواعق المحرقة في الرد على البدع والزندقة

شهاب الدین احمد بن محمد علي المعروف بابن حجر (ت 973ه) دار الطباعة المحمدية، مصر، سنة الطبع 1375ه .

ص: 250

حرف الضاد

. ضحى الإسلام

احمد أمين، مطبعة لجنة التأليف والنشر ، مصر ، الطبعة السابعة، سنة الطبع 1964ه .

حرف الطاء

. طبقات الشافعية الكبرى

عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي (ت سنة 771ه)، المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى، لم تذكر سنة الطبع.

حرف العين

. عائشة والسياسة

سعيد الأفغاني، مطبعة لجنة التأليف والنشر، مصر ، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1947م.

. العدالة الاجتماعية في الإسلام

سيد قطب، الطبعة الرابعة، دار إحياء الكتب العربية، سنة الطبع 1373ه .

. العقد الفريد

شهاب الدین احمد المعروف بابن عبد ربه الأندلسي ( ت 328ه)، تحقيق محمد سعيد العريان، مطبعة الاستقامة، مصر، الطبعة الثانية سنة الطبع 1372ه- . والمطبعة العامرة، مصر، سنة الطبع 1316ه.

. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده

أبو علي الحسين بن رشيق القيرواني (ت 456ه)، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1374ه.

ص: 251

. عيون الأخبار

أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، (ت 276ه)، مطبعة الكتب المصرية، سنة الطبع 1349ه .

حرف الغين

. الغدير في الكتاب والسنة والأدب

عبد الحسين أحمد الأميني النجفي (ت 1390 ه)، الطبعة الثانية، مطبعة الحيدري، طهران، سنة الطبع 1372ه .

حرف الفاء

. الفتنة الكبرى - عثمان -

طه حسین، دار المعارف، مصر، سنة الطبع 1947م.

. الفتنة الكبرى - علي وبنوه -

طه حسين دار ،المعارف ،مصر، سنة الطبع 1953م.

. الفتوح

أبو محمد احمد بن أعثم الكوفي، (ت 314ه)، مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت سنة الطبع 1406ه.

. فتوح البلدان

أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، (ت 279ه) تعليق ومراجعة رضوان محمد رضوان دار الكتب العلمية بيروت سنة الطبع 1398ه

. الفخري في الآداب السلطانية والدولة الاسلامية

محمد بن علي بن طباطبا المعروف بابن الطقطقي، (ت 701ه) مراجعة وتنقيح محمد عوض ابراهيم وعلي الجارم مطبعة المعارف، مصر، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1938م.

. فضائل الخمسة من الصحاح الستة

مرتضى الحسيني الفيروز أبادي، مطبعة النجف النجف، سنة الطبع 1384ه .

ص: 252

. الفلسفة القرآنية

عباس محمود العقاد، مطبعة لجنة التأليف والنشر، مصر، سنة الطبع 1947م.

. الفهرست

أبو الفرج محمد بن اسحق المعروف بابن النديم (ت 385ه) ، المطبعة الرحمانية، مصر، سنة الطبع 1348ه .

. في الأدب الجاهلي

طه حسين، دار المعارف، ،مصر، سنة الطبع 1962م.

حرف الكاف

. الكامل في اللغة والأدب

أبو العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد (ت 285ه)، مطبعة مصطفى محمد، مصر، سنة الطبع 1355ه

. كتاب الخراج

يحيى بن آدم القرشي (ت 203ه)، تصحيح وشرح احمد محمد شاكر، المطبعة السلفية، مصر، سنة الطبع 1347ه

. كتاب الخراج.

أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم (ت 182ه)، المطبعة السلفية، مصر، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1352 ه

. كتاب الرجال

جمال الدين الحسن بن سديد الدين يوسف بن علي المعروف بالعلامة الحلي (ت 726ه)، مطبعة مرسیده بود، طهران، سنة الطبع 1300ه.

. کتاب سليم بن قيس الهلالي

سليم بن قيس الهلالي العامري لم تذكر المطبعة ولا سنة الطبع .

. كتاب الطبقات الكبير

محمد بن سعد (ت 230ه) ، مطبعة ليدن سنة الطبع 1335ه .

. كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر (تاريخ ابن خلدون)

عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (ت 808ه) باعتناء علاء الفاسي ، مطبعة النهضة، مصر، سنة

ص: 253

الطبع 1936م.

. كتاب المعرفة والتاريخ

يعقوب بن سفيان البسوي (ت 277ه)، تحقيق أكرم ضياء العمري، مطبعة الارشاد، بغداد، سنة الطبع 1394ه .

. كتاب الموضوعات

أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي القرشي (ت 597ه) ، مطبعة المجد، مصر، الطبعة الأولى سنة الطبع 1386ه .

. كتاب وقعة صفين

نصر بن مزاحم (ت 212 ه)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مطبعة المؤسسة العربية الحديثة، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1382ه.

. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (تفسير الكشاف)

جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 ه) ، دار الكتاب العربيا، بيروت سنة الطبع 1366ه

. كشف الطنون عن أسامي الكتب والفنون

مصطفى عبد الله الشهير بحاجي خليفة (ت 1086ه) ، مطبعة وكالة المعارف، مصر، 1360ه.

. كشف الغمة في معرفة الائمة

أبو الحسن علي بن السعيد فخر الدين عيسى بن أبي الفتح الأربلي (ت 693ه)، مطبعة محمد حسين الطهراني، كربلاء، سنة الطبع 1294ه .

. كنز العرفان في فقه القرآن

المقداد السيوري (ت 826ه)، مطبعة دار الخلافة، طهران، سنة الطبع 1313ه .

. كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال

علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي، (ت 975ه)، مطبعة دار المعارف النظامية، حیدر آباد، سنة الطبع 1312ه .

. الكنى والأسماء

أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي (ت 310ه)، مطبعة مجلس دائرة المعارف، الهند، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1322ه .

ص: 254

حرف اللام

. اللآلئ المصنوعة

جلال الدين السيوطي (ت 910 ه) ، المطبعة الأدبية، مصر، ط 1، 1217ه.

. لسان العرب

أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (ت 711ه)، دار صادر للطباعة، بيروت، سنة الطبع 1375ه.

. لسان الميزان

شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852ه)، مطبعة دار المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1329ه .

حرف الميم

. مبادئ علم النفس العام

يوسف مراد، مطبعة دار المعارف، الطبعة الأولى، مصر، سنة الطبع 1948م.

. مجالس ثعلب

أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب (ت 291ه)، شرح عبد السلام محمد هارون، مطبعة دار المعارف، مصر .

. مجلة الاعتدال

السنة الرابعة، العدد 3، لعام 1937م.

. مجلة علم النفس

جماعة علم النفس التكاملي، السنة الثالثة، 1947م، مطبعة دار المعارف مصر .

. مجلة الكتاب

السنة الثانية، المجلد الأول .

. مجلة المجمع العلمي العراقي

الجزء الأول من السنة الأولى، مطبعة التفيض ، بغداد، سنة الطبع 1369ه .

. مجمع البيان في تفسير القرآن

أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، 0ت ،548 ه) ، مطبعة العرفان، صيدا، سنة الطبع 1333ه .

. المحاسن والأضداد

أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني المعروف بالجاحظ (ت 255ه)، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الأولى سنة الطبع 1324ه.

ص: 255

. المحاسن والمساوئ

إبراهيم بن محمد البيهقي (من أعلام القرن الخامس الهجري)، تصحيح محمد بدر الدين النفساني مطبعة ،السعادة ، مصر ، سنة الطبع 1325ه.

. محاضرات الأدباء

أبو القاسم الحسين بن المفضل الراغب، (ت 502 ه) ، المطبعة العامرية الشرفية، سنة الطبع 1326ه.

. محمد بن الحنفية

علي بن الحسين الهاشمي، مطبعة ،سبهر، طهران، سنة الطبع 1368ه- .

. مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي

أمير علي، نقله الى العربية، رياض رأفت، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، مصر، سنة الطبع 1938م

. المختصر في أخبار البشر (تأريخ أبي الفدا)

عماد الدين اسماعيل أبو الفدا (ت 774ه)، الطبعة، المطبعة الحسينية، مصر، سنة الطبع 1332ه.

. مذاهب التفسير الإسلامي

اجنتس جولد تسيهر ، ترجمة عبد الحميد النجار، المطبعة المحمدية، مصر، سنة الطبع 1374ه .

. مروج الذهب ومعادن الجوهر

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، (ت 345ه) ، تعليق ومراجعة وضبط محمد محي الدين عبد الحميد، لم تذكر المطبعة ولا سنة الطبع .

. المستدرك على الصحيحين في الحديث

أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري ، (ت 405ه-)، مطبعة دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1334ه .

. مسند أحمد

أحمد بن حنبل الشيباني المروزي ، (ت 241ه)، تحقيق أحمد محمد شاكر، مطبعة دار المعارف، مصر، سنة الطبع 1369ه، والمطبعة الميمنية، مصر ، سنة الطبع 1313ه .

. المصاحف

أبو بكر عبد الله بن داود سليمان بن الأشعث السجستاني، (ت 316ه)، تصحيح آرثر جفري، الطبعة الأولى، المطبعة الرحمانية، مصر، سنة الطبع 1355ه .

ص: 256

. مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه

عبد الوهاب خلاف مطابع دار الكتاب العربي، مصر، سنة الطبع 1955م.

. معاوية بن أبي سفيان في الميزان

عباس محمود العقاد - كتاب الهلال الطبعة الأولى .

. معجم البلدان

شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي (ت 618ه) ، منشورات مكتبة الأسدي، طهران، سنة الطبع 1965م.

. معرفة أخبار الرجال (رجال الكشي)

محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي (من أعلام القرن الرابع الهجري)، المطبعة المصطفوية، بمبي بائي دهنوي، سنة الطبع 1317ه .

. مقاتل الطالبييين

أبو الفرج الأصفهاني (ت 356ه)، شرح و تحقيق أحمد صقر، دار المعرفة للطباعة .

. مقدمتان في علوم القرآن

عبد الحق بن عطية تصحيح آرثر جفري، مطبعة دار الصاوي، القاهرة، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1392ه .

. مكارم الأخلاق

رضي الدين أبو نصر الحسن بن الفضل الطبرسي (من أعلام القرن السادس الهجري)، تصحيح وتعليق علاء الدين العلوي الطالقاني، مطبعة النعمان النجف، لم تذكر سنة الطبع .

. الملل والنحل

أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، (ت ،548ه)، الطبعة الأولى، مطبعة حجازي،مصر، سنة الطبع 1368ه .

. مناقب أبي حنيفة

محمد بن محمد بن شهاب المعروف بابن البزاز الكردري ، ت 827ه- ، مطبعة دائرة المعارف

النظامية حيدر آباد سنة الطبع 1321ه- .

. مناقب أبي حنيفة

أبو مؤيد الإمام الموفق بن أحمد المكي (ت 568ه)، مطبعة مجلس دائرة المعارف، حيدر آباد، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1321ه .

. مناقب الخوارزمي

ص: 257

أبو المؤيد الموفق بن أحمد البكري المكي المعروف بأخطب خوارزم (ت 568ه)، المطبعة الحيدرية النجف، سنة الطبع 1385ه

. مناهج البحث عند مفكري الإسلام

علي سامي النشار، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1965م.

. مناهل العرفان في علوم القرآن

محمد عبد العظيم الزرقاني، مطبعة عيسى البابي الطبعة الثانية، سنة الطبع 1362ه.

. ميزان الاعتدال في نقد الرجال

أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ( ت 748ه)، تحقيق علي بن محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1382ه .

حرف النون

الناسخ والمنسوخ

أبو القاسم هبة الله بن سلامة، (ت 410 ه)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، سنة الطبع 1379ه .

. النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم

أبو محمد أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد المقريزي (ت 845ه)، الشافعي، المطبعة الابراهيمية ، ،مصر، سنة الطبع 1937م.

. النص والاجتهاد

عبد الحسين شرف الدين الموسوي (ت 1377ه) ، مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الرابعة، سنة الطبع 1386ه .

. النصائح الكافية لمن يتولى معاوية

محمد بن عقيل بن عبد الله بن عمر بن يحيى العلوي، (ت 1350ه)، مطبعة النجاح، بغداد، الطبعة الثانية سنة الطبع 1367ه

. نکت الهميان في نكت العميان

صلاح الدين الخليل بن أبيك الصفدي، (ت 764 ه) ، لم تذكر المطبعة، لم تذكر سنة الطبع . . النهاية في غريب الحديث والأثر مجد الدين بن محمد بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير (ت 606 ه)، المطبعة العثمانية، مصر،

ص: 258

سنة الطبع 1311ه .

. نور الأبصار

الشبلنجي المدعو بمؤمن (من علماء القرن الثالث عشر)، المطبعة الميمنية، مصر، سنة الطبع 1322ه .

حرف الواو

. وسائل الشيعة

محمد بن الحسن الحر العاملي (ت 1104ه) ، مؤسسة مطبوعاتي اسماعيليان، طهران، سنة الطبع 1312ه .

. وعاظ السلاطين

علي الوردي، (ت 1998م) ، لم تذكر المطبعة، لم تذكر سنة الطبع.

. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان

القاضي أحمد المعروف بابن خلكان (ت 681 ه)، المطبعة الميمنية، مصر، سنة الطبع 1310ه.

حرف الياء

. ينابيع المودة

سليمان الحسيني البلخي القندوزي (ت 1294ه)، مطبعة ،العرفان، صيدا.

ص: 259

ص: 260

المحتويات

ص: 261

ص: 262

المحتويات

الشخصية وعناصرها....5

أولاً: صفاته الجسمية والمزاجية....7

ثانيا: استعداداته الفطرية....11

1 - علائقه بربه....13

عبادته:....14

2 - علائقه بمجتمعه وبيئته....17

المشاركة الوجدانية:....20

الغيرية:....21

کرمه:....23

الشجاعة:....30

3 -علائقه بذاته....36

ثالثاً: قدراته العقلية....41

الذكاء:....41

الألمعية:....43

النبوغ:....45

معارف.. وتقييم:....46

1- القرآن:....53

ص: 263

مصحف ابن عباس:....54

التحريف في القرآن:58

اختلاف القراءات:....61

فضل القرآن:....65

شبه حول القرآن:....66

2- التفسير....71

ثروته اللغوية:....75

معارف القرآن:....84

3 - الحديث....103

4 - الفقه....119

1 - شرائط الإفتاء والمرجعية، ومدى توفّرها لديه....121

2 - مصادر التشريع التي يعتمدها في فتاواه....123

أ - القرآن والسنة:....124

ب - اجتهاد الخليفتين....124

ج_ - فتيا الإمام:....125

د - الرأي والقياس:....130

اجتهاد رأيه....131

3 - طابع مدرسته الفقهية:....133

مسح الأرجل:....134

الجمع بين الصلاتين:....135

التقصير في السفر:....136

ص: 264

الصوم في السفر:....137

المتعة في الحج:....137

متعة النساء:....140

الطلاق الثلاث:....148

الفرائض:....150

العول:....150

مسألة الجبر:....152

مسألة الرجعة:....154

4 - تدوين العلم:....156

رأيه في بعض المسائل الغريبة:....157

5 - السيرة والتأريخ....159

6 - الأدب:....161

1 - النقد والتقييم:....164

2 - رصيده من حفظ ووعي التجارب الأدبية لسابقيه.....166

3- نتاجه الأدبي....168

أ - شعره....168

ب - الخطابة والمناظرة والرسائل....171

ج_ - كلمه القصار....171

د - أدبه القصصي:....175

الجاذبية:....178

شكر وتقدير....181

ص: 265

فهرس الآيات القرآنية....185

فهرس الأحاديث النبوية....189

فهرس الأبيات الشعرية والأراجيز....194

(فهرس الأعلام)....198

(فهرس الأمكنة والبقاع)....227

(فهرس الملك والنحل والأقوام)....234

فهرس المصادر والمراجع....242

المحتويات....263

ص: 266

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.