رسالة في الربا

هویة الکتاب

رسالة في الربا

تقريراً لأبحاث سماحة آية الله العظمى الحاج الشّيخ شمس الدّين الواعظي دام ظله الوارف

تأليف: السّيّد مجتبى السّويج

ص: 1

مقدمة واهداء

اللهم إنّي أفتتح الثناء بحمدك، وأنت مسدّد للصواب بمنّك، واُصلّي واُسلّم على أفضل رسلك وخيرتك من خلقك أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين حماة الشريعة الخاتمة، وقادة البشريّة الفاضلة، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين الى أبد الآبدين.

(سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

وبعد، تمضي الى الآن أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان على مجيء الرسالة الالهية الخاتمة، ومع تطوّر وسائل الحياة العصريّة وتصاعد الحركة الميكانيكيّة والاقتصاديّة لا زال الفقه الاسلامي الأصيل يثبّت جدارته وقدرته على مسايرة الحركة العلميّة والحياتيّة يوماً بعد آخر، وقد استطاع أن يضع الحلول الصحيحة الدقيقة لكلّ حادثة وواقعة - صغرت أم كبرت - بل كان ولا يزال يشير الى مسائل لم تقع بعد يفترض وجودها فيعطي لها كامل الحكم الشرعي، والحل المنطقي عند حدوثها، وسيبقى السبّاق دائماً الى مثل هذه الحلول التي تستند الى اُسس رهينة، إذ ما غنى هذا الفقه وعلياءه إلاّ لأنّه مرتبط بالوحي الالهي الكامل.

وقد أقرّ القاصي والداني بنضجه وتوازنه وكفاءته العالية لحلّ أيّ مشكلة من المشاكل، شخصيّة كانت أم اجتماعية.

ص: 2

ومن ضمن المسائل التي عالجها هذا الفقه بدقّة وروعة وابداع جميل جملة من المسائل والمشاكل الاقتصاديّة صغيرها وكبيرها على حد سواء. ومنها مسألة الربا الجريمة الاجتماعية الخطيرة، فلقد أثبت بما لا مزيد عليه مالها من الآثار السيئة والوخيمة على حياة نفس المرابي - حيث يولد عنده من جرّائها حب الأثرة والأنانيّة المقيتة - وآخذ الربا وعلى المجتمع بأسره - لما يولده من البغضاء والعداوة بين أفراده ولما يدعو الى تفكيك الروابط الانسانيّة والاجتماعيّة ويقضي على كلّ مظاهر الشفقة والحنان والتعاون والاحسان في نفوس البشر - بل حتى على الكون الذي يتفاعل وينفعل مع الأحكام الالهية، إذ لمّا كان الكون مجبولاً على الطاعة الدائمة لربنا سبحانه فانّه ينسجم طبيعيّاً مع الفرد والمجتمع إذا ما أطاع خالقه، وحينئذٍ ينزل خيراته ويخرج بركاته الى كلّ من وجّه النفس والبدن الى امتثال ما يريده الباري سبحانه، وبعكسه تماماً فانّه ينزل الغضب والعذاب على كلّ من أعرض عن ذكر الله تعالى، وللربا - مسألة البحث في هذا الكتاب - الكثير من تلكم الآثار السيئة على الحياة الانسانيّة والمسيرة الاقتصاديّة فضلاً عن غضب الجبّار المتعال الذي أكّد في كتابه الشريف وعلى لسان نبيّه الكريم وولاة الأمر من آل نبيه(صلی الله علیه و آله) على حرمة هذه المسألة ومبغوضيتها بما لها من المفاسد المدمّرة لحياة الانسانيّة وآخرتها، والتي أراد لها سبحانه السعادة والهناء.

ص: 3

قال النبي(صلی الله علیه و آله): لمّا أُسري بي الى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم ولا يقدر عليه من عظم بطنه، قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ... الحديث.

وعنه(صلی الله علیه و آله): إذا ظهر الزنا والربا في قرية اُذن في هلاكها.

وانطلاقاً من هذه الاُمور وغيرها رأى سماحة اُستاذنا العزيز آية الله الشيخ شمس الدين الواعظي - دام ظله - ضرورة بيان وتفصيل هذه الآثار المضرّة بحياة الفرد والمجتمع، فتناول هذه المسألة من جهاتها الأخلاقيّة والفلسفيّة والاقتصاديّة والاجتماعية، ومن ثمّ بحث الكثير من فروعها التي تقع محلاًّ لابتلاء الكثير من الناس في معاملاتهم التجارية مستقصياً القول في أبعادها ومفادتها فقهيّاً مع وفاء البيان لأدلّة الاستنباط.

وينبغي التنوية: أنّ هذه الرسالة وان كانت مبحثاً لطلبة العلم والفضيلة في الحوزة العلمية في مستوى السطح العالي من الدرس ولكننا نستطيع القول: بأنّها جاءت رسالة عامّة الى كلّ الناس على اختلاف طبقاتهم، ويرجع ذلك الى وضوح عبارات الاُستاذ وابداعه في بيان مفصّلات المسائل، وما سعينا به من الكتابة بجهتها العصريّة نوعاً مّا، أجل هناك بعض الأساليب في الاستدلال تبقى معقّدة وغامضة شيئاً مّا، وذلك تمشّياً مع المنهج الحوزوي المعروف،

ص: 4

وخصوصاً لمستويات البحث الخارج، فيبقى بيانها وتوضيحها معلّقاً، على أصحاب السماحة والفضيلة.

وهكذا هي الضرورة تقضي بتوضيح الصورة كاملة عن المسألة الفقهيّة للسائل والطالب في مدرسة أهل البيت(ع) ليجيب هو الآخر بعد ذلك المجتمع الذي يسائله عن محل ابتلائه بكلّ وضوح وبصيرة.

وعلى هذا وذاك شرع الاُستاذ في بيان المطالب، وشرع طلبة بحثه بالكتابة، وكان الداعي الفقير كاتب هذه السطور أحدهم اُبلور الفكرة بحسب ما اُستطيع بعد الرجوع إليه - دام ظله - في مبادلة وجوه الرأي حولها، فكان يثريني بارشاداته القيّمة، وعند ما تكامل عرضته على سماحته، فوقع منه موقع الرضا والقبول، وشجّعني على مواصلة الكتابة، فله منّي كامل الشكر ومن الله كامل الأجر.

وقد قسّم الكتاب الى مقدمات ثمانية، وفصول خمسة مع خاتمة لبعض المسائل، وأسال الله بنور محمد وآله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم سبحانه، وان يتقبّله منّي بقبول حسن إنّه سميع مجيب.

وإذا كانت العادة قد جرت باهداء الكتب والمؤلّفات والأشياء الثمينة الى اُناس عظماء كرام عند من يهدي إليهم، فانّني اُهدي هذا المجهود المتواضع الى سدة الناحية المقدسة، الى مَن منّ آيات ظهورها كثرة الربا فيمحقه بعدله، الى وليّ الله الأعظم إمام زماننا

ص: 5

الحجة بن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف، وجعلنا من أنصاره، وأعوانه المستشهدين بين يديه.

فاليك يا سيدي ويا مولاي بضاعتي القليلة فتقبّلها منّي بقبول حسن، إنك لا ترد عن بابك ولا تصد بجوابك، فأنتم معدن الكرم والعطاء.

(يا أَيّهَا الْعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ وَجِئْنَا بِبِضَعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَا إِنّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدّقِينَ).

أحقر خدامكم اللائذ بجنابكم الراجي لشفاعتكم

مجتبى السويج

1415ه-

في قم المقدسة وبجوار العلويّة

الطاهرة فاطمة المعصومة (علیها السلام) عش آل محمد(صلی الله علیه و آله)

ص: 6

تنبيهات قبل البحث

وينبغي قبل الدخول في مطالب الرسالة أن ننبّه على بعض الاُمور لمطالع البحث إتماماً للفائدة.

الأمر الأوّل: إذا قلنا: «اُستاذنا الأعظم» فالمقصود هو اُستاذ اُستاذنا سماحة آية الله العظمى المغفور ل-ه الامام الخوئي(قدس سره) وقد أطلق الاُستاذ هذا الوصف الجميل اللطيف على اُستاذه(قدس سره).

الأمر الثاني: وإذا قلنا: «اُستاذنا المحققّ» فانّما هو اُستاذ اُستاذنا سماحة آية الله العظمى المغفور ل-ه السيد البجنوردي(قدس سره) صاحب المؤلّفات الرائعة، ومنها: كتابه الذي اعتمدنا على كثير من مباحثه هنا «القواعد الفقهية».

الأمر الثالث: قد تتكرّر في ثنايا البحث بعض الآيات والروايات فذلك يعتبر من ضرورات البحث ومنهجيته في مناقشة الدليل عند كلّ مطلب ومبحث قد يختلف عن سابقه، ولكنه يلتقيه في المستقى من نص واحد.

الأمر الرابع: سعينا قدر الامكان بالاتيان على كل المصادر المتعلّقة بالبحث عند هامشه، فقد تختلف الطبعات للمصدر الواحد

ص: 7

فتختلف على أثره الصفحات، وربّما الأجزاء فأحببنا التنبيه للالتفات الى هذا الأمر، وبالنسبة الى كتابي «الوسائل» و«المستدرك» فانّما هي من الطبعة الجديدة المحقّقة لمؤسسة آل البيت(ع).

ص: 8

في الربا

اشارة

ولا بدّ لنا عند الحديث عن هذه المسألة من بيان اُمور هامّة نفتح من خلالها جهات البحث وفروعه:

الأمر الأوّل: بيان المعنى اللغوي والاصطلاحي للكلمة

فالربا مشتق من ربى يربو، قال ابن منظور في لسان العرب: ربا الشيء يربو ربواً ورباءً زاد ونمى انتهى، وهو مصدر يدلّ على مطلق الزيادة، ويدلّ عليه قوله تعالى: (وَمَا آتَيْتُم مِن رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِندَ اللّهِ) أي أنّ من أعطى شيئاً يبتغي أفضل وأكثر من ذلك فلا أجر له عند الله تعالى فيه، بل عنده سبحانه لعامله الخسران والنيران، كما سيتضح لك هذا الأمر بجلاء فيما يأتي ان شاء الله تعالى.

وأما في اصطلاح الفقهاء: فهو عبارة عن أخذ الزيادة في المعاملة أو المعاوضة لأحد الطرفين، وقد يطلق على نفس المعاملة المشتملة على الزيادة مطلقاً، فبناءً على الأوّل فانّ نفس الزيادة هي الربا، وربّما أطلق على المعاملة المشتملة على تلك الزيادة، أي أنّ نفس المعاملة تكون حراماً وباطلة لا الزيادة فقط، ويمكن أن يستدلّ لهذا الأخير بظاهر قوله تعالى: (وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا) وسنشير

ص: 9

باذن الله عزوجل الى صحّة أي من القولين فيما يأتي.

الأمر الثاني: بيان حرمة الربا في جميع الأديان

إنَّ حرمة الربا ضرورة ثابتة في الاسلام وغيره من الملل والنحل، إلاّ المذاهب الباطلة التي أحدثتها الأيدي الجانية، وأنّه من جملة الكبائر الذي يعدّ مرتكبه خارجاً من الايمان، وقد دلَّ على هذا المعنى جملة وافرة من الأخبار الشريفة إليك منها:

ما رواه شيخنا الكليني(قدس سره) في موثقته عن علي بن ابراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبدالله(ع) الكبائر: القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وقتل النفس التي حرّم الله، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البيّنة، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف.

فقيل له: أرايت المرتكب للكبيرة يموت عليها أتخرجه من الايمان وإن عذّب بها فيكون عذابه كعذاب المشركين أو له انقطاع؟

قال: يخرج من الإسلام إذا زعم أنّها حلال، ولذلك يعذّب أشدّ العذاب وان كان معترفاً بأنّها كبيرة وهي عليه حرام وأنّه يعذّب عليها، وأنّها غير حلال فانّه معذّب عليها، وهو أهون من الأوّل، ويخرجه من الايمان ولا يخرجه من الاسلام. الى غيرها من الروايات الشريفة التي سنوافيك بها في محالّها إن شاء الله تعالى.

ص: 10

تنبيه: ولسنا هنا في مقام بيان الآثار التي تترتّب على الشخص عند فقدانه لشرط الايمان، فانّ لهذه المسألة تفاصيل عديدة لعلّنا نلتقيك بشطر منها في ثنايا البحث.

الأمر الثالث: بيان حرمة الربا بالأدلّة الأربعة:

اشارة

الأوّل: الكتاب الشريف.

الثاني: السنّة المطهّرة.

الثالث: الاجماع.

الرابع: العقل.

أمّا الكتاب الكريم: فقد أورد ذكر الربا في آيات عديدة:

فمنها: الآية التي تقدم ذكرها في الأمر الأوّل.

ومنها: قوله تعالى: (يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ).

ومنها: قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً).

ومنها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ).

ص: 11

ومنها: (الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوا إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). هذا ولو أنّ لفظ الربا ورد في القرآن الكريم في اثني عشر آية ولكننا نكتفي بهذا المقدار روما للاختصار.

الاستدلال

ويظهر من هذه الآيات الشريفة التحريم إمّا صريحاً كما في البعض كآية (لاَ تَأْكُلُوا الرّبَا) حيث ورد فيها النهي، وهو ظاهر في الحرمة، وفي بعضها الآخر ورد الأمر بترك الربا (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرّبَا) حيث انّ ظاهر هذا الأمر دالّ على لزوم ترك الربا، وهو بمعنى النهي عن الفعل، وقلنا: إنّه من الكبائر حيث أوعد الله سبحانه لمرتكبه النار. قال تعالى عقيب آية: (لاَ تَأْكُلُوا الرّبَا) (وَاتّقُوا النّارَ الّتِي أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ).

ولما هو الموجود في الآية المتقدمة على الاستدلال بالحرمة بأنّ عدم ترك الربا بمثابة الحرب على الله، ولا شكّ بأنّ الحرب ضد الله سبحانه من الكبائر، بل يمكن استفادة قاعدة كلية - بأنّ كل عمل أُوعد عليه دخول النار يعد من الكبائر - من الروايات الشريفة.

والتي منها: صحيحة علي بن محبوب قال: كتب معي بعض

ص: 12

أصحابنا الى أبي الحسن(ع) يسأله عن الكبائركم هي؟ وما هي؟ فكتب(ع): الكبائر من اجتنب ما وعد الله عليه النار كفّر عنه سيئاته إذا كان مؤمناً، والسبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف.

وصحيح محمد بن مسلم، عن أبي عبدالله(ع) قال: الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمّداً، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البيّنة، وكل ما أوجب الله عليه النار.

وحيث انّ الربا قد أوعد الله على مرتكبه النار فيدخل ضمن القاعدة فيكون من الكبائر التي تخرج صاحبها من الايمان كما تبيّن، هذا من حيث دلالة الكتاب الحرمة وأنّه من الكبائر.

وأمّا السنّة المباركة فهي كثيرة جداً:

فمنها: صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبدالله(ع) درهم رباً أشدّ من سبعين زنية كلّها بذات محرم.

ومنها: صحيحة سعيد بن يسار قال: قال أبو عبدالله(ع): درهم واحد رباً أعظم من عشرين زنية كلّها بذات محرم.

ومنها: حسنة علي بن ابراهيم - في تفسيره - عن أبيه، عن أبن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبدالله(ع) الرباسبعون باباً، أهونها

ص: 13

عندالله كالذي ينكح اُمه.

ومنها: ما روي عن حماد بن عمر، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن النبي(صلی الله علیه و آله) في وصيته لعلي(ع): يا علي الربا سبعون جزء، فأيسرها مثل أن ينكح الرجل اُمه في بيت الله الحرام.

ومنها: رواية جميل بن دراج، عن أبي عبدالله(ع) قال: درهم رباً أعظم عندالله من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت الله الحرام.

ومنها: علي بن ابراهيم في تفسيره في قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الرّبَا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ) قال: قيل للصادق(ع): قد نرى الرجل يربي وماله يكثر، فقال: يمحق الله دينه وان كان ماله يكثر.

ومنها: ما عن دعائم الاسلام، عن أبي عبدالله(ع) أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) لعن الربا وآكله وموكله وبايعه ومشتريه وكاتبه وشاهده... .

ومنها: ما عن جامع الأخبار عن النبي(صلی الله علیه و آله) أنّه قال: لعن الله عشراً: آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده والمحلّل والمحلّل ل-ه والمتواشم والموتشم ومانع الزكاة.

الى غيرها من الأخبار، وهي كثيرة في الباب، وقد دلّ ما تقدم منها على الحرمة بما لا مزيد عليه.

وأمّا الاجماع: فلا يخفى بأنّ المسألة من المسائل الاتفاقية، ولم يكن أحد منّا من خالف في ذلك، بل يمكن القول: بأنّ حرمته محل اتفاق بين الفريقين، بل إنّ الحرمة ثابتة في الشرائع الالهيّة السابقة.

ص: 14

وأما من جهة العقل: فلا يخفى - كما ذكرنا بأنّ حرمة الربا علاوة على ما ورد من الآيات والروايات من النهي الصريح عنه واتفاق جميع الأديان - بأنّ العقل أيضاً يحكم بالقبح لهذا العمل ويرى المرابي أنّه صاحب الأخلاق الرذيلة، كما في البخل والطمع في مال الغير، بل يصل المرابي الى مرتبة يكون همّه وغمّه فيها جمع الأموال فقط، ولذا نراه يتحرّك دائماً للسيطرة على ما عند الغير من الأموال حتى إيصاله الى الفقر والمسكنة.

وأخيراً فانّ هذه الصفة الرذيلة تنزّل الانسان من الذروة وتجرّده عن المزايا الحسنة والانسانيّة الكاملة الى الحضيض، وتخلّقه بالصفات البهيمية الرديئة وتصرفه عن الاتكال على الله سبحانه الى الاتكال على النفس، بل تجرده عن المروءة وأعمال الخير، بل الاستمرار على ذا العمل يقوي عنده ما تقدم من الصفات الرذيلة بحيث يمنعه دائماً ودوماً عن العمل لله سبحانه، وعلى العكس منه تماماً القرض الحسن، والتعاون في اُمور الخير، فهو من الصفات المرغوبة المحمودة بحكم العقل، وسنوافيك قريباً بجزء هام لهذا المطلب الكريم.

اشكالات على الاستدلال

قد يقال: بأنّ الانسان الذي يقرض ماله للغير يجعل ماله للخطر؛ لأنّه معرض للتلف، وعلى هذا الاساس يحق له أن يطالب بالزيادة.

ص: 15

وثانياً: فانّ المال الذي اكتسبه بالعناء والمشقّة كما أنّه يبني البيت كذلك، فمثلاً إنّ البيت الذي عنده يوجره للغير ويأخذ منه الكراء فكذلك له أن يأخذ كراء المال. اذن المعاملة الربوية تكون صحيحة ومعقولة لا تحاد الصفة في الأمرين.

وثالثاً: حينما يشتغل المدين بمال الدائن مع أنّ المال للدائن فهو إذن أحق بأخذ المنفعة ولو مقداراً منها؛ لأنّ النفع حصل بواسطة التجارة بهذا المال.

ورابعاً: إذا دُفع المال بعنون القرض ولم ينتفع منه فبمرور الزمن سوف ينفد المال ويصبح صاحبه فقيراً خصوصاً إذا لم يكن له عمل آخر.

الاجابة على الايرادات

هذه عمدة الاشكالات التي وردت على الاستدلال العقلي الحاكم بفساد المعاملة الربوية وعدم صحّتها، وسنأتيك بجملة من الردود التي تسقط الاعتماد عليها بما لا مرية في ذلك ان شاء الله تعالى، وفي ثنايا المسائل سيتضح لك حقيقة الحال في أبعاد هذه المسألة فارتقب، ولن يطول انتظارك بمشيئة الله سبحانه.

الجواب عن الايراد الأوّل: فالخطر المفروض في مقام الردّ ولو كان قد يحصل أحياناً، ولكن هذا ليس على الدوام قطعاً، خصوصاً إذا كان الشخص موثّقاً، مضافاً أنّه يمكن أخذ شيء من المدين

ص: 16

بعنوان الرهن، بل على العكس قد يكون بقاء المال عند المقرض موجباً للخطر، وفي فرض الاقراض لشخص موثّق يبقى المال عنده في أمان في صورة بقائه عنده، وعليه فالأفضل أن يدفعه إليه ليبقى أصل المال محفوظاً، هذا ولو فرض أن ماله يقع دائماً في الخطر فهل يصحّ له أن يجعل من الخطر ذريعة لكي ينال ويأخذ زيادة على أصل المال؟ ثمّ أنّه يستطيع أن يأخذ من المدين كفيلاً ضامناً لأصل المال بدلاً عن أخذ الربا - كما مرّ -.

وأمّا الجواب عن الثاني فنقول: قياس المال بالاستحقاق في الكراء من البيت قياس مع الفارق؛ لأنّ البيت يعتق ويستهلك بالاستعمال وتقل قيمته، بخلاف النقود، هذا وإنّ واقع القرض وحقيقته إنّما هو تمليك للعين نفسها في ذمة المقترض بعوض، والعوض المفروض في المثلي يكون مثلياً وفي القيمي قيمته عند القبض أو عند التصرّف على اختلاف عند الأعلام. أمّا واقع الاجارة وحقيقتها فهي ليست تمليك أصل العين، وإنّما هي تمليك لمنفعة العين المستأجرة بعوض معين للموجر، أمّا ملكية أصل العين فهي باقية على ملك مالكها، واذا كان كذلك فان جميع شؤونها وتوابعها باقيان في ملك الموجر من جهة خسرانه وتلفه - مع عدم تفريط المستأجر - ونماؤه المتصل والمنفصل وارتفاع قيمته السوقية، ولا يجوز للمستأجر التصرّف في غير المنفعة، فاذا كان أصل المال باقٍ فله أن يوجره ويطلب من

ص: 17

المستأجر الاجرة؛ لأنّه يكون عوضاً عمّا أعطاه من حق الانتفاع. أما في القرض فانّ الدائن نقل أصل المال بجميع شؤوناته وخصوصياته الى ملك المدين بعوض في عهدته، فالعين أصبحت ملكاً للمدين كما ذكرنا، فهو إنّما ينتفع بملكه لا ملك الدائن، فالمالك رفع يده عن العين المستقرضة. اذن فأي مبرّر شرعي له لكي يأخذ حصة من المال بأزاء شيء ليس له في الحقيقة؟

وأمّا الجواب عن الثالث: فجوابه كسابقه، إذ بعد كون المال قد أصبح للمدين وليس للدائن فليس له المطالبة بنفس المال، ولو كان موجوداً فله أن يدفع الى الدائن من مال آخر، فالنفع الحاصل عندئذٍ يكون للمدين؛ لأنّه قد حصل بماله الخاص.

وأمّا الجواب عن الرابع فنقول: هو خلاف لنصوص الآيات الشريفة والروايات، فاذا أقرض الله قرضاً حسناً أوّلاً: يضاعفه له. وثانياً: يحصل على الثواب العظيم حيث نجّى المضطر من الهلكة.

فذلكة البحث

لكن الحق: أنّه بعد ما عرفنا بأنّ الباري جلّ وعلا حكيم، وأنّه يجعل الأحكام على طبق المصالح والمفاسد، وأنّ حلاله حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة، وحينما نرى الشارع المقدس قد حرّم الربا فانّنا نكشف بطريق الإن أنّ فيه المفسدة، ونحن متعبّدون بأنّ كلّ ما جاء به الصادق الأمين(صلی الله علیه و آله) من قبل الله تبارك وتعالى

ص: 18

فهو حق لا بدّ أن يُتبع، فالحق أحق أن يُتبع، وعليه فلا يمكن رفع اليد عن هذه الأحكام بهذه التفلسفات والتشكيكات الواهية بعد ما ثبتت حرمة أمثال هذه الاُمور بالضرورة من الدين، والتقوّل بهذه المقالات ليس إلا إظهاراً للعلم واجتهاداً في مقابل النص. وقد ذمّهم الشارع الأقدس في الآية الشريفة: (بِأَنّهُمْ قَالُوا إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا...).

الأمر الرابع: مضار الربا في التشريع

أمّا مضار الربا في النظر القرآني والروائي فهو كثير جداً، وإليك جملة ممّا ورد فيهما:

أوّلاً: انّ أكل الربا خلاف التقوى؛ لقوله تعالى: (يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ)، وأي ضرر أفدح وأفضح من ذهاب بهاء التقوى.

وثانياً: هو محاربة لله ولرسوله، كما في الآية: (فَإِن لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) فمن أشرع سيف البغي كُسِر به، ومن حارب الله ورسوله بمحارمه خَسِر.

وثالثاً: الآكل للربا يكون كالذي يتخبّطه الشيطان فيصرعه، كما في الدعاء: «أعوذ بك أن يتخبّطني الشيطان عند الموت» أي: يمسني الشيطان بنزعاته التي تزول بها الأقدام وتصارع العقول والأحلام، ولا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلاّ كقيام المصروع والمتخبّط والمجنون، كما في الآية الشريفة: (لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي

ص: 19

يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ).

ورابعاً: إنّ آكل الربا موجب لمحق الدين، كما في قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الرّبَا) أي: يذهبه في الآخرة، حيث يُربي الصدقات أي: يكثر بيمنها.

وفي الخبر: سُئل مولانا الصادق(ع) عن قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الرّبَوا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ) وقد أرى أنّ من يأكل الربا يربو في ماله، قال(ع): وأي محق أمحق من درهم رباً يمحق الدين، فان تاب ذهب ماله وافتقر. وفي الدعاء: «طهر قلبي من كلّ افة تمحق ديني» أي: تهلكه وتفنيه.

وخامساً: ذنب الآكل للربا أعظم من الزنا بالمحارم في بيت الله الحرام - كما تقدم في الروايات - وأنّه من الكبائر، وآكله ملعون على لسان رسول الله(صلی الله علیه و آله) كما مر جملة من ذلك.

الأمر الخامس: فلسفة تحريم الربا

وبعد ما بيّنا أنّ الربا مذموم عقلاً ففلسفة تحريمه تستند على اُمور هي:

أوّلاً: عدم التمركز، وتجمّع المال عند اشخاص معدودين، وعدم توسعة الفقر والحرمان للطبقات المحرومة، وعدم خروج ما يملكونه شهريّاً من أيديهم لأجل اعطائهم للربا.

ثانياً: عدم زيادة العطلة في المجتمع، لأنّ الدين الاسلامي جعل

ص: 20

للكسب أهميّة بالغة، وبيّن أن ليس للانسان إلاّ ما تعب من أجل تحصيله قال الله تعالى: (وَأَن لّيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلّا مَا سَعَى).

وقال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ).

اذن لابدّ لكلّ انسان من السعي وراء المعيشة كما كان ذلك ديدن جميع الأنبياء والأولياء، إذ كانوا يسعون وراء المعيشة.

ثالثاً: عدم وجود الاحتكار، وجمع الدرهم والدينار المذمومين عند العقل والشرع، قال الله تعالى: (وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

وقوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لّمَزَةٍ * الّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدّدَهُ * يَحْسَبُ أَنّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلّا لَيُنبَذَنّ فِي الْحُطَمَةِ). ولذا جعل الله سبحانه اعطاء الخمس والزكاة من الاُمور الواجبة، وحث على مساعدة الفقراء زيادة على ذلك، واعطاء القرض الحسن لهم.

رابعاً: رواج التجارة، وجلب حصول الانتفاع بمقدار إمرار معاشه اليومي لا أكثر، وكرَّه الكسب بأكثر من مخارجه اليومية.

خامساً: رواج القرض الحسن، وحثّه عليه بما تقدم من الآيات والأخبار.

سادساً: بما أنّ مبنى الاسلام ذو جنبتين: العمل للدنيا والعمل للآخرة، قال الله سبحانه: (وَابْتَغِ فِيَما آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي

ص: 21

الْأَرْضِ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ) «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً» لذا حث الشارع على الجد والاجتهاد في العمل للدنيا والآخرة حتى يكسب الانسان المجد والرفعة في سعادة الدارين، وتراه لا يحب العاطل، والمرابي عاطل.

سابعاً: بما إنّ الأرض خلقها الله تعالى لكي يستفيد منها جميع الخلق؛ لقوله سبحانه: (هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) وبقوله تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) فلا بدّ للكلّ أن يستفيدوا منها مع حفظ القوانين الشرعيّة والمقرّرات الالهيّة، فللكلّ السعي وراء الاستفادة، والمرابي لا سعي له.

الأمر السادس: فلسفة التحريم من الجهة الأخلاقية

إعلم أنّ الانسان بالنسبة الى وظائفه يقسّم في علم الأخلاق الى قسمين: فتارة يتصوّر الشخص الى وظائفه الأخلاقيّة بنفسه، والاُخرى بالنسبة الى المجتمع، وكلّ واحدة من الوظيفتين تنقسم الى الجهة المثبتة والمنفية، مثلاً الجهة المثبتة للشخص هو ارتكاب بعض الأعمال، وهكذا الجهة المثبتة للشخص بالنسبة الى الآخرين، والمنفية كذلك.

فانّ الانسان لا بد له في الجهة المنفية بالنسبة الى الآخرين ترك بعض الأعمال كالربا، ومن الجهة المثبتة بالنسبة لهم فعل بعض

ص: 22

الأشياء كالقرض الحسن، فانّ أخذ الربا زيادة عن حرمته الذاتيّة، والضمان الشرعي فهو مذموم أخلاقاً، وقبيح عقلاً وعرفاً، والتاريخ يشير الى مرتكبه بقبح العمل بعد ما يرى بأنّ هذا العمل الشنيع الذي يسبّب الويل والدمار بالنسبة الى الطبقة المستضعفة ويجعلهم كالعبيد بين يدي المحتكرين بعد اعطائهم الشيء القليل، بحيث لا يكفي مصرف يومهم، وبعد استملاك دورهم وأملاكهم وإجبارهم وأولادهم على الأعمال الشاقّة، والمتخلّف من العمل يصفد بالحديد والأغلال، ولذا فانّ الشرع الشريف على أساس نشر مكارم الأخلاق وتثبيتها على غرار رسول العدل والانصاف والمحبّة والشفقة والمواساة ومعاونة أحدهم للآخر حرَّم الربا ووضع مكانه الاُمور التي هي من فواضل الأخلاق، وبيّن الأثر المنتج والمفيد لهذه الاُمور في الدارين ومنها:

أوّلاً: القرض الحسن، فانّه موجب لزيادة المال في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة كما ظهر من الآيات المتقدّمة.

ثانياً: أنّ الله جعل للمسبّب في إنجاح اُمور الآخرين وقضاء حوائجهم آثاراً وضعيّة ومعنويّة، كما ورد في الحديث عن الصادق(ع) قضاء حاجة المؤمن أفضل من ألف حجّة متقبلة بمناسكها، وعتق ألف رقبة لوجه الله، وحملان ألف فرس في سبيل الله بسرجها ولجمها.

وعنه(ع) أيضاً: قضاء حاجة المؤمن خير من عتق رقبة.

ص: 23

وفي حديث آخر: من قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له يوم القيامة مائة ألف حاجة من ذلك أوّلها الجنة.

ووردت أيضاً روايات عن النبي(صلی الله علیه و آله): من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب.

ثالثاً: حث الاسلام على الاُخوة، واصلاح ذات البين، والنصيحة للمؤمن، كما في قوله تعالى: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وفي الحديث عن رسول الله(صلی الله علیه و آله): المسلم أخُ المسلم.

وفي حديث آخر: اصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام.

وعن أبي عبدالله(ع): قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): إن أعظم الناس منزلة عندالله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه.

وعن حفص بن الأعمش قال: سمعته - أي الصادق(ع) - يقول: من سعى في حاجة أخيه المؤمن ولم ينصحه فقد خان الله ورسوله.

وانّ الله سبحانه وصف المؤمن بالعمل الصالح، ومنه اعطاء القرض الحسن ومساعدة المحتاجين، ولذا مدح الله المؤمن في الآية الشريفة بقوله: (فَأَمّا مَنْ أَعْطَى وَاتّقَى * وَصَدّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى).

ص: 24

ومدحه أيضاً في سورة العصر بقوله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصّبْرِ) ومن التواصي مساعدة الفقراء والمحتاجين.

رابعاً: الحث على الانفاق، كما في الآية الشريفة: (مَثَلُ الّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِاْئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) وقوله تعالى: (لَن تَنَالُوا البّرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْ ءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فالانسان باعطاء القرض الحسن يعطي يد المحبة والاخوة للمقترض، علاوة على الجزاء والثواب الذي يحصل عليه في الدنيا والآخرة.

اذن انّ بذر المحبّة وتسخير القلوب يكون باعطاء القرض الحسن، وبذر الشقاق والنفاق والعدواة والبغضاء يكون باعطاء الربا.

خامساً: الايثار بالنفس محبوب عندالله سبحانه، وهو من الصفات الممدوحة، بل هو اسمى درجات الكرم، ولا يتحلّى بهذه الصفة المثالية إلاّ الذين بلغوا قمّة السخاء وجادوا بالعطاء، وهم بأمسّ الحاجة إليه، آثروا بالنوال وهم في ضنك العيش، فالايثار فوق مرتبة الانفاق، والفرق بينه وبين الانفاق أنّ المنفق ليس له شديد الاحتياج بالمال، والمؤثر مع أنّه أحوج الى المال مع ذلك ينفقه للغير، ولذا نرى انّ الله تبارك و تعالى مدحه في كتابه المجيد وأشاد بفضله بقوله سبحانه: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ

ص: 25

شُحّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فالنبي(صلی الله علیه و آله) كان يؤثر نفسه المعدمين والمعوزين.

وقال الصادق(ع): كان علي(ع) أشبه الناس برسول الله(صلی الله علیه و آله) كان يأكل الخبز والزيت ويطعم الناس الخبز واللحم.

ولذا نزلت الآية: (وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً) في الخمسة اصحاب الكساء(علیهم السلام): وجاريتهم فضة، كما ذكر القصة بتفاصيلها الزمخشري في كشافه. والمرابي يعمل خلاف هذه الاُمور. اذن هو يخالف الاسلام وقوانينه ولو من حيث لا يشعر.

الأمر السابع طريقة الاقتصاد في الاسلام

اشارة

ثمّ اعلم انّ الاسلام من جهة كسب المال وحفظه وصرفه له توجه الى ثلاث مراحل، وقد أُشير في القرآن المجيد لهذه المراحل:

المرحلة الأولى: الحث على الكسب - وقد تقدم شيء من الحديث عنه - وهو مع أنّه قائل بأصل المالكيّة خلافاً للشيوعيّة - إذ أنّهم لا يقولون بالملكيّة الفردية - مع ذلك هو مخالف للرأسماليّة؛ لأنّه يقول: لا بدّ أن يكتسب المال من الطريق الحلال، ولا يجيز أن يكتسب المال عن طريق السرقة، والاغارة، والخيانة، والاغفال للغير، وأخذ الربا، وارتكاب الفحشاء، والرشوة، وبيع المسكرات، وما الى ذلك من الاُمور المحرّمة.

ص: 26

ويرى حسب المعتقد بأنّه عالم بالمصالح والمفاسد أنّه تحصيل المال من هذه الطرق مضر بحال الفرد والمجتمع، أمّا فلسفة الاقتصاد الرأسمالي فهو يرى توفير الانتاج بأي وسيلة كانت ومن أي طريق كان، ولذا تكون منافية للأديان بعد ما حدّد الاسلام الكسب من طريق خاصّ، فهو يرى انّ لكلّ فرد اشباع حاجاته على العموم والأديان وخصوصاً الاسلام يمنع حصولها من المعاملات المحرمة، فهو - أي الاقتصاد الرأسمالي - لا يرى إلاّ الاهتمام بحصول المادة، ولا يعبد إلاّ إياها، ويحصر جهود الناس في الحصول عليها، مع أنّ الأديان تراعي جوانب المادة والجوانب المعنويّة، فالاسلام يؤكد بأنّه لا بدّ أن يكسب المال من الطرق المحلّلة والمشروعة كما بيّنا، وهو حينما يؤكد على الجد والاجتهاد في العمل، ولا يحب الشخص العاطل، كما ورد عن رسول الله(صلی الله علیه و آله): «الكاد على عياله كالمجهاهد في سبيل الله» ولذا عيّن لمتابعة الكسب طرقاً خاصّة.

ونرى انّه جعل أهميّة خاصّة للزراعة والفلاحة والصنعة، فعن أنس بن مالك انّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال: إن قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة فاستطاع أن يغرسها فليفعل.

وروي في أخبار كثيرة استحباب الزرع والغرس:

منها: عن سبابة، عن أبي عبدالله(ع) قال له: جعلت فداك أسمع قوماً يقولون: إنّ الزراعة مكروهة، فقال له: ازرعوا واغرسوا، فلا والله

ص: 27

ما عمل الناس عملاً أحل ولا أطيب منه.

وعن سهل بن زياد قال: قال أبو عبدالله(ع): إنّ الله جعل أرزاق أنبيائه في الزرع والضرع كي لا يكرهوا شيئاً من قطر السماء.

وعن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابنا قال: قال أبو جعفر(ع): كان أبي يقول: خير الأعمال الحرث يزرعه فيأكل منه البر والفاجر. وغيرها من الروايات.

اذن فالاسلام مع شدة تأكيده على جانب الكسب الدنيوي راعى كذلك وأكّد على ضرورة الكسب الاُخروي، ودونك كتاب الله وروايات آل محمد(علیهم السلام) تفصح لك عن هذا المعنى.

المرحلة الثانية: حفظ الأموال، وقد يكون حفظ المال أشق من كسبه وجمعه، فالاسلام يحث على حفظه بحساب دقيق، ولا يجيز للكاسب أن يصرفه بأي شكل كان، وحدّد للصرف موارد معيّنة، كما ورد في الآيات والروايات الكثيرة، فلا يجيز صرفه في طرق الحرام كالقمار وغيره، وينهى عن التبذير بقوله تعالى: (إِنّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشّيَاطِينِ) وقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا) ومعنى ذلك: انّ هذا المال الذي اكتسبته من طريق الحلال فانّ فيه الحساب، وفي المكتسب من الحرام العقاب، وفي الشبهات عتاب، كما ورد في مضمون الحديث، فهو مع أنّه ينظر الى حصول المال وحفظه بدقة - كما مر - ينهى عن الاسراف والتبذير كما ذكر، وعن البخل

ص: 28

والاحتكار في الطعام والدرهم والدينار، كما مرت الآية: (وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وقوله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ ... وَللّهِ ِ مِيرَاثُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ).

فعلى أي حال فهو يبيّن طرق الصرف بموارد معيّنة.

المرحلة الثالثة: الاعتدال في صرف المال، فالشارع أمر بالقناعة، ولا يجيز للمسلم الاسراف في الخرج، والقناعة هي الحد الوسط بين الاسراف والبخل، والمراد من عدم القناعة هو: التبذير في النفقة والاسراف فيها وصرفها في غير ما أحل الله.

ففي مجمع البحرين قد فرّق بين التبذير والاسراف، فالتبذير هو: الانفاق فيما لا ينبغي، والاسراف هو: الصرف زيادة على ما ينبغي.

وفي الحديث القانع غني وإن جاع وعري، من قنع استراح من أهل زمانه واستطال على أقرانه، ومن قنع فقد اختار الغنى على الذل والراحة على التعباء.

وفي الحديث: القناعة كنز لا ينفد.

وفي حديث آخر: خير الغنى القنوع.

وفي حديث: عز من قنع وذل من طمع.

تنبيه

ص: 29

وقد بيّنا طريقة الاقتصاد والصرف في الاسلام لكي ينتبه المسلم الى الطرق المحمودة التي أكّد عليها الدين، وليجتنب الطرق المذمومة التي قد نهى عنها لكي لا يبتلي بمسألة تضر بدينه ودنياه كمسألة الربا، والتي لها آثار فتّاكة ووخيمة على الفرد والمجتمع، كما سيتجلّى ذلك في البحث القادم.

الأمر الثامن: الآثار الوضعية للربا

لا يخفى على الخبير بأنّ لكلّ شيء من المحرّمات وغيرها آثار وضعيّة على الفرد أصالة وعلى المجتمع تبعاً، فالأثر الوضعي في شرب الخمر هو السكر، ومخلّفاته على الشارب واُسرته ومجتمعه، وما يؤثّر في بدنه من المضار البدنيّة والروحيّة. وأثر القمار الفقر والمسكنة ونتائجها الوخيمة، فقد كاد الفقر أن يكون كفراً. وأثر العلم هو انكشاف حقائق الأشياء والاجتناب عن الرذائل والخوف من الله سبحانه. وأمّا آثار الربا - مسألة البحث - فتأثيره في الدماغ والأخلاق، وهذا قد يكون مؤثّراً في بيته، بل في المجتمع كلّه، بعد ما عرفنا من ارتباط الأشخاص بعضهم مع البعض الآخر. وأمّا آثاره بالنسبة الى شخص المرابي فهو على النحو التالي:

الأوّل: كثرة الشوق والعلاقة الحميمة بالدرهم والدينار وجمعهما عن طريق المرابحة المحرمّة، وهذا الشوق الأكيد قد يسبّب له نوع من الجنون، فليس ل-ه أي فكر آخر سوى أخذ الربح ومحاسبة الدرهم

ص: 30

والدينار ويجعل نفسه خادماً لهما بدلاً من جعلهما خادمين له.

الثاني: المرابي من جهة كثرة محبّته للمال يصبح بخيلاًَ لا إنصاف له في معاملاته، ولا يقدر مع هذه الحالة ألاّ يأخذ الربح ولو كان المقترض في أشد الأحوال من الفقر؛ لأنّه كأن الله قد سلب الرحمة من قلبه، وليس عمله في الأغلب إلاّ المفاخرة بالمال مع بني نوعه، كما نبّه على ذلك القرآن الكريم بقوله: (أَلْهَاكُمُ التّكَاثُرُ * حَتّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ). أي شغلتكم المفاخرة بكثرة المال والعدد والولد عن طاعة الله وذكره حتى فاجأكم الموت.

الثالث: فليس ل-ه - أي المرابي - أي احسان وأي بذل في سبيل الله سبحانه، ولو طولب منه شيء يعتذر باُمور واهية وحيل باطلة حتّى لا يدفع المبلغ؛ لأنّه بعد حرصه على المال فكأن الدراهم الموجودة عنده مرتبطة مع قلبه ارتباطاً وثيقاً بحيث هو حاضر أن يبذل روحه دون ماله، وقد أشار القرآن الى ذلك بقوله: (وَمَن يَبْخَلْ فَإِنّمَا يَبْخَلُ عَن نَفْسِهِ...).

قال في مجمع البيان مفسراً لهذه الآية بقوله: لأنّه يحرمها مثوبة جسيمة ويلزمها عقوبة عظيمة، وهذه اشارة الى أنّ معطي المال أحوج إليه من الفقير الآخذ فبخله على نفسه وذلك أشد من البخل انتهى. واضر كما أشارت اليه الآية أيضاً (وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ...).

ص: 31

الرابع: هو بنفسه لا يستفيد من ماله غالباً؛ لأنّه يتصوّر أنّ الدينار الذي يريد أن يصرفه على عياله ربحه كذا مبلغ في كلّ شهر، وهذا الفكر يمنعه من الاستفادة والتمتع بماله.

الخامس: معاشرته مع أهل بيته تكون سيئة غالباً؛ لأنّ بخله وخسة نفسه تكونان سبباً في عدم صرفه على عائلته، وتصبح العائلة حينئذٍ في ضيق من جهة المعيشة، وهو يعمل خلافاً لما أمر الله تعالى بالتوسعة على عياله، كما ورد في الحديث: «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله» وفي حديث آخر: «ملعون ملعون من يضيع من يعول».

السادس: وهو قلّما يكون في فكر يوم الجزاء والحساب؛ لأنّ محاسبته الدرهم والدينار وكثرة شوقه في جمعهما والحرص على حفظهما لم يدع له مجالاً في أمر آخرته، وقد مر التنبيه عليه في قوله: (أَلْهَاكُمُ التّكَاثُرُ).

السابع: يكون مسيره غالباً على خلاف مسير المحسنين، ويرى أنّ السعي في الاُمور الخيريّة وصرف الأموال فيها - التي تكون مرضية لله تبارك وتعالى - حمق وسفه، وقد يصل الى مرتبة يصبح منكراً للآيات والروايات ويتبع قارون في مبارزته لكليم الله موسى(ع) وذلك لأنّ هذا الحرص قد أعمى قلبه: (وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلّ سَبِيلاً). أي فمن كان في هذه الدنيا أعمى

ص: 32

القلب عن الحق فهو أشد عماً في الآخرة لا يرى طريق النجاة، وأضل طريقاً من الأعمى. وفي الحديث «حبّك للشيء يعمي ويصم».

الثامن: وهو غالباً لا يدفع الحقوق الشرعيّة كالخمس والزكاة والمظالم، بل قد ينكرها ويصبح في عداد المرتدين نتيجة طمعه وجشعه.

التاسع: وهو من المغضوب عليهم في نظر الله والرسول، ويكون منفوراً عند المجتمع، بل هو مع عمله هذا قد أذن بحرب ضد الله ورسوله، كما سبقت الاشارة إليه.

العاشرة: كما أنّ المرابي لا يتمتّع هو بماله كذلك أولاده، فهم بعد مدة يشملهم الفقر، وما تركه لهم من مال ينفد، كما ورد في الحديث: «درهم حلال خير من ألف درهم حرام». وفي حديث آخر: عن أبي عبدالله(ع) قال: كسب الحرام يبيّن في الذرية.

الحادي عشر: هو لا يوفق في الغالب في صرف ماله في موارد تكون محبوبة عندالله التي لا بدّ أن يصرف فيها المال كالحج.

الثاني عشر: قد مرّ بأنّ المرابي في يوم القيامة لا يقوم إلاّ كالمصروع الذي يتخبّطه الشيطان.

الثالث عشر: وهو لا يرغب غالباً في التجارة وكسب المال الحلال، ولا يقنع غالباً بالقليل من النفع، وقد يرى أنّ جمع الأموال عنده كان بواسطة إطلاعه ومهارته على الكسب، كما كان قارون

ص: 33

يقول: (إِنَّمَا أُوتِيتهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) فهو يتكل غالباً على النفس لا على الله عزوجل.

الرابع عشر: وهو غالباً يكون عاطلاً وحيّالاً ومكاراً.

الخامس عشر: المرابي آكل لمال الغير بالباطل وقد نهت الشريعة عن ذلك.

السادس عشر: المرابي لا تشمله الفيوضات الربانية.

السابع عشر: وهو عقلاً مذموم؛ لأنّ العمل الربوي يكون خلافاً للمصالح الفرديّة والإجتماعية كما مرّ.

الثامن عشر: معصية الشخص المرابي تكون أعظم من الزنا بالمحارم في الكعبة المعظمة، كما مر سابقاً.

التاسع عشر: المعاملة الربويّة تكون مثل البيع ولكن ليست بالبيع؛ لأنّ البيع حلال والربا حرام.

هذه أهم الآثار الوضعية بالنسبة الى المرابي، وأمّا الآثار السيئة بالنسبة الى المقترض فانّ المقترض مجبور بدفع مبلغ من عائده مع الاحتياج إليه، وهذا يكون سبباً لضيق المعيشة وجلب المأساة على نفسه وعائلته، بل يبقى دائماً فقيراً يمد يده الى المرابي أو أشخاص آخرين، هذا أوّلا، وأمّا ثانياً: فالمقترض لهذا المال يكون مروّجاً للباطل، يروّج سوق المرابي، بل يكون سبباً للزيادة في عددهم.

الأمر التاسع: نتائج المعاملة الربويّة

ص: 34

وأمّا الآثار الحقوقية للربا في الاسلام فهي بطلان المعاملة الربويّة، وفساد المعاملات المربوطة بها، والآثار المترتّبة عليها، فمثلاً بعدما فرضنا حرمة الربا يكون النفع والزيادة ملكاً للمعطي لا المرابي، والناتج الحاصل من هذا النفع أيضاً شرعاً يكون متعلّقاً بالمالك، ولو باع المرابي النفع فلا يترتّب عليه آثار الملكية؛ لأنّه باع مال الغير بدون رضاه وإذنه.

ص: 35

الربا في فصول

الفصل الأوّل: الربا على قسمين

الأوّل: الأخذ بالزيادة بالمكيل والموزون المثليين، سواء كان في جانب العوض أو المعوض، أو في الثمن أو المثمن، بلا فرق بين أن تكون المعاملة فعليّة أو وقعت نسيئة، فلو فرض أنّ شخصاً أعطى منّاً من الحنطة بمنٍّ منها مع إعطاء كيلو من السكر أو عاوضه المنُّ بمنّين، فهذه معاملة ربوية.

الثاني: اعطاء القرض بعنوان المرابحة، كما إذا أقرض شخصاً مائة دينار بمائة وعشرة خلال شهر مثلاً.

ففي المسالك: أنّ ألربا هو بيع أحد المتماثلين المقدّرين بالكيل والوزن في عهد صاحب الشرع، أو العادة مع زيادة في أحدهما حقيقة، أو حكماً، أو اِقتراض أحدهما مع الزيادة.

والزيادة تكون على قسمين: عينية أو حكمية، كبيع أحد المتجانسين بمساويه قدراً نسيئة.

ص: 36

وروى العامّة عن ابن عباس بانّها - أي الزيادة - مختصة بالنسيئة، وكان يقول: لا ربا إلاّ في النسيئة، ويجوز الربا بالنقد.

ولعلّ نظره فيما ذهب إليه عموم صحّة البيع المتناول لبيع الدرهم بالدرهمين نقداً، وعدم تحريم الآية لمثله، فانّه إنّما ينصرف الى العقد المخصوص الذي كان هو المعروف بينهم.

وقد روي عن كنز العمال: «إنّما الربا في النسيئة».

ويدلّ على ذلك ما ورد عن النبي(صلی الله علیه و آله): «لا ربا فيما كان يداً بيد».

ولكن هذا القول منه يتعارض والأخبار المتظافرة بعموم حرمة الربا في النقد والنسيئة، ولذا فقد روي أنّه - أي ابن عباس - قد رجع عن قوله السابق وحكم بتحريم الربا مطلقاً.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد بالمثلين ما يكون في نظر العرف، وقد يرى الشرع الأقدس بعض الأشياء مثليّاً كالحنطة والشعير ولحم الشاة والمعز والبقر والجاموس، ففي الموارد التي عيَّن فيها الشارع المثليّة لا بدّ من إتباعها، وفي غيرها لا بدّ من مراجعة العرف.

مسألة: ثمّ انّه هل الفاسد هو الزيادة أم أنّ الفاسد هو نفس المعاملة؟

قد يقال: بأنّ الفاسد إنّما هو الزيادة؛ لأنّها هي محل النهي، إذ البيع الربوي هو المشتمل على الزيادة، ويمكن استفادة ذلك ممّا ذكره

ص: 37

الامام الرضا(ع) في بيان علّة حرمة الربا، والرواية عن محمد بن سنان انّ علي بن موسى الرضا(ع) كُتِبَ إليه فيما كُتب من جواب مسائله: وعلّة تحريم الربا لما نهى الله عزوجل عنه، ولما فيه من فساد الأموال؛ لأنّ الانسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً، فبيع الربا وشراؤه وكس على كل حال... .

فيظهر من هذه الرواية أنّ الباطل إنّما هو ثمن الآخر، وهو الزيادة التي تكون باطلة. ونسب هذا القول في الجواهر الى حواشي الشهيد وآيات المقداد وجامع المقاصد: بأنّ الربا شرعاً هو زيادة أحد العوضين، وكذا في فقه القرآن للراوندي: بأنّ أصل الربا الزيادة.

اذن الربا هو الزيادة على رأس المال، بناء على هذا القول من جنسه أو مماثله أو غير ذلك، فتكون أصل المعاملة صحيحة، وانّما يختص الفساد في الزيادة فقط؛ لأنّ النهي انّما ورد عليها، فبيع منّين بمنٍّ واحد كبيع ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه بعقد واحد الذي يصح بالنسبة الى الأوّل دون الثاني، كبيع شاة وخنزير، أو بيع كتابي مع كتاب الغير بعقد واحد فضولياً بالنسبة الى الثاني في فرض عدم رضا صاحبه بعد ذلك، فهذا البيع صحيح في الأوّل دون الثاني، ولو كان المشتري جاهلاً فله الخيار في فسخ أصل هذا البيع.

ولكن في نفس الجواهر أيضاً نسب فساد أصل المعاملة الى

ص: 38

ظاهر الأصحاب بقوله: mلكن لا يخفى أنّ ظاهر الأصحاب وجملة من النصوص تحريم نفس المعاملة وما يحصل بها، فما يأخذه من الغريم من رأس المال والزيادة حرام وكذا ما يعطيه، وعن مجمع البيان معنى (وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا) أحل البيع الذي لا ربا فيه وحرَّم البيع الذي فيه الربا، فيمكن كون النهي هنا كالنهي عن بيع الملامسة والمنابذة ممّا لا اشكال عندنا في اقتضائه الفساد، وانّه ليس كالنهي عن البيع وقت النداء، أو يرجع الى النهي عن نفسي العوض والمعوّض وهو لا ريب في إقتضائه الفساد. انتهى.

ولعلّ نظره الشريف استناداً الى ما ورد من الروايات - كرواية محمد بن علي بن الحسين باسناده، عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق(ع)، عن آبائه في مناهي النبي(صلی الله علیه و آله): أنّه (صلی الله علیه و آله) نهى عن أكل الربا وشهادة الزور وكتابة الربا، وقال: لعن الله آكل الربا ومؤاكله وكاتبه وشاهديه - حيث قال (قدس سره): انّه ليس كالنهي وقت النداء، واستشهد بقول الطبرسي في بيان قوله تعالى: (وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا) أي أحل الله البيع الذي لا ربا فيه وحرم البيع الذي فيه الربا، كما ذكرنا نص كلامه.

ولكن يمكن الجواب عن هذا: بأنّ لعن البائع لا يدلّ على كون المحرم هو نفس المعاملة.

وقد يستدّل كذلك على حرمة أصل المعاملة بالرواية التي يسأل

ص: 39

فيها عن معاملة ليست ربوية فيقول: لا بأس، فانّ معناه وجود البأس في المعاملة الربوية. وهي رواية محمد بن يحيى وغيره، عن محمد بن أحمد، عن أيوب بن نوح، عن العباس بن عامر، عن داود بن الحصين، عن منصور قال: سألته (ع) عن الشاة بالشاتين والبيضة بالبيضتين، قال: لا بأس، ما لم يكن كيلاً أو وزناً.

ولكن الرواية أوّلاً مضمرة، وثانياً مع ذلك لم يعلم من قوله (ع): «لا بأس» أنّه يرجع الى أصل المعاملة، بل يمكن أن يرجع البأس الى الزيادة فتكون النتيجة أنّ الزيادة هي التي تكون فيها البأس لا أصل المعاملة.

إذن لا بدّ للقول بفساد أصل المعاملة من الرجوع الى دليل آخر، وقد عرفت أنّ الأصحاب وكذا الشافعية قائلون ببطلان أصل المعاملة، خلافاً لمذهب أبي حنيفة الذي يقول: بصحة أصل المعاملة والبطلان في الزيادة.

ولكن يمكن القول: أنّ الزيادة قد تدخل في المعاملة على نحو الجزء، واُخرى على نحو الشرط، ففي الصورة الاُولى يقال: بفساد العقد كما في الجواهر. من جهة تبعية العقود للقصود، فانّ البائع والمشتري إنّما بذل المثل مقابل المثلين، فان لم يتم بطل العقد، وليس كبيع الشاة والخنزير، فانّ الذي يبطل في هذا المورد إنّما هو ما قابل الخنزير، وأمّا الآخر فيبقى بما قابله منه فلا يبطل، أمّا هنا فالبطلان

ص: 40

في الزيادة يكون بلا مقابل.

ووصف الجودة وغيرها لا يقابل عرفاً بالمال، وإنّما يوجب زيادة في القيمة، وهو أمر غير مقصود للمتعاملين، فلو صحّ العقد معناه وقع مالم يقصد وما قصد لم يقع، بل يمكن القول: بفساد أصل المعاملة أيضاً بأنّه حينما يبيع منّاً من الحنطة بمنّين فالزيادة هنا ليست متميّزة عن رأس المال، حيث كان كلّ حبّة قد قابلت حبتين فتبطل المعاملة من أساسها، وأمّا إذا كانت الزيادة خارجة عن أحمد العوضين كما إذا كان شرطاً فقد يقال: بالصحة؛ لأنّ بطلان الشرط لا يقتضي بطلان المشروط.

لكن الحق: أنّه يمكن القول: بفساد المعاملة هنا أيضاً إذا كان الشرط يتحقّق منه عنوان الزيادة في الربويين، ولذا كان اشتراط الأجل لأحد المتعاوضين رباً حكمياً.

ويمكن التأييد بخبر خالد بن الحجاج قال: سألته عن الرجل كانت لي عليه مائة درهم عدداً قضانيها مائة وزناً؟ قال: لا بأس به ما لم يشترط، قال: وقال: جاء الربا من قبل الشروط إنّما يفسده الشروط.

هذا ولو أن يحيي بن خالد وخالد بن الحجاج ثقتان ولكن الرواية مضمرة، فلا يمكن الاستدلال بها. نعم لا بأس بالاتيان بها من باب التأييد.

ثمّ إنّه لا يمكن القول بعدم فساد أصل المعاملة وفساد الشرط

ص: 41

فقط؛ لأنّ الشرط الفاسد يكون على قسمين: فتارة يكون وجوده مخلاًّ بشرائط صحّة المعاملة، واُخرى لا يكون كذلك، ففي الصورة الاُولى أصل المعاملة باطل، ولا تشملها أصالة الصحّة كمثل مقام ما نحن فيه، فعدم الصحّة والبطلان يشملان المعاملة بأكملها؛ لأنّ الشرط الذي اشترط هنا يخل بشرائط الصحّة؛ لأنّ من شرائطها التماثل، وهو لا يحصل مع الشرط.

إذن فأصل المعاملة باطل، ولا تشمله أصالة الصحة، نعم اذا باع شيئاً بشرط أن يخيط له عباءة ولم يعيّن نوعها ولا المدة في خياطتها فهذا الشرط يكون فاسداً، إلاّ أنّ أصل العقد ليس منهياً عنه فتشمله اطلاقات صحّة البيع. وأمّا إذا باعه شيئاً معيّناً بشرط أن يسلّمه المبيع الى مدة غير معيّنة فهذا الشرط يكون مفسداً لأصل البيع؛ لأنّه يوجب غرراً بالمبيع فيكون باطلاً - أي أصل المعاملة - لأنّه لا يشمله اطلاقات الصحّة، ومقامنا من قبيل الثاني دون الأوّل، فلا تشمله القاعدة بأنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للبيع أولا؟

وبعبارة اُخرى: إنّما نحن فيه من البأس هو المعاملة الربوية، وهي تباين المثل بالمثل؛ لأنّ المعاملة الربوية لا بدّ أن تكون فيها الزيادة.

اذن فإذا وجد المثل بالمثل الذي هو معاملة صحيحة وليست بربوية فلا توجد الاولى وهي الربوية، وإن وجدت فهي مباينة للثاني وهو المثل بالمثل، فبمجرد وقوع بيع المثل بالمثلين - أي منّاً بمنّين -

ص: 42

يأتي الفساد. وفي الشرط بما أنّه مضر بشرائط الصحّة ومخلّ بها فلا تقع هذه المعاملة المشروطة تحت القاعدة وهي: هل انّ الشرط الفاسد مفسد أم لا؟ بعدما أزال الشرط الفاسد ركناً من أركان الصحّة وسرى في أصل المعاملة. اذن فأصل المعاملة باطل.

وقد يفرق بين الجزء والشرط، فقيل: ولو أنّ المعاوضة الربوية محرمة، ولكن في بعض الموارد أصل البيع يكون باطلاً، وهو ما إذا كانت الزيادة فيه مالية.

أمّا في الصورة التي تكون فيها الزيادة عبارة عن شرط العمل فنفس الشرط يكون باطلاً دون المشروط.

إذن فأصل المعاملة تكون صحيحة، ففي الأوّل نفس المعاملة تكون باطلة؛ لأنّ بيع منٍّ بمنّين ليس ممّا أمضاه الشارع، وما لم يمضه الشارع فهو باطل؛ لأنّ ما هو محل إمضائه إنّما هو بيع منٍّ بمنّ، وأمّا غيره - وهو بيع منٍّ بمنّين - باطل؛ لعدم إمضاء الشارع كما ذكرنا.

وأمّا في الصورة الثانية فنفس الزيادة تكون باطلة لا أصل المعاملة، وذلك لأنّه لم يمكن قياس العمل المشروط هنا كالعمل المشروط في باب الاجارة؛ ففي بابها وبعد وقوعها على العمل فالمؤجر يملك العمل في ذمة الأجير، أمّا العمل المشروط في باب المعاملات ليس كذلك، فهو ليس تمليك للعمل، بل هو إلتزام

ص: 43

المشروط عليه بالعمل.

اذن هنا وقع العقد والتمليك بين المتماثلين، غاية الأمر إنَّ أحدهما ملتزم بالخياطة مثلاً.

اذن ليس البطلان هنا في أصل البيع، بل في الزيادة، فالملتزم بالخياطة الذي التزمها بواسطة الشرط هو الزيادة، فهو الذي لا يجوز انشاؤه؛ لانّه هو حرام بنفسه، والشرط فاسد فقط دون المشروط.

وقد يجاب عن هذا بأنّ عدم المماثلة - حيث نهى الشارع عنها - حاصلة، كما ورد في الخبر في صحيحة عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال: قلت لأبي عبدالله(ع): أيجوز قفيزٌ من حنطة بقفيزين من شعير؟ فقال(ع): لا يجوز إلا مثلاً بمثل، ثمّ قال: إنّ الشعير من الحنطة.

وكذا عن أبي بصير وغيره، عن أبي عبدالله(ع) أيضاً: الحنطة والشعير رأس برأس لا يُزاد واحد منها على الآخر.

فهنا يرى العرف عدم المماثلة مع وجود زيادة، كما لا يرى المماثلة إذا كانت الزيادة حكمية، اللهم إلاّ أن يقال: بأنّ العرف يفرق بين الشرط بزيادة كيلوين والشرط إذا كان عملاً، ففي الأوّل لا يوجد التماثل قطعاً دون الثاني.

ولكن الحق: انّ في كلا القسمين الزيادة موجودة ولم يقع التماثل.

اذن فأصل المعاملة يكون باطل.

وكذا ما قيل: أنّ الذي يكون موجباً للبطلان هو ما إذا ما ورد

ص: 44

النهي عن المعاملة بمعناها المسببي: وهو الذي يكون مبغوضاً عند الشارع كتمليك أعداء الاسلام، فانّ أصل وصول السلاح يكون مبغوضاً عند الشارع بأي طريق من الطرق، سواءً كان بالبيع أو الهبة أو المصالحة أو ...

إذن لا يكون أصل الانشاء مبغوضاً، فاذا كان كذلك فالمعاملة تكون باطلة، أمّا في الربا فبما أنّ المعاملة بمعناها المسببي ليست مبغوضة ولا تكون المبغوضيّة بملكيّة المشتري للعشرة تجاه التسعة بأي طريق حصل، ولذا فلو وهبه الزيادة لم تكن رباً ومحرماً ومبغوضاً للشارع. فيظهر مما ذكرنا أنّ المبغوضية إنّما هي منشأها الملكية بمعناها السببي لا المسببي، فلا يكون النهي مقتض للفساد.

ولكن قد عرفت أنّ المسببي يكون مبغوضاً في البيع حسبما هو النظر في الآيات والروايات ولو لم تكن المبغوضية على نحو الاطلاق.

ثمّ انّ بطلان البيع لعدم حصول شرط من شروطه وركن من أركانه - وهو التساوي في القدر - فلا تشمله اطلاقات صحّة البيع.

إذن أصل البيع يكون فاسداً؛ لأنّ التراضي وقع على وجه غير مشروع، فلا يكون صحيحاً من أصله، ومقتضى التحريم كونه باطلاً فيجب دفعه الى مالكه؛ لأنّه مال لم ينتقل الى الآخذ بوجه من الوجوه؛ لأنّ الذي هو مسلّم الانتقال هو العقد الخالي من الربا وهنا

ص: 45

العقد مشكوك الانتقال والأصل قاضٍ بعدم حصول الانتقال والملكيّة.

إن قلت: إنّ عموم وجوب الوفاء بالعقود يشمله.

ففيه: انّنا لا نسلّم تناوله لمثل هذا العقد.

ثمّ هل الحرمة مختصة بالبيع أم تشمل سائر المعاملات؟

قد يقال: بأنّ الحرمة مختصة بالبيع؛ لأنّه جل وعلا نهى في الآية عن البيع الربوي ردّاً على ما قالوا: (إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا) حيث قاسوا البيع الخالي من الربا بالبيع المشتمل عليه، فخصصت الآية التحريم بالبيع.

إذن لا يكون التحريم شاملاً لسائر المعاملات، ولم يأت دليل على حرمتها.

ولكن الحق: أنّه خلاف مذهب الأكثر، خصوصاً والعلّة الموجودة في الروايات بأنّه تفويت لاصطناع المعروف، وهذه العلّة تشمل جميع المعاملات.

إذن ما ورد في الآية من ذكر التجارة إنّما اُريد به مطلق المعاملة، وذكر التجارة من جهة أنّ أكثر المعاملات كانت بالتجارة، وأكثر أبواب الرزق متعلّقة بها.

ص: 46

الفصل الثاني: في شروط المعاملة الربوية

اشارة

إنّ الأموال التي تدخل تحت الربا المعاوضي لا بدّ فيها من شروط ثلاث:

الأوّل: المثليّة في البدلين.

الثاني: الكيل والوزن.

الثالث: الزيادة، بلا فرق بين الحقيقية أو الحكميّة.

أمّا الأوّل - وهو اشتراط المثلية -: فقد ورد فيه روايات كثيرة جملة منها صحاح:

منها: عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله قال: سُئل عن الرجل يبيع الرجل الطعام الأكرار فلا يكون عنده ما يتم له باعه فيقول له: خذ مني مكان كلّ قفيز حنطة قفيزين من شعير حتى تستوفي ما نقص من الكيل؟ قال(ع): لا يصلح؛ لأنّ أصل الشعير من الحنطة، لكن يردُّ عليه الدراهم بحساب ما ينقص من الكيل.

ومنها: عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال: قلت لأبي عبدالله(ع): أيجوز قفيز من حنطة بقفيزين من شعير؟ فقال(ع): لا يجوز إلا مثلاً بمثل، ثم قال: إنّ الشعير من الحنطه.

فانّ سهل بن زياد - الذي في السند - ولو كان فيه كلام ولكن طريق الشيخ الى أحمد بن محمد صحيح.

ص: 47

ومنها: عن سيف التمار قال: قلت لأبي بصير: أحب أن تسأل أبا عبدالله(ع) عن رجل استبدل قوصرتين فيهما بسرٌ مطبوخ بقوصرة فيها تمر مشقق، قال: فسأله أبو بصير عن ذلك، فقال(ع): هذا مكروه، فقال أبو بصير: ولم يكره؟ فقال: إنّ علي بن أبي طالب(ع) كان يكره أن يستبدل وسقاً من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر؛ لأنّ تمر المدينة أدونهما، ولم يكن علي(ع) يكره الحلال.

ولو أنّ في سيف التمار كلام، ولكن الشيخ رواه باسناده عن حسن بن محبوب من دون ذكر «لأن تمر المدينة أدونهما» وطريق الشيخ الى حسن بن محبوب صحيح.

ومنها: عن أبي بصير وغيره، عن أبي عبدالله(ع) قال: الحنطة والشعير رأساً برأس لا يزاد واحد منها على الآخر.

ومنها: عن الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: لا يباع مختومان من شعير بمختوم من حنطة، ولا يباع إلاّ مثلاً بمثل، والتمر مثل ذلك.

وعن الحلبي أيضاً عنه(ع) قال: الفضة بالفضة مثلاً بمثل ليس فيه زيادة ولا نقصان، الزائد والمستزيد في النار.

بيان معنى المثليّة

ثمّ انّه لا بدّ من بيان معنى المثليّة، وهل يمكن جعل قاعدة وضابطة لها أم لا؟ مع اختلاف الروايات حيث يدلّ بعضها بمفهومه

ص: 48

على إتحاد الجنس، كما عن دعائم الاسلام بما رواه عن أبي عبدالله(ع) أنّه قال: الحنطة والشعير شيء واحد، ولا يجوز التفاضل بينهما.

وفي بعضها يدلّ بمنطوقه بذلك.

منها: رواية منصور بن حازم، عن أبي عبدالله(ع) قال: سألته عن البيضة بالبيضتين، قال: لا بأس به، والثوب بالثوبين؟ قال لا بأس، والفرس بالفرسين؟ قال: لا بأس، قال: كل شيء يكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كان من جنس واحد، وإذا كان لا يكال ولا يوزن فلا بأس اثنين بواحد.

وقسم منها تدلّ على اتحاد الصنفين بالمفهوم، فعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله(ع) عن الثوبين الرديئين بالثوب المرتفع والبعير بالبعيرين والدابة بالدابتين، فقال(ع): كره علي(ع) ونحن نكرهه، إلاّ أن يختلف الصنفان.

ومنها: الروايات الاُخرى الدالّة على كون أحدهما أصلاً للآخر، أو فرعين لأصل واحد.

فمنها: ما تقدم من رواية هشام بن سالم؛ لأنّ أصل الشعير من الحنطة، وكما مرَّ من رواية الحلبي «لا يباع مختومان من شعير بمختوم من حنطة».

قال في الجواهر: بأنّه قد صرّح غير واحد بأنّ المراد بالمثل في

ص: 49

النص والفتوى الحقيقة النوعيّة المسماة في المنطق «النوع» وفي العرف «الجنس» ثمّ ذكر بأنّه اعترف في جامع المقاصد: أنّ ذلك يعسر الوقوف عليه، بل في مجمع البرهان: أنّه متعسّر، وقيل: إنّه متعذّر ضرورة صعوبة الوصول الى معرفة الذاتيات، ولذا في الشرائع جعل الضابط كلّ مسميين يتناولهما لفظ خاص كالحنطة بمثلها، والأرز بمثله، كلفظ الحنطة الشامل للجيّد والرديء والصفراء والحمراء، والتمر الشامل للزاهدي وغيره من أصناف التمر.

إن قلت: بأنّ لفظ الحنطة والشعير يجري فيهما الربا مع أنّهما مختلفين من جهة الجنس واللفظ.

قلنا: إنّ ذلك لدليل خاصّ، كما أنّه ورد جريان الربا اذا كان هناك فرعان مختلفا الاسم وان كان أصلهما واحد، وقد عُلل في بعض الروايات بأنّ أصل الحنطة والشعير واحد، ولكن هذا استثناء من القاعدة، ولا يمكن استفادة قاعدة كليّة بأنّ كلّ شيئين يكونان من أصل واحد ففيه الربا؛ لأنّه كما قيل: إنّ جميع الأشياء الممكنة أصلها واحد، وبما أنّ أصل الأشياء لا يمكن الاطلاع عليه غالباً فلا يمكن أن تجعل هذه العلّة - لأنّهما من أصل واحد - من العلل التي يدور الحكم مدارها.

اذن انّ القاعدة الأوليّة هي دوران الحكم مدار الأسماء واتحاد الجنس عرفاً، ولكن استثني من ذلك وجود الربا بين الحنطة والشعير

ص: 50

من باب التوسعة في الموضوع، وهو أمر تعبدي نأخذ به في مورده الخاصّ، وممّا ذكرنا عرفت بأنّ قوله(ع): «أنّ أصلهما واحد» ليس بعلّة بل هي حكمة.

وكذا استثني من القاعدة وجود الربا بين الفرع والأصل، وبين فرعين لأصل واحد من باب التوسعة أيضاً في مواردها الخاصة - ولا يمكن ان نأخذها على نحو القاعدة الكليّة - كالحنطة بالدقيق، والبر بالسويق، والسويق بالدقيق، وفي غير ما نصّ عليه نرجع الى القاعدة، وهو جواز التفاضل مع اختلاف الجنس عرفاً والاسم.

وأمّا الثاني: فمن شروط الربا أن يكون مكيلاً أو موزوناً، بلا فرق بين أن يكون مطعوماً أم لا، خلافاً للعامة، حيث جعلوا علّة التحريم الطعم وقاسوا المطعومات على البر وأمثاله ممّا ثبت فيه الربا عندنا اجماعاً، لعلّة المطعومات، ونحن لا نقول بمقالتهم بعد أن قلنا: ببطلان القياس في علم الاُصول، فلا ربا في المعدود إلاّ عند البعض، وقد اُدعي عليه الاجماع. ولكن هذه الاجماعات لا يمكن الاعتماد عليها؛ لأنّها محتملة المدركيّة.

إذن لابدّ من مراجعة النصوص، حيث اُدعي الاستفاضة فيها، فاليك منها:

عن محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن فضال، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا

ص: 51

عبدالله(ع) يقول: لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن.

وعن زرارة، عن أبي عبدالله(ع) قال: لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن.

وعن الحلبي عنه(ع) قال: لا بأس بمعاوضة المتاع ما لم يكن كيلاً ولا وزناً.

وأمّا الثالث - وهو الركن الثالث من أركان تحقق الربا - : فقد صرّحت بحرمتها الروايات المذكورة في المكيل والموزون، كما مرّ ذلك في رواية منصور بن حازم، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(ع) قال: الحنطة والشعير رأساً برأس، ولا يزاد واحد منهما على الآخر.

ويمكن استفادة حرمة الزيادة بمفهوم الروايات الواردة في أنّه إذا كان سواء فلا بأس، وهي ما ورد عن سماعة قال: سألته عن الحنطة والشعير، فقال: إذا كانا سواء فلا بأس.

وهذه الرواية موثقة؛ لأنّه من البعيد أن يسأل سماعة عن غير الامام(ع) إذن فهي ليست بمضمرة، ويمكن الاستفادة أيضاً من الروايات التي ذكرت فيها المثليّة وهي مطلقة، فالمثلية كما تشترط في اتحاد النوع فكذلك في القدر.

منها: رواية محمد بن مسلم وزرارة، عن أبي جعفر(ع) قال: الحنطة بالدقيق مثلاً بمثل، والسويق بالسويق مثلاً بمثل، والشعير بالحنطة مثلاً بمثل لا بأس.

ص: 52

وكذا لا تجوز الزيادة الحكميّة، فلا يجوز بيع قفيز من الحنطة الرديئة بقفيز من الحنطة الجيّدة، وذلك لاُمور:

الأوّل: الاجماع، ولكننا قد ذكرنا حال المنقول منه، نعم المحصّل منه حجة، ولكن في ثبوته اشكال لمن راجع حكايته.

الثاني: العرف فهو لا يرى التساوي بين الرديئة والجيّدة.

الثالث: الرواية الواردة كما عن الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: الفضة بالفضة مثلاً بمثل ليس فيه زيادة ولا نقصان، والزائد والمستزيد في النار. وفي رواية الصدوق عليه الرحمة باسناده عن حماد مثلها، إلاّ أنّه زاد: والذهب بالذهب مثلاً بمثل، وقال: ليس فيه زيادة ولا نظرة.

الرابع: قد ذكروا بأنّه يتحقق الربا مع اختلاف الجنسين، ففي الاتفاق يكون بطريق أولى، هذا مع اتحاد الجنسين.

أمّا مع اختلافهما فالحق جواز الزيادة إذا كانت المعاملة نقدية. وقد ادعى في الجواهر عدم الخلاف في ذلك؛ وأنّ الاجماع قد حصل بقسميه، ولكن العمدة التمسّك بالروايات.

منها: عن محمد بن الحسن باسناده، عن الحسين بن سعيد، عن صفوان وفضالة، عن العلاء، عن محمد بن مسلم قال: إذا اختلف الشيئان فلا بأس به مثلين بمثل يداً بيد.

وهذه الرواية صحيحة من جهة الدلالة والسند.

ص: 53

ومنها: موثقة سماعة، عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد وأحمد بن محمد جميعاً، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن سماعة، عن أبي عبدالله(ع) المختلف مثلان بمثل يداً بيد لا بأس.

ويؤيد ذلك النبوي: إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم.

ولكن الرواية ضعيفة من جهة السند.

وفي موثقة اُخرى عن سماعة، عنه - أي الكليني - عن الحسن بن زرعة، عن سماعة قال: سألته عن الطعام والتمر والزبيب، قال: لا يصلح شيء منه اثنان بواحد، إلاّ أن يصرفه نوعاً الى نوع آخر، فاذا صرفته فلا بأس اثنين بواحد وأكثر.

وفي صحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) في حديث قال: الكيل يجري مجرى واحد، قال: ويكره قفيز لوز بقفيزين، وقفيز تمر بقفيزين، ولكن صاع حنطة بصاعين تمر، وصاع تمر بصاعين زبيب اذا اختلف هذا.

وفي صحيحته الاُخرى عنه(ع): عن الزيت بالسمن اثنين بواحد، قال: يداً بيد لا بأس. وغير ذلك من النصوص، وهي صريحة في الصحّة في جواز التفاضل في غير المتجانسين إذا كان نقداً.

وأمّا إذا كان نسيئة فهل يجوز التفاضل أم لا؟ محل كلام، فاليك تحقيق الحال فيه.

أمّا بيع النسيئة فتارة يدخل في بيع الصرف، وهو ما إذا كان

ص: 54

العوضان من الأثمان ويشترطه في بيع الصرف أن يكون على نحو النقد والتقابض في المجلس، وتارة يكون أحد العوضين من الأثمان والآخر من العروض، فهو إمّا أنّه داخل في النسيئة أو بيع السلف، وكلاهما جائز بالضرورة من المذهب، إنّما الكلام فيما إذا كان العوضان كلاهما من غير الأثمان فهل تصحّ المعاملة نسيئة أم لا؟

ولكن بعد أن قلنا: بأنّ أركان الربا هو المثليّة والاتحاد في الجنس يظهر منه جواز التفاضل في صورة الاختلاف، بلا فرق بين أن تكون المعاملة نقداً أو نسيئة، ولكن في صورة الاختلاف نسيئة فقد اختلف الأصحاب فيه.

فعن ابني أبي عقيل والجنيد وسلار والمفيد وابن البراج عدم الجواز.

وقد قال المحقق: بأنّ الأحوط المنع.

وقال صاحب الجواهر: أنّ الأقوى خلافه؛ لاطلاق الأدلّة التي يقصر معارضتها عن تقييدها سنداً في البعض ودلالة في الجميع.

إذن لا بدّ من مراجعة الروايات، فانّ هناك روايات تقيّد صحّة المعاملة بصورة أن تكون نقدية، كما في صحيحة الحلبي: ما كان من طعام مختلف أو متاع أو شيء من الأشياء يتفاضل فلا بأس بيع مثلين بمثل، فأمّا نظرة فلا يصلح. وكما مرَّ في صحيحة محمد بن مسلم: «إذا اختلف الشيئان فلا بأس به مثلين بمثل يداً بيد».

ص: 55

إن قلت: بأنّ كلمة «لا يصلح» لا يدلّ إلاّ على الكراهة؛ لأنّ معنى عدم الصلاح هو ذلك، فلا تدل على الحرمة والفساد، ومفهوم «لا يصلح» أعمّ من أن يكون فيه الفساد أولا فساد فيه، ولا صلاح بعد ما يكون الشيء قابلاً؛ لأن يوصف تارة بالصلاح، واُخرى بالفساد، وثالثة بعدمهما. لكن لا يخفى بأنّ المفهوم وإن كان أعمّ ولكن المتبادر من كلمة «لا يصلح» أنّه فاسد، كما هو المتبادر من كلام الطبيب عندما يقول للمريض: بأنّ الغذاء الفلاني لا يصلح أكله، معناه: أنّه مفسد ومضرّ بك.

ويؤيد هذا المعنى ما نجده في رواية عبدالرحمن بن الحجاج: أني أدخل سوق المسملين - أعني: هذا الخلق الذين يدعون الاسلام - واشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها: أليست هي ذكية؟ فيقول: بلى، هل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة؟ فقال: لا، قلت: وما أفسد ذلك؟ قال: استحلال أهل العراق للميتة.

فمن المتبادر الى ذهن السامع من «لا يصلح» إنّما هو الفساد، وتقرير الامام(ع) ذلك. إذن يظهر من الرواية أنّ عدم الصلاح يساوق الفساد، فما ادعاه الجواهر: بأنّ المراد من «لا يصلح» هو الكراهية، ونسبه الى المشهور فغير تامّ.

ثم إنّه لو فرض أنّ «لا يصلح» أعمّ، ولكن بما أنّه وقع في مقابل لا بأس - كما في صحيحة ابن مسلم - الذي هو الاباحة فهو

ص: 56

يدلّ على الحرمة، وبما أنّ الأحكام الخمسة متضادة ولا يخلو فعل عنها، فاذا رفعت الاباحة تأتي الحرمة، وكذا ما ورد في اللغة بأنّ الصلاح ضد الفساد.

وأمّا بالنسبة الى «لا بأس» في صحيحة ابن مسلم والحلبي فانّهما تدّلان على الجواز بعد ما عرفت بأنّ البأس يعني: الحرمة. اذن معنى البأس هو الفساد؛ لأنّه بعد رفع القيد وهو «يداً بيد» يظهر البطلان، ومن هنا يظهر ما في كلام الجواهر بأنّ البأس فيه أعمّ من الحرمة.

وأمّا الاستدلال بمضمرة علي بن ابراهيم - الطويل عن رجاله عمن ذكره في حديث قال: وما عُدّ عدداً ولم يكل ولم يوزن فلا بأس به إثنان بواحد يداً بيد، ويكره نسيئة - ب- «يكره نسيئة» حيث ظاهرها الجواز. ففيه أوّلاً: أنّها مضمرة، وثانياً: انّ الكراهة في الروايات الأخر بمعنى الحرمة وفساد المعاملة، كما يظهر من الرواية أن علياً لم يكن يكره الحلال، وقد مرت.

ويظهر من صحيح الحلبي: «يكره قفيز لوز بقفيزين وقفيز تمر بقفيزين» أنّ الكراهة هنا تكون بمعنى الحرمة من المسلمات ذلك؛ لأنّه يحرم التفاضل في المتماثلين.

وكذا ما ورد عن قرب الاسناد عن عبدالله بن جعفر، عن عبدالله بن الحسن، عن جده علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر(ع)

ص: 57

قال: سألته عن رجل اشترى سمناً ففضل له فضل أيحل أن يأخذ مكانه رطلاً أو رطلين زيت؟ قال: إذا اختلفا وتراضيا فلا بأس.

ولو أنّ هذه الرواية لا يمكن الاستدلال بها لضعفها ب- «عبدالله بن الحسن» حيث لم يوثق، ولكن الرواية ظاهرة الدلالة بأنّ مفهوم «لا بأس» وهو البأس يعني: الفساد وعدم الصحّة.

إذن الحق المنع حسب النظر الدقيق في مختلف الجنسين إذا كان نسيئة.

قد يقال: بأنّ المشهور قد اعرضوا عن الروايات التي تدلّ على المنع بالتفاضل نسيئة، ولكن إن قلنا: بأنّها - أي الشهرة - جابرة وكاسرة فهو، وإلاّ فالأحوط هو المنع كما عليه المحقق، وخلافاً لما ذكره الجواهر: بأن الأقوى الجواز.

إذن: يختص الجواز بصورة كون التفاضل في المعاملة النقدية، أمّا الزيادة الحكميّة - وهو بيع المختلفين مثلاً بمثل نسيئة - فلم ترد رواية على المنع. إذن فيكون جائزاً، ولم نعلم من يقول: بعدم الجواز في ذلك.

ص: 58

الفصل الثالث: وهو مسائل وفروع

المسألة الأولى: هل الأصل هو الوزن أم الكيل؟

الظاهر هو الوزن كما ذكرنا في مسألة الكر: بأنّ الأصل هو الوزن دون المقدار، وإنّما يستعمل الكيل لأجل التسهيل، وقد شاهدنا في القرى أنّ هناك أطنان من الحنطة والشعير فيؤتى بكيل خاصّ ومقدار ما يحتويه معلوم وزناً ثم تكال الأطنان به تسهيلاً.

المسألة الثانية: تعيين المتاع بالكيل والوزن

لا يخفى أنّ في كلّ معاملة لا بدّ من تعيين المتاع، وإلاّ تقع المعاملة مجهولة وغررية، وهذا - أي الغرر - يرتفع باُمور، ففي المعاملات يرفع بالمشاهدة، وفي بعضها الآخر بالتوصيف وبيان الخصوصيات. وقد يرفع بالذرع، وفي اُخرى بالعد، وفي الثالث بالكيل والوزن. وكلامنا الآن في القسم الأخير، أي: فيما لا تصحّ فيه المعاملة إلاّ بالكيل والوزن.

ثم انّ المعاوضات تختلف من جهة الأزمان والبلاد، مثلاً: إنّ بعض العروض كان من المكيل والموزون في زمان النبي(صلی الله علیه و آله) ثمّ أصبح غير مكيل وموزون بعد زمانه(صلی الله علیه و آله)، كما أنّه لو فرض الاختلاف بحسب البلاد فهل يؤخذ بعرف البلاد التي وردت الروايات على اعتبارها أو مطلقاً أو على عرف البلد الذي تقع فيه المعاملة

ص: 59

فعلا؟

ثم أنّه لو فرض أنّه لم يكن بعض الأشياء موجوداً في عصر النبي(صلی الله علیه و آله) فماذا نصنع؟

لا يخفى بما أنّ الشارع لم يخترع طريقة خاصة، اذن يكون المدار بما فهمه العرف. وقد يدعى الاجماع بأنّ المكيل والموزون معتبران حسب القواعد الأوّليّة كما كان فى عصر النبي(صلی الله علیه و آله) وفي لسانه وعرف بلده كذلك، ولو فرض أنّه بعد ذلك صار معدوداً.

وقد نسب الى العلامة(قدس سره) في التذكرة: بأنّه قد أجمع المسلمون على ثبوت الربا في الإشياء الستة؛ لقول النبي(صلی الله علیه و آله): الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، والتمر بالتمر مثلاً بمثل، والبر بالبر مثلاً بمثل، والملح بالملح مثلاً بمثل، والشعير بالشعير مثلاً بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد.

أمّا ثبوت الربا في هذا الموضوع - ولو كانت لاتباع في الأزمنة المتأخّرة بالكيل والوزن - فعلّ الوجه في ذلك هو أنّ الحكم يدور مدار الموضوع دائماً، والموضوع هنا هو نفس هذه العناوين، ولم يعلّق الحكم على كونها مكيلة أو موزونة، وما عدا هذه الستة فلو كان في عصر النبي(صلی الله علیه و آله) موجود فيدخل في المسألة الربوية مع اتحاد الجنس

ص: 60

أو فرض أن أحد العوضين فرع لآخر - كالدبس بالتمر - أو كليهما فرعان لجنس واحد - كالدبس بالخل -، وأمّا إذا لم يكن الشيء موجوداً في عصره (صلی الله علیه و آله) أو لم يعرف كيفية بيعه في زمانه (صلی الله علیه و آله) فان كان هناك عرف عامّ بأن كانت البلاد الاسلامية متفقة على تقدير معيّن فيحمل عليه، وإلاّ فيحمل على ما هو المتعارف في بلدة المعاوضة، ثمّ انّه لو فرض أنّ الشيء كان موزوناً أو مكيلاً في عصره وبلده ثمّ صار معدوداً فهل يكون فيه الربا أم لا؟

قد يقال: بدخوله في المسألة الربوية.

ولكن الحق أنّه بناء على أنّ الأحكام وردت على نحو القضايا الحقيقيّة المفروضة الموضوع والمقدّر وجوده فمتى وجد الموضوع أصبح الحكم فعلياً، فنقول: إذا تبدّل الموضوع فالحكم يتبدّل كالكلب في المملحة. اذن يكون هذا طبقاً للقاعدة.

فاذا عرفت هذا فلو فرض أنّ الشيء لم يكن مكيلاً أو موزوناً في عصر النبي(صلی الله علیه و آله) وأصبح في هذا العصر مكيلاً وموزوناً وكان المعاوضان من جنس واحد تدخل المعاملة حنيئذٍ في المسألة الربوية، وعلى العكس لو كان الشيء مكيلاً أو موزوناً في عصره (صلی الله علیه و آله) وأصبح في عصر المعاوضة غير مكيل ولا موزون فلا تدخل في المسألة الربوية؛ لعدم وجود الموضوع، وإنّما خرجت الستة من هذه القاعدة؛ لأنّ الحكم ورد فيها على نفس هذه العناوين كالتمر والحنطة

ص: 61

والشعير وهكذا.

نعم لو فرض أنّ هناك إجماع وقلنا: بحجيته ودلَّ على أنّه لو كان هناك شيء غير هذه الستة - وكان مكيلاً وموزوناً في عصره (صلی الله علیه و آله) ثمّ صار في عصر المعاوضة غير مكيل ولا موزون - فتدخل المعاوضة في المسألة الربوية الى يوم القامة فبها، وإلاّ لا بدّ من العمل بالقاعدة، وأنّه لا بدّ أن يكون الشيء مكيلاً وموزوناً في زمان وقوع المعاوضة.

إذن فما ذكره المشهور - بحمل صحيحة الحلبي التي توجد فيها هذه الجملة «ما كان من طعام سميت فيه كيلاً فانّه لا يصلح مجازفة» حيث حمل لفظ «الكيل» على عادة الشرع، أي ما كان مكيلاً أو موزوناً في عصر - يحتاج إلى دليل.

المسألة الثالثة: في اختلاف اللحوم واتحادها

لا يخفى أنّ اللحوم في اختلافها واتحادها إنّما هو تابع للاُصول، فاذا كانت متحدة من جهة الشخص أو الوصف أو الصنف فيعتبر العوضان من متحدي الجنس، ولا اعتبار بوحدة الاسم، وأمّا إذا كان أحدهما من نوع والآخر من نوع آخر - مثل: أن يكون أحدهما من البقر والثاني من الغنم - فلا يكونان حينئذٍ من متحدي الجنس، فلو عوّض أحدهما بالآخر مع التفاضل فلا يثبت في هذه المعاوضة الربا ولو أنّهما داخلين في وحدة الاسم ويطلق عليهما اسم اللحم؛ لأنّه

ص: 62

حينئذٍ يصحّ الاشتراك في الجنس، وانّ لفظ اللحم كلفظ الحيوان موضوع في المعنى الجنسي لا النوعي، فانّ اللحوم التي أصبحت تندرج تحت اسم اللحم هي في الواقع حقائق مختلفة، كما أنّ الحيوانات المندرجة تحت مفهوم الحيوان مختلفة.

فاذا عرفت هذا فقد يكون هناك اختلاف بين أصلين من جهة الاسم، وإن كانا متحدين بحسب الحقيقة كالبقر والجاموس فانّهما يدخلان تحت لفظ البقر؛ لأنّهما متحدان حقيقة، وكذا العرابي والبخاتي من الابل فانّهما جنس واحد، والضأن والماعز فانّهما ولو كانا مختلفين من جهة الاسم ولكن حقيقتهما واحدة.

إذن المعاوضة بين لحم البقر والجاموس والعرابي والبخاتي والضأن والمعز مع التفاضل تكون معاملة ربوية.

وعليه فالمدار في الاتحاد في الحقيقة لا الاسم، فاللحم والكبد والقلب والكرش واحد ولو كانوا مختلفين من جهة الاسم، ولكن لا اختلاف فيهما من جهة الحقيقة، بل كلّها واحدة حقيقة، وكذا في لحم الطيور فانّه مختلف باختلاف نفس الطيور حقيقة، فاذا كانت تدخل تحت حقيقة واحدة من جهة الشخص أو الصنف أو النوع فالمعاوضة مع التفاضل تدخل في المعاملة الربوية، أمّا إذا كانت حقائق مختلفة فانّه يجوز فيها التفاضل ولا ربا حينئذٍ فيها.

وأمّا في خصوص الحمام فمحل كلام بين الأصحاب - كالغراب

ص: 63

والعصفور - والعلّة في الاختلاف بأنّ مقولية هذه الاُمور على ما تحتها هل تكون من مقوليّة النوع على الصنف أو الجنس على النوع؟

فان كانت من القسم الأوّل فيقع الربا فيها مع التفاضل، وأمّا إذا كانت من القسم الثاني فتجوز المعاوضة مع التفاضل، ولا تدخل في المعاوضة الربوية، بلا فرق بين أن يكون التفاضل في العوض أو المعوّض.

ملاحظة في المقام: لا تكون الذكورة والاُنوثة موجبة لاختلاف الحقيقة إذا كانتا داخلتين تحت النوع الواحد.

إذا عرفت هذا فاذا لم يعلم بين شيئين هل أنّهما مختلفين في الحقيقة أو أنّهما داخلان في حقيقة واحدة، فعند الشكّ لا بدّ من الرجوع الى العرف والعبرة في الحقيقة الى نظره، كما أنّه إذا شكّ في صدق المكيل والموزون وعدمه على شيء، أي إذا شككنا بأنّ هذا الشيء هل بالكيل والوزن أو بغيرهما، فما لم يعلم أنّهما يباعان بالكيل والوزن أو بالعد فالأصل اللفظي هو الحلّية. وقد ذكر بعض المعاصرين بأنّه تمسّك بالعام في الشبهات المصداقية.

ولكن الحق جريان أصالة العموم أو الاطلاق وهو: (وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ) ولا تصل النوبة الى أصالة الفساد في البيع، وإذا شككنا في أنّه من المكيل والموزون فبما أنّهما حادثان فيرفعان بالأصل، وبهذا الأصل ينقح موضوع حلّية البيع.

ص: 64

وأمّا في صورة الشكّ في الاتحاد وعدمه فان أدخلنا المسألة في مسألة الشكّ في المفهوم حيث انّ البيع مطلقاً يكون حلالاً، إلاّ في متحد الجنس متفاضلاً، وقد أدخلناهما في مسألة الشبهة المفهوميّة؛ لعدم إحراز وعدم ضبط مفهوميهما.

ولكن الحق أنّهما من مسائل الشبهة المصداقيّة، ولا تجري أصالة عدم الاتحاد هنا ليحرز الموضوع، وهو عموم (وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ) إلاّ بناء على جريان استصحاب العدم الأزلي، وقلنا في محله: إنّ هذا الاستصحاب لا يجري، خلافاً لاستاذنا الأعظم(قدس سره).

إذن أصالة عدم ترتيب الأثر جارية.

إن قلت: نتمسّك بأصالة عدم الحرمة.

قلنا: هذا الأصل لا يفيد؛ لأنّه لا يثبت الانتقال، وإذا شككنا في الانتقال تجري أصالة عدم الانتقال، وهو معنى أصالة عدم ترتّب الأثر.

إذن لا يمكن التمسّك بأصالة العموم أو الاطلاق، ولكن هذا الأصل مسبّبي، وهو مسبّب عن أنّ هذا العقد الذي وقع بين الشيئين المتماثلين أي هل هو عقد ربوي أم لا؟

ومسألة الشكّ في وجود الشرط الزائد، فالأصل عدم شرطية الزائد، وحينئذٍ ينقّح موضوع (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) فاذا لم يجر هذا الأصل فلا يمكن التمسّك بالعموم؛ لأنّ المورد مورد أصالة الفساد.

ص: 65

ثمّ انّ لهذه المسألة فروعاً هامة اليكها على التوالي:

الفرع الأوّل: لا يخفى بأنّ لحوم الأسماك يمكن معاوضتها مع لحوم سائر الحيوانات؛ لأنّها مختلفة؛ لأنّ اللحوم - وهي الأسماك - من أي قسم كان مخالفاً مع البقر والغنم، إنّما الكلام في أنّه هل لحوم الأسماك بأقسامها حقيقة واحدة أم لا؟

وهل يجوز بيع مَنٍّ من الشبوط بمنين من القطان أم لا؟

الظاهر أنّه لا؛ لأنّ هذه العناوين عناوين للأصناف لا الأنواع، وإلاّ فكلها واقعة تحت نوع واحد، وليست عناوين للأنواع حتى تكون مختلفة وتقع تحت الجنس الواحد، بل الاختلاف بين هذه العناوين كالاختلاف بين أصناف الغنم كالمعز والضأن، حيث أنّهما متحدان في الحقيقة، ولو فرض أنّ الأسماك مما يكال أو يوزن فلا تجوز المعاوضة فيها على نحو التفاضل، كما في عصرنا الراهن.

الفرع الثاني: هل يجوز بيع الجراد مع سائر اللحوم متفاضلاً؟

لا يخفى بأنّه يجوز بيع الجراد مع سائر اللحوم متفاضلاً، سواء كانت من اللحوم البريّة أو البحريّة أو الأهليّة أو الوحشيّة؛ لأنّها مخالفة لسائر اللحوم في الحقيقة.

الفرع الثالث: هل اللحوم الوحشيّة من الحيوانات مخالف للأهليّة منها أم لا؟

قد يدعى الاجماع على المخالفة، كما في الغنية، وجامع

ص: 66

المقاصد، وظاهر التذكرة.

ولا يخفى أنّه إذا فرضنا أنّ هناك اتفاقاً بين الأصحاب فيها، فحينئذٍ يجوز بيع الغنم الوحشي - كالضبي بالغنم الأهلي - متفاضلاً؛ لأنّهما يدخلان تحت جنس واحد؛ لأنّ الوحشي من كلّ نوع ليس متحداً حقيقة مع الأهلي من ذلك النوع، وإن اتحدا في الاسم، واُطلق على الظبي الغنم، ولكن إنّما هو لأجل المشابهة، وهكذا بالنسبة الى الحمار الوحشي والأهلي فانّهما مختلفان في الحقيقة لا متحدان فيها.

ولكن لا يمكن أن نأخذ هذا على نحو القاعدة الكلية ونجريها في جميع الأصناف من الوحشي والأهلي، فلولا إدعاء الاتفاق يمكن أن يقال: بأنّ الجاموس الوحشي مع الأهلي حقيقة واحدة، وهكذا في الثور الوحشي مع الأهلي، فلا يجوز حينئذٍ المعاوضة فيهما مع التفاضل.

ولذا قال في الجواهر: ولولا هذا الاتفاق لأمكن المناقشة في ذلك، وبقوله: كما اعترف به في الرياض.

الفرع الرابع: هل يجوز بيع اللحم بالحيوان ولو كان من جنسه أم لا؟

فقد ادعي عدم الخلاف تارة كما في المختلف بقوله: لم نقف فيه على مخالف منّا غير إبن ادريس فجوّز، وقوله: محدث لا يعوّل عليه ولا ينثلم به الاجماع.

ص: 67

وفي الدروس نسبته الى الشذوذ، بل عن الخلاف والغنية الاجماع عليه.

ولكن الحق أنّ أمثال هذه الاجماعات - كما عرفت منّا مراراً - لا يمكن أن يعوّل عليها؛ لأنّها محتملة المدركية، ولكن لو كنّا نحن والقاعدة لقلنا: بالجواز: لأنّ المعاملة ليست ربوية؛ لأنّ الحيوان غير موزون، ولذا يجوز بيع شاة بشاتين؛ لأنّه لا ربا بين ما لا يكون من المكيل والموزون، إلاّ إذا اتفق كما في عصرنا، إذ أصبح الحيوان من المكيل والموزون.

ولذا قال العلاّمة في التذكرة بالكراهة دون الحرمة؛ لأنّ المعاملة ليست ربوية لفقد الشرط وهو كونه مكيلاً وموزوناً.

ولكن الحق أنّ الحرمة إنّما جاءت من جهة الروايات.

فعن النبي (صلی الله علیه و آله): أنّه نهى عن بيع اللحم بالحيوان.

وعن دعائم الاسلام عن أبي عبدالله(ع) أنّه نهى عن بيع اللحم بالحيوان.

وعن غياث بن ابراهيم، عن جعفر بن محمد عن أبيه: انّ علياً (ع) كره بيع اللحم بالحيوان.

والكراهة بمعنى الحرمة كما بيّنا ذلك كراراً.

إذن المدار هو الدليل لا القاعدة.

فاذا عرفت هذا فهل يجوز بيع اللحم بالحيوان من غير جنسه أم

ص: 68

لا؟ بعد ما قلنا: بعدم جواز المعاوضة باللحم مع الحيوان من جنسه - لورود الدليل فتأمل - كلحم الشاة بالبقر فهل هو حرام أم لا؟

بعدما فرضنا بأنّه لم تأتي الحرمة من قبل الربا فنقول: تارة نتكلّم فيه من جهة الاجماع، واُخرى من جهة الدليل.

أمّا من جهة الاجماع - لو قلنا: بأنّه حجة وتعبدي لا أنّه مدركي - فيمكن أن نقول: بعدم شموله للمورد؛ لأنّه بيع اللحم بلحم آخر من غير جنسه كبيع لحم الشاة بلحم البقر، وقد اُدعي عليه الاجماع، ومع وجود هذه الشهرة وهذا الاجماع كيف يمكن القول بشمول المنع للمورد؟!

إذن بيع لحم الشاة بالبقر بطريق أولى يكون جائزاً، مع ما ذكرنا من أنّ اللحم تابع للحيوان.

وأمّا من جهة الدليل فظاهر الروايات هو الشمول؛ لأنّها مطلقة شاملة لبيع لحم الحيوان بجنسه أو بغير جنسه، كما في رواية غياث المتقدمة، فمقتضى الاطلاق هو عدم الجواز.

ومن هنا نتمكّن أن نجيب عما قاله العلاّمة: بأنّه لو كان بيع اللحم بلحم غير جنسه جائز فبيعه به حياً أولى.

ولكن هذه الأولويّة ولو كانت صحيحة خصوصاً بعدما فرضنا بأنّ الحيوان غير مكيل ولا موزون فيكون الجواز أولى، ولكن الكلام بأنّ هذه الأولويّة تأتي إذا كان المنشأ للمنع هو حصول الربا لا

ص: 69

الرواية، والحيوان غير مكيل ولا موزون. أمّا إذا كان هو الرواية وهي مطلقة فلا مورد لهذا الأصل.

وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقق: بأنّه قياس، ففيه أنّه ليس بقياس، بل مراده من الأولويّة؛ لأنّ الحيوان غير مكيل؛ لأنّ غاية ما يمكن الانصراف الى الحيوان الحي، أمّا الانصراف الى الجنس فلا.

إذن بمقتضى الرواية لا يجوز بيع اللحم بالحيوان من غير جنسه، ثمّ أنّه ممّا يمكن الاستفادة - أعني: المنع - بما إذا كان وقوع اللحم مثمناً، ولكن ظاهر الفتوى أنّه لا يجوز ولو جعلناه ثمناً والحيوان مثمناً. ولعلّهم استفادوا من الرواية كراهة المبادلة بأي شكل وقعت، سواء وقع اللحم ثمناً أو مثمناً.

الفرع الخامس: وهل يجوز بيع اللحم بالحيوان غير مأكول اللحم آدمياً كان أو غيره كالسباع أم لا؟ فالظاهر هو الجواز؛ لعدم وجود الدليل على المنع.

وقال في التذكرة: يجوز عندنا.

وظهور هذه الكلمة منه(قدس سره) هو الاتفاق عند الشيعة.

واستدل العلاّمة على الجواز بأنّ المسألة غير ربوية؛ لأنّ الحيوان لا يكون مكيلاً.

إذن لا مانع ولا حرمة.

والحق هو الجواز، لكن من جهة قصور دليل المنع، وما قيل:

ص: 70

من الاجماع على المنع، ففيه أنّ هذا الاجماع دليل لبي فلا يشمل غير مأكول اللحم، بلا فرق بين أن يكون آدمياً أو غيره كالسباع، فالقدر المتيقّن للمنع هو شموله لمأكول اللحم. وأمّا الروايات فهي منصرفة لمأكول اللحم أيضاً.

إذن مقتضى اطلاق الأدلّة (وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ) هو الجواز، ولو فرض عدم جريانه - أي الاطلاق - فمقتضى الأصل هو الحلّية.

الفرع السادس: يجوز بيع اللحم بالسمكة الحية، وهكذا لحم السمك بالحيوان الحي، لا لما ذكره العلاّمة: من أنّ المسألة غير ربوية؛ لأنّ الحيوان ليس من المكيل والموزون؛ لأنّ من يقول: بعدم الجواز إنّما هو لأجل الدليل، ولكن الدليل على المنع لو قلنا: بأنّه هو الاجماع فهو دليل لبي - كما تقدم آنفاً - له القدر المتيقّن، والقدر المتيقن منه غير هذا المورد.

إذن الاجماع لا يشمل المورد، والرواية منصرفة عنه؛ لانصراف اللحم عن لحم السمك، وهكذا منع بيع اللحم بالحيوان فلا يشمل الحيوان السمك.

إذن دليل الجواز هو عدم الدليل على المنع.

الفرع السابع: هل يجوز بيع الدجاجة فيها البيضة بالدجاجة الخالية عنها أم لا؟ وكذا بيع البيضة ببيضتين؟

قيل: الظاهر أنّه لا مانع لشمول اطلاق (وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ) لهذه

ص: 71

المعاوضة، وليست هذه من المعاوضات الربوية؛ لأنّها ليست مكيلة ولا موزونة، ومقامنا مثل بيع الشاة بشاتين.

ولكن الحق في عصرنا عدم الجواز في المقيس والمقيس عليه، خصوصاً إذا قلنا: إنّ الشرط في أنّ الشيء يكون مكيلاً أو موزوناً هو عند المعاوضة.

إذن لا يجوز بيع البيضة ببيضتين ولا الدجاجة الخالية من البيضة بالتي في بطنها بيضة، وليس مقامنا مثل بيع الشاة التي ليس في بطنها ولد مع الشاة التي في بطنها ولد، وكذا الشاة بشاتين؛ لأنّ الشاة ليست بمكيل ولا موزون، وليس في هذه المعاوضة شرط الربا موجوداً، إلاّ أن يقال: هذه المعاوضات باطلة أيضاً؛ لأن الشاة مما يكال ويوزن في عصرنا.

المسألة الرابعة: في بيع الألبان

قال المحقق في الشرائع: أمّا الألبان فانّها تتبع اللحوم في التجانس والاختلاف.

وقال في الجواهر: بلا خلاف أجده.

فبناء على هذا يكون لبن الغنم مخالف للبن البقر، ويجوز معاوضتهما متفاضلاً، وهكذا بالنسبة الى لبن الابل والبقر وهما متخالفان، كما أنّ لبن المعز متحد مع لبن الشاة فكذا لبن البقر مع الجاموس، فاذا فرضنا أنّ البقر الوحشي يكون مخالفاً للبقر الأهلي

ص: 72

فيكون لبنهما كذلك.

ولكن الحق - لولا الاتفاق - هو ما عليه بعض العامّة بأنّ الألبان جنس واحد؛ لأنّا تارة ننظر إليها بالنظر العرفي، واُخرى بالنظر الدقي.

أما بالنظر الدقي فالألبان كلّها مختلفة من حيث الآثار الموجودة فيها، كما أنّ الحيوان الواحد لبنه يختلف من حيث الآثار من جهة اختلاف الأغذية والعلف الذي يعطى للحيوان، ولذا ترى الأطباء يقولون: اشرب لبن المعز ولا تشرب لبن الشاة مثلاً، أو اشرب لبن البقر دون الجاموس.

ولذا نرى أنّ هناك تفصيل في الروايات للألبان، فاستحباب اختيار لبن البقر وكراهة اختيار لبن الابل للشرب، ففي الاُولى كما ورد في روايات عديدة منها قوله رسول الله(صلی الله علیه و آله): «عليكم بألبان البقر فانّها تخلط من كلّ شجر»، وعن الثاني كما ورد في الحديث: «أبوالها خير من ألبانها».

ولكن في نظر العرف لبن جميع الحيوانات تكون حقيقة واحدة، فاذا كان كذلك لا يجوز بيعها بعضها ببعض أو مع بعض متفاضلاً.

والحق هو ما عليه العرف، وليس المدار بالتحليل العقلي، فما ذكره الاستاذ المحقق - بقوله: أو علمنا بالتجزئة أو التحليل أنّها حقائق مختلفة - محل تأمّل.

ص: 73

ولكن مع الاتفاق الذي ادعي في المقام يجوز المعاوضة إذا كان أصل كلّ لبن مخالف للأصل الآخر، فبناء على هذا يجوز بيع اللبن الحيواني مع اللبن الاصطناعي؛ لأنّهما حقيقتان مختلفتان، إلاّ إذا قلنا: بأنّ أصلهما من الحيوان، وكذا بالنسبة الى الفروع مع أصولها، فاذا قلنا: بأنّ الألبان مختلفة فلا يجوز بيع كلّ فرع مع أصله كزبد البقر بلبنه، وكذا بيع الفرع بفرع آخر، فلا يجوز بيع الزبد منه باقطه.

ولكن يجوز معاوضة الفرع من شيء مع الأصل أو الفرع من شيء آخر مخالف لذلك الأصل أو الفرع، وأمّا اذا قلنا: إنّ الألبان شيء واحد فلا يجوز معاوضة الفرع أو الأصل من لبن أي حيوان بالأصل أو الفرع من لبن حيوان آخر متفاضلاً.

نعم - كما ذكرنا - بأنّ اللبن الحيواني مخالف عرفاً للبن الاصطناعي، فيجوز بيع الأصل أو الفرع - كاللبن أو الزبد الحيواني بلبن وزبد الاصطناعي - مع التفاضل.

المسألة الخامسة: في الأدهان

أما الأدهان فقد قال في الشرائع: إنّ الأدهان تتبع ما تستخرج منه.

لا يخفى بأنّ الأدهان تارة تستخرج من حليب الحيوان، واُخرى من شحومها وإلياتها، وثالثة كمثل هذا اليوم يؤخذ من النباتات كالسمسم والجوز واللوز وأمثال ذلك.

ص: 74

ولا يخفى بأنّ القسم الثالث من الدهن مخالف للقسم الأوّل والثاني، كما أنّها مخالفة بعضها مع بعض، فدهن السمسم غير دهن اللوز، وهما غير المأخوذ من سائر النباتات؛ لأنّ الاشتراك في الاسم لا يكون موجباً للاتحاد في الحقيقة.

وأمّا القسم الأوّل فحالها حال الحليب المستخرج منه، وذكرنا أنّ الألبان تتبع اللحوم أم لا.

إذن لا يجوز بيع دهن الشاة بالمعز متفاضلاً.

وأمّا القسم الثاني فانّه تابع للحوم، فما دام يستخرج من اللحم أو الشحم فحاله حال اللحم.

وأمّا القسم الثالث فيجوز بيعها بالتفاضل، سواء كان من أنواعها أم من غيره، كبيع دهن اللوز بدهن الجوز، أو بيع أحد هذه الاُمور بالدهن الحيواني.

لا يخفى بأنّه لو قلنا: يجوز بيع هذه الاُمور متفاضلاً مع اختلافها يجوز نقداً، وأمّا النسيئة فلا يجوز، كما أنّه لا يجوز مع اتحاد الجنس مثلاً بمثل نسيئة، كما ورد في صحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: وسئل عن الزيت بالسمن اثنين بواحد، قال: يداً بيد لا بأس.

وعن محمد بن الحسن باسناده، عن الحسن بن محبوب، عن عبدالله بن سنان قال: سألت أبا عبدالله(ع) عن رجل أسلف رجلاً زيتاً

ص: 75

على أن يأخذ منه سمناً، قال: لا يصلح.

المسألة السادسة: بيع الخل بالدبس

هل الخل والدبس يتبعان ما يعمل منهما - كالعنب والتمر -، فخل العنب ليس كخل التمر، ودبس العنب ليس كدبس التمر، فيجوز بيعهما متفاضلاً أم لا؟

قد يقال - كما عليه الاُستاذ المحقق - بأنّهما يتبعان ما يعمل منهما؛ لأنّ الخل في الحقيقة نفس ما يعمل منه، وكذا الدبس.

إذن بما أنّ خل أو دبس العنب ليسا من جنس التمر وكذا العكس، فيجوز بيع خل أو دبس كلّ واحد منهما بالآخر متفاضلاً.

ويمكن أن يقال: بأنّه لا يجوز؛ لأنّ العرف يرى الخل حقيقة واحدة وان كان أصلهما مختلفين، فلا يفرق بين الخل المأخوذ من التمر وبين المأخوذ من العنب، ولولا ما قيل: من الاتفاق على الجواز بالتفاضل مع اختلاف الجنس لقلنا: بعدم الجواز، وكذا الحكم بالنسبة الى الدبس لولا الاتفاق على جواز التفاضل أيضاً.

ويمكن أن نقول هذا الكلام بالنسبة الى العصير، وهل يجوز بيع الدبس بالعنب؟ فيمكن أن يقال: بالجواز؛ لأنّه قد تغيّرت هنا صورته النوعيّة، وليس مثل الحنطة والطحين؛ لأنّهما نفسه وهما حقيقة واحدة، وكذا عصير التمر بالخل منه متفاضلاً، فبناء على هذا لا يجوز بيع الخل بالدبس إذا كان أصلهما واحد وهو العنب.

ص: 76

ولكن يمكن المناقشة في ذلك بأنّه ولو بالدقة أنّهما شيء واحد ولكن في نظر العرف أنّهما مختلفان، فاذا كانا كذلك فيجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً. أمّا المعاوضة بين المركّب من الجنسين أو المجموع منهما فهل يجوز بالمركّب أو المجموع منهما متفاضلين، وكذا بيعهما بغيرهما كذلك. فأمّا بيع المركب من الجنسين أو الخلين بالمركّب من الخلين كذلك فلا يجوز؛ لأنّ العرف يرى أنّ الكلّ خل، ولكن في صورة الجواز في هذه الاُمور لا بد أن يكون في ذلك الجنس الذي يقدر أنّه ثمن الزيادة حتى تكون مقابلة للجنس الآخر الذي لا يجانسه، وإلاّ لو لم تكن هذه الزيادة فتصبح إمّا معاملة ربوية أو يدخل ذلك الجزء الزائد غير المجانس في ملكه بلا عوض، وهذا باطل.

المسألة السابعة: هل التمور بأقسامها واصنافها تعتبر شيئاً واحداً في نظر العرف أم لا؟

لا يخفى بعد أن قلنا: بأنّ الحكم يرد على الموضوع العرفي فاذا اختلف الموضوع في نظر العرف فتجوز المعاوضة بين الصنفين منهما متفاضلاً كبيع البُسر بالتمر وإن اختلف الجنس، ولو كان أحدهما من الجيّد والآخر من الرديء، كبيع منٍّ من الحسناوي بمنٍّ من الزاهدي، وأمّا إذا رآه متحداً فلا يجوز. ولكن ورد في الروايات المنع مطلقاً:

ص: 77

منها: ما رواه سيف التمار - الى أن قال -: إنّ علي بن أبي طالب(ع) يكره أن يستبدل وسقاً من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر؛ لأنّ تمر المدينة أدونهما.

وما رواه سماعة، عن أبي عبدالله(ع) قال: سُئل أبو عبدالله عن العنب بالزبيب، قال: لا يصلح إلاّ مثلاً بمثل، والتمر بالرطب مثلاً بمثل.

وما رواه الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: قال: لا يباع مختومان من شعير بمختوم من حنطة ولا يباع، إلاّ مثلاً بمثل، والتمر مثل ذلك.

فيظهر من هذه الروايات أنّ المناط في جميع هذه الأصناف واحد، فتكون المعاوضة ربوية مع التفاضل ولو كان أحدهما رديئاً والآخر جيّداً.

المسألة الثامنة: بيع الرطب بالتمر والزبيب بالعنب

هل يجوز بيع الرطب بالتمر أو الزبيب بالعنب أم لا مع التساوي أو التفاضل؟ وبعبارة اُخرى: هل يكفي التساوي عند الابتياع أم لا بدّ من التساوي ولو بعد البيع؟ لأجل نقصان الرطب بعد الجفاف وكذا العنب، الأقوال في المسألة كثيرة:

الأوّل: الجواز مطلقاً كما في الشرائع.

الثاني: عدم الجواز مطلقاً كما نسب الى المشهور، كما في

ص: 78

التذكرة.

الثالث: التفصيل بالمنع في خصوص الرطب أو بالعكس، والجواز بغيره من الرطب واليابس، وهذا القول من المحقق؛ لأنّه قال في الشرائع: في بيع الرطب بالتمر تردد، والأظهر اختصاصه بالمنع إعتماداً على أشهر الروايتين، ثمّ قال في الفرع الثاني: بيع العنب بالزبيب جائز، وقيل: لا اعتماد للعلّة، والأوّل أشبه.

ولعلّ القول الأوّل بعدم الجواز منه (قدس سره) في خصوص بيع الرطب بالتمر أو بالعكس كان لأجل ورود النصّ في خصوص المورد.

الرابع: الفرق بين كون الرطوبة ذاتية - أي كانت في الواقع جزءً من الجسم المرطوب - وبين كونها عرضية وخارجة عن ذات الشيء، فيقال: بالجواز في الأوّل دون الثاني؛ لأنّه الرطوبة من أجزائه فتصدق المماثلة، بخلاف الرطوبة العرضية كالحنطة المبلولة بالجافة فلا يجوز؛ لأنّها أمر خارج عن حقيقة ذلك الجسم المرطوب، ولا مالية لها؛ لكي يقع مجموع المالين بازاء ذلك المال حتى يخرج عن كونه رباً، فلا تصدق المماثلة، ويكون البيع ربوياً.

إذن لا بدّ من الرجوع الى الروايات، فقسم منها قد ورد عن طريق العامة، والقسم الآخر عن طريق الخاصّة.

أمّا ما ورد عن طريق العامّة فقد روي أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) سُئل عن

ص: 79

بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم، قال: فلا ءأذن.

وأمّا ما ورد عن طرقنا ما رواه الحلبي، محمد بن الحسن باسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: لا يصلح التمر اليابس بالرطب، من أجل أنّ التمر يابس والرطب رطب، فاذا يبس نقص.

وهذه الرواية تامة من جهة السند والدلالة.

وعن داود بن سرحان، عن أبي عبدالله(ع) قال: سمعته يقول: لا يصلح التمر بالرطب إنّ الرطب رطب والتمر يابس، فاذا يبس الرطب نقص.

وخبر محمد بن قيس، عن أبي جعفر(ع) في حديث أنّ أمير المؤمنين(ع) كره أن يباع التمر بالرطب عاجلاً بمثل كيله الى أجل، ومن أجل أنّ التمر يبس فينقص من كيله.

وعن داود الأبزاري، عن أبي عبدالله(ع) سمعته يقول: لا يصلح التمر بالرطب، انّ التمر يابس والرطب رطب.

وهذه الروايات وإن كان بعضها ضعيفاً ولكن فيها صحاح، وقد ورد فيها كلمة «لا يصلح» و«يكره»، وهما ظاهرتان في المنع، بقرينة ما ورد: بأنّ علياً(ع) لا يكره الحلال، وقد مر الحديث عنها.

وهناك روايات تدل على الجواز، كموثقة سماعة قال: سُئل أبو

ص: 80

عبدالله(ع) عن العنب بالزبيب، قال: لا يصلح إلاّ مثلاً بمثل، قال: والتمر بالرطب مثلاً بمثل.

ورواية أبي الربيع قال: قلت لأبي عبدالله(ع): ما ترى في التمر والبسر الأحمر مثلاً بمثل، قال: لا بأس، قلت: فالبختج والعنب مثلاً بمثل؟ قال: لابأس.

وظاهر هاتين الطائفتين المعارضة، فهل يؤخذ بالاُولى؟ كما نسب الى الكثير من الفطاحل من محققي الفقه، كالشيخ في المبسوط، وابن أبي حمزة في الوسيلة، والعلاّمة في التذكرة والتحرير والارشاد والمختلف والقواعد، وكما في اللمعة، والمختصر، والمهذب، والتنقيح، وإيضاح النافع، والميسية، والمسالك والروضة، والدروس.

قد يقال: بأنّه لا بدّ من الأخذ بهذه الطائفة لعدم قابلية الثانية؛ لضعفها، واعراض المشهور عنها، وهو كاسر ولا جابر لها.

أو الثانية فانّها تشمل حتى بيع التمر بالرطب الذي هو مورد رواية المنع، وهذا القول نسب الى المحكي عن الشيخ في الاستبصار، وموضع من المبسوط، وعن ابن إدريس.

فلو قلنا بهذا القول كان لا بدّ من الجمع بين الطائفتين بحمل الاُولى على الكراهة، والثانية على الجواز بالمعنى الأعم الذي لا ينافي الكراهة، بعد إنكار أن كلمة «لايصلح» و«كره» ظاهرتان في الحرمة لا الكراهة. ولورود بعض الروايات بأنّ عليّاً(ع) لا يكره

ص: 81

الحلال، وفي البعض الآخر أنّه لا يكره إلاّ الحرام، ومع ذلك كلّه فالكلمة باقية على ظهورها العرفي لا تصلح للمنع والحرمة. وكذلك كلمة «كره» وأنّها في الطائفة الاُولى تنافي الطائفة الثانية، والتنافي بينهما موجود.

إذن لا بدّ من الجمع العرفي بينهما، وهو شيء معمول به عند أصحاب المحاورة وعند الفقهاء أيضاً، وهو رفع اليد عن ظهورها في الحرمة بنصّ الطائفة الثانية بالجواز.

إذن فمّما ذكرنا ظهر امكان الجمع، وعدم وجود تعارض هناك تصل النوبة الى ما فصّل - خصوصاً بعد أن قلنا: بعموم العلّة، وإلاّ فلا يفرّق بين بيع الرطب بالتمر وغيرهما - بأنّ المختص بيع التمر بالرطب وبالعكس دون غيره، وكذا التفصيل الثاني، وهو ما إذا كان في الشيء رطوبة عرضية أو ذاتية، هذا لا يتم لو قلنا: بعمومية العلّة، وإلاّ فلا يفرّق بين الرطوبة العرضية أو الذاتية. وأيضاً إنّما يتم لو قلنا: بأنّه يشترط أن يكون التساوي حال العقد، وإلاّ لو قلنا: بأنّه لا بدّ من التساوي حتى بعد العقد فلا يفرّق بين الرطوبة العرضية أو الذاتية.

إذن إمّا أن نقول: بالمنع كما عليه المشهور، أو بالجواز كما عليه بعض الفقهاء.

ولكن الحق عدم الجواز؛ لأنّ «لا ءاذن» التي وردت في النبوي،

ص: 82

وكذا كلمة «لا يصلح» - بعد ما علّل بأنّه ينقص؛ لأنّه يجف فيما بعد - دالتان على المنع، وإن فرض أنّ كلمة «لا يصلح» و«كره» ظاهرتان في المرجوحية فقط لا على الفساد، نعم الجمع الدلالي تام. ولكن إذا قلنا: بأنّ الترجيح الدلالي متأخّر عن الترجيح السندي، فاذا قلنا بما هو الحجة وهو ما يوثق بصدوره وان المشهور أعرضوا عن الطائفة الثانية وأخذوا بالاُولى فتكون هي الحجة؛ لأنّ مورد الجمع الدلالي هو ما اذا كانت كلتا الروايتين حجة من جهة السند. ولكن لو قيل: بأنّ اعراض المشهور لا يكون سبباً لسلب الوثوق عن الاُخرى فالطائفتان في أنفسهما حجة ومتعارضتان فتصل النوبة الى الجمع الدلالي.

ولكن الحق بعد عمل هؤلاء الفطاحل بهذه دون تلك فيحصل الاطمئنان بمرجحيّة روايات المنع على روايات الجواز، ولا تصل النوبة للجمع الدلالي.

المسألة التاسعة: في اختلاف المبيع من جهه الكيل والوزن والعدّ

إذا كان الشيء يباع بكل واحد من الكيل والوزن والعد - كالبرتقال والبيض فانّهما يباعان بكلّ منهما في زمان ومكان واحد - فهذا يتصوّر على وجوه: فتارة أنّ الغالب بيعه بالوزن بحيث يرى العرف بأنّه موزون كما في الرقي غالباً، فتدخل المسألة حينئذٍ في الربا؛ لأنّ العرف يراه موزوناً والموضوعات تكون بيد العرف.

ص: 83

وأمّا على العكس لو كان الغالب هو العد ويوزن أحياناً فالمسألة تكون على خلاف الاُولى، أي لا تدخل في المسألة الربوية.

وأمّا إذا كان يباع تارة بالوزن واُخرى بالعد ولم يكن هناك أي ترجيح في البين فلا يمكن التمسّك باطلاق (وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ) لأنّ التمسّك هنا يكون من باب التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية للمخصّص، ولكن مع ذلك لا يمكن أن تدخل المسألة في الربا؛ لأنّ صدق الربا هنا متوقّف على احراز الموضوع - وهو الموزونية والمكيلية - ومع الشكّ في الموضوع لا يثبت الحكم.

المسألة العاشرة: في القسمة

تقسيم المال المشترك وتعيين حصة كلّ واحد من الشريكين هل تدخل في المسألة الربوية أم لا، اذا كان حصة أحدهما أكثر من الآخر وكان المال ممّا يكال أو يوزن؟ وبعبارة اُخرى: كان المال المشترك يصلح أن يكون ربوياً كما إذا كان هناك مقدار من الحنطة مشترك بين شخصين أو أكثر وكانوا شركاء في تجارة أو نحوها ثم أرادوا لانفصال ووقعت حصة أحدهما أكثر من الآخر فهل المسألة ربوية أم لا؟

قال العلاّمة: القسمة عندنا ليست بيعاً بل هي افراز، فيجوز قسمة المكيل وزناً وجزافاً، وقسمة الموزون كيلاً وجزافاً.

لا يخفى بأنّه هل هو من أقسام المعاوضة أو البيع أو ليس

ص: 84

كذلك؟ بل القسمة عبارة عن تمييز أحد الحقين عن الآخر، فان قلنا: بأنّ المال حينما كان مشتركاً على نحو الاشاعة فان كلّ واحد من المالكين يملك نصفاً كليّاً قابلاً للانطباق على كلّ من القسمين. فمعنى القسمة هي عبارة عن تطبيق ذلك الكلي على الخارجي المعيّن برضاهما أو بالقرعة، ولو كانت في إحدى الحصص الزيادة إلاّ أنّه لا يحصل الربا؛ لأنّه لا معاوضة هنا ولا معاملة، فلا مانع من أن تكون الزيادة في إحدى الحصتين دون الاُخرى، وان تكون السهام متفاوتة من حيث المقدار.

أمّا اذا قلنا: بأنّ المالكين يشتركان في كلّ جزء جزء وأنّ لكلّ منهما نصيباً فبعد القسمة معناه أنّ لكلّ من الشريكين أجزاء من ماله عند الآخر فحينئذٍ بعد القسمة تتحقّق فيها المعاوضة قهراً فحينئذٍ لا يجوز فيه الزيادة، بل لا بدّ أن يكون العوضان مثلاً بمثل، أي يجب أن يكال بكيلين متساويين أو بوزنين متساويين إن كانا ممّا يكال أو يوزن.

والفرق بين التعريفين أنّه بناء على الأوّل فانّ حقيقتهما افراز حق كلّ واحد من الشركاء وتميّزه عن حق الآخر، وليس فيه شيء من حصة شريكه كي يصدق عليه المعاوضة، أمّا بناء على التعريف ينتقل من ماله الى شريكه كما عليه الجمهور، بلا فرق بين الشركة

ص: 85

بالخلط كما إذا الثاني فتصدق المعاوضة؛ لأنّه ينتقل أجزاء من مال شريكه مقابل ما خلط حنطته مع حنطة شريكه، أو المزج كما إذا مزج دهنه بدهن الغير أو لبنه بلبن الغير، فبناء على هذا القول فان لكلّ جزء مالكين بناءً على وجود الجزء الذي لا يتجزّأ. ولكن الحقّ انّ الشركة لا تصدق على هذا حينئذٍ؛ لأنّ معنى هذا القول هو أن يكون تمام المال لكليهما وهذا غير الشركة، والجزء الذي لا يتجزّأ محال. ثمّ الفرق بين القولين أنّه لو تلف نصف المال فلا يكون المال الباقي إلاّ لأحدهما غير المعيّن - أي أحد الشريكين - لأنّه لا يبقى لأحد الكليين مصداق.

إذن يعيّن التالف بالقرعة؛ لأنّ المال المفروض كان نصفان فتلف أحد النصفين ولم يعلم أن النصف الباقي لأي منهما فيقرع حتى يعيّن المال الباقي لأي منهما، بناء على أنّ القرعة لكلّ أمر مشكل واقعاً وظاهراً، أمّا بناء على التفصيل الثاني فبما أنّ كلّ واحد منهما يكون شريكاً في كلّ جزء فالتالف يكون من مالهما، وحينئذٍ يكون الباقي أيضاً لهما ويكون لكلّ واحد منهما فيه حق. فالمشهور على الأوّل بأنّه ليس بيعاً ولا معاوضة؛ لأنّه لو كان بيعاً فلا بدّ فيه من شروط البيع، فانّها لا تحتاج الى الصيغة، ولا يجوز لأحدهما الرجوع بخيار المجلس، ويكون نصيب كلّ منهما حسب المقرر بخلاف البيع، ثمّ لا يدخل في البيع وغيره من المعاملات الاجبار دون القسمة.

إذن هذه الاُمور تؤيّد بأنّ القسمة لا تدخل في البيع ولا في أحد

ص: 86

من المعاملات. فما قيل - بأنّه يتعيّن أن يكون نصيب أحدهما بقدر نصيب الآخر - فغير صحيح.

وممّا ذكرنا ظهر ما نسب الى بعض العامّة بأنّه بيع، ونسب عدم الخلاف الى بعضهم ففي غير محلّه.

إذن تجوز القسمة بلا فرق بين أن تكون في احدى الحصتين زيادة عينية، كما إذا وقع لأحدهما منٌّ وللآخر منّين أو غيرهما، كما اذا كانت الشركة في الرطب والتمر فأخذ أحدهما الرطب والآخر التمر وكانا متساويين من حيث الوزن، ولكن زيادة الغير العينيّة موجودة في التمر؛ لأنّ الرطب ينقص من جهة الوزن بعد جفافه.

المسألة الحادية عشر: في الأوراق النقدية

هل الأوراق النقدية المتعارفة المعتبرة - من أي قسم كانت سواء كانت ديناراً أم توماناً أم دولاراً أم غيرها - تدخل في المسألة الربوية أم لا؟ لأنّها بنفسها تكون معتبرة وقد اعتبرها من بيده الاعتبار.

لا بأس قبل الدخول في البحث عن هذه المسألة أن نذكر كيفية حصول المعاملة بالأوراق النقدية فنقول: لا يخفى بأنّ معاملة البشر كان في الصدر الأوّل بصورة مبادلة الجنس بالجنس، مثلاً: كانوا يبادلون منَّاً من الحنطة بمنّين منها، أو بمنّ من شعير، والغنم بالدهن، فكانت المعاملات قائمة عندهم بمبادلة الأجناس، ولكن حينما توسّعت المعاملات بين قرية واُخرى أو بين قضاء وآخر

ص: 87

وأصبحت المعاملات عندهم ذات أهمية بالغة، فلذا أصبحت المعاملة بالذهب والفضة مورد نظرهم، والعلّة أنّهم أرادوا أن يكون الشيء المقابل للمال قليل الحجم، وهذا الشيء القليل الحجم يكون فيه تمام الثروة، هذا أوّلاً، وثانياً: رغبتهم في النقل والانتقال بسهولة لهذا الشيء، وثالثاً: أن يكون هذا الشيء بشكل قابل للتبديل في كلّ مكان، ورابعاً: لا تؤثّر فيه المؤثّرات الجويّة ولا تفسده بل يبقى دائماً.

وهذه الخواص رأوها وعرفوها أنّها موجودة في الذهب والفضة، فلا يؤثّر فيهما الهواء والغش، والتبديل مشكل لغير الصانع، خصوصاً بعد أن صنعوهما بشكل خاص مع دوامهما، وهما في كلّ الأزمنة بشكل واحد. ففي المرحلة الاُولى كانوا يستعملون الكأس من الذهب والفضة وغيرهما، ثمّ في المرحلة الثانية كانوا يعاملون القطع منهما التي فيها علامات خاصة، وبما أنّه يمكن أن يقع الغش في هذه المعاملة أي قد يكون مقداراً من تلك القطع، ولو أنّ فيها علامة لكنّها قابلة للسرقة، وقابلة لأن يصنع مكانها قطعة اُخرى أقل عياراً منها، ولذا احتاج الانسان لرفع هذه المشكلة الى طريقة اُخرى، وهي صنع النقود بواسطة قطعة فلزية مع وزن وعيار مخصوص، وبما أنّ هذه النقود يصعب حملها من بلد لآخر فقد اعتبر لها المعتبرون أوراقاً خاصة، بعد ما كان لهذه الأوراق معادل وسند من الذهب والفضة.

ولذا ترى لكلّ حكومة التي تصوّر هذه الأوراق يكون اعتبارها

ص: 88

أكثر من البلد الآخر؛ لأجل كثرة الذهب والفضة.

والاعتبار هو تقرر الشيء في وعائه ولا يخفى أنّ التقرر قد يكون في عالم الخارج، وقد يكون في عالم الاعتبار، والشيء المتقرر في الخارج قد يكون مادياً واُخرى معنوياً ومجرداً كالعقل والروح، وأمّا إذا كان تقرر الشيء في عالم الاعتبار يكون متكئاً على اعتبار المعتبر، كما أنّ الشيء الذي يكون تقرره في الخارج يكون متكئاً على إرادة تكوينية منه تعالى، ولا يخفى أنّ لكلّ من هاذين وعاؤه، فوعاء الأوّل الخارج، ووعاء الثاني الاعتبار، والثالث هي الاُمور الانتزاعية ووجودها يكون تابعاً لمنشأ انتزاعه، ويكون تقررها عرضية تابع لمنشأ الانتزاع.

وحينئذٍ فالحق أنّها لا تدخل في المسألة الربوية؛ لأنّها ليست من المكيل والموزون، ولو كانت كذلك في الأزمنة السابقة ولكن ذكرنا أنّ الحكم تابع للموضوع ففي كلّ عصر وجد الموضوع أو في كلّ مكان وجد الموضوع وجد الحكم. نعم لو كانت موزونة أو معرّفة على مقدار من الذهب أو الفضة المسكوكين دخلت المعاوضة في المسألة الربوية.

المسألة الثانية عشر: الزيادة المدفوعة من المصارف

هل الزيادة التي تدفعها المصارف لمن يضع نقوده فيها من الربا أم لا؟

ص: 89

الظاهر أنّه ليس هناك أي التزام بين الطرفين، بل يعطي المال والمصرف يعطي الزيادة من قبل نفسه، كما في مسألة القرض إذا دفع شخص ماله لشخص بعنوان القرض وأعطى المدين شيئاً زائداً على أصل المال، وهذا محبوب، وقد ورد في الحديث التأكيد عليه، وسنوافيك بمزيد بيان عن المعاملات البنكيّة في الفصل الخامس من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة عشر: في مستثنيات الربا

قد يقال: بأنّ هناك موارد مستثنات وان كان يصدق عليها الربا، ولكنها خرجت من المسألة الربوية لا من حيث الموضوع، بل من جهة الحكم، ولا لما ذكره البعض بأنّه لا يصدق عليها الربا، كما اذا كان بين الوالد والولد من جهة العلقة الموجودة بينهما؛ لأنّه حينما قلنا للولد: بأنّك أنت ومالك لأبيك - كما هو نص الرواية - ولكن صدق الربا بينهما حينئذٍ من جهة خروج هذه المسألة عن الحكم، واستثناؤها عن القاعدة من جهة الدليل.

ولكن الحق أنّ الاستثناء حصل لا من جهة العلقة بل من جهة الدليل، وهو الروايات:

فمنها: رواية معاذ بن ثابت، عن عمرو بن جميع، عن أبي عبدالله(ع) قال أمير المؤمنين(ع): ليس بين الرجل وولده رباً، وليس بين السيد وعبده الربا.

ص: 90

وهذه المسألة وإن كانت مشهورة بين الفقهاء ولكن بما أنّه في سند الرواية عمرو بن جميع فانّه بتري، وهو أبو عثمان الأزدي البصري قاضي الري، ضعيف الحديث، وهو من أصحاب مولانا الصادق(ع).

اذن فالرواية ضعيفة من جهة السند، ب- «عمرو بن جميع» بل ب- «معاذبن ثابت الجوهري» أيضاً، وإن ذكره صاحب كتاب اتقان المقال في الحسان وذكر بأنّ له كتاباً. فعلى أي حال يكفي في عدم صحة السند عمرو بن جميع.

ومنها: رواية زرارة، عن أبي جعفر(ع) قال: ليس بين الرجل وولده وبينه وبين عبده ولا بين أهله ربا، إنّما الربا فيما بينك وبين مالا تملك، قلت: فالمشركون بيني وبينهم ربا؟ قال: نعم، قال: وقلت: فانّهم مماليك؟! فقال: إنّك لست تملكهم إنّما تملكهم مع غيرك، أنت وغيرك فيهم سواء، فالذي بينك وبينهم ليس من ذلك؛ لأن عبدك ليس مثل عبدك وعبد غيرك ... الحديث.

ولكن هذه الرواية ضعيفة ب- «ياسين الضرير» فانّه لم يوثق، ومع ذلك ذكره طه نجف في الحسان، قال: لقى أبا الحسن موسى(ع) وروى عنه، وصنّف الكتاب المنسوب إليه.

وعن الفقه الرضوي: وليس بين الوالد وولده ربا، ولا بين الزوج والمرأة ربا ولا بين المولى والعبد، ولا بين المسلم والذمي.

وهذه الروايات كلهّا ضعيفة كما كان في نظر البعض، وبعضها

ص: 91

كما قال الاُستاذ المحقق في القواعد. ولكن مع ذلك يمكن أن يقال: لا اشكال في عدم الحرمة بعد اتفاق الامامية وانفرادهم بذلك.

وقد ذكر صاحب الجواهر: بأنّ المخالف هو السيد المرتضى في الموصليات. ولكن في الانتصار بعد أن ذكر ما انفردت به الامامية القول: بأنّه لا ربا بين الوالد والولد، ولا بين الزوج والزوجة، ولا بين الذمي والمسلم، ولا بين العبد ومولاه. قال: وقد كتبت قديماً في جواب مسائل وردت عليّ من الموصل، وتأوّلت الأخبار التي يرويها أصحابنا المتضمّنة لنفي الربا بين ما ذكرناه على أنّ ذلك وإن كان بلفظ الخبر «معنى الأمر» كأنّه قال: يجب أن يقع بين ما ذكرنا ربا، كما قال تعالى: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) وقوله تعالى (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ) وكقوله(صلی الله علیه و آله): «العارية مردودة والزعيم غارم». ومعنى ذلك كلّه الأمر والنهي - الى أن قال -: واعتمدنا في نصرة هذا المذهب لأنّي وجدت أن أصحابنا مجتمعين على نفي الربا بين ما ذكرناه، وغير مختلفين في وقت من الأوقات.

وحينما رأينا أنّ الأصحاب متفقون بمضمون هذه الروايات فيحصل لنا الوثوق والاطمئنان، فلا يبقى مجال للشكّ في حجيتها، والاطمئنان أمر عقلائي.

وأمّا من حيث الدلالة فهل الرفث بمعنى الحرمة أي النفي بمعنى النهي كما في قوله تعالى: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ...) أو نفي الحكم بلسان نفي

ص: 92

الموضوع كما قال به بعض المحققين كما في قوله(ع): لا ضرر ولا ضرار؟

والحق أنّ هذين الوجهين خلاف الظاهر؛ لأنّ الظاهر من الكلام «ولا ربا» هو نفي نفس الموضوع.

ولكن يمكن أن يقال: إنّه نفى الموضوع لكن تشريعاً، فتكون النتيجة بعد رفع الموضوع هو ارتفاع الحكم، كما إذا ارتفع الموضوع تكويناً كأخذ السيل الميت فانّه يسقط وجوب التجهيز.

اذن فلا وجه للقول: بعدم الجواز بعد ما بيّنا، ولا القول: بأنّه لا ربا إذا كان الآخذ هو الأب دون الولد كما عن الأسكافي؛ لأنّ الثاني اجتهاد منه في مقابل النص، ثمّ انّ الحكم لا يشمل الاُم مع الولد وقوفاً فيما خالف القاعدة على مورد النص، ولا يكون هناك اجماع أو دليل آخر يدّل عليه.

أمّا ما اُدعي في الفقه الرضوي وما قاله المرتضى: «بأنّه وممّا انفردت به الامامية بأنّه لا ربا بين الوالد والولد» - المراد بالوالد ولو كان بصيغة المذكر لكن يعم الاُم - فلا يمكن قبوله؛ لأنّه لم يرد في اللغة اطلاق الوالد على الاُم ولا في العرف أيضاً، بل لفظ الوالد مختص بالأب. ثم انّ الظاهر أنّ المراد بالولد أعم من الذكر والاُنثى؛ لأنّ الولد لغة يشملهما، ولا دليل على الانصراف الى الذكر. نعم لوفرض أنّ في بعض الأماكن لا يطلقون الولد إلاّ على الذكر فلو

ص: 93

أوصى شخص في ذلك البلد بأن يعطى مالاً لولده فلا بدّ من حمله على الذكر؛ لأنّ اللفظ الذي يصدر من الشخص يحمل على ما هو المتعارف على أهل بلده.

ثمّ هل يشمل ولد الابن وولد البنت أم هناك تفصيل فيشمل ولد الابن ذكراً كان أو انثى دون ولد البنت على الاطلاق أولا تشملهما جميعاً، كما نسب الى العلاّمة والمحقق الثاني والشهيدين؟

قالوا: إنّ الحكم مختص بالولد بلا واسطة، ولكن لو كنّا نحن واللغة لقلنا: بشموله لولد الابن وبنت الابن، وابن البنت وبنت البنت، ولكن يمكن ادعاء الانصراف عن ولد البنت وبنتها.

ثمّ هل يشمل الولد الذي ولد من الزنا؟

لو كنا نحن واللغة لقلنا: بشموله، خصوصاً بعد ورود الخبر «الولد للفراش».

إلاّ اذا قلنا: بأنّه منصرف الى الولد الحاصل بالنكاح، وأنّه - أي ولد الزنا - منفي شرعاً، ولذا لا يرث.

ويمكن أن يقال: بأنّه - أي عدم الوارثة - حكم خاصّ، ولا ربط له بصدق الولد عليه وعدم صدقه.

أمّا الولد الرضاعي فلا اشكال في عدم شموله لهذا الحكم؛ لانصرافه عنه، وأنّه ليس ولداً للأب الرضاعي حقيقة؛ لأنّه لم يخلق من مائه، بل نزّل منزلة الابن، ويكفي في التنزيل وجهة الشبه من

ص: 94

جهة واحدة واثبات عموم المنزلة وحمل جميع الآثار عليه يحتاج الى دليل، و«الرضاع لحمة كلحمة النسب» لا يثبت أنّه لا بدّ من ترتيب جميع الآثار المترتّبة على الابن النسبي.

إذن الحق أنّ الربا يثبت بينهما.

المسألة الرابعة عشر: هل الربا بين المولى والعبد موجود أم لا؟

أمّا الربا بين المولى والعبد فانّه مضافاً الى الروايات الضعاف التي ذكرناها في «لا ربا بين الوالد والولد» وردت رواية صحيحة وهي: صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر(ع) أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر(ع) عن رجل اعطى عبده عشرة دراهم على أن يؤدي العبد كلّ شهر عشرة دراهم أيحل ذلك؟ فقال(ع): لا بأس.

ولكن هذا البحث يأتي بناء على ملكية العبد، أمّا بناء على عدم ملكيته فلا.

«فرع» وهل يأتي الربا بين المولى والمكاتب؟

لا يخفى بأنّه لا ربا بينهما أيضاً؛ لأنّه عبد، فاذا قلنا: بأنّه يملك فحكمه حكم بقية الناس، فالربا يقع بينهما، وإنّما لا يقع الربا بين المولى والعبد؛ لأنّه لا يملك، وفيه كما ذكرنا انّ هذا البحث يأتي بناء على ملكية العبد، أمّا بناء على عدم ملكيته فلا يأتي البحث، والنصّ مطلق، وهذه اجتهادات واستحسانات فلا يكون لها اعتبار في مقابل النصّ، والنصّ باطلاقه شامل لجميع الأفراد من العبد المحض

ص: 95

والمكاتب الذي لم يتحرر منه شيء والمدبّر.

وهل يشمل العبد المبعّض أم لا؟ محل كلام، والأحوط عدم أخذ الزيادة.

المسألة الخامسة عشر: هل الربا موجود بين الزوج والزوجة

قد يقال: بعدم وجود الربا بينهما، فقد ادعى في الجواهر الاجماع بقسميه.

وقد يستدل برواية زرارة، عن أبي جعفر(ع) قال: ليس بين الرجل وولده وبينه وبين عبده ولا بين أهله ربا، إنّما الربا فيما بينك وبين ما لا تملك ... الحديث.

وقد عبّر عنها في الجواهر بالصحيحة، ولكن الرواية ضعيفة ب- «ياسين الضرير» كما تقدم.

ورواية محمد بن الحسين قال الصادق(ع): ليس بين المسلم وبين الذمي، ولا بين المرأة وزوجها ربا.

ولكن لا يخفى بعد الاتفاق وعدم ذكر المخالف فيطمأن بعدم الربا بين الزوجين.

ولا يخفى أنّ الزوجة التي لا ربا بينها وبين زوجها لابد فيها من توفر الشرطين: الأوّل: الزوجية، الثاني: صدق الأهل، فانّ المتعة القليلة المدة لا يصدق عليها أهل؛ لأنّ اتخاذها ليس كاتخاذ الزوجة بل اتخاذ المستأجرة، وكذا المطلقة الرجعية فانّها لا يصدق عليها

ص: 96

الأهل، بعد ما كان هناك عموم وخصوص من وجه، أي قد تكون أهلاً وليست بزوجة كالبنت، وقد تكون زوجة وليست بأهل كالمنقطعة القليلة المدة.

وقد يجتمع الشرطان وهما يحصلان في الدائمة أو المتمتعة الطويلة المدة، بل يمكن أن يقال: بانصراف الروايات عن المتعة القليلة والمطلقة الرجعية، فالعرف لا يراهما أهلاً، وإن كان يصدق على الرجعية أهل من حيث إعطاء النفقة في زمن العدة.

المسألة السادسة عشر: لا ربا بين المسلم والحربي

قد يقال: لا ربا بينهما إذا أخذ المسلم الفضل.

وقد استدل برواية عمرو بن جميع، عن أبي عبدالله(ع) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): ليس بيننا وبين أهل حربنا رباً، نأخذ منهم ألف درهم بدرهم، ونأخذ منهم ولا نعطيهم.

فالرواية دالّة على عدم وجود الربا بينهم إذا قلنا: بأنّه يمكن العمل بها بعد ما كانت المسألة مورد اتفاق بينهم.

إذن ما ذكره الاستاذ المحقق: «لأنّ جواز أخذ الفضل منهم لازم أعم بالنسبة الى صحة المعاملة» فليس في محلّه، بعدما ورد في الرواية بأنّه «ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا».

نعم لو لم نعمل بالرواية فنقول: أخذ الزيادة على طبق القاعدة ما داموا كفاراً محاربين حيث تكون أموالهم مباحة وكذا دماؤهم، وإن

ص: 97

كانت المعاملة باطلة حسب العمومات والمطلقات الواردة في باب الربا.

اذن ما يظهر من الرواية هو أخذ المسلم الفضل دون الكفار، فما نسب الى القاضي من جواز أخذ كلّ من الطرفين لا دليل عليه، مضافاً الى شمول العمومات ل-ه، وليس هناك ما يصلح للخروج به عن عمومات التحريم.

«فرع»: وهل يمكن أخذ الربا من المعاهد وغيره - كمن اعطي له الأمان في أيام أمانهم - أم لا؟

الحق هناك تفصيل بأنّه إذا كان الدليل هو الاجماع فهو نافذ بالقدر المتيقّن فلا يشمل المعاهد وغيره، أمّا إذا كان الدليل هو الرواية فتشمل الكلّ؛ لأنّ ماله من جهة عناده ومحاربته ضد المسلمين لا احترام له، بل لا يكون ماله ودمه محترماً، فتكون أموالهم فيئاً للمسلمين.

إن قلت: إنّ المعاهد ومن اُعطي له الأمان أموالهم وأنفسهم محترمة.

نقول في الجواب ما قاله الاستاذ المحقق: بأنّ الاحترام لهم احترام ظاهري، أي لا يمكن أخذ أموالهم منهم جبراً، أمّا الأخذ منهم برضاهم، بما أنّه لا يكون مخالفاً للمعاهدة فجائز.

ومن هنا ظهر ما ذكره الاُستاذ الأعظم(ع) حيث قال: نعم يجوز

ص: 98

أخذ الربا من الحربي بعد وقوع المعاملة من باب الاستنقاذ، ففي نظره أنّ المعاملة صحيحة وضعاً، وأما تكليفاً - من جهة الحكم التكليفي - فهي محرمة.

ولكن الحق بعد ما ذكرنا «بأنّه ليس لماله أي حرمة» فلا معنى للقول: بأنّ الحرمة التكليفية موجودة.

المسألة السابعة عشر: هل بين الذمي والمسلم ربا أم لا؟

فالمشهور على عدم الجواز، ومقتضى القاعدة هو عدم الجواز ما داموا عاملين بشروط الذمة. نعم ورد في مرسلة الفقيه جواز أخذ الربا منهم، محمد بن علي بن الحسين قال: قال الصادق(ع): ليس بين المسلم وبين الذمي ربا.

ولكن الرواية مرسلة، فلا تتمكّن من أن تعارض الروايات التي تثبت الربا مع ضعفها واعراض المشهور عنها، فلو كانت تامة فمع معارضتها مع تلك نحملها على الذمي الغير العامل بشروط الذمة، كما ذكر صاحب الوسائل نقلاً عن البعض.

وأمّا ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره) الأظهر عدم جواز الربا بين المسلم والذمي، لكنه بعد وقوع المعاملة يجوز الربا منه من جهة قاعدة الالزام.

ولكن هذا الكلام يتم بناء على حلية الربا عندهم، أمّا لو قلنا: بتحريم الربا عند جميع الأديان فلا يصح.

ص: 99

وكذا بناء على شمول قاعدة الالزام وعموميتها، والظاهر أنّها ترد في إلزام المخالفين بما ألزموا به أنفسهم، فلا تشمل الكفار.

فالأحسن أن يقال - كما قال الاُستاذ المحقق - بأنّ في عصرنا الذمي بالمعنى المصطلح من الأخبار والأحاديث قليل الوجود أو معدوم؛ لعدم تحقق الموضوع، فهم داخلون إمّا في المعاهدين أو في من دخل البلاد الاسلامية بعد ما اُعطي له الأمان، ومع ذلك يجوز أخذ الفضل منهم إذا كان برضاهم، ولا يجوز إعطاء الفضل لهم للعمومات.

المسألة الثامنة عشر: في بيان فساد المعاملة الربوية

هل أنّ المعاملة الربوية محرمة، وتكون فاسدة بتمامها، ولا بد أن يرجع كلّ مال الى صاحبه أم لا، وهل هناك فرق بينما اذا ارتكب عن تعمد - أي مع العلم بالحكم أو الموضوع - أو أنّه مطلقاً يكون باطلاً، أو يكون من باب تبعّض الصفقة - فبالنسبة الى الزيادة تكون المعاملة باطلة لا بالنسبة الى الجميع -؟

الظاهر أنّ جميع المعاملة تكون باطلة فلا يدخل شيء من الثمن في ملك البائع، ولا شيء من المثمن في ملك المشتري، لا أنّ الحرمة والبطلان يشملان مقدار الزائد فقط لأجل (وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ) وذلك لاُمور:

أمّا أوّلاً: فبعد أن قسّم الله تبارك وتعالى المعاملة الى قسمين:

ص: 100

أحدهما: ألاّ تكون لأحد العوضين زيادة على الآخر فهو حلال وصحيح، والثاني: أن تكون المعاملة مشتملة على زيادة في أحدهما سواء كان بعنوان الجزء أو بعنوان الشرط فهو حرام وباطل، فاذا أصبحت المعاملة باطلة يبقى كلّ مال في ملك صاحبه، فلا ينتقل شيء من العوضين الى صاحب العوض الآخر، بل يبقى كلّ واحد منهما بتمامه في ملك من كان له قبل وقوع هذه المعاملة التي كانت فاسدة.

وأمّا ثانياً: فانّ العقود تابعة للقصود، فانّ كلّ واحد من البائع والمشتري قصد انتقال العوض المشتمل على الزيادة، سواءً كانت جزءً أم شرطاً الى الطرف المقابل بعوض ما ينتقل إليه.

إذن أصل المعاملة تكون باطلة.

قد يقال: إنّه يمكن الحكم بالصحة في أصل المعاملة ويكون البطلان في الزيادة كتبعّض الصفقة.

وفيه: أنّ في تبعّض الصفقة ولو أنّ العقد واحد ولكن ينحل الى عقدين كلاهما مقصودان.

ولكن شرط الصحة - وهو الانتقال من ملك صاحبه باذنه في أحدهما - موجود دون الآخر، أمّا هنا فلا معنى للانحلال بعد أن لم يكن في مقابل الزيادة شيء كي يقال: بأنّه عقد آخر. إذن لا يمكن جعل المقام بمقام تبعّض الصفقة.

ص: 101

وأمّا ثالثاً: فللأخبار الدالّة على البطلان فانّها تدلّ على فساد المعاملة الربوية بأجمعها، لا أنّها فاسدة بالنسبة الى الزائد حتى يقال: إنّ الذي لم ينتقل هوالزائد فقط الى صاحب العوض الآخر، والروايات في المقام كثيرة:

فمنها: ما عن الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: لا يصلح التمر اليابس بالرطب، من أجل أنّ ألتمر يابس والرطب رطب، فاذا يبس نقص.

فهذه الرواية دالّة على أنّ أصل المعاملة باطلة؛ لاشتمالها على الزيادة في طرف والنقيصة في الطرف الآخر، من أجل أنّها تصبح يابسة فيما بعد.

ومنها: عن سيف التمار قال: قلت لأبي بصير: أحب أن تسأل أبا عبدالله(ع) - الى أن قال: - فسأله أبو بصير ذلك، فقال: هذا مكروه، فقال أبو بصير: ولِم يكره؟ فقال: إنّ علي بن أبي طالب(ع) كان يكره أن يستبدل وسقاً من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر؛ لأنّ تمر المدينة أدونهما، ولم يكن علي(ع) يكره الحلال.

والظاهر من هذه الرواية أيضاً بطلان أصل المعاملة، وأنّها فاسدة كلّها، لا الزيادة فحسب.

ومنها: رواية سعيد بن طريف، عن أبي جعفر(ع) قال: أخبث المكاسب كسب الربا. وتدل كلمة «الأخبث» في الكسب، وظاهرها

ص: 102

على فساد أصل المعاملة وحرمتها، لا خصوص الزيادة.

ومنها: قوله(ع): في رواية حماد، عن الحلبي -: الزائد والمستزيد في النار، لأنّ المتعاملين إنّما كان سبب دخولهما في النار؛ لأجل فساد معاملتهما.

اذن انّ المعاملة التي تكون سبباً لدخول النار تكون حراماً وفاسدة.

ولكن الحق أنّ هذه الرواية ناظرة الى الحكم التكليفي لا الوضعي.

قد يقال: بأنّ المعاملة إنّما تكون باطلة بتمامها فيما إذا كانت الزيادة جزءً، وأمّا إذا كانت شرطاً فهذا تابع للمسألة التي ذكرت في باب البيع بأنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد أم لا؟

فان قلنا: بأنّه مفسد فانّ المعاملة تصبح فاسدة، وأمّا إذا لم نقل بذلك فلا معنى للقول بفساد المعاملة.

ولكن الحق أنّه لا فرق بين أن تكون الزيادة شرطاً أو جزءً؛ لأنّه لو قلنا: بأنّ مدرك البطلان هو الآية أو الرواية فانّ مفادهما هو بطلان أصل المعاملة الربوية، بلا فرق بين أن تكون الزيادة جزءً أو شرطاً، أمّا لو كان المنشأ هو تبعية العقود للقصود فانّ قصد المتعاملين كان هو المبادلة بين العوضين مع الشرط - أي شرط الزيادة - وأمّا المعاملة بين أصل العوضين بدون الشرط فلم تكن مقصودة، ففي الحقيقة تكون المسألة «بشرط شيء» لا «بشرط لا»

ص: 103

والنسبة بين «بشرط شيء» و«بشرط لا» هي التباين.

إن قلت: يمكن دخول المسألة في مسألة خيار الشرط، حيث إنّ المعاملة هناك وقعت بين العينين الشخصيين الذين هما متحدان من جهة الجنس والمقدار فالمعاملة وقعت بنقل تلك العين، بلا فرق بين وجود الشرط وعدمه، غاية الأمر أنّه مع تخلّف الشرط له الخيار.

قلنا: لا يمكن إدخال هذه المسألة في مسألة تخلّف الشرط؛ لأنّه هناك المعاملة وقعت والقصد تعلّق بنقل العين، لكن لا مطلقاً، بل مشروط بشيء.

إذن ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع، نعم لو فرض أنّ أصل المعاملة وقعت على نقل العينين المتحدتين في الجنس والمقدار ولو لم يكن هناك شرط، ولكن وقعت المعاملة مشروطة بشرط لم يكن جائزاً من جهة أنّه ربا.

اذن تدخل في تلك المسألة، والبطلان لا يأتي من جهة أنّ ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد، بل يكون مستنداً الى دليل آخر كالآية أو الرواية، كما مر بأنّهما تدلاّن على بطلان أصل المعاملة.

المسألة التاسعة عشر: في بيان علم المرابي بالحكم والموضوع وجهله.

لا يخفى أنّه بعد أن فرغنا من بطلان أصل المعاملة الربوية وفسادها، فتارة يكون الشخص عالماً بالحكم والموضوع كأن يعلم

ص: 104

بالحرمة والبطلان، وتارة يكون جاهلاً بهما أو بأحدهما فهل يكون البيع مطلقاً باطلاً أم اذا كان عالماً بالحكم أو الموضوع دون ما إذا كان جاهلاً بهما أو بأحدهما؟

والفرق بينهما أنّه في الصورة الاُولى لا يجب عليه الرد - أي: ما إذا لم يكن عالماً بالحكم أو الموضوع أو كليهما، بل يكون جاهلاً بهما أو بأحدهما - ففي هذه الصورة لا يجب عليه ردّ الجميع أو الزيادة مع عدم علمه بأنّه ربا أو حراماً.

وإن كان يعلم بأنّه ربا ففي المسألة أقوال:

احداهما - وهو المنسوب الى الصدوق والشيخ والشهيد والأردبيلي والحدائق والرياض -: وهو عدم وجوب الرد مطلقاً في صورة الجهل، بلا فرق بين أن يكون جاهلاً بأحدهما أو كليهما، ولعلّه لأجل صحة المعاملة الربوية حال الجهل.

الثاني: بطلان المعاملة ووجوب الرد مطلقاً، سواء كان جاهلاً بالحكم أو الموضوع أو كليهما، وحكم الجهل هنا حاله حال العلم.

الثالث: التفصيل بين أن يكون المال المأخوذ بالربا موجوداً ومعروفاً قدراً وصاحبه موجود ومعروف، وبينما لا يكون كذلك حيث ما اُخذ بالربا أصبح تالفاً أو امتزج بشيء آخر لا يمكن افرازه وكان صاحبه غير موجود أو غير معروف فلا يجب الرد حينئذٍ في هذه الصورة دون الاُولى.

ص: 105

الرابع: التفريق بين الجهل بالحكم، أو الجهل بالموضوع، والجهل بأصل الحكم، والجهل بالخصوصيات.

لكن الحق لو كنا نحن والأدلّة في الربا فلا يفرق بين العلم والجهل ويجب رد الزيادة، لأنّها محرمة، وهذا يكون موجباً؛ لعدم الملكية، ففي صورة معرفة المال من حيث القدر أو معرفة صاحبه فلا إشكال في وجوب الرد، وكذا في صورة عدم معرفة صاحبه يجب التصدق عنه، أمّا في صورة الامتزاج فهل لا بدّ من تخميسه لأنّه مال مختلط بالحرام ولم يعرف المقدار وصاحبه أم لا؟ ولو فرض تلف المال فهو ضامن؛ لأنّ يده كانت يد ضمان.

نعم في صورة العلم بالفساد، بما أنّه أقدم على إتلاف ماله وهتك حرمته بواسطة علمه بالفساد، فلو تلف فلا ضمان، هذا بحسب القاعدة، ولكن مقتضى الروايات هو التفصيل بين ما اذا كان المأخوذ بالربا معلوماً وموجوداً وكان صاحبه مشخصاً فيجب عليه الرد، وإلاّ فلا يجب.

منها: ما عن علي بن ابراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: أتى رجل أبا عبدالله(ع) فقال: إنّي ورثت مالاً وقد علمت أنّ صاحبه الذي قد ورثت منه قد كان يربي، وقد أعرف أنّ فيه ربا واستيقن ذلك وليس يطيب حلاله لحال علمي فيه وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا: لا

ص: 106

يحلّ أكله، فقال(ع): إن كنت تعلم بأنّ فيه مالاً معروفاً ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك، وإن كان مختلطاً فكله هنيئاً فانّ المال مالك... .

ولكن يظهر من بعض هذه الروايات - كرواية محمد بن مسلم، ورواية علي بن جعفر، ورواية هشام بن سالم - العفو عما مضى مطلقاً، سواء أكان عن علم بالتحريم أم عن جهل، وسواءً أنّ عين المال الربوي موجودة أو تالفة، مشخّصاً كان المال أو مخلوطاً بحيث لا يميزّ، مع أنّه - كما ذكرنا - حسب القاعدة أنّه إذا لم يكن صاحب المال مشخّصاً يتصدق عنه، وإذا لم يكن مقداره معلوماً فلا بدّ من المصالحة، وإذا اختلط بماله يكون المال مشتركاً بينهما، ولكلّ منهما حق مشاع.

ولكن لو نظرنا الى صحيحة الحلبي المتقدمة، وهكذا إلى رواية أبي الربيع الشامي ترى منهما التفصيل: بانّه لو كنت تعلم بأنّ فيه مالاً معروفاً رباً وتعرف أهله فلك رأس مالك، وإن اختلط بمالك فكله هنيئاً مريئاً.

إذن لو كان المال الربوي موجوداً ومعروفاً ولم يكن مختلطاً ففي هذه الصورة تخرج عن المطلقات، فهو ضامن ولا بدّ من رده الى صاحبه، وبما أنّ الصحيحة مطلقة من جهة علمه وعدمه ولو كان حال ارتكابه جاهلاً.

ص: 107

اذن لا معنى لحمل الصحيحة على الاستحباب، فانّ رجوع المال المعيّن والمشخّص الى صاحبه يكون حسب القاعدة.

ويظهر من الروايات الصحيحة والمطلقات بأنّه إذا لم يعرف صاحبه فهو له، ولكن الأحوط أن يتعامل معه معاملة مجهول المالك، ويتصدق عنه خصوصاً في صورة كونه معزولاً هذا بالنسبة الى الروايات، أمّا الآية الشريفة: (فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .

فلا يخفى أنّ جملة «فله ما سلف» مجملة، فيمكن كما عن بعض المفسّرين ألاّ يؤخذ بما مضى منه وأمره الى الله يحكم في شأنه يوم القيامة، ويمكن كما استشهد به الامام(ع) «ومخرجك من كتاب الله» أي يشمل الحكم الوضعي وهو المال أي: يكون له.

إذن في الآية الشريفة احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد أنّ الأموال التي استملكها - وحصل عليها بالربا عالماً قبل التوبة، بناء على أن تكون الموعظة بمعنى التوبة، كما فسرت في بعض الأخبار - هي له، ولو فرض كونها معزولة وصاحبها معروفاً بناء على التمسك باطلاق الآية.

الثاني: فمقابل هذه الآية آية اُخرى (فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) فانّها معارضة لتلك الآية، فيعني: لكم رؤوس

ص: 108

أموالكم ولو كان صاحبه غير موجود أو المال كان مفقوداً أو مختلطاً.

الثالث: أن يكون المراد بالموعظة معناها: ومن بلغه واعظ من ربه وزجر بالنهي عن الربا، أي: لو ارتكب المعاملات الربوية قبل الزجرة وقبل ورود النهي فله ما أخذ قبلاً، ولا يجب ردّ ما أخذه - أي: قبل ورود النهي والتحريم - ولا يلزمه رده؛ لأنّ الاسلام يجبّ ما قبله. وكما ورد عن الباقر(ع): من أدرك الاسلام وتاب ممّا كان عمله في الجاهلية وضع الله عنه ما سلف.

ويؤيد هذا المعنى ما ورد في رواية الوليد بن المغيرة فانّه كان يربي في الجاهلية وقد بقي له بقايا على ثقيف فأراد خالد ابنه المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت الآية.

فاذن بحسب شأن النزول والمورد الآية تشمل المعنى الثالث، أي: أن يكون المراد منه أنّ الذي ارتكب الربا بجهالة سواء كان جاهلاً بالحكم أو الموضوع ثم التفت فله ما سلف، ولا يجب عليه رده إذا كان شخصه غير معلوم ولا معزول ولا موجود.

إذن تحمل الآية الاُخرى على العمد، وعلى فرض الاطلاق فتقيد الآيتان بصحيحة الحلبي المتقدمة.

المسألة العشرون: في البيع الفضولي

اشارة

اذا باع شخص رطب شخص أو زبيبه برطب أو زبيب شخص

ص: 109

آخر، فبما أنّ المعاملة وقعت على نحو البيع الفضولي ولكن صاحب المال أجاز المعاملة بعد أن يبس أحد العوضين، فهل هذه المعاملة تكون صحيحة أو باطلة أو هناك تفصيل؟

الحق انّ صحّة المعاملة وفسادها مترتّب على القولين: الكشف أو النقل. فان قلنا: بالكشف فالمعاملة صحيح، وإن قلنا: بالنقل فالمعاملة تكون باطلة.

المسألة الواحدة والعشرون: الحيلة الشرعية من جهة الفرار من الربا

وقد اختلف الفقهاء في جعل الحيلة الشرعية ذريعة لتحليل الربا، فهل هذه الحيلة جائزة أم لا؟ وهل هذا العمل يحلل الحرام ويغيّر الماهية أم لا؟

فقسم من الفقهاء يقولون بالجواز، وآخرون يفتون بعدمه، وقسم ثالث قالوا بالتفصيل فيقولون: إنّ هذه الحيلة إذا كانت لأجل الفرار والممانعة من الوقوع في الربا فهي جائزة، وأمّا إذا كانت لأجل تحليل الحرام فليست بجائزة.

ص: 110

وقد استدل المجوّزون بوجوه: بأنّ هذا العمل فرع لعدم قصد الطرفين المعاملة الربوية، وأمّا لو كان لهما قصد في ذلك فلا تكون هذه المعاملة والحيلة الشرعية مغيّرة لما هو المحرم عندالله سبحانه، هذا أولاً، وثانياً: فانّهم يقولون: بأنّ المشاكل في المعيشة هي التي صارت سبباً للجواز، فلو فرض أنّ صاحب المال يدفع نقوده التي حصل عليها بكلّ مشقة مجاناً وبلا عوض بعنوان القرض الحسن تتلاشى معيشته وينفذ رأس ماله، ثمّ انّ الانسان بما فيه من غريزة حب المال يمنع نفسه عن العطاء بعنوان الدين؛ لأنّه لا يبقى له حتى رأس المال عندما يأخذه من المدين ويصرفه تدريجاً، وبما أنّ للشرع من العناوين الثانوية فهذه العناوين تكون مغيّرة للحكم وتجعل ما هو الحرام حلالاً.

وممّن يقول بالجواز: الميرزا القمي في جامع الشتات، وكذا في رسالته غنائم الأنام. وممّن يقول بالجواز أيضاً أبو حنيفة والشافعي.

وهناك روايات تدلّ على الجواز:

منها: عن عبدالرحمن بن الحجاج، عن أبي عبدالله(ع) قال: سألته عن الصرف - الى أن قال: - فقلت له: اشتري ألف درهم وديناراً بألفي درهم، فقال: لا باس بذلك، انّ أبي كان أجرأ على أهل المدينة مني فكان يقول هذا، فيقولون: إنّما هذا الفرار، لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار، وكان يقول:

ص: 111

نعم الشيء الفرار من الحرام الى الحلال.

وعنه أيضاً، عن أبي عبدالله(ع) قال: كان محمد بن المنكدر يقول لأبي(ع) يا أبا جعفر رحمك الله، والله إنّا لنعلم أنّك لو أخذت ديناراً والصرف بثمانية عشر فدرت المدينة على أن تجد من يعطيك عشرين ما وجدت، وما هذا إلاّ الفرار، فكان أبي يقول: صدقت والله، ولكنه الفرار من الباطل الى الحق.

وعن الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: لا بأس بألف درهم بألف درهم ودينارين إذا دخل فيها ديناران أو أقل أو أكثر فلا بأس.

وماقبل هذا القول قول عدم المجوّزين بالعمل بالحيلة الشرعية، وقد استدلّوا لها باُمور:

الأوّل: انّه كما ورد في الحديث بأنّ «الأعمال بالنيات» ففي الحيلة الشرعية قصد الطرفين في الواقع يكون هو المعاملة الربوية، فالمعطي للزائد والآخذ له يقصدان أخذ الزيادة بعنوان المنفعة، ويجريان المعاملة بقصد أخذ النفع، ولولا الربا والزيادة لم تكن تقع المعاملة بينهما.

ولكن ذكرنا بأنّ الحيلة الشرعية إنّما هي جائزة عند الأكثر إذا لم يكن قصد المتعاملين ذلك، بل قصدهما كان لأجل الفرار من الربا.

الثاني: الحيلة الشرعية تسبّب نقض الغرض، وهو قبيح عقلاً. فلو كنا نقول: بجوازها، فمعناه أنّ الشارع لا يعتقد بما يقوله، فيحرم

ص: 112

فعلاً صورياً، ثمّ يجوز ارتكابه بطريق من طرق الحيلة.

ولكن الجواب عن ذلك: انّ المعاملة إذا كانت لأجل الفرار من الربا المحرم لا لأجل ارتكاب الربا بالحيلة فلا اشكال فيه.

الثالث: ورد عن هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبدالله(ع) عن علّة تحريم الربا، فقال: لو كان الربا حلالاً لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه، فحرّم الله الربا لينفر الناس من الحرام الى الحلال، والى التجارة، والبيع والشراء.

وفيه: أنّ الحيلة الشرعية هي قسم من الربا المحرّم أول الكلام.

ومن المخالفين للحيلة الشرعية ما ورد عن بعض حيث قال في باب البيع الربوي: كلّ شيء تضمّن نقض الغرض في أصل مشروعيته فنحكم ببطلانه.

وهكذا عبّروا عن نقض الغرض بما إذا جعل الممنوع استعماله للمريض في كبسول وتقديمه له لكي يأكله، وإذا اعترض عليه الطبيب ويقول: أما منعت من استعمال هذا الدواء؟ فيجيب بأنّه إنّما بلع الكبسول، والحيلة الشرعية من هذا القسم.

ولكننا نقول: بأنّ هذا العمل إنّما يمنعه العقلاء؛ لأنّه وقوع في المنع، وفي محل بحثنا إذا كان لأجل الفرار من الربا فانّما هو خروج عن المنع المحذور.

وممّن خالف في الحيلة الشرعية السيد المرتضى، حيث قال في

ص: 113

باب الشفعة: كلّ حيلة من شفعة وغيرها من المعاملات بين الناس فاني أبطلها ولا أجيزها. ونسبت المخالفة الى المقدس الأردبيلي أيضاً. وممن لا يقول بجوازها مالك.

وقد استدلّ على عدم جواز الحيلة الشرعية بالآية الشريفة: (وَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعاً وَيَوْمَ لاَيَسْبِتُونَ لاَتَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).

وروى القمي قصة أصحاب السبت في تفسيره قال: حدثني أبي عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر(ع) قال: وجدنا في كتاب علي بن أبي طالب(ع) أن قوماً من أهل أيله من قوم ثمود، وإن الحيتان كانت سيقت إليهم يوم السبت ليختبر الله طاعتهم في ذلك، فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم وقدام أبوابهم في أنهارهم وسواقيهم، فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها، فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم عنها الأحبار ولا يمنعهم العلماء من صيدها، ثم إنّ الشيطان أوحى الى طائفة منهم إنّما نهيتم عن أكلها يوم السبت ولم تنهوا عن صيدها فاصطادوها يوم السبت وأكلوها فيما سوى ذلك من الأيام، فقالت طائفة منهم، لئن نصطادها فعتت، وانحازت طائفة اُخرى منهم ذات اليمين فقالوا: ننهاكم عن عقوبة الله أن تتعرضوا لخلاف أمره، واعتزلت طائفة اُخرى منهم ذات اليسار

ص: 114

فسكتت فلم تعظهم، فقالت للطائفة التي وعظتهم: لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً، فقالت الطائفة التي وعظتهم: معذرة الى ربكم ولعلّهم يتقون.

قال: فقال الله عزوجل: (فَلَمّا نَسُوا مَاذُكّرُوا بِهِ) يعني: لما تركوا ما وعظوا به مضوا على الخطيئة، فقالت الطائفة التي وعظتهم: لا والله لا نجامعكم ولا نبايتكم هذه الليلة في مدينتكم هذه التي عصيتم الله مخافة أن ينزل بكم البلاء فيعمنا معكم. قال: فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن تصيبهم البلاء فنزلوا قريباً من المدينة فباتوا تحت السماء، فلما أصبحوا أولياء الله المطيعون لأمر الله غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية فأتوا باب المدينة فاذا هو مصمّت فدقوه فلم يجابوا ولم يسمعوا منها حسّ أحد، فوضعوا سلّماً على سور المدينة ثمّ أصعدوا رجلاً منهم فأشرف على المدينة فاذا هو بالقوم قردة يتعاوون لها أذناب فكسروا الباب، قال: فعرفت القردة انسابها من الانس ولم تعرف الانس أنسابها من القردة، فقال القوم للقردة: ألم ننهكم؟ فقال علي(ع): والله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة إني لأعرف أنسابها من هذه الاُمة لا ينكرون ولا يغيّرون، بل تركوا ما اُمروا به فتفرّقوا، وقد قال الله تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظّالِمِينَ) وقال الله تعالى: (أَنْجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).

ص: 115

وروى صاحب مجمع البحرين القصة عن ابن عباس بنحو قريب مع تفصيل في المسألة الى قوله: «فكم رأينا من منكر فلم ننه عنه».

ولكن لا يخفى بأنّ الصيد منهم إنّما وقع حقيقة يوم السبت، لحيازتهم ولمنعم للسمك من العود، والمقام كوضع المصيدة ووقوع الصيد في يوم السبت وأخذهم يوم الأحد، وهذا ليست من الحيلة الشرعية في شيء.

موارد الحيلة الشرعية:

فعلى أي حال فقد ذكر الفقهاء موارد للفرار من الربا:

المورد الأوّل: ضم ضميمة إلى أحد العوضين كألف درهم وشخاط يبيعه بألفي درهم.

المورد الثاني: أن يبيع سلعته بغير جنس سلعته ثم يشتريه بذلك الجنس بأي مقدار يريد من جنس سلعته، كما إذا باع وزنة من العنبر بوزنتين من الحنطة ثم باعهما بوزنتين من النعيمة فلا يقع حينئذٍ ربا، ولو كان في الواقع باع وزنة من العنبر بوزنتين من النعيمة.

المورد الثالث: منها أن يكون قصد الطرفين من المعاوضة هو المبادلة بين المثلين من جهة الكمية وإنّما يعطي الزيادة قاصداً الهبة.

المورد الرابع: أن يهب كلّ منهما ماله للآخر، من دون أن يشترط على الآخر هبة ماله له، كي تكون الهبة مقابل الهبة، وإلاّ دخلت في المسألة الربوية، بناء على انّ الربا موجود في جميع

ص: 116

المعاوضات.

المورد الخامس: يشترط عليه في المعاوضة أن يبيع ماله مثلاً بمثل ويصالح صاحب الزيادة الفضل.

المورد السادس: منها أنّ أحدهما - أي المعاوضين - يقرض صاحبه - مثلاً - بمائة وزنة من الحنطة الكردية والآخر يقرض صاحبه بمائتي وزنة عراقية ثم يتباريان ويسقط كلّ واحد منهما ما في ذمة الآخر.

المسألة الثانية والعشرون: بيع العرية

ويكون استثناؤه من حرمة الربا حكمياً، وهو غير مختص بالنخل، بل يشمل بقية الأشجار كبيع ثمرة النخل أو غيرها من الأشجار بالتمر ولو متفاضلاً، لكن بشرط أن يكون التمر من غيرها. ونحن تارة نتكلّم في هذه المسألة حسب القاعدة واُخرى حسب الروايات، أمّا من جهة القاعدة فلا بدّ أن يكون بيع ما في النخل قبل نضوجه حتى لا يصرف عليه المكيل والموزون، ولا يدخل في مسألة الربا إذا بيع متفاضلاً، بخلاف ما إذا أُنضج وهو بيع التمر على النخل بالتمر ولو من غير هذا النخل.

اذن لا بدّ وان يكون متساوياً.

أمّا حسب الروايات فانّه يجوز حتى بعد نضوجه؛ لأنّه يباع بالمشاهدة لا الكيل والوزن، كما في موثقة أبي الصباح الكناني قال:

ص: 117

سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: إنّ رجلاً كان له على رجل خمسة عشر وسقاً من تمر وكان له نخل فقال له: خذ ما في نخلتي بتمرك فأبى أن يقبله، فأتى النبي(صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله(صلی الله علیه و آله) إنّ لفلان عليّ خمسة عشر وسقاً من تمر فكلّمه يأخذ ما في نخلي بثمره، فبعث النبي(صلی الله علیه و آله) إليه فقال: يا فلان خذ ما في نخله بتمرك، فقال: يا رسول الله لا يفي وأبى أن يفعل، فقال رسول (صلی الله علیه و آله) لصاحب النخل: إجذذ نخلك فجذّه فكاله خمسة عشر وسقاً. فأخبرني بعض أصحابنا عن ابن رباط ولا أعلم إلاّ أنّي قد سمعته منه أن ابا عبدالله(ع) قال: إنّ ربيعة الرأي لمّا بلغه هذا عن النبي(صلی الله علیه و آله) قال: هذا رباً، قلت: أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين، قال: صدقت.

قد يقال: إنّه ليس هناك دلالة على البيع والمعاوضة، بل هو وفاء أو ابراء.

والجواب: يمكن الاستفادة من ذيل الرواية أنّها معاوضة، حيث تصوّر ربيعة وقال: إنّه ربا، مضافاً الى ما ورد من صحيح الحلبي قال: قلت: لأبي عبدالله(ع): في رجل قال لآخر: بعني ثمرة نخلك هذا الذي فيها بقفيزين من تمر أو أقل أو أكثر يسمي ما شاء فباعه، فقال: لا بأس ... الحديث.

ويؤيده أيضاً ما ورد في الحنطة في صحيحة حسن بن علي قال: سألت أبا الحسن(ع) عن رجل اشترى من رجل أرضاً جرباناً معلومة

ص: 118

بمائة كر على أن يعطيه من الأرض، قال: فقال: حرام، قلت: جعلت فداك فانّي اشتري منه الأرض بكيل معلوم وحنطة من غيرها، قال: لا بأس بذلك.

اذن لو بيع التمر الذي على النخل بتمر آخر فلا بأس ولو زاد أو نقص عند ما يكال أو يوزن أو عند الجفاف؛ لاطلاق النص.

المسألة الثالثة والعشرون: المزابنة

أمّا المزابنة فقد عرّفوها ببيع التمر على النخل بالتمر، ففي مجمع البحرين: في الخبر نهي عن بيع المزابنة، وهي بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، وأصله من الزبن وهو الدفع، كأن كلّ واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه بما يزداد منه، والنهي عن ذلك لما فيه من الغبن والجهالة.

قال في جامع المقاصد: هي مفاعلة من الزبن وهو الدفع، ومنه الزبانية؛ لأنّهم يدفعون الناس الى النار، سميت بذلك لأنّها مبنية على التخمين والغبن فيها، وكلّ منهما يريد دفعه عن نفسه الى الآخر فيتدافعان.

وقال في الجواهر: فيكون المجموع محرّماً، كما هو أشهر القولين. أي بيع الثمرة على النخلة بتمر على الأرض، أو بيع الثمرة على النخلة بثمرة منها.

قال: بل هو المشهور بين المتقدمين والمتأخرين.

ص: 119

وقد نسب الى الغنية والروضة الاجماع عليه.

وقد عرفت مراراً في عدم حجية هذه الاجماعات؛ لأنّها محتملة المدركية، فالعمدة الروايات:

منها: عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله، عن الصادق(ع) قال: نهى رسول الله(صلی الله علیه و آله) عن المحاقلة والمزابنة، قلت: وما هو؟ قال: أن يشتري حمل النخل بالتمر والزرع بالحنطة.

وقد ورد في رواية اُخرى أيضاً عن أبي عبدالله(ع): نهى رسول الله عن المحاقلة والمزابنة، فقال: المحاقلة بيع النخل بالتمر، والمزابنة بيع السنبل بالحنطة.

ولكن هذه الرواية ضعيفة ولا تقاوم تلك الصحيحة، مع مخالفتها لأهل اللغة، ولما في مخالفتها لخبر عبيد بن قاسم بن سلام بأسانيد متصلة الى النبي(صلی الله علیه و آله) أنّه نهى عن بيع المحاقلة والمزابنة، والمحاقلة بيع الزرع وهو في سنبله بالبر، والمزابنة بيع التمر في رؤوس النخل.

إذن المزابنة هي بيع التمر في رؤوس النخل بتمر منها أو من غيرها، ولكن الأقوى جواز بيع تمرة النخل بتمر من غيرها كما تقدم في روايات العرية.

المسألة الرابعة والعشرون: بيع الطين والماء

ذكر صاحب الجواهر: أنّه لا ربا في الماء والطين؛ للأصل والاطلاق والنصوص السابقة لعدم اشتراط الكيل والوزن في بيعه، وان

ص: 120

اتفق بيعه بأحدهما في بعض الأحوال والأمكنة أو الأزمنة، ثمّ يقال: إنّه لا يباع سلفاً إلاّ وزناً، فلو سلف ماءً في ماء الى أجل احتمل أن يكون ربوياً، وكذا الأحجار والتراب والحطب، وفيه أنّ الوزن في السلم يكون للضبط، لالأنّه يعتبر في صحة بيعه ذلك، فالأقوى عدم جريان الربا فيه، إذ لو سُلّم اعتبار الوزن فيه يمكن منع تحقّق شرط الربا بذلك ضرورة ظهور الأدلّة في اعتبار ذلك في أصل بيعه لا في قسم خاص من البيع.

ولكن الحق: أنّه لو فرض بيع الماء مكيلاً أو موزوناً كماء زمزم - مثلاً - فانّه يقع فيه الربا، وكذا الأحجار الثمينة على فرض بيعها بالوزن، وأمّا الحطب فانّه لا اشكال بوقوع الربا فيه؛ لأنّه يباع بالوزن فيقع فيه الربا كالفحم الذي يباع دائماً بالوزن، أمّا الماء لو فرض أنّه أسلف ماءً في ماء فالظاهر أنّه ليس ربوياً بعد أن لم يكن أصل بيعه كذلك، واشتراط الكيل إنّما كان لأجل الضبط كما نصّ الجواهر عليه.

أمّا الطين الأرمني فيقع فيه الربا؛ لأنّه مكيل وموزون ويؤخذ للدواء كما في بعض الروايات.

فعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر(ع) أنّ رجلاً شكا إليه الزحير، فقال: خذ من الطين الأرمني وأقله بنار لينة واستفّا منه فانّه يسكن عنك.

وعن الحسن بن الفضل الطبرسي في مكارم الأخلاق قال: سُئل

ص: 121

أبو عبدالله(ع) عن الطين الأرمني يؤخذ للكسير والمبطون أيحل أخذه؟ قال: لا بأس به، أمّا انّه من طين قبر ذي القرنين، وطين قبر الحسين(ع) خير منه.

المسألة الخامسة والعشرون: في جواز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة

إذا باع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة سواء كانا مسكوكين أو غير مسكوكين فان كان وزن أحدهما أكثر من الآخر فالمعاملة باطلة، كما ورد في صحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) الفضة بالفضة مثلاً بمثل ... - الخ. رواه الصدوق باسناده عن حماد نحوه، إلاّ أنّه زاد: والذهب بالذهب مثلاً بمثل. وغيرها من الروايات.

نعم يجوز بيع الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب متفاضلاً؛ لاختلاف الجنس، كما لا يجوز بيع تراب معدن الفضة بالفضة؛ لعدم العلم بالمساواة، ويجوز بيعه بالذهب؛ لاختلاف الجنس، وكذا لا يجوز بيع تراب الذهب بالذهب، ويجوز بالفضة لنفس ما ذكر، وكذا على الأحوط وجوباً ترك بيع تراب معدن الذهب أو الفضة بالذهب والفضة لما ذكرنا.

ص: 122

الفصل الرابع: الربا في القرض

اشارة

والكلام فيه يقع في اُمور:

الأمر الأوّل: القرض لغة: ما تعطيه غيرك ليقضيكه، وأصله القطع فهو قطعية من مالك باذنه على ضمان رد مثله.

وفي الاصطلاح: تمليك مال لآخر بالضمان، فلا بدّ أوّلاً من ذكر الروايات الواردة في المقام:

فمنها: عن حفص بن غياث، عن أبي عبدالله(ع) قال: الربا ربآن: أحدهما: ربا حلال، والآخر: حرام. فأمّا الحلال: وهو أن يقرض الرجل قرضاً طمعاً أن يزيده ويعوّضه بأكثر ممّا أخذه بلا شرط بينهما، فان أعطاه أكثر ممّا أخذ بلا شرط بينهما فهو مباح له، وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه، وهو قوله عزوجل: (فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ) أمّا الربا الحرام: فهو الرجل يقرض قرضاً ويشترط أن يرد أكثر ممّا أخذ، فهذا هو الحرام.

فيظهر من هذه الرواية إنّما يصدق أخذ الفضل ربا إذا اشترط ذلك، وأمّا إذا لم يشترط فيجوز الفضل. ومن جملة الربا الحلال هو أن تهب مالاً فتريد بها أفضل أو أزيد منه من دون أن يكون هناك شرط أو إلزام، فهو من الربا الحلال أيضاً، وهو ما يعبّر عنه بربا العطية.

ص: 123

ومن الأخبار ما عن الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: سألته عن الرجل يستقرض الدراهم البيض عدداً ثم يعطي سواداً وزناً، وقد عرف أنّها أثقل ممّا أخذ، وتطيب نفسه أن يجعل ل-ه فضلها، فقال: لا بأس به إذا لم يكن فيه شرط، ولو وهبها له كلها صلح.

وأمّا ما ورد عن النبي(صلی الله علیه و آله) من غير طرقنا وعن أبي جعفر(ع) من طرقنا بعبارات مختلفة جزئياً «كلّ قرض جر منفعة فهو ربا».

ففيهما: أنّهما ضعيفتان من جهة السند، وعلى فرض القبول فهما مطلقتان تقيّدان بتلك الروايات - أي روايات الاشتراط - أي اذا اشترط فهو ربا، ويدلّ عليه ظهور الرواية وهو جر المنفعة، أمّا إذا دفع المقترض الزيادة من قبل نفسه أو دفع الأجود كذلك لا يصدق عليه جر القرض المنفعة.

ويدلّ عليه ما عن الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: إذا اقرضت الدراهم ثم أتاك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط.

«خلاصة البحث»

فالقرض تارة يكون بالصيغة واُخرى على نحو المحاباة، ولا فرق في حرمة القرض بين أن تكون الزيادة حقيقية - كأن تكون في مقابل التأجيل - أو عرضية - كالزيادة في نفس عقد القرض ابتداءً - ولا فرق في التحريم بين أن يكون مكيلاً أو موزوناً أم لا، بل يكون معدوداً، وذكرنا أنّ الزيادة التي قلنا: إنّها حرام لا بدّ أن تكون مع الشرط، بلا

ص: 124

فرق بين أن يكون الشرط صريحاً، أو مذكوراً في ضمن العقد، أو وقعت المعاملة مبنيّة عليه، وهل هذا موجب لفساد القرض أم لا؟

فما أخذه المقترض من المقرض والحال هذا يكون من المقبوض بالعقد الفاسد، ثمّ لا فرق في عدم جواز هذه المعاملة مع الزيادة بين أن تكون الزيادة عينية، أو عملاً من المقترض للمقرض، أو انتفاعاً بمال المقترض، أو صفة زائدة موجودة فيما يعطيه من العوض، كأن يعطي المقترض الدرهم الصحيح والجيّد بالدرهم المكسور، فهذه كلّها من الاُمور المحرمة، ويشملها قوله(ع): «كلّ قرض جر المنفعة فهو ربا».

أمّا انّ الزيادة التي قلنا: إنّها حرام إنّما هي لأجل الشرط، ولا فرق - كما ذكرنا - بين أن يكون صريحاً أو مذكوراً في ضمن العقد؛ لاطلاق الدليل، وكذا اذا كان وقوع المعاملة مبني عليه فهو شرط واقعاً أيضاً.

أمّا أنّه موجب لفساد العقد أم لا، أي ما أخذه المقترض يكون من المقبوض بالعقد الفاسد، كأصل المسألة الربوية حيث أنّ اشتراط الزيادة موجب لاختلال صحة العقد وأركانه؛ لأنّ أحد أركان الصحّة هو التساوي، وفي المسألة الربوية لم يوجد هذا التساوي، فلا يشمله اطلاق أدلّة صحة البيع.

أمّا هنا فيمكن أن يقال: بأنّ هذا الشرط ليس من الشروط التي

ص: 125

تكون سبباً لاختلال أصل أركان المعاملة، فاذا لم يكن كذلك فيكون الشرط باطلاً.

أمّا أصل العقد فأركانه تامة كما مرّ في تعريفه: تمليك المال على وجه الضمان، فتكون أركان العقد موجودة وكاملة هنا فتشمله أدلّة صحّة العقد «أوفو بالعقود» ثمّ ليس كّل نفع يكون مفسداً للعقد. نعم النفع الذي له مدخلية في القرض هو الذي يكون حراماً، أمّأ النفع الخارج عن ذلك فلا، فاذا فرض أنا اُعطي لآخر مالاً وهو يعطيني نفقتي وما احتاج إليه بحيث لولا القرض أيضاً كان يعطيني، فهو مجرد المقارنة، كما ورد في حديث هذيل قال: قلت لأبي جعفر(ع): إنّي دفعت الى أخي جعفر مالاً فهو يعطيني ما أنفقه واحج منه واتصدق وقد سألت من قبلنا فذكروا أن ذلك فاسد لا يحل وأنا أحب أن أنتهي الى قولك، فقال لي: أكان يصلك قبل أن تدفع إليه مالك؟ قلت: نعم، قال: خذ منه ما يعطيك فكل منه واشرب وحج وتصدق، فاذا قدمت العراق فقل: جعفر بن محمد أفتاني بهذا.

ثمّ انّ هناك شرط جائز وغير مفسد للمعاملة وهو: أن يشترط في ضمن القرض شرطاً يجر النفع، لا أنّ القرض بنفسه يجر النفع، والذي هوالفاسد الثاني لا الأوّل، فاذا أقرض مالاً واشترط عليه أن يأتي بغلّته لأجل أن يبيع له وله منفعة في هذا البيع فهذا ليس بحرام ولو أن الشرط كان في ضمن عقد القرض وقد جر النفع، ولكن لم

ص: 126

يكن القرض بنفسه ومباشرة صار سبباً لجر النفع، بل النفع حصل عليه في مقابل عمل.

إن قلت: العقل لا يفرق بين جر النفع مباشرة أو بالتسبيب، فانّ القرض جر البيع والبيع جر النفع. اذن القرض جر النفع.

قلت: إنّ الروايات منصرفة عن أمثال هذه، بل تختص على المورد الذي القرض يجر بنفسه النفع، وهنا النفع كان في مقابل العمل كما ذكرنا.

والذي يدلّ على ذلك حسنة جميل: قلت لأبي عبدالله(ع): أصلحك الله إنّا نخالط نفراً من أهل السواد فنقرضهم القرض ويصرفون إلينا غلاتهم فنبيعهما لهم بأجر ولنا في ذلك منفعة، قال: فقال: لا بأس، ولا أعلمه إلاّ أن قال: ولو لا ما يصرفون إلينا من غلاّتهم لم نقرضهم، فقال: لا بأس.

فكما يبنون على ذلك ويكون هذا البناء بمنزلة الشرط، ثمّ لو فرضنا بأنّ الشرط فاسد فهل هو مفسد أم لا؟ وبما أنّه لم يكن هناك دليل على ذلك فنتمسّك باطلاق (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) كما مرّ.

ومن الاُمور التي لا يصدق عليها جر النفع هو: أن يشترط الدائن رهناً على ما أقرضه أو كفيلاً أو شهادة، فانّ هذه الاُمور هي وثيقة وضمان للمال من ضياعه ولا يصدق عليه النفع.

ثمّ لا يخفى في أنّ الربا إنّما يكون حراماً إذا اشترط للمقرض، أمّا

ص: 127

إذاكان للمقترض فلا يضر؛ لأنّ أدلّة الربا التي تحرم أخذ الزيادة موضوعها هو اشتراط الزيادة للمقرض دون المقترض، فأخذ الزيادة للثاني لا تشملها أدلّة حرمة الربا، كما إذا اقترضت مائة على أن ترجع اليه تسعين درهماً، فالأدلّة منصرفة عن أن يكون المستفيد هو المقترض، ومثل هذا ما إذا حوّل مالاً الى الهند فيجوز لصاحب البنك أن ينقص منه مقداراً ويعطي أقل من المال الذي حوّل إليه، وليس هذا بربا؛ لأن الربا هو أن يأخذ الدائن الزيادة، مضافاً الى أن أخذ هذه الزيادة كان مقابل عمله، فيأخذ هذا المبلغ تجاه عمله مع اتفاق الطرفين على ذلك المبلغ. أمّا إعطاء المال واشتراط قبضه في أرض اُخرى لو كنا نحن والقاعدة وهو «كلّ قرض يجر النفع للمقرض فهو ربا»، فهنا إذا كان القرض يجر النفع فيحسب من الربا المحرم، ولأنّه ولو كان من المعدود ولكن في المعدود إذا كان نسيئة يجيء الربا، ولكن مع ذلك وردت هنا روايات تدلّ على جوازه:

فمنها: صحيحة يعقوب بن شعيب، عن أبي عبدالله(ع) قال: قلت: يسلف الرجل الورق على أن ينقدها إياه بأرض اُخرى ويشترط عليه ذلك، فقال: لا بأس. ومثلها صحيحة يعقوب، عن أحدهما(ع).

ومنها: موثقة السكوني، عن أبي عبدالله(ع) قال: قال أمير المؤمنين(ع): لا بأس بأن يأخذ الرجل الدراهم بمكة ويكتب لهم سفاتج عن أن يعطوها بالكوفة.

ص: 128

لا يخفى بأنّه إذا أدان شخصاً لابدّ من تعيين الدائن مكان القبض لكي لا يحصل الغرر في المعاملة بعد ما كانت النقود تختلف قيمتها في كل دولة، فاذا عيّن مكاناً للقبض فهو، وإلاّ فمقتضى الاطلاق هو القبض في بلد الدين.

ولا يجب عليه أن يستلم في غير بلد الدين، فما عن بعض: «إنّي لم أقف بعد التتبع والفحص على دليل لما ذكروه هنا من أنّ إطلاق القرض منزّل على قبضه في بلده» ففي غير محلّه؛ لأنّه ليس للمقرض المطالبة في غيره، ولا يجب عليه القبض أيضاً لو بذله المقترض له في غيره.

ثم لا بأس ببيان بعض الفروع هنا:

الفرع الأوّل: لو باعه الشيء بأقل من ثمنه المتعارف بشرط أن يقرضه صحّ، ولكن لو أقرضه بشرط أن يشتري منه زائداً عن القيمة لم يصحّ.

الفرع الثاني: لو أجّل الحال بزيادة فهو ربا.

الفرع الثالث: يجوز تعجيل المؤجّل باسقاط بعضه بابراء أو صلح، وهو المسمى ب- «صلح الحطيطة» وهذا ليس من الربا.

الفرع الرابع: لو تبرّع المقترض باعطاء الزيادة للمقرض من غير شرط جاز، بل فيه الرجحان، كما ورد في الحديث: خير القرض الذي يجر المنفعة. وفي حديث آخر: خير القرض ما جر منفعة.

ص: 129

الفصل الخامس: المعاملات البنكية

اشارة

والبحث عن هذه المعاملات بهدف ربط بعض مسائلها بموضوع بحثنا، وهي المعاملات التي يرد عليها الربا.

اذن لابدّ من: ان نشرح المعاملات البنكية لكي نعلم أي معاملة تكون ربوية وأيّها لا تكون كذلك.

لا يخفى بأنّ المصارف والبنوك توضع فيها ودائع وهي على أقسام أربعة الثابتة والمؤقتة والمتعارفة وودائع التوفير.

امّا الأوّل: وهو أن يودع الانسان مبلغاً ويتفاوض مع أصحاب البنوك، وتكون هذه الوديعة الى مدة معينة، ويدفع البنك طبق التفاوض إليه مقداراً من المال، وبهذا التفاوض لا يمكن للمودع أن يطالب بماله متى أراد، بل لا بدّ من انتهاء مدة العقد.

والثاني: المؤقتة وهي أن يودع ماله، لكن الى مدة قليلة، ويحصل أيضاً على فائدة حسب القرار.

وأمّا الثالث: المتعارفة وهي أن يضع نقوده في البنك لأجل الحفظ والصيانة من السرقة، وله متى أراد أن يطالب بالمال، وليس هناك أي تفاوض بينه وبين البنك، ولكن إذا بقي فالبنك يدفع إليه مبلغاً من المال.

وأمّا القسم الرابع: وهو أن يودع ماله بقصد التوفير وينشئ حساباً

ص: 130

خاصاً ويُدفع له دفتراً وهو دائماً يودع ويسحب، وله أن يسحب ماله كله أو قسماً منه متى أراد، وليس هناك أي تفاوض، بل البنك يعطي بنفسه له شيئاً من المال ولو فرض أن قصد المودع أخذ الزيادة ولكن ليس هناك شرط، ويكون أخذ الزيادة - في صورة عدم الشرط ودفع البنك بنفسه وهو الذي يقرر المبلغ - ليس من الربا، فما يدفعه المصرف بعد ايداع الشخص ماله في الصندوق واعطاء البنك شيئاً من المال ك- «4%» أو «5%» أو أقل أو أكثر؛ لأجل تشويق الأشخاص وترغيبهم في عدم سحب أموالهم أو يدفع جوائز لمن وقعت القرعة باسمه، فالظاهر أنّه كسابقه؛ لأنّه ليس هناك التزام من الطرفين، بل إلزام من طرف واحد وهذا الاعطاء والزيادة أمر راجح، فاذا دفع الشخص أمواله الى البنك بعنوان القرض أو الحفظ وأعطى البنك بعد ردّ المال شيئاً زائداً على أصل المال أو شيئاً في كلّ شهر فهذا يكون مباحاً. كما ورد في صحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) إذا أقرضت الدراهم ثمّ جاءك بخير منها فلا بأس اذا لم يكن بينكما شرط.

وفي خبر آخر: عن حفص بن غياث، عن أبي عبدالله(ع) الربا رباآن: أحدهما: ربا حلال والآخر حرام، فأمّا الحلال فهو أن يقرض الرجل قرضاً طمعاً أن يزيده ويعوّضه بأكثر ممّا أخذه بلا شرط بينهما، فان أعطاه أكثر ممّا أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح، وليس

ص: 131

له عندالله ثواب فيما أقرضه وهو قوله عزوجل: (فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ)، وأمّا الربا الحرام فهو الرجل يقرض قرضاً ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه وهذا هو الحرام وقد تقدم.

وعن أبي الربيع قال: سُئل أبو عبدالله(ع) عن رجل أقرض رجلاً دراهم فردّ عليه أجود منها بطيبة نفسه وقد علم المستقرض والقارض أنّه إنّما أقرضه ليعطيه أجود منهما، قال: لا بأس إذا طابت نفس المستقرض. وغيرها من الروايات.

وأمّا بناء على الاشتراط فهل يمكن ألاّ تدخل المعاوضة في المسألة الربوية أم لا؟

فقد أراد البعض ادخال هذا العمل في المضاربة، ولكن شروط المضاربة غير متوفّرة هنا؛ لأنّ تعريف المضاربة هو: أن يضع شخص ماله عند شخص آخر لكي يتّجر به ويكون الربح بينهما حسب التفاوض والنسبة المتفق عليها، أمّا إذا لم يكن هناك ربح فلصاحب المال رأس ماله، وليس للعامل شيء، وإذا وردت الخسارة فيتحمّلها صاحب المال من ماله، وأمّا العامل فلا، وهذه هي المضاربة المطلقة، وقد تكون مقيدة، والفرق بينهما أن المطلقة غير مختصة بزمان ولا مكان ولا عمل خاصّ، والمقيّدة هي التي تتقيّد بوقت أو مكان خاص أو نوع من عمل خاص.

إذن تعريف المضاربة لا يشمل المورد.

ص: 132

وقد أدخل المسألة - في مسألة مجهول المالك - اُستاذنا الأعظم بقوله: «لا يجوز التصرف في المال المقبوض منه بدون إذن الحاكم الشرعي أو وكيله» وقد ذكر الاقتراض من البنك والايداع فيه في ضمن مسألتين: الاُولى: وهي المسألة الرابعة عنده بقوله: «لا يجوز الاقتراض منه بشرط الزيادة؛ لأنّه ربا بلا فرق بين كون الاقراض مع الرهن أو بدونه، نعم يجوز قبض المال منه بعنوان مجهول المالك، لا القرض باذن الحاكم الشرعي أو وكيله، ولا يضره العلم بأنّ البنك يستوفي الزيادة منه قهراً، فلو طالبه البنك جاز له دفعها حيث لا يسعه التخلف». والمسألة الثانية: أي الخامسة عنده بقوله: mلا يجوز ايداع المال فيه بعنوان التوفير بشرط الحصول على الربح والفائدة؛ لأنّه ربا. ويمكن التخلّص منه بايداع المال بدون شرط الزيادة، بمعنى أنّه يبني في نفسه على انّ البنك لو لم يدفع له الفائدة لم يطالبها منه، فلو دفع البنك له فائدة جاز له أخذها بعنوان مجهول المالك باذن الحاكم الشرعي أو وكيله ... الخ.

لا يخفى بأنّ حكم مجهول المالك مختص بما اذا كانت الحكومه غير مالكه.

أمّا ما ذكره في المسألة الخامسة: «بأنّه لا يجوز ايداع المال بعنوان التوفير... الخ» فالظاهر أنّه لا يحتاج الأخذ منه بعنوان مجهول المالك بعد مالم يشترط، ولا يحتاج الى البناء القلبي؛ لأنّ

ص: 133

الالزام إنّما هو من طرف واحد، وهو البنك، حيث ألزم نفسه بدفع المبلغ المذكور، كما تقدم في الرواية: بأنّه لو كان من قصده الزيادة فلا مانع.

اذن لو التزم المقترض اعطاء الفائدة فهو ليس من الربا إلاّ أن يقال: بأنّ معاملة البنوك ليست من هذا القبيل بل بما أنه مما تبانى عليه الطرفان ومنظور أساسي لهما فتكون شرطاً ضمنياً وتبطل المعاملة. نعم لو لم يكن من نية المقرض اخذ الزيادة بل وضعه المال لأجل الحفظ - مثلاً - ولو التزم المقترض على نفسه اعطاء الزيادة تكون المعاملة صحيحة وليست ربوية.

ومن المعاملات المصرفية: الكمبيالات

لا يخفى انّ الشيء تارة يكون له مالية واعتبار حقيقي - كما إذا كان فيه منافع ومتوقّف عليه معائش العباد كالمأكولات والملبوسات - وتارة اُخرى تحصل على الماليّة من جهة اعتبار المعتبر - كما جعلوا للاوراق النقدية والطوابع اعتباراً - وهل الكمبيالات كالأوراق النقدية لها اعتبار مالي أم لا؟

الظاهر أنّها ليست كالأوراق النقدية، حيث يجوز للدائن أن يبيع دينه بأقل ممّا يطلب نقداً، كما إذا كان يطلب مائة فيبيع الأوراق نقداً بتسعين، لأنّها ليست بمكيل ولا موزون. أمّا الكمبيالات فليست كذلك، ولا يمكن للبنك حينما يأخذ الكمبيالة إلاّ دفع قيمتها تماماً ولا يجوز

ص: 134

أخذ الفائدة؛ لأنّها ربا.

وبعبارة اُخرى: أنّ الكمبيالة مجرد وثيقة وسند للأجل، وأنّ المبلغ المذكور فيها دين في ذمة من وقّع الكمبيالة أو كتبت باسمه، لا أنّها كالنقود حتى تكون بمنزلة الثمن، ولذا لو ضاعت الكمبيالة أو تلفت ليس بمعنى أنّه تلف مال الدائن وفرغت ذمة المدين، كما اذا باع شيئاً ودفع المشتري إليه كمبيالة وضاعت الكمبيالة فالبائع يطلب المشتري ولم تفرغ ذمته، أمّا اذا دفع المشتري إليه من الأوراق النقدية فتفرغ ذمته وان ضاعت الأوراق.

ثمّ لا يخفى انّ الكمبيالات على نوعين: احداها: عن قرض واقعي، والاُخرى: عن قرض صوري.

ففي الصورة الاُولى: وهي أن يكون الموقّع والدافع للكمبيالة مديناً واقعاً للآخذ، فلو نزلها عند شخص ثالث - أي باعها بأقل من الدين الذي قد وقع عليه الكمبيالة نقداً، كما اذا دفعها الى المصرف وبعد ذلك يقوم المصرف بمطالبة الموقّع - جاز. أمّا بيعه مؤجّلاً فلا يجوز، كما إذا اقترض من ثالث مالاً ثمّ دفع الكمبيالة التي يستحقها بعد ستة أشهر إليه؛ لأنّه يدخل في بيع الدين بالدين.

وأمّا الكمبيالة الصورية: وهي التي لا تكون ديناً واقعاً للمُوقّع له في ذمة الموقّع.

فاذن لا بيع هناك واقعاً، ولم تكن ذمة الموقّع مشغولة للموقّع له.

ص: 135

نعم لو وقّع الحوالة فهي في الواقع اقراض من البنك للموقّع له، ويحوّل الموقّع البنك الذي هو دائن على موقّع الكمبيالة، وهذا يكون في الحقيقة من الحوالة على البريء، فلا يجوز حينئذٍ للبنك أخذ الشيء من قيمة الكمبيالة واقتطاعه تجاه المدة؛ لأنّه رباً محرم.

ومن أعمال البنك إعطاء الحوالات، وهي على قسمين:

الأوّل: افتتاح الحساب والاعتمادات للواردات، مثلاً انّ تاجراً من التجار يشتري من تاجر خارجي بضاعة، وبعد تمامية الشراء يطلب من البنك فتح اعتماد له، ويدفع التاجر الى البنك قيمة البضاعة تماماً أو بعضها ويقوم البنك بتسديد المبلغ وهو يقوم بتسليم البضاعة، وحينما تصل الى بلد التاجر المستورد يخبر البنك مالكها ويكتب له سنداً يجيزه باستلام البضاعة ويأخذ من التاجر ما بقي من قيمة البضاعة.

الثاني: افتتاح الحساب والاعتمادات للصادرات، مثلاً: أحد التجار في الداخل يطلب من تاجر خارجي ارسال بضاعة، فلو لم يكن للتاجر الخارجي وكيلاً لكي يستلم المبلغ فان التاجر الداخلي يفتح حساباًَ في البنك ويرسل الى التاجر الخارجي المبلغ بواسطة البنك، وبعد ارسال البضاعة وتسليمها لأحد الموانئ يستلم قيمة البضاعة من البنك.

مسألة: لو دفع مالاً لآخر واشترط أن يسلّمه في أرض اُخرى

ص: 136

فهل هذا من الربا المحرم أم لا؟

لا يخفى انّ المال تارة يكون من المكيل والموزون، واُخرى يكون من المعدود، ونتكلّم في هذه المسألة حسب القاعدة تارة، واُخرى حسب الدليل الوارد. أمّا حسب القاعدة فيمكن أن يقال: بالجواز؛ لأنّه - أي البنك - يأخذ حق العمل ويمارس عملية لها قيمة، كما قال السيد الشهيد الصدر(قدس سره) في البنك اللاربوي.

ولكن لو فرضنا أنّه كان معدوداً لا مكيلاً ولا موزوناً ففي صورة أنّه جر النفع للمقرض فيكون من الربا، ويجري الربا في المعدود نسيئة، ولكن حسب الروايات الواردة تجوّز هذه المعاملة:

منها: عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبدالله(ع) قال: قلت: يسلف الرجل الورق على أن ينقدها إياه بأرض اُخرى ويشترط ذلك، قال: لا بأس.

وخبر السكوني، عن أبي عبدالله(ع) قال: قال أمير المؤمنين(ع): لا بأس بأن يأخذ الرجل الدراهم بمكة ويكتب لهم سفاتج أن يعطوها بالكوفة.

وحسنة عبد الرحمن بن أبي عبدالله قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن الرجل يسلف الرجل الدراهم ينقدها إياه بارض اُخرى والدراهم عدداً، قال: لا بأس. وقد مرّت.

ثمّ لو قلنا: بورود الروايات فانّها مخصصة للآيات، فلا معنى

ص: 137

للبحث بأنّ هذا هل هو جر النفع أو عدم الخسارة؟ ففي الصورة الاُولى: هو محرم دون الثانية حتى يقال: بأنّ هذا في الواقع عدم الخسارة، إذ حمل البضاعة من هذا البلد الى بلد آخر يحتاج الى الاُجرة، مضافاً الى المخاطر، وعدم الخسارة ليس بمحرم، إنّما المحرم جر النفع.

ص: 138

خاتمة في بعض المسائل

الاُولى: لو تغيَّر الشيء بأمر عارض ولكن العرف يرى بينه وبين غير المتغيّر المماثلة، كما لو أصبحت الحنطة مقليّة فلا يجوز بيعها بأكثر من الحنطة غير المقليّة لحصول الربا.

الثانية: التمر المنزوع منه النوى يجوز أن يباع بالتمر الذي فيه النوى ولو حصل التفاضل إذا كانت للنواة قيمة كما إذا نفعت لعلف الدواب، وانّ الزيادة في التمر تصبح مقابل النواة.

الثالثة: جيّد كلّ جنس مع رديئه واحد، فلا يجوز البيع مع الزيادة.

الرابعة: إذا قلّد مجتهداً كان يقول: بصحة معاملة ثمّ قلّد آخر يقول: ببطلانها - لأنّها ربا - فهل يجب عليه ارجاع ما حصل عليه في الزيادة طبق فتوى الأوّل ام لا إذا كانت موجودة؟

قد يقال: بأنّ فتوى المجتهد الأوّل حكم شرعي بحق المقلّد، ففي كلّ مورد من الموارد التي تكون المسألة اختلافية بين الفقهاء، فاذا قلّد المجتهد الأوّل الذي يرى صحة العمل ثمّ قلّد فقيهاً آخر حيث يرى بطلان نفس العمل فالعمل الأوّل عندما كان عن طريق صحيح وهو التقليد كان صحيحاً. ولكن الحق هو البطلان؛ لأنّ ما أفتى به المجتهد الأوّل كان ظاهر الحكم فيكون سراباً، والحكم الواقعي هو فتوى الثاني حقيقة.

ص: 139

اذن لا بدّ من ارجاع ما حصل من الزيادة في المعاملة طبق فتوى الأوّل، هذا حسب القاعدة، ولكن يمكن أن يقال هنا: بعدم وجوب الردّ من جهة أنّه كان يرى ذلك حلالاً فتشمله الروايات والآية الشريفة (فَلَهُ مَا سَلَفَ).

اذن لا يجب الارجاع.

الخامسة: لا يخفى أنّ مستحل الربا يدخل في سلك الكفّار بعد أن علم أنّه من ضروريات المذهب بل الدين، وبعد أن أقرّ حرمته جميع المذاهب والملل، واستدلّ عليه بالروايات من الفريقين، فلنذكر بعضاً منها:

منها: موثقة ابن بكير قال: بلغ أبا عبدالله(ع) عن رجل أنّه كان يأكل الربا ويسميه اللباء، فقال: لئنّ أمكنني الله منه لأضربن عنقه.

ولكن هذه الرواية مع صحة سندها لا تدلّ على الكفر، فانّ استحقاق القتل أعم من الكفر، ولذا قال صاحب الجواهر: كما يومئ إليه ما رواه ابن بكير.

ومنها: عن محمد بن سنان، عن علي بن موسى الرضا(ع) كُتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: وعلة تحريم الربا لما نهى الله عزوجل عنه ولما فيه من فساد الأموال؛ لأنّ الانسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً، فبيع الربا وشراءه وكس على كلّ حال، على المشتري وعلى البائع، فحرم

ص: 140

الله عزوجل على العباد الربا لعلّة فساد الأموال، كما حضّر على السفيه أن يُدفع إليه ماله لما يُ-تخوّف عليه من فساده حتى يُؤنس منه رشده، فلهذه العلّة حرّم عزوجل الربا وبيع الردهم با لدرهمين، وعلّة تحريم الربا بعد البيّنة لما فيه من الا ستخفاف بالحرام المحرم، والاستخفاف بذلك دخول في الكفر، وعلّة تحريم الربا بالنسيئة لعلّة ذهاب المعروف وتلف الاُموال ورغبة الناس في الربح وتركهم القرض، والقرض صنائع المعروف، ولما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الأموال.

ولكن الرواية وان كانت من جهة الدلالة تامة إلاّ أنّها من جهة السند ضعيفة ب- «محمد بن سنان».

ومنها: عن عثمان بن عيسى، عن أبي عبدالله(ع) قال: قلت له: إني سمعت الله عزوجل يقول: (يَمْحَقُ اللّهُ الرّبَا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ) وقد أرى من يأكل يربو ماله، فقال: أي محق أمحق من درهم يمحق الدين، وان تاب ذهب ماله وافتقر.

والرواية فيها كلام حيث قيل: بأنّ عثمان بن عيسى واقفي أكل أموال الامام(ع) وكان فاسد العقيدة، ولكن بما أنّه روى عنه جملة من الأجلاّء المتحرّجين عنه، كأحمد بن محمد بن عيسى الذي كان ينفي الضعفاء عن قم، ومحمد بن حسين بن أبي الخطاب الثقة العظيم القدر الحسن التصنيف الكثير الرواية، والحسين بن سعيد الذي كتبه

ص: 141

عليها المعوّل وإليها المرجع، وجعفر بن عبدالله المحمدي الذي كان وجهاً من أصحابنا، ووثّقه الشيخ في «العُدّة» باستمرار وثاقته، وفي «الفهرست» ابن عيسى العامري واقفي المذهب له كتاب.

فعلى أي حال فالرواية من جهة الدلالة تامة وكونه واقفياً لا يضر من أخذ الرواية منه، وكذا كونه آكلاً لمال الامام(ع) بعد أن كان موثّقاً في الحديث.

ورواية أبي بصير قال: قلت: آكل الربا بعد البيّنة، قال: يُؤدب، فان عاد أُدب فان عاد قُتل.

أمّا من جهة السند فضعيفة ب- «يحيي بن مبارك» والاضمار فيها لا يضر؛ لأنّه من البعيد أن ينقل أبو بصير عن غيره(ع)، أمّا من جهة الدلالة فالقتل أعم من الكفر كما مرّ.

فعلى أي حال إن قلنا: بصحة وتمامية بعض هذه الروايات دلالة وسنداً فبها، وإلاّ فلا نحتاج إليها بعد أن تكون حرمة الربا من الضرورة، وإنكار الضروري موجب للكفر.

فلنذكر بعض ما ذكره العامّة من الروايات:

فعن الشعبي قال: كتب رسول الله(صلی الله علیه و آله) إلى أهل نجران وهم نصارى: أنّ من باع منكم الربا فلا ذمة له.

وعن ابن جريح في قوله تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ) قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي(صلی الله علیه و آله) على أنّ ما لهم من ربا

ص: 142

على الناس، وما كان عليهم من ربا فهو موضوع، فلما كان الفتح استعمل غياث بنو أسيد على مكة، وكانت بنو عمر بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة، وكانت بنو المغيرة يربون في الجاهلية فجاء الاسلام ولهم عليهم مال كثير فأتاهم بنو عمر ويطلبون رباهم فابى بنو المغيرة أن يعطوهم في الاسلام ورفعوا ذلك الى غياث بن أسيد، فكتب غياث الى رسول الله(صلی الله علیه و آله) فنزلت: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرّبَا) وقوله: (لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) فكتب بها رسول الله(صلی الله علیه و آله) الى غياث فقال: إن رضوا وإلاّ فأذنهم بحرب.

ونقلت الرواية بشكل آخر.

السادسة: حرمة الكتابة، والشهادة للربا، كما في الرواية محمد بن عيسى، عن أبي جعفر(ع) قال: قال أمير المؤمنين(ع) آكل الربا ومؤاكله وكاتبه وشاهداه فيه سواء. فالرواية تامة سنداً ودلالة.

وموثقة محمد بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي(ع) قال: لعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الربا وآكله وبائعه ومشتريه وكاتبه.

وعن الصادق(ع) في مناهي النبي(صلی الله علیه و آله) أنّه نهى عن آكل الربا وشهادة الزور وكتابة الربا، وقال: أن الله لعن آكل الربا ومؤاكله وشاهديه.

ص: 143

وعن الفضل الطبرسي في مجمع البيان عن علي(ع) قال: لعن رسول الله(صلی الله علیه و آله) في الربا خمسة: آكله ومؤاكله وشاهديه وكاتبه وغيرها من الروايات.

السابعة: لا يخفى أنّ الحنطة والشعير بعد أن كانا من جنس واحد، فلو باع كيساً من الحنطة بكيسين من شعير فهو ربا محرم، كما في رواية هشام، عن أبي عبدالله(ع) قال: سُئل عن الرجل يبيع الرجل الطعام أكراراً فلا يكون عنده ما يتم ما باعه فيقول: خذ مني كلّ قفيز من حنطة بقفيزين من شعير حتى تستوفي ما نقص من الكيل، قال: لا يصلح؛ لأنّ أصل الحنطة من الشعير.

والرواية حسنة ب- «سهل بن زياد».

وحسنة الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: لا يباع مختومان من شعير بمختوم من حنطة، ولا يباع إلاّ مثلاً بمثل والتمر مثل ذلك. وقد مرّ.

وبهذه المسألة تنتهي هذه الرسالة الشريفة شاكراً فيها كلّ من اهتم بطبعها واخراجها بحلة قشيبة، سائلاً ل-ه ولهم دوام التوفيق والتأييد بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

في مدينة قم المقدسة

مجتبى السويج

في السادس عشر من شهر رجب

ص: 144

المرجب سنة 1415ه-

على صاحبها الآف الصلاة والتحية

ص: 145

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.