بحوث معرفية في علم الكلام

هویة الکتاب

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

nashra@alkafeel.net

کربلاء المقدسة

ص.ب(233)

هاتف: 322600، داخلی: 175-163

الكتاب: بحوث معرفية في علم الكلام/ الجزء الأول/ التوحيد.

تأليف: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، معهد تراث الأنبياء للدراسات

الحوزوية الإلكترونية.

الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 500 .

ذو الحجة الحرام 1443 ﻫ-تموز 2021 م

ص: 1

المجلد 1

اشارة

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

قسم اعداد المبلغات

بحوث معرفية في علم الكلام

الجزء الأول

التوحيد

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

اصدارات: جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

ص: 4

مقدمة جامعة أم البنين (عليها السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قال تعالى (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَىٰ باللهِ حَسِيبًا)(1)

إن من أهم الأهداف الأساسية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) – بالإضافة إلى هدف الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإتمام الحجة على الناس, وكونها ثورة رافضة للاستسلام والخضوع للجبابرة والطغاة والسلطات الغاشمة في ذلك العصر – هو هدف تجسيد المعنى الحقيقي للتبليغ والتعريف بالإسلام وحقيقته الناصعة.

وكلنا يعلم الدور العظيم الذي تجسّد على أيدي بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) في إظهار حقيقة الثورة الحسينية وإيصال صوتها وأهدافها وغاياتها إلى جميع البشرية، بعد أن تصوّر المعسكر الأموي أنّه استطاع خنق الصوت الحسيني والقضاء عليه في طفّ كربلاء.

ص: 5


1- سورة الاحزاب (39)

وانطلاقاً من هذا الهدف السامي لهذه الثورة العظيمة، التي كانت وما زالت تمدُّ الإنسانية بكل قيم الإباء والعطاء, ولأجل بناء جيلٍ من المبلغات يستطعنَ تجسيد أهداف ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في خطابهنّ التبليغي والإرشادي، وعلى أسس علمية رصينة بعيدة عن الارتجال, وحسب منهج مُعَدّ من قبل أساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف؛ طرحنا فكرة إنشاء جامعة أم البنين (عليها السلام) الإلكترونية النسوية، والتي كان أحد أقسامها: قسم إعداد المبلغات، بعد نجاح مشروع معهد تراث الأنبياء (عليهم السلام) للدراسات الحوزوية الإلكترونية، حيث رأينا ولمسنا الإقبال المتزايد على الدراسة الحوزوية الإلكترونية من قِبَل الشباب المؤمن الطموح في الكثير من أقطار الأرض، بعد أنْ كان الحاجز الأساسي بينهم وبين الوصول إلى منابع ومناهل المعرفة في النجف الأشرف هو البعد المكاني, فكسرنا هذا الحاجز من خلال الدراسة الإلكترونية؛ لننقل هذه التجربة إلى إنشاء جامعة تخصصية لإعداد المبلغات الرساليات , وتكون مدة الدراسة فيها أربع سنوات , ثلاث سنوات منها دراسية تخصصية، والسنة الرابعة تطبيق عملي للخطابة والتبليغ داخل وخارج العراق.

وتكمن رؤيتنا المستقبلية في إعداد وتمكين جيل من المبلغات الرساليات، اللاتي يملكْن القدرة على إيصال المعلومة الدينية الصحيحة، بأسلوب رصين ومتحضر، يتناسب مع قيمة المنبر الحسيني وعقلية المتلقي العصري.

ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف، عملنا على توفير مناهج دراسية

ص: 6

رصينة لتعليم المبلغات فن الخطابة المقنع والمؤثر، ورفدهنَّ بالمعلومة التاريخية الدقيقة والمنهج الديني العلمي المبسّط، ودعم هذه المناهج بالتجربة العملية لتكون المبلغة قادرة على رفع الوعي العام في المجتمع الإسلامي.

وفي الحقيقة، فنحن نهدف من ذلك إلى تحقيق عدة أهداف، خلاصتها:

1- رفع الوعي العام في المجتمع الإسلامي بأهداف ومبادئ الثورة الحسينية وأسبابها ونتائجها، عن طريق حث المبلغات على تقديمها بأسلوب علمي وعصري دون الاعتماد بشكل كلي على الجانب الرثائي من الثورة.

2- الحفاظ على قيمة ومستوى المعلومة المقدمة في المنبر الحسيني النسوي، عن طريق تخليصه من الخرافات والمعلومات غير الدقيقة، التي تقدم غالباً بسبب السهو أو الجهل بالمعلومة الصحيحة من قبل المبلغة.

3- مواجهة الأسلوب الخطابي المؤثر للتيارات الفكرية المنحرفة، عن طريق رفع مستوى الثقافة العامة للمبلغات، وتدريبهن على فن الخطابة المقنع والمؤثر.

4- رفع مستوى الجانب الفقهي والعقائدي لدى المجتمع النسوي عن طريق الاستفادة من دور المبلغة وأهمية وتأثير المنبر الحسيني في المجتمع.

في كل ذلك اعتمدنا على مناهج علمية رصينة في علوم الفقه والكلام والنحو والمنطق والأخلاق والخطابة والتاريخ.

اعتمادُنا أولاً وآخراً على الباري جل وعلا أن يوفقنا لإتمام هذا المشروع،

ص: 7

ونستمد اللطف من أهل بيت العصمة (صلوات الله عليهم) أن يكونوا شفعاءنا إلى الباري جل وعلا في ذلك، مشفِّعين في ذلك كله المولى أبا الفضل العباس بن أبي طالب (عليهم السلام)، الذي كنا ولا نزال ننهل من بركاته، نسأل الله تعالى ان يمن علينا برضاه، وأن يوفقنا لنكون خداماً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام).

إدارة الجامعة.

ص: 8

الاهداء

إلى قطب رحى الإمكان

إلى من لولاه لساخت الأرض وغارت بأهلها

إلى قاصم شوكة المعتدين

إلى من يأتي –كجده (صلى الله عليه وآله)- رحمةً للعالمين

مولاي... أيها الإمام المؤمّل المنتظر

بضاعتي مزجاة، أقدمها بين يديك

وكُلّي خجل من التقصير

وفي الحقيقة، هي منكم، وإليكم، فأنتم مصدرها، وإليكم المرجع

فاقبلها بلطفك... وكرمك...

ص: 9

ص: 10

مقدمة المؤلف

تمثل العقيدة –بما تحويه من مباحث علمية منهجية- المحور الأساسي والمفصل الرئيسي لأي مذهب من المذاهب، وذلك أن كل ما عداها يبتني عليها ويرجع إليها، وهو ما اتفقت عليه الكلمة.

وهذه الحقيقة تعني -فيما تعنيه- أن الجهود لا بد أن تُركّز على تأصيل العقيدة وبيان ارتباطها بمصادر التشريع: القرآن الكريم والسنة الشريفة.

وتعني أيضاً: أن التركيز على غيرها -مع تهميشها- هو خلل معرفي لا بد أن يُتدارك، قبل أن يفني المرء عمره على الحصول على نتائج غير مستدلة، الأمر الذي يُنذر باحتمال أن تهتز العقيدة لأقل ريح تهب، أو تتخلخل لأدنى شبهة تُثار.

لذلك اقتضت المنهجية العلمية الاهتمام بالعقيدة توضيحاً وتجذيراً واستدلالاً، فضلاَ عن البيان الوافي بما لا يترك للآخر فرصة للإشكال أو مندوحة من الموافقة.

وفي هذا السياق، نجد الاهتمام البالغ من علمائنا الأفذاذ، سواء على مستوى الكتابة، أم تأسيس المراكز العلمية المختصة بهذا الجانب، أم الوقوف بقوة ضد الشبهات التي تُثار، أم المتابعة الميدانية لتطورات علم

ص: 11

الكلام والتحولات الجوهرية التي حصلت في طريقة البحث والاستدلال، خصوصاً في ظل القفزات العلمية التي يشهدها العالم.

من جهة أخرى، يُخطئ من يظن أن الكتابة في العقيدة قد أُقفل بابها، وأن مفرداتها محصورة محدودة، وقد تمّ الوصول إلى الغاية فيها، فتكون الفرصة للخوض في بيانها والاستدلال عليها قد ماتت، كلا، إذ إن الحاجة كانت وما زالت وتبقى إلى يوم القيامة، ومما يدل على ذلك أن الحوزات العلمية في طرحها الدقيق، ومتابعتها الشاملة، ما زالت تبحث وتنقّب وتكتشف وتركّب وتستدل وتضيف... ومن جهة أخرى، ما زال المناوئون يرمون شبهاتهم، ويجددونها، ويعملون على إيجاد ثغرات في العقائد ولو بالملازمات البعيدة...

وعلى كل حال، فالحاجة إلى العقيدة، والبحث فيها، والكتابة، والتدريس، والنشر والتسويق، ما زالت على حالها، بل زادت أكثر في ظل التطورات التي جعلت العالم كقرية صغيرة.

ومن هذا المنطلق، كان من الدروس الأساسية لمراحل ثلاث في جامعة ام البنين (عليها السلام) الإلكترونية هو درس علم الكلام، فكانت هذه البحوث، والتي حاولت فيها –وتكفيني المحاولة- أن أذكر المهم والابتلائي منها، مع تفاصيلها، لتكون منهجاً مفيداً في العقيدة.

وفي هذا المجال، من الضرورة بمكان الإشارة إلى التالي:

ص: 12

أولاً: هذه البحوث تمثل مرحلة متوسطة في دراسة العقيدة، فليست هي خطوة أولى، ولا أخيرة، مما يعني ضرورة أن تسبقها دورة عقائدية منهجية معينة، كدراسة كتاب عقائد الإمامية للشيخ المظفر (قدس سره)، وهكذا على الطالب أن يستمر بالبحث والتنقيب والاستدلال ومطالعة الكتب الموسعة أكثر في هذا المجال.

ثانياً: المنهجية المطروحة للبحوث لم تعتمد على كتاب معين يكون هو الأسلوب الأساسي المتبع فيها والمرجع إليها، وإن كانت ضمن المنهجية العامة المطروحة في كتب علم الكلام.

ثالثاً –وهو الأهم-: المصدر الرئيسي لهذه البحوث –خصوصاً في مباحث العدل والإمامة- هو ما استفدته من دروس سماحة الأستاذ السيد جعفر (دام عزه وتوفيقه) بن السيد الشهيد عبد الصاحب (قدس سره) بن مرجع الطائفة السيد محسن الحكيم (قدس سره)، في شرحه لكتاب التجريد قسم علم الكلام، وبحوثه الخارج في علم الكلام، فما كان فيها من جديد فهو منه (حفظه الله)، وما كان فيها من تقصير فهو مني بلا أدنى شك.

بالإضافة إلى مجموعة من المصادر المهمة، تم إدراجها في نهاية أجزاء هذا الكتاب.

أخيراً، إني لأحمد الله تبارك وتعالى على حسن صنيعه، وجليل نعمه، التي أقف عاجزاً عن شكر واحدة منها، وليس عندي ما أقدمه أمامها سوى أن أقول ما علّمنا الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه:

ص: 13

إِلهِي، أَنْتَ أَوْسَعُ فَضْلاً وَأَعْظَمُ حِلْماً مِنْ أَنْ تُقايِسنِي بِعَمَلِي، أَوْ أَنْ تَسْتَزِلَّنِي بِخّطِيئَتِي، وَما أَنا يا سَيِّدِي وَما خَطَرِي؟ هَبْنِي بِفَضْلِكَ سَيِّدِي، وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ، وَجَلِّلْنِي بِسَتْرِكَ، وَاعْفُ عَنْ تَوْبِيخِي بِكَرَمِ وَجْهِكَ.

سَيِّدِي أَنا الصَّغِيرُ الَّذِي رَبَيْتَهُ، وَأَنا الجاهِلُ الَّذِي عَلَّمْتَهُ، وَأَنا الضَّالُّ الَّذِي هَدَيْتَهُ، وَأَنا الوَضِيعُ الَّذِي رَفَعْتَهُ، وَأَنا الخائِفُ الَّذِي آمَنْتَهُ، وَالجائِعُ الَّذِي أَشْبَعْتَهُ، وَالعَطْشانُ الَّذِي أَرْوَيْتَهُ، وَالعارِي الَّذِي كَسَوْتَهُ، وَالفَقِيرُ الَّذِي أَغنَيْتَهُ، وَالضَّعِيفُ الَّذِي قَوَّيْتَهُ، وَالذَّلِيلُ الَّذِي أَعْزَزْتَهُ، وَالسَّقِيمُ الَّذِي شَفَيْتَهُ، وَالسَّائِلُ الَّذِي أَعْطّيْتَهُ، وَالمُذْنِبُ الَّذِي سَتَرْتَهُ، وَالخاطِئُ الَّذِي أَقلْتَهُ، وَأَنا القَلِيلُ الَّذِي كَثَّرْتَهُ، وَالمُسْتَضْعَفُ الَّذِي نَصَرْتَهُ، وَأَنا الطَّرِيدُ الَّذِي آوَيْتَهُ...

حسين عبد الرضا الأسدي

النجف الأشرف/ الجمعة

12 ربيع الأول 1442ﻫ/30 تشرين الأول 2020م.

ص: 14

تمهيد معرفي

اشارة

نذكر فيه عدة أمور مهمة للدخول في أصل مسائل علم الكلام:

ص: 15

ص: 16

الأمر الأول: مراتب المعرفة البشرية

اشارة

العلم هو حيثية انكشاف الواقع للإنسان، أو هو حيثية طرد الجهل من نفس الإنسان، ووصول الإنسان إلى الواقع ليس متواطئاً، وإنما هو أمر مشكك، وله عدة مراتب طولية، تبدأ من أقرب الطرق للوصول إلى الواقع، التي هي مرتبة (العلم الحضوري) حيث لا تكون هناك واسطة بين النفس وبين الواقع، وتنتهي بالجهل، أي خلو النفس الإنسانية من أي صورة عن واقع ما.

وعلى كل حال، فمراتب المعرفة البشرية عديدة، خلاصتها التالي:

المرتبة الأولى: اليقينيات
اشارة

وهي على قسمين:

أولا: اليقين البديهي

وهو اليقين الذي يحصل بلا حاجة إلى إعمال نظر وفكر، فلا يحتاج في العلم بقضاياه في كل أقسامه إلى دليل، أو قل: هو الذي تُذعن النفس به من دون حاجة إلى استدلال فكري، وهو على أربعة مستويات:

المستوى الأول: اليقين البديهي الذي لا يمكن الاستدلال عليه، بل يكفي في حصول التصديق بمؤداه تصور طرفي القضية بشكل صحيح فقط(1)،كما

ص: 17


1- وهذا يعني أنه حتى في مثل هذه البديهيات، إذا لم يتم تصور الأطراف تصوراً صحيحاً، فإنها ستمثل عائقاً معرفياً ربما ينتهي إلى ما لا تُحمد عقباه عقائدياً وفكرياً واجتماعياً.

في الأوليات مثل:

(النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان)

(الممكن محتاج)

(الكل أكبر من الجزء)

المستوى الثاني: اليقين البديهي الذي لا يمكن الاستدلال عليه أيضًا، ولكنه يحتاج الى ضمّ جهد غير علمي ولا فكري، لحصول التصديق بمؤداه، كالمتابعة والاحصاء والتراكم، وهي: المتواترات والتجريبيات.

أما المتواترات، فهي (ما يحكم به العقل لكثرة إخبار المخبرين، بحيث يزول معها الشك والاحتمال بتواطؤ المخبرين على الكذب)(1)

أو هي (قضايا تسكن إليها النفس سكونًا يزول معه الشك ويحصل الجزم القاطع. وذلك بواسطة إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب ويمتنع اتفاق خطئهم في فهم الحادثة)(2)

وقد قسّموا التواتر إلى ثلاثة أقسام: اللفظي والمعنوي والإجمالي.

وأما التجريبيات، فهي (ما يحكم به العقل بسبب مشاهدات متكررة، مع انضمام قياس خفي، وهو أنه لو كان اتفاقياً لما كان دائمياً أو أكثرياً، بل هناك

ص: 18


1- صراط الحق، محمد آصف المحسني، ج 1 ص 19.
2- المنطق- الشيخ محمد رضا المظفر- ص 333

سبب إذا عُلم وقوعه عُلم وجود المسبب)(1)

أو قل: هي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة منا في إحساسنا، فيحصل بتكرر المشاهدة ما يوجب أن يرسخ في النفس حكم لا شك فيه، كالحكم بأن كل نار حارة، وأن الجسم يتمدد بالحرارة...(2)

هذا وقد ألحقوا بالتجريبيات: (الحدْسيات)، وهي ما يحكم العقل به بواسطة حدْس من النفس، بمشاهدة القرائن، كالحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس، والفرق بينها وبين التجريبيات -مع افتقار كل منهما إلى تكرار المشاهدة-: أن الثاني يتوقف على فعل يفعله الإنسان حتى يحصل على المطلوب بسببه، فإن الإنسان ما لم يجرب الدواء بتناوله أو إعطائه غيره مرة بعد أخرى، لا يحكم عليه بأنه مسهّل مثلاً، وهذا بخلاف الحدْس، فإنه غير موقوف على ذلك)(3)

المستوى الثالث: اليقين البديهي الذي لا يحتاج إلى استدلال، ولكن يمكن إقامة الاستدلال عليه ولكن مع حضور دليله معه دائماً، فالعلم بالنتيجة يكون مصاحباً للعلم بالدليل، وهي الفطريات. فهي (ما يحكم به العقل باعتبار أوسطٍ لا ينفكّ عن الذهن عند تصور حدودها، كقولنا: الاثنان زوج، لأنه منقسم إلى متساويين، والانقسام المذكور لا يغيب عن

ص: 19


1- صراط الحق ج1 ص 21.
2- المنطق- الشيخ محمد رضا المظفر- ص 330 – 331.
3- صراط الحق ج1 ص 21.

الذهن بعد معرفة طرفي القضية، ويقال: قياساتها معها أيضاً)(1)

وبعبارة أخرى: (أن العقل لا يصدق بها بمجرد تصور طرفيها كالأوليات، بل لابد لها من وسط، إلا أن هذا الوسط ليس مما يذهب عن الذهن حتى يحتاج إلى طلب وفكر، فكلما أحضر المطلوب في الذهن حضر التصديق به لحضور الوسط معه...)(2)

المستوى الرابع: اليقين البديهي الذي لا يحتاج إلى استدلال، ولكن يمكن الاستدلال عليه ودليله ليس حاضراً معه. وهي المشاهدات أو الحسّيات، وهي ما يحكم العقل به بواسطة إحدى الحواس، سواء كانت حواساً ظاهرة أو باطنة (الخيال والواهمة والحافظة)، فهي (القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة الحس، ولا يكفي فيها تصور الطرفين مع النسبة، ولذا قيل: من فَقَدَ حسًّا فَقَدْ فَقَدَ علمًا. والحس على قسمين: ظاهر، وهو خمسة أنواع: البصر والسمع والذوق والشم واللمس. والقضايا المتيقنة بواسطته تسمى " حسيات " كالحكم بأن الشمس مضيئة وهذه النار حارة وهذه الثمرة حلوة وهذه الوردة طيبة الرائحة... وهكذا. وحس باطن، والقضايا المتيقنة بواسطته تسمى "وجدانيات" كالعلم بأن لنا فكرة وخوفًا وألمًا ولذة وجوعًا وعطشًا... ونحو ذلك.)(3)

ص: 20


1- صراط الحق ج1 ص 21.
2- المنطق- الشيخ محمد رضا المظفر- ص 336.
3- المنطق- الشيخ محمد رضا المظفر- ص 330.
ثانياً: اليقين البرهاني النظري، أو القطع البرهاني

بعد انتهاء البديهيات، أو عدم التمكن من الحصول عليها، ينتقل الذهن البشري إلى تحصيل القطع من طريق نظري، وهو قطع ويقين يحصل من خلال إعمال الفكر والنظر والاستدلال، وهو على ثلاثة مستويات:

أولاً: اليقين البرهاني اللصيق بالبديهيات.

ثانياً: اليقين البرهاني المتوسط.

ثالثاً: اليقين البرهاني الموغل في النظرية.

والالتصاق والابتعاد يتم على خلفية قلة وكثرة الوسائط (الحدود الوسطى الطولية) بينه وبين البديهي الذي يمثل خط الشروع له. إذ النظري يحتاج إلى استدلال، وأول نظري يتشكل ستكون مقدماته بديهيات، فهو لصيق بالبديهي، وما بعده يستفاد مما قبله، وهكذا إلى أن نوغل في النظرية.

فالنظري اللصيق هو الذي يتألف دليله من بديهيتين وشكل أول، بينما الموغل هو الذي تترامى فيه الحدود الوسطى حتى تصل النوبة له. وما بينهما هناك الكثير الكثير من النظريات المستدلة.(1)

ص: 21


1- قال السيد محمد باقر الصدر في كتابه (فلسفتنا) ص 63 – 64 ما نصه: تنقسم المعارف البشرية في رأي العقليين إلى طائفتين: إحداهما معارف ضرورية أو بديهية. ونقصد بالضرورة هنا أن النفس تضطر إلى الاذعان بقضية معينة من دون ان تطالب بدليل أو تبرهن على صحتها، بل تجد من طبيعتها ضرورة الايمان بها ايمانا غنيا عن كل بينة واثبات، كإيمانها ومعرفتها بالقضايا الآتية: (النفي والاثبات لا يصدقان معا في شيء واحد) (الحادث لا يوجد من دون سبب)، (الصفات المتضادة لا تنسجم في موضوع واحد). (الكل أكبر من الجزء)، (الواحد نصف الاثنين). والطائفة الأخرى معارف ومعلومات نظرية. فان عدة من القضايا لا تؤمن النفس بصحتها الا على ضوء معارف ومعلومات سابقة فيتوقف صدور الحكم منها في تلك القضايا على عملية تفكير واستنباط للحقيقة من حقائق أسبق وأوضح منها كما في القضايا الآتية: (الأرض كروية) (الحركة سبب الحرارة)، (التسلسل ممتنع)، (الفلزات تتمدد بالحرارة) (زوايا المثلث تساوي قائمتين)، (المادة تتحول إلى طاقة) وما إلى ذلك من قضايا الفلسفة والعلوم. فان هذه القضايا حين تعرض على النفس لا تحصل على حكم في شأنها الا بعد مراجعة للمعلومات الأخرى. ولأجل ذلك فالمعارف النظرية مستندة إلى المعارف الأولية الضرورية، فلو سلبت تلك المعارف الأولية من الذهن البشري لم يستطع التوصل إلى معرفة نظرية مطلقا- كما سنوضح ذلك فيما بعد ان شاء الله. فالمذهب العقلي يوضح ان الحجر الأساسي للعلم هو المعلومات العقلية الأولية، وعلى ذلك الأساس تقوم البنيات الفوقية للفكر الانساني التي تسمى بالمعلومات الثانوية.
المرتبة الثانية: المظنونات

وهي تلك المعرفة التي يبقى احتمال عدم المطابقة في القضية قائمًا، وهي أيضاً ليست بشكل واحد ومستوى واحد، فإن هناك ظناً يتّسم بالحجية(1)،

بل حجيته قد تصل لمستوى الضرورة الفطرية –كما قيل ذلك في الظهور- في قبال الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، وهناك ظن دليل حجيته قطعي، في حين أن هناك ظناً دليل حجيته ظني سابق في الرتبة عليه، كما يلحظ ذلك في علم الأصول فالظن في الامارات يختلف عن الظن في باب الأصول العملية.

المرتبة الثالثة: المشكوكات

وهي الحالة التي يتساوى فيها الطرفان في القضية، وهذا النمط من المعرفة أيضاً فيه مستويات، فإنّ هناك شكاً منهجياً يجعل الباحث يتوقف في

ص: 22


1- كما إذا جعله الشارع حجة ومنجزاً ومعذراً، بمعنى أنه يثبت به الحكم الشرعي ظاهراً، ولو أدى الدليل الظني إلى عدم الوجوب مثلاً فإنه يكون معذراُ للعبد أمام الله تبارك وتعالى لو تبين أنه خطأ فيما بعد.

إصدار النتيجة والحكم، ويكون دافعًا له لكي يبحث عن اليقين الذي يدفع به ذلك الشك، وإن هناك شكًا غير منهجي، لا يتجاوز الشك والتردد وعدم الوصول إلى نتيجة معينة، على الباحث أن يتجاوزه ولا يعتني به.

المرتبة الرابعة: المحتملات

وهي الحالة المعرفية التي تكون دون الشك وفوق الجهل، وهي تختلف فيما بينها لتكون بشكل مراتب ومستويات أيضًا، ففي باب القانون يكون للاحتمال المعتدّ به حكم خاص في بعض الموارد، في حين أن هناك احتمالات تكون في دائرة الاحتمالات غير المعتد بها، فيتجاوزها المقنِّن في عملية تقنينه.

وهناك احتمال يؤخذ بنظر الاعتبار لأن المحتمل خطير، حتى لو كان هذا الاحتمال ضئيلاً جداً، كما لو احتمل العاقل وجود سم قاتل بنسبة واحد بالألف في كأس ماء، فإنه رغم قلة وضحالة الاحتمال، لكن المحتمل (وهو كون الماء فيه سم قاتل) خطير، لذلك يحكم العقل بلزوم اجتنابه.

وهناك احتمال لا يؤخذ بنظر الاعتبار حتى لو كان بمستوىً عالٍ؛ لأن محتمله ليس خطيراً بل هو أمر سهل يسير.

هذه هي الخطوط العامة للتراتبية المعرفية لدى الإنسان.

ص: 23

ص: 24

الأمر الثاني: النظام العام للإسلام

اشارة

يمكن القول: إن الإسلام كنظام عام للمسلم، يتكون من ثلاثة خطوط رئيسة:

الخط الأول: الاعتقادات

وهي المسماة بأصول الدين، وتمثل الأساس والعقيدة التي يبتني عليها الدين في جميع مفاصله الأخرى.

وقد قسّمها البعض إلى أصول الإسلام، وهي (التوحيد والنبوة والمعاد) وأصول المذهب، وهي (الإمامة والعدل)، هذا بالإضافة إلى مجمل الاعتقادات الأخرى من قبيل الرجعة والتفاصيل البرزخ والقيامة والجنة والنار وما إلى ذلك، وإن كانت كلها ترجع إلى تلك الأصول الخمسة.

ومحل بحثها هو علم الكلام.

الخط الثاني: فروع الدين

وهي المقررات التي جعلها الشارع المقدّس لتنظيم علاقة الإنسان بالله تعالى وبالإنسان الآخر وبالأشياء في هذا العالم.

وهي أعمال مترتبة على تلك العقيدة، ومن دون تلك العقيدة لا يتصور

ص: 25

الالتزام بها.

ومحل بحث هذه المقررات هو علم الفقه.

الخط الثالث: الآداب العامة (الأخلاق)

وهي مجموعة من الإرشادات العامة والتأديبات الاجتماعية التي من شأنها أن تزيد من ليونة العلاقات ومرونتها، والتي تستدعي عملاً معيناً يؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي والاطمئنان النفسي، ولتمثل إحدى أهم الطرق لتقليل الآثار السلبية الناتجة عن التصادم بين أفراد البشر نتيجة التزاحم الذي هو نظام هذا العالم المادي.

ومحل بحث هذه الآداب هو علم الأخلاق.

إشارتان:
الإشارة الأولى: الفرق بين الأصول والفروع

هناك العديد من الفروق بين الأصول والفروع، أهمها التالي:

إن الأصول هي من الاعتقادات، فلا بد أن يكون الكشف فيها عن الواقع تاماً مطابقاً له، وبالتالي، فلا بد أن يكون الدليل عليها يقينياً، ولا يُقبل فيها الظن إطلاقاً، إذ لا يصدق (الاعتقاد) على ما يحصل من الظن، الأمر الذي أرشد له القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)(1)

ص: 26


1- النجم 28

أمّا الفروع، فهي أعمال منبثقة من تلك الاعتقادات، إذ من الواضح أن الصلاة مثلاً يُشترط في صحتها قصد القربة إلى الله تعالى، فمن دون إثبات وجود الله تعالى ومولويته ولزوم طاعته في المرحلة الأولى، فلا موضوع للصلاة، وهكذا بقية الفروع.(1)

وهي يُطلب فيها اليقين في المرتبة الأولى، فإن توفر اليقين فبها، وإلا فيُكتفى بالظن في بعض الأحيان، لكن ليس كل ظن، وإنما الظن الذي قام الدليل القطعي على حجيته، أي على كونه مؤمّناً عند الخطأ، كما بُيّن هذا في علم أصول الفقه.

وفي الحقيقة، أن الاكتفاء بالظن من هذا النوع في الفروع، باعتبار عدم إمكان تحصيل القطع في كل المسائل الفقهية، لأسباب ذكرت في محلها.

هذا أولاً.

وثانياً: إنّ منكر الأصول على أنواع:

فإن أنكر أصل وجود إله للكون، فهو ملحد أو دهري أو زنديق أو طبيعي، أو كما يُسمى اليوم بالمادي.

وإن اعترف بالإله، ولكنه عَبَدَ معه شيئاً آخر، فهو مشرك.

وإن أنكر أصل النبوة فهو كافر.

وإن أنكر المعاد، فإن كان إنكاره راجعاً إلى إنكار أصل الإله، لحِقَه

ص: 27


1- هذا على نحو الإجمال، وهناك خلاف فقهي في تكليف الكافر بالفروع، يُراجع في محله.

حكمه، وإن كان إنكاره راجعاً إلى إنكار النبوة، لحقه حكمه.

وإن أنكر الإمامة أو العدل فهو مسلم عامّي، إلا أنْ يرجع إنكاره إلى تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) أو نسبة النقص إلى الله (تبارك وتعالى)، فيكون حينها كافرًا.

أما تارك الفروع، فإن رجع تركه إلى إنكار أحد الأصول، لحقه حكمه، وإن ترك العمل بها رغم اعترافه بها فهو مسلم فاسق.

الإشارة الثانية: ما هو سبب تأصيل الأصل؟

ما هو السبب وراء اختيار هذه الاعتقادات الخمسة كأصول للدين دون غيرها من الاعتقادات؟ خصوصاً مع إمكان إرجاع الأصول الأربعة الأخيرة إلى التوحيد، إذ هي تدور بين كونها فعلاً لله تعالى أو صفة له(1)؟

خصوصاً وأنه ورد (قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا)(2)

الجواب:

لا بد أن يكون معلوماً أنه لا يوجد دليل شرعي ولا عقلي على حصر الأصول بالثلاثة أو بالخمسة، بل إن (ما يرى القرآن الكريم الإيمان به ضرورياً هو: وحدانية الله، الغيب، المعاد، الملائكة، الكتب السماوية، رسالة الأنبياء، والاعتقاد بما أُنزل على الأنبياء من جانب الله)(3)

ص: 28


1- إذ العدل صفة فعلية من صفاته تعالى، وإرسال الأنبياء وجعل الأئمة هو فعل حكيم من الله تعالى، وإرجاع الناس يوم القيامة للحساب أيضاً فعلٌ من أفعال الله تبارك وتعالى.
2- مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب- ج 1- ص 51.
3- موسوعة العقائد الإسلامية، محمد الريشهري، ج6 ص 62.

إلا أن السبب في تأصيل خصوص تلك الخمسة يرجع في الحقيقة إلى أنّها امتازت عن غيرها بأمرين:

الأول: أن نفيها يستبطن خطورة عقائدية بالغة.

الثاني: إن إثباتها يترتب عليه الكثير من الثمرات العقائدية، التي تستلزم عملاً معيناً لا يقوم به من ينكرها، فمن يُثبت الإمامة مثلاً يلزمه العمل وفق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ونبذ غيرهم، الأمر الذي أدّى إلى انقسام المسلمين إلى فرقتين كبيرتين على الأقل هما: الإمامية والعامية.

وهكذا صفة العدل، حيث يترتب عليها الكثير من اللوازم العقائدية التي تدخل في صميم سلوك الإنسان، وعلاقته مع الخالق جل وعلا، كما سيتبين في محله إن شاء الله تعالى.

إذن، خطورة العقيدة، وعظمة الثمرات المترتبة عليها، هي كانت وراء تأصيل هذه الأصول وحصرها بها، وإرجاع غيرها من الاعتقادات إليها.

ص: 29

ص: 30

الأمر الثالث: الأدلة المستعملة في علم الكلام

اشارة

ينبغي أنْ نعلم أولاً أن الإسلام يستعمل ثلاثة أنواع من الأدلة لمعرفة الكون وللوصول إلى الحقائق الدينية، وهي: الحس، والعقل، والوحي. وهي تمثل أدوات المعرفة البشرية.

هذا على نحو العموم، وأما في علم الكلام، فإن الأدلة المستعملة هي على نوعين:

النوع الأول: الأدلة العقلية

وهي الأدلة التي تعتمد الإدراكات العقلية، أو قل: التي تكون مقدماتها وحدودها الوسطى قضايا إدراكية عقلية، وليست قضايا نقلية من الآيات أو الروايات.

وهذه الأدلة لا تستعمل في كل مسائل علم الكلام، وإنما تأتي فيما يمكن للعقل إدراكه من دون الرجوع إلى النقل، بل فيما لا يمكن استعمال الدليل النقلي فيها للزومه الدور الباطل(1)،ومن أمثلة ذلك:

ص: 31


1- بمعنى أن هذه العقائد لا تثبت بالآية أو الرواية، لأنها هي التي تؤسس وتُثبت الآية والرواية، وبعبارة أكثر وضوحاً: لو طالَبنا ملحدٌ مثلاً بدليل على إثبات وجود الله تعالى، فقلنا له: إن القرآن يقول كذا، أو إن النبي (صلى الله عليه وآله) يقول كذا، لأمكن له أن يُجيب ويقول: أنا لا أؤمن بالله تعالى، فكيف أؤمن بكتابه أو بنبيه!

1/ إثبات أصل وجود واجب الوجود.

2/ إثبات أصل بعض صفات واجب الوجود، كالغنى والقدرة والعلم والحياة والإرادة.

3/ إثبات أصل لزوم إرسال الأنبياء.

أما تفاصيل هذه المسائل، فالدليل العقلي لا قدرة له على إثباتها لوحده، فهو يُثبت لزوم إرسال الرسل، ولكنه لا يشخص الرسول من غيره، إلا بمساعدة من الشرع.(1)

وقد أشارت بعض الروايات الشريفة إلى دور العقل التأسيسي في تلك المسائل، ودوره الإرشادي في غيرها، فقد روي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ:

إِنَّ أَوَّلَ الأُمُورِ ومَبْدَأَهَا وقُوَّتَهَا وعِمَارَتَهَا الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ إِلَّا بِه: الْعَقْلُ، الَّذِي جَعَلَه اللَّه زِينَةً لِخَلْقِه، ونُوراً لَهُمْ، فَبِالْعَقْلِ عَرَفَ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ، وأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ، وأَنَّه الْمُدَبِّرُ لَهُمْ وأَنَّهُمُ الْمُدَبَّرُونَ، وأَنَّه الْبَاقِي وهُمُ الْفَانُونَ، واسْتَدَلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ خَلْقِه مِنْ سَمَائِه وأَرْضِه وشَمْسِه وقَمَرِه ولَيْلِه ونَهَارِه وبِأَنَّ لَه ولَهُمْ خَالِقاً ومُدَبِّراً، لَمْ يَزَلْ ولَا يَزُولُ، وعَرَفُوا بِه الْحَسَنَ مِنَ الْقَبِيحِ، وأَنَّ الظُّلْمَةَ فِي الْجَهْلِ، وأَنَّ النُّورَ فِي الْعِلْمِ، فَهَذَا مَا دَلَّهُمْ عَلَيْه

ص: 32


1- ومنه نعلم الخطأ في طرح بعض الأسئلة، كمن يسأل عن الدليل العقلي الذي يُشخص أن الإمام اليوم هو الحجة بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه)، فإنه سؤال عن دور العقل في غير مساحته، إذ إن العقل يُدرك لزوم أصل الإمامة، لا تشخيص الإمام.

الْعَقْلُ.

قِيلَ لَه: فَهَلْ يَكْتَفِي الْعِبَادُ بِالْعَقْلِ دُونَ غَيْرِه؟

قَالَ: إِنَّ الْعَاقِلَ لِدَلَالَةِ عَقْلِه الَّذِي جَعَلَه اللَّه قِوَامَه وزِينَتَه وهِدَايَتَه، عَلِمَ أَنَّ اللَّه هُوَ الْحَقُّ وأَنَّه هُوَ رَبُّه وعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِه مَحَبَّةً وأَنَّ لَه كَرَاهِيَةً وأَنَّ لَه طَاعَةً، وأَنَّ لَه مَعْصِيَةً فَلَمْ يَجِدْ عَقْلَه يَدُلُّه عَلَى ذَلِكَ، وعَلِمَ أَنَّه لَا يُوصَلُ إِلَيْه إِلَّا بِالْعِلْمِ وطَلَبِه، وأَنَّه لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِه إِنْ لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ بِعِلْمِه، فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ طَلَبُ الْعِلْمِ والأَدَبِ الَّذِي لَا قِوَامَ لَه إِلَّا بِه.(1)

فحجية كل من العقل والنقل لا كلام فيها، وقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال لهشام بن الحكم: يَا هِشَامُ إِنَّ لِلَّه عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً وحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ والأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، وأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ.(2)

النوع الثاني: الأدلة النقلية

وهي الأدلة التي تعتمد الآيات والروايات في مقدماتها وحدودها الوسطى، وهذه الأدلة تعالج تفاصيل الأصول التي أثبتتها الأدلة العقلية، ولا يصح استعمالها في أصل إثبات تلك الأصول لما تقدمت الإشارة إليه.

ص: 33


1- الكافي- الشيخ الكليني كتاب العقل والجهل- ج 1- ص 29 ح34.
2- الكافي- الشيخ الكليني كتاب العقل والجهل- ج 1- ص 16 ح12.
إشارات:
الإشارة الأولى: معنى عدم حجية العقل في الدين

ورد في بعض الروايات أنّ العقل ليست له يدٌ تتناول الدين، وأنه ليس طريقاً لتحصيل الدين، فقد ورد عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام): إن دين الله عز وجل لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقائيس الفاسدة، ولا يصاب إلا بالتسليم، فمن سلّم لنا سلم، ومن اقتدى بنا هُدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئاً مما نقوله أو نقضي به حرجاً كفَرَ بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم.(1)

ولكن هذا لا يتنافى مع كون العقل دليلاً في علم الكلام، بل وفي بعض الأحيان في بعض الأحكام الشرعية التي يمكن أن يكون العقل حداً أوسطاً في إثباتها، إذ المقصود من هذه الروايات هو ما عليه العامة من إعمال الاستحسانات والقياس والآراء الشخصية في استنباط الأحكام الشرعية، ومن الواضح أن العقل لا يد له في معرفة حكم شرعي من دون الرجوع إلى نفس المشرِّع، لما ثبت في محله من أن الأحكام الشرعية تابعة لملاكات واقعية وفق المصالح والمفاسد التي لا يعلمها سوى الله تعالى، ولذا لم نُكلّف بمعرفة تلك الملاكات؛ لأنها خارج نطاق معرفتنا، ولذلك أيضاً لم يصح الاستناد إلى العقل في معرفة حكم شرعي معين، من دون الرجوع إلى المشرع نفسه؛ إذ العقل لا يمكنه إدراك ذلك لوحده.

ص: 34


1- كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق- ص 324 الباب 32 ح9.

وبعبارة مختصرة: إن المقصود من الدين في مثل هذه الأحاديث هي الشريعة والأحكام التكليفية، أي التعبدّيات، وليس مطلق الدين بما يشمل الأصول الاعتقادية.

الإشارة الثانية: تراتبية العقل والنقل

كلٌّ من هذين الدليلين يخضع للتراتبية المتقدمة في الأمر الأول، وكلّما اقترب الدليل –عقلياً كان أو نقلياً- من البداهة، كلما كان إنتاجه أسرع، وكشفه عن الواقع أقوى، وبالتالي يكون أقرب إلى التصديق به.

الإشارة الثالثة: اجتماع الدليل العقلي والنقلي

لا مانع من اجتماع الدليل العقلي والنقلي في الدليلية على مورد ما، ولكن لا بدّ أنْ يكون أحدهما تأسيسياً والآخر إرشادياً وإمضائياً لحكم ذلك التأسيسي.

فمثلاً، الدليل على ضرورة النظر والمعرفة في الاعتقادات عقلي، وهو دليل دفع الضرر المحتمل، أو لزوم شكر المنعم، وما شابه، ولكننا نجد الكتب الكلامية تذكر إلى جنب ذينك الدليلين بعض الآيات الدالة على

تلك الضرورة، من قبيل قوله تعالى (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)(1)

فينبغي أنْ يُعلم هنا أن مثل تلك الأدلة النقلية هي إرشادية لحكم العقل المذكور في هذا المورد.

ص: 35


1- يونس: 101

وهكذا فإن العقل يحكم بلزوم طاعة المولى بالطريقة التي يريدها المولى نفسه، ولكنه لا يحدد الكيفية الخاصة لتلك الطاعة، بل هو يرجع فيها إلى المولى نفسه، ثم يحكم بها من باب إمضاء حكم المولى والإرشاد إليه.

الإشارة الرابعة: امتناع التناقض بين العقل والنقل

حيث إن الدليل العقلي يعتمد على قضايا عقلية صرفة، لا تقبل الخطأ، وحيث إن الدليل النقلي يعتمد على مصدر معصوم، لا يخطئ، فنستنتج امتناع وقوع التناقض والتعارض بين الدليل العقلي والنقلي، فإذا أسّس أحدهما لشيء، فلا بد أن يُمضيه الآخر.

(ولو بدا تعارضٌ بدائيٌ بين هاتين الحجتين، فيجب أن يُعلم بأنه ناشئ من أحد أمرين: إما أن استنباطنا في ذلك المورد غير صحيح، وإما أن هناك خطأً وقع في مقدمات البرهان العقلي، لأن الله الحكيم تعالى لا يدعو الناس إلى طريقين متعارضين مطلقاً)(1)

وبعبارة أخرى: إن العقل والوحي لا يتعارضان في مقام الثبوت، لمكان عصمتهما، وإنما يحدث التعارض في مقام الإثبات، أي عندما يتمّ تفعيل العقل إثباتاً، وعندما نتعامل مع الوحي لا بالمباشرة، بل من خلال الوسيط (الخبر الظني).

الإشارة الخامسة: العقل النظري والعملي

هناك رأيان في تفسير معنى العقل النظري والعقل العملي:

ص: 36


1- العقيدة الإسلامية، جعفر سبحاني، الأصل الرابع، ص 20.

يذهب الرأي الأول إلى أنّ العقل هو مبدأ الإدراك، وأنه يكون نظرياً إذا كان الهدف من الإدراك هو المعرفة فقط دون العمل، كإدراك حقيقة الوجود، وعملياً إذا كان الهدف هو العمل، كإدراك حسن العدل وقبح الظلم.

وإلى هذا الرأي ذهب الشيخ المظفر في منطقه وأصوله(1)،

تبعاً لأستاذه النائيني.

ويذهب الرأي الثاني –وهو الأصح كما حُقّق في محله- بأن التفاوت بين العقل النظري والعملي هو تفاوت في الجوهر، أي في طبيعة العمل الوظيفي لكل منهما، فالنظري هو مبدأ الإدراك، سواء كان الهدف منه هو المعرفة أم العمل، والعملي هو مبدأ الدوافع والمحفّزات، لا الإدراك، وتكون مهمة العقل العملي هي تنفيذ مدركات العقل النظري.

وإليه ذهب ابن سينا وقطب الدين الرازي صاحب المحاكمات والمحقق النراقي في جامع السعادات.(2)

ص: 37


1- قال الشيخ المظفر (قدس سره) ما نصه: إن المراد من العقل - إذ يقولون: إن العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه بالمعنى الثالث من الحسن والقبح - هو " العقل العملي " في مقابل (العقل النظري). وليس الاختلاف بين العقلين إلا بالاختلاف بين المدركات، فإن كان المدرك - بالفتح - مما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل - مثل حسن العدل وقبح الظلم - فيسمى إدراكه " عقلا عمليا " . وإن كان المدرك مما ينبغي أن يعلم - مثل قولهم: " الكل أعظم من الجزء " الذي لا علاقة له بالعمل – فيسمى إدراكه " عقلا نظريا " . ومعنى حكم العقل - على هذا - ليس إلا إدراك أن الشيء مما ينبغي أن يفعل أو يترك . وليس للعقل إنشاء بعث وزجر ولا أمر ونهي إلا بمعنى أن هذا الإدراك يدعو العقل إلى العمل، أي يكون سببا لحدوث الإرادة في نفسه للعمل وفعل ما ينبغي . (أصول الفقه للشيخ محمد رضا المظفر (رحمه الله) ج2 ص 277و 278).
2- موسوعة العقائد الإسلامية، الريشهري، ج1 ص 165-166، بتصرف.
الإشارة السادسة: صفات أو تقسيمات الدليل النقلي

إن الدليل النقلي، منه ما هو قطعي الصدور (القرآن الكريم والخبر المتواتر) ومنه الظني الصدور (خبر الواحد)، ومنه قطعي الدلالة (الصريح)، ومنه الظني (الظاهر).

هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإنّ منه ما يمثل الضرورة الدينية، مثل وجوب الصلاة والصوم والحج وأمثالها، ومنه ما هو متواتر، ومنه خبر الواحد، ومنه الإجماع.

وفي كل ذلك لا بد من الرجوع إلى المتخصص لفهم نوع الدليل وقوة دليليته ومستوى قبوله.(1)

ص: 38


1- ونستنتج من ضرورة الرجوع إلى المتخصص في هذه المجالات: الخلط الذي يقع فيه غير المتخصصين بالعلوم الدينية، عندما يحاولون الاستدلال برواية معينة على أمر معين، إذ سيؤدي بهم الأمر إلى اختلاط الأوراق والخروج بنتائج غير صحيحة، لأنهم لم يعتمدوا الأصول العلمية في الاستفادة من الروايات أو الآيات الكريمة.

الأمر الرابع: ضرورة البحث عن الدين؟

اشارة

هناك أمر فطري موجود في داخل الإنسان، وهو أنه إذا احتمل وجود ضرر معين، فإنه يعمل على أن يدفع ذلك الضرر عن نفسه، فالجندي الذي يسمع أن هناك أوامر من جهات قيادية عليا قد أمرت بالحضور إلى المعسكر، وأنّ من يتخلّف عن ذلك سيعاقب بالسجن الطويل المهين، فإن من أبسط الأمور التي يفعلها هذا الجندي هو أن يتأكد من هذا الخبر، وكذلك الموظف الذي يسمع أن هناك اجتماعاً، ومن لا يحضره يُفصل عن وظيفته، فإنه على أقل التقادير يفتّش عن صدق هذا الخبر، وكذلك الطالب الذي يسمع بوجود امتحان مصيري مهم، فإنه على الأقل يسأل ليتأكد من هذا الخبر.

ومعه، (فإن العاقل حينما يقرع سمْعه قول أناس –قليلين أو كثيرين- بعقاب أخروي وعذاب دائمي، لمن أنكر المبدأ، أو لم يعرفه ويعتقد به –وهذا النداء كان مسموعاً منذ صبيحة حياة البشر، وسيبقى قارعاً إلى غروب وجوده- يحتمل صدقه وكذبه قهراً،...فيجب [النظر] لوجوب دفع الضرر فطرةً ولو كان محتملاً)(1)

وهذا المبدأ الفطري مشترك بين جميع البشر.

ص: 39


1- صراط الحق ج1 ص32.

ومعه، فيجب على كل العقلاء أنْ يبحثوا عن الدين، لما تقدم، ولا يُعذر في هذا أحد، لأن الدين قد وصل إلى الجميع، ولو فُرض وجود إنسان لم يبلغه نداء الدين ولم يحصل عنده نداء الفطرة للتطلع والتفكر في وجوده ووجود العالم حوله، فمثل هذا الانسان (لو وُجِد) معفو عن الحساب والعقاب لو لم يبحث عن الدين، لعدم اكتمال الحجة عليه، قال الله تعالى (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)(1)

وهذا الوجوب هو عقلي بحت –كما تقدم قبل قليل-، وهو المسمى بدليل (دفع الضرر المحتمل)، وهو يمثل نقطة الصفر للانطلاق من الشك والتردد نحو اليقين، وللعقل فيه آلية خاصة تعمل هنا، وسيتمّ إشباع البحث فيه فيما بعد إنْ شاء الله تعالى، ومعه، فتكون الآيات والروايات المذكورة فيه إرشادية لذلك الحكم العقْلي الصرْف.

وهنا سؤالان:

السؤال الأول: الوجه في كفاية تقييد الضرر بالمحتمل

لماذا قُيّد الضرر هنا بالمحتمل، ولم يُقيّد بالمتيقن؟

الجواب: لأن المحتمل هنا قوي جداً بحيث يكفي الظن –بل الاحتمال- في ترتيب الأثر عليه، فإن (الخلود في جهنم) ضرر بليغ، يقضي العقل بلزوم

ص: 40


1- الإسراء 15

دفعه ولو كان على نحو الاحتمال، تماماً كما لو قيل لشخص: إن في هذا الكأس سُماً زعافاً، فإن هذا يقتضي دفعه ولو كان احتماله ضئيلاً. هذا أولاً.

وثانياً: إذا حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، فحكمه بلزوم دفع الضرر المتيقن يكون من باب أولى، فتمّ تسليط الضوء على الفرد الخفي من حكم العقل، وهو الضرر المحتمل، خصوصاً وأن الفرض أن الشخص المحتمِل ما زال في بداية الطريق، وهو الآن شاكٌّ في الحقيقة، ففرض الضرر المتيقن فيه خلاف كونه شاكاً.

السؤال الثاني: حساب من لم يسمع بالدين

((ماذا عن حساب الشخص كامل العقل، ولكنَّه لم يكن قد سمع بالدين، ككثير من الطوائف البشرية التي تعيش في المناطق النائية، إذ من الممكن أن يوجد أُناس في قارّات أفريقيا أو غابات الأمازون وغيرها لم يسمعوا بالإسلام أصلاً، أو سمعوا به ولكن لم تتوفَّر لهم الوسائل لمعرفته عن كثب، أو لم يمكنهم الاستجابة لظرف قاهر، فما مصير هؤلاء؟

في الجواب: لا بدَّ أن نعرف الفرق بين القاصر والمقصِّر، والفرق بين الأحكام التي لا يمكن أن يعرفها الإنسان من دون بيان من الشرع وبين الأحكام التي يمكن للإنسان أن يعرفها بمحض عقله وإن لم يُبيِّنها الشرع.

أمَّا الفرق بين القاصر والمقصِّر، فنضرب لبيانه مثالاً: لنفترض شخصين في مكان ما، طول أحدهما متر واحد فقط، وطول الآخر مترين، وطُلِبَ منهما أن يلتقطا شيئاً معلَّقاً علىٰ بعد متر ونصف، فالشخص الأوَّل لا يمكنه ذلك،

ص: 41

لا لتقصير منه، بل لأنَّ طوله لا يساعده، فهذا قاصر عن تنفيذ الأمر، وهو غير مؤاخَذ، لأنَّه قاصر. وأمَّا الشخص الثاني، فإنَّه إذا لم يقم ويأخذ ذلك الشيء فهو مقصِّر، ويُعتَبر مخالفاً للأمر، لأنَّه كان بإمكانه تنفيذ الأمر من دون حرج ولا مشقَّة.

وهكذا في قضيَّة الأحكام الشرعية، فهناك من الناس من لا يمكنه أن يصل إلىٰ البلاد الإسلاميَّة، أو لا يمكنه الاطِّلاع علىٰ العقائد والأحكام الصحيحة، لا لتقصير منه، بل لظرف قاهر لا يمكنه تجاوزه، كما قد يقال ذلك في سكّان البلاد النائية، وربَّما يكون منهم النساء المستضعَفات ممَّن هنَّ علىٰ غير خطِّ أهل البيت (عليهم السلام) حيث لا يمكنهنَّ الخروج من بيوتهنَّ والاطِّلاع علىٰ العقائد الحقَّة، (ولو من باب الفرض لا التحقيق).

عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن المستضعَفين؟ فقال: «البَلْهاء في خدرها، والخادم تقول لها: صلّي فتُصلّي لا تدري إلَّا ما قلت لها، والجليب(1)

الذي لا يدري إلَّا ما قلت له، والكبير الفاني، والصبي الصغير. هؤلاء المستضعَفون. وأمَّا رجل شديد العنق، جدل خصم، يتولّىٰ الشرىٰ والبيع لا تستطيع أن تغبنه في شيء، تقول: هذا مستضعَف؟ لا ولا كرامة»(2).

ص: 42


1- الجليب: المجلوب، وهو الخادم يُساق من موضع إلىٰ آخر، ومن بلد إلىٰ بلد للتجارة. (كما في هامش البحار).
2- معاني الأخبار للصدوق: 203/ باب معنىٰ المستضعَف/ ح 10، وبحار الأنوار 72: 161 و162/ ح 15.

ولكن هناك منهم من له اطِّلاع علىٰ العقائد، ويسمع بها ويسمع بالدعاة إليها، ولكنَّه لا يستجيب لهم ولا يُكلِّف نفسه عناء البحث عن الحقيقة، فمثل هذا الشخص يُعتَبر مقصِّراً.

ثمّ إنَّ الأحكام منها ما لا يمكن للإنسان الاطِّلاع عليه إلَّا إذا بيَّنه الشارع ووصل ذلك البيان له، كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها، (وهو المسمىٰ بالأحكام التعبّدية أو الشرعية المحضة).

ومنها ما لا يحتاج فيه الإنسان إلىٰ بيان من الشرع، بل العقل لوحده عنده القدرة علىٰ إدراك حسنه أو قبحه، كإدراكه لحسن الإحسان إلىٰ المحسن، والعدل، وكإدراكه لقبح القتل والزنا والسرقة وغيرها.

إذا تبيَّن هذا نقول:

المستفاد من كلمات العلماء هو أنَّ الجاهل المقصِّر محاسب علىٰ كلا نوعي الأحكام، لأنَّ عدم التزامه كان بإرادته بعد الاطِّلاع أو إمكان الاطِّلاع. وأمَّا القاصر فهو غير محاسب عن الأحكام التي لا يمكنه الاطِّلاع عليها؛ لأنَّ الحجَّة لم تكتمل في حقِّه، وشرط الوجوب عليه هو بيان الشارع له ووصوله إليه، والفرض أنَّه لم يصل إليه البيان. قال تعالىٰ: ]وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً[(1)

وأمَّا الأحكام التي يستطيع العقل معرفتها، فإنَّه سيُحاسَب عليها

ص: 43


1- الإسراء: 15

جزماً، لأنَّ العقل حجَّة علىٰ الإنسان، وهو الحجَّة الباطنية- كما عبَّر الإمام الكاظم (عليه السلام)- علىٰ الإنسان، حيث روي عنه (عليه السلام)أنَّه قال لهشام بن الحكم: « يَا هِشَامُ، إِنَّ للهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً وحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ والأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، وأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ»(1).

فسيُحاسَب الإنسان علىٰ ظلمه لغيره أو سرقته حقَّه أو ضربه من دون حقٍّ، لأنَّ العقل لوحده يُدرك قبح هذه التصرُّفات ولو لم يأتِ الأمر الشرعي بها.))(2)

ص: 44


1- الكافي للكليني 1: 16/ كتاب العقل والجهل/ ح 12.
2- الهدى والضلال، المردودات العملية والاجتماعية، الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي ص 239-242.

الأمر الخامس: إن ههنا واقعاً يمكننا إدراكه

وهذا أمر ثابت بالوجدان، ومنكره مكابر، وفي الحقيقة لا ينكره أحد بقلبه، إنما بلسانه فقط، وإلا فإن إنكاره لا واقع له أيضاً، والحال أنه يريد إثبات حقانية كلامه وأنه لا واقع، وهو خُلفٌ.

وبعبارة واضحة:

أننا نسأل الذي يُنكر الواقع ونقول له: إنكارك هذا واقعي أو مجرد وهم؟

فإن قال: إنه واقعي، قلنا له: بهذا ثبتت بعض الواقعيات، وهو خلف قولك: إنه لا واقع ثابتاً أصلاً.

وإن قال: لا واقع له، قلنا له: هذا معناه أن إنكارك لا واقع له، فلا يصدق به عاقل.

وقد وضّح السيد الطباطبائي (قدس سره) هذا الأمر الوجداني بعبارة واضحة فقال:

إنا معاشر الناس أشياء موجودة جداً، ومعنا أشياء أخر موجودة، ربما فعلت فينا أو انفعلت منا، كما أنا نفعل فيها أو ننفعل منها. هناك هواء نستنشقه، وغذاء نتغذى به، ومساكن نسكنها، وأرض نتقلب عليها،

ص: 45

وشمس نستضيء بضيائها، وكواكب نهتدي بها، وحيوان، ونبات، وغيرهما. وهناك أمور نبصرها، وأخرى نسمعها، وأخرى نشمها، وأخرى نذوقها، وأخرى وأخرى. وهناك أمور نقصدها أو نهرب منها، وأشياء نحبها أو نبغضها، وأشياء نرجوها أو نخافها، وأشياء تشتهيها طباعنا أو تتنفّر منها، وأشياء نريدها لغرض الاستقرار في مكان أو الانتقال من مكان أو إلى مكان أو الحصول على لذة أو الاتقاء من ألم أو التخلص من مكروه أو لمآرب أخرى. وجميع هذه الأمور التي نشعر بها، ولعل معها ما لا نشعر بها، ليست بسدى، لما أنها موجودة جداً وثابتة واقعاً. فلا يقصد شيء شيئاً إلا لأنه عين خارجية وموجود واقعي أو منتهٍ إليه، ليس وهما سرابياً. فلا يسعنا أن نرتاب في أن هناك وجوداً، ولا أن ننكر الواقعية مطلقاً، إلا أن نكابر الحق فننكره أو نبدي الشك فيه، وإن يكن شيء من ذلك فإنما هو في اللفظ فحسب. فلا يزال الواحد منا وكذلك كل موجود يعيش بالعلم والشعور، يرى نفسه موجوداً واقعياً ذا آثار واقعية. ولا يمس شيئاً آخر غيره إلا بما أن له نصيباً من الواقعية.(1)

ص: 46


1- نهاية الحكمة- السيد محمد حسين الطباطبائي- ص 7 – 8.

الأمر السادس: إن المجرد موجود له واقع

إثبات الوجود المجرد
اشارة

هل ينحصر الوجود بالموجود المادي أو أن هناك موجوداً من نوع آخر؟

لا شك أننا نرى الوجود المادي ونعيشه يومياً، ولهذا الوجود مميزات:

مميزات الوجود المادي:

أولاً: الجسمية، أي إن له طولاً وعرضاً وعمقاً (ارتفاعاً)

ثانياً: الكون في جهة من الجهات، بحيث تمكن الإشارة الحسية إليه في جهة من الجهات دون غيرها.

ثالثاً: الكون في مكان معين، بحيث لا يشغل مكاناً آخر في نفس الزمان.

رابعاً: لا بد أن يكون له زمن، أي إن له بداية، وله نهاية.

خامساً: إمكان إدراكه بالحواس الظاهرة، بحيث يمكن رؤيته بالعين (نعم، قد يكون بعيداً جداً فنحتاج إلى تلسكوب، وقد يكون صغيراً جداً فنحتاج إلى مجهر) أو لمسه أو سماعه أو حتى تذوقه.

سادساً: إمكان تقسيمه إلى أجزاء، أي إنه مركب من عدة أجزاء.(1)

ص: 47


1- وقد ذكروا في الفلسفة: أن المادي ينقسم بلا انقطاع، كل ما في الأمر أنه قد يعجز الإنسان عن قسمة الأجزاء لصغرها، ولكنه يبقى يقسمها بوهمه إلى ما لا نهاية، أو قل: إن القسمة الخارجية تفني الكم، ولكن يبقى الكم ينقسم وهماً، قال السيد الطباطبائي في بداية الحكمة: (الكم عرض يقبل القسمة الوهمية بالذات) وعلق (قدس سره) بقوله: (وأما القسمة الخارجية، فهي تعدم الكم وتفنيه) انظر: بداية الحكمة: المرحلة السادسة/الفصل التاسع في الكم وانقساماته وخواصه.

فهل ينحصر الوجود بهذا النوع من الموجودات؟

الجواب:

هنا مدرستان:

المدرسة الأولى: المدرسة المادية

التي تفترض بأنه لا موجود إلا المادي، وأي شيء لا يمكن إدراكه بالحواس فهو غير موجود.(1)

ص: 48


1- وهذه النظرية نجد لها جذوراً حتى في بعض المدارس الإسلامية، فالأشاعرة لم يرتضوا عدم إمكان رؤية الله تعالى، وقالوا بإمكان ذلك. بل نُسب إليهم أنهم وصفوا الله تعالى بأوصاف جسمية مادية، فقالوا: إن له يداً ووجهاً وساقاً، وإنه يضع رجله في جهنم فتقول (قط قط)، وإنه مثل الشاب الأمرد، وإنه يجلس على عرشه فيئط أطيطاً. بل بعضهم أثبت حتى الفرج له. تعالى عن ذلك علواً كبيراً. ومن مضحكات الثكلى ما أجاب به أحد تلامذة شيخ وهابي عندما سأله: كيف نعرف الله يوم القيامة؟ فقال له: عندما (يُكشف عن ساق) فنراها محترقة نعرف أنه هو الله! وفي الكتب: أن بهلول اتى إلى المسجد يوماً، وأبو حنيفة يقرر للناس علومه وقال في جملة كلامه: إن جعفر بن محمد تكلم في مسائل ما يعجبني كلامه فيها: الأولى: أنه يقول: إن الله سبحانه موجود لكنه لا يُرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهل يكون موجود لا يُرى؟ ما هذا إلا تناقض. الثانية: أنه قال: إن الشيطان يُعذّب في النار مع أن الشيطان خلق من النار فكيف الشيء يُعذّب بما خلق منه؟! الثالثة: أنه يقول: إن أفعال العباد مستند إليهم مع أن الآيات دالة على أنه تعالى فاعل كل شيء. فلما سمعه البهلول أخذ مدرة وضرب بها رأسه وشجه، فصار الدم يسيل على وجهه ولحيته، فبادر إلى الخليفة يشكو البهلول، فلما أُحضر البهلول وسُئل عن السبب، قال للخليفة: إن هذا الرجل غلّط جعفر بن محمد في ثلاث مسائل: الأولى: إن أبا حنيفة يزعم أن الافعال كلها لا فاعل لها إلا الله، فهذه الشجة من الله سبحانه وما تقصيري أنا؟! الثانية: إنه يقول: كل شيء موجود لابد وأن يُرى، فهذا الوجع في رأسه موجود مع أنه لا يراه أحد. الثالثة: إنه مخلوق من التراب وهذه المدرة من التراب وهو يزعم أن الجنس لا يتعذب بجنسه، فكيف تألم من هذه المدرة؟! فأعجب الخليفة كلامه وتخلصه من شجة أبي حنيفة...(شجرة طوبى- الشيخ محمد مهدي الحائري- ج 1- ص 49-50، ومواقف الشيعة- الأحمدي الميانجي- ج 3- ص 262 – 263.)
المدرسة الثانية: المدرسة الواقعية
اشارة

التي تفترض وجود ثلاثة أنواع من الموجودات:

مادي، وقد تقدمت خصائصه.

ومثالي: وفيه آثار المادة (الطول والعرض والارتفاع) دون المادة نفسها. (وتفصيله في علم الفلسفة، وهو الذي يُقال بوجوده للإنسان في عالم البرزخ، ومثاله الواضح الصورة في المرآة)

ومجرد، وهو الموجود الذي لا تجري عليه أحكام المادة ولا آثارها.

الدليل على وجود المجرد:

الدليل الأول: الروح (الأنا)

لقد أثبت العلم الحديث أن ذرات وخلايا هذا الجسم المادي تتعرض لعملية تسمى علمياً بعملية الهدم والبناء، فتموت خلايا وتولد بدلها خلايا جديدة، بحيث إنه وفي كل ثمان سنوات تتغير خلايا الجسم كلها، بمعنى أن خلايا يدك اليوم ليست هي قبل ثمان سنوات.

فالجسم المادي متغير باستمرار، وهذا ما يؤمن به حتى الملاحدة، اتباعاً

ص: 49

للاكتشافات العلمية الحديثة.

ولكن رغم هذا، يحس كل واحد منّا بأنه ورغم هذا التغير المستمر، إلا أن هناك شيئاً ما في داخله يبقى ثابتًا لم يتغير، يشير إليه بكلمة (أنا)

فما هو نوع ذلك الشيء؟

إنه ليس مادياً، لأن الفرض أن كل الجسم قد تغير في تلك السنوات وهو لم يتغير.

إذن، هو موجود من نوع آخر، وهو ما يسمى بالروح.

وهي وإن لم نكتشف حقيقتها إلى الآن، إلا أننا نحس بوجودها، وآثارُها واضحة في حياتنا.

الدليل الثاني: التقاط الصور

إننا ومن خلال العين مثلاً نلتقط صوراً عن الموجودات المادية الخارجية، ومن خلال هذه الصور نتعامل مع الخارج، ولكن، هل هذه الصور مادية؟

لو كانت مادية فمعنى هذا أن تلك الأشياء الكبيرة تنتقل بنفسها إلى ذهن الإنسان، ويلزم منه أن ذلك الذهن الصغير سينطبع فيه الجبل والشجر والبناء وغيرها، وهذا واضح البطلان.

ويلزم منه أنك لو نظرت إلى ثقل بوزن 100 كغم، فسيصبح وزن ذهنك ورأسك 100 كغم، وكلنا يعرف أن هذا لا يقع.

إذن، تلك الصور من نوع آخر من الوجود، وهو الوجود المجرد.

ص: 50

الدليل الثالث: تذكّر وتخيّل الصور

إن لدى الإنسان قدرة على تذكر صور كثيرة لأشياء مادية كان قد رآها فيما مضى، رغم أنه انقطع عن مباشرتها، وأيضاً لديه القدرة على تخيل صور لم يرها، ولكنه يستطيع أن يرسمها في ذهنه عندما توصف له، وتلك الصور ليست من النوع المادي، بالتقريب المتقدم، خصوصاً في الصور المتخيلة، التي لا واقع لها، أو التي لم يرها، وهذا يعني أن هناك موجوداً من نوع آخر غير مادي، وهو الموجود المجرد.

نكتة مهمة: لا مجال للحواس في ساحة المجردات.

إن الوسائل والأدوات التي يستفاد منها في معرفة الموجودات المادية هي الحواس عادة، وأما الوسيلة التي يمكن التعرف من خلالها على الموجودات المجردة فهو العقل، فلا مجال للحواس في ساحة المجردات.

وعليه؛ فليس من المنطقي أن يطالبنا أحد بأن نثبت له الوجود المجرد من خلال الوسائل المادية، كالعين، لأنه سؤال خطأ.

وهذا ما بينه أمير المؤمنين (عليه السلام) لذعلب اليماني، حيث سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام): أ فأعبد ما لا أرى! فقال: وكيف تراه؟ فقال (عليه السلام): لَا تُدْرِكُه الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ، ولَكِنْ تُدْرِكُه الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ...(1)

فيحق لشخص أن يطالبنا بدليل عقلي على وجود الله تعالى، وهو ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 51


1- نهج البلاغة- ج 2- ص 99

ص: 52

الأمر السابع: نظام العلة والمعلول

اشارة

وهنا نقطتان:

النقطة الأولى: معنى العلة المعلول وخصائصهما

إن أصل العلية هو عبارة عن قضية تدلّ على حاجة المعلول إلى العلة، ولازم ذلك أن المعلول لا يتحقق من دون علة، ويمكن بيان هذا الموضوع في قالب (القضية الحقيقية) بهذه الصورة: (كل معلول فإنه محتاج إلى العلة).(1)

وهذه في الحقيقة (قضية تحليلية، ومن البديهيات الأولية المستغنية عن البرهان)(2)

فالعلة ببساطة تعني السبب، والمؤثِّر.

والمعلول يعني المسبَّب (بالفتح)، والمتأثر، والنتيجة التي تترتب على العلة. فالنار مثلاً علة لوجود الحرارة، والحرارة ناتجة عن وجود النار ومعلولة لها.

والعلة لها اصطلاحان(3):

ص: 53


1- المنهج الجديد في تعليم الفلسفة- الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي/ ج2 ص24.
2- المنهج الجديد في تعليم الفلسفة- الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي/ ج2 ص 29.
3- ينظر للتفاصيل: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ج2 الدرس الحادي والثلاثون. مع التنبيه على أن للعلة انقسامات عديدة باعتبارات متعددة، ينظر للتفاصيل: بداية الحكمة للسيد الطباطبائي- المرحلة السابعة: في العلة والمعلول- الفصل الثاني: في انقسامات العلة.

الأول: العلة الناقصة: وتعني (ذلك الموجود الذي يتوقف عليه تحققُ موجود آخر، وإن لم يكن وحده كافياً لتحققه)، أو قل: (ذلك الموجود الذي بدونه يستحيل تحقق موجود آخر)، وإن لم يكن كافياً لوحده لتحقق

ذلك الآخر المعلول، فالعلة الناقصة إذن هي (التي وإنْ كان المعلول لا يتحقق بدونها، إلا أنها وحدها لا تكفي لوجود المعلول، ولا بد من إضافة شيء آخر إليها حتى يُصبح وجود المعلول ضرورياً).

الثاني: العلة التامة: وتعني (ذلك الموجود الذي يكفي وحده لتحقق موجود آخر) أو قل: (ذلك الموجود الذي بوجوده يتحقق موجود آخر بالضرورة) إذن (وجود المعلول ليس متوقفاً على شيء آخر سواها، وبعبارة أخرى: مع فرض وجودها، يُصبح وجود المعلول ضرورياً).

أما خصائصهما فهي التالي:

أولاً: إن المعلول لا يمكن أن يوجد في الخارج إذا لم تكن علته التامة موجودة أيضاً بمرتبة أسبق، وإلا لم يكن معلولاً.

ثانياً: إن وجود العلة التامة يدل على وجود المعلول، ووجود المعلول يدل على وجود علته. فإنك إذا رأيت النار فإنك تتيقن بوجود الحرارة، وإذا أحسست بالحرارة تيقنت بوجود مصدر لها، وهو النار مثلاً.(1)

ص: 54


1- مع الالتفات إلى أنه –منطقيًا- يُطلق على دلالة العلة على المعلول بالدليل اللمي، وعلى دلالة المعلول على العلة بالدليل الإني.

ثالثاً: إن وجود المعلول الخارجي مترتب على الوجود الواقعي الخارجي للعلة، وليس على الوجود الذهني التصوري للعلة في الذهن. فالحرارة مترتبة على الوجود الخارجي للنار، لا على التصور الذهني لها، وهل إذا تصور أحدنا أنه جالس تحت جهاز تبريد سيحس بالبرودة!

رابعاً: السنخية: بمعنى أن الصفات الكمالية التي نجدها في المعلول تشير إلى وجود تلك الصفات في العلة، وإلا فمن أين حصل المعلول عليها مع فرض أنه معلول؟! إذ الفرض أن كل ما عنده هو من العلة، ولا يمكن أن نفترض أن العلة ليست عندها تلك الصفات ومع ذلك تعطيها للمعلول، فإن فاقد الشيء [الكمال] لا يعطيه.

خامساً: إن وجود الكمالات في المعلول في الوقت الذي يشير إلى وجودها في العلة، هو يشير إلى أن في العلة أكمل وأعظم وأكثر من تلك الكمالات.

يعني أنه يكشف عن خصوصيات العلة وعن كمالاتها، تماماً كما إذا رأيت كتاباً مؤلَّفاً في علم من العلوم فإنك تقول: إن لهذا الكتاب كاتباً، وتستطيع أن تعرف مقدار عقل ذلك الكاتب من خلال ما هو موجود في هذا الكتاب، وهكذا.

سادساً: إن المعلول كما هو محتاج إلى العلة في أصل حدوثه، هو محتاج إليها في استمرار وجوده، وإلا لم يكن معلولاً لها. لأن ملاك احتياج المعلول إلى علته هو الإمكان، والإمكان محفوظ في المعلول مهما قوي وجوده.(1)

ص: 55


1- وهذا خلاف العلل المعدّة، كما في البنّاء بالنسبة للبِناء، حيث يحتاجه البناء حدوثًا لا بقاءً، إلا أن البنّاء ليس علة تامة للوجود، وإنما هي علة معدّة، وكلامنا هنا في علل الوجود، والتفاصيل في علم الفلسفة.

سابعاً: إن الشيء إذا كان علة لآخر، فلا يمكن أن يكون الآخر علة للأول، فالعلة لا تكون معلولة لمعلولها، وإلا لزم الدور الباطل.

ثامناً: إن سلسلة العلل لا بد أن تصل إلى علة غير معلولة، وإلا لزم التسلسل الباطل(1).

النقطة الثانية: نظام الوجود نظام العلة والمعلول الطبيعي
اشارة

عندما ننظر إلى الواقع، نجد أنه لا يخلو من إحدى حالات ثلاث:

الحالة الأولى: العبث والجزاف

بأن نفترض أن كل ما في هذا الكون يحصل من دون نظام، وعلى نحو العبث، وهذا الأمر هو ما ينادي به الملحدون رغم أنهم يعيشون النظام.

إن امتناع هذه الحالة هو من الوضوح بمكان، إذ العبث والجزاف أشبه بأن نُجلس قرداً على حاسبة ونقول له: اكتب لنا قصيدة تشابه المعلقات السبع، أو اكتب لنا نظرية تشابه نظرية أينشتاين النسبية، هل يمكن أن نتصور هذا؟ هل يعقله عاقل!

الحالة الثانية: الإعجاز [نظام علة ومعلول غير طبيعي]

بأن نفترض أن كل ما في الوجود هو خارق للعادة، وهذا الأمر أيضاً واضح البطلان، إذ هو خلاف الواقع الذي نعيشه، فإنك لا تستطيع أن

ص: 56


1- وستأتي الإشارة إلى بطلان التسلسل في محله إن شاء الله تعالى.

تعطل نظام الجاذبية بشكل عام، ولا تستطيع أن تعيش من دون تنفس الأوكسجين، وهكذا.

الحالة الثالثة: نظام العلة والمعلول [الطبيعي]

وهذا هو ما عليه الواقع، فنحن نرى أن كل الموجودات تتشابك فيما بينها بنظام مرتب دقيق، من الذرة إلى المجرة.

وهذا النظام الوجداني هو ما يدل بصورة قطعية لا تقبل الشك على وجود الله تعالى. [وسيتبين أكثر في محله أكثر إن شاء الله تعالى]

إن النظام في الحقيقة معلول، إذ لا يمكن أن أكون أنا من أوجدت نفسي، ولا الشجرة أوجدت نفسها، وهكذا كل موجود نراه بأعيننا نجد أنه لم يوجد نفسه. هذا أولاً.

وثانياً: النظام والدقة، والترتيب، يملأ هذا الوجود، وبحسب خصائص العلة والمعلول فإن ذلك يشير إلى أن العلة التي أوجدت هذا النظام وهذا الكون عالمة قادرة حكيمة بصورة عظيمة جداً.

ص: 57

ص: 58

الأصل الأول: التوحيد

اشارة

وفيه: مقدمة وثلاثة مباحث:

المبحث الأول: إثبات واجب الوجود جل وعلا.

المبحث الثاني: مبحث التوحيد.

المبحث الثالث: تفاصيل الصفات.

ص: 59

ص: 60

مقدمة

اشارة

ينطلق البحث في إثبات العقائد الدينية من الإيمان بالواقعية، والتي تعني الإيمان القاطع بالثلاثية التالية:

1/ وجود واقع، في قبال من رفض الواقع واعتقد بأن كل ما نراه هو وهْمٌ وخيال.

2/ توفّر علم حصولي بذلك الواقع، في قبال من اعترف بالواقع، ولكنه أنكر إمكانية الوصول إليه أو معرفته أو التواصل معه.

3/ صوابية هذا العلم لذلك الواقع بتمامه وكماله، في قبال من آمن بالواقع وبإمكانية الوصول إليه، لكنه قال بأنه لا مُثْبِتَ يضمن لنا أنّ علمنا الحصولي مطابق للواقع، وبالتالي يبقى الشك قائماً فيما نراه، وأنه هو الواقع بالفعل أم أنه مجرد صورة يرسمها الذهن من نسج الخيال.

إن إيمان الواقعيين بتلك الثلاثية كان وراء تشييد بناءاتهم المعرفية وصروحهم العلمية، في حين بقي السفسطائيون ينكرون الصوابية [أي إنهم يقولون باستحالة أن تكون علومنا مصيبة للواقع]، أو يُنكرون إمكان التعرف على الواقع، بل بعضهم أنكر الواقع بتمامه حتى واقعية نفسه-.

ومن الواضح أن أي علم من العلوم لا بد أن تكون منطلقاته وبداياته

ص: 61

بديهية، لأنها إذا كانت نظرية فهي تحتاج إلى ما يُثبتها، فيتسلسل، إلا أنْ نصل إلى بديهي ثابت لا يقبل الشك.

والمقولات الدينية في علم الكلام تبدأ من ثابت محوري هو (وجود الإله)، وهذا يبتني على قبول تلك الأسس الثلاثة للواقعية، التي تؤسس للإيمان بوجود الإله.

ثم إن قضية الألوهية تم تناولها في مجالين من الفكر الديني:

الأول: هي النصوص

وهي كثيرة جداً، وهي تُشير إلى أن وجود (الإله) هو من الأمور الواضحة والجلية والتي لا تحتاج أصلاً إلى استدلال، وهو مفاد ما يُقال من أنّ وجوده تعالى أمر بديهي لا يقبل الشك بحكم العقل لوحده، وبالتالي تكون النصوص الشرعية إمضائية لتلك البداهة.

ومن تلك النصوص هي التالي:

(وَلِله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 115]

(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم 10]

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد 4]

ص: 62

(كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ أَيَكُونُ لِغَيْرُكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ ؟ مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ ؟ عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيباً وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلَ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً...)(1)

(بِكَ عَرَفْتُكَ وَأَنْتَ دَلَلْتَنِي عَلَيْكَ ودَعَوْتَنِي إِلَيْكَ وَلَوْلا أَنْتَ لَمْ أَدْرِ ما أَنْتَ...)(2)

(يا مَنْ دَلّ عَلَى ذَاتِه بِذَاتِهِ)(3)

هذه بعض النصوص المباركة من القرآن الكريم والنصوص الروائية -من باب المثال لا الحصر-، وكلها تُلفتُ إلى أن قضية الألوهية هي بمستوى من الواقعية والوضوح والحتمية، المتجاوزة لمرتبة الاستدلال، بل وصل الأمر ببعضها إلى نسبة العمى إلى المنكر والمتوقف، والإنكار على المشككين فيها، وعدم منهجية النقاش المبني على الإنكار والإلحاد، فهي من الواقعيات التي لا تقبل اللبس والارتياب، فليست هي كبعض القضايا العلمية التي تدرس بعض جوانب الواقع الذي نعيشه، حيث نراها تحتاج إلى تجشم عناء الفكر والاستدلال للوصول إليها وإثباتها، بل هي من صميم الواقعية البديهية. نعم هي تحتاج إلى تنبيه الغافلين عنها.

ص: 63


1- من دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة، بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج 95- ص 226.
2- من دعاء أبي حمزة الثمالي، المصباح- الكفعمي- ص 588 – 589.
3- من دعاء الصباح لأمير المؤمنين (عليه السلام)، بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج 84- ص 339.
الثاني: العلوم الدينية، كالكلام والفلسفة

وقد وفّرت هذه العلوم –بالدقة- تنبيهات لمن غفل عن تلك الحقيقة البديهية غير المحتاجة إلى استدلال، وأن الطرق للاستدلال (أو بالدقة: للتنبيه) على وجوده جلّ وعلا كثيرة، (وقد قدّم المفكرون الإسلاميون أدلة إثبات وجود الله في سبعة حجج، هي: (دليل الفطرة) و (برهان الوجوب والإمكان)، و (برهان الحدوث)، و (برهان الحركة)، و (برهان النفس)، و (دليل النظام)، و (برهان الصدّيقين)...يمكن تصنيف البراهين الإسلامية هذه إلى أربعة أصناف، هي:

1/ برهان الإجماع العام، وهو (دليل الفطرة)

2/ البراهين الكونية، وتشمل برهان الملازمات العقلية وبرهان الصديقين وبرهان الوجوب والإمكان، وبرهان الحدوث، وبرهان الحركة.

3/ برهان (إتقان الصنع) أو (برهان النظام)

4/ برهان النفس.(1)

ونضيف إليها أيضاً برهان (المفهوم) أو (الحقيقة)، الذي لم تُسلّط عليه الأضواء في الكتب المدْرسية، رغم أنه برهان قاطع لا يقبل الشك، بل هو أخصر البراهين للوصول إلى إثبات الغيب، فتكون عندنا خمسة محاور إن شاء الله تعالى.(2)

ص: 64


1- الكلام الإسلامي المعاصر، د. الشيخ عبد الحسين خسروبناه، ج1 ص79-80.
2- تصنيف آخر: يمكن تصنيف الأدلة بطريق آخر إلى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: الأدلة الفلسفية، وهي برهان الصدّيقين، وبرهان الوجوب والإمكان. الصنف الثاني: الأدلة الكلامية، وهي برهان الحدوث، وبرهان الحركة. الصنف الثالث: الأدلة الطبيعية، وهي برهان النظام. ويدخل فيه أيضاً برهان الأنفس والآفاق، الذي يُرشد إليه قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت 53]. على أن البراهين الكلامية والطبيعية تشترك في صغرياتها، فإنها تنظر إلى هذه الموجودات الخارجية وكونها حادثة أو متحركة أو منظمّة...، وكذلك تشترك في كون كبرياتها بديهية، مثل: لكل حادث محدِث، لكل متحرك محرِّك، ولكل نظام منظِّم، إذ إنها ترجع لكبرى بديهية هي كبرى: لكل معلول علة. ثم إن الأدلة الفلسفية تكون مقدماتها عقلية صرفة، أما الكلامية والطبيعية فمقدماتها مركبة من العقلية والحسية. فتكون أسهل تناولاً من الفلسفية. وسنتماشى مع التصنيف المذكور في المتن.

وسنمرّ على هذه الأدلة سريعاً إن شاء الله تعالى، وبعد الانتهاء من سرد هذه المبادئ والطرق سيتضح لنا جلياً أن مقولة (وجود الإله) ليست قضية اجتهادية، وإنما هي قضية بديهية.

فإن القضية الاجتهادية هي القضية التي تحكي عن واقعية لا تتمتع بدرجة عالية من الجلاء والوضوح، وبالتالي قد يختلف الباحثون عنها وتتعدد آراؤهم فيها، فبعضهم يصل إلى أعماقها، وآخر لا يصل، وثالث يصل إلى بعض زواياها، ورابع يصل إلى زوايا اخرى، وينتج عن ذلك التعددية في تلك القضية وبالشكل التالي:

أ- أن يكون كل من المختلفين غير مصيبين لواقع القضية.

ب- أن يكون كل من المختلفين مصيبين للواقع، ولكن أحدهما أصاب

ص: 65

زاوية مختلفة عما أصابه الآخر من زوايا الواقع.

ج- أن يكون الأول مصيباً والثاني مخطئاً، أو بالعكس.

هذه ضابطة القضية الاجتهادية ولوازمها من التعددية بالشكل السابق.

وقضية الواقعية، وقضية الدين الأولى (وجود إله) لا تُعدّان من صغريات القضية الاجتهادية، لأنهما لا يقبلان إلا شكلاً واحداً، وهي صوابية الواقعي والديني، حيث تأسست تلك القضيتان على البداهة والعصمة والوضوح، وبالتالي لا تقبل الرأي والرأي الآخر والإنكار والتشكيك.

ملحوظات
الملحوظة الأولى: البداهة لا تلازم الاتفاق

صحيح أن قضية (وجود الإله) قضية بديهية، ولكن هذا لا يجعلها متفقًا عليها، فالبديهي عموماً وإن كان معناه: الواضح والعام والمعروف والجلي والبيّن، ولكن لا يُشترط فيه أنْ يكون مُجْمعاً عليه من الجميع، فالإجماع والاتفاق ليس من مقومات بداهة البديهي.

وهذا يعني: أن عدم قبول البديهي لا يساوي دائماً السفسطة، لأنه قد لا يؤمن الشخص بالبديهي لعدم التفاته إليه، فيحتاج إلى تنبيه، نعم، لو كان ملتفتاً إلى البديهي الواضح، ومع ذلك أنكره، فهي السفسطة.

ثم إن غير المتلفت إلى البديهي، يحتاج إلى تنبيه، ولكن إلفات نظره إلى البديهي قد لا يكون سهلاً وبسيطاً، بل قد يحتاج إلى جهد عضلي (كما تقدم في

ص: 66

احتياج التواتر إلى استقراء...) وهذا أمر قد يستغرق وقتاً طويلاً من البحث والاستقصاء، وقد يحتاج إلى جهد علمي طويل المدى، لأن تصوراته تحتاج إلى تخصّص علمي من أجل استيضاحها تماماً، فالقضية الأولية (الممكن محتاج) لا بد من تصور أطرافها بصورة صحيحة حتى يتمّ التصديق بها، ومن هنا، فإن المشكّكين يعملون على إخفاء البديهي من خلال التلاعب بتصوراته التي هي أساسه.

إذن، بداهة وجود الإله، لا تنافي احتياجها إلى (تنبيه) وإلى (تخصص علمي).

الملحوظة الثانية

كيف نوفّق بين كون البديهي واضحاً، وبين كونه محتاجاً إلى علم وتخصّص ودراسة؟!

ونفس السؤال يُقال في التوفيق بين كون الدين فطرياً واضحاً، وبين كونه محتاجاً إلى (نبوة) و (تعبّد) و (تخصّص)؟!

والجواب أنْ يُقال:

أولاً: لا بدّ أن نفهم أن كون البديهي واضحاً بيّناً، لا يعني أنه علة تامة لفرض نفسه على الإنسان بالتصديق به، ولا يعني أن الإنسان سوف يضطرّ إلى قبوله، بل إن البديهي هو مقتضي للقبول، مما يعني إمكان أنْ توجد موانع في قباله، سواء كانت موانع علمية، أو خارجية، فالبديهي ميزته أنه لا يحتاج إلى استدلال في اقتضائه للقبول، وليس هو علة تامة لمنع الدليل المقابل أو الشبهة التي تسبّب التشويش.

ص: 67

ونفس الكلام يُقال في الفطرة، فهي قد تُدفن بفعل المؤثرات الخارجية، ولكنها لا تموت ولا تفنى، بل تبقى مهما ضعفت، فيمكن أن ترجع لتوهجها إثر المرور بظرف معين (كانكسار سفينة في البحر في تعبير بعض الروايات) أو دليل يُبعد التشويش عنها.

فالبداهة والفطرة لا تمنع من العناد في قبالها، أو عدم التصديق بها لعدم تصور أطرافها بصورة جلية، أو لوجود عوامل نفسية معينة تمنع من ذلك، أو لوجود أدلة معاكسة (وإن كانت في حقيقتها شُبهات لكنها تلبست بلباس الدليل)، كل ذلك لأن العصب المحرك للإنسان في كل مفردات حياته هي صفة (الاختيار).

ومن هنا، تنفتح الحاجة إلى المتخصّص الذي يقوم بدور الحماية والدفاع والصيانة والمناعة لذلك البديهي، وللنبي وللقدوة لحماية وتجلية الفطرة.

وثانياً: إن طبيعة العلاقة بين البديهي والنظري هي علاقة الاشتقاق الفلسفي، أي إن النظري مشتق من البديهي، أو قل: هو تفصيل له، فالبديهي هو أمر بسيط (فلسفياً أي غير مركب) فهو منبع الاشتقاق بالنسبة للنظري، والنظري هو اشتقاق منه، والعلوم البرهانية كلها هي عملية ومحاولة الاشتقاق من البديهي.

وفي عملية الاشتقاق هذه نحتاج إلى متخصص يتمكن من الاشتقاق والتفريع والتفصيل من البديهي، ولا مانع أبداً بين كون البسيط بديهياً، والاشتقاق منه نظرياً، بل قد يصل الاشتقاق إلى مرحلة يعجز عنها الإنسان،

ص: 68

فيحتاج إلى وسيط سماوي ومعجزة ووحي.

فالحاجة إلى المتخصص إذن تتجلى فيما تتجلى فيه في التمكّن من الاشتقاق من البديهي والاستخراج منه.

الملحوظة الثالثة: البداهة لا تنفي الحاجة إلى المتخصص

إن الاشتقاق من البديهي البسيط هو أشبه بما يُقال في التنزّل على نحو التجلي (الذي يبقى فيه الوجود واحداً رغم الأخذ منه والاشتقاق منه وتكثرّه، كتنزّل العلم من فرد لآخر، فإن إعطاء الفرد للمعلومة إلى الآخر لا يعدمها عند الأول، وهكذا لو أعطاها لألف شخص)، لا على نحو التجافي (الذي يكون الوجود واحداً وإذا انتقل فإنه ينعدم من الأول، تماماً كما إذا أراد أحدهم النزول من السلم، فإن نزوله هنا على نحو التجافي، فإنه إذا نزل من الدرجة الأولى إلى الثانية، فقد ترك مكانه في الأولى وانعدم وجوده هناك وتحول إلى الثانية).

وقد يُعبّر عن هذا الاشتقاق بالتقشير، وهو ليس تقشيراً مادياً (كتقشير البصلة إلى طبقاتها حيث إن أخذ أي طبقة يعدم شيئاً من البصلة إلى أن تنعدم) وإنما هو تقشير معنوي، (كتقشير المفاهيم، فإن الذهن البشري يشتق من مفهوم الإنسان مثلاً مفاهيم عديدة، كمفهوم الشاعر والكاتب والطبيب والمحامي ووو، من دون أن ينعدم مفهوم الإنسان، ولذلك تكونت سلسلة الأنواع والأجناس)

وهكذا، فإن البديهي يبقى بديهياً وبسيطاً مهما اُشتُق منه ومهما تمّ تقشيره

ص: 69

بنحو التجلي بالمعاني الفلسفية لا المادية لهذه المصطلحات، وهذه العملية (من التقشير أو التنزل أو الاشتقاق) ليست متاحة للجميع، بل هي عملية معقّدة جداً في كثير من الأحيان، الأمر الذي يعني ضرورة المتخصّص.

ومنه نفهم: أن القول بأن الدين بديهي، يُعنى به الدين في أصوله، أما في تفريعاته، فإنها تحتاج إلى متخصّص؛ لأنها ليست بديهية كلها، بل الكثير منها نظرية، فتحتاج إلى وسيط معصوم يقوم بعملية التفريع من ذلك البديهي.

والخلاصة: أن العلوم وإن انتهت إلى البديهي، والبديهي واضح، ولكن وضوحه لا ينفي الحاجة إلى المتخصص أو الوسيط والوحي، للسبب الذي ذكرناه هنا.

الملحوظة الرابعة: الحاجة إلى المتخصص في العلوم البرهانية والاستقرائية

إن الحاجة إلى المتخصص ليست مختصة بالعلوم البرهانية (التي يتم الانتقال فيها من الكلي إلى الجزئي، عبر صغرى وكبرى، تبدأ من بديهتين وتستمر بالتشقيق إلى أنْ تصل إلى النظري الموغل في النظرية)، بل حتى العلوم الاستقرائية (التي يتم الانتقال فيها من الجزئي إلى الكلي) تحتاج إلى متخصص، فإن عملية الاستقراء والمتابعة والإحصاء والتجربة وملاحظة وتكرر المشاهدة وما شابه هذه الأمور، ليست متاحة للجميع، وحتى لو كانت متاحة للجميع، إلا أن نظرة المتخصّص إلى الجزئيات ليست كنظرة غيره إليها، ومن ثم كان استنباط قاعدة عامة من تلك الجزئيات ليس متاحاً إلا لمن عنده تخصّص ومعرفة في مجال العلوم الاستقرائية.

ص: 70

الملحوظة الخامسة

إن الانتقال من الجزئي إلى الجزئي، وهو المسمى بالتمثيل منطقياً وبالقياس أصولياً، لا يُنتج إلا تخمينات وظنيات، ومن هنا لم يصح الاعتماد عليه كحجة شرعية.

ص: 71

ص: 72

المبحث الأول: إثبات وجود الله عز وجل

مبادئ تصورية
أولاً: إثبات

ويعني هنا الاستدلال بصياغة برهانية منتجة لليقين، فهو يحمل بين طياته أمرين:

الأول: قناعة الطرف المستدِل بمؤدى الدليل.

الثاني: نقل القناعة إلى طرف آخر: مشككٍ أو جاهلٍ.

ثانياً: وجود

وهو من المفاهيم البديهية التي لا تحتاج إلى بيان، وإنْ عُبّر عنه بحيثية طرد العدم.

ثالثاً: الله

لغة:

أله بالفتح إلاهة، أي عبد عبادة... ومنه قولنا (الله) وأصله إلاه على فعال، بمعنى مفعول، لأنه مألوه أي معبود... فلما أُدخلت عليه الألف

ص: 73

واللام حُذفت الهمزة تخفيفاً، لكثرته في الكلام...(1)

اصطلاحاً:

تعرف هذه الحقيقة –في الثقافة الإسلامية- باسم (الله)، وهو يعني: الرب الواجد لجميع صفات الجمال والجلال، وهو الوجود الأسمى والأكمل من جميع الموجودات، وخالق كل ما سواه.(2)

وقيل: عَلَم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال غير مشتق.

أو: عَلَم دالٌّ على الإله الحق دلالة جامعة لجميع الأسماء الحسنى الإلهية الأحدية، جَمَع جميع الحقائق الوجودية.(3)

(الله) في الروايات

لم يختلف المعنى اللغوي والاصطلاحي كثيراً عما عرّفت به الروايات الشريفة ذلك الاسم العظيم، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في معنى (الله): معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق و يُؤلَه إليه، والله هو المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات، وقال الباقر (عليه السلام): الله معناه

ص: 74


1- الصحاح للجوهري، مادة (أله).
2- الكلام الإسلامي المعاصر- د. الشيخ عبد الحسين خسروبناه- ج1 ص75.
3- تاج العروس للزبيدي، مادة (أله). وقال: وروى المنذري عن أبي الهيثم أنه سأله عن اشتقاق اسم الله في اللغة فقال: كان حقه (إله)، أدخلت الألف واللام تعريفا، فقيل ألإلاه، ثم حذفت العرب الهمزة استثقالا لها، فلما تركوا الهمزة حولوا كسرتها في اللام التي هي لام التعريف، وذهبت الهمزة أصلا فقالوا أللاه، فحركوا لام التعريف التي لا تكون إلا ساكنة، ثم التقى لامان متحركتان، وأدغموا الأولى في الثانية، فقالوا الله، كما قال الله، عز وجل: (لكنا هو الله ربي)، معناه: لكن أنا.

المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيته والإحاطة بكيفيته.(1)

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير (إله): أنّ تفسير (الإله) هو الذي ألِه الخلق عن درْك ماهيته وكيفيته بحس أو بِوَهْمٍ، لا، بل هو مبدع الأوهام وخالق الحواس.(2)

ص: 75


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 89.
2- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 92.

ص: 76

أدلة (أو تنبيهات) إثبات وجود الله تعالى
اشارة

والكلام يقع في خمسة محاور، نتابعها بالتوالي إن شاء الله تعالى:

المحور الأول: برهان الإجماع العام، وهو (دليل الفطرة)
الفطرة لغة

الفطرة هنا تعني (الخلقة)، قال الفراهيدي: (فطر الله الخلق، أي: خلقهم، وابتدأ صنعة الأشياء، وهو فاطر السماوات والأرض. والفطرة: التي طبعت عليها الخليقة من الدين. فطرهم الله على معرفته بربوبيته. ومنه حديث النبي (صلى الله عليه وآله): (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه).(1)

وقال ابن منظور: فطر الله الخلق يفطرهم: خلقهم وبدأهم. والفطرة: الابتداء والاختراع. وفي التنزيل العزيز: الحمد لله فاطر السماوات والأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي أنا ابتدأت

ص: 77


1- كتاب العين- الخليل الفراهيدي- ج 7- ص 418 مادة (فطر).

حفرها. وذكر أبو العباس أنه سمع ابن الأعرابي يقول: أنا أول من فطر هذا، أي ابتدأه. والفطرة، بالكسر: الخلقة... والفطرة: ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به...)(1)

الفطرة في الاصطلاح

وعلى هذا، فإنه يُقصد من فطرة الإنسان: (جبلّته وغريزته المكوّنة لذاته والمستودعة فيه من قبل البارئ تبارك شأنه، فهي رغبةٌ جامحةٌ واستعدادٌ تامٌّ لأداء كلّ عملٍ يتّصف بالحُسن ويراد منه الخير، بحيث لو تُرك الإنسان وشأنه فهو يبادر إلى القيام بهذا العمل بمحض إرادته ورغبته ما لم تُغبَّش مدركاته بعوامل خارجية.)(2)

هذا، وإنّ (أحد المعاني للفطرة هو تطابقها مع التعاليم الدينية، ولا سيّما الأديان السماوية؛ فعندما يذكر الدين والإنسان معاً يُراد من ذلك أنّ الدين قد شُرّع بحسب الحاجة النفسية للإنسان وانسجاماً مع مقتضيات ذاته...)(3)

ومعه، فيكون معنى الدليل الفطري باختصار، هي (قدرة الإنسان على الاعتقاد بوجود الله تعالى اعتماداً على مدركاته الفطرية من دون الحاجة إلى تعليمٍ وتربيةٍ).(4) أو قل: (إن الإنسان خُلق بكيفية تقتضي الوصول إلى معرفة

ص: 78


1- لسان العرب- ابن منظور- ج 5- ص 56 مادة (فطر).
2- أجوبة الشبهات الكلامية، محمد حسن قدردان قراملكي ج1 ص 247.
3- أجوبة الشبهات الكلامية، محمد حسن قدردان قراملكي ج1 ص 247.
4- أجوبة الشبهات الكلامية، محمد حسن قدردان قراملكي ج1 263.

الله تعالى، إذا لم يكن هناك مانع، كالشبهات التي يوردها الملاحدة)(1) ورغم تعدد الصياغات وتعقيدها في بعض الأحيان، ولكن هذا المعنى المختصر يكفي لبيانه بشكل واضح لا لبس فيه. فهو يحمل اتفاق جميع الناس على مبادئ عامة، ومن تلك المبادئ ما يوصلهم إلى ضرورة وجود خالق لهذا الكون. ولذلك أطلقت عليه فلسفة اللاهوت الغربي ببرهان الإجماع العام.(2)

(إنّ التجربة تدل على أن مشكلات الحياة إذا ألمّت بالإنسان، وعجزت كل السبل والحيل عن حلّها وعلاجها، أزالت يد البلاء القوية حجب المعرفة، وحينئذٍ يغدو الناس جميعاً حتى المنكرون لله، عارفين بالله مستمدّينه في أمورهم)(3)

وقد اُعتبر (دفع الضرر المحتمل) أحد الأدلة الفطرية على ضرورة البحث عن الله تعالى، وبالتالي على وجوده جلّ وعلا. إذ العاقل بفطرته يعمل على البحث عن هذا الإله الذي أوعد مخالفيه بالعذاب الدائم الأبدي...

وقد أشارت بعض الآيات والروايات إلى تجلّي هذا الدليل في فطرة الإنسان، وظهوره في ساعة العسرة والحرج.

قال تعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ

ص: 79


1- مواجهة الإلحاد في منطلقاته المعرفية، الشيخ حيدر السندي الإحسائي، ص31
2- الكلام الإسلامي المعاصر ج1 ص80.
3- موسوعة العقائد الإسلامية، الشيخ محمد الريشهري ج3 ص58.

وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(1)

وقال تعالى (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(2)

وقال تعالى (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ. ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)(3)

وفي هذه الآيات إشارة واضحة إلى أن الإنسان قد يتعمد تغطية فطرته وعدم الالتفات إلى تنبيهاتها، ولكن هذا لا يعني انعدامها في داخله، ولذلك فهو يرجع إليها نادماً عند الشدة والحرج.

وقد أشارت الروايات الشريفة إلى هاتين الحقيقتين أيضاً (أعني دلالة الفطرة على وجود الله تعالى، وإمكان تغبيش الفطرة وتغييبها عملياً لسبب وآخر وإن اعتقد بها في داخله)، ومنها الروايات التالية:

عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (حُنَفاءَ لله غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِه) قَالَ (عليه السلام): الْحَنِيفِيَّةُ مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ الله النَّاسَ

ص: 80


1- يونس 22
2- العنكبوت 65
3- النحل 53-54

عَلَيْهَا (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله) قَالَ: فَطَرَهُمْ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِه.(1)

وعن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فطرة الله التي فطر الناس عليها)؟ قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم ولولا ذلك لم يعلموا إذا سُئلوا من ربهم ولا من رازقهم.(2)

وعنه (صلى الله عليه وآله): كل نسمة تولد على الفطرة، حتى يُعرِب عنها لسانُها، فأبواها يهودانها وينصرانها.(3)

وعنه (صلى الله عليه وآله): كل مولود يولد من والد كافر أو مسلم فإنه يولد على الفطرة على الاسلام كلهم، ولكن الشياطين أتتهم فاجتالتهم(4)

عن دينهم، فهوّدتهم ونصّرتهم ومجّستهم وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً.(5)

وروي أنه قالَ رَجُلٌ لِلصَّادِقِ (عليه السلام): يَا بنَ رَسولِ اللهِ، دُلَّني عَلَى اللهِ ما هُوَ ؟

فَقَد أكثَرَ عَلَيَّ المُجادِلونَ وحَيَّروني.

فَقالَ لَهُ: يا عَبدَ الله، هَل رَكِبتَ سَفينَةً قَطُّ ؟

قالَ: نَعَم.

قالَ: فَهَل كُسِرَتْ بِكَ حَيثُ لا سَفينَةَ تُنجيكَ ولا سِباحَةَ تُغنيكَ ؟

ص: 81


1- الكافي- الشيخ الكليني- ج 2- ص 12 – 13 باب فطرة الخلق على التوحيد ح3.
2- المحاسن- أحمد بن محمد بن خالد البرقي- ج 1- ص 241 ب24 ح 224.
3- مسند احمد- الإمام احمد بن حنبل- ج 3- ص 435.
4- أي استخفتّهم فجالوا معهم في الضلال.
5- كنز العمال- المتقي الهندي- ج 1- ص 266/1336.

قالَ: نَعَم.

قالَ: فَهَل تَعَلَّقَ قَلبُكَ هُنالِكَ أنَّ شَيئاً مِنَ الأَشياءِ قادِرٌ عَلى أن يُخَلِّصَكَ

مِن وَرطَتِكَ ؟

فَقالَ: نَعَم.

قالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): فَذلِكَ الشَّيءُ هُوَ اللهُ القادِرُ عَلَى الإِنجاءِ حَيثُ لا

مُنجِيَ، وعَلَى الإغاثَةِ حَيثُ لا مُغيثَ...(1)

قالَ رَجُلٌ لِجَعفَرِ بنِ مُحَمَّد (عليهما السلام): مَا الدَّليلُ عَلَى اللهِ ؟ ولا تَذكُر لِيَ العالَمَ وَالعَرَضَ وَالجَوهَرَ.

فَقالَ لَهُ: هَل رَكِبتَ البَحرَ ؟

قالَ: نَعَم.

قالَ: هَل عَصَفَت بِكُمُ الرّيحُ حَتّى خِفتُمُ الغَرقَ ؟ قالَ: نَعَم، قالَ: فَهَلِ

انقَطَعَ رَجاؤُكَ مِنَ المَركَبِ وَالمَلاّحينَ ؟

قالَ: نَعَم.

قالَ: فَهَل تَتَبَّعَت نَفسُك أنَّ ثَمَّ مَن يُنجيكَ ؟

قالَ: نَعَم.

قالَ: فَإِنَّ ذاكَ هُوَ اللهُ، قالَ اللهُ تَعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ

ص: 82


1- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 231.

مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا)(1)،

(إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)(2).(3)

نكتة:

في قوله تعالى (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا)(4)يمكن القول بأن المقصود من هذه الفطرة(5) التي يحاول إبليس تغييرها هو ما تقدم بيانه من معناها، فإنَّ الله تعالى فطر الانسان على الاستقامة والاعتدال، ولكن الشيطان –ومن حذا حذوه- يحاول أن يحرفه عن هذه الطبيعة التي خلقه الله عزّ وجلّ عليها، نظير ما ورد في الحديث الشريف: (كل مولود يولد على الفطر وإنّما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه)، وهناك آية كريمة لعله يمكن الاستفادة منها في هذا المجال وهي قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(6)،

فعبّر ب- (خلق الله) عن الفطرة، وأيّ فطرة؟ هي (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)، يعني أنَّ الفطرة

ص: 83


1- الإسراء 67
2- النحل 53
3- ربيع الأبرار للزمخشري ج2 ص 48 ونقله أيضًا عنه موسوعة العقائد الإسلامية- محمد الريشهري- ج 3- ص 62 – 63.
4- النساء 119
5- جزماً أو على الأقل احتمالاً يولّد الإجمال في الآية، حيث حاول البعض الاستدلال بها على حرمة حلق اللحية باعتبارها تغييراً لخلق الله تعالى.
6- الروم 30

تقتضي الدين، وإنما المحيط والشياطين هي التي تؤثر على الإنسان.

ص: 84

المحور الثاني: البراهين الكونية
اشارة

وتشمل برهان الملازمات العقلية وبرهان الصديقين وبرهان الوجوب والإمكان، وبرهان الحدوث، وبرهان الحركة.

تنطلق هذه البراهين من قبول الواقعية ورفض السفسطة، أي قبول الواقع الذي يمكن إدراكه بصوابية، وعلى مرحلتين:

المرحلة الأولى: أن الواقعية تلازم الاعتراف بالغيب
اشارة

ويمكن تصوير هذه المرحلة بتصويرين:

التصوير الأول: برهان الملازمات العقلية

وبيانه بالآتي:

للدليل والبرهان شكلان:

1/ الدليل الإني، وهو الانتقال من العلم بالمعلول إلى العلم بالعلة.

2/ الدليل اللمي، وهو الانتقال من العلم بالعلة إلى العلم بالمعلول.

وهناك شكل ثالث ممن البرهان أسموه بدليل الملازمات أو شبيه اللمّ أو الإنّ، وهو يبتني على:

ص: 85

أ- الاستفادة من الواقعية فقط، من دون الحاجة إلى التعرف على خصائص تلك الواقعية أو ألوانها، أي من دون ملاحظة كون هذا الواقع علة أو معلولاً، بسيطاً أو مركباً، واحداً أو كثيراً، واجباً أو ممكناً..بل ملاحظة أصل الواقعية فقط.

ب- رفض السفسطة بكل أشكالها (إنكار الواقع، التشكيك به، إنكار أمكانية إدراكه بعد التسليم به)، أي قبول أن هناك واقعاً يمكن إدراكه.

فميزة هذا البرهان هو عدم انطلاقه من الواقع المعلوم معلوليته، بل ينطلق من الواقع مطلقاً، في قبال برهان الإن الذي ينطلق من المعلول المعلوم معلوليته (كما في براهين الإمكان والحدوث والحركة)

وعليه، فتكون صورة الدليل على إثبات وجود الواجب هكذا:

الواقع – مطلقاً – إما واجب فهو، وإلا لكان ممكناً، فيحتاج – لمكان إمكانه القاضي بتوقفه على علته لتخرجه من حيز الإمكان إلى ظرف الوجود- إلى الواجب، وإلا لدار (والدور باطل ضرورة لأنه يلزم من الدور اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما) أو تسلسل (والتسلسل باطل ضرورة – لمن يقبلها فيه – أو بالدليل(1)

ص: 86


1- ذكرت العديد من الأدلة على بطلان التسلسل (الذي معناه عدم الانتهاء إلى علة أولى، فأين ما تضع أصبعك من السلسلة تجده علة لما تحته معلولاً لما فوقه). ونذكر هنا –تبعاً لأحد أساتذتنا- دليلاً مختصراً ومفيداً، وخلاصته: إن التسلسل يساوي عدم وصول نوبة الوجود لك، وحيث إنها وصلت، فالتسلسل باطل. وكمثال توضيحي نقول: لو كنت واقفاً في صفٍ تنتظر أن يصل إليك الدور لتتقدم، فلو كانت المجموعة التي أمامك غير متناهية، لاستحال وصول الدور لك، ووصوله إليك يدل على تناهي المجموعة التي أمامك. فإذا بطل التسلسل – الذي يعني الوصول إلى علة غير معلولة – فنقول: إن كانت واجبة فبها، وإلا استلزمت الواجب.

وبعبارة أخرى:

هذا الواقع الذي ندركه، إن كان فيه موجود واجب، فهو المطلوب، وإن لم يكن فيه ذلك، أي كانت تلك الواقعيات كلها ممكنة، فهذا يعني أنها بحاجة إلى علة تخرجها من الإمكان إلى الوجود، وحينئذٍ نسأل: الموجود الأول مثلاً ما هي علته؟ لا بد أن تكون علته هو الموجود الثاني، وهو موجود ممكن حسب الفرض، فهو أيضاً بحاجة إلى علة، فعلَّتُه إن كانت هي الموجود الأول، لزم الدور، وإن كانت ممكناً ثالثاً، فيحتاج إلى علة، وهكذا يتسلسل، والتسلسل باطل.

فليس لدينا أمام هذا الواقع الذي ندركه إلا ثلاثة احتمالات:

الأول: أن يكون هناك موجود واجب، هو الذي أوجد الممكنات، وهو لا يحتاج إلى علة توجده؛ لأنه واجب.

الثاني: أن تكون علة الأول هو الثاني، وعلة الثاني هو الأول، وهذا يلزم منه الدور.

الثالث: أن تكون علة الأول هو الثاني، وعلة الثاني هو الثالث...، وهكذا إلى ما لا نهاية، فيلزم التسلسل.

ص: 87

وحيث إن الدور والتسلسل باطلان، إذن لا مناص من قبول الأول، وهو المطلوب.

فنلاحظ هنا: أن إثبات أي لازم من هذين اللازمين (الواقع والواجب) يؤدي بالضرورة إلى إثبات اللازم الآخر، فإثبات الواقع يستلزم إثبات الواجب، وإثبات الواجب كذلك يستلزم إثبات الواقع.

التصوير الثاني: برهان (الصدّيقين)
اشارة

التصوير الثاني: برهان (الصدّيقين)(1)

لاحظنا أن برهان الملازمات يعتمد على بطلان الدور والتسلسل، ولكن

ص: 88


1- لمحة تاريخية: كان البرهان السائد عند المتكلمين في بدايات نشوء علم الكلام هو برهان الحدوث وبرهان الحركة (الأدلة الطبيعية)، وقد استفادوا ذلك من القرآن الكريم، واشتهرت تلك الأدلة لسهولة تناولها حتى من عامة الناس، وبعدما اشتهر وتطور علم الكلام، وبعد زيادة الدقّة فيه، ظهر برهان الوجوب والإمكان، الذي كان موجوداً سابقاً لكنه غير مشتهر (وهو من إبداعات الفارابي، وقد تناوله ابن سينا في بعض كتبه... وأسماه ببرهان الصدّيقين... [الكلام الإسلامي المعاصر ج1 ص119] وقد كان المذهب السائد آنذاك فلسفياً هو القول بأصالة الماهية. وبعد تطور علم الكلام أكثر، والعلوم الأخرى، خصوصاً الفلسفة، ودخول مسألة أصالة الوجود في عالم البحث زمن ملا صدرا الشيرازي، جاء الملا ببرهان آخر يعتمد على حقيقة الوجود في إثبات الواجب تعالى، وقال بأن دليله هو دليل الصدّيقين لا دليل ابن سينا (أو الفارابي)، باعتبار أنه أرقى منه، فإن برهان الصدّيقين –في إحدى صورتيه- لا يعتمد على إثبات بطلان الدور والتسلسل كما يعتمد عليه برهان الوجوب والإمكان...وبعدها أطلق على برهان الفارابي وابن سينا ببرهان الوجوب والإمكان، وعلى برهان ملا صدرا ببرهان الصدّيقين. هذا، وقد سُمي هذا البرهان ببرهان الصديقين باعتبار التالي: ((كلمة الصديقين مشتقة من (صدّيق)، التي هي صيغة مبالغة للصدق، لذا يُراد منها الإنسان الذي يبلغ أعلى درجات الصدق، ولكن ما وجه تسمية البرهان بهذا الاسم؟ هناك وجهان لهذه التسمية، هما: أولاً: أول وأهم سبيل لمعرفة واجب الوجود هو الصدق، وأما سائر السُبل فهي تتصف بالضعف والكذب. ثانياً: الصدّيقون هم العباد المخلصون، وقد اختاروا الاستدلال المذكور في البرهان بُغية معرفة الله تبارك شأنه. برهان الصديقين هو عنوان يُطلق على الاستدلال الذي يوصل العبد إلى ربه من دون واسطة، إذ يتمكن من إثبات وجود ذاته المقدسة وليس آثاره...)) [أجوبة الشبهات العقائدية ج1 ص 101]

يمكن الاستفادة منه من دون الحاجة إلى المرور بالدور والتسلسل، وهو مفاد برهان الصديقين ونبينه بطريقين(1):

إجمالي، وتفصيلي.

أما البيان الإجمالي فكالتالي

هذا الواقع، إما مستقل فهو، وإلا فهو رابط، ولا حقيقة لرابط برابط، بل حقيقة الرابط بالمستقل، فلا بد من مستقل. فيلزم.(2)

وأما البيان التفصيلي
اشارة

، فأن يقال:

إن برهان الصدّيقين يبتني على ثلاث مقدمات:

المقدمة الأولى: إن الوجود مشترك معنوي

اتفقوا على أن الوجود مشترك بين الموجودات، ولكن اختلفوا في نحو هذا الاشتراك على رأيين:

الرأي الأول: إن الاشتراك معنوي، فالمفهوم والمعنى من الوجود في كل الموجودات واحد، والاختلاف إنما هو بحسب المصاديق ومراتبها شدة

ص: 89


1- نقل في الكلام الإسلامي المعاصر ج1 ص 129 أن بعض المعاصرين (وهو حسين العشاقي الأصفهاني) ذكر في (براهين الصدّيقين) ما يربو على مائتي تقرير.
2- وهو البرهان المنسوب إلى صدر المتألهين، راجع: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، ج2 ص395-296

وضعفاً، باعتبار أن الوجود مفهوم مشكك لا متواطئ.

الرأي الثاني: إن الاشتراك لفظي، فالمشترك بين الموجودات هو لفظ الوجود فقط، وأما معناه فهو يختلف من مصداق لآخر.

وقد ثبت في علم الفلسفة أن الأول هو الحق.

المقدمة الثانية: أصالة الوجود

إن كل ممكن في الخارج فهو زوج تركيبي من الوجود والماهية في الذهن، ولا شك أن للموجود الخارجي آثاراً معينة، فهذه الآثار هل هي آثار الوجود أم الماهية؟

هنا خمسة آراء –كما قيل-:

1/ إن الأصيل هي الماهية. (كان يُقال به قبل زمن ملا صدرا)

2/إن الأصيل هو الوجود (وهو المذهب السائد بعد زمن ملا صدرا)

3/ أصالة كل من الوجود والماهية. (نُسب للشيخ الإحسائي)

4/ إن الأصيل في الواجب هو الوجود، وفي الممكن هي الماهية.

5/ لا أصيل في الخارج، أي ليس هناك مؤثر في الخارج، وهو مذهب السفسطائيين.

والتحقيق في الفلسفة على أن الوجود هو الأصيل، وأن الماهية هي حدّ الوجود لا أكثر.

ص: 90

المقدمة الثالثة: ملاك احتياج الممكن كونه وجوداً رابطاً

نظام العالم هو نظام العلة والمعلول، ولكن ما هو الموضوع لأصل العلية؟ أي لماذا يكون شيء ما محتاجاً إلى علة؟

طُرحت في هذا المجال عدة نظريات نذكرها سريعاً من دون توقف عليها(1):

النظرية الأولى: إن علة الاحتياج إلى العلة هو الوجود، فكل موجود هو محتاج إلى العلة.

وهي بلا دليل، ويُنقض عليها بوجود الواجب.

النظرية الثانية: إن علة الاحتياج إلى العلة هو الحدوث، فكل حادث (أي لم يكن موجوداً في زمان ما ثم وُجد) فهو محتاج إلى علة.

النظرية الثالثة: إن علة الاحتياج إلى العلة هو الإمكان، فكل ممكن (أي ما لا يستحيل فرض العدم عليه، ولا يأبى العدم من ذاته) فهو محتاج إلى العلة.

النظرية الرابعة: إن علة احتياج الموجود إلى العلة هي (كيفية وجوده، وبعبارة أخرى: فإن الفقر الوجودي والتعلّق الذاتي لبعض الموجودات هو ملاك احتياجها إلى الوجود الغني غير المحتاج، إذن، موضوع القضية المذكورة هو (الموجود الفقير) أو (الموجود المتعلق)، وحينما نأخذ بعين الاعتبار المراتب

ص: 91


1- انظر: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة ج2 ص29-30 الدرس الثاني والثلاثون.

التشكيكية للوجود، حيث تكون كل مرتبة أضعف متقومة بالمرتبة الأقوى، فإننا نستطيع أن نجعل موضوع القضية هو (الموجود الضعيف)، فيصبح ملاك الاحتياج إلى العلة هو (ضعف مرتبة الوجود).(1)

(وبالالتفات إلى هذه المقدمات، يمكن صبّ برهان الصدّيقين على أساس منهج صدر المتألهين بهذه الصورة:

إن مراتب الوجود –باستثناء أعلى مراتبه التي تتميز بالكمال اللا متناهي وعدم الاحتياج والاستقلال المطلق- هي عين الربط والتعلّق، ولو لم تكن تلك المرتبة العليا متحقّقة، فإن سائر المراتب لا تتحقق أبداً، لأنه يلزم من فرض تحقق سائر المراتب من دون تلك المرتبة العليا أن تكون المراتب المذكورة مستقلّة وغير محتاجة إليها، بينما حيثية وجودها هي عين الربط والفقر والاحتياج)(2)

المرحلة الثانية: إن الواقعية الملونة بلون معين (كالإمكان أو الحدوث أو الحركة) تدل على الغيب
اشارة

المرحلة الثانية: إن الواقعية الملونة بلون معين (كالإمكان أو الحدوث أو الحركة) تدل على الغيب(3)

وفي هذه المرحلة، يتم الاستدلال على إثبات وجود الله تعالى من خلال

ص: 92


1- نفس المصدر ص 30.
2- نفس المصدر ص 396 الدرس الثاني والستون.
3- نلفت النظر إلى أن برهان النظم وبرهان النفس يدخلان تحت هذا المعنى، أي إنهما ينطلقان من الواقعية الملوّنة بلون معين، وإنما جعلنا لهما محورين منفصلين عن هذا المحور تبعاً لبعض الباحثين الذي تقدم تصنيفه للأدلة. يُضاف إليه: أن برهان النظام يُنتج في الحقيقة ضرورة المنظِّم، ولا يُثبت وجوبه، مما يعني احتياجه لبرهان الوجوب والإمكان للوصول إلى النتيجة المطلوبة.

الواقعية المحيّثة بحيثية معينة، كحيثية الإمكان أو الحدوث أو الحركة، فهنا ثلاثة براهين تشترك في اعتمادها على كبريات بديهية كما سيتبين إن شاء الله تعالى، والبراهين هي:

البرهان الأول: برهان الإمكان والوجوب

وهو من إبداعات الفارابي، وذكره ابن سينا أيضاً في كتبه، بل قد اشتهر بدليل ابن سينا، وإن (أول من تداول استعمال هذا البرهان في اللاهوت والفلسفة الغربية هو توماس أكويناس... وقد تابعه على ذلك لايبنتز(1)،

وقد تم تقرير هذا البرهان بتقريرات عديدة(2)،

نذكر منها تقريراً واحداً، وقبل بيانه نبين التالي:

معنى الممكن والواجب.

هناك أربعة إطلاقات للإمكان في الفلسفة: (الإمكان العام والخاص والذاتي والاستعدادي)، والمهم هو أنّ المقصود من الممكن هنا هو: ما لا يقتضي من ذاته الوجود ولا العدم، (وهو معنى الإمكان الذاتي) مما يعني أن وجوده أو عدمه يكون من غيره، فهو محتاج في وجوده إلى العلة، ويكفي في عدم وجوده عدمُ وجود علة وجوده.

ومعه، فخلاصة ما يمكن قوله في خواصّ الممكن هو أن له أربع خواص:

ص: 93


1- الكلام الإسلامي المعاصر ج1 ص 120.
2- انظر لعدد منها في: الكلام الإسلامي المعاصر ج1 ص 121 – 127. وكذلك في أجوبة الشبهات الكلامية ج1 ص 103 – 111.

1/عدم اقتضائه للوجود أو العدم من ذاته.

2/مما يعني أنه محتاج إلى غيره في أصل وجوده.

3/بل وفي استمرار وجوده، لأنه لا يقتضي الوجود من ذاته، فيكون استمرار وجوده كأصل وجوده نابعاً من غيره.

4/ أن كل ممكن فهو زوج تركيبي من وجود، وحدٍّ للوجود (ماهية)، لأن الممكن لا يظهر في هذا العالم إلا بوجود، ولأنه موجود محدود متناهٍ في وجوده –لفرض أنه ممكن وليس واجباً- فله حدٌ معين (وهي الماهية) وبالتالي، فكل ممكن فهو مركب –ذهناً- من وجود وماهية.

أما الواجب، فهو ما يكون وجوده نابعاً من ذاته، فذاته هو الوجود، لا شيء آخر، وإن صفته الأصيلة هي الغنى المطلق، بما تحمله هذه الكلمة من امتناع كل ما من شأنه أن يؤدي إلى النقص في الذات، ولذلك فإن نفس كونه واجباً ينفي التركيب والاثنينية والحاجة وكل نقص. وهذا يعني أن التعبير ب- (واجب الوجود) يستبطن إثبات كل الصفات الكمالية ونفي كل الصفات السلبية، وبالتالي فكل صفات الممكنات الحاكية عن النقص تكون منفية عن الواجب.

إذا تبيّن هذا نقول:

لا شك أن هنا موجوداً في الخارج (أصل الواقعية يثبت ذلك) فإنْ كان هذا الموجود واجباً فقد ثبت المطلوب، وإنْ كان ممكناً، احتاج إلى علة لكي

ص: 94

يوجد، وعلته إنْ كانت واجبة فبها، وإنْ كانت علته هو نفس الموجود الأول دار، وإنْ كانت غيره وهو ممكن تسلسل، والدور والتسلسل باطلان، فلزم وجود واجب وجود في الخارج، وهو المطلوب.

ويمكن تلخيص البرهان المذكور في النقاط التالية:

1/الإذعان بحقيقة وجود الواقع الخارجي.

2/ تقييد الوجود الحقيقي بممكن وواجب.

3/ افتقار الممكن إلى علة في وجوده أمرٌ بديهي اقتضاءً لماهيته وذاته.

4/ استحالة حدوث الدور والتسلسل على صعيد العلّية.

5/ فرضية (واجب الوجود) هي الفرضية الوحيدة التي نستطيع من خلالها تبرير وجود الممكنات بأسرها.(1)

هذا، وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذا البرهان في عدد من آياته، ومنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(2) وقوله تعالى (واللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ)(3)

وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال:...وكُلُّهُمْ إِلَيْه مُحْتَاجٌ وهُوَ غَنِيٌّ عَمَّنْ سِوَاه.(4)

ص: 95


1- أجوبة الشبهات الكلامية ج1 ص 53-54.
2- فاطر 15
3- محمد 38
4- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1- ص 132 باب العرش والكرسي ح2.

وعلّق عليه المازندراني: (وكلهم إليه محتاج) لاستناد جميع الآثار إليه، إذ كل أثر فهو عن مؤثره والكل منته في سلسلة الحاجة إليه، وإفراد الخبر باعتبار لفظ الكل (وهو غني عمن سواه) كما قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).(1)

البرهان الثاني: برهان الحدوث
اشارة

ينطلق هذا البرهان من قضية أثبتها الوجدان والعلم الحديث، بأن كل مفردات هذا العالم داخلة تحت التغيير، فلا شيء في هذا العالم ثابت، وبالتالي، تغيره يحكي عن حدوثه، فيحتاج إلى محدِث غير متغير ولا حادث (قطعاً للتسلسل)، فيثبت وجود محدِث لهذا العالم غير حادث، وهو القديم، وهو الله تعالى. ويُعرف هذا البرهان ببرهان المتكلمين، لأنهم أكثروا من استعماله.

فهنا عدة مقدمات لا بد أنْ نفهمها جيداً:

المقدمة الأولى: إن العالم حادث
اشارة

الحادث هو المسبوق بالعدم، يعني كان معدوماً ثم وُجِد، ويقابله القديم، وهو الموجود غير المسبوق بالعدم.

وللحادث والقديم معنيان:

ص: 96


1- شرح أصول الكافي- مولي محمد صالح المازندراني- ج 4- ص 110.
المعنى الأول: الحادث والقديم الذاتيان
1/الحادث الذاتي

هو الموجود الذي لا يكون الوجود ذاتياً له، بل يكون الوجود مفاضاً عليه من غيره، فهو محتاج إلى ذلك الغير حتى يوجد. وهذا المعنى يشمل كل ما عدا الله تعالى، سواء كان من عالم الطبيعة أو من عالم المجردات.

2/القديم الذاتي

هو الموجود الذي يكون الوجود ذاتياً له، فلا يكون الوجود مفاضاً عليه من غيره، فهو غير محتاج إلى غيره حتى يوجد، وهذا المعنى منحصر بالله جلّ جلاله، إذ هو (واجب الوجود) الذي يعني أن وجوده ضروري، فلا ينفكّ عنه، لأنه يلزم منه تفكيك الذاتي عن الذات، وهو محال.

المعنى الثاني: الحادث والقديم الزمانيان
1/الحادث الزماني

هو الموجود الذي سبقه زمان لم يكن موجوداً في ذلك الزمان، يعني هناك فترة زمنية كانت وهو غير موجود فيها. فأنا مثلاً لم أكن موجوداً قبل مائة سنة، وبالتالي فأنا حادث زماناً.

2/القديم الزماني
اشارة

للقديم الزماني إطلاقان:

ص: 97

الأول: للحكماء

هو الموجود الذي وُجِد مع الزمان، فليست هناك قطعة زمنية كانت وهو لم يكن، ومثاله عالم الطبيعة كله، فعالم الطبيعة وُجِد في اللحظة أو الآن الذي وُجد فيه الزمان، بحيث وجدا (الزمان وعالم الطبيعة) في لحظة واحدة.

ومثاله أيضًا: الزمان نفسه، فإنه لم يسبقه زمان غيره، فهو قديم زماني.

والذي يُقابل هذا المعنى للقديم الزماني هو الحادث الزماني، فأنا حادث زماناً، أي إنه مرّ زمن لم أكن موجوداً فيه، ثم وُجدتُ بعد ذلك، ولكن عالم الطبيعة ككل هو قديم زماناً.

وهنا سؤال: نحن نعلم أن هناك موجودات غير زمانية، يعني موجودة قبل خلق الزمان، مثل الملائكة، فهذه ماذا نسميها؟

الجواب: نسميها (حادثة ذاتاً) فهي موجودات لا تقتضي الوجود من ذاتها، وقد استعمل المحقق الميرداماد مصطلح (الحدوث الدهري) للتعبير عن الوجودات المجردة وتقدمها على الوجودات المادية.(1)

الثاني: للمتكلمين

إن معنى القديم الزماني مساوق للقديم الذاتي، فكل ما عدا الله تعالى هو حادثٌ ذاتاً وزماناً. فالقديم الزماني والقديم الذاتي هما بمعنى أن يكون الموجود موجوداً منذ الأزل ولا بداية زمنية له، وهو واجب الوجود حصراً،

ص: 98


1- أجوبة الشبهات العقائدية ج1 ص133.

وكل ما عداه، سواء كان من عالم الطبيعة أو من عالم المجردات، أي سواء كان مسبوقاً بالعدم الزماني (مثلي ومثلك) أو لم يكن مسبوقاً به (كما في عالم الطبيعة) أو كان غير زماني أصلاً (كعالم المجردات)، فكل تلك الموجودات مسبوقة بالعدم الذاتي، فهي موجودات حادثة، لم تكن ثم كانت.

فالمقدمة الأولى تقول: إن هذا العالم الذي نراه ونحسه، في كل مفرداته، هو عبارة عن أجسام، تختلف فيما بينها من حيث الصغر والكبر، وكل جسم هو إما ساكن أو متحرك، والسكون والحركة حدوث، لأن السكون هو كونٌ ثانٍ في المكان الأول، والحركة هي كونٌ ثانٍ في مكان ثانٍ، فبين الحركة والسكون تقابل ضدّين، لأنهما وجودان، لا يجتمعان في مكان واحد في زمان واحد، وبما أن هنا وجوداً ثانياً، ولم يكن موجوداً عند الوجود في المكان الأول، فهو حادث، فالسكون والحركة حادثان.

وبعبارة أخرى: إن الموجود المادي يتشخص فيما يتشخص به بالزمان والمكان، فإذا تغير الزمان دون المكان فهو السكون، وإذا تغير الزمان والمكان فهي الحركة.

فهذه المقدمة إذن مقدمة وجدانية.

وكل ما كان له حوادث، فهو حادث، فالجسم الذي له حوادث لا بد أن يكون حادثاً، إذ لو كان قديماً فحوادثه إما قديمة أو حادثة، والأول خلاف الفرض، إذ الفرض أنها حوادث، فكيف تكون قديمة، والثاني، يعني هو قديم وحوادثه حادثة، هذا يلزم منه أنه كان في آنٍ ما غير موصوف بالسكون

ص: 99

والحركة، لأنه قديم، وحوادثه (من الحركة والسكون) حادثة حسب الفرض، وهو خلف كونه جسماً، إذ ثبت أن الجسم إما متحرك أو ساكن.

المقدمة الثانية: إن كل حادث يحتاج إلى محدِث

وهذه المقدمة يثبتها نظام (العلة والمعلول)، فهي مقدمة وجدانية، إذ المعلول (الحادث) لا يمكن أن يكون هو من أوجد نفسه. وإلا لدار، والدور باطل بالضرورة.

المقدمة الثالثة: المحدِث إما قديم أو حادث

وهذه مقدمة وجدانية أيضاً، لانحصار الموجود بالحادث والقديم.

المقدمة الرابعة: إن كون المحدِث حادثاً يلزم منه إما الدور أو التسلسل

إذ لو جئنا للفرد (سين) الحادث الذي أوجده (صاد)، ف- (صاد) إن كان حادثاً فلا بد له من محدِث، فموجِدُه إن كان (سين) دار، وإن كان غيره، وهو حادث أيضاً، تسلسل. والدور والتسلسل باطلان بالضرورة.

النتيجة: لا بد أنْ يكون المحدِث لهذا العالم قديماً، لينقطع التسلسل، وهو المطلوب.

والمقصود من القديم هنا هو القديم الذاتي، لأن القديم الزماني باصطلاح الحكماء (وهو بمعنى العالم الطبيعي) هو في ذاته ممكن الوجود، فيحتاج إلى علة توجده، ولا بد أن تكون العلة قديمة قطعاً للدور والتسلسل، فينتهي أيضاً إلى القديم الذاتي.

ص: 100

البرهان الثالث: برهان الحركة
اشارة

خلاصة هذا البرهان هو الآتي:

إن العالم متحرِّك، وكل متحرِّك لا بد أن يكون له محرِّك، لأن كل معلول لا بد له من علة، وهذا المحرِّك، إنْ كان محتاجاً إلى محرِّك دار أو تسلسل، فلا بد من الوصول إلى محرّك لا يحتاج إلى غيره في التحريك، وهو في نفسه غير متحرك، لأنه لو كان متحركاً لاحتاج إلى علة للتحريك، فيدور أو يتسلسل، وذلك المحرك غير المتحرك هو الواجب تعالى.

فهو لا يختلف كثيراً في صياغته عن صياغة برهان الحدوث.

بيان مصطلح الحركة

بيان مصطلح الحركة(1):

ربما يكون مفهوم الحركة أمراً واضحاً عرفاً، فقد تُفهم الحركة على أنها: (الانتقال من مكان إلى آخر)، ولكن هذا تعريف عرفي إذا صحّ التعبير، وهو يحكي إحدى مفردات الحركة، والتعريف العلمي لها هو: أن الحركة تعني: (التغير التدريجي)، أو (خروج الشيء تدريجاً من القوة إلى الفعل)(2)،

يعني من الفقدان إلى الوجدان، وهو معنى الاستكمال.

وهذا يعني: أن المتحرك فلسفياً هو موجود ناقص في حدّ نفسه، ويستكمل بالحركة، فهو إذن ممكن الوجود، فلا بد أن ينتهي إلى واجب الوجود.

ص: 101


1- للتفاصيل يمكن مراجعة بداية الحكمة: المرحلة العاشرة.
2- المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، الدرس الخامس والخمسون ص 310 وراجع بداية الحكمة المرحلة العاشرة الفصل العاشر: في المقولات التي تقع فيها الحركة.
استطراد: أنواع الحركة

الحركة –فلسفياً- لها خمسة أنواع:

الأول: الحركة المكانية، وهذه واضحة جداً للعيان. وهي من مقولة (الأين).

الثاني: الحركة الكيفية، كتغير التفاحة من اللون الأخضر إلى اللون الأحمر. وهي من مقولة (الكيف).

الثالث: الحركة الكمّية، كنمو جسم النبات والحيوان والإنسان وكبره شيئاً فشيئاً. ومثالها الواضح هي (السمنة) التي تحدث للجسم بعد أنْ كان نحيفاً مثلاً، وهي من مقولة (الكم).

الرابع: الحركة الوضعية، كدوران الأرض حول نفسها، وهي من مقولة (الوضع).

وهذه الأنواع الأربعة كلها تحدث في الأعراض لا في الجوهر.

الخامس: الحركة الجوهرية، وهذه الحركة استدل عليها الحكيم صدر الدين الشيرازي، وخلاصتها: التالي:

عندما نلاحظ مثلاً الإنسان، منذ اللحظة الأولى من انعقاد نطفته إلى أن يولد ويكبر، نلاحظ أنه يتحرك أيناً وكماً وكيفاً ووضعاً، ولكن هناك شيئًا آخر يتحرك فيه، وهو جوهر النواة، فجوهر النواة فيه يتحرك من النطفة إلى العلقة إلى المضغة وهكذا إلى أن يصبح إنساناً سوياً، فجوهره واحد متحرك

ص: 102

من القوة إلى الفعل. (1)

وتفصيل هذه الأنواع موكول إلى علم الفلسفة.

هذا وقد أثبتت العلوم التجريبية حركة كل الموجودات المادية، حتى الذرة والإلكترون والنيوترون حول النواة.

ص: 103


1- راجع أجوبة الشبهات العقائدية ج1 هامش ص 166- 167 وراجع المنهج الجديد في تعليم الفلسفة ج2 الدرس التاسع والخمسون.

ص: 104

المحور الثالث: برهان (إتقان الصنع) أو (برهان النظام)
اشارة

وهذا البرهان ينطلق من الواقعية بلون (النظام).

((النظام لونٌ من ألوان علاقة الانسجام بين أجزاء مجموعة، تكوّنت من أجل تحقيق هدف محدّد، بحيث يكون كل جزء من أجزاء المجموعة مكمّلاً للآخر، وفقدان أي منها يتسبب في أن تفقد المجموعة هدفها المعين، وأثرها المنشود، وإنّ واقع (النظام) في الظواهر الطبيعية لا يعدو اجتماع أجزاء مختلفة من حيث الكم والكيف، ائتلفت مع بعضها لأجل أن يُسفر تكاملها وتعاونها عن تحقيق هدف معين.

ويدلّنا تحليل مفهوم (النظام) وتعريفه إلى أنّ تحقّقه رهينٌ بتأتّي الأركان التالية:

1/وجود عدد من الأشياء أو الأجزاء المختلفة.

2/ حالة الترتيب والانسجام والتناغم السائدة عليها.

3/ وجود هدف معين.

4/ التأثير النسبي لكل جزء من الأجزاء في تحقيق الهدف، وارتهان تحقق الهدف باجتماعها وائتلافها.

ص: 105

5/عنصر الربط وعامل تلك العُلقة الموجَدة بين الأجزاء.))(1)

وخلاصة «برهان النظم» هي:

أن ههنا نظامًا دقيقًا يحكم عالم الوجود من الذرة إلى المجرة. وإن العقل يحكم بامتناع أن يكون هذا النظام من دون منظِّم عالم قادر مريد. وينتج عن هذا: أن العالم له منظِّم، عالم، قادر، حي، مريد، وهذا المنظِّم نحن نسمّيه «الله» جل جلاله.

وفي الحقيقة هنا صغرى وكبرى، فالصغرى تنص على أن العالم مبتنٍ على نظام، ونظام دقيق، وهذه لا تحتاج إلى إثبات، وإنما يمكنك فقط أن تنظر إلى كل مفردات العالم لتجد أنها مبتنية على أساس النظام، وكلما تطور العلم اكتشف أنظمة أكثر في هذا الوجود، وهذا ما قد تشير له الآية الكريمة. ﴿إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ﴾(2)

فالعلماء هم الذين يستطيعون أن يكتشفوا هذا النظام الدقيق الموجود في مخلوقات الكون على اختلاف تخصّصاتهم، فصغرى القياس ومفرداتها يثبتها كل علم في مجاله، فعندما تذهب إلى الطب – مثلًا – ويبحث لك في جسم الإنسان فإنه يستخرج لك نظامًا دقيقًا فيه، بل في كل عضو من أعضاء الجسم الداخلية، فلا ينفرد العضو بنفسه في عمله على نحو الاستقلال، وإنما هناك توافق في العمل بين الأعضاء ليأخذ كل واحد منها دوره وليؤدّي

ص: 106


1- الكلام الإسلامي المعاصر ج1 ص95- 96.
2- فاطر 28

واجبه الذي عليه، فهذا التنسيق الدقيق يتوافق في العمل ويحفظ النظام في الجسم كله.

هذ، وقد حقّقت العلوم التجريبية انتصارات باهرة في مختلف مظاهر الطبيعة، وكشفت اللثام عن الحقيقة المتقدمة، بواسطة مكرسكوبات دقيقة، وتوصلوا أخيراً إلى أن منشأ ظهور الموجود الحي هي وحدة صغيرة جداً تسمى الخلية، ويوجد في جسم الإنسان كمعدل (عشرة ملايين مليار خلية)، وأول من اكتشف الخلية وسمّاها بذلك هو العالم (هوك) في القرن السابع عشر الميلادي، واستمرت الدراسات بشكل مستمر، وأخيراً، وبعد جهود مضنية اكتشفوا أن الخلية عبارة عن مدينة كاملة فيها آلاف التأسيسات، ومجهّزة بمنشآت ومعامل لتبديل المواد الغذائية إلى المواد التي يحتاجها الجسم، وإن هذه المدينة لها ثلاثة أقسام:

1/ جدار الخلية، وهو بمثابة سور المدينة.

2/القسم الأوسط للخلية (السيتوبلازم).

3/النواة أو مركز الخلية.

وهناك قنوات كثيرة تمتدّ من الجدران إلى أطراف النواة لتحويل المواد الغذائية إلى بروتينات.

ثم إن في نواة الخلية وحدات صغيرة جداً وظريفة تسمى (الكروموسومات) وهي تظهر عند انقسام الخلية، وفي خلية الإنسان يوجد

ص: 107

(46) كروموسوماً، وهذه ال-(46) منها (23) تأتي من الرجل إلى المرأة، و(23) عند المرأة في بويضتها، يتحدان فيكوّنان الخلية الأولى للجنين، والغريب أن هذه الكروموسومات لو زادت واحدة من أحد الطرفين لأثّر على الجنين ليخرج بما يسمى ب-(الجنين أو الوليد المنغولي.)!

ثم إن في الكروموسومات توجد أجسام صغيرة جداً تسمى (الجينات)، وطبقاً لدراسات العلماء، فإن عدد الجينات يصل إلى (25) ألف جين، وهذه الجينات هي المسؤولة عن نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء(1)!!

(أُنثى أحد الدبابير الطفيلية على سبيل المثال، حينما تريد أن تبيض فهي تقوم بتخدير حشرةً تنقضّ عليها وتجعل بيوضها في بدنها ثمّ تموت مباشرةً، لذا عندما تفقس هذه البيوض تقوم المواليد الجديدة بالتغذي من بدن الحشرة المضيفة، حيث تجد طعامها طازجاً؛ لذلك لو أنّ الحشرة الأمّ كانت قد قتلت تلك الحشرة ولم تخدّرها، لفسد جسمها ولما حصل الصغار على طعامٍ طازجٍ، بل فاسدٍ يهلكها فور ولادتها. والمذهل أيضاً في هذه الدورة الحياتية أنّ المواليد الجديدة تكرّر نفس العملية حينما تصل إلى سنّ البلوغ من دون أن تشاهد الأمّ وهي تفعل ذلك. فما تبرير هذه الظاهرة العجيبة؟!

ومثالٌ آخر على هذا النمط من النَّظم: نوعٌ من سمك الجرّيث (الجلكي)، حيث يقطع آلاف الكيلومترات في أعماق المحيطات متّجهاً نحو جزر برمودا لأجل وضع بيوضه، وبعد ذلك يموت مباشرةً. وأمّا الصغار التي تخرج من

ص: 108


1- نفحات القرآن، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج2 ص 51-53 بتصرف وإضافة.

البيوض فهي تعود إلى وطنها الأصلي لتعود مرّةً أخرى بعد أن تصل إلى سنّ البلوغ من دون أن تضلّ طريقها أو تضع بيوضها في مكانٍ آخر؛ ومن المؤكّد أنّه لا يوجد مرشدٌ يرشدها إلى الطريق أو يعلّما ما عليها القيام به، لذلك لا بدّ من وجود قدرةٍ غيبيةٍ وراء هذه الظاهرة المذهلة والنَّظم الذي يبهر العقول..)(1)

وبالنتيجة: إن الصغرى تدعونا إلى النظر في كل ما في الآفاق وما في الأنفس لنكتشف دقة هذا النظام.

وأما كبرى القياس، فهي تنص على أن النظام لابد له من منظِّم، وهذه وجدانية عقلية لا ينكرها إلّا مجنون أو مكابر، وإلّا فالمسألة تُطرَحُ بحسب الفطرة، إذ إن العقل هو الذي يحكم بأنه لا يمكن أن يوجد نظام من دون أن يوجد من يُنظّمه، وذلك المنظِّم يكون عالمًا، تمامًا كما لو رأيت لوحة مرسومة بدقة ومعلّقة على الحائط! ولو تركت الأمر لعقلك لاستحال عليه أن يقول بأن هذه اللوحة رُسِمَتْ لوحدها وذهبت بنفسها من دون يد إنسان أقلّتها وتعلَّقت على الحائط، العقل يحكم بأن هناك من أخذها وعلّقها على الحائط بعد أنْ قام شخص ما برسمها، هذا بصورة مصغرة، فالعقل يدرك أن النظام لابد له من منظم، وهذه مسألة وجدانية لا تحتاج إلى أكثر من التفكر قليلًا، وفي الحقيقة، إن هذا الأمر يثبته نظام (العلة والعلول) حيث تقدم أن المعلول

ص: 109


1- أجوبة الشبهات العقائدية،ج1 ص 195-196.

يكشف إنّاً عن صفات علته، تطبيقاً لقاعدة (فاقد الشيء لا يُعطيه).(1)

إشارات
الإشارة الأولى: سهولة تناول برهان النُظُم

إن برهان «النظم» لا يحتاج إلى أكثر من مطالعة النظام وتطبيقه على القاعدة العقلية التي تقول: إن النظام لابد له من منظِّم.

ص: 110


1- وقد تعدّدت الصياغات لبرهان النظم، ضمن إطار عام واحد يتمثل بالانتقال من النظام إلى وجود المنظِّم، فقد روي أنّه سُئل أمير المؤمنين عليه السلام) عن إثبات الصانع، فقال: البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير؟ (بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج 3- ص 55.) ويُقال: إنه كان هناك فيلسوف لديه ألف دليل على نفي وجود الله، وأخذ على عاتقه أن يذهب ويناقش أحد العلماء، وفي الطريق مرّ على فلّاح، فسأله: «أين بيت العالم (فلان)»؟ قال الفلّاح: «ما تريد منه؟» أجاب الفيلسوف: «لدي ألف دليل على عدم وجود الله». فرد عليه الفلّاح قائلًا: «لا داعي لأن تذهب إلى العالم، فأنا أجيبك: عندي دليل واحد على وجود الله ينسف أدلتك الألف! أرضي الزراعية هذه! فأنا أفتح الماء هنا وأقطعه هناك فإن أهملتها ساعة واحدة مات الزرع، فأرض بمقدار دونم واحد إذا لم يكن لها ربٌّ ربما تموت، وهذا العالم بأسره تنتظم أموره بلا رب؟! إنه المستحيل بعينه! فهذا هو نفس دليل «النظام»، لكن الرجل صاغه بعبارته. ومن اللطائف التي تنقل عن الشيخ أبي الحسن علي ابن ميثم البحراني أنه دخل على الحسن بن سهل وإلى جانبه ملحد قد عظّمه والناس حوله، فقال. لقد رأيت ببابك عجباً، قال: وما هو؟ قال: رأيت سفينة تعبر بالناس من جانب إلى جانب، بلا ملّاح ولا ماصر، قال: فقال له صاحبه الملحد وكان بحضرته: إن هذا أصلحك الله- لمجنون، قال: فقلت: وكيف ذاك؟ قال: خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ولا حياة فيه ولا عمل كيف يعبر بالناس؟ قال: فقال أبو الحسن: فأيّهما أعجب: هذا أو هذا الماء الذي يجري على وجه الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوى، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض، والمطر الذي ينزل من السماء، تزعم أنت أنه لا مدبر لهذا كله، وتنكر أن تكون سفينة تحرّك بلا مدبر وتعبر بالناس! قال: فبهت الملحد. (الفصول المختارة- الشريف المرتضى- ص 76.)

وفي الحقيقة أن برهان النظم يريد تسليط الضوء على (التلازم العقلي بين (النظام) في ظاهرة ما، و (الوعي) الذي يتصف به فاعل تلك الظاهرة، فهو جوهر هذ الدليل)(1)

الإشارة الثانية: برهان النُظُم لا ينتهي إلى وجوب المنظِّم

إنّ برهان النُظم ينتهي إلى إثبات أن هذا العالم لا بد له من منظّم، أما أنّ هذا المنظِّم لا بد أن يكون واجب الوجود، فهذا ما يحتاج إلى استئناف دليل آخر، كبرهان الوجوب والإمكان.

وهذا لا يُفرّغ برهان النظم من أي فائدة، بل تبقى فائدته في نفي كون العالم مخلوقاً للطبيعة، إذ الطبيعة موجود غير عاقل، فلا يمكن –بحكم العقل- أن تصدر منها أفعال تحكي عن العلم والحكمة والعقل، فإذا أوصلَنا برهانُ النُظم إلى هذه النتيجة، أمكن أن يُبحث بعدها في أن هذا المنظّم للعالم، هل هو موجود ممكن مثله أو هو موجود واجب الوجود؟ وتأتي حينها الأدلة السابقة التي سيقت لبيان ضرورة واجب الوجود.

الإشارة الثالثة: سبب تركيز القرآن الكريم على برهان «النظم»

في الحقيقة، نجد أن برهان النظم هو من أكثر البراهين شياعاً بين الأنبياء والمرسلين، بل إنه (وحسب الوثائق التاريخية، فهو يضرب بجذوره في العصر الإغريقي، ولا سيما في آراء الفيلسوفين: أفلاطون، وأرسطو)(2)

و (تعود

ص: 111


1- الكلام الإسلامي المعاصر ج1 ص 99-100.
2- أجوبة الشبهات العقائدية ج1 ص191.

سابقة هذا البرهان في التراث والنصوص الفلسفية إلى (رسالة طيمايوس) من رسائل أفلاطون (348 ق.م)، وللبرهان الأخير من البراهين الخمسة التي ساقها أكويناس (1274م)...)(1)

ونجد في الآيات الكريمة بعض الإشارات إلى بعض الأدلة الفلسفية والكلامية، لكن أكثر الآيات تشير إلى هذا البرهان، ومن تلك الآيات الكثيرة هي التالي: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ. وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)(2)

وقوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(3)

ص: 112


1- الكلام الإسلامي المعاصر ج1 ص94.
2- الروم 20-25
3- البقرة 164

وغيرها من الآيات الكثيرة في هذا الجانب.

والسبب في ذلك – والله العالم – يرجع إلى التالي:

أولًا: إن هذا البرهان يتلاءم مع المستويات العلمية المختلفة، وحتى المتباينة، فالإنسان العادي الفطري الذي ليست له أي شهادة أو معرفة كثيرة، هو يستطيع أن يستدل بنفس هذا البرهان على وجود الله تعالى، فهو برهان يشمل الجميع، ويمكن أن يستعمله الجميع، وليس كبرهان «الوجوب والإمكان» مثلًا، إذ يحتاج إلى دراسة معمّقة في الفلسفة ومعرفة كثير من الاصطلاحات والقواعد الفلسفية ومعرفة بطلان «الدور والتسلسل»، فيكون خاصًا بفئة من الفئات.

ثانياً: هذا البرهان خالٍ من التعقيدات اللفظية والمصطلحات العلمية والفلسفية التي تحتاج إلى درس وتأمل ومحط القيل والقال، وبمجرد عرضه على أي شخص بلغة بسيطة فإن مسائله تتضح بكل يسر.

ثالثاً: هذا البرهان متجدد مع الزمن، باعتبار أن صغراه ترتكز على النظام الموجود في الكون، وكلما تقدمت العلوم اكتشفت أنظمة أكثر، فيتجدد هذا البرهان مع تجدد العلوم.

ص: 113

ص: 114

المحور الرابع: برهان النفس
اشارة

وهذا البرهان ينطلق من الواقعية بلون (النفس الإنسانية).

وقد ذكره بعض الفلاسفة، ومنهم السيد الطباطبائي في نهاية الحكمة(1)،

ونسَبه إلى الطبيعيين، وهو برهان يعتمد على العديد من المقدمات الفلسفية، لذا نُعرض عن ذكر تفاصيله هنا، ونأخذ مقدماته على نحو الأصول الموضوعية، وخلاصته التالي:

هنا عدة مقدمات:

المقدمة الأولى: إنّ النّفس الإنسانية مجرّدة ذاتاً، فهي موجودٌ مجرّد لا مادي، وإن تعلقت بالبدن.

ص: 115


1- قال (قدس سره) نهاية الحكمة، المرحلة الثانية عشرة، الفصل الثاني، ص 332 ما نصه: برهان آخر، أقامه الطبيعيون أيضا من طريق النفس الإنسانية. تقريره: أن النفس الإنسانية مجردة عن المادة ذاتا، حادثة بما هي نفس بحدوث البدن، لامتناع التمايز بدون الأبدان واستحالة التناسخ- كما بين في محله- فهي ممكنة مفتقرة إلى علة غير جسم ولا جسمانية، أما عدم كونها جسما، فلأنها لو كانت جسما كان كل جسم ذا نفس، وليس كذلك، وأما عدم كونها جسمانية، فلأنها لو كانت جسمانية، سواء كانت نفسا أخرى أو صورة جسمية أو عرضا جسمانيا، كان تأثيرها بتوسط الوضع، ولا وضع للنفس مع كونها مجردة، على أن النفس لتجردها أقوى تجوهرا وأشرف وجودا من كل جسم وجسماني، ولا معنى لعلية الأضعف الأخس للأقوى الأشرف. فالسبب الموجد للنفس أمر وراء عالم الطبيعة وهو الواجب (تعالى) بلا واسطة أو بواسطة علل مترتبة تنتهي إليه.

المقدمة الثانية: إن النفس موجود حادث، بحدوث البدن.

المقدمة الثالثة: ولأن النفس حادثة، فهي ممكنة الوجود.

المقدمة الرابعة: ولأنها ممكنة، فهي بحاجة إلى علة، إذ تقدم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة لتوجده.

المقدمة الخامسة: إن علة النفس لا يمكن أنْ تكون جسماً (أي ما له أبعاد ثلاثة: طول وعرض وعمق) ولا جسمانياً (أي الصورة النوعية المنطبعة في الجسم، لأن الجسم في الخارج لا يمكن أن يوجد إلا ضمن صورة نوعية، كالنبات والحيوان والمعدن ونحوها).

والنتيجة: إن علة النفس لا بد أن تكون موجوداً مجرداً، وهذا المجرد، إنْ كان واجباً فهو المطلوب، وإنْ كان ممكناً فلا بد أنْ يرجع إلى الواجب، قطعاً للدور أو التسلسل (برهان الوجوب والإمكان).

ملحوظة:

إن برهان (الحركة) وبرهان (الحدوث) وبرهان (النفس) كلها تعتبر مصاديق لبرهان (الوجوب والإمكان)، سوى أن برهان الوجوب والإمكان يستدل بالممكن -من غير تعيين المصداق- على لزوم وجود الواجب، وأما هذه البراهين فهي تستدل بمصداق معين من الممكن، لتثبت ضرورة انتهائه إلى الواجب.

وهكذا برهان (النظم) حيث تقدم أنه لا يُثبت وجود الواجب إلا من

ص: 116

خلال الرجوع إلى برهان الوجوب والإمكان.

بيان بعض مقدمات هذا البرهان
اشارة

بيان بعض مقدمات هذا البرهان(1):

أولاً: إثبات تجرد النفس
اشارة

وهو بيان للمقدمة الأولى: إنّ النّفس الإنسانية مجرّدة ذاتاً، فهي موجودٌ مجرّد لا مادي، وإن تعلقت بالبدن.

أقيمت على ذلك أدلة كثيرة جداً، نقتصر على دليلين:

الدليل الأول:

وفيه مقدمتان:

المقدمة الأولى: في تجرد العلم الحسي

العلم الحسي: هو ما تدركه النفس من خلال الحواس.

وفيه خلافان:

الخلاف الأول: هل هو حضوري أو حصولي؟

ذهب شيخ الإشراق إلى الأول، وأن معناه: إحاطة النفس بالخارج من خلال الأعضاء والحواس.

ورُدَّ: بأنه لو كان حضورياً لما وقع فيه الخطأ، ولكنه قابل للخطأ، فالصحيح أنه حصولي.

ص: 117


1- تُنظر التفاصيل في كتاب: علم النفس الفلسفي للشيخ غلام رضا فياضي- تقرير الأستاذ السيد جعفر الحكيم.

الخلاف الثاني: هل هو مادي - فيحلّ في جزء بدني أو في محل مادي - أو مجرد؟

الصحيح هو الثاني؛ إذ لو كان مادياً للزم انطباع الكبير في الصغير، وهو محال، إذ إننا ندرك الجبل - مثلاً - على كبره، فلو كان العلم به مادياً لا نطيع الجبل في الذهن، وهو محال.

المقدمة الثانية: اتحاد العالم والمعلوم

عندما تعلم النفس بشيء، فإنها تتحد معه، أي إنه لا يكون في عالم الذهن وجودان: وجود للنفس، وآخر للجبل مثلاً، وإنما هو وجود واحد للنفس والجبل، غايته أن العلم بالجبل كمال للنفس، تستكمل به، فتتسع، وهذا هو معنى اتحاد العالم (النفس) والمعلوم.(1)

إذا تبيَّنت هاتان المقدمتان، نقول:

حيث إن العلم الحسّي مجرد، وهو متحد مع النفس وجوداً، فالنفس إذن مجردة، للاتحاد بينهما.

الدليل الثاني:

1/ الإنسان يدرك ويعلم بالأشياء، وحيث إن العلم مجرد - كما تقدم - إذن، الإنسان يُدرك بغير بدنه.

ص: 118


1- وتفصيله في علم الفلسفة، انظر: بداية الحكمة للطباطبائي، المرحلة الحادية عشرة في العلم والعالم والمعلوم، الفصل الأول.

فهناك مدرِك، وهو غير البدن، فلا يقبل الإشارة الحسية، وهي النفس.

2/إن ذلك المدرِك حاضر معلوم عند الإنسان، لا أنه غائب مجهول.

ينتج: أن ذلك المدرِك مجرد، إذ لو كان مادياً، لأمكنت الإشارة الحسية له، لأنه حاضر لدى الإنسان، وكل أمر مادي حاضر للإنسان فهو قابل للإشارة الحسية.

ثانياً: حدوث النفس وكيفية وجودها

وهو بيان للمقدمة الثانية: إن النفس موجود حادث، بحدوث البدن.

فنذكر أولاً هنا بعض الآراء في المقام:

الرأي الأول: أن النفس قديمة زماناً وذاتاً، فلا علة لها أوجدتها.

الرأي الثاني: أنها قديمة زماناً، لكنها حادثة ذاتاً، أي إنها مسبوقة بعدم ذاتي، فهي موجودة بالغير، أي إن لها علة أوجدتها، لا أنها قديمة ذاتاً، كما قال الرأي الأول.

الرأي الثالث: أنها حادثة قبل حدوث البدن كما صُرّح بذلك في الروايات (خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام).

الرأي الرابع: أنها حادثة مع البدن، فهما موجودان - النفس والبدن - حدثا معاً في لحظة واحدة.

الرأي الخامس: أنها حادثة بحدوث البدن، فهناك موجود واحد حدَث،

ص: 119

هو النفس، وبها صار البدن بدناً، وقبله كان جسماً، وهو لصدر المتألهين، وهو المقصود في مقدمة هذا البرهان.

وبعبارة أخرى:

هناك جسد وهناك بدن، والفرق بينهما أن الثاني متقوم بالنفس، وهذا يعني أنه بمجرد حدوث النفس يحدث البدن، أمّا قبل ذلك فهو مجرد جسد لا بدن.

هذا مجمل الآراء، وهناك آراء أخرى.

وعلى كل حال، فقد اختلفت الآراء وتعددت، وكثر النقاش فيها إلى حد التناقض، وقد انتهى بعض العلماء إلى أن العقل عاجز عن اكتشاف الواقع في المسألة.

ومع عجز العقل لابد من الرجوع إلى منهج الوحي لنكتشف من خلاله حدوث أو قدم النفس.

وبالرجوع إليه، ننتهي إلى حدوثها، ببيان:

أن من المبرهن عليه أن العالم حادث –كما تقدم في برهان الحدوث-، وحيث إن المقصود بالعالم هو كل ما عدا الواجب جل وعلا، أي إنه يشمل النفس، فتكون حادثة.

والحاصل:

بعد عجز الدليل العقلي عن الوصول إلى نتيجة قطعية في حدوث النفس

ص: 120

أو قدمها فلا مناص من الرجوع إلى:

1 - الإجماع على حدوث النفس.

2 - الدليل النقلي على ذلك.

بيان المقدمة الخامسة:

أما أن علة النفس الإنسانية ليست هي جسماً، لأنها لو كانت كذلك للزم أن يكون كل جسم له نفس إنسانية، لأن المعلول (النفس حسب الفرض) لا ينفك عن علته (الجسم حسب الفرض)، وهو واضح البطلان.

وأما أن العلة للنفس ليست جسمانية، فلأن الجسماني لا يفعل إلا مع وضع خاص، فالنار مثلاً لا تُحرق إلا مع وضع خاص مع المحترق، من قرب منه وعدم رطوبة وما شابه، ولذلك فإن النار لا تحرق من بعيد، والنفس الإنسانية مجردة (كما تقدم) وبالتالي فلا وضع لها مع الجسماني.

وبعبارة أخرى أسهل وأوضح: حيث إن النفس مجردة، والمجرد أقوى وأشرف وجوداً من الجسم والجسماني، فلا يمكن أن يكون أحدهما علة لها، لأن العلة لا بد أن تكون أقوى وجوداً من المعلول.

ص: 121

ص: 122

المحور الخامس: برهان (الحقيقة) و (المفهوم)
اشارة

إن المحقق الأصفهاني(1)

استدل على إثبات واجب الوجود بالاستفادة من نفس مفهوم واجب الوجود، أي بالاستغناء حتى عن ثبوت الواقعية سلفاً، بل هو يثبتها ويثبت الواجب تعالى دفعة واحدة، ببيان:

1 – العلم تصور وتصديق، والتصديق يحكي الواقع الخارجي (مفاد كان التامة والناقصة) فمرة يحكي وجود زيد، وأخرى اتصاف زيد بالعلم.

أما التصور، فهو لا يحكي إلا عن واقعه، ولا دخل له بالخارج نفياً وإثباتاً، بل هو لا بشرط، فمفهوم زيد لا يحكي إلا زيدية زيد، ولا يحكي طوله أو عرضه أو بقية مشخصاته بل ولا الوجود أو العدم، وهكذا بقية المفاهيم.

إذن، المفهوم التصوري يحكي عن محكّيه بصورة مطلقة، من دون تقييد بالوجود الخارجي أو الذهني أو أية خصوصية أخرى، بمعنى أنه لا يشترط في حكاية المفهوم التصوري أن يكون له مصداق خارجي، فحكاية المفهوم هي بنحو اللا بشرط عن المصداق الخارجي أو عن خارجية محكّيه. هذا.

ص: 123


1- ذكره الشيخ الاصفهاني (قدس سره) في تحفة الحكيم وقد تعرض للإشكال عليه بعض الأعلام كالدكتور الحائري والشيخ الآملي ودافع عنه الشيخ الفياضي وشيّده في نهاية المطاف (نقله الأستاذ السيد جعفر الحكيم في محضر درسه الخارج في علم الكلام)

2/ولكن هناك سنخاً من المفاهيم التصورية تقتضي أن يكون لها واقع موجود في الخارج (1)، وإلا لانقلبت حقيقتها، ومن ذلك مفهوم واجب الوجود، فهو وإن كان مفهوماً تصورياً لا يحكي إلا عن واقعه، ولكنه يستلزم أن يكون له خارجية، باعتبار أنه لو لم يكن موجوداً في الخارج، فهو حينئذٍ إما ممتنع أو ممكن الوجود – وهو خلف كونه واجباً – فلم يبق إلا أن يكون موجوداً. وهو المطلوب.

وهكذا مصداق مفهوم واجب الوجود، فأي مصداق تفرضه له لا بد وأن يكون واجب الوجود، وإلا لم يكن مصداقاً لذلك المفهوم، أي لكان ممتنعاً أو ممكناً، وهو خلف.

مميزات دليل المفهوم

1/عدم الاتّكاء في مرحلة أسبق على الواقعية وإثباتها خارج أفق النفس، بل يكفي فيه أن نتوفر على الإيمان بالنفس وإدراكاتها(2)

فقط وفقط، حيث إن هذا المعنى وهو واجب الوجوب ومقارناته- ينضم في دائرة المدركات فيؤدي إلى الانتقال إلى الوجود الخارجي.

2/ترتب نتائج أفقية مهمة ومتعددة عليه وهي التالي:

أ- إثبات وجوده تعالى.

ص: 124


1- كما أن هناك مفاهيم تصورية تقتضي أن تكون معدومة في الخارج وإلا لانقلبت حقيقتها، كمفهوم ممتنع الوجود.
2- نعم من كان مشكّكاً او منكراً لنفسه وإدراكاتها فلا يصلح عنده هذا الدليل.

ب- إثبات الواقعية خارج أفق النفس.

ت- القضاء على الدور والتسلسل.

3/السلامة من إشكالية المصادرة وهي أخذ النتيجة في احدى مقدمات الدليل، حيث إن مقدمة الدليل هي تصور معنى واجب الوجود(1)،

والنتيجة عن تصور تلك المقدمة هو إثبات واجب الوجود في الخارج وضرورة تحقّقه فيه.

إشكالية شريك الباري

إشكالية شريك الباري(2):

هناك مفردة عنوانها (شريك الباري) يقال بامتناع وجودها في الخارج لقيام الدليل على استحالتها، وهنا لو أعدنا النظر في تصورها قبل الذهاب الى أدلة بطلانها فما هي حقيقتها؟

إن حقيقتها ومعناها هي عبارة عن واجب ثانٍ للواجب الوجود، يشترك مع الأول ويرافقه في شأن الألوهية، فهو واجب وجود استحال وقوعه في الخارج بحسب المستدِل بدليل المفهوم وبقية الأعلام الذين استدلّوا بغير دليل المفهوم، وهنا يأتي الإشكال الذي يُوجَّه للمستدل خصوصاً، وحاصله:

لا يلزم من تصور الواجب وجودُه في الخارج، بل هي مجرد فرضية يبقى وجودها في الخارج وعدمه رهن الدليل، فقد يقوم على الضرورة، وقد يقوم على الامتناع، كما في الباري وشريكه، حيث إن الأول قام الدليل على

ص: 125


1- لا نعني من تصور واجب الوجود الإحاطة به وإنما مجرد تصور أصل المعنى لا حدوده وتفاصيله.
2- نُسبت إلى المرحوم الدكتور الحائري.

ضرورته، والآخر على استحالته، فالمهم أن الدليل الذي سيق وجاءت فيه ضرورة الانتقال من المفهوم الى الوجود الخارجي غير تام، ويُنقَض عليه بفرد مسلّم لا نقاش فيه ولا غبار يعتريه.

وبعبارة أخرى:

أن برهان الحقيقة لوحده لا يُثبت واجب الوجود، بل هو يحتاج إلى تتمة تثبت الواجب، والشاهد هو مفهوم (شريك الباري)، إذ هو مفهوم يمكن افتراضه واجب وجود أيضاً، كل ما في الأمر أنه قام الدليل على عدم وجوده، فلو كان مجرد مفهوم واجب الوجود كافٍ لإثبات وجوده، لأدى ذلك إلى وجود شريك الباري، لأنه أيضاً واجب الوجود حسب الفرض. وهو خلاف المطلوب.

الجواب:

هناك نكتة معرفية يشير إليها الأعلام ويؤكدون عليها في كل فرضية يراد إثباتُها أو نفيها، وحاصلها: إننا قبل أن نذهب إلى الواقع ودائرة النفي والإثبات، لا بد من التركيز على تعقّل الفرضية وصحتها في حد ذاتها من عدمه، فأحياناً تكون الفرضية مغلوطة وغير متعقّلة، وبالتالي يكون الدخول في عالم الواقع من خلالها لا معنى له ولا محصل منه.

وهنا لو جئنا الى ما ذكره المستشكل على الدليل وما استشهد به من فرضية (شريك الباري)، لرأينا أنها فرضية غير متعقّلة وهي ذات مضمون غير مقبول في حدّ ذاته، فهي محاولة فاشلة أُريد منها تصوّر صورة ثالثة

ص: 126

من صورتين متعقّلتين، ولكن لا يستفاد من تركّبهما تلك الصورة الثالثة

الجديدة، وهذا له نظائر كثيرة من قبيل (المثلث المستطيل) و (المربع الدائرة) و (الإنسان الخشبة) و (الشمس القماش) ومنها (شريك الباري)، فكلها صور غير متعقّلة، وإن كان ما تركبت منه صور ومفردات متعقّلة، اقترنت في الذهن فقط، من دون أن تعطي صورة ثالثة، كما في حصص أخرى تقترن وتتركب فتعطي صورة جديدة (غلام زيد) (حرارة الحديد) وغيرها.

والحاصل: أن الفرضية بما أنها غير متعقلة، فلا تصل النوبة إلى النقض بها على الدليل وإثارة الغبار في طريقيته ودليليته.

إشارة: أنحاء المعاني.

إن المعاني على أنحاء:

1/معاني متعقّلة وواقعة في الخارج.

2/ معاني متعقّلة وغير واقعة في الخارج.

3/معاني غير متعقّلة ولا تصل النوبة فيها إلى الواقع الخارجي.

فلا بد من تحديد دائرة المعنى أولاً ثم البحث عن وقوعه.

والنقض الذي جاء به المستشكل هو من القسم الثالث، فالواجب الثاني هي فرضية غير متعقلة المعنى، وهي من قبيل (المربع الدائرة) و (الإنسان الخشب) حيث لا تصلح صفة وموصوفاً ولا مضافاً ولا مضافاً اليه ولا مبتدأ ولا خبراً.

ص: 127

نعم يبقى الكلام في دليل استحالة الفرضية، فمرة يكون بديهياً، وتارة يكون نظرياً، المهم أنه محال في نفسه أو من غيره، وفرضية الواجب الثاني مما قام الدليل على استحالته من غيره(1)

حيث ثبت في بحث التوحيد استحالة الواجب الثاني بمستوى الذات والمعنى، أي إنه غير متعقّل في نفسه وذاته، وتفصيل ذلك موكول إلى أدلة التوحيد.

كيفية استدلال العقل على الغيب
اشارة

من الواضح أن الإنسان يبدأ حياته من دون أي معلومة فعليةٍ سوى الاستعداد للتعلم، وقد جهّزه الله تعالى بمنافذ للتعلم، حيث يقول تعالى: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(2)

والذي ينبغي الالتفات إليه، أن عملية تحصيل العلم تتم بالطريقة التالية:

يبدأ الحس –سواء كان ظاهراً أو باطناً- بتغذية الثروة التصورية للنفس، من خلال التقاطه للصور المتكثرة عن العالم الخارجي، وإيداعها في النفس، ومن هنا قيل (من فقَدَ حساً فقدْ فقدَ علماً). فرأس مال الإنسان العلمي يأتي من الحس.

والعقل أيضاً يدخل على خط تغذية النفس ببعض الصور، ذلك عندما يقوم بعملية تحليل الصور المودَعة عند النفس، والتي استلمتها من خلال

ص: 128


1- وهناك من يصور أنه مستحيل في نفسه بلا إقامة دليل عليه من الخارج.
2- النحل 78

الحس، فيكوّن منها تصورات جديدة، نظير المصور الفوتوغرافي، الذي يلتقط صوراً بواسطة عدسة الكاميرا، ولكنه يدخلها في ما بعد في برامج خاصة ليضيف عليها مؤثرات قد تظهر بصورة جديدة أو أجلى مما التقطته الكاميرا.

فالحس إذن يعمل على تزويد النفس بالصور باستمرار، فهو يعمل دوماً على التقاط الصور وإرسالها إلى النفس، وهكذا، ثم تعمل تلك القدرة المودعة لدى الإنسان على تجزئة وتركيب وتحليل تلك الصور، لتأتي بصور جديدة، أو لتكشف عن خفايا الصور الملتقطة بواسطة الحس.

وهذا يعني أنّ الحسّ يوفّر لنا مجرد التصورات، أما التصديق، والحكم، والصدق والكذب، وتكوين القضايا، فهو يأتي من تلك القوى المودعة داخل النفس.

وإلى هنا، نلاحظ أن بداية المعرفة بدأت من الحس، والعقل إلى هنا يتعامل مع الصور الملتقطة بواسطة الحس، فكيف انتقل العقل إلى إثبات الغيب؟ فقد لاحظنا عدة أدلة عقلية تدل على وجود موجود غير مادي، تدل على الغيب، تدل على أن عالمنا لا ينتهي عند حدود المادة، مما يعني أن العقل البشري لم يتوقف على الظاهر المحسوس المادي الذي يشاهده، وإنما تمكن أن ينتقل من هذا العالم المرئي المحسوس إلى عالم الغيب، وإلى ما وراء المادة، إلى البعد الميتافيزيقي في الوجود، فكيف انتقل العقل إلى الغيب رغم أن بداياته من الحس؟

ص: 129

الجواب:

توجد آليتان اعتمدهما الانسان في تأمين هذا الانتقال:

الآلية الأولى: من خلال الحس ظاهراً كان او باطناً
اشارة

بمعنى أنّ العقل قام أولاً بعملية (جرْد) واستقراء للبديهيات العامة في هذا العالم المحسوس، فتعرّف عليها من خلال طريقتين:

الطريقة الأولى: البديهيات التي التقطها بواسطة الحس الظاهر، وحينما فتّش الانسان في أروقة عالم المادة وجد أن بديهيات هذا العالم المحسوس محدودة وقد لا تعدو أصابع اليدين، حيث أدرك بداهة كلٍ من:

1/ أصل الواقعية على الأرض.

2/ماديتها.

3/كثرتها.

4/إمكانها.

5/ معلوليتها.

6/حركتها.

7/ حدوثها....

الطريقة الثانية: البديهيات التي التقطها بواسطة الحس الباطن:

فأول ما أدرك الانسان في حسه الباطن هي أناه/ ذاته/ كينونته، استشعر

ص: 130

هذه الذات وأحسّ بها، وأدرك بعدها جملة من الحالات النفسانية المرتبطة بها، أدرك جوعها، وألمها، وحزنها وفرحها...

وأدرك أيضاً نزعتها الفطرية للكمال، أدرك أنه لا يحب لها طرفة عين تلفاً، أدرك أنها تنزع نحو النمو والوجدان، لا الضمور والفقدان.

وأيضا أدرك أن لديه شاشات تحكي الواقع الخارجي، مرايا تعكس الواقع في نفسه وتجعله عالمِاً به. فهو ليس موجوداً أصمّاً.

هذه البديهيات بكلا شقيها لا زال سقفها ومداها هو العالم المادي المحدود، إذ كلها تنتمي الى العالم الطبيعي المرئي، تنتمي الى عالم الشهادة، فكل هذه المعطيات المعرفية – الإمكان، الحركة ونحوهما- هي عبارة عن توصيفات بعيدة عن الدين ولا علاقة للدين بها.

والنقلة الى الدين تمت من خلال ثلاثة طرق:

الطريق الأول: طريق مختصر جداً

وهو طريق المفهوم، فبمجرد تصور مفهوم (واجب الوجود) يثبت (واجب الوجود)، وعالم الغيب، وهو برهان (المفهوم) أو (المعنى) أو (الحقيقة).

الطريق الثاني: طريق متوسط

وهو طريق أن الدين والواقعية العامة متلازمان وجوداً وعدماً.

ص: 131

وفي هذا الطريق استطاع العقل البشري أن يكتشف التماهي بين الواقعية والغيب، فمن يشكك في الدين، فهو في الحقيقة يشكك في الواقعية.

وبعبارة واضحة: اكتشف العقل أنه لو لم يقبل بالدين فإنه في الحقيقة يُنكر الواقعية، فالواقعية والدين (أو قل: الغيب) في عرض واحد، فالواقعي هو متدين بلا فصل.

ومن هنا، فإن غير المتدين يكون بشكل تلقائي غير واقعي، ومنتمياً شاء أم أبى- إلى السفسطة وعدم الواقعية، فالدين والواقع يكونان في عرض واحد وبمستوى واحد، وليس بينهما طولية في هذا الطريق.

وهنا كان برهان (الصدّيقين)، الذي حدّه الأوسط هو أصل الواقعية فقط، لا الواقعية الملوّنة بلون معين (مثل لون الإمكان أو الحدوث وما شابه)

الطريق الثالث: طريق مطوّل

وهو طريق التراتبية الطولية بين الدين والواقعية.

البداية في هذا الطريق كانت من البديهي الواقعي، وعلى ضوئه تم تأسيس الدين وبناؤه، فالواقعية أولاً ثم الدين ثانياً، فأسّس العقل تديّنه على الواقعية، فلأنه واقعي، إذن هو متدين. فهو طريق لا يبدأ من الواقعية العامة، وإنما من الواقعية بلون معين، كلون (الإمكان أو الحدوث...).

تنبيه:

هناك عنصر مشترك في كل هذه الطرق المذكورة في هذه الآلية، وهو أن

ص: 132

الإنسان يبدأ من نفسه، ولكنه لا يبقى متقوقعاً عليها، وإنما يخرج منها إلى آفاق السماء وأقطار الأرض، فهي عملية اكتشاف الواقع الذي هو خارج النفس.

فذلك (المعمل الداخلي) والقوى النفسية الداخلية، تعمل على تكثير العلوم واكتشاف الواقع.

فتلك الطرق في الحقيقة كلها تعمل على إنتاج (مرايا) للإطلال على الواقع الخارجي.

أما الخارج، فهو يوفّر للنفس صوراً حسّية، أي توفير مواد خام، بنحو الموجبة الجزئية، والباقي يتم تصنيعه من خلال التحليل والتجزئة والتركيب، وكلها تقوم بها أجهزة داخلية (العقل) لإنتاج تلك المرايا.

فمثلاً، في برهان الإمكان، أنت تنطلق من عمل داخلي، يقوم على تحليل الممكن، وكونه محتاجاً، تنتقل إلى لا بديّة أنْ يكون له موجد، وحتى لا يدور أو يتسلسل، فإنه لا بدّ أنْ ينتهي إلى الواجب.

وهكذا بقية البراهين المذكورة.

الآلية الثانية: آلية الاحتياط
اشارة

أو آلية (دفع الضرر المحتمل)، وفي تلك الآلية، رأينا أن المعصوم (عليه السلام) يستعمل طريقة يجعل المنكر يحتمل وجود إله، وغيب، وبالتالي، يحكم عقله بضرورة دفع الضرر المحتمل، ولزوم البحث حتى يصل إلى قناعة مستدلة.

ص: 133

ولكي تتضح الصورة، نذكر بعض الروايات التي استعملت هذه الآلية العقلية للانتقال إلى إثبات الغيب.

في رواية طويلة:

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) لِلزِّنْدِيقِ: أتَعْلَمُ أَنَّ لِلأَرْضِ تَحْتاً وفَوْقاً؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَدَخَلْتَ تَحْتَهَا؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: فَمَا يُدْرِيكَ مَا تَحْتَهَا؟

قَالَ: لَا أَدْرِي إِلَّا أَنِّي أَظُنُّ أَنْ لَيْسَ تَحْتَهَا شَيْءٌ.

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): فَالظَّنُّ عَجْزٌ لِمَا لَا تَسْتَيْقِنُ.

ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): أ فَصَعِدْتَ السَّمَاءَ؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: أ فَتَدْرِي مَا فِيهَا؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: عَجَباً لَكَ لَمْ تَبْلُغِ الْمَشْرِقَ ولَمْ تَبْلُغِ الْمَغْرِبَ ولَمْ تَنْزِلِ الأَرْضَ ولَمْ تَصْعَدِ السَّمَاءَ، ولَمْ تَجُزْ هُنَاكَ فَتَعْرِفَ مَا خَلْفَهُنَّ، وأَنْتَ جَاحِدٌ بِمَا فِيهِنَّ، وهَلْ يَجْحَدُ الْعَاقِلُ مَا لَا يَعْرِفُ!

ص: 134

قَالَ الزِّنْدِيقُ: مَا كَلَّمَنِي بِهَذَا أَحَدٌ غَيْرُكَ.

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): فَأَنْتَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَكٍّ فَلَعَلَّه هُوَ ولَعَلَّه لَيْسَ هُوَ؟

فَقَالَ الزِّنْدِيقُ: ولَعَلَّ ذَلِكَ.

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): أَيُّهَا الرَّجُلُ لَيْسَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ ولَا حُجَّةَ لِلْجَاهِلِ...(1)

وفي رواية أخرى للإمام الصادق (عليه السلام) مع عبد الكريم ابن أبي العوجاء: يا عبد الكريم... إِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ ولَيْسَ كَمَا تَقُولُ، نَجَوْنَا ونَجَوْتَ. وإِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا نَقُولُ وهُوَ كَمَا نَقُولُ، نَجَوْنَا وهَلَكْتَ.

فَأَقْبَلَ عَبْدُ الْكَرِيمِ عَلَى مَنْ مَعَه، فَقَالَ: وَجَدْتُ فِي قَلْبِي حَزَازَةً فَرُدُّونِي فَرَدُّوه، فَمَاتَ لَا رَحِمَه الله.(2)

وعن محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا (عليه السلام) قال: دخل رجل من الزنادقة علي أبي الحسن (عليه السلام) وعنده جماعة فقال أبو الحسن (عليه السلام): أَيُّهَا الرَّجُلُ، أرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَكُمْ ولَيْسَ هُوَ، كَمَا تَقُولُونَ ألَسْنَا وإِيَّاكُمْ شَرَعاً سَوَاءً، لَا يَضُرُّنَا مَا صَلَّيْنَا وصُمْنَا وزَكَّيْنَا وأَقْرَرْنَا؟ فَسَكَتَ الرَّجُلُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): وإِنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَنَا وهُوَ قَوْلُنَا ألَسْتُمْ قَدْ هَلَكْتُمْ ونَجَوْنَا؟!(3)

ومن مناظرة للإمام الصادق (عليه السلام) مع الطبيب الهندي: أرأيت إنْ كان

ص: 135


1- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1-ص 73، كتاب التوحيد، باب حدوث العالم وإثبات المحدث. ح1.
2- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1-ص 78، كتاب التوحيد، باب حدوث العالم وإثبات المحدث.ح2.
3- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1-ص 78، كتاب التوحيد، باب حدوث العالم وإثبات المحدث.ح3.

القول قولك، فهل يُخاف علي شيء مما أخوّفك به من عقاب الله؟ قال: لا. قلتُ: أفرأيت إنْ كان كما أقول والحقُّ في يدي ألستُ قد أخذتُ فيما كنتُ أحاذر من عقاب الخالق بالثقة، وأنك قد وقعتَ بجحودك وإنكارك في الهلكة؟ قال: بلى. قلتُ: فأينا أولى بالحزم وأقرب من النجاة؟ قال: أنت.(1)

وبملاحظة هذه الروايات يُستفاد التالي:

إن الإمام (عليه السلام) يتكلم مع (الزنديق) ببداهات، لا نظريات معقّدة، فهو (عليه السلام) ينطلق في نقاشه من:

1/ أن العقل لا يُنكر ما لا يعرف. فإن عدم العلم لا يعني العلم بالعدم، وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. غاية الأمر أن عدم العلم قد يقتضي التوقف في مرحلة معينة، إلا أن المهم أنه لا يدعو إلى الإنكار والجحود.

2/ الدعوة إلى الاحتياط، لأن عدم العلم يقتضي الفحص، وأثناء فترة الفحص لا بد من الاحتياط، حتى لا يقع العاقل في الضرر البليغ.

ص: 136


1- بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج 3- ص 154.

والاحتياط سيؤسس إلى أن الإيمان أسلم من الإنكار، وأن المجيء معنا أسلم من الذهاب مع غيرنا. لذلك عبّر الإمام (عليه السلام) بقوله: (إِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ -ولَيْسَ كَمَا تَقُولُ- نَجَوْنَا ونَجَوْتَ. وإِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا نَقُولُ -وهُوَ كَمَا نَقُولُ- نَجَوْنَا وهَلَكْتَ.)

فنحن ناجون على كل حال، وأما نجاتك فهي إما وإما، والعقل في مثل هذا المورد يحكم بلزوم الاحتياط، واختيار النجاة المتيقّنة، خصوصاً وأن الهلاك المقابل ليس من النوع العادي، وإنما هو من نوع العذاب الخالد.

وبالتالي فالعقل يحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل، وليس خصوص الضرر المتيقن، لأنه وكما قلنا: إن الضرر هو من النوع الذي يستحيل تحمله.

ويحكم أيضاً بلزوم الاعتناء بالاحتمال الضعيف إذا كان المحتمل قوياً.

جدوى الآلية الثانية

إن آلية (دفع الضرر المحتمل) توفر الطمأنينة في ساعة التردّد والشك، فهي تعطي فسحة من الأمل بالنجاة فيما لو كنتُ على خطأ، لأني كنتُ محتاطاً حسب الفرض، فإنّ الاحتياط يعني أني أبقى على صلاتي وصومي حتى أصل إلى الحقيقة، أما الذي لا يلتزم هذا الطريق فإنه سيترك الصلاة، وبالتالي، فأنا حتى لو كنت في صيامي وقيامي مخطئاً، فلا ضير سيلحقني سوى وصفي بالمخطئ، أما ذاك الذي ترك الاحتياط، فإنه يبقى يعيش القلق وعدم الاستقرار، لأن احتمال كونه على خطأ يستتبعه عذاب أليم لا تتحمله

ص: 137

الجبال الرواسي.(1)

وهذا يعني أن مجرد (الشك) و (عدم العلم) لا يُعفي المرء من الاحتياط أولاً، والبحث حتى الوصول إلى الحقيقة ثانياً.

فالاحتياط إذن منهج للسلامة الفكرية والاطمئنان النفسي، وهو يُعبّر عن سلّم للنجاة من مرض القلق، وهو جهاز من أجهزة السيطرة على النفس.

تصوير الاحتياط في باب الإيمان
اشارة

إن الإيمان من مقولة الاعتقاد، وهو فرع التصديق، والاحتياط ليس فيه تصديق، وبالتالي لا اعتقاد فيه، وإنْ كان في مقام العمل يمكن أن يأتي الفرد بسلوك احتياطي، (بأن يصلي قصراً وتماماً مثلاً، بل إنه يستطيع أنْ يأتي بعمل احتياطي برجاء المطلوبية) ولكن الكلام في الإيمان الذي هو اعتقاد.

ومن هنا، احتجنا إلى تصوير الاحتياط في باب الإيمان، فكيف يدعو الاحتياط إلى الإيمان؟

علماً أن الكلام كل الكلام هو مع الشاكّ المتردّد الذي يريد البحث والوصول إلى الحقيقة، لا مع المنكر المعاند الذي لا يريد الوصول إلى الواقع

ص: 138


1- في نهج البلاغة ج2 ص 112: (واعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه، والْعَثْرَةِ تُدْمِيه والرَّمْضَاءِ تُحْرِقُه، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وقَرِينَ شَيْطَانٍ، أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ، حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِه، وإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِه)

والحق، يعني أن الكلام مع الذي يتبنى (اللا بشرط) عن الإيمان وعدمه، لا الذي يتبنى نظرية (بشرط لا) عن الإيمان.

إن الإنسان الشاك في وجود الغيب، إذا اتّبع منهج الاحتياط، فإنه سيتلبس بإحدى الخطوات التالية، والتي تُعبّر في أولى خطواتها عن الترفّع عن حالة الشك غير المنهجي إلى الشك الموضوعي، وكالتالي:

أولاً: الإيمان الإجمالي

أولاً: الإيمان الإجمالي(1).

بأن يعقد قلبه على الإيمان إجمالاً، كأن يقول المؤمن الذي لا اطلاع تفصيلياً عنده بالمعارف الشيعية: أنا على ما عليه جعفر بن محمد (عليه السلام) مهما كان.(2)

أو يقول المسلم الذي يسمع بدعوى حقانية التشيع دون غيره: أنا على ما عليه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مهما كان.

أو يقول المسيحي الذي يؤمن بالنبي عيسى (عليه السلام) عندما يسمع بالإسلام: أنا على ما عليه عيسى بن مريم من الواقع مهما كان.

أما الملحد، فبداية الحديث معه سيكون من طرح قضية كلية، هي الواقع،

ص: 139


1- يُقصد من الإجمال هنا البساطة وكون الإيمان ملفوفاً بلا تفاصيل، ولا يُقصد منه الإبهام الذي يُقال في علم الأصول..
2- وقد أشارت بعض الروايات إلى هذا المعنى، ومنها ما روي في الكافي- الشيخ الكليني- ج 1- ص 390 باب التسليم وفضل المسلمين ح6 عن يحيى بن زكريا الأنصاري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي.

فإذا قبل الواقع، تُطرح عليه قضية: أن الإله أمر واقعي، فيمكنه أن يعقد قلبه على ما في الواقع، وبعدها يبدأ خطواته العملية نحو البحث.

وهذه الحالات كلها أفضل من الإنكار العملي، لأنها نوع من أنواع الالتزام وإن كان التزاماً كلياً ومن دون تفاصيل.

فالاحتياط هنا وفّر للباحث إيماناً ملفوفاً وبلا تفاصيل، متضمناً عدم إنكار الواقع والحق لو انكشف، ويستتبع البحث عن الحقيقة(1)،

وهذا في الحقيقة كالملكة وتفعيلها، فالشخص الذي عنده ملكة، عنده قدرة ملفوفة على الاستنباط، وهي تظهر بالتفعيل وممارسة الاستنباط.

ثانياً: الإيمان الشَرْطي

بأن يعقد قلبه على الإيمان بنحو القضية الشرطية.

بأن يقول مثلاً: إذا كان هناك إله فأنا مؤمن.

فنفس هذه الشرطية هي أفضل من الإنكار والشك المطلق، فإنّ هناك من يشكّك بالإله، ولا يرضى بغير شيء، ولكن هناك من عنده شك موضوعي، ويعمل على تحصيل الدليل الذي يدفع عنه الشك ويستبدله باليقين، والذي يعقد قلبه على الإيمان المشروط فهذا معناه أن شكه موضوعي، لا شكَّ لجاج وعناد، ومعناه أنه يتعامل مع الشك تعاملاً موضوعياً يقبل الرأي الآخر، وهو –أكيداً- أفضل من الشك غير الموضوعي والمتعصّب، فالإيمان الشرطي

ص: 140


1- وهذا نظير ما يُقال من كفاية الإتيان بالعمل بنية قصد الأمر الواقع، أعم من الوجوب أو الاستحباب، أو القضاء أو الأداء، فإنه بالتالي يدعو إلى العمل.

يفتح الباب للتقدم نحو الخروج من حالة الشك والتردد المطلق.

فالذي يقول: أنا أبقى شاكّاً حتى لو ثبت بالدليل أن هناك إلهاً، يختلف عن ذاك الذي يقول: أنا أبقى شاكّاً إلى أن يثبت بالدليل أن هناك إلهاً. فالثاني بكل تأكيد متقدم خطوة نحو الإيمان، فإن الشك من دون عناد ليس كمثله مع العناد.

وفي الحقيقة، فإن هذا الإيمان هو لازم للإيمان الأول، فالذي يعقد قلبه على الإيمان الإجمالي، فإنه لا محالة سيتولد عنده الإيمان الشرطي. إذ هو متفرع عليه.

ثالثاً: الإيمان الظني

هناك بعض الآيات التي اكتفت بالظن في بعض الموارد، نذكر منها التالي:

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(1)

(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ واللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(2)

ص: 141


1- البقرة 46
2- البقرة 249

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(1)

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(2)

وقد روى ابن شهرا شوب أن الآية نزلت في علي وعثمان بن مظعون وعمار وأصحاب لهم.(3)

وهؤلاء –وعلى الأقل أمير المؤمنين (عليه السلام)- يمثلون القمة في اليقين بيوم القيامة، ولكن مع ذلك فالقرآن عبّر عنهم بأنهم ظنوا بلقاء الله تعالى.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) يقول: يوقنون أنهم مبعوثون، والظن منهم يقين.(4)

وهذه الرواية تقول بأن القرآن استعمل الظن بمعنى اليقين، أي إنه استعمال مجازي، والاستعمال المجازي يحتاج إلى بيان المناسبة حتى يصح، وإلا، فإنه من دون المناسبة يكون الاستعمال غلطاً، إذ سيكون استعمالاً للّفظ في غير ما وُضع له من دون مناسبة.

ليس هذا فحسب، بل لا بد من بيان وجه الأبلغية في الاستعمال المجازي

ص: 142


1- يوسف 110
2- الكهف 110
3- مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب- ج 1- ص 293.
4- تفسير العياشي- محمد بن مسعود العياشي- ج 1- ص 44، ح42.

على الحقيقي، إذ إن الاستعمال المجازي هو من وجوه البلاغة.

فما هي مناسبة ذلك الاستعمال ووجه الأبلغية؟

يقول السيد الطباطبائي (قدس سره) في ذلك:

هذا المورد، أعني مورد الاعتقاد بالآخرة على أنه مورد اليقين لا يفيد فيه الظن والحسبان الذي لا يمنع النقيض، قال تعالى: (وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(1)، ويمكن أن يكون الوجه فيه الأخذ بتحقق الخشوع، فإن العلوم التدريجية الحصول من أسباب تدريجية تتدرج فيها النفس المدركة من تنبه وشك ثم ترجح أحد طرفي النقيض ثم انعدام الاحتمالات المخالفة شيئاً فشيئاً حتى يتم الادراك الجازم وهو العلم، وهذا النوع من العلم إذا تعلق بأمر هائل موجب لاضطراب النفس وقلقها وخشوعها إنما تبتدئ الخشوع الذي معه من حين شروع الرجحان قبل حصول الادراك العلمي وتمامه، ففي وضع الظن موضع العلم إشارة إلى أن الانسان لا يتوقف على زيادة مؤنة على العلم إنْ تنبه بأن له ربّاً يمكن أن يلاقيه ويرجع إليه وذلك كقول الشاعر:

فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج سراتهم في الفارسي المرد

وإنما يخوف العدو باليقين لا بالشك ولكنه أمرهم بالظن لان الظن يكفيهم في الانقلاع عن المخالفة، بلا حاجة إلى اليقين حتى يتكلف المهدد

ص: 143


1- البقرة 4

إلى ايجاد اليقين فيهم بالتفهيم من غير اعتناء منه بشأنهم، وعلى هذا فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا...).(1)

وبعبارة أوضح: أن هذه المفاهيم (البعث، الآخرة...) هي سنخ مفاهيم تجذب الإنسان، وتوجب له الخشوع والخضوع بمجرد الظن، أي قبل الوصول إلى درجة اليقين، وإنْ كان المطلوب فيها اليقين، ولكن الخشوع يبدأ بمجرد ترجح طرف وقوعها وحقانيتها على الطرف الآخر، ولو من دون نفي الطرف الآخر.

وهذا يكشف عن أبلغية استعمال الظن في هذه المفاهيم، فهي من المفاهيم التي يكفي- لترتيب الآثار عليها- الظن فضلاً عن اليقين.

فمثل هذه المفاهيم يقتضي الاحتياط فيها ترتيب الأثر ولو لم يصل إلى القطع فيها.

تنبيه: دور العقل بعد إثبات الغيب.

تقدم أن الخطوة الأولى لإثبات الدين تتم بواسطة العقل، إذ استعمال النقل يعني الدور، والسؤال هنا: إنه بعد الوصول إلى الدين، وإثبات وجود الله تعالى وأنه أرسل أنبياءً وشرّع شريعة، هل يبقى للعقل دور في الدين؟ أم أنه يتحول من (فاعل) و(مستكشف) و(معلِّم) إلى (قابل) و(متلقي) و(متعلم) فقط؟

ص: 144


1- تفسير الميزان- السيد الطباطبائي- ج 1- ص 152 – 153.

نُسب إلى الأشاعرة إلغاؤهم دور العقل تماماً، فلا مسرح للعقل إلى جنب النقل، ونُسب إلى (الأخبارية) تهميشهم العقل إلى حد كبير.

ونُسب إلى المعتزلة اعتمادهم على العقل ولو أدّى ذلك إلى تأويل النص الديني الثابت لو خالف العقل. أي إن اعتمادهم على العقل والمبالغة فيه أدّى إلى تطويعهم النصوص وفق ما يقتضيه العقل. وهذا ما نُسب إلى فلسفة المشّاء أيضاً، بل نجد أن بعض الفلسفات الحديثة اعتمدت على العقل تماماً بحيث صار ملاك قبول أو عدم قبول التراث الديني هو قبول أو رضا العقل به. الأمر الذي أدّى إلى تهميش النقل.

وبين ذين وذين، جاء منهج متوازن بين العقل والنقل، وأن للعقل دوراً غير منفصل عن النقل، وأن هناك نوعاً من التكامل بين العقل والنقل. مع الالتفات إلى أن العقل لا يتدخل في (التعبّديات) ولا في (ملاكات الأحكام) لأنها خارج نطاق قدرته. وأن نطاق قدرته هو وجود (البرهان) أي القضايا العقلية الكلية.

ومع الالتفات أيضاً إلى أن العقل لا يمد يده إلى التفكر في حقيقة الذات الإلهية، باعتبار تناهيه وعدم تناهي الذات المقدسة، (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)(1)

وعلى كل حال نُلفت النظر إلى التالي:

أولاً: إن العقل الذي تم بواسطته الوصول إلى الدين، وكانت له حجية

ص: 145


1- آل عمران 28

قطعية، هذا العقل ما زال يعمل، ولم يأت دليل على نفي أو إلغاء حجيته (في غير التعبديات كما أُشير إليه)، فهو حجة قبل وبعد الوصول إلى الغيب.

ثانياً: بل نجد أن (النقل) قد حثّ العقل على مزاولة الحركة والعمل، فقال تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ)(1)وقال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(2)وقال

تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(3)

ليس هذا فحسب، بل إن النصوص قد جعلت العقل هو مدار الثواب والعقاب، ولذلك فأصل التكليف شرعاً مشروط بالعقل، وقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: لَمَّا خَلَقَ الله الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَه، ثُمَّ قَالَ لَه: أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ. ثُمَّ قَالَ لَه: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ. ثُمَّ قَالَ: وعِزَّتِي وجَلَالِي، مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، ولَا أَكْمَلْتُكَ إِلَّا فِيمَنْ أُحِبُّ، أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وإِيَّاكَ أَنْهَى، وإِيَّاكَ أُعَاقِبُ وإِيَّاكَ أُثِيبُ.(4)

هذا فضلاً عن الروايات التي مدحت العقل كثيراً، فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: مَنْ كَانَ عَاقِلاً كَانَ لَه دِينٌ، ومَنْ كَانَ لَه دِينٌ دَخَلَ الْجَنَّةَ.(5)

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَا قَسَمَ الله لِلْعِبَادِ شَيْئاً أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ، فَنَوْمُ

ص: 146


1- يس 68
2- محمد 24
3- البقرة 269
4- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1- ص 10 كتاب العقل والجهل ح1.
5- نفس المصدر ص 11ح6.

الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَهَرِ الْجَاهِلِ، وإِقَامَةُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ شُخُوصِ الْجَاهِلِ، ولَا بَعَثَ الله نَبِيّاً ولَا رَسُولاً حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعَقْلَ، ويَكُونَ عَقْلُه أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ عُقُولِ أُمَّتِه، ومَا يُضْمِرُ النَّبِيُّ فِي نَفْسِه أَفْضَلُ مِنِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، ومَا أَدَّى الْعَبْدُ فَرَائِضَ الله حَتَّى عَقَلَ عَنْه، ولَا بَلَغَ جَمِيعُ الْعَابِدِينَ فِي فَضْلِ عِبَادَتِهِمْ مَا بَلَغَ الْعَاقِلُ، والْعُقَلَاءُ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(1).(2)

كل هذه النصوص تشير إلى أن العقل لم يستقل بالجملة، بل بقي حجة حتى بعد الوصول إلى النقل والدين ولو في الجملة.

ثالثاً: إن النقل ليس كله مجرد (تعبّديات) محضة حتى يُقال بأنه لا دور للعقل بعد الوصول إليه، بل إن في الدين الكثير من الاستدلالات والانتقال من الحد الأوسط إلى النتيجة، وحيث وُجد الاستدلال وُجد مجال لتدخل العقل.

بل إن النقل نفسه أشار في العديد من النصوص إلى استدلالات تحتاج إلى ضبط عقلي، مثل قوله تعالى (أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(3)وقوله تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)(4)

ص: 147


1- آل عمران 7
2- نفس المصدر ص 12 – 13 ح11.
3- إبراهيم 10
4- الأنبياء 22

فهذه النصوص الشرعية استعملت الأسلوب العقلي، فكان المخاطَب بها العقل، مما يعني ضرورة تفعيل العقل فيها للوصول إلى النتيجة المرجوة.

ص: 148

المبحث الثاني: التوحيد

اشارة

ثبت في المبحث الأول أن الخالق لهذا الكون هو موجود واجب الوجود، وكونه واجب الوجود يعني أن وجوده غني من كل جهة، ولا مجال لتطرق الحاجة له بأي شكل من الأشكال، وأي تصوير له يؤدي إلى خلل في هذه الحقيقة (الغنى المطلق) يعني أن ذلك التصوير ليس صحيحاً، وهو ليس تصويراً لواجب الوجود.

إن صفة «التوحيد» هي من أهم الصفات التي يُبحَثُ عنها في علم الكلام، باعتبار أنها كانت محل الخلاف مع المشركين، وجهود الأنبياء (عليهم السلام) كانت منصبّة على تخليص الناس من عقيدة الشريك الفاسدة، وقد ذكروا لهذه الصفة عدّة معانٍ، ونختصر على معنيين منها، هما:

المعنى الأول: التوحيد في الذات.

المعنى الثاني: التوحيد في الصفات.

ص: 149

ص: 150

المعنى الأول: التوحيد في الذات
اشارة

هو أول مصطلح من مصطلحات التوحيد وأهمها، وقد ذكر الفلاسفة فكرة محصلها: استحالة التجزؤ في واجب الوجود، ببيان:

إن واجب الوجود لا يقبل التبعيض والتجزؤ، بحيث يكون واجباً من بعض الجهات وممكناً من جهات أخرى، فواجب الوجود واجب من كل جهة، وإلا كان ممكناً من كل جهة، والقضية تأبى البرزخية والوسطية، وهذا الكلام يجري في معنى اللامتناهي، فانه يتمحض في اللا تناهي من كل جهاته وحيثياته ولا يقبل أي حيثية تناهٍ، وإلا صار متناهياً ومحدوداً من كل جهة، والذي يتحصل من الوجوب من كل جهة واللا تناهي من كل حيثية: عدم شذوذ أي كمال وجودي عنه، بل كل كمال ثابت له، ومن ثم فلا يخلو عنه مكان و لا يشذ عنه زمان، فهو حاضر في الكل، كما ورد في الدعاء (يا موجوداً في كل مكان).

وهل يمكن تصور وفرض واجب وجود آخر مثله ولا متناهي، صفاته كصفاته، أو إن ذلك فرض خاطئ ويتقاطع معنوياً مع فرضية الواجب، فهي تتلخص بفرد واحد لا غير؟

والإجابة عن هذا:

ص: 151

أن هذا الفرض خاطئ، ولا يمكن قبوله، وحتى يتبين الحال فيه نقول التالي:

إن التوحيد بهذا المعنى ينقسم إلى قسمين، أو قل «يُتَكَلَّمُ» فيه من جهتين:

الجهة الأولى: التوحيد الواحدي
اشارة

هو نفي وجود ذات واجبة الوجود غير ذات الباري جل وعلا. أو قل: نفي الشريك عنه جل وعلا، أي إن الواجب له مصداق واحد فقط... وكل ما عدا واجب الوجود هو ممكن الوجود.

وقد ذكروا معنيين للوحدة:

المعنى الأول: «الوحدة العددية»

بمعنى أن هناك مفهوماً ينطبق على عدّة مصاديق، أو قل: «يمكن» عقلاً أنْ يوجد له أكثر من فرد، ولكن صادَفَ أنه في الخارج لا يوجد منه إلّا فرد واحد، ومثالها الشمس، فالشمس مفهومها ذلك الجرم السماوي الذي يشع نوراً من ذاته، وهذا كمفهوم يمكن أن توجد له عدّة أفراد، لكنه صادف أننا هنا -في هذه الأرض- ما وجدنا إلّا شمساً واحدة.

المعنى الثاني: «الوحدة الحقيقية»

وتعني كون الموجود لا يقبل الاثنينية ولا التكثّر ولا التكرار، بحيث يمتنع وجود فرد آخر له.

والمقصود من الوحدة هنا هي الحقيقية، أي إنه عز وجل واحد ويمتنع

ص: 152

وجود فرد آخر له، والامتناع هنا عقلي.

وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (وَاْحِد لَا بِعَدَدٍ)(1)

ولقد ذكرت الكثير من الأدلة على أن الله تبارك وتعالى واحد في ذاته بالوحدة الحقيقية، حتى أنّ البعض أوصلها إلى عشرين دليلاً، والحقيقة أن العقل يحكم بالوحدة الحقيقية، وما يُذكر إنما هو من باب الإرشاد لحكم العقل، ونذكر هنا دليلين أو تنبيهين على ذلك:

الدليل الأول: إن تعدد الواجب ولنفترض أن هنا واجبين- يقتضي وجود أمرين:

الأمر الأول: ما به الاشتراك، ولنقل أن ما به الاشتراك هو (وجوب الوجود)

الأمر الثاني: ما به الامتياز، إذ انعدام التمايز بينهما ينفي اثنينيتهما، لأن افتراض عدم المائز بينهما من كل جهة يعني أنهما واحد، إذ الكثرة فرع التمايز.

وتوفر ما به الامتياز يستلزم التركيب من ما به الاشتراك وما به الامتياز، والمركب محتاج إلى أجزائه، وهذا خلاف كونه واجب الوجود.

وبعبارة أخرى: إن معنى الواجب بذاته يأبى الاثنينية والتعددية، وذلك لأن الثاني المفروض إما أن يكون مماثلاً للأول من كل جهة، فهو عينه إذن، وقوام الاثنينية هو التمايز والتعددية، وبالتالي يعود الثاني أولاً!

ص: 153


1- نهج البلاغة- ج 2- ص 115.

وإما أن يكون الثاني متمايزاً عن الأول؛ حفظاً للتعددية، ويترتب على ذلك: أن يكون كلٌّ منهما واجداً لجهة وكمال يفقده الآخر، وبالتالي يكونان ممكنين؛ لأن الفاقد للكمال ممكن، وهو خلف ما تم افتراضه من الوجوب في الوجود لكل منهما.

والمتحصل من هذا: أن افتراض الثاني افتراض غلط، حيث يؤول إما الى الاول، أو إلى إمكانهما، وكلٌّ منهما لا ينفع في تصوير الثاني على مستوى الفرض والمقبولية العقلية، وعلى هذا، فإن الوحدة التي تثبت له سبحانه هي الوحدة الحقيقية الحقة التي تأبى التكرار والتعدد إطلاقاً، وليست كالوحدة العددية المتعارفة.

الدليل الثاني: إذا كان هناك مصداقان لواجب الوجود، فلا يخلو:

1) إما أن يكونا ضعيفين، فلا يصلحان للربوبية..

2) أو أن أحدهما ضعيف والآخر قوي، فلا يصلح الضعيف للربوبية.

3) أو يكون كلاهما قويًا، وحينئذٍ، إما أن يشتركا من كل جهة، أو أن يختلفا في جهة ما.

والأول ينفي الاثنينية.

والثاني –ولنفترض أنهما يختلفان في الإرادة- فحينئذٍ يلزم فساد الكون، وهو ما أشار إليه الله (عزوجل) بقوله: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتا﴾، ويلزم منه كذلك تكليف المكلف بالمحال.

ص: 154

بيانه:

لو فرضنا أن «زيدًا» جاءه التكليف من الواجب الأول يقول له: «صلِّ»، وعلى خلافه قال له الواجب الثاني: «لا تُصلِّ»- من باب ما افترضناه من أنهما مختلفان في الإرادة – فإذا أطاع الأول وصلّى فسوف يعاقبه الثاني، وإذا أطاع الثاني فسوف يعاقبه الأول، فلا يستطيع أن يطيع الاثنين معًا: «أصلّي ولا أصلّي» هذا تكليف بالمحال، فلا يستطيع إطاعتهما جميعًا لعدم قدرته على ذلك، والتكليف بالمُحال ممتنع عقلاً..

وهذا الذي أشار له أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله لولده الإمام المجتبى (عليه السلام): « واعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّه لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُه، ولَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِه وسُلْطَانِه، ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَه وصِفَاتِه، ولَكِنَّه إِلَه وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَه، لَا يُضَادُّه فِي مُلْكِه أَحَدٌ ولَا يَزُولُ أَبَداً ».(1)

الجهة الثانية: التوحيد الأحدي

والذي يعني الإيمان بأن الله (عزوجل) غير مركب من أجزاء حقيقية، سواء أكانت أجزاءً خارجية أو أجزاء ذهنية، ويعبر عن هذا المعنى ب-«البساطة» فلسفياً، فيقال: إن واجب الوجود بسيط (غير مركب: لا من أجزاء ذهنية ولا من أجزاء خارجية حقيقية)، والدليل على هذا القسم من التوحيد: أن التركيب يستلزم الاحتياج إلى الأجزاء، والاحتياج خلاف وجوب الوجود.

وإلى هذين المعنيين من التوحيد، أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما روي أن

ص: 155


1- نهج البلاغة- ج 3- ص 44

أعرابيًا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إن الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه، قالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): دعوه، فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: يا أعرابي، إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، و وجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان عليه، فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال: ثالث ثلاثة. وقول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فبهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه، وجل ربنا عن ذلك و تعالى.(1)

وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا، وقول القائل: إنه عز وجل أحدي المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم(2)، كذلك ربنا عز وجل.(3)

ص: 156


1- الجنس في اللغة يأتي بمعنى التشابه والتماثل، وقوله (عليه السلام): (يريد به النوع من الجنس) أي يريد القائل بالواحد هكذا الوحدة النوعية التي تنتزع من الأفراد المتجانسة المتماثلة كأفراد الإنسان مثلا، والفرق بين القسمين اللذين لا يجوز أن عليه تعالى أن الأول يثبت له وقوعا أو إمكانا فردا آخر مثله في الألوهية أو صفة غيرها وإن لم يكن مجانسا له في حقيقته والثاني يثبت له فردا آخر من حقيقته، فالمنفي أولا الوحدة العددية وثانيا النوعية. [هامش المصدر]
2- أي لا في الخارج كانقسام الإنسان إلى بدن وروح، ولا في عقل كانقسام الماهية إلى أجزائها الحدية، ولا في وهم كانقسام قطعة خشب إلى النصفين في التصور. [هامش المصدر]
3- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 83 – 84 باب معنى الواحد والتوحيد والموحد ح3.
إشارتان
الإشارة الأولى: إمكان وجود الممكن ذي الصلاحيات العظيمة بإذن الله تعالى

ثبت أن الشريك -أو الواجب الوجود الثاني أو اللا متناهي الثاني- محال في حد نفسه، ولكن هل يمكن افتراض مخلوق، له صلاحيات عالية أو غير متعارفة، بحيث تكون صلاحياته مستمدة من اللامتناهي وفي طوله؟

الجواب: من الواضح أن هذا الفرض لا يتضادّ مع التوحيد ولا يتقاطع معه، ما دام الثاني في طول الأول اللا المتناهي ويعود إليه بالمطلق، بل إن التشكيك في إمكان ذلك تشكيك -في الحقيقة- في قدرة الواجب اللا متناهي الواحد بالوحدة الحقيقية.

ومنه نفهم حقانية نظرية التفويض بالمعنى الذي يقول به أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، حيث إنها لا تخرج عن القول بأن للمعصومين (عليهم السلام) صلاحيات عالية، لكنها مهما علت تبقى في طول وبإذن الواجب جل وعلا، وهذا ينفي الغلو الذي قد يُرمى به أتباع المذهب الحق في أئمتهم (عليهم السلام).

ومنه نفهم الروايات التي بيّنت أن للأئمة (عليهم السلام) دوراً في حساب الناس يوم القيامة مثلاً(1)،

أو التي ذكرت أن لهم اطلاعاً على أعمال العباد(2)، أو أن

ص: 157


1- في أمالي الشيخ الطوسي ص 406 ح 911 / 59 عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إذا كان يوم القيامة وكلنا الله بحساب شيعتنا، فما كان لله الله أن يهبه لنا فهو لهم، وما كان لنا فهو لهم، ثم قرأ أبو عبد الله (عليه السلام): (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ 25 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [الغاشية 25 – 26]
2- الكافي للكليني ج1 ص 220 بَابُ عَرْضِ الأَعْمَالِ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) والأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح4: عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبَانٍ الزَّيَّاتِ وكَانَ مَكِيناً عِنْدَ الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ قُلْتُ لِلرِّضَا (عليه السلام): ادْعُ اللَّه لِي ولأَهْلِ بَيْتِي. فَقَالَ: أولَسْتُ أَفْعَلُ والله إِنَّ أَعْمَالَكُمْ لَتُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ! قَالَ: فَاسْتَعْظَمْتُ ذَلِكَ! فَقَالَ لِي: أمَا تَقْرَأُ كِتَابَ الله عَزَّ وجَلَّ: (وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ ورَسُولُه والْمُؤْمِنُونَ) قَالَ: هُوَ والله عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام).

لهم دوراً في التكوين، وما شابه هذه الأمور.

والسر في ذلك: إن الاثنينية هنا يمكن تحققها، لوجود مقومها، وهو التمييز بين الأول والثاني، سوى إنه تميزٌ من طرف الثاني(1)،

فإنه ممكن في حدّ نفسه، وينتظر الإفاضة عليه من غيره الذي هو الواجب بالذات، وهذا التميز كافٍ في تحقق الاثنينية المطلوبة، ومن ثم تكون فرضية الثاني المتناهي ممكنة في حد ذاتها ولا تواجه مانعاً يحول دون قبولها، حتى لو كان لذلك المخلوق إمكانيات هائلة بالنسبة لغيره من الممكنات.

الإشارة الثانية: التوحيد ينفي أي نقص عن ذات الواجب جل وعلا

يتفرع على إثبات صفة التوحيد، نفي أي صفة يلزم من إثباتها للواجب جل وعلا إثبات نقص وجودي فيه، مما يعني ضرورة سلبها عن الذات المقدسة، وتفاصيلها إلى المعنى الثاني من التوحيد إن شاء الله تعالى.

ص: 158


1- التميز له شكلان: مرة يكون من الطرفين، وتارة من طرف واحد كما في مقامنا.
المعنى الثاني: التوحيد في الصفات
اشارة

إن الصفات الإلهية يمكن تنويعها إلى ثلاثة أنواع:

النوع الاول: الصفات الثبوتية الكمالية
اشارة

و هذا النوع من الصفات له عدة خصائص، أهمها:

1- إن هذه الصفات هي من النوع الذي يليق بالباري جل وعلا، فيجب أن نثبتها له سبحانه، كالعلم والحياة، في قبال ما لا يليق به جل وعلا فيجب سلبه عنه، كالتركيب والظلم، فهي صفات لا تليق به سبحانه وتعالى فيجب سلبها عنه عز وجل.

2- إن هذه الصفات تشير إلى كمال في الذات المقدسة، ولذلك يجب إثباتها له عز وجل من باب أن واجب الوجود متصف بجميع الصفات الكمالية، وهذا معنى الكمالية.

وهذا النوع له صنفان:

الصنف الأول: الصفات الثبوتية الكمالية الحقيقية (أو الذاتية)
اشارة

بمعنى أنه يكفي في تحققها وجود الذات المقدسة فقط، أي إنها لا تحتاج الى طرف آخر لتثبت، ويقابلها الصفات الإضافية.

ص: 159

والبحث في هذه الصفات يقع في أنه: هل لهذه الصفات وجود حقيقي أو ليس لها وجود حقيقي؟ وعلى فرض وجودها الحقيقي، فهل هي عين الذات أو زائدة على الذات؟

تعددت الآراء في هذه المسألة وتناقضت أيضاً، فبعض الآراء أخذ جانب الإفراط، وبعض الآراء دخل جانب التفريط:

1- ف- (الأشاعرة) - كما سيأتي بيانه إن شاء الله- أرادوا الحفاظ على وصف الباري جل وعلا بالصفات الكمالية حقيقةً، ولكنهم لم يتعقلوا وصف الله بها إلا بالقول بأنها (زائدة على الذات)، وهم يمثلون جانب الإفراط.

2- على طرف النقيض منه وقف (المعتزلة) الذين أرادوا تنزيه الباري عز وجل عن النقص والتركيب، فقالوا بعدم وجود أي صفة حقيقية، وأن الذات الإلهية تقوم مقام الصفات، وهؤلاء يمثلون جانب التفريط.

3- وجاء الحكماء والإمامية من أتباع اهل البيت (صلوات الله عليهم) برأي يثبت الصفات الحقيقية له عز وجل بحيث لا تكون هذه الصفات زائدة على الذات، فخالفوا بذلك الأشاعرة، ولا يلزم منها تركّب الذات فخالفوا به المعتزلة، فقالوا بأن: صفات الله عز وجل هي عين ذاته.

تفصيل الأقوال الثلاثة
القول الأول هو ما نُسب إلى (الاشاعرة)
اشارة

إن الصفات الكمالية قائمة بنفسها، زائدة على الذات، بمعنى أن الصفات

ص: 160

الإلهية لها وجود مستقل حقيقةً عن وجود الذات المقدسة. فهناك ذات إلهية، وإلى جنبها توجد صفة (العلم) وصفة (القدرة) وصفة (الحي) وهكذا. فهي مستقلة زائدة على الذات، فتوجد ذات، وتوجد صفة خارجة عن الذات تعرض عليها.

وبعبارة أخرى: إن الصفات الالهية موجودة في الخارج والواقع على نحو اللوازم للذات الموجودة في الواقع أيضاً، وبالمحصلة عندنا ذات وصفات متلازمة، وكلها بنحو القدم، فتؤول القضية في نهاية المطاف إلى مقولة القدماء الثمانية أو ربما أكثر أو بحسب تعدد الصفات.

وربما يكون السر وراء قولهم ذلك: هو أنه حيث إن الصفات ثابتة ومتكثرة بنص القرآن الكريم، فيجب علينا أن نثبتها له جل وعلا، وحتى يتم الحفاظ على عدم تركيب الذات المقدسة، يلزم القول باستقلال الصفات عنها.

إلا أن الإشكال جاء من قولهم بأن تلك الصفات هي قديمة بقدم الله تعالى، وإلا –أي لو كانت حادثة- فإنه يلزم خلو الذات من العلم مثلاً قبل حدوثها، وهو محال، وحيث إنها مستقلة عنه جل وعلا، فقد لزم من ذلك تعدد القدماء.

المناقشة في قول الأشاعرة

إن هذا القول يلزم منه عدة محاذير، نذكر منها:

ص: 161

المحذور الأول: إن هذا القول يلزم تعدد القدماء، فالله قديم، والعلم قديم، و القدرة قديمة، وكذا الحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام النفسي(1). وهو ما يُقال بأن قولهم ينتهي إلى القول بالقدماء الثمانية: الذات المقدسة وصفاتها الكمالية السبعة، وأدلة التوحيد تنفيه.

المحذور الثاني: هذا القول يلزم منه افتقار الذات المقدسة إلى الصفات الزائدة، أي إننا عندما ننظر الى الذات بغض النظر عن غيرها، أي عندما نقصر النظر على الذات (التي هي غير العلم و غير القدرة و غير الحياة... إلى بقية السبعة) نجدها مفتقرة إلى العلم حتى تصير عالمة، وهكذا في بقية الصفات.

فالذات افتقرت إلى تلك الصفات الخارجة عنها، والافتقار صفة الممكن.

المحذور الثالث: إن هذا القول يلزم منه النقص ومحدودية الذات، لأن الذات بالاستناد إلى دعواهم تكون في مرتبة وجودها الخاص غير الوجود الخاص بالعلم، وغير الوجود الخاص بالقدرة، وغير الوجود الخاص بالحياة... إلخ، فالذات في تلك المرتبة الخاصة بوجودها خالية من الصفات الذاتية، ففي ذاتها ستكون ناقصة، وهذا خُلفُ وجوب الوجود.

ص: 162


1- حيث حصروا الصفات الذاتية بهذه السبعة.
القول الثاني: للمعتزلة
اشارة

ذهبوا إلى أنه ليس هناك أي تحقق ووجود للصفات، فليس عندنا إلا الذات المقدسة، نعم، هذه الذات تنوب عن هذه الصفات، فهي ذات بسيطة واحدة لها آثار متعددة، فمنها أثر يشبه أثر الحياة، ولكن لا توجد صفة حياة في الحقيقة، وإنما هناك أثر يشبه أثر الحياة، وهناك أثر يشبه أثر العلم، وآخر يشبه أثر القدرة، وهكذا.

وبعبارة أخرى: أن الصفات الالهية غير موجودة في الواقع والخارج، وإنما الموجود فقط هي الذات المقدسة، ولكنها سنخُ ذات واجدة لكمال القدرة لا القدرة، ولكمال الحياة لا الحياة، ولكمال العلم لا العلم، وهكذا، فالذات لها آثار الصفات وكمالاتها من دون أن تكون فيها تلك الصفات خارجاً وواقعاً، فتؤول القضية الى خلو الذات عن الصفات.

ولعل السرّ في قولهم ذاك هو: محاولتهم الحفاظ على بساطة الذات المقدسة من جهة، وعدم تعدد القدماء من جهة أخرى.

المعتزلة بين التعطيل ومخالفة صريح القرآن

يلزم من هذا القول التالي:

أولاً: تعطيل الذات عن الصفات بأن تكون معطلة في مرتبة ذاتها عن الاتصاف بها.

ثانياً: مخالفة صريح القرآن الكريم والروايات الشريفة التي وصفت الله

ص: 163

عز وجل بتلك الصفات، فصرحت بأنه تعالى هو القادر، وهو العالم، وهو الحي، مريد... لا أن له أثر القدرة، أو أن له أثر الحياة، فالقرآن واضح جداً في بيانه حين يصف الله عز وجل بأنه سميع، ولا يقول بأن له سبحانه أثر السمع، وفي هذا التصريح القرآني إثبات صريح لصفات الله عز وجل.

قال تعالى (هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1)

تنبيه:

قال الشيخ السبحاني:

ثم إن المشهور أن المعتزلة نافون للصفات مطلقا وقائلون بنيابة الذات عن الصفات، ولكنه لا أصل له، فالمنفي عندهم هو الصفات الزائدة الأزلية، لا أصل الصفات فهم قائلون بالعينية كالإمامية، ويدل على ذلك كلام الشيخ المفيد الآنف الذكر، نعم يظهر القول بالنيابة من عباد بن سليمان وأبي علي الجبائي .(2)

وقد استفاد الشيخ السبحاني هذا المطلب من الشيخ المفيد (قدس سره)، حيث قال: وأقول: إن الله - عز وجل اسمه - حي لنفسه لا بحياة، وأنه قادر

ص: 164


1- الحشر 22-24
2- محاضرات في الإلهيات للشيخ السبحاني ص 45 و 46 مبحث: التوحيد في الصفات.

لنفسه و عالم لنفسه لا بمعنى كما ذهب إليه المشبهة من أصحاب الصفات ولا الأحوال المختلفات كما أبدعه أبو هاشم الجبائي وفارق به سائر أهل التوحيد وارتكب أشنع من مقال أهل الصفات، وهذا مذهب الإمامية كافة والمعتزلة إلا من سميناه وأكثر المرجئة وجمهور الزيدية وجماعة من أصحاب الحديث والمحكمة.(1)

القول الثالث: عينية الصفات للذات

أو قل: إن صفات الواجب هي عين ذاته واقعاً، غيرها مفهوماً، وهو الصحيح في المقام.

فالصفات موجودة حقيقية (بخلاف ما قالت به المعتزلة من عدم وجود الصفات)، وفي نفس الوقت هذه الصفات الموجودة هي عين الذات، (وليست زائدة على الذات كما ذهبت إليه الأشاعرة)، فالذات الإلهية المقدسة ذات واحدة بسيطة، وهذه الذات الواحدة البسيطة هي نفسها قادرة، وحيّة، ومدركة، وسميعة، وبصيرة... إلى آخر الصفات.

وبعبارة أخرى: أن الصفات الإلهية عين الذات المقدسة في الواقع والخارج، وليست الذات تنوب مناب الصفات، ولا الصفات لازمة للذات، بل هي عينها وعينها هي، وهكذا الصفات فيما بينها، نعم هذا على مستوى الواقع والخارج، وأما على مستوى الادراك والتلقّي الذهني فإنها على نحو التكثر والتعددية، وليست على نحو الجامع الواحد، وهذا يعود إلى ضعف في

ص: 165


1- أوائل المقالات للشيخ المفيد ص 52.

المُدرِك وعجز المتلقي عن أن يتلقى ذلك التوحيد الواقعي كما هو، وهذا ليس بالأمر الشاذ، فإن الامر لا يقف عند هذا الحد، إذ الذهن البشري يعجز عن تصور الممكنات بنحو الوحدة، وهو من عالمها وسنخها، فكيف يتمكن من التسلق والقفز إلى إدراك وحدة الواجب وصفاته الذاتية الكمالية جل شأنه وعز سلطانه.

فالذات الالهية واحدة، لكن هذه الذات الإلهية عالمة قادرة حيّة مدركة... وصفاتها هذه لها مفاهيم يختلف الواحد منها عن الآخر، لكن لدينا في الخارج شيء واحد، وهو الذات الإلهية المقدسة البسيطة، وهذا هو رأي الإمامية.(1)

وقد أشارت الروايات الشريفة إلى هذا الاعتقاد بنصوص واضحة جلية، فعن الامام الكاظم (صلوات الله و سلامه عليه) أنه قال: أَوَّلُ الدِّيانَةِ بِهِ مَعرِفَتُهُ، وكَمالُ مَعرِفَتِهِ تَوحيدُهُ، وكَمالُ تَوحيدِهِ نَفيُ الصِّفاتِ عَنهُ ؛ بِشَهادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيرُ المَوصوفِ، وشَهادَةِ المَوصوفِ أَنَّهُ غَيرُ الصِّفَةِ، وشَهادَتِهِما

ص: 166


1- في عقائد الإمامية- الشيخ محمد رضا المظفر (ص 38 – 39 / 7- عقيدتنا في صفاته تعالى) قال (رحمه الله تعالى) ما نصه: ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات (الجمال والكمال)، كالعلم والقدرة والغنى والإرادة والحياة- هي كلها عين ذاته ليست هي صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلا وجود الذات، فقدرته من حيث الوجود حياته. وحياته قدرته، بل هو قادر من حيث هو حي، وحي من حيث هو قادر، لا اثنينية في صفاته ووجودها وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية. نعم هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها، لا في حقائقها ووجوداتها، لأنه لو كانت مختلفة في الوجود وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات للزم تعدد واجب الوجود ولانثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد.

جَميعاً بِالتَّثنِيَةِ المُمتَنِعِ مِنهُ الأَزَلُ. (1)...(2)

و نظيره ما ورد عن امير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه): أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه، وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمَالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه، وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْه، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللَّه سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه ومَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه فَقَدْ جَهِلَه ومَنْ جَهِلَه فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْه، ومَنْ أَشَارَ إِلَيْه فَقَدْ حَدَّه ومَنْ حَدَّه فَقَدْ عَدَّه...(3)

وروي أنه سئل أبو جعفر الثاني (عليه السلام): يَجوزُ أَن يُقالَ للهِ تعالى: إِنَّهُ شَيءٌ ؟ قالَ -: نَعَم، يُخرِجُهُ مِن الحَدَّينِ: حَدِّ التَّعطيلِ وحَدِّ التَّشبيهِ.(4)

وعن محمّد بن عيسى بن عبيد: قال لي أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام): ما تَقولُ إِذا قيلَ لَكَ: أَخبِرني عَنِ اللهِ عزّ وجلّ شَيءٌ هُوَ أَم لا ؟

قالَ: فَقُلتُ لَهُ: قَد أَثبَتَ اللهُ عزّ وجلّ نَفسَهُ شَيئاً، حَيثُ يَقولُ: (قُلْ أيُّ شَيءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)(5)، فَأَقولُ: إِنَّهُ شَيءٌ لا كَالأَشياءِ ؛ إِذ في نَفيِ الشَّيئِيَّةِ عَنهُ إِبطالُهُ ونَفيُهُ.

ص: 167


1- فالأزلي القديم يمتنع أن يكون متعدداً.
2- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1- ص 140 باب جوامع التوحيد ح6..
3- نهج البلاغة- ج 1- ص 14 – 15.
4- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 107 باب 7 أنه تبارك وتعالى شيء ح7..
5- الأنعام 19

قالَ لي: صَدَقتَ وأَصَبتَ.

ثُمَّ قالَ لِيَ الرِّضا (عليه السلام): لِلنَّاسِ فِي التَّوحيدِ ثَلاثَةُ مَذاهِبَ: نَفيٌ، وتَشبيهٌ، وإِثباتٌ بِغَيرِ تَشبيه. فَمَذهَبُ النَّفيِ لا يَجوزُ، ومَذهَبُ التَّشبيهِ لا يَجوزُ ؛ لأنّ اللهَ تَبارَك وتَعالى لا يُشبِهُهُ شَيءٌ، وَالسَّبيلُ فِي الطَّريقَةِ الثّالِثَةِ: إِثباتٌ بِلا تَشبيه.(1)

الصنف الثاني: الصفات الثبوتية الكمالية الإضافية (الفعلية)

وهي كالصنف الأول في كونها مما يليق إثباته بالواجب تعالى، لأنها تحكي عن كمال وجودي، ولكنها تختلف عنها في أنها ليست ذاتية، أي إنها تحتاج إلى طرف آخر لتحصل، مثل الخالقية والرازقية وصفة الجود وغيرها من الصفات، وهي صفات حادثة لأنها تحتاج إلى طرف آخر، وكل ما عدا الله سبحانه وتعالى فهو ممكن وحادث، نعم، القدرة عليها صفة ذاتية، فهو تعالى قادر على الخلق والرزق والإعطاء منذ الأزل، أما تفعيل هذه القدرة وإبرازها بإيجاد المخلوق والمرزوق والمعُطى، فهو الحادث بحدوث الطرف الثاني.

إشارتان
الإشارة الأولى: مبدأ الصفات الذاتية والفعلية

إن مبدأ الصفات الذاتية هي صفة الحياة، كما أن مبدأ الصفات الفعلية وأصلها هي صفة القدرة أو القيومية.

وقد جُمعا في قوله تعالى {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(2)

ص: 168


1- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 107 باب 7 أنه تبارك وتعالى شيء ح8.
2- البقرة آية (255)، آل عمران (2)
الإشارة الثانية: التمييز بين الصفات الذاتية والفعلية

إن الصفات الذاتية لا متناهية، لأنها عين الذات وهي قديمة بقدم الذات، أمّا الصفات الفعلية فهي متناهية وإلا لم تقبل ما يقابلها، وكذلك هي زائدة على الذات وحادثة.

أما كيف يمكن التمييز ما بين الصفات الذاتية وبين الصفات الفعلية؟

فقد ذكروا أنه توجد ضابطتان للتمييز، الأولى للمتكلمين والثانية للحكماء:

أما الضابطة الأولى (للمتكلمين) فهي: إذا كانت الصفة لا يمكن أنْ تتصف الذات بها وبنقيضها فهي ذاتية، كالعلم والقدرة، فالعلم نقيضه الجهل، ولا يمكن أنْ يتصف به الباري سبحانه، وأما إذا كانت الصفة يمكن أنْ تتصف الذات بها وبنقيضها، فهي صفة فعلية كالرازقية والخالقية، فالرزق نقيضه عدم الرزق، ويمكن أنْ يتصف الباري، بأنه يرزق ولا يرزق، أو يغضب ويرضى، أو يبسط ويقبض، وغيرها مما يمكن أن يتصف بها وبنقيضها، فهي صفة فعلية.

أما الضابطة الثانية (للحكماء) فهي: أنّ الصفات الذاتية منتزعة من نفس الذات من دون حاجة إلى شيء وراء الذات كالعلم والقدرة، فهي تنتزع من الذات نفسها من دون حاجة إلى المعلوم أو المقدور.

أما الصفات الفعلية: فإن الذات وحدها لا تكفي للاتصاف بها، وإنما

ص: 169

تحتاج إلى أمر آخر وراء الذات، كالرازقية والخالقية، فقبل أنْ يكون هناك مرزوق أو مخلوق، لا يتصف بأنه رازق وخالق.

نعم، الصفات الفعلية ترجع إلى صفة ذاتية هي (القيومية).

النوع الثاني: الصفات السلبية
اشارة

وهي الصفات التي يجب تنزيه الباري عز وجل منها، فكما أن هناك من الصفات ما يليق بذات الله جل وعلا فيجب أن نثبتها له سبحانه لحكايتها عن كمال وجودي. فهناك صفات لا تليق به تبارك وتعالى عنها علّواً كبيراً، هي صفات يلزم من إثباتها للواجب تعالى إثبات نقص وجودي، فكان لزاماً نفيها عنه تعالى، فإذا أردنا وصف الله تعالى بها، فلا بد أن يسبقها حرف نفي وسلب، لذا سُمّيت بالسلبية.

وهذا النوع له صنفان أيضاً:

الصنف الاول: الصفات السلبية الذاتية

وهي الصفات التي يجب أن نسلبها عن الذات المقدسة بغض النظر عن أي شيء آخر وهذه الصفات هي:

1- إنه عز وجل ليس مركّباً.

2- ليس جسماً.

3- ليس له شريك.

ص: 170

4- ليس له مكان.

5- لا يرى بالعين.

6- ليس محتاجاً.

7- ليس محلاً للحوادث.

والتفصيل يأتي إن شاء الله تعالى.

الصنف الثاني: الصفات السلبية الفعلية

هذه الصفات تتعلق بالفعل الإلهي، حيث يجب تنزيه فعل الباري عز وجل عنها، وفرقها عن الأولى أنها صفات راجعة إلى الفعل وليس إلى الذات، فإذا لاحظنا فعل الله عز وجل وما يصدر عنه سبحانه من الأفعال، فلا بد أن ننزه فعله جل وعلا عن تلك الصفات، كصفة (الظلم) وهي صفة الفعل، ومثلها صفات الجور والعبث والشر واللعب والخطأ والاشتباه، فكل هذه الصفات تعد من الصفات السلبية الفعلية لأنها منفية عن فعله جل و علا، والدليل على ضرورة سلبها عن فعله تعالى ما يأتي إن شاء الله تعالى في باب (العدل الإلهي) من نفي مناشئ الفعل غير العادل عن فعله تعالى.

وعلى كل حال، فلأنه عز وجل واجب الوجود، فكل ما يتصف به ممكن الوجود يكون منفياً عنه جل وعلا.

ص: 171

إشارات
الإشارة الأولى: الدليل على لزوم اتصاف الذات بالصفات

يُمكن إقامة عدة براهين على ذلك، وفي الحقيقة هي تنبيهات:

البرهان الأول: بعد أنْ ثبت أنّ الله تعالى هو واجب الوجود، وبعد أن عرفنا أن معنى كونه واجب الوجود هو كونه كاملاً من جميع الجهات، بحيث إن افتراض أي جهة نقص فيه يثلم اتصافه بواجبية الوجود، يكون اتصافه بالصفات الثبوتية أمراً لا بد منه، وإلا يلزم خلف الفرض.

وإثبات الكمالات له بنحو مطلق، يستلزم نفي الصفات السلبية عنه بنحو مطلق كذلك كما هو واضح.

البرهان الثاني: بعد أن ثبت أن عالم الإمكان معلول له تعالى، وبعد أن رأينا وجداناً أن عالم الإمكان يتصف بالكثير من الصفات الكمالية، كالعلم والقدرة والحياة، يكون إثباتها في الذات الواجبة الوجود أمراً بديهياً، وإلا، فإن اتصاف الممكنات بتلك الصفات يحتاج إلى علة، تنتهي إلى الواجب كما هو واضح، وافتراض خلو الذات الواجبة من الكمالات مع افتراض أنها علة لها في الممكنات أمر محال في قانون العلة والمعلول، باعتبار أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن المعلول لا يمكن أن يكون أكمل من علته.

على أن برهان النظام –كما تقدم- يُثبت علم وقدرة وحياة المنظِّم.

فضلاً عن أن القرآن الكريم كان قد أثبت الصفات لله تعالى.

ص: 172

الإشارة الثانية: المرجع للصفات

عرفنا أن هناك صفات ثبوتية، وأخرى سلبية، وهنا سؤال: أيهما يرجع إلى الآخر: هل ترجع الصفات الثبوتية إلى السلبية؟ أو بالعكس؟

الجواب: هنا رأيان:

الرأي الاول: إن الصفات الثبوتية ترجع الى الصفات السلبية، فصفة (عالم) في أصلها أو في حقيقتها تعني (ليس بجاهل)، وصفة (القادر) تعني (ليس بعاجز)، وصفة (الحي) معناها (ليس بالميت)، و (مريد) تعني (ليس بمُكرَه) وهكذا.

وقد ذكروا لذلك تبريرين:

الأول: عدم تعقّل اتصاف الواجب بالصفات الثبوتية من دون تركيب أو احتياج (سواء انتهوا إلى القول بزيادة الصفات على الذات أو إلى القول بنيابة الذات عن الصفات)، ولضمان وصفه تعالى بالصفات الكمالية مع عدم الانتهاء إلى التركيب، قالوا بأن الصفات الثبوتية في حقيقتها ترجع إلى سلوب متعددة. والسلب لا يلزم من التركيب.

الثاني: إن معرفة كنه وحقيقة الصفات الثبوتية محجوب عنا(1)، فنحن لا نستطيع أن نفهم المعنى الحقيقي لعلم الله جل وعلا، ولا لبقية الصفات

ص: 173


1- باعتبار أن صفات الثبوت هي عين الذات، والذات الالهية غير محدودة، وما هو عين الذات –التي هي الصفات الثبوتية- أيضاً يكون غير محدود، وبالنتيجة فلا يمكننا -نحن بني الإمكان- أن ندرك اللامحدود حقيقة.

الثبوتية، لأن فهم حقيقة الصفات الثبوتية غير معقول لنا، وكيف يفهم المحدودُ اللامحدود؟ فما نفهمه هو السلوب (أي سلب الجهل) فنقول (ليس بجاهل) فهذه واضحة عندنا. وهكذا بقية الصفات.

الرأي الثاني: إن الصفات السلبية ترجع إلى الثبوتية، بمعنى أن كل الصفات السلبية ترجع الى صفة سلبية واحدة هي صفة سلب الإمكان، والذي ليس له سوى معنى واحد هو وجوب الوجود.

وأما عن الرأي الأول فهو باطل من عدة جهات:

الجهة الأولى: إن إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبية يعني (التعطيل)، أي عدم إثبات أي صفة ثبوتية لله عز وجل، فلا نقول: (الله العالم)، وبالمقابل نقول: (الله ليس بجاهل)، ويترتب على هذا: أن أي صفة ثبوتية لا تثبت لله عز وجل، فإذا ما سألوك: هل الله عالم؟ أجبتهم: لا، الله ليس بجاهل!

الجهة الثانية: إن نفي الصفات الثبوتية عنه جل وعلا هو على خلاف ظاهر القرآن الكريم الذي أثبت وبصراحة تامة- الصفات الثبوتية له سبحانه، قال عز من قائل (هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1)

ص: 174


1- الحشر 22-24

الجهة الثالثة: لا منافاة بين عدم فهم أو عدم القدرة على فهم الصفات الثبوتية (بلحاظ عجز الانسان عن معرفة حقيقة الصفات الثبوتية) وبين إثباتها لله عز وجل، فإذا كان العلم - مثلاً - هو عين الذات، والذات غير محدودة، إذن فالعلم غير محدود كذلك، ونحن محدودون فلا يمكننا أن ندرك العلم، ولكن لا مانع من أن نثبت تلك الصفة له تعالى ونقول: (الله عالم)، فالمقدمة –التي ذكروها- صحيحة، لكن النتيجة –التي انتهوا إليها- غير صحيحة. فنحن نصف الله عز وجل بما وصف به نفسه.

الإشارة الثالثة: فذلكة: العقل البشري واكتناه الصفات الإلهية
اشارة

في قدرة العقل البشري على اكتناه الصفات الالهية ظهرت الاتجاهات التالية:

الاتجاه الأول: المجهولية المطلقة والإبهام التامّ لكل الصفات الالهية

حصيلة هذا الاتجاه: أننا لا نعرف أي شيء عن أي صفة من الصفات الإلهية والتي قامت عليها الأدلة وأثبتتها البراهين، ولا نحيط بها علماً، بل نجهلها جهلاً تصورياً مطبقاً، ونصدق بها فقط لقيام الدليل التام عليها.

وخلفية ذلك التالي:

أن المفاهيم التي نمتلكها عن تلك الصفات اُشتُقت من عالم الإمكان واُنتزعت من فضائنا المحدود، وبالتالي لا محكي لها ولا مصداق تنطبق عليه خارج هذه المحوّطة وتلك الحدود، ولا ضمان على انطباقها على فضاء أرحب

ص: 175

منها وأوسع بفاصلة لا تُتصور ولا تُحدّد، وهو فضاء اللامتناهي، وبالتالي يبقى ما نفهمه بحدود عالمنا، ولا يمكننا أن ننتقل منه إلى أي عالم آخر(1).

الاتجاه الثاني: المعلومية بحدود سلبية وأُطر عدمية

وحصيلة هذا الاتجاه: إن هناك نواقص بلحاظ صفاتنا، فلا بد أن ننفيها عن صفاته سبحانه وتعالى، فمثلاً الجهل والعجز والفقر وغيرها كلها نواقص بلحاظنا، فمن باب أولى يلزم أن تُسلَب عنه تعالى، ومن ثَمّ نفهم من علمه أنه عدم الجهل فقط، ومن قدرته عدم العجز، ومن غناه عدم الفقر والحاجة، وهكذا.

الاتجاه الثالث: المعلومية الإيجابية بحدود الاشتراك المعنوي

وحصيلة هذا الاتجاه تتوقف على بيان بعض المقولات المعرفية والمنطقية وهي التالي:

أولاً: إن مفهوم المشترك المعنوي يحكي عن الحيثية المشتركة في مصاديق متعددة، فالإنسان مفهوم يحكي عن الحيثية المشتركة بين زيد وعمرو وبكر، والحيوانية تحكي الحيثية المشتركة بين الفرس والإنسان والغزال، وهكذا الجسمية والجوهرية.

ثانياً: المشترك المعنوي لا يستلزم تماثلاً بين حقائق المصاديق المحكيّة به، فهو لا يعدو كونه أشبه بحكاية خيط رفيع ومشترك بين المصاديق المتنوعة،

ص: 176


1- من الواضح أن هذا الاتجاه يستند إلى زاوية منشأ الانتزاع في حكاية المفاهيم، ولكن يوجد بُعد آخر في عالم المفاهيم وهو بُعد الحاكوية، ولا ينبغي الخلط بينهما معرفياً.

وأما حقائقها ومكوناتها الداخلية فلا يفيد التماثل فيما بينها، فمثلاً الجوهر يحكي عن حيثية الوجود لا في موضوع فقط، وأما كون تلك المصاديق متماثلة وكلها حيوان أو نبات أو...الخ فهذا لا يفيده الجوهر، نعم قد نجد بعض المشتركات تفيد ذلك، ولكن هذا لا من زاوية أنه مشترك معنوي، بل لخصوصية مرتبطة بمثال ومورد معين.

ثالثاً: المشترك المعنوي له أنماط متعددة ومستويات مختلفة من زاوية حكايته عن مصاديقه، فتارة المشتركات تحكي عن حيثيات متباينة، وأخرى عن حيثيات متداخلة، وهنا المحكي تارة يكون ضعيفاً وأخرى قوياً، أي إن الحكاية لها مراتب ضعيفة وشديدة، ومثال المتباينة: الجوهر والعرض، ومثال المتداخلة ذات الدرجات: الجوهر والجسم والجسم النامي، حيث إنها تبدأ من الأضعف ثم تشتد شيئاً فشيئاً.

وعموماً: فإن المشتركات المعنوية لا تواطؤ فيها من جهة الحكاية عن المصاديق والمحكيات.

رابعاً: المشترك المعنوي كلما ابتعد وعمَّ واتسع كلما كانت حكايته عن حيثية ما أضعف وأبعد، أي إن المحكي يكون ضئيلاً وضعيفاً، نعم مصاديقه تكبر وتتكاثر، ولكن محكيّه يضعف ويقلّ، فمثلاً الجوهر والجسمية كلٌّ منهما يتّسم بطابع العمومية والسعة، وبذا يكشفان عن حيثية ضعيفة في مصاديقهما، وفي نفس الوقت مصاديقهما كبرت بمقدار سعتهما وعموميتهما، وبالمحصلة المشترك المعنوي الوسيع جداً والعام يعطي معرفة إيجابية ضعيفة

ص: 177

ذات مصاديق كثيرة.

إذا تبينت هذه المقدمات نقول التالي

إن الصفات الالهية المشتركة معنىً، كالعلم والقدرة والحياة والوجود والغنى...، هي صفات ومشتركات عامة وواسعة جداً، ومن ثَمّ يكون المحكي بها حيثية ضعيفة لا تكاد تبين، وأقرب إلى الإبهام منها إلى المعرفة والعلم، ولذا نجد المصاديق كبيرة وكثيرة، وعندما يراد التمييز فيما بينها وفصل الخالق عن المخلوق والواجب عن الممكن، فإن العقل البشري المحدود يقف عاجزاً دون الوصول لضبط ما به الامتياز الإيجابي له سبحانه وتعالى، ولا ملجأ له إلا العودة الى السلب والنفي للتمييز والمعرفة، وبذا يضطر إلى التوصيفات التالية: الوجود اللامتناهي، العلم اللامحدود، والقدرة التي ليس كمثلها شيء، والحياة غير المتناهية، وهكذا في بقية الصفات.

فصحيح أننا نبدأ بمعرفة إيجابية، ولكنها ذات خيط ضعيف جداً، وإذا أُريد لها الاتّساع والتّعمق، فلا خيار لها إلا السلب وضبط كل وصف وإلحاقه بمقولة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(1)

الإشارة الرابعة: الفرق بين الاسم والصفة

تجدر الإشارة أولاً (إلى أن حقيقة الاسم والصفة واحدة، ولا يختلفان إلا على مستوى اللفظ والاعتبار الذهني، فالاسم هو الذات بضميمة الصفة)(2)

ص: 178


1- الشورى 11
2- الكلام الإسلامي المعاصر ج1 ص 166.

ويؤيد هذا المعنى عدة أمور:

الأمر الأول: ورود بعض الأحاديث التي أطلقت لفظ (الاسم) تارة ولفظ (الصفة) تارة أخرى على معنى واحد، فمثلاً روي عن هشام بن سالم، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لي: أتنعت الله؟ فقلت: نعم، قال: هات، فقلت: هو السميع البصير، قال: هذه صفة يشترك فيها المخلوقون(1)!

قلت: فكيف تنعته؟ فقال: هو نور لا ظلمة فيه، وحياة لا موت فيه، وعلم لا جهل فيه، وحق لا باطل فيه. فخرجت من عنده وأنا أعلم الناس بالتوحيد.(2)

فأطلق هنا الصفة على (السميع البصير)

ولكن روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال:...ثم وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم وتعبّدهم وابتلاهم إلى أن يدعوه بها، فسمّى نفسه سميعاً بصيراً قادراً قائماً ظاهراً باطناً لطيفاً خبيراً قوياً عزيزاً حكيماً عليماً وما أشبه هذه الأسماء...(3)

وهنا أطلق (الاسم) على (السميع البصير) أيضاً.

الأمر الثاني: تصريح بعض الروايات الشريفة بأن الاسم والصفة شيء

ص: 179


1- أي من حيث المفهوم. وأما من حيث الحقيقة فذاته ذات الصفة بعينها بخلاف الممكنات. [هامش المصدر]
2- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 146 ح14.
3- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 187 ح2.

واحد، من قبيل ما روي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَوْ قُلْتُ لَه: جَعَلَنِي اللَّه فِدَاكَ نَعْبُدُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ

الْوَاحِدَ الأَحَدَ الصَّمَدَ؟ قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ مَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ الْمُسَمَّى بِالأَسْمَاءِ أَشْرَكَ وكَفَرَ وجَحَدَ، ولَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً بَلِ اعْبُدِ اللَّه الْوَاحِدَ الأَحَدَ الصَّمَدَ الْمُسَمَّى بِهَذِه الأَسْمَاءِ دُونَ الأَسْمَاءِ، إِنَّ الأَسْمَاءَ صِفَاتٌ وَصَفَ بِهَا نَفْسَه.(1)

وفي رواية أخرى عن محمد بن سنان قال: سألته [أي الإمام الرضا (عليه السلام)] عن الاسم ما هو؟ قال: صِفَةٌ لموْصُوْف.(2)

ولكن مع ذلك، فقد فرّقوا بين الاسم والصفة، واختلفوا على عدة آراء، وأنسبها ما ذهب إليه صاحب الميزان، حيث قال:

لا فرق بين الصفة والاسم غير أن الصفة تدل على معنى من المعاني يتلبس به الذات أعم من العينية والغيرية، والاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف. فالحياة والعلم صفتان، والحي والعالم اسمان...(3)

بمعنى أن الاسم هو اللفظ المأخوذ إما من الذات بما هي هي، أو بكونها موصوفاً بوصف أو مبدأً لفعل، فالأول كلفظ الجلالة له سبحانه، والرجل والإنسان لغيره، والثاني كالعالم والقادر، والثالث كالرازق والخالق، وأما الصفة فهو الدال على المبدأ مجرداً عن الذات، كالعلم والقدرة والرزق

ص: 180


1- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1- ص 87 – 88 باب المعبود ح3.
2- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1- ص 113 باب حدوث الأسماء ح3.
3- تفسير الميزان- السيد الطباطبائي- ج 8- ص 352.

والخلق، ولأجل ذلك يصح أن يقال: الاسم ما يصح حمله، كما يُقال: الله عالم وخالق ورحمن ورحيم، والصفة لا يصح حملها، كالعلم والخلق والرحمة(1)،

وهذا هو المشهور بين المتكلمين، بل الحكماء والعرفاء، فالصفات مندكّة في الاسماء من غير عكس.(2)

الإشارة الخامسة: معنى التأدب بآداب الله تعالى

وردت عدة روايات تدعو المؤمن إلى أن يتأدب بآداب الله تعالى، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):...فتأدبوا أيها النفر بآداب الله عز وجل للمؤمنين.(3)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): من تأدب بآداب الله عز وجل أداه إلى الفلاح الدائم.(4)

ومن لم يصلح على أدب الله لم يصلح على أدب نفسه.(5)

وروي أن جبرئيل (عليه السلام) هبط إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام، ويقول لك: اقرأ (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ)(6)، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) منادياً ينادي: من لم يتأدب بأدب الله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.(7)

ص: 181


1- إلا على نحو المجاز، فيُقال: الله عدل، رحمة، لطف...
2- مفاهيم القرآن- الشيخ جعفر السبحاني- ج6 ص 33.
3- تحف العقول- ابن شعبة الحراني- ص 353.
4- بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج 89- ص 214.
5- عيون الحكم والمواعظ- علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 463.
6- الحجر 88
7- فقه الرضا- علي بن بابويه- ص 364.

فما معنى التأدب بآداب الله تعالى؟

الجواب: الظاهر والله العالم أن واحداً من ملاكات الأخلاق الفاضلة هو أن يعمل المؤمن على أن يتمثل الصفات الإلهية في حياته اليومية، باعتبار ما تقدم من أن الصفات الوجودية تخضع لنظام التشكيك، وبالتالي فالصفات الإلهية وإن كانت غير متناهية، ولكن هناك تجليات لتلك الصفات في عالم الإمكان بصورة مخففة، وإن الالتزام بتلك الصفات المخففة جداً يؤدي إلى أن يتكامل الفرد المؤمن، ومن هنا جاءت الدعوة إلى هذا التأدب.

وهذا المعنى ما تشير إليه بعض النصوص التربوية، ومنها ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إِنَّ اللَّه يُحِبُّ الرِّفْقَ ويُعِينُ عَلَيْه، فَإِذَا رَكِبْتُمُ الدَّوَابَّ الْعُجْفَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا، فَإِنْ كَانَتِ الأَرْضُ مُجْدِبَةً فَانْجُوا عَنْهَا، وإِنْ كَانَتْ مُخْصِبَةً فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا.(1)

وهذا الحديث «إن الله تعالى رفيق يحب الرفق» يدل على أن ملاك حسن الأخلاق وفضائل الملكات وجود مثلها أو ما يناسبها في صفات الله تعالى، مثلاً الله كريم يحب الكرم، فالكرم من الملكات الفاضلة وحليم يحب الحلم، والجود حسن لأن الله جواد، والسخاء حسنة وإنْ لم يوصف الله تعالى بالسخاء لكن وُصف بما يناسبها، والشجاعة حسنة ولا يقال له تعالى شجاع، لكن يتصف بعدم الخوف، وهذا معنى ما قيل: تخلقوا بأخلاق الله تعالى.

وبالجملة: هو الموجود الكامل الجامع لجميع الكمالات المنزه من جميع

ص: 182


1- الكافي- الشيخ الكليني- ج 2- ص 120 باب الرفق ح2.

النقائص، وتحصيل كل كمال تشبه بالخالق تعالى وما يسلب عنه كالجسمية والمحسوسية والمكان والزمان والتركيب وأمثال ذلك من صفات النقص ويجب الترفع عنها على الإنسان بقدر استطاعته وهو معنى التقرب إلى الله وجعله غاية للعبادات.(1)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): إِنَّ اللَّه جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، ويُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ النِّعْمَةِ عَلَى عَبْدِه.(2)

يعني أنه تعالى جميل الفعال يحب منكم التجمل والتزين وإظهار نعمه وعدم الحاجة إلى الغير.(3)

أو بمعنى أنه حسن الأفعال كامل الأوصاف.(4)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): وإِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ الله سُبْحَانَه، وإِنَّهُمَا لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ ولَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ...(5)

ومعه، فينبغي على المؤمن أن يكون رحيماً بالناس، ليرحمه الله تعالى، ينبغي عليه أن يكون ودوداً معهم، وينبغي أن يكون صبوراً، شكوراً، عزيزاً، جليلاً، إلى آخر الصفات الكمالية له جل وعلا.

ص: 183


1- شرح أصول الكافي- مولي محمد صالح المازندراني- ج 8- هامش ص 347.
2- الكافي- الشيخ الكليني- ج 6- ص 438 باب التجمل وإظهار النعمة ح1.
3- شرح أصول الكافي- مولي محمد صالح المازندراني- ج 9- ص 328.
4- شرح أصول الكافي- مولي محمد صالح المازندراني- ج 10- ص 455.
5- نهج البلاغة- ج 2- ص 48 – 49.
الإشارة السادسة: صحة أو عدم صحة إطلاق أسماء الله تعالى على غيره

قُسمت الأسماء الإلهية إلى قسمين:

القسم الأول: الأسماء والصفات المستأثرة، وهي الأسماء التي تحكي عن نفس الذات الإلهية المقدسة، مما يعني أنها لا تصح إلا في واجب الوجود، وهذه لا يصح لأحد أن يتسمى بها، لاختصاصها به جل وعلا، مثل أسماء: الله، واجب الوجود، اللا متناهي، واللا محدود، ومثلاً (الذي نفسي بيده) و(الذي فلق الحبة وبرأ النسمة)، و(مقلب القلوب والأبصار) وما شابه...(1)

القسم الثاني: الأسماء المشتركة بينه جل وعلا وبين غيره –باعتبار فكرة التشكيك-، كأسماء: الرب، والخالق، والرازق، وغيرها، وهذه الأسماء، إنْ أُريد منها مرتبتها الوجودية المطلقة واللا محدودة، فهي من مختصات الله جل وعلا، وإنْ أريد منها المرتبة الممكنة منها، فهي من مختصات الممكنات، ويمكن إطلاقها عليها، ومن هنا، نجد أن القرآن الكريم استعمل صيغة أفعل التفضيل في بعض الأسماء، من قبيل (فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)(2)، أو استعمل الأسماء مشتركة بينه وبين غيره من الممكنات، من قبيل قوله تعالى

ص: 184


1- وترتبت على هذا بعض الأحكام الفقهية، من قبيل ما جاء في منهاج الصالحين – السيد السيستاني ج3 مسألة 688: لا تنعقد اليمين إلا إذا كان المقسم به هو الله تعالى دون غيره مطلقا، وذلك يحصل بأحد أمور: 1- ذكر اسمه المختص به كلفظ الجلالة، ويلحق به ما لا يطلق على غيره كالرحمن. 2- ذكره بأوصافه وأفعاله المختصة التي لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب والأبصار، والذي نفسي بيده، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، وأشباه ذلك...
2- المؤمنون 14

(وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(1)

الإشارة السابعة: توقيفية أو عدم توقيفية أسماء الله تعالى

الإشارة السابعة: توقيفية أو عدم توقيفية أسماء الله تعالى(2)

هناك بحث يذكر في كتب الكلام حول أسماء الله عز وجل، وأنه هل يجوز لنا أن نطلق اسماً على الله عز وجل وإن لم يرد هذا الاسم في القرآن الكريم أو السنة؟ أو أنه لا يجوز أن نسمي الله عز وجل باسم ألا إذا كان وارداً في الكتاب أو السنة؟

رأيان:

الراي الاول: توقيفية الأسماء، فلا يجوز إطلاق أي اسم عليه عز وجل إلا إذا كان وراداً في الكتاب أو السنة.

الرأي الثاني: عدم توقيفية الأسماء، بمعنى أنه لا يشترط في وصف الله عز وجل أو تسميته باسم أن يكون ذلك الاسم أو الصفة وارداً في الكتاب أو السنة، بل تجوز تسميته عز وجل بأسماء أو وصفه بصفات وإن لم ترد في الكتاب و السنة لكن بشرط، وهو:

أن يدل الدليل على صحة وصف الله تعالى به، بأن لا يكون الاسم أو الصفة توهم نسبة النقص له جل وعلا، ولذا منعوا من تسميته تعالى بالشام والذائق حتى بناءً على عدم توقيفية الأسماء، لأن مثل هذه الأسماء توهم

ص: 185


1- الجمعة 11
2- للتفاصيل راجع: مفاهيم القرآن، جعفر سبحاني ج6 ص 42 – 48، ونفحات القرآن، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج 4 ص 21 – 24.

النقص في الذات المقدسة.

هذا وقد يُستدل على الأول ببعض الروايات، من قبيل ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: كَتَبَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليه السلام) إِلَى أَبِي: أَنَّ اللَّه أَعْلَى وأَجَلُّ وأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبْلَغَ كُنْه صِفَتِه، فَصِفُوه بِمَا وَصَفَ بِه نَفْسَه، وكُفُّوا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ.(1)

عَنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) عَنْ شَيْءٍ مِنَ الصِّفَةِ فَقَالَ: لَا تَجَاوَزْ مَا فِي الْقُرْآنِ.(2)

وبغض النظر عن النقاش في سند أو دلالة مثل هذه الروايات وأمثالها، فالذي يُراد قوله هنا هو:

أولاً: أن الاحتياط يقتضي الاقتصار في وصفه تعالى على ما ورد في الكتاب والسنة، وهو ما أشار إليه العلامة الطباطبائي (قدس سره) بقوله: والاحتياط في الدين يقتضي الاقتصار في التسمية بما ورد من طريق السمع...(3)

ثانياً: أن إطلاق اسم عليه لم يرد في كتاب أو سنة، ولو مع صحة المعنى وعدم استلزامه النقص –كاسم واجب الوجود- يحتاج إلى إلمام كبير وخبرة طويلة في علم الكلام، وليس متاحاً لأي أحد.

ص: 186


1- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1- ص 102 باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى ح6.
2- نفس المصدر ح7.
3- تفسير الميزان- السيد الطباطبائي- ج 8- ص 359.
النوع الثالث: الصفات الخبرية

وهي الصفات التي أخبر القرآن الكريم بثبوتها له تعالى، فلا بد من إثباتها له تعالى، ولكن ظاهرها التجسيم، كاليد، والوجه، والعرش، والكرسي، والخلاف فيها من حيث جواز حملها على ظاهرها وإن لزم منه التجسيم، أو ضرورة حملها على معانٍ كنائية تتناسب مع وجوب الوجود، وستأتي تفاصيلها في محلها إن شاء الله تعالى.

ص: 187

ص: 188

المبحث الثالث: تفاصيل الصفات الإلهية

اشارة

بعد أن عرفنا أنواع الصفات وبعض الإشارات المتعلقة بها، ينبغي لنا أنْ نُفصّل القول فيها ومحاولة الإجابة عن بعض ما يدور حولها إن شاء الله تعالى.(1)

التفصيل الأول: تفصيل الصفات الثبوتية الذاتية
اشارة

ونذكر هنا الصفات الرئيسية الثلاثة: (العلم والقدرة والحياة) ونشير إشارة سريعة إلى ما يتفرع على هذه الصفات.

ونذكر صفة رابعة فيها هي صفة (الإرادة) لأن هناك رأياً يتبنّاه العديد من علمائنا يجعل منها صفة تابعة للعلم الإلهي، إذ يفسرونها بأنها العلم بالنظام الأصلح كما سيتبين في محله إن شاء الله تعالى.

ص: 189


1- سيتم التركيز هنا على الصفات الثبوتية الذاتية، لأن الفعلية منها تدخل ضمن بحث العدل الإلهي، نعم، سنذكر صفة الكلام الإلهي لأنهم لم يبحثوها في بحث العدل، وهكذا عندما يتم التعرض لتفاصيل الصفات السلبية، سيتم التركيز على الذاتية منها، لأن الفعلية منها تدخل ضمن بحث العدل الإلهي أيضاً، وبعدها سيتم ذكر الصفات الخبرية إن شاء الله تعالى.

ص: 190

الصفة الأولى: إنه تعالى عالم
اشارة

لا خلاف في أصل ثبوت صفة العلم له تعالى بين الموحّدين، إنما الاختلاف في بعض التفاصيل المتعلقة بها، وسنسلط الضوء على المهم منها ضمن نقاط:

النقطة الأولى: الدليل على ثبوت هذه الصفة له تعالى
اشارة

ذكروا عدة أدلة –أو تنبيهات- لإثبات أنه تعالى عالم، نذكر منها:

الدليل الأول

الدليل الأول(1):

وخلاصته النظر إلى إحكام الكون وإتقانه ونظمه في جميع مفرداته، والانتقال من هذا النظم إلى علم باريه وخالقه.

وإثبات النظم الدقيق في الكون تتكفل به علوم الطبيعة.

وإن شكّك أحد في كاشفية هذا النظام عن علم صانعه وادعى أن النظام وليد الصدفة، فيجاب بأن استمرار الدقة وتواليها ينفي احتمال الصدفة.

وهذا الدليل يرجع بالدقة إلى قاعدة (فاقد الشيء لا يُعطيه) وحيث ثبت أن الممكن ذاتاً وصفة وفعلاً هو معلول لله تعالى، وحيث إن الممكن يتصف بالعلم، إذن، لا بد أن يكون الله تعالى عالماً، تطبيقاً لتلك القاعدة.

ص: 191


1- وهو للمتكلمين، ولا تنحصر أدلتهم به، وقد اعتمده الحكماء أيضاً.

على أن الأولى أن يُقال في نص القاعدة: إن معطي الكمال لا يكون فاقداً له، حتى يخرج مثل المشي والأكل وما شابه، فلا يُقال: إن الله تعالى أعطى الإنسان المشي، والمشي نقص، لأنه يحكي عن حاجة. وكذا الأكل والنوم وما شابه.

الدليل الثانی

الدليل الثاني(1):

وهو يبدأ بتصوير علم الذات بالذات، ثم الانتقال إلى علم الذات بغيرها، ببيان:

أما علم الذات بالذات، فيثبته أن الله تعالى ما دام مجرداً (2)،

فهو يعقل ذاته، لحضور ذاته عند ذاته، وعدم غياب الذات عن الذات. وحيث إنه تعالى مجرد عن المادة، فلا مانع من التعقل.

وإذا عقل ذاته، فهو تعالى يعقل المقارن لذاته، إذ مع تعقله لذاته فهو يعقل الملازمات العامة لذاته وصفاتها، إذ لا مانع من التعقل لمكان تجرده.

الدليل الثالث

ما دام تعالى قد خلق الجميع، إذن لا بد أن يعلم بالجميع. إذ عموم العلة (الخلق) يستلزم عموم الصفة (العلم).

بيانه:

إن الخلق المتقن لا يكون من دون علم، فكل مفردة من مفردات الخلق

ص: 192


1- هذا الدليل وتاليه هو من أدلة الحكماء.
2- وهذا ما يذكرون إثباتاته في مبحث نفي الجسم والجسمية عن الذات المقدسة.

تكشف عن أن الخالق عالم، وحيث إنه تعالى خالق كل شيء (فهو علة لكل شيء ممكن) إذن هو يعلم بكل شيء.

وهذا الدليل يثبت عموم علمه تعالى حتى للممتنعات، ببيان:

إن كل ما في العالم هو معلول له تعالى، بما في ذلك الإنسان وعلمه، وعلم الإنسان فيه صور متعددة، وهي معلومة له تعالى، والإنسان عنده علم بالمعدوم، أي صورة عن العدم – وإن كان قد حصل عليها من خلال المقايسة مع الوجود – ولكن هناك صورة للممتنع في أذهاننا، ومعه تكون معلومة له تعالى لأنه يعلم بمعلولاته وبعلمها.

إشارة: تجرد الذات يكشف عن عموم العلم

إن الجسمية تحجب العالم عن العلم بغيره، في الوقت نفسه قُدّر للإنسان أن يتكامل من خلال عالم المادة، بدءاً من جسميته وانتهاءً بمفردات عالم الطبيعة، ومن هنا قيل: إن الإنسان مجرد ذاتاً مادي فعلاً، يعني أن الإنسان في مجال الاستكمال لا بد أن يسلك من خلال المادة والطبيعة ليتجاوز نقصه، ولكن في الوقت نفسه نجد أن هذه المادة التي هي طريق تكامله هي طريق جهله وتراجعه، ففي الوقت الذي يتكامل الإنسان بعلمه وقدرته وبقية صفاته من خلال الاستعانة بجسمه وعالم الطبيعة، فإن الجسم وعالم الطبيعة يشكلان حاجباً عن علمه ومعرفته بالأشياء، ومن هنا، فكلما تجرد الإنسان عن الطبيعة والجسمية كلما أتيحت له المعرفة بشكل أكبر، وبالتالي إذا وصل إلى مستوى من التجرد التام استغنى عن المادة والطبيعة في معرفته للأشياء

ص: 193

حيث تنكشف له الأشياء.

وحينما نأتي لله تعالى فهو ليس جسماً ولا مادياً، فهو مجرد في ذاته، وهذا التجرد يتيح للمجرد أن يعلم أولاً بذاته(1).

ثم يتيح له ثانياً أن يعلم بمقارنات الذات، وهي الصفات التي تتصف بها الذات من القدرة والوحدة والحياة و...

ويتيح له ثالثاً العلم بما هو خارج عن الذات، التي هي المعلولات.

النقطة الثانية: إن علمه تعالى حضوري
اشارة

وهنا عدة خطوات:

الخطوة الأولى: المُميز بين الحصولي والحضوري

قُسم العلم إلى قسمين: حضوري وحصولي، ومُيّز بين هذين القسمين بالتالي:

المميز الأول: أن العلم الحصولي هو العلم بالأشياء من خلال المفهوم والماهية، وبالدقة: العلم بماهية الأشياء، أي إن الحصولي هو حضور ماهيات الأشياء لدى النفس.

وأما الحضوري فهو العلم بوجود الأشياء، أو حضور وجود الأشياء لدى النفس.

هذا هو التمييز المدرسي بينهما.

ص: 194


1- وقد تقدم توضيح العلم بالذات.

المميز الثاني: أن الحصولي هو العلم بالأشياء بواسطة المفهوم والصورة، والحضوري هو العلم بالشيء بشكل مباشر.

المميز الثالث: أن الحصولي هو عبارة عن مجرد حكاية النفس، أي إن النفس تكون مرآة تُري الأشياء لذاتها.

وأما الحضوري فهو عبارة عن حضور الشيء لدى النفس، أي مشاهدة النفس لا حكايتها، أي شعور النفس بالشيء والإحساس به...(1)

ومنه نعلم: أن معنى علمه تعالى هو حضور نفس الأشياء عنده تعالى لا بتوسط صورة ولا مفهوم ولا ماهية.

الخطوة الثانية: لا خطأ في العلم الحضوري

قالوا: إن العلم الحصولي كيفما فُرض، فهو بحاجة إلى معلوم بالذات في أفق النفس، غير المعلوم بالعرض الذي هو خارج أفق النفس.

وقد ارتكزوا في هذه الرؤية، إلى أن العلم قد يخطئ وقد يصيب، وعند الخطأ لا يمكن افتراض عدم محض، بل لا بد من افتراض شيء ذاتيه الحكاية...

ومعه، فلا بد له من محكي، وهو المعلوم بالذات. ودائماً العلم الحصولي بلحاظ المعلوم بالذات هو مصيب، والخطأ إنما يكون في المعلوم بالعرض(2).

ص: 195


1- وهذا التمييز الأخير يعتمد على فكرة اتحاد العالم بالعلم وعينيته معه، وهذا ما يتم إثباته في علم الفلسفة، ويمكن مراجعة بداية الحكمة للسيد الطباطبائي المرحلة (11) الفصل الأول.
2- وهنا سؤال: بماذا يرتبط المعلوم بالذات بالمعلوم بالعرض؟ فالشجرة الخارجية معلوم بالعرض، وصورة الشجرة الذهنية هي المعلوم بالذات؟ فما هي الصلة بينهما؟ إن الصلة بينهما ليست هي الاتحاد بالوجود، فإن المعلوم بالذات وجوده ذهني، والمعلوم بالعرض وجوده خارجي، وإنما الصلة بينهما هي بالحقيقة، فالشجرة الخارجية متحدة الحقيقة مع الشجرة الذهنية، إذ الشجرة حقيقة واحدة سواء كانت في عالم الخارج أو في أفق النفس، والعلم الحصولي ليس معنياً بحكاية شيء في أفق معين، وإنما هو يحكي واقعه أينما كان وفي أي ظرف فُرض.

ومن هنا، فإن ظاهرة الخطأ والصواب تتصور في العلم الحصولي.(1)

وأما العلم الحضوري فليس فيه تلك الظاهرة، ذلك لأن الخطأ والصواب يحتاج إلى ثنائية: مطابِق (بالكسر) ومطابَق (بالفتح)، وهذا إنما يُتصوّر في الحكاية، وحيث لا حكاية في الحضوري فلا يُتصوّر الخطأ.(2)

ومنه نعلم: أنه لا يُتصور الخطأ في علمه تعالى، لأنه حضوري.

الخطوة الثالثة: مستويات العلم الحضوري
اشارة

للعلم الحضوري مستويات ثلاثة:

ص: 196


1- إن الخطأ والصواب هما خصيصتان للعلم الحصولي التصديقي لا التصوري. فلا صحيح ولا خطأ في التصورات. اللهم إلا بمعنى آخر هو: إن الإنسان يفكر بألفاظ ذهنية نتيجة العلقة بين اللفظ والمعنى، والإنسان يتصور اللفظ والمعنى كليهما، فعندما يطلق لفظ له معنى، فالإنسان يتصور أولاً نفس اللفظ، ثم يتصور معنى ذلك اللفظ، أي ما يشير إليه ذلك اللفظ ويحكيه. ولكن الألفاظ بعضها متصورة تصوراً واضحاً هي ومعناها – أي مفهومها-، كلفظ الإنسان. وبعضها ليس كذلك، أي لا نلمس فيها مفهوماً، وإنما نلمس لفظاً فقط. كالمربع الدائرة، فالإنسان يتصور ألفاظاً فقط، ولا يلمس معنى لذلك اللفظ المتصور. وهو معنى التصورات المغلوطة... ومعه، فمعنى قولنا (تصور خاطئ أو مغلوط) معناه أنه تصور للفظ فقط بلا معنى.
2- نعم، قد يلابسه الخطأ، بمعنى أن هناك وجوداً يحضر عند العالم، فيشعر العالم به، ولكنه حينما يريد تحويله إلى معلومة حصولية يخطأ في مقام التحويل.
1- علم الذات بالذات

قلنا: إن العلم الحضوري هو الإحساس والشعور بوجود الشيء، ولا توجد ذات لا تتحسس ذاتها، بل كل ذات لا تغيب عنها ذاتها. فهذا المستوى من العلم الحضوري واضح.

2- علم الذات بأفعالها وصفاتها الجانحية

كالألم والحب والبغض والإيمان والغضب والجوع... فهذا الصفات يحس بها الإنسان ويشعر بها، وهذا لا يمنع من تصورها، بل يمكن للإنسان أن يتصورها، ولكنها تبقى أحاسيس داخلية يشعر بها الإنسان. وهكذا كل القضايا الوجدانية – التي هي إحدى البديهيات الستة – مستلة من العلم الحضوري الباطني، وإن كان مثل قولك (أنا جائع) هي قضية حصولية.

3- علم الذات بالغير

إن علم الذات بالغير وإن كان حصولياً، ولكن العلم لا يتوقف على ذلك فقط، بل هناك إحساس وشعور وجداني بالغير، فالإحساس بنعومة شيء بوضع اليد عليه إحساس داخلي، وشعور وجداني، أي علم حضوري بالنعومة...

نعم، هذه الإحساسات التي نحصل عليها بواسطة الحواس لا تعطي معلومة مطابقة للواقع دائماً، فربما يشعر أحدهم بشيء أنه ناعم والحال أن واقعه خشن، ولكن نحن هنا بصدد إثبات أن علاقتنا مع الغير ليست متوقفة

ص: 197

على العلوم الحصولية فقط، وإنما كثير منها علوم حضورية، ولذا تشعر بالراحة النفسية عندما تقترب من أبيك أو أخيك المؤمن، لا تشعر بها عندما تتصور صورته من بعد...

وعلى كل حال، فكون علمه تعالى حضورياً يعني أنه تعالى يعلم بذاته وصفاته وأفعاله، مما يعني أنه تعالى يعلم بكل مخلوقاته، لأنها أفعال له تعالى.

وهذا أمر تؤكده النصوص الدينية، التي أشارت إلى أدقّ علم يمكن أن يكون بلحاظ الآخر، فقال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(1)، فما دام تعالى خلق الإنسان، إذن هو يعلم به.(2)

الخطوة الرابعة: ما هو الدليل على أن علمه تعالى حضوري؟

إن حقيقة العلم الحصولي تكون بتوسط صورة (معلوم بالذات) بين العالم (الذات) وبين المعلوم بالعرض (الشيء الخارجي)، أي إن التعرف على الخارج يكون بواسطة الصورة، فإذا كان علمه تعالى حصولياً، فهذا يعني أنه يحتاج في علمه إلى تلك الصورة حتى يدرك الخارج، وهو خلف كونه واجب وجود.

النقطة الثالثة: بعض الإشكالات على العلم الإلهي
اشارة

سُجّلت العديد من الإشكالات على صفة العلم الإلهي، وهي إن تمت

ص: 198


1- ق 16
2- وهذا هو الدليل الثالث المتقدم على اتصافه تعالى بالعلم.

فهي إما تنفي صفة العلم، وبالتالي ننتهي إلى نظرية النيابة أو ما يشبهها، أو تحدّد في علمه تعالى، فيصبح علمه تعالى محدوداً لا مطلقاً.

ونستعرض بعضاً منها هنا:

الإشكال الأول: نفي علمه تعالى بذاته

الإشكال الأول: نفي علمه تعالى بذاته.(1)

توجد نظرية حاولت أن تناقش في علمه تعالى بذاته، باعتبار أن العلم يقتضي التغاير مع المعلوم، فلا بد من تصوير الاثنينية حتى يصح أن يكون لدينا عالم ومعلوم ؛ ذلك أن العلم هو إضافة بين العالم والمعلوم، فلا بد من فكرة الاثنينية(2).

إذ الإضافة تحتاج إلى طرفين، ومعه لا يتعقل أن تعلم الذات بذاتها، لأن الذات واحدة وعلمها عينها ولا تغاير في الساحة المقدسة.

والجواب:

نقضاً: بعلم الإنسان بذاته، إذ هو وذاته واحد لا متعدد، فلو سُلّم الإشكال للزم عدم علمنا بذواتنا، وهو باطل بالوجدان.

وحلاً: إن الذات واحدة بسيطة، والتغاير بين الذات وعلمها اعتباري،

ص: 199


1- وعلمه تعالى بذاته هي المقدمة الأهم في الدليل الثاني على اتصافه تعالى بالعلم كما تقدم.
2- وهذه الطريقة أو الشبهة هي كانت وراء إنكار المعتزلة لصفاته تعالى، لأنه تعالى واحد بسيط فلا يمكن تصور صفات له لأنها تقتضي الاثنينية، نعم الذات تفعل فعل العالم والقادر ووو، أي إن الذات نائبة مناب الصفات. ونفس الطريقة كانت وراء قول الأشاعرة بزيادة الصفات على الذات ولزومها لها، حتى يصوروا الاثنينية. من هنا ننفتح على واحدة من مميزات مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وهي تصوير الذات الواحدة البسيطة مع إثبات الصفات لها، وهو القول بالعينية مع التغاير الاعتباري.

وهو كافٍ في المقام، فالذات من جهة علمها بذاتها هي عالمة، ومن حيث كون ذاته تعالى معلومة له فذاته معلومة.(1)

وبعبارة مختصرة: أن الاثنينية الحقيقية معتبرة في العلم بالغير أما في العلم بالذات فتكفي المغايرة الاعتبارية.

الإشكال الثاني: نفي علمه تعالى بمخلوقاته

بعد تسليم علمه تعالى بذاته، قد يُنفى علمه تعالى بمخلوقاته، ببيان:

أن العلم هي صورة ذهنية مساوية للمعلوم، إذ هي عين المعلوم الخارجي ماهيةً، وإن اختلفت عنه في ظرف الوجود(2)...

ومعه، إذا كان تعالى عالماً بغيره من الماهيات، للزم أن يمتلك صوراً بعدد الماهيات المغايرة له تعالى، وهذه الصور إما عين الذات، أو عارضة عليها(3).

فإن قلنا باتحاد العلم والعالم، وإن علاقة العلم بالعالم هي علاقة العينية، فيلزم تكثر الذات، لأن العلم عين الذات، وحيث كانت الصور العلمية كثيرة، فما هو عينها – وهو الذات – كذلك.

وإن قلنا: إن علاقة العلم بالعالم هي علاقة العارض والمعروض.

ص: 200


1- وكون التغاير اعتبارياً لا ينفي نفس أمرية العلم والقدرة، بل هذا الاعتبار هو نفس أمري واقعي.
2- وإلا فما هو المميز لصفة العلم النفسانية عن بقية الصفات النفسانية؟ فالمميز لها عن غيرها هو أنها عين المعلوم ماهيةً وغيره وجوداً، فهي هو بوجه، وهي ليست هو بوجه آخر. ولذا لم تكن القدرة أو الحب أو الإيمان علماً، وإن كانت صفات نفسانية.
3- فليست تلك الصور أجنبية عن الذات، وإلا لم تكن الذات عالمة.

فيلزم أن تصبح الذات قابلة لتلك الصور، وحيث إنه لا بد لتلك الصور من موجد، وموجدها هو الله تعالى، إذ لا موجد غيره، فيلزم منه أن تكون الذات المقدسة قابلاً لتلك الصور وفاعلاً لها في نفس الوقت! وهو محال، إذ يستحيل أن يكون الشيء قابلاً فاعلاً، لأن القابلية تعني الفقدان، والفاعلية تعني الوجدان، والفقدان والوجدان لا يجتمعان. لأنهما ملكة وعدم، فلا يجتمعان في زمان ومكان وجهة واحدة.

بل ويلزم أنه تعالى لا يفعل فعله إبداعاً – لا عن مثال سابق-، وإنما يفعل بتوسط تلك الصور. وهذا محال، لأنه ننقل الكلام إلى تلك الصور المتوسطة، فهي مخلوقة له، فإن كانت موجودة لا عن مثال سابق، أي لا علم يسبقه، فليوجد العالم كذلك، وهو المطلوب، أي إمكان الإيجاد لا عن علم سابق.

وإن كانت عن مثال سابق، فيلزم التسلسل.

والجواب:

إن هذا الإشكال يجعل الحد الأوسط في نفي علمه تعالى بالأشياء هو أنه يلزم من العلم بها لوازم باطلة، ككونه تعالى قابلاً وفاعلاً، وكلزوم التكثر، والمثال السابق، وما شابه.

ولكن النكتة التي أسست لتلك اللوازم هي أن العلم حصولي، وأن العلم هي صورة منطبعة في العالم، وأن العلم يكون بتوسط المفهوم والصورة، وهذا لا يفرق فيه بين كونه قبل أو بعد الخلق.

ص: 201

ولكن تقدم أنه علمه تعالى بالأشياء ليس حصولياً، وإنما هو علم بوجود الأشياء مباشرةً وحضورياً وبلا توسط صورة. (1)

ومعه فيمكن صوغ الإشكال نفسه لنفي العلم الحصولي فيه تعالى، للزومه التكثر والفقدان و...، وهو محال على الذات الواجبة المقدسة.(2)

الإشكال الثالث: نفي علمه تعالى بالجزئيات
اشارة

إن العلم يتغير بتغير المعلوم الخارجي، والجزئيات بطبيعتها متغيرة، فالعلم بها سوف يكون متغيراً، فإذا قلنا: إنه تعالى يعلم بالجزئيات الزمانية المتغيرة المتحركة، يلزم القول بتغير علمه تعالى، وبالتالي تغير ذاته تعالى، بمعنى أن الذات سوف تكون محلاً للصورة تلو الأخرى، فيعلم بجزئي، وإذا علم بجزئي جديد فهذا معناه حصول علمٍ لم يكن، أي إن الذات تكاملت،

ص: 202


1- تنبيه: هذا الجواب هو بلحاظ علم الذات بالمخلوقات بعد إيجادها، إذ إنه صوّر علمه تعالى الحضوري بعد الخلقة. ولم يصور علمه تعالى قبل الخلقة.
2- ولا بد من التفرقة بين الحصول فيه والحصول عنده، فالحصول فيه هو العلم الحصولي، وأما الحصول عنده فيتلاءم تمام الملائمة مع العلم الحضوري، ومعه فيمكن تصوير علمه تعالى علماً حضورياً، والأشياء حاضرة عنده تعالى، باعتبار أن الموجودات كلها أثر من آثاره تعالى، ويستحيل أن يغيب الأثر عن مؤثره. وحضور الأثر عند مؤثره أشد من حضور المقبول عند قابله، كآثار النفس المقبولة للنفس، إذ هو حصول عرض لموضوع، أما تلك فهي حضور المعلول لدى العلة، والمعلولية تعني الإحاطة، وفرق بين الأمرين. وهذا يعني أن علاقتنا مع الله تعالى هي علاقة المحاط والمحيط، فهو تعالى محيط بنا وأقرب إلينا من حبل الوريد. فمن جهة الله تعالى فهو قرب مطلق. وإن كان هناك بعد فهو من جهة العبد فقط (وأنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك).

وحدث التغير في الذات، وهو ينافي ثبات الذات. فلا بد أن لا يكون عالماً بالجزئيات.

وبالتأمل، نجد أن هذا الاعتراض وقع فيما فرّ منه، إذ افترض: أن العلم بالجزئيات المتغيرة يلزم منه تغير العلم، الذي يلزم منه تغير الذات، وهو محال. ونحن نسأل: لماذا كان هذا محالاً؟ إذ ليس عندنا قانون يقول بأن ثبات الذات من الكمالات وتغيرها من النقص.

فلا بد أن يرجع تغير الذات المحال إلى نقص الذات واستكمالها بالصورة تلو الأخرى، فعملية رفع الجهل المتدرج بالعلم بالجزئيات المتغيرة، والاستكمال بالعلم بها هو المحال عليه تعالى. فالمحال هو نسبة الجهل إليه تعالى.

ولكن هذا الاعتراض وصل إلى نتيجة أنه تعالى لا يعلم بالجزئيات، فنسب الجهل إليه تعالى أيضاً، وهذا معناه أنه وقع فيما فرّ منه.

والجواب:

إن ما ذُكر وجيه في العلم الحصولي، إذ الحصولي يتم من خلال حلول صورة الموجود الخارجي في النفس، وهذا معناه أن الموجود الذي لم يوجد بعد، فلا صورة له حتى يحصل العلم به، فإذا وجد ووجدت له صورة حصل العلم به، فيحصل التغير في العلم وبالتالي في الذات.

أما إذا كان العلم حضورياً، بأن يحضر نفس الموجود، فالتغير لا يحصل

ص: 203

في الذات، إنما يحصل في المعلوم فقط.

وبعبارة أخرى: العلم الحصولي من قبيل الإرادة، وأما العلم الحضوري فهو من قبيل القدرة، ببيان: أن الصفات الحقيقية التي تطلب متعلّقاً – كالعلم الذي يحتاج إلى معلوم – بعضها ثابت ولا يتغير بتغيّر المتعلّق، كالقدرة، فإذا تغير متعلّقها – المقدور – فلا تستجدّ صفة جديدة، وبعضها تتغير بتغير متعلّقها، كالإرادة، فإرادة شرب الماء غير إرادة التعلم وغير إرادة السفر...

ومعه، فالعلم الحضوري بالجزئيات لا يؤول إلى استكمال الذات.

إشارة: العلم الذاتي والفعل

العلم عموماً – ومنه العلم بالجزئيات – له مستويان: قبل الإيجاد، وبعد الإيجاد، وبعبارة دقيقة: العلم منه ما هو صفة ذاتية، ومنه ما هو صفة فعلية...

والصفة الذاتية هي موجودة بوجود الذات، وبالتالي فهي قبل الإيجاد- ولا يعني هذا انتفاءها بعد الإيجاد(1)

فالعلم الذاتي هو صفة ذاتية، فهو عين الذات.

أما العلم الفعلي- بعد الإيجاد- فهو عين الفعل، أي يستخلص من الشيء بعد وجوده، فهو صفة لذلك الشيء المعلوم لا صفة للذات المقدسة.

إذا اتضح هذا نقول: إن أريد بالعلم بالجزئيات هو العلم الفعلي، فنسلم أنه يتغير، ولكن هذا لا إشكال فيه، لأنه عين الفعل، لا عين الذات. فالتغير

ص: 204


1- وهذا معناه أن (قبل الإيجاد) تعبير يريد بيان أن ما قبل الإيجاد موجود بوجود الذات وبتبعها، لا بوجود المعلوم، وأما (بعد الإيجاد) فيعني أنه موجود تبعاً لوجود المعلوم.

يحصل في الفعل لا في الذات.

وإن أريد العلم الذاتي، فهو لا يتغير بتغير الجزئيات، بل هناك علم ذاتي ثابت بحصول الجزئيات تدريجاً...

وهذا الجواب ليس ناظراً لكون العلم حصولياً أو حضورياً، وإنما يعتمد على أن التغير الحاصل في العلم إنما هو في العلم الفعلي، أما في العلم الذاتي السابق على الفعل فهو ليس متغيراً ولا متدرجاً.

الإشكال الرابع: إن العلم الذاتي يستلزم الجبر

إن علم الله تعالى بالأشياء هو قبل أن توجد، لعموم علمه تعالى، ولا يستثنى من ذلك حتى أفعالنا الاختيارية، وهذا يعني أن ما يعلمه الله تعالى لا بد أن يقع، وإلا انقلب علمه جهلاً.

وهذا أحد الأسس التي اعتمدتها نظرية الجبر.

والجواب:

العدلية ناقشوا بعدة مناقشات:

أولاً: صحيح أن عموم علمه تعالى يقتضي وقوع المعلوم، ولكن العلم لا يتعلق بالنتيجة فقط، وإنما يتعلق بالنتيجة مع أولياتها، فالعلم لا يتعلق بفعل الإنسان فقط، وإنما يعلمه مع مقدماته وأولياته، ومن مقدمات فعل الإنسان وأولياته هو الاختيار، وهذا العلم لا ينافي الاختيار، بل يتلاءم معه تماماً، فلا جبر.

ص: 205

ثانياً: الضرورة التي اُدّعيت في الفعل، إما أن يراد بها الضرورة السابقة على الفعل أو اللاحقة له(1).

فإن أريد الأولى فهو باطل، لأن تلك الضرورة السابقة على الفعل – المسماة بالوجوب بالغير- آتية من العلة التامة، والعلم ليس علة تامة للفعل، فليس الفعل ضرورياً بضرورة سابقة عليه.

وإن أريد الضرورة اللاحقة – المسماة بالضرورة بشرط المحمول – فهذا لا إشكال فيه، لأن كل وجود بعد وجوده يصبح وجوده ضرورة، ولكن هذه الضرورة:

1/آتية من الوجود، ولا علاقة لها بالعلم لا من قريب ولا من بعيد...

2/إن هذه الضرورة لا تتنافى مع الاختيار، لأن معنى الاختيار هو كون الفعل والترك متاحاً إلى أن يتحقق الفعل ويصدر، فإذا تحقق الفعل فلا مجال لوصفه بأنه اختياري أو لا، وعليه فالضرورة اللاحقة لا تتنافى مع الاختيار، لأنها تصف الفعل بعد أن يوجد، لا قبله. وكل فعل بعد أن يوجد فهو ضرورة بشرط المحمول.

وإن أريد من ضرورة الفعل ضرورة مطابقة الفعل للعلم الإلهي، فهذا مُسَلَّم، ولا بد أن يأتي الفعل مطابقاً للعلم الإلهي، ولكن العلم هنا تابع للفعل لا متبوع له. وذلك لأن العلم يكشف عن الفعل، لا أنه يوجده ويصوغه.

ص: 206


1- ولا يحتمل أن المراد هي الضرورة الذاتية، لأن الفعل ممكن بالاتفاق.

وبعبارة أخرى: أن الأفعال إن كانت غير اختيارية، فلا دور للعلم أبداً فيها، وإن كانت اختيارية، فلا ريب أنها تتقوم بمجموعة عوامل، منها العلم السابق، فالعلم أساس مهم لاتصاف الفعل بالاختياري، ولكن ما هي طبيعة دخالة العلم بالفعل الاختياري؟

إنها مجرد الكشف عن الفعل الاختياري فقط، أي يكشف عن الفعل الذي يريد المختار أن يقوم به، وهذا معناه: أن العلم تابع للفعل الاختياري، لأنه كاشف عنه، وإذا كان كاشفاً فلا يؤثر شيئاً في اختيارية الفعل. لأنه حينئذٍ ليس فاعلاً للفعل ولا يؤثر شيئاً في صياغته ووجوده.

إشارات صفة العلم
الإشارة الأولى: المادة هي سبب محدودية العلم

لاحظنا أن العلم الإلهي يحمل خصيصتين:

1 – العلمية، في قبال كونه جهلاً مركباً من الخطأ والسهو والنسيان. فعلمه تعالى علم مضمون الحقانية.

2 – العمومية، وهي أيضاً مقابل الجهل. أي لا يوجد واقع مجهول على الله تعالى. فهو علم عام.

ولاحظنا أن المدخل لإثبات حقّانية وعموم علمه تعالى هو تصوير تجرد العلم وكونه حضورياً...

وهذا يدل على أن محدودية علمنا في هذا العالم إنما هي بسبب المادة، فالمادة

ص: 207

هي التي جعلت من علومنا علوماً حصولية معرّضة للخطأ وغير مضمونة الحقانية، وهي التي شكّلت مانعاً من الإحاطة التامة بالواقع.

ومن هنا نرى أن العقل الحديث حاول التوفر على:

أ – العصمة والابتعاد عن الخطأ، وهو ما تنبئ عنه الدقة غير المتناهية للأجهزة الحديثة.

ب – التجرد والاقتراب من العمومية، وهو ما تنبئ عنه الأجهزة الدقيقة التي كشفت عن أشياء لا ترى بالعين المجردة.

ج - تقليص المسافات، وهو ما ينبئ عنه اكتشاف الفضاء الذي يبعد عنا آلاف بل ملايين السنين الضوئية..

ولكنه رغم ذلك، لم يصل إلى العصمة المطلقة أبداً، رغم دقة الأجهزة... والعائق هي المادة أيضاً... ولم يصل إلى العمومية، رغم تراكم الخبرة الإنسانية على طول تجربتها الحياتية... والعائق هو العائق ذاته...

إذن... البشرية تسعى لتقليل الأخطاء قدر الإمكان، وإلى تجاوز المعوقات ومعرفة الواقع في أكبر قدر ممكن منه، ولذا عملت على تخطي الزمن للوصول إلى تلك النتائج المرجوة...

ومع كل هذا فقد احتاجت إلى زمان طويل حتى تصل إلى ما وصلت إليه اليوم، وبقراءة كلية لتاريخها، نجد أنها مرت بإخفاقات كثيرة، وتخلّلتها بعض المشكلات إلى حدٍّ أنه ظهرت ظواهر عديدة كالحروب والإبادة

ص: 208

الجماعية والمعتقلات ومصادرة حقوق الآخرين، فليست حضارة اليوم هي حضارة من كل الإبعاد...

ولذا احتاجت إلى مؤسسات تعيد البشرية إلى رشدها، كمؤسسة الأمم المتحدة ولائحة حقوق الإنسان وجوائز نوبل للسلام... فالحضارة البشرية التي استغرقت آلاف السنين لم تخلص من الجانب الحيواني والعدواني...

إن الشعور الوجداني عند البشر بالحاجة إلى العصمة يوضح حاجة البشر إلى (معصوم)، مع ضرورة عدم اختزال معنى المعصوم في الظاهرة الدينية فقط، وإنما هو مشروع حضاري كامل من شأنه اختزال الزمن – من دون هدر الطاقات والأوقات- وتخليص الحضارة من وجهها الظالم والمستبد...

وهذا يعني: أن إدبار الأمة عن المعصوم يعني بدء مسيرة طويلة جداً نحو العصمة، ولكنها لا تصل من دونه...

الإشارة الثانية: دور البشرية في عملية التكامل

عندما نمزج بين العلم والقدرة والحكمة والوعد الإلهي – بعد الالتفات إلى عموم العلم والقدرة، والوعد الإلهي باستخلاف الصالحين الأرضَ – نحصل على مجموع مكوّر لو آمن به الشخص لعاش حالة إيمانية وشعورية بأن آلام الأمة ستنتهي مهما طالت، ومهما اشتد البلاء على المؤمن حسب درجته الإيمانية...

وبالتالي سيشعر المؤمن بالطمأنينة التامة، وإن عاش حالة من الآلام

ص: 209

والمصاعب... ولكن بالنتيجة ستنتهي هذه الآلام... والجولة ستكون لصالح المؤمن تنفيذاً للوعد الإلهي...

نعم، هذا يستغرق ردحاً من الزمن غير معلوم، ولكن المعلوم أكيداً هو أن النتيجة لصالح المؤمن... وفطنة الإنسان وتقواه والتزامه بالمبدأ له أقوى الأثر في تسريع الوصول إلى النتيجة، وهذا يعني: أن البشرية إذا لم تعمل بما أمرت به، فإنها ستتسبّب في تطويل المدة للوصول إلى النتيجة مدة غير معلومة، وربما تستغرقنا هذه الجولة آلاف السنين...

وبعبارة أخرى: أن هذا العالم عالم أسباب ومسببات، وهذا يعني ضرورة تدخل الأمة في عملية تسريع الوصول إلى النتيجة، والحكمة الإلهية وإن اقتضت كون النتيجة لصالح المؤمن، لكنها لم تقتض كون ذلك مبنياً على أسلوب (الاتكالية) البشرية، وإنما على أن للبشرية الدور الأهم في الوصول إلى تلك النتيجة المرجوة... وكلما قصرت الأمة في أداء دورها، كلما طال أمد الوصول إلى تلك النتيجة...

الإشارة الثالثة: الإيمان بعلم الله تعالى رادع عن المعصية

إن الإيمان بعلم الله تعالى المطلق والشعور بهذه الحقيقة ومعايشتها وجداناً... يوفر للإنسان رادعاً ذاتياً يمنعه من مواقعة المعاصي، بحيث لا يحتاج معه إلى رقيب خارجي منفصل...

وهذا الشعور يختلف من شخص إلى آخر، وفي الشخص الواحد من

ص: 210

وقت لآخر...

ولا شك أن استشعار واستحضار تلك الحقيقة باستمرار له دور مهم في تطوير ذلك الرادع الذاتي، ولا شك أن مطالعة حالات العظماء – كأمير المؤمنين (عليه السلام) – مع الله تعالى وكيفية تعاملهم مع حقيقة العلم الإلهي المطلق له دور في تطوير الشعور لدى المؤمن...

الإشارة الرابعة: صفات تلازم صفة العلم
اشارة

هناك صفات ثبوتية –ذاتية أو فعلية- تلازم صفة العلم، أو هي ترجع إلى صفة العلم، ومنها:

1/ السميع البصير

حيث فُسّرا بكونه تعالى عالماً بالمسموعات والمبصرات. لا أنه يسمع بآلة، للزومه الجسمية.

2/ الحكيم

حيث (عُرّفت الحكمة في أمّهات المصادر اللغويّة - مثل: العين، وصحاح اللغة، ولسان العرب، ومفردات الراغب، وغيرها - بأنّها تعني: «العلم»، و«معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم» (1)،

و«إصابة الحقّ بالعلم

ص: 211


1- النهاية، ابن الأثير، مادّة حكم، ج 1، ص119؛ لسان العرب، ج 12، ص140؛ المعجم الوسيط، مادّة: حكم، ج 1، ص190. [م]

والعقل» (1)، و«إتقان الأفعال» (2)، وما إلى ذلك. وعلى أيّ حال، فإنّ الفعل الحكيم هو الفعل الصادر عن مصلحة، المشتمل على هدف وغرض، وهو لا يتحقّق من دون علم مسبق)(3)

3/ (الإرادة) الذاتية

حيث فُسّرت بأنها (العلم بالنظام الأصلح في عالم الخلق)(4)

4/ القريب والأقرب

التي وردت في قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(5) وغيرها من الآيات، وقد (فُسّرت الأقربية بالعلم، أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد، ويكون معنى الآية: نحن أعلم به)(6)

5/ الخبير

في اللغة فعيل بمعنى فاعل من مادة (خبر) وهو يدل على علم، فالخبير

ص: 212


1- المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهانيّ، مادة: حكم، ص127. [م]
2- يُقال: أحكم الأمر؛ أي: أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد. انظر: القاموس المحيط، الفيروزآباديّ، ص1415؛ لسان العرب، ابن منظور، ج 12، ص 143؛ مختار الصحاح، مادّة: حكم، ص62. [م]
3- الكلام الإسلامي الجديد ج1 ص 184-185. وسيأتي الكلام فيها تفصيلاً إن شاء الله.
4- الكلام الإسلامي الجديد ج1 ص186. وسيأتي الكلام فيها تفصيلاً إن شاء الله.
5- سورة ق (16)
6- مفاهيم القرآن ج6 ص139.

بمعنى (عليم)(1)، وقد ذهب ابن الأثير(2)

إلى أنه العالم بما كان وبما يكون، وعارف بحقيقة الشيء...(3)

وقد روي هذا المعنى عن الإمام الرضا (عليه السلام) حيث قال: وَأَمَّا الخَبيرُ فَالَّذي لا يَعزُبُ عَنهُ شَيء ولا يَفوتُهُ، لَيسَ لِلتَّجرِبَةِ ولا لِلاِعتِبارِ بِالأَشياءِ، فَعِندَ التَّجرِبَةِ وَالاِعتبار عِلمانِ ولَولاهُما ما عُلِمَ ؛ لأَنَّ مَن كانَ كَذلِكَ كانَ جاهِلا، وَاللهُ تَعالى لَم يَزَل خَبيراً بِما يَخلُقُ، وَالخَبيرُ مِنَ النَّاسِ المُستَخبِرُ عَن جَهلِ المُتَعَلِّمِ، فَقَد جَمَعَنَا الاِسمُ وَاختَلَفَ المَعنى.(4)

6/ ذو العرش والكرسي

فقد فُسر العرش والكرسي بالعلم أيضاً، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ثم العرش في الوصل متفرد من الكرسي، لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، وهما جميعا غيبان، وهما في الغيب مقرونانلأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنه الأشياء كلها، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والأين والمشية وصفة الإرادة، وعلم الألفاظ والحركات والترك، وعلم العود والبدء، فهما في العلم بابان مقرونان لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي

ص: 213


1- معجم مقاييس اللغة: 2 / 239، المصباح المنير: 162.[هامش المصدر]
2- النهاية: 2 / 6.[هامش المصدر]
3- موسوعة العقائد الإسلامية- محمد الريشهري- ج 4- ص 201.
4- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1- ص 122 باب آخر وهو من الباب الأول الا ان فيه زيادة وهو الفرق ما بين المعاني التي تحت أسماء الله وأسماء المخلوقين ح 1.

وعلمه أغيب من علم الكرسي.(1)

7/ الشهيد، والشاهد

إن الشهيد مبالغة في الشاهد مشتق من (شهد)، وهو يدل على علم وحضور وإعلام.(2). (3)

فهذا الاسم أيضاً شعبة من العلم، وهو يُشير إلى حضور الله تعالى المطلق، بحيث لا يغيب عنه أي شيء من مخلوقاته، ومنه يُعلم (أن تقسيم الأشياء إلى الغيب والشهادة تقسيم نسبي إلينا، وأما بالنسبة إليه فالأشياء كلها مشهودات له، فلأجل ذلك يقول تعالى (أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(4).(5)

ويقول تعالى (واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(6)وقال تعالى (إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا)(7)

ومن هذا يُعلم ضعف ما قاله ابن الأثير من كون الشهيد هو المتعلق بالأمور الظاهرة، حيث قال: الشهيد هو الذي لا يغيب عنه شيء. والشاهد: الحاضر، وفعيل من أبنية المبالغة في فاعل، فإذا اعتبر العلم مطلقاً فهو العليم، وإذا أضيف إلى الأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة

ص: 214


1- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 321 – 322.
2- معجم مقاييس اللغة: 3 / 221.
3- موسوعة العقائد الإسلامية- محمد الريشهري- ج 4- ص 285
4- فصلت 53
5- مفاهيم القرآن ج6 ص288.
6- المجادلة 6
7- النساء 33

فهو الشهيد، وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على خلق يوم القيامة بما علم.(1)

تنبيه: تعابير قرآنية ترجع إلى العلم الإلهي.

هناك تعابير قرآنية ترجع في حقيقتها إلى كونها شعبة من شعب العلم والشهود والحضور الإلهي، فينبغي الالتفات إلى ذلك حتى لا نقع في التجسيم أو التحديد وما شابه، ومن ذلك:

أولاً: أنه تعالى مع كل أحد:

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)(2)

ثانياً: أنه تعالى في كل مكان:

قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(3)

وعن هذين التعبيرين روي عن عيسى بن يونس قال: قَالَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي بَعْضِ مَا كَانَ يُحَاوِرُه: ذَكَرتَ يا أَبا عَبدِ اللهِ فَأَحَلتَ عَلى غائِب: وَيلَكَ ! كَيفَ يَكونُ غائِباً مَن هُوَ مَعَ خَلقِهِ شاهِدٌ، وإِلَيهِم أَقرَبُ مِن حَبلِ الوَريدِ، يَسمَعُ كَلامَهُم ويَرى أَشخاصَهُم ويَعلَمُ أَسرارَهُم؟

ص: 215


1- النهاية: 2 / 513. 3.
2- الحديد 4
3- المجادلة 7

فَقَالَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ: أهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ ألَيْسَ إِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَكُونُ فِي الأَرْضِ وإِذَا كَانَ فِي الأَرْضِ كَيْفَ يَكُونُ فِي السَّمَاءِ؟

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): إِنَّمَا وَصَفْتَ الْمَخْلُوقَ الَّذِي إِذَا انْتَقَلَ عَنْ مَكَانٍ اشْتَغَلَ بِه مَكَانٌ وخَلَا مِنْه مَكَانٌ، فَلَا يَدْرِي فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَارَ إِلَيْه مَا يَحْدُثُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيه، فَأَمَّا الله الْعَظِيمُ الشَّأْنِ الْمَلِكُ الدَّيَّانُ فَلَا يَخْلُو مِنْه مَكَانٌ ولَا يَشْتَغِلُ بِه مَكَانٌ ولَا يَكُونُ إِلَى مَكَانٍ أَقْرَبَ مِنْه إِلَى مَكَانٍ.(1)

ثالثاً: عالم الغيب والشهادة، عالم الغيب، علام الغيوب، عالم غيب السموات والأرض:

كلها تشير إلى إحاطته تعالى وشهوده وعلمه.

رابعاً: القائم على كل نفس بما كسبت:

قال تعالى (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(2)

حيث فُسر هذا المعنى بأنه تعالى (المهيمن المتسلط على كل نفس، المحيط بها، والحافظ لأعمالها)(3)

ص: 216


1- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1- ص 125- 126 باب الحركة والانتقال ح3.
2- الرعد 33
3- مفاهيم القرآن ج6 ص377.
8/ اللطيف

في أحد تفسيراته، حيث يُفسر بأنه العالم بدقائق الأمور وغوامضها، أو من يعلم حقائق المصالح وغوامضها.(1)

9/ المحيط

الكلمة من الحوط، وهو الإطافة بالشيء، ويطلق الحائط على الجدار الذي يحوط بالمكان.

والمراد من (المحيط) كوصف لله تعالى أحد معنيين:

الأول: الإحاطة الوجودية، بمعنى أن وجوده تعالى محيط بكل وجود، ولا يوجد وجود يحيط به، فهو محيط غير محاط، فهو وجود مطلق غير محدود، وهذه الإحاطة مؤسسة على وجوب الوجود.

الثاني: الإحاطة العلمية، أي إنه تعالى قد أحاط بكل شيء علماً، فلا يعزب ولا يغيب عن علمه شيء أبداً، قال تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)(2)

10/ الواسع

في أحد تفسيراته(3)،

حيث فُسر بسعة علمه وعدم محدوديته، قال تعالى

ص: 217


1- مفاهيم القرآن ج6 ص 419 نقلاً عن الرازي في لوامع البينات ص 246.
2- الطلاق 12
3- وجاء أيضاً بمعنى سعة الرحمة، قال تعالى (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر 7] وقال تعالى (َاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف 156]

(إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)(1)وقال تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق 12]

ص: 218


1- طه 98
الصفة الثانية: القدرة
اشارة

إن البحث في هذه الصفة هو من المباحث الكلامية المهمة، والتي تترتب عليها الكثير من البحوث والثمرات، على مستوى الفكر والسلوك والمنهج، وقد استدلوا على إثباتها له جل وعلا بما يقرب من الأدلة التي تقدمت على إثبات صفة (العلم) له تعالى، ككونه تعالى واجب الوجود الذي اتصف بكل الكمالات الوجودية، ومنها القدرة، مما يعني أن عدم اتصاف الواجب بالقدرة يستلزم نسبة النقص والحاجة والعجز له، ووجوب وجوده ينفي كل تلك النقائص.

وأيضًا فإنّ الممكنات قادرة، فلا بد أن يكون هو تعالى قادراً، وإلا ففاقد الكمال لا يكون معطياً له. فضلاً عن أنه قد ثبت أن ذات الممكن فضلاً عن صفاته إنما هي له بالغير، فلا بد أن تنتهي صفاته إلى ما بالذات.

بالإضافة إلى إرشاد القرآن الكريم إلى ثبوت تلك الصفات في الكثير من الآيات الكريمة، قال تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(1) (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(2)وغيرها من الآيات الكثيرة في هذا المعنى.

ص: 219


1- البقرة 106
2- البقرة 148

وحتى تتضح الصورة نذكر عدة نقاط:

النقطة الأولى: التلازم بين القدرة والاختيار
اشارة

عندما نتابع الكتب الكلامية، نجد أن البحث في القدرة الإلهية ينجرّ تلقائياً إلى البحث في الاختيار الإلهي. فالمحقق الطوسي (رحمه الله تعالى) عنْون بحثه في هذه الصفة بقوله (في أنه تعالى قادر)(1)ولكنه

انتهى إلى أنه تعالى قادر مختار، بل نجده في استعراض شبهة الواسطة –كما سيتبين إن شاء الله تعالى- يصرح بالاختيار ويصبّ المحاولة ونقدها على هذه الصفة.

بل نجد أن العلامة الحلي عنْون بحثه في القدرة بعنوان: إنه تعالى قادر مختار.(2)

وهكذا عندما نتابع الكتب الكلامية الحديثة، نجد أن البحث في القدرة لا ينفكّ عن البحث في الاختيار، فهل القدرة والاختيار مترادفان أو متلازمان أو ماذا؟

والجواب:

لا بد لنا من الإلمام التصوري الصحيح بمعنى القدرة والاختيار حتى تتبلور صحة الانتقال من الحديث عن صفة القدرة إلى الحديث عن صفة

ص: 220


1- في كتابه تجريد الاعتقاد: المقصد الثالث: في إثبات الصانع تعالى، الفصل الثاني: في صفاته تعالى، المسألة الأولى: في أنه تعالى قادر.
2- النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر- العلامة الحلي- ص 31 الفصل الثاني في صفاته الثبوتية وهي ثمانية: الأولى: إنه تعالى قادر مختار

الاختيار، فنقول:

القدرة:

معناها السلطنة، وهي من الصفات التي تحتاج إلى متعلق، ومتعلقها: إما الفعل أو الترك.

وحتى تكون القدرة على الفعل أو الترك قدرة، فهي مشروطة بالقدرة على النقيض، بمعنى: أن القدرة لو تعلّقت بالفعل فقط، فلا يقال عنها إنها قدرة، إلا إذا كان هناك سلطنة على الترك.

فشرطُ اتصاف الفعل بأنه مقدور، هو اتصاف الترك بأنه مقدور، فهناك قدرتان، إحداهما تتعلق بالفعل، والأخرى بالترك، وكل منهما لا يتم إلا بالأخرى.

وبدون هذه السلطنة الثانية لا يكون الفاعل قادراً، بل يكون موجَباً.

وهذا هو فرق القادر عن الموجَب، فكلٌّ من الفاعل القادر والموجَب فاعلٌ للفعل، ولكن القادر له سلطنة على الطرف المقابل – فهو مسلَّط على فعله- دون الموجَب.

وبعبارة أخرى:

(إن نسبة الفعل إلى الفاعل لا تخلو عن أقسام ثلاثة:

1/ أن يكون ملازماً للفعل غير منفكّ عنه، كالنار بالنسبة إلى الإحراق.

2/ أن يكون ملازماً لتركه، فيكون ممتنعاً عليه، كالنار بالنسبة إلى البرودة.

ص: 221

3/ أن يكون الفاعل غير مقيد بواحد من النسبتين، فلا يكون الفعل ممتنعاً عليه حتى يتقيد المبدأ بالترك، ولا الترك ممتنعاً عليه حتى يتقيد بالفعل، فيعود الأمر في تعريف القادر إلى كونه مطلقاً غير مقيد بشيء من الفعل والترك)(1)

وهذا الثالث هو معنى القادر.

أما الاختيار:

فهي صفة واحدة، عبارة عن مجموع القدرتين: القدرة على الفعل والقدرة على الترك معاً.

وبذا اختلفت عن القدرة، إذ القدرة تتعلق بأحد الطرفين مشروطاً بالطرف الآخر، أما الاختيار فهي صفة واحدة تتعلق بكلا الطرفين.

ولذا يقال: إن القدرة أحادية المتعلق، وإن الاختيار ثنائيّ المتعلق.

ومعه، فالقدرة على الفعل صفة، والقدرة على الترك صفة أخرى(2)،

أما الاختيار فهي صفة واحدة من مجموع القدرتين معاً.

وبعبارة أخرى: أن الاختيار هي السلطنة على الفعل والترك معاً.، أما القدرة فهي السلطنة على الفعل بدليل القدرة على الترك.

وهذا يعني: أن هناك تلازماً وثيقاً بين القدرة والاختيار، يقترب من الترادف، ليفسر لنا دغم علماء الكلام بينهما في حديثهم.

ص: 222


1- مفاهيم القرآن، جعفر السبحاني ج6 ص 381.
2- وإن كانت كل واحدة مشروطة بالقدرة على الطرف الآخر كما تقدم.
إشارة: إطلاقات القدرة
اشارة

للقدرة ثلاثة إطلاقات:

الأول: القدرة مقابل الإكراه

والمُكرَه هو من توجد قوة أعلى منه تجبره على فعلٍ ما، ولا إشكال بين الإلهيين في كونه تعالى قادراً بهذا المعنى، إذ لا توجد قوة أعلى منه تعالى تجبره على فعل أي شيء، إذ هو خالق كل شيء.

وربما يُشير إلى أحد معاني هذا الإطلاق قوله تعالى ردّاً على اليهود المفوضة (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)(1)

الثاني: القدرة مقابل العجز

والعاجز هو من ليس عنده القابلية على إصدار فعلٍ ما، ولا خلاف أيضاً في كونه تعالى قادراً بهذا المعنى، فهو تعالى لا يعجزه شيء أبداً، وإليه أشار تعالى بقوله (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)(2)

وهذان الإطلاقان خارجان عن محل الكلام.

ص: 223


1- المائدة 64
2- فاطر 44
الثالث: القدرة مقابل الإيجاب

فالقادر هنا يرادف تقريباً المختار. وهنا محل الكلام، وبالدقة، فإن الخلاف إنما هو في تفسير معنى الاختيار الإلهي.

النقطة الثانية: الخلاف بين الحكماء والمتكلمين
اشارة

لا خلاف بين الحكماء والمتكلمين في أن الواجب يتصف بالقدرة، بمعنى أنه لم يُجبر من الخارج، ودليلهم على ذلك واحد، وهو أنه لا خارج أسبق منه حتى يجبره. واللاحق له معلوله، فلا يعقل أن ينقلب علة له.

وكلٌّ منهم سعى لإثبات هذه الصفة الذاتية له تعالى. فليس هناك من يقبل هذه الصفة وآخر ينكرها.

وكذلك اتفقوا على مبدأ الحدوث للعالم (ما سوى الواجب تعالى)، وإلا لصار العالم واجباً! واتفاق الشرائع السماوية على حدوث العالم يؤيد هذا المعنى.

نعم، اختلفوا في تصوير هذا الحدوث وكونه ذاتياً (للحكماء) أو زمانياً (للمتكلمين). أو اتفقوا على كونه زمانياً ولكن اختلفوا على تفسيره.

وإنما كان خلافهم في صغرى محدّدة، أصرّ على إثباتها الحكماء ونفاها المتكلمون بشدة، وهي (الممكن القديم)(1)

فهذا العالم، هل هو موجود من الأزل بوجود علته التامة التي هي

ص: 224


1- تقدمت الإشارة إليه في برهان الحدوث.

الواجب تعالى، رغم كونه معلولاً للواجب؟ فيكون معنى حدوثه حينئذٍ هو كون وجوده ليس ذاتياً له بل هو مستمد من الغير؟

وهذا ما أصرّ عليه الحكماء، حتى مَن قَبِل منهم حدوث العالم زمناً، بيْد أنه فسّره بما ينسجم مع أزلية الممكن وعدم مسبوقيته بالعدم خارجاً.

أم أن وجوده متأخر زمناً عن وجود علته التامة، فليس وجود العالم أزلياً،(1)

بل إنه لم يكن ثم كان، أما العلة فوجودها أزلي؟

وهذا ما أصر عليه المتكلمون.

وكل من الفريقين كان يروم من التزامه برأيه الحفاظ على التوحيد في زاوية من زواياه، لما رأى من الآخر ما لا يتلاءم مع التوحيد.

فالحكماء قالوا:

مع فرض تمامية العلة، فإن نفْي قِدَم العالم يستلزم نسبة النقص وسلب الكمال عن العلة (الواجب تعالى)، إذ إنه مع تمامية العلة فلماذا لم يصدر المعلول (العالم)؟

إن هذا يعني عدم تمامية العلة، وهو ينافي ثبات الواجب وعدم تغيره، وهو ينافي التوحيد، أو نقول بالجزاف (عدم الترجيح مع وجود المرجح)،

ص: 225


1- علماً أن الفريقين اتفقوا على نفي ضرورة سبق العلة زمناً على المعلول، إذ ليس ذلك من شروط تحقق العلية. نعم، المهم هو السبق الرتبي، إلا أن الحكماء يدّعون عدم السبق الزمني بين الواجب والعالم، والمتكلمون أصرّوا على السبق الزمني علاوة على الرتبي، وبمعنى وجود فترة كان الواجب تعالى موجوداً، وكان العالم غارقاً في العدم.

وهو ينافي التوحيد أيضاً.

ولذا فإنه يجب صدور المعلول عند تمامية علته. (وهذا هو مفاد قاعدة الوجوب بالغير التي استند إليها الحكماء في مقولتهم.)

والمتكلمون قالوا: إن تصوير العالم قديماً يستلزم سلب القدرة عنه تعالى على وجود العالم وعدمه، وهو ينافي التوحيد.

بالإضافة إلى أنّ ظاهر الحدوث الذي اتفقت عليه الشرائع هو الحدوث الزماني، فقول المتكلم لم يخرج عن حرم النص الشرعي!

مناقشة المتكلمين في قاعدة الوجوب بالغير الفلسفية

ومن هنا حاول المتكلمون مناقشة قاعدة الوجوب، فقالوا:

إن قاعدة الوجوب تؤدي إلى نفي قدرة الواجب ووصفه بالعجز عن (عدم إيجاد العالم)، وبالمقابل الاضطرار إلى وجوده.

بمعنى أنه نسأل: مع تمامية العلة هل يقدر الواجب على عدم إيجاد العالم أم لا؟

على الأول يلزم رفض قاعدة الوجوب.

وعلى الثاني يلزم نفي القدرة عن الواجب ووصفه بالعجز.

وحيث إن الثاني مرفوض بالاتفاق، فلا بد من التنازل عن قاعدة الوجوب، وأن العلة وإن كانت تامة من الأزل، إلا أنها لم توجِد من الأزل، بل بعد العدم، وهذا يلزم منه الحدوث الزماني للعالم، وهو المطلوب.

ص: 226

وبعبارة أخرى: أن الالتزام بقاعدة الوجوب يلزم منه نفي القدرة (التي هي صحة الفعل والترك معاً كما تقدم)، مما يعني كون الواجب موجَباً (بالفتح) على إيجاد العالم.

فعدم تخلف المعلول يعني: أن العلة غير قادرة على الطرف المقابل لإيجاد العالم، فتنتفي القدرة على الطرف الأول أيضاً، وهي سمة الموجَب.

جواب الحكيم عن هذا الإشكال:

إن القول بقاعدة الوجوب لا يلزم منه نفي القدرة، واللازم الذي ذكره المتكلم إنما يلزم لو كان العالم صادراً بدون إرادة من الواجب، ولكننا نقول:

إن صدور العالم كان بإيجاب من الواجب، والإيجاب الصادر من الواجب – والذي هو حيثية من حيثيات العلة التامة- لا ينافي القدرة والاختيار، فهو الذي أوجب صدور العالم، ولا مانع من ذلك.

وفرض تمامية العلة لا يتلاءم مع إمكان عدم صدور المعلول، إذ عدم صدوره يعني عدم تماميتها، وهو خلف.

هذا ويمكن للمتكلم أن يقول:

بعيداً عن الاصطلاحات، فإن العلة وإن كانت هي التي أوجبت صدور المعلول وألزمت نفسها بذلك، ولكن يبقى مفاد قاعدة الوجوب هو عجز العلة عن عدم الإيجاد، للاضطرار إلى إيجاده بحكم تماميتها! فلا بد من التنازل عن قاعدة الوجوب.

ص: 227

وباختصار، كان رهان الحكيم على وضع فرق بين الموجِب والموجَب، وأن الثاني يتنافى مع الاختيار، وأما الأول فهو نتاج الاختيار، بينما المتكلم لاحظ أن الموجِب موجَب في المحصلة، فهو مسلوب القدرة...

مقاربة للمحقق الطوسي (رحمه الله تعالى)

مقاربة للمحقق الطوسي (رحمه الله تعالى)(1):

للمحقق الطوسي رحمه الله تعالى مقاربة في هذا المجال ذكرها في التجريد، وحاصل ما أفاده هو التالي:

قال الحكيم: إن وجود المعلول دائر بين الإيجاب والامتناع، إذ إنه:

أ / مع فرض تمامية العلة واستكمال جميع عناصر التأثير، فإنه يجب وجود المعلول، وعدم وجوده يرجع إما إلى عدم تمامية العلة – وهو خلف-، وإما إلى الترجيح بلا مرجح، بل إلى ترجيح المرجوح، إذ إن فرض تمامية العلة يعني أن الراجح هو الوجود، فعدم الوجود – لو كان- يعني ترجيح المرجوح.

ب / أما مع عدم استكمال العلة لجميع عناصر التأثير، فإنه يمتنع حينئذٍ صدور المعلول.

وقال المتكلم: إن فرض وجوب صدور المعلول ينفي قدرة العلة على عدم الإيجاد، وهو محال، فلا بد من رفض قاعدة الوجوب.

وهنا جاء المصنف وقدّم المقاربة التالية بين تعريف القدرة الكلامي وبين

ص: 228


1- قال (رحمه الله تعالى) ما نصه: ويمكن عروض الوجوب والامكان للأثر باعتبارين.

قاعدة الوجوب واستحالة انفكاك المعلول عن علته التامة، فقال:

يمكننا أن نلحظ المعلول بلحاظين:

فبلحاظ نسبته إلى علته التامة المستكملة لجميع عناصر التأثير، والتي منها: إرادة العلة لوجود معلولها، فإن صدور المعلول حينئذٍ يكون واجباً.

وبلحاظ نسبته إلى ذات العلة – بغض النظر عن عناصر التأثير التي منها الإرادة – فالفعل ممكن الوجود لا واجب.

وبذا أمكن إيجاد مصالحة بين الطرفين، فالقائل بإمكان تخلف المعلول عن علته يصح قوله بلحاظ نسبة المعلول إلى ذات العلة.

والقائل بقاعدة الوجوب يصح قوله بلحاظ نسبة المعلول إلى العلة التامة، ووجوب المعلول بإيجاب وبإرادة العلة لا ينافي قدرتها، ما دام هذا الوجوب قد جاء نتيجة إرادة العلة، تماماً كما أن الوجوب اللاحق للمعلول (والمسمى بالضرورة بشرط المحمول) لا يتنافى مع قدرة واختيار العلة.

إشكال آخر في المقام:

هذا إشكال آخر لصالح قاعدة الوجوب الفلسفية على تعريف المتكلمين للقدرة بأنها صحة الفعل والترك، وحاصله:

إن الفعل لا يمكن أن يوصف بالإمكان، بل هو إما واجب أو ممتنع، فلو كانت القدرة بمعنى الإمكان، فلا قدرة في البين، ببيان:

إن الأثر المعلول – في لحظة وصفه بأنه مقدور وممكن – هو إما موجود

ص: 229

وحاصل في الحال، فهو إذن واجب الوجود – بالغير – فلا إمكان، فلا قدرة. وإما أن يكون في تلك اللحظة معدوماً، فهو ممتنع الوجود – بالغير – فلا إمكان، فلا قدرة.

إذن، في لحظة وجوده لا يمكن أن يكون معدوماً، وهكذا بالعكس، حيث يلزم اجتماع المتناقضين.

وقد أجاب المحقق الطوسي (رحمه الله تعالى) عن هذا الإشكال بما حاصله

وقد أجاب المحقق الطوسي (رحمه الله تعالى) عن هذا الإشكال بما حاصله(1):

هذا صحيح، ولكن مع ذلك يمكننا تصوير إمكان الفعل بلحاظ المستقبل. فالفعل وإن كان موجوداً وواجب الوجود الآن، ولكن بلحاظ الزمن الاستقبالي فإن الفاعل قادر على إعدامه، فيكون بلحاظ ذلك الزمن ممكن الوجود، وهذا هو معنى القدرة.

وبعبارة: أن متعلق القدرة (أي المقدور) هو الفعل المقدور الاستقبالي في ظرف الاستقبال، ولكن القدرة على ذلك الفعل موجودة من الآن، فالقدرة الآن ذاتية وصفة الفعل استقبالية.

والخلاصة: أن الفعل بلحاظ الزمن الحالي واجب بالغير(2)،

وبلحاظ الزمن الاستقبالي ممكن الصدور.

ص: 230


1- أشار إليه بقوله: واجتماع القدرة على المستقبل مع العدم.
2- بلحاظ الآن الحالي، فإن الفعل إما واجب الوجود أو ممتنع. وإلا للزم اجتماع النقيضين، باعتبار أنه في لحظة وجوده لا يمكن إعدامه، وفي لحظة عدمه – لو صح التعبير – لا يمكن وجوده، فلا يكون في آن واحد موجوداً ومعدوماً.

والحاصل:

أنه تلخص من جواب الإشكالين الأخيرين أن المحقق الطوسي (قدس سره) حاول المصالحة بين مقولتي الحكماء والمتكلمين من خلال الخروج عن إطلاق كلتا المقولتين إلى تحييثهما، بالبيان التالي:

1- أن المعلول يجب وجوده بلحاظ نسبته إلى علته التامة المستكملة لجميع شرائط التأثير والعلية- بما في ذلك العلم والاختيار للفعل – (الحكماء).

وهو ممكن الوجود بلحاظ نسبته إلى ذات علته (المتكلمين).

2 – أن المعلول واجب الوجود بلحاظ نسبته إلى الزمن الحالي (الحكيم).

وممكن الوجود بلحاظ نسبته إلى الزمن الاستقبالي (المتكلم).

تفريع: إشكالات أخرى وأجوبتها
اشارة

تفريع: إشكالات أخرى وأجوبتها(1)

الإشكال الأول: افتراض الواسطة

لنفرض أن علة العالم مختارة، ولكن لنفرض أنها ليست هي الواجب، بل

ص: 231


1- إشارة: للخلاف أنواع: فمنه ما يكون منتهياً إلى نتائج متناقضة، كالاختلاف بين الموحد والملحد، فواحد ينتهي إلى الاعتقاد بالله تعالى، والآخر يعتقد بعدم وجوده تعالى أو بالشرك. ومنه ما تكون نتائجه متفقة، ولكن الاختلاف هو في صحة الدليل الموصل إلى تلك النتيجة وعدم صحته، ومن هذا القبيل الكثير من الخلافات الفقهية والأصولية والتفسيرية. حيث ينحصر الخلاف في تصويب دليل وتخطئة آخر، وهو خلاف عقيم وغير منتج. ومنه ما تكون نتائجه متفقة، ولكن الخلاف في أن أحد أطراف الخلاف يدّعي أن الدليل المستعمل للوصول إلى تلك النتيجة لو تابعناه بدقة لوجدناه يوصل إلى نتيجة مناقضة للمطلوب. فالخلاف هنا هو في إنتاج الدليل وعدم إنتاجه. وهو الذي رأيناه في الخلاف بين الحكماء والمتكلمين حول القدرة. فالمتكلم يقول: إن دليل الحكيم لا يوصل إلى نتيجة أن الواجب تعالى قادر، بل أنه ينتهي إلى سلب القدرة عنه تعالى، والمتكلم يقول نفس الكلام على الحكيم. علماً أن مضاعفات هذا النوع من الاختلاف- بعد الاتفاق على إثبات القدرة له تعالى – ليست كالاختلاف على النتيجة، فالاختلاف على حرية الإنسان واختياره يعطي نتائج معاكسة، بينما مع الاتفاق على الحرية فالنتائج واحدة، حتى ولو أخفق أحد الطرفين في تصوير الحرية والاختيار بما يراه الآخر أنه تصوير لا ينتهي إلى الاختيار، بل ما زال يلف في دائرة الجبر.

هي معلولة للواجب وهو موجب، فهي واسطة مختارة بين الفاعل الموجب وبين العالم، والدليل لا ينفي هذا.

والجواب:

هذه الواسطة، لا تخلو من أحد احتمالين:

أما أن تكون حادثة، فهي من مفردات العالم الذي يعني كل ما سوى الواجب.

وأما أن تكون قديمة، والمفروض أنه لا قديم سوى الله تعالى.

الإشكال الثاني

إن مؤدى تعريف المتكلم للقادر بأنه من إذا شاء فعل وإذا شاء لم يفعل هو احتياج العدم إلى علة وفاعل، لأنه قال (وإن شاء لم يفعل)، والحال أن العدم هو لا شيء، فلا يحتاج إلى فاعل البتة. ولذا قيل: لا تمايز في الأعدام.

وما دام العدم لا يحتاج إلى علة، فلا تتعلق به القدرة، وهذا يعني أن تعريف المتكلم ينتهي إلى أن القادر هو من له قدرة على الفعل فقط، فلا قدرة

ص: 232

حينئذٍ، باعتبار أن القدرة هي إمكان الفعل والترك، وحيث إن العدم غير مقدور – من باب السالبة بانتفاء الموضوع-، فتبقى العلة فاعلة للفعل فقط، فيكون الفعل ضرورياً لا ممكناً.

أما الحكيم فقد عرف القادر بأنه (إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل)، وهو يتلاءم مع كون العدم لا يحتاج إلى أكثر من عدم المشيئة.

وأجيب عنه(1):

إن ما قيل صحيح، ولكن تعبير المتكلم بقوله (وإن شاء لم يفعل) لا يقصد منه أن العدم يحتاج إلى علة، كلا، بل هو يتفق مع الحكيم في أن العدم لا يحتاج إلا لعدم المشيئة، ولكن صدر منه هذا التعبير مسامحة، تماماً كما عبّر الحكيم مسامحة وقال (عدم العلة علة لعدم المعلول).

وهذا القدر كافٍ في نسبة الفعل إلى فاعله بالإمكان بعد أن كان قادراً على أن لا يفعله... وليس شرطاً في القدرة على الفعل القدرة على فعل العدم، بل يكفي القدرة على عدم الفعل.

إشارة:

1/ لا ريب أن الله تعالى علة تامة للعالم، واجدة لكل عناصر التأثير ومن الأزل، بدليل أنه لو لم يكن كذلك – بمعنى أنه لو كان علة ناقصة وتتم فيما بعد – للزم التغير في الذات المقدسة، وهو محال، لأن الذات المقدسة ثابتة

ص: 233


1- أشار المحقق الطوسي رحمه الله تعالى لجوابه في التجريد بقوله (وانتفاء الفعل ليس فعل الضد).

وليست محلاً للحوادث.

2 /المعلول:

إن قلنا: إنه يأبى الوجود من الأزل، وإنه ممتنع في الأزل ومسبوق بالعدم خارجاً قبل أن يوجد خارجاً، فبحكم كونه معلولاً يمتنع أن يكون وجوده غير متناهٍ من طرف البداية (أي من الأزل).

فهنا لا مشكلة في فرض تمامية العلة من الأزل وبين حدوث المعلول زمناً، إذ الفاعل وإن كان تام الفاعلية من الأزل، ولكن المعلول لا قابلية له للوجود من الأزل، فنقص العلة ليس من طرف الفاعل بل من طرف القابل.

وإن قلنا: إنه لا مشكلة في وجود المعلول من الأزل، بحيث لا يلزم التناقض من فرض وجوده من الأزل وكونه معلولاً. فهنا لا مشكلة في فرض قدم المعلول زمناً، وجوده بوجود العلة، مع حفظ معلوليته للعلة وانحطاط رتبته عن رتبتها.

وهذا هو الذي بنى عليه القائل بقاعدة الوجوب بالغير. (ولكن هناك مشكلة من موقع آخر كما سنرى).

3 / قد تعرفنا على مباني كل من المتكلمين والحكماء، وهنا تعليق:

لكي يكون الحل المطروح لأي مشكلة موضوعياً، فلا بد أن يكون متوازناً بحيث يعطي صورة خالية من أي خلل، وفي المقام، لابد من إعطاء حلٍ يتناسب مع التوحيد وما يلازمه من معانٍ. فمن أراد الحفاظ على القدرة

ص: 234

الإلهية لابد عليه أن لا يتنازل عن الحكمة الإلهية. والعكس بالعكس.

وعليه نقول:

أ / أما بالنسبة للحكيم الذي قال بقاعدة الوجوب، فلكي نقبل مقولته لابد عليه أن يقدم لنا تصويراً صحيحاً وواضحاً لعدم تخلف المعلول عن علته التامة زمناً، بحيث لا يخل ذلك بالقدرة الإلهية، بمعنى أنه لابد عليه أن يصور لنا سلطنة الفاعل على التراجع عن الفعل حتى آخر لحظة قبل صدور الفعل.

ومحاولة الحكيم – من أجل الحفاظ على اختيارية الفاعل مع أزلية المعلول- بتصوير الفاعل الموجَب والموجِب، وإن كانت صحيحة، ولكن الموجِب بالنتيجة –وحسب المتكلم- يرجع إلى الموجَب، بمعنى أنه مسلوب الإرادة، لأنه لا يمكنه التراجع عن الفعل في اللحظة الأخيرة.

وعليه، فإن استطاع الحكيم تصوير اختيار الفاعل حتى آخر لحظة قبل صدور الفعل، أمكن حينئذٍ قبول قاعدة الوجوب، وإلا فلا بد من التنازل عن أزلية المعلول.

ب / وأما بالنسبة للمتكلم الذي قال بأن القدرة هي صحة الفعل والترك، وبعدم إمكان تطرق الحوادث للذات المقدسة، وأن العلة تامة، والمعلول (العالم) حادث زمناً، فنقول له:

نحن نقبل فكرة حدوث العالم زمناً، لكن بشرط أن لا توصلنا هذه

ص: 235

الفكرة إلى فكرة الترجيح بلا مرجح أو الجزاف، إذ إنه مع كون العلة تامة من الأزل بجميع شرائطها – التي منها العلم بالمصلحة في الفعل والإرادة – ومع كون القابل تام القابلية نسأل: لماذا لم يصدر العالم؟ إن عدم صدوره يعني إما الترجيح بلا مرجح، بل ترجيح المرجوح، أو يعني الجزاف، وكلاهما محال على الذات المقدسة، لأنه ينافي الحكمة الإلهية، وبالتالي يلزم المنافاة مع التوحيد.

فلكي نقبل مقولة المتكلم، عليه أن يقدم لنا تصويراً لحدوث العالم زمناً، رغم تمامية علته بجميع شرائطها لا يتنافى مع الحكمة الإلهية.

النقطة الثالثة: خصائص القدرة الإلهية
اشارة

هناك عدة خصائص للقدرة الإلهية، نذكر منها التالي:

الخصيصة الأولى: سعة القدرة الإلهية
اشارة

بحكم أن الله تعالى هو خالق كل شيء، والخلق يستلزم القدرة، فلا بد أن تكون القدرة عامة لكل مخلوق ومقدور(1).

فعموم العلة (الخلق) يستلزم عموم الصفة (القدرة). فما دام هو تعالى خالق كل شيء، فهو القادر على كل شيء.

ص: 236


1- أما الممتنع بالذات فلا تتعلق به القدرة لا لنقص في الفاعل، بل لنقص في القابل، على حد تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما قيل له: هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون. ((بحار الأنوار ج 4- ص 143))

وبعبارة أخرى:

إن عموم القدرة فرع أمرين:

الأمر الأول: إن الفاعل تام الفاعلية، أي إن المقتضي للفعل تام من جهته، وهذا الأمر متوفر في الواجب جل وعلا.

الأمر الثاني: إنه لا مانع يمنع من تحقق القدرة في الخارج، إذ المانع المتصور هو أحد أمور:

أولاً: المانع الذاتي، بأن يكون الشيء في نفسه ممتنع الوجود، كشريك الواجب.

وعدم تعلق القدرة به لنقص فيه لا لنقص في الفاعل (وستتبين هذه النقطة أكثر في الخصيصة الثانية إن شاء الله تعالى)

ثانياً: المانع العرضي، بأن تكون هناك قدرة معارضة لقدرة الفاعل تمنع من تحقيق فعله وتفعيل قدرته، وهذا المانع لا يُتصور في قدرة الباري جل وعلا، إذ الفرض أن كل ما دونه ممكن الوجود، فلا يمكن أن يعارضه، فإن قدرة الممكن مستمدة من قدرة الواجب، وفرع عنها، فكيف يمكن أن تعارضها.

ثالثاً: عدم تمامية الفاعل، وقد عرفنا في الأمر الأول أن الفاعل جل وعلا تام الفاعلية، إذ هو الغني المطلق الذي لا يعجزه شيء.

فإذن، القدرة الإلهية عامة لكل شيء، إذ المقتضي للعموم موجود، والمانع

ص: 237

عنه مفقود.

وبعبارة أخرى: حيث إنه تعالى لا محدود، فكذلك صفاته التي هي عين ذاته، ومنها القدرة.

من قال بتحديد القدرة(1)؟

ويقابل هذا الرأي آراء عديدة(2)، منها:

1 / الفلاسفة:

حيث ذهبوا إلى أن القدرة الإلهية تتعلق بالمعلول الأول فقط، دون ما يليه من المعلولات، وكان ذلك منهم نتيجة التزامهم بقاعدة الواحد المشهورة.(3)

2/ المجوس:

قالوا: هناك مبدآن، مبدأ للخير، وهو الله تعالى، ومبدأ للشر، وهو حادث، وهو الشيطان. فالقادر على الشر وخالقه هو الشيطان.

ص: 238


1- تنظر الآراء الآتية في: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلي- الفصل الثاني: في صفاته تعالى- المسألة الأولى: في أنه تعالى قادر.
2- وبالتدقيق فيها نجد أنها حاولت الحرص على التوحيد وعدم نسبة شيء فيه نقص إلى الله تعالى، فخصصت القدرة لذلك.
3- إن نسبة هذا الكلام إلى الفلاسفة القائلين بقاعدة الواحد فيها تأمل، إذ إن منهم من قَبِل أن الفاعل المباشر لكل عالم الوجود هو الله تعالى، فلا مؤثر في الوجود بتمام معنى الكلمة إلا الله تعالى. ومن هؤلاء صدر المتألهين. ومنهم من لم ينكر فاعلية الله تعالى للأشياء، بل أنكر الفاعلية المباشرة للأشياء جميعاً، وخصّ المباشرة بالصادر الأول. وحتى من قال بالواسطة (التي هي الصادر الأول) بين الله تعالى وبين ما عدا الصادر الأول، فإنه قال بذلك لا لنقص في الفاعل، بل لنقص في القابل، إذ الموجودات الضعيفة تأبى عن تلقي الفيض الإلهي مباشرة، فلا بد من تخفيف هذا الفيض بواسطة الصادر الأول.

3 / الثنوية – أو المانوية على اختلاف النسبة-:

قالوا: إن مبدأ الخير هو النور، وهو الله تعالى. ومبدأ الشر هو الظلمة. وهو مبدأ قديم.(1)

4 / النظّام:

قال: إن الله تعالى لا يقدر على القبيح، إذ القبيح يدور أمره بين الحاجة والجهل، وهما ممتنعان في حق الله تعالى.

5 / البلخي:

قال: إن الله تعالى قادر على كل شيء إلا أفعال البشر الاختيارية، لأنها لا تخرج عن الطاعة أو المعصية، وهما لا ينسبان إلى الله تعالى. إذ لا معنى لطاعته تعالى لنفسه أو معصيته لها.

6 / الجبائيان:

قالا: إن الله تعالى يقدر على كل شيء إلا على فعل العبد، لأن الله تعالى لو لم يرد الفعل الذي أراده العبد، لاجتمع الضدان على فعل واحد، ولا معنى لتغلّب إرادة الله تعالى على إرادة العبد، للزومه الجبر، والفرض أن العبد مختار.

ص: 239


1- فرق هذا الرأي عن سابقه هو: أن المجوس قالوا: إن خالق الشر هو حادث مخلوق، وحيث إن الحادث لا بد أن ينتهي إلى القديم، فقولهم ينتهي إلى نسبة الشر إلى الله تعالى. فكأن الثنوية التفتوا إلى هذا الأمر فقالوا بقدم مبدأ الشر وهو الظلمة حتى لا ينتهي إلى الله تعالى.

وفي مقام الجواب نقول:

هنا خطوتان:

الخطوة الأولى: تأسيسات

1/ إن تصريح القرآن الكريم والسنة الشريفة واضح جداً في عموم القدرة، فمخالفة هذا الأمر الثابت أمر غير منهجي.

2/ليس للإنسان في وجوده إلا الفعل الاختياري(1)،

أما الآلات ومقدمات الفعل فخارجة عن اختياره، وهذا الاختيار هو الذي دار عليه الثواب والعقاب، علماً أنه متوقف على العلم، و العلم من الله تعالى أيضاً.

3 / كثير من الذين حدّدوا في قدرة الله تعالى لم يستطيعوا أن يفهموا التحليل الصحيح للأفعال الصادرة من الإنسان، إذ للفعل الإنساني جنبتان:

جنبة كونه وجوداً من الوجودات، وهذا يمكن نسبته إلى الفاعل الحقيقي – الله تعالى – كوجود مجرد عن أية صفة أخرى، فلا يوصف بالخير أو الشر أو العدل أو الظلم أو غيره من الصفات.

وجنبة كونه فعلاً اختيارياً للإنسان، وهذا الاختيار هو الذي يصبغ الفعل بألوان متعددة، ففعل فيزيائي واحد ربما يجعله الاختيار أمراً راجحاً ومرغوباً فيه، وربما يجعله أمراً تكاد السموات يتفطرْنَ منه والجبال!

فصبغة كونه خيراً أو شراً هي نتيجة كونه اختياراً للإنسان، لا نتيجة

ص: 240


1- على خلاف في أنه مجرد معد لهذا الفعل الاختياري أم فاعل بالغير.

كونه فعلاً وجودياً منسوباً إلى الفاعل التام – الله تعالى-.

وكمثال على ذلك نأخذ الشر(1)، فالشر في الحقيقة ما هو إلا عدم(2)، ولمّا كان بناء عالم الدنيا على التزاحم والتضاد ومحدودية الفرص، كان الإنسان بين أن يلتزم بما رسمه الله تعالى له من القوانين، فلا يتصادم مع غيره ولا يقع الكل في الحرج، ولا يخرجون عن الحق، وبين أن يحاول تخطّي الحدود الإلهية، مما يتسبّب في أخذ حق الغير، أي مما يسبّب حرمان الغير من بعض حقوقه وفرصه الوجودية، وهذا الحرمان هو الذي ندعوه بالشر. فهو في حقيقته أمر عدمي لا وجودي، وأتى نتيجة فعل اتصف بالاختيار الإنساني، لا نتيجة فعل انتسب إلى الله تعالى. فالشر لا ينسب إلى الله تعالى حتى نحتاج إلى تحديد القدرة الإلهية بما عدا الشر – كما فعل المجوس مثلاً-.

إذن، نفس الفعل ليس شراً، إنما اختيار لون الفعل وصفته هو الشر، وهذا نتيجة اختيار الإنسان.

الخطوة الثانية: الجواب عن كل ما تقدم

إن ما ذكر من تحديد للقدرة يصح لو كان معنى القدرة هو صدور الفعل فعلاً. أما وقد قلنا: إن القدرة هي بمعنى الإمكان الصدوري، والإمكان متوفر في جميع الأفعال، إذن يكون التحديد بما ذكر في غير محله.

فالشر والظلم والقبيح ليس خارجاً عن قدرة الله تعالى بهذا المعنى –

ص: 241


1- والتفاصيل تأتي في مباحث العدل الإلهي إن شاء الله تعالى
2- وكونه أمراً عدمياً لا ينافي العقوبة عليه، إذا وقع عن اختيار.

الإمكان-، وإنما لم تصدر منه تعالى لمكان حكمته التي تأبى صدور مثل هذه الأفعال عنه تعالى. تماماً كما يقال في العصمة، فهي لا تمنع المعصوم من صدور المعصية تكويناً، إنما بإرادته لا يفعل المعصية.(1)

ص: 242


1- هذا جواب إجمالي، وأما الجواب التفصيلي (ويمكن مراجعة كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلي- الفصل الثاني: في صفاته تعالى- المسألة الأولى: في أنه تعالى قادر.) فأن يُقال: أ / رد مقولة المجوس: يمكن تقرير شبهة المجوس بتقريرين: التقرير الأول: إن في العالم خيراً وشراً، وقانون المسانخة يقتضي أن يكون بين الفعل وفاعله مسانخة، وقانون الواحد يقتضي أن لا يصدر عن الواحد إلا واحد. فلو كان المبدأ الواحد الحقيقي خيّراً وشرّيراً، لما كان هناك مسانخة بين الفعل وفاعله، لأن الشر لا يسانخ الخير، فكيف يصدران عن فاعل واحد، بالإضافة إلى مخالفة هذا الصدور لقانون الواحد. وجوابه: إن المحال هو أن يكون فاعل واحد غالب الخير وغالب الشر، أما أن يكون غالب الخير قليل الشر فلا مشكلة فيه. وقد أُشكل على هذا الجواب: إن فكرة الغلبة والقلة لا تحل شبهة المجوس، باعتبار أن شبهتم كانت في أصل صدور فعلين غير متسانخين عن فاعل واحد، فهما وإن كانا أغلب وأقل، ولكنهما يبقيان فعلين متضادين لا يمكن صدورهما عن فاعل واحد. ولو سلم، فكون شره قليلاً لا ينفي اتصافه بالشرير! التقرير الثاني: إن الله تعالى خير محض، فلا يمكن أن يصدر عنه الشر، لأن فاعل الشر شرير بقانون السنخية. فلا بد من إسناد الشر إلى الظلمة. وجوابه: هذا صحيح لو لم يكن الشر نسبياً، أما وإنه نسبي فلا يتم، باعتبار أن الشر إنما يكون شراً لو تسبّب في حرمان آخر من بعض فرصه الوجودية، وهو ينسب إلى الإنسان، إذ هو أمر عدمي وليس وجودياً حتى ينسب إلى الله تعالى. أما الفعل بما هو وجود فليس شراً، فأي فعل لو لم يترتب عليه حرمان الآخر فهو كوجود خير محض، وإنما يكون شراً لأنه ينتج الحرمان – كما تقدم-. ب / رد مقولة النظام: حيث قال بعدم قدرة الله تعالى على فعل القبيح لأنه يدل على الجهل والحاجة، ويرده: فرق بين عدم القدرة على القبيح، وبين عدم فعل القبيح مع القدرة عليه، والله تعالى قادر على فعل القبيح، ولكنه لا يفعله لأنه لا يوجد عنده داعٍ لفعله، إذ الداعي لفعل القبيح هو إما الحاجة أو البخل أو العجز أو العبث، وهي كلها مسلوبة عنه تعالى لمكان غناه وجوده وقدرته وحكمته. ج- / رد مقولة البلخي: حيث قال بعدم قدرة الله تعالى على أفعال العبد لأنها لا تخرج عن كونها طاعة أو معصية، ويرده: إن الفعل له جنبتان: جنبة كونه وجوداً من الوجودات، وهذا لا يوصف بأي وصف من طاعة ومعصية أو غيرها، وجنبة كونه فعلاً اختيارياً للإنسان، وهنا يوصف بأنه طاعة أو معصية. فالطاعة والمعصية يعرضان الفعل بالنسبة إلى الإنسان لا بالنسبة إلى الله تعالى , والمنسوب إليه تعالى هو ذات الفعل بوصفه وجوداً. وبعبارة أخرى: إن الفعل متعلق بالجوارح، ولكنه يحتاج إلى مقدمات عديدة – من العلم والشوق والاختيار والإرادة والغاية والقناعة...-، وهي أمور جوانحية منفصلة عن الفعل الجارحي، ولكن رغم ذلك فهي مبادئ للفعل، بل وتصف الفعل وتصنفه، ولذا كانت الأفعال اختيارية وغير اختيارية رغم أن الاختيار ليس فعلاً، فسلسلة مقدمات الفعل ليست من ذاتياته، بل هي خارجة عنه، والفعل ما هو إلا العمل الفيزيائي. وهكذا الطاعة والمعصية، فهما وصفان عارضان على الفعل باعتبار الاختيار الإنساني، والاختيار ليس ذاتياً للفعل، أما الفعل كوجود تكويني فهو ليس طاعة أو معصية، وهذا هو الذي ينسب إلى الله تعالى. د / رد مقولة الجبائيين: حيث قالا بعدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد لاجتماع الضدين فيما لو أراد الله تعالى غير ما يريده العبد. ويرده: للمسألة صور: فإن كان هناك إرادتان على مرادين، الفعل والترك، فلا تزاحم بين الإرادتين، فإرادتي للفعل لا تزاحم عدم إرادة الآخر له. وإن كان هناك قدرتان مشتركتان على فعل واحد على نحوٍ يكون كل منهما جزء العلة، فإن كانتا متساويتين فلا تعارض بينهما، وإن كانت إحداهما أقوى، وقع مراد الأقوى. فلا تعارض أيضاً. وإن كانت القدرتان من باب أريد ولا أريد، فيقع الذي يريد ولا يقع الآخر، فلا تعارض أيضاً.
الخصيصة الثانية: إن القدرة تتعلق بالممكن
اشارة

ينبغي أن نفهم جيداً هذه الخصيصة، فبها تنحلّ العديد من الشبهات التي تُثار.

ص: 243

إن القدرة تحتاج إلى مقدور، أي إنها من الصفات ذات المتعلق، فما هو متعلق القدرة الإلهية؟

من المعلوم أن المفاهيم المتصورة في الذهن ثلاثة:

الأول: واجب الوجود، وهو منحصر به جل وعلا، وهو تعالى قادر بالمطلق.

الثاني: ممكن الوجود، والقدرة الإلهية تتعلق به من دون أدنى إشكال، بل هي عامة لكل ممكن كما تقدم.

الثالث: ممتنع الوجود، وفي الحقيقة هذا المفهوم هو عدم بالحمل الشائع، فلا تحقق له في الواقع، بل هو عدم محض، فلا شيئية له، وتعلق القدرة به يعني كونه شيئاً، وهو خلف.

فالممتنع هو لا شيء، فلا تتعلق به القدرة، لا لخلل في القدرة أو القادر، بل لخلل في الممتنع نفسه.

ومعه فالقدرة لا تتعلق بواجب الوجود الثاني (شريك الباري) ولا بممتنع الوجود، لأنه وكما تقدم فإن القدرة ثنائية المتعلق، أي إنها تعني القدرة على الفعل بشرط القدرة على الترك، أو قل: هي صحة الفعل وصحة عدمه، والواجب لا يقبل إلا الوجود حسب الفرض، والممتنع لا يقبل إلا العدم حسب الفرض، فلا تتعلق بهما القدرة.(1)

ص: 244


1- قال في صراط الحق ج1 ص 133: وبعبارة واضحة: إن قدرته تعالى لا تتعلق بالواجب والممتنع، فإن ضرورة الوجود والعدم يبطل تعلق القدرة التي هي ما تلزمه صحة الصدور واللا صدور، فمتعلقها هو الممكن لا غير. وقال في ص 140 ما نصه: قد دريت أن القدرة إنما تتعلق بالممكن وحده دون الواجب والممتنع، فإن الشيء إذا كان ضروري الوجود أو العدم ولا يمكن تغيره، استحال أن يتعلق [تتعلق] به القدرة التي هي بمعنى صحة الفعل والترك، بداهة تصادم الصحة والضرورة، فذات الواجب وصفاته الذاتية خارجة عن دائرة قدرته، إذ لا قدرة على مطلق الذاتيات، فلا يكون زوجية الأربعة وإمكان الماهيات وفقر الموجودات الممكنة وأمثالها بمقدورة أصلاً، وكذا شريك الباري واجتماع النقيضين ونحوهما، كل ذلك ظاهر.

إذا فهمنا هذا سنفهم عدم صحة بعض الكلمات التي تصدر من دون تحليل عقلي منهجي، كأن يُقال: هل يقدر الله تعالى على أن يوجد واجب وجود ثانٍ معه؟ وهل يقدر أن يضع العالم على كبره في البيضة على صغرها؟ وهل يستطيع أن يجعل الأربعة فرداً والثلاثة زوجاً؟ وأمثال هذه الكلمات، إذ مما تقدم تبين:

أولا: أن تعلق القدرة بإيجاد (واجب وجود ثانٍ، أو قل: شريك الباري) أمرٌ محال، لأن فرض (الواجب الثاني) محال في حد نفسه كما تقدم.

ثانياً: أن تعلق القدرة بإدخال العالم على كبره في البيضة على صغرها محال، لأن الخلل في أن يكون المظروف أكبر من الظرف، فهذا ممتنع، فلا تتعلق به القدرة.

ثالثاً: أن الزوجية أمر ذاتي للأربعة والفردية أمر ذاتي للثلاثة، أي إن ثبوت الزوجية للأربعة واجب، لأنها من ذاتياتها، فلا تتعلق بها القدرة. وهكذا في الفردية والثلاثة.

ص: 245

إشارة: بعض أجوبة الأئمة (عليهم السلام) عن سعة القدرة الإلهية

يظهر من الروايات الشريفة أن بعض هذه الأسئلة كانت قد طُرحت على الأئمة (عليهم السلام)، خصوصاً سؤال العالم والبيضة.

والملاحظ أن الجواب قد اختلف بين أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين الإمام الصادق والإمام الرضا (عليهما السلام)، والظاهر والله العالم أن سبب ذلك راجع إلى اختلاف حال السائل وكونه من أهل الاختصاص فيحتاج إلى جواب علمي، أو من العامة فيكفيه الجواب الخطابي الإقناعي.

فقد روي عن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون.(1)

فأمير المؤمنين (عليه السلام) يُصرح هنا بأن عدم تعلق القدرة بهذا الطلب من باب أنه ممتنع (لا يكون).

ولكن الإمام الرضا (عليه السلام) أعطى الجواب بطريقة أخرى، حيث روي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: جاء رجل إلى الإمام الرضا (عليه السلام) فقال: هل يقدر ربك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قال: نعم، وفي أصغر من البيضة، قد جعلها في عينك وهي أقل من البيضة، لأنك إذا فتحتها

ص: 246


1- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 130 باب القدرة ح9.

عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء لأعماك عنها.(1)

وهكذا روي عن الإمام الصادق ما يقرب من هذا الجواب، فقد روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ الله الدَّيَصَانِيَّ سَأَلَ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ فَقَالَ لَه: ألَكَ رَبٌّ؟ فَقَال: بَلَى. قَالَ: أقَادِرٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَادِرٌ قَاهِرٌ. قَالَ: يَقْدِرُ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ لَا تَكْبُرُ الْبَيْضَةُ ولَا تَصْغُرُ الدُّنْيَا؟ قَالَ هِشَامٌ: النَّظِرَةَ [أي المهلة] فَقَالَ لَه: قَدْ أَنْظَرْتُكَ حَوْلاً.

ثُمَّ خَرَجَ عَنْه فَرَكِبَ هِشَامٌ إِلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْه فَأَذِنَ لَه، فَقَالَ لَه: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، أَتَانِي عَبْدُ الله الدَّيَصَانِيُّ بِمَسْأَلَةٍ لَيْسَ الْمُعَوَّلُ فِيهَا إِلَّا عَلَى الله وعَلَيْك.َ فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): عَن مَاذَا سَأَلَكَ؟ فَقَالَ: قَالَ لِي: كَيْتَ وكَيْتَ.

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): يَا هِشَامُ، كَمْ حَوَاسُّكَ؟ قَالَ: خَمْسٌ. قَالَ: أَيُّهَا أَصْغَرُ؟ قَالَ: النَّاظِرُ. قَالَ: وكَمْ قَدْرُ النَّاظِرِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْعَدَسَةِ أَوْ أَقَلُّ مِنْهَا. فَقَالَ لَه (عليه السلام): يَا هِشَامُ فَانْظُرْ أَمَامَكَ وفَوْقَكَ وأَخْبِرْنِي بِمَا تَرَى؟ فَقَالَ: أَرَى سَمَاءً وأَرْضاً ودُوراً وقُصُوراً وبَرَارِيَ وجِبَالاً وأَنْهَاراً.

فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): إِنَّ الَّذِي قَدَرَ أَنْ يُدْخِلَ الَّذِي تَرَاه الْعَدَسَةَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا قَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ، لَا تَصْغَرُ الدُّنْيَا ولَا تَكْبُرُ الْبَيْضَةُ.

فَأَكَبَّ هِشَامٌ عَلَيْه وقَبَّلَ يَدَيْه ورَأْسَه ورِجْلَيْه وقَالَ: حَسْبِي يَا ابْنَ رَسُولِ

ص: 247


1- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 130 باب القدرة ح11.

الله وانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِه... (1)

الخصيصة الثالثة: إن القدرة محكومة للحكمة

هل هناك علاقة بين الصفات الإلهية بعضها مع البعض الآخر أو أنها تعمل بصورة منفصلة عن بعضها؟

باختصار نقول: إن الصفات الإلهية محكومة لصفة عامة هي صفة (الحكمة) والتي تعني وضع الشيء في موضعه المناسب له، ولذلك فإن الله تعالى رغم أنه يعلم كل شيء، لكنه لم يعطِ علمه كله لنا مثلاً، لأن الحكمة تقتضي أن يُخفي عنا بعض العلوم، كالعلم بساعة الموت مثلاً.

ص: 248


1- الكافي- الشيخ الكليني- ج 1- ص 79 – 80 باب حدوث العالم وإثبات المحدث ح4. وتمام الرواية: وغَدَا عَلَيْه الدَّيَصَانِيُّ فَقَالَ لَه: يَا هِشَامُ إِنِّي جِئْتُكَ مُسَلِّماً ولَمْ أَجِئْكَ مُتَقَاضِياً لِلْجَوَابِ. فَقَالَ لَه هِشَامٌ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ مُتَقَاضِياً فَهَاكَ الْجَوَابَ، فَخَرَجَ الدَّيَصَانِيُّ عَنْه حَتَّى أَتَى بَابَ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْه فَأَذِنَ لَه، فَلَمَّا قَعَدَ قَالَ لَه: يَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، دُلَّنِي عَلَى مَعْبُودِي فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): مَا اسْمُكَ؟ فَخَرَجَ عَنْه ولَمْ يُخْبِرْه بِاسْمِه. فَقَالَ لَه أَصْحَابُه: كَيْفَ لَمْ تُخْبِرْه بِاسْمِكَ؟ قَالَ: لَوْ كُنْتُ قُلْتُ لَه: عَبْدُ الله، كَانَ يَقُولُ: مَنْ هَذَا الَّذِي أَنْتَ لَه عَبْدٌ. فَقَالُوا لَه: عُدْ إِلَيْه وقُلْ لَه يَدُلُّكَ عَلَى مَعْبُودِكَ ولَا يَسْأَلُكَ عَنِ اسْمِكَ. فَرَجَعَ إِلَيْه فَقَالَ لَه: يَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، دُلَّنِي عَلَى مَعْبُودِي ولَا تَسْأَلْنِي عَنِ اسْمِي. فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): اجْلِسْ، وإِذَا غُلَامٌ لَه صَغِيرٌ فِي كَفِّه بَيْضَةٌ يَلْعَبُ بِهَا، فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): نَاوِلْنِي يَا غُلَامُ الْبَيْضَةَ، فَنَاوَلَه إِيَّاهَا، فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): يَا دَيَصَانِيُّ، هَذَا حِصْنٌ مَكْنُونٌ لَه جِلْدٌ غَلِيظٌ وتَحْتَ الْجِلْدِ الْغَلِيظِ جِلْدٌ رَقِيقٌ، وتَحْتَ الْجِلْدِ الرَّقِيقِ ذَهَبَةٌ مَائِعَةٌ وفِضَّةٌ ذَائِبَةٌ، فَلَا الذَّهَبَةُ الْمَائِعَةُ تَخْتَلِطُ بِالْفِضَّةِ الذَّائِبَةِ، ولَا الْفِضَّةُ الذَّائِبَةُ تَخْتَلِطُ بِالذَّهَبَةِ الْمَائِعَة، فَهِيَ عَلَى حَالِهَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا خَارِجٌ مُصْلِحٌ فَيُخْبِرَ عَنْ صَلَاحِهَا، ولَا دَخَلَ فِيهَا مُفْسِدٌ فَيُخْبِرَ عَنْ فَسَادِهَا، لَا يُدْرَى لِلذَّكَرِ خُلِقَتْ أَمْ لِلأُنْثَى، تَنْفَلِقُ عَنْ مِثْلِ أَلْوَانِ الطَّوَاوِيسِ، أتَرَى لَهَا مُدَبِّراً؟ قَالَ: فَأَطْرَقَ مَلِيّاً ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه، وأَنَّكَ إِمَامٌ وحُجَّةٌ مِنَ الله عَلَى خَلْقِه وأَنَا تَائِبٌ مِمَّا كُنْتُ فِيه.

وهكذا نقول في القدرة، فصحيح أن الله تعالى قادر على كل شيء، ولكنه تعالى لا يفعل كل ما يقدر عليه، بل إنه تعالى يحدد فعله بما تقتضيه الحكمة اللا متناهية.

ومنه نعرف الجواب بكل وضوح عن بعض الأسئلة التي تُطرح، من قبيل: هل يقدر الله تعالى أن يُدخل الأنبياء النار؟ وهل يقدر أن يدخل الشيطان الجنة؟ وأمثال هذه الأسئلة، فإن الجواب يكون عنها بإمكان ذلك بلا أدنى شك، لكننا نقول بامتناع وقوعه منه تعالى؛ لمكان حكمته التي تقتضي خلاف ذلك.

فالقدرة الذاتية إذن أوسع من الفعل الذي تعلقت به القدرة فعلاً. لأن الحكمة تحدد ما تتعلق به القدرة مما لا تتعلق به.

وهذا التحديد ناشئ من كمال الذات المقدسة لا من شيء خارج عن ذاتها.

وتحديد القدرة وفق الحكمة أمر وجداني، واقع حتى عندنا نحن الممكنات كما هو واضح.

النقطة الرابعة: صفات تلازم القدرة
اشارة

هناك صفات تلازم القدرة أو ترجع إليها، نذكر منها التالي:

الصفة الأولى: الخالق

إن (الخالق) اسم فاعل من مادة (خلق)، والخلق في الأصل بمعنى

ص: 249

التقدير، ويستعمل بمعنى إيجاد الشيء على أساس التقدير(1).

وهذا المعنى لا يتحقق من دون القدرة كما هو واضح، بمعنى أن القدرة هي مبدأ من مبادئ الخلق، فغير القادر لا يمكنه أن يخلق كما هو واضح.

وفي إشارة إلى هذا المعنى قال تعالى: ﴿وَلِلهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(2)

ملحوظة:

إن صفة (الخالق) هي من صفات الفعل، وعليه، فهي تتصف بصفات الفعل الإلهي من الحكمة بمعنى وضع الشيء في موضعه المناسب، وكذلك نفي العبث واللهو، ونفي الحاجة في فعله إلى غيره. ونفي التعب عنه، وما شابه هذه النقوصات التي يلزم نفيها عن فعله جل وعلا.

قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾(3)

وقد جاء عن مولاتنا الزهراء (عليها السلام) في خطبتها المعروفة: «ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلّا تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، تعبداً لبريته وإعزازاً

ص: 250


1- موسوعة العقائد الإسلامية - محمد الريشهري: ج4، ص171، عن المصباح المنير: 180.
2- المائدة: 17
3- المؤمنون: 115

لدعوته...».(1)

ونفس الملحوظة تأتي في الصفة التالية لأنها فرع الخالقية.

الصفة الثانية: البارئ

البارئ في اللغة اسم فاعل من مادة (برأ)، وهو أصلان، أحدهما (الخلق)، والآخر (التباعد من الشيء ومزايلته)، ومن الأصل الأول يقال: برأ الله الخلق، يبرؤهم، برءاً: خلقهم، وهو البارئ: الخالق(2).

والخلق يلازم القدرة بلا شك.

وفي لسان العرب: البارئ: هو الذي خلق الخلق لا عن مثال. قال: ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلّما تستعمل في غير الحيوان، فيقال: برأ الله النسمة وخلق السماوات والأرض(3).

ومنه يظهر (أن البارئ يُستعمل في الحيوان كثيراً دون الخالق، ولأجل ذلك صحّ الجمع بين الخالق والبارئ في بعض الآيات)(4)،

كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنىٰ يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(5)

ص: 251


1- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص 133.
2- موسوعة العقائد الإسلامية - محمد الريشهري: ج4، ص45؛ نقلاً عن معجم مقاييس اللغة: 1/236؛ المصباح المنير: 47؛ المحيط في اللغة: 10/274.
3- لسان العرب - ابن منظور: ج1، ص31.
4- مفاهيم القرآن - جعفر سبحاني: ج6، ص152.
5- الحشر: 24
الصفة الثالثة: الفاطر

إن صفة الفاطر ترجع إلى صفة الخالق، فإن: (الفاطر) اسم فاعل من مادة (فطر) وهو يدل على فتح شيء وإبرازه، ولهذا يستعمل في الشق والخلق والإيجاد الابتدائي. قال ابن عباس: ما كنت أدري ما (فاطر السماوات والأرض) حتّى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأت حفرها(1).

والله تعالى فاطر الأشياء؛ لأن ابتداء الأشياء وخلقتها بإرادته تعالى(2).

وفي ذلك يقول السيد الطباطبائي (قدس سره): قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرضِ﴾(3):

الفطر - على ما ذكره الراغب - هو الشق طولاً، فإطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنه شق العدم فأخرج من بطنها السماوات والأرض، فمحصل معناه: أنه موجد السماوات والأرض إيجاداً ابتدائياً من غير مثال سابق، فيقرب معناه من معنى البديع والمبدع(4).

الصفة الرابعة: البدئ والبديع
اشارة

وهاتان الصفتان أيضاً ترجعان إلى (الخالق) والقدرة على الخلق. فإن غير القادر لا يكون مبدعاً ولا خالقاً كما تقدم.

(البدئ والبديع في اللغة كلاهما فعيل بمعنى فاعل من مادة (بدأ)

ص: 252


1- لسان العرب - ابن منظور: ج5، ص56.
2- موسوعة العقائد الإسلامية - محمد الريشهري: ج5، ص29.
3- فاطر: 1.
4- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي: ج17، ص6.

و(بدع). وهما متقاربان في المعنى. قال ابن فارس: (بدأ) من افتتاح الشيء، يقال: بدأت بالأمر وابتدأت، من الابتداء، وقال أيضاً: (بدع) ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال. قال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى (المبدئ)، هو الذي أنشأ الأشياء واخترعها ابتداء من غير سابق مثال، وقال أيضاً: في أسماء الله تعالى (البديع)، هو الخالق المخترع لا عن مثال سابق. بناء على ما تقدم، فالبدئ والبديع في اللغة هو الذي أحدث الأشياء ابتداء وبلا سابق مثال)(1).

(وحري بالقول في توضيح هاتين المزيتين أن المعنى اللغوي للبدئ والبديع افتتاح الشيء، والإنشاء والإحداث الابتدائي بلا سابقة، وسابقة الشيء وعدم ابتدائيته إمّا من جهة المادة، أو من جهة الصورة. بعبارة أخرى: وجود سابقة للشيء إمّا يتمثل في أن المادة الأولية لذلك الشيء كانت موجودة سابقاً وأنشأ الصانع الشيء منها، أو يتمثل في وجود صورة الشيء من قبل، وهذان النوعان من السابقة يلاحظان بوضوح في عمل الخياط الذي يقص القماش على أساس عينة موجودة سابقاً ويخيطه فيصير لباساً كان قد صور في تلك العينة، في حين نفت الأحاديث كلا النوعين من السابقة لله في إحداث الأشياء وإنشائها)(2).

فالله تعالى بديع بمعنى أوجد الأشياء من العدم، لا عن مثال في مادة ولا عن مثال في صورة.

ص: 253


1- موسوعة العقائد الإسلامية - محمد الريشهري: ج4، ص67؛ وراجع: معجم مقاييس اللغة: 1/212؛ ومعجم مقاييس اللغة: 1/209؛ والنهاية: 1/103؛ والنهاية: 1/106.
2- موسوعة العقائد الإسلامية - محمد الريشهري: ج4، ص68.
ملحوظة: الفرق بين الإبداع والفطر

الفرق بين الإبداع والفطر هو: أن العناية في الإبداع متعلّقة بنفي المثال السابق، وفي الفطر بطرد العدم وإيجاد الشيء من رأس(1).

الصفة الخامسة: القاهر والقهار
اشارة

القاهر مأخوذ من القهر بمعنى الغلبة، قال ابن فارس: (قهر) القاف والهاء والراء كلمة صحيحة تدل على غلبة وعلو. يقال قهره يقهره قهراً. والقاهر الغالب. وأُقهر الرجل إذا صُير في حال يُذل فيها(2).

وقال الراغب: القهر الغلبة والتذليل معاً ويستعمل في كل واحد منهما، قال: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) وقال: (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ - فَوقَهُمْ قَاهِرُوْن - فأمّا الْيَتيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي لا تُذْلِلْ...(3).

وأمّا معنى القهار في الله تعالى، فهو:

أولاً: أن الأشياء لا يمكنها أن تمتنع منه تعالى، ولا يمكنها التملص مما أراده تعالى تكويناً منها.

قال الشيخ الصدوق (قدس سره): (القدير، القاهر) القدير والقاهر معناهما أن الأشياء لا تطيق الامتناع منه ومما يريد الإنفاذ فيها، وقد قيل: إن القادر من يصح منه الفعل إذا لم يكن في حكم الممنوع، والقهر الغلبة، والقدرة مصدر

ص: 254


1- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي: ج17، ص6.
2- معجم مقاييس اللغة - أبو الحسين أحمد بن فارس زكريا: ج5، ص35.
3- مفردات غريب القرآن - الراغب الأصفهاني: ص414.

قولك: قدر قدرة أي ملك، فهو قدير قادر مقتدر، وقدرته على ما لم يوجد واقتداره على إيجاده هو قهره وملكه له: وقد قال عز ذكره: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾(1)ويوم الدين لم يوجد بعد، ويقال: إنه (عزوجل) قاهر لم يزل، ومعناه أن الأشياء لا تطيق الامتناع منه ومما يريد إنفاذه فيها، ولم يزل مقتدراً عليها ولم تكن موجودة كما يقال: مالك يوم الدين، ويوم الدين لم يوجد بعد(2).

ثانياً: أن الموجودات كلها محتاجة إليه تعالى، ولا يمكنها الاستغناء عنه بحال، لأنها مجرد وجودات رابطة ولا حقيقة لها إلّا بالمستقل. وعليه فإن (قاهريته تعالى تعني أن جميع الموجودات لما كانت مخلوقة لله وقائمة به فهي محتاجة إليه في وجودها وجميع شؤونها وترتدي لباس الذلة والمسكنة أمامه)(3).

ملحوظة: فرق قاهرية الباري (جل وعلا) عن قاهرية البشر

لقد أوضحت النصوص الدينية أن قاهرية الله تعالى تختلف عن القاهرية الموجودة بين أبناء البشر، فإنها عند البشر قد تعتمد على الحيلة والخديعة، وقد ينقلب القاهر مقهوراً، وليس الأمر هكذا في قاهرية الله تعالى، وقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «... وأَمَّا الْقَاهِرُ، فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى عِلَاجٍ ونَصَبٍ واحْتِيَالٍ ومُدَارَاةٍ ومَكْرٍ، كَمَا يَقْهَرُ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، والْمَقْهُورُ مِنْهُمْ يَعُودُ قَاهِراً، والْقَاهِرُ يَعُودُ مَقْهُوراً، ولَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا

ص: 255


1- الفاتحة: 4
2- التوحيد - الشيخ الصدوق: ص198.
3- موسوعة العقائد الإسلامية - محمد الريشهري: ج5، ص53-54.

خَلَقَ مُلَبَّسٌ بِه الذُّلُّ لِفَاعِلِه، وقِلَّةُ الِامْتِنَاعِ لِمَا أَرَادَ بِه، لَمْ يَخْرُجْ مِنْه طَرْفَةَ عَيْنٍ أَنْ يَقُولَ لَه: كُنْ فَيَكُونُ، والْقَاهِرُ مِنَّا عَلَى مَا ذَكَرْتُ ووَصَفْتُ، فَقَدْ جَمَعَنَا الِاسْمُ واخْتَلَفَ الْمَعْنَى، وهَكَذَا جَمِيعُ الأَسْمَاءِ، وإِنْ كُنَّا لَمْ نَسْتَجْمِعْهَا كُلَّهَا...(1).

ص: 256


1- الكافي - الشيخ الكليني: ج1، ص122-123 بَابٌ آخَرُ وهُوَ مِنَ الْبَابِ الأَوَّلِ إِلَّا أَنَّ فِيه زِيَادَةً وهُوَ الْفَرْقُ مَا بَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَ أَسْمَاءِ اللَّه وأَسْمَاءِ الْمَخْلُوقِينَ- ح2.
الصفة الثالثة: إنه تعالى حي
اشارة

اتفقت الكلمة على اتصافه تعالى بصفة الحياة، ولا مجال للخلاف في ثبوتها بعد أن صرّح القرآن بثبوتها له تعالى في الكثير من الآيات. وإنما الخلاف في حقيقة وتفسير هذه الصفة، فخلاصة الخلاف هو في (ما هي حياته) لا في (هل هو حي)

وهنا تنبيه:

وهو: أنه في بعض الصفات لا يمكننا أن نضع تفسيراً واضحاً لها، بل ما يمكننا هو أنْ نحدّد موقع تلك الصفة بالنسبة إلى الصفات الأخرى، أي تمييزها عن بقية الصفات، وتمييزها عما عداها يقرب إلى الذهن فهم حقيقتها...

وصفة الحياة من هذا القبيل، فلم يتوفر تفسير واضح عن معنى الحياة، حتى على مستوى التعريف اللفظي – الذي هو مجرد شرح الاسم –، وإنما لمس العلماء ترابطاً وثيقاً بين العلم والقدرة وبين الحياة، وكلُّ ما وجد من تعريفات لها هو في بيان موقع هذه الصفة بين الصفات الأخرى... وحتى ما ذُكر من أدلة على ثبوتها لم يعْدُ هذا المعنى...

وحتى تتبين الصورة أكثر، نذكر عدة نقاط:

ص: 257

النقطة الأولى: أدلة إثبات صفة الحياة
اشارة

قد ذكر لإثبات الحياة له تعالى عدة أدلة –أو بالأحرى تنبيهات-، نذكر منها:

الدليل الأول:

إن الحياة موجودة في عالمنا، فلا بد أن تكون موجودة فيه تعالى، لأن فاقد الشيء [الكمال] لا يكون معطياً.

الدليل الثاني:

إن صفة الحياة هي صفة كمال، وهو تعالى واجب الوجود، فيجب أن يوجد فيه كل كمال متصوّر، وإلا لم يكن واجب وجود، لاستلزام فقدها فيه النقصَ... نعم، هي موجودة فيه بنحو يتناسب مع مرتبته الوجودية اللا متناهية...

الدليل الثالث:

حيث ثبت أنه تعالى عالم قادر، فيجب أن يكون حياً، بمعنى أن أصل وجود العلم والقدرة فيه تعالى دليل على اتصافه بالحياة، إذ لا يوجد العلم والقدرة إلا في موجودات خاصة، أي إن العلم والقدرة ليسا شأناً من شؤون الوجود، وإلا لوجدا في كل موجود، وإنما هما شأن الموجود الحي، فالعلم والقدرة معنى يرجع إلى الحياة، وما دام تعالى متصفاً بالعلم والقدرة، فهو تعالى حي.

ص: 258

النقطة الثانية: ما هي الحياة؟
اشارة

إنها – كما أُشير إليه قبل قليل- معنى يُدرك ولا يُوصف.

وحتى نوضح الصورة نذكر التالي:

لغة: الحياة: ضد الموت والحي: ضد الميت.

وقال الراغب الأصفهاني في مادة (حيي):

الحياة تستعمل على أوجه:

الأول: للقوة النامية الموجودة في النبات والحيوان، ومنه قيل: نبات حي، قال عز وجل: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(1)

الثانية: للقوة الحساسة وبه سمى الحيوان حيواناً، قال عز وجل (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ)(2)

الثالثة: للقوة العاملة العاقلة كقوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(3)

وقول الشاعر:

وقد ناديتَ لو أسمعتَ حياً *** ولكن لا حياة لمن تنادي

ص: 259


1- الحديد 17
2- فاطر 29
3- الأنعام 122

والرابعة: عبارة عن ارتفاع الغم، وبهذا النظر قال الشاعر:

ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الاحياء

وعلى هذا قوله عز وجل: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(1)أي

هم متلذذون لما روى في الأخبار الكثيرة في أرواح الشهداء.

والخامسة: الحياة الأخروية الأبدية وذلك يتوصل إليه بالحياة التي هي العقل والعلم قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)(2)،

وقوله: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)(3)يعنى بها الحياة الأخروية الدائمة.

والسادسة: الحياة التي يوصف بها الباري، فإنه إذا قيل فيه تعالى (هو حي) فمعناه لا يصح عليه الموت وليس ذلك إلا لله عز وجل.

وما ذكره الراغب صحيح، ولكنه ليس تفسيراً لحقيقة الحياة، وإنما هو ذكر لآثار الحياة المختلفة باختلاف مراتبها، أما حقيقة الحياة فلم تتبين من كلامه.

فالمهم إذن، أن نعرف أن الحياة هي مبدأ لمثل هذه الآثار التي ذكرها الراغب، وهي تعبر عن (عدم الموت) في تلك المراتب المختلفة.

ص: 260


1- آل عمران 169
2- الأنفال 24
3- الفجر 24

والذي يهمنا هنا هو معرفة الحياة بالنسبة للباري جل وعلا، وقد وجدت في تفسيرها ثلاثة أقوال:

القول الأول: ما نُسب إلى الأشاعرة

وفق مبناهم من زيادة الصفات على الذات ولزومها لها، فقالوا: الحياة صفة ثبوتية زائدة، موجودة مستقلة عن الذات تكون منشأً لصفتي العلم والقدرة...

القول الثاني: ما نُسب إلى جماعة من المعتزلة

وهو أنه ليست الحياة إلا عدم استحالة العلم والقدرة، فنفس إمكان العلم والقدرة هي صفة الحياة.

القول الثالث:

الحياة صفة ثبوتية –لا سلبية كما نُسب إلى المعتزلة- وهي عين الذات –لا زائدة كما نُسب إلى الأشاعرة-، وهي منشأ لصفتي العلم والقدرة. وهو ما عليه الإمامية أعلى الله مقامهم وكلمتهم.

النقطة الثالثة: خصائص الحياة في النصوص الدينية
اشارة

إن الأحاديث الشريفة التي تعرضت لصفة الحياة ذكرت عدة أمور، تمثل خصائص لحياة الله تبارك وتعالى، نذكر منها التالي:

الأمر الأول:

حيث إن حياته تعالى هي عين ذاته، إذن، لا يمكننا فهم وإدراك كنهها، لما

ص: 261

تقدم أكثر من مرة من عدم إمكان أن يُدرك المحدودُ اللا محدودَ. ولذلك نحن نبحث عن آثار هذه الصفة ولوازمها التي يمكن أن تعطينا صورة واضحة عن حياته جل وعلا، وقد تقدمت الأدلة والتنبيهات على حياته جل وعلا.

الأمر الثاني:

أن حياة الباري جل وعلا تختلف عن حياة غيره من الموجودات الحية، فإن حياة غيره من الموجودات هي حياة حادثة لا أزلية، فانية لا أبدية، وقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: كان عز وجل إلهاً حياً بلا حياة حادثة... بل حي لنفسه.(1)

الأمر الثالث:

أن حياته تعالى لا يعرضها الموت ولا العدم ولا الضعف كما في الموجودات الأخرى، ولذا روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: إن الله نور لا ظلمة فيه، وعلم لا جهل معه، وحياة لا موت فيه...(2)

الأمر الرابع:

أن حياته تعالى هي المصدر لحياة الموجودات الأخرى، وهذا يعني أن حياة غيره هي به، ولا حياة من دون حياته جل وعلا، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:... وهُوَ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، ونُورُ كُلِّ شَيْءٍ، سُبْحَانَه وتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيرا.. وبِحَيَاتِه حَيِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وبِنُورِه اهْتَدَوْا إِلَى

ص: 262


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 141 باب 11- باب صفات الذات وصفات الأفعال ح6.
2- نفس المصدر ص 138 باب 10- باب العلم ح 13.

مَعْرِفَتِه.(1)

الأمر الخامس:

ويتفرّع على الأمر الرابع، أنه تعالى هو (المحيي) وهو (المميت)، والمحيي اسم فاعل من مادة (حيّ) أي الذي يُعطي الحياة، والمميت اسم فاعل من مادة (موت)، أي الذي يُنهي الحياة ويُحدث الموت في الموجود.

فإذا شاء الله تعالى أعطى الحياة لغيره من الموجودات فتصبح موجودات حية، وإذا شاء جلّ وعلا، أمات أي موجود غيره، لأن الحياة لغيره ليست ذاتية، فيمكن سلبها وبالتالي إماتته.

فمن أراد الحياة -سواء كانت الحياة الدنيوية أو الأخروية، المادية أو المعنوية- فلن يحصل عليها إلا من الحي المطلق جل وعلا.

ومن هنا روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لولده الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): واعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ، وأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ، وأَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ.(2)

ص: 263


1- الكافي للكليني (ج1 ص130) باب العرش والكرسي ح1.
2- نهج البلاغة (ج3 ص 43)

ص: 264

الصفة الرابعة: في أنه تعالى مريد
اشارة

لا خلاف هنا أيضاً في ثبوت صفة الإرادة له جل وعلا، وإنما الخلاف في تفسيرها، على غرار ما تقدم في صفة الحياة، وحتى تتضح الصورة نذكر عدة نقاط:

النقطة الأولى: إثبات صفة الإرادة له جل وعلا
اشارة

ذكروا عدة أدلة –أو تنبيهات- على ذلك، نذكر منها:

الدليل الأول:

لا ريب أن ما وُجد في هذا العالم ليس هو كل ما يمكن أن يوجد، بل هناك ما يمكن أن يوجد ولكنه لم يوجد، كإنسان له ألف رأس، وجبل من ذهب في كل مدينة، وبحر زئبق كذلك، فعالمنا لا يمثل كل ما يمكن أن يوجد...

ووجود شيء دون آخر لا بد له من مخصص، وهي الإرادة...

الدليل الثاني:

الإنسان – كمثال – غير موجود من الأزل، وتخصيص إيجاده بزمن دون آخر لا بد له من مخصّص، وهي الإرادة.

وهذان الدليلان ينطلقان من حقيقة واحدة، هي: أن دائرة الإمكان

ص: 265

أوسع من دائرة الوجود المخلوق بالفعل.

وما دام الممكن أوسع من الموجود، فلِمَ وُجِدَ هذا الممكن دون غيره من الممكنات؟ إنه لا بد من وجود مخصص، وهو لا يخلو إما أن يكون هو:

أ / القدرة، وهو محال، لأن القدرة متساوية النسبة إلى المقدور، فلا ترجيح فيها.

ب / العلم، وهو محال، إذ لا اقتضاء فيه للوجود كي يصلح أن يكون مخصصاً، أي إن العلم لوحده ليس مقتضياً للوجود، فلا يمكن أن يكون هو المخصِّص المذكور.

ج / فلا بد من وجود مخصّص، وهو الذي نسميه الإرادة.

هذا هو مفاد الدليل الأول.

وأيضاً، وجود الممكن في مقطع محدد وفي فترة محددة لا قبل ولا بعد يحتاج إلى مخصص – بعد أن كان يمكن أن يوجد قبل أو بعد-، وليس هو القدرة ولا العلم، لما تقدم، فلا بد من مخصص، وهي الإرادة.

النقطة الثانية: الآراء في الإرادة
اشارة

من المعلوم أنه لا يمكننا التعرف على صفاته تعالى مباشرة، لأن المحدود لا يمكنه إدراك اللا محدود، وإنما يمكن أن نفهم شيئًا من ذلك من خلال فهْم الصفات فينا، وننتقل منها إلى إثبات الكمالية منها له تعالى بعد تجريدها عن شوائب النقص، وبما يناسب وجوده تعالى، فهنا خطوتان:

ص: 266

1/ تمييز صفات الكمال عن صفات الاستكمال.

الصفات الكمالية هي ما لو خلا منها أي موجود لكان ناقصاً. فهي كمال وجودي، كالعلم والقدرة، أما صفات الاستكمال فهي لا تمثل كمالاً وجودياً، بل هي لمعالجة نقص كالدواء، وتسمى صفات كمال نشأة، كالحركة.

فأما صفات الكمال فيمكن – بل يجب – اتصاف الباري تعالى بها، لأن عدمها يعني النقص، وهو منفي عنه تعالى.

وأما صفات الاستكمال فلا يجوز وصف الباري تعالى بها، لأنه كمال مطلق غير مستكمل، والمستكمل هو الناقص الذي يريد تفادي نقصه بما مُنح من أدوات – كالحركة – تعالج نقصه.

2/ إن الكمال الوجودي موجود فيه تعالى، لكن لا بنفس صيغة وجوده فينا، بل هو موجود فيه تعالى بما يتناسب مع وجوده الواجب. فهي فيه جل وعلا غير متناهية، وفينا متناهية، وهذا فرقٌ فارق كما هو واضح، لأن الاختلاف بين المتناهي واللا متناهي هو بحدّ اللا متناهي.

إذا تبين هذا نبيّن:

الآراء في الإرادة
اشارة

الآراء في الإرادة(1).

اختلفت الآراء في حقيقة الإرادة على عدة أقوال، نذكر منها:

ص: 267


1- ينظر: الإلهيات- الشيخ جعفر سبحاني ج1 بحث الإرادة- ماهي حقيقة الإرادة.
القول الأول: إنها صفة سلبية

وهذا القول ليس خاصاً بصفة الإرادة، بل إن هناك منحى كلامياً في تفسير الصفات الإلهية سلبياً، هرباً من المثلية بين صفاته تعالى وصفاتنا، فقيل بأنه لا نفهم من صفاته تعالى إلا سلب النقص الموجود فينا، إذ ليس

كمثله شيء، فغاية ما نفهم من قدرته تعالى أنه ليس بعاجز، ومن علمه تعالى أنه ليس بجاهل، لأن العجز والجهل فينا نقصان، فهما منفيان ومسلوبان عنه تعالى بالأولوية، وما عدا ذلك فهو عصيٌّ على فهمنا.

وهكذا الإرادة، فإننا لا نفهم منها إلا أنه تعالى (ليس بمغلوب وليس بمستكرَه)، نعم، يمكن أن نعطي معنى ثبوتياً للصفات فينا، ومنها الإرادة. وهذا هو قول النجار.

وفيه:

إن هذا التفسير لو أُريد له أن يكون صحيحاً ومناسباً للإرادة، لكان من اللازم أن يدل على- المعرَّف- الإرادة – ولو بالتلازم-، والحال أنه لا يدل على الإرادة أبداً، إذ كونه ليس بمغلوب ولا مستكره لا يدل على أنه تعالى مريد، وإنما يعني أن قدرته تعالى نافذة وعامة، وهذا لا علاقة له بالإرادة.

وبعبارة أخرى: فهم الصفة سلبياً هو بمعنى سلب ما يقابلها، والإكراه والغلبة لا يقابل الإرادة، بل الذي يقابل الإرادة هي الكراهة...

ص: 268

القول الثاني: إنها صفة ثبوتية
اشارة

وهنا قولان فرعيان:

الأول: أنها قديمة

وافترق القائلون بقدمها إلى رأيين:

أ / هي قديمة بقدم الذات المقدسة، وهي عين الذات، وهو المنسوب للحكماء وأكثر الإمامية.

ب / هي قديمة زائدة على الذات، وهو قول الأشاعرة، ومن الواضح أنه يلزم منه تعدد القدماء.

الثاني: أنها حادثة وليست بقديمة

وعلى كل حال، فالذي يمكن قوله: إنه قد ظهر رأيان يمكن قبولهما في تفسير الإرادة، وهما:

أ/ أن الإرادة هي العلم الخاص، وهي صفة ذاتية وعين الذات، فترجع إلى صفة العلم، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك عندما تكلّمنا عن الصفات الملازمة لصفة العلم.

ب/ أن الإرادة هي عين الفعل، أي هي إحداث الفعل، وإحداث الفعل والفعل واحد ذاتاً، وحينئذٍ تكون من الصفات الفعلية.

والخلاصة: (تنقسم الإرادة الإلهيّة إلى قسمين: ذاتيّ وفعليّ: أمّا الإرادة الذاتيّة فهي العلم بالنظام الأصلح في عالم الخلق، أو هي حبّ الكمالات،

ص: 269

وأمّا الإرادة الفعليّة فهي عين الإيجاد، وتحقيق الفعل الإلهيّ. وعليه: فإنّ الإرادة الذاتيّة هي عين العلم، والإرادة الفعليّة صفة من الصفات الإلهيّة الفعليّة)(1)

وبعبارة أخرى:

أن الإرادة الذاتية هي بمعنى أنه تعالى (يعلم أي نظام أفضل وأصلح لعالم الوجود، ويعلم أفضل الأوقات المناسبة لإيجاد الموجودات، وهذا العلم منبع تحقق الموجودات وحدوث الظواهر في الأزمنة المختلفة، وكذلك فإنه سبحانه وتعالى يعلم مصلحة عباده الكامنة في هذه القوانين والأحكام، وأن روح هذه القوانين والأحكام هي علمه بالمصالح والمفاسد)(2)

وأما الإرادة الفعلية فإنها (تُعدُّ من الصفات الفعلية، لذا فإن إرادته في خلق السموات والأرض هي عين حدوثها، وإرادته في فرض الصلاة هي عين وجوبها، وفي تحريم الكذب هي عين تحريمه)(3)

النقطة الثالثة: التعبّد بالإرادة

إن الآراء في معنى الإرادة كثيرة، ومتشعبة، ويكفينا أن نؤمن بأنه تعالى مريد ومتصف بصفة الإرادة الكمالية تعبداً، إذ إن القرآن الكريم أثبتها له جل وعلا في آيات كثيرة(4)، ومنها قوله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ

ص: 270


1- الكلام الإسلامي المعاصر ج1 ص185.
2- نفحات القرآن للشيرازي ج4 ص116.
3- نفس المصدر.
4- قال المحسني في صراطه (ج1 هامش ص 210): (الآيات المتضمنة للفظة الإرادة والمشيئة تزيد على المائة والستين على ما استخرجناها من القرآن الحكيم)

مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(1)

وقوله تعالى: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(2)

وقوله تعالى: (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(3)

وقوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(4)

وقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(5)

وهكذا السنة الشريفة، مع الالتفات إلى أن الروايات يظهر منها أن الإرادة هي صفة فعل حادثة(6)، وليست قديمة بقدم الذات.

ومنها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (...لَمْ يَزَلِ اللهُ عَالِماً قَادِراً ثُمَّ أَرَادَ)(7)

وعَنْ بُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): عِلْمُ الله ومَشِيئَتُه هُمَا

ص: 271


1- الأحزاب 17
2- يس 82
3- النحل 40
4- الأحزاب 33
5- البقرة 185
6- قال المحسني في صراطه (ج1 ص209): (قد تحصّل أن الروايات صريحة كما هي الأكثر أو ظاهرة غاية الظهور في حدوث الإرادة، وجملة منها صحيحة السند، فلا يعتريها شك وارتياب...)
7- الكافي للكليني ج1 ص109 بَابُ الإِرَادَةِ أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وسَائِرِ صِفَاتِ الْفِعْلِ ح1.

مُخْتَلِفَانِ أَوْ مُتَّفِقَانِ؟ فَقَالَ: الْعِلْمُ لَيْسَ هُوَ الْمَشِيئَةَ ألَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ الله، ولَا تَقُولُ سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ عَلِمَ الله، فَقَوْلُكَ: (إِنْ شَاءَ اللهُ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّه لَمْ يَشَأْ، فَإِذَا شَاءَ كَانَ الَّذِي شَاءَ كَمَا شَاءَ، وعِلْمُ الله السَّابِقُ لِلْمَشِيئَةِ.(1)

النقطة الرابعة: تقسيمات الإرادة
اشارة

يمكن أن نقسم الإرادة بعدة تقسيمات بحسب اختلاف الجهات المنظورة في التقسيم، ومن تلك التقسيمات هي التالي:

التقسيم الأول: الإرادة الذاتية والفعلية

وهذا التقسيم هو باعتبار كونها صفة ذاتية أو فعلية، وقد تقدم الكلام فيها.

التقسيم الثاني: الإرادة الحتمية وغير الحتمية

وهذا التقسيم هو باعتبار أن المراد إن كان من النوع الذي قضى الله تعالى بأنْ يقع، بحيث لا يقبل النقض ولا مناص من تحققه، فهي الإرادة الحتمية، وإن كان من النوع الذي قدّر الله تعالى إمكان تغيّره لتغيّر بعض ظروفه التي جعلها الله تعالى هي مدار تحقق أو عدم تحقق تلك الإرادة، فهي غير حتمية. ومثالها أمر الله تعالى النبي إبراهيم (عليه السلام) بذبح ولده إسماعيل (عليه السلام)، أو أمر الله تعالى المسلمين بتقديم صدقة قبل الدخول لمناجاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

ص: 272


1- الكافي للكليني ج1 ص109 بَابُ الإِرَادَةِ أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وسَائِرِ صِفَاتِ الْفِعْلِ ح2.

ومحل بحث هذين النوعين هو موضوع (البداء)، لأن غير الحتمية هي ما يقع فيها البداء والتغيير، وستأتي تفاصيلها في محلها إن شاء الله تعالى.(1)

التقسيم الثالث: الإرادة التكوينية والتشريعية

يمكن تقسيم الإرادة بلحاظ آخر إلى قسمين، وهما: التكوينية (وقد يُطلق عليها: إرادة حتم) والتشريعية (وقد يُطلق عليها: إرادة عزم).

والمقصود من التكوينية: (هي الإرادة التي يفيض منها وجود جميع الكائنات والموجودات، أو بتعبير آخر هي عين إيجادها جميعاً، أما الإرادة التشريعية، فهي الإرادة التي تفيض منها جميع الأوامر والنواهي الإلهية، وجميع الأحكام والقوانين الشرعية، وبتعبير آخر: عين هذه الأحكام والقوانين)(2)

ولإيضاح الفرق بينهما أكثر نذكر التالي:

1/الإرادة التكوينية تتعلق بالأمور الحقيقية، لا الاعتبارية، مثلاً إرادة كون الشمس مضيئة، أو إرادة خلق الإنسان بهذه الكيفية، أو خلق العالم بهذا النظام، وهكذا.

أما التشريعية، فهي تتعلق بالأمور الاعتبارية، أي باعتبار أن هذا الشيء الفلاني واجب مثلاً على ذمة المكلف، وذاك أمر محرم، أي إنها التكاليف الشرعية الخمسة.

ص: 273


1- في آخر مباحث العدل الإلهي إن شاء الله تعالى.
2- نفحات القرآن للشيرازي ج4 ص117.

2/الإرادة التكوينية يفعلها الله تعالى، ولا دخل للإنسان فيها، أما التشريعية، فإن الله تعالى يُحدث الأمر بها، وعلى الإنسان أن يمتثل لأمر الله تعالى ونهيه ويحقق تلك الإرادة بإرادته كما أراد الله تعالى له أن يحدثها بإرادته.

3/ التكوينية لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، لأنه لم يُلق في ذمة المكلف شيء اتجاهها، أما التشريعية فهي مدار الثواب والعقاب فيما لو امتثل العبد أو لم يمتثل.

ملحوظة: الترابط بين التشريع والتكوين:

ومعنى هذا: أن القرآن الكريم والسنة الشريفة يؤكدان على وجود علاقة طردية بين الالتزام بالأحكام التكليفية التشريعية وبين رضوخ القوانين التكوينية للإنسان، وسيرها في مصلحته، فكلما ازداد التزام المرء بالأحكام الشرعية، كلما خضعت له القوانين التكوينية، والعكس بالعكس، ولا أدلّ على ذلك من حياة الأنبياء وكيف كانت القوى الكونية تخضع لهم، فصارت النار برداً وسلاماً على إبراهيم (عليه السلام)، وهي التي لم ترحم أحداً وقع فيها، وصار الطين طيراً حياً لعيسى (عليه السلام)، وهو الذي لم تنبع فيه حياة على يد مخلوق، وصار الحديد ليّناً لداود (عليه السلام)، وهو الصلب على مر الحياة، وانشق القمر للنبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) وما انشق بعدها لأحد، وغيرها كثير مما هو واضح في حياة الأنبياء، وما كان ذلك إلا لأنهم كانوا –فيما كانوا عليه- على قمة الالتزام بالقوانين التشريعية، التي تؤدي بالإنسان أن يقول للشيء: كن، فيكون.

والآيات والأحاديث في هذا المضمار كثيرة، نختار منها ما يلي:

ص: 274

يقول تعالى (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَىٰ الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(1)

ويقول تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(2)

ويقول تعالى على حكاية عن النبي نوح (عليه السلام): (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً)(3)

وعَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): قَالَ: أَمَا إِنَّه لَيْسَ مِنْ عِرْقٍ يَضْرِبُ ولَا نَكْبَةٍ ولَا صُدَاعٍ ولَا مَرَضٍ إِلَّا بِذَنْبٍ وذَلِكَ قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فِي كِتَابِه: (وما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)(4)قَالَ: ثُمَّ قَالَ: ومَا يَعْفُو الله أَكْثَرُ مِمَّا يُؤَاخِذُ بِه.(5)

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار.(6)

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) لعبد الله بن جندب في وصيته له: يا ابن جندب، لو أن شيعتنا استقاموا لصافحتهم الملائكة، ولأظلهم الغمام،

ص: 275


1- الجن 16
2- الأعراف 196
3- نوح10-12
4- الشورى 30
5- الكافي للكليني ج2 ص 269 باب الذنوب ح3.
6- الأمالي للشيخ الطوسي ص 305 ذيل حديث 611 / 58.

ولأشرقوا نهاراً، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولما سألوا الله شيئاً إلا أعطاهم.(1)

وغيرها من الروايات الكثيرة الدالة على هذا الأمر.

وأوضح تطبيق لهذه العلاقة وهذا القانون، هو ما جاء في الروايات عن البركات والتقدم في دولة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وهي كثيرة في هذا المجال نذكر منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهب الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلا على النبات وعلى رأسها زينتها (زنبيلها) لا يهيجها سبع ولا تخافه.(2)

وعن الإمام السجاد (عليه السلام): إذا قام قائمنا أذهب الله عز وجل عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد، وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلا، ويكونون حكام الأرض وسنامها.(3)

النقطة الخامسة: خصائص الإرادة الإلهية
الخصيصة الأولى: سعة الإرادة الإلهية

تقدم الكلام في أن القدرة الإلهية شاملة لكل شيء، وأن المقصود من الشيء هنا هو الممكن، لا الواجب ولا الممتنع، ونفس الكلام نقوله هنا، فإن

ص: 276


1- تحف العقول للحراني ص302.
2- الخصال للشيخ الصدوق ص626 حديث أربعمائة.
3- الخصال للشيخ الصدوق ص541 أبواب الأربعين وما فوقه ح14.

الإرادة الإلهية (سواء قلنا إنها ذاتية أو فعلية) فهي تسع كل شيء ممكن، ولا يمكن أن يمتنع أي شيء عن إرادته تعالى، قال تعالى: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(1)

وقال تعالى: (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(2)

(وطبعاً إن هذا الكلام لا يعني وجود الحوادث والموجودات في لحظة واحدة، بل يعني وجودها وحدوثها وفق الإرادة الإلهية والأمر الإلهي بدون تقديم أو تأخير ولو لحظة واحدة...)(3)

الخصيصة الثانية: عدم المانع من نفوذ إرادته

لا يمكن أن نتصور شيئاً (والمقصود هو الممكن طبعاً كما تقدم) يمكنه أن يحول بين الله عز وجل وبين وقوع ما يريد وقوعه، أو عدم وقوع ما لا يريد وقوعه، إذ المانع غيره ليس إلا الممكن، وهو لا شيء أمام الله تعالى كما هو واضح.

قال تعالى مُعرّضاً بمن ادّعى ألوهية عيسى (عليه السلام): (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرضِ جَمِيعاً وَلِلهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ

ص: 277


1- يس 82
2- النحل 40
3- نفحات القرآن للشيرازي ج4 ص109.

وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(1)

وقال تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(2)

وقال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(3)

ويترتب على الإيمان بهذه الخصّيصة واستشعارها بالوجدان:

الاطمئنان بأن كل ما يجري في هذه الحياة فإن إرادة الله تعالى هي الحاكمة فيه، فلو ترك المؤمن أمره بين يدي الله تعالى، وترك تقدير أموره إلى تقدير الله تعالى، أي إنه لو كان سعيه في هذه الحياة كما يريده الله تعالى بالإرادة التشريعية، حينها سيعيش المؤمن حياته بكل اطمئنان، وعندها سوف لا يثنيه شيء عن الوصول إلى هدفه في مرضاة الله تعالى مهما كانت الظروف قاسية، ومهما اشتدت عليه الريح في يوم عاصف.

وإلى هذا المعنى تشير العديد من الروايات الشريفة، منها ما روي عن رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: مَنْ طَلَبَ مَرْضَاةَ النَّاسِ بِمَا يُسْخِطُ اللَّه كَانَ حَامِدُه مِنَ النَّاسِ ذَامّاً، ومَنْ آثَرَ طَاعَةَ الله بِغَضَبِ النَّاسِ كَفَاه الله عَدَاوَةَ كُلِّ عَدُوٍّ وحَسَدَ

ص: 278


1- المائدة 17
2- الأحزاب 17
3- الفتح 11

كُلِّ حَاسِدٍ وبَغْيَ كُلِّ بَاغٍ وكَانَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه نَاصِراً وظَهِيراً.(1)

وكَتَبَ رَجُلٌ إِلَى الْحُسَيْنِ (عليه السلام): عِظْنِي بِحَرْفَيْنِ. فَكَتَبَ إِلَيْه: مَنْ حَاوَلَ أَمْراً بِمَعْصِيَةِ الله كَانَ أَفْوَتَ لِمَا يَرْجُو وأَسْرَعَ لِمَجِيءِ مَا يَحْذَرُ.(2)

وروي أيضاً أنه كتب رجل إلى الحسين بن علي (عليهما السلام): يا سيدي، أخبرني بخير الدنيا والآخرة. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإنه من طلب رضا الله تعالى بسخط الناس، كفاه الله تعالى أمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله تعالى، وكله الله تعالى إلى الناس، والسلام.(3)

الخصيصة الثالثة: تجلّي حكمته ورحمته جل وعلا في إرادته

تقدم في بحث القدرة: أن القدرة رغم سعتها، لكن الحكمة هي التي يمكن أن تقيّدها، وكذلك الإرادة الإلهية، تقيّدها الحكمة الإلهية، فعلى المؤمن أن يطمئنّ بأن ما اختاره الله تعالى له –ككونه من الأب الفلاني أو من العشيرة الفلانية أو في البلد المعين أو بالشكل المعين وما مشابه هذه الأمور- هو الأصلح له حسب العلم والحكمة الإلهية، إذ لا بخل في ساحته جل وعلا، وإرادته نافذة في كل شيء، فلا بد أن يكون الظرف الذي خرج فيه الإنسان هو أفضل الظروف له على الإطلاق.

هذا ما يتعلق بالإرادة التكوينية، ونفس الكلام في الإرادة التشريعية،

ص: 279


1- الكافي للكليني ج2 ص372 بَابُ مَنْ أَطَاعَ الْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ/ ح2
2- نفس المصدر ح3.
3- أمالي الشيخ الصدوق ص 268/ح293 / 14.

حيث إن الرحمة الإلهية تجلّت في إرادته جل وعلا، فرغم أنه تعالى كان قادراً على أن يريد تشريعاً من البشر بحيث يعجزون عنه، لكنه جل وعلا أراد منهم يسيراً، وكلّفهم بأقل من وسعهم، فالإرادة هنا رغم سعتها، لكن الحكمة والرحمة جعلا من دائرتها أضيق بكثير من واقع سعتها.

قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىٰ لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدىٰ وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلىٰ ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(1)

الخصيصة الرابعة: إرادة انتصار الخير

تؤكد العديد من الآيات الكريمة: أن إرادة الله تعالى في هذا الكون، كانت على أن الخير هو المنتصر، لكن ولو بعد حين، إذ الإرادة هنا تعلّقت بانتصار الخير لكن بعد أن تمر البشرية بأطوار عديدة من التقلبات، وبعد أن تجرّب حظها في حكم الحياة بعيداً عن الإرادة الإلهية، فلا يبقى لها سوى أن تُذعن بأن تجربتها الشخصية غير قادرة على جعل الحياة مهداً مستقراً لنشوء الإنسان بسعادة واطمئنان، وحينها سيأذن الله تعالى لوليه الأعظم (عجل الله تعالى فرجه) بأن يظهر ليقود الدنيا نحو السعادة والأمن والاطمئنان.

قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ

ص: 280


1- البقرة 185

أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(1)

وقال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(2)

وقال تعالى: (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(3)

الخصيصة الخامسة: إرادته تعالى لم تُلغِ إرادة الإنسان

فرغم شمول وسعة الإرادة الإلهية، ورغم قدرته جل وعلا على خلق الإنسان مجبراً وكالآلة، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك، وإنما جعل الإنسان مريداً مختاراً، فبإرادته تعالى كان الإنسان مريداً، وتفصيل هذه الخصيصة يكون في بحث العدل الإلهي والاختيار الإنساني والأمر بين الأمرين إن شاء الله تعالى.

ص: 281


1- القصص 5
2- النور 55
3- المجادلة 21

ص: 282

التفصيل الثاني: تفصيل الصفات الثبوتية الفعلية
اشارة

إن من أهم الصفات الثبوتية الفعلية هي صفة العدل، وقد أُفرد لها بحث الأصل الثاني من أصول الدين، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى، وقد تقدمت الإشارة إلى بعض الصفات الفعلية كالخالقية في بحث القدرة.

وعليه، فنذكر هنا فقط صفة (الكلام الإلهي) وبتبعها صفة (الصدق).

في أنه تعالى متكلم

لقد أثبتت النصوص الشرعية صفة المتكلم له تعالى بعبارات مختلفة، قال تعالى (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)(1)

وقال تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ باللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى باللهِ وَكِيلاً)(2)

وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ

ص: 283


1- سورة البقرة (117).
2- سورة النساء(171).

سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(1)

وقد وقع الخلاف – كالعادة – في تصنيف هذه الصفة على عدة آراء، نذكر منها:

أ/ أنها صفة ذاتية، قديمة بقدمه تعالى وعين ذاته، وترجع إلى نحو من أنحاء القدرة أو العلم.

ب/ أنها صفة ذاتية مغايرة للصفات الذاتية الأخرى، (للأشاعرة).

ج/أنها صفة فعلية حادثة، وهي عين الفعل، فمحلّها الفعل نفسه – لا الذات المقدسة-،(للإمامية).

توضيح رأيي الأشاعرة والمعتزلة

توضيح رأيي الأشاعرة والمعتزلة(2):

قالت الأشاعرة:

إن الكلام صفة ذاتية لها معنى مستقل لا يرجع إلى العلم أو القدرة أو بقية الصفات، وحقيقتها أنها صفة تكون مدلولاً للكلام اللفظي، فاللفظ يحكي عن واقع نفسي، ذلك الواقع النفسي هو الكلام النفسي، وهو غير التمني والترجي والعلم والقدرة بل وغير الطلب، فالكلام النفسي هو في الإخبارات، وهو بعينه الطلب في الإنشاءات.

وقد استدلوا بقول القائل:

ص: 284


1- سورة لقمان(27).
2- ينظر: الإلهيات- الشيخ جعفر سبحاني الباب الثاني: الصفات الثبوتية الفعلية- التكلم.

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما *** جُعل اللسان على الفؤاد دليلا (1)

وقد شغلت هذه الفكرة مساحة من التفكير الكلامي والفلسفي، ورُبطت بشكل وبآخر بمسألة خلق القرآن! إذ ما دام الكلام النفسي صفة ذاتية قديمة فالقرآن سيكون قديماً.

وبعبارة أخرى: أن الأشاعرة قالوا: إن لله كلامين: كلاماً نفسياً، وكلاماً مقروءاً، والأول قديم، والآخر حادث.

أما ما هو الكلام النفسي فهو محل خلاف شديد بينهم، ويمكن بيانه بالتالي:

إن الجمل قسمان: إخبارية، وهي تقوم على العلم، ووراء العلم يوجد شيء.

وإنشائية فهي الأمر والنهي وبقية الأساليب الإنشائية، ووراء الأمر والنهي و...، يوجد شيء، فوراء الإرادة والكراهة يوجد شيء ما.

وذاك الشيء الموجود وراء العلم في الإخبارية ووراء الإرادة والكراهة في الإنشائية هو الكلام النفسي، وأما هذه الألفاظ فهي تعبير عن ذلك الكلام النفسي، ومعه فالكلام النفسي عين الذات المقدسة، فيكون قديماً.

وحينها يُقال: إن المقصود من أن القرآن الكريم قديم هو الكلام النفسي لا الكلام الموجود المقروء بين أيدينا اليوم لأنه تعبير عن ذلك الكلام النفسي.

ص: 285


1- وهذا البيت لم يعرف قائله، بل احتمل البعض أن واضعه هو أحد الأشاعرة الذين كانوا يبحثون عما يسند دعواهم!

ورد المعتزلة عليهم:

قبل مطالعة أدلة الكلام النفسي، وأنه صفة غير العلم والقدرة والتمني والترجي والطلب و...، سماها الأشاعرة بالكلام النفسي، لا بد من تقديم معنى محصل لهذا الكلام النفسي نتصوره ويكون معقولاً، فما زلنا لا نحمل صورة واضحة عن معناه، وهذا ما عجز عن تقديمه حتى الأشاعرة أنفسهم. خصوصاً مع عدم وجود أي إشارة – ولو من بعيد – عن الكلام النفسي لا في الكتاب ولا في السنة بل ولا كلام الأعلام!

وقالت المعتزلة:

الكلام فينا هو صوت يتولد عن الحنجرة ضمن سياقات خاصة من أوتار صوتية وهواء متخلل وهواء وسيط يحمل الذبذبات الصوتية وينقلها إلى المقابل، وهذه الوسائط – والسياقات – منفية عنه تعالى لنفي الجسمية عنه تعالى. ولكن هذا لا ينفي أن يوجِد الله الكلام – بمعنى الصوت – ويخلقه في جسم من الأجسام، فيصدر ذلك الصوت عن ذلك الجسم، كما حدث للشجرة التي كلمت موسى (على نبينا وآله وعليه السلام)

فالكلام الإلهي إذن هو: خلقُ الله تعالى الصوتَ في جسم من الأجسام، لينقل مقاصده تعالى إلى البشر، فهي صفة فعلية لا ذاتية.

وهذا هو مختار الإمامية

أو قل: إن (المراد من الكلام الإلهيّ تلك الحروف والأصوات التي تُحدثها القدرة الإلهيّة بنحو معيّن في بعض الحقائق الخارجيّة؛ مثل: الشجرة،

ص: 286

والملائكة، وقلب الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعليه: فإنّ الكلام لا ينتمي إلى الصفات الإلهيّة الذاتيّة، ولا يُعدّ قديماً أو قائماً بالذات الإلهيّة، بل يمثّل واحداً من المخلوقات التي خلقها الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ. والكلام الصادر من الشجرة، أو القادم من الملك على هيأة كتاب سماويّ هو كلام إلهيّ بلا شكّ.)(1)

وقد أشارت الروايات الشريفة إلى حقيقة حدوث الكلام الإلهي، وإلى أن كلام الله تعالى ليس بلسان جسماني كما فينا، وإنما هو خلق الله تعالى، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:... يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ ولَهَوَاتٍ، ويَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وأَدَوَاتٍ يَقُولُ ولَا يَلْفِظُ... يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَه كُنْ فَيَكُونُ، لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ ولَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ، وإِنَّمَا كَلَامُه سُبْحَانَه فِعْلٌ مِنْه أَنْشَأَه ومَثَّلَه، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً، ولَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً...)(2)

تنبيه: إطلاقات الكلام الإلهی

إن الكلام الإلهي يُطلق تارة ويُراد منه نفس الفعل الإلهي، فإذا أوجد الله تعالى الصوت في شيء ما، فإن نفس خلقه ذاك الصوت في الشجرة مثلاً يُطلق عليه كلام الله.

وأخرى يُطلق ويُراد منه ما ينتج من فعل الله تعالى، أي المخلوق نفسه، وهذا المخلوق قد يكون لفظاً، كما في الحروف التي صدرت من تلك الشجرة، أو كما هو القرآن الكريم.

ص: 287


1- الكلام الإسلامي المعاصر (ج1 ص197)
2- نهج البلاغة (ج2 ص 122 – 123)

وقد يكون شيئاً آخر غير اللفظ، كما في تسمية النبي عيسى (عليه السلام) بأنه كلمة الله تعالى(1)، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)(2)

وقد تطلق الكلمة ويُراد منها الحكم والقضاء الإلهي، قال تعالى

ص: 288


1- وقد ذكروا في سبب إطلاق الكلمة عليه (عليه السلام): (لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير من غير واسطة أب ولا نطفة) [تفسير جوامع الجامع للطبرسي ج1 ص 464] وقال الرازي في تفسيره الكبير (ج8 ص38) ما نصه: فيه وجوه: الأول: أنه خلق بكلمة الله، وهو قوله (كن) من غير واسطة الأب، فلما كان تكوينه بمحض قول الله (كن) وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر، لا جرم سمى: كلمة، كما يسمى المخلوق خلقاً، والمقدور قدرة، والمرجو رجاء، والمشتهي شهوة، وهذا باب مشهور في اللغة والثاني: أنه تكلم في الطفولية، وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية، فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً، فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال: فلان جود وإقبال إذا كان كاملاً فيهما. والثالث: أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق، كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية، فسمى: كلمة، بهذا التأويل، وهو مثل تسميته روحاً من حيث إن الله تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح، وقد سمى الله القرآن روحاً فقال: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) (الشورى: 52) والرابع: أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله، فلما جاء قيل: هذا هو تلك الكلمة، فسمى كلمة بهذا التأويل قالوا: ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال: قد جاء قولي وجاء كلامي، أي ما كنت أقول وأتكلم به، ونظيره قوله تعالى: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار) (غافر: 6) وقال: (ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) (الزمر: 71) الخامس: أن الإنسان قد يسمى بفضل الله ولطف الله، فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم: كلمة الله، وروح الله...
2- النساء 171

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَىٰ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ)(1)

موانع القول بقدم الكلام الإلهي

إن هناك مجموعة من الموانع تمنع من التزام قدم الكلام الإلهي، نذكر منها:

1/ إن البناء على أن كلام الله تعالى قديم يستوجب تعدد القدماء، وهو باطل بالضرورة كما اتضح أكثر من مرة.

2/إن الكلام مركب من الحروف والأصوات، والكلام السابق ينعدم بوجود الكلام اللاحق، والقديم لا ينعدم وجوده، لأنه خلف. فالكلام حادث.

3/لو كان كلامه تعالى قديماً للزم عليه الكذب –وحاشاه-، لأنه يُخبر عن أمور، مثل إرسال نوح (عليه السلام)، والطوفان، و...، فإذا كان الكلام قديماً فمعناه أنه يتحدث عن إرسال نوح (عليه السلام) قبل خلقه، فهذا إخبار، ولكنه لم يخلق نوحاً (عليه السلام) بعد، فهو إخبار عن أمر لم يتحقق بعد، وهو كذب، والعياذ بالله، وهكذا في بقية إخبارات القرآن.

والصحيح ما عليه أئمة أهل البيت من أن القرآن مخلوق وأن كلام الله حادث، وقد نطق بذلك القرآن الكريم.

الصدق:

ويلحق بمبحث الكلام الإلهي: بحث الصدق.

ص: 289


1- غافر 6

ويُعنى من الصدق: (مطابقة الكلام للواقع ونفس الأمر)، وهو يقابل الكذب (مخالفة الكلام للواقع).

ومن هذا يُفهم: أن الصدق صفة الكلام، وحيث إن الكلام حادث (إذ إنّه فعل من أفعال الله تعالى الحادثة كما ثبت سابقاً) فالصدق كذلك، لأنه وصف للكلام الحادث.

(إن هذه الصفة التي تعدّ من الصفات الفعلية، تشكل العمود الأساس في الوثوق بدعوات الأنبياء، لأنه –نعوذ بالله- لو كان يمكن تصور صدور الكذب عنه جل وعلا، لما بقيت هنالك ثقة لا بمسألة الوحي، ولا بالوعود الأخروية، ولا بالأخبار التي تحدثت عن المعارف الدينية، أو عن عوامل سعادة البشر وشقاوتهم، وبتعبير آخر: فإن أسس المسائل الدينية تنهار بصورة تامة بنفي هذه الصفة، ومن هنا يتضح مدى تأثير الإيمان بصدق الله في فهم حقائق الدين)(1)

وأما الدليل على اتصافه تعالى بالصدق فهو

أولاً:

دليل عقلي راجع إلى انتفاء القبح عنه تعالى، لأن الحسن والقبح عقليان كما ثبت في محله، وهنا نأخذ هذه النتيجة كأصل موضوعي، وقد تبنّاه المعتزلة والإمامية بقوة، على اختلاف في صياغته.

ويمكن بيان هذا الدليل العقلي بعدة بيانات، نذكر منها(2):

ص: 290


1- نفحات القرآن للشيرازي (ج4 ص297)
2- وانظر: صراط الحق للمحسني (ج1 ص 253)...

1/إن الكذب نقص، فهو قبيح، ولا يتصف الواجب بالقبيح، لأنه خلاف الكمال.

2/إنه تعالى حكيم، والحكيم لا يفعل القبائح رغم قدرته عليها كما هو واضح.

3/إن الداعي للكذب ليس هو إلا العجز والاضطرار، والله تعالى لا يُعجزه شيء ولا يضطره، لأنه القادر المطلق والقوي المطلق.

4/ لو جاز عليه الكذب لارتفع منه الوثوق والاعتماد بوعده ووعيده، لاحتمال تخلّفه في ثوابه وعقابه، وكذلك لانتفت فائدة الترغيب في الطاعات والترهيب من المعاصي، والتالي مخالف لضرورة العقل.

ثانياً:

الإجماع وهو للأشاعرة، فحيث إن مبناهم من أن التحسين والتقبيح شرعيان لا عقليان- لا يثبت الصدق، لذا لجؤوا إلى دليل آخر، فقالوا بالإجماع على ذلك، فدليلهم على اتصافه تعالى بالصدق هو الإجماع لا غير.

وبالنتيجة، فإن الكل متفق على اتصاف كلام الله تعالى بالصدق، إما لدلالة العقل أو للإجماع.

ويلحق بهذه الصفة اتصاف الله تعالى بانه صادق الوعد، وهو لا يخلف الميعاد؛ لأن خلف الوعد قبيح عقلاً.

ص: 291

ص: 292

التفصيل الثالث: تفصيل الصفات السلبية الذاتية
مقدمة

سُمّيت سلبية لأنها لا تثبت كوصف لله تعالى إلا إذا سبقها حرف سلب، ذلك لأن إثباتها له جل وعلا يلزم منه نسبة النقص له جل وعلا، وهو تعالى منزّه عن أي نقص، ويطلق عليها أيضاً (صفات الجلال)، أي ما يُجلُّ الله تعالى عن أن يتصف بها، كما يُطلق على الصفات الثبوتية بصفات الجمال والكمال، لأنها تُعبّر عن كمال في الذات التي تتصفُ بها.

والصفات السلبية كثيرة، يجمعها عنوان: سلب كل نقص عنه جل وعلا، (وبعبارة أخرى يمكن القول: بأن جميع الصفات السلبية مجموعة في هذه الجملة، وهي: إن الله مقدّس ومنزّه عن كل ألوان العيوب والنقائص وعوارض وصفات الممكنات)(1)

والاسم الذي يُشير إلى هذه الحقيقة، هو: اسم (السُبّوح) و(القدّوس)، ولا بأس بالتوقف عند هذين الاسمين قليلاً:

أما (السبوح):

فهو من الفعل (سبَح)، وله معاني لغوية عديدة، وما يهمنا هو معنى

ص: 293


1- نفحات القرآن للشيرازي ج4 ص159.

التنزيه، فإنّ (التسبيح: التنزيه)(1)

وقولك: (سبحان الله: معناه: تنزيهاً لله من الصاحبة والولد، وقيل: تنزيه الله تعالى عن كل ما لا ينبغي له أَن يوصف به)(2)

(كأنه قال: أبرّئ الله من السوء براءة)(3)

وسبوح صيغة مبالغة منه، ومعناه أيضاً (الذي يُنَزَّه عن كل سُوء)(4)

وعلى هذا، فإنه يمكن القول: إن التسبيح لله تعالى جاء للدلالة على التنزيه عن كل عيب ونقص.

وقد روي في هذا المعنى أنه جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسأله أعلمهم فقال له: أخبرني عن تفسير (سبحان الله)... فقال النبي (صلى الله عليه وآله): علم الله عز وجل أن بني آدم يكذبون على الله عز وجل فقال سبحان الله براءة مما يقولون...(5)

وروي عن طلحة بن عبيد الله، قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن تفسير سبحان الله فقال: هو تنزيه الله من كل سوء.(6)

وقد روي أنه سأل رجل عمر بن الخطاب فقال: يا أمير... ما تفسير سبحان الله؟ قال: إن في هذا الحائط رجلاً كان إذا سُئل أنبأ، وإذا سكت

ص: 294


1- الصحاح للجوهري ولسان العرب لابن منظور مادة (سبح)
2- العين للفراهيدي ولسان العرب لابن منظور مادة (سبح)
3- الصحاح للجوهري مادة (سبح).
4- لسان العرب لابن منظور مادة (سبح).
5- علل الشرائع للصدوق ج1 ص251 الباب 182 الحديث 8.
6- جامع البيان عن تأويل القرآن لمحمد بن جرير الطبري ج11 ص120.

ابتدأ، فدخل الرجل فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: يا أبا الحسن ما تفسير (سبحان الله)؟ قال: هو تعظيم جلال الله عز وجل وتنزيهه عما قال فيه كلُّ مشرك، فإذا قالها العبد صلى عليه كلُّ ملك.(1)

وعَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):...فَمَا تَفْسِيرُ سُبْحَانَ الله؟ فقَالَ (عليه السلام): أَنَفَةٌ لله، أمَا تَرَى الرَّجُلَ إِذَا عَجِبَ مِنَ الشَّيْءِ قَالَ سُبْحَانَ الله.(2)

وأنفةٌ لله تعالى أي: تنزيه لذاته الأحدية عن كل ما لا يليق بجنابه، يقال: أنف من الشيء إذا استنكف عنه وكرهه وشرف نفسه عنه.(3)

بالإضافة إلى هذا المعنى العام، فإنه قد ورد استعمال صيغة (سبحان الله) للدلالة على عدة معاني منها(4):

المعنى الأول: سبحان بمعنى براءة من الله وتنزه منه. كما في قوله تعالى (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ)(5)

المعنى الثاني: سبحان بمعنى التحميد، كما في قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي

ص: 295


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص312 الباب 45 باب معنى (سبحان الله) الحديث (1).
2- الكافي للكليني ج3 ص329 – 33- بَابُ أَدْنَى مَا يُجْزِئُ مِنَ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ والسُّجُودِ وأَكْثَرِه/ الحديث (5)
3- هامش المصدر، وكذا في هامش ج1 ص118.
4- انظر: مجمع البحرين للطريحي مادة (سبح).
5- المؤمنون 91

سَخَّرَ لَنا هذا)(1)

المعنى الثالث: بمعنى التعجب والتعظيم لما اشتمل الكلام عليه، كما في قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ)(2)

وقوله تعالى (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ.)(3)وهو

تعجب ممن يقول ذلك.

وأما (القُدّوس) فمعناه التالي:

(قدس)... يدل على الطهر. ومن ذلك: الأرض المقدسة هي المطهرة. وتسمى الجنة حظيرة القدس أي الطهر. وجبرئيل (عليه السلام) روح القدس. وكل ذلك معناه واحد. وفي صفة الله تعالى القدوس وهو ذلك المعنى لأنه منزه عن الأضداد والأنداد والصاحبة والولد تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.(4)

فالقدوس (من الأسماء الحسنى، بمعنى صاحب القدس والمتّصف به وبالطهارة المعنويّة الحقّة والمنزّه عمّا يخالف القدس وعن كلّ ضعف ونقص وعيب ومحدوديّة وفقر، فهو قدّوس مطلق من جميع الجهات بذاته وفي ذاته)(5)

ص: 296


1- الزخرف 13
2- الإسراء 1
3- النور 16
4- معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس بن زكريا مادة (قدس)
5- التحقيق في كلمات القرآن الكريم للشيخ حسن المصطفوي ج9 ص211 مادة (قدس)

والخلاصة: (أَن هاتين الصفتين (السُّبوح والقُدوس) متقاربتان من حيث المعنى، فكلاهما يدلان على تنزيه الخالق- جلّ وعلا- من النقائص والعيوب، وقد جاء في الآيات والأَحاديث الكثير من الموارد المهمّة التي يجب تنزيه الخالق منها، ومن جملتها: الشريك، والولد، والتجسيم، وفعل العبث، ومن الطبيعي أَن التنزيه لا ينحصر بهذه الموارد، فيجب تنزيه الخالق من كل النواقص والعيوب)(1)

وهنا نقاط توضيحية:

الأولى: أن صيغة (سبوح) لم ترد في القرآن الكريم، وإنما وردت بصيغة (سبحان) (يسبح) (سبح)، وأما قدوس، فقد وردت في القرآن الكريم، قال تعالى (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(2)

الثانية: وردت صفة (السُّبوح) مقترنة بِالقُدوس في أَحاديث متعددة، وعلى سبيل المثال روي عن الرسول الأَكرم (صلى الله عليه وآله) أَنّه كان يقول في سجوده وفي ركوعه: سُبّوحاً قُدّوساً رَبَّ المَلائِكَةِ وَالرّوحِ.

وروي عن أَمير المؤمنين علي (عليه السلام) أَنه كان يقول: سبوحاً قدوساً تعالى أَن يجري منه ما يجري من المخلوقين.

وورد عن الأَئمّة الأَطهار (عليهم السلام) أنَّهم كانوا يقولون: يا قدوس يا نور

ص: 297


1- موسوعة العقائد الإسلامية للريشهري ج4 ص254.
2- الحشر 23

القدس، يا سبوح يا منتهى التسبيح.(1)

الثالثة: أن اسم القدوس ورد بعد اسم الملك في آيتين، قال تعالى (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(2)

وقال تعالى (يُسَبِّحُ لِلهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(3)

(ولعله لبيان أن كونه تعالى ملكاً يُفارق كون غيره ملكاً، فالملوكية جُبلت على الظلم والتعدي والإفساد، قال سبحانه: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ)(4)

وقال سبحانه: (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(5)

فذكْرُه مع اسم (القدوس) لتبيين نزاهته من كل ما يُنسب إلى الملوك من الأفعال والصفات)(6)

فالله تعالى رغم أنه مالك لكل شيء، ولا يمكن لشيء أن يقف دون إرادته، ولكنه تعالى تنزه عن كل الصفات السلبية التي اتصف بها ملوك

ص: 298


1- انظر: موسوعة العقائد الإسلامية للريشهري ج4 ص254.
2- الحشر 23
3- الجمعة 1
4- النمل 34
5- الكهف 79
6- مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج6 ص407.

الدنيا، فهو ملك عادل لا يحيف ولا يظلم أبداً.

الرابعة: ينبغي للمؤمن أن يعمل على أن يتصف بالنزاهة والطهارة المعنوية والمادية ما أوتي إلى ذلك سبيلاً، فإن النزاهة والطاهرة صفات كمالية اتصف بهما الباري جل وعلا، فيلزم على المؤمن أن يتمثل هاتين الصفتين في كل أفعاله وأقواله، على أن يكون مخلصاً في ذلك، ولا يعمل رياءً أبداً.

إن (...حظَّ العبد من هذا الاسم واتّصافه بهذه الصفة: أن يكون له قداسة وطهارة في أفكاره وعقائده، وفي صفاته وأخلاقه، وفي أعماله وآدابه، بحيث لا يشوبه خلل وانكدار في هذه المراتب الثلاث، ويكون منزّها عن كلّ عيب وانحراف في ظاهره وباطنه.

وأمّا من يظهر القدس في أعماله الظاهرة ويرائي ويتقدّس: فهو من المراءين المنحرفين، نعوذ بالله من شرورهم ومكائدهم.

فانّ شرّهم للإسلام والمسلمين أشدّ من شرور الكفّار والمشركين، فانّهم من مصاديق المشركين والمنافقين المعاندين في الحقيقة، ويدّعون ما ليس في باطنهم منه أثر، ويراؤون ما ليس في قلوبهم منه خبر، ويقولون ما لا يعلمون، وهم عن الحقّ لمبعدون.)(1)

وبعد هذه المقدمة، نذكر عددا من الصفات السلبية كالتالي:

ص: 299


1- التحقيق في كلمات القرآن الكريم للمصطفوي ج9 ص212 مادة (قدس)
الصفة الأولى: إنه تعالى ليس بمركب

أي إنه تعالى بسيط لا جزء له، وهذا ما تقدم بيانه في صفة التوحيد، حيث قلنا هناك ما نصه: إن واجب الوجود بسيط (غير مركب: لا من أجزاء ذهنية ولا من أجزاء خارجية حقيقية)، والدليل على هذا القسم من التوحيد: أن التركيب يستلزم الاحتياج إلى الأجزاء، والاحتياج خلاف وجوب الوجود.

فنكتفي بهذا القدر المتقدم.

الصفة الثانية: إنه تعالى ليس بجسم

الجسم هو ما له أبعاد ثلاثة: طول وعرض وعمق (ارتفاع)، والدليل على امتناع اتصاف الله تعالى بالجسمية بات واضحاً، إذ الجسم مركب، والمركب محتاج إلى أجزائه، والله تعالى ليس محتاجاً ولا مركباً.

وأيضاً: الجسم محتاج إلى المكان ليستقر فيه، والله تعالى غني مطلق. ولو كان محتاجاً لكان ممكناً لا واجباً.

وإذا لم يكن (جل جلاله جسماً) إذن:

أ/لا يقع في جهة دون جهة.

ب/ لا تمكن الإشارة الحسية له.

فما دام الله تعالى ليس جسماً، فإذن هو لا يقع في جهة دون أخرى، ولا تمكن الإشارة له بالإشارة المادية، لأنها تستلزم أن يكون المشار إليه في جهة معينة، بمعنى أنك عندما تشير إلى شيء، فإنك تتوهم خطاً ممتداً من طرف

ص: 300

إصبعك (المشير) وينتهي بالمشار إليه، فذلك المنتهى هو طرف الامتداد، وذلك الطرف هو الجهة، ومن ذلك الطرف يتولد يمين ويسار وفوق وتحت وأمام وخلف... وهذه الجهة منفية عنه تعالى، لأن الجهة إنما تتصور في الإشارة الحسية، وهي تتصور في عالم الأجسام فقط(1)،

وهو تعالى ليس جسماً، فلا جهة له تعالى.

ثالثاً: إنه تعالى ليس متحيزاً، لأن التحيّز هو: إشغال حيّز في المكان، والحيّز هو السطح أو البعد. ولو كان متحيزاً لكان محتاجاً إلى الحيْز، والحاجة سمة الممكن.

وأيضاً كل متحيّز محدود، ووجوب الوجود ينفي المحدودية.

الصفة الثالثة: إنه تعالى ليس بجوهر ولا عرض

البحث في هذه المسألة دقيق، ولكن نحاول أن نبينه بصورة إجمالية عبر النقاط التالية:

أولاً: قالوا في الفلسفة: هناك وجود، وهو الثابت العين، والمتحقق، وهناك ماهية، والماهية لها معنيان:

المعنى الأول: الماهية بالمعنى الأعم، أي ما يساوق الوجود، فلكل وجود ماهية، أي ثبوت وتحقق، فالماهية هنا بمعنى التحقق والثبوت والوجود، وهذا المعنى كما يصدق على الإنسان، يصدق على الله تعالى، فالله تعالى له

ص: 301


1- أما في الذهن فلا توجد جهة؛ لأنه لا جسم، ولذا قالوا: إن التصور هي إشارة عقلية لا حسية.

ماهية بالمعنى الأعم، أي له تحقق وثبوت ووجود.

المعنى الثاني: الماهية بالمعنى الأخص، أي ما به الامتياز، بمعنى حدّ الوجود.

بيانه:

أنا وانت، كلانا وجود، ولكن وجودنا متناهي، أي ليس وجوداً مطلقاً لا محدوداً، إذ الوجود المطلق واللا متناهي واللا محدود منحصر بالله تعالى، وأما غيره من الوجودات فهي وجودات متناهية محدودة بحد معين.

وحد الوجود هو ما يسمى بالماهية بالمعنى الأخص، فلوجودي حد معين، فأنا ابن فلان، واسمي فلان، موجود في المكان الفلاني والزمان الفلاني، ولي لون كذا، وهكذا. وبهذه الحدود يمتاز وجودي عن وجودك، لأن وجودك له حدود أخرى غير حدود وجودي.

إذن، الماهية بالمعنى الأخص هو حد للوجود، فهي لا تكون إلا في الموجود المحدود.

وهذا معناه: أن الله تعالى لا يُقال عنه: إن له ماهية بالمعنى الأخص، بمعنى حد الوجود، لأنه تعالى لا حدّ له.

ثانياً: الجوهر: هي الماهية التي إذا وُجدت في الخارج وُجدت لا في موضوع.

والعرض: هي الماهية التي إذا وُجدتْ، وُجدت في موضوع.

فزيد موجود في الخارج، ولكنه لا يحتاج إلى موضوع ما حتى يوجد في

ص: 302

الخارج، وأما البياض، فهو أيضاً موجود في الخارج، ولكنه لا يوجد إلا في موضوع معين، كالجسم مثلاً.

ثالثاً: إن الجوهر والعرض، هما من أحكام الماهية بالمعنى الأخص، وحيث إن الله تعالى منزه عن الماهية بالمعنى الأخص، إذن، هو تعالى لا جوهر ولا عرض.

فنفي الماهية بالمعنى الأخص يعني نفي الحدّ والمحدودية عنه تعالى، وبالتالي ينفي الجوهرية والعرضية عنه تعالى.

وقد أشارت الروايات إلى ذلك المعنى بوضوح، حيث روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لَيْسَ لَه حَدٌّ يُنْتَهَى إِلَى حَدِّه)(1)

وعنه (عليه السلام): (وحَدَّ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا عِنْدَ خَلْقِه إِبَانَةً لَهَا مِنْ شِبْهِه وإِبَانَةً لَه مِنْ شِبْهِهَا)(2)

الصفة الرابعة: أنه تعالى لا ضد له

للضد عدة معاني، نذكر هنا اوضحها، وهو: المساوي في القوة الممانع. وهذا ينفيه كونه تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(3). إذ الضد لا بد أن يكون مثل ضده الآخر، ليتمكن من أن يضاَّده، ولكنه حيث لا شيء مثل الله تعالى، فلا يوجد من هو بمستوى أن يكون ضداً لله تعالى، فكل شيء هو مخلوق له

ص: 303


1- الكافي للكليني ج1 ص142 باب جوامع التوحيد ح7.
2- الكافي للكليني ج1ص135 باب جوامع التوحيد ح1.
3- الشورى 11

ضعيف أمامه.

ومعه، فليس من الصحيح أن نفترض وجود ضدٍّ له، لكن قوته وقدرته وعلمه و...، أقل مما عند الواجب، فهو ليس كمثل الواجب، لكنه أقل منه؛ لأن قدرة الممكن وعلمه وقدرته إنما هي في طول ما عند الواجب. أي إن ما عند الممكن ليس مستقلاً البتة، بل هو من الواجب تعالى. وغير المستقل لا يمكن أن يزاحم المستقل أو يضاده.

الصفة الخامسة: أنه تعالى ليس محلاًّ للحوادث

أي إنه تعالى لا يتّصف بما لم يكن فيه ثم كان.

والمحال هو اتصافه تعالى بصفة حقيقية هي كمال له لم يكن متصفاً بها من قبل ثم اتصف بها.

وهذا يعني: أنه تعالى لا يكون فاقداً لكمال ثم يكتسبه، إنما كل كمال متصور فهو ثابت له تعالى من الأزل، وإلا، فلو كان فاقداً لبعض الصفات الكمالية، لم يكن واجب الوجود، لأنه سيكون محتاجاً للاستكمال.

الصفة السادسة: إنه تعالى غير محتاج
اشارة

فهو تعالى غني مطلق، باعتبار أن وجوب الوجود ينفي الحاجة، وللحاجة إطلاقات، نذكر منها اثنين:

الإطلاق الأول:

فقدان الشيء لما هو كمال له أو لما ينبغي أن يثبت له، مع إمكان تداركه

ص: 304

بالغير.

فالصحة مثلاً كمال للإنسان، وينبغي أن تثبت له، فإذا فقدها أمكنه تداركها بالغير، فهو محتاج إلى ذلك الغير ليتدارك هذا الكمال.

فالحاجة هنا أمر عدمي (الفقدان)، ويقابله الغنى بمعنى الوجدان.

هذا الإطلاق منفي عنه تعالى بالضرورة لوجوب الوجود.

الإطلاق الثاني:

التعلّق بشيء خارج عن الذات من أجل الذات أو الصفات، فأنت تحتاج إلى غيرك في وجودك وعلمك و... ويقابله الغنى بمعنى عدم التعلّق.

وهذا الإطلاق أيضاً منفي عنه تعالى بوجوب الوجود.

فتحصّل: أنه تعالى لا يوصف بالفقر بمعنى أنه لا يحتاج إلى الغير ولا يفقد أي كمال أبداً. وهذا ينتج نتيجة مهمة، وهي: أنه تعالى واجب الوجود ليس فقط في وجوده، وإنما هو واجب الوجود من كل جهة، فعلمه وقدرته وحياته وكل كمال له فهو واجب الوجود.

هذا وقد ذكروا عدة أدلة على غناه وعدم حاجته (جل وعلا) مطلقاً، نذكر منها واحداً، وهو:

لو كان (تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا) محتاجاً إلى غيره في أي شيء فُرض، فذلك الغير لا يخلو: إما أن يكون واجب وجود، أو ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود، والأول تبطله أدلة التوحيد المتقدمة التي أثبتت أنه لا واجب وجود

ص: 305

إلا الله تعالى، والثاني باطل أيضاً، لأن الممتنع هو لا شيء، فكيف يصح أن يُعطي شيئاً للموجود، والثالث باطل أيضاً، لأن الفرض أنه ممكن الوجود، أي إنه محتاج في أصل وجوده وفي استمرار وجوده، في ذاته وصفاته وأفعاله إلى غيره وهو الواجب، فكيف يكون الواجب هو محتاجاً إليه وكل ما عند الممكن إنما هو من الواجب؟!

إذن لم يبق إلا أن نقول: إن الله تعالى غني مطلق، ولا يحتاج إلى أي شيء خارج ذاته.

نكتة تربوية:

يؤكد القرآن الكريم على أن الله تعالى غني مطلق، وعلى أن الإنسان غارق في الحاجة، يقول تعالى: (وَقالَ مُوسىٰ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)(1)

وقال تعالى: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(2)

وقال تعالى: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(3)

ص: 306


1- إبراهيم 8
2- الحج 64
3- النمل 40

وقال تعالى: (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(1)

وقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَىٰ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(2)

ومن هذه الآيات الكريمة وأمثالها نستنتج:

أولاً: أن الله تعالى عندما كلّف البشر بالتكاليف الشرعية، لم يكن يبغي من ورائها المنفعة لنفسه، لأنه تعالى غني مطلق، وإنما كلّفهم لمصلحتهم هم، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إِنَّ اللَّه سُبْحَانَه وتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ، غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّه لَا تَضُرُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، ولَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه)(3)

ثانياً: أن العقل يحكم بلزوم تعلّق الفقير بالغني الذي يستطيع أن يدفع الفقر والحاجة عنه، وليس من الصحيح أن يتعلق الفقير بفقير مثله، لأن ضم التراب إلى التراب لا يعطي غير التراب.

ثالثاً: إذا كان كل البشر فقراء في ذاتهم، فلا داعي إذن أن نخدع أنفسنا ببعض المتعلقات التي تكون تحت أيدينا، ولا داعي أيضاً إلى أن نحتقر غيرنا بداعي الفقر المادي أو العوز الفكري، وقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) أنه قَالَ: مَنِ اسْتَذَلَّ مُؤْمِناً واسْتَحْقَرَه لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِه ولِفَقْرِه شَهَرَه اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى

ص: 307


1- العنكبوت 6
2- فاطر 15
3- نهج البلاغة ج2 ص160.

رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ.(1)

الصفة السابعة: في استحالة الألم واللذة عليه تعالى
اشارة

الألم على قسمين(2):

الأول: الألم المزاجي

أي سوء المزاج وعدم انتظام عمل أعضاء الجسم بصورة منتظمة مما يُسبب الإحساس بالألم.

الثاني: الألم العقلي

وهو إدراك المنافي. أي أن يدرك الموجودُ شيئاً ينافي ذاته أو صفاته أو أفعاله.

والله تعالى لا يوصف بكلا الألمين، أما الأول فلأنه مرتبط بالجسم، والله تعالى ليس جسماً، وأما الثاني فلأنه ليس هناك ما ينافي الذات المقدسة، إذ لا ذاته تعالى ولا صفاته ولا أفعاله منافية له تعالى، فلا ألم عقلياً له تعالى، وإنما يتصور الألم العقلي في عالم الإمكان حيث التزاحم والتضاد.

وبالمقابلة فإن اللّذة على قسمين أيضاً:

الأول: اللذة المزاجية

وهي المرتبطة باعتدال المزاج وعدم وجود خلل في الأعضاء، ونفيها عن

ص: 308


1- الكافي للكليني ج2 ص353 بَابُ مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ واحْتَقَرَهُمْ ح (9).
2- يُنظر: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلي: المسألة الثامنة عشرة: في استحالة الألم واللذة عليه تعالى.

الله تعالى واضح جداً لأنها مرتبطة بالجسم، والله تعالى ليس جسماً.

الثاني: اللذة العقلية

أي إدراك الملائم للذات، وحيث إنه تعالى يدرك ذاته وصفاته وجميل فعله، فهو يدرك الملائم. مع ملاحظة أن إطلاق صفة أو اسم اللذة عليه تعالى يحتاج إلى إذن شرعي؛ بناءً على توقيفية الأسماء، بل حتى لو بنينا على

عدم التوقيفية؛ لأن اسم (الملتذ) أو (المنبسط) شديد الالتصاق بالجسمية، لذا يقتضي الاحتياطُ عدمَ التسمية به.

على أنه يوجد رأي ينفي حتى اللذة العقلية عنه جل وعلا؛ إذ (منَع بعضُهم عن توصيفه سبحانه باللذة العقلية أيضاً؛ لعدم الإذن الشرعي بذلك... ومن المانعين له المحقق البحراني حيث قال(1): اتفق المسلمون على عدم إطلاق هذين اللفظين عليه تعالى... وأما الفلاسفة فإنهم ... لمّا فسروا اللذة بأنها إدراك الملائم، أطلقوا عليه لفظ اللذة، وعنوا بها علمه بكمال ذاته ، فلا نزاع معهم إذن في المعنى، إذ لكل أحد أن يفسر لفظه بما شاء، لكنّا ننازع في إطلاق هذا اللفظ عليه؛ لعدم الإذن الشرعي.)(2)

الصفة الثامنة: أنه تعالى لا يُرى بالرؤية الحسية
اشارة

وهنا عدة نقاط:

النقطة الأولى:

من الواضح أن الرؤية البصرية تحتاج إلى أن يكون المرئي

ص: 309


1- قواعد المرام: القاعدة 4، الركن 2، البحث 8.
2- محاضرات في الإلهيات- جعفر سبحاني ص 140 – 141.

ذا جهة وجسم، وهذا منفي عنه تعالى لوجوب وجوده. فينتج بكل وضوح امتناع رؤيته تعالى بالرؤية الحسية. وهذا يعني أن نفي الرؤية البصرية عنه جل جلاله هو من فروع وثمرات نفي الجسمية عنه، ولكن أُفرد البحث فيها بالخصوص للخلاف الواقع فيها ولأن المخالف حاول أن يستدل بالقرآن نفسه على إثبات الرؤية، فالكلام صار فيها أطول من غيرها من الصفات المتفرعة على صفة الجسمية.

وعلى كل حال، فنفي الجسمية يلزم منه نفي الرؤية البصرية.

قال الشيخ الطوسي (رحمه الله): (الله تعالى ليس بمرئي بحاسة البصر، بدليل أن كل مرئي لا بد أن يكون في جهة، وهو محال)(1)

بالإضافة إلى تصريح القرآن الكريم بامتناع رؤيته جل وعلا.

قال تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(2)

نعم، الرؤية القلبية جائزة، بمعنى العلم بوجود الله تعالى واستشعار عظمته وهيبته، وتذكره جل وعلا وفي كل لحظة، وما شابه هذه المعاني المعنوية التي لا تستلزم التجسيم ولا التحديد، وفي ذلك روي أنه بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، إِذْ قَامَ إِلَيْه رَجُلٌ يُقَالُ لَه ذِعْلِبٌ، ذُو لِسَانٍ بَلِيغٍ فِي الْخُطَبِ شُجَاعُ الْقَلْبِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟

ص: 310


1- الرسائل العشر للشيخ الطوسي ص 95.
2- الأنعام 103

قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّاً لَمْ أَرَه. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ رَأَيْتَه؟ قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، لَمْ تَرَه الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأَبْصَارِ، ولَكِنْ رَأَتْه الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ)(1)

النقطة الثانية: رأيا المجسمة والأشاعر
اشارة

ومع ذلك فإنه ظهر رأيان في قبال هذا الرأي:

ص: 311


1- الكافي للكليني ج1 ص138 باب جوامع التوحيد ح4. وفي شرح أصول الكافي للمازندراني ج4 ص167 قال: (المراد بالقلب: العقول القدسية، وبالإيمان: الإذعان الخالص، وبحقائق الإيمان: التصديقات اليقينية التي هي أركان الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر مثل التصديق بوجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه إلى غير ذلك من التصديقات الداخلة في حقيقة الإيمان، أو المراد بها الأنوار العقلية الناشية من الإيمان، فإن الإيمان إذا حصل واستقر في قلب متقدس طاهر حصل في القلب نور يشاهد به الرب كمشاهدة العيان، والباء للاستعانة أو للملابسة.) ويلاحظ – كما أشار بعض الأعلام في رسالة تفصيلية في بحث الرؤية- أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: حقائق لا حقيقة، أي إن للإيمان مراتب، وكل مرتبة تعتبر حقيقة وعقيدة حقة، ولذا فهناك طرق متعددة للإيمان بالله تعالى، فمن طريق (البعرة تدل على البعير والأثر على المسير، أ فسماءٌ ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلان على اللطيف الخبير) – وهو طريق من يقتضي عقله هذا الخطاب لا أعمق-، إلى طريق الحدوث والحركة والصديقين وغيرها، كل واحد منها يشير إلى مرتبة من مراتب الإيمان وحقائقه. ومما يدل بصراحة على أن للإيمان مراتب، هو قول الإمام الصادق (عليه السلام): إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد المرقاة، فلا تقولن صاحب الواحد لصاحب الاثنين: لست على شيء، حتى ينتهي إلى العاشرة، ولا تسقط من هو دونك فيسقطك الذي هو فوقك، فإذا رأيت من هو أسفل منك فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره فإنه من كسر مؤمنا فعليه جبره. وكان المقداد في الثامنة، وأبو ذر في التاسعة، وسلمان في العاشرة.(الخصالالشيخ الصدوق ص 447-448)
الرأي الأول: للمجسمة

حيث جوّزوا رؤيته جل وعلا بالرؤية المادية، لأنهم أصلاً اعتبروا (إلههم) مادياً، ولا كلام لنا معهم لبداهة بطلان ما ذهبوا إليه.

الرأي الثاني: للأشاعرة

حيث قالوا بإمكان الرؤية الحسية له تعالى وإنْ كان مجرداً! حتى قال قائلهم: (وَنَدِينُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ رَسُولِ الله.

وَنَقُولُ: إنَّ الْكَافِرِينَ، إذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ، عَنْهُ مَحْجُوبُونَ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: { كَلّاً إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ }، وَأَنَّ مُوسَى سَأَلَ اللَّهَ الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ اللَّهَ تَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكّاً فَعَلِمَ بِذَلِكَ مُوسَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا)(1)

وقال أبو الحسن الأشعري في شرح معتقدات السنة: (إن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، وإنه ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؟ وله يدان وعينان ووجه، وغير ذلك من الأعضاء) ثم قال: (وبكل ما ذكرنا من قولهم نقوله وإليه نذهب)(2)

النقطة الثالثة: أدلة المجوزين للرؤية البصرية
اشارة

كلٌّ من النافي لإمكان الرؤية ومثبتها اتفقوا على قضيتين:

ص: 312


1- الفتاوى الكبرى لابن تيمية ج6 ص657.
2- مقالات الإسلاميين ص 320 وما بعدها، وانظر التبصير في الدين ص 138.

الأولى: أنه في الآخرة سيحصل انكشاف تام وعلم لا ريب فيه بوجوده تعالى حتى عند غير العارفين به تعالى، بحيث لا تبقى شبهة في وجوده تعالى، ولعل هذا من تطبيقات قوله تعالى (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(1)

الثانية: أن الرؤية بالطريقة المادية في عالمنا –عالم الدنيا- (مدّ الطرف لجسم مادي) منفية عنه تعالى.

فالخلاف إذن على إمكان الرؤية البصرية يوم القيامة، وقد استدل المجوّزون للرؤية البصرية بعدة أدلة نذكر منها التالي:

الدليل الأول: طلب النبي موسى (عليه السلام) الرؤية

استدلوا على ذلك بالوقوع، حيث قالوا: إن القرآن الكريم يحكي طلب النبي موسى (عليه السلام) رؤية ربه تعالى، ولو كانت الرؤية محالة لما طلبها. إذن الرؤية ممكنة، وإذا كانت ممكنة فيمكن أن تقع، نعم هي في الدنيا لا تقع، ولذلك لم تقع للنبي موسى (عليه السلام)، والمهم أنها ممكنة لا مستحيلة.

قال تعالى (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(2)

ص: 313


1- سورة ق(22).
2- سورة الأعراف (143).

والجواب:

أن سياق الآيات يدلّ على أن النبي موسى (عليه السلام) لم يطلب الرؤية له، بل طلبها لقومه بعد أن كان بيّن لهم امتناع ذلك، لكن إصرارهم على ذلك جعل منه يطلب ذلك من باب إقناعهم باستحالة ذلك. حيث إنهم سألوا النبي موسى (عليه السلام) أن يسأل ربه تعالى أن يريه نفسه له ويصفه لهم بعد أن سمعوا كلامه، حيث علموا أنهم لا يستطيعون رؤيته تعالى. لذا قال النبي موسى (أرني)، فهو في الحقيقة ليس طلباً من النبي، وإنما من قومه على لسانه.

وما ذكر مستفاد من بعض الروايات الشريفة، فعن علي بن محمد بن الجهم، قال:

حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له: فما معنى قول الله عز وجل: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني- الآية) كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أن الله تعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟

فقال الرضا (عليه السلام): إن كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) علم أن الله تعالى أعزّ عن أن يُرى بالأبصار، ولكنه لمّا كلمه الله عز وجل وقرّبه نجياً، رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله عز وجل كلمه وقربه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثم اختار منهم سبعة آلاف ثم اختار منهم سبعمائة، ثم

ص: 314

اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه، فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسى عليه السلام إلى الطور وسأل الله تبارك و تعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه، فكلمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة، ثم جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه.

فقالوا: لن نؤمن لك بأن هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة!

فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا، بعث الله عز وجل عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا.

فقال موسى: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله إياك، فأحياهم الله وبعثهم معه.

فقالوا: إنك لو سألت الله إن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته.

فقال موسى (عليه السلام): يا قوم، إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه.

فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله.

فقال موسى (عليه السلام): يا رب، إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله جل جلاله إليه: يا موسى اسألني ما سألوك، فلن

ص: 315

أؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى (عليه السلام): (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه) وهو يهوي (فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) بآية من آياته (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي (وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) منهم بأنك لا ترى.

فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.(1)

الدليل الثاني: إخبار القرآن الكريم بأن المؤمنين ينظرون إلى ربهم جل وعلا

إن القرآن الكريم حكى نظر أهل الجنة إلى ربهم تعالى، قال تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)(2)

والنظر هو تقليب الحدقة الذي تترتب عليه الرؤية والإبصار وإدراك المرئي، مما يعني إمكان أن يُرى الله تعالى يوم القيامة بالرؤية البصرية، بل ووقوعه بنص الآية.

ويُجاب:

هذا النظر بهذا المعنى محال عليه تعالى، لأنه يستلزم أن يكون المرئي جسماً، وهو تعالى ليس بجسم، فلا بد أن يُراد به معنى مجازياً، والذي يمكن تفسيره به هو:

أولاً: أن النظر هنا معنوي، أي إنهم ينظرون إلى نعمة الله تعالى ورحمته و... وقد حُذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو أمر ذائع في اللغة

ص: 316


1- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 121 – 122.
2- سورة القيامة (22-23).

العربية.

فالمعنى: أن وجوه المؤمنين ناضرة، (يعنى مشرقة تنتظر ثواب ربها)(1)

أو قل: (مشرقة مضيئة، فالنضرة الصورة الحسنة التي تملأ القلب سروراً عند الرؤية.

نضر وجهه ينضر نضرة ونضارة فهو ناضر. والنضرة مثل البهجة والطلاقة، وضده العبوس والبسور، فوجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة بما جعل الله عليها من النور علامة للخلق والملائكة على أنهم مؤمنون مستحقون الثواب)(2)

أما وجوه الكافرين، فقالت عنهم الآيات البعدية (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(3)

(يعني وجوه أهل الكفر. والبسور ظهور حال الغمّ في الوجه معجلًا قبل الإخبار عنه... والفاقرة الكاسرة لفقار الظهر بشدة، ومثل الفاقرة: الداهية والآبدة.)(4)

ثانياً: أن المقصود من (ناظرة) هو منتظرة، أي إن تلك الوجوه الناضرة المنتعشة تنتظر ربها ورحمته ولطفه وعنايته، وفي ذلك روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه مع الزنديق الذي سأله عن بعض متشابهات القرآن: الناظرة في بعض اللغة هي: المنتظرة ألم تسمع إلى قوله تعالى: (فَناظِرَةٌ بِمَ

ص: 317


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج1 ص105.
2- التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي ج10 ص 199.
3- القيامة 24 – 25
4- التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي ج10 ص 199.

يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(1)أي:

منتظرة بم يرجع المرسلون.(2)

وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله تعالى):

(إلى ربها ناظرة) معناه منتظرة نعمة ربها وثوابه أن يصل إليهم... والمراد به الانتظار والتأميل، وأيضاً فإنه في مقابلة قوله في صفة أهل النار (تظن أن يفعل بها فاقرة) فالمؤمنون يؤمنون بتجديد الكرامة وينتظرون الثواب، والكفار يظنون الفاقرة، وكلُّه راجعٌ إلى فعل القلب)(3)

فالكفار وكما يُخبر القرآن عنهم (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(4)

وبعبارة أخرى:

قد يُقال: إن المراد من النظر هو النظر الحقيقي – بواسطة العين – وبلا تقدير، ويكون المعنى: أن المؤمنين عندما يدخلون الجنة سينظرون ويفتشون في الجنة علهم ينظرون إلى ربهم هناك، ولكنهم لا يرونه.

وهذا بعيد جدًا؛ لأن من يدخل الجنة سيكون عالماً علماً لا يساوره شك في أنه تعالى ليس جسماً ولا مادياً، فلا يمكن أن تقع العين عليه أبداً، ومع هذا

ص: 318


1- النمل35
2- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص459.
3- التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي ج10 ص 199.
4- آل عمران 77

العلم كيف يصح بحثهم عنه تعالى!

من هنا، لا بد من التقدير في معنى النظر، بعد الاتفاق على أن النظر الحقيقي المادي غير مراد لمكان تجرده تعالى، والتقدير على أحد احتمالين:

الأول: أن يراد المعنى الحقيقي للنظر – أي مدّ الطرف- لكن مع تقدير كلمة يصح معها الحمل، فنقول: إن المعنى هو (إلى ثواب ربها ناظرة).(1)

الثاني: أن النظر هنا بمعنى الانتظار، و(إلى) اسم مفرد لكلمة (آلاء)، وحينئذ يكون المعنى: إن وجوه المؤمنين يوم القيامة منتظرة إلى (أي آلاء) ربها ونعمته، وهو دخول الجنة.

وهذا الانتظار لا قلق فيه ولا غمّ، لأنه يقع بعد تبشيرهم بأنهم من أهل الجنة، فيضمنون بذلك الرضا الإلهي، ولكن يبقون منتظرين تنفيذ الأمر بدخولهم الجنة.

والدليل على أن هذا الأمر يقع بعد تبشيرهم بالجنة وقبل دخولها:

أن الآيات الواردة بعد تلك الآيات المتقدمة تتكلم عن وجوه الكفار، فتقول (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ. تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ)(2)

فلو كان هذا الكلام بعد دخولهم جهنم لكان المناسب أن يعبر ب- (قد فُعل بها فاقرة)، أمّا وقد عبّر بالظن، فهذا معناه أنه قد حُكم عليهم بدخولها ولمّا يدخلوها.

ص: 319


1- ينبغي أن يُعلم: أن النظر له عدة معاني، فإن كان بمعنى الانتظار تعدّى بنفسه، وإن كان بمعنى التفكّر تعدى ب- (في)، وإن كان بمعنى الرأفة تعدى باللام، وإن كان بمعنى مدّ الطرف تعدى ب- (إلى).
2- سورة القيامة(24- 25).

والخلاصة:

أنه يظهر مما تقدم عدم صحة استدلال الأشاعرة بالآيات القرآنية المتقدمة على إمكان الرؤية، وحتى لو سلمنا ظهورها الأولي في إمكان الرؤية، ولكن هناك قرائن منفصلة تمنع من هذا الظهور، من قبيل قوله تعالى (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(1)

ومن قبيل الروايات الكثيرة النافية لإمكان الرؤية.

على أن هناك قرينة حالية عقلية – بحكم المتصلة- تمنع من ذلك الظهور، وهي: حكم العقل باستحالة الرؤية البصرية، وهذا الحكم العقلي مستفاد من حكم أكثر العقلاء باستحالة الرؤية لواجب الوجود. فيكون هذا الحكم بديهياً أو قريباً من البديهيات. فيصلح للقرينية. وعليه فلا بد من تأويل الآيات الظاهرة في إمكان الرؤية.

النقطة الرابعة: رواية جامعة في نفي الرؤية

هناك الكثير من الروايات النافية للرؤية، والدالّة على استحالتها، والملاحظ أن تلك الروايات لم تكتف بدعوى نفي الرؤية والاستدلال عليها، وإنما دعت العقول إلى استنتاج هذه النتيجة من خلال التأمل وربط الآيات بعضها مع البعض الآخر.

وعندما نلاحظ الروايات الواردة حول مسألة الرؤية، وكثرة السؤال عنها وكيفيته ونوع السائل، نعرف بأن هذه المسألة كانت مطروحة وبشدّة في ذلك الزمن.

ص: 320


1- سورة الأنعام (103).

ومن أظهر تلك الروايات هي التالي:

عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى قَالَ: سَأَلَنِي أَبُو قُرَّةَ الْمُحَدِّثُ أَنْ أُدْخِلَه عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) فَاسْتَأْذَنْتُه فِي ذَلِكَ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ عَلَيْه، فَسَأَلَه عَنِ الْحَلَالَ والْحَرَامِ والأَحْكَامِ، حَتَّى بَلَغَ سُؤَالُه إِلَى التَّوْحِيدِ فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ:

إِنَّا رُوِّينَا: أَنَّ اللَّه قَسَمَ الرُّؤْيَةَ والْكَلَامَ بَيْنَ نَبِيَّيْنِ، فَقَسَمَ الْكَلَامَ لِمُوسَى ولِمُحَمَّدٍ الرُّؤْيَةَ.

فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): فَمَنِ الْمُبَلِّغُ عَنِ الله إِلَى الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْجِنِّ والإِنْسِ: (لَا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ ولَا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً) (ولَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ)، ألَيْسَ مُحَمَّدٌ؟!

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: كَيْفَ يَجِيءُ رَجُلٌ إِلَى الْخَلْقِ جَمِيعاً فَيُخْبِرُهُمْ أَنَّه جَاءَ مِنْ عِنْدِ الله، وأَنَّه يَدْعُوهُمْ إِلَى الله بِأَمْرِ الله، فَيَقُولُ: (لَا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ) و (لَا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً) و (ليْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ) ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا رَأَيْتُه بِعَيْنِي وأَحَطْتُ بِه عِلْماً وهُوَ عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ؟!

أمَا تَسْتَحُونَ! مَا قَدَرَتِ الزَّنَادِقَةُ أَنْ تَرْمِيَه بِهَذَا أَنْ يَكُونَ يَأْتِي مِنْ عِنْدِ الله بِشَيْءٍ ثُمَّ يَأْتِي بِخِلَافِه مِنْ وَجْه آخَرَ.

قَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَإِنَّه يَقُولُ: (ولَقَدْ رَآه نَزْلَةً أُخْرى)؟

فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): إِنَّ بَعْدَ هَذِه الآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا رَأَى حَيْثُ قَالَ:

ص: 321

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) يَقُولُ: مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ مَا رَأَتْ عَيْنَاه، ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا رَأَى فَقَالَ: (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّه الْكُبْرى) فَآيَاتُ الله غَيْرُ الله، وقَدْ قَالَ اللَّه: (ولا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً)، فَإِذَا رَأَتْه الأَبْصَارُ فَقَدْ أَحَاطَتْ بِه الْعِلْمُ ووَقَعَتِ الْمَعْرِفَةُ.

فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَتُكَذِّبُ بِالرِّوَايَاتِ؟!

فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): إِذَا كَانَتِ الرِّوَايَاتُ مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ كَذَّبْتُهَا ومَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْه أَنَّه لَا يُحَاطُ بِه عِلْماً ولَا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ ولَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ.(1)

ص: 322


1- الكافي- ج 1- ص 95 – 96 باب في إبطال الرؤية ح2.
التفصيل الرابع: في بعض الصفات السلبية الفعلية
اشارة

ذكرنا أن هناك صفات سلبية ذاتية –وكان الكلام فيها-، وسلبية فعلية، وهي المتعلقة بنفي النقص عن فعله جلّ وعلا، وفي الحقيقة أن البحث التفصيلي فيها سيكون في مباحث العدل الإلهي إن شاء الله تعالى، ولكن سنذكر هنا العديد من الصفات التي أثبتها القرآن للباري جل وعلا، والتي قد يظهر منها بدواً نسبة الأفعال السلبية له جل وعلا، وسنعرف حقيقة الحال فيها إن شاء الله تعالى، فنقول:

قد تقدم أن معنى الصفات السلبية هي الصفات التي يلزم من إثباتها لله تعالى نسبة النقص له جل وعلا، وبالتالي فلا بد أن يسبقها حرف نفي عند وصف الله تعالى بها، ولذا سًميت بالسلبية.

هذا ولكن نجد أن القرآن الكريم يثبت بعض الصفات لأفعال الله تعالى مما ظاهره النقص، كالكيد والمكر والقهر والتكبر والإضلال وغيرها، وهذا ما لا يتوافق مع وجوب الوجود.

وحتى تتضح الصورة فيها، نذكرها تباعاً مع بيان حقيقة الحال فيها:

ص: 323

ص: 324

الصفة الأولى: الكيد والمكر والاستدراج والخداع والاستهزاء والسخرية

يقول تعالى: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً)(1)

ويقول تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)(2)

ويقول تعالى )أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ((3)

ويقول تعالى )وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ((4)

وقال تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَىٰ الصَّلاةِ قامُوا كُسالىٰ يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً)(5)

هذه الآيات صريحة في وصف فعل الله تعالى بالكيد والمكر والخداع والاستدراج و...، وهي من الصفات غير المحبذّة كما هو واضح.

ص: 325


1- الطارق 15 – 16
2- الأعراف 182، 183
3- الأعراف، الآية 99
4- يونس، الآية 21
5- النساء 142

الجواب:

بدايةً، نعطي قاعدة عامة في كل ما سيأتينا من الصفات المشار إليها، وهي الآتي:

أ: أن الشارع الأقدس لم تكن له لغة خاصة في خطاباته مع الناس، وإنما هو استعمل اللغة العربية وقوانينها المعروفة من دلالة اللفظ على المعنى بالوضع والاستعمال، والكنايات، والمجازات، وما شابه. ومعه، فلا بد من الرجوع إلى قوانين اللغة العربية لمعرفة المعنى المقصود من ألفاظ الشارع المقدس في القرآن والروايات.

ب: صحيحٌ أننا نرجع إلى قوانين اللغة العربية في فهم المعنى المراد من لفظ ما، ولكن علينا أن ننتبه إلى حقيقة، وهي: أن اللفظ قد يكون له معنى لغوي معين نجده في القواميس اللغوية، ولكن وبعد مرور فترة من الزمن، يكتسب ذلك اللفظ معنى جديداً مضافاً إلى معناه اللغوي، أو ربما لا يمتّ إلى المعنى اللغوي بصلة، ومن أمثلة ذلك لفظ (العصابة)، فأي واحد منا اليوم إذا سمع لفظ (عصابة)، فإنه يتبادر إلى ذهنه معنى سلبي تماماً يحكي عن مجموعة من قطّاع الطرق أو المجرمين، ولكن لو رجعنا إلى القواميس اللغوية لوجدنا أن معناها هو فقط: (الجماعة من الناس والخيل والطير)(1)

(والعُصْبةُ والعِصابةُ: جماعةُ ما بين العَشَرة إِلى الأَربعين)(2)

ص: 326


1- صحاح الجوهري مادة (عصب).
2- لسان العرب مادة (عصب)

ومن ذلك أيضاً لفظ (الحيوان) حيث إنه وضع للدلالة على كل ما يدبّ على الأرض، ولكن اليوم حصل في معناه زحاف واضح بحيث صار يُستعمل في غير الإنسان، أي إنه حصل تضييق في مفهومه بإخراج الإنسان منه.

ج: وهذا يعني: أنه إذا ورد لفظ ما في نص شرعي، فلا بد أن نرجع إلى زمن صدور النص لنعرف ما هو المعنى الذي كان يُستعمل فيه اللفظ آنذاك، ونفسّر اللفظ بالمعنى المقصود في ذلك الزمن، والذي قد يكون هو نفس المعنى المستعمل في زمننا، وقد يكون غيره كما أوضحنا.

وهذه الملحوظة لا بد أن نضعها في الحسبان في كل الصفات التي نتكلم فيها في هذا التفصيل.

إذا تبين هذا نقول:

الكيد في اللغة: ضرب من الاحتيال، وقد يكون مذموماً وقد يكون ممدوحاً، وإنْ كان يستعمل في المذموم أكثر، وكذلك الاستدراج والمكر، ويكون بعض ذلك محموداً.(1)

وبنفس المعنى جاء المكر، قال الراغب في مفرداته: (المَكْرُ: صرف الغير عمّا يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكر محمود، وذلك أن يتحرّى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال [تعالى] (والله خَيْرُ الْماكِرِينَ)(2).

ومذموم، وهو أن

ص: 327


1- انظر مفردات الراغب الأصفهاني مادة (كيد).
2- آل عمران، 54

يتحرّى به فعل قبيح، قال تعالى: (ولا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه)(1)(2) فالكيد لغة هو العمل الذي يخفى على الآخر (احتيال)، وهو قد يكون ممدوحاً، وقد يكون مذموماً، مما يعني أنه من الصفات التي تتلبس بأكثر من عنوان حسب ما تتعلق به، تماماً كضرب الولد، فإنه إن كان للتأديب كان حسناً، وإن كان للتشفّي كان قبيحاً، والكيد كذلك، فإن كان لخديعة الآخر بما ليس بحق، كان قبيحاً، وإن كان لرد كيد الكائدين والتخلص من شرورهم كان حسناً.

نعم، تعارف عندنا، استعمال الكيد في الأمور المذمومة، ولكن كثرة استعماله فيه لا تنفي إمكان استعماله في الممدوح والحسن.

ومعه نقول: إن نسبة الكيد إلى الله تعالى لا محالة تُحمل على الممدوح منه، لما ثبت من حكمته تعالى، ولما ثبت من أنه تعالى لا يخاف من أحد حتى يلجأ إلى الحيلة والمكر في أخذ حقه منه مثلاً، ولما ثبت أيضاً من أنه لا قوي يضادّه حتى يحتاج إلى أن يتحايل عليه بعمل خفي ليثني قوته ويرديه، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.

والمعنى المقبول لذلك هو التالي:

إن كيد الكافرين يكون بالتحايل على المؤمنين ومحاولة خداعهم وإظهار الإيمان لهم، أو محاولة إيقاعهم في الفخ ليقضوا عليهم، أو محاولة إخفاء الأدلة

ص: 328


1- فاطر / 43
2- انظر مفردات الراغب الأصفهاني مادة (مكر).

والحجج على الحق ليخدعوا الناس عن الدين الحق.

أما الكيد من الله تعالى فهو:

مجازاة الكافرين على ما فعلوه من كيد ومكر سيء، فيجازيهم بالعذاب.

أو ينصر المؤمنين بطريقة لا تخطر على قلب الكافرين، فهو يكيد بالكافرين بمعنى يُخفي عنهم الطرق التي ينصر بها عباده المؤمنين، والتي سيجازيهم بها اليوم أو غداً.

ونفس الكلام يُقال في المكر، حيث إن (المكر في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن بالعمل المخفي، لا المعنى الذي يفهم من هذه الكلمة اليوم، وهو الاقتران بنوع من الشيطنة، وعلى هذا فإنه يصدق على الله سبحانه كما يصدق على العباد...)(1)

وهذا المعنى هو ما أطبق عليه مفسرونا رضوان الله عليهم، وننقل بعض كلماتهم:

جاء في تفسير علي بن إبراهيم: (انهم يكيدون كيدا) أي يحتالون الحيل (وأكيد كيداً) فهو من الله العذاب.(2)

وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله تعالى) في تبيانه: (إنهم يكيدون كيدا) أي يحتالون في رفع الحجج وإنكار الآيات ويفعلون ما يوجب الغيظ... فقال تعالى (وأكيد كيداً) أي أجازيهم على كيدهم، وسمي الجزاء على الكيد باسمه لازدواج

ص: 329


1- الأمثل للشيرازي ج6 ص332.
2- تفسير علي بن إبراهيم ج2 ص416.

الكلام.

وقيل: المعنى: أنهم يحتالون لهلاك النبي وأصحابه، وأنا أسبّب لهم النصر والغلبة وأقوّي دواعيهم إلى القتال، فسمى ذلك كيدا من حيث يخفى عليهم ذلك.(1)

وقال الشيخ الطبرسي (رحمه الله تعالى) في جوامع الجامع: (إِنَّهُم يَكِيدُونَ) يَحتَالُونَ في إيْقَاعِ المكْروهِ بكَ وبِمَنْ مَعَكَ. (وَأَكِيدُ كَيْداً) أُدَبِّرُ ما يَنْقُضُ كَيْدَهُم واحتِيَالَهُم مِن حيثُ يَخْفَى عليهم.(2)

ونفس المعنى يُقال في كون الله تعالى أسرع مكراً من الكافرين، فمعنى: (الله اسرع مكراً) هو: أنه أقدر جزاءً على المكر، وذلك أنهم: جعلوا جزاء النعمة المكر مكان الشكر، فقوبلوا بما هو أشد. والسرعة عمل الشيء في وقته الذي هو أحق به، والمعنى: أن ما يأتيهم من العقاب أسرع مما أتوه من المكر، أي وقع في حقه.(3)

وبعبارة أخرى: أن القرآن الكريم يقول للكافرين: إن الله تعالى (يدبر عقابكم ويوقعه بكم قبل أن تدبروا في إطفاء نور الإسلام)(4)

ونفس الكلام يُقال في وصف كيده جل وعلا بأنه متين (إِنَّ كَيْدِي

ص: 330


1- التبيان في تفسير القرآن للطوسي ج10 ص 327.
2- تفسير جوامع الجامع للطبرسي ج3 ص765.
3- التبيان في تفسير القرآن للطوسي ج5 ص 358.
4- تفسير جوامع الجامع للطبرسي ج2 ص119.

مَتِينٌ)، حيث فُسّر بأن عذاب الله تعالى شديد.

قال الشيخ الطوسي (رحمه الله تعالى): معناه: إن (عذابي) وسماه كيداً لنزوله بهم من حيث لا يشعرون. وقيل: إنه أراد أن جزاء كيدهم، وسماه كيدا للازدواج على ما بينّا نظائره. ومعنى (متين) شديد قوي.(1)

وقال الشيخ الطبرسي (رحمه الله تعالى): (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي: عذابي قوي منيع، لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع، وسماه كيدًا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون.(2)

وأما ما يتعلق بالاستدراج.

فهو بمعنى (أن الله تعالى لا يتعجّل بالعذاب على الطغاة والعاصين المتجرئين وفقاً لسنته في عباده، بل يفتح عليهم أبواب النعم. فكلما ازدادوا طغياناً زادهم نعماً.

ومن هذا يتضح: أن الاستدراج يعني:

أ: إمهال العاصي وعدم استعجاله بالعقوبة، وهذا أمر حسن عقلاً كما هو واضح.

ب: زيادة النعم على العاصي، وهو أمر حسن بلا أدنى شك، كل ما في الأمر أن العاصي باختياره قد يختار الطريق الأسوأ لاستعمال هذه النعم.

ج: إنزال العقوبة بالعاصي بعد إتمام الحجة، وهذا أمر حسن أيضاً كما هو

ص: 331


1- التبيان في تفسير القرآن للطوسي ج 5 ص 42.
2- تفسير مجمع البيان للطبرسي ج4 ص 402.

واضح، وإلا قد تلزم الفوضى والاغترار بالحلم الإلهي وغيرها من اللوازم التي يذكرونها في بحث التكليف.

وقد حذّرت الروايات كثيراً من الاستدراج، فقد روي أنه سُئِلَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الِاسْتِدْرَاجِ فَقَالَ: هُوَ الْعَبْدُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُمْلَى لَه، وتُجَدَّدُ لَه عِنْدَهَا النِّعَمُ فَتُلْهِيه عَنِ الِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ فَهُوَ مُسْتَدْرَجٌ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ.(1)

وهكذا فيما يتعلق بالخداع في قوله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَىٰ الصَّلاةِ قامُوا كُسالىٰ يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً)(2)

فإنه يُحمل على أنه تعالى يجازيهم على خداعهم، وليس بمعنى أنه يمارس الخداع، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فعن الحسن بن علي بن فضال، عن الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، قال: سألته عن قول الله عز وجل (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) وعن قول الله عز وجل: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وعن قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) وعن قوله (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) فقال: إن الله تبارك وتعالى لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع، ولكنه عز وجل يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء، وجزاء المكر والخديعة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً...(3)

ص: 332


1- الكافي للكليني ج2 ص452 باب الاستدراج ح2.
2- النساء 142
3- التوحيد للصدوق. ص163.

أو يكون بمعنى العذاب، وعبّر عنه بالخداع للملابسة مع كلام المنافقين، وهو ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (الخديعة من الله: العذاب)(1)

وكذا فيما يتعلق بالاستهزاء والسخرية.

فإن من الأمور التي يعلمها كل عاقل أن الاستهزاء بالآخرين والسخرية منهم أمر مبغوض عقلاً، وقد نهى القرآن عنه، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأَيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(2)

ولكن رغم ذلك نجد أن القرآن الكريم صرّح بنسبة الاستهزاء والسخرية إلى الله تعالى، قال تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(3)

وقال تعالى: (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلىٰ شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ. اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(4)

ص: 333


1- تفسير علي بن إبراهيم ج1 ص157.
2- الحجرات 11
3- التوبة 79
4- البقرة 14 – 15

ولكن يُقال:

إن الاستهزاء وإن كان يُفهم منه معنى سلبي، ولكن معناه لا ينحصر بذلك، بل يُمكن أن يُراد منه معنى آخر غير سلبي، وعلى أقل التقادير فإنه إذا نُسب إلى الله تعالى فلا بد من صرفه عن معناه السيء إلى معنى يتناسب مع حكمته تعالى مما لا يتناسب مع كونه مستهزئاً بالمعنى المعروف، وهو ما أشارت له الروايات الشريفة، حيث فسّرت الاستهزاء منه تعالى بالمجازاة على الأعمال، ولكنه عبّر عنه بالاستهزاء من باب المقابلة لما كان يفعله الكافرون من الاستهزاء بأوامر الله تعالى وأحكامه. وقد تقدمت رواية بن فضال عن الإمام الرضا (عليه السلام) الدالة على هذا المعنى.

وعلى هذا المنوال جاءت كلمات المفسرين، قال الشريف الرضي (رضوان الله عليه): (والمراد بها: أنه تعالى يجازيهم على استهزائهم بإرصاد العقوبة لهم، فسمى الجزاء على الاستهزاء باسمه، إذ كان واقعًا في مقابلته، والوصف بحقيقة الاستهزاء غير جائز عليه تعالى، لأنه عكس أوصاف الحليم، وضد طريق الحكيم)(1)

فالصحيح إذن هو أنه: (ليس المقصود من السخرية في الآيات المباركة أنّ الله تعالى استهزأ بالكفّار والمنافقين لفظياً وسلوكياً كما يفعل البشر، بل المراد منه الاستهزاء بهم عن طريق معاقبتهم دنيوياً أو أخروياً إثر معاصيهم اللفظية والسلوكية؛ وهذا المعنى تدعمه الآيات نفسها.

ص: 334


1- تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي ص113.

مثلاً خاطب الله عزّ وجلّ الكفّار الذين سخروا من النبيّ نوح (عليه السلام) حينما كان يصنع السفينة قائلاً: )وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ((1)

وبعد ذلك ذكر حادثة الطوفان وكيف أنّه أغرقهم فرجع استهزاؤهم عليهم وأصبحوا هم الخاسرين، وهذا الهلاك في الواقع هو بمثابة استهزاء بهم ردّاً على استهزائهم، أي إهلاكهم إثر استهزائهم، وكأنّما الاستهزاء سببٌ لفنائهم الذي هو في الحقيقة تحقيرٌ لقدراتهم وإهانةٌ لهم.)(2)

ص: 335


1- هود، الآيتان 38 و 39
2- أجوبة الشبهات العقائدية ج1 ص 454.

ص: 336

الصفة الثانية: القهر (القهار)
اشارة

ذُكرت هذه الصفة في القرآن الكريم ثمان مرات، ومعناها المتبادر: التغلب على الآخرين والتسلط عليهم وسلب حرياتهم وإذلالهم، وهو معنى سلبي، فكيف أثبته القرآن الكريم للذات المقدسة؟

والجواب:

أن ما ذُكر من معنى للقهر يمثل أحد استعمالاته، وليس الاستعمال المنحصر، إذ القهر كما يُستعمل في إذلال الآخر(1)، وهو الذي نُهي عنه في قوله تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)(2)أي لا تُذلّه، كذلك يُستعمل في معنى الغلبة، حيث قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: (القهر: الغلبة والتذليل، ويُستعمل في كُلٍّ منهما)(3).

وهذا معناه: أن معنى (القهر) يتعين بالمتعلّق، أي إنه يتبين معناه من الشيء المقهور.

إذا تبين هذا نقول: هنا نقطتان:

ص: 337


1- علماً أن من صفاته تعالى المعز والمذل، وفُسّرا: هو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء. [القواعد والفوائد للشهيد الأول ج2 ص 168]، فهو معنى راجع للقهر.
2- الضحى 9
3- مفردات الراغب مادة (قهر).
النقطة الأولى: هناك آيات ثمان ذكرت هذه الصفة

وهي جاءت بنحوين:

النحو الأول: ست منها استعملت مادة (قهر) بصيغة المبالغة: (القهار) وقُرنت بصفة (الواحد)، والآيات الست هي:

(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(1)

(قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(2)

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)(3)

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(4)

(لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(5)

(يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ

ص: 338


1- سورة يوسف (39).
2- سورة الرعد(16).
3- سورة إبراهيم(48).
4- سورة ص(65).
5- سورة الزمر(4).

الْقَهَّارِ)(1)

وهذا ما يفسره العلامة الطباطبائي في تفسيره بأنه يعني الأحدية، بمعنى أن مضمون الواحد القهار هي الأحدية.(2)

النحو الثاني: الآية السابعة والثامنة وردت بصيغة اسم الفاعل (القاهر) بدون الواحد، والآيتان هما:

(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(3)

(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)(4)

النقطة الثانية: معنى القاهر والقهار

عندما نريد تفسير القهر الإلهي، فلا بد أن ننظر إلى جميع الصفات الإلهية على أنها لوحة واحدة متكاملة، لا أن ننظر لبعض مقطوعاً عن البعض الآخر، وهذه ملحوظة عامة في كل الصفات الإلهية، ومعه نقول:

إن المراد من القهر في الصفات الإلهية هو الغلبة، ولكن ليست الغلبة المقرونة بالكيد والمكر والحيلة والإذلال وغيرها من شوائب الصفات السيئة، كلا، لأن هذه الأمور تتنافى مع وجوب الوجود والغنى المطلق

ص: 339


1- سورة غافر(16).
2- قال العلامة: إن مجموع هاتين الصفتين ينتج صفة الأحدية.(تفسير الميزان، ج 11، ص 326).
3- سورة الأنعام(18).
4- سورة الأنعام(61).

والقدرة والحكمة، وإنما هو بمعنى آخر، يشمل الحالات التالية:

الحالة الأولى:

أنه تعالى قهر العدم بالوجود، بمعنى أنه تعالى أوجد الممكنات من العدم، فإن حقّها قبل أن يوجدها الله تعالى هو العدم لا غير، فلمّا أوجدها الله تعالى وأخرجها من كتم العدم فإنه قهر العدم.

الحالة الثانية:

أنه تعالى من القدرة والغلبة بحيث لا يمكن لأي شيء أن يقف بوجه إرادته لو أراد شيئاً ما، بلا حاجة إلى أن يلجأ إلى الأساليب الملتوية والخديعة والمداهنة، وإنما هو تعالى متسلط على أي شيء بنحو (كن فيكون).

وهذا لا يعني أن يعيش الفرد خوفاً من سلطته وغلبته جل وعلا بمعنى الخوف من ظلمه، كلا، فإن غناه عن ظلم غيره، وحكمته وعدله تجعل الفرد -وعلى عكس التعامل مع الأقوياء- يلجأ إليه جل وعلا، ويطمئن بالكون تحت رعايته وسلطته.

فهو تعالى قاهر للأعداء، وقاهر للأضداد والأنداد، بل هو قاهر لكل شيء بهذا المعنى.

الحالة الثالثة:

أنه تعالى قهر عباده على الاختيار، بمعنى أن قاهريته جل وعلا لا تعني أنه سلب الحرية والاختيار من الإنسان، بل على العكس تماماً، فإن قاهريته أبت إلا أن يكون الإنسان فاعلاً بالاختيار، مما يعني أن الإنسان هو مسؤول عن فعله وما يصدر منه، فلا يصح حينها أن يرمي البعض سوء فعله على قاهرية الله تعالى.

ص: 340

الحالة الرابعة:

أنه تعالى قهر عباده بأن جعل مصيرهم إليه شاؤوا أم أبوا، فالكل صائر إليه وراجع إليه، فهو الذي (قهر عباده بالموت والفناء). وهو ما تشير إليه بكل وضوح الآية الكريمة: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)(1)

وكل هذه المعاني ترجع إلى حقيقة واحدة، وهي: (أنّ جميع الموجودات لمّا كانت مخلوقة لله وقائمة به، فهي محتاجة إليه في وجودها وجميع شؤونها، وترتدي لباس الذلّة والمسكنة أَمامه)(2)

وهذا ما يمكن أن نجده بكل وضوح من الروايات المفسرة لاسم القاهر والقهار، فقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (...وأَمَّا الْقَاهِرُ فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى عِلَاجٍ ونَصَبٍ واحْتِيَالٍ ومُدَارَاةٍ ومَكْرٍ، كَمَا يَقْهَرُ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، والْمَقْهُورُ مِنْهُمْ يَعُودُ قَاهِراً، والْقَاهِرُ يَعُودُ مَقْهُوراً، ولَكِنْ ذَلِكَ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا خَلَقَ مُلَبَّسٌ (مُتَلَبِّسٌ) بِه الذُّلُّ لِفَاعِلِه، وقِلَّةُ الِامْتِنَاعِ لِمَا أَرَادَ بِه، لَمْ يَخْرُجْ مِنْه طَرْفَةَ عَيْنٍ، (غير أنه) أَنْ يَقُولَ لَه كُنْ فَيَكُونُ، والْقَاهِرُ مِنَّا عَلَى مَا ذَكَرْتُ ووَصَفْتُ، فَقَدْ جَمَعَنَا الِاسْمُ واخْتَلَفَ الْمَعْنَى وهَكَذَا جَمِيعُ الأَسْمَاءِ...)(3)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (فَلَا شَيْءَ (إِلَّا الله الْواحِدُ الْقَهَّارُ) الَّذِي

ص: 341


1- سورة إبراهيم(48).
2- موسوعة العقائد الإسلامية للريشهري ج5 ص53 – 54.
3- الكافي للكليني ج1 ص123 بَابٌ آخَرُ وهُوَ مِنَ الْبَابِ الأَوَّلِ إِلَّا أَنَّ فِيه زِيَادَةً وهُوَ الْفَرْقُ مَا بَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَ أَسْمَاءِ اللَّه وأَسْمَاءِ الْمَخْلُوقِينَ / ح (2).

إِلَيْه مَصِيرُ جَمِيعِ الأُمُورِ، بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا، وبِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا، ولَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا)(1)

ومن هنا قال الشيخ الصدوق (رحمه الله تعالى): (القدير والقاهر معناهما أن الأشياء لا تطيق الامتناع منه ومما يريد الانفاذ فيها)(2)

ص: 342


1- نهج البلاغة ج2 ص125.
2- التوحيد للصدوق ص 198.
الصفة الثالثة: التجبر (الجبار) (ذو الجبروت)

الجبار أيضاً من الصفات التي أثبتها القرآن الكريم لله عز وجل في آية واحدة هي قوله تعالى: (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(1)

وهي كما ترى يتبادر منها معانٍ غير محبذة.

وقد أضحت طريقة بيان مثل هذه الصفة واضحة جلية، إذ عندما نرجع إلى اللغة نجد أن معناها هو التالي:

جبر: أصل واحد وهو جنس من العظمة والعلوّ والاستقامة. فالجبّار الَّذي طال وفات اليد، يقال: فرس جبّار ونخلة جبّارة وذو الجبّورة وذو الجبروت. وجبرت العظم فجُبر، ويقال للخشب الَّذي يُضمّ به العظم الكسير: جبّارة، والجمع جبائر.(2)

ومنه يتبين: أن الجبر يأتي على عدة معاني، منها: العظمة، والعلو، الاستقامة، إصلاح الكسر وترميمه.

وكما ترى فليس في المعاني اللغوية أي معنى سلبي، إنما الناس في

ص: 343


1- الحشر 23
2- معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (جبر)

تعاملاتهم اليومية استعملوا الجبار في خصوص المتعالي ظلماً وجوراً، ولكنه استعمال من استعمالات مادة (جبر) وليس منحصراً بها، وقد استعمله القرآن الكريم في وصف بعض المنحرفين، فقد وصف البعض بأنه جبار بمعنى (من يضرب ويقتل ويدمر من منطلق الغضب ولا يتبع أمر العقل، وبتعبير آخر: هو من يجبر سواه على اتّباعه ويريد أن يغطي نقصه بادعاء العظمة والتكبر الظاهري)(1)

قال تعالى: (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)(2)

وقال تعالى: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقىٰ مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ. يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)(3)

وقال تعالى: (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(4)

ومعه، فإذا نُسب الجبر إلى الله تعالى، فإنه يتمحّض في الدلالة على:

أولاً: الغلبة والسيطرة والقهر.

وهو ما يظهر من قوله تعالى (هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ

ص: 344


1- تفسير الأمثل للشيرازي ج6 ص576.
2- هود 59
3- إبراهيم 15 – 17
4- غافر 35

السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(1)

وهذا المعنى يدخل تحت الصفة السابقة (القهار) ومعناه معناها.

ثانياً: الجبران.

أي تكميل نقص الغير، كما ورد في بعض الأدعية (يا جابر العظم الكسير...)، وهذا المعنى من التجبّر يدخل تحت الحكمة بمعنى الإتقان والدقة في الصنع، أو تحت الربوبية والتدبير، بمعنى أنه تعالى حيث إنه رب الجميع، فهو يدبّر أمورهم ويكمّل نقصهم.

إشارة:

إن كون الله تعالى جابراً وجباراً يختلف عن وصف المخلوق بذلك، ووجه الفرق أمور عديدة منها التالي:

أولاً: أن غير الله تعالى عندما يكون عالياً مقتدراً، فإنه قد يصدر منه الظلم والجور، وهو ما لا يمكن صدوره من الله تعالى، لغناه وحكمته كما تبين أكثر من مرة.

وبعبارة أخرى: أن غير الله تعالى لا يُؤمَن جانبه بالإطلاق، بل يبقى احتمال استعمال تسلطه في إضرار غيره وارداً، وهذا المعنى غير متصور في حق الله تعالى، فهو تعالى إنما يفعل في العبد ما فيه صلاحه، وإن ظنّ البعض أن ما وقع عليه من البلاء مثلاً هو في غير مصلحته، ولكن الله تعالى لحكمته ورأفته يفعل بالعبد ما هو صلاحه ولو من حيث لا يعلم.

ص: 345


1- سورة الحشر(23).

ثانياً: أن غير الله تعالى إذا أراد أن يجبر غيره بمعنى أن يكمّله ويصلحه، فإنه لا يستغني عن المساعدين والآلات وما شابه، أما الله تعالى فهو الغني المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فهو تعالى جبار لا يُعان.

ثالثاً: أنه جل وعلا وإن كان جباراً قاهراً لعباده لا يمكن لشيء أن يقف دون إرادته، ولكن حلمه ورحمته تعالى قد سبقت جبره وغضبه وقهره، فهو جبار حليم رحيم ودود، وهذا ما يندر أن نجده في جبار غيره جل وعلا.

وما ألطف ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ِفي احتِجاجِهِ عَلى أَبي جَهل أنه قال له: أما عَلِمتَ قِصَّةَ إِبراهيمَ الخَليلِ (عليه السلام) لَمّا رُفِعَ فِي المَلَكوتِ، وذلِكَ قَولُ رَبّي (وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَ هِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام 75]، قَوَّى اللهُ بَصَرَهُ لَمّا رَفَعَهُ دونَ السَّماءِ حَتّى أَبصَرَ الأَرضَ ومَن عَلَيها ظاهِرينَ ومُستَتِرينَ، فَرَأَى رَجُلا وَامرَأَةً عَلى فاحِشَة فَدَعا عَلَيهِما بِالهَلاكِ فَهَلَكا، ثُمَّ رَأى آخَرَينِ فَدَعا عَلَيهِما بِالهَلاكِ فَهَلَكا، ثُمَّ رَأَى آخَرَينِ فَهَمَّ بِالدُّعاءِ عَلَيهِما بِالهَلاكِ، فَأَوحَى اللهُ إِلَيهِ:

يا إِبراهيمُ، اُكفُف دَعوَتَكَ عَن عِبادي وإِمائي ؛ فَإِنّي أَنَا الغَفورُ الرَّحيمُ الجَبّارُ الحَليمُ، لا تَضُرُّني ذُنوبُ عِبادي، كَما لا تَنفَعُني طاعَتُهُم... يا إِبراهيمُ، فَخَلِّ بَيني وبَينَ عِبادي فَإِنّي أَرحَمُ بِهِم مِنكَ، وخَلِّ بَيني وبَينَ عِبادي، فَإِنّي أَنَا الجَبّارُ الحَليمُ العَلاّمُ الحَكيمُ، أُدَبِّرُهُم بِعِلمي وأُنفِذُ فيهم قَضائي وقَدَري.(1)

ص: 346


1- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص36.
الصفة الرابعة: التكبر (المتكبر)

إن التكبر من الصفات المذمومة كما صرحت بذلك الروايات الشريفة، يكفي أنه من محبطات الأعمال، وهو الذي جعل من إبليس ملعوناً مطروداً من الرحمة الإلهية، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الله بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَه الطَّوِيلَ وجَهْدَه الْجَهِيدَ، وكَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّه سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ، لَا يُدْرَى أَمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى الله بِمِثْلِ مَعْصِيَتِه، كَلَّا مَا كَانَ الله سُبْحَانَه لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً، بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِه مِنْهَا مَلَكاً، إِنَّ حُكْمَه فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وأَهْلِ الأَرْضِ لَوَاحِدٌ، ومَا بَيْنَ الله وبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِه هَوَادَةٌ، فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَه عَلَى الْعَالَمِينَ.(1)

ومعه فكيف نتعقل وصف الله تعالى بالمتكبر كما في قوله تعالى (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(2)؟!

والجواب: لا يختلف كثيراً عما تقدم من أجوبة، فإن المتكبر من الكبير بمعنى العظيم وخلاف الصغير، والله تعالى بلا شك هو أعظم العظماء، بل لا يُقاس

ص: 347


1- نهج البلاغة ج 2 ص139.
2- الحشر 23

به عظيم، وكل ما دونه فهو صغير حقير أمامه، وعلى هذا فتكون هذه الصفة من الصفات الكمالية له جل وعلا، ولا يلزم منها نسبة النقص له جل وعلا.

نعم، في غيره من الممكنات، حينما يحاول ممكن فقير أن يتشبث بعظمة مصطنعة، ويجعل منها سبباً لاحتقار الآخرين والتعالي عليهم، تكون تلك الصفة مذمومة.

أما في الله تعالى، فحيث إنه الكبير ولا يُقاس به أحد، فالكبرياء والتكبر لا يكون على نحو الحقيقة إلا له جل وعلا.

ص: 348

الصفة الخامسة: الوراثة (الوارث)
اشارة

نحن نعلم أن معنى الإرث هو: انتقال مال ما من شخص إلى آخر، بأنْ يموت الأول، فينتقل ملكه إلى الثاني، والثاني لم يكن مالكاً لهذا المال قبل موت الأول.

هذا هو المعنى اللغوي للإرث، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة مادة (ورث): وهو أن يكون الشيء لقوم، ثم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب.

وواضح أن هذا المعنى لا يمكن نسبته إلى الباري جل وعلا، فكيف لا يكون مالكاً لشيء إلا بعد أن ينتقل له عن طريق موت الآخر؟! والحال أنه تعالى المالك الحقيقي لكل شيء؛ لأنه الخالق الوحيد لكل شيء؟

فما هو معنى كونه تعالى وارثاً؟

الجواب:

أن معنى الوارث وإن كان كما قيل، ولكن هناك خصوصية في الوارث، هي ما سوّغت تسمية الباري جل وعلا بالوارث رغم كونه المالك الحقيقي لكل شيء من دون إرث، وتلك الخصوصية هي: أن الوارث هو من يبقى بعد موت المورِّث، وإلا فلو مات قبله فلا يكون وارثاً له. وأيضاً الوارث

ص: 349

يأتيه المال من دون أن يتعب فيه، فهو حصول على شيء من دون تعب.

وحيث إن الله تعالى هو الباقي بعد فناء الأشياء كلها، فهو من هذه الناحية وارث، أي إنه باقٍ بعد فناء كل شيء، وهو المالك لكل شيء من دون تعب ونصب، هذا فقط لا أكثر.

قال الشريف الرضي (رضوان الله عليه): فأما صفة اللَّه تعالى بأنه الوارث لخلقه كقوله: (وكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ)(1)وكقوله:

(ولله مِيراثُ السَّماواتِ والأَرْضِ)(2)فهو

مجاز. والمراد: أنه الباقي بعد فناء خلقه، وتقوّض سمائه وأرضه.(3)

وفسّر الشيخ الطبرسي (رحمه الله تعالى) قوله تعالى: (وكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) بمعنى: المالكين لديارهم، لم يخلفهم أحد فيها.(4)

والخلاصة: أن معنى إرث الله تعالى للمساكن بعد أهلها هو: (إشارة إلى خلوها من الساكنين، كما هي إشارة إلى أن مالكها الحقيقي هو الله سبحانه المالك لكل شيء، وإذا ما أعطى ملكاً اعتبارياً لأحد، فإنه لا يدوم له طويلاً حتى يرثه الله أيضاً).(5)

أو قل: إن (إِطلاق اسم (الوارث) على الله تعالى يعود إلى أنّ لكلّ

ص: 350


1- القصص 58
2- آل عمران 180
3- تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي ص145.
4- تفسير مجمع البيان للطبرسي ج7 ص459.
5- التفسير الأمثل للشيرازي ج12 ص271.

موجود في هذا العالم عمراً محدوداً، والموجود الأَزليّ الأَبديّ هو الله وحده، فهو بالنتيجة وارث كلّ شيء. أَجل، إِنّه سبحانه المالك الحقيقيّ المطلق لكلّ شيء دائماً وأَبداً، أَمّا اسم الوارث فإنّه يشير إِلى مالكيّة الله باعتبار بقائه عَزَّ اسمه بعد فناء الأَشياء.(1)

والاحتمال الآخر هو: أَنّه لمّا كان وارث الشيء هو من يملكه بلا تعب ولا عناء، وكان الله مالكاً لجميع الموجودات بلا تعب ولا عناء، فإنّه سبحانه يُسمّى الوارث.(2)

ملحوظة:

إن الإيمان بأن الوارث الحقيقي لكل شيء هو الله تبارك وتعالى، واستشعار واستحضار هذا المعنى في الذهن والسلوك، يستلزم أن يتم التعامل مع ما تحت أيدينا -من أموال ومناصب وجاه وما شابه- معاملة التخويل والتوكيل فقط، فلا نتجاوز حدود التوكيل، ولا نطمع بأكثر من التخويل، ولنتذكر قوله تعالى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادىٰ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرىٰ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(3)

ص: 351


1- قال في لسان العرب مادة (ورث): ورث: الوارث: صفة من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم الذي يَرِثُ الخلائقَ، ويبقى بعد فنائهم، والله عز وجل، يرث الأَرض ومَن عليها، وهو خير الوارثين أَي يبقى بعد فناء الكل، ويَفْنى مَن سواه فيرجع ما كان مِلْكَ العِباد إِليه وحده لا شريك له.
2- موسوعة العقائد الإسلامية للريشهري ج5 ص273
3- الأنعام 94

وقوله تعالى (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً. وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَىٰ الأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً.)(1)

ص: 352


1- الكهف 46 – 48
الصفة السابعة: الإضلال
اشارة

لقد تكرر في الآيات الكريمة وصف الله تعالى بالهادي، وفي نفس الوقت وصفه بالمضلّ، ولأهمية هاتين الصفتين نفصّل الكلام فيهما، فما هو معنى كونه تعالى هادياً ومضلاً في نفس الوقت؟

إن للهدى والضلال ستة معانٍ(1)، في كل واحد منها يكون للهدى معنى، ويقابله معنى للضلال(2)، والتفصيل أن يُقال:

ص: 353


1- للتفاصيل: يراجع كتاب: الهدى والضلال في القرآن الكريم للشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.
2- ذكر هذه المعاني السيد الطهراني في شرحه على التجريد ص 572 وما بعدها، فقال ما نصه: اعلم أن الهداية هي جعل ما يتمكن به الموجود أن يسلك سبيل كماله ويصل غايته، والإضلال بعدم هذا الجعل أو بمانع عن هذا السلوك، وللهداية من الله تعالى ست مراحل: الأولى: هداية التكوين: وهي عامة لكل موجود، فإنه تعالى جعل كل موجود من العلويات والسفليات بحيث يهتدى باختيار أو تسخير أو غير ذلك -ما دام موجوداً- إلى ما يصلح له من الأمور، كاهتداء الحيوان للسفاد، والهرب من الموت، والفرار من العدو، والجمع لما يصلحه من الغذاء مما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار، وفهم بعضها عن بعض منطقها، وما تفهّم به أولادها عنها، ونقلها الغذاء إليها، وكاهتداء الشمس والقمر والنجوم في مسيرها صيفا وشتاء، أوجاً وحضيضاً وغيرها، وكاهتداء الملائكة إلى ما أُمروا به من التدبير والنزع وإلقاء الذكر والتنزل بالأمر وغيرها، ولا يشذُّ عن هذه الهداية موجود، فإنه تعالى خلق ما خلق ودبّر أمره. والضلالة في هذه المرحلة بالإعدام أو بالتصادم، وهو في السفليات؛ لأنه تعالى لا يسلك بموجود على خلاف ما خُلق له ويصلح به. وإلى هذه الهداية الاشارة بقوله تعالى: (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)، وبقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى)، وفي الروايات لها شواهد وبيانات. المرحلة الثانية: هداية العقل: فإنه تعالى كرّم بالعقل الهادي المنير بعض خلقه من العالين والسافلين، ومعلوم أن لواجد العقل كمالاً ليس لفاقده، ويهتدى به إلى أمور لا يهتدي هو إليها. والضلالة في هذه المرحلة: بعدم إعطاء العقل، كالنبات والحيوان. أو بزواله بآفة كالمجنون الآدمي، ولكنه ليس بقبيح؛ إذ ليس فيه منع استحقاق، مع أن المجنون لا يُكلف بشيء، ويعود عاقلاً يوم المعاد. أو بعدم الجري على مقتضاه ومستدعاه اختياراً، وهذا من العبد، وإليه الاشارة بقوله تعالى: (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)، وبقوله تعالى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً). المرحلة الثالثة: هداية الدعوة بالرسل والكتب والأوصياء والعلماء: وهي عامة لكل عاقل له داعٍ على خلاف داعي العقل من الجن والأنس وغيرهما إن كان، سواء قَبِل الدعوة أم لم يقبل. والضلالة في هذه المرحلة من العبد فحسب؛ لعدم جريه على ما أوجب عليه العقل من الفحص عن أحوال الداعي والنظر في دعوته وما يقرن بها من البيّنات والمعجزات، وترك العناد واللجاج في قباله، وإليها اشير بقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). المرحلة الرابعة: هداية التشريع: وهي جعل الأحكام والآداب والسنن؛ ليتمكن الذين قبلوا الدعوة أن يسلكوا سبيل ما دعاهم إليه النبي. والضلالة في هذه المرحلة –كالسابقة- من العبد؛ لأنه تعالى لم يترك أمة أرسل إليهم رسولاً بلا كتاب وميزان وتكليف، وإن شئت فقل: من الله باعتبار أنه تعالى لا يهدي العبد في هذه المرحلة بالجبر والإلجاء اذا لم يقبل هو باختياره دعوة الداعين إليه، وعدم هدايته تعالى للعبد في هذه المرحلة مع تقصيره في المرحلة السابقة ليس بقبيح، وهو ظاهر، بل الهداية بالإلجاء نقض لغرضه تعالى، وإليها اشير بقوله تعالى: (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)، وبقوله تعالى: (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). المرحلة الخامسة: هداية اللطف: وهي خاصة بمن اعتنى والتزم بأحكام التشريع وسننه، وراعى طريقة التقوى حق رعايته، فإن الله تعالى يحمى عبده الصالح المجتنب عما يسخطه ويكرهه عن مضار الدنيا، ويجنّبه عن مضلّات الفتن، ويلطف به ألطافاً ظاهرة أو خفية، حتى يخرج من الدنيا سالماً دينُه راضياً عنه ربُّه... والإضلال في هذه المرحلة من الله تعالى، لكنه ليس بقبيح؛ فإنه تعالى لا يحسُن أن يلطف هذا اللطف بمن يخالفه باختياره ويعانده بترك الاتباع لرسله وأنبيائه؛ إذ ليس له أهلية ذلك. وإن شئت فقل: من العبد باعتبار أنه حرم نفسه عن هذه الهداية بترك الاهتداء في المرحلة السابقة، وإليها الاشارة بقوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وبقوله تعالى: (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). المرحلة السادسة: هداية الفلاح والإثابة في الآخرة: ومقابلها الاضلال بمعنى الهلاك والتعذيب، وإلى ذلك أُشير في قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ)، وفي قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، وهذه من الله تعالى باعتبار ومن العبد باعتبار كالمرحلة الخامسة. ثم إن الهداية في كل مرحلة متوقفة على التي قبلها، فإن امتنع العبد في مرحلة عن القبول كان القبول فيها باختياره لم يتحقق الهداية من الله تعالى في المراحل المتأخرة، مع إن الهداية في كل المراحل منه تعالى، فإذا لم يهد الله فقد ضلّ؛ لأن من يهدي الله فهو المهتدي، ومن لم يهده ويضلله فليس له وليٌّ مرشد من دون الله تعالى، فكل ما في القرآن من إسناد الإضلال إليه تعالى وعدم هدايته للظالمين والكافرين والفاسقين، فيحمل على واحدة من المراحل الثلاث الأخيرة؛ لسوء اختيار العبد في المرحلة الثانية أو الثالثة أو الرابعة.

ص: 354

مقدمتان
المقدمة الأولى: الهدىٰ لغةً

(الرشاد والدلالة بلطف إلىٰ ما يوصل إلىٰ المطلوب)(1).

والضلال: (ضدُّ الهدىٰ والرشاد. وقال ابن الكمال: الضلال فقْدُ ما يوصل إلىٰ المطلوب، وقيل: سلوك طريق لا يوصل إلىٰ المطلوب. وقال الراغب: هو العدول عن الطريق المستقيم، وتضادُّه الهداية)(2).

ص: 355


1- تاج العروس للزبيدي 20: 327/ مادَّة (هدىٰ).
2- تاج العروس للزبيدي 15: 420/ مادَّة (ضلل).

أمَّا في القرآن الكريم، فمعنىٰ الهدىٰ والضلال لا يختلف كثيراً عن المعنىٰ اللغوي العامّ لهما، ولكن مع الالتفات إلىٰ التالي:

إنَّ مطالعة آيات القرآن الكريم فيما يتعلَّق بموضوعنا تكشف بصورة جليَّة أنَّ مفهوم (الهدىٰ) و(الضلال) من المفاهيم المشكَّكة لا المتواطئة، وبالتالي فله عدَّة مراتب، كما سنعرف ذلك إن شاء الله تعالىٰ.

فيقول القرآن مثلاً حكايةً عن أهل الكهف: [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىٰ ](1)

فالقرآن يُصرِّح بأنَّ الله تعالىٰ قد زاد أهل الكهف هدىٰ، ممَّا يعني أنَّ (الهدىٰ) له مراتب يمكن أن تزيد ويمكن أن تنقص.

ومن هنا فقد ذكر بعض العلماء أنَّ للهدىٰ والضلال معانٍ ستَّة، أو قل: مراتب ستَّة، ولكلِّ معنىٰ أو مرتبة منها شاهد قرآني.

المقدمة الثانية: اللطف المحصِّل والمقرِّب

قسَّم علماء الكلام اللطف إلىٰ قسمين: اللطف المحصِّل، واللطف المقرِّب.

ويُعنىٰ من المحصِّل التالي

1- بعد أن أوجد الله (عزوجل) الإنسان في هذا العالم، فإنَّه خَلَقه من أجل هدف معيَّن، يريد منه تشريعاً وباختياره أن يصل إليه، فهذا هو مقتضىٰ الحكمة

ص: 356


1- الكهف: 13

الإلهيَّة.

2- أنَّ هذا العالم لم يُنظَّم بصيغة تتوفَّر فيها مقتضيات الوصول إلىٰ الهدف من دون أيِّ موانع وعقبات، فإنَّه وإن كان ممكناً في حدِّ نفسه ولكنَّه خلاف الواقع، ولو كان كذلك لكنّا مجتمعاً ملائكياً لا بشرياً.

وكذلك فالعالم لم يُنظَّم بصيغة تتوفَّر فيها الموانع والعقبات من دون أيِّ تسهيلات وعلامات توصل إلىٰ الهدف، بحيث إنَّه لا تجد إلَّا المثبِّطات من دون أيِّ حوافز، فهذا الاحتمال وإن كان ممكناً في حدِّ نفسه أيضاً ولكنه جزاف وعبث وخارج عن قدرة الإنسان، فكيف يمكن للإنسان أن يصل إلىٰ هدفه من دون أن يعرف ما هو أو كيف يصل إليه أو مع تعجيزه وإقعاده رغماً عنه!؟

فالعالم إذن نُظِّم بصيغةٍ تتوفَّر فيها الموانع، وإلىٰ جنبها تتوفَّر مقتضيات وشروط الوصول إلىٰ الهدف، بحيث توفَّر لدىٰ الإنسان كلُّ ما يتوقَّف عليه مسيرُهُ نحو الهدف.

3- وهذا يعني أنَّ الوصول إلىٰ الهدف في الوقت الذي رُسِمَ طريقُهُ بكلِّ وضوح بحيث لم يبقَ عليه أيُّ تشويش أو ضبابية، لكن صاحَبَه العديد من الموانع والعقبات التي لا بدَّ للإنسان فيها من بذل الجهد لتجاوزها بإرادته واختياره.

وهذا التوازن بين الموانع والعقبات من جهة، وبين المقتضيات والشروط

ص: 357

للوصول إلىٰ الهدف من جهة أُخرىٰ، هو ما يُسمّىٰ باللطف المحصِّل.

أو قل: إنَّه توفير الشروط التي لا يمكن للإنسان أن يصل إلىٰ هدفه من دونها، لأنَّ في الطريق عقبات يحتاج إلىٰ ما يساعده في تجاوزها، وتلك المقتضيات والشروط هي ما تساعده علىٰ ذلك، فتوفيرها إلىٰ جنب الموانع هو اللطف المحصِّل.

4- ومن هذا يتبيَّن: أنَّ اللطف المحصِّل ليس شيئاً خارجاً عن مقتضىٰ (العدل الإلهي)، إذ العدل يقتضي توفير تلك المقتضيات إلىٰ جنب الموانع، ويبقىٰ علىٰ الإنسان تفعيل اختياره في توفير والاستفادة من أكبر قدر ممكن من المقتضيات والشروط، وليرفع ما يمكنه من الموانع والمثبِّطات.

فاللطف المحصِّل إذن هو ترجمة واقعية للعدل الإلهي في وجود الكون بعيداً عن الظلم والجبر.

وأمَّا اللطف المقرِّب، فبيانه التالي

إنَّ العدل الإلهي يقتضي إيجاد توازنات بين المقتضيات والموانع كما تقدَّم، أمَّا زيادة التسهيلات للوصول إلىٰ الهدف زائداً علىٰ العدل الإلهي فهذا الأمر ليس واجباً، وعدمه لا يُخِلُّ بالعدل، فلا يجب علىٰ الله تعالىٰ بمقتضىٰ العدل أكثر من تلك التوازنات.

ولكن الله تعالىٰ من حيث جوده وكرمه وتفضُّله ومنُّه ورحمتُه قد يُوفِّر عوامل الخير بعدد أكثر وبنوعية أكبر من عوامل الشر، قد يُقدِّم تسهيلات

ص: 358

إضافية بحيث تفتح فرصاً أكثر وتُعبِّد طرقاً أوسع للوصول إلىٰ الهدف، بحيث لو- وهذه ملحوظة مهمَّة- أراد الإنسان أن يُشغِّل ويُفعِّل عقله واختياره، فإنَّه سوف يلمس تلك التسهيلات ويستفيد منها أكثر، رغم وجود الصعوبات والعقبات.

إنَّ توفير تلك التسهيلات وعوامل الخير الإضافية التي تجعل الاختيار الإنساني يتَّجه باتِّجاه فعل الخير من دون أن تُسلَب إرادته، هي ما يُسمّىٰ باللطف المقرِّب.

إذا تبيَّن هذا، نقول معجَّلاً

إنَّ معاني الهداية ستَّة، فالهداية التكوينية العامَّة وهداية العقل والدعوة والتشريع، هي من نوع اللطف المحصِّل. وأمَّا هداية اللطف، فهي من نوع اللطف المقرِّب. وأمَّا هداية الفلاح، فهي نتيجة

العمل الذي يعمله الإنسان في هذه الحياة، وسنتعرَّف تفاصيل هذه المعاني الستَّة إن شاء الله تعالىٰ.

انتهت المقدمتان.

وتلك المعاني الستة هي
المعنى الأول: الهداية التكوينية العامَّة
اشارة

وهي بمعنىٰ تزويد كلِّ موجود عموماً بما في ذلك الإنسان بإمكانات ذاتية وطبيعية تعينه علىٰ الوصول إلىٰ غايته. وهذه الهداية عامَّة لكلِّ موجود، فإنَّه تعالىٰ جعل كلَّ موجود، سواء كان من الموجودات العلوية (المجرَّدة والمثالية)

ص: 359

أو السفلية (المادّية)، جعل فيه ما يهتدي به إلىٰ صلاح حياته وأُموره، كغريزة التكاثر عند الحيوان، والهروب من العدوِّ، وجمع القوت، وفهم بعضهم عن بعض منطقها، وكاهتداء الشمس والقمر والنجوم في مسيرها اليومي...، ولا يشذُّ عن هذه الهداية موجود من الموجودات، فإنَّه تعالىٰ خلق ما خلق ودبَّر أمره.

وبعبارة أُخرىٰ: إنَّ عالمنا هذا هو عالم الحركة والاستكمال، وواحدة من مبادئ الحركة هي الغاية ووجهة الحركة.

وهداية التكوين تعني أنَّ الله تعالىٰ حينما أوجد العالم متحرِّكاً، فليس من الصحيح أن تكون حركته عشوائية ومن دون هدف، لأنَّه خلاف الحكمة، فلا بدَّ أن يكون له هدف. وبعد أن أوجد الله تعالىٰ العالم، وجعل له (بوصلة) تؤدّي إلىٰ (الهدف)، فلا بدَّ أن يوجد معه آلات ووسائل تساعده في الوصول إلىٰ ذلك الهدف، فخلق فيه الهواء والماء والتراب وغيرها من العناصر الضرورية لاستمرار الحياة، كما وجهَّز الإنسان بالإرادة والقدرة وأدوات المعرفة و...، وإلَّا فمن دون تلك الوسائل والآلات يكون الوصول إلىٰ الهدف ضرباً من المحال، وهو علىٰ غرار:

ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتلّ بالماءِ

فالهدف، وإمكانات الوصول إليه، هو معنىٰ هداية التكوين هنا.

إنَّ عدم تحديد (هدف) لمفردات هذا العالم، يساوق أن تنتج (النخلة) ثمرة (الليمون)، وهذا هو معنىٰ العشوائية! أو أن تكتب شعراً باللغة العربية،

ص: 360

فيُحوِّله القلم إلىٰ بذور تزرعها في الأرض!

والدليل علىٰ الهداية بهذا المعنىٰ

من العقل: (هو دليل الحكمة ونفي العبث)، فحيث ثبت أنَّ الله تعالىٰ حكيم ولا مكان للعبث في فعله، فمن المستحيل أن يُوجِد هذا العالم المتحرِّك في كلِّ مفرداته، ثمّ لا يُحدِّد له الهدف، أو يُحدِّده من دون تزويده بالوسائل التي تساعده في الوصول إلىٰ هدفه.

ومن النقل: قوله تعالىٰ: [قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ ](1)

وقوله تعالىٰ: [سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَىٰ. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ.](2)

الضلال التكويني

إذا عرفنا معنىٰ الهداية هنا، أمكننا أن نتعرَّف علىٰ ما يقابلها من (الضلال).

والضلال في هذه المرحلة يكون بأحد أمرين:

الأمر الأوَّل: إعدام الإمكانات المشار إليها، أي عدم توفير هذه الإمكانات والوسائل للوصول إلىٰ الهدف، وقد تقدَّم أنَّ دليل الحكمة ونفي العبث ينفيه، فلا يُتصوَّر وقوع هذا المعنىٰ من الضلال في عالمنا.

ص: 361


1- طه: 50
2- الأعلىٰ: 1- 3

الأمر الثاني- وهو المهمُّ-: إيجاد الموانع والعقبات في طريق الوصول إلىٰ الهدف.

وهذا المعنىٰ وجداناً حاصل، فأنت في طريق حركتك نحو الهدف والتكامل، تجد ألف عقبة ومانع، فالأمراض، والآفات، والهرم، وعدم توفُّر الفرص بسهولة، والزلازل، وحتَّىٰ الموت، كلُّها تقف في طريقك نحو التكامل.

وهذا الأمر ينبع من الحقيقة التالية

إنَّ عالمنا- عالم المادَّة- مبنيٌّ في أصل وجوده علىٰ أساس نظام الأسباب والمسبَّبات، والموانع تدخل ضمن مفردات أسباب هذا العالم، باعتبار أنَّه عالم التزاحمات والتدافع، فظهور ظاهرة (الموانع) طبيعيٌّ جدّاً هنا.

لو فرضنا أنَّنا أردنا عالماً من دون أيِّ تزاحمات، فهذا الفرض ليس محالاً علىٰ الله تعالىٰ، بل هو قادر عليه بلا أدنىٰ شكٍّ، وإنَّما أمره فيه أن يقول له: كن فيكون، ولكنَّه سيتحوَّل حينها إلىٰ عالم آخر غير عالم الإنسان، سيتحوَّل إلىٰ عالم (الملائكة)، وهذا خروج عن حقيقة عالم المادَّة.

فما دمنا نتحدَّث وعالم المادَّة، إذن وجود الموانع سيكون أمراً طبيعياً فيه، وإلَّا لم يكن عالم المادَّة.

إنَّ وجود الموانع في عالم المادَّة لا يُخالف الحكمة أبداً، باعتبار أنَّ الإنسان موجود مختار، فلا بدَّ أن يُفعِّل اختياره وإرادته ليعمل علىٰ إزالة تلك الموانع،

ص: 362

هكذا أراد الله تعالىٰ، [يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ](1)

فهذا هو عالمنا، عالم الكدح والتعب والنصب، عالم الموانع التي صارت شعلة وهّاجة لتفجير طاقات الإنسان وإبداعاته الكامنة في مواجهة تلك الموانع، الأمر الذي أدّىٰ إلىٰ ظهور شطر كبير جدّاً من التطوّر الذي نعيش مفرداته اليوم، فلولا الزلازل لما بنىٰ العقل البشري عمارات مضادَّة للزلازل، ولولا الأمراض لما تطوَّر علم الطبِّ وتفرَّع إلىٰ هذه الفروع التي يصعب عدُّها، ولولا التقلُّبات الجوّية لما اخترع أجهزة التبريد والتدفئة التي أضفت راحة كبيرة علىٰ الحياة...

وهذا معناه: أنَّ فكرة تزويد الإنسان بالإمكانات (الهداية العامَّة المتقدِّمة)، لا تقتضي إيجاد عالم ليس فيه إلَّا مقتضيات وشروط الوصول بلا أيِّ تزاحم، وإلَّا لصار عالمنا عالم ملائكة، وحيث إنَّه لا بدَّ من التزاحم، إذن لا بدَّ من الموانع.

لقد شاء الله تعالىٰ أن يبني هذا العالم وفق هذا النظام، فلا وجود للوصول المجّاني فيه، وإنَّما لا بدَّ من بذل الجهد لاستغلال تلك الإمكانات المتاحة. ورغم إيجاده (عزوجل) لتلك الموانع، إلَّا أنَّه جلَّ وعلا أوجد إلىٰ جنبها نظاماً تكوينياً وهدايةً عامَّةً تُمكِّن الإنسان من التغلُّب علىٰ تلك الموانع والمزاحمات، تماماً كنظام (الإشارات المرورية)، فإنَّه في الوقت الذي يُمثِّل (عائقاً) من الانطلاق من دون توقُّف، ولكن لولاه لانقطع الطريق تماماً، فكثرة السيّارات في

ص: 363


1- الانشقاق: 6

الشارع تُمثِّل (عائقاً) و(مزاحماً) من الوصول، فكان إيجاد نظام الإشارات المرورية التفافاً علىٰ تلك التزاحمات ليُنظِّمها ويتغلَّب عليها، وبالتالي سيصل كلُّ فرد إلىٰ مقصده بأسرع وقت ممكن. لكن ذلك النظام احتاج عقلاً وفكراً وجهداً حتَّىٰ توصَّل الإنسان إليه.

والنتيجة من كلِّ هذا هي التالي

إنَّه رغم وجود (الموانع) في هذا العالم، لكن (الهداية العامَّة) أوجدت إلىٰ جنبه ما يستطيع الإنسان من خلاله أن يتغلَّب عليها، لكن بشرط أن يُفعِّل الإنسان إرادته ولا يتكاسل ولا يتعاجز، فإذا فعل ذلك أمكنه الاستفادة من كلِّ إمكانات هذا العالم ليعيش في راحة وأمان.

وهذا يعني: أنَّ الضلال في هذه المرحلة غير متصوَّر أيضاً، إذ لو وُجِدَت الموانع من دون إمكانات التغلُّب عليها لأمكن القول بتصوّره، ولكن الله تعالىٰ أبىٰ إلَّا أن يُوجِد إلىٰ جنب تلك الموانع ما يُمكِّن الإنسان من خلاله من التغلُّب عليها.

صياغة أُخرىٰ للأمر الثاني

في هذا العالم، يمكننا أن نتصوَّر فروضاً ثلاثة:

الفرض الأوَّل: أن نوجَدَ في هذا العالم، ويأتي الله تعالىٰ ليأخذ بأيدينا قهراً، ويوصلنا إلىٰ المطلوب، بطريقة التلقين والإملاء الجبري.

وهذا الفرض وإن كان ممكناً علىٰ الله تعالىٰ، ولكنَّه يعني سلب اختيار

ص: 364

الإنسان وتحويله إلىٰ آلة عمياء، وهو لم يقع أكيداً، ونحن نرىٰ أنفسنا مختارين بالوجدان.

الفرض الثاني: أن نفترض أنَّ الله تعالىٰ يوجِدنا في هذا العالم، ويترك لنا الاختيار تماماً، ويوجِدنا في أجواء مخملية تماماً، بحيث يوجد خيارات متعدِّدة لنا، ولا يوجد أيُّ مانع ولا مزاحم، أي إنَّه يُوفِّر جميع الشروط والمقتضيات من دون أيِّ مانع ولا مزاحم.

وهذا ممكن في حدِّ نفسه أيضاً، ولكنَّه في أفضل أحواله يُخرجنا عن عالم المادة، ويُحوِّل عالمنا إلىٰ عالم ملائكة، ونحن افترضنا أنَّنا في عالم المادَّة، وإن كان البعض يعتبر هذا الفرض نوعاً من الجبر.

الفرض الثالث: أن نفترض أنَّ الله تعالىٰ يوجِدنا في هذا العالم، ويترك لنا الاختيار تماماً، ويُوفِّر كلَّ ما من شأنه أن يساعدنا في الوصول إلىٰ الهدف، لكن هذه الأُمور المساعدة لا تُعطىٰ للإنسان بالمجانِّ، بل إنَّه تعالىٰ يخلق أمامها مجموعة من الموانع، وعلىٰ الإنسان أن يسعىٰ لإزالتها باختياره، ليصل إلىٰ الهدف، أي إنَّه (عزوجل) يريد من الإنسان أن يتعامل مع المانع تعاملاً إيجابياً، أي يُحوِّله إلىٰ حالة إيجابية تنفعه في الوصول إلىٰ الهدف.

وهذا الفرض هو المتعيَّن هنا، فتلك الموانع لا تقف حائلاً ضدَّ الهداية التكوينية العامَّة، بل هي جزء من نظام هذا العالم، والجزء الآخر منه أن تُعمِل اختيارك وتُفعِّله لتزيل تلك الموانع، أو لتُغلِّفها بطريقة تجعل منها عاملاً مساعداً للوصول إلىٰ هدفك، فالإمام الكاظم (عليه السلام) جعل من السجن فرصة

ص: 365

مناسبة للتعبُّد لله (عزوجل)، حيث نُقِلَ عن بعض عيونه: كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه:

«اللّهمّ إنَّني كنت أسألك أن تُفرِّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت، فلك الحمد»(1).

مع الالتفات إلىٰ أنَّ واحداً من أنظمة هذا العالم أيضاً هو التناسب الطردي بين الصعود التكاملي وبين كثرة الموانع، ممَّا يعني أنَّ التكامل يحتاج إلىٰ مزيد من الجهد وإعمال الاختيار، ولذا كان أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل، حيث روي أنَّه سُئِلَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله): أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثمّ الأوصياء، ثمّ الصالحون، ثمّ الأمثل فالأمثل»(2).

المعنى الثاني: هداية العقل
اشارة

وهي بمعنى تزويد الإنسان بالعقل، أو قل: بآلة الإدراك والتفكُّر، التي بها تميَّز وامتاز علىٰ جميع الموجودات علىٰ هذه الأرض، وبها استطاع أن يبني الحضارة وأن يتجاوز العقبات والأخطار المحيطة به، والتي أوجدها الله تعالىٰ ضمن نظام الأسباب والمسبَّبات في هذا العالم.

وهذه الهداية خاصَّة، إذ هو تعالىٰ كرَّم بالعقل بعض مخلوقاته (العالية والسافلة)، ومعلوم أنَّ الواجد للعقل يملك كمالاً يهتدي به إلىٰ أُمور لا يهتدي إليها من لا عقل له.

قال تعالىٰ: [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ

ص: 366


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 433.
2- الدعوات للراوندي: 166/ ح 460.

بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ](1)

وقال تعالىٰ: [وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ](2)

إنَّ وجود العقل عند الإنسان- وكلامنا في الإنسان، وإلَّا فالعقل عند الملائكة أيضاً- أعطاه تميُّزاً وامتيازاً علىٰ غيره من موجودات هذه الأرض، ففي الوقت الذي يتميَّز الإنسان عن بقيَّة موجودات الأرض بالعقل، كان العقل أيضاً امتيازاً له، جعل له السلطنة والهيمنة علىٰ كلِّ الموجودات الأُخرىٰ، لذلك سخَّر الله تعالىٰ له كلَّ ما فيها، يقول عزَّ من قائل: [وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ](3)

ولا يخفىٰ علىٰ عاقل أهمّية العقل في حياة الإنسان، ولولاه لأضحىٰ الإنسان حجراً أصمّاً أو بهيمةً بكماء! وأدواره تكشف عن أهمّيته.

الإضلال في العقل

إذا عرفنا معنىٰ هداية العقل، فالضلالة حينئذٍ هي بأحد معاني:

المعنىٰ الأوَّل: عدم إعطاء العقل، كما في النبات والحيوان، أو بزوال العقل من الإنسان. وهو وإن كان من الله تعالىٰ، ولكنَّه ليس بقبيح في النباتات

ص: 367


1- الفرقان: 44
2- الأعراف: 179
3- الجاثية: 13

والحيوانات كما هو واضح.

وأمَّا في الإنسان، فهو ليس قبيحاً أيضاً، لعدَّة أسباب، منها التالي:

أوَّلاً: أنَّ الإنسان باعتبار أنَّه عبد مملوك لله تعالىٰ فلا يستحقُّ شيئاً علىٰ الله (عزوجل) لا عقلاً ولا أيَّ شيء، وإعطاؤه العقل إنَّما هو من باب التفضُّل، فإذا لم يرد أن يتفضَّل فلا قبح فيه.

ثانياً: فضلاً عن هذا فإنَّ عدم إعطاء العقل للإنسان يعني الجنون، والجنون قد تكون له أسباب طبيعية تدخل ضمن نظام العلَّة والمعلول، إذ لعلَّه لمرض وراثي أو صدمة نفسية أو عقار معيَّن أفْقَدَ الإنسان عقله، وهذا هو نظام هذا العالم.

ثالثاً: أنَّ الله تعالىٰ عندما أعطىٰ العقل للإنسان فإنَّه جعله في موضع المسؤولية، فكلَّفه وأوجب عليه التزام التكليف، وأمَّا إذا فَقَدَ الإنسان عقله فتلك التكاليف تُرفَع عنه، فلا يلزم من ذهاب العقل تكليف المجنون بما لا يُطاق، فلا قبح من هذه الجهة.

المعنىٰ الثاني: التفاوت في درجات العقل، وهذا أمر واقع بالوجدان، ولكنَّه أمر تقتضيه طبيعة الحياة، فتصوَّر لو أنَّ كلَّ الناس أغنياء، فهل سيرضىٰ أحدهم أن يكون خادماً لآخر أو عاملاً عنده!؟

مع أنَّ هذا التفاوت قد يكون بسبب نفس الإنسان، كقلَّة التعليم أو عدمه، وكالوراثة. فضلاً عن أنَّه تعالىٰ لا يغبن قليل العقل، فإنَّ الروايات

ص: 368

تؤكِّد علىٰ أنَّ الحساب هو علىٰ درجة عقل الإنسان، فعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إنَّما يداقُّ الله العباد في الحساب يوم القيامة علىٰ قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(1).

وينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ هذا المعنىٰ (المداقَّة علىٰ قدر العقول) يجري في جانب الثواب والعقاب كليهما، ولذا كان بعض الناس قليل العمل لكنَّه عظيم الثواب، والبعض عظيم العمل لكنَّه قليل الثواب، كلُّ ذلك تبعاً لمقدار المعرفة والعقل.

عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: «كيف عقله؟»، قلت: لا أدري، فقال: «إنَّ الثواب علىٰ قدر العقل، إنَّ رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر، خضراء نضرة، كثيرة الشجر، ظاهرة الماء، وإنَّ ملكاً من الملائكة مرَّ به، فقال: يا ربِّ، أرني ثواب عبدك هذا، فأراه الله ]تعالىٰ[ ذلك، فاستقلَّه الملك، فأوحىٰ الله ]تعالىٰ[ إليه: أن اصحبه، فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد، بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان، فأتيتك لأعبد الله معك، فكان معه يومه ذلك، فلمَّا أصبح قال له الملك: إنَّ مكانك لنزه، وما يصلح إلَّا للعبادة، فقال له العابد: إنَّ لمكاننا هذا عيباً! فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربِّنا بهيمة، فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإنَّ هذا الحشيش يضيع، فقال له ]ذلك[ الملك: وما لربِّك حمار؟

ص: 369


1- الكافي للكليني 1: 11/ كتاب العقل والجهل/ ح 7.

فقال: لو كان له حمار ما كان يُضيِّع مثل هذا الحشيش، فأوحىٰ الله إلىٰ الملك: إنَّما أُثيبه علىٰ قدر عقله»(1).

المعنىٰ الثالث: عدم الجري علىٰ مقتضىٰ العقل وما يستدعيه، أي توظيف العقل توظيفاً خاطئاً. وهذا من الإنسان باختياره لا من الله تعالىٰ، فلا ظلم فيه ولا جبر.

والعجيب أنَّ بإمكان الإنسان أن يستعمل عقله في ضدِّ ما يمليه عليه عقله، وهذا من عجائب العقل، وعندئذٍ ينسلخ العقل عن حقيقته الملكوتية ليصبح أداة قاتلة وفتّاكة، وبدلاً من أن يدلَّ علىٰ الله تعالىٰ يصبح أداة للإبعاد عن الله تعالىٰ. وهذا المعنىٰ يدعونا إلىٰ أن نتعرَّف حقيقة العقل، فليس كلُّ ذكاء أو دهاء يُسمّىٰ عقلاً، بل العقل هو ما دعا صاحبه لطاعة الله تعالىٰ وألزمه بالعمل والجري علىٰ مقتضىٰ هذه الدلالة، فقد قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): ما العقل؟ قال: «ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَ به الجنان»، فقيل: فالذي كان في معاوية؟ فقال: «تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل»(2).

قال مطرف بن المغيرة بن شعبة: وفدت مع أبي المغيرة علىٰ معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدَّث معه ثمّ ينصرف إليَّ، فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب ممَّا يرىٰ منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتمّاً، فانتظرته

ص: 370


1- الكافي للكليني 1: 11 و12/ كتاب العقل والجهل/ ح 8.
2- الكافي للكليني 1: 11/ كتاب العقل والجهل/ ح 3.

ساعة، وظننت أنَّه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت: ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟ فقال: يا بنيَّ، إنّي جئت من عند أخبث الناس!

قلت: وما ذاك؟

قال: قلت له وخلوت به: إنَّك قد بلغت سنّاً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً، فإنَّك قد كبرت، ولو نظرت إلىٰ إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوَالله ما عندهم اليوم شيء تخافه.

فقال: هيهاتَ هيهاتَ، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فوَالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلَّا أن يقول قائل: أبو بكر. ثمّ ملك أخو عدي، فاجتهد وشمَّر عشر سنين، فوَالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلَّا أن يقول قائل: عمر. ثمّ ملك أخونا عثمان، فهلك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل وعمل به، فوَالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعل به. وإنَّ أخا بني هاشم يُصرَخ به في كلِّ يوم خمس مرّات: (أشهد أنَّ محمّداً رسول الله)، فأيُّ عمل يبقىٰ بعد هذا لا أُمَّ لك؟ لا والله إلَّا دفناً دفناً(1).

ومن هذا القبيل- أي عدم الجري علىٰ مقتضىٰ العقل- ما يُبتلىٰ به البعض من الوسوسة وكثرة الشكِّ في وضوئه أو صلاته، فعن عبد الله بن سنان، قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجلاً مبتلىٰ بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبد الله: «وأيُّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟»، فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: «سَلْه، هذا الذي يأتيه من أيِّ شيء هو؟ فإنَّه

ص: 371


1- مروج الذهب للمسعودي 3: 454.

يقول لك: من عمل الشيطان»(1).

المعنى الثالث: هداية الدعوة

وهي بمعنىٰ إرسال الله (عزوجل) مجموعة من البشر بعنوان كونهم رسلاً منه جلَّ وعلا إلىٰ الناس، ليدلّوهم علىٰ ما فيه صلاحهم، وليبعدوهم عمَّا فيه هلاكهم، سواء كان ذلك فيما يتعلَّق بالأُمور الدنيوية أو ما يتعلَّق بالأُمور الأُخروية، لطفاً منه بعباده، وتحنُّناً عليهم.

وهي هداية منفصلة- في قبال الهداية المتَّصلة التي هي هداية العقل- بواسطة الأنبياء والرسل والأوصياء والكتب، وهي هداية عامَّة لكلِّ عاقل، فيكون العقل الذي ميَّز الإنسان عن غيره من الموجودات الأرضية قد عُزِّز بعقل منفصل يعينه ويدلُّه علىٰ الطريق المستقيم لكي لا يخفق أو يتعثَّر.

فكلُّ عاقل كان له ما يدفعه نحو ما يخالف مقتضىٰ العقل- من الجنِّ والإنس وغيرهما- فإنَّ الله تعالىٰ يُرسِل له الدعاة، سواء قبل العاقل منهم أو لم يقبل.

وهذه الهداية هي واجبة علىٰ الله تعالىٰ من باب اللطف، بمعنىٰ أنَّ الله تعالىٰ قد أوجب علىٰ نفسه أن يساعد بني آدم في الوصول إلىٰ الهدف، حيث علم جلَّ وعلا بأنَّهم يحتاجون إلىٰ تدخُّل غيبي، فمن باب اللطف بعث لهم الأنبياء والرُّسُل وأنزل الكتب ونصَّب الأوصياء.

ص: 372


1- الكافي للكليني 1: 12/ كتاب العقل والجهل/ ح 10.

وهذه الهداية تامَّة من قِبَل الله تعالىٰ، ولا خلل فيها، وهناك آيات عديدة تدلُّ علىٰ أنَّه جلَّ وعلا قد أكمل هذ المشروع علىٰ أتمّ وجه.

وتشير إلىٰ هذا النوع من الهداية عدَّة آيات، منها التالي:

[لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَىٰ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ](1)

فقبل إرسال الأنبياء كان الناس في ضلال من هذه الجهة، جهة عدم توفُّر الداعي إلىٰ الله تعالىٰ، فأزال الله جلَّ وعلا عنهم هذا الضلال بإرساله الأنبياء والرُّسُل، فهي هداية منه جلَّ وعلا.

وفي نفس السياق جاء قوله تعالىٰ: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ](2)

وأيضاً قوله تعالىٰ: [يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَىٰ النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ](3)

ص: 373


1- آل عمران: 164.
2- الجمعة: 2
3- المائدة: 15 و16

ضلال الدعوة:

الضلال في هذه المرتبة يُتصوَّر بأحد شكلين:

الشكل الأوَّل: عدم إرسال الله (عزوجل) الأنبياء والرسل، وعدم إنزال الكتب.

وهذا الأمر غير متحقَّق قطعاً، لأنَّ الله تعالىٰ لم يدع أُمَّة من غير نذير، قال تعالىٰ: [إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ](1)

وهنا قد يتبادر إلىٰ الذهن التالي:

إنَّ القرآن الكريم وفي مقام حديثه عن إرسال النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يُصرِّح بأنَّ إرساله كان علىٰ فترة من الرسل، قال تعالىٰ: [يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلىٰ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ](2)

ومعنىٰ (الفترة) هي ما بين الرسولين، فهذه الآية تقول: إنَّ الله تعالىٰ أرسل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في فترة كانت خالية من الرُّسُل، وهذا يتنافىٰ مع الآية المتقدِّمة الدالّة علىٰ أنَّ كلَّ أُمَّة كان فيها نذير.

والجواب: يأتي في مبحث النبوة إن شاء الله تعالى.

الشكل الثاني: الإضلال بمعنىٰ عدم اتِّباع الإنسان للنبيِّ، وهذا الأمر وإن كان واقعاً ولكنَّه ليس قبيحاً علىٰ الله تعالىٰ، لأنَّه من فعل الإنسان وباختياره.

ص: 374


1- فاطر: 24
2- المائدة: 19

فما هو من جانب الله تعالىٰ- وهو توفير الدعاة والحجج- قد كمل علىٰ أتمّ وجه.

ويبقىٰ ما هو علىٰ الإنسان، فهو عليه أن يُعمِل ويُفعِّل اختياره في اتِّباع الحجج، والله تعالىٰ لا يُجبِر أحداً ولا يسلب اختياره في هذا المجال.

وربَّما هذا واحد من معاني: [لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ]، بمعنىٰ أنَّ الله تعالىٰ لا يُجبِر أحداً علىٰ التزام الدين تكويناً، وإنَّما عليه بيان الحقِّ من الباطل: [قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقىٰ لاَ انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ](1)

وقال تعالىٰ مبيِّناً أنَّه جلَّ وعلا قد أكمل البيان، وترك الاختيار للإنسان: [إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً](2)

فالله تعالىٰ قد هدىٰ الإنسان نحو السبيل بأن بيَّن له الطريق، ولكن ترك اختيار سلوك أحد الطريقين للإنسان نفسه.

وعلىٰ نفس المنوال جاء قوله تعالىٰ: [وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ](3)، أي: بيَّنا له طريق الخير والشرِّ(4).

ويُبيِّن القرآن الكريم أنَّ السبب الرئيسي وراء عدم اتِّباع الناس للأنبياء

ص: 375


1- البقرة: 256
2- الإنسان: 3
3- البلد: 10
4- تفسير القمّي 2: 422.

وللهدىٰ، هو اتِّباعهم لأهوائهم الضالَّة، يقول تعالىٰ: [فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىٰ مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ](1)

المعنى الرابع: هداية التشريع
اشارة

بعد أن هيَّأ الله (عزوجل) في الكون كلَّ ما من شأنه أن يخدم الإنسان في وصوله إلىٰ هدفه، وبعد أن ركَّب فيه عقلاً يُفكِّر به ويُدرك ويُحلِّل المعلومات ويعرف النافع من الضارِّ، وأيضاً به استطاع بناء حضارته، وأتمَّ ذلك له بإرسال الأنبياء الذين ما قصَّروا في أداء ما عليهم من مهمَّة هداية الناس، أكمل الله تعالىٰ لطفه ورحمته بالناس بأن أنزل لهم شريعةً ودستوراً يساعدهم في المسير نحو الهدف بكلِّ وضوح، فالشريعة هي أشبه بالعلامات التي تُوضَع علىٰ الطريق لتدلَّ المسافر علىٰ وجهته وهدفه، وهذا هو معنىٰ هداية التشريع.

إنَّها باختصار بمعنىٰ سنِّ القانون وجعل الأحكام والآداب والسنن، ليتمكَّن الذي جروا علىٰ مقتضىٰ العقل وقبلوا دعوة الدعاة الربّانيين من سلوك ما أمر به النبيُّ.

والدليل علىٰ هذا المعنىٰ قوله تعالىٰ: [الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىٰ لِلْمُتَّقِينَ.](2)

ص: 376


1- القصص: 50
2- البقرة: 1 و2

وقوله تعالىٰ: [وَإِذْ آتَيْنا مُوسَىٰ الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ](1)

والآيات كثيرة في هذا الجانب.

الضلال التشريعي

والضلال في هذه المرحلة من العبد أيضاً، لأنَّه تعالىٰ لم يترك أُمَّة من دون قانون وميزان وتكليف.

نعم، شاء الله تعالىٰ أن لا يجبر عبده علىٰ التزام القانون إذا أراد ذلك العبد- باختياره- عدم الالتزام، وهذه ضلالة غير قبيحة علىٰ الله تعالىٰ، بل الهداية بالجبر فيها نقض للغرض الإلهي من خلقة الإنسان، إذ الحكمة هي اختبار العبد بالاختيار.

وهذا هو معنىٰ ما يُقال من أنَّ السماء تُلزم العبد تشريعاً لا تكويناً، فالله تعالىٰ لا يجبر عبداً علىٰ أن يلتزم الشريعة بحيث يسلب اختياره، كلَّا، بل هو إلزام تشريعي، تبقىٰ إرادة الإنسان محفوظة فيه بتمام معنىٰ الكلمة(2).

المعنى الخامس: هداية اللطف

المقصود من اللطف هنا هو ما يُسمّىٰ في علم الكلام باللطف المقرِّب، وأمَّا المعاني المتقدِّمة فهي من اللطف المحصِّل، فهي هنا من نوع تقديم التسهيلات الإضافية التي تساعد الإنسان أكثر علىٰ الوصول إلىٰ الهدف،

ص: 377


1- البقرة: 53
2- وهو أحد معاني: [لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ] (البقرة: 256)، الذي تقدَّم في الشكل الأوَّل من أشكال ضلال الدعوة.

وهي عطايا مجّانية من الله تعالىٰ من فضل جوده وكرمه ورحمته.

وهذه الهداية خاصَّة بمن اعتنىٰ والتزم بأحكام الدين وتشريعاته وسُننه، وراعىٰ طريقة التقوىٰ حقَّ رعايتها، وجزاءً لذلك يحمي الله تعالىٰ عبده الصالح من مكاره الدنيا وعن مضلّات الفتن، ويلطف به ألطافاً معنوية خفيَّة وظاهرة، وهي ما يُسمّىٰ بالتوفيق والعناية، كلُّ ذلك إذا أصبح العبد مُمهَّداً لتلقّي الفيوضات والهبات الربّانية.

وبعبارة أُخرىٰ أوضح:

بعد أن يقطع المؤمن أشواطاً في طريق تطهير الروح وتحصيل الكمال، يأتي اللطف الإلهي الخاصّ أو المقرِّب، ليُعطيَه نوعاً من التسهيلات، ليقطع طُرُقاً أصعب للصعود في مراتب الكمال، تماماً كما إذا لاحظ مدير شركة معيَّنة أنَّ أحد موظَّفيه تفانىٰ في عمله ولسنوات عديدة، فإنَّه قد يُعطيه (سرَّ المهنة)، ليتحصَّل بجهده علىٰ أرباح أكثر، أو كما إذا ارتأت مديرية التربية أن تُعطي فرصة للطلّاب الموهوبين، بعد أن أثبتوا جدارتهم، تُعطيهم فرصة لطيِّ مرحلة دراسية بوقت أسرع، حسب نظام تسريع المراحل أو ما يُسمّىٰ بنظام (العبور).

إنَّ هذه التسهيلات لم تأتِ من فراغ، وإنَّما جاءت بعد مراحل من العمل والإخلاص والتفاني، بحيث أثبت الفرد جدارته ليحصل علىٰ تسهيلات ليصل إلىٰ مبتغاه وهدفه بوقت أسرع، ولا يعني هذا إلَّا زيادة في تفعيل الإرادة وتوجيه الاختيار نحو الهدف بكلِّ جهد وإخلاص.

ص: 378

وعند مراجعة النصوص الدينية نجد أنَّنا لا نُعدَم الإشارات الواضحة لهذا المعنىٰ من الهداية، نذكر منها النصوص التالية:

النصُّ الأوَّل: قوله تعالىٰ في سورة الفاتحة: [اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ](1)

فهذه الآية من سورة الفاتحة جاءت بصيغة طلب الهداية، ولكن الهداية التي تقع بعد العبادة لله تعالىٰ والاستعانة به، ممَّا يعني أنَّها هداية ما بعد طيِّ مراحل العبودية والتوكُّل علىٰ الله تعالىٰ، وهو معنىٰ هداية اللطف.

وفي إشارة إلىٰ هذا المعنىٰ روي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في قوله: [اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ] أنَّه قال (عليه السلام): «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتَّىٰ نُطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا. والصراط المستقيم هو صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة. وأمَّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلوِّ، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلىٰ شيء من الباطل. وأمَّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلىٰ الجنَّة الذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنَّة إلىٰ النار ولا إلىٰ غير النار سوىٰ الجنَّة»(2).

النصُّ الثاني: قوله تعالىٰ من بداية سورة البقرة: [الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىٰ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ

ص: 379


1- الفاتحة: 6
2- معاني الأخبار للصدوق: 33/ باب معنىٰ الصراط/ ح 4.

يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلىٰ هُدىٰ مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.](1)

فنلاحظ أنَّ الهدىٰ هنا جاء مرَّتين، فمرَّة كان للمتَّقين، وهو هدىٰ التشريع. وأُخرىٰ جاء بعد الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق والإيمان بما أنزل الله تعالىٰ، فوصفتهم الآية بأنَّهم علىٰ هدىٰ من ربِّهم، فهذا الهدىٰ غير الهدىٰ المتقدِّم، فهو هدىٰ اللطف الإلهي والتقريب والتسهيل الإلهي الذي يكون كهدية ومكافأة علىٰ ما قدَّمه الإنسان بإرادته من التزام بالتشريع.

فهذه الآية في الحقيقة (تشير إلىٰ النتيجة التي يتلقّاها المؤمنون المتَّصفون بالصفات الخمس المذكورة، تقول: [أُولئِكَ عَلىٰ هُدىٰ مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]، وقد ضمن ربُّ العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم، وعبارة من ربِّهم إشارة إلىٰ هذه الحقيقة. واستعمال حرف (علىٰ) في عبارة [عَلىٰ هُدىٰ مِنْ رَبِّهِمْ] يوحي بأنَّ الهداية الإلهيَّة مثل سفينة يركبها هؤلاء المتَّقون لتوصلهم إلىٰ السعادة والفلاح، لأنَّ حرف (علىٰ) يوحي غالباً معنىٰ الاستعلاء. واستعمال كلمة (هدىٰ) في حالة نكرة يشير إلىٰ عظمة الهداية التي شملهم الله بها. وتعبير [هُمُ الْمُفْلِحُونَ] يفيد الانحصار كما يذكر علماء البلاغة، أي إنَّ الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين)(2).

النصُّ الثالث: قوله تعالىٰ في سورة العنكبوت: [وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ](3)

ص: 380


1- البقرة: 1- 5
2- تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي 1: 82.
3- العنكبوت: 69

فالهداية هنا ترتَّبت علىٰ الجهاد في الله تعالىٰ، فهي فرع الجهاد، أي إنَّها تأتي بعد بذل الجهد الجهيد من المؤمن، فالخطوة الأُولىٰ من المؤمن، وتكملتها وتسهيل بلوغ الهدف بها من الله تعالىٰ.

وعلىٰ هذا السياق قال الإمام السجّاد (عليه السلام) لإبراهيم بن أدهم لمَّا قال له وقد كان متأخِّراً عن القافلة: ارفع رجلك حتَّىٰ تُدرك، فقال الإمام (عليه السلام): «عليَّ الجهاد، وعليه الإبلاغ، أمَا سمعت قوله تعالىٰ: [وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ]؟»(1).

وقال القمّي في ما يُنسَب له من التفسير: [وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا] أي صبروا وجاهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، [لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا] أي لنُثبتنَّهم، [وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ].

وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «هذه الآية لآل محمّد (صلى الله عليه وآله) ولأشياعهم»(2).

النصُّ الرابع: قوله تعالىٰ: [وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ](3)

روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالىٰ: [وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ]، وقوله تعالىٰ: [إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي

ص: 381


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 280.
2- تفسير القمّي 2: 151.
3- هود: 88

يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَىٰ اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ](1)، أنَّه قال (عليه السلام): «إذا فعل العبد ما أمره الله (عزوجل) به من الطاعة، كان فعله وفقاً لأمر الله (عزوجل)، وسُمّي العبد به موفَّقاً. وإذا أراد العبد(2) أن يدخل في شيء من معاصي الله، فحال الله تبارك وتعالىٰ بينه وبين تلك المعصية فتركها، كان تركه لها بتوفيق من الله تعالىٰ ذكره، ومتىٰ خلّىٰ بينه وبين تلك المعصية فلم يحل بينه وبينها حتَّىٰ يرتكبها، فقد خذله ولم ينصره ولم يُوفِّقه»(3).

وعلَّق الشيخ الصدوق ; علىٰ هذه الرواية بقوله: (التوفيق هو تهيئة الأسباب نحو الفعل، والأسباب بعضها بيد العبد وبعضها ليس كذلك. وما بيد العبد ينتهي أيضاً إليه تعالىٰ منعاً وإعطاءً، فلذلك: [ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ]، والتوفيق للطاعة هو اجتماع أسباب الفعل كلّها، والتوفيق لترك المعصية هو فقدان بعض الأسباب، فإن كان بيد العبد فهو الانقياد فيهما، وإلَّا فهو اللطف من الله تعالىٰ، وعدم التوفيق والخذلان في الطاعة وترك المعصية علىٰ عكس ذلك)(4).

النصُّ الخامس: من دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: «إِلهِي اطْلُبْنِي بِرَحْمَتِكَ حَتَّىٰ أَصِلَ إِلَيْكَ، وَاجْذُبْنِي بِمَنِّكَ حَتَّىٰ أُقْبِلَ عَلَيْكَ»(5).

ص: 382


1- آل عمران: 160
2- لاحظ هنا أنَّ إرادة المعصية هي من العبد لا من الله تعالىٰ.
3- التوحيد للصدوق: 241 و242/ باب 35/ ح 1.
4- التوحيد للصدوق: هامش ص 242.
5- بحار الأنوار للمجلسي 95: 227.

فالإمام الحسين (عليه السلام) وهو في الحجِّ وفي عرفات يرفع يديه بالدعاء، ليطلب تسهيلاً إلهيّاً من باب رحمته ومنِّه جلَّ وعلا، ليصل إلىٰ هدفه الأسمىٰ، فهو طلب للُّطف الخاصِّ.

النصُّ السادس: في مناجاة الزاهدين للإمام زين العابدين (عليه السلام): «إِلهِي فَزَهِّدْنا فِيها، وَسَلِّمْنا مِنْها بِتَوْفِيقِكَ وَعِصْمَتِكَ، وَانْزَعْ عَنَّا جَلابِيبَ مُخالَفَتِكَ، وَتَوَلَّ أُمُورَنا بِحُسْنِ كِفايَتِكَ، وَأَوْفِرْ مَزِيدَنا مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِكَ، وَأَجْمِلْ صِلاتِنا مِنْ فَيْضِ مَواهِبِكَ»(1).

فطلب الإمام (عليه السلام) واضح في أنَّه من باب التوفيق، وكفاية الله تعالىٰ، وسعة رحمته، وفيض مواهبه وعطاياه.

النصُّ السابع: من دعاء للإمام الصادق (عليه السلام): «وأعنّي علىٰ نفسي بما أعنت به الصالحين علىٰ أنفسهم»(2).

فهذه الفقرة من الدعاء تشير إلىٰ وجود إعانة خاصَّة للصالحين من العباد، غير الإعانة العامَّة من الله تعالىٰ للجميع، تلك الإعانة العامَّة التي يقول جلَّ وعلا عنها: [مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعىٰ لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ

ص: 383


1- الصحيفة السجّادية/ أبطحي: 421.
2- الأُصول الستَّة عشر لعدَّة محدِّثين: 273/ ح (388/1).

وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً](1)

وغيرها من النصوص التي يمكن أن نجدها بالمتابعة ممَّا يشير إلىٰ الهداية الخاصَّة من هذا النوع.

وباختصار: إنَّ هذا المعنىٰ من الهداية هو من العبد باعتبار، ومن الله تعالىٰ باعتبار، فالتزام العبد بما يريده منه الله تعالىٰ وعلىٰ أتمّ وجه، يستتبع هذا المعنىٰ من الهداية.

والإضلال في هذه المرحلة وإن كان من الله تعالىٰ، لكنَّه ليس بقبيح، فإنَّه لا يجب أن يلطف الله تعالىٰ هذا اللطف بمن خالفه وعانده باختياره، إذ المخالف ليس أهلاً لذلك اللطف.

وبعبارة أوضح: إنَّ أساس منع هذا اللطف هو من العبد باختياره، فالله تعالىٰ جعل هذه التسهيلات وفق شروط خاصَّة، فمن لا يُتعِب نفسه في تحصيلها فإنَّه لا يستحقُّ تلك التسهيلات، أي إنَّ السبب في الحرمان هو العبد نفسه لا الله جلَّ وعلا.

فقد يكون الفرد مؤمناً ولكنَّه لا يسعىٰ أكثر لتحصيل تلك التسهيلات، أي إنَّ عدم هذه التسهيلات لا يعني الكفر أو الفسق أو ما شابه، بل يعني أنَّ الفرد يعيش الكسل والتعاجز عن تحصيل حوافز إضافية، كالموظَّف الذي يحضر إلىٰ دائرته من باب إسقاط الفرض من دون أن يُقدِّم أي أعمال

ص: 384


1- الإسراء: 18- 20

إضافية، ومن دون أن يُظهِر أيَّ رغبة في التطوير، فإنَّه بلا شكٍّ وبحكم العقل لا يستحقُّ أيَّ حوافز وأيَّ مشجِّعات إلَّا بالمستوىٰ العامّ الذي يشمل جميع الموظَّفين.

المعنى السادس: هداية الفلاح

شاء الباري جلَّ وعلا أن يجعل لهذه الحياة أمداً محدوداً لا يعلمه إلَّا هو تبارك وتعالىٰ، فعُمُرُ الحياة متناهٍ محدودٍ، مهما طالت، فليس في هذه الحياة خلود.

وقد شاء الله (عزوجل) أن يختبر عباده بتكاليف بيَّنها لهم من خلال رُسُله وأنبيائه، وبما شرَّعه في الكتب التي أنزلها إلىٰ الناس، وكَتَبَ علىٰ نفسه أن يجعل الدنيا وما فيها من تكاليف ملاكاً ومقياساً للحياة الأبدية في عالم الآخرة، وهناك، سيَجزي الباري جلَّ وعلا من التزموا بما افترضه عليهم جنّاتٍ لم ترَ عينٌ ولم تَسمعْ أُذُنٌ بمثلها، ولم يخطر علىٰ قلب بشر أو فِكْرِه بشبهها، وهناك، سيفلح المؤمنون، وسينجو المخلصون.

وهذا الجزاء بالإثابة، هو خلاصة معنىٰ (هداية الفلاح).

وفي نفس الوقت، سيكون عقاب الضالّين والمنحرفين، ممَّن اختاروا طريق الانحراف بإرادتهم، هو تعبيراً آخر عن الضلال المقابل لهداية الفلاح.

وباختصار: إنَّ هداية الفلاح هي بمعنىٰ الإثابة والجزاء في الآخرة، ويقابلها الإضلال بمعنىٰ الإهلاك والتعذيب.

ص: 385

وإليه الإشارة بقوله تعالىٰ: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ](1)

وقوله تعالىٰ: [الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ... سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ](2)

وهذا المعنىٰ من الهداية أيضاً من العبد باعتبار ومن الله تعالىٰ باعتبار، فمن العبد بمعنىٰ أنَّه إذا التزم بما يريده الباري تعالىٰ منه فإنَّه سيحصل علىٰ الثواب وإلَّا فعلىٰ العقاب، ومن الله تعالىٰ بمعنىٰ أنَّه يجازي كلَّ عامل بما عمل.

ففي الحقيقة هذا النوع من الهداية يُمثِّل نتيجة الأعمال التي يقوم بها الفرد في الدنيا، وليست شيئاً خارجاً عن أعماله وآثارها. والإضلال كذلك يكون نتيجة أعمال الفرد في الدنيا، وليس شيئاً خارجاً عنها.

ص: 386


1- يونس: 9
2- محمّد: 1- 8
التفصيل الخامس: الصفات الخبرية
تمهيد

الصفات الخبرية: هي الصفات التي أثبتها القرآن الكريم لله تعالى، والتي ظاهرها الأولي أنها تصف الله تعالى بأوصاف الأجسام، كاليد والوجه والاستواء على العرش وما شابه.

وقبل الدخول في تفاصيلها هنا ملحوظة مهمة

تقدم أنه ليس للمشرع طريقة خاصة في بيان مراداته من أوامر ونواهي وقوانين وحقائق، وإنما هو اتخذ اللغة العربية كوسيلة لإيصال مراداته إلى البشر، ومن ثم استعمل الكناية والمجاز وبقية الأساليب البلاغية التي حوتها اللغة العربية، خصوصاً وأن القرآن الكريم كتاب بلاغة وإعجاز.

وهنا نبيّن أمرًا مهمًا سيكون هو المدخل لفهم كل الصفات الخبرية

عندما يتحدث أحدنا بكلام، فإنه يريد أن يوصل معنى ما إلى الآخر، وحتى يوصله فإنه يستخدم أساليب مختلفة كما هو واضح، المهم هنا هو: أنه ليس بالضرورة أن يوضّح المتكلم مراده الجدّي والنهائي في جملة واحدة، أو في كلام واحد، بل إن له أن يعتمد على قرائن منفصلة تبين مراده، بمعنى أن يطرح كلامًا لا يظهر منه كل مراده الجدي، وإنما يتكلم بكلام آخر، إذا

ص: 387

ربطناه بالأول نفهم المعنى كاملًا، وهذه طريقة عقلائية نعمل بها في حياتنا اليومية، وهكذا ما يُقال عند تشريع بعض القوانين الوضعية بأنه يُنظّم بقانون لاحق هو: في الحقيقة يرجع إلى أن التقنين قد يكتمل بتقنين منفصل وليس شرطاً أن يصاغ بشكله النهائي بتقنين واحد.

هذا أمر وجداني، ويترتب عليه أمر مهم، وهو ضرورة الفحص في كل كلام المتكلم واستقصائه حتى نصل إلى قناعة تامة بأنه بيّن ما يريد بيانه تمامًا، حينها يمكننا أن نحكم عليه بحكم ما.

وتشتد الضرورة إلى الفحص في المتكلم الذي يُكثر من اعتماد المنفصل حتى يصبح عادة وديدناً له، كما هو الحال في المشرع الديني بغض النظر عن السبب الذي كان وراء اعتماده ذلك.

هذا، وإن تأسيس المنفصل للزوم الفحص –أو قل: إن ضرورة الفحص عن القرينة- يأتي على خلفية:

أن الاعتماد على المنفصل يجعل من الكلام مبتلىً بالإجمال النسبي، بسبب احتمال وجود تتمة تكمل بيانه أو قانونه، تلك القرينة التي قد يتحول معها حال الكلام من الحقيقة إلى المجاز، أو من العام إلى الخاص، أو من المطلق إلى المقيد، وهكذا.

يتلخص:

المنفصل يؤسّس للإجمال ولو احتمالاً، والإجمال يؤسّس لضرورة

ص: 388

الفحص، فالفحص في المنفصلات لازم في أي كلام، فضلاً عن كلام المتكلم الذي اعتاد الاعتماد على المنفصل في بيان مراداته، فإن هذا يفرض ضرورة الفحص عن المنفصل بنحو آكد، ولفترة أطول وبجهد أكثر.

من ثَمَّ: يلزمنا البحث في كل موضع نحتمل فيه وجود كلام آخر للمتحدث يُكمل كلامه الأول ويوضحه تمامًا، وهذا لا يتوقف عند حدود كلام نفس المتكلم، وإنما يسري لزومه إلى كلام حواريي المتكلم ومن هم قريبو الأفق من فهم مراداته النهائية، وسيكون هذا الفحص أشبه بفهم كلام الأستاذ من خلال تفسير طلبته وتلامذته المقربين له.

لنضرب لذلك مثالًا:

قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(1) نفهم منه معنىً معيناً، وعندما نسمع قوله تعالى في آية أخرى: (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(2)

نفهم معنىً آخر.

ولكن عندما نجمع الآيتين في مكان واحد، فإننا سنفهم منهما معنى جديداً لم نكن نفهمه من دون هذا الجمع، وهو أنّ أقل الحمل هو ستة أشهر.

ومن هنا روي أنه كان رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) يقال له: الهيثم، قد أرسله عمر بن الخطاب في جيش، فغاب غيبة بعيدة، ثم قدم، فجاءت امرأته

ص: 389


1- الأحقاف 15
2- البقرة 233

بولد بعد قدومه بستة أشهر فأنكر ذلك منها، وجاء بها إلى عمر بن الخطاب، وقص عليه قصتها، فقال لها عمر: ما تقولين؟ فقالت: والله ما فجرت ولا غشني رجل غيره، وإنه لابنه. فأمر به أن ترجم، فذهبوا بها، وحفروا لها حفيراً، وأنزلوها فيه لترجم. وبلغ علياً (عليه السلام) خبرها، فجاء مسرعاً، فأدركها قبل أن ترجم، فأخذ بيدها، فنشلها من الحفرة. ثم قال لعمر: أربع على نفسك (أي توقف) إنها صدقت، إن الله عز وجل يقول: (وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فالحمل والرضاع ثلاثون شهراً. فقال عمر: لولا علي لهلك عمر. وخلّى سبيلها. وألحق الولد بالرجل (1)

والنتيجة من كل هذا هو التالي

عندما يريد الواحد منا أن يفسّر آية من القرآن الكريم، فإنه لا بد من ملاحظة كل الآيات والنصوص الواردة في الموضوع الذي تتحدث عنه الآية، أو ما له علاقة بها، ويكمّل معناها، فإذا فعلنا ذلك، حينها يمكن أن نخرج بصورة كلية تتلاءم مع مجمل الآيات الكريمة، ولا تتعارض مع الثوابت الدينية، فضلًا عن أنها لا تعطي صورة منقوصة لعقيدة ما.

إن عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة، أو تغافلها، هو ما أوقع الأشاعرة في تفسير الصفات الخبرية بظاهرها، الذي يحكي عن التجسيم، ولو أنهم نظروا في الآيات الأخرى، والنصوص المفسرة لها، لما وقعوا في ما وقعوا فيه.

ص: 390


1- ]شرح الأخبار للقاضي المغربي ج2 ص318- 319 ح 655[

ملحوظة مهمة:

في كل صفة يوصف بها الله تعالى، فلا بد أن نضع في الحسبان آية تمثل حدًّا عامًا لكل الآيات التي ورد فيها وصفٌ له جل وعلا، وهي قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(1)، مما يعني أنه لو وُصف الله تعالى بشيء كالذي عندنا، فلا بد من تأويله.

فلا يوجد شيء هو مثل الله تعالى، فلو قيل: لله تعالى يدٌ، فالمعنى أنها ليست كأيادينا المادية نحن بني البشر، وإلا لو كانت مثل أيادينا المادية، لتعارض هذا المعنى مع آية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، وهذا تطبيق لما تقدم منا من أن الوصول إلى المعنى الكامل لمتحدث ما، يستدعي ملاحظة جميع ما له صلة بكلامه الفعلي وجمعه في مكان واحد للخروج بنتيجة صحيحة.

الآراء في الصفات الخبرية
اشارة

هناك عدة آراء في معناها، نذكر بعضًا منها هنا باختصار(2)،

وهي:

الأول: الإثبات مع التكييف والتشبيه

زعمت المجسمة والمشبهة أن لله سبحانه عينين ويدين مثل الإنسان... وهي نظرية واضحة البطلان لأنه يلزم منها التجسيم.

الثاني: الإثبات بلا تكييف ولا تشبيه

الأشاعرة يجرون هذه الصفات على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها في

ص: 391


1- الشورى 11
2- انظر للتفاصيل: إلهيات الشيخ السبحاني.

العرف، لكن لأجل الفرار عن التشبيه يقولون (بلا تشبيه ولا تكييف).

وحاصل هذه النظرية: أن له سبحانه هذه الحقائق لكن لا كالموجودة في البشر. فله يد وعين، لا كأيدينا وأعيننا، وبذلك توفّقوا -على حسب زعمهم- في الجمع بين ظواهر النصوص ومقتضى التنزيه.

ولكن هذه النظرية بهذا الطرح لا تخرج عن إطار أحد الأمرين التاليين:

1/التجسيم والتشبيه، وذلك فيما لو أجريت هذه الصفات على الله سبحانه بمعانيها المعهودة في الأذهان ومع حفظ حقيقتها.

2/التعقيد والغموض وذلك فيما لو أجريت على الله سبحانه بمعانيها المتبادرة من دون تفسير وتوضيح. فالقوم بين مشبِّه ومعقِّد، بين مجسم وملقلق باللسان.

الثالث: التفويض

وقد ذهب جمع من الأشاعرة وغيرهم إلى إجراء هذه الصفات على الله سبحانه مع تفويض المراد منها إليه. أي إنهم يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك، إلا أنهم يقولون: إنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه.

ولكن غاية تلك النظرية مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ولا فهم لمراد الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) منها. فإن الإيمان بالألفاظ وتفويض معانيها إلى الله سبحانه بمنزلة القول بأن الله تعالى خاطبنا عبثا، لأنه خاطبنا

ص: 392

بما لا نفهم.

الرابع:

تفسيرها بما يتلاءم مع ظاهرها، وبما لا يتخالف مع مجمل الصفات الكمالية الأخرى، بحيث نثبتها له جل وعلا، من دون تجسيم، ولا تفويض في معناها ولا خفاء، وهو ما قد يسميه بعض العلماء (بالإجراء بالمفهوم التصديقي، وحقيقة هذه النظرية: أنه يجب الامعان في مفهوم الآية ومرماها ومفادها التصديقي (لا التصوري) ثم توصيفه سبحانه بالمعنى الجُمَلي المفهوم منها من دون إثبات المعنى الحرفي للصفات ولا تأويلها.)(1)

وبعبارة واضحة: أن نفهم الآية المعينة من خلال تجميع كل الآيات والروايات التي عالجت نفس موضوعها، لننتهي إلى معنى شامل كاشف عن المراد الجدي النهائي للمتحدث، وهو ما أشرنا له في بداية الكلام عن الصفات الخبرية. وهو الصحيح.

أهم الصفات الخبرية
اشارة

سنطرح بعض تلك الصفات ونحاول أن نبين المقصود الواقعي منها، بحيث لا يتعارض مع محكمات الآيات الأخرى وما دلّ الدليل على امتناعه على الله جل وعلا.

ص: 393


1- انظر إلهيات السبحاني ج1 ص327 ط.4 مطبعة اعتماد.قم. سنة 1417 ه-. ق.

ص: 394

الصفة الأولى: اليد

أشار القرآن الكريم إلى أنّ لله عزّ وجلّ يداً، كما في الآيات المباركة التالية:

)إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ( ((1).

)وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ(((2).

)يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ(((3).

فهل يمكن أن نتصور أن لله تعالى يدًا مثل أيدينا؟

الجواب: أن هذا غير ممكن لأنه يستلزم الجسمية، وبالتالي الاحتياج، وهو ينافي وجوب الوجود.

ولذا روي عن عبد الله بن قيس عن الإمام الرِّضا (عليه السلام): سَمِعتُهُ يَقولُ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) فَقُلتُ لَهُ: لَهُ يَدانِ هكَذا؟ وأَشَرتُ بِيَدي إِلى يَدِهِ. فَقالَ: لا، لَو كانَ هكَذا لَكانَ مَخلوقاً.(4)

ص: 395


1- سورة الفتح، الآية 10.
2- سورة المائدة، الآية 64.
3- سورة ص، الآية 75.
4- التوحيد للشيخ الصدوق ص 168 ب 25 ح2.

والمعنى الصحيح لها هو: القوة والغلبة، وقد تأتي بمعنى النعمة، وقد روي هذا المعنى عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) فقلت: قَولِهِ تَعالى: (يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَديَّ) فقال (عليه السلام): اليَدُ في كَلامِ العَرَبِ القُوَّةُ وَالنَعَمَةُ ؛ قالَ: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأْيْدِ)، وقالَ: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيْد) أَي بِقُوَّة، وقالَ: (وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنْهُ) أَي قَوّاهُم، ويُقالُ: لِفُلان عِندي أَيادي كثيرةٌ أي فواضلُ وإحسانٌ، وَلَهُ عِندي يَدٌ بَيضاءُ ؛ أَي نِعمَةٌ..(1)

قال الشيخ الطوسي في تبيانه: (والمراد: أنه أقوى وأقدر منهم وأنه القاهر لهم.)(2)

وهكذا فيما قالته اليهود من أن يد الله تعالى مغلولة، أرادوا أن قوته وسلطنته على الكون انتهت بعد أن انتهى

من خلقه، فلا يستطيع أن يفعل شيئًا بعد أن أتمّ الخلق، وهي نظرية التفويض التي قال بها المعتزلة أيضًا، فالقرآن الكريم يرد على اليهود مقولتهم، ويؤكد أن قدرة الله تعالى ما زالت منبسطة قبل وأثناء وبعد الخلق، فعبّر عن انبساط القوة بانبساط اليدين، وهو استعمال كنائي متعارف في لغة العرب.

وفي ذلك روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في قوله الله عز وجل: (وقالت اليهود يد الله مغلولة): لم يعنوا أنه هكذا، ولكنهم قالوا: قد فرغ

ص: 396


1- التوحيد للصدوق ص 153 باب 13- باب تفسير قول الله عز وجل: (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) ح1.
2- التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي ج4 ص158.

من الأمر، فلا يزيد ولا ينقص، فقال الله جل جلاله تكذيبا لقولهم: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) ألم تسمع الله عز وجل يقول: (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ(1).(2)

ومنه سنعرف المعنى مما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): يَدُ الله فَوْقَ رَأْسِ الْحَاكِمِ تُرَفْرِفُ بِالرَّحْمَةِ، فَإِذَا حَافَ وَكَلَه الله إِلَى نَفْسِه.(3)

وأيضًا سنعرف معنى قبضة الله تعالى ويمينه، إذ هما بمعنى القوة والقدرة، وقد روي عن سليمان بن مهران: سَأَلتُ أَبا عَبدِ اللهِ (عليه السلام) عَن قَولِ اللهِ عزّ وجلّ: (وَالأْرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ)(4).

فَقالَ: يَعني مَلَكَهُ لا يَملِكُها مَعَهُ أَحَدٌ، وَالقَبضُ مِنَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى في مَوضع آخَرَ المَنعُ، والبَسطُ مِنهُ الإِعطاءُ وَالتَّوسيعُ، كَما قالَ عزّ وجلّ: (واللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(5) يَعني يُعطي ويُوسِّعُ ويَمنَعُ ويُضَيِّقُ، والقَبضُ مِنهُ عزّ وجلّ في وَجه آخَرَ الأَخَذُ، وَالأَخذُ في وَجهِ القَبولِ منهُ، كَما قالَ: (وَيأْخُذُ الصَّدَقَاتِ)(6) أَي يَقبَلُها مِن أَهلِها ويُثيبُ عَلَيها. قُلتُ: فَقَولُهُ

ص: 397


1- الرعد 39.
2- التوحيد للصدوق ص 168 باب 25 ح1..
3- الكافي للكليني ج7 ص410 بَابُ مَنْ حَافَ فِي الْحُكْمِ ح1.
4- الزمر 66
5- البقرة 245
6- التوبة 104

عزّ وجلّ (وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتُ بِيَمِينِهِ)(1)؟ قالَ: اليَمينُ اليَدُ، وَاليدُ القُدرَةُ وَالقُوَّةُ، يَقولُ عزّ وجلّ: (وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيّاَتُ) بِقُدرَتِهِ وقُوَّتِهِ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).(2)

ص: 398


1- الزمر 67
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 161 باب 17 ح2.
الصفة الثانية: الوجه

لقد أثبت القرآن الكريم صفة الوجه له جل وعلا، ومن ذلك قوله تعالى )لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ(1)(. وقوله )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ((2). وقوله تعالى: )وَلله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ((3).

(كما هناك آياتٌ أكّدت على أنّ عمل الإنسان يجب أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، ومنها قوله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(4)

على أساس ما ذكر في هذه الآيات الكريمة، يتساءل بعضهم: هل أنّ الله العليّ القدير له وجهٌ كالذي يمتلكه الإنسانٍ؟)(5)

ص: 399


1- القصص 88
2- الرحمن 27
3- البقرة، الآية 115
4- الروم، الآية 39
5- أجوبة الشبهات العقائدية- التوحيد- ج1 ص467 – 468.

والجواب:

أيضًا من الواضح عدم إمكان وصفه جل وعلا بالوجه الجسماني، للزومه التركب فالحاجة فالإمكان، وهو خلف وجوب الوجود.

يُضاف إليه: أنه لو كان المقصود هو الوجه الحقيقي، للزم أن الذي يبقى منه (جل وعلا عن ذلك علوًا كبيرًا) بعد فناء عالم الإمكان هو وجهه فقط، إذ الآية تقول: إن الذي يبقى فقط هو وجهه جل وعلا، (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)، وهو واضح البطلان كما ترى.

أما المعنى الصحيح لوجه الله تعالى فيتبين من التالي:

أنّ الوجه في الاصطلاح العرفي يشير إلى إحدى الجهات أو ظاهر الشيء من الأمام، حيث يطلق على صورة الإنسان والحيوان وسائر الواجهات، حيث يقال: (واجهة المبنى) (وجه الإنسان) (وجه الحيوان)، وهذه الأوصاف واضحةٌ للجميع. فواجهة الشيء - الظاهرة في مقدّمته - هي التي تستقطب أنظار الآخرين، وبالنسبة إلى الإنسان والحيوان فالوجه إضافةً إلى اتّصافه بهذه الخصوصية فهو أيضاً يعدّ مركزاً أساسياً وحسّاساً في المحاورات المباشرة...

ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ بقاء الشيء أو فناءه يطلقان عرفاً على الوجه، مثلاً عند وصف فتاةٍ حسنة الوجه يقال: (هل سيبقى هذا الوجه الحسن؟!) أو يقال: (من المؤسف أنّ هذا الوجه الجميل سيأكله التراب!) كما نلحظ في هذين المثالين أنّ الفناء والبقاء لم يطلقا على نفس الشخص، بل على وجهه،

ص: 400

والمراد هو الشخص نفسه لكن استعمل وجهه كنايةً عنه.(1)

ومن هذا نخلص إلى التالي:

أن

الوجه يُستعمل ويُراد منه الذات، وبهذا المعنى يمكن إطلاقه على الله عز وجل، فيكون المقصود من قوله تعالى (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(2).

وقوله )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ((3). هو: أن كل ما في الكون يفنى إلا ذات الله تعالى.

ومن قوله تعالى: )وَلله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ((4) هو: أن الإنسان أينما ذهب فإنه سيجد الله تعالى عالمًا محيطًا بكل شيء، فهو تعالى موجود في كل مكان، و (أن الله عزّ وجلّ موجودٌ في كلّ مكانٍ ولا يمكن الفرار من عظمته، فكلّ مكانٍ هو دليلٌ على وجوده وهو بالتالي وجهٌ له.)(5)

أما في قوله تعالى (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(6)

وقوله تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ

ص: 401


1- أجوبة الشبهات العقائدية ج1 ص 468 – 469.
2- القصص، الآية 88
3- الرحمن، الآية 27
4- سورة البقرة، الآية 115
5- هامش المصدر السابق.
6- الروم، الآية 39

اللهِ)(1)

وقوله تعالى (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ)(2)

وقوله تعالى (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) ]الإنسان 9[

فإن المقصود هو: أن العمل الذي يقومون به إنما يقصدون به التقرب إلى الله تعالى، إلى ذاته المقدسة التي هي محض الكمال، (إذ لا بدّ للعبادة بشتّى أنواعها - من إنفاقٍ وغيره - أن تكون تقرّباً له عزّ شأنه كي ينال العبد الثواب وحسن العاقبة في يوم الحساب؛ لذا يقال: إنّ الإنفاق والعبودية الخالصة يراد بهما التقرّب إلى وجه الله تعالى.)(3)

ص: 402


1- البقرة، الآية 272
2- الروم، الآية 38
3- المصدر السابق ص 47.
الصفة الثالثة: العرش والكرسي والاستواء
اشارة

هناك آيات عديدة في القرآن الكريم تصرح بأن لله تعالى عرشًا، وأنه استوى على عرشه، والبعض توهّم بأن المقصود من العرش في تلك الآيات هو ما يشبه سرير الملك، كالذي كان عند بلقيس مثلًا (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ)(1)وأنه

(جل شأنه عن ذلك) استوى على ذلك العرش، أي جلس عليه مستويًا.

وكذلك صرّح القرآن الكريم بأن لله تعالى كرسيًا قد وسع السماوات والأرض، وقد يتوهّم البعض أن المراد هم الكرسي المادي المتعارف، حتى رووا ما تقشعر منه أبدان الذين عرفوا عظمة الله وجلاله، مثل: (إن كرسيه وسع السماوات والأرض وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله)(2).

وعلى كل حال، فإن هذا الكلام يتعارض مع الثوابت العقلية والدينية التي دلت على أن الله تعالى ليس جسمًا ولا محدودًا، ولو كان العرش سريرًا يجلس عليه الله تبارك وتعالى للزم أن يكون العرش أكبر منه (استغفر الله

ص: 403


1- النمل 23
2- مجمع الزائد للهيثمي ج1 ص 84 والرواية أسندوها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) عن طريق عمر بن الخطاب، وقال الهيثمي بعد نقله هذا: (رواه البزار ورجاله رجال الصحيح).

تعالى من كل ذنب وخطل قول) ولزم أن يكون جل شأنه محدودًا، وهذه اللوازم وأمثالها واضحة البطلان.

روي عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (وكانَ عَرْشُه عَلَى الْماءِ)؟ فَقَالَ: مَا يَقُولُونَ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَرْشَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ والرَّبُّ فَوْقَه! فَقَالَ: كَذَبُوا، مَنْ زَعَمَ هَذَا فَقَدْ صَيَّرَ اللَّه مَحْمُولاً، ووَصَفَه بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ، ولَزِمَه أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَحْمِلُه أَقْوَى...(1)

لذلك لا بد من تفسير العرش والاستواء عليه بمعنى يتناسب مع وجوب وجوده جل وعلا، وبما لا يلزم منه نسبة أي نقص له جل وعلا، وذلك بالبيان التالي:

أولًا: العرش

لغة: (عرش)(2): العين الراء والشين أصل صحيح واحد، يدل على ارتفاع في شيء مبني، ثم يستعار في غير ذلك، من ذلك: العرش. قال الخليل: العرش سرير الملك، وهذا صحيح قال الله تعالى: (ورفع أبويه على العرش)، ثم استُعير ذلك فقيل لأمر الرجل وقوامه: عرش، وإذا زال ذلك عنه قيل: ثُلّ عرشُه، قال زهير:

تداركتما الأحلافَ قد ثُلّ عرشُها *** وذبيانُ إذ زلت بأقدامها النعلُ.

بالتأمل في المعنى اللغوي لمفردة العرش يتبين أنها:

ص: 404


1- الكافي للكليني ج1 ص 133 باب العرش والكرسي ح7.
2- انظر: معجم مقاييس مقاييس اللغة لابن فارس مادة (عرش)

1/ تدلّ في أصل وضعها على ارتفاعٍ في شيء مبني.

2/ أن العرب بأساليبهم البلاغية المتنوعة، قد استعاروا هذا المعنى في غير ما وضع له، فاستعملوه في العرش الذي هو سرير الملك.

3/ ثم توسّعوا أكثر في استعمال تلك المادة إلى أمر الرجل وقوامه، ولعله باعتبار أن عرش الملك فيه إشارة إلى سلطنته وكونه في موقع العلو بالنسبة إلى رعاياه في مملكته، فناسب إطلاق كلمة (العرش) على أمره ذاك وسلطنته وعلو منزلته بالنسبة إلى غيره.

ومنه يتضح: أن العرش كما يُستعمل في السرير المادي المرتفع (عرش الملك)، كذلك يستعمل للكناية عن السلطنة والتملك.

ثانيًا: الاستواء

قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: واسْتَوَى يقال على وجهين: أحدهما: يسند إليه فاعلان فصاعدًا، نحو:

اسْتَوَى زيد وعمرو في كذا، أي: تَسَاوَيَا، وقال: (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ الله)(1)

والثاني: أن يقال لاعتدال الشيء في ذاته، نحو: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى)(2)، وقال: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ)(3)،(لِتَسْتَوُوا

ص: 405


1- التوبة 19
2- النجم 6
3- المؤمنون / 28

عَلى ظُهُورِه)(1)،

(فَاسْتَوى عَلى سُوقِه)(2)،

واستوى فلان على عمالته، واستوى أمر فلان، ومتى عُدّي بعلى اقتضى معنى الاستيلاء، كقوله: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(3).(4)

ومنه يُعلم: (أن الاستواء في الآية ليس ظاهرًا في معنى الجلوس والاعتماد على الشيء)(5)، فإنه كما يُستعمل في معنى الجلوس، كذلك يستعمل في معنى الاستيلاء والسيطرة والتمكن التام.(6)

ص: 406


1- الزخرف 13
2- الفتح 29
3- طه / 5
4- مفردات الراغب مادة (سوا)
5- الإلهيات للشيخ السبحاني ج1 ص 333.
6- فائدة: في هامش كتاب التوحيد للشيخ الصدوق ص 30 قال المحقق للكتاب (علي أكبر الغفاري): اعلم أن الاستواء يطلق على معان: الأول: الاستقرار والتمكن على الشيء. الثاني: قصد الشيء والاقبال إليه. الثالث: الاستيلاء على الشيء، قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق الرابع: الاعتدال، يقال: سويت الشيء فاستوى. الخامس: المساواة في النسبة. فأما المعنى الأول فيستحيل على الله تعالى لما ثبت بالبراهين العقلية والنقلية من استحالة كونه تعالى مكانيا، فمن المفسرين من حمل الاستواء في هذه الآية على الثاني أي أقبل على خلقه وقصد إلى ذلك وقد ورد أنه سئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن هذه الآية فقال: الاستواء: الاقبال على الشيء ونحو هذا قاله الفراء والزجاج في قوله تعالى: " ثم استوى إلى السماء ". والأكثرون منهم حملوها على الثالث استوى أي استولى عليه وملكه ودبره. قال الزمخشري: " لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل الا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على السرير يريدون ملكه وان لم يقعد البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرخ وأقوى في الدلالة من أن يقال: فلان ملك ونحوه قولك: " يد فلان مبسوطة " و " يد فلان مغلولة " بمعنى أنه جواد أو بخيل لا فرق بين العبارتين الا فيما قلت، حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأسا وهو جواد قيل فيه يده مبسوطة، لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قولهم " جواد ". انتهى ويحتمل أن يكون المراد معنى الرابع بأن يكون كناية عن نفى النقص عنه تعالى من جميع الوجود فيكون قوله تعالى: " على العرش " حالا ولكنه بعيد. وأما معنى الخامس فهو الظاهر من الاخبار.

والمعنى المتحصل الذي يمكن وصف الله تعالى به هو التالي:

أن المقصود من عرش الله تعالى هو ملكه وسلطانه وهيمنته على الجميع.

والمراد من استيلائه عليه هو تمكنه من ملكه ودخول ملكه تحت هيمنته وعدم خروج أي شيء منه عن قدرته وسيطرته وتدبيره.

وهذا المعنى مقبول ومتناسب مع عظمته جل شأنه، ولا يتعارض مع أي ثابت عقائدي ثبت بالدليل العقلي أو النقلي.

إذن، المقصود هي الكناية عن سعة قدرة الله تعالى وتدبيره الكون كله.

ومن الشواهد على ذلك: (أنه سبحانه قد أتى بذكر التدبير في كثير من الآيات بعد القول باستيلائه على العرش. فذكر لفظ التدبير تارة، ومصداقه وحقيقته أخرى. أما ما جاء فيه التدبير بلفظه، فقوله سبحانه:

أ / (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ

ص: 407

أَفَلا تَذَكَّرُونَ).(1)

ب / (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ).(2)

ج / (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ. (3)يُدَبِّرُ

الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَىٰ الْأَرضِ..)

ففي الآية الأولى يرتب سبحانه التدبير على قوله: (ثم استوى على العرش) ليكون المعنى: استوى على عرش التدبير.

كما أنه في الآية الثانية بعد ما يذكر قسما من التدبير وهو تسخير الشمس والقمر يعطي ضابطة كلية لأمر التدبير ويقول: (ويدبر الأمر).

وعلى غرار الآية الأولى: الآية الثالثة.

وأما ما جاءت فيه الإشارة إلى حقيقة التدبير من دون تسميته فمثل قوله سبحانه: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين).

ص: 408


1- يونس 3.
2- الرعد 2.
3- السجدة 4 و 5.

فقوله: (يغشي الليل النهار) الآية إشارة إلى حقيقة التدبير وبيان نماذج منه، ثم أتبعه ببيان ضابطة كلية وقال: (ألا له الخلق والأمر) أي إليه يرجع الخلق والإيجاد وأمر التدبير.)(1)

ثالثًا: الكرسي:

قال تعالى في آية الكرسي (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).(2)

قال ابن فارس: (كرس) الكاف والراء والسين: أصل صحيح يدل على تلبّد شيء فوق شيء وتجمعه.(3)

والكرسي معروف، سُمي كرسيًا لأن أجزاءه تُجمع بعضها مع البعض الآخر، فإنه: (هو السرير الَّذى يُجلس عليه ويُستقرّ به... حيث إنّ السرير يصنع من موادّ متلبّدة متجمّعة حتّى يعلو الأرض ومجالس الناس ويستقرّ صاحب السرير عليه.

والمعمول في سرير الملوك أن يكون مرتفعًا له طبقات، حتّى يشرف الملك على الجلساء ويعلو عليهم ويحيط بهم.

وقد استعملت الكلمة في القرآن الكريم، بناء على هذا المعنى المتعارف المعلوم المعروف.

فالكرسيّ حقيقة ما يستقرّ عليه شخص، وأمّا خصوصيّات مادّته

ص: 409


1- الإلهيات للشيخ السبحاني ج1 ص 334 – 335.
2- البقرة 255.
3- معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (كرس).

وشكله وسائر جزئيّاته: فغير مأخوذة في مفهومه، وتختلف باختلاف الموارد والأشخاص والاقتضاءات العرفيّة.

فقد يعتمل من فضّة أو ذهب أو ممّا يقوّم بأضعاف قيمتهما، ويصنع صغيرا يختصّ برجل واحد وكبيرًا لجماعة، وهكذا سائر الجهات.)(1)

فهل يمكن أن نتصور أن لله تعالى كرسيًا مثل هذا المتعارف؟

من الواضح جدًا أنه لا يمكن ذلك لما تقدم في العرش، وحينئذٍ، فإن المعنى المتناسب مع الله عز وجل من وصف الكرسي هو التالي:

أن (الكرسي المناسب لله المتعال: لا بدّ وأن يكون من جهة العظمة والسعة والارتفاع بمقدار يحيط جميع السماوات والأرض وما بينهما من خلقه، حتّى يشرف عليهم ويحيط بهم ويكون الخلق جميعا تحت سلطته وقيّوميّته وحكمه وأمره ونفوذه، بحيث لا يعزب عنه شيء... فتفسير الكرسي بالجسمانيّات وما يقارنها وإن عظمت: انحراف وضلال عن الحقيقة، بل تنزيل الربّ القيّوم المحيط بمنزلة المربوب المحاط).(2)

ومن هنا، فقد فسرت الروايات الشريفة الكرسي بأنه علم الله تعالى، وأنه محيط بكل شيء، والمناسبة هي أن الكرسي -وكما تقدم- يُصنع بشكل يجعل الجالس عليه مطلعًا على من هم تحته، ومحيطًا علمًا بهم، فاستُعير هذا المعنى للدلالة على الإحاطة العلمية الإلهية، فعُبّر عن سعة العلم الإلهي وإحاطته

ص: 410


1- التحقيق في كلمات القرآن الكريم للشيخ حسن المصطفوي ج10 مادة (كرسي).
2- التحقيق في كلمات القرآن الكريم للشيخ حسن المصطفوي ج10 مادة (كرسي).

بالكرسي، وقد روي عن حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وسع كرسيه السماوات والأرض) قال: علمه.(1)

وعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله جَلَّ وعَزَّ: (وَسِعَ كُرْسِيُّه السَّماواتِ والأَرْضَ) فَقَالَ: يَا فُضَيْلُ، كُلُّ شَيْءٍ فِي الْكُرْسِيِّ: السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ وكُلُّ شَيْءٍ فِي الْكُرْسِيِّ.(2)

ص: 411


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 30 باب العرش والكرسي ح2.
2- الكافي للكليني ج1 ص 132 باب العرش والكرسي ح3.

ص: 412

الصفة الرابعة: العين

لقد نصّت بعض الآيات الكريمة على أن لله تعالى عينًا، قال تعالى فيما حكاه عن قصة النبي نوح (عليه السلام): (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(1)وقال تعالى (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(2)

وقال تعالى (وَحَمَلْناهُ عَلىٰ ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ.)(3)وقال

تعالى مخاطبًا نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله): (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ)(4)

فهل لله تعالى عينٌ؟

الجواب: تبين مما سبق أنه لا يمكن وصفه جل وعلا بالعين المادية، وإنما لا بد من بيان يتلاءم مع وجوب وجوده (جل وعلا) مما لا يستلزم نسبة أي نقص له عز وجل.

ومما يهوّن الخطب، أن كتب اللغة العربية بيّنت وبكل وضوح أن كلمة (العين) كما تستعمل في الجارحة (الباصرة)، كذلك تستعمل للدلالة على:

ص: 413


1- هود 37
2- المؤمنون 27
3- القمر 13 – 14
4- الطور 48

(الجاسوس).

و (الثقب الذي يكون منفذًا للنظر)

و (الفتحة الموجودة في السقاء التي يسيل منها الماء)

و (الذهب) لأنه أفضل الجواهر فهو عينها، كما كانت العين الباصرة هي أفضل الجوارح.

واستعملت كذلك بمعنى (ذات الشيء) فتقول: عينه يعني ذاته.

كذلك (منبع الماء)، فإنه عين.

وهكذا نجد أن العين لا تستعمل فقط في الجارحة، وإنما تستعمل للدلالة على معانٍ أخر لمناسبة ما(1)،

ومن تلك المعاني التي ذكرت كتب اللغة أن العين

ص: 414


1- قال الشيخ المصطفوي في التحقيق في كلمات القرآن الكريم ج8 مادة (عين): والتحقيق: أنّ الأصل الواحد في المادّة: هو ما يصدر عن نقطة جاريا عنها بالذات. كالماء الصادر الجاري عن ينبوع بالذات. والشعاع الخارج المتحرّك عن الباصرة بعنوان الرؤية في الظاهر. وشعاع النور الباسط عن الشمس. ونور الإدراك النافذ عن البصيرة الباطنيّة. والنظر الدقيق عن الجاسوس. وأشراف القوم الَّذين منهم يصدر الخير وهم عيون القوم. والناحية الَّتي منها تنشأ السحائب والأمطار. والأعيان المختارة من الأشياء. وتطلق على معاني اخر بمناسبة هذا الأصل المحفوظ، كما أنّها قد تطلق على نفس الشيء الذي فيه عين، وقد تطلق على ما يجرى ويخرج عن العين، كالماء الجاري، والذوات الَّتي فيها عين. ويشتق منها بمناسبة كلّ من هذه المعاني اشتقاقات: فيقال عاينته معاينة، مأخوذا من العين بمعنى ما يصدر من العين بعنوان الرؤية، وكذلك الأعين والعيناء والعيون. وقولهم اعتان الرجل، مأخوذا من العين بمعنى المختار والشريف، أي اختار ما هو المطلوب الشريف عنده واشتريه. وهكذا. وكلّ ما يذكر من المعاني في كتب اللغة (وهو يبلغ إلى ثلاثين معنى) إمّا أنّه من مصاديق الأصل، أو تجوّز بمناسبة.

تستعمل فيها هو معنى الرعاية، حيث يُقال (للمراعي للشيء: عَيْنٌ، وفلان بِعَيْنِي، أي: أحفظه وأراعيه، كقولك: هو بمرأى منّي ومسمع، قال تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا)(1)، وقال: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا)(2)،

(واصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا)(3)،

أي: بحيث نرى ونحفظ. (ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)(4)، أي: بكلاءتي وحفظي. ومنه: عَيْنُ اللَّه عليك أي: كنت في حفظ اللَّه ورعايته)(5)

وعلى هذا، فقد أصبح واضحًا معنى أن لله تعالى (عينًا)، أي إنه تعالى يراعي عباده ويسددهم ويدلّهم على ما ينجيهم من مكائد الدنيا وفتنها، وعلى ذلك، جاء الأمر للنبي نوح (عليه السلام) بأن يصنع السفينة رغم استهزاء قومه به، فكان الله تعالى يطمئنه ويهدئه، ويخبره بأنه تحت رعايته وتحت كَنَفِه وحفظه، وبالتالي، فإن النبي نوح (عليه السلام) صبر على كل الأذى الذي كان يسمعه من قومه، من استهزاء وازدراء، وهذا ما حكاه القرآن الكريم بقوله عز من قائل: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(6)

ص: 415


1- الطور 48
2- القمر / 14
3- هود / 37.
4- طه / 39
5- مفردات الراغب الأصفهاني، مادة (عين)
6- هود 37 – 39

ونفس المعنى جاء فيما يتعلق بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حيث كان الله عز وجلّ يخفّف عليه (صلى الله عليه وآله) ألم ما أصابه من قومه، فأمره تعالى بالصبر، وطمأنه بأنه تحت رعايته جل وعلا، قال الشيخ الطوسي في تفسير قوله تعالى (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ)(1)

(قال تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله): (واصبر) يا محمد (لحكم ربك) الذي حكم به وألزمك التسليم له (فإنك بأعيننا) أي بمرأى منا، ندركك، ولا يخفى علينا شيء من أمرك، نحفظك لئلا يصلوا إلى شيء من مكروهك)(2)

إشارة:

إن النصوص الدينية تشير في أكثر من موضع إلى أن الله تعالى قد أخذ على نفسه رعاية الناس عمومًا والمؤمنين خصوصًا، وبطرق شتى، ابتداءً من رعاية الجنين في بطن أمه، مرورًا بتسهيل عملية الولادة التي لا يُحس بألمها إلا تلك الأم التي عانت مرارتها الممزوجة بدموع فرحها، ثم تيسير أمور المعاش، وإلقاء العطف في قلب الأم لتنسى راحتها من أجل راحة وليدها، وهكذا توفير المناخ المناسب للعيش في هذه الحياة، إلى دفع أنواع البلايا مما لا يعلمه إلى الله تعالى، ومن تلك النصوص التالي:

قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)(3)

ص: 416


1- الطور 48
2- التبيان للشيخ الطوسي ج9 ص419.
3- الحج 38

وقال تعالى: (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَىٰ الْعالَمِينَ)(1)

وقال تعالى: (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(2)

إن الإنسان إذا أحس بوجدانه بالرعاية الإلهية له، حينها سيطمئن باله، وترتاح نفسه، وكما قال الشاعر:

وإذا العنايةُ لاحظتك عيونُها *** لا تخشَ من بأسٍ فأنت تصانُ

وبكلّ أرضٍ قد نزلتَ قفارَها *** نمْ فالمخاوف كلّهنَّ أمانُ

واصطدْ بها العنقاءَ فهي حبائلٌ *** واطعنْ بها الأعداءَ فهي سنانُ

وافتح كنوزَ الأرض فهي غرائمٌ *** واقتدْ بها الجوزاءَ فهي عنانُ

وخير من وصف تلك النعم أو بعضها، هو الإمام الحسين (عليه السلام) في دعائه يوم عرفة، والذي جاء فيه:

(إلهي...أَخْرَجْتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى الَّذي لَه يَسَّرْتَني، وفيه أَنْشَأْتَني، ومِنْ قَبْلِ ذلِكَ رَؤُفْتَ بي، بِجَميلِ صُنْعِكَ وسَوابِغِ نِعَمِكَ، فابْتَدَعْتَ خَلْقي مِنْ مَنِىٍّ يُمْنى، وأَسْكَنْتَني في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ، بَيْنَ لَحْمٍ ودَمٍ وجِلْدٍ، لَمْ تُشْهِدْني خَلْقي، ولَمْ تَجْعَلْ إِلَىَّ شَيْئاً مِنْ أَمْري، ثُمَّ أَخْرَجْتَني لِلَّذي سَبَقَ لي

ص: 417


1- البقرة 251
2- الحج 40

مِنَ الْهُدى إِلَى الدُّنْيا تامّاً سَوِيّاً، وحَفِظْتَني فِى الْمَهْدِ طِفْلًا صَبِيّاً، ورَزَقْتَني مِنَ الْغِذاءِ لَبَناً مَرِيّاً، وعَطَفْتَ عَلَىَّ قُلُوبَ الْحَواضِنِ، وكَفَّلْتَني الأُمَّهاتِ الرَّواحِمَ، وكَلأْتَني مِنْ طَوارِقِ الْجانِّ، وسَلَّمْتَني مِنَ الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ، فَتَعالَيْتَ يا رَحيمُ يا رَحْمنُ، حتّى إِذَا اسْتَهْلَلْتُ ناطِقاً بِالْكَلامِ، أَتْمَمْتَ عَلَىَّ سَوابغَ الاْنْعامِ، ورَبَّيْتَني زايِداً في كُلِّ عامٍ، حَتّى إذَا اكْتَمَلَتْ فِطْرَتي، واعْتَدَلَتْ مِرَّتي، أَوْجَبْتَ عَلَىَّ حُجَتَّكَ بِأَنْ أَلْهَمْتَني مَعْرِفَتَكَ، ورَوَّعْتَني بِعَجائِبِ حِكْمَتِكَ، وأَيْقَظْتَني لِما ذَرَأْتَ فِي سَمائِكَ وأَرْضِكَ مِنْ بَدائِعِ خَلْقِكَ، ونَبَّهْتَني لِشُكْرِكَ وذِكْرِكَ، وأَوجَبْتَ عَلَىَّ طاعَتَكَ وعِبادَتَكَ، وفَهَّمْتَني ما جاءَتْ بِه رُسُلُكَ، ويَسَّرْتَ لي تَقَبُّلَ مَرْضاتِكَ، وَمَنَنْتَ عَلَىَّ في جَميعِ ذلِكَ بِعَونِكَ ولُطْفِكَ، ثُمَّ إِذْ خَلَقْتَني مِنْ خَيْرِ الثَّرى، لَمْ تَرْضَ لي يا إِلهي نِعْمَةً دُونَ أُخرى، ورَزَقْتَني مِنْ أَنواعِ الْمَعاشِ، وصُنُوفِ الرِّياشِ، بِمَنِّكَ الْعَظيمِ الأَعْظَمِ عَلَىَّ، وإِحْسانِكَ الْقَديمِ إِلَىَّ، حَتّى إِذا أَتْمَمْتَ عَلَىَّ جَميعَ النِّعَمِ، وصَرَفْتَ عَني كُلَّ النِّقَمِ، لَمْ يَمْنَعْكَ جَهْلي وجُرْأَتي عَلَيْكَ أَنْ دَلَلْتَني إِلى ما يُقَرِّبُني إِلَيْكَ، ووَفَّقْتَني لِما يُزْلِفُني لَدَيْكَ، فَإِنْ دَعَوْتُكَ أَجَبْتَني، وإِنْ سَئَلْتُكَ أَعْطَيْتَني، وإِنْ أَطَعْتُكَ شَكَرْتَني، وإِنْ شَكَرْتُكَ زِدْتَني، كُلُّ ذلِكَ إِكْمالٌ لأَنْعُمِكَ عَلَىَّ، وإِحْسانِكَ إِلَىَّ، فَسُبْحانَكَ سُبْحانَكَ مِنْ مُبْدِئٍ مُعيدٍ حَميدٍ مَجيدٍ، تَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ، وعَظُمَتْ آلاؤُكَ، فَأَىَّ نِعَمِكَ يا إِلهي أُحْصي عَدَداً وذِكْراً، أَمْ أَىُّ عَطاياكَ أَقُومُ بِها شُكْراً، وهِىَ يا رَبِّ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصيَهَا الْعادّوُنَ، أَوْ يَبْلُغَ عِلْماً بِهَا الْحافِظُونَ، ثُمَّ ما صَرَفْتَ ودَرَأْتَ عَني اللَّهُمَّ مِنَ الضُرِّ والضَّرَّاءِ أَكْثَرُ مِمَّا ظَهَرَ لي مِنَ الْعافِيَةِ والسَّرَّاءِ...)

ص: 418

الصفة الخامسة: الجَنْب

بعض الآيات الكريمة صرّحت بأن لله تعالى جنبًا يتحسّر البعض أنه فرّط فيه في الدنيا، قال تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتىٰ عَلىٰ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ.)(1)

والجنب هو شق الإنسان وغير الإنسان، تقول: جلست بجنبه، أي عند أحد شقيه، ولكن لا ريب في أن الله تعالى ليس له جنب بهذا المعنى، كما اتضح هذا الأمر أكثر من مرة، لأنه يستلزم الجسمية، فلا بد أن يكون المقصود هي الكناية عن شيء ما، يصح إطلاق جنب الله تعالى عليه، ونسبته إلى الله تعالى.

وبمراجعة الكتب اللغوية، نجد أن كلمة (الجنب) كما تستعمل في الشق المادي، كذلك تستعمل للكناية عن القرب، وبناءً عليه، فإن معنى جنب الله تعالى هو: أن هناك شيئًا قريبًا من الله تعالى بالقرب المعنوي طبعًا، وأن القرآن يحذّرنا في الآية الكريمة المتقدمة من التفريط بهذا الشيء القريب منه تعالى، لأن هذا التفريط والبعد عنه سيسبب الحسرة والندامة يوم القيامة.

ص: 419


1- الزمر 55 – 56

أما ما هو هذا الشيء الذي اعتبر جنب الله تعالى؟

بعض الكلمات فسّرته بطاعة الله تعالى وحدوده التي حدّها للناس، ولكن نصوص أهل البيت (عليهم السلام) فسّرته بأن المقصود هم أهل البيت (عليهم السلام) فهم جنب الله تعالى، أي هم الأشخاص القريبون معنويًا من الله تعالى، وبالتالي يلزمنا عدم التفريط بهم، وعدم الابتعاد عن ولايتهم، لنحظى بالفوز عند الله تعالى. على أنه لا شك أن طاعتهم راجعة إلى طاعة الله تعالى، فلا مخالفة بين هذا التفسير وبين التفسير الأول.

فقد روي عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله) قَالَ: جَنْبُ الله أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وكَذَلِكَ مَا كَانَ بَعْدَه مِنَ الأَوْصِيَاءِ بِالْمَكَانِ الرَّفِيعِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الأَمْرُ إِلَى آخِرِهِمْ.(1)

ويظهر من الروايات أن إطلاق هذه التعابير ليس مقتصرًا على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقط، بل الأئمة (عليه السلام) كلهم كذلك.

فعن خيثمة عن الإمام أبي جعفر(عليه السلام) قال: سمعته يقول: نحن جنب الله، ونحن صفوته ونحن خيرته ونحن مستودع مواريث الأنبياء، ونحن

ص: 420


1- الكافي للكليني ج1 ص 145 باب النوادر ح9 وقال في الهامش: الجنب القرب وقوله: يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) أي في قرب الله وجواره ومنه قوله تعالى: (والصاحب بالجنب) وهو الرفيق في السفر الذي يصحب الانسان، وكنى عنه بالجنب لكونه قريبا منه ملاصقا له وأول الجنب بعلي عليه السلام لشدة قربه من الله تعالى وكذا الأئمة الهادون من ولده عليهم السلام فإنهم من أكمل افراد المقربين.

امناء الله ونحن حجة الله ونحن أركان الإيمان، ونحن دعائم الاسلام ونحن من رحمة الله على خلقه، ونحن الذين بنا يفتح الله وبنا يختم...(1)

فالمراد من كونهم (عليهم السلام) (جنب الله) هي الكناية عن قرب منزلتهم (عليهم السلام) لله تعالى، لأنهم أقرب الناس الى الله تعالى، أو هي كناية عن أن قرب الله تعالى لا يحصل إلا بالتقرب بهم، كما أن من أراد أن يقرب من الملك يجلس بجنبه.

روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: معنى جنب الله: أنه ليس شيء أقرب إلى الله من رسوله، ولا أقرب إلى رسوله من وصيه، فهو في القرب كالجنب، وقد بيّن الله تعالى ذلك في كتابه بقوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتىٰ عَلىٰ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) يعني في ولاية أوليائه.(2)

ص: 421


1- بصائر الدرجات للصفار ص 82 باب 3 ح10.
2- بحار الأنوار ج4 ص 9.

ص: 422

الصفة السادسة: مجيء الله تعالى وإتيانه

هناك عدة آيات كريمة ذكرت أن الله تعالى يجيء، ويأتي، ومن تلك الآيات:

- )وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(((1).

- )هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ(((2).

- )وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ(((3).

- )قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ(((4).

وقد يُتوهم بأن المجيء والإتيان يقتضي الحركة والزمان والمكان، وبالتالي يكون الله تعالى جسمانيًا، فكيف الجواب؟

ص: 423


1- سورة الفجر، الآية 22.
2- سورة البقرة، الآية 210.
3- سورة الحشر، الآية 2.
4- سورة النحل، الآية 26.

لقد أصبح واضحًا من خلال ما تقدم أنه لا يصح وصف الله تعالى بالأوصاف الجسمانية.

ومن المناسب أن نذكر المطلب التالي الذي يقرّبنا من الوصول إلى المعنى الحقيقي للآيات محل البحث، وحاصلها:

مطلب: أسلوب الذكر والحذف في اللغة العربية.

أن من الأساليب البلاغية في اللغة العربية هو أسلوب الذكر والحذف، فرغم أن الأصل في الكلام هو أن يكون بذكر كل أركانه بلا حذف، ولكن البلاغة في بعض الأحيان تقتضي حذف بعض الكلمات، خصوصًا وأن البلاغة تقتضي إيصال المعنى المراد بأقل لفظ ممكن من دون إخلال بالمعنى، وقد ذكروا أسبابًا بلاغية عديدة للحذف، نذكر بعضًا منها للتوضيح:

أ/ الحذف لأجل إخفاء الأمر، كما تقول مثلًا: سُرق المتاع، ولا تذكر السارق، لخوفك منه مثلًا، أو تقول: خُلق الخنزير، ولا تذكر الخالق، تنزيهًا له عن قرن لفظ اسمه بلفظ الخنزير.

ب/ الحذف لأجل المبادرة بذكر الحال، كما إذا سئل شخص عن حاله فقال: عليل، أي أنا عليل، فهو يريد المبادرة بذكر حاله، فحذف المبتدأ.

ج/ الحذف لأجل التعميم باختصار، نحو قوله جل وعلا ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾(1)؛ حيث إن المراد هو أن الله تعالى يدعو جميع خلقه إلى دار

ص: 424


1- يونس: 25

السلام، فحذف المفعول للفعل (يدعو) ليكون حذفه دالًا على العموم.

فأسلوب الحذف إذن أسلوب بلاغي، يعتمد فيه المتكلم على نصب قرينة ما، أو على ذكاء المخاطب، وما شابه.

والقرآن الكريم كتاب استعمل اللغة العربية وأساليبها في بيان مراداته –كما تقدم-، ومعه فإنه قد يستعمل أسلوب الحذف لغاية ما، ولكن علينا نحن أن نتأمل في كل كلماته جل وعلا، لنعرف المقصود من كلامه الذي حُذف بعضٌ منه.

وفي الآيات المتقدمة يمكن القول:

إن التعبير بمجيء الله تعالى وإتيانه ليس على المعنى المادي المتعارف عندنا، لأنه يلزم منه الجسمية كما اتضح، وإنما هناك محذوف مقدر، لو أظهرناه لصحت نسبة المجيء والإتيان له تعالى، وهو من باب: حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وهو أسلوب بلاغي متعارف في الكلام، فإنك تقول: جاء الأمير، والحال أن الذي جاء هو رسوله أو جيشه، وتقول: فتح الأمير المدينة، أي جيش الأمير، فلا ضير إذا ما استعمل القرآن الكريم هذا الأسلوب.

فذلك المحذوف المقدر في الآيات محل البحث هو مثل كلمة (أمر) فيقال: جاء أمر الله تعالى، أو مثل (عذاب) فيقال: جاء عذاب الله تعالى، أو مثل (ملائكة) فيقال: جاءت ملائكة الله تعالى، وهذا ما ذكرته الروايات

ص: 425

الشريفة الواردة في هذه الآيات، وتبعها المفسرون في ذلك.

فعن الحسن بن علي بن فضال قال: سألت الإمام الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) عن قول الله عز وجل (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) فقال: إن الله عز وجل لا يوصف بالمجيء والذهاب تعالى عن الانتقال، إنما يعني بذلك: وجاء أمر ربك والملك صفّاً صفّاً.(1)

وعنه، عن الإمام الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، قال: سألته عن قول الله عز وجل: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) قال: يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام...(2)

وفي رواية الرجل الذي أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إني قد شككت في كتاب الله المنزل، قال له (عليه السلام): ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب الله المنزل؟! فأخذ الرجل يعدّد آيات قرآنية تصوّر أنّ فيها خللًا ما، ومنها آيات المجيء والإتيان، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في جوابه:

أما قوله: (وجاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)، وقوله: (ولَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ والْمَلائِكَةُ)، وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ).

ص: 426


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 162 باب 19 ح1.
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 163 باب 20 ح1.

فإن ذلك حق كما قال الله عز وجل، وليس له جيئة كجيئة الخلق، وقد أعلمتك أن ربَّ شيءٍ من كتاب الله، تأويلُه على غير تنزيله، ولا يشبه كلام البشر، وسأنبئك بطرف منه، فتكتفي إن شاء الله تعالى، من ذلك قول إبراهيم (عليه السلام): إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة واجتهادا وقربة إلى الله عز وجل، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله؟ وقال: (وأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيه بَأْسٌ شَدِيدٌ)، يعني السلاح وغير ذلك.

وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ يخبر محمدًا (صلى الله عليه وآله) عن المشركين والمنافقين الذين لم يستجيبوا لله وللرسول فقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ حيث لم يستجيبوا لله ولرسوله أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني بذلك العذاب) في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى، فهذا خبر يخبر به النبي (صلى الله عليه وآله) عنهم.

ثم قال: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) يعني من قبل أن تجيء هذه الآية، وهذه الآية طلوع الشمس من مغربها، وإنما يكتفي أولو الألباب والحجا وأولو النهى أن يعلموا أنه إذا انكشف الغطاء رأوا ما يوعدون.

وقال في آية أخرى: (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) يعني أرسل عليهم عذابًا، وكذلك إتيانه بنيانهم، وقال الله عز وجل: (فَأَتَى اللَّه بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) فإتيانه بنيانهم من القواعد إرسال العذاب عليهم.

وكذلك ما وصف الله من أمر الآخرة تبارك اسمه وتعالى علوًا كبيرًا،

ص: 427

وتجري أموره في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة كما تجري أموره في الدنيا، لا يغيب ولا يأفل مع الآفلين، فاكتفِ بما وصفتُ لك من ذلك مما جال في صدرك، مما وصف الله عز وجل في كتابه، ولا تجعل كلامه ككلام البشر، هو أعظم وأجلُّ وأكرم وأعز، تبارك وتعالى من أن يصفه الواصفون إلا بما وصف به نفسه في قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)

قال: فرّجْتَ عني يا أمير المؤمنين، فرّج الله عنك، وحللت عني عقدة..(1)

إشارة: الجرأة في توصيف الله تعالى بأوصاف الأجسام المادية.

روى البعض من غير مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أن الله تعالى (عز وجل عن ذلك) ينزل إلى السماء الدنيا وفي رجليه نعلان و...

وفي الحقيقة، هذه جرأة على الله تعالى، ونكتفي في الرد على مثل هذه الخزعبلات بما روي عن إبراهيم بن أبي محمود، قال: قلت للرضا (عليه السلام): يا ابن رسول الله، ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا؟

فقال (عليه السلام): لعن الله المحرّفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذلك، إنما قال (صلى الله عليه وآله): إن الله تبارك وتعالى يُنزل ملكًا إلى السماء الدنيا، كل ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل، فيأمره فينادي: هل

ص: 428


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 265 – 267.

من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبل، يا طالب الشر أقصر، فلا يزال ينادي بهذا حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء، حدثني بذلك أبي عن جدي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).(1)

ص: 429


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 176.

ص: 430

الصفة السابعة: التفاضل بالحجم (الله أكبر)

يردد المسلمون يوميًا ملايين المرات قول (الله أكبر)، ومن الواضح أن كلمة (أكبر) هي أفعل تفضيل، تقتضي مشاركة أمرين في شيء، مع تفاضل أحدهما على الآخر فيه، فتقول: هذا أجمل من هذا، أي إنهما مشتركان في الجمال، ولكن أحدهما أكثر جمالًا من الآخر.

وفي كلمة (الله أكبر) قد يتوهم البعض أن هناك مقايسة بين الله تعالى، وبين غيره، بأن يكون هو وغيره مشتركان في حجم ما، ولكن الله تعالى أكبر حجمًا منه، وهذا التصوير يستلزم الجسمية، وقد عرفنا أنها باطلة فيه جل وعلا أكثر من مرة، فما هو المقصود منها؟

الجواب:

هنا مقدمة:

ذكر علماء البلاغة: أن أفعل التفضيل وإن كان يؤتى به لما ذُكر، من المشاركة في شيء وتفاضل أحد المشتركينِ على الآخر في ذلك الشيء، ولكن هذا يكون إذا ما استُعمل أفعل التفضيل في هذا المعنى، وإلا فقد يُستعمل في غير هذا المعنى، بأن لا يكون بين الشيئين مشاركة، ومع ذلك يتم استعمال صيغة أفعل التفضيل، ولكنها حينئذٍ تتضمن معنى اسم الفاعل. وذكروا

ص: 431

لذلك شواهد قرآنية عديدة، منها:

قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)(1)،

فإن كلمة ]أشد} هنا هي صيغة أفعل تفضيل، ولكنها لم تستعمل بمعنى التفاضل، أي لم تستعمل للاشتراك في صفة ما بين شيئين، مع زيادة أحدهما على الآخر، إذ إن قدرة العبد متناهية، ولا يمكن قياسها بقدرة الله تعالى، كيف؟ وما عند المخلوق من قدرة إنما هي مفاضة عليه من الله تعالى، ومن ثَمّ فإن التعبير هنا يُراد منه إثبات أن القدرة الإلهية هي من العظمة بحيث لا تُقاس بها أي قدرة أخرى.

ومثل ذلك قوله سبحانه: (ربكم أعلم بكم)(2)،

أي: عالم بكم؛ لأنه لا مشارك لله في علمه.

وهذا يعني: أن (اسم التفضيل) وإنْ كان يؤتى به لبيان اشتراك شيئين في وصف مع زيادة هذا الوصف في أحدهما. ولكن العرب قد تستعمله على غير هذا المعنى، بأن يؤتى به بين شيئين لا مشاركة بينهما وبالتالي لا تفاضل. وإنما تتضمن صيغة أفعل التفضيل حينئذٍ معنى اسم الفاعل.

والتعبير ب- (الله أكبر) هو من هذا القبيل، وهذا ما بيّنه أهل البيت (عليهم السلام)، فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) أنه قَالَ رَجُلٌ عِنْدَه: اللَّه أَكْبَرُ. فَقَال (عليه السلام): اللَّه أَكْبَرُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟

ص: 432


1- فصلت:15
2- الإسراء:54

فَقَالَ الرجل: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) حَدَّدْتَه(1)!فَقَالَ الرَّجُلُ: كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ (عليه السلام): قُلْ: اللَّه أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ.(2) وعَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) أَيُّ شَيْءٍ: اللهُ أَكْبَرُ؟ فَقُلْتُ: الله أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ (عليه السلام): وكَانَ ثَمَّ شَيْءٌ فَيَكُونُ أَكْبَرَ مِنْه؟! فَقُلْتُ: ومَا هُوَ؟ قَالَ: الله أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ.(3)

ص: 433


1- في هامش المصدر: حدّدته بالتشديد من التحديد، أي جعلت له حدًا محدودًا، وذلك لأنه جعله في مقابلة الأشياء ووضعه في حد والأشياء في حد آخر، ووزان بينهما، مع أنه محيط بكل شيء، لا يخرج عن معيته وقيوميته شيء، كما أشار إليه بقوله (عليه السلام) في الحديث الآتي: وكان ثم شيء، يعنى مع ملاحظة ذاته الواسعة وإحاطته بكل شيء ومعيته للكل لم يبق شيء تنسبه إليه بالأكبرية، بل كل شيء هالك عند وجهه الكريم وكل وجود مضمحل في مرتبة ذاته ووجوده القديم.
2- الكافي للكليني ج1 ص 118 بَابُ مَعَانِي الأَسْمَاءِ واشْتِقَاقِهَا ح8.
3- الكافي للكليني ج1 ص 118 بَابُ مَعَانِي الأَسْمَاءِ واشْتِقَاقِهَا ح9.

ص: 434

المحتويات

مقدمة جامعةأم البنين عليها السلام 5

الاهداء 9

مقدمة المؤلف 11

الأمر الأول: مراتب المعرفة البشرية 17

أولا: اليقين البديهي: 17

ثانياً: اليقين البرهاني النظري، أو القطع البرهاني: 21

الأمر الثاني: النظام العام للإسلام 25

الخط الأول: الاعتقادات: 25

الخط الثاني: فروع الدين: 25

الخط الثالث: الآداب العامة (الأخلاق) 26

الأمر الثالث: الأدلة المستعملة في علم الكلام 31

النوع الأول: الأدلة العقلية: 31

النوع الثاني: الأدلة النقلية 33

إشارات: 34

الأمر الرابع: ضرورة البحث عن الدين؟ 39

السؤال الأول: الوجه في كفاية تقييد الضرر بالمحتمل. 40

السؤال الثاني: حساب من لم يسمع بالدين. 41

الأمر الخامس:إن ههنا واقعاً يمكنناإدراكه. 45

الأمر السادس:إن المجرد موجود له واقع. 47

إثبات الوجود المجرد 47

ص: 435

المدرسة الأولى: المدرسة المادية: 48

المدرسة الثانية: المدرسة الواقعية: 49

الدليل الأول: الروح (الأنا) 49

الدليل الثاني: التقاط الصور: 50

الدليل الثالث: تذكّر وتخيّل الصور: 51

الأمر السابع: نظام العلة والمعلول 53

النقطة الأولى: معنى العلة المعلول وخصائصهما: 53

النقطة الثانية: نظام الوجود نظام العلة والمعلول الطبيعي: 56

مقدمة 61

الأول: هي النصوص. 62

الثاني: العلوم الدينية، كالكلام والفلسفة. 64

المبحث الأول: 73

إثبات وجود الله عز وجل 73

مبادئ تصورية: 73

أدلة (أو تنبيهات)إثبات وجود الله تعالى 77

المحور الأول: برهان الإجماع العام، وهو (دليل الفطرة) 77

المحور الثاني: البراهين الكونية 85

المرحلة الأولى: أن الواقعية تلازم الاعتراف بالغيب. 85

التصوير الأول: برهان الملازمات العقلية 85

التصوير الثاني: برهان (الصدّيقين). 88

المرحلة الثانية: إن الواقعية الملونة بلون معين (كالإمكان أو الحدوث... 92

البرهان الأول: برهان الإمكان والوجوب: 93

البرهان الثاني: برهان الحدوث. 96

المعنى الأول: الحادث والقديم الذاتيان: 97

ص: 436

المعنى الثاني: الحادث والقديم الزمانيان: 97

البرهان الثالث: برهان الحركة. 101

المحور الثالث: برهان (إتقان الصنع) أو (برهان النظام) 105

إشارات: 110

الإشارة الأولى: سهولة تناول برهان النُظُم. 110

الإشارة الثانية: برهان النُظُم لا ينتهي إلى وجوب المنظِّم. 111

الإشارة الثالثة: سبب تركيز القرآن الكريم على برهان «النظم 111 .»

المحور الرابع: برهان النفس 11 5

أولاً: إثبات تجرد النفس. 117

المقدمة الأولى: في تجرد العلم الحسي: 117

المقدمة الثانية: اتحاد العالم والمعلوم. 118

ثانياً: حدوث النفس وكيفية وجودها: 119

بيان المقدمة الخامسة: 121

المحور الخامس: برهان (الحقيقة) و (المفهوم) 123

مميزات دليل المفهوم: 124

إشكالية شريك الباري: 125

كيفية استدلال العقل على الغيب. 128

الطريق الأول: طريق مختصر جداً. 131

الطريق الثاني: طريق متوسط: 131

الطريق الثالث: طريق مطوّل: 132

تصوير الاحتياط في باب الإيمان. 138

أولاً: الإيمان الإجمالي. 139

ثانياً: الإيمان ال طَرشْي. 140

ثالثاً: الإيمان الظني. 141

ص: 437

المبحث الثاني: 149

التوحيد 149

المعنى الأول: التوحيد في الذات 151

الجهة الأولى: التوحيد الواحدي. 152

المعنى الثاني: التوحيد في الصفات. 159

النوع الاول: الصفات الثبوتية الكمالية: 159

الصنف الأول: الصفات الثبوتية الكمالية الحقيقية (أو الذاتية). 159

القول الأول هو ما نُسب إلى (الاشاعرة). 160

المناقشة في قول الأشاعرة: 161

القول الثاني: للمعتزلة. 163

القول الثالث: عينية الصفات للذات. 165

النوع الثاني: الصفات السلبية: 170

الصنف الاول: الصفات السلبية الذاتية: 170

الصنف الثاني: الصفات السلبية الفعلية: 171

إشارات: 172

الإشارة الأولى: الدليل على لزوم اتصاف الذات بالصفات. 172

الإشارة الثانية: المرجع للصفات. 173

الإشارة الثالثة: فذلكة: العقل البشري واكتناه الصفات الإلهية: 175

الإشارة الرابعة: الفرق بين الاسم والصفة. 178

الإشارة الخامسة: معنى التأدب بآداب الله تعالى. 181

النوع الثالث: الصفات الخبرية. 187

المبحث الثالث: 189

تفاصيل الصفات الإلهية 189

التفصيل الأول: تفصيل الصفات الثبوتية الذاتية: 189

ص: 438

الصفة الأولى:إنه تعالى عالم 191

النقطة الأولى: الدليل على ثبوت هذه الصفة له تعالى. 191

النقطة الثانية: إن علمه تعالى حضوري. 194

النقطة الثالثة: بعض الإشكالات على العلم الإلهي. 198

الإشكال الأول: نفي علمه تعالى بذاته. 199

الإشكال الثاني: نفي علمه تعالى بمخلوقاته. 200

الإشكال الثالث: نفي علمه تعالى بالجزئيات: 202

الإشكال الرابع: إن العلم الذاتي يستلزم الجبر. 205

الإشارة الأولى: المادة هي سبب محدودية العلم. 207

الإشارة الثانية: دور البشرية في عملية التكامل. 209

الإشارة الثالثة: الإيمان بعلم الله تعالى رادع عن المعصية. 210

الإشارة الرابعة: صفات تلازم صفة العلم. 211

الصفة الثانية: القدرة 21 9

النقطة الأولى: التلازم بين القدرة والاختيار. 220

الأول: القدرة مقابل الإكراه: 223

الثاني: القدرة مقابل العجز: 223

الثالث: القدرة مقابل الإيجاب: 224

النقطة الثانية: الخلاف بين الحكماء والمتكلمين. 224

تفريع: إشكالات أخرى وأجوبتها. 231

النقطة الثالثة: خصائص القدرة الإلهية: 236

النقطة الرابعة: صفات تلازم القدرة: 249

الصفة الثالثة:إنه تعالى حي 257

النقطة الأولى: أدلة إثبات صفة الحياة. 258

النقطة الثانية: ما هي الحياة؟ 259

ص: 439

النقطة الثالثة: خصائص الحياة في النصوص الدينية: 261

الصفة الرابعة: فيأنه تعالى مريد 265

النقطة الأولى: إثبات صفة الإرادة له جل وعلا. 265

النقطة الثانية: الآراء في الإرادة. 266

الآراء في الإرادة. 267

النقطة الرابعة: تقسيمات الإرادة. 272

النقطة الخامسة: خصائص الإرادة الإلهية. 276

الخصيصة الثانية: عدم المانع من نفوذ إرادته. 277

الخصيصة الثالثة: تجلّي حكمته ورحمته جل وعلا في إرادته. 279

الخصيصة الرابعة: إرادة انتصار الخير. 280

الخصيصة الخامسة: إرادته تعالى لم تُلغِ إرادة الإنسان. 281

التفصيل الثاني: تفصيل الصفات الثبوتية الفعلية. 283

في أنه تعالى متكلم. 283

توضيح رأيي الأشاعرة والمعتزلة: 284

وهذا هو مختار الإمامية. 286

موانع القول بقدم الكلام الإلهي. 289

الصدق: 289

التفصيل الثالث: تفصيل الصفات السلبية الذاتية 293

مقدمة: 293

الصفة الأولى: إنه تعالى ليس بمركب. 300

الصفة الثانية: إنه تعالى ليس بجسم. 300

الصفة الثالثة: إنه تعالى ليس بجوهر ولا عرض. 301

الصفة الرابعة: أنه تعالى لا ضد له. 303

الصفة الخامسة: أنه تعالى ليس محلاًّ للحوادث. 304

ص: 440

الصفة السادسة: إنه تعالى غير محتاج 304

الصفة السابعة: في استحالة الألم واللذة عليه تعالى. 308

الصفة الثامنة: أنه تعالى لا يُرى بالرؤية الحسية. 309

النقطة الثانية: رأيا المجسمة والأشاعرة. 311

النقطة الثالثة: أدلة المجوزين للرؤية البصرية. 312

الدليل الأول: طلب النبي موسى الرؤية. 313

الدليل الثاني: إخبار القرآن الكريم بأن المؤمنين ينظرون... 316

النقطة الرابعة: رواية جامعة في نفي الرؤية. 320

التفصيل الرابع: في بعض الصفات السلبية الفعلية. 323

الصفة الأولى: الكيد والمكر والاستدراج والخداع والاستهزاء والسخرية 32 5

الصفة الثانية: القهر (القهار) 33 7

الصفة الثالثة: التجبر (الجبار) (ذو الجبروت). 343

الصفة الرابعة: التكبر (المتكبر) 347

الصفة الخامسة: الوراثة (الوارث) 349

فما هو معنى كونه تعالى وارثاً؟ 349

الصفة السابعة: الإضلال. 353

مقدمتان: 355

المعنى الأول: الهداية التكوينية العامَّة: 359

الضلال التكويني: 361

المعنى الثاني: هداية العقل: 366

الإضلال في العقل: 367

المعنى الثالث: هداية الدعوة: 372

ضلال الدعوة: 374

المعنى الرابع: هداية التشريع: 376

ص: 441

الضلال التشريعي: 377

المعنى الخامس: هداية اللطف. 377

المعنى السادس: هداية الفلاح: 385

التفصيل الخامس: الصفات الخبرية 387

تمهيد: 387

الآراء في الصفات الخبرية: 391

أهم الصفات الخبرية: 393

الصفة الأولى: اليد 395

الصفة الثانية: الوجه 399

الصفة الثالثة: العرش والكرسي والاستواء 403

الصفة الرابعة: العين 413

الصفة الخامسة: الجَنْب 419

الصفة السادسة: مجيء الله تعالى وإتيانه 423

الصفة السابعة: التفاضل بالحجم (الله أكبر) 431

ص: 442

المجلد 2

هویة الکتاب

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

nashra@alkafeel.net

کربلاء المقدسة

ص.ب(233)

هاتف: 322600، داخلی: 175-163

الكتاب: بحوث معرفية في علم الكلام/ الجزء الثانی/ العدل – النبوة

تأليف: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، معهد تراث الأنبياء للدراسات

الحوزوية الإلكترونية.

الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 500 .

ذو الحجة الحرام 1443 ﻫ-تموز 2021 م

ص: 1

اشارة

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

قسم اعداد المبلغات

بحوث معرفية

في علم الكلام

الجزء الثاني

العدل – النبوة

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

اصدارات: جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الأصل الثاني: العدل

اشارة

أو: مباحث الفعل الإلهي.

ص: 5

ص: 6

تمهيد

يعتبر مبحث العدل أو الفعل الإلهي من المباحث المهمة جدًا والحيوية في علم الكلام، والتي تدخل بصورة مباشرة في مختلف مجالات حياة الإنسان، وخصوصًا ما يتعلق بالجانب الاجتماعي والنفسي للإنسان.

ما يترتب على إنكار العدل الإلهي

اشارة

وفي الحقيقة فإن هناك جملة من الاسئلة تطلب إجابة، مرتبطة بالفعل الإلهي، وهي إما أن يُجاب عنها، وإلا فسوف تفضي عند البعض إلى واحد من أمور ستة:

أ/الإلحاد وإنكار وجوده تعالى. عندما تتراكم عنده الاسئلة ولا يتمكن من إيجاد أجوبة مرتبة لها، فتضطرب عنده الصورة فيجره إلى إنكار وجوده جل وعلا.

ب/ إنكار وجود الإنسان أو بعض صفاته، عندما واجه شبهة لم يتمكن من الإجابة عليها، فألغى وجود الإنسان، أو ألغى بعض صفاته كإلغاء صفة الإرادة، فالقول بالجبر جاء نتيجة مغالطة لم يتمكن من الإجابة عليها. حيث لم يتمكن من تفسير إرادة الإنسان إلى جنب إرادة الله تعالى.

ج/ الشرك، فهو في الوقت الذي يريد فيه تنزيه الباري جل وعلا عن

ص: 7

القبائح والظلم والشرور، ولكنه لم يتمكن من تقديم تفسير لها مع ارتباطها بالله تعالى، فقال بوجود إله للشر، وهو ما تورطت به الثنوية، فرغم أن النوايا قد تكون حسنة، ولكن النتائج سيئة، لأنه لم يتعاط مع السؤال أو الشبهة بطريقة منهجية.

د - ﻫ / إنكار العدل والحكمة. وله شكلان:

فمنه صريح، فيصرح بأن الإله الموجود هو ظالم، ويسرد ظواهر (كخلق إنسان معاق، أو الكوارث الطبيعية) على شكل أسئلة من دون جواب، والنتيجة أنه إله ظالم.

ومنه إنكار مغلّف، فهو لا ينكر العدل صراحة، وإنما أنكره بطريقة مغلّفة، بأن جعل العدل مجرد لقلقة لسان، بأن جعل الفعل الإلهي غير مستند إلى العدل والحكمة، وإنما الحكمة والعدل يتأسس بالفعل نفسه، لا أن الفعل يتأسس على أساس الحكمة والعدل المسبق، فالعدل والحكمة عنده صفات لاحقة للفعل لا أنها مؤسِّسة للفعل. فيكون الفعل حينها بلا قانون، فيمكن أن يكون كيفما كان. وهذا ما سيتضح في محله أكثر إن شاء الله تعالى.

ز/إنكار الاختيار الإلهي.

وله صيغتان:

مكشوفة، كما قالت اليهود: (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ

ص: 8

وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ)(1)

ومُقنّعة، وذلك عندما يُصوَّر الاختيار بلا مضمون، بأن يحوّل الفاعل الكبير إلى فاعل موجَب، بأن يكون الفعل مركب بطريقة لا يمكن أن يكون غيرها، وهو ما ذهب إليه المعتزلة من نظرية التفويض، حيث قالوا: إنه تعالى بعد أن خلق الخلق وفرغ منهم، فإنه رفع يده عنهم، بل قال بعضهم: إنه تعالى لا يستطيع أن يتصرف في الكون بعد أن خلقه، فلا قدرة له على التصرف في مملكته بحال من الأحوال، وستتبين نظريتهم أكثر في محلها المناسب إن شاء الله تعالى.

وقبل الدخول في صلب مسائل العدل الإلهي، نقدم ثلاث عشرة نقطة تمثل مرتكزات أساسية في البحث، وهي:

النقطة الأولى: ضرورة ضبط المنهج المعرفي.

النقطة الثانية: ما هو الهدف من الفعل الإلهي؟

النقطة الثالثة: تعريف العدل.

النقطة الرابعة: الحكمة.

النقطة الخامسة: مرجع صفتي العدل والحكمة.

النقطة السادسة: الإبداع في الفعل الإلهي.

النقطة السابعة: هل الظلم ممتنع ذاتاً على الله تعالى أو وقوعاً أو إنه غير

ص: 9


1- المائدة 64.

ممتنع ولكنه لم يقع وحسب؟

النقطة الثامنة: مستويات العدل.

النقطة التاسعة: الحق وإطلاقاته.

النقطة العاشرة: نتائج مناهج التفكير لدى الأشاعرة والمفوضة والإمامية

النقطة الحادية عشرة: لماذا لا يصدر الفعل؟

النقطة الثانية عشرة: القوانين التفضيلية للإنسان.

النقطة الثالثة عشرة: قوانين العالم المحسومة.

ص: 10

النقطة الأولى: ضرورة ضبط المنهج المعرفي
اشارة

إن المنهج المعرفي المعتمد في الوصول إلى النتائج الفكرية في الفكر الإمامي هو عبارة عن القرآن الكريم والسنة بقسميها (سنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسنة أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام).) والعقل.

والفكر الإمامي لا يقبل التفكيك بين هذه المفردات الثلاثة، بل هو منهج مترابط تماماً، وأي انفراد بأحدها يعني ترك الكل، فلا بد من التوليف بين هذه المفردات الثلاثة في التفكير، بحيث يتم الأخذ بها جميعاً. وهذا ما يستفاد من النصوص أيضاً.

وينبغي الالتفات إلى أن المنهج الفكري لا يقف عند هذه الأمور الثلاثة، وإنما يوجد أمر مهم له أكبر الأثر في عملية المعرفة، وهو عنصر (العمل الصالح)، والذي يبدأ بالاعتقاد والإيمان الراسخ، مروراً بتربية النفس وتزكيتها، والدعاء والتوسل....

فوجود القرآن الكريم والسنة والعقل لا يكفي –حسب الفكر الإمامي- كمنهج فكري، ما لم يتوفر إيمان بأهل البيت (عليهم السلام) كأئمة مفترضي الطاعة، وما لم تكن للنفس قابلية تقبل الحقائق الإيمانية، وما لم يوفق الإنسان للوصول إلى

ص: 11

النتائج بالدعاء إلى الله تعالى والتوسل بأهل البيت (عليهم السلام)...

وفهمنا لهذه النقطة المهمة، يكشف لنا عن بعض الأمور، نذكر منها:

الأول:

فهم بعض الحكمة من تشريع بعض الأحكام، كتحريم قراءة كتب الضلال والتعرب بعد الهجرة، والأمر بالاهتمام بمصدر العلم، فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالىٰ: ] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلىٰ طَعامِهِ[(1) أنَّ معناه: «علمه الذي يأخذه عمَّن يأخذه»(2).

وهكذا مثل حفظ السمع عن أهل الضلال، فعن الحسن بن علي بن يقطين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَه، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الله عَزَّ وجَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللَّه، وإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ. (3).

إن هذه الأفعال من شأنها أن تقلّل من توجّه الإنسان إلى الله تبارك وتعالى، إن لم تقطع صلته به بالمرة، فكعملية استباقية وقائية، فقد أمرتنا الشريعة الغرّاء بالابتعاد عن ممارسة تلك الأفعال التي تمهّد الطريق للسقوط في الهاوية.

الثاني:

فهم الترابط بين بعض العبادات وآثارها الفكرية والنفسية، مثل

ص: 12


1- عبس: 24.
2- الكافي للكليني 1: 49 و50/ باب النوادر/ ح 8.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 434/ باب الغناء/ ح 24).

(... وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(1)

فالآية الكريمة تصرّح بأن هناك ترابطًا بين التقوى وبين التعليم الإلهي، مما يؤكد أهمية المنهج الفكري المترابط، وضرورة كونه منهجًا متوازنًا يحوي جميع العناصر التي من شأنها الوصول إلى نتائج يقينية واقعية.

(الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(2)

فالآية واضحة في توثيق الرابطة بين ذكر الله تعالى وبين الحصول على الاطمئنان النفسي والقلبي.

الثالث:

فهم بعض التصرفات الصادرة من الكافرين لدى سماعهم دعوة الأنبياء، وما تسببه تلك التصرفات من جحود وكفر، الأمر الذي كان نتيجةً لعدم التوازن في المنهج عندهم، ولأنهم اُبتُلوا بالانفصام في المنهج والتفكيك بين مفرداته.

قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(3)

(وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا

ص: 13


1- سورة البقرة(282).
2- سورة الرعد(28).
3- سورة النمل(14).

ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)(1)

إذا تبين هذا، نصل إلى مطلب مهم، وهو:

من عوامل الاختلاف بين المسلمين

إن عوامل الاختلاف كثيرة:

منها: ما عرفناه الآن من اختلاف المنهج، ولذا وجدنا أن من اتخذ من القرآن وحده – منفرداً عن السنة والعقل – منهجاً للتفكير وصل إلى نتائج مثل (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)(2)، من دون أن يقرن هذه الآية بالآيات الأخرى، كآيات عرض المتشابه على المحكم، ومن دون مراجعة السنة الموضحة لمثل تلك الآية أو أحكام العقلية البديهية أو القريبة منها، كما وقع البعض في تفسير الصفات الخبرية بظاهرها الجسماني، كما تقدم بيانه.

ومنها: مسألة الجبر، حيث وجد أن القرآن الكريم كثيراً ما يشير إلى الهداية الربانية والإضلال الرباني، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(3)

(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(4)

ص: 14


1- سورة نوح(7).
2- سورة الأنبياء(23).
3- سورة إبراهيم(4).
4- سورة القصص(56).

وحيث لم يرجع إلى أهل البيت (عليهم السلام) في فهم هذه الآيات، واعتمد على فهمه البشري الخاص، فقد وقع في مغبّة الجبر والتزم بنتائجه الوخيمة على المستوى الديني والنفسي وحتى الاجتماعي والسياسي.

وأما أهل البيت (عليهم السلام)، فإن المنهج الفكري عندهم مترابط، ولا يعزل فيه القرآن عن السنة والعقل، ودعوا أتباعهم إلى هذا المنهج وعلّموهم كيفية الاستفادة منه وكيفية التفكير الصحيح.

من هنا نفهم: أن مثل الأمر بين الأمرين الذي أسّسه أهل البيت (عليهم السلام) هو ليس قضية تعبدية، وإنما هي قضية مستدلّة قرآناً وسنةً وعقلاً.

ص: 15

ص: 16

النقطة الثانية: ما هو الهدف من الفعل الإلهي؟
اشارة

ما هو الهدف من خلق الله تعالى لهذا الكون بما فيه من مجرات وكواكب والأرض وما عليها من جماد ونبات وحيوان وإنسان؟

الجواب: سنقدم إجابة هنا متعلقة بالإنسان، لأن هدفنا أن نفهم موقعنا –نحن البشر- في هذا الكون وما يترتب على هذه المعرفة من اتخاذ موقف عملي معين اتجاه الخالق جل وعلا، والجواب يتضح من خلال الخطوات التالية:

الخطوة الأولى

إن كل ما سوى الإنسان –من جماد ونبات وحيوان في هذه الأرض-، فهو يمهد لظهور الإنسان وإبراز مكنوناته وإرادته، قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).(1)

فالآية قالت (لكم) فهذه الأشياء خُلقت لأجل الإنسان لا غير. وهي على هذا تُعيّن (قيمة الإنسان في هذه الأرض، وسيادته على ما فيها من

ص: 17


1- سورة البقرة(29).

موجودات. ومنها نستطيع أن نفهم المهمة العظيمة الثقيلة الموكولة إلى هذا المخلوق في ساحة الوجود.)(1)

ويستفاد من هذه الآية عدة فوائد، منها(2):

1/ إن الله تعالى قد امتنّ على الإنسان حيث خلق له ما في الأرض من دون أي استحقاق له عليه.

2/إن خلق ما في الأرض للإنسان يعني إباحته له، فكل ما في الأرض هو مباح للإنسان إلا إذا كان مملوكًا لإنسان آخر، وهو ما استفاد منه الفقهاء في تأسيس أصالة الإباحة، وتفصيله في الكتب المختصة.

3/ إن ذلك يقتضي وجود النافع للإنسان على هذه الأرض، ولا يُعقل أن الله تعالى يخلق ما في الأرض لأجل الإنسان وليس فيها إلا ما هو ضار، ومشروع الإنسان سيكون تحرّي النافع والاستفادة منه، وترك الضار مما يقتضي عالم الإمكان وجوده إلى جنب النافع.

نكتة:

إن خلق كل شيء للإنسان لم يكن بلا هدف ولا غاية، وإنما وضحت

ص: 18


1- تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي ج1 ص 149.
2- في كنز العرفان في فقه القرآن للمقداد السيوري ج2 ص 298قال ما نصه: امتنّ على عباده بأنّه خلق جميع ما في الأرض لهم، والمراد به ما ينتفع به لأنّ ما فيه إضرار أو خلا عن نفع لا يقع به امتنان، ثمّ إنّ ذلك المنتفع به لو لم يكن محلَّلا لما حسن أيضا الامتنان؛ إذ لا يمتنّ أحد على أحد بشيء حال بينه وبينه لقبحه في نظر العقل، فيكون الأشياء كلَّها على أصالة الإباحة وهو المطلوب، وإن خالف هنا قوم فقولهم باطل، وقد تبين ذلك في الأصول.

بعض الروايات الشريفة الواردة في تفسير هذه الآية ما يلزم على الإنسان من حق اتجاه هذه الهبة الإلهية، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في تفسير هذه الآية: (لتعتبروا ولتتوصلوا به إلى رضوانه وتتوقوا به من عذاب نيرانه)(1)

الخطوة الثانية

إن الإنسان في حركته الحياتية لا يتحرك بصورة عشوائية، بل إن لحركته نظامًا واضحًا هو نظام الاختبار، قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)(2)

والبلاء والاختبار -الذي هو قدر الإنسان في هذه الحياة- يوفّر الأرضية المناسبة لتحقّق اتجاهين مصيريين هما: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(3)

وإن هدف هذا الاختبار ليس هو ليعلم المختبِر (بالكسر)؛ إذ هو تعالى يعلم بالأشياء من الأزل، وإنما الهدف هو تعبير الإنسان عن مكنوناته وإبرازه لها، حيث شاءت الحكمة الإلهية أن يدخل الإنسان دار الابتلاء حتى يظهر علانيةً ما يريده حقيقةً، ومن حكمة ذلك هو (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)(4)

ص: 19


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 15 ح29.
2- سورة الملك (2).
3- سورة الإنسان (3).
4- سورة النساء(165).
الخطوة الثالثة: ما هو الحد الأدنى من النجاح المقبول في هذا الاختبار؟
اشارة

إنه درجة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1)

(وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)(2)

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(3)

فأدنى درجة للنجاح هي العبادة، أي استشعار العبد لعبوديته المطلقة لله تعالى، في قبال (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)(4)

و (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)(5)

ومن هنا يتبين: أن محور حركة الإنسان هو التوحيد بما يعنيه من تحقيق العبادة واستشعارها ونفي كل ألوان الشرك.

ثم إنه ليس للعبادة سقف إلا سقف (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(6)

على اختلاف مراتب اليقين من حق وعلم وعين اليقين، كما يقول تعالى

ص: 20


1- سورة الذاريات(56).
2- سورة يس(61).
3- سورة الكهف(110).
4- سورة الفرقان(43).
5- سورة يس(60).
6- سورة الحجر(99).

(إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ)(1)

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)(2) (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)(3)

وليس اليقين مرتبة محدودة يمكن أن يصل إليها الإنسان ببعض العبادات، إنما هو مفتوح من جهة أن الكمال لا يمكن أن يقف عند حد، لأن التكامل هي محاولة الاقتراب من كمال الباري تعالى، وحيث إن كماله تعالى غير متناهي، فلا يمكن الوقوف عند حدٍّ أبداً.

على ان العبادة تستلزم المعرفة –كما هو واضح- إذ كيف يصح أن يعبد الإنسان ربًا لا يعرفه، ومن هنا انفتح ملف وجوب النظر والمعرفة في الدين، وقد تقدم الكلام فيه في محله.(4)

ثلاثية: حب الذات والمعرفة والإرادة
اشارة

وهنا سؤال مهم:

ما هو الحافز للإنسان على الطاعة واستشعار العبودية واستشعار ذاته الفقيرة ومحاولة تحصيل الكمال؟

إنه ليس إلا حب الذات، فإنه عندما يلتفت إلى ذاته الفقيرة، فحبه لذاته يدفعه نحو التكامل، وهذا الحب وإن كان هو المحرك الأساسي لحركة تكامل

ص: 21


1- سورة الواقعة(95).
2- سورة التكاثر (5).
3- سورة التكاثر(7).
4- راجع الأمر الرابع من الأمور التمهيدية التي ذكرناها في بداية الكتاب.

الإنسان، إلا أنه مع ذلك محدَّد بالمعرفة والإرادة.

أي إن حب الذات لا يكفي لوحده للحصول على التكامل، بل لا بد من أن يتكلّل هذا الحب للذات بمحورين أساسيين:

الأول: المعرفة

فكلما زادت معرفة الإنسان بنفسه وبربه زادت عنده شحنة حب التكامل، وأضيء له طريق التكامل، إذ إنه طريق مدهلز في كثير من جنباته، يعمل الشيطان ومن يعاونه من نفس أمارة وهوى ودنيا على خلق عثرات ومتاهات علهم ينجحون في جعل الإنسان يملّ من تسلق سلّم الكمال.

الثاني: الإرادة

فإنها المحرك الأساس والفعلي والأخير في أي فعل يقوم به الإنسان، وهذا يحتاج إلى أن يتذكر الإنسان أن مبادئ الفعل الاختياري هي:

تصور الفعل الذي يُراد القيام به، ثم التصديق بأن في الفعل منفعة ترجع على الفاعل، بعدها سيتولد الشوق في داخل النفس لتحقيق ذلك الفعل، ويشتد الشوق إلى أن يصل إلى مرحلة العزم وإجماع الأمر والإرادة، بعدها لا يبقى أمام الإنسان إلا أن يتحرك نحو إصدار الفعل، وهذا يكشف عن أن الكلمة الأخيرة في الفعل هي للإرادة وإجماع العزم. وإلا فقد يتصور الإنسان شيئًا ويصدق بفائدته ويشتاق إليه ولكنه لا يفعله، لا لشيء إلا لأنه لا يريد أن يفعله، لعجز أو تعاجز أو كسل أو عناد وما شابه، وكم من أناس يعرفون

ص: 22

قيمة الوقت وأنه رأس مال الإنسان، ولكنهم يحرقونه ويهدرونه في اللغو من القول والساذج من الأفعال!

فالكلمة الأخيرة في الفعل هي للإرادة الإنسانية.

ملحوظتان
الملحوظة الأولى: لا مفرّ من الفقر الذاتي للممكن

إن التكامل لا يعني تحرير الإنسان من فقره الإمكاني، بل على العكس، كلما زاد تكامل الإنسان بالطاعات أوغل في الاحتياج والافتقار إلى الباري تعالى، فالنسبة إذن طردية بين تكامل الإنسان وإحساسه بالفقر الوجودي لله تعالى، وهي كذلك طردية بين عدم استشعار العبودية وفقدان الكمالات.

وهذا هو لسان حال الأنبياء، فالنبي موسى (عليه وعلى نبينا وآله السلام) كان يؤكد فقره الوجودي إلى باريه فيقول (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(1)

وهذا ما أشار له النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقوله (الفقر فخري، وبه أفتخر)(2)

ص: 23


1- سورة القصص (24).
2- فائدة: نقل صاحب البحار (ج 69 - ص 30 - 31) بعد ذكره لهذه الرواية عن الراغب الاصفهاني (مفردات غريب القرآن 383) ما يلي: (الفقر يستعمل على أربعة أوجه: الأول: وجود الحاجة الضرورية، وذلك عام للإنسان ما دام في دار الدنيا بل عام للموجودات كلها، وعلى هذا قوله عز وجل: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد " وإلى هذا الفقر أشار بقوله في وصف الانسان: " ما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ". والثاني: عدم المقتنيات وهو المذكور في قوله: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله - إلى قوله: يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف " " إنما الصدقات للفقراء والمساكين ". الثالث: فقر النفس وهو الشره المعني بقوله صلى الله عليه وآله: كاد الفقر أن يكون كفرا وهو المقابل بقوله: الغنى غنى النفس، والمعنى بقولهم: من عدم القناعة لم يفده المال غنى. الرابع: الفقر إلى الله المشار إليه بقوله: اللهم أغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك، وإياه عنى تعالى بقوله: " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " وبهذا ألم الشاعر فقال: ويعجبني فقري إليك ولم يكن *** ليعجبني لولا محبتك الفقر ويقال: افتقر فهو مفتقر وفقير، ولا يكاد يقال فقر وإن كان القياس يقتضيه وأصل الفقير هو المكسور الفقار.)
الملحوظة الثانية: مركز الكمال هو الكمال اللا متناهي

قلنا: إن الدافع للإنسان نحو طلب الكمال هو حبه لذاته، وهو حافز لطلب المعرفة أيضاً (بشقّيها: التصور والتصديق) كمقدمة للفعل الذي به التكامل، وهو الإيمان والعمل الصالح، وهنا نسأل:

إن لكل حركة تكاملية مركزاً يكون هو المقصود الأول، فالمريض مثلاً إذا أراد لنفسه الصحة، لا بد عليه أن يذهب إلى الطبيب، وأن يشخص الطبيب نوع مرضه، ثم يصف له الدواء المناسب، ولا بد على المريض بعد ذلك من استخدام العلاج بشكل منظّم وكافٍ، وأي خلل في هذه المقدمات فإنه يؤدي إلى غير النتيجة المرجوة، ونلاحظ أن المريض في هذا المثال تدور حركته على مركز محدَّد هو: طلب الحد الأدنى للصحة، ذلك الحدُّ الذي يكون الخارج عنه مريضاً.

وفي المقام، لو أراد الإنسان – وهو الذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله عز من قائل (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا...)(1)

– أن

ص: 24


1- سورة النحل(78).

يستكمل ويسدَّ نقصه بالخروج من القوة إلى الفعل، فما هو المركز الذي لا بد عليه من قصده حتى يضمن سيرَه في طريق الاستكمال الصعودي وسدّ النقص؟ وأن لا تكون الحركة في فراغ أو تسافلية؟

الجواب:

إن المركز هو الكمال اللا متناهي –وهو الله تبارك وتعالى-، وبقدر ما يتمكن الإنسان من التحرك باتجاه ذلك المركز يكون قد تحرك باتجاه تكامله وسد نقصه، وحيث إن ذلك المركز هو لا متناهي، فإن تلك الحركة التكاملية لا تتوقف عند حدّ، وبهذا يتبلور ما قلناه سابقاً من أنه لا سقف محدوداً للعبادة واليقين. ولذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) رغم بلوغه مراتب عالية جداً من التكامل، فإنه كان يقول: آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد.(1)

وهذا ما يفسر لنا الروايات الدالة على استمرار إنتاج أعمال البعض حتى بعد موتهم، إلا أنه – رغم ذلك - لا يمكنهم بلوغ الكمال اللا متناهي، بل الحركة التكاملية مستمرة وإلى ما لا نهاية، كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به، وصدقة جارية.(2)

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من

ص: 25


1- نهج البلاغة - ج 4 - ص 17.
2- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 - ص 28.

غير أن ينتقص من أجورهم شيء.(1)

ص: 26


1- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 240.
النقطة الثالثة: تعريف العدل
اشارة

استعمل العدل بمعان أربع، والمقصود بالبحث هنا رابعها:

معاني العدل
المعنى الأول: التوازن

والتناسب والتعادل، بأن تكون أجزاء الشيء منسجمة مع بعضها، ومتوافقة في العمل، بحيث لا يحدث خرق في أدائها، مما يعني الوصول إلى النتيجة المرجوة منها على أفضل حال، وذلك كالتوازن الموجود في الكون مثلًا، فهناك توازن بين قوتي الجذب والدفع في الكواكب تجعلها تسير في مدارات ثابتة لا تخرج عنه فتتصادم، وهناك توازن بين استعمال الإنسان للأوكسجين وطرحه ثاني أوكسيد الكاربون، وبين استعمال النباتات لثاني أوكسيد الكاربون وطرحها الأوكسجين، مما يجعل نسبة كل من الغازين ثابتة في الفضاء.

وهذا المعنى وإن كان يُعبّر عن كمال – ويقابله عدم التوازن الذي هو حالة مَرَضَية -، ولكنه ليس هو المعنى المقصود في البحث.

ص: 27

المعنى الثاني: التساوي

وهو المعنى الذي يمكن نسبته إلى الفهم العرفي العامي للعدل، ولكن المساواة ليست دائماً عدلاً – عند الإمامية -، وإن كانت بعض النظريات والمؤسسات الحقوقية والفلسفات الغربية – وعلى رأسها الاشتراكية – رفعت شعار العدل بهذا المعنى، وطالبت مثلًا بالمساواة بين الرجل والمرأة، وبتوزيع الأموال العامة بالتساوي لا على أساس الجهد المبذول في عملية الإنتاج.

ولكن هذا المعنى أقرب إلى الظلم منه إلى العدل! إذ العقل قاضٍ بأن العدل والحكمة في توزيع الأدوار لا المساواة في كل شيء، إذ المساواة حالة لا يستقيم معها وضع المجتمع(1)، وهل من العدل مثلًا أن تُعطي لولدك الذي يدرس في الجامعة مصروفًا بقدر ما تعطيه لولدك في الابتدائية؟! وهل من العدل أن يعطي مدير الدائرة الموظف المجتهد والذي يبذل قُصارى جهده في تحسين الإنتاج كمًا ونوعًا نفس المقدار الذي يُعطيه لموظف كسول؟!

نعم، من الحق البحث عن الأسس التي عليها يكون توزيع الأدوار.

المعنى الثالث: إعطاء كل ذي حق حقه

وهذا المعنى من العدل يمكن تصوره في عالمنا: عالم الإمكان، فبين الأفراد

ص: 28


1- إذ يلزم منه التواكل وضياع الجهد والنزاعات الدامية، وغيرها كثير، ولذا تجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي ولده الإمام الحسن (عليه السلام) بأهمية توزيع الأدوار، فيقول له:- واجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به، فإنه أحرى أن لا يتواكلوا في خدمتك... نهج البلاغة - ج 3 - ص 57.

توجد حقوق متبادلة، ولا بد أن يُعطى لكل واحد منهم حقه الذي يستحقه.

ولكن لا يمكن تصور هذا المعنى بين الله تعالى وبين الإنسان، إذ أي حق للإنسان يستحق معه على الله تعالى شيئاً فيجب عليه تعالى – لتحقيق العدل – أن يعطيه له(1)؟!

إن العقل والنقل متفقان على أن كل ما عند الإنسان هو مِنّةٌ من الله تعالى ومن دون استحقاق، فليس هو تعالى مَنْ عليه الحق حتى يجب عليه أن يؤديه إلى صاحبه.

وبعبارة أخرى: الحق يعني ويساوي: السلطنة أو الملك المنقوص أو الملك الضعيف أو ما يقرب من ذلك، والجميع منفي عنه تعالى، فليس للإنسان سلطنة أو ملك أو شيء من هذا القبيل على الله تعالى، لا تكويناً ولا اعتباراً كي يستحق عليه شيئاً...

تنبيه:

ينبغي الالتفات إلى أن هذا المعنى الثالث للعدل إذا أريد إطلاقه على العدل الإلهي فإنه يستبطن الشرك، ذلك أن قول القائل: إني ذو حق على الله تعالى، يعني: أنه مسلَّط ومستحق ومالك لشيء ما عليه تعالى، وهذا يتنافى مع

ص: 29


1- يقول مولانا الإمام السجاد (عليه السلام):-... ثم لم تسمه القصاص فيما أكل من رزقك الذي يقوى به على طاعتك، و لم تحمله على المناقشات في الآلات التي تسبب باستعمالها إلى مغفرتك. ولو فعلت ذلك به لذهب بجميع ما كدح له وجملة ما سعى فيه جزاء للصغرى من أياديك ومننك، ولبقي رهيناً بين يديك بسائر نعمك. فمتى كان يستحق شيئا من ثوابك؟... من دعائه (عليه السلام) في وداع شهر رمضان. الدعاء رقم (45).

ما ثبت في مباحث التوحيد من أنه لا مالك حقيقياً سوى الله تعالى، ومن أن العبد مملوك قِنٌّ له تعالى في وجوده وصفاته وأفعاله.

نعم، هو تعالى اعتبر لعبيده حقاً عليه من باب الرحمة واللطف، وتعامل مع عبيده على اعتبار هذا الأساس الاعتباري على انه أساس حقيقي، فأخذ الله تعالى يشتري من المؤمنين ما هو ملك له في الحقيقة، ويستقرضهم ما هو عائد له حقيقة، كل ذلك لطفًا بهم ومِنّةً منه عليهم.

وهو ما تشير إليه بعض النصوص، قال تعالى (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)(1)

وقال تعالى (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(2)

وقال تعالى (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً واللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(3)

ولكن هذا لا يمثل ملكاً وحقّاً حقيقياً عليه تعالى، بل هو تفضّل وامتنان

ص: 30


1- سورة الأنعام(12).
2- سورة التوبة(111).
3- سورة البقرة(245).

منه تعالى، وهو يرجع في حقيقته إلى المعنى الرابع للعدل.

المعنى الرابع: إعطاء كل ذي قابلية ما هو مستعد له

فلكل واحد من البشر حجم ومقدار من القابلية، والعدل أن يعطيه الله تعالى على حسب قابليته واستعداده، بدون نقصان ولا حرمان، لأنه ظلم، ولا أكثر، لأنه يلزم منه الجزاف وهو محال.

وبعبارة: إن الفاعل متساوي النسبة للجميع، ولكن القابل يختلف من حيث الاستعداد، والعدل يقتضي إعطاء كل قابل ما هو مستعد له. وهذا ما تشير إليه بعض الآيات.

قال تعالى (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ)(1)

ومن هنا يتبين: أن التفاضل بين الناس في القابليات لا يُعدّ ظلماً، لأن العدل يقتضي الإعطاء بحسب حجم ومقدار القابلية، فالاختلاف هو اختلاف قابلية لا اختلاف عطاء.

تنبيه:

هذا المعنى الأخير من العدل يُغطّي بعدين:

ص: 31


1- سورة الرعد(17).

أ / بعد الإمكانات والاستعدادات، فالعدل الإلهي يمدُّ المستعِدَّ بكل ما هو مستعِدٌّ له من إمكانات واستعدادات.

يقول تعالى (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا)(1)

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ)(2)

ب / بعد الجزاء والنتائج، فالعدل الإلهي يوفر المردود الجزائي للعمل، يقول تعالى (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(3)

(وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)(4)

ص: 32


1- سورة الإسراء(20).
2- سورة الملك(23).
3- سورة الزلزلة (7-8).
4- سورة النجم (39-40)
النقطة الرابعة: الحكمة
الحكمة لغة

قال ابن فارس: الحاء والكاف والميم، أصل واحد وهو المنع، وأوّل ذلك الحُكم، وهو المنع من الظلم، وسمّيت (حَكَمَة) الدابّة لأنّها تمنعها... والحِكمة هذا قياسها، لأنّها تمنع من الجهل.(1)

وفي الصحاح: أحكمت الشيء فاستحكم، أي صار محكماً.(2)

وقد (عُرّفت الحكمة في أمّهات المصادر اللغويّة... بأنّها تعني: «العلم»، و«معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم» (3)،

و«إصابة الحقّ بالعلم والعقل» (4)، و«إتقان الأفعال» (5)،

وما إلى ذلك. وعلى أيّ حال، فإنّ الفعل

ص: 33


1- مجمع مقاييس اللغة لابن فارس. مادة (حكم).
2- صحاح الجوهري: مادة (حكم).
3- النهاية، ابن الأثير، مادّة حكم، ج 1، ص119؛ لسان العرب، ج 12، ص140؛ المعجم الوسيط، مادّة: حكم، ج 1، ص190. [م]
4- المفردات في غريب القرآن، الراغب الإصفهانيّ، مادة: حكم، ص127. [م]
5- يُقال: أحكم الأمر؛ أي: أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد. انظر: القاموس المحيط، الفيروزآباديّ، ص1415؛ لسان العرب، ابن منظور، ج 12، ص 143؛ مختار الصحاح، مادّة: حكم، ص62. [م]

الحكيم هو الفعل الصادر عن مصلحة، المشتمل على هدف وغرض، وهو لا يتحقّق من دون علم مسبق.)(1)

الحكمة اصطلاحًا

الحكمة في الله تعالى لا يخرج معناها عن المعنى اللغوي، فللحكمة معنيان كلاهما ثابت له تعالى بوجوب الوجود:

1 – معنى نظري، بمعنى كونه عارفاً بالأشياء، وحينئذٍ تكون الحكمة شعبة من شعب العلم.

وهو تعالى يعلم بالأشياء على ما هي عليه، بل هو تعالى يعلم بها قبل إيجادها. فهو حكيم بهذا المعنى.

2 – معنى تطبيقي، بمعنى الإتقان والدقة في الصنع.

وحيث إن عالم الإمكان ليس فوضوياً، بل هو محكوم بقانون وتناسق عجيب، فهو تعالى حكيم بهذا المعنى أيضاً. وهذا ما كشفته وتكشفه علوم الطبيعة أمس واليوم.

على أنه قد ثبت في محله: أن عالم الإمكان بهذا الشكل من الدقة والتناسق هو أفضل ما يمكن ويتصور أن يوجد، فليس فقط هو متقن، بل هو أفضل ما يمكن.

ص: 34


1- الكلام الإسلامي الجديد ج1 ص 184-185.
وهنا إشارات
الإشارة الأولى: الفرق بين العدل والحكمة

عُرّفت الحكمة بأنها (وضع الشيء في محله) وعُرّفت بأنها (الفعل حسب النظام الأصلح)، ويقابلها العبث والجزاف.

وعن طبيعة العلاقة بينها وبين العدل رأيان:

الأول: إن الحكمة معنى عام لكل المخلوقات، أما العدل فهو معنى خاص بفعل خاص هو الإنسان، أو الموجودات العاقلة.

وعليه، فالاختلاف بين الحكمة والعدل هو بالعموم والخصوص المطلق.

الثاني: إن كُلاًّ من الحكمة والعدل معنى عام لكل المخلوقات، إلا أن الحكمة مقابل العبث (وهو الفعل الذي لا تكون له غاية عقلائية، الخالي من الحكمة، بأن يضع الشيء في غير موضعه المناسب.)، والعدل مقابل الظلم (وهو سلب حق الآخر، مع التنبيه إلى أنه تقدم أن لا حق حقيقيًا للعبد على الله تعالى، نعم، هو جلّ وعلا من باب التفضّل والمنّة اعتبر أن للإنسان حقًا عليه تعالى، وتعامل معه على اعتباره صاحب حق عليه).

الإشارة الثانية: الوجه في أن الحكيم لا يُسأل عما يفعل

إن الحكيم على ما تقدم هو باختصار من يضع الشيء المناسب في الموضع المناسب وفي الوقت المناسب، وإذا كان هذا فعل الحكيم فلا وجه حينئذٍ للاعتراض على أي فعل يقوم به، لأنه حسب الفرض حكيم، وبهذا المعنى

ص: 35

يمكن تفسير قوله تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(1)

حيث جاء في تفسيرها عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام:... يا ابن رسول الله وكيف لا يسأل عما يفعل؟. قال: لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابًا...(2)

الإشارة الثالثة: كفاية العلم الثبوتي بالحكمة

ليس هناك ضرورة بأن يكشف الحكيم عن الحكمة في كل فعل من أفعاله، إذ يكفي علمنا بأنه حكيم للاطمئنان بأنه لا يصدر عنه خلاف الحكمة، على أن مطالعتنا لأفعاله جل وعلا كافية للحكم وبالقطع واليقين بأن أفعاله كلها حكيمة.

وهذا يعني: أننا لو رأينا فعلًا، أو حصل معنا شيء لم نستطع أن نعرف الحكمة فيه، فعدم معرفتنا بالحكمة فيه لا يبرر لنا الاعتراض عليه جل وعلا ولو من طرف خفي، بل يلزمنا التسليم لكل ما يفعله الله الحكيم العزيز.

الإشارة الرابعة: وجه الحكمة في بعض الأفعال روائياً
اشارة

نحن وإن قلنا: إنه لا يلزم الحكيم أن يكشف وجه الحكمة من أفعاله، ولكن من باب اللطف، أشارت بعض النصوص الشريفة إلى وجه الحكمة في بعض الأفعال التي قد يظهر منها عدم الحكمة لأول وهلة، ومنها التالي:

ص: 36


1- الأنبياء 23
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 397.
النص الأول

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): قالَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى:... وإِنَّ مِن عِبادِيَ المُؤمِنينَ لَمَن لا يَصلُحُ إِيمانُهُ إِلاّ بِالفَقرِ ولَو أَغنَيتُهُ لأَفسَدَهُ ذلِكَ، وإِنَّ مِن عِباديَ المُؤمِنينَ لَمَن لا يَصلُحُ إِيمانه إِلاّ بِالغِناءِ ولَو أَفقَرتُهُ لأَفسَدَهُ ذلِكَ، وإِنّ مِن عِبادِيَ المُؤمِنينَ لَمَن لا يَصلُحُ إِيمانُهُ إِلاّ بِالسُّقمِ ولَو صَحَّحتُ جِسمَهُ لأَفسَدَهُ ذلِكَ، وإِن مِن عِبادِيَ المُؤمِنينَ لَمَن لا يَصلَحُ إِيمانُهُ إِلاّ بِالصِّحَّةِ ولَو أَسقَمتُهُ لأَفسَدَهُ ذلِكَ، إِنّي أُدَبِّرُ عِبادي لِعِلمي بِقُلوبِهِم ؛ فَإِنّي عَليمٌ خَبيرٌ.(1)

النص الثاني

عنه (صلى الله عليه وآله): يَقولُ اللهُ تَعالى: تَفَضَّلتُ عَلى عَبدي بِأَربَعِ خِصال: سَلَّطتُ الدَّابَّةَ عَلَى الحَبَّةِ، ولَولا ذلِكَ لاَدَّخَرَها المُلوكُ كَما يَدّخِرونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ، وأَلقَيتُ النَّتنَ عَلَى الجَسَدِ، ولَولا ذلِكَ ما دَفَنَ خَليلٌ خَليلَهُ أَبَداً، وسَلَّطتُ السَّلوَ عَلَى الحُزنِ، ولَولا ذلِكَ لاَنقَطَعَ النَّسلُ، وقَضَيتُ الأَجَلً وأَطلَتُ الأَمَلَ، ولَولا ذلِكَ لَخَرِبَتِ الدُّنيا، ولَم يَتَهَنَّ ذو مَعيشَة بِمَعيشَتِهِ.(2)

النص الثالث

عن الإمام عليّ (عليه السلام) - فِي الحِكَمِ المَنسوبَةِ إِلَيهِ -: مِنَ الحِكمَةِ جَعلُ المالِ في أَيدِي الجُهّالِ ؛ فَإِنَّهُ لَو خُصَّ بِهِ العُقلاءُ لَمات الجُهّالُ جوعاً، ولكِنَّهُ جُعِلَ في أَيدِي الجُهّالِ، ثُمَّ استَنزَلَهُم عَنهُ العُقَلاءُ بِلُطفِهِم وفِطنَتهِم.(3)

ص: 37


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 400.
2- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج9 ص 111.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 289 الحكمة رقم (310).
النص الرابع

الإمام الباقر (عليه السلام): إِنَّ داوودَ النبيّ (صلوات الله عَلَيهِ) كانَ ذاتَ يَوم في محِرابِهِ إِذ مَرَّت بِهِ دودَةٌ حَمراءُ صَغيرةٌ تَدُبُّ حَتَّى انتَهَت إِلى مَوضِعِ سُجودِهِ، فَنَظَرَ إِلَيها داوودُ وحَدَّثَ في نَفسِه: لِمَ خُلِقَتْ هذِهِ الدّودَةُ؟ فَأَوحَى اللهُ إِلَيها تَكَلَّمي، فَقالَت لَهُ: يا داوودُ، هَل سَمِعتَ حِسّي أَو استَبَنتَ عَلى صَفا أَثَري؟ فَقالَ لَها داوودُ: لا. قالَت: فَإنَّ اللهَ يَسمَعُ دَبيبي ونَفَسي وحِسّي، ويَرى أَثَرَ مشيي، فَاخفَض مِن صَوتِكَ.(1)

الإشارة الخامسة: أقسام الحكمة
اشارة

كل ما تقدم هو الحكمة التي هي صفة لله تعالى، ولكن على الإنسان أيضًا أن يتصف بصفة الحكمة، إذ هي من الصفات التي تساعده في السير نحو الكمال الوجودي، وهو هدف الإنسان المؤمن في هذه الحياة، فكان مناسبًا أن نتعرف قليلًا على معنى الحكمة وأقسامها في الإنسان، لنصوغ مشروعنا في هذه الحياة بطريقة علمية منهجية، وقد ذكروا ثلاثة أقسام للحكمة، وهذه الأقسام بينها ترتب، بمعنى أن الأولى هي مقدمة لحصول الثانية، والثانية هي مقدمة لحصول الثالثة، مما يعني لا بدية المنهجية في تحصيل هذه الأقسام من الحكمة، وهي التالي:

القسم الأول: الحكمة العلمية

وهي الحكمة التي يكون سببها تحصيل العلوم والمعارف التي تدخل

ص: 38


1- الزهد، للحسين بن سعيد الكوفي ص 64 باب 11 ح 170.

ضمن شروط التكامل وتعمل على كشف الطريق الذي يوصل إلى الهدف الأسمى لوجود الإنسان. فهي كالمصباح الذي ينير الطريق لمن يسلكه، ولأمكن أن يصطدم المرء بما يشج رأسه، أو ربما يقع في حفرة عميقة من دون أن يشعر.

إننا وفي طريق التكامل الوجودي –الذي هو المشروع الأعظم للإنسان في حياته- نحتاج إلى عوامل مساعدة عديدة، ومن أهمها هي العلوم والمعارف المتعلقة بالهدف، والتي تشمل: علم أصول الدين وفروعه والآداب والسنن، وهذا ما يحتاج من المؤمن أن يخصص وقتًا وجهدًا مناسبًا لتحصيل هذه المعارف والعلوم ومن مصادرها الموثوقة.

لقد كان من أهم أهداف الرسالات السماوية هو تعليم الناس الحكمة، قال تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَىٰ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(1)

إن الحكمة العلمية تعني باختصار:

أن يكون صاحب نظرة واضحة في هذه الحياة، يعرف ما هو هدفه فيها، ويعرف أن عليه أن يتخذ مسلكًا خاصًا يوصله إلى النجاة في الدنيا والآخرة على حد سواء.

ص: 39


1- آل عمران 164

عليه أن يملك المعرفة الكافية لإدارة نفسه وبيته وما يتعلق به من جيران وعمل وما شابه، أي أن يملك المعرفة الخاصة به وبالعامة للمجتمع.

عليه أن يملك الفرد المؤمن المعرفة الكافية للاستدلال على ما هو عليه من دين، أصولًا وفروعًا وأخلاقًا.

القسم الثاني: الحكمة العملية

إن مجرد ملئ الذهن بالمعلومات ليس كافيًا للنجاة لا في الدنيا ولا في الآخرة، فتصوروا لو أن أضخم عالم من حيث كمية المعلومات التي عنده، كان قد اختزنها في ذهنه ولم يكتبها مثلًا في كتاب أو لم يطبقها في حياته، فما هي فائدة كومة من المعلومات المخزونة في الذهن؟!

وهكذا لو عرف المرء طريق الفلاح في الآخرة، ولكنه لم يخطُ خطوة واحدة في طريق التكامل والوصول إلى الهدف، فما هي فائدة هذا العلم؟

إن الحكمة العملية تقول: طبّق علمك ومعارفك حسب ما تقتضيه تلك العلوم والمعارف، فإذا عرفت الخطة النظرية للتكامل، يلزمك أن تعمل على تطبيقها بدقة وحذر، حتى تصل إلى مرادك.

إن الحكمة العملية باختصار: (هي المنهج العملي للوصول إلى مرتبة الكمال الإنساني. ومن وجهة نظر القرآن الكريم، والحديث الشريف تطلق كلمة الحكمة على العلم والعمل باعتبارهما مقدمتين لتكامل الإنسان، وليس ثمة فرق بينهما، إلاّ أنّ العلم هو

ص: 40

الدرجة الأُولى في سُلّم الكمال الإنساني، والعمل هو الدرجة الثانية فيه)(1)

القسم الثالث: الحكمة الحقيقية

بعد أن يجهز المؤمن نفسه بالمعارف الضرورية في حياته، ويبدأ يطبق ما تعلمه من علوم، سواء على مستوى الأصول أو الفروع أو الأخلاق الاجتماعية، وبعد أن يقطع شوطًا طويلًا في ذلك، سيصل حينها –بلطف الله تعالى وعنايته- إلى مرتبة الحكمة الحقيقية، تلك الحكمة التي تخلق عند الإنسان قوة عملية جبّارة ضد نوازع النفس الأمارة، بحيث تستعين النفس بها ضد ميولها وقواها الغضبية والشهوية التي تعمل على تحصيل رغباتها من دون رادع ولا حجاب ولا سقف محدد.

هي حالة أشبه بتحرير العقل من كل قيوده، وفي نفس الوقت تكبيل القوى الغضبية والشهوية عن أن تعمل أو تطلب أي شيء إلا بإذن العقل وتحت إمرته وتحت نظره ورعايته، فلا تتجاوز حدود العقل أبدًا.

إنها حالة من التجرد العقلي والقوة النفسية تصل إلى مرحلة تجعل من المرء عارفًا بحقيقة حاله في الدنيا، وأنه مجرد عبد للمولى جل وعلا، وأن عليه أن يسلّم له قياد نفسه وكل كيانه، وأنه لا يحق له أن ينبس ببنت شفة أمام عظمة جبار السماوات والأرض، وحينها، ستعرف معنى قوله عز وجل (إِنَّما يَخْشَىٰ اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(2)

ص: 41


1- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ الريشهري ج2 ص74.
2- فاطر 28

إنها مرحلة من التعلق بالعالم الأخروي، تجعل المؤمن يمقت ويبتعد عن كل الأمور المؤقتة والتي لا يبقى أثرها إلى الآخرة، ويرغب في كل ما من شأنه أن يبقى إلى الآخرة، وهو معنى ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أوَّلُ الحِكمَةِ تَركُ اللَّذّاتِ، وآخِرُها مَقتُ الفانِياتِ.(1)

إن معرفتنا بالحكمة بهذا المعنى تكشف لنا عن السر وراء الثمرات العظيمة التي رتبتها النصوص الدينية على الحكمة، فإن الروايات جعلت الحكمة مبدأً للتالي(2):

1/ضَعفُ الشَّهوَةِ: فعن الإمام عليّ (عليه السلام): كُلَّما قَوِيَتِ الحِكمَةُ ضَعُفَتِ الشَّهوَةُ.(3)

2/ مَعرِفَةُ العِبرَةِ: فعن الإمام عليّ (عليه السلام): مَن ثَبَتَت لَهُ الحِكمَةُ عَرَفَ العِبرَةَ.(4)

3/ المَنعُ عَنِ السَّيِّئَةِ: فعن الإمام عليّ (عليه السلام): لِلنُّفوسِ طَبائِعُ سوء والحِكمَةُ تَنهى عَنها.(5)

4/ العِصمَة: فعن الإمام عليّ (عليه السلام): قُرِنَتِ الحِكمَةُ بِالعِصمَةِ.(6)

ص: 42


1- عيون الحكم والمواعظ لليثي الواسطي ص 120.
2- انظر: موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ الريشهري ج2 ص 83 – 87.
3- غرر الحكم: 7205، عيون الحكم والمواعظ: 395 / 6687.
4- غرر الحكم: 8706، عيون الحكم والمواعظ: 461 / 8383..
5- غرر الحكم: 7341، عيون الحكم والمواعظ: 403 / 6807.
6- غرر الحكم: 6712، عيون الحكم والمواعظ: 371 / 6263.

5/ نور القلب: فقد روي عن النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) أنه قال: أسرِعوا إلى بُيوتِكُمُ المُظلِمَةِ فَأَنيروا فيها، كَذلِكَ فَأَسرِعوا إلى قُلوبِكُمُ القاسِيَةِ بِالحِكمَةِ قَبلَ أن تَرينَ عَلَيهَا الخَطايا فَتَكونَ أقسى مِنَ حِجارَةِ.(1)

ص: 43


1- تحف العقول للحراني ص 506.

ص: 44

النقطة الخامسة: مرجع صفتي العدل والحكمة

أشرنا سابقاً(1) إلى أن هناك فرضية تقول: إن كل صفة فعل – وإن كانت عين الفعل - هي ترجع في جذرها وأساسها إلى إحدى صفات الذات، ومعه، فإلى أي صفة ذاتية ترجع صفة العدل والحكمة بعد أن كانا يعبّران عن كيفيتين إيجابيتين في الفعل؟ هل هما راجعتان إلى القدرة أم إلى شيء آخر؟

إن الصفة الذاتية التي تمثّل الجذر الذي ترجع إليه صفتا الحكمة والعدل هي العناية، التي هي شعبة من شُعب العلم، والعناية(2)

هي: علمه تعالى الذاتي تفصيلاً بالأشياء بخصوصياتها، الذي كان علة(3)

لوجودها بما لها من خصوصيات، من غير إهمال لشيء مما عَلِمه من الخصوصيات. وهذه العناية تُرجِمتْ كصفة فعل إلى الحكمة والعدل.

تنبيه مهم: في معنى التفضّل واللطف:

إذا تبين ما تقدم، لا بد من الالتفات إلى نقطة مهمة، وهي:

ص: 45


1- تحت عنوان: الإشارة الثانية: ما هو المرجع في الصفات؟
2- انظر الفصل السابع عشر من المرحلة الثانية عشرة من نهاية الحكمة.
3- أي علم فعلي قبل الإيجاد، أي إنه من مبادئ الفعل.

عرفنا أن حكمته تعالى وعدله يقتضيان: أن يعطي كل موجود ما هو مستعد له.

ونحن نعلم: أن الإنسان مهما فعل وقدّم من أعمال، فإنه يجد نفسه مقصّراً أمام الله تعالى، خصوصًا عندما تصدر منه معاصٍ(1)،

ولذا، تجده دائماً – كما علّمتْه الروايات والأدعية – يطلب المعاملة بالتفضل والجود واللطف والكرم لا بالعدل، وهكذا يطلب الشفاعة ويتوسل بالأولياء، ليخلّصوه من عواقب ذنوبه.

وسؤالنا هنا: إلى مَ يرجع التفضّل والشفاعة؟ هل هو راجع إلى الحكمة أم العدل؟ هل هو مقنّن بقانون أم لا؟ هل غفران ذنب مخطئ، أو التجاوز عن ذنبه عدل وحكمة أم جزاف وعبث؟

الجواب:

لا بد أن نعلم أولاً: أن لا شيء يُعطى للإنسان فوق قابليته، لأن قابليته ذاتي له، وإعطاؤه فوق ذاتيه يعني انتفاء حقيقته، فما يُعطى للإنسان هو وفق قابليته وبقدر سعة استعداده.

ص: 46


1- يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في دعائه في الاستقالة: يا إلهي لو بكيت إليك حتى تسقط أشفار عيني، وانتحبت حتى ينقطع صوتي، وقمت لك حتى تنتشر قدماي، وركعت لك حتى ينخلع صلبي، وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي، وأكلت تراب الأرض طول عمري، وشربت ماء الرماد آخر دهري، وذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيأتي. وإن كنت تغفر لي حين أستوجب مغفرتك، وتعفو عني حين أستحق عفوك، فإن ذلك غير واجب لي باستحقاق، ولا أنا أهل له باستيجاب، إذا كان جزائي منك في أول ما عصيتك النار، فأن تعذبني فأنت غير ظالم لي.

ولكن ما يعطى للإنسان، تارة يكون معلومَ الجذر لنا، كالعناية التي هي جذر العدل والحكمة، وأخرى يكون الجذر من الأسماء المستأثرة التي لا نعلمها، وهو التفضّل والمنة. فليس التفضّل جزافاً، إنما هو وفق قانون، لكن لا نعلم جذره الذاتي وحسب.

وبعبارة: إعطاء كل ذي قابلية ما هو مستعد له هي مرتبة متوسطة ومتوازنة، لا تصل إلى الظلم والحرمان من جهة، ولا إلى العبث والجزاف من جهة أخرى، وهذا الإعطاء له شكلان: شكل اسمه العدل والحكمة – وهو معلوم الجذر الذاتي وهي العناية -، وشكل اسمه التفضل – وهو غير معلوم الجذر الذاتي، بل هو مستأثر – ولكنّ كلاً من الشكلين هو مقنن ومنظم ولا جزاف فيه.

ص: 47

ص: 48

النقطة السادسة: الإبداع في الفعل الإلهي

تقدم في مبحث سابق(1) معنى الإبداع، وتبين أن معناه هو أن الله تعالى أوجد الأشياء من العدم، من غير أن يحتذي في إيجاده ذاك على مثال سابق في مادة أو عن مثال في صورة.

وهذا يُعتبر أحد أهم خصائص الفعل الإلهي، (ويتسم الإبداع بثلاث سمات:

الأولى: إيجاد الأشياء دفعة واحدة بغير مادة، وهو ما عبرت عنه بعض الروايات: لا من شيء.

والثانية: إيجاد الأشياء لا على مثال سابق.

والثالثة: إيجاد الأشياء بغير آلة ولا استعانة بشيء.)(2)

عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَعْيَنَ يَسْأَلُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ (بَدِيعُ السَّماواتِ والأَرْضِ) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ابْتَدَعَ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِعِلْمِه عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَانَ قَبْلَه، فَابْتَدَعَ السَّمَاوَاتِ والأَرَضِينَ ولَمْ

ص: 49


1- في الجزء الأول، تحت عنوان: بعض لوازم القدرة.
2- الحقائق والدقائق في المعرفة الإلهية للشيخ فاضل الصفار ج2 ص 10.

يَكُنْ قَبْلَهُنَّ سَمَاوَاتٌ ولَا أَرَضُونَ، أمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِه تَعَالَى: (وكانَ عَرْشُه عَلَى الْماءِ)(1)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في وصف الله تعالى: مُبْتَدِعِ الْخَلَائِقِ بِعِلْمِه ومُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِه، بِلَا اقْتِدَاءٍ ولَا تَعْلِيمٍ، ولَا احْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَكِيمٍ.(2)

ص: 50


1- الكافي للكليني ج1 ص 256 باب نادر فيه ذكر الغيب ح2.
2- نهج البلاغة ج2 ص 133.
النقطة السابعة: هل الظلم ممتنع ذاتاً على الله تعالى أو وقوعاً أو إنه غير ممتنع ولكنه لم يقع وحسب؟
اشارة

وفي الجواب عدة خطوات:

الخطوة الأولى
اشارة

لقد ثبت في مباحث التوحيد عموم قدرته تعالى وعدم تناهيها، وأنه تعالى لا يوصف بالعجز مطلقاً، ولكنّ هنا أمرين يمتنع أن يصدرا منه تعالى:

الأول: الممتنع الذاتي

كاجتماع النقيضين والضدين... وهذا لا دلالة فيه على العجز والمحدودية في الفاعل، إذ إن الممتنع هو لا شيء وعدم محض، فلا يتصور أن تتعلق به القدرة. فالمشكلة فيه لا في القدرة. وهذا ما تقدم بيانه في خصائص القدرة، فراجع.

الثاني: القابل المحدود القابلية

بحيث لا يتمكن من استلام الفيض أكثر من قابليته، والمشكلة هنا في القابل لا في الفاعل، كالإناء الصغير الذي ليست فيه قابلية أن يسع ماء البحر مثلًا.

ص: 51

ومن هذا يتبين: أن هذين الموردين (الممتنع الذاتي والقابل العاجز) خارجان تخصصاً عن عموم القدرة، وإذا ما تجاوزناهما فلا يبقى شيء إلا وهو داخل تحت عموم القدرة الإلهية.

الخطوة الثانية

إن الظلم هو حرمان المستعد مما هو مستعدٌّ له، وهو بهذا المعنى ممكن ذاتي. وإثبات إمكانه الذاتي يتم بأحد بيانين:

الأول: أن الظلم ليس من قبيل الممتنع الذاتي؛ إذ لا يلزم من حرمان المستعد محال ذاتي، ولا من قبيل العجز في القابل، إذ العجز فيه يتصور في الإعطاء لا في الحرمان. ومعه فيكون ممكناً.

الثاني: لو كان الظلم ممتنعاً ذاتياً عليه تعالى، لكان العدل واجباً ذاتياً عليه تعالى، والتالي باطل، فالمقدم مثله.

بيان بطلان التالي:

لو كان تعالى ملزماً بالعدل وكان واجباً عليه، للزم نفي الاختيار الإلهي. وهو محال.

الخطوة الثالثة

فالظلم إذن ممكن، ولكن هل هو واقع؟

اتفقت الكلمة على عدم وقوعه، على اختلاف في تخريج ذلك.

ص: 52

من جانب آخر، ليس شرطاً في القدرة أن توجِد كل ما تقدر عليه، بل نجد – حتى في أنفسنا – أن هامش القدرة أعم من المقدور، والفعل المقدور الذي تم إيجاده أخص من القدرة.(1)

وحينئذٍ نسأل: لِمَ لَمْ يفعل القادر كل ما يقدر عليه؟

ونجد الجواب فينا: أن هناك أسباباً عديدة، كالتسويف والعبث، وكالخوف من الفضيحة، والقانون، وبعض الصفات النفسانية الكمالية التي تمنع من صدور بعض الأفعال المنافية لها، كالعلم والحكمة والعقل والشرف والمروءة وغيرها، فهذه الأسباب وغيرها تجعلنا نوظف القدرة في إنجاز بعض الأفعال دون البعض الآخر.

وهذه الصفات النفسانية، وإنْ كانت راسخة في النفس وذات جذور عميقة فيها، ولكنها لا تمنع من صدور الفعل على نحو يمتنع صدوره، بل إن القدرة مع ذلك تبقى عامة لمثل تلك الأفعال وغير مسلوبة عن الإنسان، حتى يصدر الفعل ويصبح واقعاً ضرورةً... وأما قبل صدروه، فمهما كان الحافز على فعله وكيفيته فهو لا يتخطى القدرة، فبإمكانه أن لا يفعل حتى مع توفر كل مقتضيات الفعل، لا لشيء إلا لأنه قادر، وسيتم تفصيل الكلام في هذه النقطة في خطوة لاحقة إن شاء الله تعالى.

ص: 53


1- وقد تقدم بيانه في خصائص القدرة.
الخطوة الرابعة
اشارة

عرفنا أن القدرة الإلهية عامة لكل شيء، وعرفنا أنه تعالى لم يفعل كل مقدور، فلِمَ لمْ يفعل تعالى كل مقدوراته؟

إنه لا بد من مبرر لذلك، وفي المقام عدة آراء – مع اتفاق الجميع على عموم القدرة وأنه تعالى لم يفعل كل مقدور – نذكر منها رأيين:

الرأي الأول

أنه تعالى لم يفعل كل مقدور، أما أنه لماذا؟ فهذا ما لا يجوز لنا الخوض فيه، فإنه تعالى (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)(1)

ويكفي أن نعلم أنه تعالى لم يفعل كل مقدور، وما فعله فهو عدل وحسن، وما لم يفعله فهو ظلم وقبيح. ومن ثم لا يمكن أن نتنبأ للمستقبل وأنه سوف يفعل كذا أو لا يفعل كذا، ولا بد من الانتظار حتى نعرف ما سيفعله مما لا يفعله.

الرأي الثاني

إنه تعالى لم يفعل كل مقدور لوجود صفة أخرى (وهي العناية) فيه تعالى هي التي تحكم القدرة وتحدّدها فتوجب صدور بعض الأفعال، كما تمنع من صدور البعض الآخر، أي هي التي تجعل بعض الأفعال يجب ويلزم ومن الضروري أن يقع، وبعض الأفعال يمتنع أن يقع. فالأول ضروري الوقوع، والثاني ضروري العدم.(2)

ص: 54


1- سورة الأنبياء (23).
2- وقد تقدم بيان هذا الرأي بعبارة أخرى فيما تقدم في الجزء الأول: خصائص القدرة: الخصيصة الثالثة: إن القدرة محكومة للحكمة.
النقطة الثامنة: مستويات العدل
اشارة

من مجموع ما تقدم، انتهينا إلى أن العدل صفة كمال للفعل، وإن هامش القدرة الإلهية – بل والإنسانية – أوسع من الفاعل، والسؤال الآن هو:

هل العدل في الفعل هو خاص بالله تعالى أم أنه مطلوب من الإنسان أيضاً؟

الصحيح هو الثاني.

والملاحظ في كلمات الأعلام أن هناك مستويات ثلاثة للعدل في فعل الإنسان، وهي:

المستوى الأول: العدل الفقهي
اشارة

ويمثل هذا المستوى الحد الإلزامي الأدنى من العدالة المطلوبة من الإنسان في فعله، وقد اختلف في تعريفه:

أ- الالتزام بفعل الواجبات وترك المحرمات

ولذا تجد أن الدين قد اعتبر المعصية ظلماً ولو للنفس، مع الالتفات إلى أن أعظم الواجبات هو التوحيد، وتركه من أعظم الظلم، يقول تعالى

ص: 55

(... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(1)

ب- مَلَكة فعل الواجبات وترك كبائر المحرمات

فلا بد أن يتحول فعل الواجب وترك المحرم إلى الملكة، أي يتوفر على دافع ذاتي لفعل الأول وترك الثاني غالباً، وقيد (غالباً) إشارة إلى أن الملكة مهما رسخت فإنها لا تسلب الإنسان اختياره، وهذا يعني إمكان صدور المعصية من صاحب الملكة، ولكن بصعوبة، ولو حصل صدورها يعقبه الندم والشعور بالتقصير والاستغفار والعمل على التدارك و...

ج- ملكة فعل الواجبات وترك كبائر وصغائر المحرمات

وهو الذي جاء في كلمات البعض بأنه الاستقامة على خط الإسلام بنحو لا يرتكب صغيرة ولا كبيرة، على شرط أن تصبح تلك الاستقامة طبعاً له وعادة.

المستوى الثاني: العدل الأخلاقي (أو العدالة الكبرى)

وهي حالة التوازن بين قوى النفس الثلاثة، ببيان:

أن شخصية الإنسان مركبة من ثلاث قوى متضادة نوعياً، وهي:

أ – الشهوة: ومهمتها الدعوة إلى جلب المنافع.

ب – الغضب: ومهمتها دفع الضرر.

ص: 56


1- سورة لقمان(13).

ج - العقل: ومهمته تمييز الضار من النافع حيث يختلط الأمر ويشتبه.

ولكل واحدة من هذه القوى أصناف وفروع، وهي بمجموعها عرضة للتوازن والإفراط والتفريط، وينتج عن ذلك:

القوة = التوازن = الإفراط = التفريط

الشهوة = عفة = شره = خمود أو خمول

الغضب = شجاعة = تهور = جبن

العقل = حكمة = جربزة = غباء

وهذه القوى متضادة (على نحو الإفراط أو التفريط) من ناحيتين:

ناحية التضاد بين فروع وأصناف القوة الواحدة.

وناحية تضاد القوى الثلاثة الرئيسية بعضها مع البعض الآخر.

فقد تسيطر الشهوة على العقل، بحيث لا تعطي للعقل ما يستحقه، وقد يسيطر العقل على الشهوة بحيث لا يعطيها حقها.

وقد تتوازن هذه القوى بعضها مع البعض الآخر، فيجمع الإنسان قدراً معقولاً من كلٍ من العفة والشجاعة والحكمة، وتصبح كفريق عمل واحد، كلٌ يعمل ما عليه، ولا يتعدى على ما للآخر من حق، وهو ما يسمى (بالعدالة الكبرى، أو العدل الأخلاقي)، وفيها يكون العقل هو الحاكم على بقية قوى النفس.

وقد روي في بيان تلك العدالة، عن شعيب العقرقوفي، عن الصادق

ص: 57

جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب، وإذا اشتهى، وإذا غضب، وإذا رضي، حرم الله تعالى جسده على النار. (1)

والمهم أن التوازن لا يحصل بمجرد فهم مخطط التوازن، فكم وكم من يعلم طبيعة التوازن إلاّ أنه غير متوازن تطبيقياً، فالمهم أن يعقب الفهمَ التطبيقُ، والتطبيق لا يتأتى بمجرد قرار، بل يحتاج إلى برامج تساعد النفس على أن تكون متوازنة واقعياً.

ويأتي فعل المستحبات وترك المكروهات وإقامة الشعائر، بالإضافة إلى تنظيم التصورات والإدراكات في سياق تغذية حالة التوازن.

والحاصل:

أن كل قوة من القوى ليست فضلة وزيادة لا نفع فيها للنفس، بل هي من حيث المبدأ وجود ذو مردود إيجابي على النفس، ومن ثَمّ لم يكن مشروع العقل العملي الإيجابي هو قمع القوى واستئصالها وتفرده بالميدان؛ حيث ينتهي ذلك بالحرمان من المنافع التي يمكن أن تكتسب من تلك القوتين، لنخلص إلى أن التفريط بها غير منهجي.

تماما كما كان الإفراط بها على حساب العقل أيضاً غير منهجي، وإنما المطلوب هو التوازن بينها، بحيث يكون العقل هو القائد، وهو يقوم بإعطاء كل قوة حقها بلا إفراط ولا تفريط.

ص: 58


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 408 ح (527 / 7)

وفكرة التوازن يمكن أن تُلتقط من تشريعات السماء، فتشريع النكاح دليل على عدم توجه الشريعة إلى التفريط بقوة الشهوة الجنسية، وتحريم السفاح دليل على أن الشريعة لم تُرْخِ العنان للجنس، بل وضعت له محدِّدات يمثل عبورها إفراطاً في عمل قوة الشهوة الجنسية.

وأيضاً تشريع الجهاد دليل عناية المشرِّع بقوة الغضب، وعدم التعامل معها كوجود زائد لا فائدة منه، كما أن تحريم القتل عدواناً (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)(1) يمثل تحديداً في إعمال قوة الغضب وعدم السماح لها بالتمادي.

إن شريعة السماء، بل عموم الشرائع نحت منحى التوازن في عمل القوى، فلم تدْعُ إلى الإفراط أو التفريط في الشهوة والغضب، وهو منطقي بعد أن كانت النفس بحاجة إلى قوتي الشهوة والغضب في إدارة مملكة النفس، فكان المنهجي توظيفهما جنوداً لدى العقل العملي في مهمته.

لم تدْعُ الشريعة إلى كبت، أو إلى قتل، أو إلى إقصاء، أو إلى اقتلاع قوة من قوى الشهوة والغضب، بل تعاملت مع الكل على أنها قوة مفيدة، ولكن من دون فتح الباب على مصراعيه، بل ضمن محددات.

إذن، الفضيلة ليست في ترك القوة سائبة تأخذ راحتها بما تطلب، وهو واضح، كما أن الفضيلة ليست في ترويض النفس بحد ينتهي بقتل قوة من

ص: 59


1- المائدة (32).

القوى، كما تصنع بعض الرياضات، بل الفضيلة في الاستفادة من كل قوة بحد معقول لا يؤثر على عمل بقية القوى، وهو التوازن، وهو تعبير آخر عن عمل القوى كفريق متجانس بإدارة العقل العملي بهدي العقل النظري باختيار الإنسان ذلك.تنبيه:

أكدت بعض الروايات على أن فعل المستحبات وترك المكروهات يمثل حريماً لإيمان المؤمن وحاجزاً واقياً له، ومن هنا قيل بأنه يشكل على الإنسان أن يعمل بالواجبات ويترك المحرمات فقط، أي من دون أن يفعل أي مستحب أو يترك أي مكروه، ففعل المستحبات وترك المكروهات في الجملة فيه جنبة إلزام على المستوى الأخلاقي على الأقل، وهذا أمر يحتاج إلى متابعة فقهية.

المستوى الثالث: العدل الاجتماعي

يُمكن تصوير هذا المستوى بالآتي:

هذا العالم بتنوعه وسعته عبارة عن إنسان بحجم كبير، بمعنى أن فيه قوى الشهوة والغضب والعقل. ولكنها موزعة على الشرائح الاجتماعية، والعدالة الاجتماعية عبارة عن العدالة الأخلاقية لكن في المجتمع لا في الفرد، فالمجتمع المتوازن في هذه القوى فيه عدالة اجتماعية، أما المجتمع المستبد، فهو ما تحكمت فيه قوة الغضب، وأما المجتمع الذي أباح الشذوذ الجنسي مثلاً، فهو ما تحكمت فيه قوة الشهوة... وهكذا

ص: 60

وقد دعا القرآن الكريم إلى هذا المستوى من العدل في العديد من الآيات القرآنية، وأشار إلى أن هذا المستوى هو هدف إرسال الأنبياء، قال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(1)

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)(2)

وقد أشار في بعض الآيات إلى بعض شروط تلك العدالة، والتي من أهمها الإيمان والتقوى، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)(3)

هذا، وقد وعد بتحقيق العدالة الاجتماعية على الأرض بظهور مهدي آل محمد (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) مشيراً إلى واحدة من أهم بركات ظهوره، ألا وهي العدالة الاجتماعية. قال تعالى (وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(4)

ص: 61


1- سورة الحديد(25).
2- سورة النساء(58).
3- سورة الأعراف(96).
4- سورة النور(55).

ص: 62

النقطة التاسعة: الحق وإطلاقاته
اشارة

من أسماء الله تعالى التي جاء التصريح بها في آيات عديدة هو اسم (الحق)، والحق (يدل على إحكام الشيء وصحته، فالحق نقيض الباطل)(1)

وإذا استعمل الحق اسمًا لله تعالى، فهو يأتي بمعنيين:

المعنى الأول: صفة ذاتية

فالحَقُّ: (من أسماء اللهِ تَعالَى، أو من صفاتِه قالَ ابنُ الأثِيرِ: هو المَوجُودُ حقيقةً، المُتحَققُ وجُودُه وإلهِيته)(2) بمعنى أنه تعالى موجود ووجوده عين ذاته لا أنه شيء مفاض عليه من علة أخرى.

قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ)(3)، وقال تعالى (فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)(4)

ص: 63


1- معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (حق)
2- تاج العروس للزبيدي مادة (حقق).
3- الحجّ: 6 وراجع: الحجّ: 62 والكهف: 44 ولقمان: 30 وفصّلت: 53.
4- المؤمنون 116
المعنى الثاني (وهو المقصود هنا في بحثنا في العدل الإلهي): إنه صفة فعلية
اشارة

بمعنى أنه تعالى عندما يفعل فعلًا ما، فإن فعله الحق، أي الفعل المتقن الذي لا خلل فيه ولا عوج معه، فلا نقص ولا عبث ولا جزاف ولا باطل ولا ظلم في فعله، لأن كل هذه الصفات هي خلاف الحق.

وإليه الإشارة في العديد من الآيات، ومنها:

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ).

(واللهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيء إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

(مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ).

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَبِ لَفِي شِقَاقِ بَعِيد).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).

وهنا إشارتان:

الإشارة الأولى: إطلاقات الحق
اشارة

بمتابعة الكلمات اللغوية يمكن أن نتعرف على إطلاقات (الحق)، وهي التالي:

ص: 64

الإطلاق الأول: الحق بمعنى الواقع

أي الواقع الخارجي نفسه، فهو حق وواقع وموجود، خلافًا لمنكري الواقع، على اختلاف مشاربهم –من إنكار الواقع بالجملة أو إنكار بعض الواقعيات كإنكار الوجود المجرد، أو إنكار إمكان التعرف عليه-.

وهذا المعنى يصدق على الذات المقدسة، إذ إن الله تعالى موجود حقيقة وواقع لا يقبل النفي كما دلت عليه الأدلة العقلية القطعية.

الإطلاق الثاني: الحق بمعنى الاعتقاد المطابق للواقع

حتى يتبين معناه نذكر التالي:

أ: إننا وبعد الاعتراف بأن هناك واقعاً، يأتي السؤال: هل يمكن أن نُدرك الواقع أو أنه مغلق علينا؟

المدرسة الواقعية على إمكان التعرف على الواقع بالوجدان.(1)

ب: إن الواقع الحقيقي الخارجي واحد لا يقبل التعدد، فالجو الآن إما ممطر أو غير ممطر، وزيد إما جاء من السفر أو لا، وهكذا في كل الواقعيات. وإنما يقع الخطأ حينما نحكم على الواقع بغير الحكم الحقيقي الواقعي فعلًا.

ج: ومعه، فيكون الاعتقاد المطابق للواقع هو الثابت والمتحقق، وهو ما يُطلق عليه الاعتقاد الحق، أما إذا كان الاعتقاد غير مطابق للواقع، فهو باطل وغير ثابت وغير متحقق.

ص: 65


1- وهذا ما تمت الإشارة إليه في بداية هذه الدروس.

(يعني أن بعض اعتقادات الأفراد تكون (حقة) ومطابقة للواقع، وبعضها تكون باطلة ولا تطابق الواقع...)(1)

فالاعتقاد بوجود الله تعالى هو اعتقاد مطابق للواقع، فيُقال عنه: إنه اعتقاد حق، والاعتقاد بألوهية فأر أو ثور هو اعتقاد باطل ومخالف للواقع.

قال تعالى (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ)(2)

الإطلاق الثالث: الحق بمعنى الكلام المطابق للواقع

فالحق (هو الكلام المطابق للواقع، فالكلام يختلف عن الاعتقاد، لأن الاعتقاد أمر يرتبط بالقلب، أما الكلام فهو من سنخ اللفظ ويرتبط باللسان، فمن الممكن أن يقول شخصٌ كلامًا وهو لا يعتقد به، فالاعتقاد والكلام يختلفان من هذه الجهة...)(3)

وعادةً ما يُطلق على الكلام المطابق للواقع بأنه كلام صادق، وعلى غير المطابق بالكاذب.

وهذه المعاني الثلاثة كلها ناظرة إلى الواقع ومطابقته اعتقادًا أو كلامًا فيكون حقًا، أو عدم المطابقة فيكون باطلًا.

ص: 66


1- النظرية الحقوقية في الإسلام للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ج1 ص 69.
2- يونس (32).
3- النظرية الحقوقية في الإسلام للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ج1 ص 70.
الإطلاق الرابع: الحق بمعنى الفعل الحكيم

فالحق يُطلق ويراد منه (الفعل الصادر من شخص حكيم وله هدف لائق رفيع، وفي المقابل يُطلق على الفعل الذي ليس له مثل هذا الهدف اسم اللهو أو اللعب أو اللغو أو الباطل)(1)

وهذا الإطلاق يصح على فعل الله تعالى، ففعله جل وعلا حقٌ بمعنى أنه فعل من حكيم وله هدف. وهو ما أكّدته الآيات العديدة التي ذكرنا بعضها قبل قليل.

الإطلاق الخامس: الحق الاعتباري (بمعنى الاستحقاق)

وهو الذي يكون للدائن على المدين مثلًا، أو للأب على أولاده مثلًا، فيكون هناك صاحب حق، ويلزم على الآخر أن يؤدي له حقه.

وهذا المعنى هو ما تقدم في المعنى الثالث للعدل، وقلنا: إنه لا يمكن أن نتصوره مع الله جل وعلا، إذ ليس للإنسان أي حق على خالقه جل وعلا، وبالتالي فليس معنى كونه تعالى عادلًا هو أنه يُعطي لكل ذي حق حقه، إذ لا حق لغيره عليه.

الإشارة الثانية: ما هو منشأ الاستحقاق؟
اشارة

هذه الإشارة متعلقة بالإطلاق الخامس للحق (الاستحقاق)، فكيف يُصبح لي حقٌ عليك أو بالعكس؟ هذا ما يحتاج إلى منشأ، فما هو منشأ الحقوق

ص: 67


1- النظرية الحقوقية في الإسلام للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ج1 ص 70.

التي عليها انتظمت أمور الحياة كما هو الملاحظ وجدانًا؟

منشأ الاستحقاق

الاستحقاق مشتق من الحق، والحق شيء يرجع معناه إلى درجة من الملك الضعيف، باعتبار أن الملك من المفاهيم المشككة ذات الدرجات والمراتب:

فهناك ملك قوي، وهو الملك التكويني، كملك الإنسان لأعضاء بدنه، وملك الله تعالى لمخلوقاته.

وهناك ملك متعارف، تقول: أنا أملك هذا البيت، أنا أملك هذا الكتاب، وكذا.

وهناك ملك ضعيف، كملك حق الشفعة والنفقة وما شابه.فالاستحقاق إذن فرع الملكية، ومعه، فكيف نشأت شبكة الاستحقاقات المتبادلة في الحياة؟

الجواب: ضمن عدة خطوات

أ: إن الإنسان موجود فقير محتاج في هذه الحياة، فهو خرج في هذه الدنيا ووجد نفسه انه لا يستطيع أن يسدّ جميع احتياجاته ويلبيها لوحده، فإن عمره أقصر من أن يُتقن كل شيء، وقدراته محدودة جدًا، وبالتالي فهو فقير بمعنى الكلمة.

ب: ولذلك، فقد نشأت الحاجة من الفرد إلى أن يستعين بالآخرين من أفراد نوعه، وبالتدريج عمل الإنسان على تقسيم الأعمال فيما بين الأفراد،

ص: 68

لينشأ مفهوم التخصص في العمل، وكلُ فرد مطلوب منه أن يُتقن تخصصه ويُقدم الخدمات في مجاله الخاص.

ج: إن هذا العطاء للآخر –حينما يستعين الآخر بالفرد- لم يكن مجانيًا، وإنما هو يولّد (المديونية) على الآخر، فعندما يُقدم لي أبي النفقة مثلًا، فقد أصبحتُ مديونًا له إزاء هذه الخدمة التي قدّمها لي، أي إنه مَلَك في ذمتي ما يُقابل عطاءه له، وهذا هو (الاستحقاق).

من هنا نفهم: أن الاستحقاق هو نوع من أنواع (السلطنة والملك)، وأنه نشأ أصلًا من (الحاجة) والعجز من طرف محتاج إلى آخر مستغنٍ من هذه الجهة، فالحاجة والعجز يؤديان إلى الطلب من الآخر ليكون الآخر فيما بعد صاحب حق عليّ، والعكس بالعكس، عندما يكون الآخر محتاجًا إليّ.

وهذه الحاجة قد استغرقت كل أفراد البشر، لذلك كان لا بد من القانون لينظم هذه الحقوق المتبادلة، وليمنع الاستغلال والفوضى والاستخدام من طرف واحد من دون وفاء للطرف الآخر. فجاء القانون لينظم (حق الحياة) و (حق النفقة) و (حق السكن) و (حق المواطنة) وما شابه.

وباختصار: الاستحقاق ناشئ من المديونية، والمديونية تفرز إلزامًا على الطرف المحتاج إلى الآخر. وكل ذلك نشأ من الحاجة إلى الآخر ومحدودية المحتاج.

ص: 69

إذا اتضح هذا نقول:

لا شك أن هناك شبكة من الاستحقاقات المتبادلة بيننا نحن بني البشر، ولكن هل يوجد استحقاق لنا على الله تعالى؟

الجواب:

قد ثبت أننا محتاجون إلى الباري جل وعلا حدوثًا وبقاءً، في أصل وجودنا وفي اتصافنا بالصفات وفي أفعالنا كذلك، ونحن ملك تكويني له جل وعلا، وهو تعالى غني مطلق عن العالمين، وهذا يُنتج بكل وضوح: أنه لا استحقاق مطلقًا لنا عليه جل وعلا.

بل الأمر بالعكس تمامًا، فإن له تعالى كل الاستحقاقات علينا، إذ كل ما عندنا هو منه جل وعلا، فنحن مدينون له بكل وجودنا، وكونه تعالى غنيًا مطلقًا ينفي حاجته إلينا، ولكنه لا ينفي استحقاقه علينا، لذلك لزمنا أن نوفي له حقه بالمقدار الممكن لنا.

من هنا، يمكن أن نفهم ما روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق من قوله: (اعلم رحمك الله: أن لله عليك حقوقًا محيطة بك في كل حركة تحركتها، أو سكنة سكنتها أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلّبتها وآلة تصرّفت بها، بعضها أكبر من بعض. وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقِّه الذي هو أصل الحقوق ومنه تفرع...)(1)

فأصل الحقوق هو حق الله تبارك وتعالى، إذ هو استحقاق من طرف

ص: 70


1- تحف العقول للحراني ص 255.

واحد، هو الطرف الغني المطلق، باتجاه الطرف الفقير المطلق.

أما الحقوق التي بيننا فهي حقوق بمقتضى ما أمرنا الله عز وجل بأدائه إلى الآخرين، فمنشأ وجوب النفقة على الزوجة والأولاد مثلًا هو أمر الله تعالى، ومنشأ حق الحياة للآخر هو أمر الله تعالى باحترام حياته، أما إذا أجاز الله تعالى سلب حق الحياة من الآخر فهو جائز لنا بلا أدنى ريب، كما هو الحال في الحيوانات والنباتات، إذ لنا الحق في قتلها وسلب حياتها وفق القانون الشرعي الذي أجازه الله تعالى لنا، ولذا يجوز لنا أكل المحلّل منها وإن استلزم إزهاق روحه.

إذن: الاستحقاق موجود من طرف الله تعالى بإزاء عبيده في كل شيء، لأن العبد محتاج حدوثًا وبقاءً، ذاتًا وصفة وفعلًا، مما يعني أن العبد مدين في كل شيء لله تعالى، وهو تعالى غني مطلق، فلا يملك العبد عليه شيئًا مطلقًا، فليس هناك أي استحقاق من جهة العبد نحو الله تعالى بمعنى المديونية، ولو كان هناك حق للعبد على الله تبارك وتعالى فهو من باب اللطف والكرم والجود من الله تعالى، لا من باب الاستحقاق.

نعم، الله عز وجل تعامَلَ معنا على أننا أصحاب حق معه، رغم أننا لسنا كذلك، كما تقدم بيانه.

ص: 71

ص: 72

النقطة العاشرة: نتائج مناهج التفكير لدى الأشاعرة والمعتزلة والإمامية
اشارة

يمكن استخلاص ثلاثة مناهج للتفكير، أنتج كل منها نتائج متعددة، خصوصًا فيما يتعلق ببحث الفعل الإلهي:

نتائج المنهج الأول: للأشاعرة

وقد انتهى إلى المقولات التالية:

1 – لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى، والذي يسمى بالتوحيد الفاعلي، أو التوحيد في الخالقية. وهو المستنبط من قوله تعالى (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(1) وأمثاله.

2 – أن العبد مجبر في أفعاله، ولا يملك اختياراً ولا إرادة ولا قدرة على فعله أو عدمه، وهذه المقولة جاءت كنتيجة طبيعية للمقولة الأولى، إذ ما دام الخالق الوحيد لكل شيء – بما في ذلك فعل الإنسان – هو الله تعالى، فالعبد إذن مجبر على أن يفعل أو لا يفعل. وهو مجرد محل لصدور الفعل لا أكثر، وإلا كان شريكاً له تعالى في الخالقية.

ص: 73


1- سورة الزمر (62).

3 – إنكار الحسن والقبح الذاتيين للأشياء. فالأشياء إنما تكتسب قيمتها من فعله تعالى لها، فما فعله كان حسناً، وما لم يفعله كان قبيحاً. وهو ما عبّرنا عنه سابقاً بأن الفعل يكون (مقنِّناً) بصيغة اسم الفاعل.

وينبغي الالتفات إلى أن واحدة من النتائج المترتبة على هكذا مقولة هي محاولة تمرير ظاهرة ثابتةً قرآناً وسنةً، وهي ظاهرة عقوبة العاصي، فالفعل – المعصية مثلاً – ليس فعل العبد – وإلا لزم الشرك – بل هو فعل الله تعالى، وحينئذٍ لو عاقب المطيع أو أثاب العاصي فهو فعل حسن لأنه تعالى فعله، وإن كان العبد مجبراً على فعله. وسيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى.

4 – أن كل ما يفعله تعالى فهو عدل، حتى وإنْ كان مثل إدخال الأنبياء النار أو إبليس الجنة، فليس هناك ظلم منه تعالى، وإن قالوا: إنه تعالى لم يقع منه ذلك، ولكنه أمر ممكن عندهم، فلو فعله تعالى فهو حسن وإن كان العقل يحكم بقبحه.

5 – أن أفعال الله تعالى لا تُعلَّل بالأغراض، إذ السؤال عن الغرض فرع القانون السابق الذي يحكم الفعل، وحيث لا قانون سابقًا على فعل الله تعالى، فلا غرض فيه. بمعنى أنه لا يجب أن يكون لفعله تعالى غرض نافع أو هدف محدد، فلو فعل ما لا غاية عقلائية فيه، أو ما فيه عبث وجزاف، بل لو فعل ما هو ظلم، فلا إشكال من هذه الناحية.

6 – إنكار ضرورة وجود المصالح والمفاسد في الأحكام الشرعية أو المتعلقات، بل المصلحة هي نفس الفعل وإن كان عبثيًا أو جزافيًا، فلا يوجد

ص: 74

أساس سابق على الفعل يكون الفعل مستندًا إليه ومعتمدًا عليه، كما قال الإمامية بأن هناك مصالح واقعية كانت هي السبب في الأمر الإلهي، وأن هناك مفاسد واقعية كانت هي السبب وراء النهي الإلهي.

وهذا المنهج وإن قبل العدل الإلهي، لكنه قبله على أساس أن الفعل هو الذي يؤسِّس للعدل لا أنه مؤسَّس على العدل.

نتائج المنهج الثاني: للمعتزلة

ومقولاته هي:

1 – أنه تعالى خالق كل شيء عدا فعل الإنسان. إذ إن فاعله هو الإنسان حصراً، ولا مدخلية لله تعالى فيه.

2 – وهذه المقولة أنتجت ما يسمى ب- (التفويض)، الذي هو عبارة عن الإيمان باختيار الإنسان بشكل مفرط بحيث أنه لا علاقة لله تعالى به، إلا بحدود إيجاد قوة الاختيار وحدوثها. فالله تعالى يوجد الإنسان ويعطيه صفة الاختيار، ثم يرفع يده عنه، بحيث لا يتدخل بعده في أي فعل من أفعال الإنسان، بل بعضهم ذهب إلى أنه تعالى غير قادر على أن يتدخل في تغيير فعل الإنسان!

ومن الواضح أن هذه المقولة تعني تحديد قدرة الله تعالى، وقد حمل القرآن على هذه المقولة في قوله تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ

ص: 75

وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء...)(1)

3 – الإيمان بالحسن والقبح في فعل الإنسان، فهناك قيم ذاتية للأفعال على أساسها يتم تقسيم الفعل الإنساني إلى حسن وقبيح، فهناك أساسات واقعية للحسن والقبح بحكم العقل بها، ولو لم تكن هناك شريعة.

4 – وقد قاس أصحاب هذا المنهج الفعل الإلهي على الفعل الإنساني، وعمّموا الحسن والقبح إلى الفعل الإلهي. فهناك أساسات واقعية على أساسها يفعل الله تعالى، وهي الملاكات الواقعية للأفعال الإلهية.

5 – وعليه، فالعدل هو ما ينبغي للإنسان أن يفعله. وما ينبغي لله تعالى أن يفعله.

6 – أن فعله تعالى معلَّل بالأغراض، فما دامت هناك أساسات للحسن والقبح، إذن، هو تعالى يفعل لغاية وغرض وهدف، ولا يفعل أمرًا عبثًا أو جزافًا أو ظلمًا.

7 – تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد كما تبين.

والملاحظ أن هذا المنهج أخذ المنحى المعاكس تماماً للمنهج الأول.

نتائج المنهج الثالث: للإمامية

ومقولاته هي:

1 - لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى، فكل شيء – بما في ذلك فعل

ص: 76


1- سورة المائدة(64).

الإنسان الاختياري – هو خاضع لقدرته تعالى وإرادته.

2 – ولكن لا بحدِّ الجبر وسلب إرادة الإنسان كما قال المنهج الأول. ولا بحدِّ الاستغناء عن الله تعالى وعدم قدرته تعالى على التدخل كما قال المنهج الثاني، بل بحدِّ الأمر بين الأمرين.

3 – الإيمان بالحسن والقبح العقليين في فعله تعالى، فالفعل الإلهي (مقنَّن) بصيغة اسم المفعول، أي إن الفعل الإلهي يعتمد على أساسات سابقة، هي الأصل والأساس لفعله تعالى.

4 – قبول العدل الإلهي، فما فعله تعالى إنما فعله لأنه وجده حسناً وعدلاً سلفاً، وما لم يفعله لم يفعله لأنه تعالى وجده قبيحاً وظلماً سلفاً.

5 – أن أفعاله تعالى معللة بالأغراض.

6 – تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

ملحوظة:

يبدو أن الرؤية المنسوبة إلى الأشاعرة اُبتُليت بأمرين:

1/ الضعف العقلي.

2/ التعامل مع القرآن الكريم بطريقة انتقائية، (لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون) مع التعامل مع ظاهر الآيات بدون ربطها ببقية الآيات والروايات الواردة في نفس الموضوع.

مع التنبيه على أن جميع الفرقاء اتفقوا على أنّ ما فعله تعالى فعلًا هو الحسن

ص: 77

والعدل، لا القبيح والظلم، وأنه تعالى لم يفعل قبيحًا ولا ظلمًا، ولكن الخلاف في الإمكان، فالأشاعرة على أنه تعالى يمكن أن يفعل القبيح، ولو فعله حينئذٍ صار حسنًا، أما نحن فنقول: إنه تعالى لا يمكن أن يفعل القبيح، لا لأنه لا يقدر عليه، وإنما لأنه حكيم، والحكيم لا يفعل القبيح ولو كان قادرًا عليه، كما سيتبين أكثر إن شاء الله تعالى.

فالفرق أننا نقول: هو حَسَن ففَعَله، وهم يقولون: فَعَلَه فهو حسن. ولو كان في واقعه قبيحًا.

فالنقاش الحقيقي إذن ليس في ما صدر فعلًا من الفعل الإلهي، وإنما في الإمكان، أما ما صدر فعلًا منه تعالى فالكل متفق على أنه حسن لا قبيح.

ص: 78

النقطة الحادية عشرة: لماذا لا يصدر الفعل؟
اشارة

إن صفات الله تعالى لا متناهية، أي لا حد لكمالاتها، وهي التي تؤسس لصدور الفعل، إذ الذي يؤسس لصدوره هي صفات العلم والقدرة والحكمة و... وحيث إنها كاملة بكمال لا متناهي، إذن لا نقص في فعله أبدًا، ولو كان خلل فهو في القابل لا في الفاعل، إذ إنما يكون الإشكال في الفاعل لو كان محدودًا، كأن يكون جاهلًا في جهة معينة، أو يكون جاهلًا في مكان معين، أو عاجزًا في مكان معين، والحال أن الواجب جل وعلا هو لا متناهي من كل الجهات، وحينها:

فعدم صدور الفعل يكون لأحد أسباب ثلاثة:

1/ أن يكون الفعل ممتنعًا بالذات، فيكون لا شيء، فلا يكون متعلقًا للقدرة، لأنه عدم وبطلان وهلاك. فلو أُريد خلقه، فإن وُجد، فهو ليس ممتنعًا بالذات، وهو خلف، وإن لم يوجد، فهذا معناه أن الخلل فيه.

ومن هذا القبيل ما روي عن عن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز،

ص: 79

والذي سألتني لا يكون.(1)

2/ أن يكون الفعل ممكنًا، لكن القابل فيه مشكلة ما، كالبذرة التي تلقيها في أرض غير صالحة للزراعة، فالخلل في الأرض لا في البذرة. فرغم وجود الإمكان، لكن الأرض تحتاج إلى إصلاح. (فقدان شروط قابلية القابل، فالقابل يحتاج إلى شروط، لو لم تتوفر فلا يوجد أو لا يتصف)

فالسفسطائي مثلًا يمكنه أن يصل إلى القطع بالواقع، وإنما يمانع من وجود الواقع مثلًا لوجود شبهة عنده.

وهنا سؤال: هل شرطٌ في القدرة كي تكون قدرة واقعية وحقيقية أن تمارس المقدور؟ أو إنه يمكن لجملة من المقدورات أن لا يمارسها القادر مطلقًا رغم قدرته عليها؟

الجواب: من الواضح أنه لا يشترط ممارسة جميع المقدورات، فلا القدرة تتقوم بذلك، ولا إثبات وجود القدرة متوقف على ذلك.

فليس شرطًا في القدرة كي تكون قدرة أو كي تثبت القدرة -في جميع الحالات- أن يمارس القادر المقدور كله.

والوجدان أوضح شاهد، فأنت ترى نفسك قادرًا على الكثير من الأمور، ولكنك لا تفعلها، بل ربما لا تفكر في أن تفعلها.، الفعل هو ترجمة للقدرة، وليس هو المثبت لها، نعم الفعل ينفع لإثبات القدرة في بعض الحالات، [أي

ص: 80


1- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 130 باب القدرة ح9.

إنه لأجل إثبات وجود القدرة على الفعل قد يحتاج القادر إلى أن يفعله حتى يثبت أنه قادر عليه]، وإلا فالصفة الذاتية لا يتقوّم وجودها وإثباتها بأثرها.(1)

3/أن لا يكون الشيء ممتنعاً بالذات، ولا مشكلة في القابل، ولكن مع ذلك لم يفعله القادر، فهنا يأتي السؤال: لماذا لم يفعله؟

لننظر إلى عدم صدور الفعل فينا أولًا

هنا احتمالات:

أ: أن لا يفعله لأجل المحدودية في القدرة.

أي وجود قوة تجبره على عدم إصدار الفعل.

ب: أن لا يفعله لأجل الجزاف واللعب والفوضى واللهو.من دون وجود قوة تجبره على عدم الفعل، رغم وجود كل العوامل المنطقية لصدور الفعل، ولكنه لا يفعله عبثًا...

ج: أو للأنانية أو التعصب أو النزعة القبلية.

وغيرها من الأمور التي تدخل تحت (الظلم) ومنطق الحرمان والسلب.

د: أو لأجل التراخي في عدم الفعل.

بحيث يصل إلى مرحلة لا يستطيع بعدها أن لا يفعل (وهو أشبه بالجبر) بأن يصل إلى نقطة اللا عودة. كمن يأخذ قرارًا باختياره، ولكنه بعده لا

ص: 81


1- وهذا كله تقدم في خصائص القدرة، فراجع.

يستطيع أن يتراجع عنه، أشبه بالمسبّب التوليدي، كمن رمى حجرًا، فبعد رميه للحجر لا ينفع الندم، ولا يستطيع أن يلغي الرمي...

وهذه الفرضية لا تخلّ باختيار الإنسان، إذ إنه وصل إلى نقطة اللا عودة، وإن كانت بداية الفعل باختياره. فالإنسان هنا لمحدودية اختياره يفقد اختياره (إذ بداية الفعل بيده لكن النهاية ليست بيده).

القانون أعطى معادلًا لهذه الحالة: وهو قانون تحميل مسؤولية الفعل (المسبب التوليدي)، رغم فقدان اختياره، لكن هذا الفقدان كان بسببه واختياره، فإذا رميت أحدًا من شاهق، ثم ندمت على ذلك قبل أن يرتطم بالأرض، فهذا الندم لا ينفع، وأنت تتحمل مسؤولية القتل وهذا الفعل، بل القانون الشرعي قال: أيما عبد من عباد الله سن سنة هدى كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وأيما عبد من عباد الله سن سنة ضلال كان عليه مثل وزر من فعل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.(1)

فالإنسان يتحمل آثار فعله الذي لا يستطيع أن يتراجع عنه، لأن بدايته باختياره، وهذا بسبب محدودية القدرة والاختيار. ولذلك فالعقل يحكم بضرورة التأمل بالفعل قبل صدوره وخروجه عن محوّطة القدرة. ومن هنا اكّدت العديد من النصوص على ضرورة التأني في الأمور وعدم الاستعجال بها حتى لا يقع المرء فيما لا تُحمد عقباه، فقد روي عن أبان بن تغلب قال:

ص: 82


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 132 والرواية عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام).

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مع التثبت تكون السلامة، ومع العجلة تكون الندامة، ومن ابتدأ بعمل في غير وقته كان بلوغه في غير حينه.(1)

وكل هذه الأسباب تعبر عن (محدودية في القدرة) فالعبث والظلم والعجز... كله يعبر عن محدودية في القدرة.

ه: أن لا يفعل للجهل.

و: أن لا يفعل (أو يفعل) لحكمة عند الإنسان.

فالحكمة (صفة كمالية ذاتية) هي التي تحدّ من القدرة، بلا عامل خارجي يجبره ولا عبثًا ولا ظلمًا ولا جهلًا... فالحكمة هي التي تقول: لا يجب فعل كل مقدور. فالقادر فيه صفات كثيرة، ولكن توجد صفة بين الصفات هي حاكمة على بقية الصفات، وهي التي ستكون المفتاح والمنظّم للفعل.

إن تنظيم الصفات وممارساتها يكون تبعًا للصفة الحاكمة على بقية الصفات. أي إنه تابع لمعادلة الصفات النفسانية، فالحكمة مثلًا هي الحاكمة في صفات الفعل الإنساني، وهذا يحكي عن نوع من التوازن بين الصفات، رغم أنه يحدّ القدرة. كالتاجر الذي يستطيع أن يقوم بالكثير من العقود التجارية لكنه لا يفعلها لحكمة ما، فهو الذي يحدّد قدرته لحكمته، فهذا لا يخلّ بالقدرة، ولذلك فتحديد القدرة بالحكمة مورد للمدح لا للذم كما كان تحديد القدرة بالظلم أو العبث وما شابه مما تقدم.

ص: 83


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 100.

هذا فينا.

أما في الله تعالى، فالأسباب الخمسة الأولى كلها تحكي عن نقص كما اتضح، والله عز وجل لا محدود القدرة، فينحصر الأمر بأنه لا يفعل أو يفعل عن حكمة، فالحكمة فقط هي ما تحدد القدرة الإلهية(1)، وهذا يحكي عن التوازن في الصفات، وهو كمال في حدّ نفسه رغم أنه يحدد القدرة، لكنه تحديد كمالي لا نقص فيه. فهذا هو الكمال المطلق.

فالفاعل ما زال قادرًا على الفعل وزمامه بيده إلى آخر لحظة، ولكنه قد لا يفعل بعض الأفعال التي يقدر عليها لأجل حكمة هو يراها بعلمه اللامتناهي.

ص: 84


1- هذا على رأي فلسفي، وهناك رأي فلسفي آخر يقول بأن المحدِّد هو الاختيار الإلهي لا غير، نعم، نحن نعلم أنه تعالى لا يختار إلا ما هو حكيم، وتفصيله في محله.
النقطة الثانية عشرة: القوانين التفضيلية للإنسان
اشارة

شاء الله عز وجل أن يجعل العالم يسير وفق نظام العلة والمعلول، وبقوانين ثابتة تكوينية، لتنظيم الكون عمومًا، وبالإضافة إلى القوانين التشريعية الخاصة بالموجودات المكلّفة، وعلى رأسها الإنسان، وكلامنا الآن في القوانين التي جعلها الله تعالى في الإنسان، والتي تمثل تفضيلًا له دون غيره من الموجودات، وهي عديدة، نذكر منها التالي:

القانون الأول: الاختيار

هو مميز وامتياز، افتقدته سائر الموجودات الأرضية. فهو مميز (ما به الامتياز أو مائز)، بل هو (امتياز وعلاوة وتفضيل)

أما بالقياس إلى غير المختار فواضحٌ تميّزه وامتيازه. فغير المختار ما هو إلا (آلة)، تعمل من دون اختيار ولا علم ولا إرادة، أما الإنسان فهو يعمل باختياره المسبوق بعلمه، فالذي ميّز الإنسان عن غير المختار من الموجودات هو اختياره، وهذا رهان عظيم على الإنسان أن يحافظ عليه، ومن هنا ورد النهي عن أن يكون الفرد (إمّعة) لأن الإمّعة يتنازل عن امتيازه، لذلك كان الإنسان ينفر من الآلية (العبدية، الاستغلال، التبعية، تعمل لغيرك لا لأجل

ص: 85

نفسك!) لأنها تبعده عن واقع وجوده الذي ميّزه عن الجمادات.

وفي ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه [وآله]: لا تكونوا إمّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإنْ ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إنْ أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا.(1)

وهنا سؤال: أين امتياز الإنسان عن الموجودات المختارة (الحيوانات والملائكة)؟

الجواب:

إن اختيار الإنسان يفترق عن اختيار الحيوان بأن له أدوات تجاوز معها حدود الزمان والمكان، أما اختيار الحيوان فهو أشبه بتصريف الأعمال لا غير، لذلك لم تتطور حياة الحيوان، لأن اختيارها كان وفق نظام ثابت لا يتغير ونمط محدد لا يختلف (كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا، وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا)(2)

إن اختيار الإنسان جعله يتطور من إنسان بدائي زراعي وإنسان كهوف، إلى إنسان ما بعد الحداثة، فحياته حياة تكاملية، يحلّل المعلومات، ويستنتج نتائج جديدة...

والتغيير لدى الحيوان معدوم، ولو حصل فهو نادر جداً، وتحت ظروف خاصة، كتدريب حيوانات السيرك وما شابه.

ص: 86


1- الترغيب والترهيب للمنذري ج3 ص 341 ح 3812.
2- من كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام)، نهج البلاغة ج3 ص 72.

أما فرق اختيار الإنسان عن اختيار الملائكة (بناءً على كون الملائكة مختارة) فهو: أن اختيار الإنسان محاطٌ بالألم والتعب والنصب، لأن الإنسان مركب من متضادات، أما الملائكة فليس فيها إلا الخير والعقل، ولا وجود للمتضادات فيها.

قال تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)(1)

أي: (أيها الانسان إنك في امرك بشدة ومشقة إلى أن تلقى جزاء عملك من ربك، فأنت لا تخلو في الدنيا من مشقة، فلا تعمل لها، واعمل لغيرها فيما تصير به إلى الراحة من الكدح...)(2)

وإلىٰ هذا المعنىٰ أيضاً يُشير ما روي عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: «قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام): إنَّ الله تعالى ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركَّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركَّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم»(3).

فاختيار الإنسان وإرادته مميز وامتياز له على سائر الموجودات الأخرى، وإنما يكون كذلك إذا أعمله بصورة صحيحة ونجح في الاختبارات رغم

ص: 87


1- الانشقاق (6).
2- التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي ج10 ص 309.
3- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 4 و5/ باب 6/ ح 1).

الألم والتعب.

القانون الثاني: تكريم بني آدم
اشارة

يُصرّح القرآن الكريم بأن الله تعالى كرّم بني آدم على غيرهم من مخلوقاته، والآيات في ذلك عديدة، فكقاعدة عامة يقول عز من قائل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(1)

فهذا تكريم عام يشمل كل بني آدم في قبال بقية المخلوقات، أما ما هو هذا التكريم العام وما هي مصاديقه؟ فهذا ما ذكرته الآيات القرآنية الأخرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر بعض تلك المصاديق:

المصداق الأول: الخلافة

فإن الله تعالى جعل خليفته على الأرض من بني آدم، لا من الملائكة ولا من الجن ولا من غيرهم، قال تعالى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(2).

ولا شك أن الخلافة هي أشرف وأقدس مقام يمكن أن يحصل عليه المخلوق من الله تعالى.

ص: 88


1- الإسراء 70.
2- البقرة 30.
المصداق الثاني: التعليم المباشر من الله تعالى

فإن آيات بداية الخلقة تحكي هذا التفضيل والامتياز للإنسان دون حتى الملائكة، قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَىٰ الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.)(1)

المصداق الثالث: حامل الأمانة

وجدانًا فإن من يوثق به ليكون حامل أمانة ما، له امتياز لا يملكه من لا يؤتمن، فكيف إذا كانت الأمانة عظيمة جدًا، فإنها أمانة الخالق جل وعلا، وهي من العظمة بحيث أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها، ولكن الإنسان استطاع أن يحوز قصب السبق ويكون المؤتمن عليها؟!

قال تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(2)

نعم، هو ظلوم جهول لو لم يقم بما عليه من حق رعايتها، وعن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن عليَّ بن موسىٰ الرضا (عليه السلام) عن قول الله (عزوجل): ] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها[،

ص: 89


1- البقرة 31 – 33.
2- الأحزاب 72.

فقال: «الأمانة: الولاية، من ادَّعاها بغير حقٍّ فقد كفر»(1).

المصداق الرابع: أن الأنبياء هم من البشر

أن الأنبياء والرسل الذين هم في الحقيقة وسائط بين السماء والإنسان هم من بني آدم حصرًا، فلم يكن الواسطة بيننا وبينه جل وعلا ملكًا أو جنًا أو غيرهما من المخلوقات، ولا شك أن كون الأنبياء من البشر، وكون الوسائط التبليغية بيننا وبينه جل وعلا من البشر أيضًا، لهو تكريم عظيم، وفي ذلك يقول عز من قائل: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(2)

القانون الثالث: تسخير كل شيء للإنسان

تؤكد الآيات الكريمة أن الله تعالى إنما خلق كل شيء في هذه الكون لأجل الإنسان، وأنه تعالى سخّره لبني آدم ويسّر لهم التصرف في مفردات الكون بما أعطاهم من قوة إرادة وعقل واختيار، والآيات في ذلك عديدة، نذكر منها ما يشير إلى ذلك التسخير بالتدريج:

1/(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ)(3)

هذه الآية تقول: إن الله تعالى سخّر السفن لنا لتجري في البحر، ولولا تسخير الله تعالى للرياح لتحرك السفن، ولولا جعل كثافة المادة التي تُصنع

ص: 90


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 273 و274).
2- النحل 43.
3- إبراهيم 32.

منها السفن أعلى من كثافة الماء، لما أمكن للسفن أن تطفو على الماء ولا أن تسير عليه.

2/(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَىٰ الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(1)

فالتسخير ليس للسفن فقط، وإنما حتى البحار هي مسخّرة لبني آدم.

3/(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)(2)

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(3)فليس

ما في البحر فقط هو مسخر للإنسان، بل كل ما في الأرض. وكل ما في السماوات. بل إن التسخير وصل إلى حدّ قال عنه جل وعلا:

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَىٰ الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقىٰ فِي الْأَرضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً

ص: 91


1- النحل 14.
2- إبراهيم 33.
3- الجاثية 13.

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)(1)

تنبيه:

الكلام في التكريم النوعي، ولا ينافيه فرد أبى هذا التكريم، فالتكريم لنوع الإنسان، وليس المقصود فرداً خاصاً.

القانون الرابع: تمكين الإنسان المؤمن

تبين إلى الآن أن الله تعالى أعطى للإنسان عدة امتيازات هي: الاختيار، والتكريم، وتسخير ما في الكون له، وهذه الامتيازات في الوقت الذي هي ميّزتْه عن غيره من المخلوقات، هي تفرض عليه مسؤولية عظيمة تجاهها، أي إن عليه أن يتعاطى بصورة إيجابية معها، فعليه أن يُفعّل الاختيار في تحصيل الكمال والابتعاد عن النقائص، إذ الاختيار الإنساني يؤسس للمسؤولية تجاه الأفعال، وعليه أيضًا أن يقوم بمسؤوليات التكريم عندما جعله الله تعالى مكرّمًا حتى على الملائكة، وعليه أن يتعامل مع الكون الذي سُخّر له بمقتضى وحدود الإذن الإلهي في التصرف به، فإذا أحسن الإنسان التعاطي مع هذه الامتيازات، ستترتب عليه ثمرة عظيمة جدًا، هي أيضًا من قوانين وامتيازات الإنسان، وهو أن الله تعالى قد وعد الذين يتعاملون مع تلك الامتيازات بما يُرضي الله تعالى، أنه سيُمكّن لهم في الأرض ولو بعد حين.

قال تعالى (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(2)

ص: 92


1- النحل 12 – 16.
2- المجادلة 21.

(وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(1)

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(2)

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(3)

فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)(4)

لا تبقى أرضٌ إلا نُودي فيها بشهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله). وأشار بيده إلى آفاق الأرض.(5)

مع ملاحظة:

1/أن هذا التكريم –الأخير- يتمّ وفق نظام الأسباب والمسببات، نعم، الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) يستعمل المعجزة في نطاق خاص.

2/أن مجموع هذه القوانين يكشف عن أن الإنسان محور في هذا العالم، لا أنه في الهامش، بل إنه أهم الأشياء على الإطلاق. ويؤيده ما روي في بعض

ص: 93


1- الأعراف 128.
2- القصص 5.
3- النور 55.
4- سبأ (28).
5- مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي ص 209 – 210.

الأحاديث القدسية: (عبدي خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي، وهبتُك الدنيا بالإحسان، والآخرة بالإيمان)(1)

ص: 94


1- مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي ص 282.
النقطة الثالثة عشرة: قوانين العالم المحسومة
اشارة

هناك قوانين ثابتة في هذا العالم جعلها الله تعالى تبارك وتعالى، وهي لا تتخلف أبدًا إلا بأمر من الله تعالى، أي إنها عامة لكل الأفراد والأزمنة، ومن أهمها التالي:

القانون الأول: قانون الأسباب والمسببات

فليس هناك مكان في هذا العالم للفوضى ولا للصدفة (بمعنى حصول المعلول من دون علة)، وما نسميه عرفًا بالصدفة لا يُقصد منه بالدقة حصول المعلول من دون علة، وإنما المقصود هو حصول المعلول من دون علة متوقعة، أي إن له علة، لكنها غير متوقعة أو إنها علة خافية علينا، لا أنه لا علة أصلًا.

والعلل في عالمنا ليست عللًا بسيطة، بل هي مركبة من الكثير من الأجزاء والشرائط وعدم الموانع، خذ مثلًا النار، فإنها حتى تُحرق الورقة لا بد من شرط، وهو: مماسة النار للورقة، وإلا فلن تحرقها، ومنها: عدم المانع من الإحراق، أي أن لا تكون الورقة رطبة بحيث تمنع من تأثير النار في الورقة، وهكذا.

ص: 95

والإنسان لم يأت بصورة بسيطة، وإنما هناك آلاف الشروط وعدم الموانع.

وكلما تقدم العلم كشف أموراً أكثر من تعقيدات الشروط وعدم الموانع.

القانون الثاني: التنوع

التنوع واقع محسوم في عالمنا، فليس الكل علماء، أو ذكورًا، أو شيوخًا، أو أطفالًا، أو شجرًا، أو حجرًا، أو ماءً.

فالتنوع حاكم في الحياة، ولا يمكن تصور حياة بلا تنوع، فالارتكاز يرفض حياة ذكور فقط، أو فقط أطفال، أو فقط برتقال، ولعله لهذا السبب ملّ بنو إسرائيل طعامًا واحدًا هو المنّ والسلوى رغم جودته ولذته الشديدة، فيما يحكيه القرآن الكريم عنهم بقوله عز من قائل: (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلىٰ طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها)(1)

لذلك تجد أن أهل المناطق الباردة مثلًا يبحثون عن المناطق الدافئة وهذا معناه أنهم يطلبون التنوع.

فالتنوع واقع، بل هو ضرورة.

القانون الثالث: عالمنا هو عالم السعي والشِدّة والطلب

نظام الشدة والعقوبة والغرامة والتلف والترهيب والجهد العضلي والوقت والمغامرة بالنفس و...

ص: 96


1- البقرة 61.

فلا يمكن بناء عالم من الترغيب فقط، فلا بد أن تدفع، فلا مجان في هذا العالم.

فهناك أعداء، كيف للإنسان أن يدفعهم؟ لا بد من شدة في ذلك، ولا بد من جيش، وبالتالي لا بد من بذل، وكل هذه الأمور تختلف شدةً وضعفًا بين الفينة والأخرى.

حتى تتقن مهارة ما فلا بد أن تقدم تلفًا في الوقت أو المال أو العمر، لا بد أن تفارق الراحة، وأن تسهر الليالي.

إذن، نظام الشدة ضرورة ومطلب، وليس مجرد واقع.

فقوانين العالم ليست مبنية على الانسيابية والرخاء والرفاه، فإن (من طلب العلى سهر الليالي)

فالنتائج في هذا العالم ليست مجانية، فهو ليس مجرد أخذ، بل لا بد من عطاء.

أنت تريد (كمالاً جسمانياً)، وهذا يكلفك الكثير، كذلك من يريد جسماً رشيقاً، فإنه يقدم الكثير، كذلك من يريد أن يكون غنياً أو طبيباً... فالعالم ليس مجرد رفاه وليس هو مثل (ملعقة من ذهب في الفم)، بل هناك ألم ولهفة وتعب ونصب، وقد أشارت بعض النصوص إلى هذه الحقيقة.

فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (أَولَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا، يُصْبِحُونَ ويُمْسُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى، فَمَيِّتٌ يُبْكَى وآخَرُ يُعَزَّى، وصَرِيعٌ مُبْتَلًى وعَائِدٌ

ص: 97

يَعُودُ، وآخَرُ بِنَفْسِه يَجُودُ، وطَالِبٌ لِلدُّنْيَا والْمَوْتُ يَطْلُبُه، وغَافِلٌ ولَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْه، وعَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي، أَلَا فَاذْكُرُوا هَاذِمَ اللَّذَّاتِ، ومُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وقَاطِعَ الأُمْنِيَاتِ، عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ، واسْتَعِينُوا اللَّه عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّه، ومَا لَا يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِه وإِحْسَانِه)(1)

هذا واقع لا شك فيه وبغض النظر عن الشريعة. وإلا، فإن التزام الشريعة أيضًا لا بد فيه من تحمل الصعوبة والوقوف بوجه أطماع النفس الأمارة بالسوء، ولذلك روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (حُفّت الجنّةُ بِالمكَارِهِ، وحُفّت النَّارُ بالشَّهَوَاتْ.).(2)

وفي ذلك أيضًا روي عن رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): الصَّبْرُ ثَلَاثَةٌ: صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ وصَبْرٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزَائِهَا، كَتَبَ اللهُ لَه ثَلَاثَمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، ومَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ كَتَبَ الله لَه سِتَّمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ إِلَى الْعَرْشِ، ومَنْ صَبَرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ كَتَبَ الله

ص: 98


1- نهج البلاغة ج1 ص 192 – 193.
2- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص (421)، وعلق الشريف الرضي في المجازات النبوية ص 388 على هذا الحديث بقوله: وهذا القول مجاز، والمراد أن جميع الأفعال التي توصل إلى الجنة يتجشم فعلها على الكره والمشقة، لان طريقها وعر، ومذاقها مر. فلما كانت الطرق المفضية إلى الجنة كلها كما ذكرنا شاقة المسالك، صعبة على السالك، حسن أن يقال: الجنة حفت بالمكاره على طريق المجاز، وسعة الكلام، ولما كانت الافعال المفضية إلى دخول النار في الأغلب الأكثر كثيرة الملاذ ملائمة للطباع، لا تؤتى من طريق مشقة ولا يقرع لها باب كلفه، حسن أن يقال إن النار حفت بالشهوات على طريق الاتساع والمجاز.

لَه تِسْعَمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ الأَرْضِ إِلَى مُنْتَهَى الْعَرْشِ.(1)

وقال تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)(2)

فكل نتيجة في هذا العالم لها فاتورتها الخاصة، وحسابها الخاص، حتى الملذات الحياتية فيها تعب وجهد، نعم، هذه الصعوبات تختلف شدة وضعفاً من شخص لأخر، ومن ظرف لآخر ومن بلد لآخر، لكن أصل المبدأ موجود.

فالشدة إذن من لوازم هذا العالم.

القانون الرابع: الغموض والجهل النسبي

أي: كلما ازداد علم الإنسان ازداد شعوره بالجهل.

أو قل: هناك نسبة من الغموض والجهل في هذا العالم دائماً، فليس العالم لوحة مفتوحة لنا، في كل مفرداته، فأنت مثلًا تريد أن تتزوج، فهناك نسبة من المجهولية، وهكذا الوظيفة، وهكذا العمل...

فالجهل ثابت في النتائج والمقدمات، وفي تفسير الظواهر الكونية، وليس هناك (علم مطلق) في هذا العالم.

وقد ذكرت النصوص القرآنية بعض المفردات التي كان للإنسان منها حصة الجهل لا المعرفة، ومنها:

ص: 99


1- الكافي للكليني ج2 ص 91 باب الصبر ح15.
2- الانشقاق 6.

1/ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(1)

2/ (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(2)

3/ (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثىٰ وَما تَغِيضُ الْأَرحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)(3)

4/هذا فضلاً عن الغموض والجهل فيما يتعلق بالمستقبل كلحظة الموت، وبعالم الآخرة، وإليه الإشارة في قوله تعالى (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلىٰ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ)(4)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)(5)فهذا عنده لا عندنا!

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ

ص: 100


1- لقمان 34.
2- الزمر 55.
3- الرعد 8.
4- الواقعة 60 – 61.
5- الأنعام 2.

يُؤْمِنُونَ)(1)

ويبدو –والله العالم- أن هذا القانون مقصود، حتى لا يغلو الإنسان في نفسه، إذ هذه النسبة من الجهل تربي الإنسان تربية جيدة، وتجعله يعرف قدر نفسه، ولا يتجاوز حدوده، فهو قد لا يعرف ما يحويه باطن الأرض التي يجلس عليها على مسافة متر واحد فقط، فكيف يعرف ما في أعماق البحار أو آفاق السماء؟!

على أن هذا القانون يفتح نوافذ علاجية أشارت لها النصوص الشريفة، مثل: التوكل، الأمل.

القانون الخامس: قانون اللمسة الغيبية
اشارة

هذا القانون على عمومه لا يقبله إلا المتدين، ومعناه التالي:

في الوقت الذي يكون العالم فيه هو عالم الوسائط والأسباب والمسببات، كما تقدم في القانون الأول، لكن هناك لمسة غيبية فيه، كالهداية والتسهيل والتوفيق والتسديد الإلهي وما شابه.

وهذه اللمسة هي قانون، وقد لا يكون مفهوماً لنا، لكن بالنتيجة هو موجود.

هذا بغض النظر عن كون هذا القانون يقفز على قانون الأسباب المعروف، أو يسهل الأمر فيها، أو يرفع بعض الموانع.

ص: 101


1- الأعراف 188.

وفي إشارة إلى هذا القانون، يقول الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه): «إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأْواء(1)،

أو اصْطلمَكم(2)

الأعداء»(3).

ويمكن تسميته بقانون التسهيل أو التوفيق، حيث إنك تحصل على تسهيلات لا تعرف من أين أتت.

وهذا واحد من وجوه الفرق بين المتدين و (الطبيعي)، فرغم اتفاقنا على قانون الأسباب والمسببات، لكننا نؤمن باللمسة الغيبية وهو لا يؤمن.

ما هي أسباب اللمسة الغيبية (التوفيق، التسديد، الهداية)؟

يمكن تلمس العديد من أسباب الحصول على اللمسة الغيبية والتوفيق والعناية الربّانية من خلال بعض النصوص القرآنية، منها التالي:

1/ طلب الإصلاح مع التوكل المطلق على الله تعالى، قال تعالى (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(4)

2/ التقوى، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ

ص: 102


1- اللأواء : الشدة وضيق المعيشة (هامش المصدر).
2- اصطلمه : استأصله . (هامش المصدر).
3- الاحتجاج للطبرسي 2: 323.
4- هود 88.

شَيْءٍ قَدْراً)(1)

3/ الدعاء، قال تعالى (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً).(2)

ص: 103


1- الطلاق 2 – 3.
2- الفرقان 77.

ص: 104

مباحث العدل الإلهي

اشارة

ونذكر عشر مسائل:

المسألة الأولى: الحسن والقبح العقليان.

المسألة الثانية: الإرادة الإنسانية.

المسألة الثالثة: التفويض.

المسألة الرابعة: في الأمر بين الأمرين.

المسألة الخامسة: القضاء والقدر.

المسألة السادسة: الشرور في العالم.

المسألة السابعة: الحكمة من خلق الشيطان.

المسألة الثامنة: التفاوت بين البشر.

المسألة التاسعة: في الألم والعوض.

المسألة العاشرة: تعذيب أولاد الكافرين.

ص: 105

ص: 106

المسألة الأولى: الحسن والقبح العقليان
اشارة

تمثل هذه المسألة الأساس للكثير من القضايا المرتبطة بمباحث الفعل الإلهي، ولها مردودات نفسية واجتماعية على مستوى الفرد والمجتمع كما سيتبين إن شاء الله تعالى، وحتى يكون البحث دقيقاً، نذكر نقاطاً عدةً يتبين بها موضع النزاع والرأي الصواب:

النقطة الأولى: ما هو معنى عقلية أو شرعية الحسن والقبح؟

إن المعنى هو التالي:

نعلم أن الله تعالى قد أرسل الأنبياء ليوصلونا إلى بر الأمان، وشرع لهم شرائع تتضمن الأوامر والنواهي التي تنظّم حياتهم ودينهم ودنياهم، ولا شك أنه يلزمنا أن نتبع ما جاء فيها بالحرف الواحد.

وأن هناك أمورًا لا يستطيع العقل إدراكها لوحده، وإنما نأخذها في أصل تشريعها من الشارع المقدس، وهو التي تسمى بالتعبديات، ككون صلاة الصبح ركعتين، وكاستحباب الدعاء عند رؤية الهلال، وككون الشك بين الأولى والثانية مبطل للصلاة، وأمثالها.

ص: 107

ولكن هل هناك قضايا يمكن للعقل لوحده -ولو لم يكن هناك رسالة أو شريعة- أن يدركها ويحكم بأنها حسنة وينبغي فعلها، ولو فعلها شخص فإن العقلاء يمدحونه لأنه فعله، وقضايا يدرك العقل لوحده أنها قبيحة وينبغي تركها، والعقلاء يذمون العاقل لو فعلها؟ هل هناك قوة للعقل بأن يدرك مثل هذه القضية أو لا توجد عنده قدرة على ذلك.

فالعدلية قالوا بأن للعقل قدرة على إدراك حُسن بعض الأفعال [وليس في كل الافعال، فهم أثبتوا الموجبة الجزئية لا الكلية] وعلى الأقل هو يدرك قضية قبح الظلم وحسن العدل. فعندهم الحسن والقبح عقليان.

وأما الأشاعرة فقد نُسب إليهم أنهم قالوا: إنه ليس للعقل أي قدرة على إدراك حسن أي فعل من الأفعال (أي ذهبوا إلى السالبة الكلية)، وقالوا: إن الحُسن والقبح شرعيان، بمعنى أن الحسن ما حسّنه الشارع، والقبيح ما قبّحه الشارع، فتكون وظيفة العقل -على رأي الاشاعرة- إمضائية، أي إنه يُمضي ما أسّسه الشارع.

النقطة الثانية: تقسيم الأفعال عند العدلية

إن القائلين بالحسن والقبح العقليين يقسّمون الأفعال من حيث الاتصاف بهما إلى أقسام ثلاثة:

الأول: ما يكون الفعل بنفسه علة تامة للحسن والقبح، وهذا ما يسمى بالحسن والقبح الذاتيين، مثل العدل والظلم. فالعدل بما هو عدل، لا يكون

ص: 108

إلا حسناً أبداً، ومتى ما وجد لا بد أن يُمدح فاعله ويعد محسناً، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلا قبيحاً، ومتى ما وجد ففاعله مذموم ومسيء. ويستحيل أن يكون العدل قبيحاً أو الظلم حسناً.

وحتى الظلمة، عندما يمارسون الظلم، فإنه يُحاولون أن يخدعوا الناس ويصوروا أفعالهم على أنها أفعال حسنة و أن أعداءهم هم المخطئون والظلمة، وهذا يكشف عن أن مسألة حسن العدل وقبح الظلم لا خلاف فيها أبدًا.

الثاني: ما لا يكون الفعل علة تامة لأحدهما، بل يكون مقتضيًا للاتصاف بأحدهما، بحيث لو خُلي الفعل ونفسه، فإما أن يكون حسناً، كتعظيم الصديق بما هو هو، أو يكون قبيحاً كتحقيره. ولكنه لا يمتنع أن يكون التعظيم مذموماً لعروض عنوان عليه، كما إذا كان سبباً لظلم ثالث، أو يكون التحقير ممدوحاً لعروض عنوان عليه كما إذا صار سبباً لنجاته. ولا ينحصر المثال بهما، بل الصدق والكذب أيضا من هذا القبيل. فالصدق الذي فيه ضرر على المجتمع قبيح، كما أن الكذب الذي فيه نجاة الإنسان البريء حسن. وهذا بخلاف العدل والظلم فلا يجوز أن يتسم العدل بما هو عدل بالقبح، والظلم بما هو ظلم بالحسن.

الثالث: ما لا علّية له ولا اقتضاء فيه في نفسه للاتصاف بأحدهما، وإنما يتبع الجهات الطارئة والعناوين المنطبقة عليه، وهذا كالضرب فإنه حسن للتأديب، وقبيح للإيذاء.

هذا هو التقسيم الرائج بينهم.

ص: 109

النقطة الثالثة: تقسيم الحسن والقبح
اشارة

ذكر العديد من العلماء أربعة استعمالات للحسن والقبح:

الاستعمال الأول: الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص

(فالحسن كون الصفة صفة كمال، والقبيح كون الصفة صفة نقصان، يقال: العلم حسن، أي لمن اتصف به كمال وارتفاع شأن، والجهل قبيح، أي لمن اتصف به نقصان واتضاع حال، ولا نزاع في أن هذا المعنى أمر ثابت للصفات في أنفسها، وأن مدركها العقل...)(1)

وبعبارة أخرى: أن (التحسين والتقبيح بهذا المعنى لا غبار عليه وليس محلًا للنقاش. إذ لا [أحد] ينكر كون العلم والشجاعة والفصاحة كمالًا وحسنًا، والجهل والجبن والفهاهة نقصًا وقبيحًا.) (2) فقد اتفقت الكلمة على أنهما بهذا الاستعمال من القضايا الواقعية التكوينية.

الاستعمال الثاني: الحسن والقبح بمعنى إدراك الملائم والمنافي

(فالمشهد الجميل - بما أنه يلائم الطبع - يعد حسنا، كما أن المشهد المخوف، - بما أنه منافر للطبع - يعد قبيحًا. ومثله الطعام اللذيذ والصوت الناعم، فإنهما حسنان كما أن الدواء المُرّ ونهيق الحمار قبيحان)(3)

وقد اتفقت الكلمة هنا أيضاً على أنهما بهذا المعنى من القضايا الواقعية

ص: 110


1- صراط الحق للمحسني ج2 ص 129.
2- الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 234.
3- الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 233.

التكوينية.

الاستعمال الثالث: الحسن والقبح بمعنى المصلحة والمفسدة

فالعدل حسن لأن فيه مصلحة للفرد والمجتمع، بعكس الظلم... (فما وافق الغرض حسن، وما نافره قبيح)(1) (فقتلُ إنسانٍ لأنه عدو حسن، حيث إنه موافق لأغراض القاتل الشخصية. ولكنه قبيح لأصدقاء المقتول وأهله، لمخالفته لأغراضهم ومصالحهم الشخصية. هذا في المجال الشخصي. وأما في المجال النوعي، فإن العدل بما أنه حافظ لنظام المجتمع ومصالح النوع فهو حسن وبما أن الظلم هادم للنظام ومخالف لمصلحة النوع فهو قبيح)(2)

وهذا المعنى خارج نطاق البحث، وهو يختلف باختلاف الأشخاص والحالات، باعتبار (اختلاف الأغراض والمصالح الشخصية. فرب فعل كالقتل حسن عند فرد أو جمع وقبيح عند آخرين والبحث إنما هو عن الحسن والقبح الذاتيين اللذين لا يتغير الاتصاف بهما عند قوم دون قوم، وجيل دون جيل، بل يكون حكما ثابتا للفعل أبدًا.)(3)

الاستعمال الرابع: (تعلق المدح والثواب بالفعل عاجلًا وآجلًا، أو الذم والعقاب كذلك، فما تعلق به المدح فهو حسن، وما يتعلق به الذم فهو قبيح)(4)

ص: 111


1- صراط الحق للمحسني ج2 ص 129.
2- الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 233.
3- الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 234.
4- صراط الحق للمحسني ج2 ص 129.

أي المدح والذم، وينبغي ولا ينبغي، أي فعل العدل ممدوح، وفعل الظلم قبيح، وفعل العدل ينبغي وفعل الظلم لا ينبغي. وهنا وقع الخلاف، فقال العدلية: إن العقل يمكنه أن يدرك بعض الأفعال التي يُمدح فاعلها ويصفها بأنها حسنة حتى لو لم تكن شريعة، وكذلك يمكنه أن يدرك بعض الأفعال التي يُذمّ فاعلها ولو لم تكن شريعة، أما الأشاعرة فقالوا بأنها شرعية (فإن الأفعال كلها سواسية ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه، ولا ذمّ فاعله وعقابه، وإنما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها)(1)

والحاصل من هذه النقاط الثلاثة هو:

أن الغرض المطلوب في هذا البحث هو: تبيين أن هناك أفعالاً يدرك العقل إذا طالعها، بقطع النظر عن كل الجهات الطارئة عليها، أنها حسنة يجب أن يُمدح فاعلها، أو قبيحة يجب أن يذم. ولا نقول: إن كل فعل من الأفعال داخل في هذا الإطار.

وبعبارة أخرى: إن النزاع بين الفريقين دائر بين الإيجاب الجزئي والسلب الكلي، فالعدلية يقولون بالأول والأشاعرة بالثاني.(2)

النقطة الرابعة: ما هو دليل الأشاعرة؟
اشارة

ذكروا أن للأشاعرة أدلة على قولهم بشرعية الحسن والقبح، ومنها التالي:

ص: 112


1- صراط الحق للمحسني ج2 ص 129.
2- الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 233.
الدليل الأول

حيث إن الله تعالى هو خالق كل شيء، فهو مالك كل شيء، ومعه، فلا يمكن تصور أحد فوقه جل جلاله ليأمره بشيء أو ينهاه عن آخر، وبالتالي، فكل ما فعله فهو حسن، فالكذب قبيح لو نهى عنه الباري، ولو أمر به لكان حسنًا، وهكذا العدل حسن لأنه أمر به، ولو نهى عنه لكان قبيحًا.(1)

الجواب:

1/إن الوجدان قاضٍ بأن قتل طفل صغير –مثلًا- من دون أي مبرر هو فعل غير مرضي، وأي واحد من العقلاء لا يرضى بقتل طفل صغير له، لأنه يرى أن هذا الفعل قبيح بوجدانه، ولا يُفرّق في هذا بين كونه متدينًا أو ملحدًا، وهذا يعني أن الوجدان يحكم بأن العقل يستقل بمعرفة قبح أو حسن بعض الأفعال.

2/ صحيحٌ أن الله تعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وأنه لا يوجد شيء أعلى منه ليأمره أو ينهاه، لكن هذا لا يمثل حدًا أوسطًا أو دليلًا على أنه

ص: 113


1- نقل الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 249 عن اللمع ص 116 ما نصه: (والدليل على أن كل ما فعله فله فعله، أنه المالك، القاهر، الذي ليس بمملوك، ولا فوقه مبيح، ولا آمر، ولا زاجر، ولا حاظر، ولا من رسم له الرسوم، وحد له الحدود. فإذا كان هذا هكذا، لم يقبح منه شيء، إذا كان الشيء إنما يقبح منا، لأنا تجاوزنا ما حد ورسم لنا، وأتينا ما لم نملك إتيانه. فلما لم يكن الباري مملوكا ولا تحت آمر، لم يقبح منه شيء. فإن قال: فإنما يقبح الكذب لأنه قبحه، قيل له: أجل، ولو حسنه لكان حسنا، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض. فإن قالوا: فجوزوا عليه أن يكذب، كما جوزتم أن يأمر بالكذب. قيل لهم: ليس كل ما جاز أن يأمر به، جاز أن يوصف به)

تعالى يفعل القبيح، إذ تقدم أن الله تعالى وإن كان قادرًا على كل شيء، لكنه لا يفعل أي شيء، وإنما حكمته تعالى تقيّد قدرته لتجعلها في حدود الفعل الحكيم لا العبثي ولا اللهوي ولا غيره مما لا يوافق الحكمة، وبالتالي، فعندما نقول: إن الله تعالى لا يفعل القبيح، لا نعني أن هناك من يأمره أو ينهاه عن ذلك، وإنما نعني أنه تعالى بحكمته اللا متناهية لا يفعل القبيح، لأنه حكيم لا أكثر. وهذا لا يؤدي إلى تحديد القدرة الإلهية بشيء خارجي كما أراد أن يؤشر له الأشعري بدليله. بل إن التحديد بحدود الحكمة هو نوع من أنواع الكمال اللا متناهي له جل وعلا كما تقدم.(1)

الدليل الثاني

لو كان الحسن والقبح عقليين لما وقع الاختلاف في تصنيف بعض الأفعال بأنها حسنة أو قبيحة، لأن الأحكام العقلية لا تختلف ولا تتخلف، فاجتماع النقيضين محال أينما حل وحيثما فُرض، ولكن نجد أننا قد نختلف في بعض التصرفات، فالبعض يدّعي أنها حسنة، والآخر يدّعي أنها قبيحة، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ص: 114


1- أشار الشيخ السبحاني لهذا الجواب بقوله: فلا شك أنه سبحانه مالك الملك والملكوت يقدر على كل أمر ممكن - كما عرفت - من غير فرق بين الحسن والقبيح، فعموم قدرته لكن ممكن مما لا شبهة فيه، ولكن حكم العقل بأن الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم، ليس تحديدا لملكه وقدرته. وهذا هو المهم في حل عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أن قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه نوع دخالة في شؤون رب العالمين، ولكن الحق غير ذلك. (الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 250)

والجواب:

لعل هذا الدليل يريد أن يتكئ على القول: بأن من شروط الأمر البديهي أو العقلي أن لا يختلف فيه اثنان، وحيث إننا اختلفنا في بعض القضايا، إذن هي ليست عقلية ولا بديهية.

ولكن هذا القول غير صحيح، إذ تقدم –وهو الوجدان- أنه ليس من شروط البديهي أن يكون مجمعًا عليه بحيث لا يختلف عليه اثنان، ولذلك فإنه قد اختُلف في أوضح الواضحات، ولذلك ذكروا في القضايا الأولية –كقضية الكل أكبر من الجزء- أنها قضية بديهية بلا أدنى ريب، ولكن لا بد من تصور أطرافها تصورًا صحيحًا ليتم الوصول -بعد التصور الصحيح- إلى الجزم بمؤداها، وإلا فلو تم تصورها بصورة مغلوطة، لأمكن وقوع الاختلاف فيها.

وفي المقام كذلك، فإن القضايا العقلية قد تدخل عليها بعض الشوائب التي تؤدي إلى الاختلاف فيها، فمثلًا قد يكون تنفيذ العدل مخالفًا للمصلحة الشخصية، لذلك قد يتصوره البعض قبيحًا، فالقاتل يُقتل، وأهل المقتول سيرون تنفيذ حكم الإعدام به هو مقتضى العدل الذي يجب أن يكون هو فقط، ولكن أبناء القاتل أو زوجته قد يرونه حكمًا قاسيًا أو جائرًاً، لأنه سيحرمهم من أبيهم.... والأمثلة على هذا النسق كثيرة.

الدليل الثالث

لو كان الحسن والقبح عقليين لما تغير الحكم فيهما أبدًا، ولكننا نجد أن

ص: 115

الصدق قد يكون حسنًا وقد يكون قبيحًا لاختلاف الظروف الموضوعية، وهذا يعني أنهما غير عقليين.

والجواب واضح على ما تقدم في النقطة الثانية، حيث بيّن العلماء أن النزاع في الأفعال التي يكون الحسن والقبح فيها ذاتيين، لا في ما يكون مقتضيًا للحسن او القبح لولا المانع، وما ذُكر في الدليل من (الصدق والكذب) هو من القسم الثاني لا الأول، فلا نقاش فيه.

وبعبارة أخرى: أن ما ذُكر في الدليل هذا صحيح، ولكنه ليس هو محل النزاع، فنحن نتفق كذلك معهم في أن الصدق والكذب يتغير الحكم فيه، والنزاع ليس في هذا القسم من الأفعال، وإنما في مثل حسن العدل وقبح الظلم، حيث يكون وصف الحسن والقبح ذاتيين للعدل والقبح.

الدليل الرابع

قوله تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(1)

استدلوا بهذه الآية على أن القانون للأفعال هي إرادته جل وعلا، لذلك لا يجوز لأحد أن يسأل عن إرادته وعن فعله حتى لو كان ذلك الفعل بنظرنا ظلمًا أو عبثًا أو خلاف الحكمة، بمعنى أنه لا بد أن نحكم على أي فعل فعله بأنه حسن حتى لو كان بنظرنا ظلمًا، لأنه تعالى لا يُسأل عما يفعل.

ص: 116


1- الانبياء (23).

الجواب:

لو كان ظاهر الآية ومعناها منحصرًا بما قاله الأشاعرة، فلربما يقال بصحة استدلالهم، وإلا فالآية أصلًا لا دلالة فيها على ما أرادوه، لكن تنزلًا نقول: إن ما ذكره الاشاعرة هو احتمال في معنى الآية، ويحتاج إلى تكلّف الاستدلال، ولكن في الآية احتمالات أخرى متلائمة مع ظاهرها وتنسجم مع الحسن والقبح العقليين.

بمعنى: أن ما ذكره الأشاعرة في تفسير هذه الآية هو احتمال، وما سنذكره في تفسيرها تبعا لما قاله فيها أهل البيت (عليهم السلام) هو احتمال آخر، إن لم يكن في الحقيقة رأي أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم هو المتعين كما نعتقد به نحن، ولكنه على الأقل محتمل، فلو فرضنا أنه لا مرجح لأحد الاحتمالين على الآخر فإن الآية تكون مجملة، يعني لا نعرف هل المقصود منها هو ما قصده الأشاعرة أو ما قصده أهل البيت (عليهم السلام)؟

وطبعا هذا القياس مع الفارق ولكن من باب البحث العلمي نذكره، فينتج أن الآية مجملة فلا يصح الاستدلال بها على أحد المطلوبين لأنه يكون ترجيحًا بلا مرجح.

طبعا مع العلم أننا نجزم بصحة تفسير أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم لأنه صادر من أهل بيت العصمة، وهو متلائم مع الوجدان، ومع الصفات الكمالية لله جل وعلا.

أما الاحتمال الآخر في الآية فهو:

ص: 117

أن الآية إنما قالت: لا يسأل عما يفعل، باعتبار أنه لا حاجة للسؤال عن فعله، لأن أفعاله كلها حكيمة، والحكيم لا يسأل عن فعله، أما غيره فحيث إن أفعاله قد تكون حكيمة وقد لا تكون، فيمكن حينها أن يوجه له السؤال.

ومما يدل على هذا المعنى هو ما روي عن جابر بن يزيد الجعفي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر صلوات الله وسلامه عليهم قال:... فهو المتفضّل بما أعطاه وعادل فيما منع، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. قال جابر: يا بن رسول الله، وكيف لا يُسأل عما يفعل؟ قال (عليه السلام): لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصواباً.(1)

ونقل السيد المرتضى: (و إنما أراد أنه تعالى من حيث وقعت أفعاله كلها حسنة غير قبيحة، لم يجز أن يُسأل عنها، وإن سُئل العباد عن أفعالهم لأنهم يفعلون الحسن والقبيح معًا)(2)

وقال الشيخ الطوسي في التبيان: لأنه لا يفعل الا ما هو حكمة وصواب، ولا يقال للحكيم: لو فعلت الصواب (وهم يسالون) لأنه يجوز عليهم الخطأ.(3)

النقطة الخامسة: أدلة التحسين والتقبيح العقليين
اشارة

ذكر العدلية العديد من الأدلة على ذلك، نذكر منها التالي:

ص: 118


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 397 /ح 13.
2- الأمالي ج2 /ص 57.
3- التبيان ج7 / ص 239.
الدليل الأول

لو كان الحسن والقبح شرعيين للزم من ذلك أن الفرد الذي لا يعرف عن الدين وعن الشرع أي شيء، أن لا يعرف أن العدل حسن والظلم قبيح، وهذا اللازم باطل.

توضيح الدليل:

نفرض أن شخصاً ما، أول ما وُلد وُضع في غرفة لوحده، بمعزل عن العالم الخارجي، إلى أن وصل عمره إلى ثلاثين أو أربعين سنة، فإن جاءه شخص آخر وضربه ظلماً وعدواناً، فهل الشخص المضروب يحس أنه ظُلِم أو لا يحس؟ أكيداً سيشعر بأنه قد ظُلِم، وهكذا لو كان المضروب لا دينياً وملحداً.

فمثل هؤلاء نجد أنهم يعرفون أن العدل حسن والظلم قبيح، فمن أين عرفوا ذلك؟

لو كان حسن العدل شرعياً، فالمفروض -بالذي لا يعرف الدين- أن لا يعرف أن العدل حسن، لأن مثل هذا الشخص لا يملك ديناً أو شريعة تصل من خلالها أوامر الشارع إليه، فلن يعرف أن العدل حسن والظلم قبيح، فإذن، لو كانا شرعيين لما عرفهما الملحد.

وحيث إنه يعرف ذلك، فهذا يكشف عن أنه إنما عرفهما بعقله.

ص: 119

الدليل الثاني

لو كان الحسن والقبح شرعيين، لضاع الهدف من بعثة الأنبياء.

توضيحه:

إن وظيفة الأنبياء هي هداية الناس، وهم يدّعون ارتباطهم بالسماء، ودليل ارتباطهم بالسماء هي المعجزة.

فلنفترض أنفسنا أشعريين وعقيدتنا أن ما يفعله الشارع هو الحسن، وما لا يفعله هو القبيح، حينها، ألا نحتمل أن الله عز وجل يُجري المعجزة على يدي كاذب؟

فإنه إن جرت المعجزة على يدي كاذب، فهو فعل حسن لأن الله تعالى فعله، ومع وجود هذا الاحتمال فما الذي يميّز لنا الصادق من الكاذب؟ ففي كل مدّعٍ للنبوة سنحتمل أنه صادق فيجب اتباعه، وسنحتمل أنه كاذب فيجب اجتنابه. وبالتالي يحق لنا أن لا أتبع أي نبي لاحتمال كونه كاذباً وإن جرت المعجزة على يديه، فتذهب فائدة من بعثة الأنبياء التي هي طاعتهم.

ونذكّر هنا: بأن الأشعري لا يقول بوقوع مثل هذا الأمر، وإنما هو يقول بإمكانه –كما تقدم- والخلاف إنما هو في قضية تنزيه الذات، والحديث هو في الإمكان والامتناع، بمعنى أنه هل يمكن للمصلي أن يدخل في النار؟ نحن نقول: لا يمكن (امتناع)، وهذا الأمر يأتي من كمال الذات ومن الوفاء بالوعد.

ص: 120

أما الأشاعرة فأنهم يقولون بالإمكان، وهذا الفرض هو بذاته ينسب النقص للذات المقدسة.

الدليل الثالث

القرآن الكريم يشير في بعض الآيات القرآنية إلى أن الحسن والقبح عقليان لا شرعيان، وأن القران جاء ليمضي ما عليه العقلاء، بمعنى أن القرآن يأخذ أموراً يعتبرها العقلاء حسنة فيأمر بها، ويأخذ أموراً يعتبرها العقلاء سيئة فينهى عنها.

مثاله: الآية الشريفة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1)

فهو تعالى (يَعِظُكُمْ) فالمسألة مسألة موعظة، بمعنى يعرّفكم على الطريق.

وكذلك قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا باللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(2)

إذن مسألة القبح والحسن وجدانية، ليس على نحو الموجبة الكلية وإنما على الأقل في بعض الافعال.

ص: 121


1- النحل 90.
2- الأعراف 33.

ص: 122

المسألة الثانية: الإرادة الإنسانية
اشارة

هل الإنسان مجبر على أفعاله أو إنه مختار ذو إرادة؟

تعتبر هذه المسألة من أهم مسائل العدل الإلهي لما فيها من آثار كثيرة وعلى مستويات مترامية الأطراف، وسوف نذكر المسألة ضمن مبحثين:

المبحث الأول: الجبر الكلامي

المبحث الثاني: الجبر الاجتماعي.

ص: 123

ص: 124

المبحث الأول: الجبر الكلامي
اشارة

وهنا أمور عدة:

الأمر الأول: معنى الجبر

عندما يقوم الإنسان بفعل ما، كالكتابة، أو الرماية، أو غيرها، فهل هو مختار في فعله هذا؟ هل يصدر فعله بمحض إرادته أو إنه مجبر على ذلك؟

هل الإنسان فاعل باختياره أو إنه كالآلة التي لا تعقل ما تفعل وليس لها إلا أن تنفّذ أمر مالكها (وهو معنى الجبر)؟

(نُقل عن جهم بن صفوان وأتباعه: أن لا اختيار واقتدار للإنسان بوجه، ولا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى، فأفعال الإنسان وغيره عندهم كحركة السكين في يد القصاب، أو كحركة القلم في يد الكاتب)(1)

وينقل القرآن الكريم في بعض آياته، أن مشركي مكة المكرمة كانوا يعملون على تبرير شركهم من خلال التمسك بنظرية الجبر، إذ لو كانوا مجبرين فهم معذورون في ما هم عليه من الشرك، أي إنهم رموا سبب شركهم

ص: 125


1- صراط الحق للمحسني ج2 ص 188 – 189.

على الله تعالى ليبرروه أمام الأنبياء أو غيرهم، قال تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ)(1)

وقال تعالى (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَىٰ الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(2)

الأمر الثاني: أدلة القائلين بالجبر
اشارة

ذكروا أدلة عدة على أنها تدل على سلب الاختيار من الإنسان وبالتالي فهو فاعل موجَب أي غير مريد، ومنها التالي:

الدليل الأول: عموم العلم الإلهي ولزوم وقوعه

أ: إن القرآن الكريم يُصرح بعموم علمه تعالى، قال تعالى (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.)(3)

فعلمه تعالى شامل لا يشذّ عنه شيء، بما في ذلك الجزئيات، وما يفعله العبد.

ب: وحيث إن علم الله تعالى لا بد أن يقع، وإلا –أي لو لم يقع- لانقلب

ص: 126


1- الأنعام (148).
2- النحل (35).
3- يونس 61

العلم إلى جهل، والله (عز وجل) لا يوصف بالجهل مطلقًا.

ج: والعلم الإلهي كان قبل الإنسان ووجوده، بل علمه تعالى منذ الأزل، وهذا يعني أنه يعلم أن فلانًا مثلًا سيكتب كذا، أو سيقتل شخصًا معينًا، وهكذا.

د: إذن، فكل ما يفعله الإنسان هو مجرد صورة فعل اختياري، وإلا فحقيقته أنه مجبور على فعله، فالإنسان مُسير لا مخير.

ويُرد هذا الدليل بالآتي:

لا شكّ أننا نقبل أن علمه تعالى علم شامل، وأن علمه عين ذاته، وعلمه لا متناهي، ولكن هل يلزم من هذا أن يُقال بالجبر؟

كلا، والشاهد أمران:

أولًا: إننا عندما نرجع إلى وجداننا وإحساسنا الشخصي، نجد أننا نميّز بين حركة المرتعش، وبين الحركة التي نسميها بالحركة الإرادية، ونجد أن الفرق بينهما فرق حقيقي، لا مجرد تصور لا واقع وراءه كما أراد أن يصوره المجبِّر.

ولا شك أن المرجعية النهائية هي للبديهي والوجدان، ونحن نلامس بالبداهة ونحس ونشعر بوجداننا بأننا مختارون في أفعالنا. وكل ما يخالف البديهي فهو في أحسن أحواله (شبهة في مقابل بديهة).

وهذه ملحوظة مهمة، علينا أن نضعها في الحسبان في جميع مراحل طلبنا

ص: 127

للمعرفة المنهجية الموضوعية، وهي: أنه مهما دقّ العمق الفكري، فإنه لا بد أن لا يخرج عن العفوية والبداهة والوجدان، وإلا ابتُلي بالجربزة والابتعاد عن البديهيات ونكرانها، فالمرجع الأخير والأصل والمحور هو البداهات، فهي نقطة الانطلاق نحو المعرفة بالواقع والتفاعل معه.

نعم، إن البداهات قد تُبتلى ببعض العادات أو التقاليد أو التلقينات في لا وعي الإنسان، أو تتأثر بالعقل الجمعي والاجتماعي والتقليدي، بحيث تخرج بعض الأمور البديهية عن البداهة لدى البعض، وحينئّذ نحتاج إلى منبّهات تكشف الزيف والغموض وتصرح ببداهة البديهي.

وفي المقام، يوجد منبه على أن (الاختيار) و (الإرادة) أمر بديهي لدى الإنسان وغيره مجرد وهم، والمنبه هو:

مؤشرات صحة الوجدان بالاختيار:

1/لو كان الإنسان مجبرًا على فعله، بحيث كان كالآلة بالنسبة للفعل، فإن هذا ينفي مفهوم (العقوبة)، إذ العقوبة فرع المسؤولية، فالقانون إنما يوجّه لي التهمة وبالتالي العقوبة لأني خالفت القانون بإرادتي واختياري. وهذه مسألة وجدانية بديهية.

ولكن لو اعتدى شخص على أعلم القائلين بالجبر، هل يا ترى سيطبّق ذلك العالم الجبري مسألة أن الإنسان مجبر ويغض الطرف عن الذي ضربه وأهانه، إذ الفرض أنه مجبر كما يقول هو؟! أم إنك تراه ينتفض مناديًا: يا لله، يا لعشيرتي، يا لأولادي!

ص: 128

إن أي عاقل يؤمن بالمطالبة بحقه وردّ الاعتداء والمطالبة بإنزال العقوبة بالذي يتجاوز عليه وملاحقته قانونيًا وقضائيًا. ونحن نجد البشرية تؤمن بالعقوبة، وأنشأت السجون للحدّ من أفعال المجرمين في الخارج.

إن هذه المفاهيم لا تظهر إلا تحت ظل الاختيار والإرادة.

ومن اللطائف في هذا المجال، ما روي من أن البهلول سمع أبا حنيفة يقول: إنّ جعفر بن محمّد (عليه السلام) يقول بثلاثة أشياء لا أرتضيها.

يقول: إنّ الشيطان يعذّب بالنار، كيف وهو من النار!؟ ويقول: إنّ الله لا يرى ولا تصحّ عليه الرؤية، وكيف لا تصحّ الرؤية على موجود!؟ ويقول: إنّ العبد هو الفاعل لفعله، والنصوص بخلافه.

فأخذ البهلول حجرًا وضربه به فأوجعه، فذهب أبو حنيفة إلى هارون، واستحضروا البهلول ووبّخوه على ذلك.

فقال لأبي حنيفة: أرني الوجع الذي تدّعيه وإلَّا فأنت كاذب، وأيضا فأنت من تراب كيف تألمت من تراب!؟ ثمّ ما الذي أذنبته إليك والفاعل ليس هو العبد بل الله فسكت أبو حنيفة وقام خجلًا.

وقال: ينبغي أن يكون أبو حنيفة ذهب إلى المنصور، لأنه مات قبل خلافة هارون(1)

2/لو قال لك شخص: أنت مجرد آلة، أنت جدار، فلا شكّ أنك لا تقبل

ص: 129


1- منتهى المقال في أحوال الرجال للشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني ج2 ص 180 رقم 492.

بهذا أبدًا، وهذا يعني أنك بشعورك الوجداني تُحسّ بنفسك أنك غير الآلة، وأن أهم ما ميّزك عنها هو أنك تفعل باختيارك لا كالآلة العمياء الصمّاء.

فإحساسك الوجداني بأنك (تريد ولا تريد) هو مؤشر على أنك تفعل باختيارك.

3/ أننا نجد في سلوكياتنا نمطين من السلوك: فهناك سلوك غير علمي، فليس للعلم مدخلية فيه، فهو يمشي ويتحرك سواء علمتُ به أم لم أعلم، فعلمي به –لو وُجد- هو مجرد متفرّج لا يؤثر في الحركة شيء، وذلك كحركة الدورة الدموية وعمل المعدة وبقية الأعضاء الداخلية للإنسان.

ولكن هناك سلوكًا للعلم فيه مدخلية وأثر، فهو يتغير بتغير العلم، وبتغير القناعات، فقد تفعل شيئًا ما وتصرّ عليه، ولكنك بعد فترة تبتعد عنه وتغير رأيك لسبب ما. فقد يأكل أحدهم الربا، ولكنه بعد أن يعلم بحرمته يتركه البتة، وقد يريد أحدهم الخروج إلى الحديقة، فيسمع من خلال النشرة الجوية أن هناك أمطارًا غزيرة ستهطل، فيغير رأيه ولا يخرج، وهكذا...

إن هذا يكشف عن أن الإنسان ما زال مختارًا في فعله، وأنه هو من يقوم باتخاذ القرار المناسب للفعل أو عدمه.

إن تجميع هذه المؤشرات يؤدي إلى الجزم بصحة الوجدان الذي نحس به، وأن لدينا اختيارًا وإرادة. وهو المطلوب.

ثانيًا: صحيح أن علم الله تعالى شامل ولا بد أن يقع، وإلا لانقلب

ص: 130

جهلًا، ولكن هذا لا يلزم منه الجبر في فعل الإنسان، باعتبار أن العلم لا يتعلق بالفعل وحده من دون مقدماته، بل يتعلق بالفعل وبجميع مقدماته، ونحن نقول: إن العلم الإلهي تعلق بفعل الإنسان الاختياري، بمعنى: أنه تعالى علم أن (فلانًا) سوف يُصبح مهندسًا مثلًا باختياره هو، أي إن العلم تعلق بأن الفعل سيقع من العبد باختيار العبد، بل إن شمولية العلم الإلهي تقتضي ذلك، أي تقتضي أن يتعلق بالفعل ومقدماته.

فالعلم الإلهي إذن يتعلق بالفعل ومقدماته، فإذا كانت مقدماته اختيارية، فإنه يقع بالاختيار، والعلم الإلهي يتعلق بكونه فعلًا اختياريًا، وإذا كانت مقدماته غير اختيارية، فإنه يتعلق به وبمقدماته غير الاختيارية.

إذن، ما ذكروه من دليل عموم وشمول العلم الإلهي، يُثبت حتمية الأفعال ونتائجها وفق نسق مقدماتها، فالمعلوم هو النتائج مع أولياتها ومقدماتها، خصوصًا مع التذكير بما تقدم في المقدمات من أن عالمنا هو عالم الأسباب والمسببات، وأن النتائج إنما تكون وفق أسبابها، وفي المقام، فإن المعلوم لله تعالى هو فعل الإنسان مع مقدماته التي منها الاختيار والإرادة.

وحتى تتضح الصورة أكثر نذكر المثال التالي:

لو ذهب أحدهم إلى الطبيب، فقال له الطبيب: إنك إذا أكلت الطعام الفلاني فإنك ستُصاب بالمرض الفلاني، وذهب ذلك الشخص وتناول ذلك الطعام، فلا شك أنه سيُصاب بالمرض الذي أخبره به الطبيب، ولكن هل أجبره الطبيب على أن يتناول ذلك الطعام؟!

ص: 131

من الواضح أن علم الطبيب بمرضه إنما تعلق بما إذا تناول الشخص الطعام باختياره هو، ولم يجبره الطبيب على ذلك.

وهكذا لو أن معلمًا ما وبعد تعايشه مع مجموعة من التلاميذ لعام كامل، فإنه وبلا شك يستطيع أن يميز من سينجح ومن سيرسب، وربما يستطيع أن يتكهن بالعلامات التي سيحصل عليها كلٌ من الطرفين، ولا ريب في أن علم المعلم ذاك لا يجبر الناجح على النجاح، ولا الراسب على الرسوب.

الدليل الثاني: عموم القدرة الإلهية النافي لكل قدرة أخرى

إن القدرة عامة شاملة كالعلم، فكل شيء داخل تحت القدرة، بما في ذلك فعل الإنسان، وهذا يعني أن فعل الإنسان هو مجرد صورة وشكل فقط، إذ قدرة الله تعالى شاملة لفعل الإنسان، ولا مجال لأن تزاحم قدرةُ الإنسان قدرةَ الله تعالى، فقوة الله تعالى لا تُضادّ ولا تُزاحم، فما عندنا من اختيار إذن هو مجرد وهم، وإلا، فلو كان للإنسان قدرة في قبال قدرة الله تعالى فهذا يعني الجزّ والقطع والتحديد في القدرة الإلهية، وهذا محال.

وترجع أصول هذا الدليل إلى ما ادّعوه من أن التوحيد الأفعالي يقتضي أن لا فاعل في الوجود حقيقة إلا الله تبارك وتعالى، وبالتالي فما يفعله الإنسان إنما هو مجبر عليه وتحت القدرة الإلهية التي تفعل كل شيء بما في ذلك الفعل الصادر من الإنسان.

ص: 132

الجواب:

أولًا: الوجدان قاضٍ بالاختيار، ويأتي نفس الجواب الأول السابق على دليلهم الأول، وقد تقدمت المؤشرات التي توضّح هذا الوجدان.

ثانيًا: لا شك أننا نقبل -وبإصرار- أن قدرة الله تعالى عامة وشاملة لكل شيء –كما تقدم-، ولكن هل عموم القدرة الإلهية يقتضي نفي أي قدرة أخرى؟

من الواضح أن عموم القدرة الإلهية وكونها قدرة مطلقة غير محدودة يقتضي نفي القدرة اللا متناهية واللا محدودة في عرضها، أي نفي القدرة التي تعارض قدرة الله تعالى، أما القدرة التي تكون مترشحة من قدرة الله تعالى وفي طولها وبإذن الله تعالى وبحوله وقوته، فهذه لا مانع من ثبوتها لا عقلًا ولا شرعاً، ونحن ندّعي أن قدرة الإنسان إنما هي بإذن الله تعالى وتحت قدرته، ولا تخرج قدرة الإنسان عن قدرة الله تعالى في حال من الأحوال.فالدليل الثاني انطلق من أن القدرة الإلهية شاملة وعامة –وهذا صحيح-، واستنتج أنها ترفض وتُلغي كل قدرة أخرى، وهذه الانتقالة غير صحيحة، فإن القدرة المطلقة تنفي القادر المطلق الآخر، لا مطلق القادر ولو كان في طول المطلق وبإذنه، تمامًا كما أن وجوب الوجود ينفي وجود واجب وجود آخر في عرض الأول، ولا ينفي وجود أي موجود ولو كان ممكنًا، والوقوع أدلّ دليل على الإمكان.

ونفس الكلام يُقال فيما لو أُريد الاستدلال على الجبر بعموم الإرادة

ص: 133

الإلهية، فإننا نقبل ذلك، ولكننا نقول: إن عموم الإرادة الإلهية يُلغي الإرادة المطلقة في عرضها، وأما الإرادة في طولها وبإذنها فلا مانع عقلًا ولا شرعًا منها، وهو المدّعى والواقع.

الأمر الثالث: آثار أخرى للجبر

مما تقدم يتبين: أن الدليل على أن الإنسان مختار رغم أنه ما زال تحت القدرة والإرادة والعلم الإلهي هو: العلم الحضوري والبديهي والوجداني بالاختيار، فإن الإنسان يشعر بوجدانه أنه مختار ويفعل بمحض إرادته، وقد تقدمت بعض المؤشرات على ذلك.

يُضاف إليه: أن القول بالجبر يستلزم نسبة الظلم والقبح إلى الله تبارك وتعالى عن ذلك علوّا كبيرًا، إذ إن الجبر يعني أن ما يصدر من الإنسان إنما هو صادر من الله تعالى في الحقيقة لا من الإنسان، وبالتالي فأي فعل يصدر من الإنسان إنما هو في الحقيقة من الله تعالى، فإذا فعل الإنسان أمرًا قبيحًا، فهذا يعني نسبة القبيح إليه تعالى، وهو محال كما هو واضح.

على أن الجبر يؤدي إلى تملّص المجرم من جريمته، بحجة أنه مجبر على فعله، وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، وبذلك يُلقي باللوم خارج ساحته، وبالتالي يتخلص من تحمّل مسؤولية فعله، وهذا ما ينفع كثيرًا السلاطين الظالمين، ولذلك يمكن القول بأن في الجبر مآرب سياسية ربما أكثر منها عقائدية.

ولو كان الفاعل لأفعال العبد هو الله تعالى، لما كان هناك وجه لمعاقبته لو

ص: 134

أذنب، إذ الفرض أنه مجبر، فلا إرادة له، فكيف يعذّبه الله تعالى على شيء لم يفعله بإرادته؟!

الأمر الرابع: نفي الجبر في الروايات الشريفة

وردت العديد من الروايات التي تنفي الجبر، والتي استعملت الوجدان -الذي تقدمت الإشارة إليه- كحدّ أوسط لنفي الجبر، ونذكر منها التالي:

1/روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لا تقولوا: أجبرهم على المعاصي، فتُظلِّموه.(1)

أي إن الله تعالى لو كان هو من أجبر العباد على أفعالهم، فبالتالي يكون هو تعالى من أجبرهم على المعاصي، فيكون ظالمًا للعباد عندما يعاقبهم على تلك المعاصي التي صدرت منهم رغمًا عنهم بل إنها صدرت عنه هو (تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا).

2/في رواية أنه كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) جَالِساً بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِه مِنْ صِفِّينَ، إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْه ثُمَّ قَالَ لَه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ أبِقَضَاءٍ مِنَ الله وقَدَرٍ؟

فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَجَلْ يَا شَيْخُ، مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً ولَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ الله وقَدَرٍ.

فَقَالَ لَه الشَّيْخُ: عِنْدَ الله أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ!

ص: 135


1- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص 311.

فَقَالَ لَه: مَه يَا شَيْخُ، فَوَالله لَقَدْ عَظَّمَ الله الأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ وأَنْتُمْ سَائِرُونَ، وفِي مَقَامِكُمْ وأَنْتُمْ مُقِيمُونَ، وفِي مُنْصَرَفِكُمْ وأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ، ولَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِكُمْ مُكْرَهِينَ، ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ.

فَقَالَ لَه الشَّيْخُ: وكَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِنَا مُكْرَهِينَ ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ، وكَانَ بِالْقَضَاءِ والْقَدَرِ مَسِيرُنَا ومُنْقَلَبُنَا ومُنْصَرَفُنَا؟!

فَقَالَ لَه: وتَظُنُّ أَنَّه كَانَ قَضَاءً حَتْماً وقَدَراً لَازِماً، إِنَّه لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ والْعِقَابُ، والأَمْرُ والنَّهْيُ، والزَّجْرُ مِنَ الله، وسَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ والْوَعِيدِ، فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ ولَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ، ولَكَانَ الْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ، ولَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ، تِلْكَ مَقَالَةُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ وحِزْبِ الشَّيْطَانِ وقَدَرِيَّةِ هَذِه الأُمَّةِ ومَجُوسِهَا...(1)

فالإمام (عليه السلام) يذكر مؤشرات وجدانية ولوازم ضرورية للقول بالجبر، وهي لوازم باطلة بالوجدان والدليل، والنتيجة: أن الجبر باطل.

3/ وفي رواية ثالثة أن رجلًا سأل الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) عن القضاء والقدر فقال: ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله، يقول الله تعالى للعبد: لمَ عصيتَ؟ لمَ فسقتَ؟ لم شربتَ الخمر؟ لمَ زنيتَ؟ فهذا فعل العبد، ولا يقول له: لمَ مرضتَ، لمَ علوتَ؟ لمَ قصرتَ؟ لمَ ابْيضَضْتَ؟ لمَ اسودَدْتَ؟ لأنه من

ص: 136


1- الكافي للكليني ج1 ص 155 بَابُ الْجَبْرِ والْقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ ح1.

فعل الله تعالى.(1)

وفي هذه الرواية مؤشر وجداني على تقسيم الأفعال إلى إرادية وغير إرادية، وأن الحساب يكون على الأولى منها، وهذا لا يتلاءم إلا مع افتراض الإرادة الإنسانية.

4/ وفي السياق ذاته روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال يومًا لبعض المجبِّرة: هل يكون أحد أقبل للعذر الصحيح من الله؟ فقال: لا. فقال له: فما تقول فيمن قال: ما أقدرُ، وهو لا يقدر، أيكون معذورًا أم لا؟ فقال المجبر: يكون معذورًا.

قال له: فإذا كان الله يعلم من عباده أنهم ما قدروا على طاعته، وقال لسان حالهم أو مقالهم لله يوم القيامة: يا رب ما قدرنا على طاعتك لأنك منعتْنا منها، أما يكون قولهم وعذرهم صحيحًا على قول المجبِّرة؟ قال: بلى والله. قال: فيجب على قولك أن الله يقبل هذا العذر الصحيح، ولا يؤاخذ أحدًا أبدًا، وهذا خلاف قول أهل الملل كلهم! فتاب المجبرة من قوله بالجبر في الحال.(2)

والرواية ذكرت شاهدًا وجدانيًا أيضًا، مفاده ما تقدم من أن الجبر لا يسوغ العقوبة، وأن العقوبة والحساب هما من المفاهيم التي لا تظهر ولا يكون لها معنى إلا مع افتراض الإرادة الإنسانية.

ص: 137


1- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس ص 330.
2- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس ص 327 – 328.

إشارة: ذم الجبر في الروايات الشريفة:

هناك العديد من الروايات التي ذمّت القول بالجبر، وبألسنة متعددة، ومنها:

ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: خمسة لا تُطفأُ نيرانهم، ولا تموت أبدانهم: رجل أشرك، ورجل عقّ والديه، ورجل سعى بأخيه إلى السلطان فقتله، ورجل قتل نفسًا بغير نفس، ورجل أذنب وحَمَلَ ذنبه على الله عز وجل.(1)

وعن إبراهيم بن أبي محمود قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام)... عن الله عز وجل: هل يجبر عباده على المعاصي؟ فقال: بل يخيرهم ويمهلهم حتى يتوبوا. قلت: فهل يكلف عباده ما لا يطيقون؟ فقال: كيف يفعل ذلك؟ وهو يقول: (وَمَا رَبُّك بظلّامٍ للعَبيد)(2)

ثم قال (عليه السلام): حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: من زعم أن الله تعالى يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته ولا تقبلوا شهادته ولا تصلوا وراءه ولا تعطوه من الزكاة شيئًا.(3)

ص: 138


1- كنز الفوائد للكراجكي ص 202.
2- فصلت (46).
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج1ص 113 ح16.
المبحث الثاني: الجبر الاجتماعي
اشارة

ما تقدم الكلام فيه هو الجبر الكلامي، أي الجبر الذي يعني أن هناك قوة إلهية تجبر الإنسان على فعله، وتسلبه إرادته واختياره، بحيث يتحول الإنسان إلى مجرد آلة، كالسكين في يد القصاب، أو كالقلم بيد الكاتب.

وهناك نوع آخر من الجبر يُطلق عليه: الجبر الاجتماعي، والكلام فيه يقع ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: معنى الجبر الاجتماعي

لا شك أن الإنسان لا يعيش في هذا العالم منفردًا بنفسه، بل هو يعيش ضمن أسرة معينة، لها تقاليدها الخاصة، ولها قوانينها الحياتية المتعارفة.

هو ينتمي لقبيلة ما، تفرض عليه بعض الأمور التي لا بد أن يلتزم بها.

هو يعيش على أرض وطن له سيادته وقانونه، عليه أيضًا أن يلتزم بها.

هو محاط بالكثير من المؤثرات التي تسوقه نحو بعض التصرفات وإن لم يكن راغبًا بها. وهذا ما يؤسس لمفهوم الجبر الاجتماعي.

فالجبر الاجتماعي إذن ينطلق ويتأسس من العلاقة بين الإنسان والإنسان

ص: 139

الآخر، أو بين الإنسان والطبيعة، فالجبر هنا يقول: إن الإنسان مقهور للطبيعة، للوراثة، للبيئة، للمناخ، للتقاليد والأعراف، هو أشبه بمن يقع في نهر جارٍ نحو شلال، فإنه مهما نظّر وأقنع نفسه بأنه مختار، فإن النهر يسحبه بقوة نحو الشلال! وهو أشبه بالمريض الذي يعتبر مرضه لوحة جميلة، ولكنه في الواقع يعيش ألمًا لا يُحس به غيره!

فهل الإنسان مجبر بهذا المعنى؟

النقطة الثانية: مفاصل أساسية وفروق بين الجبر الكلامي والاجتماعي
اشارة

في الجواب عن الجبر الاجتماعي علينا أن نفهم المفاصل التالية:

المفصل الأول: وجود القوة القاهرة وعدمه

هناك فرق بين الجبر الكلامي وبين الجبر الاجتماعي، فالجبر الذي تحدثنا عنه أولًا يعني أن هناك قوة قاهرة، تسلب اختيار الإنسان بالمرة، بحيث يتحول إلى مجرد آلة بيد محرّكها، أما الجبر الاجتماعي فلا يعني ذلك، وإلا لرجع إلى الجبر الكلامي، وإنما يعني أن هناك قوى متعددة تجتمع لتضطر الإنسان إلى أن يقوم ببعض الأفعال التي لا يرغب بها، فإن ضغط القبيلة مهما كان، فإنه لا يسلب اختيار الإنسان ولا يحوله إلى مجرد آلة، وإنما قد يضطره إلى الزواج بابنة عمه أو بابن عمها، ولكنه يمكنه أن يهرب مثلًا ولا يتزوج، يمكنه أن يرفض حتى وإن رفضته القبيلة.

والحاصل: أن الجبر الاجتماعي مهما ضغط على الإنسان، ولكنه لا يصل

ص: 140

إلى حد سلب الاختيار بالمرة.

وبعبارة مختصرة: أن الجبر الكلامي هو علة تامة لسلب الاختيار عن الإنسان.

أما الاجتماعي فهو علة ناقصة لذلك.

وهذا من أهم الفروق بين الجبر الكلامي والجبر الاجتماعي.

المفصل الثاني: الاختيار علة ناقصة للفعل

صحيح أننا انتهينا إلى ان الإنسان مختار في فعله، ولكن هذا لا يعني أن الاختيار هو العلة التامة للفعل، بل في الحقيقة هو علة ناقصة للفعل، فأنت ربما تريد أن تكون عالمًا، أنت عندك إرادة واختيار على ذلك، ولكن محض الإرادة لا تجعلك عالمًا، إنما تحتاج إلى ألف علة وعلة أخرى تقف مع اختيارك وإرادتك لتصبح عالمًا، فأنت تحتاج إلى الأستاذ، والكتاب، والزميل، والوقت، والصحة، والأمن، تحتاج إلى قلم، وتحتاج إلى حبر، وتحتاج إلى كثير من الأمور التي لا بد أن تقف مع الإرادة، حتى يمكنك أن تصير عالمًا مثلًا.

وقد تقدم أن للفعل مبادئ هي التصور والتصديق والشوق ثم تأتي الإرادة بعد تلك المقدمات.

فالاختيار ليس علة تامة للفعل، وإنما هو علة ناقصة.

والجبر الكلامي ينفي الاختيار من الأساس، أما الجبر الاجتماعي فإنه لا ينفي الاختيار من الأساس، وإنما هو يقول: إن هناك موانع عديدة تقف

ص: 141

معترضة أمام الإرادة دون تحقيق مرادها.

المفصل الثالث: سلب الإرادة وعدمه

هناك فعل جانحي، وهناك فعل جارحي، فالجانحي مثل التفكير، والاعتقاد، والإرادة، والجارحي مثل الصلاة، والأكل، والسفر، والزواج...

الجبر الكلامي يسلب من الإنسان الإرادة، وهي فعل جانحي، هي فعل لا يُرى بالعين، وإنما هو أمر معنوي.

أما الجبر الاجتماعي، فإنه لا يسلب الإرادة الداخلية للفعل، وإنما يمنع من وقوع الفعل الخارجي الجارحي الفيزيائي (أي المراد)، فإن من طبيعة الفعل الجارحي أنه قد يصطدم بالكثير من الموانع التي لا تستطيع أن تمتد إلى الداخل الإنساني لتمنعه، فالإرادة قد تكون موجودة لدى الإنسان ليكون تاجرًا مثلًا، ولكن هناك موانع خارجية تمنع من تنفيذ هذه الإرادة وتحويلها إلى فعل خارجي، كقوانين الدولة، أو قلة ذات اليد، وما شابه.

أنت تريد أن تسافر مثلًا للحج، لكنهم يمنعونك من السفر لعدم توفر الشروط اللازمة فيك.

فالفعل الخارجي له عدة علل، ومنها الإرادة، فقد تتحقق، ولكن بقية أجزاء العلة لا تكون متحققة، فتبقى الإرادة يتيمة من دون أن تساعدها بقية الأجزاء لتتحول إلى تنفيذ خارجي.

فالإنسان في الجبر الاجتماعي يدخل في صراع مع العوامل الخارجية،

ص: 142

فهو يريد أن يحقق ما يُريد، ولكن الأعراف والطبيعة وبقية العوامل قد تقف مانعًا من ذلك، الأمر الذي سيجعل الفرد يفكر في طرق إبداعية للتخلص من ضغط تلك العوامل من خلال التطور والتحليل والاستنتاج.

فعلينا إذن أن نميز بين الإرادة والاختيار كفعل جانحي داخلي، وبين تحقيق الفعل خارجًا الذي هو تنفيذ للإرادة واستمرار لحدوثها في الداخل.

وباختصار: أن الجبر الكلامي ينفي الإرادة.

أما الاجتماعي فإنه ينفي المراد لا الإرادة.

المفصل الرابع: سلب الإرادة وسوء الإرادة

هناك فرق بين الإرادة، وبين حسن وسوء الإرادة.

فالإرادة صفة ذاتية، تصف نفس الذات.

أما حسن وسوء الاختيار فهي صفة فعل، فالفعل –بالاعتبارات العقلية والشرعية- قد يكون حسنًا، فيكون اختياره حسنًا، وقد يكون قبيحًا، فيكون اختياره سيئًا. أي إنه توظيف وتفعيل الإرادة والاختيار.

والجبر الكلامي يسلب الإرادة نفسها.

أما الجبر الاجتماعي فهو لا يسلب الإرادة، وإنما قد يؤدي بالإنسان إلى أن يجعله يُسيء تفعيل اختياره، ولا يختار الأمر الحسن.

فمهما اشتدت الضغوط على المرء، لكنها لا تسلب منه صفته الذاتية التي

ص: 143

هي الاختيار، وإنما هي تضغط عليه لتجعله هو يوجّه اختياره نحو وجهة ما، قد تكون حسنة، وقد تكون سيئة. على أن الاختيار السيء لا ينفي الاختيار، فلو رمى إنسان نفسه من شاهق باختياره، فإنه وإن كان بعد أن يرمي نفسه لا يملك الخيار بالتراجع، ولكن العقلاء يعتبرون فعله هذا صادرًا منه وبمحض إرادته، ولذلك يذمونه على هذا الفعل القبيح، وهذا هو معنى ما يُقال: إن الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار.

المفصل الخامس: سلب الإرادة المؤقت والدائمي

هناك فرق بين الجبر المؤقت والجبر الدائمي، فالجبر الكلامي يعني سلب الإرادة على نحو الدوام، فهو يذهب بإرادة الإنسان إلى حيث لا رجعة فيها، وأما الجبر الاجتماعي، فهو في أسوء أحواله يسلب الإرادة في بعض الوقت لا دائمًا؛ إذ إن الإنسان حينما يريد أن يفعل فعلًا ما، فإن الفعل يحتاج إلى تحقق الكثير من العلل الناقصة –كما تبين أكثر من مرة- تتضمن رفع الموانع وتوفير الشروط وتحقيق المقتضيات للفعل، فعالمنا هو عالم العلل المركبة.

ومن طبيعة العلل المركبة أنها تدريجية الوقوع، ولا يعني كونها كذلك أن حصولها يكون بيسر وسلاسة، وإنما يحصل فيها الكثير من الموانع والعقبات، وحينها، فإنه يحتمل أنه وفي وسط الطريق يصطدم الإنسان ببعض العقبات التي تثنيه عن تنفيذ إرادته، أو تحقيق مراده، فيتصور أنه مجبر، والحال أن هذا ليس جبرًا، وإنما هي طبيعة عالم المادة المبنية على أساس وجود الموانع التي يُطلب من الإنسان العمل بجد على إزالتها والتغلب عليها، أي إنه من

ص: 144

مشاريع الإنسان في هذه الحياة هي إزالة العقبات والموانع التي تقف دون تنفيذ مراداته.

ولكن تراكم العقبات والموانع وعدم توفر شروط تنفيذ المراد، قد يولّد عند الفرد إحساسًا بأنه مجبر ولا يستطيع الوصول إلى الهدف وأنه عاجز عن ذلك، وهذا أمر غير واقعي وغير صحيح.

على كل من يواجه ضغوطًا شديدة في الحياة ان يتذكر قول الشاعر(1):

أما ترى الحبل بتكراره *** في الصخرة الصمّاء قد أثّرا

إن الخطأ الذي يقع فيه البعض أنه يتوقف عندما يواجه بعض العراقيل في الطريق، فيتصور أنه عاجز عن الوصول، والحال أن الإنسان العاقل والفاهم لطبيعة الحركة في هذا العالم، يبقى يحاول بطريقة وبأخرى ليزيل العقبات والموانع، وأن يوفّر لنفسه شرائط بديلة عن تلك التي فقدها، ويواصل الطريق حتى يصل إلى الهدف، ويضع تُصب عينيه: أن الناجح في الحياة هو من بحث عن الظروف التي تلائمه للوصول إلى هدفه، فلمّا لم يجدْها صنعها بنفسه.

والحاصل: أن الجبر المؤقت لا ينافي الاختيار ولا يُخلّ به.

المفصل السادس: سلب الإرادة والكسل

هناك فرق بين الجبر الكلامي وبين فكرة: الكسل، المجان، اليسر،

ص: 145


1- كشف الخفاء للعجلوني ص 67، والبيت غير معروف القائل.

والشهوة.

فإننا نلاحظ أن بعض الفلسفات والأقوال، جاءت للتغطية على خطأ مبرمج، كالكسل، والبحث عن الربح بالمجّان، واليسر، وإشباع الشهوات والرغبات إلى حدّ التخمة...

فيبتعد الكسول عن تحصيل المعالي، فيعمل على تغطية كسله بأنه مُجبر وأن الظروف هي من أجبرته على ان يبقى في آخر الركب، أو يحاول أن يصور أنه غير مختار لأنه لا يستطيع أن يحصل على مراداته بالمجّان أو بصورة يسيرة وسهلة، وكأنه يجعل من الاختيار توأمًا للمجان واليسر، أو إن البعض يشتهي أن يحصل على مراده ويشبع رغباته ويُصبح الرجل الأول في مجتمعه من دون أن يبذل أي جهد، يُريد أن يلعق العسل بملاعق الذهب! خصوصًا وأن عند الإنسان نزعة تبريرية تعمل على إلقاء اللوم على الآخرين والتملًص من المسؤولية، قال تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدىٰ بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا

ص: 146

يَعْمَلُونَ.)(1)

وقال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ وَلَوْ يَرَىٰ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.)(2)

من هذا نفهم لا بدّية التمييز بين الجبر الحقيقي –الذي يعني سلب الاختيار بالمرة- وبين هذه المفاهيم التي لا تتنافى مع الاختيار كما هو واضح. فالكسول لا يمكنه أن يخدعنا بأنه مجبر، وإنما هو آثر الراحة والفقر على التعب وجني الثمار.

إننا نرى بأم العين أن اختيار الإنسان يفعل المستحيل فيما لو ابتعد الفرد عن الكسل والتعاجز، ونظر بعين واقعية إلى انه لا مجّان في البين، فإذا فعّل اختياره بصورة صحيحة وجيدة، فإنه سيصل ولو بعد حين.

المفصل السابع: سلب الإرادة أو فرض الموانع

هناك فرق بين الجبر الكلامي والجبر القانوني، فالجبر الفلسفي أو الكلامي هو ينفي الإرادة من أصلها، أما الجبر الاجتماعي والقانوني فهو لا

ص: 147


1- سبأ 31 – 33
2- البقرة 165 – 167

ينفي الإرادة من أصل، وإنما هو يولّد موانع من تنفيذ الإرادة في الخارج رغم وجودها في الداخل كما تبين.

إشارة: شكلا الجبر الاجتماعي القانوني
اشارة

إن الجبر الاجتماعي أو القانوني على شكلين:

الشكل الأول: الجبر القانوني التشريعي

بأن يأتي قانون ملزم للأفراد، فهو إلزام قانوني اعتباري لا تكويني حقيقي، فالدولة مثلًا عندما تُشرّع قانونًا يُلزم التجّار بدفع الضريبة، فهذا قانون، ويمكن للتاجر أن يعصي هذا القانون، ويمكن أن يلتف عليه برشوة أو منصب وما شابه، فهو لا يتنافى مع الاختيار، فالجبر التشريعي القانوني لا يسلب اختيار الإنسان وإن كان ملزمًا له.

والآمر والملزِم هنا هو نفس المشرّع، فهو الذي يُهدّد ويُلزم الأفراد.

ولذلك فهو يُلزمك بالطاعة لا بالمعصية، يُلزمك عادة بما يصب في صالح المصلحة العامة للبشرية. فهو يجبرك على تنفيذ القانون لا على مخالفته. وإلا، فلو لم يلزمنا المشرّع بالقانون، لأدّى ذلك إلى الفوضى وضرر الإنسان، نظير الطبيب الذي يُلزم المريض بشرب دواء ما رغم أن المريض لا يحبّذه لمرارة طعمه مثلًا، ولكن الطبيب يلزمه بذلك ليُرجعه إلى حالة التوازن الصحّية.

الشكل الثاني: الجبر بالتهديد والاضطرار

كما لو أجبرك الحاكم على بيع بيتك، أو أكرهك أحدهم على الإفطار،

ص: 148

فهذا نوع من الجبر القانوني، والتجاوب معه –ببيع البيت أو الإفطار- له آثار قانونية، فبيع البيت جبرًا –بهذا المعنى- باطل، والإفطار لا يعتبر معصية ولا تجب فيه الكفارة، فالاضطرار يرفع التكليف أو أثر التكليف، أي إن القانون يُرتب آثار الجبر على هذا النوع من الإكراه رغم أنه لا يسلب الإرادة وليس جبرًا فلسفياً، لأنه يمكن للإنسان أن لا يبيع بيته أو أن لا يُفطر حتى لو سجنوه او حتى لو قتلوه، ولكن حيث إن الإنسان لا يحبذ الموت أو السجن أو الضرب، حيث إن هذه الأمور صعبة التحمل على الإنسان، فالإنسان يضطر أن يرضخ للتهديد أو الإكراه، والقانون تعامل مع هذا الإكراه تعامل الجبر الفلسفي الذي يسلب الإرادة، تخفيفًا على الإنسان طبعًا.

والجبر القانوني الاضطراري يكون الآمر فيه والمهدِّد هو شخص آخر غير المشرّع، بل المشرّع هنا هو من يُخفّف على الإنسان لو وقع عليه الاضطرار والإكراه، فالمشرّع اصطفّ مع الإنسان لا مع المكرِه، لذلك رفع المؤاخذة عن الفرد.

مما يعني أن المكرِه هنا يضطرك إلى المعصية لا الطاعة، لذلك لم يعتبره المشرع عملًا صحيحًا.والخلاصة، أن الجبر الفلسفي هو الذي يتنافى مع الاختيار.

أم الجبر القانوني فهو لا يتنافى مع الاختيار ولا يسلب الاختيار.

ص: 149

النقطة الثالثة: الجواب عن الجبر الاجتماعي
اشارة

إذا تبين كل ما تقدم، سيكون الجواب عن الجبر الاجتماعي واضحًا إن شاء الله ضمن الخطوات التالية:

الخطوة الأولى

إن الطبيعة –بقوانينها الأسرية والقبلية والدولية و...- لا توجب سلب إرادة الإنسان واختياره، فهي لم تصل إلى حدّ (القوة القاهرة)، ولم يدّعِ أحدٌ أن قوانين الطبيعة جعلت الإنسان كالآلة، بل يبقى هامش الاختيار بحيث يتمكن الإنسان أن يتمرد على كل القوانين والمعوقات التي تحيط به.

الخطوة الثانية

إن قوانين الطبيعة والمضادات والعقبات، إنما تعمل على إعادة برمجة الفعل الإنساني، والالتفاف عليه، بمعنى: إنه تقدم أن الفعل الإرادي له مبادئ، هي: التصور فالتصديق والقناعة فالشوق ثم الإرادة، وتلك المقدمات والمبادئ هي مرجحات للفعل، فأنت عندما تتصور الفائدة في العلاج، فهذا التصور يكون مرجحًا لتفعيل الإرادة نحو استعمال الدواء وإن كان مرًّا، وهكذا بقية المبادئ.

وقوانين الطبيعة لا تُلغي الإرادة، وإنما تتلاعب بالصور مثلًا، تغير القناعات والمشاعر، فهي لا تسلب الاختيار، وإنما تتلاعب بالوجهة لتجعل الاختيار يسير إلى طريق آخر، فالاختيار محفوظ، لكنه لا يسير بالطريق

ص: 150

المرغوب به، وإنما يسير في طريق آخر نتيجة لضغط الظروف الخارجية والاجتماعية.

ومع ذلك، فتلك الظروف لا تجعل الاختيار أعمى، وإنما يبقى له بصيص نور يُبصر به، ويستطيع به أن يتمرّد على كل الظروف المحيطة به، فيستطيع الاختيار أن يعدّل التصورات والقناعات ويرجع بها إلى حيث يرغب.

الخطوة الثالثة

مهما صعبت الظروف، وادلهمت الأمور، فإن الكلمة الأخيرة تبقى للاختيار، حتى لو وصل الحدّ بالظروف إلى الإحاطة التامة بالاختيار، فإنه يبقى لديه القدرة على أن يقول (هيهات منا الذلة) ويقول (ومثلي لا يبايع مثله).

فالجبر الاجتماعي في الحقيقة لا يسلب اختيار الإنسان، وإنما هو يعمل على توجيه الاختيار بوجهة أخرى.

وربما أوضح مثال على هذه الحقيقة، هو عمل إبليس مع الإنسان، فإنه مهما وسوس له وزيّن له القبيح من الأفعال والأقوال، لكنه لا يسلب إرادة الإنسان أبدًا، ولا يحوله إلى آلة بيده، بل تبقى الكلمة الأخيرة للإنسان مهما كانت وساوس إبليس وتسويلاته، وهذا الأمر كان مفهومًا حتى لإبليس، لذلك عندما يريد المنحرف أن يرمي بمسؤولية معصيته عليه، فإنه يتبرأ من ذلك ويعلنها على الإنسان أنه ابع بإرادته، وأنه لم يجبره على المعصية، وهذا

ص: 151

ما حكاه الباري جل وعلا في محكم كتابه بقوله: (وَبَرَزُوا لِلهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.)(1)

الخطوة الرابعة

ومما يؤكد ما تقدم من أن الطبيعة وظروفها مهما اشتدت فإنها لا تسلب إرادة الإنسان، وأن الإنسان يستطيع أن يتمرد على أحلك الظروف، هي ظاهرة الأنبياء وأتباع الأنبياء، فإن الأنبياء عادة ما يخرجون من رحم المجتمعات القاسية البعيدة كل البعد عن التعلق بالغيب، عادة ما يكون ظهور الأنبياء في مجتمعات متماسكة من جهة الكفر والطغيان والفتك بكل المناوئين والمعارضين للحكم، حتى أنه كان يُقتل في بني إسرائيل سبعون نبيًا قبل طلوع الشمس.(2) ومع ذلك فقد برزت ظاهرة النبوة بقوة، وتجمّع مع

ص: 152


1- إبراهيم 21 و22.
2- في بحار الأنوار ج44 ص 365 أنه جاء عبد الله بن عمر فأشار على الإمام الحسين (عليه السلام) بصلح أهل الضلال وحذره من القتل والقتال، فقال: يا أبا عبد الرحمان أما علمت أن من هوان الدنيا على الله تعالى أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل أما تعلم أن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيا ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئا فلم يعجل الله عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام اتق الله يا أبا عبد الرحمان، ولا تدع نصرتي...

الأنبياء أنصار ثبتوا على المبدأ رغم صعوبة الظروف التي مروا بها مما حفظته المدونات التاريخية.

ونفس الكلام يُقال في حياة كثير من العباقرة والمبدعين في مختلف العصور.

كل هذا معناه: أن المجتمع مهما كان ضغطه قويًا، لكنه لا يسلب الإرادة.

ص: 153

ص: 154

المسألة الثالثة: التفويض
اشارة

وهنا عدة نقاط:

النقطة الأولى: معنى التفويض

إذا كانت نظرية الجبر تعني أن الإنسان هو كالآلة، لا يفعل شيئًا بمحض إرادته، وأن كل شيء إنما هو صادر من الله تعالى، فإن نظرية التفويض تقف على أقصى الجانب المقابل لهذه النظرية، فإنها تعني أن نظام البشرية هو نظام (اذهب انت واختيارك فقاتلا) لا (أنت وربك).

إن نظرية التفويض تفترض أن الله تعالى أوجد العالم، ورفع يده عنه، بحيث لا يتدخل بعد إيجاده أبدًا، وإنما تركه للبشر بعد أن أوجد أولياته وعناصره وأدواته، فلا لمسة للخالق في الكون استمرارًا، فأي شيء يحصل في هذا العالم فلا تدخّل لله تعالى فيه، تمامًا كما لو أن الأب قال لولده: ادخل الجامعة، وتفضل هذا كل ما تحتاج إليه في الجامعة، ولا أراك إلا في نهاية دوام الجامعة، فلا يسأل عنه ماذا صنع وكيف درس وماذا فعل، لا دخل له به من هذه الناحية.

ص: 155

فنظرية التفويض تقول: إن الله تعالى أوجد العالم وأوجد كل ما يحتاج إليه الإنسان فيه، ورفع يده بعد ذلك، فلا يتدخل في هذا العالم بأي شيء، وإنما يرجع ليتدخل مرة أخرى في يوم القيامة.

النقطة الثانية: خلفية القول بالتفويض

إن الإنسان مختار بالوجدان، هذا من جهة المتناهي (الممكن)، ولكن من جهة الواجب اللا متناهي، فإنه عندما اوجد العالم، فقد أوجده بصورته النهائية، وكل إضافة من الواجب إلى هذا العالم هي تحصيل حاصل، وأي إضافة في العالم تعني تغيير العالم، فالعالم أُوجد وانتهى، ولا يحتاج بعده إلى علة، وأي تدخل من العلة للعالم يُعتبر تحصيلًا للحاصل.

وقد مثّلوا له فلسفيًا بالبنّاء والبِناء، فإنه عندما يكتمل البِناء فلا حاجة للبنّاء، وأي إضافة من البنّاء ستكون تحصيلًا للحاصل، إذ الفرض أن البناء اكتمل من كل الجهات.

فالقابل أخذ استحقاقه الكامل، ولا يحتاج إلى أي شيء آخر.

فالمفوضة يفترضون أن الإنسان موجود مختار قادر مريد بالوجدان، ولا معنى للتنافس والتدافع بين إرادة الله تعالى اللا متناهية وإرادة الإنسان المتناهية، لأن اللا متناهي أوجد العالم ورفع يده، ولم تبق في هذا العالم إلا إرادة الإنسان.

وبهذا تصوروا أنهم حافظوا على كلا الإرادتين: الإلهية والإنسانية.

ص: 156

وقيل: إن الذي دعا المفوضة إلى القول بالتفويض هو أنهم تصوروا أن الحفاظ على العدل الإلهي لا يتحقق إلا بالقول بالتفويض، ببيان: أن الأفعال التي تصدر من العباد، تحوي في داخلها الكثير من الظلم والشرور والقبائح، فحتى ننزه الله تعالى عن هذه النقائص، يلزم أن نقول بأن هذه الأفعال صادرة من الإنسان مستقلًا عن الله تعالى، وبهذا يتحقق العدل الإلهي.

النقطة الثالثة: مناقشة نظرية المفوضة:
اشارة

يمكن أن نناقش نظرية التفويض من عدة جهات، نذكر منها التالي:

الجهة الأولى

يظهر من هذا الذي تقدم أنهم استندوا في دعواهم إلى أن أي إضافة من الله تعالى لهذا العالم هو تحصيل حاصل، وأن تحصيل الحاصل محال.

إن مسألة (تحصيل الحاصل) هي مسألة أصولية منطقية فلسفية، ولا بد أن نعرف معناها جيدًا ليتضح الجواب:

إن معناها هو: لو كان هناك شيء ما (أو قل: نسخة شخصية معينة)، تم إيجاده، فهو الآن موجود، حينها، وفي لحظة وجوده، لا معنى لإيجاده مرة أخرى، لأنه يلزم أن يكون الواحد كثيرًا، وهو محال.

النسخة الشخصية أي مشخصة بلحظة معينة، فالتشخص يعني أنها في لحظة معينة لها وجود، أما في اللحظة الأخرى فهي غير الأولى، ذلك لأن عنصر الزمان داخل في مشخصات الوجود، وحيث إنه في الآن الثاني غير

ص: 157

الأول، فهذه نسخة ثانية تحتاج إلى فاعل.

فكل نسخة في لحظتها لا يمكن أن توجد في تلك اللحظة وفي لحظة أخرى.

فكل موجود في آن وجوده ولحظة وجوده لا يتكرر، لأنه يلزم تكثر الواحد، أو اجتماع المثلين.

هذا هو تحصيل الحاصل.

وهذا معناه، أن الموجود الذي له امتداد وبقاء، فإنه يحتاج في بقائه إلى فاعل، نعم، في مقطع معين إذا وُجد، فإنه لا يحتاج في تلك اللحظة إلى فاعل آخر.

وبعبارة أخرى: إن الموجود في لحظة وجوده وُجِد، فلا يحتاج إلى فاعل في تلك اللحظة، ولكنه في بقائه، حيث إنه في اللحظة الثانية غير موجود الآن، ففي اللحظة الثانية –أي البقاء- يحتاج إلى فاعل.

إذن:

1/ الموجود في اللحظة الثانية يحتاج إلى فاعل (كالمصباح الكهربائي الذي يحتاج إلى التيار الكهربائي في اللحظة الثانية ليستمر بالإضاءة)

2/الموجود الممتد زمنًا يحتاج إلى فاعل في اللحظة الثانية.

وهذه الحاجة إلى الفاعل في اللحظة الثانية لا يُسمى تحصيلًا للحاصل، لأنه لا تكرار فيه في اللحظة الثانية، نعم، في نفس اللحظة إذا وجد الشيء فلا

ص: 158

يحتاج في نفس تلك اللحظة إلى فاعل آخر. وإنما الكلام في استمرار الموجود، وهو لا يصدق عليه في اللحظة الثانية تحصيل الحاصل.

إذا تبين هذا نقول:

إن العالم في اللحظة التي وُجد فيها، ففي تلك اللحظة لا يحتاج إلى فاعل يوجده، لأنه موجود في تلك اللحظة، ولكن بقاءه في اللحظة الثانية يحتاج إلى فاعل يُبقيه، فمن دون الفاعل لا يستمر الوجود، والحاجة إلى الفاعل في اللحظة الثانية لا يعتبر تحصيلًا للحاصل.

وأما مثال (البناء والبنّاء) ففيه مغالطة، لأن (البنّاء) ليس علة إيجاد للبناء، وإنما هو فلسفياً (مُعدّ) بمعنى أن هناك أمورًا موجودة (مواد البناء) والبنّاء يأتي ليرتب هذا الموجود بشكل معين، لا أنه يوجد البناء من العدم، وهذا غير محل كلامنا، فإن كلامنا في العلة التي توجد الشيء وتخلقه.

الجهة الثانية
اشارة

إن نظرية التفويض تريد أن تنتهي إلى أن فعل الإنسان غير مقيد بفاعلية الله تعالى، أي إن الله تعالى لا يتدخل بفعل الإنسان، فالإنسان يفعل فعله بلا حاجة إلى تدخل الله تعالى، بل إن الله تعالى لا يتدخل أصلًا في فعل الإنسان.

فنظرية التفويض تُعطي استشعارًا عاليًا جدًا للاختيار والإرادة الإنسانية –على عكس نظرية الجبر تماماً التي تُشعر الإنسان بأنه مجرد آلة لا اختيار لها أبدًا- فهو مملوء بالاختيار حدّ التخمة، بحيث إنه حتى السماء لا تحكمه ولا

ص: 159

تتدخل بل لا يمكن أن تتدخل في تغيير أي شيء يريده، فالسماء لا تتدخل بسير الحياة، وإنما تُرك أمرها تمامًا للإنسان.

وهذا التصوير –في وجه من وجوهه- يؤدي إلى أن يستثمر الإنسان أكبر قدر ممكن من اختياره لاستغلال الفرص الحياتية حدّ الثمالة، ولذلك أخذ يغوص في أعماق الأرض ويرقى إلى آفاق السماء.

ولكنه من وجه آخر يستبطن الكثير من السلبيات العقائدية والنفسية والاجتماعية، ومنها التالي:

أولًا: عجز الإله

إن التفويض بوجهه المخفي يقول بأن الإله جل وعلا عاجز عن التدخل في هذا العالم، وبالتالي يكون الإنسان مستقلًا في فعله، بلا حاجة إلى إله، وهذا ما يؤدي في وجه من وجوهه إلى (الإلحاد) المقنّع، إذ ما الفائدة في إله عاجز؟!

إن التفويض يخالف ما ثبت فلسفيًا بأن الممكن محتاج إلى الواجب حدوثًا وبقاءً، إذ التفويض ينتهي إلى ان الحاجة إلى الواجب هي في الحدوث فقط دون البقاء.

ثانيًا: الانفصال عن الغيب

لأن الإنسان إذا شعر بأن الله تعالى لا يتدخل في أي شيء في هذه الحياة، فإنه سيعتمد فقط على الأسباب المادية، وبالتالي يضعف عنده بل يتلاشى ويتناسى (بإذن الله تعالى وحوله وقوته)، ويفقد الإنسان حينها عنصر (إن

ص: 160

شاء الله تعالى)، ولا يبقى يعتمد إلا على حوله وقوته هو.

وهذه السلبية تُرجمت في بعض الكلمات بنظرية (موت الإله)، فالإله إما ميت حقيقةً، وأو إنه ليس ميتًا، ولكن دوره في الحياة ميت، فيكون حينها هو والميت سواء.

وهذا يؤدي بالإنسان إلى أن يفسر الحوادث التي تجري في هذا العالم بتفسير مادي بحت لا دخل للغيب فيه، بل سوف لن يتوقع من الغيب أي شيء في هذا العالم، ولذا نُقل عن المفوضة أنهم قالوا: لو قُدّر للواجب (جل وعلا) أن يموت أو يُعدم لما أضرّ العالم بشيء.

ثالثًا: استلزام الشرك

إن القول بالتفويض يستلزم الشرك، لأن المفوضة يقولون: إن العبد هو الذي يخلق أفعاله بالاستقلال عن الله عز وجل. فصار عندنا فاعلان مستقلان بل فواعل بعدد الموجودات العاقلة الفاعلة، وهذا في الحقيقة يستلزم الشرك في التوحيد الأفعالي.

وقد تقدم أن مباحث التوحيد أثبتت أن هناك فاعلًا مستقلاً واحدًا فقط في الكون (يعني لا يحتاج إلى أي شيء خارج الذات) هو الله عز وجل.

إشارتان
الإشارة الأولى: نصوص قرآنية في عدم استقلال الإنسان بفعله

هناك آيات قرآنية عديدة تدل بكل وضوح على أن أفعال الإنسان لها

ص: 161

نحو ارتباط بالله تعالى، وأن الإنسان ليس فاعلًا مستقلًا، بل هو محتاج إلى الإذن الإلهي في كل أفعاله، مثل قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَىٰ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(1)، فهذه الآية تقول: أنتم فقراء إلى الله مطلقًا، والإطلاق يشمل حتى أفعالكم.

ويقول تعالى (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(2)

ويقول تعالى (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(3)

وقال تعالى (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ)(4)

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمىٰ)(5)

وغيرها من الآيات التي تشير وتصرح بوضوح أن الانسان غير مستقل بأفعاله، بل هناك نحو ارتباط بالله عز وجل، وهذا النحو من الارتباط لم يفهمه لا المجبرة ولا المفوضة، وإنما الذي وضحه هم أهل البيت (صلوات الله عليهم) فيما سيأتي بيانه من الأمر بين أمرين.

لذا ورد عن أبي حمزة الثمالي أنه قال: قال أبو جعفر الإمام الباقر (صلوات الله وسلامه عليه) للحسن البصري: وإياك أن تقول بالتفويض، فإن الله (عز وجل) لم

ص: 162


1- فاطر 15.
2- البقرة 102.
3- البقرة 249.
4- البقرة 251.
5- الأنفال 17.

يفوض الأمر إلى خلفه وهنًا منه وضعفًا، ولا أجبرهم على معاصيه ظلمًا.(1)

فهنا إشارة واضحة من الإمام الباقر (عليه السلام) على أن القول بالتفويض يؤدي إلى أن الله (تعالى) غير قادر على الهيمنة على الإنسان، وهذا يستلزم نسبة الضعف والوهن إلى الله (عز وجل).

الإشارة الثاني: استعمالات التفويض
اشارة

يستعمل التفويض في معانٍ عدة:

الأول: أن الله تعالى بعد أن خلق الإنسان، فإنه قد فوّض إليه أفعاله، فالإنسان مستقل تمامًا في إيجاد أفعاله عن الله عز وجل، يعني هو لا يحتاج إلى الله تعالى في أفعاله، نعم الله عز وجل قادر على تلك الأفعال، فقدرته لم تُسلب منه جل وعلا.

الثاني: نفس الأول، لكن مع دعوى أن الله عز وجل غير قادر على أفعال الإنسان، ولا يستطيع أن يمنعهم من تصرفاتهم، وهذا المعنى أقبح وأردأ من الأول.

وهذا المعنى من التفويض الملازم للاستقلال عن الله تعالى لم يدّعه أعظم مخلوقات الله تعالى حتى الأنبياء، فكيف ادّعاه المفوضة؟! هذا ما يدعو للاستغراب كثيرًا...

الثالث: أن الله تعالى يوكل القيام ببعض الأمور لبعض مخلوقاته في أن

ص: 163


1- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 63.

يفعلها حسب اختياره، لكن لا يخرج ذلك المخلوق -لا هو ولا فعله- عن قدرة الله تعالى وعن إذنه وعن أمره جل وعلا، فيبقى الله عز وجل قادرًا وغير عاجز، ولكنه يوكل إلى مخلوق ما أن تفعل شيئًا ما.

وبعبارة أخرى: إن التفويض الذي نفيناه كان يعني الاستقلال عن الله تعالى، فلا وجود للإذن الإلهي ولا لمعنى (حول الله وقوته)، والنكتة في استحالة هذا المعنى هو أن الإنسان محتاج إلى الواجب حدوثًا وبقاءً، فلا معنى لاستقلاله عن الواجب جل وعلا.

أما هذا الاستعمال الثالث، فهو بمعنى (التخويل) و (التوكيل)، أي إنّ الله تعالى ترك مساحاتٍ معينة ضمن أُطر معينة، وترك التحرك فيها للإنسان أو لغيره من الموجودات.

وقد ورد هذا المعنى في كثير من الروايات والآيات الشريفة، وهذا المعنى على نوعين:

الأول: التفويض التكويني

مثل تفويض قبض الأرواح للملك عزرائيل (سلام الله عليه) او للملائكة رغم أن الموت والحياة هما بيد الله تعالى، ومن هنا، فإنه في الوقت الذي يقول تعالى (اللهُ يَتَوَفَّىٰ الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها)(1)هو عز وجل يقول: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(2)فهذا الفعل

ص: 164


1- الزمر 42.
2- السجدة 11.

هو لله عز وجل، لكن الملك عزرائيل يتولى هذا الفعل بتفويض من الله عز وجل، وهكذا الكلام في الملائكة التي تتوفى الأنفس ايضا بالتفويض، قال تعالى (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(1)

ومثال آخر: ما كان يفعله النبي عيسى (سلام الله عليه) من إحياء الموتى وإبراء المرضى، قال تعالى (وَرَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.)(2)

الثاني: التفويض التشريعي

يعني أن يأذن الله عز وجل لبعض عباده -وفق مواصفات خاصة- بأن يعطوا تشريعات وفق المصالح والمفاسد الواقعية، وهو بمعنى الولاية التشريعية لأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) ويكشف عنه قوله عز وجل (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(3)

وهذا المعنى الثالث للتفويض يتلاءم مع مذهب أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم من أنه: لا جبر ولا تفويض، وإنما هو أمر بين أمرين.

ص: 165


1- الأنعام 61.
2- آل عمران 49.
3- الحشر 7.

ص: 166

المسألة الرابعة: في الأمر بين الأمرين
اشارة

المسألة الرابعة: في الأمر بين الأمرين(1):

حقيقة الاختيار في فعل الإنسان

بعد أن ثبت بطلان عقيدتي الجبر الأشعري والتفويض المعتزلي، يقع التساؤل عن النظرية الصحيحة فيما يتعلق بحقيقة فعل الإنسان من حيث الاختيار وعدمه، وهي نظرية الأمر بين الأمرين المستفادة من حديث الإمام

ص: 167


1- بالتحليل والدقة نجد: أ/ أن بحث الجبر وإن ظهر منه أن له صلة مباشرة باختيار الإنسان، فيجعل الإنسان كالآلة غير المختارة، فيقضي تمامًا على اختيار الإنسان، ولكنه في عمقه يرجع إلى نفي فكرة العلية والوسائط في عالم الإنسان بل في عالم الممكنات، ويحصر العلّية به جلّ وعلا. ب/ وأما بحث التفويض، فإنه وإن ظهر منه أنه مرتبط بإرادة الإنسان واختياره كذلك، ولكنه في عمقه ينتهي إلى القضاء على الاختيار الإلهي، وأن علاقة (البداية الأزلية) بمخلوقاتها هي علاقة الحدوث دون البقاء والاستمرار. فالعالم يدير نفسه بنفسه من خلال القوانين التي أحدثتها العلة الأزلية، ومن قوانينه: اختيار الإنسان. ج/ أما الأمر بين الأمرين، فإنه في الوقت الذي حافظ على اختيار الإنسان، وحافظ على نظام العلة والمعلول والوسائط في عالم الممكنات، وعلى أن واحدًا من الوسائط هو اختيار الإنسان، فإنه في الوقت ذاته حافظ على اختيار العلة الأزلية، والحاجة إليها بقاءً كما الحدوث، وعلى أن الاختيار الإنساني –بل وعالم الإمكان- ما زال تحت قدرة الإرادة الإلهية وهيمنتها وسلطنتها. فالإرادة الإلهية ما زالت فعّالة في عالم الإمكان بقاءً كما حدوثًا، وهناك هامش للاختيار الإنساني والوسائط في عالم الممكنات، من دون أن تخرج عن إرادة الله تعالى وهيمنته وقدرته.

الصادق (عليه السلام): لَا جَبْرَ ولَا تَفْوِيضَ، ولَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ.(1)

هذه النظرية تقول
اشارة

إن الإنسان مختار في أفعاله التي تصدر منه، ولكن هذا لا يعني خروجه عن قدرة الله تعالى وسلطنته، بل هو في عين كونه مريدًا مختارًا في فعله، بحيث يصدر الفعل عنه بمعنى الكلمة، لكن هذا لا يعني أن الإنسان وفعله خرج عن الله تعالى، بحيث لا يمكنه أن يتدخل في فعل الإنسان –كما أرادت المعتزلة الانتهاء إلى هذا المعنى-

وأما كيف نصوّر هذا المعنى، فيمكن أن يُقال:

إننا بالوجدان نُحس بأن الأفعال إنما تصدر منا باختيارنا ومحض إرادتنا، ولا نرى أنفسنا مجبورين على فعل معين، مع الالتفات إلى أننا نتكلم في الفعل الاختياري –كالكتابة والأكل والشرب وضرب الآخر والتكلم وما شابه- لا في الأفعال غير الاختيارية –كحركة الأعضاء الداخلية لجسم الإنسان- فهذه الأفعال خارج حريم النزاع كما هو واضح.

فنحن نتكلم في الفعل الذي تترتب عليه مسؤولية، وهو الفعل الاختياري، ونحن نجد أنفسنا بالوجدان مختارين.

وهذا المعنى من الاختيار لا يخرج عن قدرة الله تعالى، ذلك لأن الله تعالى هو الخالق لجميع الأشياء، ومنها إرادتنا للأفعال، بمعنى: أن الله تعالى خَلَقَنا

ص: 168


1- الكافي للكليني ج1 ص 160 باب الاستطاعة ح13.

مختارين، ففي نظامنا الداخلي توجد الإرادة والاختيار، فلو كان هناك شيء قد جُبر عليه الإنسان فهو اختياره، فالإنسان مجبر على الاختيار، وهذا لا ينافي الاختيار بل يوافقه ويؤيده كما هو واضح للمتأمل.

ويمكن بيان هذه الحقيقة من خلال بعض الأمثلة التي تبين هذه النظرية، وسنجد أنها متوافقة تمامًا مع الوجدان.

المثال الأول

ما ذكره الإمام الصادق (عليه السلام) فيما روي عنه:

لَا جَبْرَ ولَا تَفْوِيضَ ولَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ.

قَالَ [الرواي]: قُلْتُ: ومَا أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؟

قَالَ: مَثَلُ ذَلِكَ: رَجُلٌ رَأَيْتَه عَلَى مَعْصِيَةٍ، فَنَهَيْتَه، فَلَمْ يَنْتَه، فَتَرَكْتَه، فَفَعَلَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ، فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَرَكْتَه كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَه بِالْمَعْصِيَةِ.(1)

والمثال واضح جدًا، إذ هو يحتوي على:

1/ أن العاصي كان هو الذي يريد أن يعمل المعصية بإرادته.

2/ أنك لم تجبره على فعلها. وإنما وعظته فما اتعظ.

فهنا، لا يُقال عنك: إنك أجبرته على المعصية، حتى لو كنت قادرًا على منعه بالقوة والسلطنة، وإنما يُقال: إنك بيّنت له حقيقة الحال، وتركته يختار

ص: 169


1- الكافي للكليني ج1 ص 160 بَابُ الْجَبْرِ والْقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ- ح13.

ما يريده هو، وهو اختار فعل المعصية بمحض إرادته، فلا المعصية صدرت منك، ولا هو مجبر على فعلها.

وهكذا نحن في أفعالنا، فالله تعالى بيّن لنا حقيقة الحال والحكم الشرعي في أفعالنا، وأمرنا تشريعًا بالحسن ونهانا عن القبيح، وترك لنا أن نفعل نحن ما نشاء بإرادتنا.

المثال الثاني

المثال الثانی(1):

لو فرضنا شخصًا مشلول اليد، واستطاع طبيب ما أن يوصل ليده التيار الكهربائي بطريقة معينة، بحيث يستطيع هذا المريض أن يحرك يده متى ما وصل إليها التيار الكهربائي، ولكنه عندما ينقطع عنه التيار الكهربائي فإنه لا يستطيع أن يحرك يده حتى لو أراد ذلك.

فهكذا هو معنى الأمر بين الأمرين، فالإنسان هو من يحرك يده، لكن بشرط أن تصل إليه القوة من الله تعالى، فهو لم يخرج عن حول الله تعالى وقوته، ولكته مع ذلك هو من يفعل الأفعال بإرادته تعالى، لا أن الله تعالى يجبره على فعلها.

المثال الثالث

ما نُسب إلى الشيخ المفيد(2)،

وحاصله:

ص: 170


1- البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي (قدس سره) ص 88.
2- الإلهيات ج2 ص 348 – 349.. وانظر: الميزان للسيد الطباطبائي ج1 ص 100.

نفترض أن مولى من الموالي العرفيين يختار عبدًا من عبيده ويزوجه إحدى فتياته، ثم يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث، وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود وأجل مسمى.

فإن قلنا: إن المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى، وملكه ما ملك، فإنه لا يملك، وأين العبد من الملك، كان ذلك قول المجبرة.

وإن قلنا: إن المولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه، جعله مالكًا وانعزل هو عن المالكية، وكان المالك هو العبد، كان ذلك قول المعتزلة.

ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين، وقلنا: إن للمولى مقامه في المولوية، وللعبد مقامه في الرقية، وإن العبد يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك، فهنا ملك على ملك، كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وقام عليه البرهان...

وهناك عدة روايات تشير إلى هذا المعنى في هذا المثال، ومنها ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): عن الله أروي حديثي: أن الله تبارك وتعالى يقول: يا ابن آدم، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبعصمتي وعوني وعافيتي أديت إليّ فرائضي، فأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني.(1)

ص: 171


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 344 ح 13.
المثال الرابع

المثال الرابع(1):

نحن نقول: إنني أرى الأشياء بعيني، وهذا صحيح، وفي نفس الوقت، فإن الذي يرى في الحقيقة هي النفس الإنسانية، وما العين إلا أداة وآلة لإيصال الصور إليها، ففي الوقت الذي تكون العين هي الباصرة، فإن النفس أيضًا هي الباصرة، وهكذا في بقية القوى.

ونفس الكلام يُقال في فعل الإنسان، فالإنسان في الحقيقة هو الفاعل لفعله، وهو صادر عنه، ولكن في نفس الوقت يُنسب الفعل إلى الله تعالى لأنه تعالى هو الخالق للإنسان ولإرادته، وهو تعالى وحده الخالق لكل وجود في هذا الكون، ولكن هذا لا يعني أن الله تعالى يجبر الإنسان على فعله كما اتضح.

خلاصات ونتائج:

1 / أن الله تعالى إذا أراد تكويناً الفعل من العبد كيفما كان، فإن الفعل سيتحقق جزماً ولا يمكن لشيء ما أن يقف أمام هذه الإرادة(2)،

أو قل: سيصبح الفعل مثل أي مخلوق من مخلوقاته تعالى التي لمّا أراد لها الوجود لم يتوقف ذلك على شيء غير قول: كن فيكون، وهذه الإرادة هي الإرادة التكوينية المتعلقة بفعل العبد مقطوعاً عن مبادئه.

ص: 172


1- ذكره في الإلهيات ج2 ص 349 – 351 ونسبه إلى صدر المتألهين.
2- ولعله إلى هذا المعنى تشير الرواية الواردة عن الأصبغ بن نباته، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أوحى الله (عز وجل) إلى داود (عليه السلام): يا داود تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن أسلمت لما أريد أعطيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد. [التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 337]

2 / إذا أراد الله تكويناً فعل الإنسان لكن بمبادئه، والتي منها: علم الإنسان بالفعل وشوقه إليه واختياره وإرادته، فحينئذٍ سيتحقق الفعل بشرط توفر مبادئه، ومع عدم توفر بعض المبادئ لا يتحقق فعل الإنسان، من دون أن يُعدّ هذا نقضاً لإرادته تعالى، لأنها تعلقت بفعل العبد بشروط خاصة، لا بالفعل على إطلاقه...

3 / قبول إرادة الإنسان واختياره يجعل الفعل فعلاً للعبد حقيقةً لا مجازاً، في الوقت الذي هو فعل لله تعالى وداخلٌ تحت قدرته – لعموم قدرته تعالى -، وقد تبين من الأمثلة المتقدمة كيفية الجمع بين إرادته تعالى وإرادة الإنسان.

ففعل الإنسان صادر منه، لكنه داخل تحت إرادته تعالى، لا أنه صادر من الله تعالى كصدور الشمس والقمر منه تعالى. فالفعل مسند إلى الإنسان حقيقةً لا مجازًا. وإلى اشتراك الإرادتين أشار الحديث القدسي المتقدم: (بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء).

4 / يمكن القول: إنه في كل فعل من الأفعال يوجد أمران: وجوده، وصفته، فالفعل له وجود، وأيضًا له صفة ما، ومما تقدم تبين: أن الوجود صادر من الله تعالى، وأما صفة الفعل، فهي صادرة من الإنسان.

وهذا ينتج: أنه في الفعل القبيح، فإن إسناد الفعل للإنسان حقيقةً يمتصّ الجانب السلبي فيه، فيحصر إسناد البعد القبيح فيه للإنسان فقط، ليبقى المسند – من فعل القبيح – إلى الله تعالى هو الجانب الحسن فيه – الجانب

ص: 173

الوجودي أو الفعل من دون مقايسة لبقية الأفعال -.

وأما الفعل الحسن فهو بكل أبعاده فعل للإنسان حقيقةً وفعل لله تعالى حقيقةً.

ولعله إلى هذا المعنى يُشير ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال:

خرج أبو حنيفة ذات يوم من عند الإمام الصادق (عليه السلام)، فاستقبله الإمام موسى ابن جعفر (عليهما السلام) فقال له: يا غلام ممن المعصية؟ قال: لا تخلو من ثلاث: إما أن تكون من الله عز وجل -وليست منه- فلا ينبغي للكريم أن يعذب عبده بما لا يكتسبه، وإما أن تكون من الله عز وجل ومن العبد -وليس كذلك- فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإما أن تكون من العبد -وهي منه- فإن عاقَبَهَ الله فبذنبه، وإن عَفَا عنه فبكرمه وجوده.(1)

5 / إرادته تعالى التشريعية هي أمر يستبطن كون المأمور قادراً على الطاعة وعلى عدمها، وبعبارة أوضح: الإرادة التشريعية تعني أوامر الله تعالى بالتكاليف الشرعية، وهذه الأوامر تستبطن أن يكون الإنسان قادرًا على أن يقوم بتنفيذ ما أمره الله تعالى به بإرادته، وإلا كان أمره عبثًا وبلا معنى، فلو لم يفعله الإنسان وعاقَبَه الله تعالى، لكان ذلك ظلمًا، والله تعالى منزّه عن الظلم كما تقدم، وهكذا لو لم يفعلْه وعاقَبَه.

6 / أن معصية الإنسان وتمرده على إرادة الله تعالى التشريعية –وذلك

ص: 174


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 96 باب 5 - باب معنى التوحيد والعدل/ ح2.

عندما يقوم الإنسان بفعل المعصية بإرادته واختياره- لا تعني أن إرادة الإنسان غلبت الإرادة الإلهية، لأن المغلوبية إنما تصدق فيما لو غلبت إرادة الإنسان التكوينية إرادةَ الله تعالى التكوينية، وهذا غير ممكن كما هو واضح.

نعم، إرادة المعصية تخالف إرادة الله تعالى التشريعية، وإرادته تعالى التشريعية كما تقدم تعني أنه أعطى للإنسان حرية اختيار الفعل الذي يريده هو باختياره، حتى يصح التكليف وبالتالي الثواب والعقاب.

7/ ومن هذا يتضح: أن القول بأن الإنسان مختار –حقيقة- لفعله، هو ما يؤسّس:

أولًا: لصحّة التكليف.

ثانيًا: صحّة العقاب والثواب.

ثالثًا: تحمّل الإنسان لمسؤولية فعله.

وأنّ القول: بأن الإنسان مجبر، ينفي هذه الأمور الثلاثة كما هو واضح.

تنبيه:

التقسيم العقلي لحقيقة الفعل يقول:

إن الفعل إما يصدر من الإنسان، ولا علاقة لله تعالى البتة –وهي نظرية التفويض-، أو يصدر من الله تعالى ولا علاقة للإنسان به البتة –وهي نظرية الجبر-، وأما أن يصدر حقيقة من الإنسان من دون أن يخرج عن قدرة الله تعالى وقوته، أي بالشراكة الحقيقية في صدور الفعل. وهي نظرية الأمر بين

ص: 175

الأمرين.

وقد يتوهم البعض بأن نظرية الأمر بين الأمرين هي نظرية ملفقة من مقولتي الجبر والتفويض، وكأنها أخذت من الجبر نسبة الفعل إلى الله تعالى حقيقة، ومن التفويض نسبة الفعل إلى الإنسان حقيقة، فخرجت بنظرية تجمع النظريتين.

ولكن الحقيقة أن نظرية الأمر بين الأمرين نظرية مستقلة تمامًا عن تينك النظريتين، إذ هما باطلتان جملة وتفصيلا، فهي (نظرية مستقلة قائمة على قواعد وأصول عقلية وشرعية، تبطل كلا النظريتين الأوليين، وتؤسس منهجًا ثالثًا للاعتقاد)(1)

ولعله إلى هذا المعنى يُشير ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ [الراوي] قُلْتُ: أَجْبَرَ الله الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؟ قَالَ (عليه السلام): لَا. قُلْتُ: فَفَوَّضَ إِلَيْهِمُ الأَمْرَ؟ قَالَ (عليه السلام): لَا. قُلْتُ: فَمَاذَا؟ قَالَ (عليه السلام): لُطْفٌ مِنْ رَبِّكَ بَيْنَ ذَلِكَ.(2)

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ الله (عليهما السلام) قَالا: إِنَّ الله أَرْحَمُ بِخَلْقِه مِنْ أَنْ يُجْبِرَ خَلْقَه عَلَى الذُّنُوبِ ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا والله أَعَزُّ مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَمْراً فَلَا يَكُونَ... فَسُئِلَا (عليهما السلام): هَلْ بَيْنَ الْجَبْرِ والْقَدَرِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ؟ قَالا (عليهما السلام): نَعَمْ، أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ.(3)

ص: 176


1- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج2 ص 125.
2- الكافي للكليني ج1 ص 159 بَابُ الْجَبْرِ والْقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ ح8.
3- نفس المصدر ح9.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أنه سُئِلَ عَنِ الْجَبْرِ والْقَدَرِ فَقَالَ: لَا جَبْرَ ولَا قَدَرَ، ولَكِنْ مَنْزِلَةٌ بَيْنَهُمَا، فِيهَا الْحَقُّ، الَّتِي بَيْنَهُمَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْعَالِمُ أَوْ مَنْ عَلَّمَهَا إِيَّاه الْعَالِمُ.(1)

فهذه الروايات وأمثالها تشير إلى أن الأمر بين الأمرين حقيقة مستقلة عن تينك النظريتين، وأنها منزلة فيما بينهما، لا أنها مجموعهما.

(وهذه النظرية الثالثة هي الحد الوسط الذي يجمع بين عموم السلطة الإلهية وتأثيرها المطلق في الوجود، وبين العدل الإلهي الحاكم على الأشياء)(2)

فهي إذن (نظرية مستقلة قائمة بنفسها جمعت بين اختيار الإنسان في أفعاله، ومؤثرية الخالق في الوجود)(3)

وقد نصّت بعض الروايات الشريفة على الحد الفاصل لهذه النظرية وبيانها بكل وضوح، فقد روي عن سليمان بن جعفر الجعفري، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: ذُكر عنده الجبر والتفويض، فقال: ألا أعطيكم في هذا أصلًا لا تختلفون فيه، ولا تخاصِمون عليه أحدًا إلا كسرتموه؟! قلنا: إن رأيت ذلك.

فقال: إن الله عز وجل لم يُطع بإكراه، ولم يُعْصَ بغَلَبة، ولم يُهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العبادُ بطاعته

ص: 177


1- نفس المصدر ح10.
2- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج2 ص 181.
3- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج2 ص199.

لم يكن الله عنها صادًّا، ولا منها مانعًا، وإن ائتمروا بمعصيته، فشاء أنْ يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإنْ لم يحُلْ وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه.

ثم قال (عليه السلام): من يضبطْ حدود هذا الكلام فقد خَصَمَ من خالفه.(1)

ص: 178


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 361 باب 59 - باب نفي الجبر والتفويض ح7.
المسألة الخامسة: القضاء والقدر
اشارة

انتهينا إلى أن الإنسان مختار في أفعاله، ولذلك فهو المسؤول عن نتائجها، ولذلك أيضًا صح تكليفه وصح عقابه لو خالف، وصحّ ثوابه إن امتثل، ولكن يواجهنا قبال ذلك مفهوم إسلامي آخر عنوانه (القضاء والقدر الإلهيان)، والذي قد يتوهم المتوهم بادئ ذي بدء أن القول باختيار الإنسان لا ينسجم مع هذا المفهوم، فما هو القضاء والقدر، وكيف نكيّفه مع واقعية اختيار الإنسان؟

هنا عدة نقاط:

النقطة الأولى: تحرير محل النزاع في القضاء والقدر

لا شك ولا اختلاف في أن الله تعالى خلق الإنسان وأخرجه إلى الدنيا بهيأة معينة، وبنسب معين، وفي مدينة معينة، وفي وقت معين، من دون أن يكون للإنسان في هذه الأمور إرادة أو اختيار، فالإنسان بهذا المعنى مجبر، ولكن هذا الجبر لا يستلزم القبح، لأننا نعلم أن الله تعالى هو الحكيم العليم، الغني المطلق، فيكون إخراج الإنسان بمواصفات معينة هو الأنسب والأصلح له حسب العلم الإلهي.

ص: 179

فهذا المعنى من القضاء والقدر لا خلاف فيه.

وقد أشارت له ولحسنه بعض النصوص، قال تعالى (يا أَيُّهَا الْإِ نْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)(1)

وقال تعالى (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.)(2)

وفي دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: (فَلَمْ أَزَلْ ظاعِناً مِنْ صُلْبٍ إِلى رَحِمٍ، في تَقادُمٍ مِنَ الأَيَّامِ الْماضِيَةِ والْقُرُونِ الْخالِيَةِ، لَمْ تُخْرِجْني لِرَاْفَتِكَ بي، ولُطْفِكَ لي، واحْسانِكَ إِلَىَّ، في دَوْلَةِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ، الَّذينَ نَقَضُوا عَهْدَكَ، وكَذَّبُوا رُسُلَكَ، لكِنَّكَ أَخْرَجْتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى الَّذي لَه يَسَّرْتَني، وفيه أَنْشَأْتَني، ومِنْ قَبْلِ ذلِكَ رَؤُفْتَ بي، بِجَميلِ صُنْعِكَ وسَوابِغِ نِعَمِكَ، فابْتَدَعْتَ خَلْقي مِنْ مَنِىٍّ يُمْنى، وأَسْكَنْتَني في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ، بَيْنَ لَحْمٍ ودَمٍ وجِلْدٍ، لَمْ تُشْهِدْني خَلْقي، ولَمْ تَجْعَلْ إِلَىَّ شَيْئاً مِنْ أَمْري، ثُمَّ أَخْرَجْتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى إِلَى الدُّنْيا تامّاً سَوِيّاً، وحَفِظْتَني فِى الْمَهْدِ طِفْلًا صَبِيّاً...)

فهذا الأمر لا خلاف فيه.

إنما الخلاف في: أن الإنسان في فعله، هل هو مختار، وبالتالي هل هو من يحدّد مصيره ومستقبله، أو أنه مجبر على ذلك؟

ص: 180


1- الانفطار 6 – 8.
2- النحل 78.

توجد آراء أربعة:

1/المادّيون –الذين لا يؤمنون بوجود إله خالق- ربطوا مصير الإنسان بالطبيعة، فهي التي تختار مصيره، وهو لا إرادة له في ذلك.

2/والمجبّرة من الأشاعرة جعلوا من الإنسان آلة لا اختيار لها، وأن مصيره هو بيد الله تعالى، فهو من يحدد سعادة الإنسان أو شقاءه، والإنسان لا حول له ولا قوة في شيء من ذلك أصلًا.

3/المعتزلة ذهبوا إلى أن الإنسان هو من يحدّد مصيره، من دون تدخل إلهي، بل بعضهم ذهب إلى عدم قدرة الخالق على التدخل في ذلك.

4/أما الإمامية، فذهبوا إلى أن مصير الإنسان هو بيد الله تعالى، ولكن لا بنحو يجبر الإنسان على أفعاله، وإنما جعل الله تعالى نظام الأسباب والمسببات في هذا العالم، وأن الإنسان –باختياره وإرادته- عليه أن يختار الأسباب المناسبة التي تنجيه، فالقضاء والقدر الإلهيان ألزما الإنسان بنظام الأسباب والمسببات، وتُرك للإنسان اختيار الأسباب المناسبة لتحديد مصيره.

وقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى هذا المعنى بقوله: أَبَى اللهُ أَنْ يُجْرِيَ الأَشْيَاءَ إِلَّا بِأَسْبَابٍ، فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، وجَعَلَ لِكُلِّ سَبَبٍ شَرْحاً، وجَعَلَ لِكُلِّ شَرْحٍ عِلْماً، وجَعَلَ لِكُلِّ عِلْمٍ بَاباً نَاطِقاً، عَرَفَه مَنْ عَرَفَه وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه، ذَاكَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) ونَحْنُ.(1)

ص: 181


1- الكافي للكليني ج1 ص 183 بَابُ مَعْرِفَةِ الإِمَامِ والرَّدِّ إِلَيْه ح7.

وجاء في هامش المصدر شرحًا لهذا الحديث:

أي جرت عادته سبحانه على وفق قانون الحكمة والمصلحة أن يوجد الأشياء بالأسباب، كإيجاد زيد من الآباء والمواد والعناصر، وإنْ كان قادرًا على ايجاده من كتم العدم دفعةً بدون الأسباب، وكذا علوم أكثر العباد ومعارفهم، جعلها منوطة بشرائط وعلل وأسباب، كالمعلم والإمام والرسول والمَلَك واللوح والقلم، وإنْ كان يمكنه إفاضتها بدونها، وكذا سائر الأمور التي تجرى في العالم....

وحيث ثبت بطلان الآراء الثلاثة الأولى، فعلينا إذن أن نبين القضاء والقدر وفق نظرية أهل البيت (عليهم السلام).

النقطة الثانية: معنى القضاء والقدر الإلهيين
لغة
1/القضاء

قال ابن فارس في معجمه:

(قضى) القاف والضاد والحرف المعتل: أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته، قال الله تعالى (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ)(1)أي

أحكم خلقهن...

والقضاء الحكم. قال الله سبحانه في ذكر من قال: (فَاقْضِ ما أَنْتَ

ص: 182


1- فصلت 12.

قاضٍ)(1)أي:

اصنع واحكم، ولذلك سُمي القاضي قاضيًا لأنه يُحكم الأحكام وينفذها، وسُميت المنيّة قضاءً لأنه أمر ينْفُذُ في ابن آدم وغيره من الخلق.(2)

2/ القدر

وقال ابن فارس: القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته. فالقدر مبلغ كل شيء. يقال قدره كذا أي مبلغه وكذلك القدر. وقدرت الشيء أقدره وأقدره من التقدير وقدرته أقدره. والقدر قضاء الله تعالى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها لها وهو القدر أيضًا.(3)

اصطلاحًا

اصطلاحاً(4):

من خلال المعنى اللغوي للقضاء والقدر، يمكن أن نعرف المعنى المستعمل في ألسنة الروايات الشريفة، فإن المراد من القدر: هي هندسة الأشياء وقياساتها، والمراد من القضاء هو الحكم بتحقّقها.

وبعبارة أخرى: لكل ظاهرة مقدمات لتحققها، والقضاء والقدر مقدمتان مهمتان وأساسيتان لها: إحداهما قياسها، والأخرى الأمر بتحققها.

أما عن القدر، فقد جاء في رواية عن الإمام الكاظم (عليه السلام): (هو الهندسة من

ص: 183


1- طه 72.
2- معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (قضى).
3- معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (قدر).
4- راجع للتوضيح: موسوعة العقائد الإسلامية للريشهري ج6 ص 85 – 86.

الطول والعرض والبقاء)(1)،... ونُقل في رواية أخرى عن الإمام الرضا (عليه السلام): (هِيَ الْهَنْدَسَةُ ووَضْعُ الْحُدُودِ مِنَ الْبَقَاءِ والْفَنَاءِ)(2)وأما عن القضاء، فقد جاء عن الإمام الرضا (عليه السلام): (الْقَضَاءُ هُوَ الإِبْرَامُ وإِقَامَةُ الْعَيْنِ)(3)

ومن هذا يتضح: أن القدر والقضاء إنما هما من أفعال الله تعالى، فتنطبق عليهما صفات الفعل الإلهي من الحكمة والعدل والحسن وعدم العبث وعدم الظلم وغيرها مما سنعرفه بعد قليل إن شاء الله تعالى.

النقطة الثالثة: خصائص القضاء والقدر الإلهيين

النقطة الثالثة: خصائص القضاء والقدر الإلهيين(4):

يمكن تلخيص خصائصهما بالنقاط التالية المستفادة من الروايات الشريفة الواردة في هذا البحث، علمًا أن معرفة هذه الخصائص توضّح حقيقتهما كثيرًا، الأمر الذي ينفع كثيرًا في الاطمئنان بالقضاء والقدر الإلهيين:

ا/إن القضاء والقدر هما فعلان من أفعال الله تعالى، ومخلوقان من مخلوقاته، وظاهرتان من ظواهر العالم التي تخضع لنظام العالم المادي من التغيير في الكيف والكم حسب الإرادة الإلهية.

ص: 184


1- المحاسن للبرقي ج1 ص 244 باب 26 ح238.
2- الكافي للكليني ج1 ص 157 بَابُ الْجَبْرِ والْقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ ح4 و تفسير القمي ج1 ص 24..
3- الكافي للكليني ج1 ص 157 بَابُ الْجَبْرِ والْقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ ح4.
4- راجع للتوضيح: موسوعة العقائد الإسلامية للريشهري ج6 ص 87 – 88.

فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن القضاء والقدر خلقان من خلق الله، والله يزيد في الخلق ما يشاء.(1)

2/حيث إن القدر والقضاء من أفعال الله تعالى، إذن هما يتصفان بصفات الفعل الإلهي، ومنها: أن كل أفعاله تعالى حسنة لا قبح فيها، فليس هناك قدر أو قضاء إلهي يتصف بالقبح في هذا العالم.

وفي هذا المجال جاء في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حُسْنِ قَضَائِكَ، وبِمَا صَرَفْتَ عَنِّي مِنْ بَلَائِكَ).(2)

3/وكذلك سيكون القضاء والقدر الإلهيان متصفين بالحكمة، فلا عبث في قدره ولا في قضائه جلّ وعلا.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته المعروفة بخطبة الأشباح: (قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَه)(3)

ومن لطيف ما ورد في ذلك، ما روي عن أبي عَبْدِ الله (عليه السلام): إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَتَوْا مُوسَى (عليه السلام) فَسَأَلُوه: أَنْ يَسْأَلَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: أَنْ يُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ إِذَا

ص: 185


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 364 باب 60 - باب القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال ح1.. وذكر المجلسي في بحاره ج5 ص 112 بيانًا لهذا الحديث فقال: خلقان من خلق الله بضم الخاء أي صفتان من صفات الله، أو بفتحها، أي هما نوعان من خلق الأشياء وتقديرها في الألواح السماوية، وله البدء فيها قبل الايجاد، فذلك قوله: يزيد في الخلق ما يشاء ; أو المعنى أنهما مرتبتان من مراتب خلق الأشياء فإنها تتدرج في الخلق إلى أن تظهر في الوجود العيني.
2- الصحيفة السجادية الدعاء رقم 18 مِنْ دُعَائِه عَلَيْه السَّلَامُ إِذَا دُفِعَ عَنْه مَا يَحْذَرُ، أَوْ عُجِّلَ لَه مَطْلَبُه.
3- نهج البلاغة ج1 ص 165.

أَرَادُوا، ويَحْبِسَهَا إِذَا أَرَادُوا. فَسَأَلَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالَ الله عَزَّ وجَلَّ: ذَلِكَ لَهُمْ يَا مُوسَى. فَأَخْبَرَهُمْ مُوسَى.

فَحَرَثُوا ولَمْ يَتْرُكُوا شَيْئاً إِلَّا زَرَعُوه، ثُمَّ اسْتَنْزَلُوا الْمَطَرَ عَلَى إِرَادَتِهِمْ، وحَبَسُوه عَلَى إِرَادَتِهِمْ، فَصَارَتْ زُرُوعُهُمْ كَأَنَّهَا الْجِبَالُ والآجَامُ، ثُمَّ حَصَدُوا ودَاسُوا وذَرَّوْا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً، فَضَجُّوا إِلَى مُوسَى (عليه السلام) وقَالُوا: إِنَّمَا سَأَلْنَاكَ أَنْ تَسْأَلَ اللَّه أَنْ يُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْنَا إِذَا أَرَدْنَا، فَأَجَابَنَا، ثُمَّ صَيَّرَهَا عَلَيْنَا ضَرَراً! فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ضَجُّوا مِمَّا صَنَعْتَ بِهِمْ! فَقَالَ (تبارك وتعالى): ومِمَّ ذَاكَ يَا مُوسَى؟ قَالَ: سَأَلُونِي أَنْ أَسْأَلَكَ أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءَ إِذَا أَرَادُوا وتَحْبِسَهَا إِذَا أَرَادُوا، فَأَجَبْتَهُمْ ثُمَّ صَيَّرْتَهَا عَلَيْهِمْ ضَرَراً! فَقَالَ: يَا مُوسَى، أَنَا كُنْتُ الْمُقَدِّرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يَرْضَوْا بِتَقْدِيرِي فَأَجَبْتُهُمْ إِلَى إِرَادَتِهِمْ، فَكَانَ مَا رَأَيْتَ.(1)

4/ وما دام القدر والقضاء الإلهيان حسنين حكيمين، إذن، هما من الأفعال التي اتصفت بالعدل، فلا ظلم ولا جور فيهما أبدًا، وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله في حمد الله تعالى تعظيمه: (الَّذِي عَظُمَ حِلْمُه فَعَفَا وعَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى)(2)

5/وهذه الخصائص الأربعة، تنتج نتيجة حتمية هي: أن كل قدر وقضاء يجري على المؤمن، فإنه بلا شك يكون في صالح المؤمن، إنْ في عاجل الدنيا أو في آجل الآخرة، إذ ما دام القدر والقضاء فعلين إلهيين حسنين حكيمين

ص: 186


1- الكافي للكليني ج5 ص 262 باب آخر ح2.
2- نهج البلاغة ج2 ص133.

عدلين، إذن هما لا يجريان إلا وفق مصلحة يعلمها الباري جل وعلا في مكنون علمه -وإن جهلناه نحن-، وهذا ما يوجب الاطمئنان التام بما يجري على المؤمن من قدر وقضاء.

وهنا نجد الروايات الشريفة قد أكّدت على هذا المعنى أيّما تأكيد، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: اختيار الله للعبد ما يسوؤه، خير من اختياره لنفسه ما يسرُّه.(1)

وعنه (صلى الله عليه وآله): عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله عليه قضاءً إلا كان خيرًا له، سرّه أو ساءه، إن ابتلاه كان كفارة لذنبه، وإن أعطاه وأكرمه كان قد حباه.(2)

ومن لطيف ما ورد في هذا المجال، ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن العبد المؤمن ليطلب الامارة والتجارة، حتى إذا أشرف من ذلك على ما كان يهوى، بعث الله ملَكًا، وقال له: عُقّ عبدي وصُدّه عن أمرٍ لو استمكن منه أدخله النار، فيُقبل المَلَك فيصدُّه بلطف الله، فيصبحُ وهو يقول: لقد دُهيتُ! ومَن دهاني؟ فعَلَ الله به! وقال: ما يدري أن اللهَ تعالى الناظرُ له في ذلك، ولو ظفر به أدخله النار.(3)

وما ورد أيضًا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل (عليه السلام)، عن الله عز وجل، قال: قال الله تبارك وتعالى: من أهان وليًا لي، فقد بارزني بالمحاربة، وما تردّدتُ

ص: 187


1- تنبيه الخواطر (مجموعة ورام) ص 437.
2- تحف العقول للحراني ص48، وحباه: أعطاه، أو حماه ومنعه.
3- التمحيص للإسكافي ص 56 – 57 ح 113.

في شيءٍ أنا فاعله مثل ما تردّدْتُ في قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه، وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتنفّل لي حتى أحبَّه، ومتى أحببته كنتُ له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيدًا، إنْ دعاني أجبتُه، وإنْ سألني أعطيتُه، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفُّه عنه لئلا يدخلَه عُجُبٌ فيفسدَه ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالفقر، ولو أغنيتُه لأفسده ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يُصلح إيمانه إلا بالغَناء، ولو أفقرتُه لأفسدَه ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحُ إيمانه إلا بالسُقم، ولو صحَّحْتُ جسمه لأفسده ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحُ إيمانه إلا بالصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم، فإني عليم خبير.(1)

النقطة الرابعة: أقسام القضاء والقدر
اشارة

ذكروا للقضاء والقدر الإلهيين أقسامًا، نذكر بعضًا منها باختصار:

القسم الأول: القضاء والقدر التشريعيان

أما القدر التشريعي: فهو بمعنى: أن الله تعالى بعلمه وحكمته قسّم أفعال الإنسان على أساس مصالحها ومفاسدها إلى واجب ومستحب ومكروه ومحرم ومباح، كما عيّن مقدار ثوابها وعقابها.

وأما القضاء التشريعي: فهو بمعنى: أن الله تعالى أصدر الأوامر بتنفيذ

ص: 188


1- التوحيد للصدوق ص 399 – 400 باب 62 - باب إن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم/ ح1.

ذلك القدر الإلهي التشريعي.

وإلى القضاء والقدر التشريعيين أشار ما روي أنّ رجلًا قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ قال: الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونة على القربة إليه، والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، كل ذلك قضاء الله في أفعالنا، وقدره لأعمالنا، وأما غير ذلك فلا تظنّه، فإن الظنّ له محبط للأعمال.

فقال الرجل: فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك.(1)

وفي حديث نافع وجامع في هذا المعنى، روي عن بريد [يزيد أو زيد. خ. ل] بن عمير بن معاوية الشامي قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو فقلت له: يا بن رسول الله، روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام قال: إنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، فما معناه؟ قال: من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر، ومن زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه (عليهم السلام) فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك. فقلت له: يا بن رسول الله فما أمر بين أمرين؟ فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما أُمروا به، وترك ما نُهوا عنه. فقلت له: فهل لله عز وجل مشيه وإرادة في ذلك؟ فقال: فأما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها: الأمرُ بها والرضا لها والمعاونة عليها، وإرادته ومشيته في المعاصي النهى

ص: 189


1- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص311.

عنها والسخط لها والخذلان عليها. قلت: فهل لله فيها القضاء؟ قال: نعم، ما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء. قلت: ما معنى هذا القضاء؟ قال: الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.(1)

القسم الثاني: القضاء والقدر التكوينيان
اشارة

وهو نوعان:

النوع الأول: القضاء والقدر التكوينيان في خلق الموجودات

أي تقدريهما وإيجادهما، ومثاله: الجنين في بطن أمه يمشي في قدر الله تعالى يتحول من حال إلى حال، إلى أن يأتي القضاء الإلهي فيولد في الدنيا، وهكذا النباتات من حيث بذرها في الأرض إلى حين إنتاجها وظهور ثمارها.

النوع الثاني: القضاء والقدر التكوينيان في أفعال الإنسان

وهذا هو محل الكلام والقيل والقال، وهو ما قد يُتوهم فيه الجبر أو التفويض، لتأتي نظرية الأمر بين الأمرين وتفرض نفسها بقوة الوجدان والدليل فيه، فقدر الله تعالى بمعنى: أن الله تعالى أعطى للإنسان القدرة والاختيار على القيام بأفعاله بمقدار محدود معين، فقدّر أن الإنسان لا يستطيع أن يطير-مثلًا- بدون آلة، ولا يستطيع أن يسمع بدون آلة، وهكذا.

وأما قضاؤه تعالى، فهو أمره بتنفيذ هذه التحديدات.

ص: 190


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج1 ص114 ح 17.

وكل ذلك لا يخرج عن قدرة الله تعالى وسلطنته وهيمنته.

القسم الثالث: القضاء والقدر الموقوفان والحتميان

فالموقوف منهما ما يمكن أن يتغير بتغير الظروف، والمحتوم ما لا يتغير، بل هو ثابت في علم الله تعالى، والبحث الذي يبين هذا القسم هو بحث (البداء).

تنبيه: التوظيف السياسي للقضاء والقدر

لا شك أن عقيدة (الجبر) تنفع الظلمة كثيرًا، على اختلاف نوع ظلمهم، من شرك أو كفر أو جدال بالباطل أو تبعية له، وحتى ظلم الآخرين والتعدي على حقوقهم، بل هو مبرر يتوسل به حتى الكسالى ممن يرمون سبب تأخرهم في الحياة على ما قسمه الله تعالى لهم، وهو يعنون بذلك أن الله تعالى أجبرهم على ما هم عليه من حال.

لا شك أنه لو كان الاعتقاد السائد بين الناس هو أن الأفعال إنما تصدر من الله تعالى، وأن الإنسان ما هو إلا محل لصدور الفعل أو آلة له، حينها سيكون الظالم معذورًا في ما يفعله مهما كان، وسيكون الكافر والمشرك كذلك، إذ ما ذنبهم وإنما هم أداة طيّعة بيد مولاها وخالقها!

من هنا، وجدنا أن التاريخ حفظ لنا أن الظلمة حاولوا رمي الذنب في أفعالهم على الله تعالى، ليبرؤوا ساحتهم مما يصدر عنهم من أفعال شنيعة

ص: 191

وأقوال بذيئة.

ففي غزوة حنين: قالت أم الحارث: فمر بي عمر ابن الخطاب فقالت أم الحارث: يا عمر، ما هذا؟ فقال عمر: أمر الله!(1)

ومعاوية –وهو من مؤسسي مذهب الجبر- اعتلى المنبر في الكوفة وخاطب أهلها بعد صلحه مع الإمام الحسن (عليه السلام) فقال لهم: إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.(2)

وفي كلامه مع عبد الله بن عمر: وإن أمر يزيد قد كان قضاءً من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم.(3)

وعندما كان البعض يستهجن عليهم رمي تبعات أفعالهم على الله تعالى، كانوا يواجهونه بالعصا واليد الحديدية! فانظر مثلًا ما روي عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: أرأيت الزنا بقدر؟ قال: نعم. قال: فإن الله قدّره علي ثم يعذّبني؟! قال: نعم، يا ابن اللخناء، أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك!(4)

وقال المفيد ;: (وعُرِضَ عليه [أي ابن زياد لعنه الله] عليُّ بن الحسين (عليهما السلام)،

ص: 192


1- المغازي للواقدي ج2 ص 904.
2- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني ص45.
3- الإمامة والسياسة للدينوري ج1 ص 162.
4- تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 105 – 106.

فقال له: من أنت؟ فقال: «أنا عليُّ بن الحسين»، فقال: أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين؟ فقال له عليٌّ (عليه السلام): «قد كان لي أخ يُسمّىٰ عليّاً قتله الناس»، فقال له ابن زياد: بل الله قتله، فقال عليُّ بن الحسين (عليه السلام): «]اللهُ يَتَوَفَّىٰ الَانْفُسَ حِينَ مَوْتِها[(1)»، فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي، وفيك بقيَّة للردِّ عليَّ!؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه).(2)

ص: 193


1- الزمر: 42.
2- الإرشاد 2: 116.

ص: 194

المسألة السادسة: الشرور في العالم
اشارة

لا شك في أننا نواجه الكثير من المتاعب والمصاعب والابتلاءات في حياتنا اليومية، ولا شك في أننا نسمي الكثير منها بالشرور، ومن هنا، نشأ إشكال أو شبهة حول تلك الشرور، ويمكن أن نذكر شبهتين في هذا المجال، مع الجواب عنهما:

الشبهة الأولى: للثنوية
اشارة

قالوا: إن الله تعالى هو محض الخير، فلا يمكن أن يكون هو خالق الشر، وحيث إن الشر موجود من الموجودات في هذا العالم، إذن، لا يد أن يكون له خالق، وليس هو الله تعالى، إذن هناك خالق آخر مسؤول عن الشر، وبالتالي فهناك إلهان: إله الخير، وإله الشر.(1)

ويظهر أن هذه الشبهة قديمة جدًا، ولذا وجدنا أن الفلاسفة القدماء قد أجابوا عنها بأجوبة علمية دقيقة، ونذكر هنا جوابين لهذه الشبهة:

ص: 195


1- ينظر: المهذب البارع لابن فهد الحلي ج3 شرح ص 297 /وبحار الأنوار للعلامة المجلسي ج3 ص 211 و ج60 ص 339 .
الجواب الأول: لأفلاطون

الجواب الأول: لأفلاطون(1).

قال: إن الشبهة مبتنية على أن الشر موجود من الموجودات، فلا بد أن يكون له خالق، وحيث إنه ليس الله تعالى، إذن هو إله ثانٍ.

ولكن في الحقيقة فإن الشر ليس موجودًا من الموجودات، وبالتالي لا يكون بحاجة إلى علة وخالق وموجِد، فتنتفي الشبهة من أساسها.

بيانه:

لنضرب لذلك مثالًا:

القتل بالسكين، أين الشر في هذا الفعل؟

أما حركة اليد فهي كمال في حد نفسها، إذ اليد المشلولة ناقصة كما هو واضح.

وأما حدّة السكين فهي كمال للسكين أيضًا، ولذلك فإن الناس لا

ص: 196


1- يُنظر: شرح الأسماء الحسنى للحاج ملا هادي السبزواري ج1 ص 225 وج2 ص 89 – 90 /وتفسير الميزان للسيد الطباطبائي ج13 ص 187 ومحاضرات في الإلهيات للشيخ السبحاني ص 53 و54 وغيرها من المصادر، قال الأخير ما نصه: أن ما يسمى بالشر من الحوادث والوقائع يرجع عند التحليل إلى العدم ، فالذي يسمى بالشر عند وقوع القتل ليس إلا انقطاع حياة البدن الناشئ عن قطع علاقة النفس عن البدن ، وما يسمى بالشر عند وقوع المرض ليس إلا الاختلال الواقع في أجهزة البدن وزوال ما كان موجودا له عند الصحة من التعادل الطبيعي في الأضاء والأجهزة البدنية، وكذلك سائر الحوادث التي تتصف بالبلية والشرية، ومن المعلوم أن الذي يحتاج إلى الفاعل المفيض هو الوجود ، وأما العدم فليس له حظ من الواقعية حتى يحتاج إلى المبدأ الجاعل. وإلى هذا أشار الحكيم السبزواري في منظومة حكمته: والشر أعدام فكم قد ضل من * يقول باليزدان ثم الأهرمن.

يشترون السكينة غير الحادة لأنهم يرونها ناقصة.

وأما انفعال الرقبة بالقطع، فإن نفس الانفعال وليونتها كمال في حد نفسه، وإلا فإن الرقبة اليابسة المتحجرة ناقصة، ولذلك يعمل الناس على إبقاء رقبتهم لينة مرنة حتى لا يقعوا في أمراض وآلام لا تُتحمل عادة.

إذن، كل ما هو موجود لحد الآن هو خير وكمال، فأين الشر؟

لم يبق للشر موضع إلا (القتل) والذي هو (فراق الروح للبدن) والفراق عدم، والعدم لا يحتاج إلى خالق وموجِد، ولذا قالوا: يكفي في عدم المعلول عدمُ العلة، فلا يحتاج العدمُ إلى علة.

الجواب الثاني: لأرسطو

الجواب الثاني: لأرسطو(1):

قال: بالقسمة العقلية، فإن الأمور من حيث الخير والشر على خمسة أقسام:

القسم الأول: الخير المحض، وهذا موجود، والخالق له هو الله تعالى،

ص: 197


1- يُنظر: بداية الحكمة للسيد الطباطبائي ص 200 المرحلة الثانية عشرة فيما يتعلق بالواجب تعالى من إثبات ذاته وصفاته وأفعاله- الفصل الثالث، حيث قال ما نصه: وعن أرسطو : أن الأقسام خمسة : ما هو خير محض ، وما خيره كثير وشره قليل ، وما خيره وشره متساويان ، وما شره كثير وخيره قليل ، وما هو شر محض ، وأول الأقسام موجود كالعقول المجردة التي ليس فيها إلا الخير ، وكذا القسم الثاني كسائر الموجودات المادية التي فيها خير كثير بالنظر إلى النظام العام ، فإن في ترك إيجاده شرا كثيرا ، وأما الأقسام الثلاثة الباقية ، فهي غير موجودة ، أما ما خيره وشره متساويان ، فإن في ايجاده ترجيحا بلا مرجح ، وأما ما شره كثير وخيره قليل ، فإن في إيجاده ترجيح المرجوح على الراجح ، وأما ما هو شر محض ، فأمره واضح ، وبالجملة لم يستند بالذات إلى العلة إلا الخير المحض والخير الكثير ، وأما الشر القليل فقد استند إليها بعرض الخير الكثير الذي يلزمه.

ومثاله: الملائكة.

القسم الثاني: الشر المحض، ولا يوجد في الكون شيء هو شر محض ولا خير فيه أبدًا، فلا يمكن أن يوجده الفاعل الحكيم، فهذا الفرض معدوم.

القسم الثالث: ما يكون خيره وشره متساويين: وهذا لا يمكن أن يوجد، لأنه إذا وُجد، فهل يوجد خيره أم شره؟ وكلاهما لا يمكن أن يكون هو الموجود، لأن وجود أحدهما دون الآخر هو ترجيح بلا مرجح، لأن الفرض أنهما متساويان، فلماذا وُجد الخير دون الشر، أو بالعكس؟ فهذا القسم لا يمكن أن يوجد في الخارج.

القسم الرابع: ما يكون شرُه أكثر من خيره، فالشر هو الغالب، والخير هو النادر، وهذا القسم لا يمكن أن يوجد، لأن وجود الشر مرجوح، والخير راجح، وتقديم المرجوح على الراجح مستحيل على الفاعل الحكيم.

وما تقدم لا إشكال ولا خلاف فيه.

القسم الخامس: ما يكون خيره غالبًا، وشره نادرًا، وهذا القسم هو ما وقع الكلام فيه، وهو محل القيل والقال، وهنا قال أرسطو:

إن الفاعل الحكيم عندما ينظر إلى شيء فيه خير كثير في قبال شر قليل، فإن الحكمة تقتضي تقديم جانب الخير، فالفاعل الحكيم إنما يقصد فعل الخير وإيجاده، وأما الشر فغير مقصود، وإنما يقع بالتبع لفعل الخير، تمامًا كما لو أريد إنقاذ شخص غريق، ولم يمكن ذلك إلا بتمزيق ثوبه مثلًا، أو أريد

ص: 198

علاج مريض، ولم يكن ذلك إلا بقطع أحد أصابعه.(1)

إذا تبين هذا ننبه:

إلى أنه عندما يُقال: إن الشر موجود، فالمقصود هو هذا المعنى، أي إنه موجود بتبع خلق الخير العميم، وليس مقصودًا بالذات.

ولعله إلى هذا المعنى يُشير ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الله تعالى قال للنبي آدم (عليه السلام): قال الله: يا آدم، أنا الله الكريم، خلقتُ الخير قبل الشر.(2)

حيث (يبدو أن في هذا النوع من الأحاديث إشارة إلى ملاحظة مهمة، يجب أن يُلتفت إليها في تبيين خلق الشرور، هي: أن الشر ليس له خلق مستقل منفصل عن الخير، بمعنى أن الله تعالى لم يخلق الشيء الذي هو شر في ذاته، بل إن ما خلقه خيرٌ، والشر يظهر تبعًا لخلق الخير، على سبيل المثال: فإن الله تعالى خلق الأرض، وخلقها خير، ولكن بما أن ظاهرة الزلزال ملازمة لطبيعة الأرض، فتُخلق معها، والله خلق الغيم والرياح والمطر، وهي خير، ولكنها قد تستوجب أحيانًا الأعاصير والسيول المضرة.)(3)

الشبهة الثانية
اشارة

إن الشر موجود، ولا بد له من خالق، فإن كان هو الله تعالى فهذا يخالف

ص: 199


1- علمًا أن أرسطو يسلم أن الشر وجود في هذا الجواب، ولكنه وجود أقلي ونادر، لذا يكون جواب أفلاطون أمتن من هذه الناحية حيث انتهى إلى أن الشر أمر عدمي.
2- تفسير العياشي ج1 ص35.
3- موسوعة العقائد الإسلامية للريشهري ج6 ص377.

حكمته، وإن كان هو غير الله تعالى، فهذا معناه أنه تعالى غير قادر على فعل الشر، فتكون قدرته محدودة، وهو خلاف قولكم بأن القدرة وسعت كل شيء؟

ويُجاب عن هذه الشبهة بالآتي
اشارة

أولًا: قد ثبت أن الشر أمر عدمي، فهو ليس موجودًا من الموجودات حتى يحتاج إلى خالق.

ثانيًا: وقد تقدم في بحث خصائص القدرة أنه لا ملازمة بين القدرة وبين تفعيل القدرة، فالله تعالى قادر على أن يخلق إنسانًا بألف رأس، ولكن لا يجب عليه أن يخلق مثل هذا الإنسان حتى يُثبتَ قدرته، وهكذا فإن الله تعالى يقدر على إدخال المؤمن في النار، ولكنه بكل تأكيد لا يفعل هذا الشيء، كل ذلك لأنه تعالى يفعل بقدرته وفق حكمته اللا متناهية، فالحكمة هي ما يحدد نوع الفعل الصادر من الفاعل الحكيم.

إذن نقول: لو سلّمنا أن الشر وجود من الوجودات، فإن الله تعالى قادر عليه بلا أدنى شك، ولكنه تعالى لا يفعله، لأن فعله خلاف الحكمة.

ملاحظات مهمة:

نذكر هنا عدة ملاحظات تنفع كثيرًا في موضوع الشرور والمصائب في العالم:

أولًا: لا شك أن الله تعالى كان ولا يزال قادرًا على أن يخلق العالم من دون

ص: 200

أي مصاعب ولا بلاء، ولكن هذا العالم حينها سيتحول إلى عالم ملائكة، والفرض أننا في عالم الدنيا والمادة، وما دمنا في هذا العالم، إذن لا بد من الاختبار ولو ببعض البلايا والمصائب، قال تعالى (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.)(1)

ثانيًا: ليس من الصحيح أن نحكم على كل فعل لا يتلاءم مع رغباتنا الشخصية بأنه شر، فلربما نحكم عليه بأنه شر حسب ما نراه نحن، ولكن نحن لا نعلم الواقع، بل نعلم ظاهرًا من الحياة، مما يعني أننا في كثير من الأحيان نحكم على شيء ما بأنه شر، ليس لأنه شر واقعًا، ولكن لأنه لا يتلاءم مع ما نرغب او نحب.

وهذا يعني أنه ربما نحكم على شيء ما بأنه شر، ولكنه في علم الله تعالى خير لنا، كما قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(2)

وقال تعالى في آية الإفك: (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأَثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ

ص: 201


1- العنكبوت 1 -3.
2- البقرة 216.

بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ)(1)

ثالثًا: ثبت في الفلسفة أن (الوجود خير محض) فكل موجود فهو في حدّ نفسه خير محض، وأما بروز ظاهرة الشر فقد كان نتيجة الاحتكاك في هذا العالم، إذ عرفنا أن عالمنا هو عالم التزاحم والتدافع، نتيجة قلة الفرص المتاحة إزاء الرغبات الكثيرة، فنحن لا نسير ضمن خطوط متوازية لا تقاطع بينها، بل نسير ضمن خطوط متقاطعة طولًا وعرضًا. وهذا هو قدرنا في الحياة المادية، وإلا لتحولنا إلى عالم ملائكة كما تبين.

ومعه يُقال: إن الخير مأخوذ من الاختيار، يعني أنه مما يُطلب، وكل موجود فهو كمال في حد نفسه، وإنما انقسم إلى خير وشر، باعتبار أن بعض الموجودات ونتيجة تصادمها مع غيرها مما يكون أضعف قوة منها مثلًا، وأقل قدرة، فإنها أخذت تأكلها وتقضمها، أي إنها أخذت بإعدام كمال غيرها من خلال الوقوف ضد استمرارها في تحصيل الكمال، وبهذا الاعتبار ظهر الشر، وإلا فإن أكل الموجود لغيره يُعتبر في حدّ نفسه كمالًا للآكل، فحركة اليد وحدة السكين وليونة الرقبة –كما قال أفلاطون- هي كمالات في حد نفسها، وإنما ظهر الشر باعتبار أن قطع الرقبة يؤدي إلى منع الآخر من كمال ممكن له، وإلى حجبه عن الوصول إلى كمال ممكن له، وهذا معنى ما يُقال بأن الشر أمر نسبي، أي إنه بالنسبة لموجود ما لا يعتبر شرًا، وإنما يُعتبر شرًا بالقياس إلى ذلك الموجود الذي مُنع وحُجب عن مواصلة سيره التكاملي.

ص: 202


1- النور 11 – 12.

فالشر مفهوم نسبي يظهر عند الاحتكاك بالآخرين وسرقة كمال منهم، ولولا هذا المنع من التكامل لما كان هناك شر.

رابعًا: تقدم أنه انتهى أفلاطون –كما الأعلام- إلى أن الشر مفهوم عدمي، وأنه لا وجود له أصلًا، ولكن هناك ثلاث حقائق لا بد أن نلتفت إليها:

الحقيقة الأولى: أن القانون قد شرّع أحكامًا ورتّب آثارًا على الشرور وإنْ كانت أمورًا عدمية، فجعل هناك عقوبات على من يقتل الآخر، أو غرامات، وما شابه ذلك، فلو كان الشر عدميًا فكيف ترتبت عليه الآثار والآثار لا تترتب إلا على الوجود؟

الحقيقة الثانية: العرف أيضًا تعامل مع الشر على أنه ظاهرة وجودية، ولذلك نسب الشر إلى فاعله، فقال: إن فلانًا فَعَل شرًا، أو إنه شرّير، ولا شك أن هذا التعبير يوحي بوجود الشر.

الحقيقة الثالثة: أن النصوص الدينية تعاملت مع الشر على أنه وجود لا عدم، فانظر مثلًا قوله تعالى (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ)(1)، فأسند المس إلى الشر، أي إنه تعامل معه على انه ظاهرة وجودية.

فكيف نوفّق بين هذه الحقائق وبين كون الشر أمرًا عدميًا؟

ص: 203


1- فصلت 49.

الجواب:

إن الشر يُنظر له من جهتين:

الجهة الأولى: الشر في حد نفسه، وهو ما انتهى العلماء إلى كونه أمرًا عدميًا لا وجوديًا.الجهة الثانية: السبب الذي أدّى إلى ظهور الشر. أي الذي أدى إلى منع موجود آخر من كماله الممكن له، وهذا السبب أمر وجودي، والقانون والعرف والنصوص كانت تقصد هذا الفاعل، لا الشر نفسه، فإن القاتل الذي تسبب في فراق روح الآخر عن جسده هو من منعه من أخذ فرصته في الحياة والتكامل، وهو فاعل مختار، والفاعل المختار مسؤول عن فعله، لذلك رتّب القانون والعرف والشرع آثار الشر عليه.

فالآثار ترتبت على الفاعل للشر، أي على المانع من تكامل غيره، لا على الشر نفسه. فنسبة الشر إلى القاتل كانت باعتبار أنه منع الآخر من الحياة، فهو لم يوجد العدم، وإنما منع من الوجود، فصار الشر بمعنى (اسم الفاعل) أو (فاعل الشر) يُسند إلى الوجود الذي منع من وجود الآخر، وبهذا صحّ وصفه بالشرير.

خامسًا: عرفنا أن الشر ينشأ مفهومه من واقعية (التدافع) والتنافس في هذا العالم، لكن علينا أن نلتفت إلى أن التنافس وبالتالي التدافع ومنْع الآخر من الوصول إلى الهدف، أو الوصول قبله إلى الهدف ومنعه من الحصول عليه، له شكلان:

ص: 204

الشكل الأول: الشكل المقنّن

فإن العقلاء عندما رأوا أن الفرص أقل من الرغبات، جاؤوا ونظموا عملية التنافس، ووضعوا أُطرًا للتنافس، ولم يتركوا الأمر عبثًا، وإلا لانتهى الأمر بنا إلى حياة الغاب، ولذلك نشأ مفهوم (التنافس المشروع) أي المقنّن بقانون من العقلاء (أو الشريعة، لا فرق من هذه الناحية)، مع الالتفات إلى أن القانون لم يلغِ التنافي، إنما قنّنه وهندَسَهُ، بحيث عمل إلى أن لا يصل التنافي إلى حد الإفراط في عملية التمانع مع الآخرين، تمامًا كما في عملية حجز المقاعد للدراسات العليا، فحيث إن المقاعد قليلة، والطلبات كثيرة، فقد جعل القانون نمطًا معينًا من شروط القبول، من قبيل أن الأكثر علامات ودرجات يحصل على المقعد قبل غيره، والقانون بهذا الاعتبار فتح الباب للتنافس والتمانع لكن ضمن قانون، ولو حصل أحدهم على درجات عالية ومنع غيره من الحصول على المقعد، فإنه لا يوصف بالشر، ولا بأنه مجرم، بل يُقال عنه: إنه تنافَسَ بشرف ووفْق القانون وحصل على الهدف بكل جدارة.

بل حتى منع البعض من مخالفة القانون، لا يُعد شرًا بالقياس إلى الواقع العام للحياة، فإلقاء المجرم في السجن وإن كان فيه تحديد لحريته ومنعٌ لنوعٍ من تكامله، ولكنه بالنظر إلى الفائدة الإيجابية الكبيرة الحاصلة من منعه من ممارسة الجريمة في المجتمع، يُعد خيرًا.

فهذا التنافس وإنْ أدّى إلى منع الآخرين من بعض فرص التكامل، ولكنه لا يُبوّب في الشرور.

ص: 205

الشكل الثاني: الشكل غير المقنن
اشارة

أي التنافس الذي يؤدي إلى منع الآخرين بطريقة همجية بعيدة عن القانون، فيتم تبويبه في الجريمة، ويكون فيه اعتداء غير مشروع ولا مقنن على الآخرين، فهو تمانع خارج حدود المشروع والحق والقانون، فتتولّد مفاهيم الجريمة والاعتداء والظلم والجور، وبالتالي الشر. فهذا هو ما يُسمى شرًا.

وهذا يعني: أن الشر أمر نسبي، وأنه قد يكون شرًا بالقياس إلى أمر ما، ولكنه بالقياس إلى أمر آخر هو خير ومطلوب.

فالشر هو ما وقع خارج إطار القانون، وأما ما يقع داخل القانون والمشروع، فهو ليس شرًا كما تبين.

ومن هنا نجد أننا لا نسمي الدودة التي تأكل جذر الشجرة شريرة، ولا الأسد الذي يأكل الغزال شريرًا، ولا الماء إذا غرق فيه إنسان شريرًا، كل ذلك لأنه وقع داخل إطار القانون الطبيعي، ولم يخرج عن حده المقنَّن.

ومنه نعلم: أن الشر إنما يكون في الفعل الاختياري للإنسان، إذا ما كان خارج إطار القانون.

سادسًا: بناءً على أن الشر أمر نسبي، نسأل هنا: كيف نتعامل معه؟

هنا نمطان من التعامل معه:

النمط الأول: التعامل السلبي

بأن يتم الاعتراض على ظاهرة الشر وتقديم مقترحات للخالق جل

ص: 206

وعلا أن يُغير من نظام هذا العالم بحيث يحوله إلى عالم يشبه عالم الملائكة.

إن هذا التعامل أشبه بمن يُقال له: إن في المدينة سارقًا يجوب البيوت ليسرقها، فهو لم يقفل عليه أبوابه بإحكام، وإنما أخذ لافتة ووضعها خارج البيت وطالَب بأن يُغير الحكّام طريقة حكمهم للدولة، وأن يُنعشوا الفقراء وأن يكثروا من الشرطة وو، وترك بيته مفتوحًا وقد أتى السارق على مهل!

وهكذا نجد البعض من الناس عندما ينظر إلى حالات الشرور في العالم، فبدًلا من التعامل المنهجي معه –كما سنعرف إن شاء الله- فإنه يبقى يتململ ويتضجر ويعترض بدون أي تقدم ملحوظ.

في الحقيقة، أن مثل هذا الشخص يتصور أنه يعيش في الدنيا وكأنه في فندق سبعة نجوم، أو في مدينة ألعاب وترفيه، وأن كل ما يطلبه يجده تحت يده، لذلك تجده يتحسّس من أقل الأشياء التي لا تجري وفق مشتهياته. وهذا ما حكاه القرآن الكريم عن بعض بقوله عز من قائل: (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنىٰ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَىٰ الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأىٰ بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ.)(1)

إن مثل هذا الإنسان، يضجر حتى من ذبابة لو وقعت عليه، ومثله مثل

ص: 207


1- فصلت 49 – 51.

المنصور العباسي، حيث روي أنه وقع الذباب على المنصور فذبّه عنه، فعاد، فذبه حتى أضجره، فدخل جعفر بن محمد، فقال له المنصور: يا أبا عبد الله، لم خلق الله الذباب؟ فقال (عليه السلام): ليذلّ به الجبابرة.(1)

النمط الثاني: التعامل الإيجابي

بأن يكون المرء واقعيًا، ويقبل بأن عالمنا حيث إنه عالم التزاحم والتضاد، إذن لا بد من وقوع حالات التدافع التي تولد الشر، وبدلًا من أن يجلس يتململ كالثكلى، فإنه أخذ يتعامل بمنهجية مع هذا الواقع، وحاول أن يتأقلم مع الوضع، لا بأن يرضخ للشر ويكون عبدًا له، وإنما بأن يحاول أن يلتفّ عليه وأن يعالج ما يقع من حالات الشرور، فاستفاد من الفيضانات بأن خزّن المياه في أحواض كبيرة ليستفيد منها في وقت لاحق، وجعل الأمراض الفتاكة محل نظره وبحثه العلمي، ليطور من جهاز المناعة البشري ضدّها، وهكذا عمل على إيجاد أقفال محكمة تمنع السارق من اقتحام بيته عليه...

وبهذا، أخذ الإنسان الواقعي بالتعامل المنهجي الذي يعمل على التقليل من حدّة التصادمات، بل وحاول أن يلتفّ على الشرور ليجعل منها مادة دسمة للبحث والتطوير.

إن مثل هذا الإنسان الواقعي، ينظر إلى الدنيا وكأنها (مقلع رمل) أو عملية (حفر بئر) ليصل إلى الماء، فإذا ظفر بالماء في الصحراء القاحلة، فهو الفتح المبين، وإلا فإنه سيبقى مستمرًا بالحفر والتنقيب إلى أن يصل إلى هدفه.

ص: 208


1- تهذيب الكمال للمزي ج5 ص 92 – 93.

إنه يضع نصب عينيه أنه يعيش في الدنيا، والعيش في الدنيا ملؤه التعب والنصب، قال تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِبُ إِلىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً. وَيَصْلىٰ سَعِيراً.)(1)

وقال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ)(2)

وقال تعالى (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.)(3)

ص: 209


1- الانشقاق 6 – 12.
2- البلد 4.
3- العنكبوت 1 -3.

ص: 210

المسألة السابعة: الحكمة من خلق الشيطان
اشارة

من الاسئلة التي تدور كثيرًا في الأوساط هو السؤال عن الحكمة التي كان لأجلها خلق الله تعالى الشيطان، وأصلًا لماذا خلقه الله تعالى رغم علمه بأنه سيعمل على إغواء بني آدم؟

في الجواب عدة خطوات:

الخطوة الأولى: عدم العلم بملاكات الأفعال الحقيقية

لا شك أننا لا نعلم العلة الحقيقية والملاكات الواقعية لكثير من أفعال الله تعالى، لأن ذلك محجوب عنا، تمامًا كما لا نعلم العلة الحقيقية للأحكام الشرعية التعبدية، مثل كون صلاة الفجر ركعتين، وكون كفارة الإفطار المتعمد مثلًا إطعام ستين مسكينًا، وهكذا.

وبالتالي، فإن العلة الحقيقية لخلق الشيطان مخفية علينا، اللهم إلا أن يبينها لنا المعصوم.

وحيث نعلم أن أفعال الله تعالى كلها حكيمة لا عبث فيها، وأن جهلنا بالعلة لا ينفيها، وأنه ربما حكمْنا على شيء بأنه قبيح ولكنه في واقعه حسن،

ص: 211

من كل ذلك ننتهي إلى وجود حكمة واقعية في خلق الشيطان وإنْ لم نعلم بها.

الخطوة الثانية: منشأ شرّية الشيطان

تقدم أنه ثبت في الفلسفة أن الوجود هو الخير، وأن الخير هو الوجود، وبالتالي، فحيث إن الشيطان وجود، إذن هو خير في حدّ نفسه.

أما شرّيته فإنها نشأت من:

أ/ تكبّره على الأمر الإلهي وعدم طاعته لله عز وجل فيما يتعلق بالأمر بالسجود لآدم (عليه السلام)، وإلا، فإنه قبل ذلك كان من المتعبدين لله تعالى، بغض النظر عن كوامن نفسه وأهدافه من العبادة.

ب/ عمله على إغواء بني آدم وتوريطهم بالمعصية، وإلا، فلولا هذه الصفة، لكان الشيطان أشبه بكلب في غابات الأمازون، بعيد عنا، لا نعرفه، ولا نتساءل: لماذا خلقه الله تعالى. ولكن حيث إنه ورّط بني آدم بالكثير من المخالفات، فقد كانت ردةّ فعل البعض هي أن يتساءل مستفهمًا –والبعض معترضًا- عن أنه لماذا خُلق.

على أن البعض يتساءل هذا السؤال من مبدأ تشكيك المؤمنين بعدل الله تعالى وحكمته، أو ربما لأنه يريد تأييد ما يذهب إليه من عدم اتصاف الباري جل وعلا بصفة الحكمة والعدل.

الخطوة الثالثة: شرّية الشيطان كانت باختياره لا بالجبر

هذه الشريّة التي اتصف بها إبليس، لم تكن بإجبار من الله تعالى له، وإنما

ص: 212

هو موجود مختار، له أن يختار أي طريق يشاء، حسب قضاء الله تعالى وقدره في هذا العالم وأن الموجودات المختارة عليها هي أن تقرر مصيرها بيدها ضمن النظام الذي رسمه الله تعالى في هذا العالم.

فالله تعالى خلق الشيطان وأراد له كما أراد لغيره أن يتكامل باختياره في وجوده إلى أن يصل إلى غاية الخلق، وهي كما قال الله تبارك وتعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1)

كل ما في الأمر أنه هو من اختار طريق التسافل، وإلا فإنه استطاع باختياره أن يتكامل ليصل إلى مصافّ الملائكة، وأن يشمله الأمر الذي وُجّه لهم، إذ إنه في الحقيقة من الجن (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ)(2)، فكيف شمله الأمر وهو موجهٌ لخصوص الملائكة؟ هذا يعني أنه قد تكامل من خلال عبادته إلى أن وصل إلى مرتبة الملائكة، ونحن نعلم –كما ثبت في محله- أن الموجود الأدنى يمكنه أن يصعد إلى مراتب عليا من خلال تكامله الوجودي وسيره في خط التكامل الذي رسمه الباري جل وعلا، وهذا ما حصل للشيطان، لكنه فشل في الاختبار، فنزل إلى أسفل سافلين.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الله بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَه الطَّوِيلَ وجَهْدَه الْجَهِيدَ، وكَانَ قَدْ عَبَدَ الله سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ، لَا يُدْرَى أَمِنْ

ص: 213


1- الفتح 56.
2- الكهف 50.

سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى الله بِمِثْلِ مَعْصِيَتِه، كَلَّا مَا كَانَ الله سُبْحَانَه لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً، بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِه مِنْهَا مَلَكاً، إِنَّ حُكْمَه فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وأَهْلِ الأَرْضِ لَوَاحِدٌ، ومَا بَيْنَ الله وبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِه هَوَادَةٌ، فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَه عَلَى الْعَالَمِينَ.(1)

الخطوة الرابعة: تقديم التعويض الإلهي للشيطان

حيث إن الله تعالى عادل، ولا يضيع عنده عمل عامل، وحيث إن الشيطان كان قد عَبَد الله تعالى ستة آلاف سنة كما عبّر أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد طالب بأجره على عبادته، فالله تعالى ومن باب وعده بإعطاء المطيع الثواب، أعطاه ثواب عمله في الدنيا، والذي أراد إبليس أن يكون في موضع الإغواء لبني آدم، فأجابه الله تعالى، وفي نفس الوقت حذّر الإنسان من اتباع خطواته وإغراءاته.قال تعالى (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً. قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلىٰ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً. قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً.)(2)

ص: 214


1- نهج البلاغة ج2 ص 139.
2- الإسراء 61 – 65

علمًا أنه وفي قبال إمهال الله تعالى للشيطان، فإنه تعالى بيّن لنا أمورًا يمكننا أن نستعين بها لنتخلص من وسوسته وإغوائه، ومن ذلك ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: قال إبليس: خمسة [ أشياء ] ليس لي فيهن حيلة، وسائر الناس في قبضتي: من اعتصم بالله عن نية صادقة واتكل عليه في جميع أموره، ومن كثر تسبيحُه في ليله ونهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن بما يرضاه لنفسه، ومن لم يجزع على المصيبة حين تصيبه، ومن رضي بما قسم الله له ولم يهتم لرزقه.(1)

وروي أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ لأَصْحَابِه: ألَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوه تَبَاعَدَ الشَّيْطَانُ مِنْكُمْ كَمَا تَبَاعَدَ الْمَشْرِقُ مِنَ الْمَغْرِبِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ (صلى الله عليه وآله): الصَّوْمُ يُسَوِّدُ وَجْهَه، والصَّدَقَةُ تَكْسِرُ ظَهْرَه، والْحُبُّ فِي الله والْمُوَازَرَةُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَقْطَعُ دَابِرَه، والِاسْتِغْفَارُ يَقْطَعُ وَتِينَه، ولِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ وزَكَاةُ الأَبْدَانِ الصِّيَامُ.(2)

ولو حصل وسقط ابن آدم في شباكه، فإنه تعالى فتح الفرصة له بالتوبة والإنابة والاستغفار، فضلًا عن التعويض الإلهي قبال تلك الوسوسة بجعل الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة.

قد روي عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله أَوْ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليهما السلام) قَالَ: إِنَّ آدَمَ (عليه السلام) قَالَ: يَا رَبِّ سَلَّطْتَ عَلَيَّ الشَّيْطَانَ وأَجْرَيْتَه مِنِّي مَجْرَى الدَّمِ، فَاجْعَلْ

ص: 215


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 285 ح 37.
2- الكافي للكليني ج4 ص 62 بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الصَّوْمِ والصَّائِمِ ح2.

لِي شَيْئاً. فَقَالَ: يَا آدَمُ، جَعَلْتُ لَكَ أَنَّ مَنْ هَمَّ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْه، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْه سَيِّئَةٌ، ومَنْ هَمَّ مِنْهُمْ بِحَسَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَه حَسَنَةٌ، فَإِنْ هُوَ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَه عَشْراً.

قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: جَعَلْتُ لَكَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ سَيِّئَةً ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَه غَفَرْتُ لَه.

قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: جَعَلْتُ لَهُمُ التَّوْبَةَ، أَوْ قَال: بَسَطْتُ لَهُمُ التَّوْبَةَ حَتَّى تَبْلُغَ النَّفْسُ هَذِه.

قَالَ: يَا رَبِّ حَسْبِي.(1)

وعن رَسُول الله (صلى الله عليه وآله): مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِسَنَةٍ قَبِلَ الله تَوْبَتَه. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ السَّنَةَ لَكَثِيرَةٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِشَهْرٍ قَبِلَ الله تَوْبَتَه. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ لَكَثِيرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِجُمْعَةٍ قَبِلَ الله تَوْبَتَه. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْجُمْعَةَ لَكَثِيرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِيَوْمٍ قَبِلَ الله تَوْبَتَه، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ يَوْماً لَكَثِيرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُعَايِنَ قَبِلَ الله تَوْبَتَه.(2)

الخطوة الخامسة: الشيطان لا يسلب اختيار الإنسان

وهذا الأمر الذي طَلَبه إبليس وأعطاه له الله تعالى، لم يصلْ إلى حدّ سلب اختيار الإنسان، ليأتي العاصي ويقول: إن إبليس أجبرني على المعصية، كلا، فإن أقصى ما يفعله إبليس هي الوسوسة، طرح المقترحات، والتشجيع عليها،

ص: 216


1- الكافي للكليني ج2 ص440 بَابٌ فِيمَا أَعْطَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ آدَمَ ع وَقْتَ التَّوْبَةِ. ح1.
2- الكافي للكليني ج2 ص440 بَابٌ فِيمَا أَعْطَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ آدَمَ ع وَقْتَ التَّوْبَةِ. ح2.

وأما صدور الفعل فإنه بمحض إرادة الإنسان واختياره.

وهذه حقيقة يؤكدها القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا، قال تعالى (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(1)

وقال تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلىٰ عَذابِ السَّعِيرِ)(2)

وقال تعالى (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ)(3)

فلاحظوا عمله: الدعوة فقط، لا الإجبار وسلب الإرادة.

وفي هذا المجال، روي عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، قال: لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.)(4) صعد إبليس جبلًا بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته

ص: 217


1- إبراهيم 22.
2- لقمان 21.
3- فاطر 6.
4- آل عمران 135.

بعفاريته فاجتمعوا إليه. فقالوا: يا سيدنا، لمَ دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدُهم وأُمنّيهم حتى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار. فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة.(1)

الخطوة السادسة: الشيطان إحدى وسائل الاختبار

حيث إننا في عالم الدنيا، وهي محل بلاء وابتلاء واختبار، كان لا بد من آلات ووسائل للاختبار، فكانت الحاجة إلى الطعام اختبارًا، وكانت الحاجة إلى البيت اختبارًا، وكانت الحاجة إلى الجنس الآخر اختبارًا، وكانت النفس الأمارة بالسوء اختباراً، وكان من بين آلات ووسائل الاختبار هو الشيطان، فهو من اختبارات عالم الدنيا، ليُثبت المؤمن جدارته بلقب عبد الله تعالى، وليكون حصوله على لقب الفوز في الآخرة إثر مجاهدته لأنواع البلايا واجتيازه مختلف الاختبارات، والقرآن صريح في أن تجاوز الاختبارات تترتب عليه المواهب الإلهية، العظيمة، فهذا نبي الله إبراهيم (عليه السلام) يُختبر بكلمات، فلمّا نجح في الاختبار حصل على منصب الإمامة الإلهية التي هي أعظم من منصب النبوة، قال تعالى (وَإِذِ ابْتَلىٰ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(2)

ص: 218


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 551 ح 736 / 5
2- البقرة 124.

وقد روي عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه نَبِيّاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه نَبِيّاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه رَسُولاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه رَسُولاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه خَلِيلاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه خَلِيلاً قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَه إِمَاماً، فَلَمَّا جَمَعَ لَه الأَشْيَاءَ قَالَ:(إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قَالَ: فَمِنْ عِظَمِهَا فِي عَيْنِ إِبْرَاهِيمَ قَال: (ومِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قَالَ: لَا يَكُونُ السَّفِيه إِمَامَ التَّقِيِّ.(1)

إذن، وجود إبليس ووسوسته للإنسان هو من اختبارات عالم الدنيا.

ولمواجهة إبليس والتغلب عليه من الجزاء، ما لا يكون لمن لم يواجهه أصلًا، أو واجهه ولم يتغلب عليه، فمن دون المواجهة ربما لا تنكشف الحقائق، وكما قيل: كل الرجال أبطال خارج ساحة المعركة!

فالمواجهة مع إبليس تكشف معدن المرء، وهذا ما حكاه القرآن الكريم مبينًا علة إعطاء سلطان الوسوسة لإبليس على بني آدم، قال تعالى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ.)(2)

ولذلك، روي أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال: كان شيطاني كافرًا فأعانني الله

ص: 219


1- الكافي للكليني ج1 ص175 بَابُ طَبَقَاتِ الأَنْبِيَاءِ والرُّسُلِ والأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح2..
2- سبأ 20 – 21.

عليه حتى أسلم.(1)

ص: 220


1- روي في كنز العمال للمتقي الهندي ج11 ص 413 ح 31936 عن النبي (صلى الله عليه وآله): فضلت على آدم بخصلتين: كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه حتى أسلم، وكُنّ أزواجي عونًا لي، وكان شيطان آدم كافرًا، وكانت زوجته عونًا على خطيئته.
المسألة الثامنة: التفاوت بين البشر
اشارة

حتى تتم معالجة هذا الموضوع بمنهجية نذكر الخطوات التالية:

الخطوة الاولى: واقعية التفاوت بين البشر

لا شك أن تفاوت البشر واختلافهم ظاهرة ملحوظة على أكثر من صعيد، فهناك التفاوت في الإمكانات الذاتية، أي الاستعدادات والقابليات، فهناك العبقري والذكي والمتوسط والغبي والأبله والمجنون، وهناك القوي والضعيف، هناك الحليم والغضوب...

وهناك التفاوت في المواصفات الشخصية، كاختلاف الأنساب من الرفيع إلى عامة الناس إلى أسوأ نسب كابن الزنا، وكاختلاف الألوان والأشكال والأحجام...

وهناك التفاوت في الظروف الموضوعية التي تتدخل في صنع شخصية الإنسان، كالظروف الجغرافية (أي المكان الذي يعيش فيه المرء) والاقتصادية والثقافية، فقد ينشأ المرء في بيئة ثقافية متعلمة، فتحتويه هذه الظروف لينشأ هو كذلك، وقد ينشأ في بيئة متخلفة فتمنعه من تفعيل إمكاناته، وهذا يعني

ص: 221

أن هناك مَن تمنعه الظروف الموضوعية من تفجير طاقاته وتفعيل إمكاناته لظلم أو جهل أو فقر...

فهذه الأصعدة المختلفة تصوغ بمجموعها الظرف الموضوعي للإنسان وتولّد تفاوتاً فاحشاً بين البشر، فتبرز عندنا ظواهر للتفاوت شاسعة وعميقة.

الخطوة الثانية: الاختلاف في توظيف التفاوت

إن تلقي البشر لهذا التفاوت تلقياً سيئاً أفرز مجموعة من الثنائيات، مثل: ظالم ومظلوم، مستبد ومستعبد، طاغوت ومستضعف، متحضر ومتخلف، ثري فاحش وفقير مسحوق، ظاهرة شعب الله تعالى المختار وشعب يشعر بالدونية....

هذه الثنائيات التي يرزح ويئن تحت وطأتها البشر، جاءت نتيجة للتوظيف السيئ لذلك التفاوت، وهذا يعني أنه لو أردنا أن نلتزم -وبشكل مثالي- بالعمق الاجتماعي والمدني للبشر المبني على التكامل، وأن القوي –في مختلف المستويات- لا بد أن يساعد الضعيف، وأنه لو عطف الظالم على المظلوم، وأعطى الغني الفقيرَ... لما ظهرت تلك الثنائيات...

ولكن عنصر التكامل والتكافل هذا يصطدم مع عنصر الاستخدام – نتيجة قلة الفرص المتاحة بالنسبة إلى الإمكانيات -، فإذا تغلّب عنصر الاستخدام على التكامل والتكافل، حينئذٍ ينمو حس حب استخدام الآخر بلا مقابل في كل فرصة متاحة، فتبرز تلك الثنائيات...

ص: 222

لقد كان على الناس أن يقتدوا بالخالق لهم في تعامله مع مخلوقاته، إذ إننا نجد أن قانون السماء قائم على الأخذ والعطاء، ورغم أن الله تعالى قادر مطلق وغني مطلق، إلا أنه لم يستخدم الإنسان بلا مقابل، فبقدر ما يعطي الإنسانُ لله تعالى ويمتثل أوامره، فإنه يحصل على مقابل، بل إن كل ما يقدمه الإنسان فهو له بالحقيقة، وليس لله تعالى منه شيء، لأنه هو الغني المطلق، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)(1)

الخطوة الثالثة: ما هو سبب التفاوت
اشارة

البعض يتساءل فيقول: أو ليس الله تعالى قادرًا على كل شيء، فلمَ لمْ يخلق بني آدم من دون تفاوت يُذكر؟ وبالتالي لن يظهر هناك ضعيف وقوي، عالم وجاهل، وهكذا، خصوصاً مع غلبة حس الاستخدام على حس التكافل؟(2)

وفي البداية لا بد من التنويه إلى أن السؤال ذو زاويتين، فقد يطرح للتعبير عن عدم الإيمان بالعدل الإلهي والتشكيك في رحمته، وقد يطرح لأجل الحصول على تكييف بين هذه الظاهرة وبين منظومة العدل والعناية واللطف والتفضل والرحمة... ونحن بعد أن ثبت عندنا أن الله تعالى عادل لا يجور أبدًا، فسوف نعالج السؤال من الزاوية الثانية.

ص: 223


1- سورة البقرة (272).
2- وإلا، فلو غلب حس التكافل على صاحبه، لخفت حدة هذا السؤال، ولما بقي منه إلا سؤال عابر عن الحكمة في وجود التنوع في الحياة، وإنما ينشأ ويقوى السؤال فيما إذا أُسيئ استغلال هذا التفاوت، مما يفرز تلك الثنائيات الضاغطة على سير البشرية.

وحتى يتضح الجواب عن سبب التفاوت نضع الأسس التالية:

الأساس الأول: الاختيار الإنساني

تقدم في موضوع القضاء والقدر الإلهي أن العصب الرئيس الذي يحدد مصير الإنسان دنيوياً وأخروياً هو الاختيار، فالإنسان ليس مجبرًا في فعله، وبالتالي فإنه هو الذي يصنع مصيره بيده وباختياره.

ولكن علينا أن نلتفت إلى الحقيقة التالية، وهي:

أنه لا يوجد اختيار بالمطلق، بل إن كل فعل اختياري فهو محاطٌ بالكثير من المبادئ غير الاختيارية، فشربُك للماء محتاج إلى الماء والكأس والعامل الذي يصنع الكأس وصاحب الدكان الذي يبيع الكأس و..، وهكذا انظر إلى كل فعل تقوم به، تجد هذه الحقيقة واضحة، وقد أشرنا إلى هذه الحقيقة فيما سبق.

وهذا يعني: أن كل ممارساتنا الاختيارية هي محتاجة إلى الآخر ليقدم المساعدة، وإلا لما أمكن صدور فعل الإنسان الاختياري، فتفعيل اختيار الإنسان يحتاج إلى ضم عوامل وعناصر كثيرة غير اختيارية له.

إذن، ليس من الصحيح ان نرمي بتخلفنا كله على غيرنا، أو على السماء، لأن الإنسان هو من يصنع مصيره ويحدده، والسماء لم تجبرنا على فعل اختياري. نعم، لا يوجد اختيار بالمطلق، وإنما لا بد من تقديم المساعدة من الغير، فأنت لا تصبح عالمًا من دون معلم، ولا تاجرًا من دون من يشتري

ص: 224

منك بضاعتك، وهكذا...

الأساس الثاني: السنن الإلهية
اشارة

هناك جملة من السنن الإلهية، رافقت البشرية منذُ وجدت وإلى أن تنتهي، منها:

السُنّة الأولى: نظام الأسباب والمسببات

أي إنه تعالى أبى أن يجري المسبَّبات إلا بأسبابها، فهذا من سنن الكون، وإن كان تعالى قادراً على جعل العالم يسير بلا هذا القانون، ولكن حكمته تعالى أبت إلا ذلك، فيما عدا حالات المعجزة والكرامة، والتي هي أيضاً محكومة لقوانين لكنها خارجة عن فهمنا، وهي قوانين فوق القوانين الطبيعية المتعارفة.

وهذا القانون له نسق معين، وهو السنخية بين السبب والمسبب، بمعنى أن يكون المسبب بحالة بحيث لا يصدر إلا عن السبب المعين، يعني لا بد أن توجد هناك خصوصية في السبب والعلة، على أساسها يصدر المسبب والمعلول، ففي نواة النخلة خصوصية تجعلها تنتج التمر لا الليمون، وفي الشوك خصوصية تجعله ينتج شوكًا لا موزًا، بل هي التي جعلت شجرة التفاح تنتج تفاحًا لا كتابًا في علم الفيزياء!

ومن هنا، فلا يمكن خرق هذا القانون، فللغنى وللفقر أسبابهما، وللثقافة والجهل أسبابهما...

ص: 225

وهذا يعني أن جملة من التفاوتات جاءت نتيجة لنظام السببية، بمعنى أن نظام السببية قضى بأن من يعمل بجد وتواصل ولا يتكاسل ولا يتململ ويتحمل مصاعب التجارة ومخاطرها، حينها سيصبح غنيًا ولو بعد حين، أما من ينام إلى الظهر، ولا يبذل أي جهد يُذكر، فليس من حقه أن يعترض على السماء وأنها لماذا لم تجعله غنيًا.

وهكذا الإنسان الذي لا يسهر الليالي ولا يضحي بالكثير من راحته وأمور الدنيا، فإنه لن يصبح عالمًا، بل سيبقى في مستنقع الجهل.

السُنة الثانية: سنة الابتلاء والاختبار

فإن الله تعالى جعل الدنيا عالم اختبار، فنحن لسنا في عالم ملائكة حتى نطالب بعدم الاختبار.

قال تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)(1)

وهذه السنة أيضاً لها قانونها الخاص، وهو التناسب الطردي بين قوة الإيمان وشدة الابتلاء، فعَنْ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (عليه السلام): أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً النَّبِيُّونَ ثُمَّ الْوَصِيُّونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، وإِنَّمَا يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِه الْحَسَنَةِ، فَمَنْ صَحَّ دِينُه وحَسُنَ عَمَلُه اشْتَدَّ بَلَاؤُه،

ص: 226


1- سورة البقرة 214.

وذَلِكَ أَنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيَا ثَوَاباً لِمُؤْمِنٍ، ولَا عُقُوبَةً لِكَافِرٍ، ومَنْ سَخُفَ دِينُه وضَعُفَ عَمَلُه قَلَّ بَلَاؤُه، وأَنَّ الْبَلَاءَ أَسْرَعُ إِلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ مِنَ الْمَطَرِ إِلَى قَرَارِ الأَرْضِ.(1)

وهذه السنة تُعرّض الإنسان للمصائب والبلايا، فتكون موضوعاً لترجمة الكثير من المفاهيم التي لا يمكن أن تظهر إلا بالابتلاء، فالصبر لا يظهر إلا عند المصائب والمصاعب، قال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ...)(2)

هذه السنة تفرز نوعاً أو أكثر من أنواع التفاوتات، وبالتالي قد يسئ البعض استخدام هذا النوع من التفاوت...

الأساس الثالث: تمييزات بين الإرادة وبعض المفاهيم

لا بد من التمييز بين الإرادة من جهة، وبين بعض المفاهيم الأخرى التي ربما تتلابس مع الإرادة، كالشوق والحب والشهوة والتمني... وهنا ننبه إلى:

1 / أن حقيقة الإرادة مختلفة عن هذه المفاهيم، فالإرادة هي القرار والعزم، الذي يقتضي تنفيذ الفعل وتحمل الصعوبات من أجله، أما الاماني والشهوات والأشواق، فهي مجرد أحلام يقظة لا تسمن ولا تغني من جوع.

ص: 227


1- الكافي للكليني ج2 ص 259 بَابُ شِدَّةِ ابْتِلَاءِ الْمُؤْمِنِ ح29 وعلل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 44
2- البقرة 155 – 156.

2 / لا بد أن تُلاحَظ الإرادة مع مقدماتها لا مقطوعة عنها، وأخذُها مقطوعة عن مقدماتها خطأٌ يرتكب، إذ أُخذ في مفهوم الإرادة تحريك العضلات، والعضلات تتحرك نحو علل النتائج لا إلى النتائج، والحاصل أن الإرادة لا بد أن تكون للشيء ومقدماته لا إلى الشيء فقط، فالعلم له مقدمات، وأحدها الإرادة، فإن العلم لا يحصل بمجرد أن يريده الإنسان، بل لا بد أن يبذل له ثمنه، وأن يحقق مقدماته، وهكذا كل أمنية في العالم لها مقدمات، إحداها الإرادة.

الخطوة الرابعة: بيان قضايا خمس مرتبطة بحدوث التفاوت بين البشر
اشارة

إذا اتضحت هذه الثوابت والأسس، نقول:

هناك خمس قضايا لها مدخلية في ظهور التفاوت بين بني البشر:

القضية الأولى: أن الخطوة الأولى من الإنسان

أن علاقة الله تعالى مع عباده علاقة متساوية، وهي قربه تعالى من الجميع بحدّ (... أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ...)(1)، غير قائمة على الرغبة أو الشهوة أو على انتظار الاستفادة، نعم، تنتظم هذه العلاقة باعتبار قرب وبعد العبد عن الله تعالى (وأنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك)(2).

فالله تعالى ينظر إلى الجميع بالسوية، لكن على من يريد أن يتقرب إلى الله

ص: 228


1- الأنفال 24.
2- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص 583 دعاء السحر في شهر رمضان.

تعالى أكثر أن يبذل لأجل ذلك أكثر من غيره، على غرار ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل (عليه السلام)، عن الله عز وجل، قال: قال الله تبارك وتعالى:... وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتنفّل لي حتى أحبَّه، ومتى أحببته كنتُ له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيدًا، إنْ دعاني أجبتُه، وإنْ سألني أعطيتُه...(1)

فلا بد أن تكون هناك حركة من الإنسان نحو الله تعالى، ليكون حصوله على توفيق أو تسديد أو نجاح مستحقًا ومن دون محسوبيات.

القضية الثانية: العلم الإلهي الأزلي

حيث علم الله تعالى بعلمه الأزلي بوقوع التزاحم في عالم الطبيعة، وحيث علم بعلاج التزاحمات الدنيوية، فقد علم من الإنسان – الفرد – إرادته الحقيقية، فكتب على نفسه أن يعطي كل فرد المقدمات غير الإرادية التي تصب في إرادته الحقيقية – لا حبه وشهوته ورغبته -، سواء كانت هي مقدمات نَسَبية أو زمانية أو جغرافية أو غيرها، قال تعالى (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا)(2)

فالله تعالى بعلمه الأزلي علم أن فلانًا مثلًا يريد أن يصبح عالمًا وأنه سيبذل الغالي والنفيس من أجل ذلك، حينها يمكن لله تعالى ان يوفر لهذا الإنسان

ص: 229


1- التوحيد للصدوق ص 399 – 400 باب 62 - باب إن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم/ ح1.
2- الإسراء 20.

المقدمات التي تساعده في تحصيل العلم، ولا يعني هذا أن الله تعالى سيقوم بإعطائه العلم بالمجّان، كلا، وإنما يعني أنه تعالى سيوفر له المقدمات التي لو استغلها بإرادته وسعيه وجهده فإنه سيصل إلى مراده.

ومن هنا نعلم أن من الخطأ أن يُقال: لو أعطي أبو لهب إمكانات سلمان لما كان أبا لهب، بل كان سلمان، والعكس بالعكس، كلا، فهذا تناول خاطئ، إذ حتى لو أُعطي أبو لهب ذلك ولم يُرد هو أن يصير كسلمان، لظل أبا لهب أو ما يشبهه، إذ إرادته الحقيقية هي التي تتحكم بمصيره لا المقدمات التي تُعطى له...

وبعبارة أخرى: أن الله تعالى يهيئ الاستعدادات والمواصفات والظروف الموضوعية على أساس الإرادة الحقيقية التي يعلمها واقعاً من الفرد...

وهذا يعني: أن التفاوت بين البشر مؤسَّس على أساس اختلافهم بالإرادات الحقيقية...

علمًا أن توفير تلك المقدمات لا يعني أن الإنسان سيكون مجبرًا على الوصول إلى الهدف، بل يبقى المدار على تفعيل إرادته واستفادته من تلك المقدمات التي وهبها الباري جل وعلا.

والذي يشهد لهذه الحقيقة: هو الواقع، فكم من أناسٍ كانت الظروف المحيطة بهم تقتضي أن يكونوا في القمة، ولكنهم أخلدوا إلى الأرض وآثروا المستنقعات، وليس بعيدًا عنك امرأة لوط وامرأة نوح، ولا بعض أولاد

ص: 230

الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام).

وكم من أُناس أحاطت بهم ظروف الانحراف والرذيلة، لكنهم عزموا أمرهم على امتطاء المجد والاتصاف بالفضيلة، فكانوا مثالًا لغيرهم في العفة والطهارة والكمال والنجاح، وما امرأة فرعون عنك ببعيد، ولا سلمان المحمدي الذي خاض تجارب مريرة في حياته بحثًا عن النجاة بين يدي النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

قال تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ. وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ.)(1)

وقال تعالى (وَنادىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ سَآوِي إِلىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) إلى أن قال تعالى (وَنادىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ

ص: 231


1- التحريم 10 – 12.

أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(1)

وهكذا نجد في حياتنا اليومية من خارت عزيمته ليُفرّط في الكثير من الإمكانات والظروف الملائمة للنجاح، فكان من الفاشلين، وآخر عرك الحياة وخاض غمارها ليصنع ظروفه الملائمة بنفسه، وليكون مثالًا لغيره في النجاح.

القضية الثالثة: أن المدار هو على الإرادة الحقيقية للإنسان

ومما يؤيد ذلك هو بعض النصوص التي تشير إلى دور الإرادة الحقيقية في مصير الفرد، فمثلاً أهل النار عندما يطلبون منه تعالى أن يرجعهم ليفعلوا صالحاً، يرفض طلبهم لأن إرادتهم الحقيقية أنهم حتى لو عادوا لرجعوا إلى أعمالهم القبيحة!

قال تعالى (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(2)

وهكذا ذكرت بعض النصوص أن من علل الخلود في جهنم هي الإرادة الحقيقية للمعصية الخالدة، فعن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ؛ لأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ خُلِّدُوا فِيهَا أَنْ يَعْصُوا الله أَبَداً، وإِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ؛ لأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ بَقُوا

ص: 232


1- هود 42 – 47.
2- الأنعام 27 – 28.

فِيهَا أَنْ يُطِيعُوا الله أَبَداً، فَبِالنِّيَّاتِ خُلِّدَ هَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ ثُمَّ تَلَا قَوْلَه تَعَالَى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه)(1) قَالَ: عَلَى نِيَّتِه.(2)

والخلاصة: أن الله تعالى يطلع على الإرادة الحقيقية للفرد، فيهيئ له المقدمات غير الإرادية التي توصله إلى إرادته تلك...

ومن هذا نستنتج ارتباط بعض أنواع التفاوت بتنوع واختلاف إرادات الأفراد الجادة والحقيقية لمصيرهم النهائي.

القضية الرابعة: سنة العقوبة الدنيوية

فهي سنة تكوينية، سواء كانت على المستوى الجماعي – كما حكاه لنا القرآن الكريم عن بعض مجتمعات الأنبياء – أو على مستوى فردي... والعقوبة تستلزم الألم والحرمان، وبالتالي تفرز أنواعاً من التفاوتات.

فالروايات الشريفة أكّدت هذه السنة تمامًا، وأن الآلام التي تصيب الإنسان في الدنيا، فإن قسمًا معتدًا به منها يكون لأجل تخليص المؤمن من آثار ذنوبه الفتّاكة، فالعقوبة في الدنيا مهما عظمت فإنها أهون من عقوبة الآخرة.

وفي ذلك روايات كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال:

ص: 233


1- الإسراء 84 .
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 85 باب النية ح5، وجاء في الهامش: وكأن الاستشهاد بالآية مبنى على أن المدار في الأعمال على النية التابعة للحالة التي اتصفت النفس بها من العقائد والأخلاق الحسنة والسيئة فإذا كانت النفس على العقائد الثابتة والأخلاق الحسنة الراسخة التي لا يتخلف عنها الأعمال الصالحة الكاملة لو بقي في الدنيا أبدا فبتلك الشاكلة والحالة استحق الخلود في الجنة وإن كانت النفس على خلاف ذلك استحق الخلود في النار.

عن رسول الله صلى الله عليه وآله: إن المؤمن إذا قارف الذنوب ابتُلي بها بالفقر، فإنْ كان في ذلك كفارة لذنوبه، وإلا ابتُلي بالمرض، فإنْ كان في ذلك كفارة لذنوبه، وإلا ابتُلي بالخوف من السلطان يطلبه، فإنْ كان ذلك كفارة لذنوبه، وإلا ضُيّق عليه عند خروج نفسه، حتى يلقى الله تعالى حين يلقاه، وماله من ذنب يدّعيه عليه، فيأمر به إلى الجنة.

وإنّ الكافر والمنافق ليهوّن عليهما خروج أنفسهما، حتى يلقيا الله تعالى حين يلقيانه ومالهما عنده من حسنة يدّعيانها عليه، فيأمر بهما إلى النار.(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤُه لَيَعْتَذِرُ إِلَى عَبْدِه الْمُؤْمِنِ الْمُحْوِجِ فِي الدُّنْيَا كَمَا يَعْتَذِرُ الأَخُ إِلَى أَخِيه فَيَقُولُ: وعِزَّتِي وجَلَالِي مَا أَحْوَجْتُكَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَوَانٍ كَانَ بِكَ عَلَيّ،َ فَارْفَعْ هَذَا السَّجْفَ [أي الستر] فَانْظُرْ إِلَى مَا عَوَّضْتُكَ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ (عليه السلام): فَيَرْفَعُ فَيَقُولُ: مَا ضَرَّنِي مَا مَنَعْتَنِي مَعَ مَا عَوَّضْتَنِي.(2)

القضية الخامسة: بروز بعض المفاهيم بالحرمان

إن بعض الأفعال والخصائص الإنسانية ذات البعد المعنوي لا موضوع لها ولا تبرز ولا تظهر إلا في حالة الحرمان والألم، كالصبر والإخلاص، فأنت لا تصبر إلا على شيء يستوجب منك حبس النفس، فالطاعة تحتاج إلى صبر وحبس النفس عن بعض اللذائذ كلذة الأكل في الصوم والنوم عن صلاة

ص: 234


1- بحار الأنوار للمجلسي ج64 ص 238 عن جامع الأخبار.
2- الكافي للكليني ج2 ص 264 باب فضل فقراء المسلمين ح18.

الفجر، وتجنب المعصية أيضًا يحتاج إلى حبس النفس عن بعض اللذائذ، وهكذا عندما يُصاب المرء بمصيبة فإنه يحتاج إلى حبس النفس ليكون كما الصابرين (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(1)

وهذا أيضاً يفسر نوعاً من أنواع التفاوتات بين البشر، فالذي يُريد التكامل المعنوي أكثر من غيره، عليه أن يجهز نفسه لأنواع من البلايا والمصاعب لكي تبرز عنده تلك المفاهيم المعنوية ويجتاز الاختبارات نحو الكمال، أي إن عليه أن يتخذ للبلايا والمصاعب جلبابًا، ولا يعني هذا أنه لا بد أن يقع في المصاعب، كلا، ولكنه لو وقع فليضع في حسبانه أنها قد تكون مضمار سباقه ومادة اختباره وبالتالي مركب نجاحه وفلاحه.

هذه القضايا الخمسة بمجموعها يمكن أن تفسر لنا التفاوت الحاصل بين البشر، فإذا ما تم ملاحظتها بدقة أمكن تفسير الكثير من الظواهر التي قد يلتبس تفسيرها، ونذكر منها:

الظاهرة الأولى: قول الإمام الحسين (عليه السلام) بشأن ذهابه إلى كربلاء (شاء الله أن يراني قتيلاً) وقوله (عليه السلام) بشأن إخراج النساء معه (شاء الله أن يراهن سبايا)(2)، فهذا لا يعني الجبر، بل معناه – حسب ما عرفناه – أنه تعالى وفّر الظروف الموضوعية المناسبة لنيل درجة في الجنة بشرط اختيار الشهادة، وهذا

ص: 235


1- البقرة 156 - 157
2- المحتضر للحسن بن سليمان الحلي ص 82 ح121.

لا يتنافى مع اختيار الإمام الحسين (عليه السلام).

وكل تلك المقدمات لا تسلب إرادة الإمام الحسين (عليه السلام) واختياره، وإنما هي تصب في الإرادة الحقيقية والجدية للإمام الحسين (عليه السلام)، وأعطيت له ووفرت بسبب إرادته (عليه السلام).

الظاهرة الثانية: قوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)

إذ ذكر الأعلام أن الإرادة هنا تكوينية لا تشريعية، إذ التشريعية عامة لجميع العباد، والإرادة في الآية خاصة، فهي تكوينية، ومن هنا قد يقال: بأن عصمة أهل البيت (عليهم السلام) لا تعد فضيلة لهم، لأنها أُعطيت لهم تكويناً، وليس فرع عمل صالح قدموه.

والجواب(1):

أ / أن المراد النهائي والغاية القصوى للمعصوم ليست هي نفس العصمة، بل هي أول مبادئ طريقه نحو التكامل غير المتناهي.

ب / ولو سلّمنا أنها أعطيت لهم تكويناً، فالفضيلة كامنة في الحفاظ عليها الذي هو أصعب بكثير من الحصول عليها.

ج- / وحل هذا: أن العصمة مقدمة غير اختيارية تدخل في سياق

ص: 236


1- سيتم بيانه أيضاً في مباحث الإمامة إن شاء الله تعالى في : النقطة الثانية: عصمة أهل البيت (عليهم السلام)/ الدليل الأول: آية التطهير/ الخطوة الأولى: نوع الإرادة في الآية.

الشروط الموضوعية التي تصب في تحقيق الإرادة الحقيقية للمعصوم المعلومة بعلم الله تعالى الأزلي، للوصول إلى مقامات رفيعة تشكل العصمة شرطاً من شروطها- وبعبارة: حيث علم الله تعالى أن الإمام يريد حقًا أن يصل إلى مقام (الإمامة) بكل إرادته، فالله تعالى وفّر له هذه المقدمة (العصمة) لأنها شرط في ملئ هذا الموقع (الإمامة)، فالخطوة الأولى كانت من الإمام نفسه، وهي إرادته الجدّية وعزمه الثابت في أن يصل إلى هذا الموقع بجدارة.

ونفس الكلام يُقال في ظاهرة العصمة في فئة خاصة من البشر – الأنبياء والأوصياء -، فليس ذلك لعلاقة خاصة لله تعالى مع عباده، وإنما فرع العلم الإلهي الأزلي بالإرادة الحقيقية لهم، ولو علم من غيرهم إرادة ذلك جداً لوفّرها لهم أيضًا...

الظاهرة الثالثة: الولادة من الزنا وما يترتب عليها، فابن الزنا إنْ كان مؤمناً، كان تولّده من الزنا هو من مقدمات ابتلائه واختباره، وإنْ كان منحرفاً، كان تولّده من الزنا هو من المقدمات غير الاختيارية لإرادته الحقيقية.

الخطوة الخامسة: البعد التربوي لهذا البحث

من هذا نخلص إلى أن من أهم الأبعاد التربوية لطرح هذا البحث هو ضرورة التعاطي بصورة إيجابية مع هذا التفاوت، والعمل على تقليص تلك الثنائيات التي يفرزها ذلك التفاوت، ونزع اللباس السلبي لتلك الثنائيات عنها، مع الالتفات إلى أن الإسلام ملأ جميع الفراغات ولم يترك مساحة فارغة لم يملأها بالتعاليم السماوية. ويكون التعامل معها على أساس:

ص: 237

أ – ما تمليه الشريعة من تعاليم مؤسّسة على أساس الفطرة.

ب – مراعاة الحقوق والواجبات المتبادلة بين أفراد البشر على اختلاف وتنوع أصنافهم.

ج- - ضرورة التلبس بمبادئ أخلاقية معنوية كالصبر والزهد والإيمان والتسليم والرضا...

فإذا ما تم الالتزام الحرفي بالنظام الإسلامي لحلّ هذه المشادّات والتزاحمات، حينها يمكن أن يستفيد الجميع مما أتيح من الفرص، من دون أن يحدث نزاع وإبعاد للغير عن موقعه، أو سلبه حقه، وهذا ما حكته لنا روايات المستقبل، حيث بيّنت أنه وفي ظل حكومة العدل الإلهي، فإن الرفاه سيعمّ الجميع، الأمر الذي يقلل من حالة التزاحمات إلى حدّ الندرة أو العدم تمامًا، فهي جنة في الأرض، حيث يحكم العدل، وتُطبَّق تعاليم السماء بكل حرفية ومثالية.

عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذكر المهدي، فقال: يخرج عند كثرة اختلاف الناس وزلازل، فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلما وجورًا، يرضى به ساكن السماء، وساكن الأرض، ويقسم المال قسمة صحاحاً. قال: قلت: وما صحاح؟ قال: بالسواء، قال: ويغنم الناس حتى لا يحتاج أحدٌ أحداً، فينادي منادٍ: من له إليّ من حاجة؟ فلا يجيبه أحد من الناس، إلا إنسان واحد، فيقول له: خذ. قال: فيحثو في ثوبه ما لا يستطيع حمله، فيقول: احمل علي. فيأبى عليه، فيخفف منه، حتى يصير بقدر ما يستطيع أن يحمله، فيقول:

ص: 238

ما كان في الناس أجشع نفسًا من هذا، فيرجع إلى الخازن، فيقول: إنه قد بدا لي ردُّه، فيأبى أن يقبله، فيقول: إنّا لا نقبل ممن أعطيناه.(1)

ص: 239


1- دلائل الإمامة للطبري (الشيعي) ص471 – 472 ح463 / 67.

ص: 240

المسألة التاسعة: في الألم والعوض
اشارة

هنا خطوتان:

الخطوة الأولى: في الألم

الألم ظاهرة واقعية يعيشها الكثير من الناس كل يوم، وللألم أسباب متعددة، كالأمراض والكوارث الطبيعية والظلم والإبادة البشرية في بعض الأحيان... فهل هو فعل حسن؟ وكيف نكيّفه مع العدل الإلهي؟

وحتى تتضح الحال جيدًا، نقول:

أولًا: الألم الابتدائي والاستحقاقي:

الألم الابتدائي: هو ما يكون من دون استحقاق مسبق، كأن يأتي الألم لشخص ما وهو لم يفعل شيئًا يستحق الإيلام عليه.

وقد يُحكم على الألم الابتدائي بأنه قبيح إذا وقع من عاقل حكيم، على آخر، وحتى نخرج عن هذا القبح ونحكم عليه بالحسن فلا بد من توفر شرطين فيه:

ص: 241

الشرط الأول: أن يكون مُعوَّضاً، لينتفي الظلم.

وهل يُشترط رضا المتألم بالعوض؟

لا يشترط في عوض الألم رضا المتألم به، إذا كان بدرجة عالية من الحسن بحيث يرضى به العقلاء لو اطّلعوا عليه، وبحيث يُعدُّ رفضُه سفهاً، ومعه فلا حاجة لرضا المتألم، كما هو الحاصل في تعويض الباري جل وعلا لعباده، نعم، في عالمنا، يلزم أن يعلم المتألم بالعوض، إذ لا يصح أن تؤلم شخصًا ثم تعطيه عوضًا لا يرضى به، أو عوضًا لا يفوق الألم الذي تعرض له فضلًا عما إذا كان أقل من الألم.

الشرط الثاني: أن يكون لطفاً – أي مقرباً للعبد إلى الله تعالى - لينتفي العبث، وإلا، فإن العوض ينفي الظلم فقط، ولا ينفي العبث.

أما الاستحقاقي فهو ما يكون فرعًا لفعل يقوم به الفرد، فيستحق لأجله إيلامًا معينًا. فلا يكون قبيحًا من هذه الناحية.

وهذا الألم الاستحقاقي قد يكون دنيوياً، كالقصاص إثر قتل مؤمن مثلًا أو جرحه أو حتى خدشه، وقد يكون أخروياً وهو دخول جهنم والعياذ بالله.

والألم الاستحقاقي قد يكون للابتلاء والاختبار فقط – أي يكون لطفاً فقط – كأن يكون الإنسان مؤمنًا، فيبتليه الله تعالى ببعض الآلام لطفًا به، أي ليزيد من درجاته الكمالية وقربه من الباري جل وعلا، فهو استحقاق بمعنى أن المؤمن يستحق أن تُرفع درجته ويُزاد في كماله ولو عن طريق إيلامه، كما

ص: 242

ورد ذلك مثلًا في موت ولد المؤمن، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا مات ولدُ العبد قال الله تعالى لملائكته: أَقَبضتم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك، واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد.(1)

وقد يكون مع ذلك عقاباً، ويؤيده شهادة القرآن الكريم بتعذيب بعض الأمم السابقة في الدنيا، وتشريع الكفارات والقصاص والتعزير، وكذلك كون بعض الذنوب مما تعجل عقوبتها في الدنيا، فقد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاثة من الذنوب تعجل عقوبتها ولا تؤخر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان.(2)

ثانيًا:

قد يكون في الألم نفع عظيم، بحيث يرضى به كلُّ من اطلع على ذلك النفع. كالألم الحاصل من الصوم في يوم شديد الحر، فإن فيه نفعاً أخروياً يفوق التخيل ويغلب الألم المحسوس. وهذا ليس قبيحًا كما هو واضح.

وقد يكون الألم بلا أي فائدة تُذكر، كأنْ يرمي الفرد نفسه من شاهق من دون سبب يُذكر، فتُكسّر عظامه، أو كمن يقوده سيارته بسرعة من دون أن يلتزم بنظام الأمان فيصدم سيارته ويحدث له ألم شديد.

ثالثًا:

قد يكون في الألم دفع ضرر أعظم، بحيث يرضى به العقلاء رغم وجود الألم فيه، كقطع إصبع لإنقاذ الحياة، وهذا ليس قبيحًا، وقد يكون عبثًا

ص: 243


1- مسكن الفؤاد للشهيد الثاني ص 36.
2- أمالي الشيخ المفيد ص 237.

وبلا فائدة.

رابعًا:

قد يكون الألم لجريان نظام الأسباب والمسببات الذي أبى الله تعالى إلا أن تسير الدنيا عليه، فمن وضع يده في النار لا بد أن يتألم، ومن وقع في الماء وهو لا يعرف السباحة لا بد أن يغرق، وهذا ليس قبيحًا، لأنه مقتضى نظام الأسباب والمسببات في هذا العالم.

خامسًا:

قد يكون الألم بسبب الدفاع عن النفس، فيؤلم غيره لأجل ذلك، كما في ساحات الجهاد. وهذا أيضًا ليس بقبيح.

فتبين: أن ما يمكن أن يُحكم بقبحه هو الألم الابتدائي من دون تعويض ولطف.

الخطوة الثانية: في الأعواض

إن النفع الذي يحصل عليه الفرد له ثلاثة معانٍ:

1/التفضل: وهو ما كان بدون استحقاق.

2/الثواب: وهو النفع الذي يحصل باستحقاق مع التبجيل.

3/ العوض: وهو النفع الذي يحصل باستحقاق ولو من دون التبجيل.

وهنا سؤال:

هل يجب على الله تعالى أن يعوّض العبد عن الألم الذي يحصل له في الدنيا؟ أو حتى أن يثيبه على ما يقدمه من أعمال صالحة والتزام بترك المحرمات؟

ص: 244

الجواب:

إذا تحدثنا بلغة الاستحقاق، أي الحق الذي يكون للعبد على الله تعالى، حينها نقول: لا يستحق العبد أي شيء من ذلك؛ وذلك لأجل:

1 / أن الإنسان وعمله مملوك له تعالى بالملكية الحقيقية التكوينية، فأي استحقاق يبقى بعد هذا.

2 / أن كل ما يعمله الإنسان يمكن جعله شكراً للنعم الابتدائية والسابغة لله تعالى عليه، فلا استحقاق على العمل، لأنه عوض النعم تلك، خصوصاً وأن مادة الشكر منه تعالى، فكل شكر هو بدوره نعمة يستحق عليها الشكر.

3 / أن للطاعة آثاراً وضعية يحصل عليها الإنسان في الدنيا، من الطمأنينة والاستقرار والشعور بالسعادة الدنيوية وعدم الشعور بالضياع، ومعه فلا يستحق العبد شيئاً وراء ذلك.

هذا ولكن إذا تحدثنا بلغة أخرى هي لغة التفضل والمنّ والوعد الإلهي، حينها ستتغير وتيرة الكلام، فنقول:

إن إرادته تعالى شاءت أن يضع جزاءً وثواباً وعوضاً للعبد من باب الجود والكرم، فهو تعالى بكرمه وجوده جعل العبد مستحقاً عليه للثواب، بل جعل الثواب أعظم بكثير من العمل، وأضاف له التبجيل والتعظيم.

والجنة أفضل ثواب وعوض من الله تعالى للعبد، مع الالتفات إلى أن الجنة ليست كلها عوضًا وثوابًا للإنسان، وإنما الكثير من مفرداتها ونعيمها

ص: 245

هو تفضل من الله تعالى، وإلى هذه الحقيقة أشار السيد الطهراني بقوله:

كلُّ ما أعطى الله تعالى عباده من الوجود وشؤونه في الدنيا أو الآخرة [فهو] تفضل، ليس للعبد استحقاق بالحق الأصلي؛ لأن له ملك الوجود كله، فلا معنى لحق لغيره بالإصالة، بل الله تعالى جعل بلطفه وكرمه لهم حقاً وأجراً وجزاءً وعوضاً في قبال الطاعات الاختيارية وغيرها من الآلام والمصائب، كما فيما بين العباد من الأعمال والأجور وغيرها من الحقوق، ووعد بها ويفي بوعده، بل بكرمه أضعاف ما وعده، بل لا يمكن أن يكون نعيم الجنة كله ثواباً، فإنه فضلٌ من الله سبحانه، ورحمة، لأن ثواب الطاعات -ولو بلغ ما بلغ من الأعداد المتعذر إحصاؤها- متناهٍ، ونعيم الجنة غير متناه. (1)

وقال الشيخ المفيد (قدس سره):

إن نعيم أهل الجنة على ضربين:

فضرب منه تفضّل محض لا يتضمن شيئًا من الثواب.

والضرب الآخر تفضل من جهة وثواب من أخرى.

وليس في نعيم أهل الجنة ثواب وليس بتفضل على شيء من الوجوه.

فأما التفضل منه المحض فهو ما يتنعم به الأطفال والبله والبهائم، إذ ليس لهؤلاء أعمال كُلِّفوها، فوجب من الحكمة إثابتهم عليها.

ص: 246


1- توضيح المراد- تعليقة على شرح تجريد الاعتقاد- ص611.

وأما الضرب الآخر فهو تنعيم المكلّفين وإنما كان تفضّلًا عليهم لأنهم لو مُنعوها ما كانوا مظلومين، إذ ما سلف لله تعالى عندهم من نعمه وفضله وإحسانه يوجب عليهم أداء شكره وطاعته وترك معصيته، فلو لم يُثبهم بعد العمل ولا ينعمهم لما كان لهم ظالمًا؛ فلذلك كان ثوابه لهم تفضّلًا.

وأما كونه ثوابًا فلأن أعمالهم أوجبت في جود الله تعالى وكرمه تنعمهم وأعقبتهم الثواب وأثمرته لهم، فصار ثوابًا من هذه الجهة، وإن كان تفضًلا من جهة ما ذكرناه...(1)

ولكن رغم هذا كله، فإن الروايات الشريفة ذكرت من موارد التفضل الإلهي الشيء الكثير، بحيث اعتبرت بعض الروايات أن تفويت بعض المصالح على العبد في الدنيا، سيتم تعويضه في الآخرة بالعوض العظيم، رغم أنه لا يستحق شيئًا على الله تعالى.

فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَمَرَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى مُنَادِياً يُنَادِي بَيْنَ يَدَيْه: أَيْنَ الْفُقَرَاءُ؟ فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيرٌ، فَيَقُولُ: عِبَادِي. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا. فَيَقُولُ: إِنِّي لَمْ أُفْقِرْكُمْ لِهَوَانٍ بِكُمْ عَلَيَّ، ولَكِنِّي إِنَّمَا اخْتَرْتُكُمْ لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، تَصَفَّحُوا وُجُوه النَّاسِ، فَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً لَمْ يَصْنَعْه إِلَّا فِيَّ فَكَافُوه عَنِّي بِالْجَنَّةِ.(2)

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ كَثِيرٍ الْخَزَّازِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ

ص: 247


1- أوائل المقالات - ص 111.
2- الكافي للكليني ج2 ص 264 باب فضل فقراء المسلمين ح15.

لِي: أمَا تَدْخُلُ السُّوقَ؟ أمَا تَرَى الْفَاكِهَةَ تُبَاعُ والشَّيْءَ مِمَّا تَشْتَهِيه؟ فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: أَمَا إِنَّ لَكَ بِكُلِّ مَا تَرَاه فَلَا تَقْدِرُ عَلَى شِرَائِه حَسَنَةً.(1)

وعَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤُه لَيَعْتَذِرُ إِلَى عَبْدِه الْمُؤْمِنِ الْمُحْوِجِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا يَعْتَذِرُ الأَخُ إِلَى أَخِيه، فَيَقُولُ: وعِزَّتِي وجَلَالِي، مَا أَحْوَجْتُكَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَوَانٍ كَانَ بِكَ عَلَيَّ، فَارْفَعْ هَذَا السَّجْفَ فَانْظُرْ إِلَى مَا عَوَّضْتُكَ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ: فَيَرْفَعُ فَيَقُولُ: مَا ضَرَّنِي مَا مَنَعْتَنِي مَعَ مَا عَوَّضْتَنِي.(2)

ملحوظات
الملحوظة الأولى: من الفروق بين الثواب والعوض

أن من الفروق بين الثواب والعوض أن الأول يشترط فيه إشعار المثاب بأن أمراً ما هو ثواب له، لأنه أُخذ في الثواب عنصر التبجيل والتكريم وهو لا يحصل إلا بالإشعار، أما العوض فلا يجب إشعار مستحقه بأن كذا هو عوضه، لعدم اقتران العوض بالتبجيل والتعظيم، وما دام العوض كذلك، فيمكن حصوله للمستحق في الدنيا من دون إشعاره.

كما أنه لا يجب في العوض أن يكون شيئاً محدداً، بل يمكن أن يُفرض أي شيء يمكن أن يكون عوضاً عن الألم، أما الثواب، فلا بد أن يكون متجانساً مع المألوف من الملاذّ الدنيوية، لأن الإنسان إنما يعمل رجاء الحصول على ما

ص: 248


1- الكافي للكليني ج2 ص 264 باب فضل فقراء المسلمين ح17.
2- الكافي للكليني ج2 ص 264 باب فضل فقراء المسلمين ح18.

ألِفه من النعم وعلِم به، لكن بشكل خالص وكبير، فلا بد أن يكون الثواب مجانساً لما أَلِفه وعلِمه من النعم.

ولكن يمكن القول: بأن الثواب لا يشترط فيه ذلك، لكونه يأتي بشكل ألذ وأشهى، وهذا لا يستلزم الظلم، إذ الظلم يتحقق لو كان الثواب مما تنفر منه النفس، أما إذا كان مما تشتهيه بل وفوق ذلك بكثير، فهذا لا يعد ظلماً. حتى لو لم يكن من جنس المألوف.

هذا فضلاً عن أنه لا معنى لقياس ملاذّ الآخرة ونعيمها على ملاذ الدنيا ونعيمها. بل لا دليل على كونها من جنسها وأنها متحدة معها نوعاً، فلا مجال لتوهم ما قيل، إذ إنه فرع المجانسة بين الدنيا والآخرة، وهو ليس كذلك.

والنصوص –من آيات وروايات- تدل على عدم ضرورة المجانسة، ويمكن عنونة مفاداتها بالتالي:

أ / أن الثواب مما تشتهيه الأنفس، وما تشتهيه الأنفس ربما يكون من غير المألوف، وهذا أمر وجداني. قال تعالى (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)(1)

وقال تعالى (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(2)

ص: 249


1- فصلت 31
2- الزخرف 71.

(لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ)(1)

والشهوة وإن كانت تتعلق بما هو مألوف، إلا أنها قد تتعلق بما هو غير مألوف أيضاً...

ب / أن هناك ثواباً غير معلوم لنا البتة، عُبر عنه تارة بالمزيد، وأخرى بالرضوان الأكبر، قال تعالى (لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)(2)

وقال تعالى (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ واللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)(3)

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(4)

ج- / أن الحصول على نعيم الجنة – لمن كان فيها - لا يحتاج إلى أكثر من الاشتهاء والتمني، ولعله كان غير مألوف. (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)(5)،

وتدعون بمعنى تتمنون.

ص: 250


1- الأنبياء 102.
2- ق 35.
3- آل عمران 15.
4- التوبة 72.
5- فصلت 31.

(لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ)(1)

د / أن علم تلك النعم على حقيقتها منفي عنا اليوم، قال تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(2)

قال صاحب البحار: أي لا يعلم أحد ما خبي لهؤلاء الذين ذكروا مما تقر به أعينهم، قال ابن عباس: هذا مالا تفسير له فالأمر أعظم وأجل مما يعرف تفسيره. وقد ورد في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله يقول: أعددت لعبادي الصالحين، مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتكم عليه، اقرؤوا إن شئتم: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ... وقد قيل في فائدة الاخفاء وجوه: أحدها: أن الشيء إذا عظم خطره وجل قدره لا تستدرك صفاته على كنه الا بشرح طويل، ومع ذلك فيكون إبهامه أبلغ. وثانيها: أن قرارات العيون غير متناهية فلا يمكن العلم بتفاصيلها...)(3)

وغيرها من الوجوه.

والحاصل: هو عدم اشتراط المجانسة بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، للآيات الكثيرة الدالة على ذلك، وأما الطائفة الأولى فيمكن التعليق عليها بما ذكر في كلمات الأعلام:

ص: 251


1- يس 57.
2- السجدة 17.
3- بحار الأنوار للمجلسي ج 8 - ص 92 – 93.

وهنا سؤال:

ماذا نفعل بقوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(1)

حيث إن قوله تعالى (قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها) دال على المجانسة بين نعيمي الدنيا والآخرة.

وكذلك الآيات الشريفة التي ذكرت الكثير من النعم التي نعرفها في الدنيا، كالعنب والموز والرمان والتين والزيتون... وهذا يعني أن نعم الآخرة هي من جنس نعم الدنيا.

والجواب:

أجاب العلماء عنها بالتالي:

أن الآية تعني الاشتراك اللفظي فقط، فلا تدل على ضرورة التجانس، فالموز الأخروي غير الدنيوي، ولكن اسمهما واحد، فالآيات التي ذكرت أسماء تلك الفواكه، إنما هو مجرد اشتراك لفظي، ويتجلى هذا المعنى في الآيات التي ذكرت الخمر شراباً لأهل الجنة، إذ لا يُعقل أن يكون الخمر في الجنة هو نفسه الخمر في الدنيا من كونه مسكرًا ويسلب العقل ويؤدي بالإنسان إلى أن يفقد سيطرته على جهازه العصبي.

ص: 252


1- البقرة 25

ولذا جاء في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) في ذيل الآية (وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً):

فأسماؤه كأسماء ما في الدنيا من تفاح وسفرجل ورمان وكذا وكذا، وإن كان ما هناك مخالفًا لما في الدنيا، فإنه في غاية الطيب، وإنه لا يستحيل إلى ما يستحيل إليه ثمار الدنيا من عذرة وسائر المكروهات من صفراء وسوداء ودم، بل لا يتولد عن مأكولهم إلا العرق الذي يجري من أعراضهم أطيب من رائحة المسك...(1)

الملحوظة الثانية: لا استحقاق للثواب مع سوء الاختيار

كل ما تقدم في الألم وعوضه إنما يكون فيما إذا لم يؤلم الفرد نفسه باختياره، كما لو ألقى نفسه من شاهق باختياره، أو وضع يده في النار باختياره، فالعقل يحكم بأن مثل هذا الفرد لا يستحق أي شيء، فلا عوض ولا ثواب له، بل قد يكون مرتكبًا للمحرم فيما إذا خالف حكمًا شرعيًا في ذلك، كمن قتل نفسه مثلًا بالانتحار.

الملحوظة الثالثة: الانتصاف
اشارة

العوض تارة يكون على الله تعالى – كما في الألم الابتدائي – وأخرى على الإنسان، وذلك عندما يقوم إنسان بإيلام آخر، كقتله أو ضربه وما شابه، وهنا يتحقق موضوع الانتصاف.

ص: 253


1- التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام) ص 203.

وحتى تتضح الصورة يُقال:

لدينا ثلاثة أمور:

أ / تشريع الأحكام، وهذا حصرًا بالله تعالى، وقد أتمّ الله تعالى التشريعات وبلّغها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرون (عليهم السلام)، طبعاً إلا إذا أذن جل وعلا لأحد من أوليائه بالتشريع.

ب / تشريع الجزاء على التزام الأحكام أو مخالفتها، وهي منظومة (الثواب) و (العقاب)، وأيضًا تم تبليغها على أخسن وجه. فالثواب هو وعد الله تعالى، والعقاب هو وعيده.

ج- / الانتصاف: أي أخذ الحق والعوض من الظالم والانتصار للمظلوم. ولولا هذا التدخل الإجرائي لما وصل إلى المظلوم حقه. وهو من مقولة اللطف، ومرحلة من مراحل تطبيق العدالة الاجتماعية.

وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى سينتصف للمظلوم من الظالم، والدليل:

الدليل العقلي

أولًا: أنه تعالى هو المدبر لأمور عباده، والتدبير لا يقتصر على تشريع الأحكام والجزاء، بل لا بد من التدخل العملي في أخذ العوض من الظالم.

ثانيًا: أن عدم انتصاف الله تعالى للمظلوم مع تمكينه الظالم من ظلمه، يستلزم نسبة القبيح إليه تعالى، وهو محال.

ص: 254

نعم، تمكين الظالم من الظلم إنما هو بشرط اقتضاء الحكمة الإلهية ذلك، ولو من باب أن الظلم الواقع على الأولياء يدفعهم نحو القرب الإلهي واستذكار النعم وشكرها والصبر، مما يرفع درجة الإيمان(1)،

وحينئذٍ يكون العوض عليه تعالى، لأنه وعد بذلك حسب قدر المظلوم عنده تعالى.

الدليل النقلي

وهي الآيات القرآنية التي تذكر قضاء الله تعالى بين العباد، مما ظاهره الانتصاف، وهي كثيرة، ومنها قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(2)

وقوله تعالى (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(3)

وقال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلىٰ قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(4)

وقال تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ

ص: 255


1- ومما يشهد بذلك دعاء الإمام الكاظم(عليه السلام) وهو في السجن: اللهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد. [الإرشاد للشيخ المفيد ج2 ص 240].
2- النحل 124.
3- الحج 56 – 57.
4- الروم 47.

الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(1)

إذن: الظالم يعاقب في الدنيا بالتشريعات الموضوعة، من الحدود والتعزيرات والديات، وفي الآخرة يعذب حسب ظلمه، أو يشمله العفو من صاحب الحق أو من وليه فيما إذا كان الظالم من أهل الإيمان ولم يظلم معانداً...

ص: 256


1- غافر 51 – 52.
المسألة العاشرة: تعذيب أولاد الكافرين
اشارة

نحن نعلم أن الله تعالى وعد الكافرين بالعقوبة الأخروية، ونعلم أيضًا أن أولاد الكافرين غير البالغين يُحكم بكفرهم أيضًا، وهذا يعني أنه لو مات ولد الكافر غير بالغ، فحسب هذه المعطيات فإنه سيدخل جهنم، وهذا ما لا يتلاءم مع العدل الإلهي، فكيف الجواب؟

الجواب:

إن هذا الكلام لو صحّ لأمكن القول بأنه خلف العدل الإلهي، ولكنه غير الصحيح، ولكي يتضح الجواب تفصيلًا نطرح هذا السؤال:

ما هو معيار استحقاق الإنسان للعقوبة في الآخرة؟

والجواب:

من تتبُّع الآيات والروايات الشريفة يظهر لنا جليًا أن العقوبة الأخروية لها شروط، وعدم توفرها يعني عدم استحقاق الفرد للعقوبة، وهذه الشروط –إجمالًا- هي التالي:

ص: 257

الشرط الأول: البيان من المولى

أي إنه لا بد أن يصل التكليف من المولى إلى العبد مع البيان الكامل، وإلا فمع عدم وصوله إليه أو عدم بيانه له، تقبح عقوبته، قال تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً)(1)

الشرط الثاني: توفر شروط التكليف
اشارة

وهذا عنوان يُذكر في عامة التكاليف الشرعية، وأن التكليف في الإسلام مشروط بشروط عامة هي: العقل، والبلوغ، والقدرة والاختيار.

فمن كان مجنونًا أو صبيًا غير بالغ أو عاجزًا عن أداء التكليف، أو كان مجبرًا على الفعل خارج إرادته، فلا تكليف عليه، أو أنه تسقط عنه عقوبة المخالفة لو خالف.

ومعه فالطفل والجاهل القاصر والمجنون كلهم لا يعاقبون. حتى لو كانوا أولاد كافرين.

وهنا إشارات:

الإشارة الأولى: التكليف ليس شرطاً في ترتب الآثار الوضعية

إن عدم تكليف البعض لا ينفي ترتب بعض الآثار الوضعية على فعله، كالضمان والدية والتأديب الضروري، فالولد لو كسر حاجة غيره لزمه الضمان من أمواله لو كان عنده أموال، وهكذا المجنون، وهذه مسألة فقهية

ص: 258


1- الإسراء 15

أردنا التنبيه عليها هنا إجمالًا.

الإشارة الثانية: عدم البيان يُسقط التكليف والعقوبة

إن العقاب المنفي ليس فقط عن الأطفال، بل عن عموم غير المكلف كالمجنون، بل العقاب المنفي منفي عن عموم من لم تقم عليه الحجة عقلاً أو نقلاً، بشرط أن لا يكون عن تقصير في الفحص، أما المقصر فغير مشمول بهذا النفي، وهو ما أشارت إليه بعض الروايات، وهذا يعني أن العقاب ثابت في حق المكلف مع البيان –فيما إذا خالف التكليف –.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الله احْتَجَّ عَلَى النَّاسِ بِمَا آتَاهُمْ وعَرَّفَهُمْ.(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (وما كانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) قَالَ: حَتَّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيه ومَا يُسْخِطُه. وقَالَ: (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها) قَالَ: بَيَّنَ لَهَا مَا تَأْتِي ومَا تَتْرُكُ. وقَالَ: (إِنَّا هَدَيْناه السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً) قَالَ: عَرَّفْنَاه إِمَّا آخِذٌ وإِمَّا تَارِكٌ، وعَنْ قَوْلِه تعالى: (وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) قَالَ: عَرَّفْنَاهُمْ [وفي رواية: بَيَّنَّا لَهُمْ] فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى وهُمْ يَعْرِفُونَ.(2)

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم.(3)

ص: 259


1- الكافي للكليني ج1 ص 162 بَابُ الْبَيَانِ والتَّعْرِيفِ ولُزُومِ الْحُجَّةِ ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص 162 بَابُ الْبَيَانِ والتَّعْرِيفِ ولُزُومِ الْحُجَّةِ ح3.
3- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 413 ح9.
الإشارة الثالثة: حالتان لعدم البيان

قلنا: إن عدم البيان يُسقط التكليف، وبالتالي يُسقط العقوبة، ولكن ينبغي الالتفات إلى أن لعدم البيان حالتين:

حالة الغفلة التامة عن التكليف وعدم العلم به، فهذه ما اتفق الجميع على قبح العقاب معها.

وحالة الشك في التكليف شكاً بسيطاً، وهذه محل الخلاف، فالمشهور قال بأن الشك عدمُ بيان، فلا يحسن العقاب عليه، وأما السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) فقال بكفاية الشكّ لتنجز الحكم الشرعي(1)،

فيحسن العقاب لو أراد المولى ذلك. أي إنه يكفي الشك بالتكليف ليلزم على العبد أن يبحث عنه ويتحقق منه، فلو خالف من دون بحث رغم أنه يشك بوجود التكليف، وصادف أنه خالف التكليف الواقعي، فهنا يصح للمولى أن يعاقبه ولا يقبح منه ذلك، اللهم إلا أن يعفو المولى، أو يأذن بالمخالفة في حالة الشك، فإن هذا من حقه.

الإشارة الرابعة: اختبار غير المكلفين يوم القيامة

ذكرت بعض الروايات الشريفة أن الأطفال والمجانين ومن لم يصل إليهم البيان سوف يختبرهم الله تعالى في يوم القيامة، وعلى أساس ذلك الاختبار يُحدد مصيرهم. فلا يكون هؤلاء خارجين عن عموم تكليف العباد

ص: 260


1- هذا هو المعروف عنه، وقد ذكره في كتبه الأصولية، يُنظر: دروس في علم الأصول للسيد محمد باقر الصدر (رحمه الله) ج1 ص 166 - 168 وبحوث في علم الأصول- تقرير السيد محمود الشاهرودي ج5 ص 158 و ص 169

واختبارهم، كل ما في الأمر أن تكليفهم سيكون في يوم القيامة.

عن زرارة بن أعين، قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) صلى على ابن لجعفر (عليه السلام) صغير فكبر عليه، ثم قال: يا زرارة، إن هذا وشبهه لا يصلى عليه، ولولا أن يقول الناس: إن بني هاشم لا يصلون على الصغار ما صليت عليه، قال زرارة: فقلت: فهل سئل عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: نعم قد سئل عنهم فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم قال: يا زرارة، أتدري ما قوله: الله أعلم بما كانوا عاملين؟ قال: فقلت: لا والله، فقال: لله عز وجل فيهم المشية، أنه إذا كان يوم القيامة احتج الله تبارك وتعالى على سبعة: على الطفل، وعلى الذي مات بين النبي والنبي(1)،

وعلى الشيخ الكبير الذي يدرك النبي وهو لا يعقل، والأبله، والمجنون الذي لا يعقل، والأصم، والأبكم، فكل هؤلاء يحتج الله عز وجل عليهم يوم القيامة، فيبعث الله إليهم رسولا ويخرج إليهم نارا فيقول لهم: إن ربكم يأمركم أن تثبوا في هذه النار، فمن وثب فيها كانت عليه براد وسلاما، ومن عصاه سيق إلى النار.(2)

الإشارة الخامسة: دخول أطفال المؤمنين الجنة بغير حساب

هناك استثناء من الإشارة الرابعة خاص بأطفال المؤمنين، إذ تذكر الروايات أنهم يدخلون الجنة بغير حساب، فعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن الله تبارك وتعالى كفّل إبراهيم (عليه السلام) وسارة أطفال المؤمنين، يغذونهم من شجرة في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر، في قصور من در فإذا كان يوم القيامة أُلبسوا

ص: 261


1- أي في زمن (الفترة) بتعبير القرآن الكريم.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 393.

وطُيّبوا وأُهدوا إلى آبائهم، فهم مع آبائهم ملوك في الجنة.(1)

والخلف - بالكسر -: الضرع لكل ذات خُف وظلف، وقيل: هو مقبض يد الحالب من الضرع.

والظاهر أن المقصود هو أن النبي إبراهيم (عليه السلام) وزوجته يراعون أولاد المؤمنين في البرزخ، بقرينة (فإذا كان يوم القيامة أُلبسوا). والله العالم.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): إذا مات طفل من أطفال المؤمنين، نادى مناد في ملكوت السماوات والأرض: ألا إن فلان بن فلان قد مات، فإنْ كان قد مات والداه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين دُفع إليه يغذوه، وإلا دُفع إلى فاطمة (صلوات الله عليها) تغذوه حتى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين فتدفعه إليه.(2)

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):... أما علمتم أني أباهي بكم الأمم يوم القيامة، حتى بالسقط يظل محبنطئًا على باب الجنة فيقول الله عز وجل له: أدخل الجنة، فيقول: لا، حتى يدخل أبواي قبلي، فيقول الله عز وجل لملك من الملائكة: ايتني بأبويه، فيأمر بهما إلى الجنة، فيقول: هذا بفضل رحمتي لك.(3)

وفي هذا النص دلالة على دخول الطفل الجنة بلا حساب، ودخول أبويه الجنة كرامة له.

ص: 262


1- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 393 – 394.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 394.
3- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 395.
البداء
اشارة

إن لموضوع البداء ارتباطاً بمبحث العلم الإلهي، وارتباطاً بمبحث القضاء والقدر الإلهيين، حيث إنه من القضاء الموقوف لا المحتوم.

وعندما نطالع النصوص الروائية نجد أن هناك تأكيدًا شديدًا على مسألة البداء، وأنها تحظى بأهمية كبرى، فمثلًا روي عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَحَدِهِمَا (عليهما السلام) قَالَ: مَا عُبِدَ الله بِشَيْءٍ مِثْلِ الْبَدَاءِ.

وفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): مَا عُظِّمَ الله بِمِثْلِ الْبَدَاءِ.(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ فِي هَذِه الآيَةِ: (يَمْحُوا الله ما يَشاءُ ويُثْبِتُ): وهَلْ يُمْحَى إِلَّا مَا كَانَ ثَابِتاً وهَلْ يُثْبَتُ إِلَّا مَا لَمْ يَكُنْ.(2)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: مَا بَعَثَ الله نَبِيّاً حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْه ثَلَاثَ خِصَالٍ الإِقْرَارَ لَه بِالْعُبُودِيَّةِ وخَلْعَ الأَنْدَادِ وأَنَّ الله يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ ويُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ.(3)

وعَنْ مُرَازِمِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: مَا تَنَبَّأَ نَبِيٌّ قَطُّ

ص: 263


1- الكافي للكليني ج1 ص147 بَابُ الْبَدَاءِ ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص147 بَابُ الْبَدَاءِ ح2.
3- الكافي للكليني ج1 ص147 بَابُ الْبَدَاءِ ح3.

حَتَّى يُقِرَّ لله بِخَمْسِ خِصَالٍ بِالْبَدَاءِ والْمَشِيئَةِ والسُّجُودِ والْعُبُودِيَّةِ والطَّاعَةِ.(1)

وعَنِ الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: مَا بَعَثَ الله نَبِيّاً قَطُّ إِلَّا بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وأَنْ يُقِرَّ لله بِالْبَدَاءِ.(2)

وهذه العقيدة على أهميتها عندنا، فإنها تعتبر واحدة من العناوين التي تم توظيفها توظيفًا سيئًا ضد مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم من قِبل الآخرين، ونحن سنبدأ بالأصول الموضوعية التي تتبين معها عقيدتنا في البداء بالتفصيل إن شاء الله تعالى. ونذكر الثوابت التالية:

الثابت الأول: العلم الإلهي المطلق والشامل

لا مجال ولا فرصة لتوهم الجهل على الله تعالى، فعلمه تعالى عقلًا ونقلًا ثابت وشامل، ومعه، فأي مفهوم يُراد إثباته لله تعالى، فيجب أن لا يمس هذا الثابت –ولو من بعيد-، لأنه تعالى واجب الوجود من كل جهة، وهو الكامل من كل جهة، فلا جهل فيه من كل جهة، وإلا لصار ممكنًا، فالله تعالى يعلم السر وأخفى، ويعلم بالشيء قبل وجوده وبعد وجوده، وما يعزب عن علمه أي شيء، وقد بيّنا هذا الثابت في صفة العلم.

ومعه، فلا مجال للجهل عليه تعالى، وبالتالي لا مجال لافتراض استكماله بالتعلم بعد جهل- كما هو الحاصل فينا نحن الممكنات-.

ص: 264


1- الكافي للكليني ج1 ص148 بَابُ الْبَدَاءِ ح13.
2- الكافي للكليني ج1 ص148 بَابُ الْبَدَاءِ ح15.
الثابت الثاني: لا تغير في ذاته ولا في صفاته

حيث إنه تعالى لا متناهي في كل كمالاته، إذن لا يمكن افتراض التغير فيه، والمقصود من التغير هنا هو الفلسفي، أي الخروج من القوة إلى الفعل، أو قل: الاستكمال، أو قل: التحول من حالة النقص إلى حالة الكمال، فضلًا عن خروج من الفعل إلى القوة، أي التسافل من حالة الكمال إلى حالة النقص.

فهذه المفاهيم تتجلى في عالمنا نحن الذين نعيش في عالم المادة، فنحن من نتكامل –أي نسد النقص المستشري في وجودنا من خلال اكتساب الكمالات- كما أننا نحن من يمكن أن نتسافل –بأن نفقد بعض الكمالات التي حصلنا عليها أو لا نتكامل أصلًا، ومن لا يتكامل فهو في نقصان في الحقيقة-.

ومعه، فأي عقيدة، أو دعاء، أو رواية، يظهر منها خلاف هذا الثابت بالنسبة لله تعالى، فلا بد من رفضها، أو على الأقل تأويلها بما لا يخالف هذا الثابت.

علمًا أن المقصود هنا هو عدم التغير في ذاته جل وعلا، أما فعله (جل وعلا) فحيث ثبت سابقًا أن فعله جل وعلا هو حادث، لأنه متعلق بالحادث الممكن، إذن يمكن أن يكون الفعل متغيرًا، وهذا هو ما تشير إليه الآية الكريمة: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(1)

أما ذاته المقدسة وصفاته الذاتية فلا تغير فيها، بل هي في غاية الكمال اللا

ص: 265


1- الرحمن 29.

متناهي.

الثابت الثالث: بطلان نظرية (موت الإله) المعتزلية

تقدم أن المعتزلة انتهوا إلى نظرية التفويض، والتي تعني عدم تدخل أو عدم استطاعة التدخل من الله تعالى في هذا الكون، وهي نظرية (رُفع القلم وجفّت الصحف)، أو نظرية (موت الإله) بصورة مغلّفة أو (موت القدرة الإلهية)، فالله تعالى أوجد العالم وأوجد فيه عناصر الديمومة، وتركه، بل لا يستطيع التدخل في مجريات الكون، وهذا يعني أن الله تعالى (تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا) مجبر في هذا العالم، فالعالم يجري حسب نظامه وهو لا يستطيع التدخل.

وقد تقدم بطلان هذه النظرية، وأن الصحيح هو: أن الله تعالى كان ولا يزال قادرًا على تغيير مجريات الكون وتغيير أنظمته، وما زالت يده مبسوطة وقدرته شاملة، فهذا ثابت عندنا ولا يمكن التنازل عنه.

فرغم أن هذا العالم هو النسخة الأفضل، ولكن مع ذلك فإن القدرة الإلهية ما زالت منبسطة عليه، ويمكنه تعالى أن يغير فيه ما يشاء وفي أي وقت شاء، فيستطيع الله تعالى أن يجعل عللًا جديدة لنفس الأشياء الموجودة أو لأشياء جديدة، ويستطيع أن يضع موانع جديدة، وما أمره فيه إلا أن يقول: كن. فيكون.

ص: 266

الثابت الرابع: العلاقة بين العلة والمعلول هي علاقة جعلية

إن عالمنا هو عالم الأسباب والمسببات، ومعنى ذلك: أن المعلول والنتيجة لا يمكن أن يصدر من دون علة وسبب، فلا وجود لمعلول من دون علة.

الملحوظة المهمة هنا: أن العلاقة بين العلة والمعلول هي علاقة جعلية لا ذاتية، بمعنى أن كون الماء يروي الظمأ، هذا ليس من ذاتي الماء، وإنما هي علاقة جعلها الله تعالى بين الماء والارتواء، وهكذا فإن كون النار محرقة هو بقانون جعله الله تعالى، لا من ذات النار. وهذا على خلاف علاقة الذاتي بالذات، إذ لا يمكن سلب الذاتي عن الذات، وإلا لانتفت الذات، فالإنسان ذاتيُّه أنه حيوان ناطق، وسلب الحيوان الناطق عنه يعني انتفاء الإنسانية.

وهذا يعني: أنه يمكن للجاعل والخالق والواضع للقانون أن يغير من وضعه وقانونه، فالنار محرقة، لأن الله تعالى جعلها محرقة، فيمكن لله تعالى أن لا يجعلها محرقة، كما كان في نار النبي إبراهيم (عليه السلام) حيث كانت بردًا وسلامًا عليه. وهكذا الماء يروي لأن الله تعالى جعله يروي، فإذا أراد الله تعالى له أن لا يروي فإنه لا يروي أبدًا، كما ورد في بعض الروايات أن الحسين (عليه السلام) جعل يطلب الماء وشمر - لعنه الله - يقول له: والله لا تَرِدُه أو تردَ النار. فقال له رجل: أَلا ترى إلى الفرات يا حسين، كأنه بطون الحياة، والله لا تذوقه أو تموت عطشًا. فقال الحسين (عليه السلام): اللهم أمتْه عطشا. قال: والله لقد كان هذا الرجل يقول: أسقوني ماءً، فيؤتى بماء فيشرب حتى يخرج من فيه وهو يقول:

ص: 267

أسقوني قتلني العطش، فلم يزل حتى مات - لعنه الله -.(1)

والخلاصة: ما دام حدوث العلاقة بين العلة والمعلول هو بيد الله تعالى، فتغيير هذه العلاقة ما زال تحت قدرة الله تعالى.

الثابت الخامس: محدودية الإنسان تمنع من إحاطته بالله تعالى

إننا محدودون، ومن جميع جهاتنا، فنحن محدودون من حيث الزمن، ومحدودون من حيث المكان، ومن حيث الإمكانات والاستعدادات، وما نحن إلا وجود رابط يفتقر في كل وجوده وصفاته وأفعاله إلى الله تعالى. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن الله تعالى لا محدود ولا متناهي من كل جهة.

إذن ينتج: أنه لا يمكننا أبدًا، وفي أي حال من الأحوال أن نحيط بالله تعالى، ولا أن نحيط بصفة من صفاته، لأن المحدود لا يمكنه أن يحيط علمًا باللا محدود، ولو أردنا أن نشبه علاقتنا بالله تعالى بتشبيه مادي، فانظر مثلًا إلى الدوائر المتداخلة، تجد أن الدائرة الكبيرة تحيط بكل الدوائر التي في داخلها، ولكن الدائرة الصغيرة لا يمكنها أن تحيط بالدائرة الكبيرة. (وهذا مثال للتقريب لا أكثر، وإلا فإن الله تعالى أوسع وأعظم من هذا المثال بلا أدنى شك).

ص: 268


1- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأضفهاني ص78.
الثابت السادس: لا ضرورة لكشف العالِم كلَّ علومه

لا توجد هناك ضرورة عقلية ولا نقلية توجب أن يُعطي العالِم كل علمه للتلميذ، بل يمكن أن يعلمه شيئًا ما، ويترك تعليمه أمورًا أخرى، إما يجعلها مخفية عليه على الدوام، أو يعلمه إياها بالتدريج، وهذا أمر حاصل في عالمنا بكل وضوح، خصوصًا إذا كان العالم حكيمًا، فكيف بالله تعالى، فإذن، لا توجد ضرورة تستلزم أن يعلمنا الله تعالى كل ما يعلم، بل –وكما تقدم- لا يمكننا أن نعلم بكل علم الله تعالى.

ومما يدل على هذا الثابت هو: لوح المحو والإثبات كما تقدم في الرواية، فإنه يعني أن ما بين أيدينا ليس العلم كله، بل هناك شيء لا نعلمه.

وبعبارة أخرى: أن خارطة العالم التفصيلية ليست بأيدينا، فنحن نعلم بعض الخارطة حسب ما أتيح لنا، ويبقى الباقي نعلمه بالتدريج كلما أتيح لنا ذلك وفق الحكمة الإلهية، ويبقى منها ما لا نعلمه أبدًا.

ومما يُشير إلى هذه الحقيقة هو ما روي عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: فَعِلْمٌ عِنْدَ الله مَخْزُونٌ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْه أَحَداً مِنْ خَلْقِه، وعِلْمٌ عَلَّمَه مَلَائِكَتَه ورُسُلَه، فَمَا عَلَّمَه مَلَائِكَتَه ورُسُلَه فَإِنَّه سَيَكُونُ لَا يُكَذِّبُ نَفْسَه ولَا مَلَائِكَتَه ولَا رُسُلَه، وعِلْمٌ عِنْدَه مَخْزُونٌ يُقَدِّمُ مِنْه مَا يَشَاءُ ويُؤَخِّرُ مِنْه مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ مَا يَشَاءُ.(1)

ص: 269


1- الكافي للكليني ج1 ص147 بَابُ الْبَدَاءِ ح6.

النتيجة:

ومن كل ما تقدم وفق هذه الثوابت يمكن أن نقول التالي:

1/حيث إنه تعالى لا متناهي في ذاته وفي كل صفاته، وبالتالي لا يمكن لنا نحن الممكنات أن نحيط به علمًا، إذن، من الممكن جدًا أن يكون لله تعالى علم لم نطّلع عليه نحن، ولا يُعقل أننا نطلع على كل علم الله تعالى، لأننا كما قلنا: متناهون، وهو تعالى غير متناهٍ في كل صفاته، ومنها علمه جل وعلا.

2/ وهذا المعنى هو ما نسميه بالبداء، بمعنى أن الله تعالى لم يُطلعنا على العلم كله، بإرادته وعلمه المسبق، ثم إذا أراد أن يُطْلعنا على شيء من علمه، فَعَل ذلك وبالتدريج، لا أنه يخبرنا عن جهل، وحاشاه، وهو ما نسميه بالبداء، أو بعبارة أدق: بالإبداء، أي الإظهار بعد الإخفاء لا الظهور بعد الخفاء كما هو حاصل عندنا نحن بني البشر.

ومن هنا روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(1).(2)

وفي نفس السياق روي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ لله عِلْمَيْنِ: عِلْمٌ مَكْنُونٌ مَخْزُونٌ لَا يَعْلَمُه إِلَّا هُوَ، مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ الْبَدَاءُ، وعِلْمٌ

ص: 270


1- الرعد 39.
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 305.

عَلَّمَه مَلَائِكَتَه ورُسُلَه وأَنْبِيَاءَه، فَنَحْنُ نَعْلَمُه.(1)

3/ وهذا المعنى من البداء ليس فيه أي نسبة للجهل إلى الله جل وعلا، بل على العكس، هو تقرير لعلم الله تعالى اللا متناهي، وتقرير في نفس الوقت لجهلنا نحن بني البشر، حيث لا نعلم باللوحة إلى آخرها، بل نعلم شيئًا في حدود ما أطْلعنا الله تعالى عليه.

وهذا هو ما قرّرته لنا الروايات الشريفة، فقد روي مثلًا عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: مَا بَدَا لِله فِي شَيْءٍ إِلَّا كَانَ فِي عِلْمِه قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ لَه.(2)

وعنه (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الله لَمْ يَبْدُ لَه مِنْ جَهْلٍ.(3)

وعَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام): هَلْ يَكُونُ الْيَوْمَ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ الله بِالأَمْسِ؟ قَالَ: لَا، مَنْ قَالَ هَذَا فَأَخْزَاه اللَّه. قُلْتُ: أرَأَيْتَ مَا كَانَ ومَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ألَيْسَ فِي عِلْمِ الله؟ َقالَ: بَلَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ.(4)

إشارة: في أسباب حسن البداء وسوئه
اشارة

إن البداء يعني فيما يعنيه: أن يكون هناك شيء ما، ثم يظهر غيره لنا، ففي

ص: 271


1- الكافي للكليني ج1 ص147 بَابُ الْبَدَاءِ ح8.
2- الكافي للكليني ج1 ص148 بَابُ الْبَدَاءِ ح9.
3- الكافي للكليني ج1 ص148 بَابُ الْبَدَاءِ ح10.
4- الكافي للكليني ج1 ص148 بَابُ الْبَدَاءِ ح11.

علم الله تعالى أنه سيتغير وفق شروط خاصة.

بعبارة أخرى: حيث إن عالمنا هو عالم الأسباب والمسببات، فيمكن لشخص ما أن يفعل سببًا معينًا يؤدي إلى تغيير قدره، وهذا التغيير قد يكون للأفضل وقد يكون للأسوأ، ولكل أسبابه –حسب النظام العام لهذا الكون-

هذا وقد تقدم أن التقدير والقضاء الإلهي منه محتوم لا يتغير، ومنه موقوف يمكن أن يتغير إذا تغيرت الأسباب.

وهذا المعنى يفتح نافذة تربوية مزدوجة للإنسان، ففي الوقت الذي يبشر الإنسان بأنه قادر على تغيير قدره نحو الأفضل، وأن عليه أن لا ييأس مهما حصل من تراجع، وما عليه إلا أن يتسلق نحو أسباب تغيير التقدير إلى الأفضل، هو أيضًا ينذره بأن طريق التراجع ما زال مفتوحًا، وأن هناك أسبابًا لو تمسك بها فإنه سيسقط ويتسافل، فعليه أن يبتعد عنها.

ولتوضيح الفكرة أكثر نذكر التالي:

أولًا: هناك أسباب تؤدي إلى تغيير التقدير إلى ما هو الأفضل
اشارة

وهذه أسباب موضوعية، من أي شخص وقعت فإنها تنتج النتيجة المذكورة، وهذا ما سنراه في بعض الروايات التالية، ومن تلك الأسباب التالي:

1/ طاعة الله تعالى

قال تعالى: (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ

ص: 272

وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(1)

2/الاستغفار

قال تعالى (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)(2)

3/الدعاء

فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): الدعاء يرد القضاء المبرم، فاتخذوه عُدّة.(3)

وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: الدُّعَاءُ يَرُدُّ الْقَضَاءَ بَعْدَ مَا أُبْرِمَ إِبْرَاماً، فَأَكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ، فَإِنَّه مِفْتَاحُ كُلِّ رَحْمَةٍ، ونَجَاحُ كُلِّ حَاجَةٍ، ولَا يُنَالُ مَا عِنْدَ الله عَزَّ وجَلَّ إِلَّا بِالدُّعَاءِ، وإِنَّه لَيْسَ بَابٌ يُكْثَرُ قَرْعُه إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِبِه.(4)

4/صلة الرحم

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن المرء ليصل رحمه، وما بقي من عمره الا ثلاث سنين، فيمدها الله إلى ثلاث وثلاثين سنة، وإن المرء ليقطع رحمه، وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون سنة، فيقصّرها الله إلى ثلاث سنين أو أدنى.(5)

ص: 273


1- نوح 3 – 4
2- هود 3
3- الخصال للشيخ الصدوق ص 630 حديث أربع مائة.
4- الكافي للكليني ج2 ص 470 بَابُ أَنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ الْبَلَاءَ والْقَضَاءَ ح 7.
5- تفسير العياشي ج2 ص220 ح75.
5/الصدقة

فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ! فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): عَلَيْكَ. فَقَالَ أَصْحَابُه: إِنَّمَا سَلَّمَ عَلَيْكَ بِالْمَوْتِ، قَالَ: الْمَوْتُ عَلَيْكَ! قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): وكَذَلِكَ رَدَدْتُ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): إِنَّ هَذَا الْيَهُودِيَّ يَعَضُّه أَسْوَدُ فِي قَفَاه فَيَقْتُلُه.

قَالَ: فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ فَاحْتَطَبَ حَطَباً كَثِيراً فَاحْتَمَلَه، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنِ انْصَرَفَ. فَقَالَ لَه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): ضَعْه. فَوَضَعَ الْحَطَب، فَإِذَا أَسْوَدُ فِي جَوْفِ الْحَطَبِ عَاضٌّ عَلَى عُودٍ! فَقَالَ: يَا يَهُودِيُّ، مَا عَمِلْتَ الْيَوْمَ؟ قَالَ:مَا عَمِلْتُ عَمَلاً إِلَّا حَطَبِي هَذَا احْتَمَلْتُه فَجِئْتُ بِه، وكَانَ مَعِي كَعْكَتَانِ [أي خبزتان] فَأَكَلْتُ وَاحِدَةً وتَصَدَّقْتُ بِوَاحِدَةٍ عَلَى مِسْكِينٍ. فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): بِهَا دَفَعَ الله عَنْه. وقَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ مِيتَةَ السَّوْءِ عَنِ الإِنْسَانِ.(1)

6/ زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)

فقد روي عن منصور بن حازم قال: سمعته يقول: من أتى عليه حولٌ لم يأت قبر الحسين (عليه السلام) نقَص الله من عمره حولًا، ولو قلت: إن أحدكم يموت قبل أجله بثلاثين سنة لكنت صادقًا، وذلك أنكم تتركون زيارته، فلا تدعوها يَمدُّ الله في أعماركم، ويزيد في أرزاقكم، وإذا تركتم زيارته نقص الله من أعماركم وأرزاقكم، فتنافسوا في زيارته، ولا تدعوا ذلك، فان الحسين بن علي (عليه السلام) شاهد لكم عند الله تعالى وعند رسوله وعند علي وعند فاطمة صلى

ص: 274


1- الكافي للكليني ج4 ص 5 بَابُ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ الْبَلَاءَ ح3.

الله عليه وآله [وعليهم].(1)

ثانيًا: هناك أسباب تؤدي إلى تغيير التقدير إلى ما هو الأسوأ

وهي أيضًا أسباب موضوعية، من أيٍّ وقعت أنتجت نتيجتها، ولو كان مؤمنًا، والعنوان العام لهذه الأسباب هي الذنوب، فالذنوب لها آثار وضعية كثيرة، ومنها أنها من مقصرات العمر وقاصمات الأجل ومغيرات القدر إلى الأسوأ، وفي ذلك روايات عديدة، منها ما روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): خَمْسٌ إِنْ أَدْرَكْتُمُوهُنَّ فَتَعَوَّذُوا باللهِ مِنْهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوهَا إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ والأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، ولَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ والْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وجَوْرِ السُّلْطَانِ، ولَمْ يَمْنَعُوا الزَّكَاةَ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، ولَوْ لَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، ولَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ الله وعَهْدَ رَسُولِه إِلَّا سَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ وأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، ولَمْ يَحْكُمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ إِلَّا جَعَلَ الله عَزَّ وجَلَّ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.(2)

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: وَجَدْنَا فِي كِتَابِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله): إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا مِنْ بَعْدِي كَثُرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ، وإِذَا طُفِّفَ الْمِكْيَالُ والْمِيزَانُ أَخَذَهُمُ الله بِالسِّنِينَ والنَّقْصِ، وإِذَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ مَنَعَتِ الأَرْضُ بَرَكَتَهَا مِنَ الزَّرْعِ والثِّمَارِ والْمَعَادِنِ كُلَّهَا، وإِذَا جَارُوا فِي الأَحْكَامِ تَعَاوَنُوا عَلَى الظُّلْمِ والْعُدْوَانِ، وإِذَا نَقَضُوا

ص: 275


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج6 ص 43 / 16 - باب فضل زيارته (عليه السلام) ح(91) 6.
2- الكافي للكليني ج2 ص 373 – 374 بَابٌ فِي عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي الْعَاجِلَةِ ح1.

الْعَهْدَ، سَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وإِذَا قَطَّعُوا الأَرْحَامَ جُعِلَتِ الأَمْوَالُ فِي أَيْدِي الأَشْرَارِ، وإِذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ ولَمْ يَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ولَمْ يَتَّبِعُوا الأَخْيَارَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي سَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ، فَيَدْعُوا خِيَارُهُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ.(1)

ص: 276


1- الكافي للكليني ج2 ص 374 بَابٌ فِي عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي الْعَاجِلَةِ ح2.

الأصل الثالث: النبوة

اشارة

إن الكلام في مبحث النبوة طويل الذيل، ولكن سنحاول الاقتصار على بعض مسائله المهمة، ونترك الباقي لمراجعة ومطالعة القارئ اللبيب في المطولات التي تعرضت لها.

وفي هذا الأصل مبحثان رئيسان:

المبحث الأول: النبوة العامة.

المبحث الثاني: النبوة الخاصة.

ص: 277

ص: 278

المبحث الأول: النبوة العامة

اشارة

ويُقصد منه البحث عن النبوة بمعناها العام الشامل لجميع الأنبياء، لا خصوص نبي معين.

وهنا مسائل أربعة:

المسألة الأولى: في أن بعثة الأنبياء أمر حسن.

المسألة الثانية: وجوب البعثة.

المسألة الثالثة: خلفيات البعثة في القرآن والسنة.

المسألة الرابعة: مؤهلات النبي.

ص: 279

ص: 280

المسألة الأولى: في أن بعثة الأنبياء أمر حسن
اشارة

نحن نعلم أن الله تعالى حيث إنه عادل حكيم، إذن هو لا يفعل إلا الفعل الحسن، وأفعاله معلّلة بالغايات كما تقدم، وبالتالي قد يُقال: هل هناك فائدة في بعثة الأنبياء حتى يبعثهم الله تعالى؟

والجواب
اشارة

إنه نعم، فإن البعثة حسنة لأنها اشتملت على فوائد وخلت عن مفاسد، وهذا يعني أن حسنها مطلق، أي إنها لا تتلبس إلا بعنوان الحسن، لخلوها من أية مفسدة، ليس هذا فقط، وإنما تتصف البعثة بأكثر من جهة حسن محضة، فيكون حسنها متراكماً وعميقاً في نفس الوقت، وقد ذكر العلماء عدة فوائد للبعثة تجعل منها فعلًا في غاية الحسن -من قبيل: أن في بعثة النبي زجراً عن القبائح وحثاً على الطاعات، وتنبيهاً للغافل وإزالة الاختلاف ودفع الهرج والمرج – ونذكر هنا تفصيلًا فائدة واحدة ذات شقين تكفي لإثبات حسنها:

الشق الأول

هناك أحكام دلّ عليها العقل يقيناً، كحسن العدل وقبح الظلم، وحينها

ص: 281

يكون النقل (أي البعثة) عاضدًا ومؤيدًا لتلك الأدلة(1)، الأمر الذي يُضفي على تلك الأدلة العقلية مسحة من التعبد والقربة إلى الله تعالى، ففرق بين إنسان يعدل لأن العدل حسن عقلًا فقط، وبين إنسان يعدل لأن العقل يقول بحسنه، ولأن الله تعالى أمره بالعدل، فهو يمتثل أمر الله تعالى أيضًا، فتتحقّق منه نية القربة، ويستحق بذلك ثوابًا من الله تعالى.

الشق الثاني

وهناك أحكام لا كلمة للعقل فيها، لكونها من نوع الاعتبارات التي لا يستطيع العقل أن يحكم فيها، فتكون مهمة البعثة هنا تأسيس تلك الأحكام وهداية الناس إليها، وهي التي نسميها بالأحكام التعبدية، كتشريع الصلاة والصوم والحج...

ص: 282


1- علمًا أن تعاضد الأدلة وتكثيرها ينفع في: 1 – زيادة اليقين، أي زيادة اليقين والوصول به إلى حالة الاطمئنان القلبي أكثر أو قل: ينفع في زيادة الإيمان وعمقه، حيث يتأثر طرداً بالمعرفة، فكلما زادت المعرفة عن طريق تكثّر الأدلة، كلما تعمّق الإيمان في القلب أكثر. 2 – التوفر على أدلة تنسجم مع كل المباني، وهو الذي يقتضيه فن البحث العلمي، فالذي يريد دليلًا عقليًا فهو موجود، والذي يريد دليلًا نقليًا فهو موجود أيضًا، وهكذا. 3 – خصوصية اللغة الدينية أنها ليست نظرية بحتة، بل ذات بعد تربوي أيضاً، فالعقل يعطي أحكامًا بِلُغةٍ جافّة، أما الشرع فإنه يُضفي على الدليل مسحة من الروحانية والبعد التربوي الذي يناغم الروح وينسجم معها. 4– تنوّع الأدلة وتكثّرها – خصوصاً النقلية – يلفت إلى موقع المعلومة ودرجتها وأهميتها بالقياس إلى المعلومات المشتركة معها في منظومة واحدة، فكلما تكثرت الأدلة وتنوعت عن مسألة واحدة، كلما كشف هذا التنوع عن كون تلك المسألة مهمة جدًا، ولأجل أهميتها فقد تنوعت الأدلة عليها.
تنبيه: أن البعثة والنبوة لا تصادر الاختيار

تقدمت عندنا عدة أصول(1)، ومنها هذان الأصلان:

1/ أن الله تعالى لا يفعل إلا لغرض، ولكن الغرض لا يرجع إليه، إذ هو الغني المطلق، وإنما يرجع فعله جل وعلا ومصلحتُه إلى الإنسان، بما في ذلك إعمال مولويته وحاكميته وولايته عندما يُشرّع أحكامًا ما.

وهذا ما أشار له أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: فَإِنَّ الله سُبْحَانَه وتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ، غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّه لَا تَضُرُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، ولَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه.(2)

2/ أن الإنسان يوجد أول ما يوجد في هذا العالم وهو كتلة من الاستعدادات، أي إنه محاط بالنقص والفقدان من جميع جهاته، إلا الشيء القليل، ثم يأخذ بالتكامل والخروج من القوة إلى الفعل تدريجياً، ويتم ذلك من خلال الاختيار، أي إنه يُفعّل اختياره فيتكامل، فتكامله باختياره لا أنه مجبر عليه ولا أنه يأتيه بالمجّان من دون أن يبذل هو جهدًا عليه. قال تعالى (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(3)

وضم هذين الأصلين يفرز: أن الإنسان هو الذي يحدّد مصيره وقَدَره

ص: 283


1- في مباحث العدل الإلهي.
2- نهج البلاغة ج2 ص 160.
3- النحل 78

باختياره في هذا العالم وعالم الآخرة، ومعه، فإثبات ضرورة النبوة وحسنها لا يصادر اختيار الإنسان، فهي لا تعدو كونها مرشداً للإنسان، وأنها تقع في طريق مساعدة اختياره، فالبعثة والنبي أشبه بالبوصلة التي تدلنا على الطريق، ولا تصادر الاختيار ولا تجبر الإنسان على المشي معها.

نعم، لا شك -كما أشرنا سابقًا- إلى أنه لا يوجد اختيار مطلق للإنسان، وإنما كل فعل من أفعاله يعتمد على الكثير من المقدمات والمبادئ الخارجة عن اختياره، ومن هنا تأسس بحث اللطف المحصل الذي لولاه لما وصل العبد إلى كماله، والنبوة تقع في سياق العوامل المساعدة لاختيار الإنسان، فهي من اللطف المحصّل الذي لولاه لما وصل العبد إلى ما يُرضي عنه ربه، وبالتالي يحصل على الفوز عنده جل وعلا، وسيتبلور هذا المعنى أكثر –إن شاء الله تعالى- في المسألة الثانية المتعلّقة بإثبات كون البعثة أمرًا ضروريًا.

شبهة البراهمة

شبهة البراهمة(1):

أشكل البراهمة على أصل حسن البعثة بإشكال خلاصته: أن الرسول

ص: 284


1- قال الزبيدي في تاج العروس ج5 ص408 مادة (هربذ): الهَرَابِذَةُ: قَوَمَةُ بَيْتِ النَّارِ التي للهِنْدِ، وهُم البَرَاهِمة، فارِسيٌّ مُعَرَّب، وقيل: عُظَمَاءُ الهِنْدِ أَو عُلَمَاؤهُم، أَو خَدَمُ نارِ المَجُوسِ، وهم قَوَمَةُ بيت النَّارِ.) أ.ه. وهم قوم لا يجوزون على الله بعثة الرسل. وهم المنكرون للنبوات أصلا... ومن الناس من يظن أنهم سموا براهمة لانتسابهم إلى إبراهيم - عليه السلام - وذلك خطأ، فإن هؤلاء هم المخصوصون بنفي النبوات أصلا ورأسا، فكيف يقولون بإبراهيم - عليه السلام - ؟.وهؤلاء البراهمة إنما انتسبوا إلى رجل منهم يقال له براهم [ برهم ظ ] وقد مهد لهم نفي النبوات أصلا، وقرر استحالة ذلك في العقول بوجوه... ثم إن البراهمة تفرقوا أصنافا... وراجع توضيح المراد للطهراني ص 638.

إما أن يأتي بما يوافق العقول، فلا حاجة له، وأما أن يأتي بما يخالف العقول، فتجب مخالفته.

والجواب عن كلا الشقين
أما عن الشق الأول

فيمكن أن يأتي الرسول بما يوافق العقول لكنه يكون مؤكداً لأحكام العقل، وقد تقدمت فوائد عديدة لتراكم الأدلة وتأكيدها قبل قليل، على أن العقل قد يُبتلى ببعض موانع المعرفة، فيخطئ الحكم، فيكون بحاجة إلى من يسدّده ويذكره بالصواب، وهو النبي، فالحاجة لا زالت قائمة للرسول والبعثة.

وأما عن الشق الثاني

فنسلم أنه لا يجوز أن يأتي الرسول بما يناقض العقول، ولكن ما يأتي به غير منحصر بما يوافق العقل وما يناقضه، بل يمكن القول بأن الرسول يأتي بأحكام لا يدركها العقل لوحده كما أنه لا يرفضها، لعدم قدرته على إدراكها لوحده، فيمكن أن يأتي الرسول بما خفي عن العقل – أي ما لا كلمة للعقل فيه - مما لا يناقضه، وهو ما يُسمى بالتعبديات كما تقدم.

ولكن هل من دليل أو مؤشر على قصور العقل؟

ص: 285

والجواب:

نعم، وعليه مؤشرات عديدة، ومنها: وجود الكثير من الحقائق التي لا يمكن أن يصل العقل البشري فيها إلى الحقيقة، كالمسائل الفقهية، فإنه لا يستطيع أن يعرف حقيقة الحال فيها لوحده.

ص: 286

المسألة الثانية: وجوب البعثة
اشارة

ثبت في المسألة الأولى أن البعثة أمر حسن، ولكن هل هي واجبة؟ يعني هل هناك ضرورة تستدعي أن يرسل الباري جل وعلا لنا رسولًا أو لا توجد هكذا ضرورة، بحيث إنه لو لم يرسل الله تعالى لنا رسولًا فإنه لن يحدث شيء سيء؟

الجواب:

لا شك أن هناك ضرورة تدعو إلى لزوم إرسال الأنبياء، وهنا نذكر عدة بيانات لهذا الأمر:

البيان الأول: إن التكاليف الشرعية ألطاف في التكاليف العقلية
اشارة

عنون البعض هذه الضرورة بقوله: (إن التكاليف الشرعية ألطاف في التكاليف العقلية)(1).

والمعنى: أن العقل يحكم بلزوم بعض التكاليف التي يصل إليها بنفسه، كضرورة وجود الخالق، ولزوم شكره، وما يأتي به الشرع هو عامل مساعد

ص: 287


1- انظر: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق الآملي) للعلامة الحلي ص 470، نسبها إلى المعتزلة.

لهذه الضرورة وإرشادي لها.

أو قل: إن التكاليف الشرعية تمثل عوامل مساعدة لامتثال التكاليف العقلية، أي إنه لا يمكن امتثال التكاليف العقلية (كالتوحيد والإيمان وحسن العدل وقبح الظلم ومسائل الصفات الإلهية الكمالية...) إلا بمساعدة التكاليف الشرعية، فتجب التكاليف الشرعية، فتجب البعثة، لأن النبي هو المبيّن لتلك التكاليف الشرعية.

كما أن الشريعة ككل تمثل مجموعاً واحداً، فالأحكام التكليفية والوضعية، والتعبدية والتوصلية، والواجبات والمستحبات، والمحرمات والمكروهات، والعقائد والفروع، كلها مترابطة مع بعضها ترابطاً عضوياً، وهذا ما تشير إليه العديد من النصوص التي تبين الترابط بين القوانين التكوينية والتشريعية(1)، مثل ما ورد من أن صلة الرحم تطيل العمر وتزيد الرزق، وأن الزكاة تنمي المال، وفي المقابل شرب الخمر يمنع من قبول الصلاة أربعين يوماً، وأن من نظر إلى أبويه نظر ماقت لهما لم يقبل الله له صلاة، وأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسلط الأشرار على مقدرات الأمة....

وهذا يعني أن مجموع مقولات الدين توفر الحاضن الأمثل لالتزام العبد بما يريده الباري تعالى منه، وأن كل تشريع يمثل عاملاً مساعداً للتشريع الآخر، وهكذا كل التشريعات. هذا.

ص: 288


1- ليس الكلام في مقام التقنين، أو الصحة والفساد، ففي هذا المقام لا يوجد ترابط بين الواجبات والمحرمات، فقد يرابي المصلي، وقد يؤتمن الخائن، وقد يزني المؤمن، ولكن الكلام في مقام آخر، هو مستوى آثار الشريعة ككل.

وهناك تكاليف عقلية، لا يمكن للبشر أن يطيعوها بمفردهم، لوجود موانع عن الجري عليها، وهذا يعني الحاجة إلى تشريعات نقلية تساعد على طاعة تلك التكاليف العقلية، فتجب تلك التكاليف النقلية من باب اللطف، وهذا معنى أن التكاليف الشرعية السمعية/ النقلية ألطاف في التكاليف العقلية.

وهنا ملحوظتان:

الملحوظة الاولى: معنى الفترة

حيث ثبت وجوب البعثة بالبيان المتقدم، إذن، لا بد من وجود الحجة في كل وقت، دلّ عليه قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)(1)،

وقال تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(2).

نعم، قد يكون القائم على تلك الشريعة أو الوصي عليها ظاهراً معروفاً، وقد يكون مستوراً ومخفياً، ولكن الأرض لا تخلو من حجة أبداً. كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اللَّهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لله بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ الله وبَيِّنَاتُه.(3)

وهنا قد يتبادر إلىٰ الذهن التالي(4):

ص: 289


1- فاطر 24.
2- الرعد 7.
3- نهج البلاغة ج4 ص37.
4- انظر: الهدى والضلال في القرآن الكريم للشيخ حسين عبد الرضا الأسدي ص 94 – 97.

إنَّ القرآن الكريم وفي مقام حديثه عن إرسال النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يُصرِّح بأنَّ إرساله كان علىٰ فترة من الرسل، قال تعالىٰ: ]يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلىٰ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[(1).

ومعنىٰ (الفترة) هي ما بين الرسولين، فهذه الآية تقول: إنَّ الله تعالىٰ أرسل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في فترة كانت خالية من الرُّسُل، وهذا يتنافىٰ مع الآية المتقدِّمة الدالّة علىٰ أنَّ كلَّ أُمَّة كان فيها نذير.

والجواب:

أوَّلاً: الآية قالت: إنَّه (صلى الله عليه وآله) جاء علىٰ فترة من الرُّسُل لا الأنبياء، ومعلوم أنَّ الأنبياء أكثر بكثير من الرُّسُل، فلا ملازمة بين عدم وجود رسول وبين عدم وجود نبيٍّ، فقد يكون في زمن لا يوجد رسول ولكنَّه يوجد نبيٌّ. وهذا هو المروي، حيث ذكرت بعض الروايات وجود بعض الأنبياء بين النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبين النبيِّ عيسىٰ (عليه السلام)، كخالد بن سنان العبسي كما سيأتي بعد قليل.

ثانياً: فضلاً عن هذا فإنَّه بوجود الأوصياء في تلك الفترة فإنَّ الحجَّة قائمة علىٰ الناس، وإنَّما يرسل الله تعالىٰ الرُّسُل لإتمام الحجَّة عليهم، فإذا كانت الحجَّة تامَّة لم يكن عدم الإرسال منافياً لهداية الدعوة، إذ الهداية موجودة حسب الفرض.

ص: 290


1- المائدة: 19.

ثالثاً: أنَّ المقصود من الفترة هو خلوّها من حجَّة ظاهر، وأمَّا الحجَّة غير الظاهر فقد كان موجوداً في تلك الفترة.

وهذا المعنىٰ - أي عدم خلوِّ الأرض من حجَّة ولو غير ظاهر - هو ما صرَّح به أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «اللَّهُمَّ بَلَىٰ لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ للهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُه»(1).

وهذا ما ذهب إليه الشيخ الصدوق ; في إكماله، حيث قال ما نصُّه:

(وإنَّما معنىٰ الفترة أنَّه لم يكن بينهما رسول ولا نبيٌّ ولا وصيٌّ ظاهر مشهور كمن كان قبله، وعلىٰ ذلك دلَّ الكتاب المنزل أنَّ الله (عزوجل) بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) علىٰ حين فترة من الرُّسُل، لا من الأنبياء و الأوصياء، ولكن قد كان بينه وبين عيسىٰ (عليه السلام) أنبياء وأئمَّة مستورون خائفون، منهم خالد بن سنان العبسي، نبيٌّ لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر، لتواطئ الأخبار بذلك عن الخاصِّ والعامِّ، وشهرته عندهم، وأنَّ ابنته أدركت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودخلت عليه، فقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله): «هذه ابنة نبيٍّ ضيَّعه قومُه، خالد بن سنان العبسي»(2)، وكان

ص: 291


1- نهج البلاغة: 497/ ح 147.
2- في الكافي للكليني (ج 8/ ص 342 و343/ ح 540، حديث ابنة خالد بن سنان): عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله) جالساً إذ جاءته امرأة، فرحَّب بها وأخذ بيدها وأقعدها، ثمّ قال: ابنة نبيٌّ ضيَّعه قومه، خالد بن سنان، دعاهم فأبوا أن يؤمنوا، وكانت نار يقال لها: نار الحدثان تأتيهم كلَّ سنة فتأكل بعضهم، وكانت تخرج في وقت معلوم، فقال لهم: إن رددتها عنكم تؤمنون؟ قالوا: نعم»، قال: «فجاءت فاستقبلها بثوبه فردَّها، ثمّ تبعها حتَّىٰ دخلت كهفها ودخل معها، وجلسوا علىٰ باب الكهف وهم يرون ألَّا يخرج أبداً، فخرج وهو يقول: هذا هذا وكلُّ هذا من ذا (أي هذا شأني وإعجازي)، زعمت بنو عبس أنّي لا أخرج وجبيني يندىٰ (أي يبتلُّ من العرق)، ثمّ قال: تؤمنون بي؟ قالوا: لا، قال: فإنّي ميِّت يوم كذا وكذا، فإذا أنا متُّ فادفنوني، فإنَّها ستجيء عانة (القطيع من حمر الوحش) من حمر يقدمها عَير أبتر (والعَير بالفتح: الحمار الوحشي، وقد يُطلَق علىٰ الأهلي أيضاً. والأبتر: المقطوع الذنب) حتَّىٰ يقف علىٰ قبري، فانبشوني وسَلوني عمَّا شئتم، فلمَّا مات دفنوه، وكان ذلك اليوم إذ جاءت العانة اجتمعوا وجاؤوا يريدون نبشه، فقالوا: ما آمنتم به في حياته، فكيف تؤمنون به بعد موته؟ ولئن نبشتموه ليكون سبَّة عليكم، فاتركوه، فتركوه».

بين مبعثه ومبعث نبيِّنا محمّد (صلى الله عليه وآله) خمسون سنة...»(1). (2).

الملحوظة الثانية: مهمة الأنبياء هي البلاغ

إن التعليمات التي وردت في الشريعة، والتي على أساسها حكمنا

بحسن الشريعة ولزومها، ليست هي إلا تعليمات نظرية لو التزم بها العباد لحصلوا على تلك الفوائد، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بأن مهمة الأنبياء هي البلاغ، قال تعالى {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}(3)

وفي مقام آخر عبّر عن تلك الحقيقة بقوله عز من قائل {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا}(4)

فعلى الدين التشريع، وأما العمل والتطبيق فهي مهمة الناس...

ص: 292


1- كمال الدين للصدوق: 659/ باب 58/ ذيل الحديث 2.
2- نكتة مهدوية: ذكرت بعض الروايات الشريفة أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يظهر بعد فترة من الأئمَّة، بمعنىٰ أنَّه يظهر بعد وجود فاصل زمني بينه وبينه آخر ظهور وحضور للمعصوم، فقد روي عن أبي حمزة، قال: دخلت علىٰ أبي عبد الله (عليه السلام)، فقلت له: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: «لا»، فقلت: فولدك؟ فقال: «لا»، فقلت: فولد ولدك هو؟ قال: «لا»، فقلت: فولد ولد ولدك؟ فقال: «لا»، قلت: من هو؟ قال: «الذي يملؤها عدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، علىٰ فترة من الأئمَّة، كما أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بُعِثَ علىٰ فترة من الرُّسُل» الكافي للكليني 1: 341/ باب في الغيبة/ ح 21.
3- (99) من سورة المائدة.
4- (16) من سورة الجن.

نعم، استطاع الدين أن يوجد في تاريخه الطويل أفراداً مؤمنين به، بحيث تحول هذا الإيمان عندهم إلى سلوك عملي وفي أرفع مستوياته، وهذا معناه: أن الدين وإن كان في تعليماته يلقي النظريات لإلقاء الحجة، ولكنه يعمل أيضاً على تحويل تلك النظريات إلى سلوك عملي بها يقف التراجع البشري نحو الفوضى والهرج والمرج، وهم المعصومون (عليهم السلام) من الأنبياء والمرسلين والأئمة، وبفضل هؤلاء الثلة المعصومين، حمى الدينُ البشرية عن الوصول إلى قاع التراجع وما لا تحمد عقباه...

وبعبارة أوضح: إن الدين وحتى يخرج من إطار النظرية البحتة إلى التطبيق، اصطفى أشخاصاً يمثلون وبشكل عملي كل ما جاء به الدين، فهم عبارة أخرى عن دين يمشي في الأرض، حتى لا يُقال: إن الدين مجرد نظريات غير قابلة للتطبيق العملي.

البيان الثاني: ضرورة الوسيط في الحياة

هل الواسطة بشكل عام ضرورة في حياة الانسان أو لا؟ بمعنى: هل يمكن للإنسان أن يعيش بمفرده وبلا معونة أية واسطة أو لا يمكن له ذلك؟

الجواب:

الانسان يبدأ مع الواقع، وهذا يملي عليه أمرين:

الأمر الأول: (علمي) وهي عملية اكتشاف الواقع، والتطلع اليه، وكشف مستتراته، وإلا فكيف يتعامل مع المجهول!

ص: 293

الأمر الثاني: (عملي) القيام بدور التأثير والتأثر، فأنت إذا علمت بوجود الماء وبكونه يروي العطش، فإنك ستقصده لتتأثر به وتروي عطشك.

وهذان الأمران لا يمكن للإنسان أن يؤديهما لوحده وبمفرده، فعملية التفاعل مع الواقع تحتاج إلى أدوات: كالآلة، والمعلم، والقلم... وعدد لا يحصى من الوسائل. وبدون هذه الأدوات يبقى الانسان عاجزًا عن أداء هذه المهمة (الاكتشاف والتفاعل).

أما ما هو سبب هذا العجز عن التعامل المباشر وبدون واسطة مع الواقع؟ ما هو سبب الحاجة إلى الوسيط؟

يرجع سبب العجز الى خلفيات أربعة وهي التي تؤسس لفكرة الوسيط:

1/القصور الذاتي:

فإن الطفل مثلًا يضطر إلى المعونة، لأن ذاته قاصرة عن القيام بمسؤولية النمو، وكذلك البالغ، فإن ذاته ضعيفة أمام الوصول إلى القمر مثلًا، أو السحاب، أو أن يحمل أثقالًا معينة، فيحتاج إلى معونة ووساطة للوصول إلى تلك الأهداف، وهكذا الأعمى والأطرش وغيرها من الأمور الطارئة التي تجعله مضطرًا الى الواسطة –كالنظّارة والسماعة وما شابه-.

2/محدودية الزمان:

إذ إن حاجات الإنسان كثيرة جدًا، ولو أراد أن يقوم بكل حاجاته لوحده، فإنه حتى لو كان متمكنًا من ذلك، ولكن الزمن لا يعطيه المجال،

ص: 294

لأنه سيكبر، ويهرم، وستنقضي حياته وهو لم يكمل عشر معشار حاجاته، ذلك لأن زمن الإنسان محدود، ولم يُتح لنا إلى أن نكمل حاجاتنا وننهي مشوارنا حسب رغبتنا، فالموت يأتي فجأة كما هو معلوم. وبالتالي سوف يضيع وقته ولم يكمل تلبية جميع احتياجاته، فيكون متراجعًا ومتسافلًا، والخسارة نتيجته؛ لذا احتاج إلى الوسيط، فكل واحد يؤدي ما يكون خبيرًا به، ويعتمد على الآخر في الأمور الأخرى، وبذلك يكون كل واحد معينًا ووسيطًا للآخر، والجميع يتكامل، قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(1)

وكما قيل:

الناس للناس من بدو ومن حضر .... بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ

3/ أن كثيراً من العمليات التي يحتاجها الانسان لاكتشاف الواقع أو التفاعل معه لا تأتي من خلال تماسّ مباشر فقط، بل تحتاج إلى مهارات وخبرات، ولا يمكن أن يؤديها العمل البسيط، فتنبثق فكرة الحاجة إلى الوسيط الماهر الخبير، فأنت لا تستطيع اكتشاف مرض معين إلا بمراجعة خبير بالأمراض وتشخيصها، فهو صاحب الخبرة في هذا المجال، وهكذا لا يمكنك بناء بيتك إلا إذا كنت بنّاءً ماهرًا، أو عليك أن تراجع صاحب الخبرة في ذلك، وهكذا.

ص: 295


1- الزخرف 32.

ثم إن الانسان لم يتعامل مع الواقع بمنطق رفع الحاجة والعجز فقط، بل بدأ يتعاطى مع الوسيط ويتوسع بعلاقته معه بمنطق الرفاهية والسهولة، كمن يعتمد على خادمه في طبخ طعامه رغم قدرته عليه وعدم عجزه عن إنجاز ذلك، ويكشف هذا مدى تطور التعامل مع الوسيط بشكل كبير بحيث تجاوز منطق الضرورة ورفع العجز، إلى منطق الرفاهية والتعاجز والكسل.

4/التنظيم.

الخلفيات المتقدمة التي أسست ظاهرة الوسيط كلها تنطلق من الجانب الفردي (عجز ذاتي، ومحدودية الزمان، والمهارات) ولكن اليوم بسبب احتكاك الماديات وتزاحم الفرص، ومحدودية الزمان انبثق وسيط جديد مهمته (التنظيم).

وظهرت من خلال هذا الوسيط الجامعات والمعاهد وغيرها من موارد التنظيم التي تجعل التعامل مع هذه الوسائط بشكل منتظم غير عشوائي، وهذا التعامل يزيد من إنتاجية الوسائط، لأنها تنظم الفرص، والمكان، والزمان، وحتى إدارة المدن والمنازل والسياسة بشكل عام، تعد خلفياتها تنظيمية.

فالخلاصة: الحاجة إلى الوسيط ضرورة، بل هذه الظاهرة تمثل جزءًا لا يتجزأ من الإنسان حدوثًا وبقاءً وتطورًا وتنظيمًا، ولا توجد فرصة للاستغناء عنها. وفي مرحلة من المراحل قد يُفطم الإنسان عن واسطة معينة، كفطام الطفل عن حليب والدته، ولكنه يقع في حبال واسطة أخرى، كالحاجة إلى

ص: 296

المعلم، وهكذا إلى نهاية الحياة.

(تنوع الوسائط)

وبحكم تنوع حاجات الإنسان وتعدّدها، فقد تنوعت الوسائط والأدوات وتعدّدت، وقد ثبتت لها مسمّيات متعددة، فهناك من الوسائط ما يتلخّص دوره بمعالجة القصور الذاتي للمحتاج، مثل النظارة لضعيف البصر، ومثل الوالدين بالنسبة الى الطفل، ومثل الخادم بالنسبة الى المشلول.

وهناك الخادم والمعين الذي يرتبط بإنشاء التكافل الاجتماعي والخدمة المتبادلة، فأنا أخدمك في اختصاصي، وأنت تخدمني في اختصاصك.

وهناك المدرب الذي يرتبط بجانب التنظيم، والمهارات، وبه يدخل المدير، والمعلم...

الخلاصة:

أن الوسيط ضرورة في الحياة، ولا يمكن الاستغناء عنه أبدًا، بل لا يمكننا أن نتصور الحياة من دون الوسيط والآخر والخدمة المتبادلة والعملية التنظيمية التي يقوم بها المتخصصون وأصحاب الخبرات والمهارات المختلفة.

الملحوظة المهمة هنا:

أن الحاجة إلى الوسيط تارة تكون قهرية، أي: لا دخل لاختيار الانسان في وجوده أو تعيينه، فهو مفروض على الإنسان من خارج دائرة اختياره، مثل: الأب الوسيط في إعانة طفله، أو مثل الدواء الذي يُعطى قهرًا للمريض.

ص: 297

وتارة يكون اختياريًا، أي إن الإنسان وإن كان مضطرًا إلى الوسيط، ولكن اختيار الوسيط يكون تحت إرادته، بمعنى أن للإنسان الحرية في تعيينه أو عدمه، مثل ركوبه في سيارة معينة، أو مراجعة الطبيب الفلاني أو استخدامه خادمًا معينًا، وهكذا.

والنتيجة من كل هذا:

أن الإنسان في حياته اليومية، وفي حاجاته اليومية، لا يستغني عن الوسيط، فكيف بالحاجات التي هي خارج أفق عقله ومتناول يده، وهي الحاجات المرتبطة بالخالق جل وعلا، من ضرورة الوصول إلى رضاه، والتقرب إليه، إنه بلا شك بحاجة إلى وسيط ينقل له ما يريده الباري جل وعلا، ويوجهه نحو بر الأمان، ويأخذ بيده كي لا يقع في الخطأ، وبهذا يتبلور بكل وضوح حاجتنا الضرورية للنبي، الذي يمثل الوسيط بيننا وبين الله جل وعلا.

البيان الثالث: ضرورة الوسيط من قِبل السماء لدفع مخاوف الإنسان
اشارة

يمكن رصد عدة واقعيات ندركها في وجداننا، ولا يمكن إنكارها، وهي:

1/وجود ظاهرة الاختلاف، وعلى جميع المستويات والأصعدة، فالمزاج والتقليد يؤدي الى خلافات، ثم تتحول إلى صراعات، بعد تصادم الإرادات، فتُرتكب الجنايات، وتشب الحروب، وتحل الكوارث. وهذا الأمر لم يقتصر على زمان دون آخر، بل هو بدأ مع بداية البشر وحتى يومنا الحالي، ويستمر

ص: 298

إلى ما شاء الله تعالى. بل كلما تطورت المدنية تطور إلى جانبها الصراع، واتسع الدمار. بل لم يقتصر الخلاف والاختلاف في الحياة على منحى خاص كالاقتصاد، أو السياسة، وإنما شمل حتى الاختلاف بالدين.

فالاختلاف موجود وبقوة، وليس أمرًا هامشيًا، كما هو مشاهد بالوجدان.

2/الايمان باللطف والتسديد، بمعنى أن الانسان بشكل عام مهما كانت ديانته -بل حتى غير المتدين- يؤمن بالعناية الإلهية، ويعبر عن هذا الايمان بطلب الدعاء، والتسديد، والحفظ، كالطبيب الذي إذا يئس من حالة معينة يقول: لم تبق إلا إرادة الله تعالى، أو العناية الخاصة، أو غيرها من التعبيرات التي تكشف بشكل واضح عن وجود الإيمان بهذا التسديد.

3/استمرارية التكامل، وحالة اللا تناهي، بمعنى أنك تجد نزعة الانسان العلمية والعملية لا تقف عند حد، في أي جانب، وأي منحى من المناحي العلمية لا يقف عند مرحلة معينة، بل الاستمرار نصيب كل مجال. ذلك لأن الإنسان دومًا يسعى ويتحرك نحو الاحسن، والأفضل، وهو دائمًا يشعر بأن هناك أمورًا لم تُكتشف بعد. ولهذا تجد العلوم طرًا لم تقف عند حدٍّ، بل إن جانب الإبداع والتطور في العلوم مستمرٌ ولم تطرأ الخاتمية على أيٍّ منها. نعم قد يصيب بعض العلوم اجترار وتكرار، إلا أنه لا يقف.

4/فكرة الوسيط، المعلم، المربي، العقل المنفصل مطلقًا، واقع مقبول وحياتنا قائمة عليه، بل نستمرئه حتى الإشباع، ولا يقتصر على فئة أو

ص: 299

شخص، بل الحاجة الى الوسيط بهذا المعنى تبدأ بالعاجز كليًا –كالطفل-ويستمر للنموذج والعبقري، لعدة أمور تقدم الحديث عنها مفصلًا.

5/ الايمان بوجود الغيب، مع احتمال إمكان الارتباط به.

6/إن مجمل الخلافات والصراعات، خصوصا التي تبلغ مرتبة من التعقيد، عادة ما تُحلّ من خلال تدخل طرف ثالث، بمعنى: أن منطلق الفشل لا يكون منبع الحل، فلا بد من طرف ثالث يتدخل ليحل النزاع والمشاكل، وهذا واقع نلمسه ضمن أدبيات حياتنا.

7/جانب الاستخدام في سلوك الانسان واضح، بمعنى: جنوحه دائمًا نحو استغلال الآخر وامتصاص قدرته بلا مقابل، وهو ما يعبر عنه بالأنانية، أو الانتهازية، أو النفعية...الخ، وبذلك تظهر لنا مفاهيم غير سليمة من طرف القوي، مثل: الظلم، والاستبداد، والاستعمار، والاستغلال، والجور، و...الخ، وهي ثقافة السيد تجاه عبده الذي يحاول فيها أن يستغله وينتفع به مع تفريغه من محتواه، أما من جانب الضعيف، فينتج: الخداع، والتنظيمات السرية، وغيرها من الأساليب التي يحاول بها الضعيف أن يعوض ضعفه تجاه القوي، وغيرها من المفاهيم، بل والظواهر التي يبتلى بها المجتمع فتحدث حروب، وصراعات ليس لها آخر، كل ذلك يرجع الى هذه الواقعية، وهي (أنانية الانسان).

8/إن الدين من الواقعيات المطروحة والمقبولة على مر العصور، وعبرت عنه كتب ورسل، وقد احتل مكانًا في المجتمعات إلى جانب بقية التيارات

ص: 300

اللا دينية، وليس هو ظاهرة مستحدثة.

9/من الواقعيات الملموسة هو قصور العقل البشري، وعدم إطلاقه، فالعقل لا يحيط بالواقع كله، ولا يمكنه أن يطلع على لوحة هذا الوجود بكل تفاصيلها.

أمام هذه الواقعيات ظهرت عندنا مخاوف وأحاسيس عديدة، تعقبتها مطالب عديدة، أهمها:

الإحساس الأول: الرعب

الشعور بالرعب من فناء البشرية لأي سبب كان، حيث إنه من المعلوم أن التاريخ البشري دموي، ومليء بالجنون والتهور، مع علمنا بإمكانية محو البشرية بكبسة زر، هذا يولد شعورًا بالخوف والقلق من خطر الدمار، وحينها سيطلب الإنسان الطمأنينة والاستقرار على مصير البشرية، لأنه يرى هذا المطلب ممكن جدًا، ولو كان محالاً وضرباً من الخيال، لبقي البشر ضمن أطر ذلك الواقع المرير، فلو أمكن الحصول على ذلك الضامن الذي بيده مفاتيح المغالق، لأصبح ضرورة، خصوصًا مع ملاحظة أن أصوات الإصلاح، والسلام، لا صدى واسعاً لها، وهي خجولة أمام زمجرة القتال والعنف. فعنصر الاستقرار ضروري.

الإحساس الثاني: التعب

الشعور بالتعب، والإعياء، والإحباط، نتيجة خفاء أغلب أسرار الكون،

ص: 301

مع شدة حركة البشر العلمية، وطوال قرون من السنين، فالبحث المضني جداً، والطويل، إذا أنتج شيئاً بسيطاً من الحقيقة الكاملة، يوجب الإحباط الذي قد يولّد الوقوف بل والتراجع.

لذا يتولد مطلب البحث عن عنصر التفاؤل، والموجِّه لبوصلة البحث، بحيث يجعلنا في الطريق الصحيح، ويجدد الحيوية.

الإحساس الثالث: التيه

الشعور بالتيه والضياع، نتيجة صغر الانسان إذا قاس نفسه كفرد تجاه الكون، المليء بالأسرار، بل إن أسراره غير متناهية بنحو لا يقف –مثل تسلسل العدد-

لذا يتولد مطلب وهو الحاجة إلى التسديد والتوجيه، كالسائر في الصحراء المترامية الأطراف فإنه يحتاج إلى بوصلة ترشده إلى تصاعد حركته، فكذلك الإنسان وسط هذا العالم المتلاطم بالأسرار والعلوم يحتاج إلى هادٍ يعينه على مسيره، فإذا وُجد هذا الدليل والهادي فلا شك نتمسك به. فعلى الأقل إن لم تثبت الضرورة فإنه تثبت الحاجة وحسن الاستفادة لو عُرض إلينا هكذا وسيط.

الإحساس الرابع: الخوف من الغيب

الشعور بالخوف تجاه الغيب، لأن الذي يؤمن بوجوده تعالى، وتوحيده، وقدرته، وأنه الخالق له، لا شك يختلج في قلبه سؤال مُلِحٌّ ومصيري، حول

ص: 302

العلاقة التي تربطه مع ذلك الغيب، ولا يريحه المجهول أبدًا.

لذا يتولد مطلب وهو: الحاجة إلى إرسال شخص من قِبَل الغيب لمعرفة حدود هذه العلاقة، أو الغيب يرسل ذلك الشخص، أو الوحي، أو الإلهام، أو أي شيء آخر بحيث تكون العلاقة معلومة.

النتيجة من كل ما تقدم
اشارة

بعد هذه الجولة في الواقعيات والأحاسيس والمطالب المترتبة عليها، يشعر الانسان بكل وضوح بحاجته إلى الوسيط الذي يربطه مع السماء، وهذا يتجلى عند ملاحظتنا النقطتين التاليتين:

النقطة الأولى: لا اختيار كاملاً

تقدم في الأصول الموضوعة أن الانسان يبني قدره باختياره، والرهان على العمل الاختياري. ولكن لا توجد ممارسة اختيارية بالكامل، بل تبقى مقدماتها وشروطها ولوازمها غير اختيارية، فاذا تلمس الإنسان هذا المعنى مع ما تقدم من الواقعيات وما يترتب عليها من أحاسيس، ويلتفت إلى اختياره المنقوص، فسوف يستشعر بوضوح أنه بحاجة إلى دعم وتعزيز لاختياره. وقد تقدم أن منطق الحاجة جزء لا يتجزأ من لا وعي الانسان، وبذلك لا ضير في سعة أو ضيق هذه الحاجة، فمادام الانسان يحتاج إلى الحجر والمدر، فما المانع من حاجته الى النبوة!

ص: 303

النقطة الثانية: كيفية تدخّل السماء لتقديم العون

مع تسليمنا بالحاجة إلى من يساعدنا في التغلب على تلك المخاوف وتحقيق تلك المطالب، وأننا بحاجة إلى السماء لتساعدنا في ذلك، فالسؤال هنا:

كيف تتدخّل السماء لتقديم هذه المساعدة؟

إن ذلك يحتمل أحد الأمور التالية:

1/أن يكون ذلك عبر برامج معدَّة داخل نظام الإنسان، بحيث يمكنه الرجوع إليها في وقت الحاجة، أشبه بنظام الطوارئ الذي يوضع في المباني الكبيرة، فهو برنامج ضمن هيكيلية المباني، ويمكن اللجوء اليه عند الحاجة.

2/أن يكون الوسيط وحيًا، بمعنى: أن حقيقة الوحي تتيسر لعامة الناس، فلو وصلت الأمة مثلًا إلى مرحلة الانهيار يوحي الله تعالى إلى كل الناس ويبين لهم شدة غلطهم وتيههم، فيصحون من غفلتهم تلك.

3/أن يكون مَلَكا، بمعنى: أن الله تعالى يجعل ملائكة تتكفل حماية الإنسان من نفسه. أو يتكلم معه الحجر، أو الشجر، أو أمثال ذلك من الطرق الاعجازية.

وهذه الثلاثة رغم قدرة الله تعالى عليها بلا أدنى الشك، ولكنها غير حاصلة كما هو واضح، والواقع شاهد على عدم حصولها.

4/أن يكون بشرًا، بمعنى أن يجعل الله تعالى إنسانًا فيه قدرات معينة،

ص: 304

يقوم بدور بيضة القبان، أو البوصلة التي تحدد وجهة الحركة، وعنصر التفاؤل، كما يقوم بفك الحيرة، وكشف الملابسات، وبيان العلاقات مع الناس أنفسهم، ومعهم تجاه ربهم.

وهذا الرابع هو الاحتمال الواقعي، وهو الواقع، وقد صرّح القرآن الكريم بوقوعه، وهو بعث الرسل والأنبياء حتى يكونوا حجر الزاوية، وبيت الأمان للمجتمع الإنساني، والرابط بين الإنسان والسماء، ويمكن أن يستشف هذا المعنى من حاصل جمعٍ لآيتين مباركتين:

الأولى: قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (1).

إن من الواضح أن الآية في مقام حصر الطرق والقنوات التي يتم التواصل بها الله تعالى مع مخلوقاته، ويقصد بالتواصل بيان رأي السماء في شؤون الانسان. وقد بينت مجموعة من الطرق، ولم يكن منها طريقة الوحي للجميع، ولا الإلهام.

الثانية: قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (2).

فالآية تحصر المخاطبة والارتباط بين الانسان والسماء بالرسول فقط.

ص: 305


1- الشورى:51.
2- الانعام: 8-9.

وهناك آيات كثيرة تشير الى وقوع هذا النوع من الارتباط، وهو الاحتمال الرابع مما تقدم.

من كل هذا نستنتج: ضرورة النبوة، بأن يتم إرسال رجال من قِبَلِ الله تعالى إلى الناس ليحقّقوا لهم تلك المطالب وليرفعوا عنهم تلك المخاوف.

ص: 306

المسألة الثالثة: خلفيات البعثة في القرآن والسنة
اشارة

تقدم بيان مجموعة من الواقعيات، والاحاسيس التي تمثّل أسبابًا لضرورة النبوة، أو ضرورة الارتباط بالسماء، أو ضرورة وجود اللطف والاستثناء، وكان منطق تعدادها وبيانها هو الوجدان. ولكن لو فتّشنا في آيات الذكر الحكيم لوجدناها أيضاً أسّست لفكرة النبوة بنقاط قد تتداخل مع ما ذكرناه، ولإتمام الفائدة نذكر بعض تلك الخلفيات:

الخلفية الأولى: تنظيم علاقة الانسان مع خالقه

قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (1).

بمعنى: أن مضمون الرسالة هو تنظيم العلاقة بين الإنسان وخالقه، من خلال العبادة، والإيمان، والاعتقاد.

وهذا المضمون يتمثل في قيام الحجة قبل العذاب الأخروي أو الدنيوي:

ص: 307


1- النحل: 36.

اما الأخروي فقال تعالى:...لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(1).

أي: إن الله تعالى يعطي خارطة نجاة للإنسان، ولا يصادر العقل البشري، أو الاختيار البشري، وبذلك يقيم الحجة عليه، فمن ينجو فعن بيّنة، ومن يهلك فأيضاً أقيمت الحجة عليه.

ولعل الأمر يتضح أكثر في قوله تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (2).

واما الدنيوي فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (3).

وقال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (4).

الخلفية الثانية: رفع الاختلاف

قال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ

ص: 308


1- الانفال: 42.
2- الاسراء: 15.
3- طه: 134.
4- القصص: 59.

إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ واللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1).

وجود الاختلاف في المجتمع الإنساني حقيقة لا ريب فيها، نتيجة اختلاف الشهوات والتقديرات والأولويات، مع تزاحم عالم المادة ومحدودية الوقت، هذا النوع من الاختلاف يستدعي ضرورة وجود من يرفعه، وهو الرسول، كما أن الآية تشير إلى اختلاف من نوع آخر، وهو اختلاف العلماء المنحرفين بغيًا بينهم، فالنبوة أيضا تكون إحدى المناشئ للسيطرة على هذا النوع من الانحراف فيما لو أطيعت.

الخلفية الثالثة: التزكية والتعليم

قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2).

وقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (3).

الآيتان في مقام بيان أن هناك نوعًا من التعليم والتزكية لا يقوم بها غير النبي أو الرسول، فهي من نوع التربية التي تحتاج إلى مؤهلات خاصة لا

ص: 309


1- البقرة: 213.
2- آل عمران: 164.
3- الجمعة: 2.

يقوم بها إلا من يبعثه الله تعالى، وكأن العقل البشري لا يستطيع أن يؤديه، لذلك أرسلت السماء رسلها لأجل تحقيق هذا النوع من التعليم والتزكية.

الخلفية الرابعة: الشهادة

قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (1).

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (2).

فالآيتان تبينان أن للأنبياء (عليهم السلام) دورًا مهمًا لابد أن يؤدوه لهذه الامة، وهو أنهم شهداء على الأمة، اما الإنذار والبشارة، فهي تدخل في الخلفية الأولى (العقوبة الدنيوية أو الأخروية).

الخلفية الخامسة: الهداية

قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (3).

هذه الآية وإن كانت في الامامة، إذ قوله تعالى (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) يعني: لكل قوم إمام أو وصي، ولكنها تصلح أن تكون بيانًا لخلفية الاحتياج إلى العقل المنفصل والوسيط، سواء أكان نبيًا أم إمامًا.

ص: 310


1- المزمل: 15.
2- الأحزاب: 45والفتح: 8
3- الرعد: 7.

وقال تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (1).

الخلفية السادسة: القدوة

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (2).

وقال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ (3).

وقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (4).

وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (5).

الخلفية السابعة: الانتماء

وهو غير التزكية والتعليم والقدوة، فالدين لم يطرح نفسه وكأنه عبارة عن تنظيرات وتعاليم، بل يراد من المقابل الانتماء والاتباع، قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ

ص: 311


1- الأنبياء: 73.
2- الأحزاب: 21.
3- الممتحنة: 4.
4- الممتحنة: 6.
5- الانعام: 90.

الْمُؤْمِنِينَ (1).

وقال تعالى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(2).

وفي المقابل من لم يلتزم فإنه خارج هذا الانتماء، قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (3).

ومنه قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا (4).

فواضحٌ وجود آصرة اجتماعية بين المنتمين إليه.

الخلفية الثامنة: المشروع الدنيوي

الدين الإسلامي ليس مجرد نظريات لا واقع لها، وليس هو مجرد أوراد تُقام في المساجد ولا علاقة له بالحياة الدنيا، بل إن مشروعه بناء الدنيا والآخرة كليهما.

قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى

ص: 312


1- آل عمران: 68.
2- إبراهيم: 36.
3- هود: 45-46.
4- الفتح: 29.

الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1).

وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بالله شَهِيدًا (2).

وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (3).

وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (4).

وقال تعالى: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (5).

وأما خلفية النبوة في الروايات، فنكتفي بذكر رواية واحدة تفي بالغرض، وهي ما رواه الشيخ الصدوق في العلل(6) بسنده عن الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال:

إِن قالَ قائِلٌ: لِمَ أُمِرَ الخَلقُ بِالإِقرارِ بِاللهِ وبِرَسولِهِ وحُجَّتِهِ وبِما جاءَ مِن عِندِ اللهِ؟

قيلَ: لِعِلَل كَثيرَة:

ص: 313


1- التوبة: 33.
2- الفتح: 28.
3- الأنبياء: 105.
4- القصص: 5.
5- المجادلة: 21.
6- علل الشرائع للشيخ الصدوق- ج1 ص251 – 252 باب 182 ح9.

مِنها: أَنَّ مَن لَم يُقِرَّ بِاللهِ لَم يَتَجَنَّب مَعاصِيَهُ، ولَم يَنتَهِ عَنِ ارتِكابِ الكَبائِرِ، ولَم يُراقِب أَحَداً فيما يَشتَهي ويَستَلِذُّ مِنَ الفَسادِ وَالظُّلمِ، وإِذا فَعَلَ النَّاسُ هذِهِ الأَشياءَ وَارتَكَبَ كُلُّ إِنسان ما يَشتَهي ويَهواهُ مِن غَيرِ مُراقَبَة لأِحَد كانَ في ذلِكَ فَسادُ الخَلقِ أَجمَعينَ، ووُثوبُ بَعضِهِم عَلى بَعض، فَغَصَبُوا الفُروجَ وَالأَموالَ، وأَباحُوا الدِّماءَ وَالسَّبيَ، وقَتَلَ بَعضُهُم بَعضاً مِن غَيرِ حَقٍّ ولا جُرم، فَيَكونُ في ذلِكَ خَرابُ الدُّنيا، وهَلاكُ الخَلقِ، وفَسادُ الحَرثِ وَالنَّسلِ.

أي: إن الابتعاد عن الله تعالى وعدم معرفة أحكامه واتّباعها -التي هي فرع الإقرار به تعالى- يلزم منه خراب الدنيا وهلاك الخلق والنسل، وقد تمت الإشارة إلى ذلك في بعض الواقعيات والأحاسيس المتقدمة، التي تولد ضرورة الارتباط بالسماء.

ثم يقول الإمام (عليه السلام):

ومِنها: أَنَّ الله عزّ وجلّ حَكيمٌ، ولا يَكونُ الحَكيمُ ولا يُوصَفُ بِالحِكمَةِ إِلاّ الَّذي يَحظُرُ الفَسادَ ويَأمُرُ بِالصَّلاحِ ويَزجُرُ عَنِ الظُّلمِ ويَنهى عَنِ الفَواحِشِ، ولا يَكونُ حَظرُ الفَسادِ وَالأَمرُ بِالصَّلاحِ وَالنَّهيُ عَنِ الفَواحِشِ إِلاّ بَعدَ الإِقرارِ بِاللهِ ومَعرِفَةِ الآمِرِ وَالنَّاهي؛ فَلَو تُرِكَ النَّاسُ بِغَيرِ إِقرار بِاللهِ ولا مَعرِفَة لَم يَثبُت أَمرٌ بِصَلاح، ولا نَهيٌ عَن فَساد؛ إِذ لا آمِرَ ولا ناهِيَ.

أي: إن الحكمة تقتضي إطلالتها ووصلها للخلق، ولا تنسجم مع السكوت والصمت المطلق، فالحكمة تقتضي بيان الفاسد من الصالح، والأمر والنهي، وإلا فكيف يكون الحكيم حكيمًا؟!

ص: 314

ثم قال (عليه السلام):

ومِنها: أَنّا قَد وَجَدنَا الخَلقَ قَد يَفسُدونَ بِأُمور باطِنَة مَستورَة عَنِ الخَلقِ، فَلَولاَ الإِقرارُ بِاللهِ وخَشيَتُهُ بِالغَيبِ لَم يَكُن أَحَدٌ إِذا خَلا بِشَهوَتِهِ وَإِرادَتِهِ يُراقِبُ أَحَداً في تَركِ مَعصِيَة وَانتِهاكِ حُرمَة وَارتِكابِ كَبيرَة، إِذا كانَ فِعلُهُ ذلِكَ مَستوراً عَنِ الخَلقِ بِغَيرِ مُراقِب لأِحَد فَكانَ يَكونُ في ذلِكَ هَلاكُ الخَلقِ أَجمَعينَ، فَلَم يَكُن قِوامُ الخَلقِ وصَلاحُهُم إِلاّ بِالإِقرارِ مِنهُم بِعَليم خَبير يَعلَمُ السِّرَّ وأَخفى، آمِرٌ بِالصَّلاحِ، ناه عَنِ الفَسادِ، ولا يَخفى عَلَيهِ خافِيَةٌ؛ لِيَكونَ في ذلِكَ انزِجارٌ لَهُم يَخلون بِهِ مِن أَنواعِ الفَسادِ.

بمعنى: أن توفير وتفعيل الرقيب الذاتي هو أحد الخلفيات والمناشئ للنبوة والإيمان بالله تعالى.

ثم يقول (عليه السلام):

فإن قال قائل: فلم أوجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة؟

قيل: لأنَّهُ لَمّا لَم يَكُن في خَلقِهِم وقُواهُم ما يُكمِلونَ بِهِ مَصالِحَهُم، وكانَ الصّانِعُ مُتَعالِياً عَن أن يُرى، وكانَ ضَعفُهُم وعَجزُهُم عَن إدراكِهِ ظاهِراً؛ لَم يَكُن بُدٌّ لَهُم مِن رَسول بَينَهُ وبَينَهُم، مَعصوم، يُؤَدّي إلَيهِم أمرَهُ ونَهيَهُ وأدَبَهُ، ويَقِفُهُم عَلى ما يَكونُ بِهِ اجتِرارُ مَنافِعِهِم ودَفعُ مَضارِّهِم، إذ لَم يَكُن في خَلقِهِم ما يَعرِفونَ بِهِ ما يَحتاجونَ إلَيهِ مِن مَنافِعِهِم ومَضارِّهِم. فَلَو لَم يَجِب عَلَيهِم

ص: 315

مَعرِفَتُهُ وطاعَتُهُ، لَم يَكُن لَهُم في مَجيءِ الرَّسولِ مَنفَعَةٌ ولا سَدُّ حاجَة، ولَكانَ يَكونُ إتيانُهُ عَبَثاً لِغَيرِ مَنفَعَة ولا صَلاح، ولَيسَ هذا مِن صِفَةِ الحَكيمِ الَّذي أتقَنَ كُلَّ شَيء...

ص: 316

المسألة الرابعة: مؤهلات النبي
اشارة

لا شك أن الارتباط بالسماء ليس متاحًا لأي أحد، ولا شك أن الذي يرتبط بالسماء له من الكمالات ما ليست لغيره، إذ إنه منصب عظيم جدًا، وإليه تشرئبّ الأعناق، وهو أعظم من أي منصب في الدنيا، كيف وهو منصب الارتباط المباشر بالخالق جل وعلا، وهذا يعني: أن النبي لا بد أن يكون أفضل من غيره، وإلا لزم تقديم المفضول على الفاضل.

وعلى هذا، فيلزم أن يتصف المبعوث بمواصفات خاصة، تؤهله لهذا المنصب، بل يلزم أن تكون مواصفاته استثنائية بمعنى الكلمة، والمواصفات التي نعتبر توفرها في المبعوث تتلخص بالعصمة، والتي لا تكون إلا عن العلم الخاص في أعلى مراتبه الممكنة، والعلم كلما زاد فإن القدرة تزيد معه، إذ التناسب بين العلم والقدرة طردي(1)، على أنه يلزم أن يكون المبعوث مؤيدًا بالمعجزة، التي تكشف عن ارتباطه بالسماء كشفًا قطعيًا.

إذن: العصمة، والعلم الخاص، والقدرة الخاصة، والمعجزة، هي ما يلزم

ص: 317


1- سيأتي تفصيل هذه المعاني أكثر في الأصل الرابع (الإمامة) في مبحث مقدمات الإمامة العامة إن شاء الله تعالى.

توفره في المبعوث عن الله تعالى.

وسنتحدث هنا عن العصمة وما يلازمها، ثم ننتقل إلى الحديث عن المعجزة إن شاء الله تعالى، والحديث سيكون إجماليًا، والتفاصيل في محلها.

أولًا: العصمة
اشارة

إن من المتفق عليه هي ضرورة العصمة في النبي –على اختلاف في حجمها ومقدارها وأنها في كل زمن وجود النبي أو في فترة الرسالة فقط أو في لحظة التبليغ فقط، آراء في المسألة-

ونحن –أتباع أهل البيت (عليهم السلام)- تبعًا لأئمتنا (عليهم السلام) نقول بضرورة العصمة في كل عمر النبي منذ ولادته وإلى وفاته.

فما هي العصمة؟ ولماذا هي ضرورة؟

إن العصمة باختصار تعني -لغة واصطلاحاً- المنع، وأن مفهومها عند الكل هو الامتناع عن المعاصي، فالمعصوم هو من يمتنع عن المعصية، فلا يقترب إليها عمدًا بل ولا سهوًا ولا خطأً.

قال الشيخ المظفر (رحمه الله تعالى): هي التنزه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها ، وعن الخطأ والنسيان ، وإن لم يمتنع عقلا على النبي أن يصدر منه ذلك بل يجب أن يكون منزها حتى عما ينافي المروة ، كالتبذل بين الناس من أكل في الطريق أو ضحك عال ، وكل عمل يستهجن فعله عند

ص: 318

العرف العام.(1)

وقال المحقق الجرجاني المتوفى ( 816 ه ) في كتاب التعريفات : العصمة ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها.(2)

غايته أن الأشاعرة ذهبوا إلى معنىً في العصمة يؤدي إلى أن يكون المعصوم مجبوراً على ترك المعصية، فهو لا يستطيع فعل المعصية، لذلك صار معصومًا، أما مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فذهبوا إلى أن العصمة هي مانع من المعصية، رغم وجود القدرة على فعلها، فالمعصوم ما زال يقدر على فعل المعصية تمامًا، ولكنه باختياره لا يفعلها، لأنه معصوم، وأن نفس النبي نفس إنسانية ما زالت تحمل القوى التي يمكن أن تواقع المعصية، وتقتضي صدور المعاصي من النبي كما تصدر من عامة الناس، ولكن لوجود المانع (العاصم) فلا تقترب نفس النبي من المعصية.(3)

وهذا هو أسلوب الدين والتشريع في تربية المجتمع، فلم يكن الدين

ص: 319


1- عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر (رحمه الله) – عقيدتنا في عصمة الأنبياء- ص 54.
2- التعريفات : 65 ، الطبعة الأولى ، طهران . ونقله عنه الشيخ السبحاني في محاضرات في الإلهيات ص 280.
3- وبهذا يُفسر ما حكاه القرآن الكريم عن النبي يوسف (عليه السلام) بقوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأىٰ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف 24] فالمعنى: أنه رأى برهان ربه فلم يهم بها، والبرهان هي العصمة، وهو ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في جوابه للمأمون حيث قال (عليه السلام) له: همت به، ولولا أنْ رأى برهان ربه لهمّ بها كما همّت به، لكنه كان معصوماً، والمعصوم لا يهمُّ بذنب ولا يأتيه، ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق أنه قال: همّت بأن تفعل، وهمّ بأنْ لا يفعل. [الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 221]

ليقتلع الغرائز من نفس الإنسان، كيف وبها تستمر الحياة وتتطور، ولكنه يقنّنها ويمنعها من تجاوز حدود رسمها الشارع بما يتناسب مع الفطرة الإنسانية القويمة.

والملاحظ من خلال هذا البيان أن العصمة تبدأ من مبدأ مهم يمثل الأساس لها هو: العلم، فالعلم هو الأساس الذي تقوم عليه العصمة، والمعصوم يتمتع بالعلم الخاص اللدني.

وحيث إن للعلم مراتب، فللعصمة مراتب تبعاً لقوة العلم ومدى العمل على وفقه. فكلما قوي العلم وقوي العمل وفق العلم، ازدادت قوة العصمة والامتناع الاختياري عن المعصية، وهذا ما يبرر لنا وجود عصمة من أول الخط إلى نهايته (كما في الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).) ووجود عصمة متقطعة أو مؤقتة، كما يحصل عند بعض الناس على اختلاف في فترات الاعتصام والامتناع عن المعصية.

على أن العلم يقتضي وجود القدرة التي تزيد بزيادته، ولذلك رأينا أن للمعصوم قدرات غيبية لا يمكن لغيره أن يتصف بها، فنفس العلم الشامل هي قدرة، والمعجزة –كما سيأتي- أيضًا قدرة.

وهذا يعني: أن العلم اللدني الذي يكون لدى المعصوم، يؤسّس لأمرين(1):

ص: 320


1- أما ما يظهر من مثل قصة النبي موسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام)، فقد أجاب العلماء عنها، فلتراجع في مظانها.

الأول: العصمة، بالمعنى المتقدم

الثاني: القدرة.

وهذه القدرة تهيئ المعصوم للتصرف بالكون بمقدار لا يمكن لغيره أن يتصرف به، خصوصًا إذا تذكرنا أن الله تعالى جعل عالمنا عالم أسباب ومسببات، وأن الإنسان لوحده لا يمكن أن يدرك أو يعرف كل الأسباب في هذا العالم، ولكن المعصوم لمكان علاقته المباشرة بالسماء، ولمكان علمه الشامل، فإنه سيطّلع على الكثير وربما كل قوانين هذا العالم، وبالتالي إذا عرف الأسباب فيمكنه أن يتصرف بها ليحصل على نتائج لا يمكن لغيره أن يحصل عليها، لأنه يفتقد العلم بالسبب، وبالتالي يفتقد القدرة على التصرف فيه.(1)

وهذه الفكرة ستؤسس للقول بالولاية التكوينية للمعصوم.

ومما يشير إلى هذه الحقائق هو ما روي عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ عِلْمِ الإِمَامِ بِمَا فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ وهُوَ فِي بَيْتِه مُرْخًى عَلَيْه سِتْرُه؟ فَقَالَ (عليه السلام):

يَا مُفَضَّلُ، إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى جَعَلَ فِي النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ:

رُوحَ الْحَيَاةِ، فَبِه دَبَّ ودَرَجَ.

ورُوحَ الْقُوَّةِ، فَبِه نَهَضَ وجَاهَدَ.

ص: 321


1- وأما أن المعصوم لماذا لم يستعمل المعجزة لدفع الأعداء وما شابه، فهو ما سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر مباحث الإمامة.

ورُوحَ الشَّهْوَةِ، فَبِه أَكَلَ وشَرِبَ وأَتَى النِّسَاءَ مِنَ الْحَلَالِ.

ورُوحَ الإِيمَانِ، فَبِه آمَنَ وعَدَلَ.

ورُوحَ الْقُدُسِ، فَبِه حَمَلَ النُّبُوَّةَ.

فَإِذَا قُبِضَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) انْتَقَلَ رُوحُ الْقُدُسِ فَصَارَ إِلَى الإِمَامِ، ورُوحُ الْقُدُسِ لَا يَنَامُ ولَا يَغْفُلُ ولَا يَلْهُو ولَا يَزْهُو [الرجاء الباطل والكذب والاستخفاف]، والأَرْبَعَةُ الأَرْوَاحِ تَنَامُ وتَغْفُلُ وتَزْهُو وتَلْهُو، ورُوحُ الْقُدُسِ كَانَ يَرَى بِه [يعني ما غاب عنه في أقطار الأرض وما في عنان السماء وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى.](1)

فالأرواح الثلاثة الأولى موجودة عند كل البشر، ويشتركون بها جميعًا، حتى الأنبياء، وأما الروح الرابعة فهي لا تشمل الجميع، وإنما تخص من آمن وكان عادلًا، وأما الخامسة فهي لا تشمل إلا خاصة الخاصة، إذ بها يتهيأ الإنسان ليحمل روح النبوة، والخامسة هي ما تعطي للمعصوم القدرة العلمية وبالتالي القدرة العامة على الكون، بحيث تعطيه القدرة على العلم بما تحت الأرض وما فوق الثرى، وهذه الروح كما تكون عند النبي، تكون عند المعصوم الذي يكون خليفة له ووصيًا عنه، ولا يلزم منها أن يكون المعصوم نبيًا، لأن النبوة جعل إلهي، وهو غير القدرة المذكورة.

ص: 322


1- الكافي للكليني ج1 ص 272 بَابٌ فِيه ذِكْرُ الأَرْوَاحِ الَّتِي فِي الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح3. وما بين المعقوفين من هامش المصدر.
ضرورة العصمة
اشارة

إن هذا المعنى من العصمة أمر ضروري في النبي، ولا يمكن أن نتصور نبيًا أو مبعوثًا من الله تعالى وهو غير معصوم، الأمر الذي يعني احتمال ارتكابه للخطأ أو الذنب عمدًا، وعلى الأقل احتمال ذلك منه خطأً أو سهوًا، وهذا يؤدي إلى ذهاب فائدة النبوة، وقد ذكروا عدة بيانات لهذا المعنى نذكر منها التالي(1):

أنّ مسؤوليّة الأنبياء ليست تلقّي الوحي الإلهيّ وإبلاغه للناس فحسب، بل إنّهم يتولّون أيضاً مهمّة تربية الناس وتزكيتهم. يقول الله سبحانه وتعالى على لسان النبيّ إبراهيم (عليه السلام): ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(2).

﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(3).

كما يؤاخذ الله سبحانه المؤمنين بالأقوال غير المشفوعة بالأعمال ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾(4).

ولو لم يتمتّع الأنبياء الإلهيّون بالعصمة في العمل، وتورّطوا في أوحال

ص: 323


1- انظر: الكلام الإسلامي المعاصر ج2 ص 180 – 181.
2- سورة البقرة: 129.
3- سورة آل­عمران: 164.
4- سورة الصفّ: 2 و3.

الذنوب والمعاصي، فلا شكّ في أنّ تربية الناس وتزكيتهم لا تتحقّقان، ولا تتمّ بذلك مهمّتهم(1).

فلا يمكن - إذن - تربية البشر وتزكيتهم حتّى البلوغ بهم إلى الكمال الحقيقيّ من دون معلّمين صالحين ومحصّنين من دنس المعاصي والأخطاء.

إشارتان:

الإشارة الأولى: الفرق بين العصمة والعدالة

ذكر السيد الطهراني في تعليقته(2) على التجريد عدة فروق بين العصمة والعدالة، نعرضها للاطلاع:

1/إن العدالة في مرتبة روح الإيمان التي ذكرتها الرواية السابقة، والعصمة في مرتبة روح القدس. وهذا يمثل واحداً من تفسيرات تلك

ص: 324


1- المغني، القاضي عبدالجبّار، ج 15، ص 303.
2- انظر: توضيح المراد: تعليقة على شرح تجريد الاعتقاد- السيد هاشم الحسيني الطهراني- ج1 ص 649، حيث قال ما نصه: ثم الظاهر من هذا الحديث أن العدالة في مرتبة روح الإيمان ، والعصمة في مرتبة روح القدس ، ويفرق بينهما أيضاً بأن صاحب العصمة يبغض المعاصي والخطايا ويتأذى بوقوعها من غيره كما ينطق به الأخبار، وأما صاحب العدالة فليس كذلك بل امتناعه في كثير من الأحوال لخوفه من عقابه تعالى، وإن حصل لبعض الورعين المتقين كراهة لبعض المنكرات، وبأن صاحب العصمة يمتنع عن الارتكاب مع علمه بتفاصيل العلل والأسرار، وصاحب العدالة من المؤمنين يصبر مع عدم علمه بما في كف نفسه عن المحرمات من الحكم والأسرار، وبأن صاحب العصمة حجة بين الله وبين عباده، وصاحب العدالة بالغاً ما بلغ ليس بحجة كذلك ، وبأن العصمة كالنبوة موهبة من الله عز وجل، لا تحصل بالرياضة والاكتساب، والعدالة تحصل بذلك ، وبأن العصمة لذلك لا تزول والعدالة يمكن زوالها ، وبعروض السهو والخطأ وغيرهما لصاحب العدالة دون صاحب العصمة، كما يظهر من الحديث المذكور.

الرواية.

2/ إن صاحب العصمة يبغض نفس المعاصي والخطايا ويتأذى بوقوعها من الغير، نعم هو يتركها خوفًا من الله تعالى، ولكن لو فرضنا –من باب فرض المحال- أن الله تعالى لم يحرم المعاصي، لترَكَها المعصوم أيضاً؛ لأنه يبغض نفس المعصية بما هي معصية، وليس كذلك صاحب العدالة، إذ إن امتناعه في كثير من الأحوال نابع من خوفه من الله تعالى، وإن حصل لبعض الورعين والمتقين كراهة لبعض المنكرات.

3/صاحب العصمة يمتنع عن الارتكاب مع علمه بتفاصيل علل وأسرار المحرّم، أي إنه يعلم العلل الواقعية للحرمة، أما صاحب العدالة فيمتنع مع عدم علمه بذلك.

4/ صاحب العصمة حجة بين الله تعالى وعباده، وصاحب العدالة بالغاً ما بلغ لا يكون كذلك.

5/ إن العصمة كالنبوة، موهبة من الله تعالى ولا تحصل بالرياضة والاكتساب(1)،

نعم هي من المقدمات غير الاختيارية التي يهبها الله تعالى للمعصوم حيث علم منه الإرادة الجادة للوصول إلى هذا المقام، كما تقدم بيان هذا الأمر، والعدالة تحصل بالاكتساب والرياضة والمجاهدة.

6/ ويتفرع على الفرق الخامس أن العصمة لا تزول، أما العدالة فيمكن

ص: 325


1- وهذا لا ينافي اختيار المعصوم كما بُيّن في محله.

أن تزول، وحتى وإن أصبحت ملكة، غايته يكون زوالها ببطيء.

7/ إن العصمة لا يعرضها الخطأ ولا النسيان ولا السهو، والعدالة ليست كذلك.

الإشارة الثانية: ما يتفرع على إثبات العصمة للنبي

إن ثبوت العصمة في الوسيط بيننا وبين السماء وكونها أمرًا ضروريًا فيه، يثبت الأمور التالية:

1- إثبات واقعية الدين وعدم مثاليته، بحيث يمكن للإنسان أن يحقق الأطروحة الإسلامية بحذافيرها وليست مجرد نموذجيات ومثاليات غير قابلة للتطبيق، لأن العصمة تعني مطابقة الواقع تمامًا، أي إن المعصوم يأتي بأمور هي غاية في الواقعية، والواقع يمكن تطبيقه.

2- القضاء على السفسطة، إذ إن كل القضايا النظرية والشكّية لا بد أن تصل إلى اليقين والقطع حتى يمكن أن تكون حاكية عن الواقع من دون تردّد ولا شك، وبدون فرضية ضمان المطابقة نقع في إشكالية بقاء الانسان يتراوح بين احتمالين، وأن ما وصل إليه هل هو من توليفات الذهن أو إنه أمر واقعي، والعصمة حيث إنها تعني ضمان المطابقة للواقع وعدم الاشتباه فيه، إذن هي توفّر لنا ضمان المطابقة للواقع. وبالتالي تنقطع السفسطةُ وعدمُ ضمان إصابة الواقع.

3- ضمان الوثاقة بشخص الوسيط، فلو كان هناك مجال للخطأ والاشتباه

ص: 326

في أقوال أو أفعال النبي (صلى الله عليه وآله) لبقي المتلقي متردّدا في معلومته، ولكن حيث كان معصومًا، إذن سيكون المخاطب مطمئنًا تمامًا بعدم خطأ النبي أو الإمام (الوسيط عمومًا بيننا وبين السماء).

ثانيًا: المعجزة
اشارة

إن من أهم مثبتات صدق البعثة والمبعوث هي المعجزة، والتي تعني باختصار: قدرة المعصوم على أن يتصرف بالكون بما لا يمكن لغيره أن يتصرف به مثله، وهي ليست سحرًا، لأن السحر هو أحد العلوم التي يمكن أن يكتسبها الإنسان بالتعلم، على أن الساحر إنما يتصرف ببعض الأمور التي يتقنها هو، ولا يستطيع أن يتجاوز ما أتقنه بالتعلم، أما المعجزة فإنها قدرة غيبية تأتي على خلفية العلم اللدني الخاص لدى المعصوم، والذي يفرز له قدرة بالتصرف في قوانين هذا العالم مما لم يصل إليها عامة الناس، الأمر الذي يعني أن قدرات المعصوم لا تتوقف عند حد، وإنما يمكنه أن يتصرف بما لا إحصاء له من الأفعال الخارقة للعادة وللمألوف من التصرفات بين الناس، الأمر الذي يتجاوز معرفة اللغات المتنوعة وشفاء المرضى إلى إحياء الموتى بل وإلى شق القمر!

وهنا إشارات:

الإشارة الأولى: المعجزة إحدى طرق الإثبات

إن المعجزة هي طريق إثباتي لكل من يدّعي الارتباط بالسماء ويطلب من غيره أن يتبعه باعتباره ممثلًا للسماء، حتى لو كان المدّعى هي الإمامة أو

ص: 327

السفارة الخاصة عن المعصوم.

نعم، لا ينحصر الطريق الإثباتي بها، إذ إن من الطرق على ذلك هو تنصيص النبي السابق على النبي اللاحق، كما في النبي عيسى (عليه السلام) حيث بشّر بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، قال تعالى (وَإِذْ قالَ عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(1)

ولتأكيد هذا الطريق قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(2)

ولكن رغم هذا فإن المعجزة هي أوضح طريق، ولا يقبل التشكيك من قبل العقلاء، على أنه قد يكون طريقًا منحصرًا في بعض الأحيان، كما لو ادّعى أحدٌ كونه وصياً لرسول الله (صلى الله عليه وآله).(3)

ص: 328


1- الصف 6.
2- الأعراف 157.
3- مع الالتفات إلى إنه إن كانت الدعوى قابلة للتصديق في حدّ نفسها، حينها يكون طلب المعجزة موضوعياً، كما لو ادّعى أحد النبوة قبل مجيء النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أو ادّعى الإمامة خلافةً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) زمن حضور الأئمة (عليهم السلام)، أو ادّعى أحد السفارة بعد الصيحة والسفياني. أما لو كانت الدعوى باطلة في حدّ نفسها، أي إنه يُعلم من الخارج أنها باطلة ولا يمكن أن تكون صادقة، فلا حاجة لطلب المعجزة، بل الحكم هو تكذيبها مباشرة، كما لو ادّعى أحد الألوهية، أو النبوة بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أو كونه الإمام الثالث عشر لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، أو السفارة قبل الصيحة والسفياني. اللهم إلا أن يُقصد تعجيز المدّعي وإظهار كذبه، فلا مشكلة حينها في طلب المعجزة، ومن ذلك ما رواه الشيخ الطوسي (في الغيبة ص 401 و 402 ح 376): لما أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلاج ويظهر فضيحته ويخزيه، وقع له أن أبا سهل إسماعيل بن علي النوبختي (رضي الله عنه) ممن تجوز عليه مخرقته وتتم عليه حيلته، فوجه إليه يستدعيه وظن أن أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الامر بفرط جهله، وقدر أن يستجره إليه فيتمخرق (به) ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتب له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحله من العلم والأدب أيضا عندهم، ويقول له في مراسلته إياه: إني وكيل صاحب الزمان عليه السلام - وبهذا أولا كان يستجر الجهال ثم يعلو منه إلى غيره - وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الامر. فأرسل إليه أبو سهل رضي الله عنه يقول له: إني أسألك أمرا يسيرا يخف مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أني رجل أحب الجواري وأصبو إليهن، ولي منهن عدة أتحظاهن والشيب يبعدني عنهن [ ويبغضني إليهن ] وأحتاج أن أخضبه في كل جمعة، وأتحمل منه مشقة شديدة لأستر عنهن ذلك، وإلا انكشف أمري عندهن، فصار القرب بعدا والوصال هجرا، وأريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإني طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة. فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جوابا، ولم يرسل إليه رسولا، وصيره أبو سهل رضي الله عنه أحدوثة وضحكة ويطنز به عند كل أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سببا لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه.
الإشارة الثانية: مستويات الأفعال من حيث العلم بعللها

للأفعال ثلاثة مستويات من حيث العلم بعللها:

1/مستوى يكون الفعل فيه معلوم العلل وممكناً لكل أحد، كما هو حال الأفعال الاختيارية اليومية التي يقوم بها الجميع، وكما في علاج الأمراض المعينة من خلال معرفة سبب المرض ومعرفة العلاج المناسب له، وهكذا.

2/ مستوى يكون الفعل غير معلوم العلل لكنه ضمن قوانين الطبيعة،

ص: 329

بمعنى أنه وإن اختص به البعض، ولكن يمكن للكل أن يتعلموا أسباب ذلك الفعل ويأتوا به، كالسحر والشعبذة (أو الشعوذة).

3/ ومستوى يكون الفعل غير معلوم الأسباب وخارج نطاق الأسباب الطبيعية ولا يمكن لأي أحد أن يأتي به أو يتعلمه - إلا إذا كان عنده اتصال بالغيب -، والمعجزة لا تكون إلا من المستوى الأخير، حتى يمكن أن تكون دليلاً على مدّعي النبوة...

الإشارة الثالثة: كيف تدل المعجزة على صدق المدّعي؟

إن المعجزة تحمل في مضمونها الدلالة على صدق مدّعي النبوة، مما يعني أن أي مدّعٍ للارتباط بالسماء، فإن عليه أن يقيم دليل صدق على ذلك، ومن أول ما يدلّ على ذلك هي المعجزة.

أما كيف تدل المعجزة على صدق المدّعي للنبوة؟

فهذا ما بيّنه السيد الخوئي (قدس سره) بقوله:

وإنما يكون الإعجاز دليلًا على صدق المدّعي، لأن المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلا بعناية من الله تعالى، وإقدار منه، فلو كان مدّعي النبوة كاذبًا في دعواه، كان إقداره على المعجز من قبل الله تعالى إغراءً بالجهل وإشادةً بالباطل، وذلك محالٌ على الحكيم تعالى. فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه، وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته.

ص: 330

وما ذكرناه قاعدة مطّردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور، ولا يشكّون فيها أبدًا، فإذا ادّعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختصّ برعيته، كان من الواجب عليه أولًا أن يقيم على دعواه دليلًا يعضدها، حين تشك الرعية في صدقه، ولا بدّ من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح، فإذا قال لهم ذلك السفير: الشاهد على صدقي أن الملك غدًا سيحيّيني بتحيته الخاصة التي يحيي بها سفراءه الآخرين. فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعية، ثم حيّاه في الوقت المعيّن بتلك التحية، كان فعل الملك هذا تصديقًا للمدّعي في السفارة، ولا يرتاب العقلاء في ذلك؛ لأن الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدّق هذا المدعي إذا كان كاذبًا، لأنه يريد إفساد الرعية.

وإذا كان هذا الفعل قبيحاً من سائر العقلاء، كان محالًا على الحكيم المطلق، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله في كتابه الكريم: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)(1)

والمراد من الآية الكريمة: أن محمدًا [صلى الله عليه وآله] الذي أثبتنا نبوته، وأظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يتقوّل علينا بعض الأقاويل، ولو صنع ذلك لأخذنا منه باليمين، ولقطعنا منه الوتين، فإن سكوتنا عن هذه الأقاويل إمضاء منّا لها، وإدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة

ص: 331


1- الحاقة 44 – 46.

البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث.(1)

الإشارة الرابعة: ما يلزم من جريان المعجزة على يد أحد

عرفنا أن من أهم خصائص المعجزة هي كونها خارقة للعادة، وهذا الخرق للعادة يسري ليكشف عن أنّ مَن جرت المعجزة على يديه أيضاً شخص خارق للعادة، لأنه علة للمعجزة بشكل وبآخر بإذن الله وأمره، وهذا يلزم منه:

أ / أن من جرت المعجزة على يديه هو على ارتباط مباشر بالسماء.

ب/ أن ثبوت المعجزة لأحد (أعم من كونه نبياً أو إماماً) ينعكس على علاقة الأمة به، أي إنه يُثبت نوعاً من أنواع الحجية على عامة البشر، مما يعني أن المعجزة ليست مأْثرة شخصية وحسب، وإنما هي كاشف عن مقام الحجية، ذلك لأن جريان المعجزة يلازم العصمة، التي تعني كون المعصوم -قولاً وفعلاً وتقريراً- مضمون الحقانية والمطابقة للواقع، فيحصل القطع واليقين بمطابقة ما يأتي به للواقع المأمور به، فيلزم اتباعه.

الإشارة الخامسة: النبوة إحدى روافد المعرفة

لا تتلخص دعوى النبي بأمور تعبدية، ولا تلغي العقل، وإنما هي تحتوي في كثير من الأحيان على مقولات مستدلة، كما في قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}(2)

ص: 332


1- البيان في تفسير القرآن ص 35 – 36.
2- (22) سورة الأنبياء.

{مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(1)

نعم، يمكن اعتبار قول النبي حداً أوسطاً ودليلًا لإثبات كل المقولات الدينية، لأنه معصوم ومؤيد بالمعجزة، إلا أنه لم يلغ الاستدلال العقلي لمقولات الدين العقلية، كما لم يلغ التجربة في مساحة التجربة، ولم يلغ الحس القانوني في مساحته...

وباختصار: النبي ليس بديلاً عن قنوات المعرفة والعمل، بل هو قناة إضافية ترشد وتُمكّن تلك القنوات من عملها الصحيح وتضيف إليها ما هو ضرورة...

الإشارة السادسة: المعجزة تخرق العادة لا العقل

إنّ المعجزة عمل خارق للعادة؛ وليس خارقاً للعقل، فلا تتعارض المعجزات مع الأحكام العقليّة؛ مثل استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين؛ فليس شفاء الأعمى وتبديل العصا إلى ثعبان ونقل عرش بلقيس في لمحة بصر، ممّا يخالف البديهيّات العقليّة.(2)

الإشارة السابعة: عدم تعارض المعجزة مع نظام العلّية

لا يتعارض الإعجاز مع مبدأ العلّيّة (قانون السببيّة)؛ فإنّ العقل البديهيّ يحكم بأنّ تحقُّق كلّ ظاهرة من الظواهر بحاجة إلى علّة. والعلّة القريبة لظاهرة

ص: 333


1- (91) سورة المؤمنون.
2- الكلام الإسلامي المعاصر ج2 ص129.

ما، مادّيّة تارةً، ومجرّدة وغير مادّيّة تارة أخرى. وتعود نشأة ظاهرة ما تارة إلى العلّة المادّيّة الظاهرة، وإلى العلّة الخفيّة تارة أخرى. ولا شكّ في أنّ معجزات موسى وعيسى (عليهما السلام) تسري عليها قاعدة العلّيّة، وهي منبثقة من علّة؛ لكن ليس العلّة المادّيّة الاعتيادية التي هي واضحة عند الجميع.(1)

وإنما هي علة خفيتْ على عامة الناس، لكن المعصوم اطّلع عليها بإذن الله تبارك وتعالى.

ص: 334


1- الكلام الإسلامي المعاصر ج2 ص129.

المبحث الثاني: النبوة الخاصة

اشارة

ويُقصد منه البحث عن خصوص نبوة نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله).

وهنا نقاط أربعة:

النقطة الأولى: إثبات نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)

النقطة الثانية: عصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

النقطة الثالثة: في أنه (صلى الله عليه وآله) كان أمّيًا.

النقطة الرابعة: النبوة الخاتمة.

ص: 335

ص: 336

النقطة الأولى: إثبات نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
اشارة

يمكن إثبات نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله) من خلال عدة طرق نذكر منها التالي:

الطريق الأول: المعجزة

وأشهر معجزاته (صلى الله عليه وآله) هي معجزته الخالدة ودستور الأمة: القرآن الكريم، ولإعجازه جهات متعددة أهمها: البلاغة التي عجز عن مجاراتها أبلغ العرب في وقته، بالإضافة إلى الإخبارات الغيبية وغيرها مما ذكروه في محله.

قال ابن شهر آشوب في مناقبه: وكان له معجزات لم يكُنَّ لغيره، وذُكر أن له أربعة آلاف وأربعمائة وأربعين معجزة، ذُكرت منها ثلاثةُ آلاف تتنوع أربعة أنواع، ما كان قبله وبعد ميلاده وبعد بعثته وبعد وفاته، وأقواها وأبقاها القرآن...(1)

وقد روي أنَّه عندما نزلت بعض سور القرآن الكريم، فإنَّ قريشاً استحيوا من القصائد المعلَّقات التي كانت على جدار الكعبة، والتي كانوا يعتبرونها القمَّة في البلاغة والفصاحة وأداء المعنى وجزالة الأُسلوب. فأنزلوها لما رأوا

ص: 337


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج1 ص125.

من بلاغة تلك السور، وخوفاً من الفضيحة.(1)

الطريق الثاني: بشارات الأنبياء السابقين

وهذا ما أكده القرآن الكريم كما تقدم، حيث بشّر به النبي عيسى (عليه السلام) وغيره من الأنبياء.

ومما يؤكد هذا المعنى ما قاله النجاشي للمسلمين الذين هاجروا إلى بلده، حيث روي أنه دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟... وكان الذي يكلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، إنا كنا قومًا أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكُنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمَرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة... فعدّد له أمور الاسلام، فصدّقناه وآمنا به واتّبعناه، فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل

ص: 338


1- نُقِلَ هذا المعنى عن السيِّد عبد الله شبَّر في كتابه حقُّ اليقين 1: 113؛ وذكره السيِّد حسن الشيرازي في كتابه الإمام المهدي نظرة وجيزة شاملة، وهو مقدّمة كتابه كلمة الإمام المهدي عليه السلام: 32.

ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

قالت [أم سلمة]: فقال: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قال: نعم؟ قال: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدراً من (كهيعص)، فبكى والله النجاشي حتى أخضلّ لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تُلي عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا [مخاطبًا: عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص السهمي]، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا ولا أكاد.(1)

الطريق الثالث: شخصية النبي الأكرم (صلى الله عليه آله) نفسه

إن التأمل في نفس شخصية النبي (صلى الله عليه وآله) وما اتصف به من مواصفات، وما كان عليه من قوة في دينه وثبات على مبدئه، يكشف للعاقل الذي يبحث عن الحقيقة أنه (صلى الله عليه وآله) كان على حق في دعواه، وأنه من الأشخاص الذين يمتنع أن يوصفوا بالكذب، وإن لم يأت بمعجزة أو لم يكن عليه نص سابق، وهذا ما تؤكده بعض النصوص، كما يظهر ذلك بشكل جلي من رواية دحية الكلبي قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكتاب إلى قيصر، فأرسل إلى الأسقف فأخبره بمحمد (صلى الله عليه وآله) وكتابه فقال: هذا النبي الذي كنا ننتظره، بشرنا به عيسى بن مريم.

ص: 339


1- سير أعلام النبلاء للذهبي ج1 ص 432 – 433.

فقال الأسقف: أما أنا فمصدقه ومتبعه. فقال قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي. ثم قال قيصر: التمسوا لي من قومه ها هنا أحدا أسأله عنه.

وكان أبو سفيان وجماعة من قريش دخلوا الشام تجارا فأحضرهم، قال: ليدنُ مني أقربكم نسبا به. فأتاه أبو سفيان فقال: أنا سائل عن هذا الرجل الذي يقول: إنه نبي. ثم قال لأصحابه: إن كذب فكذبوه.

قال أبو سفيان: لولا الحياء أن يأثر أصحابي عني الكذب لأخبرته بخلاف ما هو عليه.

فقال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: ذو نسب.

قال: فهل قال هذا القول منكم أحد؟ قلت: لا.

قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل؟ قلت: لا.

قال: فأشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قلت: ضعفاؤهم.

قال: [ فهل ] يزيدون أو ينقصون؟ قلت: يزيدون.

قال: يرتد أحد منهم سخطًا لدينه؟ قلت: لا.

قال: فهل يغدر؟ قلت: لا.

قال: فهل قاتلكم؟ قلت: نعم.

قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت: ذو سجال، مرة له، ومرة عليه.

ص: 340

قال: هذه آية النبوة. قال: فما يأمركم؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصوم والعفاف والصدق وأداء الأمانة والوفاء بالعهد.

قال: هذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أنه يخرج ولم أظن أنه منكم، فإنه يوشك أن يملك ما تحت قدمي هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقياه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه.

وإن النصارى اجتمعوا على الأسقف ليقتلوه فقال: اذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه سلامي، وأخبره أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن النصارى أنكروا ذلك علي. ثم خرج إليهم فقتلوه.(1)

ص: 341


1- الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص 131 – 132 ح 217.

ص: 342

النقطة الثانية: عصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
اشارة

تقدم أن من المؤهلات الضرورية في النبي والواسطة بين السماء والأرض هي العصمة، والتي تعني فيما تعنيه أن يكون عند المعصوم علم لدني، يولّد قدرة خارقة وولاية تكوينية للمعصوم، في الوقت الذي لا تسلب منه إرادته في تركه للمعاصي، بل إنه ما زال قادرًا على فعل المعصية، إلا أنه باختياره يتركها.

في ما يتعلق بنبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فإننا –أتباع أهل البيت (عليهم السلام)- نؤمن بعصمته (صلى الله عليه وآله) مطلقًا، بمعنى أننا نقول بعصمته (صلى الله عليه وآله) منذ أن كان فطيمًا وإلى أن انتقل إلى ربه الأعلى، وفي جميع أمور حياته، سواء في ذلك أمور تبليغ الوحي، أو ممارساته اليومية مع أهله وأصحابه، بل وحتى مع أعدائه، فعصمته مطلقة تمامًا، بخلاف غيرنا، حيث ذهب البعض إلى عصمته (صلى الله عليه وآله) في زمن ما بعد البعثة فقط، بل البعض ذهب إلى عصمته فقط في أمور تبليغ الوحي، وأما في غيرها فهو كسائر الناس، وهذا ما يظهر مما رووه عن عبد الله ابن عمرو، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه [وآله] أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه [وآله] بشر يتكلم في الغضب والرضا؟!

ص: 343

فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه [وآله]، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق).(1)

فهذه الرواية واضحة جدًا في تشكيكهم (مجموعة من قريش وفي حياته صلى الله عليه وآله) بعصمته (صلى الله عليه وآله)، وأنه لا ينبغي أن يؤخذ منه كل ما يقول ويفعل، لأنه بشر عادي.

وعلى كل حال، نذكر هنا خطوتين:

الخطوة الأولى: بعض الآيات الدالة على عصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
اشارة

الخطوة الأولى: بعض الآيات الدالة على عصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)(2).

يمكن لنا أن نقتنص صفة العصمة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من بعض الآيات القرآنية:

أولًا: كل ما يقوله النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو يفعله هو عين الوحي

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى( (3).

إن هذه الآية الشريفة صريحة في أن كل قول لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو مخالف للأهواء النفسية، وأنه من الوحي السماوي، وهو أمرٌ يدلّ على عصمته مطلقاً...

ص: 344


1- سنن أبي داود- سليمان بن الأشعث السجستاني/ج2 ص 167 باب (3) باب في كتاب العلم ح 3646.
2- انظر: أجوبة الشبهات الكلامية ج2 ص 94 – 96 بتصرف قليل.
3- النجم: 3 - 4.
ثانيًا: تطهير أهل البيت (عليهم السلام) من جميع أنواع الرجس والآثام

قال تعالى: ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا( (1).

تتحدّث هذه الآية الشريفة عن أن إرادة الله ومشيئته تعلّقت برفع جميع أنواع الرجس والذنوب عن ساحة أهل بيت النبوة. وإن التعبير ب- ) يُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ (، و) يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (، صريحة الدلالة في إثبات العصمة لأهل البيت :.

والقدر المتيقن من المقصود من (أهل البيت) والمتفق عليه بين الجميع هو شمول الآية الشريفة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بوصفه المصداق الأبرز لأهل بيت النبوّة.

ثالثًا: الضمانة الإلهية بعصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من الضلال

قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: )وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا( (2).

تحكي هذه الآية الشريفة عن سعي أعداء النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى إضلاله، إلا أن صدر الآية يؤكد على أن فضل الله تعالى الخاص ورحمته قد تعلقت

ص: 345


1- الأحزاب: 33.
2- النساء: 113.

بصيانته (صلى الله عليه وآله) وعصمته من الضلال، كما تؤكد الآية على أن أعداء النبي لن يتمكنوا من إلحاق الضرر والأذى به (صلى الله عليه وآله) أبداً.

رابعًا: مفهوم الآيات الدالة على الطاعة المطلقة للنبي (صلى الله عليه وآله)

هناك العديد من الآيات الكريمة التي دلت على ضرورة طاعة النبي (صلى الله عليه وآله) بالمطلق، والأمر بطاعته بالمطلق يعني عدم جواز مخالفته في كل ما يقول وما يفعل وما يأمر به، وهذا المعنى لا ينسجم إلا مع عصمته (صلى الله عليه وآله)، وإلا، فلو لم يكن معصومًا، لاحتملنا صدور شيء منه مخالف لما يريده الله تعالى، وبالتالي إن أطعناه وقعنا في معصية الله تعالى، وإن لم نطعه وقعنا في المعصية أيضًا بمخالفة تلك الآيات الآمرة بطاعته مطلقًا، إذن، هذه الآيات الكريمة لا تنسجم إلا مع عصمته المطلقة (صلى الله عليه وآله). إذ (إنّ العقل والعقلاء يحكمون بعدم التبعية والطاعة العمياء لشخص، إلا إذا حصل اليقين بأن الشخص «المطاع» لا يحيد عن الطريق القويم مقدار أنملة، وكان أمره كاشفاً عن المصلحة الواقعية.)(1)

ومن تلك الآيات قوله تعالى )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله( (2).

وقوله تعالى )النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ( (3).

ص: 346


1- انظر: أجوبة الشبهات الكلامية ج2 ص98.
2- النساء: 64.
3- الأحزاب: 6.

وقوله تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ(1).

وقوله تعالى)وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا( (2).

وغيرها من الآيات التي جاءت لتؤكد المعنى المشار إليه.

الخطوة الثانية: بعض الشبهات حول عصمته (صلى الله عليه وآله)
اشارة

الخطوة الثانية: بعض الشبهات حول عصمته (صلى الله عليه وآله)(3):

الشبهة الأولى: نسبة الضلال إليه (صلى الله عليه وآله) في القرآن الكريم
اشارة

يقول تعالى) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى( (4).

قد يدّعي البعض أن هذه الآية تصرح بأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان ضالًا فهداه الله تعالى، مما يعني أنه لم يكن معصومًا.

والجواب:

لو كان للضلال معنى واحد هو الانحراف عن جادّة الصواب والوقوع في المعصية لأمكن أن تصح هذه الشبهة، ولكن وبمراجعة المعاني اللغوية للضلال، نجد أن له عدة معاني، وبعضها ينسجم مع العصمة، وبالتالي نحن

ص: 347


1- النساء: 50. وانظر أيضاً المائدة: 92؛ النور: 54؛ محمد: 33؛ التغابن: 12.
2- النساء: 69.
3- الحديث هنا في النبوة الخاصة، أما ما يتعلق بالآيات التي أثيرت فيها شبهات ضد عصمة الأنبياء، فقد تمت الإجابة عنها من علمائنا وفق روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ولمزيد من التفاصيل يراجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني.
4- الضحى: 6 - 7.

نختار تلك المعاني المنسجمة مع العصمة، والمنسجمة أيضًا مع الأدلة الدالة على عصمته (صلى الله عليه وآله) كالآيات التي تقدمت الإشارة إليها في الخطوة الأولى.

بيانه:

بمراجعة كتب اللغة نجد التالي:

ضلل: تأتي بعدة معاني(1):

1/ عدم الاهتداء إلى الطريق أو المكان أو قل: فَقْدُ ما يُوَصِّل إلى المطلوبِ، أو سُلُوكُ طَرِيقٍ لا يُوَصِّلُ إِلى المَطْلُوبِ، أو هوَ العُدُولُ عن الطريقِ المُسْتَقِيمِ

2/الضياع.

3/ ضَلَّ الشَّيْءُ: إِذا خَفِيَ وغَابَ، ومنهُ ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ، وماء ضلل: يكون تحت الصخرة لا تصيبه الشمس. ويُقالُ: ضَلَّ الكافِرُ، إِذا غَابَ عن الحُجَّةِ، وضَلَّ النَّاسِي، إذا غابَ عنهُ حِفْظُهُ.

4/ الضالة من الإبل: ما يبقى بمضيعة لا يُعرف ربها. يقال: أَضْلَلْتُ بَعِيرِي، إِذا كانَ مَعْقُولاً فلمْ تَهْتِدِ لِمَكانِهِ، وأَضْلَلْتُهُ إِضْلالاً، إِذا كانَ مُطْلَقاً فَذَهَبَ، ولا تَدْرِي أين أَخَذَ.

وقد يُستعمل هذا المعنى كناية عن الوحدة والانفراد.

5/ ضلّ: ضد الهدى والرشاد. أو قل: كُلُّ عُدُولٍ عن الحَقِّ، عَمْداً كانَ أو سَهُواً، يَسِيراً كانَ أو كثيراً.

ص: 348


1- انظر: العين للفراهيدي وتاج العروس للزبيدي مادة (ضلل).

هذه بعض المعاني التي ذكرتها الكتب اللغوية في معنى مادة (ضلل) أو (ضلّ)، ومعه، فلا موجب لحمل الآية الواردة في شأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) على خصوص المعنى الأخير (ضد الهدى والرشاد) ليُقال بدلالتها على عدم عصمته، إذ مع وجود معانٍ أخرى يمكن حمل الآية عليها، بحيث لا تتعارض مع الأدلة التي دلّت على عصمته (صلى الله عليه وآله) يكون اللازم حملها عليها لا على الضلال بمعنى عدم الهدى والرشاد.

ولهذا، ذكر العلماء عدداً من البيانات لهذه الآية، نذكر منها بيانين(1):

1- الضلالة بمعنى العزلة

إن من بين المعاني اللغوية لكلمة «الضلالة» هي العزلة أو التوحّد، ومن هنا يُطلق على الشجرة المنفردة وسط الصحراء «الشجرة الضالة». ولمّا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يعيش الوحدة واليتم والعزلة بين أبناء قومه ومجتمعه، وقد جمع إلى اليتم من جهة الأب والأم، اعتزال الناس وعدم مشاركتهم في عباداتهم الوثنية، فقد كان مثل الشجرة الوحيدة، يمضي حياته المتوحّدة حتى شملته الألطاف الإلهية، وأخرجته من هذه الحالة.

2- الضلالة بمعنى الشخص الضائع في قومه

إن من بين المعاني اللغوية للضلالة هو ضياع منزلة الفرد المرموق وشخصيته بين أفراد قومه. كأن يكون الفرد متصفاً بأعلى المراتب من الناحية

ص: 349


1- انظر: أجوبة الشبهات الكلامية ج2 ص 104 – 105.

العلمية والأخلاقية والروحية، ومع ذلك لا يوليه قومه المكانة اللائقة به، بل ويتجاهلونه ويزدرونه أيضاً. من هنا فإن مثل هذا الفرد سيعيش حالة من الضياع. وقد عدّ اللغويون هذا المعنى من المعاني الرئيسة لكلمة «ضلّ»(1).

وعليه، يكون مراد الآية: أن الله تعالى قد أعاد إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مكانته التي تجاهلها قومه وأضاعوها. وبذلك يكون الله تعالى قد أعاد منزلة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى نصابها الصحيح(2).

حصيلة الكلام: لمّا كانت هذه الآية المشتملة على كلمة «ضالاً» غير مسبوقة بأيّ ذكر للمعاصي والذنوب، فلا تتناسب كلمة (ضالاً) هنا مع اقتراف المعاصي، وإنما هي تتحدّث عن يتم النبي (صلى الله عليه وآله) وغربته في قومه، وعليه فهي تدل على الضلالة بمعنى «الضياع» و«الغربة بين أبناء قومه».

الشبهة الثانية: نسبة الذنب والمغفرة إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)

قال تعالى: )إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا( (3).

قد يتوهم البعض: إن هذه الآية تصرح بأنه كان للنبي (صلى الله عليه وآله) ذنب فغفره الله تعالى له، وزاده أنه غفر له ذنوبه المستقبلية، وهذا يعني أنه (صلى الله عليه وآله) غير معصوم، ولذلك احتاج إلى غفران ذنوبه!

ص: 350


1- أُنظر: الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، ج 7، مادة (ضل)، ص 8.
2- أُنظر: السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء،ص150؛ الفخر الرازي، عصمة الأنبياء، ص93.
3- الفتح: 1 - 2.

والجواب:

أن من الأخطاء المعرفية الكبيرة التي يقع فيها البعض هو أنه يفسر القرآن الكريم حسب ما يرد فيه من ألفاظ، من دون أن يرجع إلى أهل الاختصاص في التفسير، ومن دون أن يرجع إلى الروايات الواردة في الآية، وهذا خطأ معرفي لا بد من الالتفات إليه والابتعاد عنه، فتفسير الآية بأنها تعني عدم عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) سببه هذه الغفلة، إذ لو رجعنا إلى الروايات المفسرة لها، وإلى كلمات اللغويين في معنى الذنب، لوجدنا تفسيرًا بل تفاسير أخرى تنسجم تمام الانسجام مع العصمة، ونحن نذكر هنا رواية تبين جوابًا واحدًا من تلك الأجوبة يكفي في المقام:

روى الشيخ الصدوق في العيون بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال في حديث طويل:

حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: فما معنى قول الله: « لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ »؟ قال الرضا (عليه السلام): لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنبًا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنمًا، فلما جاءهم (صلى الله عليه وآله) بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا

ص: 351

فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ(1) فلما فتح الله تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله) مكة قال له: يا محمد (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر؛ لأن مشركي مكة أسلم بعضهم، وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورًا بظهوره عليهم، فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.(2)

إن هذه الرواية واضحة جدًا في أن الذنب المقصود هنا ليست هي معصية الله تعالى، وإنما هو عدم انسجام توجّهات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مع نزوات قريش والمشركين، فاعتبروا دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) ذنبًا بحقهم، وهذا لا يمس عصمته (صلى الله عليه وآله) لا من قريب ولا من بعيد كما هو واضح.

إشارة(3):

يظهر من التأمل في عدة روايات حول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه لم يكن معصومًا فحسب، وإنما كان (صلى الله عليه وآله) نبيًا منذ ولادته، وإذا ثبت كونه نبياً كذلك، فقد ثبتت عصمته حسبما تقدم من ضرورة العصمة في الواسطة بيننا وبين السماء، ومعه، فيكون عمر (الأربعين) هو عمر وصوله (صلى الله عليه وآله) إلى مرتبة

ص: 352


1- ص 3 – 7.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق باب 15 ح1 ص 179 – 180.
3- تجد تفاصيل هذه الإشارة في كتاب: دروس منهجية في شرح عقائد الإمامية للشيخ حسين عبد الرضا الأسدي (ج1 ص 296 – 298) الإشارة الثانية: ديانة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قبل بعثته في عمر الأربعين.

(الرسالة) بعد (النبوة) أو هي الفترة التي أُمر بها (صلى الله عليه وآله) بالصدع بالأمر وإظهاره وتبليغ الناس بالرسالة من الله تعالى.

ومما يُشير إلى هذه الحقيقة هو ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث يقول: (ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه...)(1)

وكذا ما روي عنه (صلى الله عليه وآله): كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين.(2)

ص: 353


1- نهج البلاغة ج2 ص 157.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج1 ص 183 و عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي ج4 ص 121.

ص: 354

النقطة الثالثة: في أنه (صلى الله عليه وآله) كان أمّيًا

نص القرآن الكريم على أن النبي (صلى الله عليه وآله) أُمّي، وأنه لم يكتب بيده، قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ)(1)

وقال تعالى (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ)(2) فما هو معنى كونه (صلى الله عليه وآله) أُمّيًّا؟

لتتضح الصورة جيدًا نذكر التالي:

1/من الواضح أن معنى (الأُمّي) الظاهر لدينا هو: من لا يعرف القراءة ولا الكتابة، إذ إن (معنى الأُمِّيّ: المَنْسُوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أُمُّه، أي لا يَكتُبُ، فهو في أَنه لا يَكتُب أُمِّيٌّ، لأَن الكِتابة هي مُكْتسَبَةٌ، فكأَنه نُسِب إلى ما يُولد عليه، أي على ما وَلَدَته أُمُّه عليه)(3)

وهذا المعنى يُعتبر نقصًا في الإنسان كما هو واضح، ومن هذه الناحية

ص: 355


1- الأعراف 157.
2- العنكبوت 48.
3- لسان العرب لابن منظور ج12 مادة (أمم) ص 34.

لا يصح أن يوصف النبي (صلى الله عليه وآله) بأي نقص، إذ إنه (صلى الله عليه وآله) الإنسان الكامل الذي امتلك كل كمال ممكن للإنسان وفي أعلى مراتبه الممكنة له.(1)

هذا من جهة.

2/ من جهة أخرى، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) حيث جاء بما خالف به قومه، وسفّه به أحلامهم، وفضح أكاذيبهم وضلالهم، فإن أعداءه عملوا على أن يتخلصوا مما جاء به (صلى الله عليه وآله) بطريقة وبأخرى، ولو بالبحث عن أي جهة يمكنهم من خلالها إضعاف منزلة ومقام النبي (صلى الله عليه وآله) في صدور الناس، ولذلك اتهموه بالشاعر والساحر والكاهن والمجنون.

فلو كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقرأ ويكتب قبل البعثة، لاتّهموه بأن القرآن من تأليفه وكتابته، وهذا هو ما حصل رغم أنه لم يقرأ كتابًا ولم يكتب قبل بعثته، قال تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)(2)

3/وللجمع بين هاتين الجهتين يُقال التالي:

إنه (صلى الله عليه وآله) حيث إنه معصوم، والعصمة تستبطن علمًا لدنيًا، وتقتضي أن يكون النبي أعلم أهل زمانه، فمن غير المعقول -والحال هذه- أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) جاهلًا بالقراءة والكتابة وحاشاه، ولكن وحتى يدفع عن نفسه

ص: 356


1- ونفس الكلام يُقال في كل الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
2- الفرقان 4 -5.

التهمة، وحتى يقطع على الأعداء منفذًا لاتهامه بالكذب أو أخذ القرآن من غيره من الكهنة وما شابه، فإنه لم يمارس القراءة الكتابة رغم علمه وقدرته عليهما.

ويظهر من بعض الروايات الشريفة أنه (صلى الله عليه وآله) مارس القراءة بل وربما الكتابة، إذ التهمة قد باتت واضحة البطلان بعد إتيانه (صلى الله عليه وآله) بالمعجزة تلو الأخرى مما يثبت حقانيته وارتباطه بالسماء.

ومعه، فيكون معنى كونه أمّيًا هو أنه لم يمارس الكتابة وإن كان عارفاً بها.

هذا، وقد فُسّر الأُمّي بأنه المنسوب إلى أم القرى وهي مكة المكرمة، وهو ما جاء في بعض الروايات، فقد روي عن جعفر بن محمد الصوفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) وقلت له: يا بن رسول الله لم سمي النبيُّ الأمي؟ قال: ما يقول الناس؟ قلت: يقولون: إنما سُمي الأمي لأنه لم يكتب. فقال: كذبوا، عليهم لعنة الله، أنى يكون ذلك والله تعالى يقول في محكم كتابه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)(1) فكيف يعلمهم ما لم يحسن؟ والله لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)) يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لسانًا، وإنما سُمّي الأُمّي؛ لأنه كان من مكة، ومكة من أمهات القرى، وذلك قول الله في كتابه: (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرىٰ وَمَنْ حَوْلَها)(2).(3)

ص: 357


1- ا لجمعة 2.
2- الأنعام 92
3- بصائر الدرجات للصفار ص 245 ب4 ح 1 وانظر الفصول المهمة للحر العاملي ج1 ص 413 باب 103 - إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ ويكتب بكل لسان. ح [ 559 ] 1.

وعن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلان): إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ ما يكتب، ويقرأ ما لم يكتب.(1)

فهاتان الروايات تبينان أنه (صلى الله عليه وآله) كان عنده القدرة على القراءة والكتابة-على الأقل-، إن لم نقل بدلالاتهما على فعلية كونه قارئًا كاتبًا وأنه يُحسن القراءة والكتابة بالفعل.

ومثلهما في الدلالة على تلك المعرفة: الرواية المتفق عليها من أنه (صلى الله عليه وآله) طلب أداة وكتفًا ليكتب للمسلمين ما لن يضلوا بعده أبدًا، إذ كيف يطلب ذلك وهو لا يعرف القراءة والكتابة؟!

ص: 358


1- بصائر الدرجات للصفار ص 247 ب4 ح5 / والفصول المهمة للحر العاملي ج1 ص 413 باب 103 ح [ 561 ] 3.
النقطة الرابعة: النبوة الخاتمة
اشارة

إن صريح القرآن الكريم والروايات الشريفة على أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو آخر الأنبياء والمرسلين، وأنه لا نبي بعده (صلى الله عليه وآله) وكل من يدّعي النبوة بعده فهو كذّاب أشر.

قال تعالى (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(1)

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما حضرت النبي (صلى الله عليه وآله) الوفاة... قال النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون حوله مجتمعون: أيها الناس، إنه لا نبي بعدي ولا سنة بعد سنتي، فمن ادّعى بعد ذلك فدعواه وبدعته في النار، فاقتلوه، ومن اتبعه فإنه في النار...(2)

وعن أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ الله عَزَّ ذِكْرُه خَتَمَ بِنَبِيِّكُمُ النَّبِيِّينَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَه أَبَداً، وخَتَمَ بِكِتَابِكُمُ الْكُتُبَ، فَلَا كِتَابَ

ص: 359


1- الأحزاب 40
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج4 ص 163 باب (ما يجب من احياء القصاص) ح 5370.

بَعْدَه أَبَداً...(1)

فالمسألة من هذه الناحية واضحة.

والمهم هنا أن نذكر الإشارات التالية:

إشارات

الإشارة الأولى: الخاتمية تستلزم تمام البيان

إن كونه (صلى الله عليه وآله) خاتم النببين يستلزم أن يكون قد بيّن الشريعة بتمامها، بحيث لا تحتاج إلى نبي آخر يتمم التشريع، وهذا هو مفاد ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «خطب رسول الله (عليه السلام) في حجَّة الوداع فقال: يا أيُّها الناس، والله ما من شيء يُقرِّبكم من الجنَّة ويباعدكم من النار إلَّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يُقرِّبكم من النار ويباعدكم من الجنَّة إلَّا وقد نهيتكم عنه...»(2).

وعن حمّاد بن أبي أُسامة، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده رجل من المغيرية، فسُئِلَ عن شيء من السُّنَن، فقال: «ما من شيء يحتاج إليه وِلْدُ آدم إلَّا وقد خرجت فيه السُّنَّة من الله ومن رسوله، ولولا ذلك ما احتجَّ».

فقال المغيري: وبِمَ احتجَّ؟

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «قوله: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

ص: 360


1- الكافي للكليني ج1 ص 269 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ بِمَنْ يُشْبِهُونَ مِمَّنْ مَضَى وكَرَاهِيَةِ الْقَوْلِ فِيهِمْ بِالنُّبُوَّةِ ح3.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 74).

نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً[(1)، فلو لم يُكمِل سُنَّته وفرائضه وما يحتاج إليه الناس ما احتجَّ به»(2).

وعن محمّد بن حكيم، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: «أتاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما يستغنون به في عهده، وما يكتفون به من بعده: كتاب الله وسُنَّة نبيِّه»(3).

الإشارة الثانية: الخاتمية لا تنافي الحاجة إلى الإمام

أن كمال الدين وخاتمية الرسالة لا يتنافى مع الحاجة إلى البيان من خلال الواسطة (وهم الأئمة عليهم السلام)، فالقرآن الكريم يصرح بأن فيه كل شيء، قال تعالى: (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىٰ وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ 138)(4) قال تعالى: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىٰ وَرَحْمَةً وَبُشْرىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)(5)

وهذا ما أكّدته النصوص الروائية، فقد روي عَنْ مُرَازِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى أَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى والله مَا تَرَكَ الله شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْه الْعِبَادُ؛ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا وقَدْ أَنْزَلَه الله فِيه.(6)

ص: 361


1- المائدة: 3.
2- بصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار (ص 537 و538/ باب 18/ ح 50).
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 270/ باب 38/ ح 361).
4- آل عمران 138.
5- النحل 89.
6- الكافي للكليني ج1 ص 59 بَابُ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وأَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالِ والْحَرَامِ وجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه إِلَّا وقَدْ جَاءَ فِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ ح1.

ولأجل ذلك، كان أحد الطرق الدالة على صدق الحديث هو عرضه على القرآن وكونه موافقًا له أو على الأقل ليس مخالفًا له، على تفصيل يذكر في علم أصول الفقه.

ولكنه مع ذلك لم يستغن عن الشارح والمبيِّن لمراداته، أي إنه ورغم كماله، وعدم نقصه، ورغم إتمام التبليغ من النبي (صلى الله عليه وآله) له، ولكن ذلك لا يعني عدم حاجته إلى البيان، ولا أن حاجته للبيان تعني نقصه أو عدم تبليغه كاملًا، وهذا ما أكّدته النصوص أيضًا.

فعَنْ أَبِي الْجَارُودِ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَاسْأَلُونِي مِنْ كِتَابِ الله، ثُمَّ قَالَ فِي بَعْضِ حَدِيثِه: إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) نَهَى عَنِ الْقِيلِ والْقَالِ وفَسَادِ الْمَالِ وكَثْرَةِ السُّؤَالِ. فَقِيلَ لَه: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، أَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ الله؟ قَالَ: إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وقَالَ (ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً) وقَالَ (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).(1)

وعَنِ الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): مَا مِنْ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيه اثْنَانِ إِلَّا ولَه أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ، ولَكِنْ لَا تَبْلُغُه عُقُولُ الرِّجَالِ.(2)

ص: 362


1- الكافي للكليني ج1 ص 60 بَابُ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وأَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالِ والْحَرَامِ وجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه إِلَّا وقَدْ جَاءَ فِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ ح5.
2- الكافي للكليني ج1 ص 60 بَابُ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وأَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالِ والْحَرَامِ وجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه إِلَّا وقَدْ جَاءَ فِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ ح6.

فالكمال –مقابل النقص- لا يعني الوضوح للجميع، ولا يعني عدم الاستغناء عن الوسيط المبيِّن والشارح، ولا أن الوسيط يعني أنه أصيل، تمامًا كما في شرح أستاذ لكتاب معين، فالكتاب قد يكون كاملًا في مادته، ولكنه ليس واضحًا للجميع، فيقوم الأستاذ ببيان مراداته من دون أن يأتي بشيء جديد غير موجود فيه.

فالإمامة إذن ضرورة في التبليغ بهذا المعنى، رغم كمال التبليغ وخاتمية النبوة.

إن قلت:

إذا كانت مهمة المعصوم هي هذه فقط، فما هو فرقه عن بقية الصحابة والفقهاء الذين كانوا أيضًا يبينون الدين ويشرحونه؟ فما هو الملزِم لاتّباع خصوص المعصومين دون غيرهم؟

قلت:

إن العقل يحكم –وبدون تردد- بضرورة تقديم مَنْ عنده علم خاص (لدني) معصوم على كل من عداه ولو كان عنده من العلم الحصولي ما يجعله عبقري زمانه، ما دام لم يحصل على العلم الخاص ولم يصل إلى مرتبة العصمة.

وهكذا كان أهل البيت (عليهم السلام)، فإنهم زُوّدوا بالعلم اللدني والعصمة، ولذلك لم يسجل التاريخ اعتراضًا عليهم عندما كانوا يفتون بشيء ما أو يعلنون أن ما يقولونه هو قول النبي (صلى الله عليه وآله) أو قول الله تعالى، وهم (عليهم السلام) كانوا

ص: 363

يقطعون بنسبة ما يقولونه إلى الله تبارك وتعالى، ولم يكن غيرهم ليفعل ذلك أصلًا.

عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وحَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ وغَيْرِه قَالُوا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي، وحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي، وحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ، وحَدِيثُ الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ، وحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليهم السلام)، وحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، وحَدِيثُ رَسُولِ الله قَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ.(1)

وهذا المعنى يحجب قبول قول الآخر على نحو الإطلاق، لاحتمال خطئه، لمكان عدم عصمته.

الإشارة الثالثة: الخاتمية تعني انقطاع الوحي الرسالي لا مطلق الوحي

الإشارة الثالثة: الخاتمية تعني انقطاع الوحي الرسالي لا مطلق الوحي.(2)

إن ختم النبوة يستلزم عدم نزول الوحي برسالة أو نبوة جديدة، ولكنه لا يعني عدم نزول الوحي أصلًا، وإنما يمكن أن ينزل الوحي لكن لا بصيغة نبوة، وإنما بصيغة (التحديث)، وهذه ظاهرة قرآنية واضحة، فالسيدة مريم والسيدة أم موسى (عليهما السلام) كانتا محدَّثتين، رغم وضوح أنهما ليستا من الأنبياء، قال تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلىٰ نِساءِ الْعالَمِينَ. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)(3)

ص: 364


1- الكافي للكليني ج1 ص 53 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح14
2- تجد أدلة وتفاصيل الوحي غير الرسالي في أواخر الجزء الرابع من هذا الكتاب، تحت عنوان: المقالة السادسة: الإيحاء إليهم (عليهم السلام).
3- آل عمران 42 – 43.

وقال تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(1)

ومعه، فلا مانع من نزول الوحي -أي المَلَك- على الإمام المعصوم بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا يعني هذا دعوى أنهم أنبياء، كما هو واضح.

وقد صرّح الأئمة (عليهم السلام) بهذه الحقيقة في أكثر من مناسبة.

فعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): إِنَّمَا الْوُقُوفُ عَلَيْنَا فِي الْحَلَالِ والْحَرَامِ، فَأَمَّا النُّبُوَّةُ فَلَا.(2)

وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ مُحَدَّثاً. فَقُلْتُ: فَتَقُولُ: نَبِيٌّ؟! قَالَ: فَحَرَّكَ بِيَدِه هَكَذَا [كأنه رفع يده وأشار برفع يده إلى نفى النبوة(3)

ثُمَّ قَالَ: أَوْ كَصَاحِبِ سُلَيْمَانَ أَوْ كَصَاحِبِ مُوسَى أَوْ كَذِي الْقَرْنَيْنِ...(4)

وعَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ الله (عليهما السلام) قَالَ: قُلْتُ لَه: مَا مَنْزِلَتُكُمْ ومَنْ تُشْبِهُونَ مِمَّنْ مَضَى. قَالَ (عليه السلام): صَاحِبُ مُوسَى وذُو الْقَرْنَيْنِ،

ص: 365


1- القصص 7.
2- الكافي للكليني ج1 ص 268 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ بِمَنْ يُشْبِهُونَ مِمَّنْ مَضَى وكَرَاهِيَةِ الْقَوْلِ فِيهِمْ بِالنُّبُوَّةِ ح2.
3- هامش المصدر.
4- الكافي للكليني ج1 ص 269 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ بِمَنْ يُشْبِهُونَ مِمَّنْ مَضَى وكَرَاهِيَةِ الْقَوْلِ فِيهِمْ بِالنُّبُوَّةِ ح4.

كَانَا عَالِمَيْنِ، ولَمْ يَكُونَا نَبِيَّيْنِ.(1)

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) يَقُولُ: الأَئِمَّةُ عُلَمَاءُ صَادِقُونَ مُفَهَّمُونَ مُحَدَّثُونَ.(2)

الإشارة الرابعة: الخاتمية لا تنافي التطور

إن ختم النبوة لا يستلزم الجمود والتخلف وعدم مواكبة التطورات الحضارية، كلا، وإنما في الإسلام خصوصيات جعلت منه مواكبًا لكل أنواع التطورات من دون أي تلكؤ، ومن تلك الخصوصيات التالي:

أولًا: أن القرآن الكريم فيه خصوصية أنه سيال متجدد مع الزمن، وهذا من تجليات إعجازه، ولذلك كتب العديد من الباحثين في الآيات التي تشير إلى الاكتشافات العلمية الحديثة ولو من طرف خفي لا يفهمه إلا العلماء في المجالات العلمية.

فرغم أنَّه نزل علىٰ صدر نبيِّنا الأكرم (صلى الله عليه وآله) قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، إلَّا أنَّ آياته ما زالت غضَّة طريَّة كأنَّها وُلِدَت اليوم، وما زالت نظرياته في مختلف المجالات الحياتية ثابتة لم تُنقَض، ولن تُنقَض أبداً.

روي أنَّ رجلاً سأل أبا عبد الله (عليه السلام): ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلَّا غضاضةً؟ فقال: «لأنَّ الله لم يُنْزِله لزمان دون زمان، ولا لناس

ص: 366


1- الكافي للكليني ج1 ص 269 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ بِمَنْ يُشْبِهُونَ مِمَّنْ مَضَى وكَرَاهِيَةِ الْقَوْلِ فِيهِمْ بِالنُّبُوَّةِ ح5.
2- الكافي للكليني ج1 ص 271 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ ع مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ ح3.

دون ناس، فهو في كلِّ زمان جديد، وعند كلِّ قوم غضٍّ إلىٰ يوم القيامة»(1).

وقيل لجعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام): لِمَ صار الشعر يُمَلُّ ما أُعيد منها، والقرآن لا يُمَلُّ؟ فقال: «لأنَّ القرآن حجَّة علىٰ أهل الدهر الثاني، كما هو حجَّة علىٰ أهل الدهر الأوَّل، فكلُّ طائفة تتلقّاه غضًّا جديداً، ولأنَّ كلَّ امرئ في نفسه متىٰ أعاده وفكَّر فيه تلقّىٰ منه في كلِّ مرَّة علوماً غضَّةً، وليس هذا كلُّه في الشعر والخُطَب»(2).

ثانيًا: أن هذه الأحكام التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله) ثابتة ومستمرة إلى يوم القيامة، ولكن ثباتها واستمرارها لا يتنافى مع التطور الحضاري والثقافي باعتبار أنه يوجد في الشريعة عنصران: عنصر ثابت وعنصر متغير.

فعنصر الثبات هو قانون إسلامي لا يقبل التغير ولا التبدل، مهما اختلفت الظروف وتطورت الحياة، كوجوب الصلاة، فالصلاة واجبة على المسلم، وهذا حكم لا يتغير مهما كانت الظروف والتطورات التكنلوجية. وهكذا الحال في وجوب الصوم وحرمة شرب الخمر وغيرها، فهذه أحكام ثابتة لا تتغير.

وأما عنصر المتغير: فهو قانون إسلامي له القابلية على التجدد وعلى الانطباق على ما يأتي به الزمان من مفردات، فهو أشبه بالقاعدة الكلية التي تنسجم مع متغيرات الحياة، مثل قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ

ص: 367


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق 1: 93/ ح 32.
2- المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطيَّة الأندلسي 1: 36.

مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ ا لْخَيْلِ)(1) فإنه ليس المقصود هو تطوير الجيش بالأسلحة القديمة، وإنما المقصود هو إعداد القوة حسب الظرف المعاش، فاليوم مثلًا يأمر الإسلام بتطوير الجيش وبنائه وفق النظريات الحديثة للتسلح والتطوير.

إن القرآن في هذه الآية كأنه يريد أن يقول للمسلمين: ابنوا وأسّسوا جيشاً مُعدّاً بالأسلحة، ومهيأً لأي حركة متوقعة، وفي ذلك الوقت كان مصداق هذا الإعداد هو رباط الخيل، أما في هذا الزمن فلا معنى لأن نلتزم بتلك الكلمة، بل الصحيح هو أن نُبقي على القاعدة الاصلية وهي (إعداد للجيش) لكن نغير الطريقة والوسيلة، فنعد الجيش ونمده بالأسلحة الحديثة، وبذلك نكون ممتثلين لأمر الله عز وجل.

ص: 368


1- الأنفال 60.

المحتويات

تمهيد 7

ما يترتب على إنكار العدل الإلهي. 7

النقطة الأولى:ضرورةضبط المنهج المعرفي 11

من عوامل الاختلاف بين المسلمين. 14

النقطة الثانية: ما هو الهدف من الفعل الإلهي؟ 17

الخطوة الأولى 17

الخطوة الثانية 19

الخطوة الثالثة: ما هو الحد الأدنى من النجاح المقبول في... 20

ثلاثية: حب الذات والمعرفة والإرادة. 21

الأول: المعرفة. 22

الثاني: الإرادة. 22

ملحوظتان: 23

الملحوظة الأولى: لا مفرّ من الفقر الذاتي للممكن. 23

الملحوظة الثانية: مركز الكمال هو الكمال اللا متناهي. 24

النقطة الثالثة: تعريف العدل 27

معاني العدل: 27

المعنى الأول: التوازن 27

المعنى الثاني: التساوي 28

المعنى الثالث: إعطاء كل ذي حق حقه 28

ص: 369

المعنى الرابع: إعطاء كل ذي قابلية ما هو مستعد له 31

النقطة الرابعة: 33

الحكمة 33

الحكمة لغة: 33

الحكمة اصطلاحًا: 34

وهنا إشارات: 35

الإشارة الأولى: الفرق بين العدل والحكمة. 35

الإشارة الثانية: الوجه في أن الحكيم لا يُسأل عما يفعل. 35

الإشارة الثالثة: كفاية العلم الثبوتي بالحكمة. 36

الإشارة الرابعة: وجه الحكمة في بعض الأفعال روائياً. 36

الإشارة الخامسة: أقسام الحكمة 38

النقطة الخامسة: مرجع صفتي العدل والحكمة 45

النقطة السادسة: الإبداع في الفعل الإلهي 49

النقطة السابعة: هل الظلم ممتنع ذاتاً على الله تعالى 51

الخطوة الأولى: 51

الخطوة الثانية: 52

الخطوة الثالثة: 52

الخطوة الرابعة: 54

النقطة الثامنة: 55

مستويات العدل 55

المستوى الأول: العدل الفقهي 55

المستوى الثاني: العدل الأخلاقي )أو العدالة الكبرى( 56

المستوى الثالث: العدل الاجتماعي 60

ص: 370

النقطة التاسعة: الحق وإطلاقاته 63

المعنى الأول: صفة ذاتية. 63

المعنى الثاني )وهو المقصود هنا في بحثنا في العدل الإلهي(: إنه صفة فعلية. 64

الإشارة الأولى: إطلاقات الحق. 64

الإشارة الثانية: ما هو منشأ الاستحقاق؟ 67

النقطة العاشرة: نتائج مناهج التفكير لدى الأشاعرة والمعتزلة والإمامية 73

نتائج المنهج الأول: للأشاعرة: 73

نتائج المنهج الثاني: للمعتزلة: 75

نتائج المنهج الثالث: للإمامية: 76

النقطة الحادية عشرة: لماذا لا يصدر الفعل؟ 79

النقطة الثانية عشرة: القوانين التفضيلية للإنسان 85

القانون الأول: الاختيار 85

القانون الثاني: تكريم بني آدم. 88

المصداق الأول: الخلافة. 88

المصداق الثاني: التعليم المباشر من الله تعالى. 89

المصداق الثالث: حامل الأمانة. 89

المصداق الرابع: أن الأنبياء هم من البشر. 90

القانون الثالث: تسخير كل شيء للإنسان. 90

القانون الرابع: تمكين الإنسان المؤمن. 92

النقطة الثالثة عشرة: قوانين العالم المحسومة 95

القانون الأول: قانون الأسباب والمسببات. 95

القانون الثاني: التنوع. 96

القانون الثالث: عالمنا هو عالم السعي والشِدّة والطلب. 96

ص: 371

القانون الرابع: الغموض والجهل النسبي. 99

القانون الخامس: قانون اللمسة الغيبية. 101

ما هي أسباب اللمسة الغيبية )التوفيق، التسديد، الهداية...(؟ 102

المس ألة الأولى: الحسن والقبح العقليان 107

النقطة الأولى: ما هو معنى عقلية أو شرعية الحسن والقبح؟ 107

النقطة الثانية: تقسيم الأفعال عند العدلية. 108

النقطة الثالثة: تقسيم الحسن والقبح. 110

النقطة الرابعة: ما هو دليل الأشاعرة؟ 112

النقطة الخامسة: أدلة التحسين والتقبيح العقليين. 118

المس ألة الثانية: الإرادة الإنسانية 123

المبحث الأول: الجبر الكلامي 12 5

الأمر الأول: معنى الجبر: 125

الأمر الثاني: أدلة القائلين بالجبر: 126

الدليل الأول: عموم العلم الإلهي ولزوم وقوعه. 126

الدليل الثاني: عموم القدرة الإلهية النافي لكل قدرة أخرى. 132

المبحث الثاني: الجبر الاجتماعي 13 9

النقطة الأولى: معنى الجبر الاجتماعي 139

النقطة الثانية: مفاصل أساسية وفروق بين الجبر الكلامي... 140

المفصل الأول: وجود القوة القاهرة وعدمه. 140

المفصل الثاني: الاختيار علة ناقصة للفعل. 141

المفصل الثالث: سلب الإرادة وعدمه. 142

المفصل الرابع: سلب الإرادة وسوء الإرادة. 143

المفصل الخامس: سلب الإرادة المؤقت والدائمي. 144

ص: 372

المفصل السادس: سلب الإرادة والكسل. 145

المفصل السابع: سلب الإرادة أو فرض الموانع. 147

الشكل الأول: الجبر القانوني التشريعي. 148

الشكل الثاني: الجبر بالتهديد والاضطرار. 148

النقطة الثالثة: الجواب عن الجبر الاجتماعي 150

الخطوة الأولى: 150

الخطوة الثانية: 150

الخطوة الثالثة: 151

الخطوة الرابعة: 152

المس ألة الثالثة: التفويض 155

النقطة الأولى: معنى التفويض. 155

النقطة الثانية: خلفية القول بالتفويض. 156

النقطة الثالثة: مناقشة نظرية المفوضة: 157

الإشارة الأولى: نصوص قرآنية في عدم استقلال الإنسان بفعله. 161

الإشارة الثاني: استعمالات التفويض. 163

الأول: التفويض التكويني: 164

الثاني: التفويض التشريعي: 165

المس ألة الرابعة: في الأمر بين الأمرين 167

حقيقة الاختيار في فعل الإنسان. 167

المس ألة الخامسة: القضاء والقدر 179

النقطة الأولى: تحرير محل النزاع في القضاء والقدر. 179

النقطة الثانية: معنى القضاء والقدر الإلهيين: 182

النقطة الثالثة: خصائص القضاء والقدر الإلهيين: 184

ص: 373

النقطة الرابعة: أقسام القضاء والقدر: 188

النوع الأول: القضاء والقدر التكوينيان في خلق الموجودات: 190

النوع الثاني: القضاء والقدر التكوينيان في أفعال الإنسان: 190

المس ألة السادسة: الشرور في العالم 195

الشبهة الأولى: للثنوية: 195

الجواب الأول: لأفلاطون. 196

الجواب الثاني: لأرسطو: 197

الشبهة الثانية: 199

الشكل الأول: الشكل المقنّن: 205

الشكل الثاني: الشكل غير المقنن: 206

النمط الأول: التعامل السلبي: 206

النمط الثاني: التعامل الإيجابي: 208

المس ألة السابعة: الحكمة من خلق الشيطان 211

الخطوة الأولى: عدم العلم بملاكات الأفعال الحقيقية. 211

الخطوة الثانية: منشأ شرّية الشيطان. 212

الخطوة الثالثة: شرّية الشيطان كانت باختياره لا بالجبر. 212

الخطوة الرابعة: تقديم التعويض الإلهي للشيطان. 214

الخطوة الخامسة: الشيطان لا يسلب اختيار الإنسان. 216

الخطوة السادسة: الشيطان إحدى وسائل الاختبار. 218

المس ألة الثامنة: التفاوت بين البشر 221

الخطوة الاولى: واقعية التفاوت بين البشر. 221

الخطوة الثانية: الاختلاف في توظيف التفاوت. 222

الخطوة الثالثة: ما هو سبب التفاوت. 223

ص: 374

الأساس الأول: الاختيار الإنساني 224

الأساس الثاني: السنن الإلهية 225

السُنّة الأولى: نظام الأسباب والمسببات: 225

السُنة الثانية: سنة الابتلاء والاختبار. 226

الأساس الثالث: تمييزات بين الإرادة وبعض المفاهيم 227

الخطوة الرابعة: بيان قضايا خمس مرتبطة بحدوث التفاوت بين البشر 228

القضية الأولى: أن الخطوة الأولى من الإنسان 228

القضية الثانية: العلم الإلهي الأزلي 229

القضية الثالثة: أن المدار هو على الإرادة الحقيقية للإنسان. 232

القضية الرابعة: سنة العقوبة الدنيوية. 233

القضية الخامسة: بروز بعض المفاهيم بالحرمان. 234

الخطوة الخامسة: البعد التربوي لهذا البحث. 237

المس ألة التاسعة: في الألم والعوض 241

الخطوة الأولى: في الألم. 241

الخطوة الثانية: في الأعواض. 244

الملحوظة الأولى: من الفروق بين الثواب والعوض. 248

الملحوظة الثانية: لا استحقاق للثواب مع سوء الاختيار. 253

الملحوظة الثالثة: الانتصاف: 253

المس ألة العاشرة: تعذيبأولاد الكافرين 257

الشرط الأول: البيان من المولى: 258

الشرط الثاني: توفر شروط التكليف: 258

الإشارة الأولى: التكليف ليس شرطاً في ترتب الآثار الوضعية. 258

الإشارة الثانية: عدم البيان يُسقط التكليف والعقوبة. 259

ص: 375

الإشارة الثالثة: حالتان لعدم البيان. 260

الإشارة الرابعة: اختبار غير المكلفين يوم القيامة. 260

الإشارة الخامسة: دخول أطفال المؤمنين الجنة بغير حساب. 261

البداء 263

الثابت الأول: العلم الإلهي المطلق والشامل. 264

الثابت الثاني: لا تغير في ذاته ولا في صفاته. 265

الثابت الثالث: بطلان نظرية )موت الإله( المعتزلية. 266

الثابت الرابع: العلاقة بين العلة والمعلول هي علاقة جعلية. 267

الثابت الخامس: محدودية الإنسان تمنع من إحاطته بالله تعالى. 268

الثابت السادس: لا ضرورة لكشف العالِم كلَّ علومه. 269

إشارة: في أسباب حسن البداء وسوئه: 271

أولا: هناك أسباب تؤدي إلى تغيير التقدير إلى ما هو الأفضل. 272

ثانيًا: هناك أسباب تؤدي إلى تغيير التقدير إلى ما هو الأسوأ. 275

المبحث الأول: النبوة العامة 279

المس ألة الأولى: فيأن بعثة الأنبياءأمر حسن. 281

شبهة البراهمة: 284

المس ألة الثانية: وجوب البعثة 287

البيان الأول: إن التكاليف الشرعية ألطاف في التكاليف العقلية. 287

الملحوظة الاولى: معنى الفترة. 289

الملحوظة الثانية: مهمة الأنبياء هي البلاغ. 292

البيان الثاني: ضرورة الوسيط في الحياة: 293

البيان الثالث: ضرورة الوسيط من قِبل السماء لدفع مخاوف الإنسان. 298

الإحساس الأول: الرعب 301

ص: 376

الإحساس الثاني: التعب. 301

الإحساس الثالث: التيه. 302

الإحساس الرابع: الخوف من الغيب. 302

النقطة الأولى: لا اختيار كاملاً. 303

النقطة الثانية: كيفية تدخّل السماء لتقديم العون. 304

المس ألة الثالثة: خلفيات البعثة في القرآن والسنة. 307

الخلفية الأولى: تنظيم علاقة الانسان مع خالقه. 307

الخلفية الثانية: رفع الاختلاف. 308

الخلفية الثالثة: التزكية والتعليم. 309

الخلفية الرابعة: الشهادة. 310

الخلفية الخامسة: الهداية. 310

الخلفية السادسة: القدوة 311

الخلفية السابعة: الانتماء. 311

الخلفية الثامنة: المشروع الدنيوي. 312

المس ألة الرابعة: مؤهلات النبي 31 7

أو :ًال العصمة. 318

فما هي العصمة؟ ولماذا هي ضرورة؟ 318

ضرورة العصمة: 323

الإشارة الأولى: الفرق بين العصمة والعدالة: 324

الإشارة الثانية: ما يتفرع على إثبات العصمة للنبي. 326

ثانيًا: المعجزة: 327

الإشارة الأولى: المعجزة إحدى طرق الإثبات. 327

الإشارة الثانية: مستويات الأفعال من حيث العلم بعللها. 329

ص: 377

الإشارة الثالثة: كيف تدل المعجزة على صدق المدّعي؟ 330

الإشارة الرابعة: ما يلزم من جريان المعجزة على يد أحد. 332

الإشارة الخامسة: النبوة إحدى روافد المعرفة. 332

الإشارة السادسة: المعجزة تخرق العادة لا العقل. 333

الإشارة السابعة: عدم تعارض المعجزة مع نظام العلّية. 333

المبحث الثاني: النبوة الخاصة 33 5

النقطة الأولى:إثبات نبوة النبي الأكرم )صلى الله عليه وأله( 33 7

الطريق الأول: المعجزة. 337

الطريق الثاني: بشارات الأنبياء السابقين. 338

الطريق الثالث: شخصية النبي الأكرم نفسه. 339

النقطة الثانية: 343

عصمة النبي الأكرم (صلی الله علیه وآله). 343

الخطوة الأولى: بعض الآيات الدالة على عصمة النبي الأكرم 344 .

الخطوة الثانية: بعض الشبهات حول عصمته (صلی الله علیه وآله): 347

الشبهة الأولى: نسبة الضلال إليه في القرآن الكريم. 347

1. الضلالة بمعنى العزلة: 349

2. الضلالة بمعنى الشخص الضائع في قومه: 349

الشبهة الثانية: نسبة الذنب والمغفرة إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه وآله): 350

النقطة الثالثة: في أنه (صلی الله علیه وآله) كانأمّيًا 355

النقطة الرابعة:النبوة الخاتمة 359

الإشارة الأولى: الخاتمية تستلزم تمام البيان. 360

الإشارة الثانية: الخاتمية لا تنافي الحاجة إلى الإمام. 361

الإشارة الثالثة: الخاتمية تعني انقطاع الوحي الرسالي... 364

ص: 378

الإشارة الرابعة: الخاتمية لا تنافي التطور. 366

ص: 379

المجلد 3

هویة الکتاب

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

nashra@alkafeel.net

کربلاء المقدسة

ص.ب(233)

هاتف: 322600، داخلی: 175-163

الكتاب: بحوث معرفية في علم الكلام/ الجزء الثالث/ الإمامة

تأليف: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، معهد تراث الأنبياء للدراسات

الحوزوية الإلكترونية.

الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 500 .

ذو الحجة الحرام 1443 ﻫتموز 2021 م

ص: 1

اشارة

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

قسم اعداد المبلغات

بحوث معرفية

في علم الكلام

الجزء الثالث

الإمامة

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

اصدارات: جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الأصل الرابع: الإمامة

اشارة

وفيه مبحثان رئيسان:

المبحث الأول: معنى الإمامة العامة في الإسلام

المبحث الثاني: الإمامة الخاصة.

ص: 5

ص: 6

المبحث الأول: معنى الإمامة العامة في الإسلام

اشارة

وهنا نذكر مقدمات ثمانية في الإمامة العامة تؤسس للدخول في مباحث الإمامة الخاصة وولاية أهل البيت (عليهم السلام).

المقدمة الأولى: الإمامة لغة واصطلاحًا.

المقدمة الثانية: العناصر المشتركة والخاصة في الإمامة.

المقدمة الثالثة: أن الإمامة أصل.

المقدمة الرابعة: بيانات في ضرورة الإمام المعصوم.

المقدمة الخامسة: بيانات في ضرورة النص على الإمام.

المقدمة السادسة: بيانات في ضرورة العلم الخاص للإمام.

المقدمة السابعة: الإمامة والتوحيد.

المقدمة الثامنة: الإمامة والنبوة.

ص: 7

ص: 8

المقدمة الأولى: الإمامة لغة واصطلاحًا
الإمامة لغة

الإمامة لغة(1):

إن الفعل (أمّ) هو بمعنى: القصد باستقامة. والقصد يستبطن ويلازم:

أ: السير والسلوك. (الحركة)

ب: وجود مقصد وهدف معين. (الغاية)

ج: وجود قائد (إمام) هو من تَعْرِض عليه صفة (الإمامة) (المحرِّك)

د: أن هناك جماعة تأتمّ بالإمام يقودهم بنفسه إلى ذلك الهدف.

فالإمامة ومشتقاتها لغة تستبطن معنى الجماعة و (الفريق) مع قيادة معينة، تسير باتجاه مقصد معين.

مع ملاحظة أن كون الإمام إمام هدى أو ضلال، لا علاقة له بالمعنى اللغوي، وإنما هو فرع المقصد والغاية، فإن الغاية قد تكون الهداية فيكون الإمام إمام هدىً، وقد تكون الضلال والتيه، فيكون الإمام إمام ضلالة.

ص: 9


1- في تاج العروس للزبيدي مادة: [أمم]: أَمَّةُ يَؤُمّه أَمًّا: قَصَده وتوجَّه إِلَيْه. وفي مفردات الراغب مادة (أمّ): والأَمُّ: القصد المستقيم، وهو التوجه نحو مقصود، وعلى ذلك: (ولَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة / 2]...

إشارة:

إن الأمة ما دامت تتحرك باتجاه مقصدها بتبع إمامها –إمام الهدى- فهي أمة حية، وإلا فإنها ستبدأ بالهرم شيئًا فشيئًا إلى أن تموت، ومن هنا يتناسب وجودها كأمة حية غير متآكلة في أطرافها وبشكل طردي على قدر الحركة خلف إمام الهدى كمًا وكيفًا.

لذا فقد ذمّ القرآن الكريم قوم النبي موسى (عليه السلام) عندما قالوا له: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)(1)

فإنه خروج عن إمامته إلى غيرها، ونفس المعنى هو ما اُبتُلي به أهل الكوفة مع الإمام الحسين (عليه السلام) (قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية).(2)

وأما الإمامة اصطلاحًا

فهناك تعريف للإمامة ربما يكون متفقاً عليه، وهو: الرئاسة في الدين والدنيا.

أو إنها رئاسة عامة في الدين والدنيا نيابة أو خلافة عن النبي (صلى الله عليه وآله).

وعرّفها البعض بأنها عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول (صلى الله عليه وآله) في إقامة قوانين الشريعة وحفظ حوزة الملة على وجه يجب اتباعه على كافة الامة.(3)

ص: 10


1- المائدة 24.
2- دلائل الإمامة للطبري الشيعي ص182.
3- قال الإيجي في المواقف (ج3 ص 579) ما نصه: والأولى أن يقال هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة.

وقد عرّفها الشيخ المفيد (قُدس سره) فقال: «الإمام» هو: الإنسان الذي له رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا نيابةً عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) (1).

وقال في «أوائل المقالات»: «إنّ الأئمّة القائمين مقام الأنبياء : في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود [وهذا منصب القضاء]، وحفظ الشرائع [أي: من التحريف بزيادة أو نقصان]، وتأديب الأنام [أي: في الشؤون الثقافيّة]، معصومون كعصمة الأنبياء» (2).

فالإمام يتقلّد منصبًا، يترأس من خلاله إدارة أمور الدنيا، من تنظيم ومنع فوضى وإرجاع الحقوق إلى أهلها –فيما لو أتيح له ذلك- وفصل الدعاوى والخصومات وغيرها، وكذا يكون هو المُبيّن والموضح والشارح للشريعة التي يكون هو إمامًا فيها، خلافة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فيفسّر القرآن ويوضّح الأحكام الشرعية ويردّ الشبهات وغيرها مما يتعلق بالدين.

فالإمامة إذن فيها جنبة قيادية، وجنبة علمية، بالإضافة إلى الجنبة الروحية وأنها تمثّل الارتباط العقائدي الروحي بالدين عمومًا.

ص: 11


1- النكت الاعتقاديّة، المفيد، ص39.
2- أوائل المقالات، المفيد، ص 19.

ص: 12

المقدمة الثانية: العناصر المشتركة والخاصة في الإمامة
اشارة

هناك أمور وعناصر مشتركة فيما بيننا وبين العامة فيما يتعلق بالإمامة، وهناك أمور وعناصر اختص بها مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وبيانه بالتالي:

أولًا: العناصر المشتركة بيننا وبين العامة

يمكن استنتاج العناصر المشتركة في الإمامة عند الفريقين من التعاريف التي أوردوها للإمامة؛ وهي على النحو الآتي(1):

أوّلاً: «الولاية والرئاسة»

أي إن الإمام يتولى زمام الرئاسة الحكوميّة والدنيويّة، نعم، الولاية التي تعني الولاية التكوينيّة والتشريعيّة والاجتماعيّة منحصرة بالإماميّة، ولا يعتقد أهل السنّة بهذا النطاق الواسع من الولاية.

ثانياً: «خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونيابته»:

فالخلافة منضوية في معنى «الإمامة»، ولا خلاف فيها. وقد روي عن

ص: 13


1- راجع للتفاصيل: الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 18 – 21.

الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «إِنَّ الْإِمَامَةَ خِلَافَةُ الله وَخِلَافَةُ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله)» (1).

ثالثاً: «وجوب طاعة الإمام [أو الحاكم باصطلاحهم] على الجميع»:

رابعاً: «القيادة الشرعيّة»:

نيابة عن النبي، أي إن للإمامة والإمام قدسيّة وشرعيّة إلهيّة(2).

خامساً: إن الإمام شخص؛ وليس حزباً، أو فئةً، أو شورى بعينها.

سادساً: إن نطاق هذه الزعامة والقيادة هي شؤون الدين والدنيا كليهما.

فالإمام - حسب عقيدة الفريقين - يتولّى أمر سعادة الناس في الدنيا والآخرة. ومن هذا المنطلق، قسّم أهل السنّة الخلفاء إلى الراشدين وغير الراشدين، وآمنوا بأنّ الخلفاء الراشدين (أبا بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليّاً) كانوا معنيّين بجميع شؤون الأمّة الدنيويّة والأخرويّة. أمّا معاوية وغيره فلا يطلق عليهم هذا اللقب - رغم كونهم موضع احترام عندهم بسبب كونهم من الصحابة - لعدم اهتمامهم بأمور الناس الدنيويّة والأخرويّة، ولذلك يعتبرونه من ملوك الإسلام لا من الخلفاء.

قال ابن كثير: (...فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الإسلام)(3)

ص: 14


1- الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 198.
2- ربما يُقال: إن هذا المعنى يصدق في الخلفاء الأوائل، أما في العهد الأموي والعباسي فكان الحاكم هو القائد السياسي، وأما الشرعية فهي للعالم، ولذا ظهرت المذاهب، علماً أن العالم كان تابعاً للحاكم عندهم.
3- البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص 21، وقال في ج13 ص 239: والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم كانت ثلاثين سنة كما نطق بها الحديث الصحيح، فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم ابنه الحسن بن علي ستة شهور حتى كملت الثلاثون كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت ملكا فكان أول ملوك الاسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، ثم ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وانقرض هذا البطن المفتتح بمعاوية المختتم بمعاوية، ثم ملك مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، ثم ابنه عبد الملك، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم أخوه سليمان ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد ثم يزيد بن الوليد، ثم أخوه إبراهيم الناقص وهو ابن الوليد أيضا، ثم مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار، وكان آخرهم، فكان أولهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان، ثم انقرضوا من أولهم إلى خاتمهم. وكان أول خلفاء بني العباس عبد الله السفاح، وآخرهم عبد الله المستعصم. وكذلك أول خلفاء الفاطميين فالأول اسمه عبد الله العاضد، وآخرهم عبد الله العاضد، وهذا اتفاق غريب جدا قل من يتنبه له، والله سبحانه أعلم.
ثانيًا: العناصر الخاصة بالإمامة عند الشيعة الاثني عشرية
اشارة

أي ما نتبنّاه نحن فيما يتعلق بالإمامة، وهي عدة أمور، يجمعها الاعتقاد بأن الأئمة (عليهم السلام) هم أشخاص اتّصفوا بصفات استثنائية فريدة، لم يتمكن غيرهم منْ أنْ يتّصف بها بنفس المرتبة التي عندهم، وأن هذه الصفات أهّلتهم ليكونوا خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأئمة على الناس أجمعين، وجعلتهم في موضع السبق بالنسبة إلى غيرهم، وأنهم القادة لمن أراد أن يصل إلى بر الأمان، ولا طريق للنجاة من دونهم، وأهم ما اتصفوا به من مؤهلات هي التالي(1):

أوّلاً: «الولاية المطلقة»

ومعناها اشتمال الولاية التي يتحلّى بها الإمام على شتّى ألوان الولاية التكوينيّة، والتشريعيّة(2)،

والقياديّة.

ص: 15


1- راجع للتفاصيل: الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 21.
2- على خلاف فيها أو في معناها وسعتها.
ثانياً: النص

فليست الأمّة هي من يختار الإمام، نعم يلزم على الأمة أن تبايع الإمام، ولكن مع ملاحظة أن البيعة ليست هي العامل الذي يمنح الشرعيّة للإمام، خلافاً لما تذهب إليه رؤى الديموقراطيّة اللبراليّة؛ حيث إن مشاركة الشعب عندهم هو مصدر من مصادر الشرعيّة. وإنما البيعة تُلزم المبايِع باتباع الحاكم فعلًا وعلى واقع الأرض، فهي - في واقع أمرها - عامل يساهم في فعليّة وجوب طاعة الحاكم، وتحقّق ذلك على الأرض، في ما يرى أهل السنّة أنّ الحاكم نائب عن الأمّة، وأنّ شرعيّته الفلسفيّة منوطة باختيار الأمّة له بشروط إلهيّة، فالأمة هي التي تعين الحاكم والإمام –بطريقة وبأخرى-، فيكون الإمام نائبًا عن الأمة لأنها انتخبته وجعلته...

ثالثًا: «العصمة»

الشاملة لجميع دوائر المعرفة، والتبليغ، والعمل بالدين والشريعة، فنحن نعتقد أن الإمام معصوم في جميع مراتب العصمة قولًا وفعلًا واعتقادًا، وكالتالي(1):

أ/ أنه معصوم في العقيدة: أي إنه مؤمن بالله تعالى عارف به جل جلاله، ولا يشوب إيمانه جهل ولا شرك وتعطيل ولا أي سوء.

ب/ العصمة في الأخلاق والصفات النفسية: فلا حقد عندهم ولا حسد

ص: 16


1- انظر: الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية للشيخ فاضل الصفار ج6 ص 121 - 123

ولا اتباع للهوى أو الأنا، وهم منزّهون عن جميع رذائل الأخلاق ومساوئ السلوك، ليس فيهم إلا صفات الكمال.

ج/... أنهم في سلامة جسمية تامّة، ولا يشوب أجسامهم تشوه ما، من العمى أو العرج أو الحول والجنون والخرس والشلل وقبح الشكل.

د/ العصمة في القول والفعل: فما يفعلونه ويقولونه هو حجة، فلا موضع للخطأ أو الاشتباه فيه.(1)

ه/... في الصبر والاستقامة: فهم في طريق تحقيق المراد الإلهي لا يتراجعون ولا يتذبذبون ولا يصيبهم يأس ولا عجز ولا كسل.

وبعبارة أخرى(2):

إن هناك العديد من المجالات التي يلزم أن يكون الإمام معصومًا فيها، وهي إجمالًا التالي:

1/ العصمة عن ارتكاب المعصية، ومخالفة الأوامر الإلهيّة (الواجبات والمحرّمات).

2/ العصمة عن الخطأ والنسيان في تلقّى الوحي والرسالة وتبليغهما.(3)

3/العصمة عن الخطأ والنسيان في تنفيذ الأحكام الإلهيّة، وتطبيقها مع

ص: 17


1- وكذا في تقريراتهم.
2- انظر: الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 75 – 76.
3- وكذا في تلقي الشريعة من القرآن وسنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالنسبة للمعصومين (عليهم السلام).

الشرع، والأمن من الخطأ في القيام بالأمور الفرديّة والاجتماعيّة(1).

4/العصمة في المعتقدات الدينيّة.

5/العصمة في التعرّف على موضوعات الأحكام الشرعيّة بدقّة.

6/العصمة في معرفة المصالح والمفاسد الفرديّة والاجتماعيّة.

7/العصمة في الأمور العاديّة وشؤون الحياة اليوميّة.

والخلاصة: نعتقد أن الإمام معصوم في جميع مجالات حياته الفردية والاجتماعية، الشخصية والإلهية، النظرية والعملية.

بيان آخر لما اختص به الشيعة من اعتقادات في الإمامة:
اشارة

يمكن أن نذكر عدة نقاط تبين ما نتبنّاه في ما يخص الإمامة، وما يعتقد به العامة في قبالها وهي التالي:

النقطة الأولى: ضرورة الشخص الحقيقي المرتبط بالسماء

نحن نؤمن بضرورة وقوع استمرار الشخص الوسيط المرتبط بالسماء، وهو النبي ثم الإمام، وأن ارتباطه بالسماء ليس بالأدوات المتعارفة لدينا من فطرة وعقل... وإنما بالعلم اللدني، وأن هذا الشخص يبقى مستمرًا إلى نهاية الدنيا.

فالحياة بدأت بالنبوة، وتنتهي بالمصلح، وهناك تسلسل وبلا انقطاع فيما

ص: 18


1- راجع: الإلهيّات على هدي الكتاب والسنّة والعقل، السبحاني، ج 3، ص155.

بين البداية والنهاية يمثله ذلك الشخص (الإمام)، فإن الأرض لا تخلو من حجة لله تعالى.

إذن، لا بد من شخصية حقيقية مرتبطة بالسماء –نبيًا كان أو وصيًا-، ولا يكفي مجرد وجود الشريعة والدين، وإنما لا بد من قائم عليه منصّب من السماء، وهذا يفرز:

أ: تسلسل الأئمة الاثني عشر في الفكر الإسلامي، وبصورة متواصلة لا منقطعة.

ب: ظاهرة الغيبة النسبية، فإن تسلسل الأئمة بالعدد المحدد يعني غيبة آخرهم اليوم، لا كما يؤمن الآخر بأن المصلح سيولد في آخر الزمان.

أما العامة فقد قَبِلَوا أن البداية للنبي (وهذا أمر متفق عليه بين جميع المتدينين)، وأن النهاية أيضًا تكون لمصلح، وهو ليس بنبي، ولكنه سيولد في آخر الزمان، وأما فيما بينهما، فلا ضرورة للإمام، وإنما تكفي شريعة، ولذا لم يكن للغيبة موضوع؛ لأنها فرع وجود الإمام بالتسلسل والتتالي، المتفرع عن عدم خلو الأرض من الحجة بالمعنى المتقدم.

النقطة الثانية: الإمام يمثل القوة التشريعية

إن هذا الواسطة بيننا وبين السماء يمثل القوة التشريعية، فهو إنْ كان نبيًا فهو ينبئ عن السماء من خلال الوحي، وإن لم يكن نبيًا (وهو الوصي)، فهو يبقى المرجع الديني الأم والمصدر في مجمل شؤون الدين، عدا الإنباء

ص: 19

عن السماء كنبي من الأنبياء، فهو إمام وليس بنبي، لأن النبوة خُتمت بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

فالشخص الحقيقي –بعد النبي- هو مصدر تشريع، فيكون قوله نفسه حجة، بلا حاجة إلى استدلال على حجيته، بمعنى: أننا ملزمون بأقواله فيما يتعلق بالشريعة من أحكام وقوانين إسلامية وإن لم يبين العلة في حكمه، وهذا لا يمنع من تبرّعه بالبيان لو رأى مصلحة- هو يحددها- في ذلك، وهذا أحد الفوارق بين قول المعصوم وقول المجتهد، إذ المجتهد قوله ليس بحجة بذاته، إنما بدليله. في حين أن قول الشخص الأول، المصدر، الرجل الأول أي الإمام، هو حدٌّ أوسط ودليل في حدّ ذاته.

أما العامة، فإنهم لم يقبلوا بأهل البيت (عليهم السلام) مرجعًا دينيًا معصومًا، بل لم يقبلوا مرجعيتهم الدينية رغم اعترافهم بأنهم الأعلم، وحتى من قبِل منهم المذهب الجعفري، فإنه قبِله كمذهب خامس في عرض مذاهبهم، لا أنه قَبِله كمذهبٍ يمثّل المرجع لبقية المذاهب، والمذهب الحق دون غيره.

إن هذا الخلاف أنتج مدارس فقهية أربعة للعامة، في قبال المدرسة الفقهية الشيعية، ومدرستين عقائديتين –على الأقل- هي الأشعرية والمعتزلية في قبال المدرسة الإمامية.

النقطة الثالثة: الإمام يمثل القوة التنفيذية

إن هذا الشخص يمثل القوة التنفيذية، أي إنه معنيّ بتطبيق الشريعة،

ص: 20

طبعًا إذا توفرت الظروف الموضوعية، وهو إذا أتيح له ذلك فإن عنده القدرة والعلم والحكمة على أن يقود الأمة إلى أفضل ما يمكن أن تصل إليه من العدل والأمان والسلام، وهو ما بيّنته الزهراء (عليها السلام) في خطبتها في نساء المهاجرين والأنصار حيث قالت في مقام شرحها لمهام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومحوريته:

(وَمَا اَلَّذِي نَقَمُوا مِنْ أَبِي اَلْحَسَنِ (عليه السلام)؟! نَقَمُوا وَاَللهِ مِنْهُ نَكِيرَ سَيْفِهِ، وَقِلَّةَ مُبَالَاتِهِ لِحَتْفِهِ، وَشِدَّةَ وَطْأَتِهِ، وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ، وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اَللهِ، وَتَاللهِ لَوْ مَالُوا عَنِ اَلمَحَجَّةِ اَللَّايِحَةِ، وَزَالُوا عَنْ قَبُولِ اَلْحُجَّةِ اَلْوَاضِحَةِ، لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً، لَا يَكْلُمُ حُشَاشُهُ، وَلَا يَكِلُّ سَائِرُهُ، وَلَا يَمَلُّ رَاكِبُهُ، وَلَأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلاً نَمِيراً، صَافِياً، رَوِيًّا، تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ وَلَا يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ، وَلَأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً، وَنَصَحَ لَهُمْ سِرًّا وَإِعْلَاناً، وَلَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّىٰ مِنَ اَلدُّنْيَا بِطَائِلٍ، وَلَا يَحْظَىٰ مِنْهَا بِنَائِلٍ، غَيْرَ رَيِّ اَلنَّاهِلِ، وَشُبْعَةِ اَلْكَافِلِ، وَلَبَانَ لَهُمُ اَلزَّاهِدُ مِنَ اَلرَّاغِبِ، وَاَلصَّادِقُ مِنَ اَلْكَاذِبِ، ]وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ[(1)، ]وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ[.(2)

أَلَا هَلُمَّ فَاسْمَعْ، وَ مَا عِشْتَ أَرَاكَ اَلدَّهْرُ عَجَباً، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، لَيْتَ شِعْرِي إِلَىٰ أَيِّ سِنَادٍ اِسْتَنَدُوا؟! وَإِلَىٰ أَيِّ عِمَادٍ اِعْتَمَدُوا؟! وَبِأَيَّةِ

ص: 21


1- الأعراف: 96.
2- الزمر: 51.

عُرْوَةٍ تَمَسَّكُوا؟! وَعَلَىٰ أَيَّةِ ذُرِّيَّةٍ أَقْدَمُوا وَاِحْتَنَكُوا؟! ]لَبِئْسَ الْمَوْلىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ[ (1)...)(2)

فالسيدة الزهراء (عليها السلام) تبين أن اتخاذ الإمامة محورًا يؤدي إلى رغد العيش وبطريقة سهلة لا صعوبة فيها.

وهكذا هو المسؤول والمعنيّ عن إزالة الظلم والجور من على وجه البسيطة وإحلال الأمن والعدل والقسط فيها.

أما العامة، فإنهم اعتبروا أن السيطرة على الحكم والسلطة هو الجوهر في الإمامة، ومن يصل إلى الحكم فما يفعله هو الحجة والقانون وإن كان بالضد من الدين –كشرب الخمر وظلم العباد-

النقطة الرابعة: أن الإمام معصوم

إن هذا الشخص (الإمام) يتمتع بالعصمة، فقوله هو الواقع، فلا مجال للخطأ فيه، فهو مضمون الحقانية، لينتج أنه والواقع شيء واحد.

أما الآخر فلم يكتف برفع اليد عن شرط العصمة وحسب، ولم يقف –على الأقل- عند حدود الأعلمية في الحاكم، بل قَبِلَ بالحاكم بعنوانه، فمجرد كونه حاكمًا ووصل إلى الحكم وبأي طريقة كانت، فهو الحجة والذي تجب طاعته وإن فسق عن أمر ربه...

ص: 22


1- الحجّ: 13.
2- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص148.

ففي الوقت الذي جعلنا –نحن- المحورية للعصمة، هم جعلوها للحاكم بالمطلق، ولذا أخذوا بالدفاع عنه فأعطوه طابع القداسة.

النقطة الخامسة: أن تعيين الإمام من السماء حصراً

إن هذا الشخص (الإمام) يتم انتخابه وتعيينه من السماء، (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً)(1)

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)(2)

ومن هنا ينفتح ملف (النص) وأن هذا الإمام منصّب من الله تعالى، وليس من حق الناس ذلك.

أما الأخر، فإنه أنكر النص صغرويًا، أي إنه قال بعدم وجود نصٍّ دالٍّ على تنصيب الخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، سواء كان هو أمير المؤمنين (عليه السلام) وبقية أهل البيت (عليهم السلام)، أو غيرهم، ولذلك فحينما جاؤوا للطريقة التي يلزم أن يتبعوها في تحديد الخليفة والحاكم فقد تأرجحت آراؤهم بين الانتخاب العام (كما حصل مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، والانتخاب الخاص (كما في أبي بكر، أو التعيين في عمر، أو الشورى، كما في عثمان)، والقوة (كما في معاوية وبني العباس)، والوراثة (كما في يزيد وغيره من بني أمية وبني العباس)، وكل هذه الطرق عُمل بها والتزموا بنتائجها، وألبسوها ثوبًا شرعيًا، ورفعوها من

ص: 23


1- البقرة 30.
2- الأنبياء 73.

كونها محاولة بشرية إلى كونها هي الأساس الذي تريده السماء.

النقطة السادسة: أن الإمام عقيدة

إن ذلك الشخص –نبيًا كان أو وصيًا- يمثل عقيدة، فقبوله والإيمان به من أصول الدين لا فروعه.

وأما الآخر فلم يتعامل مع الإمامة معاملة العقيدة، وإنما معاملة فرع من فروع الدين لا أكثر. فهي قضية عملية فقط لا يُراد منها إلا الحكم أو الاجتهاد بأي طريقة كانت وبأي شكل كان، فهي عندهم كالعمل التوصلي الذي لا يُراد منه إلا نتيجته ولو حصل من دون قصد ولا نية قربة. فالشيعة يفترضون أن الصراع على الإمامة صراع الإيمان والكفر، صراع الحق والباطل، صراع النجاة والهلاك. لا أنه صراع إسلامي إسلامي كما يحاول السنة تصويره.

ص: 24

المقدمة الثالثة: أن الإمامة أصل

هل الإمامة أصل من أصول الدين أو فرع من فروعه؟

السنة على أنها فرع، وكلماتهم صريحة في ذلك(1)،

قال الغزالي: اعلم أن النظر في الإمامة ليس من فن المعقولات ، بل من الفقهيات.(2)

وقال الآمدي (المتوفى 631 ه ): واعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات.(3)

وقال الإيجي: ومباحثها عندنا من الفروع ، وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسيا بمن قبلنا.(4)

وقال ابن خلدون: وقصارى أمر الإمامة إنها قضية مصلحية إجماعية ولا تلحق بالعقائد.(5)

ص: 25


1- انظر: محاضرات في الإلهيات ص 326.
2- الاقتصاد في الاعتقاد : 234
3- غاية المرام في علم الكلام : 363 .
4- شرح المواقف : 8 / 344 .
5- مقدمة ابن خلدون : 465 ، ط دار القلم ، بيروت.

وقال التفتازاني: لا نزاع في أن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق...(1)

والإمامية على أنها أصل، بل يعتبرونها صنو النبوة، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(2) الدال على أن الإمامة في مستوى أصل تبليغ الرسالة، وأن الرسالة بدون الإمامة ليست رسالة.

وقد ذكر العلماء عدة أمور تصلح كأدلة أو مؤشرات –ولو بمجموعها- لكونها من الأصول:

1 – أن كل ما يحصل من النبوة من أغراض –من بيان الدين وتفسير القرآن وردّ الشبهات وتنظيم أمور الناس وغيرها- يحصل بالإمامة الحقة، وحيث إن النبوة أصل، فكذا الإمامة.

2 - الباحثون عموماً بحثوها في علم الكلام، وعلم الكلام يبحث عن الأصول لا الفروع.

3 - تعريفها الذي تقدم يشير إلى أنها من الأصول.

4 - وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) من طرق الفريقين: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.

5 - عدم جواز التقليد فيها، ولو كانت من الفروع لجاز التقليد فيها.

ص: 26


1- شرح المقاصد : 5 / 232 ، ط منشورات الرضي ، قم المقدسة .
2- (67) من سورة المائدة.

6 – ولأن النبوة تبقى بالإمامة، أي إن النبوة خُتمت بالنبي (صلى الله عليه وآله) ولكنها استمرت بالإمامة، وهو ما ربما يشير إليه قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(1)

7 – ولأن أناساً ارتدوا القهقرى بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد ترتب على ارتداداهم هذا أنهم يجلون عن الحوض يوم القيامة على ما في الصحيحين، والتعبير بالردة دليل على أن الإمامة أصل.

ولذا قال القندوزي في ينابيعه: وفى عين الأخبار: سئل الرضا (رضي الله عنه) عن حديث (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).. فقال: هذا الحديث صحيح، لكن يريد من لم يُبدل بعده ولم يغير.. لأنه (صلى الله عليه وآله) قال: ليذادَنَّ رجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي كما تذاد غرائب الإبل عن الماء، فأقول: يا ربي إنهم أصحابي أصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: بُعدًا لهم وسحقًا لهم.

ثم قال: والأحاديث الواردة في دفع بعض الأصحاب عن الحوض كثيرة: تسعة منها في مسلم، وثمانية منها في البخاري، وأيضا في الترمذي والنسائي وابن ماجة موجود، وفي المشكاة حديثان. (2)

وهذا من المتفق عليه بين الجميع، فتصنيفها في الفروع مع الاعتراف بهذا تناقض واضح. خصوصاً وأن بعضهم كفّر من لم يعترف بإمامة أبي بكر، وهم

ص: 27


1- (7) من سورة الرعد.
2- ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي ج1 ص 397 - 398 باب 44 ح 18.

يبيحون قتْل من يقول بإمامة غيره بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، فما وقع في كلمات بعضهم من جواز التقليد فيها بل وعدم وجوب البحث عنها هو من التناقضات المسجَّلة عليهم.

8 – ولأن إطاعة الإمام وولايته عدل إطاعة الله تعالى وإطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وعدل ولاية الله تعالى وولاية رسوله (صلى الله عليه وآله) كما نطق به التنزيل.

قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(1)

وقال تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.)(2)

ص: 28


1- النساء 59.
2- المائدة 55.
المقدمة الرابعة: بيانات في ضرورة الإمام المعصوم
اشارة

لا شك في أن الناس يحتاجون إلى إمام يقودهم إلى السلام وينفي الظلم وينظّم أمور حياتهم، وهم في ذلك سواء، وهو ما أشار له أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (وإِنَّه لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِه الْمُؤْمِنُ، ويَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، ويُبَلِّغُ الله فِيهَا الأَجَلَ ويُجْمَعُ بِه الْفَيْءُ، ويُقَاتَلُ بِه الْعَدُوُّ وتَأْمَنُ بِه السُّبُلُ، ويُؤْخَذُ بِه لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ ويُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ)(1)

هذا في الأمور الدنيوية، ولكن في الأمور الأخروية –وكذا الدنيوية طبعًا- لماذا أصرّ أتباع أهل البيت (عليهم السلام) على ضرورة أن يكون الإمام معصومًا، أوَ لا يكفي أن يكون قائدًا سياسيًا محنكًا؟ أو عالمًا عبقريًا لكنه غير معصوم بحيث يمكن أن يقع في الخطأ ولو سهوًا؟

في مقام الجواب، ذُكرت عدة بيانات لضرورة كون الإمام والخليفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) معصومًا، نذكر منها التالي:

ص: 29


1- نهج البلاغة ج1 ص 91.
البيان الأول: لو لم يكن الإمام معصومًا للزم التسلسل

أن دور الإمام –حسب اعتقادنا الإسلامي- هو دفع الظلم عن الناس، وعدم السماح بالجور، وعدم السماح بوقوع المعصية من الفاسق، فلو كان الإمام غير معصوم لأمكن أن تصدر منه الأخطاء، وبالتالي لأمكن أن يكون هو ظالمًا، ولو خطأً، أو هو يرتكب المعصية ولو سهوًا، فتذهب فائدة نصب الإمام، أو نحتاج إلى إمام آخر فوق هذا الإمام يصحح له المسار، وننقل الكلام إلى ذلك الإمام الآخر، فإن كان معصومًا فبها، وإلا أمكن صدور الظلم منه، وهكذا يتسلسل، والتسلسل باطل.

قال السيد المرتضى (قدس سره) في بيان هذا التقريب:

والذي يدل على عصمة الإمام: أن علة الحاجة إليه هي جواز الخطأ وفعل القبيح من الأمة.

قال: فليس يخلو الإمام من أن يكون يجوز عليه ما جاز على رعيته أو لا يجوز ذلك عليه.

قال: وفي الأول وجوب إثبات إمام له، لأن علة الحاجة إليه موجودة فيه وإلا كان ذلك نقضًا للعلة، وهذا يؤدي إلى إثبات ما لا يتناهى من الأئمة، أو الانتهاء إلى إمام معصوم، وهو المطلوب.(1)

ص: 30


1- رسائل الشريف المرتضى- الشريف المرتضى- ج1 ص 324.
البيان الثاني: أن حفظ الشريعة لا يكون إلا بالمعصوم

إن من أهم أدوار الإمام –الذي هو خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)- هو حفظ الشريعة الإسلامية من أن تُحرّف أو يُدسّ فيها ما ليس منها، أو أن تضيع بين أيدي الفسقة أو الذين يعملون على إماتتها، وحيث إن الإسلام هو الرسالة الخالدة إلى قيام الساعة، فلا بد إذن أن يتم حفظ شريعته من التلاعب والدسّ والتزوير، فلو لم يكن الإمام معصومًا لأمكن له هو أن يخطئ فيها، أو أن تغرّه الدنيا فيتهاون بحفظ الشريعة، ويتساهل في بيان الأحكام الشرعية أو تطبيقها، فربما ضاعت الشريعة بين أيدي غير المعصوم.(1)

قال السيد المرتضى في تقريب هذا البيان:

قد علمنا أن شريعة(2) نبينا عليه السلام مؤبدة غير منسوخة، ومستمرة غير منقطعة، فإن التعبّد لازم للمكلفين إلى أوان قيام الساعة، ولا بد لها من حافظ، لأن تركها بغير حافظ إهمال لأمرها، وتكليف لمن تعبّد بها ما لا يطاق، وليس يخلو أن يكون الحافظ معصومًا أو غير معصوم، فإن لم يكن معصومًا لم يُؤْمَنْ من تغييره وتبديله، وفي جواز ذلك عليه - وهو الحافظ لها - رجوع إلى أنها غير محفوظة في الحقيقة، لأنه لا فرق بين أن تحفظ بمن جائز عليه التغيير والتبديل والزلل والخطأ وبين أن لا تحفظ جملة إذا كان ما يؤدي

ص: 31


1- وهذا لا ينافيه وجود بعض التحريفات في الأحكام الشرعية اليوم، أو الدس الموجود في التراث، لأن المقصود: أن المعصوم هو الحافظ للشريعة لمكان عصمته، غايته أنه قد لا يتمكن من إظهار الحق لسبب موضوعي، كما في الغيبة والتقية.
2- في المصدر (شريعته)، والأصح (شريعة).

إليه القول بتجويز ترك حفظها يؤدي إليه حفظها بمن ليس بمعصوم، وإذا ثبت أن الحافظ لا بد أن يكون معصومًا، استحال أن تكون محفوظة بالأمة وهي غير معصومة، والخطأ جائز على آحادها وجماعتها، وإذا بطل أن يكون الحافظ هو الأمة فلا بد من إمام معصوم حافظ لها.(1)

البيان الثالث: العصمة هي الطريق المنحصر للتخلص من مشاكل الإنسان المزمنة

هناك مشاكل رافقت البشرية منذ بدء وجودها على الأرض، وهي باختصار التالي:

1/ أن اشتداده الأخلاقي عبارة عما يشبه تسلّق الجبل، وهو مع انفتاح خط العودة والانكفاء يكون مهدّدًا بالرجوع وبطريقة الهبوط السريع جدًا والمؤذي جدًا.

هذا الخطر موجود ما دام الإنسان في هذه الحياة، وهو مفاد ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الدنيا كلُّها جهل إلَّا مواضع العلم، والعلم كلُّه حجَّة إلَّا ما عُمِلَ به، والعمل كلُّه رياء إلَّا ما كان مخلصاً، و الإخلاص علىٰ خطر حتَّىٰ ينظر العبد بما يُختَم له»(2).

ومن هنا روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقَّن الوصول إلىٰ رضوان الله، حتَّىٰ يكون وقت نزع روحه

ص: 32


1- الشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج1 ص 179 – 180.
2- التوحيد للشيخ الصدوق (ص 371).

وظهور مَلَك الموت له»(1).

هناك قلق مستمر لدى الإنسان من أن يفقد مكتسباته، ولا يصل إلى نقطة يستشعر فيها أن ما اكتسبه بات ثابتًا مضمونًا له.

2/هناك وسائل ضغط وأدوات إضلال تعمل على أن يتم تحريك الإرادة الإنسانية نحو الهاوية، أما الوسائل بالاصطلاح الديني فهي:

أ: الهوى:

وقد يصل إلى حد التأليه (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)(2)

ب: الشيطان:

وهو الآخر قد يصل إلى حدّ التأليه (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(3)

ج: الدنيا:

فإنها أشبه بالقوة الجاذبة التي تمنع الإنسان من أن يتركها ليتعلق بالآخرة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَىٰ الْأَرضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)(4).

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ

ص: 33


1- التفسير المنسوب إلىٰ الإمام العسكري (عليه السلام) (ص 239/ ح 117).
2- الجاثية 23.
3- يس 60.
4- التوبة 38.

مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَىٰ الْأَرضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.)(1)

وأما المواد الجاذبة لتلك الأدوات التي تسحب الإنسان نحو الرذيلة فهي:

أ: المال:

وكونه مشكلة أمر وجداني، فإشكاليته (الاقتصادية) تعد اليوم من أهم وأكبر مشاكل الإنسان والأمم،(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)(2)،

قد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (المال فتنة النفس ونهب الرزايا)(3)

ب: الجنس: قد يقع الإنسان في حباله إلى الحد الذي يلغ فيه أكثر من ولوغ الحيوان، بل قد يصل إلى مرحلة من مقارفته يخجل من فعلها حتى الحيوان. وقد اعتبرته بعض الروايات الشريفة سيف الشيطان الذي يوقع المرء في الهلكة.(4)

ج: الجاه:

وهو ما قد يبذل المرء من أجله راحته وماله وربما حياته، وقد روي عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: ما ذئبان ضاريان أُرسلا في زريبة

ص: 34


1- الأعراف 175 – 176.
2- الهمزة 3.
3- عيون الحكم والمواعظ للّيثي ص60.
4- عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين. عليه السلام: الفتن ثلاث: حب النساء وهو سيف الشيطان، وشرب الخمر وهو فخ الشيطان، وحب الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان، فمن أحب النساء لم ينتفع بعيشه، ومن أحب الأشربة حرمت عليه الجنة، ومن أحب الدينار والدرهم فهو عبد الدنيا...[الخصال للشيخ الصدوق ص 113 باب الثلاثة ح91].

غنم، بأكثر فسادًا فيها من حب المال والجاه في دين الرجل المسلم.(1)

3/المشكلات الفكرية التي ترافق الإنسان في وجوده كله، والتي أهمها (الجهل) وأهم وأخطر منه (الجهل المركب)، فقدر الإنسان (عدا المعصوم) هو الخطأ.

هذه المشاكل لا يمكن لإنسان غارق في الخطيئة أو متعلق بالدنيا أن يحلَّها، ما لم يكن على قدر عالٍ من العلم والحكمة إلى الحدّ الذي يصل إلى العصمة، حتى لا يتهمه الناس، ولا تغرّه المناصب، ولا يخطئ في تقييم حالة أو علاجها، مما يعني أن الحاجة إلى المعصوم هي حاجة متجذّرة في وجود الإنسان وفطرته فضلًا عن كونها حاجة عقائدية حيث نحتاج إلى من يوصل إلينا مرادات الله تعالى حتى نصل إلى رضوانه جل وعلا، ولو لم يكن المبلغ معصومًا لأمكن أن يقع في الخطأ وحتى ربما تعمّد الخطأ من أجل حطام الدنيا، وهذا ما لا يمكن أن نتصوره في المعصوم؛ حيث إنه لعصمته لا يخطئ ولا ينسى ولا يشتبه في شيء أبدًا.

فالحاجة إلى المعصوم إذن تكمن في أنه هو الوحيد القادر على حلّ مشاكل الإنسان من دون أن يحابي فيها أو أن يقع هو في مشكلة من تلك المشاكل، فيحتاج إلى من يخلّصه منها.

ص: 35


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام) ص163.
البيان الرابع: أن المعصوم هو الوحيد القادر على تحقيق أمنيات الإنسان الكبرى
اشارة

للإنسان أمنيات أساسية كلية لا مقطعية جزئية، يهدف إلى الوصول إليها وتحقيقها بكل ما أوتي من قوة وما توفر له من وسائل، وكلها تهدف إلى غاية واحدة هي تحقيق السعادة له، وتلك الأمنيات هي:

أولًا: الأمن

والطمأنينة والاستقرار وفي مختلف مستويات الحياة –الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها- فالأمن هدف ومطلب، ولا تجد عاقلًا يجعل من القلق والاضطراب والحيرة والتردُّد هدفًا يقصده، أو مُنية يتمناها.

ثانيًا: الرفاهية

إذ يجد الإنسان راحته وسعادته في الرفاهية والدعة، فهو يهدف إلى تحصيلها بشتى الطرق، وإن كانت بعض تلك الطرق تبدأ بالتعب والنصب والحرمان والتضييق على النفس، كمن يتجرّع مرارة العلاج ليحصل على راحة الصحة، أو من يصوم ليهنأ في الآخرة، أو من يسهر الليالي لأجل تحصيل العلم، أو ينْصَبُ بالتجارة ليربح الرفاهية المالية.

لذلك كان السجن أحبّ إلى النبي يوسف (عليه السلام)، لأنه وإن خسر رفاهية البدن وحرية الحركة، إلاّ أنه ربح الرضوان الإلهي بالابتعاد عن الفاحشة.

قد تنعدم الرفاهية في الوسيلة فتكون صعبة وتستبطن التضييق، بيد أنها

ص: 36

لمّا كانت لتحصيل الرفاهية كانت مقبولة.

ثالثًا: العدالة

حيث ينشدها الجميع، ويحلم بها الجميع، ويخطط لها الجميع، ويتحرك نحوها الجميع، لا يختلف على إرادتها اثنان، إنما الاختلاف في التطبيق والوسيلة والتشخيص، وليس في أصل كونها مطلبًا ومُنْية، فحتى المستبدين يرفعونها شعارًا يُقنعون به أنفسهم ويجذبون به الأنصار.

رابعًا: الحرية
اشارة

فلا أحد يحب أن يكون عبدًا لغيره، أو رِقًّا تتداوله الأيدي، لا أحد يرغب في أن لا يملك من أمر نفسه شيئًا، فالكل ينشد الحرية، على اختلاف في تفسير الحرية، حيث أراد لها البعض أن تكون بمعنى الانفلات من أي قيد، فيما قد يفسّرها آخرون بأنها الانضباط وفق نظام الحقوق والواجبات، وعلى كل حال، فالحرية مطلب لكل البشر وإن كان المراد منها عائمًا وضبابيًا في بعض الأحيان.

هذه هي أمنيات الإنسان الكبرى على نحو الإجمال.

مع الالتفات إلى:

1/ أن كل الأماني الكبرى تشترك في هذه الخاصية وهي: أنها مطلب الكل، وينظر لها الكل، ويسعى لها الكل، إنما الخلاف كله في البعد التنفيذي فيها، وفي الوسائل الموصلة لها.

ص: 37

2/ وكلها تصب في تحقيق مطلب رئيسي، وهي السعادة، فكلها عناصر لأمنية عامة هي (السعادة) واللذة والمتعة والشعور بالراحة، فالسعادة هي المطلب الحقيقي للإنسان، تلك السعادة تكون من خلال الأمن والرفاهية والعدالة والحرية، فالسعادة هي المقصد النهائي لحركة الإنسان.

3/هناك اختلاف وبحد التناقض يظهر في التشخيص والتطبيق والوسيلة، فبينما يرى البعض سعادته في جمع المال بما هو مال، يرى الآخر أنها في تحقيق الجاه، وثالث في إشباع رغباته الجنسية، ورابع يرى أن السعادة الحقيقية إنما تكون في الآخرة، حيث الخلود والنعيم الأبدي، الأمر الذي يجعله يتحمّل كل شقاء الدنيا من أجلها.

هذا الاختلاف الفظيع في تجليات وتمظهرات ووسائل السعادة يمثّل مشكلة أخرى من مشاكل الإنسان الكبرى.

4/ لا شك أن الأمنية الكبرى هو الوصول إلى رضا الله تعالى، ففي زيارة أمين الله: (إنك ولي نعمائي ومنتهى مناي وغاية رجائي في منقلبي ومثواي)(1)

حيث يتضح جليًا أن الهدف الأسمى والأمنية النهائية هو الله تعالى.

في دعاء عرفة (ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك، لقد خاب من رضى دونك بدلًا، ولقد خسر من بغى عنك متحولًا) حيث يتضح أيضًا أن الوجدان الحقيقي هو بالوصول إلى رضا الله تعالى. حتى تصل النفس إلى نهايتها في الدنيا، فتحظى بالرجوع إلى الله تعالى (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ.

ص: 38


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص739.

ارْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي.)(1)

5/لا تعني السعادة الأخروية ولا تستلزم أن لا مشروع للدين لتوفير السعادة في الدنيا. وربما يظهر من بعض الأدبيات هذا الفهم المغلوط وأن (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر) فالمتدين له الآخرة ولغيره الدنيا، وهو فهم مغلوط، فللدين مشروعه في الدنيا يتمثل بالسعادة والرفاهية والعدل كما في الآخرة، كما يظهر من النص القرآني: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَىٰ الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(2)،و

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ)(3)،

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ)(4)، و(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(5)

ويظهر هذا المشروع أيضًا من مثل: (اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا وغيبة ولينا وشدة الزمان علينا ووقوع الفتن وتظاهر الأعداء وكثرة عدونا وقلة عددنا، فافرج ذلك يا رب عنا بفتح منك تعجله ونصر منك تعزه وإمام عدل

ص: 39


1- الفجر 27 – 30.
2- الجن 16.
3- الأعراف 96.
4- القصص 5 -6.
5- الحديد 25.

تظهره، إله الحق آمين)(1)

وفي نص آخر: (اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة)(2)

وفي نص روائي يؤكد على لا بدية تحقق القسط والعدل على يدي المهدي الموعود، روي عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن خلفائي و أوصيائي، وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر: أولهم أخي وآخرهم ولدي، قيل: يا رسول الله ومن أخوك؟ قال: علي بن أبي طالب، قيل: فمن ولدك؟ قال: المهدي الذي يملأها قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا، والذي بعثني بالحق نبيًا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي خلفه، وتشرق الأرض بنوره ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب.(3)

إذا تبين هذا نقول:

إن تحقيق هذه الأمنيات لا يكون بالمعجزة بلا أدنى شك، وإنما هو موقوف على أمرين:

ص: 40


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص 366.
2- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص581.
3- كمال الدين للشيخ الصدوق ص280 باب 24 ح27.
الأمر الأول: الإرادة

والاختيار الإنساني، أي لا بد من تفعيل الإرادة عمليًا. وحتى تتم الاستفادة من الإرادة نلفت إلى:

أ/أن الإرادة وإن كانت موجودة داخل كل فرد، ولكن وجودها من دون تفعيل لا فائدة فيه، ذلك التفعيل الذي يكون مسبوقًا باستشعارها وجدانًا، الأمر الذي يؤدي إلى إعطاء الإرادة موقعها المناسب.

على الإنسان أن يستشعر إرادته، وأنها قوام وجوده، وأنها ما يحقّق طموحه، ثم يعمل على تفعيلها.

ب/أن تفعيل الإرادة بصورة منهجية يستلزم إبعادها عن التكاسل وطلب تحقيق الأمنيات بالمعجزة أو بالصدفة، بل لا بد من إبعادها حتى عن المشاغبات الأدبية، كالإيحاء إلى النفس بعدم القدرة، وترديد (أنا فاشل، أنا لا أستطيع، أنا لا يمكن أن أصل إلى الهدف...)

ج/ليست الإرادة هي كل شيء، بل هي تحتاج إلى أمر آخر، يمثّل البوصلة التي تضبط الحركة وتوجّه الإرادة، فإنه ومن دون البوصلة، فإن المشاكل تبقى تنخر في حياة الإنسان حتى تفقده الأمل بالحياة رغم امتلاكه الإرادة والاختيار. وقد يُفعّل الإنسان إرادته في الطريق الخطأ، في طريق فقدان تلك الأمنيات، أو في طريق الوقوع في المشاكل اللا متناهية.

ص: 41

الأمر الثاني: القائد
اشارة

لا شك أن السماء أعطت الفرصة كاملةً للإرادة الإنسانية، بحيث إنها لم تتدخل في كيفية توجيه الإنسان لإرادته بنحو يسلب الإرادة(1)،

ولم تدخل على الخط بطريقة الإعجاز والإعطاء المجاني، بل تركت الوصول إلى الهدف مرهونًا بتفعيل الإرادة.(2)

ولكن عرفنا أن الإرادة لا يمكن أن تصل إلى الهدف من دون بوصلة ومقصد، إذ قد تُخطئ الإرادة، وقد أثبت الإنسان على طول الخط أنه بارع جدًا في القتل والتشريد والظلم والجور واختراع وسائل معاصرة لكل ما يمكن أن يودي بالإنسان وسعادته، ويقتل أمنياته في مهدها، ويئدها بدم بارد، فكان لا بد من مرشد، لا بد من قائد، لنسمِّه (البوصلة) التي ترسم خط الوصول إلى تحقيق السعادة، بشرط تفعيل الإرادة بالشكل الكامل لا بالمعجزة أو بالصدفة.

فلو لم يكن هذا القائد و (الإمام) معصومًا، لأمكن أن يكون هو وسيلة من وسائل الظلم، ولأمكن أن يُخدع فيقع في الخطأ، وبالتالي سيقود الناس إلى حيث الهلاك، وبالتالي، لا بد أن يكون معصومًا، لنضمن الوصول إلى الهدف خلفه بسلام وأمان.

ص: 42


1- ونفس الكلام يُقال في النبي، وإنما ذكرنا التفصيل هنا لأنه مورد الاختلاف.
2- طبعاً لا بحدٍ يصل إلى التفويض المعتزلي، وإنما بطريقة الأمر بين الأمرين.
إشارة: نصوص في ضرورة الإمام القائد

هناك نصوص دينية كثيرة تشير إلى ضرورة الإمام القائد (البوصلة)، منها:

يقول تعالى (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(1)

الآية توصينا بأن نبتعد عن التنازع، ولكن من الواضح أن التوصية بعدم التنازع أشبه بالتوصية المثالية، إذ التنازع أمر واقع ومفروض، فيأتي نص آخر يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(2)، حيث يجعل المحورية والمركزية عند حدوث النزاع (وهو المتشابه) هو بالرجوع إلى المحكم (اللهِ وَالرَّسُولِ)

في نص آخر: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(3)

حيث ينص على أن هناك محورًا لهداية الناس غير محورية الإنذار التي يقوم بها النبي (صلى الله عليه وآله)، وهي محورية الهداية، وهو ما يقوم به الإمام.(4)

ص: 43


1- الأنفال 46.
2- النساء 59.
3- الرعد 7.
4- وهذا لا يعني أن النبي غير هادٍ، أو أن الإمام ليس منذراً، وإنما هما كذلك، إلا أن الحديث في تقسيم الأدوار إذا صح التعبير. وهو ما ورد في النصوص، من قبيل ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال في تفسير الآية: (أنا المنذر وعلى الهادي) [الأصول الستة عشر- عدة محدثين ص 41. وقد ذكر الكليني في الكافي ج1 ص 190 و 191 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) هُمُ الْهُدَاةُ أربع روايات في ذلك هي: عَنِ الْفُضَيْلِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ : ( ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فَقَالَ: كُلُّ إِمَامٍ هَادٍ لِلْقَرْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِمْ. وعَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فَقَالَ: رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الْمُنْذِرُ، ولِكُلِّ زَمَانٍ مِنَّا هَادٍ يَهْدِيهِمْ إِلَى مَا جَاءَ بِه نَبِيُّ الله (صلى الله عليه وآله)، ثُمَّ الْهُدَاةُ مِنْ بَعْدِه عَلِيٌّ ثُمَّ الأَوْصِيَاءُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ. وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فَقَالَ: رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الْمُنْذِرُ وعَلِيٌّ الْهَادِي، يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، هَلْ مِنْ هَادٍ الْيَوْمَ؟ قُلْتُ: بَلَى، جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا زَالَ مِنْكُمْ هَادٍ بَعْدَ هَادٍ حَتَّى دُفِعَتْ إِلَيْكَ. فَقَالَ: رَحِمَكَ الله يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، لَوْ كَانَتْ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَاتَتِ الآيَةُ مَاتَ الْكِتَابُ، ولَكِنَّه حَيٌّ يَجْرِي فِيمَنْ بَقِيَ كَمَا جَرَى فِيمَنْ مَضَى. وعَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقَصِيرِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فَقَالَ: رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الْمُنْذِرُ وعَلِيٌّ الْهَادِي، أَمَا والله مَا ذَهَبَتْ مِنَّا ومَا زَالَتْ فِينَا إِلَى السَّاعَةِ.

نص آخر: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا...)(1)

هذا النص يجعل نقطة الاستقطاب والتجمع هو (حبل الله) وغيره يعني التفرق والضياع... ولذلك لو تُركت هذه المركزية لأدى إلى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا...إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)(2) فإن حبل الله (القرآن) وحبل الناس (أهل البيت (عليهم السلام).) هما ما يرفع الناس عن الذلة والمسكنة.

وهو ما ورد معناه في رواية وفد اليمن التي ستأتي إن شاء الله تعال، والتي ورد فيها:

... فقالوا: يا رسول الله، ومن وصيك؟

فقال: هو الذي أمركم الله بالاعتصام به، فقال عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ

ص: 44


1- آل عمران 103.
2- آل عمران 112.

اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(1)

فقالوا: يا رسول الله، بيّن لنا ما هذا الحبل؟

فقال: هو قول الله: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)(2) فالحبل من الله كتابه، والحبل من الناس وصيي... (3)

في نص للزهراء (عليها السلام) تقول فيه: (فَجَعَلَ اَللهُ اَلْإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ اَلشِّرْكِ، وَاَلصَّلَاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ اَلْكِبْرِ، وَاَلزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ، وَنَمَاءً فِي اَلرِّزْقِ، وَاَلصِّيَامَ تَثْبِيتاً لِلْإِخْلَاصِ، وَاَلْحَجَّ تَشْيِيداً لِلدِّينِ، وَاَلْعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ، وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ اَلْفُرْقَةِ)(4)

وهذا النص واضح في محورية طاعة أهل البيت (عليهم السلام) في كونه نظامًا للملة، وأن الأمان من الفرقة إنما يكون بإمامة أهل البيت (عليهم السلام).

إنه محورُ جاذبيةٍ لكن بشرط تفعيل الإرادة، فالفطرة والنظام الداخلي للإنسان ينساق وراء تلك الإمامة (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)(5) وإنما يحصل التفرق عنهم عندما تدخل مشاغبات الإرادة فيتم تفعيلها بصورة غير صحيحة.

ص: 45


1- آل عمران 103.
2- آل عمران 112.
3- كتاب الغيبة للنعماني ص46 باب 2 في ذكر حبل الله الذي أمرنا بالاعتصام به، وترك التفرق عنه بقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)- (ح1).
4- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص 134.
5- إبراهيم 37.

ص: 46

المقدمة الخامسة: بيانات في ضرورة النص على الإمام
تمهيد

تقدم أن أحد أهم ما يعتقد به الشيعة في الإمامة، هي أنها منصب إلهي يتم اختياره من الله تعالى حصرًا، كما النبوة، وأنه لا حق لأحد في تعيين الإمام، فالنبي يُبلّغ عن الله تعالى تعيين الإمام، والإمام ينقل تعيينَ الله تعالى للإمام اللاحق، وهكذا.

أما لماذا يُصرّ الشيعة على نظرية النص؟ فهذا له بياناته التي ستأتي تباعًا إن شاء الله تعالى، وقبل أن نذكرها نشير إجمالًا إلى طرق تعيين الإمام لدى العامة، ثم نعرّج على ذكر البيانات التي تثبت ضرورة النص والنصب إن شاء الله تعالى.

طرق تعيين الإمام لدى العامة (نظرية الأمر الواقع)
اشارة

لا يمكننا أن نجد جامعًا مشتركًا في ما ذهب إليه العامة من طريقة لتنصيب الإمام شرعًا، بحيث يترتب عليه الطاعة وعدم جواز المخالفة والخروج عليه، إلا (نظرية الأمر الواقع)، بمعنى أننا وبالمتابعة لما يؤمن به

ص: 47

العامة في هذا المجال، نجد أنهم آمنوا بنظرية: أنّ من وصل إلى الحكم فهو الإمام والخليفة، أما كيفية وصوله إلى الحكم، فهذا ليس مهمًا بعد تحقق الحكم له وادعائه الخلافة وسيطرته على أمور الدولة، ولذلك فقد تخبّطت آراؤهم بين:

1/بيعة أهل الحل والعقد

حيث أثبتوا بها خلافة أبي بكر، رغم أن الذين انعقدت بهم بيعته هم خمسة فقط، وهم (عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن خضير، وبشر [بشير] بن سعد، وسالم مولى حذيفة)، ثم تابعهم الناس.(1)

2/القوة والغلبة

فمن يصل إلى كرسي الحكم ولو بالغلبة والسيف فهو الخليفة، قال في كشف القناع: (قال أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله يبيت ولا يراه إمامًا، برًا كان أو فاجرًا. انتهى. لأن عبد الملك بن مروان خرج عليه ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعًا وكرهًا ودعوه إمامًا، ولما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم وذهاب أموالهم)(2).

ص: 48


1- الأحكام السلطانية والولايات الدينية لعلي بن محمد البغدادي الماوردي ص7، والشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج1 ص 6.
2- كشف القناع للبهوتي ج6 ص 202.
3/ الشورى

وقد اختلفوا في تحديد العدد الكافي لتحقق الشورى، واستدلوا ببعض الآيات عليها.

وعلى كل حال، لم نجد عندهم طريقة منهجية معينة يمكن من خلالها إعطاء القاعدة في عملية جعل الإمام، إلا قبول الأمر الواقع، والاعتراف بخلافة من وصل إلى الحكم، بأي طريقة كانت.

نظرية النص
اشارة

وأما نظرية أهل البيت (عليهم السلام) فهي نظرية النص بالمعنى المتقدم.(1)

وقبل ذكر بيانات تثبت ذلك، نشير إلى أنه روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما يُصرّح بأن أمر الخلافة من بعده هو بيد الله تعالى، وأنه ليس بيده أن يُعيّن أحدًا من تلقاء نفسه، ومن ذلك ما روي أنه (صلى الله عليه وآله) أتى بني عامر فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: أرأيت إنْ نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك، أيَكون لنا الأمر من بعدك؟ قال (صلى الله عليه وآله): الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال له: أفَنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك! (2)

وروي أيضًا أنه (صلى الله عليه وآله) بعث سليط بن عمرو العامري... إلى هوذة بن علي

ص: 49


1- في المقدمة الثانية.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص 93 (واللفظ له) وتاريخ الطبري لمحمد بن جرير الطبري ج2 ص 84.

الحنفي يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابًا، فقدم عليه وأنزله وحباه وقرأ كتاب النبي (صلى الله عليه [وآله])، وردّ ردًّا دون رد، وكتب إلى النبي صلى الله عليه [وآله]: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعْك. وأجاز سليط بن عمرو بجائزة وكساه أثوابًا من نسْج هجَر، فقدم بذلك كله على النبي (صلى الله عليه [وآله]) وأخبره عنه بما قال، وقرأ كتابه، وقال (صلى الله عليه وآله): لو سألني سيابة من الأرض ما فعلتُ، بادَ وبادَ ما في يديه، فلما انصرف من عام الفتح، جاءه جبريل فأخبره أنه قد مات.(1)

وفي رواية ابن الأثير:

وأما هوذة بن علي، فكان ملك اليمامة، فلما أتاه سليط بن عمرو يدعوه إلى الإسلام وكان نصرانياً أرسل إلى النبي صلى الله عليه [وآله] وفداً فيهم مُجاعة بن مرارة والرجّال بن عُنفوة يقول له: إنْ جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصَره، وإلا قصد حربه. فقال رسول اللهّ صلى الله عليه [وآله]: لا، ولا كرامة، اللهم اكفنيه. فمات بعد قليل.(2)

ولتأكيد هذا المعنى جاء عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: كُنْتُ عِنْدَه جَالِساً، فَقَالَ لَه رَجُلٌ: حَدِّثْنِي عَنْ وَلَايَةِ عَلِيٍّ، أمِنَ الله أَوْ مِنْ رَسُولِه؟ فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ، كَانَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) أَخْوَفَ لِله مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَأْمُرْه بِه اللهُ، بَلِ افْتَرَضَه كَمَا افْتَرَضَ الله الصَّلَاةَ والزَّكَاةَ والصَّوْمَ والْحَجَّ.(3)

ص: 50


1- الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص 262
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص 215.
3- الكافي للكليني ج1 ص 289 بَابُ مَا نَصَّ الله عَزَّ وجَلَّ ورَسُولُه عَلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وَاحِداً فَوَاحِداً - ح5.

وعلى كل حال، فيمكن أن تذكر البيانات التالية لبيان ضرورة النص:

البيان الأول: عظمة موقع الإمامة تقتضي النص

إن مقام الإمامة –وما يستلزمه من ضرورة الطاعة المطلقة والمتابعة- هو موقع تشرئبّ له الأعناق، وتطمع فيه النفوس الراغبة في حطام الدنيا، وبالتالي، فلو لم تتدخل قوة إلهية غيبية لها اطّلاع تامّ -لا على ظاهر الإنسان فقط، وإنما على بواطنه ودوافعه، بل وما سيفعله في المستقبل لو أُعطي منصب الإمامة- حينها يمكن أن يتسلط على هذا المنصب من ليس له بأهل، وبالتالي، قد يضيع هدف الإمامة –الذي هو هداية الناس وإكمال مسيرة النبي الرسالية-، إذ نحن لا نحرز صحة نية الإنسان ولا نضمن استقامته لو كان التعيين منا –نحن البشر- والواقع خير شاهد، فكم من خليفة أو قائد أو رئيس، تم تعيينه من البشر أنفسهم، أو هو عيّن نفسه بانقلاب وقوة، إلا أنه قد خابت ظنونهم في أول اختبار له.

وبالتالي، فإن عدم الاطمئنان والخوف وعدم الاستقرار يبقى هو المسيطر على ذهن المأموم تجاه هذا الإمام، وسيكون احتمال عدم الطاعة قائمًا، واحتمال ظلم الإمام وتجاوزه الحدود الإلهية شاخصًا، ولا سبيل للتخلص من هذه المخاوف إلا إذا كان التعيين من الله تعالى، حيث إنه يعلم السر وأخفى، ويعلم الماضي والمستقبل بعلم واحد لا خطأ فيه، وهو جل وعلا حكيم لا عبث في فعله، كل ذلك يُضفي لونًا من الاطمئنان باتباع الإمام المنصّب منه جل وعلا.

ص: 51

بالإضافة إلى أن الله تعالى له مقام المولوية التي تجعل العباد يلتزمون بأمره وتعيينه ولا يحيدون عنه قيد أنملة –حسب الفرض- وهذا ما لا يتوفر إلا بالنص على الإمام منه جل وعلا، ولا يتحصل بغيره من الطرق المتعارفة لدى العامة.

وبنفس البيان يثبت إمكان تنصيب الإمام السابق –المنصّب من الله تعالى- للإمام اللاحق، إذ ما دام الأول منصّب من الله تعالى، وهو معصوم، إذن تعيينه للإمام اللاحق سيكون وفق الأمر الإلهي بلا ريب.

البيان الثاني: أن النص لطف

لا شك أنه لو دار الأمر في تعيين الإمام بين أن يتم ذلك على يدي البشر –غير المعصومين- وبين أن يكون بيد الله تعالى، فإن العقل يُقدّم اختيار الله تعالى على اختيار الإنسان غير المعصوم، ذلك لأن التعيين إذا كان بيد الله تعالى فإننا نضمن سلامة الاختيار من حيث توفر الشخص الذي تم اختياره على كل ما من شأنه أن يقود الأمة نحو الخير والسلام.

وبالتالي، فحيث إننا نعتقد بأن الله تعالى لطيف بعباده، وأنه تعالى لا يدعهم دون أن يوفّر لهم ما يحتاجون إليه في طريق الهداية، وأنه لا يتركهم يتيهون في الأرض من دون أن ينصب لهم علامات وأدلة واضحة على طريق رضاه، فإننا حينها نجزم بأنه لم يترك الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هملًا، وإنما لا بد –من باب اللطف- أن يحدد لهم القائد والإمام من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله).

ص: 52

وهذا الأمر كان واضحًا في وجدان الكثير من أفراد الأمة الإسلامية الذين يعتبرهم العامة من رؤوس الإسلام، وقد حفظ لنا التاريخ عدة تصريحات لهم في ضرورة النص، ومنها التالي:

عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة، فقالت: أَعَلِمتَ ان أباك غير مستخلف؟! قال: قلت: ما كان ليفعل. قالت: إنه فاعل. قال: فحلفت انى أكلمه في ذلك، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه، قال: فكنت كأنما أحمل بيميني جبلًا حتى رجعت فدخلت عليه، فسألني عن حال الناس وأنا اخبره. قال: ثم قلت له: إنى سمعتُ الناس يقولون مقالة، فآليت أن أقولها لك: زعموا أنك غير مستخلف، وأنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها، رأيت أن قد ضيّع، فرعاية الناس أشد...(1)

هذه الرواية واضحة في أنّ ابن عمر كان يعتبر عدم تنصيب أبيه خليفةً من بعده حملًا أثقل من جبل، وأنه أقسم على نفسه أن يكلم أباه في ذلك، وأنه اعتبر أن من يترك غنمًا بلا خلف عنه فقد ضيّعها، وبقياس بسيط ينتج: أنّ رعاية الناس في أمر الإمامة والولاية أهم من ذلك بكثير كما هو واضح.

أَ فَهل حاز ابن عمر من الحكمة ما فقدها الله تعالى أو رسوله (صلى الله عليه وآله)؟!

ومن النصوص أيضًا:

أن عائشة قالت لابن عمر: يا بني، أبلغ عمر سلامي، وقل له: لا تدع أمة

ص: 53


1- صحيح مسلم النيسابوري ج6 ص 5.

محمد بلا راعٍ، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هَمَلًا، فإني أخشى عليهم الفتنة، فأتى عبدُ الله فأعْلمه، فقال: ومن تأمرني أن أستخلف؟ لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح باقيًا استخلفتُه ووليته، فإذا قدمت على ربي فسألني وقال لي: من وليت على أمة محمد؟ قلت إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفتُه، فإذا قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟ قلت: إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: إن معاذ ابن جبل يأتي بين يدي العلماء يوم القيامة. ولو أدركت خالد بن الوليد لوليته، فإذا قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟ قلت إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله على المشركين، ولكني سأستخلف النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، فأرسل إليهم فجمعهم...(1)

لاحظوا: معرفة عائشة بضرورة النص من بعد عمر، ولاحظوا: كيف أن عمر بحث في ذاكرته عمن له مؤهلات الإمامة من بعده –حسب نظره- وكيف أنه ذكر لكل واحد من أولئك صفة تؤهله للإمامة –بنظره وحسب قناعته-

إن هذا النص واضح في أن عائشة وعمر كانا يريان ضرورة النص في تحديد الإمام والخليفة، وأنه ليس من الصحيح أن تترك الأمة هي من تختار الإمام، لأن ذلك يؤدي إلى الفتنة حسب تعبير عائشة.

ص: 54


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري (تحقيق الزيني) ج1 ص 28.

ومن النصوص أيضًا أن معاوية كان يرى أن عدم تنصيب خليفة من بعده يؤدي إلى ضياع الأمة، فقال لابن عمر: (إني كرهت أن أدع أمة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها)(1)

هذا، وقد صاغ هشام بن الحكم دليل اللطف هذا بعبارة غاية في الرواية فيما روي عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ:

كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِه مِنْهُمْ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ ومُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ وهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ والطَّيَّارُ وجَمَاعَةٌ فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وهُوَ شَابٌّ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): يَا هِشَامُ، ألَا تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وكَيْفَ سَأَلْتَه؟ فَقَالَ: هِشَامٌ: يَا ابْنَ رَسُولِ الله إِنِّي أُجِلُّكَ وأَسْتَحْيِيكَ ولَا يَعْمَلُ لِسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ.(2)

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا.(3)

قَالَ هِشَامٌ: بَلَغَنِي مَا كَانَ فِيه عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وجُلُوسُه فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ.(4)

فَخَرَجْتُ إِلَيْه ودَخَلْتُ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وعَلَيْه شَمْلَةٌ سَوْدَاءُ مُتَّزِراً بِهَا مِنْ

ص: 55


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري (تحقيق الزيني) ج1 ص 159.
2- وهذا أدب من هشام بين يدي الإمام المعصوم (عليه السلام).
3- إذ الطاعة أولى من الأدب كما يُقال.
4- وهو أمر لا بد أن يكون همّ كل داعٍ ومؤمن، إذ إن الاهتمام بأمور المسلمين مما ندب إليه الدين ودعا إليه.

صُوفٍ، وشَمْلَةٌ مُرْتَدِياً بِهَا، والنَّاسُ يَسْأَلُونَه، فَاسْتَفْرَجْتُ النَّاسَ فَأَفْرَجُوا لِي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ(1)

عَلَى رُكْبَتَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ:

أَيُّهَا الْعَالِمُ إِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ تَأْذَنُ لِي فِي مَسْأَلَةٍ؟

فَقَالَ لِي: نَعَمْ. فَقُلْتُ: لَه ألَكَ عَيْنٌ؟! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا مِنَ السُّؤَالِ! وشَيْءٌ تَرَاه كَيْفَ تَسْأَلُ عَنْه؟! فَقُلْتُ: هَكَذَا مَسْأَلَتِي. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ سَلْ وإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ حَمْقَاءَ! قُلْتُ: أَجِبْنِي فِيهَا. قَالَ لِي: سَلْ. قُلْتُ: ألَكَ عَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَرَى بِهَا الأَلْوَانَ والأَشْخَاصَ.

قُلْتُ: فَلَكَ أَنْفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ أَشَمُّ بِه الرَّائِحَةَ.

قُلْتُ: ألَكَ فَمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ: أَذُوقُ بِه الطَّعْمَ.

قُلْتُ: فَلَكَ أُذُنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِهَا الصَّوْتَ.

قُلْتُ: ألَكَ قَلْبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ: أُمَيِّزُ بِه كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَى هَذِه الْجَوَارِحِ والْحَوَاسِّ.

قُلْتُ: أولَيْسَ فِي هَذِه الْجَوَارِحِ غِنًى عَنِ الْقَلْبِ؟ فَقَالَ: لَا. قُلْتُ: وكَيْفَ ذَلِكَ وهِيَ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الْجَوَارِحَ إِذَا شَكَّتْ فِي شَيْءٍ شَمَّتْه أَوْ رَأَتْه أَوْ ذَاقَتْه أَوْ سَمِعَتْه، رَدَّتْه إِلَى الْقَلْبِ فَيَسْتَيْقِنُ الْيَقِينَ ويُبْطِلُ الشَّكَّ.(2)

ص: 56


1- ولعله من باب الأدب؛ لأن عمر هشام كان صغيرًا، ولعله من باب إرادة أن يسمع الجميع حوارهما.
2- وفي هذا إشارة واضحة إلى أن أصحاب المنهج الحسي لا يكفيهم الحس للوصول إلى اليقين من دون الرجوع إلى (القلب) أو العقل.

قَالَ هِشَامٌ: فَقُلْتُ لَه: فَإِنَّمَا أَقَامَ الله الْقَلْبَ لِشَكِّ الْجَوَارِحِ؟! قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنَ الْقَلْبِ وإِلَّا لَمْ تَسْتَيْقِنِ الْجَوَارِحُ؟!(1)

قَالَ: نَعَمْ.

فَقُلْتُ لَه: يَا أَبَا مَرْوَانَ، فَالله تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّى جَعَلَ لَهَا إِمَاماً يُصَحِّحُ لَهَا الصَّحِيحَ ويَتَيَقَّنُ بِه مَا شُكَّ فِيه، ويَتْرُكُ هَذَا الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وشَكِّهِمْ واخْتِلَافِهِمْ لَا يُقِيمُ لَهُمْ إِمَاماً يَرُدُّونَ إِلَيْه شَكَّهُمْ وحَيْرَتَهُمْ، ويُقِيمُ لَكَ إِمَاماً لِجَوَارِحِكَ تَرُدُّ إِلَيْه حَيْرَتَكَ وشَكَّكَ؟!

قَالَ: فَسَكَتَ ولَمْ يَقُلْ لِي شَيْئاً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: أَنْتَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: أمِنْ جُلَسَائِه؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: فَأَنْتَ إِذاً هُوَ! ثُمَّ ضَمَّنِي إِلَيْه وأَقْعَدَنِي فِي مَجْلِسِه وزَالَ عَنْ مَجْلِسِه! ومَا نَطَقَ حَتَّى قُمْتُ.

قَالَ: فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) وقَالَ: يَا هِشَامُ مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا؟ قُلْتُ: شَيْءٌ أَخَذْتُه مِنْكَ وأَلَّفْتُه.(2)

ص: 57


1- كرّر السؤال نفسه بعبارات مختلفة ليُقرّه على ما أجاب به، حتى لا يتمكن من الهروب من لوازمه فيما بعد.
2- وفي هذا إشارة إلى تواضع هشام وأدبه في حضرة الإمام (عليه السلام)، فلم ينسب هذه المناظرة لنفسه، وفيه إشارة أيضًا إلى جواز الاجتهاد والاستنباط، إذ هشام أخبر الإمام (عليه السلام) بأنه ألّف هذا المعنى مما سمعه منه، والإمام أقرّه عليه.

فَقَالَ(عليه السلام): هَذَا والله مَكْتُوبٌ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى.(1)

البيان الثالث: النصوص الخاصة

لا شك أن الله تعالى إذا اختار أمرًا فلا كلام ولا خلاف في لزوم طاعته وعدم جواز مخالفته، قال تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ.)(2)

فالآية واضحة في أنه لا اختيار للبشر مع اختيار الله تعالى، وأنه تعالى حيث إنه الخالق، إذن، فهو من يختار من عباده، ولا حق لغيره في ذلك، وفي الآية اللاحقة إشارة واضحة ولطيفة، فإنه حيث كان الله تعالى (يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) كان هو صاحب الاختيار في ذلك، ولا حق لغيره جل وعلا في ما يتعلق باختيار بعض من عباده في شأن من الشؤون.

ولتأكيد هذه الحقيقة يقول جل وعلا (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضىٰ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً.)(3)

ومن النصوص الدالة على أن اختيار الإمام إنما هو بيد الله تعالى، ما روي عن الإمام الصادق (عليه اللام) في تفسير قوله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما

ص: 58


1- الكافي للكليني ج1 ص169 - 171 باب الاضطرار الى الحجة ح3.
2- القصص 68 – 69.
3- الأحزاب 36.

كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) قال: يختار الله الامام، وليس لهم أن يختاروا)(1)

وفي رواية سعد بن عبد الله القمي عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) في رواية طويلة جاء فيها:

قال سعد: قلت: فأخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم؟

قال: مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح.

قال: فهل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى، قال: فهي العلة، وأوردها لك ببرهان ينقاد له عقلك، أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله تعالى وأنزل عليهم الكتاب وأيّدهم بالوحي والعصمة؛ إذ هم أعلام الأمم وأهدى إلى الاختيار منهم مثل موسى وعيسى (عليهما السلام)، هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن يقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان أنه مؤمن؟

قلت: لا.

فقال: هذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلًا ممن لا يشك في إيمانهم وإخلاصهم، فوقعت خيرته على المنافقين، قال الله تعالى: (وَاخْتارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا)(2) و قوله (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسىٰ

ص: 59


1- تفسير القمي ج2 ص 143.
2- الأعراف 155.

لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَىٰ اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(1)

فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوة واقعًا على الأفسد دون الأصلح، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد، علمنا أن لا اختيار إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور وما تُكنّ الضمائر وتتصرف عليه السرائر، وأنْ لا خطر [أي لا أهمية] لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح.(2)

مع ملاحظة أن هذه النصوص إنما نذكرها من باب أنها تشير إلى ضرورة النص وحكم العقل بلزومه، فلا يُشكل علينا بأنكم تستدلون بأقوال أئمتكم على دعواكم، فإنهم (عليهم السلام) معصومون وكلامهم هو الواقع بلا ريب عندنا، ولكن لو تنزلنا فإننا نذكرها على أنها ترشد إلى حكم العقل بضرورة النص.

ص: 60


1- البقرة 55.
2- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 461 الباب 40 من شاهد القائم ح21.
المقدمة السادسة: بيانات في ضرورة العلم الخاص للإمام
اشارة

نعتقد –نحن أتباع اهل البيت (عليهم السلام)- أن الإمام لا بد أن يتمتع بعلم خاص يختلف عن علومنا العادية، أي إن له علمًا يحصل عليه لا بالطرق العادية من التعلم لدى الأساتذة والدخول في المعاهد العلمية واكتسابه بالتدريج، وإنما هو علم من النوع (اللدني) أي إنه علم خاص وله منافذ غير عادية.

((وقد ذهب أهل السنة(1)

وبعض المعاصرين(2)

إلى إنكار مثل هذا العلم، وقالوا بأن علم الإمام هو علم مادي كعلم أي إنسان آخر، وليس لعلمه أيّ مزية على العلوم التي يكتسبها سائر الناس، ومن ثَمَّ فإنّ علم الأئمة هو علم اجتهادي خاضع لأصل القبض والبسط في المعارف البشرية وقابل للخطأ وإن بنسبة قليلة. وقد ذهب هؤلاء إلى نسبة العلم بالغيب وغير المحدود وما

ص: 61


1- يذهب أهل السنة إلى القول بأن علم الإمام لا يتجاوز حدود علم الفقيه والمجتهد، انظر: البغدادي، كتاب أصول الدين، ص 277؛ التفتزاني، شرح المقاصد، ج 3، ص 480 - 482؛ عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج 8، ص 380.
2- انظر: محسن كديور، مجلة مدرسة، العدد: 3، ارديبهشت، 1385 ه- ش، ص 96؛ إعادة قراءة الإمامة في ضوء الثورة الحسينية، روزنامه شرق، العدد: 14 و15، اسفند، 1384 ه- ش؛ عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوي، ص 135 و148 و159.

إلى ذلك إلى الأئمة الأطهار لغلاة الشيعة، واقتصروا على وصف الأئمة ب- «العلماء الأبرار»(1).))(2)

وعلى كل حال، فإن هناك الكثير من الروايات الدالّة على ذلك في خصوص أئمتنا (عليهم السلام)، وستأتي في محلها في مباحث الإمامة الخاصة إن شاء الله تعالى، والمراد هنا ذكر بيانات عامة لضرورة تمتع الإمام والخليفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعلم خاص.

البيان الأول: أن طبيعة وظيفة الإمام تقتضي العلم الخاص

أن وظيفة الإمام هي نفس وظيفة النبي في كل شيء –إلا مختصات الرسالة والوحي-، ووظيفة النبي تقتضي أن يكون اتصاله بالسماء بطريق غير طبيعي، وأن علمه علم غير طبيعي، وبالتالي فلا بد أن يكون خليفته والقائم مقامه في وظائفه له من العلم ذاته، حتى يتمكن من أداء الوظيفة الملقاة عليه على أحسن وجه.

(بعد رحيل رسول الله - حيث لا يكون هناك نبيّ بعده بحسب الفرض - سيكون المجتمع والدين بحاجة إلى إمام يكون شبه رسول الله في كل شيء باستثناء نزول الوحي والنبوة، لكي يعمل على صيانة الاسلام الفتي من أيّ آفة من تحريف أو بدعة، وأن يقف في وجه أعداء الإسلام، وأن يجيب عن المسائل المستحدثة بشكل صحيح (مطابق للواقع)، ذلك لأن فلسفة وجود

ص: 62


1- انظر: حسين مدرسي طباطبائي، مكتب در فرايند تكامل، ص 14 و31 و39 و43 و48 و54.
2- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 555- 556.

الإمام هي التفسير الصحيح للتعاليم الدينية، فإذا كان علم الإمام عادياً، ويجوز عليه الخطأ في تفسير الدين - خاصة بالنظر إلى أن هذا الدين هو خاتم الأديان وأنه الدين الكامل والخالد - فإنه سيكون عرضة للآفات والمشاكل قد تصل إلى مستوى التحريف والبدع، وعليه سوف تتعرّض فلسفة الخاتمية والخلود إلى الضياع والزوال(1).)(2)

البيان الثاني: الاحتياج إلى الغير يتنافى مع الإمامة

لو كان علم الإمام عاديًا، فهذا معناه أنه سيأخذه بالطريق الطبيعي من خلال المعلّمين والمعاهد العلمية، من الطبيعي أن معلمه سيكون أفضل منه في أي علم يأخذه منه، ولو في بداية أخذه منه، وسيبقى مدينًا لذلك المعلم.

إن قلت: إن المعصوم –حسب دعواكم- يأخذ علمه من المعصوم السابق عليه.

قلت: وهو المطلوب، فأخذه من المعصوم السابق هو أخذ بطريق غيبي، لا بطريق التعليم المدرسي، وهو على غرار ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علّم عليًا (عليه السلام) بابًا من العلم، ففتح ألف باب، لكل باب فتح له ألف باب. (3)

ص: 63


1- انظر: الشافي في الإمامة، ج 1، ص 179.
2- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 558 – 559.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 323 الباب (16) باب في ذكر الأبواب التي علم رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام ح (5).
البيان الثالث: اقتضاء موقع الإمامة للعلم اللّدنّي
اشارة

وبيانه من خلال الخطوات التالية:

الخطوة الأولى

لا يختلف اثنان في أن هذا العالم المتكثر في وجوداته وبصورة كبيرة جداً -كمًا وكيفًا- محكوم بقانون السببية، وهذا القانون يفرز خصّيصتين:

الأولى: القضاء على البعثرة والفوضى والشتات واستقلال كل موجود عن كل موجود على نحو الاستغراق، فهناك ترابط في داخل هذه الكثرة يجعلها مجموعة ذات أواصر مترابطة غير منفرطة.

الثانية: أن الترابط جاء على شكل منظومة هرمية؛ فإن السببية (سبب ومسبب) هي التي أفرزت فكرة السابق والمتقدم بالقياس إلى المسبَّب الذي هو اللاحق والمتأخر.

فالعالم إذن مرتب بشكل هرمي، تبعًا لنظام السببية الحاكم في هذا العالم، والسؤال الآن هو: ما هو المعيار في تنظيم المواقع في هذا الهرم الوجودي؟ فلماذا صار بعض الموجودات سببًا ومتقدمًا وأسبق من غيره؟

الجواب: إن المعيار في ذلك مرتبط بالأشدّ والأكمل وجودًا، فكلما كان الموجود أكمل وأشد وجودًا تقدم على غيره.

والعلة في ذلك هي:

لو لم يكن الأكمل وجودًا هو المتقدم والمفيض على الأضعف، فحينئذٍ

ص: 64

مَن المفيض؟

لا يخلو الأمر: إما أن يكون الأضعف هو المفيض للوجود على الأقوى، وهذا لا يمكن، لأن فاقد الشيء لا يكون معطيًا، والأضعف وجودًا لا يكون معطيًا للأقوى وجودًا.

وأما أن يكون هو المساوي، وهو وإن أمكن أن يعطي للآخر بحجمه وبقدره، ولكن السؤال حينها عن سبب كونه هو السبب وذاك الثاني هو المسبب لا العكس، فلمَ لا يكون الثاني هو السبب والعلة والأول هو المسبب والمعلول، إن ترجيح أحد المتساويين على الآخر يلزم منه (الترجيح بلا مرجح)، وهو محال.

إذن، لم يبق إلا أن يكون الأقوى والأشد وجودًا هو المعطي، وهو السبب، وهو العلة للأضعف.

هذا كله في عالم التكوين.

الخطوة الثانية

في عالم الإنسان، فإننا وجدنا أنه لم يستحدث في تنظيم عالمه الخاص معيارًا آخر في تنظيم كثراته، بل اعتمد نظريًا وعمليًا القانون التكويني ذاته، فالمُقدَّم هو الأشدّ وجودًا، فما زال الإنسان يقدّم العالم على الجاهل والخبير على غيره، والأعلم على العالم والأكفأ على غيره في مختلف مجالات حياته التي صنعها بيده والتي تُعدُّ من منجزاته.

ص: 65

نعم، لا ننكر أنه قد حصلت خروقات هنا وهناك، فاعتمد أحيانا في تنظيم المواقع على المحسوبية والعاطفة والهوى والعصبية و... ولكن مع ذلك ما زال يُنظّر للأكمل، ويعتقد بأنه هو الذي لا بد أن يُقدم على غيره، وما زال يعتبر تقديم غير الأعلم وغير الأكفأ خرقًا للقانون وخطأً لا بد من التخلص منه.

فتلخّص:

أن هنا كثرة واقعية، لكنها غير مبعثرة، بل هي منتظمة بقانون السببية الذي يفرز ترتيبًا هرميًا، على أساس الأشد كمالًا، وهذا القانون التنظيمي قد استعاره الإنسان في عالمه الاختياري، فأخذ ينظّم وضعه على هذا الأساس، وإن حدثت خروقات جزئية في بعض الأحيان.

الخطوة الثالثة
اشارة

هناك ثلاثة أمور أساسية في عملية التكامل، وهي: الواقع والقدرة والعلم.

الواقع يمثل مادة التكامل، أشبه بقطع الخشب المطروحة في مكان معين، من دون أن تتشكل بشكل معين، إلا أن يأتي شخص لديه القدرة والمعرفة على تحويل تلك القطع إلى كرسي مثلًا أو دولاب معين.

والقدرة تمثل أداة ووسيلة التنفيذ، فالقدرة أشبه باليد للإنسان، التي تنفّذ له ما يريد.

ص: 66

والعلم أداة الكشف عن الواقع ومعادلاته، فهو أشبه بالمصباح الذي يكشف ظلام الواقع، وهو أشبه بالعين لدى الإنسان، حيث تكشف له الواقع وينظّم أمور حياته من خلالها.

وكل عنصر من العناصر المذكورة هو ركن وأساس لا يمكن أن يُستغنى عنه في عملية التكامل، ففقدان أحد هذه العناصر في شخص أو أمة يعني فقدانها جميعًا أو بحكم فقدانها.

فالواقع من دون علم ولا قدرة، لا نفع فيه، إنما هو مجرد مادة خام كامنة لا حركة فيها، فهي أشبه برأس مال مركون في زاوية لا حياة فيه ولا حركة.

والعلم من دون واقع، لا يخرج عن كونه مجرد خيالات حالمة لا يحصل الفرد منها إلا على جرّة سمن الراعي.

والقدرة من دون الواقع، مجرد قوة تبقى في طور الكمون بانتظار فرصة ظهورها.

والعلم بلا قدرة، مثل العالم العاجز المشلول، الذي لا يُستفاد منه ولا من علمه.

والقدرة بلا علم، هي قوة غبية عمياء من الممكن أن ترجع على صاحبها لتقتله وبفوضوية مقيتة.

إذن، في أي تكامل موضوعي، لا بد من اجتماع هذه الثلاثة ليسير الكمال بطريقة ممنهجة.

ص: 67

هذا من جهة.

من جهة أخرى: هذه الثلاثة وإن كانت كلها ضرورية، ولكن لا بد أن يكون أحدها هو المحور لها، بمعنى أنه هو الذي يمثل خط الشروع، وهو الذي يجمع الكل في بوتقة واحدة وكتلة وفريق عمل، ومن ثَمّ يقع السؤال عن المحور في هذه الثلاثة؟

والجواب:

إن المحور هو العلم، وذلك للمبررّين التاليين:

المبرر الأول:

أ/فلسفيًا، هناك قدرة، وهناك قوة، والفرق بينهما أن القوة إذا كان معها علم أصبحت قدرة، ومن دون علم فهي مجرد قوة لا قدرة، وهذا يعني: أن القدرة لا تكون قدرة إلاّ بالعلم، فهي محتاجة له.

فالعلم يُعَقْلن القوة لتتحول إلى قدرة، فيخرجها من حالة الغباء أو العمى.

وهذا يعني أن العلم هو محور القدرة.

ب/ يقدم العلم فرصة لتطوير القدرة ومضاعفتها، إذ يعطيها أساليب جديدة للحركة والتفاعل، ونظرة بسيطة لواقع القدرة اليوم يكشف عن دور العلم في تطويرها وتعزيزها.

ج/ أما الواقع، فهو في حدّ ذاته لا إمكانية له للتحرك والبروز والظهور

ص: 68

من دون أن يتم تسليط الضوء عليه من قِبل العلم، وهو فقير إلى قدرة تنتشله من حيّز ركوده وتخرج به إلى عالم الظهور، فلا يتقدم عليهما، وحيث إن العلم متقدم على القدرة، فهو متقدم على الواقع أيضًا.

وهذا معنى محورية العلم، فرغم أهمية بل أساسية الواقع والقدرة، إلاّ أن الواقع الغني والقوة الضخمة لا فائدة مرجوة منهما من دون علم يكتشف ذلك الواقع وقوانينه، ويكتشف الطاقات الكامنة ويفعّلها، مع تمكّنه من اكتشاف القوة البديلة.

مع الأخذ بعين الاعتبار: أن عالمنا المادي بقدراته المتنوعة هو واقع تحت دوامة التزاحم والتدافع، وهذا التزاحم والتنافس من الممكن ان يؤدي إلى وقوع الكوارث والحروب المدمّرة، كما رأينا ذلك بأم العين، فنحتاج إلى ما ينظّم عملية التنافس والتدافع، والواقع وحده أو القدرة وحدها لا إمكانية لها على ذلك، بل إن الذي يتمكن من تنظيم ذلك وفق قوانين ونظم معينة هو العلم، فلولا العلم لما أمكن صنع معادلات منهجية لبرمجة التزاحم وتنظيمه بما يقلّل من منسوب آثاره السلبية إن لم يتمكن من أن يعدمها.

المبرر الثاني:

إن العلم يتجه نحو العمل باستمرار على تقليل منسوب الأخطاء، وذلك بتقديم ضمانات الإصابة من خلال الاكتشافات المتتالية.

إن الحضارة التي نعيش مفرداتها وتطوراتها الانفجارية، مدينة

ص: 69

لاكتشافات العلم المتتابعة للواقع، وللتعزيزات التي قدّمها العلم للقدرة، فمن المستحيل أن يتقدم –فرد أو أمة- من دون العلم، ولو كان الواقع منطويًا على حمر الذهب وأساطينه، فإن الواقع موجود كامن خامل لا يتحرك لأحد، بل ينتظر من يصل إليه ويكشف عن خباياه، وهكذا القدرة تبقى فوضوية من دون بوصلة العلم ومنهجيته.وهذا ينتج: وجود تناسب طردي بين العلم والصوابية، ووجود تناسب طردي بين العلم والقدرة.

فكلما زاد العلم –في أي تخصص من التخصصات- اقتربنا من الصواب، وكلما زاد العلم زادت القدرة وزادت الاستفادة من الواقع.

إشارة: العلم اللدني والهيمنة على النفوس والتكوين

تبين أن العلم يشكل البنية التحتية لترتيب المواقع في العالم، وهذا العلم له خصائص، واحدة منها الهيمنة على الضمائر والنفوس، من دون أن يسلب اختيار الآخر، فالعالم بالعلم اللدني له هيمنة على النفوس، وعلى الضمائر، وهذه الهيمنة تعني الهداية الإيصالية، أي الهداية التي توصل الناس إلى الهدى الذي يريده الله تبارك وتعالى، وبالتالي الفوز في الدنيا والآخرة، وهذا يعني أن الإمامة نوع من أنواع القدرة، وهذه السلطنة ندّعي أنها قد توفرت لأهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما يشير إليه قوله تعالى ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ )(1)

ص: 70


1- إبراهيم: 37.

فقد روي عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: دَخَلَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ [وهو من مشاهير علماء العامة ومفسريهم] عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَقَالَ: يَا قَتَادَةُ، أَنْتَ فَقِيه أَهْلِ الْبَصْرَةِ؟ فَقَالَ: هَكَذَا يَزْعُمُونَ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): بَلَغَنِي أَنَّكَ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ. فَقَالَ لَه قَتَادَةُ: نَعَمْ.

فَقَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): بِعِلْمٍ تُفَسِّرُه أَمْ بِجَهْلٍ؟ قَالَ: لَا، بِعِلْمٍ.

فَقَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): فَإِنْ كُنْتَ تُفَسِّرُه بِعِلْمٍ فَأَنْتَ أَنْتَ [أي فأنت العالم المتوحد الذي لا يحتاج إلى المدح والوصف وينبغي أن يرجع إليك في العلوم]، وأَنَا أَسْأَلُكَ. قَالَ قَتَادَةُ: سَلْ.

قَالَ (عليه السلام): أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ فِي سَبَأٍ (وقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وأَيَّاماً آمِنِينَ)(1)؟

فَقَالَ قَتَادَةُ: ذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِه بِزَادٍ حَلَالٍ ورَاحِلَةٍ وكِرَاءٍ حَلَالٍ يُرِيدُ هَذَا الْبَيْتَ، كَانَ آمِناً حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِه.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): نَشَدْتُكَ الله يَا قَتَادَةُ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّه قَدْ يَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِه بِزَادٍ حَلَالٍ ورَاحِلَةٍ وكِرَاءٍ حَلَالٍ يُرِيدُ هَذَا الْبَيْتَ، فَيُقْطَعُ عَلَيْه الطَّرِيقُ فَتُذْهَبُ نَفَقَتُه ويُضْرَبُ مَعَ ذَلِكَ ضَرْبَةً فِيهَا اجْتِيَاحُه؟

قَالَ قَتَادَةُ: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ، إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا فَسَّرْتَ الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ فَقَدْ هَلَكْتَ وأَهْلَكْتَ، وإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَه مِنَ الرِّجَالِ فَقَدْ

ص: 71


1- سبأ 18.

هَلَكْتَ وأَهْلَكْتَ، وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ، ذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِه بِزَادٍ ورَاحِلَةٍ وكِرَاءٍ حَلَالٍ يَرُومُ هَذَا الْبَيْتَ، عَارِفاً بِحَقِّنَا، يَهْوَانَا قَلْبُه كَمَا قَالَ الله عَزَّ وجَلَّ: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)(1)

ولَمْ يَعْنِ الْبَيْتَ فَيَقُولَ إِلَيْه، فَنَحْنُ والله دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) الَّتِي مَنْ هَوَانَا قَلْبُه قُبِلَتْ حَجَّتُه، وإِلَّا فَلَا يَا قَتَادَة، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ آمِناً مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَالَ قَتَادَةُ: لَا جَرَمَ والله، لَا فَسَّرْتُهَا إِلَّا هَكَذَا.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ، إِنَّمَا يَعْرِفُ الْقُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِه.(2)

وهذه السلطنة هي ما تمثل روح الإمامة، أما السيطرة على الدولة والرئاسة الدنيوية، فلا تمثل روح الإمامة، نعم، هي مقام مناسب بل لازم لمن عنده ذلك العلم الخاص والسيطرة على الضمائر والنفوس...

هذا، وهناك إشارات قرآنية لهذه القدرة المتولّدة من العلم، قال تعالى (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(3)

ص: 72


1- إبراهيم 37.
2- الكافي للكليني (ج8 ص 311 – 312 ح 485).
3- (38 - 40) من سورة النمل.

فالقدرة على الإتيان بالعرش قبل أن يرتدّ الطرف مؤسسة على (عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ)، فهي قدرة غيبية لمن عنده جزء من علم الكتاب، أما الذي عنده علم الكتاب، فله قدرة أعظم، بحيث يصبح شهيداً على الأمة، قال تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى باللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)(1)

والروايات تفسر من عنده علم الكتاب بأهل البيت (عليم السلام) عموماً وأمير المؤمنين (عليه السلام) خصوصاً.

فعن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنت عنده فذكروا سليمان وما أُعطي من العلم وما أوتي من الملك، فقال لي: وما أُعطي سليمان بن داود! إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وصاحبكم الذي قال الله (قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) وكان والله عند علي (عليه السلام) علم الكتاب. فقلت: صدقت والله جعلت فداك.(2)

وعن عبد الرحمن بن كثير الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)؟ قال: ففرج أبو عبد الله (عليه السلام) بين أصابعه فوضعها على صدره، ثم قال: والله عندنا علم الكتاب كله.(3)

ص: 73


1- (43) من سورة الرعد.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 232 – 233 باب مما عند الأئمة عليهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الكتاب ح1.
3- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 232 – 233 باب مما عند الأئمة عليهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الكتاب ح2.

الخطوة الرابعة

الخطوة الرابعة

الخطوة الرابعة(1):

تأسيسًا على ما سبق: لو وُجد شخصٌ، يملك مفاتيح العالم وأسراره، وله قدرة علمية على معرفة أسرار النفس في مجال معين، وأسرار العالم، ففلسفة الإنسان و تجربته يحكمان –في مجال تنظيم المواقع- بضرورة قبول مثل هذا الشخص بل وتقديمه بل وتقديسه والأخذ منه، حتى يعمل على توجيه الطموح الإنساني نحو تحصيل الكمال الممكن له.

وهذا التقديم من جهة، والتبعية المطلقة من جهة أخرى، أمر ضروري لا يحتاج إلى تكلّف عناء التفكير.

وكل ما عدا ذلك فهو خرق للقانون، فتقديم صاحب المال أو العِرْق أو الجاه، مع وجود العالم والعارف بأسرار العالم هو خرق للقانون العقلائي الذي لا يختلف فيه اثنان.

فتلخص من كل ما تقدم:

1/أن عالمنا عالم الكثرة.

2/وهذه الكثرة ليست مبعثرة ومن دون روابط، وإنما هي كثرة مرتبطة بعضها مع البعض الآخر بنظام العلة والمعلول (قانون السببية)

3/وأن هذا النظام أفرز تنظيم المواقع بين البشر بشكل هرمي، تتقدم فيه العلة على المعلول.

ص: 74


1- من البيان الثالث.

4/هناك ثلاثة أمور: الواقع، والقدرة، والعلم، لا بد منها كلها في عملية التكامل.

5/ ومحور هذه الثلاثة هو العلم.

6/فإذا توفر صاحب علم خاص، كان هو المقدم على غيره، وهو المطلوب.

وينتج من هذا: أننا نعتقد أن موقع الإمامة هو موقع عظيم، ولا بد أن يشغله شخص مناسب، وحيث إن محور التكامل هو العلم، فلا بد أن يكون الإمام عالماً، والعلم ليس له مرتبة واحدة، بل له مراتب متكثرة طولية متفاوتة، فلا بد أن يكون الإمام صاحب علم خاص حتى لا يوازيه عالم بعلم عادي، وحتى لا يكون محتاجًا في مسألة علمية إلى عالم عادي يكون مدينًا له، كل ذلك يقتضي أن يكون الإمام صاحب علم خاص، وهو المطلوب.

ونحن نعتقد أن أئمتنا (عليهم السلام) قد حازوا على مرتبة العلم الخاص اللدني، أما ما هي الأدلة على ذلك، فهذا ما سيأتي في محله في بحث الإمامة الخاصة إن شاء الله تعالى.

ص: 75

ص: 76

المقدمة السابعة: الإمامة والتوحيد
هل هناك صلة بين هاتين الحقيقتين أو لا؟
اشارة

إن النصوص تعاملت مع التوحيد والإمامة على أن بينهما ارتباطًا عضويًا وثيقًا، وليسا هما واجبين مستقلين بعضهما عن البعض الآخر.

وهذا يعني فيما يعنيه: أن مشروع الإمامة يدخل في الحقيقة ضمن الأطر الأساسية للسعادة في هذه الحياة، وأن أتباع الإمامة هم مجتمع التوحيد لا أنهم مجتمع مباين له.

هذا، ويمكن رصد خمس زوايا من النصوص للعلاقة بين الإمامة والتوحيد، وهي:

الزاوية الأُولى: نصاب التوحيد

إن للتوحيد مراتب متعددة، فمنه ما يكون توحيدًا خالصًا، وهو مقبول بلا أدنى شك، في قبال الإنكار والإلحاد والشرك الفاضح، الذي يمثل النقطة المقابلة بحدّ التناقض تمامًا للتوحيد الخالص، وهذه مرتبة مهلكة بلا أدنى شك أيضًا، ولكن فيما بين هاتين المرتبتين الخالصتين توجد مراتب متفاوتة:

ص: 77

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَىٰ اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(1)

- (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(2)

- (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(3)

ونحن ندرك أن بعض تلك المراتب مقبول وبعضها غير مقبول، فما هو الحد الفاصل بين قبول مرتبة منه دون أخرى؟

إن الحد الفاصل هو ما يمكن أن نطلق عليه (نصاب القبول)، وهو أمر لا بد أن يصدر من جهة لها الحق في ذلك التحديد، وفق سياقات خاصة لها واقعية معينة، لا اعتباطًا.

وهذه مسألة عقلائية معمول بها بين العقلاء، فعلى سبيل المثال والتوضيح، نجد أن المدارس الأكاديمية والعلمية اختلفت في الدرجة المقبولة من النجاح، فهناك النجاح اليقيني الذي لا فشل فيه (وهو نسبة 100%)، وهناك الفشل الذي لا نجاح معه (وهو نسبة صفر%) وما بينهما (من 99% إلى 1%) متوسطات، وفي كل مرتبة من هذه المتوسطات توجد

ص: 78


1- التوبة 102.
2- يوسف 106.
3- الحجرات 14.

نسبة نجاح ونسبة فشل، وهما قد يتساويان، وقد يغلب أحدهما على الآخر، إلا أن النسبتين موجودتان بدرجة ما، فنلاحظ أن بعض المدراس اعتبرت أن درجة (50%) نجاح، رغم أنها في حقيقة الأمر تحتوي على نسبة من الفشل مساوية لنسبة النجاح، بل بعضها رفعت من مستوى النجاح الأقل وجعلته أعلى من حيث القبول من نسبة الفشل الأعلى، كما نجد ذلك في إكمال درجة (45) بخمس درجات بقرار رسمي من الجهات ذات العلاقة، ليعتبروها درجة نجاح مرفوعة (أشبه بالتعبد).

إلا أنه قد نجد مدرسة علمية تعتبر النجاح محدّدًا بنسبة (70%) بحيث تعتبر درجة (69) فشلًا رغم أن نسبة النجاح فيها أعلى من نسبة الفشل. بل إن بعض الدرجات التخصصية –كالطبّ مثلًا- لا تقبل إلا ما وصل إلى درجة (98%) مثلًا، رغم أن نسبة الفشل تكاد تختفي معها.

إن تحديد نسبة النجاح من الفشل تابع لقياسات موضوعية، ولا نجد العقلاء يعارضون هذا التحديد إذا صدر ممن له الحق في ذلك، بل نجدهم يبررون ذلك التحديد ويدفعون من يريد الحصول على القبول فيه أن يصل بل يتجاوز الدرجة الفاصلة، المهم أن يصل إلى (النصاب القانوني) للحصول على القبول.

فقهيًا، هناك أمثلة للدرجة الفاصلة بين ترتب الحكم الشرعي أو عدم ترتبه، ففي زكاة الأنعام مثلًا، أُعتبر عددٌ معين إذا وصلت الأنعام إليه وجبت فيها الزكاة، ولو نقص نصابها بمقدار واحد فقط لما وجبت الزكاة،

ص: 79

ثم اختلف هذا النصاب بين أفراد الأنعام، فبعضها اُكتفي فيه بعدد (5) كما في الإبل، بينما بعضها لم تجب فيه الزكاة إلا إذا وصل إلى رقم (40) كما في الغنم.

إذا تبين هذا نقول:

في التوحيد، تؤكد النصوص الدينية على أن تحديد النصاب المقبول فيه –من بين درجاته ومستوياته المختلفة- بيد الإمامة، فالإمامة هي التي تحدّد أن هذه الدرجة من التوحيد مقبولة أو لا، أي إن واحدةً من مهام الإمامة هي تحديد النصاب المقبول من التوحيد.

والنصوص الدالة على هذه الزاوية من العلاقة عديدة، نذكر منها:

عَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: بِنَا عُبِدَ الله، وبِنَا عُرِفَ الله، وبِنَا وُحِّدَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، ومُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) حِجَابُ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى.(1)

وعن المفضل بن عمر، قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): بلية الناس عظيمة، إنْ دعوناهم لم يجيبونا، وإنْ تركناهم لم يهتدوا بغيرنا.(2)

وروي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنه قال: ولولا محمد (صلى الله عليه وآله) والأوصياء من ولده، كنتم حيارى كالبهائم، لا تعرفون فرضًا من

ص: 80


1- الكافي للكليني ج1 ص 145 باب النوادر ح10، وقال في هامش المصدر: (يعني بسبب تعليمنا وإرشادنا للناس وكوننا بينهم وبين الله يعبدونه ويعرفونه، ومحمد حجاب الله، يعني أنه متوسط بينه وبين عباده به يصل الرحمة والهداية من الله إلى عباده)
2- أمالي الشيخ الصدوق ص 707 ح972 / 4.

الفرائض...(1)

الزاوية الثانية: الإمامة تعبير عن الإخلاص في التوحيد
اشارة

الإخلاص هو التنقية من الشوائب والنواقص والأغيار، ولقد أكّدت النصوص الدينية على أن النجاة إنما هي بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما جزاء من أنعم الله عز وجل عليه بالتوحيد إلا الجنة.(2)

إلا أن هناك روايات أخرى قيّدت تلك الكلمة بالإخلاص، أي إنها جعلت الإخلاص قيدًا احترازيًا عن توحيد فيه نوع من الشوائب التي تنزل به عن مرحلة القبول، والمطلوب هو التوحيد الخالص من تلك الشوائب،

ص: 81


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص250 باب 182 ح6. وتمام الحديث: عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري: أن العالم كتب إليه -يعني الحسن بن علي (عليه السلام): إن الله تعالى بمنه ورحمته لما فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليه، بل رحمة منه إليكم، لا إله إلا هو، ليميز الخبيث من الطيب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، ولتتسابقوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم في جنته، ففرض عليكم الحج والعمرة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية، وجعل لكم بابًا لتفتحوا به أبواب الفرائض، ومفتاحًا إلى سبيله، ولولا محمد (صلى الله عليه وآله) والأوصياء من ولده كنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضًا من الفرائض، وهل تُدخل قريةٌ إلا من بابها؟! فلمّا منّ الله عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيكم (صلى الله عليه وآله) قال الله عز وجل ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة: 3]) وفرض عليكم لأوليائه حقوقًا فأمركم بأدائها إليهم، ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومأكلكم ومشربكم، ويعرّفكم بذلك البركة والنماء والثروة، وليعلم من يطيعه منكم بالغيب، وقال الله تبارك وتعالى ((قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ) [الشورى 23]) فاعلموا: أن من يبخل فإنما يبخل على نفسه، إن الله هو الغني وأنتم الفقراء إليه، لا إله إلا هو، فاعملوا من بعد ما شئتم، فسيرى (اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلىٰ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 94) [التوبة 94] والعاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين.
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص23 ح17.

فتكون مقيدة لتلك الروايات العامة التي ذكرت النجاة في كلمة التوحيد مطلقًا.

فعنه (صلى الله عليه وآله): إن (لا إله إلا الله) كلمة عظيمة كريمة على الله عز وجل، من قالها مخلصًا استوجب الجنة، ومن قالها كاذبًا عصمت ماله ودمه، وكان مصيره إلى النار.(1)

ما هو معنى الإخلاص في كلمة التوحيد؟

يُراد منه أحد معانٍ:

1/ أن يكون الظاهر موافقًا للباطن، ضد النفاق.

2/ استيلاء التوحيد على المشاعر والسلوك، بحيث لا يخرج الفرد في كل حركاته وسكناته عن استشعار عظمة الله وتوحيده، على حدّ ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه)(2)

وفى هذا المعنى ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(3)

قال: هو قول الرجل: لولا فلان لهلكت، ولولا فلان لما أصبت كذا وكذا، ولولا فلان لضاع عيالي، ألا ترى أنه قد

ص: 82


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص23 ح18.
2- مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة لمحمد تقي النقوي القايني الخراساني ج1 ص67 وج7 ص458 ومسند الإمام علي (عليه السلام) للسيد حسن القبانجي ج1 ص150 ح(390/ 10)
3- يوسف 106.

جعل لله شريكًا في ملكه يرزقه ويدفع عنه؟ قلت: فيقول: لولا أن الله مَنَّ عليّ بفلان لهلكت؟ قال: نعم لا بأس بهذا ونحوه.(1)

3/أن تكون الأفعال مصدّقة للأقوال، أي أن يكون التوحيد العملي مطابقًا للتوحيد العلمي النظري وبالعكس.

وأرقى درجات هذا المعنى من الإخلاص هو أن تتم صياغة السلوك الخارجي بحيث لا يقبل التفسير والتفسير الآخر، وينحصر تفسيره بالفعل المخلص لله تعالى، في قبال العمل المخلص في حقيقته، لكنه يمكن أن يُفسر بغير الإخلاص.

المعصومون (عليهم السلام) كانوا قد صاغوا سلوكهم الخارجي بحيث لم يرْمِهم أحد بكونهم مرائين أو يبطنون خلاف ما يُعلنون(2)،

كانوا بحيث لا يُفهم من عملهم إلا القربة الخالصة المطلقة لله تعالى، ذلك لأن إخراجهم لسلوكهم العملي جاء بنحو محكم ذي دلالة قطعية لا تقبل الظن أو التفسير الآخر.

علينا أن نفهم أن كون الفرد في ظرف وموقع معين، قد يفرض عليه أن يكون حريصًا على صياغة سلوكه بما لا يُعطي للآخر فرصة الطعن فيه أو تفسيره بغير الحق.

ص: 83


1- عدة الداعي لابن فهد الحلي ص89.
2- اللهم إلا الشاذ النادر الذي لا يُعبأ به، ولا يكون إلا من الذين قال فيهم جل وعلا: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل 14].
بعض الروايات الدالة على هذه الزاوية

بمطالعة سريعة للروايات الشريفة، نجد أنها تربط بين الإمامة والتوحيد بعلاقة عضوية تكون فيه العلاقة مع الإمامة مظهرًا من مظاهر الإخلاص في التوحيد ومعبرًا عنه:

عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال: كنت مع الرضا (عليه السلام) لما دخل نيسابور وهو راكب بغلة شهباء، وقد خرج علماء نيسابور في استقباله، فلما سار إلى المرتعة تعلّقوا بلجام بغلته، وقالوا: يا بن رسول الله، حدثنا بحق آبائك الطاهرين، حدثنا عن آبائك (صلوات الله عليهم أجمعين)، فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف خز، فقال: حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي ابن الحسين، عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة، عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: أخبرني جبرئيل الروح الأمين، عن الله (تقدست أسماؤه وجل وجهه) قال: إني أنا الله، لا إله إلا أنا وحدي عبادي فاعبدوني، وليعلم من لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله مخلصا بها، أنه قد دخل حصني، ومن دخل حصني أمن عذابي.

قالوا: يا بن رسول الله، وما إخلاص الشهادة لله؟ قال. طاعة الله ورسوله، وولاية أهل بيته (عليهم السلام).(1)

فالرسول (صلى الله عليه وآله) يُبين أن الالتزام بالدين هو لون من ألوان التوحيد، يرجع

ص: 84


1- أمالي الشيخ الطوسي ص589 ح1220/ 9.

إلى تصديق العمل للإيمان، ولكنه يذكر قيدًا احترازيًا آخر هو التولي لأهل البيت (عليهم السلام)، فالتولي لهم ترجمة للإخلاص في كلمة التوحيد.

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، هل للجنة من ثمن؟ قال: نعم. قال: ما ثمنها؟ قال: (لا إله إلا الله) يقولها العبد الصالح مخلصا بها. قال: وما إخلاصها؟ قال: العمل بما بعثت به في حقه، وحب أهل بيتي. قال: وحب أهل بيتك لمن حقها؟ قال: أجل، إن حبهم لأعظم حقها.(1)

الزاوية الثالثة: بالإمامة تتحقق معرفة الله تعالى الممكنة

في فقه الرضا (عليه السلام): إن أول ما افترض الله على عباده، وأوجب على خلقه معرفة الوحدانية، قال الله تبارك وتعالى: (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)(2)،

يقول: ما عرفوا الله حق معرفته.(3)

في هذه الرواية يُبين الإمام (عليه السلام) أن المعرفة التامة بالله تعالى غير ممكنة للإنسان؛ لأن المعرفة وإن كانت مراتب تمتد صعودا إلى درجات سامية، إلاّ الإنسان بحكم تناهيه لا يتمكن أن يُحيط باللامتناهي.

فلا شك أن لدى الإنسان طاقات وقدرات محدودة بحكم إمكانه وتناهيه، إلاّ أن الواقع والإحصائيات العلمية تشهد على أن الإنسان –عمومًا- لم يبذل

ص: 85


1- أمالي الشيخ الطوسي ص583/ ح 1207/ 12.
2- الحج 74.
3- فقه الرضا لابن بابويه القمي ص65.

كل وسعه ولم يستثمر كل طاقاته، وإنما استعمل منها الشيء اليسير، والقليل من البشر هم من استفادوا من كل رصيدهم من طاقة وقدرات بمحض إرادتهم. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن النصوص الدينية بيّنت أنه إذا لم يبذل الأكثر كل ما بوسعهم لاستغلال طاقاتهم، فإن هناك بديلًا لهم فيما يتعلق بالمعرفة التوحيدية، وهي معرفة أهل كل زمان بإمام زمانهم، حيث أشارت بعض النصوص إلى أن معرفة الإمام هي معرفة الله تعالى، فقد روي عن سلمة ابن عطا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج الحسين بن علي (عليهما السلام) على أصحابه فقال: أيها الناس، إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، فقال له رجل: يا بن رسول الله، بأبي أنت وأمي، فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته.(1)

وإذا ضممنا إليها ما ورد من مناقب ومقامات الأئمة (عليهم السلام) العالية والتي يمكن اختصارها بما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: (ما لله آية أكبر مني)(2) أنتج أن التعرف على الإمام مع معرفة حقيقته، هي عبارة عن درجة

ص: 86


1- علل الشرائع للصدوق ج1 ص9 باب 9 - علة خلق الخلق واختلاف أحوالهم ح1. وعلّق الشيخ الصدوق: يعني ذلك: أنْ يعلم أهل كل زمان أنّ الله هو الذي لا يخليهم في كل زمان عن إمام معصوم، فمن عبد ربًا لم يُقم لهم الحجة فإنما عبَد غير الله عز وجل.
2- بصائر الدرجات للصفار ص97 باب النوادر من الأبواب في الولاية ح3. وتمام الحديث: عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: جعلت فداك، إن الشيعة يسئلونك عن تفسير هذه الآية (عَمَّ يَتَسَاْءَلُوْنَ عَنِ النَّبَأِ العَظِيْمِ)؟ قال: فقال (عليه السلام): ذلك إليَّ، إنْ شئتُ أخبرتهم وإنْ شئت لم أُخبرهم. قال: فقال (عليه السلام): لكنّي أخبرك بتفسيرها. قال: فقلت: (عَمَّ يَتَسَاْءَلُوْنَ) قال: فقال (عليه السلام): هي في أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين يقول: ما لله آية أكبر مني، ولا لله من نبأ عظيم أعظم مني، ولقد عُرضت ولايتي على الأمم الماضية، فأبت أن تقبلها. قال: قلت له: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيْمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُوْنَ) قال: هو والله أمير المؤمنين (عليه السلام). ولا شك أننا في كل مقامات أهل البيت (عليهم السلام) لا نتجاوز الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بل هو في كل كمال أعلى منهم وأكمل.

عالية من درجات ومراتب حق معرفة الله تعالى من خلال معرفة عظيم فعله.

الزاوية الرابعة: الإمامة شرط التوحيد
اشارة

لقد طرحت النصوصُ الإمامةَ على أنها شرط التوحيد، ففي حديث السلسلة الذهبية، روي عن إسحاق بن راهويه قال: لما وافى أبو الحسن الرضا (عليه السلام) نيسابور، فأراد أن يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا بن رسول الله، ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث نستفيده منك؟ وكان قد قعد في العمارية فاطلع رأسه وقال: سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله (عز وجل) يقول: (لا إله إلا الله) حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي، فلما مرت الراحلة نادى: بشروطها وأنا من شروطها.(1)

ص: 87


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص7.

ولتوضيح الفكرة نقول:

إن التوحيد من حيث كونه حقيقة تكوينية أمر واحد مطلق، ولكن من حيث حمله وتقبّله فهو ليس مطلقًا، وإنما هو مراتب متعددة وحصص متكثرة، فإن الحامل للتوحيد والمتلبس به والعارف به ليس له مرتبة ودرجة واحدة، فهناك التوحيد الذي يتوقف عند فعل الحسنة في البداية ولكنه لا يستمر بفعلها، وهناك من يحمل نفسه على فعل الحسنة في الرخاء، (فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديانون)(1)،

وهناك من يتسابق في مضمار التوحيد، وهناك من يتنافس في اكتساب التوحيد، وليس كل أولئك على مستوىً واحد من القبول، وليس كل أولئك يصدق عليهم التوحيد حقيقة، وإنما هناك حصة خاصة عبّر عنها القرآن الكريم بقوله عز من قائل: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(2) ليس المهم فعل الحسنة بقدر ما هو مهم الحفاظ عليها أن لا تسقط أو تحترق في منتصف الطريق.

ولكن كيف يمكن للفرد أن يحافظ على مكتسباته؟

إن النصوص تؤكد على أن واحدًا من أهم شروط ذلك التوحيد هي الإمامة، بحيث إنها تجعل الإنسان ليس عارفًا وحاملًا للتوحيد وحسب، وإنما توصله إلى مرحلة الحفاظ على ما اكتسبه، تجعل من إيمانه وتوحيده مستقرًا لا مستودعًا، بحيث يمكنه أن يأتي به في عرصات القيامة.

ص: 88


1- تحف العقول للحراني ص 245.
2- الأنعام 160.

إن من طبيعة الإنسان أنه يتلكأ في المواقف الحرجة، وقد يتلعثم أبلغ المتحدثين لو دخل في مجلس وكان أستاذه جالسًا فيه، وقد يذهل المرء عن اسمه حتى، لو هاجمه سبع ضارٍ، فكيف بأهوال يوم القيامة التي حكتها لنا النصوص الدينية، والتي لو تأمل فيها الإنسان بدقّة، لاستشعر الهلع الذي لا يُحتمل، والذي لا بد أن نمرّ به ولو بعد حين.

يقول تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَىٰ النَّاسَ سُكارىٰ وَما هُمْ بِسُكارىٰ وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ)(1)

والمرء قد تذهب حِيَلَه وينسى حجته لو رأى شاهدًا يشهد ضده في محكمة الدنيا، خصوصًا إذا كان الحاكمُ يصدّقه ولا يُكذّبه، فكيف بشهادة أعضاء الإنسان عليه يوم القيامة؟ أي هول سيقع فيه، وأي حجة تبقى عنده؟!

قال تعالى (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَىٰ النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّىٰ إِذا ما جاؤُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ)(2)

وفي وصية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر أن قال له: (ولو كان لرجل عمل

ص: 89


1- الحج 1-2
2- فصلت 19 -22

سبعين نبيًا، لاستقلّ عمله من شدة ما يرى يومئذٍ، ولو أن دلوًا صُبّ من غسلين في مطلع الشمس لغلَت منه جماجم من في مغربها، ولو أنّ زفرات جهنم زفرت لم يبق ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرّ جاثيًا على ركبتيه، يقول: ربِّ نفسي نفسي، حتى ينسى إبراهيم إسحاق (عليهما السلام) يقول: يا ربّ، أنا خليلك إبراهيم، لا تنسني)(1)

في مثل هذه الأهوال، لا بد للإنسان أن يبحث عن شيء يضمن له الحفاظ على ما ينجيه يوم القيامة، يكون ملتصقًا به، بحيث يستذكره ويتمكن من الشهادة به، فهو ما سينجي الإنسان يوم القيامة، والنصوص بيّنت ذلك، وقالت: إنه الإمامة.

في صحيحة أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من شهد أن لا إله إلا الله فليدخل الجنة. قال: قلت: فعلى مَ تخاصم الناس إذا كان من شهد أنْ لا إله إلا الله دخل الجنة؟! فقال: إنه إذا كان يوم القيامة نسوها.(2)

وفي صحيحته الثانية عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: يَا أَبَانُ، إِذَا قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَارْوِ هَذَا الْحَدِيثَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً وَجَبَتْ لَه الْجَنَّةُ. قَالَ: قُلْتُ لَه: إِنَّه يَأْتِينِي مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الأَصْنَافِ، أفَأَرْوِي لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ؟! قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَانُ، إِنَّه إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وجَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ فَتُسْلَبُ

ص: 90


1- أمالي الشيخ الطوسي ص533.
2- المحاسن للبرقي ج1 ص 181 باب 42 ح 173.

(لَا إِلَه إِلَّا اللهُ) مِنْهُمْ، إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ.(1)

الزاوية الخامسة: الإمامة هي فطرة التوحيد

إن الدين هو دين الفطرة، والنصوص قد فسّرت الفطرة بالفطرة على التوحيد، ولكن بعضها وسّعت التوحيد إلى النبوة والإمامة، بل بعضها جعلت الإمامة غاية التوحيد.

فعَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ: (فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)(2)؟ قَالَ التَّوْحِيدُ.(3)

وعن عبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: التوحيد، ومحمد (صلى الله عليه وآله) رسول الله، وعلي أمير المؤمنين.(4)

وعن الهيثم بن عبد الله الرماني قال: حدثنا علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن جده محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) في قوله (فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: هو: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين ولي الله، إلى ههنا التوحيد.(5)

ص: 91


1- الكافي للكليني ج2 ص521 بَابُ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً ح1.
2- الروم 30.
3- الكافي للكليني ج2 ص12 بَابُ فِطْرَةِ الْخَلْقِ عَلَى التَّوْحِيدِ ح1.
4- التوحيد للشيخ الصدوق ص330 باب 53 - باب فطرة الله عز وجل الخلق على التوحيد ح1.
5- تفسير القمي ج2 ص155.

إن الدين صنّف الإمامة على أنها أمر فطري، والشاهد على ذلك: أن الإنسان لو خُلّي وطبعه من دون أي مؤثرات خارجية، فإنه سيؤمن بها مباشرة، لكن بشرط توفير تلك الأجواء الحيادية التي نفضت عنها تأثير المؤثرات الخارجية، وقد ورد في ما يتعلق بإثبات وجود الله تعالى ما يُشير إلى أن وجوده جل وعلا أمر فطري، لكن بشرط التخلص من المؤثرات، إذ روي أنه قالَ رَجُلٌ لِجَعفَرِ بنِ مُحَمَّد (عليهما السلام): مَا الدَّليلُ عَلَى اللهِ؟ ولا تَذكُر لِيَ العالَمَ وَالعَرَضَ وَالجَوهَرَ. فَقالَ لَهُ: هَل رَكِبتَ البَحرَ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: هَل عَصَفَت بِكُمُ الرّيحُ حَتّى خِفتُمُ الغَرقَ؟ قالَ: نَعَم، قالَ: فَهَلِ انقَطَعَ رَجاؤُكَ مِنَ المَركَبِ وَالمَلاّحينَ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: فَهَل تَتَبَّعَت نَفسُك أنَّ ثَمَّ مَن يُنجيكَ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: فَإِنَّ ذاكَ هُوَ اللهُ، قالَ اللهُ تَعالى: (ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ)(1)،

(إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)(2)(3)

وروي عن الإمام العسكريّ (عليه السلام)... قالَ رَجُلٌ لِلصَّادِقِ (عليه السلام): يَا بنَ رَسولِ اللهِ، دُلَّني عَلَى اللهِ ما هُوَ؟ فَقَد أكثَرَ عَلَيَّ المُجادِلونَ وحَيَّروني. فَقالَ لَهُ: يا عَبدَ الله، هَل رَكِبتَ سَفينَةً قَطُّ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: فَهَل كَسَرَ بِكَ حَيثُ لا سَفينَةَ تُنجيكَ ولا سِباحَةَ تُغنيكَ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: فَهَل تَعَلَّقَ قَلبُكَ هُنالِكَ أنَّ شَيئاً مِنَ الأَشياءِ قادِرٌ عَلى أن يُخَلِّصَكَ مِن وَرطَتِكَ؟ فَقالَ: نَعَم. قالَ

ص: 92


1- الإسراء: 67.
2- النحل: 53.
3- البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني ج1 ص106 ح (267 / 12 (عن ربيع الأبرار للزمخشري.

الصَّادِقُ (عليه السلام): فَذلِكَ الشَّيءُ هُوَ اللهُ القادِرُ عَلَى الإِنجاءِ حَيثُ لا مُنجِيَ، وعَلَى الإغاثَةِ حَيثُ لا مُغيثَ.(1)

وهكذا هو أمر الإمامة، فإنها أمر فطري، بمعنى: أنه لو تُرك الإنسان وذاته لاهتدى إليها، وقد روي ما يدل على ذلك عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: وفد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل اليمن، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): جاءكم أهل اليمن يبسون بسيسًا، فلما دخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: قوم رقيقة قلوبهم، راسخ إيمانهم، منهم المنصور، يخرج في سبعين ألفا ينصر خلفي وخلف وصيي، حمائل سيوفهم المسك.

فقالوا: يا رسول الله، ومن وصيك؟

فقال: هو الذي أمركم الله بالاعتصام به، فقال عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(2)

فقالوا: يا رسول الله، بيّن لنا ما هذا الحبل؟

فقال: هو قول الله: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)(3) فالحبل من الله كتابه، والحبل من الناس وصيي.

فقالوا: يا رسول الله، من وصيك؟

فقال: هو الذي أنزل الله فيه: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتىٰ عَلىٰ ما فَرَّطْتُ

ص: 93


1- البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني ج1 ص103ح(263 / 8).
2- آل عمران 103.
3- آل عمران 112.

فِي جَنْبِ اللهِ)(1)

فقالوا: يا رسول الله، وما جنب الله هذا؟

فقال: هو الذي يقول الله فيه: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً.)(2) هو وصيي، والسبيل إلي من بعدي.

فقالوا: يا رسول الله، بالذي بعثك بالحق نبيا أرناه فقد اشتقنا إليه.

فقال: هو الذي جعله الله آية للمؤمنين المتوسمين، فإن نظرتم إليه نظر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عرفتم أنه وصيي كما عرفتم أني نبيكم، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه، فمن أهوت إليه قلوبكم فإنه هو، لأن الله عز وجل يقول في كتابه: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)(3)

أي: إليه وإلى ذريته (عليهم السلام).

ثم قال: فقام أبو عامر الأشعري في الأشعريين، وأبو غرة الخولاني في الخولانيين، وظبيان، وعثمان بن قيس في بني قيس، وعرنة الدوسي في الدوسيين، ولاحق بن علاقة، فتخللوا الصفوف، وتصفحوا الوجوه، وأخذوا بيد الأصلع البطين، وقالوا: إلى هذا أهوت أفئدتنا، يا رسول الله.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أنتم نجبة الله حين عرفتم وصي رسول الله قبل أن تُعَرَّفُوه، فبِمَ عرفتم أنه هو؟

ص: 94


1- الزمر 56.
2- الفرقان 27.
3- إبراهيم 37.

فرفعوا أصواتهم يبكون ويقولون: يا رسول الله، نظرنا إلى القوم فلم تحن لهم قلوبنا، ولما رأيناه رجفت قلوبنا ثم اطمأنت نفوسنا، وانجاشت أكبادنا، وهملت أعيننا، وانثلجت صدورنا، حتى كأنه لنا أب ونحن له بنون.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(1) أنتم منهم بالمنزلة التي سبقت لكم بها الحسنى، وأنتم عن النار مُبعَدون.

قال: فبقي هؤلاء القوم المسمَّون حتى شهدوا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) الجمل وصفين، فقتلوا في صفين رحمهم الله، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) بشّرهم بالجنة، وأخبرهم أنهم يُستشهَدون مع علي بن أبي طالب (عليه السلام).(2)

إشارة: عدم معرفة الإمام يؤدي إلى الكفر والنفاق.

من مجموع الزوايا المتقدمة، يمكن أن نفهم النصوص التي رتّبت الكفر والنفاق والضلال -وأمثال هذه المفاهيم- على عدم معرفة الإمام أو على جحده أو على اتخاذ إمام من غير من نصّبهم الله تعالى، إذ إنها افترضت في مرحلة مسبقة أن العلاقة بين التوحيد والإمامة هي علاقة عضوية ولا ينفصل أحدهما عن الآخر، وبالتالي فمن أنكر الإمامة فإنه أنكر التوحيد.

ومن تلك الروايات هي التالي:

عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): من عرف الأئمَّة ولم

ص: 95


1- آل عمران 7.
2- كتاب الغيبة للنعماني ص46 باب 2 في ذكر حبل الله الذي أمرنا بالاعتصام به، وترك التفرق عنه بقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)- (ح1).

يعرف الإمام الذي في زمانه أمؤمن هو؟ قال: «لا»، قلت: أمسلم هو؟ قال: «نعم»(1).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»(2).

وعن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «من مات لا يعرف إمامه، مات ميتة جاهلية كفر ونفاق وضلال»(3).

وعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: يا محمد بن مسلم، من أصبح من هذه الأمة ولا إمام له من الله عادل، أصبح تائهًا متحيرًا، إنْ مات على حاله تلك مات ميتة كفر ونفاق...(4)

ص: 96


1- كمال الدين للصدوق: 410/ باب 39/ ح 3.
2- كمال الدين للصدوق: 413 و414/ باب 39/ ح 15.
3- الإمامة والتبصرة لابن بابويه: 82/ ح 69.
4- المحاسن للبرقي ج1 ص93 باب 17 - عقاب من لم يعرف إمامه ح47/ وتمام الحديث: عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه بلا إمام عادل من الله، فإن سعيه غير مقبول، وهو ضال متحير، ومثله كمثل شاة لا راعي لها، ضلت عن راعيها وقطيعها، فتاهت ذاهبة وجائية يومها، فلما أن جنها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها، فجاءت إليها فباتت معها في ربضتها، متحيرة تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بسرح قطيع غنم آخر فعمدت نحوه وحنت إليها، فصاح بها الراعي: الحقي بقطيعك فإنك تائهة متحيرة، قد ضللت عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرة متحيرة لا راعى لها يرشدها إلى مرعاها أو يردها، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها، وهكذا يا محمد بن مسلم من أصبح من هذه الأمة ولا إمام له من الله عادل أصبح تائهًا متحيرًا، ان مات على حاله تلك مات ميتة كفر ونفاق، واعلم يا محمد أن أئمة الحق وأتباعهم على دين الله...

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «... وأدنىٰ ما يكون به العبد ضالًّا أن لا يعرف حجَّة الله تبارك وتعالىٰ وشاهده علىٰ عباده الذي أمر الله (عزوجل) بطاعته وفرض ولايته»(1).

وقد روي عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: منا الإمام المفروض طاعته، من جحده مات يهوديًا أو نصرانيًا، والله ما ترك الله الأرض منذ قبض الله آدم إلا وفيها إمام يهتدى به إلى الله حجة على العباد، من تركه هلك، ومن لزمه نجا، حقًا على الله.(2)

ص: 97


1- الكافي للكليني 2: 414 و415/ باب أدنىٰ ما يكون به العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالّاً/ ح 1.
2- المحاسن للبرقي ج1 ص92 باب 17 - عقاب من لم يعرف إمامه ح45.

ص: 98

المقدمة الثامنة: الإمامة والنبوة
اشارة

هل للإمامة علاقة بالنبوة أو لا؟

هل الإمامة تُختصر بأنها مجرد مقولة من مقولات النبي دون أن يكون لها اتصال وربط بنبوة النبي، أو إنها ذات صلة عضوية بنبوة النبي وأدواره في الجملة، بعد الفراغ عن أنها ليست نبوة (لا نبي من بعدي)؟

من الواضح: أن العلاقة بينهما أوضح في الذهنية العامة من العلاقة بين الإمامة والتوحيد، ونبينها من خلال النقاط التالية:

النقطة الأولى: نصوص الإعداد والإشراف المباشر

هناك مجموعة من النصوص تكشف عن أن هذه الشخصية –التي ندّعي وبالدليل القاطع أنها حظيت بمنصب خلافة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)- قد تلقّت تربية خاصة وإعدادًا مباشرًا منه (صلى الله عليه وآله)، من أجل تأهيلها لذلك المنصب اللائق في خلافته (صلى الله عليه وآله)، طبعا التأهيل بطريق العلم اللدني.

ومن تلك النصوص التالي:

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام): علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألفَ باب،

ص: 99

يفتح ألفَ باب.(1)

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علّم عليًا (عليه السلام) بابًا من العلم، ففتح ألف باب، لكل باب فتح له الف باب. (2)

وقد ذكر ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه حينما قال: (وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه (صلى الله عليه وآله)، مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه، ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ، غَيْرَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه (صلى الله عليه وآله)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله مَا هَذِه الرَّنَّةُ، فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ

ص: 100


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 647.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 323 الباب (16) باب في ذكر الأبواب التي علم رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام ح (5).

لَوَزِيرٌ، وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ)(1)

التربية وبإشراف شخص الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لها دلالتها الواضحة على أنه كان يعده لموقع يمتُّ بصلة وثيقة لصميم عمله (صلى الله عليه وآله).

النقطة الثانية: نصوص المفاهيم المنتسبة إلى النبوة

هناك تعبيرات استعملت (ياء النسبة) في وصف أمير المؤمنين (عليه السلام)، من قبيل (مني) (وزيري) (خليفتي) (وصيي).

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي.(2)

وعنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): هذا أخي ووارثي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي.(3)

قَالَ (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ وَلِيُّكُمْ وأَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟

ص: 101


1- نهج البلاغة ج2 ص 157.
2- الحديث مشهور معروف لا ينكره أحد، راجع مثلًا: الكافي للكيني ج8 ص 107 ح80، وصحيح البخاري ج4 ص 208 ومسند أحمد ج1 ص 170 وغيرها كثير من المصادر.
3- علل الشرائع للصدوق ج1 ص 169 باب 133 ح2 وتمام الرواية: عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام): قال: لما نزلت (وانذر عشيرتك الأقربين ورهطك المخلصين) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنى عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلًا، يزيدون رجلًا أو ينقصون رجلًا فقال: أيكم يكون أخي ووصيي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي؟ فعرض عليهم ذلك رجلًا رجلًا كلهم يأبى ذلك حتى أتى عليّ فقلت: أنا يا رسول الله، فقال: يا بني عبد المطلب، هذا أخي ووارثي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي، فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام.

فَقَالُوا: الله ورَسُولُه. فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاه وعَادِ مَنْ عَادَاه -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-...(1)

إن هذه النصوص وأمثالها تشير إلى أن هناك رجلًا هو (الرجل الثاني) في الإسلام، بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنه مرتبط به مباشرة، وأنه الذي يديم مشروع النبوة، فهو رجل محوري في الإسلام لا مجرد شخص عابر، وعليه ألقيت مهمة إكمال مشروع النبوة بما للكلمة من معنى (مع الحفاظ على خصوصية نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الخاتمة)، وقد بيّنتْ هذه النصوص أن هذا الرجل مرتبط بالنبي (صلى الله عليه وآله) وعمله مرتبط بصلب عمله، إذ فيها عملية جعلٍ وتنصيب لمن يمسك زمام الأمور بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ويُديم مسيرة النبوة.

ويمكن بيان هذه الزاوية من نفس مفاهيم (الوصية، الخلافة، الوزارة...)؛ إذ إنها مفاهيم ذات إضافة، فإن الوصي هو الرجل الثاني بعد الموصي، وعمله عبارة عن عمل الموصي، وهكذا الخليفة والوزير... مما يعني أن نفس تلك المفاهيم تنص على العلاقة العضوية وبنحو الطولية بين الإمامة والنبوة.

النقطة الثالثة: نصوص اكتمال الدين بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)

جملة من النصوص تدل وبوضوح على أن الإسلام إنما اكتمل بتنصيب

ص: 102


1- الحديث متواتر لدى العامة والخاصة، انظر مثلًا: الكافي للكليني ج1 ص293 باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين (عليه السلام) ح (3) ومسند أحمد بن حنبل ج1 ص 118 وسنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزويني ج1 ص 45 وغيرها.

أمير المؤمنين (عليه السلام) إمامًا للناس، وعلى أن الله تعالى إنما ارتضى الإسلام دينًا عندما تم تبليغ تلك الإمامة، مما يكشف عن أن الإمامة مرتبطة بأصل الإسلام، وأن لها محورية كاملة في تتميم الدين، وبالتالي فإنها مرتبطة بالنبوة ارتباطًا وثيقًا عضويًا، في عين كونها في طولها.

فإنه وبعد جهاد مرير خاضه النبي الأكرم (صلى الله عليه آله) وعلى مدى (23) سنة، من الدعوة والصبر والجهاد والغربة و... نجد القرآن الكريم يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر مهم جدًا، فيقول جل وعلا: ]يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ[(1)

وبعد أن بلَّغ النبيُّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) رسالة ربِّه هذه، نزل عليه الخطاب الإلهي صادحًا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(2)

إذن، لقد تمَّ الدين الإسلامي ورضاه الله تعالىٰ لنا بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا يعني أنَّ قضية الإمامة ليست مجرد مقولة من مقولات الدين الحنيف، بل هي مقولة مرتبطة بصميم وجوهر الرسالة وأصل الدين، وإلا، فكيف كان حجمه حجم الدين، بحيث ارتضاه الله تعالى لنا دينًا بعد تبليغه؟!

وهكذا الحال في حديث الثقلين المتواتر، إذ إنه يكشف عن تلك العلاقة

ص: 103


1- المائدة: 67.
2- المائدة: 3.

العضوية الطولية بكل وضوح، حيث يصرح بأن الارتباط بين الثقلين دائم مستمر، وأنهما المنفذ الوحيد للخروج من الخطر، فهما صمام الأمان وسفينة النجاة، وأنهما سيبقيان هكذا إلى يوم الدين، ليكون مرجعهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا يكشف عن المطلوب إثباته هنا أيضًا.

فقد روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم أمرين: أحدهما أطول من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض...(1)

النقطة الرابعة: الإمامة تستمرّ بشخص الإمام

لا ينحصر بقاء شريعة السماء بشخص النبي، بل يمكن أن يموت النبي ولكن الشريعة باقية، فهي حدوثًا بشخص النبي، فهو الذي يقوم بعملية التبليغ عن السماء، ولكنّ استمراراها وبقاءها وديمومتها لا تتقوم ببقاء واستمرار وديمومة النبي، فالأنبياء يرحلون وتبقى شرائعهم مستمرة بعدهم.

بينما الإمامة، ظاهرة مستمرة بشخص الإمام ومتقومة بوجوده، كما روي أن الأرض لا تبقى من دون حجة أبدًا.(2) وهو أمر أكّده القرآن الكريم بقوله

ص: 104


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 65 ح 97. وانظر مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 14 وسنن الترمذي ج5 ص 329 وغيرها من المصادر.
2- الأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ومنها ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ لَه: أتَبْقَى الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَإِنَّا نُرَوَّى عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِغَيْرِ إِمَامٍ إِلَّا أَنْ يَسْخَطَ الله تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ أَوْ عَلَى الْعِبَادِ؟ فَقَال: (لَا، لَا تَبْقَى، إِذاً لَسَاخَتْ) الكافي للكليني ج1 ص 179 بَابُ أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ - ح11.]

عز من قائل: (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ.)(1).(2)

وهذا ينتج التالي:

أن الشريعة تبقى بعد موت النبي، ولكنه بقي إلى جنب الشريعة إمامُ هدى، مما يعني أن بقاء الشريعة، وتطبيقها التدريجي، وبيان مجملها وتفاصليها، مهمة ملقاة على عاتق الإمام، وهذا يكشف عن العلاقة الوثيقة بين الإمامة والنبوة.

إن الدين عندما طرح الإمامة، فإنه طرحها بمعنى المنصب المعنيّ بالحفاظ على الشريعة بقاءً وتطبيقًا وبيانًا.

أي إنه طرحها كمسؤولية متمّمة لمهمة الرسالة والنبوة ما بعد التبليغ من النبي، ما بعد الحدوث وفي مرحلة البقاء والخطوات اللاحقة، وهو ما اهتم به أهل البيت (عليهم السلام).

فتحصل من المقدمة الثامنة:

أن الإمامة هي في طول النبوة، وليست مفهومًا رديفًا لها أو في عرضها

ص: 105


1- الرعد 7.
2- في تفسير هذه الآية روي في الكافي ج1 ص 191 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ ع هُمُ الْهُدَاةُ ح1/ عَنِ الْفُضَيْلِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فَقَالَ: كُلُّ إِمَامٍ هَادٍ لِلْقَرْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِمْ. وفي الحديث (2)/ عن بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (ِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه آله): الْمُنْذِرُ ولِكُلِّ زَمَانٍ مِنَّا هَادٍ يَهْدِيهِمْ إِلَى مَا جَاءَ بِه - نَبِيُّ الله (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ الْهُدَاةُ مِنْ بَعْدِه عَلِيٌّ ثُمَّ الأَوْصِيَاءُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ.

أو مستقلا عنها، كي يقال عن تبني هذه الفكرة أنه دين جديد، بل هي إدامة وبيان وتطبيق للشريعة التي جاء بها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

وهذا أمر أكّده أهل البيت (عليهم السلام) في أكثر من مناسبة.

فقد روي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا جابر، إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ولكنّا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم.(1)

وعن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: لو أنّا حدثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا، ولكنّا حدّثنا ببينة من ربِّنا بيّنها لنبيه فبينّها لنا.(2)

ص: 106


1- بصائر الدرجات للصفار ص 319 باب (14) باب في الأئمة ان عندهم أصول العلم ما ورثوه عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يقولون برأيهم ح1.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 319 باب (14) باب في الأئمة ان عندهم أصول العلم ما ورثوه عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يقولون برأيهم ح21.

المبحث الثاني: الإمامة الخاصة

اشارة

أي البحث في خصوص إمامة أهل البيت (عليهم السلام).

لقد تبين في مقدمات الإمامة العامة أن الإمام لا بد أن يكون: معصومًا، منصوصًا عليه من السماء، وله من العلم اللدني الخاص ما يُغنيه عن ارتياد المعاهد العلمية وأخذ العلم بطريقة كسبية عادية.

وسنذكر في ما يأتي الأدلة على ثبوت هذه المؤهلات في أهل البيت (عليهم السلام)، إن شاء الله تعالى، عبر نقاط سبعة:

النقطة الأولى: النص على أهل البيت (عليهم السلام).

النقطة الثانية: عصمة أهل البيت (عليهم السلام).

النقطة الثالثة: علم أهل البيت (عليهم السلام) اللّدني.

النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت (عليهم السلام) (الولاية التكوينية).

النقطة الخامسة: الإمامة والسياسة (أو الحاكمية)

النقطة السادسة: الإمام المهدي (عليه السلام).

النقطة السابعة: تساؤلات وشبهات وأجوبة.

ص: 107

ص: 108

النقطة الأولى: النص على أهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

لقد بات واضحًا أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قد صرّح بأن خليفته من بعده هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأبناؤه المعصومون (عليهم السلام) لا غير، والنصوص في ذلك كثيرة، نذكر بعضًا منها في خطوتين:

الخطوة الأولى: النص على خصوص أمير المؤمنين (عليه السلام)
النص الأول: آية الولاية:

وهو قوله تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.)(1)

حيث (تضافرت الروايات بأن عليًا (عليه السلام) تصدق بخاتمه وهو راكع فنزلت الآية في حقه.

أخرج الحفاظ وأئمة الحديث عن أنس بن مالك وغيره أن سائلًا أتى

ص: 109


1- المائدة 55.

المسجد وعليٌّ (عليه السلام) راكع فأشار بيده للسائل، أي اخلع الخاتم من يدي. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عمر، وجبت. قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما وجبت؟! قال: وجبت له الجنة، والله ما خلعه من يده حتى خلعه الله من كل ذنب ومن كل خطيئة. قال: فما خرج أحد من المسجد حتى نزل جبرئيل بقوله عز وجل: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.)(1)

فالآية صريحة في أن الله تعالى قد جعل عليًا (عليه السلام) وليًا للمؤمنين من بعد ولايته وولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلى هذا فيكون أمير المؤمنين (عليه السلام) أولى بالتصرف بنا بأمر الله تعالى، (والدليل على أن المراد من الولي هو الأولى بالتصرف أنه سبحانه أثبت في الآية الولاية لنفسه ولنبيه ولوليِّه على نسق واحد، وولاية الله عز وجل عامة، فولاية النبي والولي مثلها وعلى غرارها. غير أن ولاية الله ولاية ذاتية، وولاية الرسول والولي مكتسبة معطاة، فهما يليان أمور الأمة بإذنه سبحانه.)(2)

ص: 110


1- تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم الرازي ج4 ص 1162 ح 6551 وشواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ج1 ص 209 ح 216 وغيرها من المصادر. وقال في مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج10 ص 112 – 113: وقد أخرجه ابن جرير الطبري والحافظ أبو بكر الجصاص الرازي في أحكام القرآن والحاكم النيسابوري (المتوفى 405 ه) والحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري (المتوفى 468 ه) (5) وجار الله الزمخشري (المتوفى 538 ه) إلى غير ذلك من أئمة الحفاظ وكبار المحدثين ربما ناهز عددهم السبعين، وهم بين محدث ومفسر ومؤرخ ويطول بنا الكلام لو قمنا بذكر أسمائهم ونصوصهم...
2- مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج10 ص 114.
النص الثاني: حادثة الغدير

قال تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.)(1)

قال الشيخ السبحاني في مفاهيمه:

((نزلت الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة، لما بلغ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) غدير خم فأتاه جبرئيل بها، فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وكان أوائل القوم قريبين من الجحفة، فأمره أن يرد من تقدم منهم، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان، وأن يقيم عليًا (عليه السلام) علمًا للناس ويبلغهم ما أنزل الله فيه وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس.

وقد اتفقت الشيعة الإمامية على نزول الآية في يوم غدير خم، وافقهم على ذلك لفيف من المحدثين والمؤرخين، فقد ذكر الواقعة الطبري في تفسيره، كما رواها السيوطي في الدر المنثور عن جماعة من الحفاظ، منهم:

1 - الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي (المتوفى 327 ه).

2 - الحافظ أبو عبد الله المحاملي (المتوفى 330 ه).

3 - الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي (المتوفى 407 ه).

4 - الحافظ ابن مردويه (المتوفى 716 ه)

ص: 111


1- المائدة 67.

وغيرهم من أعلام الحديث والتاريخ، وقد جمع المحقق الأميني أسماء من روى نزول هذه الآية في يوم غدير خم من أصحاب السنة فبلغ 30 رجلًا. وعلى كل حال فقد قام النبي (صلى الله عليه وآله) بتحقيق البلاغ في يوم غدير خم، فخطب خطبة، وقال: أيها الناس، إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟

قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت، وجهدت، فجزاك الله خيرًا.

قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق، وناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال: اللهم اشهد. ثم قال: أيها الناس، ألا تسمعون؟

قالوا: نعم.

قال: فإني فرط على الحوض، فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين.

فنادى منادٍ: وما الثقلان يا رسول الله؟

قال: الثقل الأكبر، كتاب الله، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا.

ثم أخذ بيد علي فرفعها، حتى رؤي بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون،

ص: 112

فقال: أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم. فمن كنت مولاه، فعلي مولاه - يقولها ثلاث مرات -

ثم قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب.

ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(1)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة ورِضى الرب برسالتي، والولاية لعلي من بعدي.

ثم أخذ الناس يهنئون عليًا، وممن هنأه في مقدم الصحابة الشيخان أبو بكر وعمر، كل يقول: بخ بخ، لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وقال حسان: ائذن لي يا رسول الله أن أقول في علي أبياتا، فقال: قل على بركة الله، فقام حسان، فقال:

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم وأسمعْ بالرسول مناديا

ص: 113


1- المائدة 3.

فقال فمن مولاكم ونبيكم *** فقالوا ولم يُبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا *** ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له: قم يا علي فإنني *** رضيتك من بعدي إمامًا وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه *** فكونوا له أتباعَ صدقٍ مَواليا

هناك دعا اللهم وال وليه *** وكن للذي عادى عليًا معاديا

فلما سمع النبي أبياته، قال: لا تزال يا حسان مؤيَّدًا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.)) (1)

وهذه الحادثة أوضح من الشمس وأبين من الأمس في دلالتها على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعلى أنه ولي الله تعالى بالنص منه جل وعلا، ولا يمكن لعاقل أن يسمع بهذه الآية وبالحادثة التي حصلت بعدها ثم يتردد في ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي حادثة متواترة لا يمكن لمسلم أن يُنكر وقوعها، نعم، البعض –بعد أنْ رأى أنه لا يمكنه وفق الموازين العلمية أن يُنكر وقوع هذه الحادثة- حاول أن يُحرّف في دلالتها، فقال: إن المراد من (أولى) في كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الناصر والمعين وما شابه، فالنبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن يُبين للمسلمين في ذلك الوقت أن عليًا (عليه السلام) قد نصره وأعانه في مهمته، ولا دخل لهذه الآية والحادثة بتنصيبه وليًا على المؤمنين.

قرائن على أن المقصود من الولي هو الأولى بالتصرف.

وفي الحقيقة، فإن تفسير آية الولاية بأنها تريد بيان أن علياً (عليه السلام) هو مجرد

ص: 114


1- انظر مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج10 ص 116 – 119.

ناصر للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لهو أوهن من بيت العنكبوت، فمن يقرأ الحادثة بتمعُّنٍ، فإنه يرى بكل وضوح أنه ليس مناسبًا أصلًا أن يُبين الرسول (صلى الله عليه آله) أن عليًا مجرد ناصر ومعين له بهذه الكيفية من جمع المسلمين وإيقافهم في هجير الحر، وجمع أولهم بآخرهم، رغم أن نصرة علي (عليه السلام) وإعانته للنبي (صلى الله عليه وآله) لا يُنكرها أحد، وهي غير خافية أبدًا، فلا داعي لكل هذه العملية المتعبة من النبي (صلى الله عليه وآله) ليُبلّغ أمرًا واضحًا ولا يختلف فيه اثنان.

فضلًا عن هذا، فقد ذكر علماؤنا عدة قرائن من داخل النص الوارد في هذه الحادثة، تدلّ بكل وضوح –ولو بمجموعها- على أن المراد من الأولى هو الأولى بالتصرف لا مجرد الناصر والمعين، وهذه القرائن هي(1):

القرينة الأولى: قوله (صلى الله عليه وآله) في صدر الحديث: (ألست أولى بكم من أنفسكم) وهو دليل على أن المراد من قوله: (فمن كنت مولاه) هو الأولى، وذلك لأنه رتّب ولاية علي (عليه السلام) على كونه هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فلأن النبي (صلى الله عليه وآله) هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فكذلك الولاية التي ترتبت على هذه الولاية وهي ولاية علي (عليه السلام).

القرينة الثانية: دعاؤه (صلى الله عليه وآله) في صدر الحديث: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) فلو أريد منه غير الأولى بالتصرف فما معنى هذا التطويل؟ فإنه لا يلتئم ذكر هذا الدعاء إلا بتنصيب علي (عليه السلام) مقامًا شامخًا يؤهّله لهذا الدعاء.

القرينة الثالثة: أخذ الشهادة من الناس، حيث قال (صلى الله عليه وآله): (ألستم تشهدون

ص: 115


1- بتصرف: مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج10 ص 120 – 121.

أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله) ثم بلّغ ولاية علي (عليه السلام) بعد ذلك، وهذا لا يتلاءم إلا مع كون ولاية علي (عليه السلام) هي على غرار ولاية الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) ولذلك ذكرها في سياق الشهادة لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وآله)

القرينة الرابعة: التكبير على إكمال الدين، حيث لم يتفرقوا بعد كلامه حتى نزل إليه الوحي بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(1)

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي.

فبماذا يكمل به الدين وتتم به النعم ويرضى الرب بالرسالة، سوى الإمامة التي بها تمام الرسالة وكمال نشرها وتوطيد دعائمها.

القرينة الخامسة: نعيُ النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه إلى الناس حيث قال: (كأني دُعيتُ فأجبتُ)، وفي نقل آخر (أنه يوشك أنْ أُدعى فأجيب)، وهذا يُعطي انطباعًا أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد بلّغ أمرًا مهما كان يحذر أن يدركه الأجل قبل الإشارة إليه، وهو يُعرب عن كون ما أشار إليه في هذا المحتشد هو تبليغ أمر مهم يخاف فوته وليس هو إلا الإمامة، ولا يُعقل أن يكون هو مجرد التذكير بنصرة علي (عليه السلام) له.

القرينة السادسة: الأمر بإبلاغ الغائبين، حيث أمَر (صلى الله عليه وآله) في آخر خطبته بأن يبلغ الشاهدُ الغائبَ، فلو لم يكن هذا الأمر الإمامة فما معنى هذا التأكيد؟!

إلى غير ذلك من القرائن التي استقصاها الشيخ الأميني (قدس سره) [ت 1392

ص: 116


1- المائدة 3.

ه-] في غديره، وأوصلها إلى (20) قرينة.(1)

على أن الناس في ذلك الوقت كانوا قد تسالموا على أن المراد من الأولى في حديث النبي (صلى الله عليه وآله) هو الأولى بالتصرف، وهناك شواهد عديدة من التاريخ تدل على ذلك، ومنها رواية الفهري المعروفة، حيث روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: لمّا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بغدير خم، فنادى في الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) وهو في مَلأٍ من أصحابه، على ناقة، حتى أتى المدينة فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها، وأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمسًا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلنا، وأمرتنا أن نحج البيت فقبلنا، ثمَّ لم ترض بهذا حتى رفعت بضُبعي ابن عمك ففضَّلْته علينا؟ وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، وهذا شيء منك أم من الله؟فقال (صلى الله عليه وآله): والذي لا إله إلا هو أنه من أمر الله.

فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إنْ كان ما يقول محمدٌ حقًّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته فخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالى

ص: 117


1- راجع الغدير للشيخ الأميني (قُدّس سره) ج1 ص 370 وما بعدها تحت عنوان: (القرائن المعينة. متصلة ومنفصلة).

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ.)(1).(2)

النص الثالث: حادثة الدار

اتفق المؤرخون على هذه الحادثة، وعلى أن النبي (صلى الله عليه وآله) أعلن للقوم أن خليفته هو علي (عليه السلام)، وملخّص هذه الحادثة كما (يقول المفسرون: لما نزل قوله سبحانه: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(3)

أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يُعدّ طعامًا ولبَنًا، فدعا خمسة وأربعين رجلًا من وجوه بني هاشم، ولما فرغوا من الطعام تكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتُن كما تنامون، ولتبعثُن كما تستيقظون، ولتحاسبُن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا.

ثم قال: يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابًا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

ولما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) إلى هذه النقطة، وبينما أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم وأخذوا يفكرون مليًا في ما يؤول إليه هذا الأمر العظيم، وما يكتنفه

ص: 118


1- المعارج 1 -2.
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه/ محمد تقي المجلسي (الأول) ص 245. ومناقب ابن شهر آشوب ج2 ص 240 – 241.
3- الشعراء 214 – 215.

من أخطار، قام علي (عليه السلام) فجأة، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره، وقال وهو يخترق بكلماته الشجاعة جدار الصمت والذهول: أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله.

فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): اجلس، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كل مرة يُحجم القوم عن تلبية دعوته، ويقوم عليٌّ ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبي (صلى الله عليه وآله)، ويأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجلوس، حتى إذا كانت المرة الثالثة أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين، وقال: إن هذا أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك أميرًا.

هذا موجز ما ذكره المفسرِّون والمحدِّثون حول الآية، وفي صحاحهم ومسانيدهم.(1)

وفيه نص واضح على استخلاف أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعده.

النص الرابع: حديث المنزلة

هو حديث مسند متواتر عند الفريقين، وقد روي بألفاظ متقاربة لا تضرّ بالمعنى العام للحديث، وأن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال لعلي (عليه السلام): (أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ

ص: 119


1- انظر: مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج 10 ص 109 – 110، نقل هذه الحادثة عن: تاريخ الطبري: 2 / 62 - 63، الكامل في التاريخ: 2 / 40 - 41، مسند أحمد: 1 / 111، شرح نهج البلاغة: 13 / 210 - 211.

هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي)(1)

ورووا عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمَرَ معاوية بن أبي سفيان سعدًا فقال: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ قال: أمَا ما ذكرت ثلاثًا قالهن رسول الله (صلى الله عليه [وآله]) فلن أسبّه، لئن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله]) يقول لعلي وخلّفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله، تخلّفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه [وآله]): أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي...(2)

فثبوت جعل الرسول (صلى الله عليه وآله) منزلة هارون من موسى (عليهما السلام) لعلي (عليه السلام) أمرٌ مفروغ عنه، وهو واضح في استخلاف علي (عليه السلام) من بعده (صلى الله عليه وآله)، وأن لعلي (عليه السلام) ما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) عدا الرسالة (إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي).

هذا وقد ذكر القرآن الكريم منازل هارون من موسى في قوله تعالى (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي

ص: 120


1- انظر: مسند أحمد ج1 ص 179 و ج3 ص 32 و ج6 ص 369 و ج6 ص 438، وانظر: صحيح مسلم ج7 ص 120 وسنن ابن ماجة ج1 ص 45 وغيرها من المصادر الكثيرة.
2- سنن الترمذي ج5 ص 301 – 302 باب 87 ح 3808. وتمام الرواية:...وسمعته يقول يوم خيبر: لأُعطينّ الراية رجلًا يحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه. قال: فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي عليًا. قال: فأتاه وبه رمَدٌ فبصق في عينه فدفع الراية إليه ففتح الله عليه. وأُنزلت هذه الآية (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَىٰ الْكاذِبِينَ.) [آل عمران 61]، دعا رسول الله (صلى الله عليه [وآله]) عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا فقال: اللهم هؤلاء أهلي.

أَمْرِي.)(1)

وفي وقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَىٰ الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً.)(2)

(وَقالَ مُوسىٰ لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ.)(3)

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ.).(4)

فكل ما ثبت لهارون (عليه السلام) من منازل في هذه الآيات فقد ثبت لعلي (عليه السلام) بالنسبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خلا النبوة، بمقتضى حديث المنزلة.

النص الخامس

في رواياتنا الخاصة ورد عَنْ زَيْدِ بْنِ الْجَهْمِ الْهِلَالِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ:

لَمَّا نَزَلَتْ وَلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وكَانَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله): سَلِّمُوا عَلَى عَلِيٍّ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ مِمَّا أَكَّدَ الله عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَا زَيْدُ،

ص: 121


1- طه 29 – 32.
2- الفرقان 35.
3- الأعراف 142.
4- القصص 34 – 35.

قَوْلُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) لَهُمَا: قُومَا فَسَلِّمَا عَلَيْه بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالا: أمِنَ الله أَوْ مِنْ رَسُولِه يَا رَسُولَ الله(1)؟

فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): مِنَ الله ومِنْ رَسُولِه. فَأَنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ: (ولا تَنْقُضُوا الأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) يَعْنِي بِه قَوْلَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) لَهُمَا وقَوْلَهُمَا: أمِنَ الله أَوْ مِنْ رَسُولِه...(2)

فهذا النص واضحٌ جدًا في تنصيب الله تعالى لعلي (عليه السلام) أميرًا للمؤمنين.

ص: 122


1- هذا التعبير يكشف عن خلل في عقيدتهما، إذ إنهما جعلا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عرض قول الله تبارك وتعالى، وغاب عنهما أن القرآن الكريم يجعل من كل أقوال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الوحي الذي لا يُخطئ، وأنه يلزم اتباعه في كل أقواله ولا تجوز مخالفتها، وهذا التشكيك ما أسّس فيما بعد إلى القول بعدم عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) في ما عدا تلقي الوحي وتبليغه، وعلى ذلك شواهد كثيرة مسطورة في محلها.
2- الكافي للكليني ج1 ص 292 بَابُ الإِشَارَةِ والنَّصِّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) ح1.
الخطوة الثانية: النص على بقية أهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

نُذكّر بأن نظرية النص تعني: أن يكون التنصيب من الله تعالى بالمباشر، أو يبلّغ الإمامُ السابقُ المنصّبُ من الله تعالى إمامةَ الإمام اللاحق.

والنصوص الدالة على إمامة أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة، نذكر بعضًا منها:

النص الأول: حديث الأئمة الاثني عشر

وردت روايات عديدة ومتفق عليها على أن النبي (صلى الله عليه وآله) صرّح بأن الأئمة أو الخلفاء من بعده هم اثنا عشر، وكلهم من قريش، وهذا العدد لا ينطبق بهذا الحصر إلا على أهل البيت (عليهم السلام).

وقد عقد الشيخ الكليني (رحمه الله تعالى) باباً في تلك الروايات وذكر فيه عشرين حديثاً، منها ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): مِنْ وُلْدِيَ اثْنَا عَشَرَ نَقِيباً نُجَبَاءُ مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ، آخِرُهُمُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ، يَمْلأُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً.(1)

وأما روايات العامة، فهي أيضاً نقلت هذا المعنى:

ص: 123


1- الكافي للكليني ج1 ص 534 بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ (عليهم السلام) ح18.

فقد روى البخاريّ في صحيحه عن جابر بن سمرة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «يكون اثني عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي إنّه قال: كلّهم من قريش»(1).

وروى مسلم في صحيحه عن النبي (صلى الله عليه وآله) حديث الأئمّة الاثني عشر بثمانية طرق وبألفاظ مختلفة؛ غير أنّها متّفقة جميعاً في «اثني عشر» و «كلّهم من قريش»؛ منها: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً... كلّهم من قريش»(2).

«إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي له منهم اثنا عشر خليفة... كلّهم من قريش»(3).

«لايزال الإسلام عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة، كلّهم من قريش»(4).

«لا يزال هذا الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»(5).

وروى أبو داوود السجستانيّ في سننه عن جابر بن سمرة أنّه قال: «سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا يزال هذا الدين قائماً حتّى يكون عليكم اثنا

ص: 124


1- صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، حديث 1148؛ سنن الترمذيّ، ج 4، ح 2223؛ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 715، ح 6586.
2- صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب 1.
3- صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب 1.
4- المصدر السابق.
5- المصدر نفسه.

عشر خليفة كلّهم تجتمع عليه الأمّة، فسمعت كلاماً من النبي لم أفهمه؛ قلت لأبي: ما يقول؟ قال: كلهم من قريش»(1).

كما روى الترمذي في سننه، بسند عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «يكون من بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش»(2).

وروى أحمد بن حنبل أيضاً في سند عن جابر بن سمرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «يكون لهذه الأمّة اثنا عشر خليفة»(3).

وروي الحاكم النيسابوري في مستدركه على الصحيحين عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لا يزال أمر أمّتي صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفه، كلّهم من قريش»(4).

وروى السيوطيّ في تاريخ الخلفاء عن جابر بن سمرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لا يزال هذا الأمر عزيزاً يُنصرون على من ناوأهم عليه اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»(5).

كما روى الخطيب البغداديّ في كتابه تاريخ بغداد بسند عن طريق جابر بن سمرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من

ص: 125


1- سنن أبي داوود، كتاب المهديّ، ج، حديث 4279.
2- سنن الترمذيّ، ج 4، ح 2223.
3- مسند أحمدبن حنبل، ج 5، ص 90، والرواية عن جابر بن سمرة، في الحديث رقم 33.
4- المستدرك على الصحيحين، الحاكم، ج 3، ص 68.
5- تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطيّ، ص 10.

قريش»(1).

وروي المتقي الهندي في كتابه كنز العمّال عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لايزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش، فإذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها»(2).

وقد ذكر الشيخ الحرّ العامليّ في كتابه إثبات الهداة مائتين وثمانية وسبعين حديثاً يستعرض الأئمّة الاثني عشر منقولاً عن طرق أهل السنّة.

وبناء على هذا:

فإنّ وجود هذا الكمّ الهائل من طرق السند لهذا الحديث في المصادر الحديثيّة لأهل السنّة يؤكّد صحّة هذا الحديث، ويشيّد تواتراً، أو استفاضة له؛ بلا أدنى شكّ.

فعندما يُخبر الرسول (صلى الله عليه وآله) بالغيب عن إمامة اثني عشر أميراً بهذا النحو؛ فهذا يدلّ على إمامة أهل بيته :؛ لأنّ الأمراء الذين تعاقبوا على كرسيّ السلطة على طول التاريخ الإسلاميّ قد فاق عددهم الاثني عشر؛ فيصبح من الواضح حينها أنّ المقصود من الأمراء هاهنا خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحقّ.

وإنّ هذا الخبر يتحدّث عن الأمّة الإسلاميّة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى يوم القيامة؛ لذا وجب أن يكون عمر أحدهم أطول من المعتاد حتى يتحقّق

ص: 126


1- تاريخ بغداد، الخطيب البغداديّ، ج 14، ص 353.
2- كنز العمال، المتّقي الهنديّ، ج 12، ص 34.

مفاد الحديث وتستطيل مدّة الأمراء إلى يوم القيامة.))(1)

ولقد أطبقت كلمة الإمامية الاثني عشرية على أن المقصود من هؤلاء الاثني عشر أميرًا أو خليفةً هم الأئمة من أمير المؤمنين (عليه السلام) وأبنائه المعصومين (عليهم السلام)، وانطباق الأحاديث هذه عليهم (عليهم السلام) لا يحتاج إلى تكلف عناء، ولا تأويل، ولا مجازية، بل هو انطباق بتمام معنى الكلمة.

والجدير بالذكر أنّ بعض كبار علماء العامّة رووا رأي الشيعة في بيان مصاديق الأمراء الاثني عشر؛ ((فقد روى الإمام الجويني عن عبدالله بن عبّاس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا سيّد النبيّين وعليّ بن أبي طالب سيّد الوصيّين وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر؛ أوّلهم علي بن أبي طالب وآخرهم المهديّ»(2)

وروى أيضاً بسند آخر؛ أنّ الراوي قال: «أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين؛ مطهّرون ومعصومون»(3)...

وروى أيضاً عن ابن عبّاس أنّه قال: «سألتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين حضرته وفاته فقلت: يا رسول الله! إذا كان ما نعوذ بالله منه فإلى من؟ فأشار إلى عليّ (عليه السلام) فقال: إلى هذا؛ فإنّه مع الحقّ، والحقّ معه، ثمّ يكون من بعده أحد

ص: 127


1- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 206 – 209.
2- فرائد السمطين، الجوينيّ، ج 2 ب 61 ح 564. وفيه ذات السند لكنّه ورد بهذه الصيغة: «أنا سيد المرسلين، وعليّ ابن أبي طالب سيّد الوصيين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر؛ أوّلهم: عليّ بن ابي طالب، وآخرهم: القائم».
3- المصدر السابق، حديث 563.

عشر إماماً مفترضة طاعتهم كطاعته»(1).

وروى القندوزيّ الحنفيّ في ينابيع المودّة عن عباية بن ربعي عن جابر أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا سيّد النبيّين وعلي سيّد الوصيّين، وإنّ الأوصياء بعدي اثنا عشر؛ أوّلهم علي وآخرهم القائم المهدي»(2).

كما روى أيضاً في ينابيع المودّة عن بعض المحققين: «إنّ الأحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده (صلى الله عليه وآله) اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة... فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان، عُلِم أنّ مراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حديثه هذا؛ الأئمّة الاثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلّتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأمويّة لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم من غير بني هاشم، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «كلّهم من بني هاشم»(3).))(4)

هذا بالإضافة إلى تصريح رواياتنا الخاصة بهذه الحقيقة، فقد روي عن جابر بن يزيد الجعفي أنّه قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: «لما أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ على نبيّه محمد (صلى الله عليه وآله) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ

ص: 128


1- المصدر السابق.
2- ينابيع المودّة، القندوزيّ الحنفيّ، ج 3، الباب 77، وراجع أيضاً: الأبواب: 76، 94، 93، 98.
3- ينابيع المودّة، القندوزيّ الحنفيّ، ج 3، الباب 77، وراجع أيضاً: الأبواب: 76، 94، 93، 98.
4- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 216 - 218

الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾(1) قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (صلى الله عليه وآله): هم خلفائي يا جابر، وأئمّة المسلمين [من] بعدي؛ أوّلهم علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن والحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمّد بن علي المعروف في التوراة بالباقر، وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمد بن علي، ثمّ علي بن محمد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ سميّي وكنيّي حجّة الله في أرضه، وبقيّته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الارض ومغاربها... »(2).

وقد روي عن الصحابيّ زيد بن أرقم أنّه سمع النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول لعليّ (عليه السلام):

«أنت الإمام والخليفة بعدي، وابناك هذان إمامان، وسيّدا شباب أهل الجنّة، وتسعة من صلب الحسين أئمّة معصومون، ومنهم قائمنا أهل البيت...»(3).

ولقد واجه المنكرون لإمامة أهل البيت (عليهم السلام) مشكلة عويصة في تخريج هذا الحديث وتطبيقه على أئمتهم، فاختلفت كلماتهم في تعداد الاثني عشر، والبعض منهم استسلم واعترف بعدم تمكّنه من بيان هذا الحديث، ولو رجع إلى وجدانه لوجد أن تفسيره واضح جدًا بأهل البيت (عليهم السلام)، ولكن ران على قلوبهم.

ص: 129


1- سورة النساء: 59.
2- كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق،ج 1، ص 253 باب 23 ح 3.
3- كفاية الأثر، القمّي الرازي، ح 64، ص 177.

فلاحِظْ مثلًا ما ذكره ابن حجر(1) ما نصه: قال ابن بطال عن المهلّب: لم ألق أحدًا يقطع في هذا الحديث، يعني بشيء معين، فقوم قالوا: يكونون بتوالي إمارتهم، وقوم قالوا: يكونون في زمن واحد، كلهم يدعي الإمارة، قال: والذي يغلب على الظن أنه (عليه الصلاة والسلام) أخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن، حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميرًا. قال: ولو أراد غير هذا لقال: يكون اثنا عشر أميرًا يفعلون كذا، فلما أعراهم من الخبر عرفنا أنه أراد أنهم يكونون في زمن واحد. انتهى.

ثم قال ابن حجر: وهو كلامُ مَنْ لم يقف على شيء من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاري هكذا مختصرة...

وأغرب من هذا ما نقله ابن حجر أيضًا فقال: قال أبو الحسين بن المنادي في الجزء الذي جمعه في المهدي: يحتمل في معنى حديث يكون اثنا عشر خليفة أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فقد وجدت في كتاب دانيال: إذا مات المهدي ملك بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر، ثم يملك بعده ولدُه، فيتُمّ بذلك اثنا عشر ملكًا، كل واحد منهم إمام مهدي.(2)

فإن هذا الكلام لا دليل عليه، وهل ضاقت بنا السبل لنستمع إلى نقله

ص: 130


1- فتح الباري لابن حجر ج13 ص 182.
2- فتح الباري لابن حجر ج13 ص 184.

عن كتاب (دانيال)!

ومن الغريب أيضًا ما ذكره ابن كثير في بيان هؤلاء الاثني عشر، فقال بعد أن ذكر حديث الاثني عشر خليفة: « ومعنى هذا الحديث: البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحًا يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة، وبعض بني العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره، فذَكَر أنه يواطئ اسمه اسم النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) واسم أبيه اسم أبيه، فيملأ الأرض عدلًا وقسطًا كما ملئت جورًا وظلمًا، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية، بل هو من هوس العقول السخيفة وتوهم الخيالات الضعيفة، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر: الأئمة الاثنا عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشر[ية] من الروافض؛ لجهلهم وقلة عقلهم، وفي التوراة البشارة بإسماعيل (عليه السلام) وأن يقيم من صلبه اثني عشر عظيمًا وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة، وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر، فيتشيع كثير منهم جهلًا وسفهًا لقلة علمهم وعلم من لقّنهم ذلك

ص: 131

بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم»(1).

إن هذا الكلام غريب جدًا، ونبرة النصب والعداء لأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم واضحة فيه، وكأنه ظنّ أنْ لا أحد عنده اطلاع بالتاريخ وبروايات رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليردّ عليه أباطيل كلامه، إذ الوهن واضح في أكثر من جهة، منها:

1/ أن ظاهر حديث الأئمة الاثني عشر أنهم متوالون، وهذا ما فهمه حتى علماء العامة، وليس كما احتمله ابن كثير.2/على أنه مع ذلك لم يستطع تحديد هؤلاء الاثني عشر ولو كانوا متفرقين، بل اكتفى بذكر الأربعة وعمر بن عبد العزيز وبعض بني العباس والمهدي، وما ذاك إلا لخلو وفاضه من علم ومعرفة.

3/ لا أحد من الشيعة الاثني عشرية يقول بأن المهدي يظهر من السرداب، وعلى من يدّعي ذلك على الشيعة أن يأتي ولو بكلمة واحدة عن علمائهم تثبت ذلك، على أنه لا ندري ما الداعي الذي جعله يسترسل بالحديث عن مهدي الشيعة وأئمتهم الاثني عشر وذمّ شيعتهم؛ إلا البغض والعداء السافر، عليه ما عليه.

4/ أن حديث (اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي) حديث ضعيف بل موضوع فيه، أي إنه قد زيد فيه.

ص: 132


1- تفسير ابن كثير، ج 2، ص 34.

وقد نقد بعض كبار علمائهم هذه الزيادة كالشافعي حيث قال: (أخبرنا الحافظ أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم الآبري في كتاب مناقب الشافعي ذكر الحديث وقال فيه: (وزائدة في روايته) لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً).(1)

قلت [والكلام للشافعي]: وذكر الترمذي الحديث ولم يذكر قوله (واسم أبيه واسم أبي) وقال في مشكاة المصابيح: رواه الترمذي وأبو داود وليس فيه (واسم أبيه اسم أبي).(2)

وفي معظم روايات الحفاظ والثقات من نقلة الأخبار (اسمه اسمي) فقط، والذي روى (اسم أبيه اسم أبي) (فهو زائدة، وهو يزيد في الحديث) والقول الفصل في ذلك أن الإمام أحمد مع ضبطه وإتقانه دوّن هذا الحديث في مسنده في عدّة مواضع (واسمه اسمي). انتهى قول الشافعي...(3)

وغيرها من نقاط الضعف الواضحة للمتمعّن المنصف.(4)

ص: 133


1- البيان للشافعي: ص482.
2- مشكاة المصابيح: 3/ 24.
3- هذا الجواب عن الحديث من مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه).
4- لزيادة الإيضاح نذكر هنا ما جاء في هامش كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص181 تحقيق: الشيخ عباد الله الطهراني ، الشيخ علي أحمد ناصح، ما نصه: لهذا الخبر في مؤلفات العامة والخاصة وأخبارهم طرق متعددة، وقوله (اسم أبيه اسم أبي) من الزيادات في بعضها وليس في بعضها الأخرى، وقد تعرض له من علماء الفريقين جماعة، وقيل فيه وجوه: الأول: ما عن كشف الغمة: 2 / 477 قال: أما أصحابنا الشيعة فلا يصححون هذا الحديث لما ثبت عندهم من اسمه واسم أبيه. الثاني: ما عن كشف الغمة أيضا ج 2 / 477: وأما الجمهور فقد نقلوا أن زائدة كان يزيد في الأحاديث، فوجب المصير إلى أنه من زيادته، ليكون جمعا بين الأقوال والروايات. وقد نقل في كشف الغمة: 2 / 476 بياناً جيداً في تأويل الرواية من بيان الكنجي الشافعي باب 1. الثالث: ذكره في كشف الغمة أيضا: 2 / 441 - 445 نقلا من مطالب السئول: 2 / 85 – 88 بيانا مفصلاً خلاصته: احتمال أن يكون قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (واسم أبيه اسم ابني) أي الحسن (عليه السلام). فإن تعبيره (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه بابني، وعنه وعن أخيه الحسين (عليهما السلام) بابني في نهاية الكثرة في أخبار الفريقين، فتوهم فيه الراوي فصحف ابني (بأبي). الرابع: ما في البحار: 51 / 103 أقول: ذكر بعض المعاصرين فيه وجها آخر وهو: أن كنية الحسن العسكري (عليه السلام)، أبو محمد، و عبد الله أبو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كنيته أبو محمد، فتتوافق الكنيتان والكنية داخلة تحت الاسم، والأظهر كون (أبي) مصحف (ابني). الخامس: ما في كشف الغمة أيضا: 2 / 442 نقلا من ابن طلحة من أنه مهد مقدمتين: الأولى: أنه سايغ شايع في لسان العرب إطلاق لفظة الأب على الجد الاعلى كقوله تعالى في سورة الحج: 78 (ملة أبيكم إبراهيم) وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام في سورة يوسف: 38 (اتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق). وفي حديث الاسراء كما في تفسير القمي: 2 / 9 أن جبرئيل (عليه السلام) قال: هذا أبوك إبراهيم عليه السلام. والثانية: أن لفظة الاسم تطلق على الكنية وعلى الصفة كما روى البخاري في صحيحه: الجزء 5 / 23 ومسلم أيضا في صحيحه: 4 / 1874 ح 38 وعنهما البحار: 35 / 65. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سمى علياً (عليه السلام) أبا تراب ولم يكن اسم أحب إليه منه، فأطلق لفظ الاسم على الكنية. ثم قال: ولما كان الحجة الخلف الصالح محمد (عليه السلام) من ولد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، أطلق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الكنية لفظ الاسم إشارة إلى أنه من ولد الحسين (عليه السلام)، بطريق جامع موجز.

وعلى كل حال، فأحاديث الخلفاء الاثني عشر، واضحة في النص على الأئمة (عليهم السلام)، ولا ينكرها إلا مريض القلب أو معاند للحق.

النص الثاني: حديث اللوح

وهو من الأحاديث المعتبرة والدالة بكل وضوح على النص على

ص: 134

الأئمة (عليهم السلام)، ولا يحتاج الاستدلال به إلى أكثر من قراءته، وفيه العديد من الفوائد التي تظهر عند التمعّن فيه، ونصُّه هو التالي:

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَبِي لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيِّ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَمَتَى يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ أَخْلُوَ بِكَ فَأَسْأَلَكَ عَنْهَا. فَقَالَ لَه جَابِرٌ: أَيَّ الأَوْقَاتِ أَحْبَبْتَه. فَخَلَا بِه فِي بَعْضِ الأَيَّامِ فَقَالَ لَه: يَا جَابِرُ، أَخْبِرْنِي عَنِ اللَّوْحِ الَّذِي رَأَيْتَه فِي يَدِ أُمِّي فَاطِمَةَ (عليها السلام) بِنْتِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) ومَا أَخْبَرَتْكَ بِه أُمِّي أَنَّه فِي ذَلِكَ اللَّوْحِ مَكْتُوبٌ؟

فَقَالَ جَابِرٌ: أَشْهَدُ بِالله أَنِّي دَخَلْتُ عَلَى أُمِّكَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فِي حَيَاةِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) فَهَنَّيْتُهَا بِوِلَادَةِ الْحُسَيْنِ ورَأَيْتُ فِي يَدَيْهَا لَوْحاً أَخْضَرَ ظَنَنْتُ أَنَّه مِنْ زُمُرُّدٍ، ورَأَيْتُ فِيه كِتَاباً أَبْيَضَ شِبْه لَوْنِ الشَّمْسِ، فَقُلْتُ لَهَا: بِأَبِي وأُمِّي يَا بِنْتَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، مَا هَذَا اللَّوْحُ؟ فَقَالَتْ: هَذَا لَوْحٌ أَهْدَاه الله إِلَى رَسُولِه (صلى الله عليه وآله) فِيه اسْمُ أَبِي واسْمُ بَعْلِي، واسْمُ ابْنَيَّ، واسْمُ الأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِي، وأَعْطَانِيه أَبِي لِيُبَشِّرَنِي بِذَلِكَ.

قَالَ جَابِرٌ: فَأَعْطَتْنِيه أُمُّكَ فَاطِمَةُ (عليها السلام) فَقَرَأْتُه واسْتَنْسَخْتُه.

فَقَالَ لَه أَبِي: فَهَلْ لَكَ يَا جَابِرُ أَنْ تَعْرِضَه عَلَيَّ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَمَشَى مَعَه أَبِي إِلَى مَنْزِلِ جَابِرٍ فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مِنْ رَقٍّ، فَقَالَ: يَا جَابِرُ انْظُرْ فِي كِتَابِكَ لأَقْرَأَ أَنَا عَلَيْكَ، فَنَظَرَ جَابِرٌ فِي نُسْخَةٍ فَقَرَأَه أَبِي فَمَا خَالَفَ حَرْفٌ حَرْفاً. فَقَالَ جَابِرٌ: فَأَشْهَدُ بِالله أَنِّي هَكَذَا رَأَيْتُه فِي اللَّوْحِ مَكْتُوباً.

ص: 135

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

هَذَا كِتَابٌ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، لِمُحَمَّدٍ نَبِيِّه ونُورِه وسَفِيرِه وحِجَابِه ودَلِيلِه، نَزَلَ بِه الرُّوحُ الأَمِينُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

عَظِّمْ يَا مُحَمَّدُ أَسْمَائِي، واشْكُرْ نَعْمَائِي، ولَا تَجْحَدْ آلَائِي، إِنِّي أَنَا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنَا، قَاصِمُ الْجَبَّارِينَ ومُدِيلُ الْمَظْلُومِينَ ودَيَّانُ الدِّينِ، إِنِّي أَنَا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنَا، فَمَنْ رَجَا غَيْرَ فَضْلِي أَوْ خَافَ غَيْرَ عَدْلِي عَذَّبْتُه عَذَاباً لَا أُعَذِّبُه أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدْ، وعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ، إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ نَبِيّاً فَأُكْمِلَتْ أَيَّامُه وانْقَضَتْ مُدَّتُه إِلَّا جَعَلْتُ لَه وَصِيّاً، وإِنِّي فَضَّلْتُكَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ، وفَضَّلْتُ وَصِيَّكَ عَلَى الأَوْصِيَاءِ، وأَكْرَمْتُكَ بِشِبْلَيْكَ وسِبْطَيْكَ حَسَنٍ وحُسَيْنٍ، فَجَعَلْتُ حَسَناً مَعْدِنَ عِلْمِي بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ أَبِيه، وجَعَلْتُ حُسَيْناً خَازِنَ وَحْيِي، وأَكْرَمْتُه بِالشَّهَادَةِ، وخَتَمْتُ لَه بِالسَّعَادَةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مَنِ اسْتُشْهِدَ، وأَرْفَعُ الشُّهَدَاءِ دَرَجَةً، جَعَلْتُ كَلِمَتِيَ التَّامَّةَ مَعَه، وحُجَّتِيَ الْبَالِغَةَ عِنْدَه، بِعِتْرَتِه أُثِيبُ وأُعَاقِبُ.

أَوَّلُهُمْ عَلِيٌّ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ وزَيْنُ أَوْلِيَائِيَ الْمَاضِينَ.

وابْنُه شِبْه جَدِّه الْمَحْمُودِ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ، عِلْمِي والْمَعْدِنُ لِحِكْمَتِي.

سَيَهْلِكُ الْمُرْتَابُونَ فِي جَعْفَرٍ، الرَّادُّ عَلَيْه كَالرَّادِّ عَلَيَّ، حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأُكْرِمَنَّ مَثْوَى جَعْفَر، ولأَسُرَّنَّه فِي أَشْيَاعِه وأَنْصَارِه وأَوْلِيَائِه.

أُتِيحَتْ بَعْدَه مُوسَى فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ حِنْدِسٌ، لأَنَّ خَيْطَ فَرْضِي لَا يَنْقَطِعُ،

ص: 136

وحُجَّتِي لَا تَخْفَى، وأَنَّ أَوْلِيَائِي يُسْقَوْنَ بِالْكَأْسِ الأَوْفَى، مَنْ جَحَدَ وَاحِداً مِنْهُمْ فَقَدْ جَحَدَ نِعْمَتِي، ومَنْ غَيَّرَ آيَةً مِنْ كِتَابِي فَقَدِ افْتَرَى عَلَيَّ.

وَيْلٌ لِلْمُفْتَرِينَ الْجَاحِدِينَ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ مُوسَى عَبْدِي وحَبِيبِي وخِيَرَتِي فِي عَلِيٍّ، وَلِيِّي ونَاصِرِي، ومَنْ أَضَعُ عَلَيْه أَعْبَاءَ النُّبُوَّةِ، وأَمْتَحِنُه بِالاضْطِلَاعِ بِهَا، يَقْتُلُه عِفْرِيتٌ مُسْتَكْبِرٌ، يُدْفَنُ فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي بَنَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ إِلَى جَنْبِ شَرِّ خَلْقِي.

حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَسُرَّنَّه بِمُحَمَّدٍ ابْنِه وخَلِيفَتِه مِنْ بَعْدِه، ووَارِثِ عِلْمِه، فَهُوَ مَعْدِنُ عِلْمِي ومَوْضِعُ سِرِّي وحُجَّتِي عَلَى خَلْقِي، لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ بِه إِلَّا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَثْوَاه، وشَفَّعْتُه فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِه، كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ.

وأَخْتِمُ بِالسَّعَادَةِ لِابْنِه عَلِيٍّ وَلِيِّي ونَاصِرِي والشَّاهِدِ فِي خَلْقِي وأَمِينِي عَلَى وَحْيِي.

أُخْرِجُ مِنْه الدَّاعِيَ إِلَى سَبِيلِي والْخَازِنَ لِعِلْمِيَ الْحَسَنَ.

وأُكْمِلُ ذَلِكَ بِابْنِه محمد رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، عَلَيْه كَمَالُ مُوسَى وبَهَاءُ عِيسَى وصَبْرُ أَيُّوبَ، فَيُذَلُّ أَوْلِيَائِي فِي زَمَانِه، وتُتَهَادَى رُؤُوسُهُمْ كَمَا تُتَهَادَى رُؤُوسُ التُّرْكِ والدَّيْلَمِ، فَيُقْتَلُونَ ويُحْرَقُونَ ويَكُونُونَ خَائِفِينَ مَرْعُوبِينَ وَجِلِينَ، تُصْبَغُ الأَرْضُ بِدِمَائِهِمْ، ويَفْشُو الْوَيْلُ والرَّنَّةُ فِي نِسَائِهِمْ، أُولَئِكَ أَوْلِيَائِي حَقّاً، بِهِمْ أَدْفَعُ كُلَّ فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ حِنْدِسٍ، وبِهِمْ أَكْشِفُ الزَّلَازِلَ، وأَدْفَعُ الآصَارَ والأَغْلَالَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.

ص: 137

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَالِمٍ: قَالَ أَبُو بَصِيرٍ: لَوْ لَمْ تَسْمَعْ فِي دَهْرِكَ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ لَكَفَاكَ، فَصُنْه إِلَّا عَنْ أَهْلِه.(1)

النص الثالث

عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: شَهِدْتُ وَصِيَّةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) حِينَ أَوْصَى إِلَى ابْنِه الْحَسَنِ (عليه السلام) وأَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِه الْحُسَيْنَ (عليه السلام) ومُحَمَّداً وجَمِيعَ وُلْدِه ورُؤَسَاءَ شِيعَتِه وأَهْلَ بَيْتِه، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْه الْكِتَابَ والسِّلَاحَ وقَالَ لِابْنِه الْحَسَنِ (عليه السلام): يَا بُنَيَّ، أَمَرَنِي رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) أَنْ أُوصِيَ إِلَيْكَ وأَنْ أَدْفَعَ إِلَيْكَ كُتُبِي وسِلَاحِي كَمَا أَوْصَى إِلَيَّ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) ودَفَعَ إِلَيَّ كُتُبَه وسِلَاحَه، وأَمَرَنِي أَنْ آمُرَكَ إِذَا حَضَرَكَ الْمَوْتُ أَنْ تَدْفَعَهَا إِلَى أَخِيكَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ابْنِه الْحُسَيْنِ (عليه السلام) فَقَالَ: وأَمَرَكَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) أَنْ تَدْفَعَهَا إِلَى ابْنِكَ هَذَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام): وأَمَرَكَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) أَنْ تَدْفَعَهَا إِلَى ابْنِكَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وأَقْرِأْه مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) ومِنِّي السَّلَامَ.(2)

النص الرابع

عَنْ أَبِي الْجَارُودِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: فَرَضَ الله عَزَّ وجَلَّ عَلَى الْعِبَادِ خَمْساً أَخَذُوا أَرْبَعاً وتَرَكُوا وَاحِداً.

قُلْتُ أتُسَمِّيهِنَّ لِي جُعِلْتُ فِدَاكَ؟

فَقَالَ (عليه السلام): الصَّلَاةُ، وكَانَ النَّاسُ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يُصَلُّونَ، فَنَزَلَ

ص: 138


1- الكافي للكليني ج1 ص 527 – 528 بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ (عليهم السلام)/ ح3.
2- الكافي للكليني ج1 ص 297 – 298 بَابُ الإِشَارَةِ والنَّصِّ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام) ح1.

جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْهُمْ بِمَوَاقِيتِ صَلَاتِهِمْ.

ثُمَّ نَزَلَتِ الزَّكَاةُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْهُمْ مِنْ زَكَاتِهِمْ مَا أَخْبَرْتَهُمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ.

ثُمَّ نَزَلَ الصَّوْمُ، فَكَانَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) إِذَا كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ بَعَثَ إِلَى مَا حَوْلَه مِنَ الْقُرَى فَصَامُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَنَزَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ بَيْنَ شَعْبَانَ وشَوَّالٍ.

ثُمَّ نَزَلَ الْحَجُّ فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) فَقَالَ: أَخْبِرْهُمْ مِنْ حَجِّهِمْ مَا أَخْبَرْتَهُمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ وزَكَاتِهِمْ وصَوْمِهِمْ.

ثُمَّ نَزَلَتِ الْوَلَايَةُ، وإِنَّمَا أَتَاه ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَةَ، أَنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) وكَانَ كَمَالُ الدِّينِ بِوَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله): أُمَّتِي حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، ومَتَى أَخْبَرْتُهُمْ بِهَذَا فِي ابْنِ عَمِّي يَقُولُ قَائِلٌ ويَقُولُ قَائِلٌ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْطِقَ بِه لِسَانِي، فَأَتَتْنِي عَزِيمَةٌ مِنَ الله عَزَّ وجَلَّ بَتْلَةً [أي مقطوعة]، أَوْعَدَنِي إِنْ لَمْ أُبَلِّغْ أَنْ يُعَذِّبَنِي فَنَزَلَتْ: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَه والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)، فَأَخَذَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) بِيَدِ عَلِيٍّ (عليه السلام) فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّه لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلِي إِلَّا وقَدْ عَمَّرَه الله، ثُمَّ دَعَاه فَأَجَابَه، فَأَوْشَكَ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وأَنَا مَسْؤُولٌ وأَنْتُمْ مَسْؤُولُونَ، فَمَا ذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟

فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ ونَصَحْتَ وأَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ، فَجَزَاكَ الله

ص: 139

أَفْضَلَ جَزَاءِ الْمُرْسَلِينَ.

فَقَالَ(صلى الله عليه وآله): اللَّهُمَّ اشْهَدْ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا وَلِيُّكُمْ مِنْ بَعْدِي فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِب.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): كَانَ والله عَلِيٌّ (عليه السلام) أَمِينَ الله عَلَى خَلْقِه وغَيْبِه ودِينِه الَّذِي ارْتَضَاه لِنَفْسِه.

ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) حَضَرَه الَّذِي حَضَرَ، فَدَعَا عَلِيّاً فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَئْتَمِنَكَ عَلَى مَا ائْتَمَنَنِيَ الله عَلَيْه مِنْ غَيْبِه وعِلْمِه ومِنْ خَلْقِه ومِنْ دِينِه الَّذِي ارْتَضَاه لِنَفْسِه، فَلَمْ يُشْرِكْ والله فِيهَا يَا زِيَادُ أَحَداً مِنَ الْخَلْقِ.

ثُمَّ إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) حَضَرَه الَّذِي حَضَرَه، فَدَعَا وُلْدَه وكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ ذَكَراً، فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِيَّ إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ قَدْ أَبَى إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ فِيَّ سُنَّةً مِنْ يَعْقُوبَ، وإِنَّ يَعْقُوبَ دَعَا وُلْدَه وكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ ذَكَراً، فَأَخْبَرَهُمْ بِصَاحِبِهِمْ، أَلَا وإِنِّي أُخْبِرُكُمْ بِصَاحِبِكُمْ، أَلَا إِنَّ هَذَيْنِ ابْنَا رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) - الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (عليهما السلام)، فَاسْمَعُوا لَهُمَا وأَطِيعُوا ووَازِرُوهُمَا، فَإِنِّي قَدِ ائْتَمَنْتُهُمَا عَلَى مَا ائْتَمَنَنِي عَلَيْه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) مِمَّا ائْتَمَنَه الله عَلَيْه مِنْ خَلْقِه ومِنْ غَيْبِه ومِنْ دِينِه الَّذِي ارْتَضَاه لِنَفْسِه. فَأَوْجَبَ الله لَهُمَا مِنْ عَلِيٍّ (عليه السلام) مَا أَوْجَبَ لِعَلِيٍّ (عليه السلام) مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، فَلَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ مِنْهُمَا فَضْلٌ عَلَى صَاحِبِه إِلَّا بِكِبَرِه، وإِنَّ الْحُسَيْنَ كَانَ إِذَا حَضَرَ الْحَسَنُ لَمْ يَنْطِقْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حَتَّى يَقُومَ.

ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَ (عليه السلام) حَضَرَه الَّذِي حَضَرَه، فَسَلَّمَ ذَلِكَ إِلَى الْحُسَيْنِ (عليه السلام).

ص: 140

ثُمَّ إِنَّ حُسَيْناً (عليه السلام) حَضَرَه الَّذِي حَضَرَه فَدَعَا ابْنَتَه الْكُبْرَى فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ (عليها السلام) فَدَفَعَ إِلَيْهَا كِتَاباً مَلْفُوفاً ووَصِيَّةً ظَاهِرَةً وكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) مَبْطُوناً لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّه لِمَا بِه فَدَفَعَتْ فَاطِمَةُ الْكِتَابَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، ثُمَّ صَارَ والله ذَلِكَ الْكِتَابُ إِلَيْنَا.(1)

ونكتفي بهذا القدر من النصوص الواضحة.(2)

إشارات
الإشارة الأولى: شكلان لمقولة النص
اشارة

إن مقولة الشيعة بالنص في الإمامة باتت ثابتاً من ثوابتهم، تماماً كما أن النبوة لا تثبت إلا بالنص، في قبال المخالفين الذين قبلوا شرعية الإمامة بمنطق الأمر الواقع، وهو قد يكون شورى أو تعيين أو غلبة بالسيف، فما وقع – أي إذا وصل شخص – أي شخص – إلى كرسي الحكم - فهو شرعي!

على أن مقولة الشيعة بالنص جاءت بشكلين:

1/ وجود النص

وهذا الشكل سدّ الطريق عملياً أمام اللجوء إلى البدائل، كالانتخاب وغيره من الوسائل التي أنتجها الفكر البشري لاختيار الحاكم، فما دام النص

ص: 141


1- الكافي للكليني ج1 ص 290 - 291 بَابُ مَا نَصَّ الله عَزَّ وجَلَّ ورَسُولُه عَلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وَاحِداً فَوَاحِداً – ح6.
2- ومن أحب الاستزادة فليرجع إلى كتاب الكافي للكليني ج1 حيث ذكر أبوابًا متعددة في النص على كل واحد من أئمتنا (صلوات الله عليهم أجمعين).

موجوداً فالأولوية له على جميع البدائل. ولا يستطيع أحد أن يختار البديل مع اعترافه بوجود النص، ولذا حاول المخالف التلاعب بالنص أو بدلالته أو إنكاره أصلاً، أما من اعترف بوجوده فلا يمكنه الانتقال إلى البدائل.

2/ ضرورة النص

على حدّ الضرورة التي تقال في المعجزة للنبي، وذلك لأن المعجزة إنما كانت للنبي لإثبات البعد الخارق في شخصيته(1)،

وهذا البعد لا يمكن معرفته بالوسائل الطبيعية، وتأكيد الشيعة على ضرورة النص يشير إلى اعترافهم بوجود بُعْدٍ خارق وخارج عن المألوف في شخصية الإمام بحيث لا يمكن معرفتها بالوسائل المتاحة. فيأتي النص ليوضّح ذلك البعد وغيره في شخصية الإمام.وهذا ما يبين إصرار الشيعة على ضرورة النص على الإمام...

الإشارة الثانية: النص أحد الأدلة لا الدليل الحصري

لا تعني مقولة النص – التي تبناها الفكر الإمامي بقوة– أن قضية الإمامة تعبّدية محضة مجهولة المعيار، بل لها معيارها الخاص الذي يمكن للعقل أن يكتنه حقيقته.

وبعبارة أكثر تفصيلاً:

ليس النص هو الدليل المنحصر لإثبات إمامة الأئمة (عليهم السلام)، وإنما هو

ص: 142


1- بالإضافة إلى إثبات ارتباطه بالسماء وصدق دعواه.

واحد من تلك الطرق الكثيرة، نعم هو أعمُّها، تماماً كما اشترطنا في النبي المعجزة كدليل يُثبت ادّعاءه، ولكن هذا لا يعني انحصار الدليل على ذلك بها، وإنما توجد طرق أخرى تدل على ذلك، فمثلاً صفات المدّعي الخُلُقية التي عُرف بها زمناً طويلاً يمكن أن تدل على صدق مدعاه، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حيث كان معروفاً بالصادق الأمين لأربعين سنة قبل أن يُظهر دعوته، وهذا يمكن أن يدل على صدق مدعاه.

وهكذا الحال في النص، فليس هو الطريق المنحصر للدلالة على إمامة علي (عليه السلام) وأولاده (عليهم السلام)، فحتى لو فرضنا عدم وجود نصٍّ أصلاً يدل على ذلك، فيمكن للعقل أن يحكم بلزوم إمامته لما يراه من أوصاف اعترف بها القاصي والداني له (عليه السلام) تؤهله لمنصب الإمامة دون غيره، فهو(عليه السلام) أشجع القوم وأعدلهم وأحكمهم وأزهدهم وأصدقهم... وهو تربى في حجر النبي (صلى الله عليه وآله)، وعاشره إلى أن توفاه الله تعالى، وهو الذي قال عنه عمر (لولا علي لهلك عمر)(1)،

وقال عنه عثمان (لولا علي لهلك عثمان)(2)

وقال عنه عمر (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج12 ص 179 وغيره من المصادر.
2- الغدير للشيخ الأميني ج8 ص 214 قال: أخرج الحافظ العاصمي في كتابه (زين الفتى في شرح سورة هل أتى) من طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن محمشاد يرفعه: أن رجلا أتى عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميت فقال: إنكم تزعمون النار يعرض على هذا و إنه يعذب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحس منها حرارة النار. فسكت عنه عثمان وأرسل إلى علي بن أبي طالب المرتضى يستحضره، فلما أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل: أعد المسألة. فأعادها، ثم قال عثمان بن عفان: أجب الرجل عنها يا أبا الحسن! فقال علي: ايتوني بزند وحجر. والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأتي بهما فأخذهما وقدح منهما النار، ثم قال للرجل: ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه ثم قال: ضع يدك على الزند. فوضعها عليه فقال: هل أحسست منهما حرارة النار فبهت الرجل فقال عثمان: لولا علي لهلك عثمان.

أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن.(1)يقول ابن أبي الحديد في مقدمة شرحه على نهج البلاغة ج1 ص 3: (وقدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف)! ولكنه في ج1 ص 113 يقول: (ولما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح، علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة في ذلك الوقت وفيما بعده.)

ثم في شرحه لخطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) ج2 ص 295 – 297 التي أولها: (فقمت بالأمر حين فشلوا، وتطلعت حين تقبعوا، ونطقت حين تعتعوا...) يقول في نهاية كلامه عنها:

الفصل الرابع: وهو من قوله : فنظرت في أمري إلى آخر الكلام، هذه كلمات مقطوعة من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنه كان معهودا إليه ألا ينازع في الامر ولا يثير فتنة، بل يطلبه بالرفق، فإن حصل له وإلا أمسك. هكذا كان يقول ( عليه السلام )، وقوله الحق، وتأويل هذه الكلمات : فنظرت فإذا طاعتي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، أي وجوب طاعتي، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. قد سبقت بيعتي للقوم، أي وجوب طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على، ووجوب امتثالي أمره سابق على بيعتي للقوم، فلا سبيل لي إلى الامتناع من البيعة لأنه (صلى الله عليه وآله) أمرني بها. وإذا الميثاق في عنقي لغيري، أي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذ على الميثاق بترك الشقاق والمنازعة، فلم يحل لي أن أتعدى أمره، أو أخالف نهيه.

فإن قيل : فهذا تصريح بمذهب الإمامية.

قيل : ليس الامر كذلك، بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا من البغداديين، لأنهم يزعمون أنه الأفضل والأحق بالإمامة، وأنه لولا ما يعلمه الله ورسوله من أن الأصلح للمكلفين من تقديم المفضول عليه، لكان من تقدم عليه هالكا، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره أن الإمامة حقه، وأنه أولى بها من الناس أجمعين، وأعلمه أن في تقديم غيره وصبره على التأخر عنها مصلحة للدين راجعة إلى المكلفين، وأنه يجب عليه أن يمسك عن طلبها، ويغضي عنها لمن هو دون مرتبته، فامتثل ما أمره به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يخرجه تقدم من تقدم عليه من كونه الأفضل والأولى والأحق. وقد صرح شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى بهذا وصرح به تلامذته، وقالوا : لو نازع عقيب وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدم عليه كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه، ولكنه مالك الامر، وصاحب الخلافة، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال : ( على مع الحق، والحق مع علي، يدور حيثما دار، ) وقال له غير مرة : ( حربك حربي وسلمك سلمى ).

وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي، وبه أقول. انتهى.

أقول: أنت ترى أن حديثه متناقض، فبينا يقول بقبح تقديم المفضول على الفاضل في قضية النبي آدم (عليه السلام) والملائكة، ويعترف بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الأفضل، لكنه يُقدم غيره عليه معترفًا بأنه أُمر من النبي (صلى الله عليه وآله) أن لا يُنازع من يأخذها منه رغم أنه (صلى الله عليه وآله) صرّح بأنه هو الخليفة، ولعمري أن الاقتناع بهذه التناقضات من شيم الحمقى...


1- ... وعشرات في هذا الشأن، والعقل إذا رأى هكذا مواصفات في شخص، حَكم بلزوم تقديمه على غيره، بل هذا هو المنحى العام للإنسانية، فالإنسان دائماً يبحث عن الأفضل ليقدمه على غيره، وما ظاهرة الانتخابات إلا مظهر من مظاهر البحث عن الأفضل! والمخالف وإن اعترف بهذه الصفات في الإمام علي (عليه السلام)، ولكنه أنكر ضرورة تقديمه حتى لو كان هو الأفضل، وجوّز تقديم المفضول على الفاضل

الشرعي، وهذا يعني أن الخلاف ليس في الصغرى وأن عليًا هو الأفضل، بل على الكبرى (وهي لزوم تقديم الفاضل على المفضول)! وعدم اعتراف المخالف بها مخالفة صريحة ليس لحكم العقل فقط، وإنما للطبيعة الإنسانية عموماً!

وعلى كل حال، فالدليل على الإمامة هو النص، لأن هذا الذي ذكرناه هو تبع الظاهر، فيبقى النص هو الدليل الأعم، نعم، على مباني السنة، حيث لا يقولون بالنص، فهذا المطلب ينفع كثيراً في إثبات إمامتهم (عليهم السلام).

ص: 145

الإشارة الثالثة: بُعدان في النص على الإمام
اشارة

إن النص على الإمام يحمل بعدين:

البعد الأول: التعيين والنصب المباشر من الله تعالى

وهذا البعد يعبر عن أن قضية النصب لم تفوض إلى النبي(صلى الله عليه وآله) فضلاً عن الأمة أو سياسة الأمر الواقع، وهذا هو ظاهر النصوص، قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)(1)

في قبال الرأي الآخر الذي افترض أن الشرعية للإمام تمنحها الأمة أو سياسة الأمر الواقع، أما الفكر الإمامي فقد اختزل دور الأمة في التجاوب وقبول الأمر الإلهي، وتمكين الإمام من أن يمارس دوره في إدارة وتدبير الأمة، وأما الشرعية فتُكتسب من جعل المولى تبارك وتعالى فقط.

البعد الثاني: الكشف عن ذوات الأئمة الطاهرة

التي تلبّست باختيارها بمؤهلات الإمامة والولاية، ومن تلك المؤهلات وعلى رأسها: العلم الخاص، ومن هنا تقدم في الإشارة السابقة أنه وعلى فرض عدم النص على إمامة الإمام علي (عليه السلام) فيمكن للعقل أن يحكم بلزوم إمامته (عليه السلام) لما امتلكه من كمالات انعدمت عند غيره، تلك الكمالات التي توفّرها لنا النصوص، فهذه النصوص توفر لنا الصغرى (أي تحديد الأفضل بشخص الإمام علي (عليه السلام)، ليحكم العقل بالكبرى (لزوم تقديم الأفضل)،

ص: 146


1- (36) من سورة الأحزاب.

والمخالف تنكّر للكبرى واعترف بالصغرى كما تقدم قبل قليل.

ومن هنا يمكن أن نفهم حديث أبي ذر (رضوان الله عليه) عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): من استعمل غلامًا في عصابة فيها من هو أرضى لله منه، فقد خان الله.(1)

حيث ذكر صاحب البحار هذا الحديث في باب أن الإمامة لا تكون إلا بالنص(2)، وأنت ترى أنه لا نص في هذا الحديث على إمامة الأئمة (عليهم السلام)، وهذا يعني أن ذكره في هذا الباب إشارة إلى ما ذكرناه من أن النص ليس مجهول الملاك، وإنما الملاك فيه هو توفّر الأئمة على كمالات كانوا بها أرضى لله تعالى من غيرهم، أهّلتهم لمنصب الإمامة والولاية، ولذلك كان تنصيب المفضول مع وجود الفاضل خيانة لله تعالى.

ومنه نفهم أيضاً حديث وفد اليمن الذي تقدم ذكره في آخر المقدمة السابعة من مقدمات الإمامة العامة.

على ضوء ذلك تبين أنه يمكن للعقل أو الروح اكتشاف تلك الذوات، ولو من دون نص خاص، وهو ما عبّر عنه النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله لأهل اليمن: عرفتم وصي رسول الله قبل أن تُعرَّفوه.

الإشارة الرابعة: قيمة النص والتعيين مع إمكان اكتشاف المعصوم بحكم العقل

ص: 147


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج1 ص 221.
2- بحار الأنوار - ج 23 - ص 75.

لو فرضنا إمكان اكتشاف تلك الذوات المقدسة من خلال طرق أخرى غير النص والتعيين –كما تقدم في الإشارة الثانية- ولكن هذا لا يُلغي أهمية التعيين وقيمة النص، بل تبقى قيمته المعرفية والمنهجية ثابتة، ويتبين ذلك من خلال التالي:

1 / أن التعيين جعلٌ إلهي من مقام المولوية، فيضفي قوة إلى قوة الواقع الذي يكتشفه العقل، وسلطنة في التعيين.

وبعبارة أبين: أن مثل تشريع الصلاة هو تابع للمصالح والمفاسد في المتعلقات، فلو أخبر الشارع عن المصلحة الملزمة في الصلاة، بأن قال: إن في الصلاة مصلحة يلزم الإتيان بها، لَحَكَمَ العقل بلزوم الإتيان بها، من باب لزوم الامتثال للخالق والمنعم.

ولو أمر الشارع بالإتيان بها، بأنْ أنشأ الوجوب وقال: يجب عليكم أن تؤدّوا الصلاة، لَحَكَمَ العقل بذلك أيضاً.

ولكنّ هناك فرقًا بين الحالتين، وهو: لو أمر المولى بالواجب، فإنه في الوقت الذي يكشف عن المصلحة الملزمة في المتعلق (الصلاة في مثالنا) بالدلالة الالتزامية، هو يُلزم المكلف بالإتيان به، لأن الأمر قد صدر من مقام المولوية، وفي هذه الحالة، فإنه حتى لو لم يكتشف العقل الملاك والمصلحة الملزِمة، فإنه يحكم بلزوم الإتيان بها؛ لأن الأمر صدر من مقام المولوية.

ص: 148

وهكذا الأمر في المقام، فإن الأمر الإلهي بالتنصيب يُضفي إلى الواقع قوة جديدة، هي قوة لزوم التنفيذ امتثالاً للأمر المولوي، فحتى لو اكتشف العقل ذوات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فإنه تبقى للنص قيمته وأهميته، فضلًا عما إذا لم يكتشف العقل ذلك.

2 / أن النص وسيلة عامة للكشف عن متعلّقه، حتى لمن لا يُحسن الاستخدام العقلي، خصوصاً إذا كان النص قطعياً، أما العقل فاكتشاف أحكامه والإقرار بها ليس متاحاً للجميع.

فالنص على الإمام إذن وسيلة يمكن لكل الناس وبكافة مستوياتهم الاستفادة منها والوصول من خلاله إلى معرفة الإمام بعينه، أما حكم العقل، فإنه يعتمد على العديد من المقدمات التي ربما لا تتوفر للجميع، وإنما للبعض دون الآخر.

3 / إن النص يكشف عن مقامات للإمام لا يصل إليها العقل، كالكمالات الخاصة مثل العلم الخاص ومقام الشهادة على الأعمال والولاية التكوينية والتشريعية.

وبتوضيح أكثر:

في التشريعات الوضعية نجد أنه يمكن أن يصدر أمر واحد من عدة جهات، تشترك أوامرهم بكونها رسمية، ولكنها تختلف في أن ما يصدر من الجهة الأرفع ألزم وأكثر دافعية مما يصدر من الجهة الأدنى، وهذا يعني أن

ص: 149

جهة الصدور فيها دلالة على أهمية المضمون.

وهكذا الأمر في التبليغات الدينية، فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لمّا أمرته السماء بتبليغ ولاية علي (عليه السلام) فقد اكتشفنا أهمية الأمر، خصوصاً وأن الخطاب كان بلهجة قوية وشديدة، يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(1)

وهكذا قوله تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)(2)

الذي نزل بعد أن بايع المسلمون علياً بالولاية، دلّ ذلك على أن الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى للناس هو الإسلام الذي فيه الولاية، ومن دونها لا قبول، ومنه تعرف أهمية معرفة الإمام في الحديث المشهور المتواتر لدى الجميع (من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية)، وهذا ما يلتقي مع الحصر في قوله تعالى (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(3)

عن عمرو بن الأشعث، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول - ونحن عنده في البيت نحو من عشرين رجلا - فأقبل علينا وقال: لعلكم ترون أن هذا الأمر في الإمامة إلى الرجل منا يضعه حيث يشاء؟! والله، إنه لعهد من الله نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى رجال مُسمَّين، رجلٍ فرجلٍ حتى

ص: 150


1- (67) من سورة المائدة.
2- (3) من سورة المائدة.
3- (55) من سورة المائدة.

تنتهي إلى صاحبها.(1)

فالأمر بالولاية وإن أمكن أن يكون بالنص من الإمام السابق للإمام اللاحق، ولكن الأمر أعظم من ذلك، إنه عهد من الله تعالى بالأسماء والصفات لأشخاص معروفين ومميزين عنده جل شأنه.

ومما يُشير إلى تلك الأهمية أيضًا ما روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(عليه السلام): قَالَ: بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصَّوْمِ والْحَجِّ والْوَلَايَةِ، ولَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ.(2)

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»(3).

وعن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «من مات لا يعرف إمامه، مات ميتة جاهلية كفر ونفاق وضلال»(4).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث مشهور لدى الفريقين أنه قال لعلي (عليه السلام): أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي.(5)

فهذه النصوص وغيرها تعطي المركزية والمحورية للولاية من بين جميع

ص: 151


1- الغيبة للنعماني ص 59 باب 3 ما جاء في الإمامة والوصية، وأنهما من الله عز وجل وباختياره، وأمانة يؤديها الإمام إلى الإمام بعده/ ح1.
2- الكافي للكليني ج2 ص18 بَابُ دَعَائِمِ الإِسْلَامِ/ ح1.
3- كمال الدين للصدوق: 413 و414/ باب 39/ ح 15.
4- الإمامة والتبصرة لابن بابويه: 82/ ح 69.
5- الكافي للكليني ج8 ص 107 ح80.

العقائد فضلاً عن الفروع الإسلامية.

هذه الأهمية لا يمكن اكتشافها من خلال حكم العقل فقط، وإنما للنص دوره الواضح في بيان تلك الأهمية التي عرفنا شيئًا منها.

الإشارة الخامسة: الملازمة بين التولي والتبري

ثبت أن أمير المؤمنين وأولاده المعصومين (عليهم السلام) هم أولياء المؤمنين، الأمر الذي يلزم منه عليهم أن يوالوهم بالمعنى الذي تبين، ولكن هل من الضروري معاداة عدوهم أو يكفي أن نواليهم ولو والينا عدوهم ولم نعاده؟

هل التولي يلازم التبري، بحيث يكون الأول من دون الثاني كذباً، أو قل: إنه يتقوم بالثاني، وأن النصاب المطلوب يتقوّم بالتبري، أو أن هذين المفهومين منفصلان قانوناً، ولكل منهما طاعته الخاصة ومعصيته الخاصة؟

الصحيح هو الأول كما سيتبين إن شاء الله تعالى.

علمًا أن هناك توجُّهًا لتخفيف ثقافة التبري والاقتصار على التولي، بحجة أن هذا يجمع الكلمة، حيث إن حب أهل البيت (عليهم السلام) والذي هو نوع من أنواع التولي مما أجمع عليه المسلمون، أما التبري فإنه يتصل بثقافة الاقصاء واحتكار الحقيقة لجانب معين، وهي جميعاً تخلق تمانعات وتحزبات وتمذهبات، في الوقت الذي نحن بأمس الحاجة إلى الوقوف على القواسم المشتركة...

من هنا يُسأل عن تفسير ضرورة التبري مع التولي وعدم كفاية التولي

ص: 152

فقط؟

الجواب:

أولًا: أن بين حب أهل البيت (عليهم السلام) وحب أعدائهم تضادًّا، والمتضادان لا يمكن أن يجتمعا أبداً...

وبتفصيل أكثر:

قالوا في علم المنطق: إن التضاد يختلف عن التخالف في أنه يعني التعاكس والتمانع والتقابل، وبالتالي فالضدّان لا يمكن أن يجتمعا، ولا توجد مساحة مشتركة بينهما، وأما التخالف فيقبله...

وهذا الأمر يجري حتى في العقائد، فمثلاً: الإيمان بنبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فإنه لا يتمانع مع الإيمان بنبوة عيسى أو موسى أو بقية الأنبياء (عليهم السلام)، لعدم التضاد بين الإيمان بأحدهم مع الإيمان بالآخر، بل الإيمان بهم مأخوذ على نحو الطولية، والإيمان بالإسلام يستبطن الإيمان ببقية الأنبياء، ومن هنا نجد الإسلام حكم بكفر منكر الأنبياء السابقين، ومن ثم كانت الديانات السابقة تبشر بالإسلام وتدعو إلى اتّباعه...

وهناك ما يشير إلى عدم التضاد بين النبوات عموماً، ووجود مساحة مشتركة بينها، كما بُيّن في محله من علم الأصول والكلام.

وهذا بعكس التوحيد والشرك، فإنهما متضادان، إذ التوحيد يعني نفي الشريك، فلا يمكن لأحد أن يكون موحداً وهو لا ينفي الشريك عنه تعالى.

ص: 153

وحب أهل البيت (عليهم السلام) مع حب عدوهم هو من التضادّ، لعدم وجود قاسم مشترك بين حبهم وبغضهم، فلا يجتمع حبهم مع حب عدوهم.ثانيًا: أن النصوص تؤكد على أن هناك تضادًّا بين الحب والبغض، وهذا ما لا بد أن ينعكس على مسألة الدين، فإذا تولّيت أحدًا لله تعالى، فلا بد من معاداة عدوه، إذ الفرض أن عدوه خارجٌ عن دائرة الحب الإلهي.

عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسك بها وأراد الله هداه... وحب أولياء الله والولاية لهم واجبة، والبراءة من أعدائهم واجبة، ومن الذين ظلموا آل محمد عليهم السلام وهتكوا حجابه، فأخذوا من فاطمة (عليها السلام) فدكًا، ومنعوها ميراثها وغصبوها وزوجها حقوقهما، وهموا بإحراق بيتها، وأسّسوا الظلم وغيّروا سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والبراءة من الناكثين والقاسطين والمارقين واجبة، والبراءة من الأنصاب والأزلام: أئمة الضلال وقادة الجور كلهم أولهم وآخرهم واجبة، والبراءة من أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود قاتل أمير المؤمنين (عليه السلام) واجبة، والبراءة من جميع قتلة أهل البيت (عليهم السلام) واجبة.

والولاية للمؤمنين الذين لم يُغيّروا و لم يُبدلّوا بعد نبيهم (صلى الله عليه وآله) واجبة، مثل: سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري و المقداد بن الأسود الكندي، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وحذيفة بن اليمان، وأبي الهيثم بن التيهان، وسهل بن حنيف، وأبي أيوب الأنصاري وعبد الله ابن الصامت، وعبادة بن الصامت، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وأبي سعيد الخدري،

ص: 154

ومن نحا نحوهم، وفعل مثل فعلهم، والولاية لاتباعهم والمقتدين بهم و بهداهم واجبة...(1)

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبعض أصحابه ذات يوم: يا عبد الله، أحبّ في الله تعالى، وابغض في الله تعالى، ووالِ في الله تعالى، وعادِ في الله تعالى، فإنّه لا تنال ولاية الله تعالى إلا بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك، وقد صارت مواخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتواددون وعليها يتباغضون، وذلك لا يغني عنهم من الله تعالى شيئًا.

فقال له: وكيف لي أنْ أعلمَ أني قد واليت وعاديت في الله عز وجل؟ ومن وليُّ الله تعالى حتى أواليه، ومن عدوه حتى أعاديه؟

فأشار له رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) فقال: أترى هذا؟ فقال: بلى. فقال: وليُ هذا ولي الله فوالِه، وعدوُّ هذا عدوُّ الله فعادِه. ثم قال: والِ وليَّ هذا ولو أنه قاتل أبيك وولدك، وعادِ عدوَّ هذا ولو أنه أبوك وولدك...(2)

إنّ الحب حالة انجذاب نفساني، وغالباً ما يكون هذا الحب لسببٍ ما، فقد تحب شخصاً لماله أو جماله أو علمه أو روحه... ولكن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول: إن هذه المداخل للحب ليست حباً لله تعالى، والحب الذي يجمع المحبّين على مركز واحد هو الحب في الله تعالى، والذي يعني تولي أهل

ص: 155


1- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 603- 608.
2- علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 140 – 141.

البيت (عليهم السلام)، بل إن كمال الولاية لله تعالى والتوحيد هو الحب في الله، والذي هو بمعنى الولاية لأهل البيت (عليهم السلام). حيث يقول (صلى الله عليه وآله): فإنه لا تنال ولاية الله إلا بذلك.

فلا اللون ولا المال ولا الجمال والجاه والعشيرة هي المركز للحب الإلهي، وإنما هو التولي، بل نجد أن الدين يقطع تلك العلاقات لو تعارضت عقائدياً مع التولّي لأهل الحق، فابن نوح ليس من أهله لأنه لم يؤمن بالرسالة، والقرآن الكريم يقول في مقام آخر: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1)

فالعلاقة والارتباط العقائدي أقوى وأهم من بقية العلاقات...

في رواية جابر الأنصاري أنه لما وصل إلى قبر الحسين (عليه السلام) فقال:... والذي بعث محمدًا بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه. قال عطية: فقلت لجابر: وكيف ولم نهبط واديًا، ولم نعْلُ جبلًا، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم وأبدانهم، وأوتمت أولادهم وأُرملت الأزواج؟ فقال لي: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من أحبّ قومًا حُشر معهم، ومن أحب عمل القوم أُشرك في عملهم، والذي بعث محمدًا بالحق نبيًا، إن

ص: 156


1- (22) من سورة المجادلة.

نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه...(1)

مع ملاحظة أن الارتباط العقائدي والديني لا ينفي تلك الارتباطات، ولكنه لا يجعل المركزية لها، وإلا فالدين أمَر بإقامة تلك العلاقات في الحدود المقبولة شرعاً، فحب الوطن من الإيمان كما روي، وإكرام العشيرة مطلوب، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): وأَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِه تَطِيرُ، وأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْه تَصِيرُ ويَدُكَ الَّتِي بِهَا تَصُولُ.(2)

ثالثًا: هناك نصوص عديدة تجيب عن هذا السؤال، وتؤكد ضرورة التبري في اكتمال مفهوم التولي، هذه بعضها:

عن أمير المؤمنين (عليه السلام):... إنّ عبدًا لن يُقصّر في حبِّنا لخير جعله الله في قلبه، ولن يحبَّنا من يحب مبغضَنا، إن ذلك لا يجتمع في قلب واحد و (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)(3)

يحبُّ بهذا قومًا، ويحب بالآخر عدوهم، والذي يحبنا فهو يخلص حبَّنا كما يخلص الذهب لا غش فيه، نحن النجباء، وأفراطنا أفراط الأنبياء، وأنا وصي الأوصياء، وأنا حزب الله ورسوله (عليه السلام)، والفئة الباغية حزب الشيطان، فمن أحبَّ أن يعلم حاله في حبِّنا فليمتحن قلبه، فإن وجد فيه حب من ألَّبَ علينا فليعلم أن الله عدوُّه وجبرئيل وميكائيل، والله عدو للكافرين.(4)

ص: 157


1- بحار الأنوار - ج 65 - ص 131.
2- نهج البلاغة ج3 ص 57.
3- الأحزاب 4.
4- أمالي الشيخ الطوسي (ص 148 – 149 ح 243 / 56).

فالرواية واضحة في أن حب أهل البيت (عليهم السلام) لا يكتمل مفهومه ولا يصدق إلا بضمّ البراءة من عدوهم وبغضهم.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تعوّذوا باللّه من الشيطان الرجيم، فإنّ من تعوّذ بالله منه أعاذه الله، [وتعوّذوا] من همزاته ونفخاته ونفثاته، أتدرون ما هي؟ أمّا همزاته فما يلقيه في قلوبكم من بغضنا أهل البيت. قالوا: يا رسول اللّه! وكيف نبغضكم بعد ما عرفنا محلّكم من الله ومنزلتكم؟! قال (صلى الله عليه وآله): بأن تبغضوا أولياءنا، وتحبّوا أعداءنا، فاستعيذوا بالله من محبّة أعدائنا، وعداوة أوليائنا، فتعاذوا من بغضنا وعداوتنا، فإنّ من أحبّ أعداءنا فقد عادانا، ونحن منه براء، والله عزّ وجلّ منه بريء.(1)

وقال الصادق (عليه السلام): من شك في كفر أعدائنا والظالمين لنا فهو كافر.(2)

وروي أنّ رجلاً قدم على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أحبك وأحب فلاناً، وسمّى بعض أعدائه، فقال (عليه السلام): أمّا الآن فأنت أعور، فإمّا أن تعمى وإمّا أن تبصر.(3)

وقيل للصادق (عليه السلام): إن فلانًا يواليكم إلا أنه يضعف عن البراءة من عدوكم، فقال: هيهات، كذب من ادعى محبتنا ولم يتبرّأ من عدونا.(4)

ص: 158


1- التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام)- (ص 584 ح 347).
2- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص 104.
3- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 265.
4- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 266.

مما يتقدم يتبلور:

إن حبهم مع حب من ألّب عليهم لا يجتمعان. وكذلك مع حب مبغضهم، ومع حب عدوهم، ومع حب من قام بالانقلاب.

ص: 159

ص: 160

النقطة الثانية: عصمة أهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

إن الذي يطالع حياة أهل البيت (عليهم السلام) ويقرأ سلوكهم وتصرفاتهم الشخصية والاجتماعية، فإنه يمكن أن يقطع بأنهم معصومون، فلم يثبت أنهم واقعوا معصية ما، ولم يُنقل عنهم أن أخطأوا في حكم أو فعل أو حتى قول، بل لم يجد حتى العدو ما يمكن أن يذمّ به أهل البيت (عليهم السلام)، اللّهمّ إلَّا قولة (عمرو بن العاص) في أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنَّ فيه دعابة!

وهل هذه مثلبة؟!

بل ما هذه إلَّا منقبة عظيمة، وانظر إلىٰ أمير المؤمنين (عليه السلام) كيف صاغ هذه القولة وكيف ردَّ عليه حينما قال (عليه السلام): «عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ (1)،يَزْعُمُ لأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً، وأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ (2)،أُعَافِسُ وأُمَارِسُ(3)،لَقَدْ

قَالَ بَاطِلًا ونَطَقَ آثِماً، أَمَا وشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ، إِنَّه لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ، ويَعِدُ فَيُخْلِفُ،

ص: 161


1- النابغة المشهورة فيما لا يليق بالنساء، من نبغ إذا ظهر.
2- الدعابة - بالضمِّ -: المزاح واللعب؛ وتلعابة - بالكسر -: كثير اللعب.
3- أُعافس أُعالج الناس وأُضاربهم مزاحاً، ويقال: المعافسة معالجة النساء بالمغازلة، والممارسة كالمعافسة.

ويُسْأَلُ فَيَبْخَلُ، ويَسْأَلُ فَيُلْحِفُ (1)،ويَخُونُ الْعَهْدَ، ويَقْطَعُ الإِلَّ (2)،فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وآمِرٍ هُوَ، مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكِيدَتِه أَنْ يَمْنَحَ الْقَرْمَ سَبَّتَه (3)،أَمَا والله إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، وإِنَّه لَيَمْنَعُه مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الآخِرَةِ، إِنَّه لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَه أَتِيَّةً، ويَرْضَخَ لَه عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً(4)»(5).

وقال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه في وصفه (عليه السلام): كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدَّة تواضع، وسهولة قياد، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف علىٰ رأسه.

وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشًّا بشًّا، ذا فكاهة، قال قيس: نعم، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمزح ويبتسم إلىٰ أصحابه، وأراك تُسِرُّ حسواً في ارتغاء(6)،

وتعيبه بذلك! أمَا والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسَّه الطوىٰ، تلك هيبة التقوىٰ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام(7)!

ص: 162


1- فيلحف أي يلحُّ؛ ويسأل هاهنا مبنيٌّ للفاعل؛ ويسأل في الجملة بعدها للمفعول.
2- الإل - بالكسر -: القرابة، والمراد أنَّه يقطع الرحم.
3- السبة - بالضمِّ - الأُست، تقريع له بفعلته عندما نازل أمير المؤمنين في واقعة صفّين، فصال عليه وكاد يضرب عنقه، فكشف عورته، فالتفت أمير المؤمنين عنه وتركه.
4- الآتية: العطيَّة؛ ورضخ له أعطاه قليلاً؛ والمراد بالآتية والرضيخة ولاية مصر.
5- نهج البلاغة (ج 1/ ص 147 و148).
6- في المثل: (هو يسر حسواً في ارتغاء)، يُضرَب لمن يُظهِر أمراً وهو يريد غيره. (لسان العرب: ج 19/ ص 46). (من هامش المصدر).
7- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 1/ ص 25).

ولكن مع ذلك، فقد استدل علماؤنا على عصمتهم (عليهم السلام) بعدة أدلة، نذكر منها التالي:

الدليل الأول: آية التطهير
اشارة

قال تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1)

منطوق الآية واضح، وهو: أن الله تعالى أراد إرادة تكوينية –لا تقبل النقض ولا الرد- أن يُذهب ويُبعد الرجس عن أهل البيت، وبذلك طهّرهم من الرجس والدنس تطهيرًا تامًا، وقد استعملت الآية أداة الحصر (إنما) لتدل (على حصر إرادة الله عَزَّ وَجَلَّ في إعطائه العصمة لأهل البيت، واستبعاده الرجس والإثم عنهم، دون غيرهم(2)).(3)

وحتى يتضح المقصود بالتفصيل نذكر الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: نوع الإرادة في الآية

إن الإرادة هنا تكوينية لا تشريعية، وذلك (لأنّ الإرادة الإلهيّة التشريعيّة في ترك الآثام وتجنّب المعاصي ليست منحصرة بأهل البيت، بل تشمل جميع البشر.)(4)

ص: 163


1- الأحزاب 33.
2- لاحظ: التبيان في تفسير القرآن، ج 8، ص 340؛ الميزان، ج 16، ص 483.
3- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 180.
4- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 180.

وبعبارة أخرى: (أن القرائن الداخلية والخارجية تؤكد أن المقصود من الإرادة هنا هي التكوينية لا التشريعية؛ لوضوح أن الآية في مقام الامتنان وبيان الفضل الإلهي في أهل البيت (عليهم السلام)، وأنه في مقام تخصيصهم وتمييزهم عن سائر الناس بالطهارة من الرجس بأصنافه، وهذا لا يتحقق إلا بالتطهير التكويني.

وأما الطهارة التشريعية فلا خصوصية لأهل البيت فيها؛ لأن الله سبحانه أمر جميع العباد بالطهارة لدى الصلاة، وأراد منهم الوضوء والغسل سواء كان من أهل البيت أو من غيرهم، فصيانة كلام الحكيم عن اللغوية تستدعي حمل الإرادة على المعنى الأول لا الثاني... وبهذا يتضح أن الله سبحانه أراد تطهير أهل البيت (عليهم السلام) من الرجس إرادة تكوينية تشمل كل ما يتعلق بوجودهم المبارك.)(1)

وهذه الإرادة لا تعني أنْ لا فضيلة لأهل البيت عندما أذهب الله تعالى عنهم الرجس بإرادة تكوينية، وذلك لأن الله تعالى حكيم، ولا يختار شخصًا لهذه المنزلة إلا وفق حكمة، ونحن نعتقد أن الله تعالى عَلِم بعلمه الأزلي أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا مستعدّين للوصول إلى مرحلة العصمة بإرادتهم، فلَطَفَ بها تكوينيًا لهم.

على أنه مهما كان، فإن الآية تُثبت العصمة، وبالتالي يلزم على غيرهم طاعتهم في كل ما يقولونه، وإلا لوقعوا في خلاف الواقع، وبالمعصية.

ص: 164


1- الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج6 ص 153 – 154.

فتبين أن (المقصود من الإرادة الإلهيّة التكوينيّة في نفي الإثم والرجس عن أهل البيت : ليس هو الجبر التكوينيّ؛ بل هو نوع من اللياقة الذاتيّة والموهبة الإلهيّة والجدارة الاكتسابيّة النابعة من إرادة الشخص نفسه؛ ذلك لأجل أن يكون أسوة وقدوة لكلّ الناس، والحال هنا مشابه لما يقوم به الإنسان من اجتناب الاحتراق بالنار؛ فهي حالة نابعة من أعماق وجود الإنسان، ومعارفه، وسائر المنطلقات الفطريّة والطبيعيّة المحيطة به؛ من دون أن يكون هناك أيّ لون من ألوان الجبر)(1)

الخطوة الثانية: المراد الرجس؟

الرجس هو الإثم، والقاذورات، سواء كانت المادية أو المعنوية.(2)

والألف واللام فيها للجنس، فيكون محصّل المعنى أن (الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ يريد أن يُبعد جميع ضروب الآثام والرذائل والهيئات الخبيثة عن نفوس أهل البيت :، ويزيلها عنهم. ومثل هذه الإزالة لا تجري إلا مع افتراض العصمة الإلهيّة التي ترعى الإنسان من كلّ ما هو باطل؛ سواء كان على مستوى العقيدة أو العمل.)(3)

وحينها، ستكون نتيجة إذهاب الرجس تمامًا عنهم هو التطهير التام لهم، وهو معنى لا يصدق بتمام معنى الكلمة إلا مع افتراض العصمة.

ص: 165


1- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 180 نقلًا عن تفسير الأمثل، ج 17، ص 315.
2- انظر مجمع البحرين ومعجم مقاييس اللغة مادة (رجس).
3- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 181.
الخطوة الثالثة: تحديد (أهل البيت) في الآية؟

كل من تعرّض لهذه الآية، ولمفردة (أهل البيت) فيها، لم يتردد في صدق هذه المفردة على أصحاب الكساء الخمسة (عليهم السلام)، إنما الخلاف في أنها خاصة بهم أو إنها تشمل نساء النبي (صلى الله عليه وآله)، وإلى هذا الحدّ تدل الآية على عصمة أهل البيت (عليهم السلام)، إذ إنها تصرّح بأن الله تعالى قد أذهب عنهم الرجس تكوينًا، فطهّرهم بذلك تطهيرًا.

بالنسبة لرواياتنا الخاصة، فإنها أطبقت على اختصاص هذه المفردة بأصحاب الكساء (عليهم السلام)، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:

دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت أم سلمة وقد نزلت هذه الآية (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي هذه الآية نزلت فيك وفي سبطي والأئمة من ولدك. فقلت: يا رسول الله وكم الأئمة بعدك؟ قال: أنت يا علي، ثم ابناك الحسن والحسين، وبعد الحسين علي ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد جعفر ابنه، وبعد جعفر موسى ابنه، وبعد موسى علي ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد علي ابنه، وبعد علي الحسن ابنه، والحجة من ولد الحسن، هكذا وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش، فسألت الله تعالى عن ذلك فقال: يا محمد، هم الأئمة بعدك، مطهرون معصومون، وأعداؤهم ملعونون.(1)

وهذه الرواية تثبت شمول الآية لكل الائمة الاثني (عليهم السلام).

ص: 166


1- كفاية الأثر للخزاز القمي ص 156.

بل روى بعض العامة ما يصرّح بعدم شمولها لغير أهل البيت (عليهم السلام) البتّة.

فمثلًا روى أحمد في مسنده عن أم المؤمنين أم سلمة أنها قالت: (فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهبْ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا، اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهبْ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا. قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنك إلى خير إنك إلى خير)(1)

فلاحظوا: أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يسمح لأم سلمة بالدخول معهم في مفهوم أهل البيت ولا تحت الكساء، رغم أنها كانت على خير وإلى خير.

وأصرح من هذه الرواية ما رواه أحمد أيضًا عن أم سلمة (رضوان الله عليها) ما نصُّه: عن أم سلمة: أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال لفاطمة: ائتيني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم، فألقى عليهم كساء فدكيًا... ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إن هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، إنك حميد مجيد. قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي وقال: إنك على خير.(2)

ص: 167


1- مسند أحمد ج6 ص 292.
2- مسند أحمد ج6 ص 323.

ونفس المعنى روي عن عائشة، حيث روى الحسكاني في شواهد التنزيل عن مجمع قال: دخلتُ مع أمي على عائشة فسألتها أمي قالت: أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: إنه كان قدرًا من الله. فسألَتْها عن علي فقالت: تسأليني عن أحب الناس كان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وزوج أحب الناس كان إلى رسول الله، لقد رأيت عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا وجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بثوب عليهم، ثم قال: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. فقلت: يا رسول الله، أنا من أهلك؟ قال: تنحَّي، فإنك إلى خير.(1)

ومما يدل على عدم شمول مفردة (أهل البيت) لنساء النبي (صلى الله عليه وآله)، ويشير أيضًا إلى أن المسلمين في ذلك الزمن كانوا قد تسالموا على عدم شمولها لهن، ما رواه مسلم في صحيحه من أنه سُئل زيد بن أرقم فقيل له:...مِنْ أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصلُه وعصبتُه...(2)

ويدل عليه أيضًا ما رواه السيوطي في الدر المنثور قال: وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ثمانية أشهر بالمدينة، ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة الا أتى إلى باب على [عليه السلام) فوضع يده على جنبتي الباب ثم قال: الصلاة الصلاة، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ

ص: 168


1- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني ج2 ص 62 ح 684.
2- صحيح مسلم النيسابوري ج7 ص 123.

لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: شهدنا رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) تسعة أشهر، يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب [عليه السلام) عند وقت كل صلاة فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)، الصلاة رحمكم الله، كل يوم خمس مرات.

وأخرج الطبراني عن أبي الحمراء... قال رأيت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يأتي باب على وفاطمة ستة أشهر فيقول: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).(1)

فتبين أن (أهل البيت) اصطلاح خاص بأصحاب الكساء (عليهم السلام).

الدليل الثاني: آية المودة
اشارة

قال تعالى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ)(2)

منطوق الآية واضح في أن الله تعالى أمر نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله) بأن يُخبر المسلمين بأنه لا يطلب أي أجر على رسالته وما فعله من أجلهم، نعم، هناك أجرٌ واحد يلزمهم أداؤه، وهو (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)، فيجب على المسلمين وفق هذه الآية أن يمتثلوا أمر الله تعالى وأن يقوموا بمودة القربى.

ص: 169


1- الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي ج5 ص 199.
2- الشورى 23.

وقد بيّنت بعض الروايات هذا المعنى، فقد روي عن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) فقال: يا محمد، أعرض عليّ الإسلام. فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. قال: تسألني عليه أجرًا؟ قال: لا، إلّا المودة في القربى، قال: قرباي أو قرباك؟ قال: قرباي، قال: هات أبايعك، فعلى من لا يحبّك ولا يحبُّ قرباك لعنة الله. قال (صلى الله عليه [وآله] وسلم): آمين.(1)

ولتوضيح المقصود نذكر عدة خطوات:

الخطوة الأولى: معنى المودة
اشارة

ودد: الود محبة الشيء وتمنى كونه.(2)

أي إن الفعل (ودّ) يدل على أمرين:

الأول: محبة الشيء.

والثاني: تمني الكون مثله.

وهو: الحُبُّ يكون في جَمِيعِ مَدَاخِل الخَيْرِ.(3)

والمودة أخصُّ من الحب؛ لأنها تعني المحبة الظاهرة على الجوارح...(4)

فالآية إذن تأمرنا بأن نودّ ذوي القربى، وأن نعمل على أن نكون مثلهم، وأن نُظهر حبّنا لهم على جوارحنا فضلًا عن جوانحنا واعتقادنا القلبي، هذا

ص: 170


1- فضائل الخمسة من الصحاح الستة للسيد مرتضى الحسيني الفيروز آبادي ج1 ص 260 عن حلية الأولياء ج 3 ص 201.
2- مفردات الراغب الأصفهاني، مادة (ودد).
3- تاج العروس للزبيدي، مادة (ودد).
4- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية للشيخ فاضل الصفار ج6 ص 170.

هو معنى المودة التي أمرنا الله تعالى بها في هذه الآية، وهذا المعنى يستلزم معانٍ أخرى هي:

التمسك، والاتباع، والاقتداء، والتقديم، والتعظيم، وإحياء الأمر (إذ هذا لازم إظهار المحبة بالجوارح).

وكل هذه المعاني قد صرّحت بضرورتها الروايات الشريفة، والتفصيل أن يُقال:

إن آية المودة [المودة المطلقة لا المقيدة] تفرز عدة مفاهيم تمثل مجموعة من الوظائف التي تلزمنا اتجاه ذوي القربى (وهم أهل البيت (عليهم السلام) كما سيأتي في الخطوة الثانية) وهي التالي:

دلالات المودة ولوازمها
1/ المودة

قال تعالى (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)(1)

وقال تعالى (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)(2)

وقد ورد في تفسير هذه الآية أنه خطب الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) حين قتل علي (عليه السلام) ثم قال: وإنّا من أهل بيت افترض الله مودتهم على كل مسلم، حيث يقول (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن

ص: 171


1- (55) من سورة الفرقان.
2- (23) من سورة الشورى.

يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا)، فاقترافُ الحسنة مودّتُنا أهل البيت.(1)

وقال تعالى (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(2)

وقد ورد في تفسيرها عن الإمام الباقر (عليه السلام): الاجر الذي هو المودة في القربى التي لم أسألكم غيرها فهو لكم، تهتدون بها، وتسعدون بها، وتنجون من عذاب الله يوم القيامة.(3)

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) للحصين بن عبد الرحمان: يا حصين لا تستصغر مودتنا، فإنها من الباقيات الصالحات.(4)

2/ الحب

فإن المودة هي الحب كما تقدم، والروايات أكدت هذا المعنى كثيراً، فعن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الرجل يحبّ الرجل ويبغض ولده، فأبى الله عز وجل إلا أن يجعل حبَّنا مفترضًا، أخَذَه من أخَذَه، وتركَه من تركَه واجبًا، فقال: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى). (5)

وكما ترى فإن هذه الرواية تجعل الحب متجلياً بالمودة، لتكشف عن ترابط عضوي بين هاتين الوظيفتين (المودة والحب)، بل نجد الروايات تجعل الحب أساس الإسلام، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):... ولِكُلِّ

ص: 172


1- مسائل علي بن جعفر ص 328 ح 817.
2- (47) من سورة سبأ.
3- ينابيع المودة لذوي القربى - القندوزي - ج 1 - ص 316 باب 32 ح5.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 343 وبحار الأنوار - ج 23 - ص 250.
5- المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 1 - ص 144 ح 45.

شَيْءٍ أَسَاسٌ، وأَسَاسُ الإِسْلَامِ حُبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ.(1)

بل روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):... ومَنْ عَرَفَ حَقَّنَا وأَحَبَّنَا فَقَدْ أَحَبَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى.(2)

وعن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: العروة الوثقى المودة لآل محمد (صلى الله عليه وآله).(3)

وبضم هذه الروايات إلى قوله تعالى (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى الله عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(4) يظهر لنا مفهوم ووظيفة جديدة تناولتها الروايات الشريفة، هي:

3/ التمسك

فالمودة التي تعني الحب، تفرز ضرورة التمسك بمن تحب وتودّ، وإلا فأي مودة هذه وأي حب يكون من دون تمسك.والروايات كثيرة في هذا المجال، فقد روي أنه قال رسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله): يا علي، من أحبَّكم وتمسّك بكم فقد تمسك بالعروة الوثقى.(5)

فالآية السابقة تجعل للتمسك بالعروة الوثقى مقدمة، هي إسلام الوجه لله تعالى وهو محسن، والرواية تجعل التمسك بأهل البيت عين التمسك

ص: 173


1- الكافي للكليني - ج 2 - ص 46 بَابُ نِسْبَةِ الإِسْلَامِ ح2.
2- الكافي:للكليني ج8 ص 129 ح 98.
3- ينابيع المودة لذوي القربى - القندوزي - ج 1 - ص 331 باب 37 ح2.
4- (22) من سورة لقمان.
5- كفاية الأثر للخزاز القمي ص 71.

بالعروة الوثقى.

وهذا المعنى تؤكده روايات عديدة، منها ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي، بكم يفتح هذا الأمر، وبكم يختم، عليكم بالصبر، فإن العاقبة للمتقين، أنتم حزب الله، وأعداؤكم حزب الشيطان، طوبى لمن أطاعكم، وويل لمن عصاكم، أنتم حجة الله على خلقه، والعروة الوثقى، من تمسك بها اهتدى، ومن تركها ضل. أسأل الله لكم الجنة، لا يسبقكم أحد إلى طاعة الله، فأنتم أولى بها.(1)

ثم إنه يبدو من حديث الثقلين والذي هو مضمون قرآني(2)

أن التمسك بالقرآن الكريم وحده لا يعد تمسكاً بالقرآن، لأن حديث الثقلين يجعل المطلوب للتكامل هو الحالة المجموعية من الأمرين، وبالتالي فمقولة (حسبنا كتاب الله) خاطئة معرفياً...

4/ التقديم

فحيث يلزمنا مودة أهل البيت (عليهم السلام) ومحبتهم وبالتالي التمسك بهم، فهذا يعني ضرورة تقديمهم، إذ أنت تتمسك بمن يتقدم عليك لا بمن يتأخر عنك، وهكذا فأنت تتمسك بالمتقدم والمتبوع، لا بمن يتبع غيره ويتمسك بغيره، وإلا كان التمسك بالغير المتقدم أولى كما هو واضح، فعن رسول

ص: 174


1- أمالي الشيخ المفيد ص 110 المجلس (11) ح 9.
2- قال تعالى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) (112) من سورة آل عمران. وقد فسر بحديث الثقلين.

الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم وقدموهم فهم الولاة من بعدي، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله وأي أهل بيتك؟ فقال، علي والطاهرون من ولده.(1)

5/ الاقتداء

وحيث يلزم التمسك بهم، إذن، لا بد من الاقتداء بهم بعد تقديمهم، فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سرّه أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويدخل جنة ربى جنة عدن، قضيب من قضبانه غرَسَه ربي بيده فقال له: كن، فكان، فليتولّ عليًا و الأوصياء من بعده، وليُسلّم لفضلهم، فإنهم الهداة المرضيون أعطاهم فهمي وعلمي، وهم عترتي من دمى ولحمي، أشكو إلى الله عدوهم من أمتي المنكرين لفضلهم، القاطعين فيهم صلتي، والله ليقتلُنّ ابني، ولا ينالهم [أنالهم] الله شفاعتي.(2)

6/ التعظيم

وهذا المفهوم لازم لمن يلزمك اتباعه والاقتداء به كما هو واضح، وهو ثابت لأهل البيت (عليهم السلام)، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيها الناس، عظموا أهل بيتي في حياتي ومماتي، وأكرموهم وفضّلوهم.(3)

ص: 175


1- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 1 - ص 103.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 68 باب 22 - باب (في الأئمة (عليهم السلام) وما قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن الله أعطاهم فهمي وعلمي) ح1.
3- بحار الأنوار - ج 36 - ص 295.
7/ إحياء الأمر

وهذا الأمر لازم للمحبة الجارحية، التي هي إظهار للمودة.

عن معتب مولى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول لداود بن سرحان: يا داود، أبلغ مواليّ عني السلام، وأني أقول: رحم الله عبدًا اجتمع مع آخر فتذاكرا أمرنا، فإن ثالثهما ملَكٌ يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلا باهى الله (تعالى) بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإن في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا. (1)

وعن بكر بن محمد الأزدي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تجلسون وتتحدثون، قال: قلت جعلت فداك نعم قال إن تلك المجالس أحبها فأحبوا أمرنا انه من ذكرنا وذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذبابة غفر الله ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر.(2)

الخطوة الثانية: معنى القربى في الآية
اشارة

كما لم يكن خلافٌ في شمول آية التطهير لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وإنما كان الخلاف في اختصاصها بهم، كذلك الأمر في آية المودة، فلا خلاف في كون أصحاب الكساء (عليهم السلام) هم من ذوي القربى، ولكن هل الآية منحصرة بهم أو تشمل غيرهم؟

ص: 176


1- أمالي الشيخ الطوسي ص 224 ح 390 / 40.
2- ثواب الأعمال - الشيخ الصدوق - ص 187.

الإمامية أطبقوا على اختصاصها بأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ووُجدت في قبالهم آراء أخرى لكنها لا تصمد أمام النقد المنهجي، وعلى كل حال، فهنا أقوال، نذكر منها التالي(1):

القول الأول

إن آية المودة تعني أن النبي (صلى الله عليه واله) خاطب قريش بأن لا يؤذوه حتى وإن كانوا غير مؤمنين به، باعتبار أنهم قرابته. فيكون حرف الجر (في) في الآية هو للدلالة على السببية.

ويُبطله: أنه كيف يُتَصَوَّر طلب الأجر ممن لم يؤمن به (صلى الله عليه واله)؟! إذ الأجر إنما يكون مقابل خدمة معترف بها من الطرف الآخر، والمشركون ليس عندهم هذا الاعتراف حتى يصح طلب الأجر منهم.

على أنه بعد النصوص المتواترة على أن المقصود هي مودة خصوص قرابة الرسول (صلى الله عليه واله)، يكون هذا التفسير اجتهاداً قبال النص.

القول الثاني

إن النبي (صلى الله عليه وآله) يطلب من جميع المسلمين أن يحبوا من يتقرب إلى الله عز وجل بالطاعة، أي إن كل من يتقرب إلى الله تعالى بالطاعة فعليكم أن تحبوه، فتكون القربى هنا بمعنى التقرب.

ص: 177


1- راجع تفسير الرازي ج 27 ص 164 وما بعدها، ونفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج9 ص 170.

ويبطل من جهتين:

الجهة الأولى: نصّ أهل اللغة على أن كلمة القربى إنما هي بمعنى القرابة، ولم يذكروا أنها تستعمل في التقرب.(1)

الجهة الثانية: بعد النصوص المتواترة على أن المقصود هي مودة خصوص قرابة الرسول (صلى الله عليه واله)، يكون هذا التفسير اجتهاداً قبال النص.

القول الثالث

إن المقصود من الآية هو أن النبي (صلى الله عليه وآله) يطلب من المسلمين جميعًا أن يودوا قرابته وهذا هو المعنى المتعين.

ولكن هل المقصود هو خصوص أهل البيت (عليهم السلام) أو يشمل غيرهم؟

هنا رأيان:

الرأي الأول: أن المقصود هو جميع أقرباء الرسول (صلى الله عليه واله)، فكل من يمتُّ إليه بقرابة فقد أُمرنا بأن نودَّه ونحبَّه، فيشمل جميع قريش، وهذا الرأي واضح البطلان؛ للجهات الثلاثة التالية:

الجهة الأولى: القرينة العقلية: إذ لا يُتَصَوَّر أن يطلب من المسلمين أن

ص: 178


1- قال ابن سيده في المخصص ج1 ق 3 (السفر الثالث) ما نصه: القَرَابَة والقُرْبَى: الدُّنُوُّ في النَّسَب وما بَيْنهما مَقْرَبةٌ ومَقْرُبة، أي قَرَابة ويقال الرَّحِمُ والرِّحْم: القَرَابة أنثى والجمع أرْحام. وفي الحديث: الرَّحِمُ شجْنةٌ مَعَلَّقة بالعَرْش تقول: اللهمَّ صِلْ مَن وَصَلنِي واقْطَع مَنْ قَطَعني... وقال ابن منظور في لسان العرب ج1 ص 665: والقَرابَة والقُرْبَى : الدُّنُوُّ في النَّسب، والقُرْبَى في الرَّحِم...

يودّوا جميع قرابة الرسول (صلى الله عليه واله) مؤمنهم ومشركهم وكافرهم، وفيهم ابو لهب الذي نصّ القران الكريم على لعنه!

الجهة الثانية: أن هذا الرأي يتعارض مع قوله عز وجل (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.)(1) إذ هي صريحة في أن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر لا يوادّ من يحادّ الله ورسوله وإن كان أبًا أو ابنًا أو أخًا.

الجهة الثالثة: من المعلوم أن النبي (صلى الله عليه واله) كان يظهر منه الاعتناء بمجموعة خاصة من قرابته وهم أهل الكساء، والروايات كثيرة في هذا المجال تبين أنه (صلى الله عليه واله) كان يفضِّلُهم على كل اقربائه، فكيف نتصور أنه في مقام طلب أجر الرسالة أن يساوي بين من يحبه ويجعله كنفسه ويتألم لألمه ويفرح لفرحه، وبين المشرك الذي رفع السيف بوجهه (صلى الله عليه واله)، وهو إنْ أسلم، لكن إسلامه كان بعد اللتيا والتي؟!

إن هذا يعني أنه (صلى الله عليه وآله) إنما طلب الأجرة لقرابة خاصة لا لعموم قرابته.

الرأي الثاني: أن المقصود من القرابة هم بالخصوص أصحاب الكساء وهم فاطمة وعلي والحسنان صلوات الله وسلامه عليهم –بما يشمل بقية

ص: 179


1- المجادلة 22.

أهل البيت (عليهم السلام) كما سيتبين إن شاء الله تعالى-، وهذا هو المعنى المتعين، والذي دلت عليه الروايات الكثيرة من كتب القوم فضلًا عن كتبنا، فمثلًا رووا عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قالوا: يا رسول الله، من قرابتك التي افترض الله علينا مودتهم؟ قال: عليٌّ وفاطمة وولدها. يردّدها.(1)

والروايات في هذا المجال كثيرة وعديدة، وقد تقدم بعض منها.

الخطوة الثالثة: دلالة الآية على العصمة

تبين إلى الآن أن الآية تأمرنا بأن نود أهل البيت (عليهم السلام)، وأن مودتهم تستدعي المحبة لهم واتباعهم والاقتداء بهم والتمسك بهم وإظهار أمرهم وإحيائه، والآية مطلقة، بمعنى أنها لم تخصص مودتنا الواجبة اتجاههم بنحو معين، مما يعني لزوم مودتهم –وما يترتب على المودة من مفاهيم تقدمت- بالمطلق، وفي كل ما يفعلونه ويقولونه، وهذا المعنى يستلزم بكل وضوح أن يكونوا (عليهم السلام) معصومين، وإلا، فلو لم يكونوا معصومين لأمكن أن يصدر منهم الخطأ، وبالتالي إن اقتدينا بهم في هذا الخطأ كنّا قد عصينا الله تعالى، وإن لم نطعهم كنا قد عصيناه أيضًا بمخالفتنا لآية المودة، وهذا تكليف بغير المقدور، وهو قبيح.

فالآية إذن (تدل على عصمة القربى من جهة إطلاق الأمر بالمودة، الملازمة للاتّباع والاقتداء، إذ لا يستقيم هذا الإطلاق إلا مع العصمة، وهو

ص: 180


1- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني ج2 ص 191 ح 824.

ما يقضي به العقل دفعًا للتناقض في التشريع ومخالفة الحكمة، إذ لا يُعقل أن يودّ الناس من يصدر منه القبيح ويرتكب المعاصي حتى في مورد القبح والمعصية)(1)

الدليل الثالث: اقتران أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن الكريم
اشارة

ويبتني هذا الدليل على مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن القرآن الكريم معصوم

وهذه مقدمة مسلَّمة، بين جميع المسلمين، إذ هو كلام الله تعالى الذي بلّغه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ)(2)، والقدر المتيقن من عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) والمتفق عليه بين جميع الفرقاء هي عصمته في تلقّي الوحي وتبليغه، فلا خلاف في هذه المقدمة.

ناهيك عن دلالة الآيات الكريمة على ذلك، ومنها قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(3)

المقدمة الثانية: أن أهل البيت (عليهم السلام) هم عِدل القرآن

وهذه دلت عليها الكثير من الأحاديث، وأشهرها حديث الثقلين المتواتر، الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من

ص: 181


1- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج6 ص 171.
2- النجم 4.
3- فصلت 41 – 42.

الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.(1)

بل ورد في بعض الروايات بأن العلاقة بين القرآن والعترة هي كالعلاقة بين السبابتين، لا بين الوسطى والسبابة، لئلا تزيد إحداهما على الأخرى، فقد روي أنه قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) فِي آخِرِ خُطْبَتِه يَوْمَ قَبَضَه الله عَزَّ وجَلَّ إِلَيْه: إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيْه- ولَا أَقُولُ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ الْمُسَبِّحَةِ والْوُسْطَى- فَتَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَا تَزِلُّوا ولَا تَضِلُّوا، ولَا تَقَدَّمُوهُمْ فَتَضِلُّوا.(2)

النتيجة:

إن لحديث الثقلين دلالات عديدة، وأهمها ما في مقامنا، وهو إثبات العصمة لأهل البيت (عليهم السلام)، باعتبار أن القرآن معصوم، وأهل البيت (عليهم السلام) قد قُرنوا به، وأُمرنا بطاعتهم كما أُمرنا بطاعة القرآن، والأمر هذا جاء بنحو مطلق لا مقيد، والنبي (صلى الله عليه وآله) أخبر أن القرآن لن يفترق عن العترة الطاهرة ولا هم عنه، فينتج أن أهل البيت (عليهم السلام) معصومون كما القرآن الكريم.

ص: 182


1- الحديث متواتر، انظر مثلًا: مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 14 و ج5 ص 182 وسنن الترمذي ج5 ص 329 والمستدرك للحاكم النيسابوري ج3 ص 110 وج3 ص 148 ومجمع الزوائد للهيثمي ج9 ص 162 وغيرها من المصادر.
2- الكافي للكليني ج2 ص 415 بَابُ أَدْنَى مَا يَكُونُ بِه الْعَبْدُ مُؤْمِناً أَوْ كَافِراً أَوْ ضَالاًّ- ح1.

ويؤيد هذا المعنى ما روي عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: الامام منا لا يكون إلا معصومًا، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيُعرف بها؛ ولذلك لا يكون إلا منصوصًا. فقيل له: يا ابن رسول الله، فما معنى المعصوم؟ فقال: هو المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن، لا يفترقان إلى يوم القيامة، والإمام يهدي إلى القرآن والقرآن يهدي إلى الامام، وذلك قول الله عز وجل: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(1).(2)

فلاحظ أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) ربط بين القرآن والعترة كما هو مفاد حديث الثقلين، وأشار إلى أن ذلك يدل على عصمة العترة، إذ القرآن يهدي للتي هي أقوم، والعترة تلازم القرآن مطلقًا، فتكون العترة هادية إلى التي هي أقوم، والهادي بالمطلق لا يكون إلا معصومًا، وهو المطلوب.

ص: 183


1- الإسراء 9.
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 132 باب معنى عصمة الامام ح1.

ص: 184

النقطة الثالثة: علم أهل البيت (عليهم السلام) اللّدني
اشارة

تقدم أن من أهم مؤهلات الإمام هو العلم الخاص، الذي يأخذه المعصوم بطرق غير الطرق المتعارفة لدى الناس، وهو ما يُعبّر عنه بالعلم اللدني.

وقد دلّت الروايات الكثيرة على أن علم أهل البيت (عليهم السلام) لم يكن إلا لدنيًا، لمكان عصمتهم، فالعصمة حيث تعني عدم الخطأ مطلقًا، أي إنها تعني الإصابة للواقع دومًا، فهذا معناه أن لدى المعصوم من العلم ما يكشف له الواقع، فيصيبه دائمًا، ولا يكون ذلك إلا إذا كان العلم خاصًا لدنيًا، وإلا فالعلم العادي (الكسبي من خلال المعاهد العلمية والمعلّمين) يحتمل الخطأ كما يحتمل المطابقة.

والروايات في ذلك كثيرة جدًا، ونذكر منها النصوص الثمانية التالية:

النص الأول

عن الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) في قوله عز وجل: (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) قال: المشكاة نور العلم في صدر النبي (صلى الله عليه وآله).

(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) الزجاجة صدر علي (عليه السلام)، صار علم النبي (صلى الله عليه وآله) إلى

ص: 185

صدر علي (عليه السلام).

(الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) قال: نور.

(لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال: لا يهودية ولا نصرانية.

(زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) قال: يكاد العالم من آل محمد (عليهم السلام) يتكلم بالعلم قبل أن يُسأل.

(نُورٌ عَلىٰ نُورٍ)(1) يعني: إمامًا مؤيدًا بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد (عليهم السلام)، وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة...(2)

الرواية واضحة في أن علم الإمام إنما يأتيه بطريق غيبي، بطريقة الانتقال إلى صدره، وهذه طريقة غيبية غير متعارفة.

النص الثاني

عن الإمام الحسين (عليه السلام) قال: لما أنزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله): (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)(3)

قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا: يا رسول الله، هو التوراة؟ قال: لا. قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا. قالا: فهو القرآن؟ قال: لا. قال: فأقبل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هو هذا، إنه الامام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كل شيء..(4)

ص: 186


1- النور 35.
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 158.
3- يس 12.
4- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 95 معنى الامام المبين ح1.

فلاحظ كيف أن النبي (صلى الله عليه وآله) أوضح أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الإمام الذي حوى علم كل شيء، وهذا لا يكون إلا بعلم لدني خاص.

النص الثالث

قال أَبُو جَعْفَرٍ الباقر (عليه السلام): والله، إِنَّا لَخُزَّانُ الله فِي سَمَائِه وأَرْضِه، لَا عَلَى ذَهَبٍ ولَا عَلَى فِضَّةٍ إِلَّا عَلَى عِلْمِه.(1)

الرواية عبّرت عن أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم خُزّان علم الله تعالى، وعلم الله تعالى ليس علمًا عاديًا متعارفًا كما هو واضح، فمن كانوا خُزّانه يكون لهم من العلم ما ليس طبيعياً ولا في متناول يد العموم، على أن (وجه تسميتهم بالخزائن هو أنهم مفاتيح العلوم الإلهية، والأُمناء على أسرارها، ففي اللغة: خزائن السموات والأرض: ما خزنه الله تعالى فيهما من الأرزاق ومعايش العباد، وخزائن الله: غيوب الله تعالى، سُمّيت خزائن لغيوبها واستتارها، وخزن المال: غيبه، يُقال: خزنت المال واختزنته أي كتمته وجعلته في المخزن، وكذا خزنت الشر أي كتمته، والخازن هو الحافظ للشيء والأمين عليه...)(2)

النص الرابع

عن إسحاق الحريري قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فسمعته وهو يقول: إن لله عمودًا من نور، حجبه الله عن جميع الخلائق، طرفه عند الله وطرفه

ص: 187


1- الكافي للكليني ج1 ص 192 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) وُلَاةُ أَمْرِ الله وخَزَنَةُ عِلْمِه- ح2.
2- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج5 ص 276.

الآخر في أُذن الإمام، فإذا أراد الله شيئًا أوحاه في أُذن الامام.(1)

فالرواية واضحة في أن علم الإمام علم غير عادي، وقريب من مضمونها النص التالي:

النص الخامس

عن صالح بن سهل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنت جالسًا عنده فقال ابتداءً منه: يا صالح بن سهل، إن الله جعل بينه وبين الرسول رسولًا، ولم يجعل بينه وبين الإمام رسولًا. قال: قلت: وكيف ذاك؟ قال: جعل بينه وبين الامام عمودًا من نور، ينظر الله به إلى الإمام، وينظر الإمام [به إليه](2)

إذا أراد علم شيء نظر في ذلك النور فعرفه.(3)

النص السادس

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الْعِلْمِ، أهُوَ عِلْمٌ يَتَعَلَّمُه الْعَالِمُ مِنْ أَفْوَاه الرِّجَالِ، أَمْ فِي الْكِتَابِ عِنْدَكُمْ تَقْرَؤُونَه فَتَعْلَمُونَ مِنْه؟

قَالَ (عليه السلام): الأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وأَوْجَبُ، أمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الله عَزَّ وجَلَّ: (وكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ ولَا

ص: 188


1- بصائر الدرجات للصفار ص 459 باب (12) باب الفصل الذي فيه الأحاديث النوادر مما يفعل بالأئمة من الأبواب التي فيما ذكر العمود والنور وغير ذلك- ح1.
2- هذه الزيادة في بحار الأنوار ج26 ص 134.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 460 باب (12) باب الفصل الذي فيه الأحاديث النوادر مما يفعل بالأئمة من الأبواب التي فيما ذكر العمود والنور وغير ذلك- ح2.

الإِيمانُ)، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): أَيَّ شَيْءٍ يَقُولُ أَصْحَابُكُمْ فِي هَذِه الآيَةِ، أيُقِرُّونَ أَنَّه كَانَ فِي حَالٍ لَا يَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولَا الإِيمَانُ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا يَقُولُونَ.

فَقَالَ لِي: بَلَى، قَدْ كَانَ فِي حَالٍ لَا يَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولَا الإِيمَانُ، حَتَّى بَعَثَ الله تَعَالَى الرُّوحَ الَّتِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَمَّا أَوْحَاهَا إِلَيْه عَلَّمَ بِهَا الْعِلْمَ والْفَهْمَ، وهِيَ الرُّوحُ الَّتِي يُعْطِيهَا الله تَعَالَى مَنْ شَاءَ فَإِذَا أَعْطَاهَا عَبْداً عَلَّمَه الْفَهْمَ.(1)

النص السابع

قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): يَا جَابِرُ، إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وهُوَ قَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ: (وكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) فَالسَّابِقُونَ هُمْ رُسُلُ الله (عليهم السلام) وخَاصَّةُ الله مِنْ خَلْقِه، جَعَلَ فِيهِمْ خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ: أَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الْقُدُسِ فَبِه عَرَفُوا الأَشْيَاءَ، وأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الإِيمَانِ فَبِه خَافُوا الله عَزَّ وجَلَّ، وأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الْقُوَّةِ فَبِه قَدَرُوا عَلَى طَاعَةِ الله، وأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الشَّهْوَةِ فَبِه اشْتَهَوْا طَاعَةَ الله عَزَّ وجَلَّ وكَرِهُوا مَعْصِيَتَه، وجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الْمَدْرَجِ الَّذِي بِه يَذْهَبُ النَّاسُ ويَجِيؤُونَ، وجَعَلَ فِي الْمُؤْمِنِينَ وأَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ رُوحَ الإِيمَانِ فَبِه خَافُوا الله وجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الْقُوَّةِ فَبِه قَدَرُوا عَلَى طَاعَةِ الله وجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الشَّهْوَةِ فَبِه اشْتَهَوْا طَاعَةَ الله وجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الْمَدْرَجِ الَّذِي بِه

ص: 189


1- الكافي للكليني ج1 ص 273 – 274 بَابُ الرُّوحِ الَّتِي يُسَدِّدُ الله بِهَا الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) ح5.

يَذْهَبُ النَّاسُ ويَجِيؤُونَ.(1)

النص الثامن

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أنه قال لجابر حينما سَأَله عَنْ عِلْمِ الْعَالِمِ فَقَالَ: يَا جَابِرُ، إِنَّ فِي الأَنْبِيَاءِ والأَوْصِيَاءِ خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ: رُوحَ الْقُدُسِ ورُوحَ الإِيمَانِ ورُوحَ الْحَيَاةِ ورُوحَ الْقُوَّةِ ورُوحَ الشَّهْوَةِ، فَبِرُوحِ الْقُدُسِ يَا جَابِرُ عَرَفُوا مَا تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ، إِنَّ هَذِه الأَرْبَعَةَ أَرْوَاحٌ يُصِيبُهَا الْحَدَثَانُ إِلَّا رُوحَ الْقُدُسِ فَإِنَّهَا لَا تَلْهُو ولَا تَلْعَبُ.(2)

وهنا إشارات
الإشارة الأولى: نصٌ في كونهم (عليهم السلام) واسطة في الفيض

تقدم في الإمامة العامة أن العلم هو المحور في التكامل، وحيث توفَّر أهل البيت (عليهم السلام) على العلم الخاص اللدني، فهذا العلم يُمكّنهم أن يكونوا في موقع الهيمنة على عالم الإمكان، وهو المسمى ب-(واسطة الفيض).

ومما يُشير إلى هذه الوساطة ما روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لابن مسعود: اعلم أن الله خلقني وعليًا من نور عظمته قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، إذ لا تسبيح ولا تقديس، ففتق نوري فخلق منه السماوات والأرضين، وأنا والله أجلُّ من السماوات والأرضين. وفتق نور علي (عليه السلام)، فخلق منه العرش والكرسي، وعليٌّ والله أفضل من العرش والكرسي. وفتق نور الحسن،

ص: 190


1- الكافي للكليني ج1 ص 271 – 272 بَابٌ فِيه ذِكْرُ الأَرْوَاحِ الَّتِي فِي الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص 272 بَابٌ فِيه ذِكْرُ الأَرْوَاحِ الَّتِي فِي الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح2.

فخلق منه اللوح والقلم، والحسن والله أفضل من اللوح والقلم، وفتق نور الحسين (عليه السلام) وخلق منه الجنان والحور العين، والحسين والله أفضل من الجنان والحور العين. فأظلمت المشارق والمغارب، فشكت الملائكة إلى الله تعالى أن يكشف عنهم تلك الظلمة، فتكلّم الله جل جلاله بكلمة واحدة، فخلق من تلك الكلمة نورًا وروحًا فأضاف النور إلى تلك الروح، فأقامها أمام العرش، فزهرت المشارق والمغارب، فهي فاطمة الزهراء فلذلك سميت الزهراء.

يا ابن مسعود، إذا كان يوم القيامة، يقول الله جل جلاله لي ولعلي: ادخلا الجنة من شئتما، وأدخلا النار من شئتما.(1)

الإشارة الثانية: الإمامة التكوينية

بهذا العلم الخاص، تسنّى لتلك الفئة أن تؤثر في النفوس وتتصرف فيها بإيصالها إلى المطلوب، مع حفظ الاختيار للآخرين، وهي مرتبة من مراتب الإمامة. وهي المسماة ب-(الإمامة التكوينية).

إن الإمامة قرآنيًا قُرنت بالهداية في عدة آيات، وقد جاء هذا القرن بنحو التعريف، بمعنى أن تعريف الإمامة وبيانها مأخوذ فيه الهداية، لا أنها شيء زائد على الإمامة، فمهمة الإمام هي الهداية، أي إن متعلق هذه الإمامة (التي هي التبعية) هي الهداية، تمامًا كما أن (إمامة الجماعة) تقتضي تبعية المأموم للإمام في أفعال الصلاة لا مطلقًا. فالإمامة هي من قبيل المفاهيم التي تحتاج إلى متعلق، فيقال: إمام الصلاة، إمام الحج، وقرآنيًا يُقال: إمام الهداية. فالإمام

ص: 191


1- الروضة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)- شاذان بن جبرئيل القمي (ابن شاذان) ص 113

في نفسه مهتدي، ويهدي غيره.

قال السيد الطباطبائي قدس سره: (والذي نجده في كلامه تعالى: أنه كلما تعرّض لمعنى الإمامة، تعرّض معها للهداية تعرّض التفسير، قال تعالى في قصص إبراهيم عليه السلام: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا...)(1)،

وقال سبحانه: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(2)، فوصفها بالهداية وصف تعريف)(3)

فالولاية التكوينية تعني فيما تعنيه أن الإمام بعلمه اللدني يعمل على إمكان أن يؤثر في النفوس نحو الخير، لا بنحو يسلب منها الاختيار، وإنما بنحو يوفر الظروف الملائمة لتفعيل الاختيار بالوجهة الصحيحة للتكامل، وهو ما يشير إليه قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(4)

فمهمة الإمام هي الهداية العملية، أي الأخذ بيد الاتباع، لكن عندما يقرر الأتباع باختيارهم تلك التبعية للإمام، وهذا ما يبرر انحراف البعض عن خط الإمامة رغم علمهم اليقيني بحقانيتها.

ص: 192


1- الأنبياء 72 – 73.
2- السجدة 24.
3- تفسير الميزان ج1 ص 272.
4- القصص 56.

وهو ما يظهر من رواية وفد اليمن المتقدمة في آخر المقدمة السابعة من مقدمات الإمامة العامة، حيث إنهم عرفوا إمام الحق بمجرد أن نظروا إليه.

والحاصل: أن المعصوم وإن كان يمتلك من القدرات الغيبية الشيء الكثير، ولكنه لم يكن ليصادر اختيار الإنسان في مساحته، فالمعصوم يقوم بما عليه القيام به كفاعل للهداية، ويبقى على الفرد أن يمارس اختياره كقابل لتلك الهداية -بإرادته هو-، فيكون هو مسؤولًا عنها، ولم يكن المعصوم ليُغطّي هذه المساحة التي هي ضمن نطاق الاختيار الإنساني. ولا يكون حلّ مشاكل الإنسان ملقىً على هامش العصمة فيه، ولا تقوم العصمة بهدايته تكوينًا ومن دون تفعيل اختياره هو بإرادته.

إن عدم فهم هذه الحقيقة أو إغفالها أدى إلى ظهور مشكلة حقيقية تتلخص في:

أن الكثير يريد إلقاء المسؤولية -التي من المفترض أن يكون هو مسؤولًا عنها- على القوى الخارقة و (العصمة) وأنه لماذا لم تقم هي بتلك المسؤولية، وهذا ما يفرز التواكل والتكاسل والتعاجز، أو التشكيك في جدوى وجود مثل هذه القوى.

وإلى هذا المعنى يُشير ما روي عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): مَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ؟ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وتَرَكَ التِّجَارَةَ! فَقَالَ: وَيْحَه، أمَا عَلِمَ أَنَّ تَارِكَ الطَّلَبِ لَا يُسْتَجَابُ لَه، إِنَّ قَوْماً مِنْ

ص: 193

أَصْحَابِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) لَمَّا نَزَلَتْ (ومَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَه مَخْرَجاً ويَرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أَغْلَقُوا الأَبْوَابَ وأَقْبَلُوا عَلَى الْعِبَادَةِ وقَالُوا: قَدْ كُفِينَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، تُكُفِّلَ لَنَا بِأَرْزَاقِنَا فَأَقْبَلْنَا عَلَى الْعِبَادَةِ. فَقَالَ: إِنَّه مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَجَبْ لَه، عَلَيْكُمْ بِالطَّلَبِ.(1)

إن المنهج يقتضي أن يكون لكل فاعل مساحته المسؤول عنها هو، والتي لا يتجاوزها إلى مساحة فاعل آخر (أو قابل).

نظير عملية التعليم، فإنه ليس من الصحيح أن يقوم الأستاذ بتلقين الطالب كل ما يزيد في معرفته، ويكتب له المعرفة، ويرددها عليه حتى يحفظها، إلى حدٍّ يقوم الأستاذ بإنتاج طالب معلّب، لم يبذل أي جهد في سبيل تحصيل المعرفة، إن هذا في الحقيقة قتل للمنهج المعرفي، وهو عبارة أخرى عن عملية مصادرة اختيار الطالب من قِبَلِ الأستاذ.

ولذلك؛ فرغم امتلاك النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) قدرات غيبية كبيرة جدًا، لكنه لم يزد على أكثر من الدعوة وإقامة المعجزات الإثباتية، ولم يتدخل في مساحة اختيار القابل (أفراد الأمة)، ولذلك أتيح للأفراد إرادة خلاف الهداية بإرادتهم (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ

ص: 194


1- الكافي للكليني ج5 ص 84 باب الرزق من حيث لا يحتسب ح5.

الشَّاكِرِينَ.)(1)

ولذلك نفسه، لم يسلب الباري جل وعلا اختيار الإنسان فيما يتعلق بالهداية، فلم تكن هدايته تكوينية، رغم قدرته على ذلك (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَىٰ النَّاسَ جَمِيعاً)(2)

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(3)

وما ذلك إلا لأن تقبّل الهداية هي مسؤولية الإنسان الاختيارية.

الإشارة الثالثة: التلازم بين العلم اللدني والعصمة

وبهذا العلم أيضاً، أمكن لهذه أن تتوفر على الصواب (العصمة). كما تبين فيما تقدم حيث قلنا ما نصه: (فكلما زاد العلم –في أي تخصص من التخصصات- اقتربنا من الصواب، وكلما زاد العلم زادت القدرة وزادت الاستفادة من الواقع.).

الإشارة الرابعة: الحاجة إلى النص ضرورة في اكتشاف العلم اللدني

إن التعرف على هذه الفئة يتطلب التعرف على خصائصهم وأهمها العلم الخاص، وهو غير متاح لمن هو أدنى منهم، ومنه تنبثق مقولة الحاجة إلى (النص)، وهذا ما أشار له الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في رواية تقدمت

ص: 195


1- آل عمران 144.
2- الرعد 31.
3- يونس 99.

حيث قال: الإمام منا لا يكون إلا معصومًا، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيُعرف بها؛ ولذلك لا يكون إلا منصوصًا...(1)

الإِشارة الخامسة: التلازم بين العلم الخاص وبين الحكم والإدارة

حيث وُجد هذا العلم الخاص وترتبت عليه تلك الآثار (من وساطة في الفيض والتأثير في النفوس والعصمة...) حينها يصبح (الحكم والإدارة) وقيادة الدولة من أبسط حقوق هذه الفئة، وترشيح غيرهم لهذا المنصب لا معنى له منهجياً، فضلًا عن كونه مخالفًا لأمر السماء.

وبعبارة أكثر تفصيلًا:

تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات الإمامة العامة: أن الإمام لا بد أن يكون له علم خاص، وقد تقدمت البيانات الخاصة بذلك.

ونحن نعتقد أن أئمتنا (عليهم السلام) عندهم هذا العلم الخاص، فلا نقاش بين الفرقاء على علم أمير المؤمنين (عليه السلام) بل أعلميته، ويشهد بذلك –إضافة إلى ما تقدم: ما روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (أَعْلَمُكُمْ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَاْلِبٍ)(2) وكان (صلى الله عليه وآله) يقول: أَنَا مَدِيْنَةُ العِلْمِ وعَلِيٌّ بَاْبُهَا، وهل تُدخَلُ المدينةُ إلا من بابِها...(3)

ويقول (صلى الله عليه وآله): أقْضَاكم عَليٌّ.(4)

ص: 196


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 132 باب معنى عصمة الامام ح1.
2- الكافي للكليني ج7 ص424 باب النوادر ح6.
3- أمالي الصدوق ص 425/ ح560 / 1.
4- شرح الأخبار للقاضي المغربي ج1 ص 91.

يُضاف إليه اعتراف غيره بأعلميته عليه، فقد نُقل مشهورًا قول عمر (لولا عليٌّ لهلك عمر)(1)

هذا المتفق عليه كافٍ في أن يُدرك الإنسان بفلسفته ومنطقه وتجربته أن عليًا (عليه السلام) يستحق أن يكون على رأس الهرم بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)؛ لتمتُّعِه بتلك المواصفات العلمية التي افتقدها غيره، وأي شخص يسمع بما كان عند علي (عليه السلام) من علم لدني فإنه وبلا تردد يحكم بضرورة تقديمه.

هذا المتفق عليه يجعل من تقديم غيره -ممن هو أقل علمًا منه، فضلًا عمن إذا قيس به كان أميًا، ناهيك عن تقديم الفارغ من أي علم وعدم تمتُّعه بأي مؤهلات للتقديم، سوى امتلاكه للقوة المفرّغة من العلم- يجعل ذلك متضادًا ومتعارضًا مع كل المقاييس التكوينية والبشرية.

ويترتب على ذلك:

أولًا: أن الفلسفة البشرية ومنطقها وتطبيقها العملي يقضي من دون تردّد بتقديم الأعلم ليكون ممثلًا لمقام الإمامة، فإذا ما تدخلت السماء وصرّحت بتعيينه أيضًا، فإن هذا التعيين لا يلزم منه (مصادرة) الاختيار الإنساني، بل على العكس، هو يتماهى ويتماشى مع الفلسفة الإنسانية التي تمّ تطبيقها على واقع التجربة البشرية، فهو توثيق للاختيار الإنساني لا مصادرة له.

فهو يمثّل الإرشاد إلى الفطرة والعقل والمنطق، وليس تعبُّدًا محضًا.

ص: 197


1- دعائم الإسلام للقاضي المغربي ج1 ص 86.

وهذا لا يعني أن الخيرة في تنصيب الإمام للبشر، كلا، وإنما هي حصراً بيد الله تعالى كما تبين، ولكن الذي نريد بيانه هنا: أن هذا الاختيار الإلهي يتماهى مع ما بنت البشرية عليه أمرها من تقديمها الأعلم.

ثانيًا: بعد تسليم كون الملاك في التقديم حسب معايير الإنسان هو العلم، الكفاءة، الأفضلية، -كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات الإمامة العامة- فحين حصول خرق في هذا الملاك، حيث قُدِّم غير الأعلم، فإن منطق الأشياء والواقع يقتضي الاصطفاف مع الأعلم؛ لسببين:

1/سبب ديني أخروي، إذ إن تقديم الأعلم أمر إلهي، والاصطفاف إلى جانبه إرادة السماء، وقد رتبت على ذلك الثواب والنجاة.

2/سبب ديني دنيوي، فالإمامة، حلقة من مشروع متواصل الحلقات، يبدأ بأطروحة الدين من لدن آدم (عليه السلام) وينتهي بتطبيقه ومن الجميع، فالاصطفاف مع الإمامة يدخل في سياق إعادة الأمور إلى نصابها المنطقي، ولو طال الزمن.

وفي الواقع، فإن الدين هو مشروع (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَىٰ الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(1)،

مشروع: لأكلتم من فوق رؤوسكم..

ونبوءة الدين: أن نهاية المطاف أن يجد هذا المشروع فرصته الكاملة (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)(2)، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَدِينِ الْحَقِّ

ص: 198


1- الجن 16.
2- المجادلة 21.

لِيُظْهِرَهُ عَلَىٰ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(1).

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(2)

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(3).

الاصطفاف مع الأعلم يصبُّ في خطوات تحقيق هذا المشروع (أحيوا أمرنا)، فهو ليس مجرد اصطفاف مع فكرة، وتباكي على مقولة، بل يهدف إلى حفظ الحقيقة (ولو عن طريق إلقاء الحجة) في حدِّه الأدنى ولو في مجموعة، ويستمر إلى تحقّق الهدف ولو بعد حين. ضمن خطوات اختيارية متسلسلة.

الإشارة السادسة: أدلة أخرى على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده الطاهرين
اشارة

لا شك أن جميع المسلمين يعتقدون بخلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، والفرق أن شيعة أهل البيت (عليهم السلام) يعتقدون بالحق أنه الخليفة المباشر بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وغيرهم يعتبرونه الرابع، وهذا ليس خلافاً في الترقيم فقط، وإنما هو خلاف عقائدي قسّم الأمة الإسلامية إلى قسمين كبيرين، وتتالت الخلافات الأصولية والفرعية تبعًا لهذا الخلاف، وعلى كل حال، فما يُذكر من أدلة على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) هي أكثر من أن يُحصى هنا، ونذكر بعضًا قليلًا جدًا منها هنا –من غير ما تقدم:

ص: 199


1- التوبة 33.
2- القصص 5.
3- الأنبياء 105.
الدليل الأول: لزوم تقديم الأفضل

وهو يبتني على مقدمتين:

المقدمة الأولى: إن العقل يحكم بلزوم تقديم الأفضل على غيره ولو كان فاضلًا، خصوصًا في القضايا المصيرية، والتي يتوقف عليها مستقبل الإنسان، فكيف بأمر الآخرة.

المقدمة الثانية: لقد ثبت أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الأفضل على الإطلاق، وفي جميع المستويات الشخصية والإسلامية، علمًا وورعًا وتقوىً.

وهذه المقدمة متفق عليها، وتثبتها الأدلة النقلية الخاصة الدالة على عصمته وعلمه الخاص والنص عليه (عليه السلام)، وقد تقدمت النصوص الدالّة على ذلك، وستأتي نصوص على أفضليته بعد قليل إن شاء الله تعالى.

النتيجة: لا بد من تقديمه (عليه السلام) على غيره في مسألة الإمامة، لأنها مما يوقف عليه مصير الإنسان.

الدليل الثاني: احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل

لقد أثبت التاريخ أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان مستغنيًا عن الجميع فيما يتعلق بقضايا الإسلام المختلفة، وكان عنده من العلم ما يجعله قادرًا على الإجابة عن أي مسألة متعلقة بالإسلام، ولم نجد هذه الصفة في غيره من أهل الإسلام، أو ممن تسنّم منصب الخلافة بطريق غير طريق النص.

والشواهد على هذه المسألة أكثر من أن تُحصى، وسنذكر بعضها قريبًا إن

ص: 200

شاء الله تعالى.

الدليل الثالث: هو الأعلم بالقرآن الكريم

لا ريب في أن أهم وظيفة يقوم بها خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو تفسير القرآن الكريم وتوضيحه، والاستفادة منه في إعطاء الأحكام الشرعية، وردّ القضايا إليه، ولم يذكر التاريخ أحدًا كأمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده المعصومين في أداء هذا المعنى أبدًا، والشواهد كثيرة أيضًا، وستأتي بعضها إن شاء الله تعالى.

تنبيه:

إن النصوص التي تُثبت أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) وإجابته عما عجز عنه غيره هي أكثر من أن تُحصى في كتب القوم قبل كتبنا، ونذكر هنا بعضًا قليلًا من تلك النصوص:

1/فقد روي أن بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكر فقال: أنت خليفة نبي هذه الأمة؟ فقال له: نعم، فقال: فإنا نجد في التوراة أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فخبرني عن الله تعالى أين هو في السماء أم في الأرض؟ فقال له أبو بكر: في السماء على العرش. فقال اليهودي: فأرى الأرض خالية منه، وأراه على هذا القول في مكان دون مكان. فقال أبو بكر: هذا كلام الزنادقة، اغرب عني وإلا قتلتك. فولى الحِبرُ متعجبًا يستهزئ بالإسلام، فاستقبله أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: يا يهودي، قد عرفت ما سألتَ عنه، وما أُجبتَ به، وإنا نقول: إن الله جل وعز أيّنَ الأين فلا أين له، وجل عن أن يحويه مكان، وهو

ص: 201

في كل مكان بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علما بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره، وإني مخبرُك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدق ما ذكرته لك، فإن عرفته أتؤمن به؟ قال اليهودي: نعم، قال: ألستم تجدون في بعض كتبكم أن موسى بن عمران (عليه السلام) كان ذات يوم جالسًا إذ جاءه ملك من المشرق، فقال له موسى: من أين أقبلت؟ قال: من عند الله عز وجل، ثم جاءه ملك من المغرب فقال له: من أين جئت؟ قال: من عند الله، وجاءه ملك آخر، فقال: قد جئتك من السماء السابعة من عندا الله تعالى، وجاءه ملك آخر فقال: قد جئتك من الأرض السابعة السفلى من عند الله عز اسمه، فقال موسى عليه السلام: سبحان من لا يخلو منه مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان. فقال اليهودي: (أشهد أن هذا هو) الحق، وأنك أحق بمقام نبيك ممن استولى عليه.(1)

2/وروي أنَّه تزوَّج رجل امرأة من جهينة، فولدت له غلاماً لستَّة أشهر، فانطلق زوجها إلىٰ عثمان، فأمر برجمها، فبلغ ذلك عليّاً، فأتاه فقال: «ما تصنع؟»، قال: ولدت غلاماً لستَّة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال عليٌّ: «أمَا سمعت الله تعالىٰ يقول: ]وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً[(2)، وقال: ]وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ[(3)؟ فكم تجد بقي إلَّا ستَّة أشهر؟»، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، عليَّ بالمرأة، فوجدوها قد فُرِغَ

ص: 202


1- الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص 201 – 202 ومتشابه القرآن ومختلفة لابن شهر آشوب ج1 ص 70.
2- الأحقاف: 15.
3- البقرة: 233.

منها، وكان من قولها لأُختها: يا أُخيَّة، لا تحزني، فوَالله، ما كشف فرجي أحدٌ قطُّ غيرُه. قال: فشبَّ الغلام بعد فاعترف به الرجل، وكان أشبه الناس به...(1).

3/وقال إبراهيم التيمي: سئل أبو بكر الصديق... عن تفسير الفاكهة والأبّ فقال: أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.

وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب... قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبّ؟ ثم رفع عصًا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلّف، وما عليك يا بن أم عمر ألا تدري ما الأبّ؟ ثم قال: اتّبعوا ما بُيِّنَ لكم من هذا الكتاب، وما لا، فدعوه.(2)

في حين أن أمير المؤمنين (عليه السلام) فسّرها بطريقة تفسير القرآن بالقرآن، حيث روي أنه لمّا بلغ أمير المؤمنين (عليه السلام) مقالة أبي بكر في ذلك، فقال (عليه السلام): يا سبحان الله، أما علِم أن الأبَّ هو الكلأ والمرعى، وأن قوله عز اسمه: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) اعتداد من الله سبحانه بإنعامه على خلقه فيما غذاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تحيى به أنفسهم وتقوم به أجسادهم؟!(3)

إن فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحقيقة أكثر من أن تُحصى، وهي لوحدها

ص: 203


1- سبل الهدىٰ والرشاد للصالحي الشامي 11: 289.
2- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج19 ص 223.
3- الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص 200.

كافية –لمن كان عنده قلب أو ألقى السمع وهو شهيد- لاتباعه، بل لضرورة اتباعه وتقديمه على غيره...

أما لماذا تركوه إذا كانت هذه حاله؟

فهذا ما أجابتنا عنه بعض الروايات والكلمات:

1/فقد روي عن أبي زيد النحوي الأنصاري قال: سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت له: لم هجر الناس عليًا (عليه السلام) وقرباه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرباه، وموضعه من المسلمين موضعه، وعناه في الاسلام عناه؟ فقال: بهر واللهِ نورُه أنوراهم، وغلبهم على صفو كل منهل والناس إلى أشكالهم أمْيل...(1)

2/ وعن الحسن بن علي بن فضال عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن أمير المؤمنين (عليه السلام): كيف مال الناس عنه إلى غيره وقد عرفوا فضله وسابقته ومكانه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال (عليه السلام): إنما مالوا عنه إلى غيره لأنه كان قد قتل آباءهم وأجدادهم وأعمامهم وأخوالهم وأقرباءهم المحاربين لله ولرسوله عددًا كثيرًا، فكان حقدهم عليه لذلك في قلوبهم، فلم يحبوا أن يتولى عليهم، ولم يكن في قلوبهم على غيره مثل ذلك، لأنه لم يكن له في الجهاد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثل ما كان له فلذلك عدلوا عنه ومالوا إلى غيره.(2)

ص: 204


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج1 ص 145 باب 121 العلة التي من أجلها ترك الناس عليًا (عليه السلام) وعدلوا عنه إلى غيره مع معرفتهم بفضله ح1).
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج1 ص 146 باب 121 العلة التي من أجلها ترك الناس عليًا (عليه السلام) وعدلوا عنه إلى غيره مع معرفتهم بفضله ح3).

3/ وقال ابن عمر لعلي (عليه السلام): كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدرٍ وأُحُد من ساداتهم سبعين سيدًا تشرب أنوفهم الماء قبل شفاهم(1)....

4/وسئل زين العابدين (عليه السلام) وابن عباس أيضًا: لم أبغضت قريش عليًا؟ قال: لأنه أورد أولهم النار، وقلّد آخرهم العار. (2)

5/[وفي] معرفة الرجال عن الكشي أنه كانت عداوة أحمد بن حنبل لأمير المؤمنين (عليه السلام) ان جده ذا الثدية قتله أمير المؤمنين يوم النهروان. (3)

6/[وفي] كامل المبرد: أنه كان أصمغ بن مظهر جد الأصمعي قطع عليٌّ (عليه السلام) يده في السرقة، فكان الأصمعي يبغضه...(4)

ص: 205


1- قال العلامة المجلسي في بحاره ج29 ص 483: (بيان: شرب أنوفهم الماء قبل شفاههم.. كناية عن طول أنوفهم لبيان حسنهم، فإن العرب تمتدح بذلك، وقد روى نحوه في أوصاف النبي (صلى الله عليه وآله)، أو لبيان شرفهم وفخرهم فإنهما مما ينسب إلى الانف، والأول أظهر.)
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج3 ص 21 في سبب بغضهم له سلام الله عليه).
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج3 ص 21 في سبب بغضهم له سلام الله عليه).
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج3 ص 21 في سبب بغضهم له سلام الله عليه).

ص: 206

النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت (عليهم السلام) (الولاية التكوينية)

النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت (عليهم السلام) (الولاية التكوينية).(1)

أشرنا في مقدمات الإمامة العامة أن العلم كلما زاد، فإن القدرة تزداد طردًا معه، وبالتالي إذا وصل العلم إلى مرتبة كونه لدنيًا، فالقدرة أيضًا تصل إلى مرحلة كونها غير عادية، وتخرج عن الأطر العامة والمتعارفة للقدرة العادية للبشر، وهو ما يُسمى بالولاية التكوينية.

وحيث ثبت العلم اللدني لأهل البيت (عليهم السلام)، حينها يكون ثبوت الولاية التكوينية لهم أمرًا طبيعيًا، لأنها لازم للعلم اللدني.وبعبارة علمية يُقال:

تصف الأبحاث الكلامية أهل البيت (عليهم السلام) بأن لهم: (الولاية التكوينية) وأنهم (الواسطة في الفيض). ولمعرفة الحال في هذين المصطلحين، نذكّر بما يذكر في بحوث العلة في الفلسفة:

أولًا: أن الفاعل قسمان:

القسم الأول: الفاعل الإلهي، وهو الذي يُعطي الوجود لا من شيء، بل

ص: 207


1- سيأتي تفصيل الحديث حول الولاية التكوينية في آخر الجزء الرابع إن شاء الله تعالى/مبحث: الغلو: المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة (عليهم السلام).

هو إبداع، لا عن مثال سابق يُحتذى به.

القسم الثاني: الفاعل بالتدبير، أو قل: فاعل الحركة، والحركة وإن كانت وجودًا، إلاّ أن فاعلها هو فاعل تدبير أي يعطي الوجود عن شيء موجود.

ثانيًا: تقدم في بحث التوحيد: أن أسماء الله تعالى وصفاته وكمالاته على نحوين:

فمنها ما يمكن أن يتنزل ليتصف به الممكن، مع حفظ الفاصلة اللامتناهية بين المحدود واللا محدود، كما في العلم والقدرة، بل الوجود نفسه.

ومنها ما يكون مستأثرًا، بأن يكون مختصًا بالله تعالى، ولا يمكن لغيره أن يتصف به، كما في الاستقلالية بالذات، واللا تناهي، ووجوب الوجود. فكل ما عدا الله تعالى بدون استثناء فهو ليس مستقلًا بذاته، وهو محدود متناهٍ، وهو ممكن الوجود.

ثالثًا: هناك من يذهب إلى أن الفاعل الإلهي هو من الأسماء المستأثرة، فليس هناك من يُبدع الوجود لا عن مثال سابق إلا الله تعالى، وليس هناك (فاعل إلهي بالغير) أو (فاعل إلهي بإذن الله تعالى).

وهناك من يذهب إلى أن الفاعل الإلهي ليس كذلك، وأنه يمكن أن يكون هناك مبدع لا عن مثال سابق لكن بإذن الله تعالى وفي طوله وبحوله وقوّته.

أما الفاعل بالتدبير (الذي يفعل عن مثال سابق)، فقد اتفقوا على أنه ليس من الأسماء المستأثرة، كيف والقرآن يصرح بوجود فاعل غير الله تعالى

ص: 208

من هذا القبيل، قال تعالى (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)(1).

نعم، يبقى هذا الأمر بإذن الله تعالى وبحوله وقوته كما هو حال كل الممكنات والمواقع في عالم الإمكان وجودًا وصفة وأثرًا، حدوثًا وبقاءً.

إذا تبين هذا نقول:

إنه وفق فرضية أن الفاعل الإلهي من الأسماء المستأثرة، حينها ستكون الولاية التكوينية والواسطة في الفيض من نوع الفاعل بالتدبير.

ووفق فرضية أن الفاعل الإلهي يمكن أن يتنزّل لعالم الممكنات بإذن الله تعالى، حينها يمكن أن تكون الولاية التكوينية والواسطة في الفيض من نوع الفاعل الإلهي، كما يمكن أن تكون من نوع الفاعل بالتدبير، وكله بإذن الله تبارك وتعالى وحوله وقوّته.

فعلى كل حال، لا مانع عقليًا ولا نقليًا من أن يكون هناك فاعل في هذا الكون، يتصرف في قوانينه بما شاء، لكن بإذن الله تعالى وفي طوله.

والولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام) لا تخرج عن هذا المعنى، فهي إما من نوع الفاعل الإلهي (لمن يقبل أنه ليس من الأسماء المستأثرة لله تعالى) أو من نوع الفاعل بالتدبير، وهذا المعنى لا مانع منه كما تبين.

بل إن القرآن الكريم يُصرّح بثبوت هذا المعنى لغير أهل البيت (عليهم السلام)، كما في قوله تعالى على لسان النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام)

ص: 209


1- النازعات 5.

(وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(1)

وقد دلّت بعض الروايات الشريفة على أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا على هذا القدر من الفاعلية والولاية التكوينية التي هي في طول ولاية الله تعالى وبإذنه.

فعن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنت عنده فذكروا سليمان وما أُعطي من العلم وما أوتي من الملك، فقال لي: وما أُعطي سليمان بن داود! إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وصاحبكم الذي قال الله (قُلْ كَفَى باللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)(2)

وكان –واللهِ- عند علي (عليه السلام) علم الكتاب. فقلت: صدقت والله، جعلت فداك.(3)

وعن عبد الرحمن بن كثير الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)(4)؟ قال: ففرج أبو عبد الله (عليه السلام) بين أصابعه فوضعها على صدره، ثم قال: والله عندنا علم

ص: 210


1- (49) من سورة آل عمران.
2- الرعد 43.
3- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 232 – 233 باب مما عند الأئمة عليهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الكتاب ح1.
4- النمل 40.

الكتاب كله.(1)

وعن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخى عليه ستره؟ فقال: يا مفضل، إن الله تبارك وتعالى جعل للنبي (صلى الله عليه وآله) خمسة أرواح: روح الحياة، فبه دب ودرج، وروح القوة، فبه نهض وجاهد، وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال، وروح الإيمان، فبه أمر وعدل، وروح القدس، فبه حمل النبوة، فإذا قبض النبي (صلى الله عليه وآله) انتقل روح القدس فصار في الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو، والأربعة الأرواح تنام وتلهو وتغفل وتسهو، وروح القدس ثابت، يرى به ما في شرق الأرض وغربها وبرها وبحرها. قلت: جعلتُ فداك، يتناول الإمام ما ببغداد بيده؟ قال: نعم، وما دون العرش.(2)

وعن سماعة بن مهران قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الدنيا لتمثَّل للإمام في مثل فلقة الجوز، فلا يعزب عنه منها شيء، وإنه ليتناولها من أطرافها كما يتناول أحدكم من فوق مائدته ما يشاء.(3)

وعن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الأوصياء لتُطوى لهم

ص: 211


1- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 232 – 233 باب مما عند الأئمة عليهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الكتاب ح2.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 474 باب (14) باب ما جعل الله تعالى في الأنبياء والأوصياء والمؤمنين وساير الناس من الأرواح وأنه فضل الأنبياء والأئمة من آل محمد بروح القدس وذكر الأرواح الخمس ح13.
3- الاختصاص للشيخ المفيد ص 217.

الأرض، ويعلمون ما عند أصحابهم.(1)

إن الروايات التي ذكرت القدرات الغيبية التي كانت عند الأئمة (عليهم السلام) كثيرة جدًا، وهي بمجموعها تورث الاطمئنان بوقوعها لهم (عليهم السلام)، فلا مناص من القول بقدرتهم الغيبية تلك، أو بولايتهم التكوينية بالمعنى الذي تبين.

ص: 212


1- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 418 باب (12) باب ما أعطى الأئمة من القدرة ان يسيروا في الأرض/ ح5.
النقطة الخامسة: الإمامة والسياسة (أو الحاكمية)
اشارة

النقطة الخامسة: الإمامة والسياسة (أو الحاكمية)(1)

وهنا خطوات:

الخطوة الأولى: القدرة الملكوتية للإمام لا تسلب اختيار الإنسان

تبين أن الإمامة تعني قدرة ملكوتية ذات بعد غيبي(2)

تقود النفوس إلى الخير والكمال، وهو ما يُعبّر عنه (بالهداية الإيصالية)، وهذه القدرة لا تسلب اختيار الإنسان، وإلا لأصبح كل الناس معصومين عن الخطأ...

وهذا الاختيار الذي بقي متاحاً للإنسان يعيش في وسط متصارع بين قوى متضادة تتجاذب فيما بينها لتجعل الاختيار في صفِّ إحداها، وبالتالي فهذا التجاذب القوي سيترك أثره على الاختيار، وينعكس ليكون ظاهرة اجتماعية في الخارج، فالغضب مثلاً قد يتصاعد ليصبح قائد الدفة ويتغلب

ص: 213


1- المقصود من الحاكمية هو استلام رأس السلطة في الدولة سياسياً وإدارياً.
2- في بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 149 عن معاوية بن وهب قال استأذنت على أبي عبد الله (عليه السلام) فأذن لي فسمعته يقول في كلام له: يا من خصنا بالوصية وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوى إلينا، وجعلنا ورثة الأنبياء. فهذه الرواية تشير إلى بعض معاني تلك السيطرة والهيمنة على النفوس (وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا).

على بقية القوى بل ويؤثر على الاختيار أيضاً، حتى يصل في بعض مراتبه إلى أن يوصف الغاضب بأنه (مسلوب الإرادة أو العقل)(1)...

وهذا يعني لا بدية توفر قوتين في المستويين النظري والعملي تتعاونان ويكمّل بعضهما الآخر في سبيل إرجاع الاختيار إلى حالة التوازن والتعادل... وتكون مهمتهما تركيز عمل القوى المتضادة وتقييدها من الانفلات واللا أبالية...

أما القوة النظرية فتمثلها الشريعة، فالتشريع ليس تقييداً للاختيار، وإنما هو يوجد منظومة نظرية توفّر حالة التعادل والحيادية للاختيار، وتقضي على كل مناشئ الخلل في الاختيار الإنساني.

أما القوة العملية فيمثلها الحاكم، فالتشريع ينظر إلى الحاكم على أنه قوة تنفيذية وقدرة عملية تجري وتطبق نظرية العدالة الاجتماعية لتنتج حيادية الاختيار على المستويين النظري والعملي.

من هنا نفهم أن مهمة التشريع والحاكم ليست مصادرة الاختيار، وإنما جعله محايداً، إذ كما أن مصادرة الاختيار (الجبر) قبيح، كذلك التفويض المطلق له قبيح، فلا بد من التعادل الذي يوفّره التشريع والحاكم.

الخطوة الثانية: الإمام هو المحقِّق للعدالة

إن الإمام من خلال منظور الدين يمثل القوة التي تعمل على توفير

ص: 214


1- من هنا نجد الفقه لا يرتب أي أثر على أقوال الغاضب إذا وصل إلى هذه المرحلة...

العدالة الاجتماعية والعدالة على مستوى قوى الإنسان، فمن اللائق إذن والمناسب أن يقوم بهذه المهمة شخص معصوم، لأنه صاحب تلك القدرة الملكوتية الغيبية، وهو يمثل العقل العملي المنفصل للأمة (أي الحاكم)، الذي باتحاده مع العقل النظري المنفصل للأمة (أي الشريعة) تصل الأمة -كل الأمة- إلى مستوى عالٍ من الرشد والعدالة...

ومنه يتبين أن حق الحاكمية السياسية وامتلاك السلطة المادية للإمام هو حق طبيعي ومنطقي ولا يحتاج إلى كثير عناء في الاستدلال عليه...

الخطوة الثالثة: ضرورة الخبرة والنزاهة في شخص الحاكم

إن العالم اليوم يؤكد على مسألتي الخبرة والنزاهة في شخص الحاكم، ولكن الإسلام أسّس لأرقى من هذا منذ مئات السنين، فهو يؤسّس إلى أن يكون الحاكم الأول معصوماً، وعلمه يوفّر الكفاءة في أعلى مستوياتها، وعصمته تمنعه من الخيانة وتوفّر أعظم نزاهة متصورة...

إلا أن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت انحرفت – باختيارها – عن الإمام الحق، وسلّطت على رقابها أشخاصاً بعيدين كل البعد عن منصب الحاكمية وخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتسموا باسم خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله) ثم بخلفاء الله تعالى وظلِّه، إلى أن صرحوا بأن المسألة مسألة (ملك) لا خلافة رسالة، وما دامت ملكاً فهي تتوارث... والتاريخ حفظ لنا وثائق مهمة تؤكد ذلك...

فهذا مروان بن الحكم يخاطب معاوية بقوله: فأقم الأمر يا بن سفيان

ص: 215

واهدئ من تأميرك الصبيان.(1)، ولا يُخاطبه بأمير المؤمنين.

روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضاً...(2)

قال ابن كثير: وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الاسلام...(3)

ودخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فقال السلام عليك أيها الملك. فقال معاوية: فهلا غير ذلك أنتم المؤمنون وأنا أميركم. فقال سعد، نعم إنْ كُنّا أمّرناك.(4)

ودخل إليه سعد بن مالك فقال: السلام عليك أيها الملك. فغضب معاوية فقال: ألا قلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك إنْ كُنّا أمرناك، إنما أنت مُنْتزٍ.(5)

وتكلّم صعصعة مع معاوية فقال: تكلمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت ولم تقصر عما أردت، و ليس الأمر على ما ذكرت، أنى يكون الخليفة مَن مَلَكَ الناس قهرًا، ودانهم كبرًا، و استولى بأسباب الباطل كذبًا ومكرًا! أما والله ما

ص: 216


1- الامامة والسياسة - ابن قتيبة الدينوري، تحقيق الشيري - ج 1 - ص 198 – 199.
2- تفسير ابن كثير - ابن كثير - ج 3 - ص 312.
3- البداية والنهاية - ابن كثير - ج 8 - ص 21.
4- تاريخ مدينة دمشق - ابن عساكر - ج 17 - ص 324.
5- تاريخ اليعقوبي - اليعقوبي - ج 2 - ص 217.

لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى، وما كنت فيه إلا كما قال القائل: «لا حُلَّي ولا سيري » ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلَبَ على رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنَّى تصلح الخلافة لطليق...(1)

الخطوة الرابعة: بناء المجتمع الشيعي
اشارة

بعد أن عزلت الأمة أهل البيت (عليهم السلام) عن تسلم الحاكمية، وعن ممارسة السلطة، فهل اقتصر دور الأئمة (عليهم السلام) ونشاطهم على المستوى الفردي، بأن يقوموا بهداية الأفراد الذين يأتونهم ويطلبون منهم الهداية، أو أن نشاطهم اقتصر على البعد المعنوي للإسلام ومحاولة وقايته من الانحراف من خلال شخصياتهم القدوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

المتتبع لسيرتهم (عليهم السلام) يجد أنهم (عليهم السلام) قاموا بكلا الدورين والنشاطين، فقد ارتبطوا بالأفراد، وركزوا على المعنى الإسلامي الأصيل، في قبال الدولة الحاكمة آنذاك التي كانت تهتم بالقشور والشعارات المفرغة من المحتوى... ولكن لم يقتصر دورهم على ذلك، بل عمل أهل البيت (عليهم السلام) على بناء (مجتمع شيعي) في ضمن المجتمع الإسلامي العام، والذي أخذ بالاستقلال تدريجياً عن دولة الحكم، وتوحّد ضدّ الانقسامات التي تحصل في المذاهب الأخرى، ليكون لحمة واحدة لها استقلالها ووحدتها...(2)

ص: 217


1- مروج الذهب ومعان الجوهر للمسعودي ج3 ص 41.
2- وهذا ما تكشف عنه بعض التصريحات، كتصريح علي بن إسماعيل لهارون العباسي (يا أمير المؤمنين، خليفتان في الأرض موسى بن جعفر بالمدينة يجبى له الخراج وأنت بالعراق يجبى لك الخراج! فقال: والله!؟ فقال: والله...) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 541 وبحار الأنوار - ج 48 - ص 239 – 240.

هذا وقد اعتمد أهل البيت (عليهم السلام) عدة أمور في سبيل بناء ذلك المجتمع، نذكرها إجمالاً:

الأمر الأول: التركيز على شرعيتهم (عليهم السلام)

شرعيتهم (عليهم السلام) وكون الحق معهم، يدور حيثما داروا، وقد ركز أهل البيت (عليهم السلام) هذه الشرعية في نفوس المجتمع، مما لعب دوراً عظيماً في تشكيل جماعة أهل البيت (عليهم السلام)، ولو على مستوى حقوقها الطبيعية والإنسانية، وحيث اعتقد أتباعهم بهذه الشرعية وتيقنوها، فقد قبلوا أي شيء في سبيل الثبات على مبادئهم، فقبلوا الابتعاد عن السلطة بل ومعارضتها، وما يترتب عليها من التشريد والسجون...

بل حتى أعدائهم قبلوا هذه الشرعية، ولكنهم لم يلتزموا عملياً بما اعتقدوا به، على طريقة (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(1).

فالإمام الكاظم (عليه السلام) يدخل على هارون ويكرمه هارون، يقول المأمون: فلما خلا المجلس قلت: يا أمير... ومن هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟ قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده. فقلت: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات

ص: 218


1- النمل 14.

كلها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني أنه لأحق بمقام رسول الله مني ومن الخلق جميعا، ووالله لو نازعتني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، لأن الملك عقيم. (1)

الأمر الثاني: نشر مظلوميتهم (عليهم السلام)

مظلوميتهم (عليهم السلام)، التي عبر عنها الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) حيث روي أنَّه قال في مرضه الذي توفّي فيه: «... والله إنَّه لعهد عهده إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنَّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد عليٍّ (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام)، ما منّا إلَّا مسموم أو مقتول...»(2).

وتتقدم مظلوميتَهم (عليهم السلام) مظلوميةُ الزهراء (عليها السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) التي ركز عليها أهل البيت (عليهم السلام) ودعوا إلى تذاكرها في كثير من الروايات...

وقد استجاب أتباعهم لهذه الدعوة بإقامة الشعائر التي تحولت اليوم إلى عرف وتقليد يعيش عليه الملايين، والذي لا يمكن إزالته من وجودهم...

الأمر الثالث: بروزهم كقدوات استثنائية

القدوة الحسنة المتمثلة بشخصياتهم (عليهم السلام) الرفيعة، ابتداءً بالإخلاص في علاقتهم مع الله تعالى، مروراً بالتضحية من أجل المبدأ، وإنكار الذات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقدوتهم تميزت بأن شخصياتهم

ص: 219


1- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 166.
2- كفاية الأثر للخزّاز القمّي: 226 و227.

تعالت عن النقد، وسلوكهم ما كان يقبل التشكيك والتأويل، وكان خالياً من اللبس، من هنا كانت شخصياتهم تبرز على الساحة الإسلامية بصورة واسعة وخطيرة على دولة الخلافة...

من هنا نجد أن الحكام والسلاطين عملوا على إماتة هذه الشخصيات في نفوس الناس، فوظفت كل أجهزتها الإعلامية في سبيل ذلك.

ولقد كان أعداء أهل البيت (عليهم السلام) يحاولون تقنص المثالب على أهل البيت (عليهم السلام)، ولكنهم لم يجدوا منفذا لذلك، إلا قول عمر عن علي(عليه السلام): لله أبوك لولا دعابة فيك. (1)

ومرة قال معاوية لعقيل: إن فيكم يا بني هاشم للينا. قال: أجل إن فينا للينا من غير ضعف، وعزا من غير عنف، وإن لينكم يا معاوية غدر، وسلمكم كفر.(2)

ولكن شهرتهم وقدسيتهم كان أرقى وأعظم من هذه الأجهزة، ولذلك اعترف بها القاصي والداني، فقد حكي عن محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب الشافعي، أنه قال في جواب من سأله عن علي - عليه السلام -: ما أقول في حق من أخفت أولياؤه فضائله خوفا، وأخفت أعداؤه فضائله حسدا؟، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين... وقال نافع بن الزرق لعبد الله بن عمر: إني أبغض عليًا، فقال له: أبغضك الله، أتبغض رجلًا سابقة من سوابقه خيرٌ من

ص: 220


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج1 ص 25.
2- بحار الأنوار - ج 34 - ص 292.

الدنيا وما فيها.(1)

فعمدت السلطات بعد يأسها إلى محاولة النيل منهم، فعمدت إلى سبهم (عليهم السلام) على المنابر لعشرات السنوات، ومع ذلك فقد باءت محاولاتهم بالفشل الذريع، ولم يحصدوا من سبهم لأهل البيت (عليهم السلام) إلا لعنة التاريخ...

الأمر الرابع: العناية بشيعتهم (عليهم السلام) تربوياً واجتماعياً

العناية الكبيرة بشيعتهم، تربوياً واجتماعياً، بتجذير الخلق الرفيع، بحيث يبرز على سلوكهم...

فعَنِ ابْنِ رِئَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّا لَا نَعُدُّ الرَّجُلَ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ لِجَمِيعِ أَمْرِنَا مُتَّبِعاً مُرِيداً، أَلَا وإِنَّ مِنِ اتِّبَاعِ أَمْرِنَا وإِرَادَتِه الْوَرَعَ، فَتَزَيَّنُوا بِه يَرْحَمْكُمُ الله وكَبِّدُوا أَعْدَاءَنَا بِه يَنْعَشْكُمُ الله.(2)

عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ، لِيَرَوْا مِنْكُمُ الْوَرَعَ والِاجْتِهَادَ والصَّلَاةَ والْخَيْرَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاعِيَةٌ.(3)

الأمر الخامس: العناية بشيعتهم (عليهم السلام) فكرياً وثقافياً

العناية المكثفة بشيعتهم ثقافياً وتعليمياً، بحيث أوصلوهم إلى مستوى الاستقلال عن المؤسسة التعليمية الرسمية التابعة للحاكم، وكان ذلك عبر تأكيدهم (عليهم السلام) على مبادئ التعلم الصحيحة، وركّزوا على قضايا، منها:

ص: 221


1- حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني ج2 ص 136.
2- الكافي للكليني ج2 ص 78 بَابُ الْوَرَعِ ح13.
3- الكافي للكليني ج2 ص 78 بَابُ الْوَرَعِ ح14.

أ/ التعلم والتعليم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): أُطلُبُوا العِلمَ ولَو بِخَوضِ اللُّجَجِ وشَقِّ المُهَجِ.(1)

ب/حفظ العلم وكتابته وبثِّه، فعن الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): اكْتُبْ وَبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لَا يَأْنَسُونَ فِيهِ إِلَّا بِكُتُبِهِمْ.(2)

وقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا. (3)

وقال (عليه السلام): اكْتُبُوا فَإِنَّكُمْ لَا تَحْفَظُونَ حَتَّى تَكْتُبُوا.(4)

ج: الافتاء: فقد قال الإمام الباقر (عليه السلام) لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أُحِبُّ أن يُرىٰ في شيعتي مثلك»(5).

وعن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بلغني أنَّك تقعد في الجامع فتُفتي الناس؟»، قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون. ويجيء الرجل أعرفه بمودَّتكم وحبِّكم، فأُخبره بما جاء عنكم. ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأُدخل قولكم فيما بين ذلك.

ص: 222


1- بحار الأنوار ج75 ص 277.
2- الكافي للكليني ج1 ص 52 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح11.
3- الكافي للكليني ج1 ص 52 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح10.
4- الكافي للكليني ج1 ص 52 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح9.
5- رجال النجاشي: 10/ الرقم 7.

فقال لي: «اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع»(1).

وعن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلَّا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمّد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي. ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا. هؤلاء حفّاظ الدين وأُمناء أبي علىٰ حلال الله وحرامه...»(2).

الأمر السادس: الاستقلال المالي والاقتصادي

الاستقلال المالي والاقتصادي، والدعوة إلى العمل الحر في الحركة الدينية والسياسية والاجتماعية، ومن الواضح أن الاستقلال المالي ينتج الاستقلال في القرار، فإنّ من ملَك المال ملَك القرار، وكان ذلك عبر الخمس والزكاة وتنمية حسّ التكافل الاجتماعي، فعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظُهم لها عند عدوِّنا، وإلىٰ أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(3).

فمن خلال هذه الأمور خلق أهل البيت (عليهم السلام) المجتمع الشيعي، وبلوروا حالة الانتماء من شيعتهم لهم بشكل لا يصدق، رغم اضطهادهم من أجل حبهم (عليهم السلام)، وقصص صلابة الشيعة كثيرة وشاهد صدق على ذلك، وما

ص: 223


1- اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 522 - 524/ الرقم 704.
2- اختيار معرفة الرجال للطوسي 1: 348/ الرقم 219.
3- الخصال للشيخ الصدوق (ص 103/ ح 62).

قصص أصحاب الحسين (عليه السلام)، وحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وميثم التمار، وقنبر، وابن السكيت، ودعبل الخزاعي –وغيرهم كثير- عنك ببعيد...

ص: 224

النقطة السادسة: الإمام المهدي (عليه السلام)
اشارة

نتعرض في هذه النقطة إلى عدة جهات:

الجهة الأولى: معلومات إجمالية

1/إن فكرة (المهدي) و (المنقذ) (1) و (المخلِّص)(2)

ليست فكرة مذهبية شيعية، وإنما هي فكرة إسلامية بل آمنت بها جميع الأديان السماوية بل وعموم الإنسانية، حيث تحكي هذه الفكرة عن أن فطرة الإنسان وتوجهاته الداخلية

ص: 225


1- اصطلاح يُشار به إلى المهدي في آخر الزمان، وقد ورد استعماله في كتب المسيحيين، من قبيل ما ورد في الكتاب المقدس الصادر عن مجمع الكنائس الشرقية ص 494: (من صهيون يأتي المنقذ ويصرف كل كفر عن يعقوب). وجاء في كتاب: مقارنة الأديان للدكتور أحمد الشلبي: ولا يستبعد أن يكون Messiah = مسيا = المسيح ) يمثل المنقذ الذي هتف به اليهود كلما ألمّت بهم النوائب، وطالما ألمت بهم هذه النوائب.
2- اصطلاح يُشار به إلى الرجل الذي سيصلح الله تعالى الأرض على يديه ويخلصها من الظلم والطغيان، وقد استعمل في بعض كتب اليهود والنصارى، من قبيل ما ورد في كتاب: (التوراة والإنجيل) ص 1175: حقا أنت هو إله يحجب نفسه، إله إسرائيل المخلص. وفي الكتاب المقدس الصادر عن مجمع الكنائس الشرقية ص 615: أما نحن فموطننا في السماوات، ومنها ننتظر مجيء المخلص الرب يسوع المسيح... [ النصائح الأخيرة ] أناشد أفودية وأناشد صنطيخة أن تكونا على اتفاق في الرب، وأسألك أنت أيضا، أيها الصاحب المخلص، أن تساعدهما لأنهما جاهدتا معي في سبيل البشارة...

تأبى أن تستمر الأرض بالظلم والجور من دون أن تكون هناك فرصة كافية لقيام العدل والقسط، ولذلك بشّر بالمدينة الفاضلة حتى أفلاطون، وتنبأ بها حتى الفلاسفة الغربيون، ممن نظروا إلى الواقع بعين ثاقبة.

ناهيك عن أن الديانات الوضعية –فضلًا عن السماوية- قد صرّحت بضرورة هذه الحقيقة، وتراث كل دين يشهد على ذلك.

نعم، الفكرة تمّ تأصيلها أكثر في الإسلام، وتم الاهتمام بها والدفاع عنها ونشرها ومتابعة كل شاردة وواردة منها في المذهب الشيعي، إذ يفترض الشيعة –كما هو الحق- أن المهدي الحق هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين نصّ عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله).

2/ لا خلاف بين المسلمين في كون المهدي رجلًا يحكم الأرض بدين الله تعالى الذي ارتضاه، وهو الإسلام، ولا خلاف في كونه ينتسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خلال ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، نعم اختلفوا بعد ذلك في أنه من ولد الحسن أو الحسين (عليهما السلام)، واختلفوا في بعض التفاصيل الأخرى، من قبيل بعض علامات الظهور وولادته وغيبته وما شابه.

المهم أن هناك اتفاقًا على ضرورة المهدي في الإسلام، وما خالف فيه إلا من جَانَبَ الحقيقة وخالف المتفق عليه بين المسلمين وعلمائهم ومحدّثيهم، كابن خلدون ومن لفّ لفيفه.

إن كلمات علماء العامة واضحة في تواتر قضية المهدي من ذرية

ص: 226

الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقد قال ((محمد بن رسول الحسيني البرزنجي - توفي 1103 ه، في كتابه الإشاعة في أشراط الساعة: الباب الثالث في الأشراط العظام والأمارات القريبة التي تعقبها الساعة، وهي أيضا كثيرة فمنها: المهدي وهو أولها، واعلم أن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها لا تكاد تنحصر.

وقال أيضا: قد علمت أن أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان وأنه من عترة رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم من ولد فاطمة بلغت حد التواتر المعنوي فلا معنى لإنكارها..

وقال أيضا: وغاية ما ثبت بالأخبار الصحيحة الكثيرة الشهيرة التي بلغت حد التواتر المعنوي وجود الآيات العظام التي منها بل أولها خروج المهدي وأنه يأتي في آخر الزمان من ولد فاطمة يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلماً.

ومن العلماء الذين نصوا على تواتر أحاديث المهدي الشيخ محمد السفاريني فقد قال في كتابه لوائح الأنوار البهية: والصواب الذي عليه أهل الحق أن المهدي غير عيسى وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه السلام وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم...

... ومنهم النواب صديق حسن خان القنوجي فقال في كتابه: (الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة): الأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدا تبلغ حد التواتر المعنوي وهي في السنن وغيرها من

ص: 227

دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد.

وقال أيضًا: لا شك في أن المهدي يخرج في آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام لما تواتر من الاخبار في الباب واتفق عليه جمهور الأمة سلفا عن خلف إلا من لا يعتد بخلافة.

وقال أيضًا في معرض رده علي ابن خلدون: فلا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود المنتظر المدلول عليه بالأدلة بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة حد التواتر))(1)

3/إن مما يثبت ولادة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) أدلة عديدة، ونذكر من ذلك:

أولًا: الروايات المصرحة باسمه (عجل الله تعالى فرجه).

ثانيًا: حديث الثقلين المتفق عليه، حيث إنه نصّ على عدم افتراق العترة عن القرآن، وحيث إن القرآن موجود، والعترة منحصرة باثني عشر إمامًا بنص حديث (الأئمة من قريش) المتقدم، وكان الحادي عشر منهم هو الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، إذن، لا بد من وجود ولدٍ له يكون هو عِدل القرآن، والمصدّق لحديث الثقلين، وإلا للزم إما كذب النبي (صلى الله عليه وآله)، وحاشى له أن يوصف بذلك، أو يلزم كذب وهدم صدور حديث الثقلين، وهو حديث متواتر لا يُكذَّب.

وفي الوقت الذي يُثبت حديثُ الثقلين وجود حجة مع القرآن، وأن

ص: 228


1- المهدي المنتظر (عليه السلام) في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة- دكتر عبد العليم عبد العظيم البستوي ص 43 – 45.

النصوص صرحت بأن الحجج بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم اثنا عشر –وقد تقدمت-، وأن المهدي هو ثاني عشرهم، مما يدل على ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) ووجوده إلى اليوم، فالحديث إذن يُثبت غيبته أيضاً.

ودلالات حديث الثقلين أكثر من هذا بكثير، نكتفي بهذا القدر –مما هو محل الشاهد هنا- رعاية للاختصار.

ثالثًا: اعتراف الكثير من علماء العامة بولادته (عليه السلام)، ومنهم –على سبيل المثال لا الحصر-

1/ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة في ترجمة الإمام العسكري (عليه السلام): قال: (ولم يُخلّف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة، ويسمى القائم المنتظر.)(1)

2/ابن خلكان في وفيات الأعيان: قال في ترجمة الإمام العسكري (عليه السلام) ما نصّه: (أبو محمّد الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن الرضا بن جعفر الصادق ابن محمّد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم)، أحد الأئمّة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية، وهو والد المنتظر صاحب السرداب ويعرف بالعسكري، وأبوه علي يعرف أيضاً بهذه النسبة).(2)

3/ ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة، قال: وروى ابن الخشّاب في

ص: 229


1- الصواعق المحرقة لأحمد بن حجر الهيثمي المكي ص 208.
2- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان ج2 ص 94.

كتابه مواليد أهل البيت يرفعه بسنده إلى عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال: الخلف الصالح من ولد أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري، وهو صاحب الزمان القائم وهو المهدي...

... ولد أبو القاسم محمّد بن الحجة بن الحسن الخالص بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة، وأمّا نسبه أباً واُمّاً فهو: أبو القاسم محمّد بن الحجة بن الحسن الخالص ابن علي الهادي بن محمّد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهم أجمعين).

وأمّا اُمّه فاُمّ ولد يقال لها نرجس خير أمَة، وقيل اسمها غير ذلك. وأما كنيته فأبو القاسم، وأمّا لقبه فالحجة والمهدي والخلف الصالح والقائم المنتظر وصاحب الزمان، وأشهرها المهدي.(1)

الجهة الثانية: الانتظار بين الفعل وردّ الفعل
اشارة

إن من أهم ما يعتقد به الشيعة الاثنا عشرية هو أن الإمام المهدي (عليه السلام) غائب اليوم، وسيظهر في موعد لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وأن من وظيفة الشيعة في فترة غيبته هو انتظاره، ليس بمعنى الركود والسكون وعدم التدخل في الأمور العامة للحياة، وإنما بمعنى التهيؤ والاستعداد لظهوره (عليه السلام) في أي لحظة، حيث جاءت التوصيات من المعصومين (عليهم السلام) بذلك، فالإمام

ص: 230


1- الفصول المهمة في معرفة الأئمة لابن الصباغ المالكي ص 1102 – 1104.

الصادق (عليه السلام) يقول: (فَتَوَقَّعُوا الْفَرَجَ صَبَاحاً ومَسَاءً)(1)، وهذا ما يقتضي من المؤمن أن يتسلح بالعقيدة الثابتة المستدلة، ويمتثل التكاليف الشرعية، ويتحلى بالأخلاق الفاضلة، إذ لا نتصور أن المقصود من التوقع هو الخالي من العمل، بحيث يكون التوقع بمعنى السكون والركود، بل إنه يستلزم العمل وفق مقتضيات الإسلام، ليكون التوقع للظهور على نحو إيجابي.

المهم هنا أن نعرف: ما هو دورنا فيما يتعلق بالانتظار؟ أو أصلًا هل لنا دور في القضية المهدوية او لا دور لنا أصلًا؟

حتى نعرف الجواب نذكر بالحقائق التالية:

الحقيقة الأولى

أن الأفعال تنقسم إلى اختيارية وغير اختيارية. وأن الثواب والعقاب إنما يكون على الاختيارية منها.

الحقيقة الثانية

أنه لا يوجد اختيار بالمطلق –كما تبين أكثر من مرة-، وإنما الاختيار هو واحد من العوامل التي يصدر عنها الفعل، ولكنه يُغير من هوية الفعل من كونه جبريًا إلى كونه تحت الاختيار.

إذن فالإنسان مختار، فيمكنه أن يفعل أو لا يفعل لأنه توفّر على صفة الاختيار والإرادة. وهذا إنما يكون في

ص: 231


1- الكافي للكليني ج1 ص 333 بَابٌ نَادِرٌ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ ح1.

الأفعال التي هي تحت اختياره، أي في الأفعال التي أتيح لاختياره أن يكون أحد العوامل في صدورها، وهو تطبيق لقاعدة أنه لا يوجد اختيار بالمطلق، فالإنسان ليس مختارًا في كل أفعاله، وأوضح مثال على ذلك عمل أعضائه الداخلية، إنما هو مختار في بعض الأفعال، وتلك الأفعال هي التي كانت تحدد مصيره الأخروي، حيث ترتب عليها الثواب والعقاب، وبالتالي الجنة أو النار.

الحقيقة الثالثة

أن الله تعالى ما زال قادرًا على تغيير مجريات الحياة، فهو تعالى لم تُغلّ يدُه كما قالت اليهود والمعتزلة، ولا شيء يمكنه أن يجبره على فعل ما، فهو تعالى القادر القاهر الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وهذا ما تم بيانه في عنوان (البداء).

الحقيقة الرابعة

لا شك أن الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) هي لله تعالى، وهذا يعني أمرين:

الأول: أن الظهور نفسه هو فعل غير اختياري للإنسان، بمعنى أن اللمسة الأخيرة إنما تكون بيد الله تعالى، وهو مفاد ما روي عنه (عجل الله تعالى فرجه)، حيث روي عن أبي محمد الحسن بن أحمد المكتب قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ علي بن محمد السمري (قدس الله روحه) فحضرته قبل وفاته بأيام فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن

ص: 232

محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلّا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ) وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.(1)

الثاني: أن الوقت المحدد للظهور، وساعة الصفر له، قد أُخفيت عنا، وهي خارج حدود قدراتنا، كما دلت عليه الروايات الكثيرة، ومنها ما عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: جُعلت فداك، متىٰ خروج القائم (عليه السلام)؟ فقال: «يا أبا محمّد، إنّا أهل بيت لا نُوقِّت، وقد قال محمّد (صلى الله عليه وآله): كذب الوقّاتون...»(2)

ويترتب على هذا:

1/أننا غير مكلّفين بالبحث عنها.

2/ تكذيب من يدّعي علمه التفصيلي بها.

وهذا ما أكّدته الروايات الكثيرة الواردة في النهي عن التوقيت. ومنها ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): يا محمد، من أخبرك عنّا توقيتاً فلا تهابنَّ أن

ص: 233


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص516، ب45، ح44
2- الغيبة للنعماني: 301/ باب 26/ ح 6.

تكذِّبه، فإنّا لا نوقِّت لأحدٍ وقتاً.(1)

وهذا يعني: أن البحث عن دور المنتظرين فيما يتعلق بالظهور إنما هو بمعنى إمكان العمل على توفير المقتضيات والأسباب التي تؤدي إلى توفير الحكمة من تعجيل الله تعالى للظهور وتقديمه عن وقته أو عدم إمكان ذلك.

نظريتان في دور المنتظرين
اشارة

ومن هنا، قد يُقال بوجود نظريتين فيما يتعلق بدور المؤمنين في عملية الظهور، ويمكن عرضهما بالتالي:

النظرية الأولى

أن الظهور وما يتعلق به منحصر بالله تعالى، ولا يوجد أي دور لا من بعيد ولا من قريب للمؤمنين في ذلك، وقد يُؤيد هذا بما دلّ على انحصار الظهور بالإذن الإلهي كما تقدم قبل قليل.

فالظهور إذن فعل خارج عن إرادة الإنسان في جميع مفاصله، ولا دخل لإرادة الإنسان في أي خطوة من خطواته، بل هو فعل خالص لله تعالى.

وهو ما قد يُعبر عنه البعض بالانتظار السلبي.

ويترتب على هذه النظرية:

أنه لا معنى لانتظار الظهور سوى الوقوف على التل وانتظار وصول اللحظة المناسبة للظهور، فلا دور للفرد في التمهيد للظهور، وإنما الظهور

ص: 234


1- الغيبة للنعماني: ص300، ف16، ح3.

فعل لله تعالى.

وحينئذٍ قد لا يترتب أي ثواب على الانتظار الذي أمرت به الروايات فيما لو قصد المؤمن عنوان الانتظار بعينه، بأن قال مثلًا: أن أعمل كذا من باب أنه من مفردات الانتظار، فلا يحصل على ثواب من هذه الجهة.

وقد يتطور هذا التصور لدى البعض –من قليلي المعرفة- إلى انحصار الدين عنده بتنظيم العلاقة العبادية الشخصية بين الفرد وربّه، وقد يتطور إلى حدّ الابتعاد عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا على مستوى المنفعة الدنيوية.

النظرية الثانية المختارة

إن الظهور -وإنْ كان فعلًا لله تعالى، وأنه لا ظهور إلا بعد إذنه جلّ وعلا- ولكن هذا لا ينفي دور الفرد في تعجيله، من باب أن الله تعالى قد سنّ في الكون نظام العلاقة بين التكوين والتشريع، على غرار (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَىٰ الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً.)(1)،

وبالتالي فيمكن للفرد أن يتدخل في هذه السُّنّة بأن يعمل ما جاء في الروايات الشريفة من الأمور التي سُميت فيما بعد بواجبات زمن الغيبة، فيأتي عنصر القدرة الإلهية المسبوقة بالعلم الإلهي ويقع (البداء) أو بالأحرى (الإبداء) من الله تعالى، فيكون لالتزام الفرد بواجبات زمن الغيبة دخلٌ في أن يشاء الله تعالى تعجيل الظهور، ويبقى اختيار الوقت المناسب بيد الله تعالى وحده.

ص: 235


1- الجن 16.

ومن هنا نجد أن الروايات الشريفة اعتبرت أن الانتظار هو نفسه الفرج، بمعنى أن تفعيل عنصر الانتظار بالمعنى الذي بينته الروايات الشريفة (من التزام العقيدة والفقه والسلوك والاستعداد العملي للظهور) هو بنفسه يؤدي إلى تعجيل الظهور، فيقع الفرج، مما يعني أن قصد عنوان الانتظار مطلوب من المؤمن، ويحصل منه على الثواب إن شاء الله تعالى.

والروايات في هذا عديدة، فقد روي أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «أفضل أعمال أُمَّتي انتظار الفرج من الله عز وجل»(1).

فلاحظ أن هذا الحديث جعل (الانتظار) عملًا هو من أفضل أعمال الأمة، ومن الواضح أن العمل العبادي أفضل من التوصلي كونه يستبطن ويُشترط فيه نية القربة.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: «انتظروا الفرج، ولا تيأسوا من روح الله، فإنَّ أحبَّ الأعمال إلىٰ الله (عز وجل) انتظار الفرج ما دام عليه العبد المؤمن...»(2).

وهذا الحديث قريب من معنى الحديث الأول.

ومن هنا فقد رتَّبت الروايات الكثير من الآثار العظيمة علىٰ عبادة الانتظار، فعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «من مات منكم علىٰ هذا الأمر منتظراً له

ص: 236


1- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.
2- الخصال: 616.

كان كمن كان في فسطاط القائم (عليه السلام)»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليهم السلام)، قال: «المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الآخذ بأمرنا معنا غداً في حظيرة القدس، والمنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله»(3).

عن عمرو بن ثابت، قال: قال سيّد العابدين (عليه السلام): «من ثبت علىٰ موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله (عز وجل) أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأُحُد»(4).

ومما يدل بوضوح على أن للمجتمع دورًا في ما يتعلق بالظهور، هو أن الروايات أكّدت أن خروج الإمام (عجل الله تعالى فرجه) من مكة المكرمة يكون بعد اكتمال الحلقة، وهم عدة الجيش الذين سيكون معه أول ما يخرج، فقد روي عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لا يخرج القائم (عجل الله تعالى فرجه) حتَّىٰ يكون تكملة الحلقة»، قلت: وكم تكملة الحلقة؟ قال: «عشرة آلاف...»(5).

وأيضًا ما ورد من خروج بعض الممهدين له (عليه السلام)، فقد روي عن أبي جعفر ( عليه السلام ) أنه قال : كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون

ص: 237


1- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 1.
2- كمال الدين: 645/ باب 55/ ح 6.
3- الخصال: 625/ حديث الأربعمائة.
4- كمال الدين: 323/ باب 31/ ح 7.
5- الغيبة للنعماني: 319 و320/ باب 20/ ح 2.

ما سألوه فلا يقبلونه حتى يقوموا ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم قتلاهم شهداء أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر.(1)

ومن ذلك أيضًا ما روي من أن إذاعة الناس، وعدم كتمانهم قد أوجب تأخير ظهور ذلك الرجل الذي سوف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً إلى وقت أخر.(2)

ومن ذلك ما روي في كتاب الغيبة للنعماني عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما لهذا الأمر أمد ينتهي إليه ويريح أبداننا؟ قال: بلى، ولكنكم أذعتم فأخره الله.(3)

وعن إسحاق بن عمار الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قد كان لهذا الأمر وقت وكان في سنة أربعين ومائة، فحدثتم به وأذعتموه فأخره الله (عزَّ وجلَّ).(4)

وعن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: يا ثابت، إن الله تعالى قد كان وقت هذا الأمر في سنة السبعين، فلما قتل الحسين (عليه السلام) اشتد غضب الله فأخره إلى أربعين ومائة، فحدثناكم بذلك فأذعتم وكشفتم قناع الستر فلم يجعل الله لهذا الأمر بعد ذلك وقتاً عندنا ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ

ص: 238


1- الغيبة للنعماني ص 281 باب 14 ح 50.
2- الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص150، باب صلة الرحم، ح3.
3- الغيبة للنعماني: ص299، ب16، ما جاء في المنع والتوقيت والتسمية لصاحب الأمر (عليه السلام)، ح1.
4- الغيبة للنعماني: ص303، ب16، ما جاء في المنع والتوقيت والتسمية لصاحب الأمر (عليه السلام)، ح8.

وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾(1)، قال أبو حمزة: فحدثت بذلك أبا عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: قد كان ذلك.(2)

الجهة الثالثة: وظائفنا في زمن الغيبة الكبرى
اشارة

تعرض العديد من علماء الطائفة (جزاهم الله عن المؤمنين خيرًا) إلى هذه الجهة وأعطوها عنوان (واجبات زمن الغيبة الكبرى)، واستندوا في تعدادها إلى الروايات الواردة في هذا المجال.

ونحن نذكر هنا بعضًا منها تحت العناوين التالية:

العنوان الأول: نشر القضية المهدوية بالمنهج العلمي المستدل

لما في ذلك من امتثال أمرهم (عليهم السلام) بإحياء أمرهم ونشره، وهذا يقتضي تعلّمها جيدًا أولًا، ثم عقد المجالس الحيّة والافتراضية –عبر شبكات التواصل الاجتماعي- لنشرها بطريقة منهجية وعلمية.

فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من جلس مجلساً يُحيي أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(3).

وقال (عليه السلام) لفضيل: «تجلسون وتُحدِّثون؟»، قال: نعم جُعلت فداك، قال: «إنَّ تلك المجالس أُحِبُّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا. يا

ص: 239


1- الرعد: 39.
2- الغيبة للنعماني: ص303- 304، ب16، ما جاء في المنع والتوقيت والتسمية لصاحب الأمر (عليه السلام)، ح10
3- الدعوات: 278/ ح 806.

فضيل، من ذَكَرنا أو ذُكْرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كان أكثر من زبد البحر»(1).

وعن المفضَّل: ودَّعْنا أبا جعفر (عليه السلام)، فقال: «يا خيثمة، أبلغ موالينا منّا السلام، وقل لهم: إنّي أُوصيهم بتقوىٰ الله، وأنْ يعين غنيُّهم فقيرَهم، وقويُّهم ضعيفَهم، وحليمُهم جاهلَهم، وأنْ يشهد حيُّهم جنازة ميِّتهم، وأنْ يتلاقوا في بيوتهم، فإنَّ لقاء بعضهم بعضاً حياةٌ لأمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا أهلَ البيت»(2).

العنوان الثاني: تربية الناشئة على حبه

لا شك في أن هناك مسؤولية متوجهة للآباء في أن يُعلّموا أولادهم مفردات الدين، فعن سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ لي أهل بيت وهم يسمعون منّي، أَفَأدعوهم إلىٰ هذا الأمر؟

قال: «نعم، إنَّ الله يقول في كتابه: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ[(3)»(4).

ومن مفردات الدين هو حب أهل البيت (عليهم السلام)، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «أدِّبوا أولادكم علىٰ ثلاث خصال: حُبِّ نبيِّكم، وحُبِّ أهل بيته،

ص: 240


1- قرب الإسناد: 36/ ح 117.
2- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 225/ ح 622).
3- التحريم: 6.
4- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 231/ باب من ترك المخاصمة لأهل البيت علیهم السلام/ ح 180).

وقراءة القرآن»(1).

وورد عن أبي هارون المكفوف، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يا أبا هارون، إنّا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة (عليها السلام) كما نأمرهم بالصلاة، فالزمه، فإنَّه لم يلزمه عبدٌ فشقي»(2).

إن عدم القيام بهذه المسؤولية من قِبَل بعض الآباء، أدّى إلى أن يجهل الأبناء بالعقيدة المهدوية، أو تكون عقيدتهم التقاطية غير منهجية، فتكون المعلومات مشوّشة في أذهانهم، مما يؤدي إلى التباس الحق بالباطل عندهم، أو عدم وضوح الرؤية المهدوية.

وهو نفسه السبب في خوف الشباب –أو بعض منهم- من الإمام المهدي (عليه السلام)؛ إذ إنهم تلقَّوه بصورة دموية، وشُحنت أذهانهم بأن المهدي (عليه السلام) ما هو إلا قاتل متمرّس، وبالتالي فقد أُلقي في لا وعي بعض الشباب الخوف من ظهوره أو تمنّي الموت قبل إدراك زمن الظهور، وهذا فيه ما فيه من الخسارة الكبيرة لجهود ثلة مهمة من المجتمع المؤمن الذين يُرتجى لهم أن يكونوا من الممهدين لدولة الحق وممن يعملون على نشر الحق ما أوتوا إلى ذلك سبيلًا.

إن قضية الإمام المهدي (عليه السلام) هي القضية المعاصرة اليوم للمؤمنين، فينبغي على الآباء أن يهتموا بهذه القضية في أنفسهم أولًا، ونقل ما يتعلمونه لأولادهم ثانيًا.

ص: 241


1- الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 1/ ص 51/ حرف الهمزة/ ح 311).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 343/ باب التعقيب بعد الصلاة والدعاء/ ح 13).
العنوان الثالث: ردّ الشبهات المتجددة

فالأعداء لم يقفوا بالأمس من الدين عمومًا وما يتعلق بأهل البيت (عليهم السلام) خصوصًا موقف المتفرج على الأقل، وإنما سعوا –وما زالوا- إلى تقويض التفاف الناس حولهم (عليهم السلام)، واستخدموا من أجل ذلك أخبث الوسائل وأردءها، ومنه إلقاء الشبهات والتساؤلات المسمومة، وقد تمّ إلباسها لباس الحق في كثير من الأحيان، من خلال الصياغات المنمّقة، والشعارات الرنّانة، ومحاكاة العواطف بعيدًا عن العقل والنصوص الروائية الثابتة.

يلزم على المؤمنين إذن أن يكونوا مستعدّين لمثل هذه الشبه، وأن يتسلّحوا بالمعرفة الكافية لكشفها وكشف زيغها، ولا يكون ذلك إلا بطلب العلم من مصادره الموثوقة، والمتخصصين في مجاله.

ص: 242

النقطة السابعة: تساؤلات وشبهات وأجوبة
اشارة

في هذه النقطة سنعرض سبعة تساؤلات مع الجواب عنها، وهي التالي:

التساؤل الأول: وجود مانع في أصل عصمة الإنسان عموماً.

التساؤل الثاني: العصمة تمنع من اختيار الأتباع.

التساؤل الثالث: أن الولاية التكوينية تلازم تحديد قدرة الله تعالى.

التساؤل الرابع: مضادة الجو القرآني للعصمة.

التساؤل الخامس: لماذا لم يصرح القرآن باسم علي (عليه السلام)؟

التساؤل السادس: علم الأئمة (عليهم السلام) بالغيب.

التساؤل السابع: لماذا تُثار الأحداث التاريخية التي انتهت ولا أثر لها؟

ص: 243

ص: 244

التساؤل الأول: وجود مانع في أصل عصمة الإنسان عموماً
اشارة

إن من أهم ما ترتكز عليه فكرة الإمامة عند الشيعة هو مفهوم عصمة الإمام، وبه افترقوا عن غيرهم، ومن دونها يُصبح الإمام خبيرًا من الخبراء، أو عادلًا من العدول.

وأي مفهوم إنما يأخذ دوره ويظهر في الحياة، إذا كان في حدّ نفسه ممكنًا، وإلا، فلو كان في حدّ نفسه يستلزم إشكالية معينة، فلا معنى للاستدلال على ثبوته.

والعصمة تواجه إشكالًا يمنع من قبولها في الإنسان، فلا تصل النوبة إلى إثباتها في الإمام.

بيانه:

إن العصمة ذات بعدين:

1/ بُعد العصمة النظرية

وتعني عدم الوقوع في الخطأ الفكري.

وهذا لا يمكن تصوره في الإنسان، لأن الجهاز الإدراكي لدى الإنسان يفرز معلومات بديهية وأخرى نظرية، والنظرية منها اليقين ومنها الظن ومنها

ص: 245

الاحتمال، ومنها الجهل. فالعصمة تعني أن المعصوم يملك جهازا آخر غير الجهاز الإنساني يتفادى به الخطأ، وهو يعني أنه سنخ آخر غير الإنسان.

العلم الإنساني لا قابلية له لأن يكون في مستوى تفادي الخطأ وبنحو الضمان والكلية، والواقع خير شاهد، فالجهود العلمية المضنية والمستمرة لم تلغ الظن ولا الاحتمال ولا القطع النظري، ولم تحوّل الواقع إلى مجموعة بديهيات لدى الإنسان، وإن قيل بأنها ستتحول كذلك بعد مئات السنين، فيُقال: لو سُلّم، ولكن المعصوم كان كذلك قبل مئات السنين وبفترة زمنية قياسية جدًا، بل منذ الصغر.

فالإمام بحكم إنسانيته يمتلك نفس الجهاز الإدراكي الذي صُمّم عليه الإنسان، فافتراض عصمته يتكاذب مع طبيعة الجهاز أو مع إنسانيته، ومن ثَمّ كانت العصمة تواجه إشكالًا بنيويًا مع الإنسان وأدواته الإدراكية.

2/ بُعد العصمة العملية

وتعني عدم التورّط بالمعصية والانحراف عمليًا.

وهذه العصمة مبنية على فرضية أن لا يكون للمعصوم غرائز مضادّة لما يدعو إليه العقل، وإلا، فمع وجودها تبقى قابلية الوقوع في المعصية موجودة –وإن لم تصل إلى حدّ الوقوع-.

وتفريغ المعصوم عن تلك الغرائز يعني تحويله إلى مَلَك، وهو ما لا يقول به حتى الشيعة.

ص: 246

فكيف يتم تصوير العصمة مع الحفاظ على إنسانية المعصوم؟

الجواب:

أما عن العصمة النظرية فنقول:

إن ما ذُكر –من التلازم بين العلم الطبيعي وإمكانية الوقوع في الخطأ- صحيح تمامًا، والواقع خير شاهد، والعصمة لا تتكيّف مع هذا العلم الطبيعي –المشتمل على الظن والاحتمال والاجتهاد-، هذا كله صحيح، لكن نحن وجهازنا الإدراكي العادي.

إلا أننا ندّعي في شخص المعصوم أن هناك تلازمًا بين العصمة وبين العلم الخاص، أي إنه زُوّد بقوة مضافة إلى جهازه الإدراكي الطبيعي، هي ما حوّلت الواقع برُمَّته له إلى بديهي أو أرقى، بحيث لا يمكن فيه الخطأ، وإلا، فمن دون تلك القوة الإضافية فلا ضمان لصوابية علوم المعصوم.

كما أن هذه القوة ليست بديلة عن الجهاز الإدراكي كي تُخلّ بإنسانيته، بل هي قوة مضافة.

وقد قلنا أكثر من مرة: إن الظواهر الوجودية هي مراتب مشككة، أي إن لها مراتب طولية متعددة، وهذا يعني وجود التفاوتات بين الموجودات الممكنة، من دون أن يُخلّ بإنسانية الإنسان، بل هو يُعبّر عن اشتداد في إنسانيته وزيادة كماله.

فالعلم الخاص لازم للعصمة.

ص: 247

وقد تناولت العديد من النصوص الإشارة إلى هذه الحقيقة، مطلِقةً عليها تعبير روح القدس أو قوة القدس، وقد تقدمت ثمان روايات دالة على ذلك في النقطة الثالثة: علم أهل البيت (عليهم السلام) اللّدني.

هذا ما يتعلق بالعصمة النظرية.

أما عن العصمة العملية فنقول:

1/لا شك أن بشرية الإنسان تُحفظ في توفّره على خلطة القوى المتضادة، وهو ما أشار له ما روي عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: «قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام): إنَّ الله ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركَّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركَّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم»(1).

وحينئذٍ، فتفريغ الإنسان من هذه القوى المتضادة يعني خروجه عن الإنسانية إلى سنخ آخر من الموجودات، كالملائكة.

2/وأن الإنسان مختار في فعله، كما ثبت في مباحث الفعل الإلهي، واختياره يعني أنه يستطيع أن ينتخب ما يريد وبالاتجاهين، اتجاه الخير واتجاه الشر، ومن دون حدود.

ص: 248


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 4 و5/ باب 6/ ح 1).

3/ بيد أن اختياره ذلك لا يتوقف على أن يقوم بممارسة كل ما يقدر عليه وما يمكن أن يناله اختياره، وهنا تنكشف المفارقة التي اعتمد عليها التساؤل في نفي العصمة العملية عن الإنسان، إذ إن مؤدى التساؤل هو: أن الإنسان وحتى يُثبت إنسانيته التي تتوفر على القوى المتضادة، وحتى يثبت اختياره، فإنه لا بد وأن يمارس بالفعل كل ما يقدر عليه وما يناله اختياره، ولو مرة واحدة، فعليه إذن أن يغصب أو أن يكذب أو أن يسرق... وإلاّ فإن إنسانيته مهدّدة في هويتها.

إن هذا الفهم يعني أن المعدّل العام للبشرية هو السقف الأعلى لها، في حين أنه الحدّ الأدنى منها، وأنّ الرهان عليه فقط هو تسطيح للإنسانية وتقزيم لشخصية الإنسان.

4/ بل حتى بحدود المعدل العام نجد أن هناك جملة من الأفعال والتي هي ما زالت تحت الاختيار، بيد أنها بقيت مشروع فعل من دون أن تُترجم على الواقع وتتحول إلى فعل ناجز.

هناك من الأفعال ما لا يفعلها الإنسان بل لا يقترب منها بل لا يفكر فيها بل حتى تصوره لفعلها يثير اشمئزازه، كأكل الجيفة مثلًا، رغم أن ذلك لم يُخرجنا عن إنسانيتنا، ولم يقيد اختيارنا.

فليس هناك ما يدعو إلى أن يمارس الإنسان كل ما يُتاح له لأجل أن يثبت إنسانيته.

ص: 249

ومعه، فإذا استطاع الإنسان بجهده أن ينظر إلى كل المعاصي على أنها (جيفة)، فمن المنطقي جدًا أن لا يفعل بل أن لا يفكر بل أن لا يتصور أنه يفعلها، رغم امتلاكه للغرائز والشهوات واستمرار الصراع بينها وبين العقل.

فالذي يُخلّ بإنسانية الإنسان هو تفريغه من تلك القوى، لا عدم تفعيلها في بعض الجوانب باختياره هو.

وكون المعدل العام للبشرية هو أنه يفعل المعصية، ليس هو المقياس، ولو كان هو المقياس لخرج كل العباقرة وذووا الاختصاصات الدقيقة عن الإنسانية، لأنهم يمثلون الأقلية النادرة من البشرية.

والمدّعى:

أن المعصوم رغم امتلاكه تلك القوى، وبذلك بقي إنسانًا، إلاّ أنه نزّل المعاصي في نفسه منزلة الجيفة، وبالتالي فهو باختياره تركها ولم يمارسها أبدًا، بحيث حكّم عقله على جميع غرائزه، وهذا كما عرفنا لا يُخلّ بإنسانيته، بل يعبّر عن سمو إنسانيته ورُقي اختياره.

وهذا المعنى يمكن تحصيله –مع الالتفات إلى كونه ذا مراتب مشككة- بالمجاهدة لنزعات النفس وشهواتها غير العقلائية، وبالتالي، فإن التوفيق والتسديد الإلهي سينال من يُجاهد نفسه من أجل القرب من ساحة القدس والكمال، وهو مفاد قوله تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ

ص: 250

اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.)(1).

وما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله تعالى يقول: من تقرّب إليّ شبرًا، تقرّبتُ إليه ذراعًا، ومن تقرّب مني ذراعًا، تقربتُ منه باعًا، ومن أتاني مشيًا أتيتُه هرولة.(2)

وما روي أنه كتب رجل إلى الحسين بن علي (عليه السلام): يا سيدي، أخبرني بخير الدنيا والآخرة. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإنه من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام.(3)

إن الوصول إلى تلك النتيجة يأتي على خلفية عوامل عديدة، بعضها قاسٍ جدًا، لا يمكن لأي أحد أن يؤديه على وجهه، على طريقة التسليم في (شاء الله أن يراني قتيلًا) وعلى طريقة النبي إبراهيم (عليه السلام) حيث سلّم للأمر بذبح ولده ومن دون أي اعتراض قلبي فضلًا عن العملي، قال تعالى (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرىٰ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرىٰ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ.)(4)

ص: 251


1- العنكبوت 69.
2- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور ج1 ص 56 الفصل الرابع ح 81.
3- أمالي الشيخ الصدوق ص 268 ح 293 / 14.
4- الصافات 101 – 106.

وعلى طريقة أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يرى تراثه نهبًا، ولكنه التزم الصمت المرير.

لينتج كل ذلك الجهاد نتيجة (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)(1)

والحاصل من كل ما تقدم:

· أن قانون الحركة والتكامل الوجودي وبمختلف الاتجاهات، ومن دون سقوف.

· منضمًا إلى قانون التشكيك في الوجود.

· وأن فكرة الأقلية وتوفّرها على أجهزة إدراكية إضافية لا يُخرجها عن حدّ الإنسانية، وإنْ أخرجها عن المعدل العام للبشرية مع بقاء اشتراكها في الإنسانية.

كل ذلك (وغيره الكثير) يفسر عدم وقوع المعصوم في المعصية، حيث استطاع أن يصل إلى مستوى من العلم بحيث انكشف له الواقع، وبحيث صار يتعامل مع المعصية كأنها جيفة.

ص: 252


1- البقرة 124.
التساؤل الثاني: العصمة تمنع من اختيار الأتباع

إن من أهم عوامل النمو والتطور هي التجربة والنقاش والسؤال، والخطأ ثم التصويب، وظهور الإبداع في هذا الظرف، وبالنتيجة، تتطور الحياة.

والعصمة وإن كانت لا تتقاطع مع إنسانية الإنسان المعصوم –كما تقدم-، ولكنها تتقاطع مع إنسانية واختيار الاتْباع؛ لأنها تعني إعطاء الإنسان نتائج جاهزة ومعلّبة، لتقود إلى حالة من التكاسل والركود، تمامًا على الضد من عوامل الرشد والتطور، فالعصمة لا تتيح الفرصة أمام السؤال والاستفسار والنقاش والمحاولة والتأمل والاستنتاج، إذ هي تعني لزوم التنفيذ من دون نقاش ولا اعتراض.

فكيف يتم تصوير العصمة بحيث لا تتم مصادرة دور الإنسان في صنع قدره ونموه وتطوره، وبحيث لا يتم تهميش الإرادة الإنسانية إلى حدّ التجميد؟

والجواب:

إن هذا التساؤل يصح لو افترضنا أن المعصوم كان قد تحدث وتدخل في كل مفردات الحياة المعرفية والعملية، ووضع بصمته في كل ما يحتاجه

ص: 253

الإنسان، وإلى حدّ التخمة وإشباع الجزئيات اللا متناهية، ليكون نظير ما لو كانت لوحة الواقع منكشفة للإنسان بكل دقائقها وخصائصها، فلا تبقى فرصة للتجربة والتأمل والنقد وضرب الرأي بعضه ببعض.

ولكن ذلك مجرد افتراض يكذّبه الواقعُ العملي لحركة المعصوم مع أتباعه، فهو وإن كان قادرًا على هذا الأمر –لمكان عصمته وعلمه اللدني وقدراته وبقية مؤهلاته الاستثنائية-، إلا أنه لم يفعل ذلك، فلم يتحدث في كل شيء، ولم يفرض نفسه بديلًا عن علومنا النظرية وظنونا المعتبرة، حتى عندما بُسطت يده.

والشواهد على ذلك كثيرة، نذكر منها:

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: مَا كَلَّمَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الْعِبَادَ بِكُنْه عَقْلِه قَطُّ، وقَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ.(1)

هذا الحديث يدل على أن المعصوم لم يتحدث بكل ما يعلم، ولو أراد لفعل، ولكنه ترك ذلك لتبقى مساحة الاختيار من غير مصادرة.

ومثله ما روي عن رَسُول الله (صلى الله عليه وآله): إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ والأَيْمَانِ وبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَه مِنْ مَالِ أَخِيه شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَه بِه قِطْعَةً مِنَ النَّارِ.(2)

ص: 254


1- الكافي للكليني ج1 ص 23 كِتَابُ الْعَقْلِ والْجَهْلِ ح15..
2- الكافي للكليني ج7 ص 414 بَابُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ والأَيْمَانِ ح1.، وقال في الهامش: في النهاية بعد ذكر الحديث قال: اللحن الميل عن الاستقامة: يقال لحن فلان في كلامه إذا مال عن صحيح المنطق وأراد ان بعضكم يكون اعرف بالحجة وافطن لها من غيره.

ولذلك كانت من مهام النبي (صلى الله عليه وآله) هي (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)(1)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً -وأَشَارَ بِيَدِه إِلَى صَدْرِه- لَوْ أَصَبْتُ لَه حَمَلَةً)(2)

حيث يؤكد أنه لم ينشر كل علومه.

وفي نفس هذا المضمار ما روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرعوا. وما روي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: علينا إلقاء الأصول إليكم، وعليكم التفريع.(3)

وخير شاهد على ذلك أيضًا:

أن باب الاجتهاد انفتح عند من آمن بالعصمة المطلقة، وما زال في تطور مستمر، الأمر الذي يعني أن المؤمن بالعصمة لم يتم تجميد اختياره، وإنما على العكس، تم فتح الاجتهاد وبذل الجهد له على مصراعيه، نعم، حُدّد ذلك تحت سقف القواعد التي جاءت من المعصوم، وهذا أمر عقلائي، إذ المنهج العلمي يقتضي وجود سقوف معينة و (أصول موضوعية) يتكئ عليها الباحث في سيره العلمي.

هذا فضلًا عن واقع المؤمنين بالعصمة، الذي يشهد بأنهم كانوا وما

ص: 255


1- البقرة 129.
2- نهج البلاغة ج4 ص 36.
3- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 575.

زالوا في تطور علمي متزايد، وأنهم ما زالوا يحصدون الشهادات المختلفة والتخصّصات المتنوعة –في غير العلوم الدينية-، ولو كانت العصمة تجمّد اختيارهم أو تحد منه لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه.

فالمعصوم لم يضع علومه كلها بين يدي الناس،، كما أن الله تبارك وتعالى لم يفعل كل ما يقدر عليه، ولو شاء لفعل، قال تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(1)

نعم، المعصوم صنع مدرسة لها أسسها الفلسفية وأصولها الموضوعية، التي فتحت بدورها أمام العقول طريق اكتشاف لوحة الواقع ببذل الجهد إلى أقصى حد ممكن.

ولذلك لم نجد في واقعنا أن الدين يحدّ من التفكير والتأمل والمداولة، بل لم يحدّ من الإبداع العلمي والعملي.

ولم نلحظ أن الفيلسوف الوضعي أعمق من الفيلسوف المتدين، وأن فقيه القانون أوسع مجالًا من الفقيه الديني، وأن عالم الفيزياء الملحد أعمق من عالم الفيزياء المتدين، وأن صناعة الحضارة من اختصاص غير المتدين، وأن فرص الإبداع لغير المتدين فقط.

ص: 256


1- يس 82.
التساؤل الثالث: أن الولاية التكوينية تلازم تحديد قدرة الله تعالى
اشارة

التساؤل الثالث: أن الولاية التكوينية تلازم تحديد قدرة الله تعالى.(1)

تقدم أن العلم الخاص يُعطي لصاحبه قدرات تكوينية خارقة، وهو ما يُسميه الشيعة بالولاية التكوينية للمعصوم، فللمعصوم قدرات تكوينية يمكنه من خلالها التحكم بمجريات الكون، بما يصل إلى إحياء الموتى وبالإخبار ببعض المغيبات.

فهي قدرة خاصة غيبية يمكنه بها التصرف في أمور الكون.

والتساؤل والشبهة هي:

إن فرض قدرات تكوينية (ولاية تكوينية) لأهل البيت (عليهم السلام) يلزم منه تحديد قدرة الله تعالى المطلقة، بل إنه يلزم منه نوع من أنواع الغلو في تلك الشخوص المقدسة.

فالقول بالولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام) يلزم منه إما التحديد في قدرة الله تعالى، أو الغلو في أهل البيت (عليهم السلام).

ص: 257


1- تقدم شيء من الكلام حول الولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام) في مبحث الإمامة- الإمامة الخاصة: النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت (عليهم السلام) (الولاية التكوينية)، وانظر أيضاً مبحث الغلو: المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة (عليهم السلام) في آخر الجزء الرابع.

الجواب:

مرة يكون السؤال عن إمكان ومعقولية ثبوت الولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام)، ومرة عن الدليل على ثبوتها فيهم ووقوعها لهم.

فهنا خطوتان للجواب:

الخطوة الأولى: إمكان الولاية التكوينية
اشارة

وهنا مستويان:

المستوى الأول: الجواب النقضي

هنا عدة نقوض على ما قيل في الإشكال:

النقض الأول: لِمَ لمْ تكن الجاذبية معارضة للقدرة المطلقة؟ فهي قدرة موجودة في الواقع ولا ينكرها ذو عقل.

النقض الثاني: لِمَ لمْ يكن قانون السببية بعمومه معارضاً لإطلاق قدرة الله تعالى؟

إن قلت: إن قانون السببية كان بإذن الله تعالى؟

قلت: إن الولاية التكوينية كذلك، ونحن لا نقول باستقلال الإمام عن الله تعالى، بل إن من يقول بذلك فهو مشرك.

النقض الثالث: لِمَ لمْ يكن العلم الخاص -الذي قُبل في الأنبياء- شركاً رغم كونه خارقاً وغير طبيعي، وكانت القدرة الخاصة شركاً؟ وبماذا اختلفت

ص: 258

القدرة الخارقة عن العلم الخارق بحيث كانت تؤدي إلى الشرك دون العلم الخاص؟!

النقض الرابع: لِمَ لمْ تكن القدرة الخاصة عند الأنبياء شركاً ومستلزمة لتحديد قدرته تعالى، وكانت القدرة الخاصة عند الإمام شركاً وتحديداً للقدرة المطلقة؟ وما هو الفرق بين القدرتين من حيث الإمكان؟

النقض الخامس: لِمَ لمْ تكن فكرة المعجزة- وهي ولاية جزئية- شركاً وتعالياً على القدرة الإلهية، ولكنها إذا صارت عامة صارت مشكلة، والحال أن القليل والكثير والكلية والجزئية لا يفرق بالنسبة إلى قدرة الله تعالى.

المستوى الثاني: تصورات لتصحيح فكرة الولاية التكوينية

أولًا: إن التصور الصحيح لمفردات هذه البحوث كفيل بحلّ الكثير من الإشكالات المزعومة، فالتصور الصحيح للقدرة الإلهية هو أنها لا متناهية، ولكنها في نفس الوقت لا تتعلق بالممتنع، فحدود القدرة إذن تنتهي عند الممتنع، وهذا تعبير مجازي، لأن الممتنع بالذات هو الذي لا يتسنى فيه الوجود، فالمشكلة فيه لا في القدرة الإلهية، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لمن سأله أن الله تعالى يقدر على إدخال العالم في بيضة من غير أن تكبر البيضة ولا يصغر العالم، فأجابه بأن هذا الأمر ممتنع في حدّ نفسه، فلا يصح تعلق القدرة

ص: 259

به,(1) وقد تقدم بيان ذلك في بحث القدرة.(2)

ثانيًا: إن اللا تناهي لا يعني نفي الثاني مطلقاً، وإنما يعني نفي اللا متناهي الثاني والمستقل الثاني، أما المتناهي فلا ينفيه، لأنه بالغير وفي طول اللا متناهي وبإذنه... وهذا أيضًا تقدم في بداية مباحث التوحيد.

ثالثًا: إن العبودية بتصورها الصحيح لا تعني فقدان كل الكمالات والامتيازات، ولا تعني أن يكون العبد فقيراً مادياً، وإنما هي تعني أن يكون العبد وما يملك لمولاه، فقد يكون العبد يملك الكثير من الأموال، ولكن عبوديته حينئذٍ تكمن في كونه وما يملك مملوكاً لمولاه. ففقر العبد فقر معنوي لمولاه.

ومعه نقول: إن اتصاف أهل البيت (عليهم السلام) بأنواع الكمالات والقدرات الخارقة لا ينفي عبوديتهم لله تعالى، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تلك القدرات تحكي لنا بصراحة عن عبوديته وإخلاصه وفنائه في ذات الله تعالى ويقينه وصبره....

ومن هنا ورد في العديد من الروايات الإشارة إلى عظم منزلتهم (عليهم السلام) وكونها فوق المستوى العادي للبشرية، وهذا لا يُخرجهم عن كونهم عبيدًا لله تعالى، بل إن الحد الأوسط في كل ذلك هو عبوديتهم (وأشهد أن محمداً عبده

ص: 260


1- عن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون. [التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 130 باب القدرة ح9].
2- [3] - انظر الجزء الأول: بحث القدرة/ إشارة: بعض أجوبة الأئمة (عليهم السلام) عن سعة القدرة الإلهية.

ورسوله).

ومن تلك الروايات:

ما روي أنه قال أمير المؤمنين (عليه السلام): جلَّ مقام آل محمد عن وصف الواصفين ونعت الناعتين، وأنى يُقاس بهم أحد من العالمين؟ وكيف وهم النور الأول....(1)

وروي عنهم (عليهم السلام): نزهونا عن الربوبية(2)

وارفعوا عنا حظوظ البشرية، فلا يقاس بنا أحد من الناس.(3)

وفي ما روي عنهم من إخبارهم بالمغيبات وتصحيح فكر الآخر بكونهم عبيدًا لله تعالى ما روي عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) ضع لي في المتوضأ ماءً. قال: فقمت فوضعت له فدخل، قال: فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا وكذا ويدخل المتوضأ! فلم يلبث أن خرج فقال: يا

ص: 261


1- مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي ص 177 وبحار الأنوار للعلامة المجلسي ج25 ص 171 – 172.
2- في هذه الرواية وُجّه سؤال إلى السيد الخوئي نُقل في صراط النجاة - الميرزا جواد التبريزي - ج 2 - ص 452 تحت رقم السؤال 1421: (نزهونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم) هل أن هذه المقولة حديث؟ وإلى من تنسب من الأئمة الأطهار؟ ج / الخوئي: لا يحتاج تنزيههم عن صفات الرب المختصة به واتصافهم بجميع ما عدى تلك من صفات الكمال التي يمكن أن تنالها البشرية في قدسيتها، كما هم منزهون عن ما لا يليق أن يتصف به المخلوق المعصوم عن الزلل والمعاصي لا تحتاج تلك إلى ورود رواية حتى نثبته بمضمونها إن كانت معتبرة، أو نطرحها إن كانت ضعيفة غير معتبرة، والله العالم.
3- مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي ص 101.

إسماعيل بن عبد العزيز، لا ترفعوا البناء فوق طاقتنا فينهدم، اجعلونا عبيدًا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم...(1)

وعن خالد بن نجيح الجوار قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده خلقٌ، فقنعت رأسي فجلست في ناحية وقلت في نفسي: ويحكم ما أغفلكم عند من تكلمون؟ عند رب العالمين! قال: فناداني: ويحك يا خالد، إني والله عبد مخلوق، لي ربٌّ أعبده، إنْ لم أعبدْه –والله- عذّبني بالنار. فقلت: لا والله، لا أقول فيك أبداً إلا قولك في نفسك.(2)

وفي رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لأبي ذر: اعلم يا أبا ذر أنا عبد الله عز وجل وخليفته على عباده لا تجعلونا أربابًا، وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنكم لا تبلغون كنه ما فينا ولا نهايته، فإن الله عز وجل قد أعطانا أكبر وأعظم مما يصفه واصفُكم، أو يخطر على قلب أحدكم، فإذا عرفتمونا هكذا فأنتم المؤمنون.(3)

رابعًا: إن ما تقدم لا يعني قبول أي كمال وأية صفة في الإمام، فهناك من الكمالات والصفات ما استأثر بها الله تعالى لنفسه، لا وجود لها في عالم الإمكان، كوجوب الوجود، واللا تناهي، ولكن هذا لا ينفي القدرات الخارقة والولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام).

ص: 262


1- بصائر الدرجات للصفار (ص 261 باب (10) باب في الأئمة انهم يعرفون الاضمار وحديث النفس قبل ان يخبروا به/ ح 22).
2- بصائر الدرجات للصفار (ص 261 – 262 باب (10) باب في الأئمة انهم يعرفون الاضمار وحديث النفس قبل ان يخبروا به/ ح 25).
3- بحار الأنوار للمجلسي ج26 ص 2.

والخلاصة: أن التصور الصحيح لمفردات هذا البحث كفيل بحل مشكلاته في مستوى الإمكان والمعقولية...

خامسًا: قد يقال: هناك إشكال عقلي في المقام، وهو: إن تصوير ولاية تكوينية وقدرات خارقة للإمام يعني التحديد في القدرة المطلقة واللا متناهية لله تعالى، والتالي باطل، فالمقدم مثله!

في الحقيقة، أن الفكر الوهابي اعتمد هذا الطرح، فقال بأن أية طاعة لغيره تعالى تعني الشرك والكفر...

وفي مقام الجواب نقول:

أولًا: جواب نقضي:

إن من يلتزم بهذا القانون، لا بد أن يلتزمه بنحو مطلق وغير محدد، وبالتالي حيث إن الله تعالى لا متناهي في وجوده وعلمه وقدرته وإرادته وجميع صفاته، فهذا اللا تناهي يمنع من وجود أي وجود غيره تعالى وأي علم وقدرة وإرادة... ولا معنى لتخصيص ذلك القانون بخصوص القدرة.

وهذا كما ترى.

ثانيًا:

ذكرنا أن اللا متناهي يقطع الفرصة أمام اللا متناهي الثاني(1)،

أما

ص: 263


1- وقد تقدم بيان هذا المعنى في بدايات بحوث التوحيد في الإشارة الأولى من إشارات بداية بحث التوحيد في الذات، فراجع

المتناهي الذي يرجع إلى اللا متناهي والذي يبقى في طول وجوده وعلمه وقدرته وإرادته، فلا ينفيه –وإن كان المتناهي خارقًا في صفاته بالنسبة إلى عامة البشر-، وليس من شرط اللا تناهي عدم وجود متناهي!

ولذلك نجد أن القرآن الكريم صرح بوجود قدرة خارقة وغيبية في طول قدرته تعالى، كما في قوله تعالى على لسان النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(1)

الخطوة الثانية: مستوى الدليل على ثبوت الولاية التكوينية لهم (عليهم السلام)

من المنطقي جداً السؤال عن الدليل على تحقق واتصاف الأئمة بهذا النوع من القدرات الغيبية، وقد تقدم الدليل على ذلك في النقطة الرابعة.

ص: 264


1- (49) من سورة آل عمران.
التساؤل الرابع: مضادة الجو القرآني للعصمة
اشارة

قد يُقال: إن الجو القرآني مضاد لفكرة العصمة مطلقاً، أو للعصمة المطلقة لكل الأحوال التي قال بها الشيعة على الأقل، وإلا فبأي شيء تفسر آيات التوبيخ للأنبياء وتهديدهم وتكفير سيئاتهم؟!

هذا الجو يتمثل بسلسلة من الآيات القرآنية التي تنسب الذنب للأنبياء، والتي تعاتبهم بلهجة شديدة، يصل بعضها إلى حدّ التهديد، والتوبيخ، وهذا ما لا يتناسب مع العصمة المقتضية للتبجيل والثناء والتقديس.

يلاحظ في هذا المجال الآيات التالية: (وَعَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ)(1)، و (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً.)(2)

و (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.)(3)

ص: 265


1- طه 121.
2- الإسراء 73 – 75.
3- هود 46.

وقبل الجواب نذكر الأمور التالية:

الأمر الأول

لو سُلّم وجود هذا الجو المضاد للعصمة في آيات القرآن، والذي يضطرنا منهجيًا إلى رفع اليد عن مقولة العصمة، إلاّ أنه لا ينتج عن ذلك الوصول إلى تسوية نوعية بين المعصوم وضده النوعي.

رفع اليد عن عصمة النبي أو الولي لا ينتج عنه القول بتساوي الظالم مع العادل، ولا الجاهل مع العالم، ولا الناجح مع الفاشل، لا ينتج عنه تساوي موسى وفرعون، وتساوي الحسين ويزيد، بحيث تترك الأمور للاختيار العشوائي بينهما، بل تبقى هناك إلزامات واقعية وعقلية تُبقِي المسافة الطويلة بين العادل والخبير والنزيه وذي الخبرة وبين أضدادهم، فالعقل والقانون ما زالا يفرّقان بين أولئك، ويُقدمون العادل على غيره، والنزيه على غيره، في مختلف مجالات الحياة.

وبعبارة أخرى: أن الجو المزعوم لو تم، ورفعنا اليد عن العصمة وتعيين السماء، فهو لا يُنتج شرعنة ما وقع في المحيط الاجتماعي والديني، من تصدِّي الظلمة والمستبدين وأفعالهم، ولا يُترك الأمر إلى اختيار الأتباع وفق رغباتهم، بل تبقى هناك تأسيسات عقلية تؤسّس بدورها لجملة تأسيسات قانونية تشرعن لاختيار دون آخر، ولظاهرة دون أخرى، ولفعل دون آخر.

فليس الأمر دائرًا بين العصمة والنص من السماء، وبين الاختيار العشوائي، وإنما هناك شق ثالث هي القوانين العقلية في التفاضل ولزوم

ص: 266

تقديم الفاضل على المفضول في أي مجال من مجالات الحياة، كما تبين.

وبتفصيل في الإمامة:

إنكار الآخر لأطروحة الشيعة في العصمة يستهدف خلق ضد نوعي بالتسوية بين أهل البيت وخصومهم، والذي يجر إلى القضاء على فكرة النص وفتح منافذ لتسرّب المقولات البديلة داخل الوسط الشيعي وتحت غطاء شرعي، وبذا يتم نخر المحتوى الشيعي وإيجاد مسافة بينهم وبين مركز الاستقطاب في فكرهم وولائهم.

وغفل هؤلاء عن أن عملية التفضيل تتم بأبسط من العصمة بكثير، إذ قليل من التفاضل العلمي والسلوكي يكفي في ترسيم الأولويات.

في حين أن القرآن مليء بآيات الفضائل النازلة في حق أهل البيت (عليهم السلام) والمفسرة بهم والمؤولة بهم كأبرز مصداق، وبحد تجعل الفاصلة بينهم وبين الآخر لا تقبل الترقيم، ممّا لا يترك فرصة منهجية للتردد في أولويتهم وضرورة النص.

الأمر الثاني

لو كان التساؤل لا يُراد من ورائه المساواة بين المعصوم وغيره في التصدي، وإنما كان يُقصد من إثارته فسح المجال أمام نقاش المعصوم، وطرح الرأي في مقابل رأيه، بما يصل إلى حدّ تخطئته، فالجواب هو:

أن النقاش إنما يصدق ويصح لو كان الطرفان متقاربين من حيث الفضيلة

ص: 267

أو المستوى العلمي، ليصح لأحد الطرفين تخطئة الآخر وطرح الرأي المقابل لرأيه.

أما إذا كان الفاصل بينهما شاسعًا، فالحوار بينهما أقرب وألصق بالسؤال والاستفسار من الداني إلى العالي منه إلى النقاش. وهل يصح لتلميذ ابتدائية أن يطرح نفسه كمناقش لبروفيسور في علم معين أو عبقري في تخصصه؟!

وفي المقام، فإنه لو فُرض عدم عصمة النبي مثلًا، لكن هذا لا يعني أن موقعه سيكون موقع رجل عادي في الأمة، وإنما ما زالت الأمة تنظر إلى النبي –غير المعصوم حسب الفرض- على أنه رجلها الأول ومرجعها العلمي الذي لا يُدانيه أحد في مجاله الديني، إذ إنه يتوفر على ما لم يُتح لجميع الأمة، وهو اتصاله بالسماء من خلال الوحي، وعدم عصمته المفترض لم يسلب عنه ارتباطه بالسماء، وهذا يعني أن الحديث معه ما زال يُبوّب في خانة السؤال والاستفسار والاستزادة العلمية بالتعلّم منه، لا أنه يرقى لمصافّ النقاش، بغض النظر عن كيفية طرح السؤال وأنه بصيغة سؤال أو بصيغة نقاش فإنه يبقى في العمق استفهام وسؤال لا نقاش.

وحتى لو تنزلنا وأجزنا نقاش النبي والإمام، لكن هذا لا يبرر مخالفته حتى لو انتهى النقاش بنتائج مختلفة، بل يلزم اتباعه من جهة أنه مجعول من السماء. والجعل يفرض على الاتباع الطاعة المطلقة، وإن لم يكن معصومًا –حسب الفرض وتماشياً مع الفريق الآخر النافي للعصمة-، وإلا وقع الاتباعُ في المعصية.

ص: 268

ونفس الكلام يُقال في الإمام، لمكان عصمته.

الأمر الثالث

لا شك أن الإجماع ظاهرة معقّدة –لا بسيطة- ونادرة –لا متوفرة- خصوصًا في القضايا غير المحسوسة وغير المادية، وخصوصًا في القضايا الإنسانية ذات الطابع العام –فضلًا عن العلمية-، هذا من جهة.

من جهة أخرى، نجد أن أتباع الديانات عمومًا قبلوا عصمة الأنبياء –في الجملة، ولو في مجال تلقّي الوحي وتبليغه- الأمر الذي يعني أن الإجماع على هذه الصفة فيهم لا يمكن أن يكون مجرد تلقين، إذ هناك في الأمة من العقول ما لا يُمرّر عليها التلقين.

لا شك إذن أن هذا الإجماع هو فرع الفطرة أو التلقي الديني، مما يعني وجود جوٍّ موافق للعصمة ومناصر لها ومتسالم عليها، ومثل هذا الجو لا يمكن أن يكون ناشئًا من الأعراف أو التقاليد، ولا يمكن أن يكون بدون واقع وراءه، وإلاّ لظهرت أصوات قوية مناهضة له وموازية للإجماع عليه تقول بعدم العصمة، وهذا ما لم يقع.

والإجماع على العصمة ليس شيئًا عابرًا أو مخفيًا، إنما هو معلن، بحيث إن أي تصرف أو سلوك لا يتناسب مع العصمة، فإنه سيكون أمرًا مستفِزًّا لها، وصارخًا بمخالفتها وعدم انسجامه معها.

وإجماعٌ بهذه المواصفات على العصمة، يُخفِّض على الأقل من تأثيرات

ص: 269

الجوّ القرآني المضاد.

أو قل: إن الإجماع لدى المسلمين على مبدأ العصمة –ولو في الجملة- يكشف عن عدم وجود جو يضادّه، أو على الأقل: أن ما يعارضه إنما هو مجرد نصوص مستفزة للعصمة، وغير صريحة في نفيها.

فتبين مما تقدم أنه لو قبلنا وجود جوٍّ قرآني مضاد للعصمة، فإنه ليس هو الجو الوحيد ليُقال بأنه يؤدي إلى وجود خلل بنيوي في أدلة العصمة، بل إنه يوجد جو ديني آخر لصالح العصمة وقابل لها ولو في الجملة.

وبالإضافة إلى هذين الجوّين، فإنه يوجد جو ثالث، وهو:

أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن الأنبياء، فإنه يضع لهم جملة من المواصفات العالية، وبلغة تبجيلية راقية، ومن تلك المواصفات: الطهارة، القرب، الهداية بأمره تعالى، اليقين، الإخلاص، الصبر، البِر، الإحسان، الصلاح، وعشرات غيرها.

هذه الصفات هي حدود وسطى للعصمة أو نتائج لها أو مضمونها، فهي بمجموعها تنتهي بالباحث إلى عصمة النبي وأن الجو القرآني لصالح العصمة.

علمًا: أن العصمة مصطلح، فحين يراد البحث عنها في القرآن لابد من البحث عن مضمونها.

ونكتفي بعرض جملة نماذج قرآنية تناولت هذه الصفات ككبرى وطبقتها

ص: 270

على الأنبياء:

النموذج الأول

الكبرى: قال تعالى حاكياً عن إبليس (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(1)

فالمخلَصون مستثنَون من إغواء الشيطان، مما يعني أن قدرات إبليس ليست مفتوحة على مصراعيها ومن دون تحديد.

والصغرى: قوله تعالى (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)(2) و (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(3)

فالأنبياء أخلصهم الله تعالى، فهم خارج دائرة إغواء إبليس، فهم معصومون عن تأثير الشيطان.

النموذج الثاني

الكبرى: قوله تعالى (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)

الصغرى: قال تعالى (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)(4)

فالذين أنعم الله تعالى عليهم في الآية هم مصاديق لمن هداهم الله تعالى

ص: 271


1- (82 - 83) من سورة ص.
2- (46) من سورة ص.
3- (24) من سورة يوسف.
4- (69) من سورة النساء.

إلى الصراط المستقيم، والصراط المستقيم تعبير آخر عن العصمة.

النموذج الثالث

الكبرى: قال تعالى عن حقيقة القرآن الكريم (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(1) أي إن القرآن لا يمس معانيه إلاّ المطهرون، وإن فيه مراتب عالية لا يصل إليها إلاّ المطهرون.

الصغرى: قال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(2)

فالتطهير هو إذهاب الرجس، فهو تعبير آخر عن العصمة.

النموذج الرابع

الكبرى: قال تعالى (وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ)(3)،

وقال تعالى (مَن يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(4)

الفكرة في هذه الآيات: أن هناك شخوصًا هي في عهدة الله تعالى ورعايته المباشرة، ومن يكن كذلك فلا تطاله عوامل الإضلال الخارجية.

الصغرى: قال تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسىٰ وَهارُونَ

ص: 272


1- (79) من سورة الواقعة.
2- (33) من سورة الأحزاب.
3- (37) من سورة الزمر.
4- (39) من سورة الأنعام.

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَىٰ الْعالَمِينَ. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.)(1).

بالإضافة إلى:

الآيات الخاصة بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الناهية عن إيذائه، وعن رفع الصوت بحضرته، ولزوم طاعته بالمطلق، وعدم جواز الاختيار في قبال اختياره، وغيرها كثير.

بالمجموع تُشكل الآيات جوًّا إيجابيًا عن الأنبياء ومؤهلاتهم، وليس هو جوًا قانونيًا فقط يُلزم الناس باتباع الأنبياء؛ لأن الله تعالى جعلهم أنبياء فقط، وإنما هو يذكر وصولهم إلى ذلك مع ذكر المؤهلات التي أوصلتهم إلى هذه المرتبة.وأوضح مثال على ذلك هي آية النبي إبراهيم (عليه السلام) ووصوله إلى الإمامة بعد جملة من الاختبارات والبلاءات التي تجاوزها بكل ثبات واستقامة.

الجواب التفصيلي

إذا تبينت هذه الأمور الثلاثة المتقدمة، يمكن أن ننقّط الأجوبة الحلّية التالية للتكييف بين الجو القرآني الساند للعصمة مع الإجماع والتسالم عليها وبين ما اُفترض أنه جو مضاد:

ص: 273


1- سورة الأنعام (84 – 87).

أولًا:

لا معنى للانفراد بجو السؤال المضادّ وإهمال الجوين الآخرين القرآني والديني.

بل إن الجو المزعوم في التساؤل ليس جوًّا في الحقيقة، لأنه وحسب نقل بعض الأساتذة لا تتجاوز آياته (40) آية، وهذا المقدار من الآيات لا يصنع جوًّا ضمن أكثر من (6000) آية في القرآن الكريم، خصوصًا مع وجود عشرات بل مئات الآيات الموافقة للعصمة والدالة عليها والمثبتة لها والمتماهية معها.

ثانياً:

على أن البحث العلمي، والرجوع إلى اللغة العربية واستعمالاتها، وتطبيق أصول وقواعد التفسير على تلك الآيات الأربعين يُثبت أنها ليست نصًّا في نفي العصمة، وأنها تشير إلى أمور أخرى لا تتقاطع مع العصمة سلبًا، وأن ما يظهر منه نسبة الذنب إلى الأنبياء، إنما هو بحسب النظرة الساذجة، وأنها بالتحقيق إشارات إلى مراتب معينة من مخالفة الأولى وما شابه.

نعم، لا شك أن تلك الآيات –بالنظرة الأولية الظاهرية- تستفز العصمة وتخدش فيها، فلذلك احتجنا إلى تفسيرها أو تأويلها بما يتناسب مع مئات الآيات الدالة على العصمة، فهي آيات تساؤل أكثر من كون مضمونها يمثل إشكالاً على العصمة، فضلًا عن كونها تكشف عن خلل بنيوي في أدلة

ص: 274

العصمة.

وقد أشبع علماؤنا البحث في تفاصيل تلك الآيات في كتبهم، ويمكن لأي باحث أن يجدها بكل يُسر.

ثالثًا:

أما لماذا كانت هذه الآيات المستفزة للعصمة، والخادشة فيها، وأصلاً لماذا ذُكرت هذه الآيات؟

فهذا ما تتبين حقيقة الحال فيه من التالي:

لا شك أن القرآن الكريم هو كتاب هداية وتربية وتأديب، وأن أزمة التوحيد التي كانت سائدة في المجتمعات -وما زالت- لم تكن دومًا بصيغة الإلحاد وإنكار وجود الله تعالى، وإنما كانت بصيغة الشرك، ولم تكن تطرح الآلهة المفترضة في عرض الله تعالى، وإنما طرحت في طول الله تعالى، ولكن مع نسبة الاستقلال إليهم في بعض الحيثيات، بمعنى اعترافهم ضمناً بأن الإله هو الله تعالى، ولكن هذه الآلهة وسائل ووسائط له تعالى.

وهذا التفكير الذي قَبِل تأليه خشبة أو تمرة، مرشح لأن يقبل تأليه الأنبياء والأوصياء والأئمة، فيقع في ما لا تُحمد عقباه، فإذا ما ركّز القرآن الكريم على عبوديتهم وبشريتهم، فهذا يقطع الطريق أمام ذلك التفكير... بل نجد أنه رغم هذا التركيز على عبوديتهم فقد وقع البعض من خفيفي العقول في تأليه عيسى النبي (عليه السلام) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، فكيف إذا لم يركز القرآن

ص: 275

الكريم على ذلك؟!

بالإضافة إلى أن تقديس تلك الشخوص بسبب وصولهم إلى المقامات الغيبية واتصالهم بالوحي وعصمتهم، إنما هو بالنسبة لنا، أما تلك الشخوص فهم مستغرقون في العبودية، ومن هنا ركّز القرآن الكريم على عبوديتهم بمختلف الأساليب حتى يُعرّف الناس أن هؤلاء المقدسين بشر مثلنا، ولا يقع الناس في دوامة الغلو والتأليه، ومن تلك الأساليب هي تلك الآيات المستفزة والخادشة في العصمة بحسب النظرة السطحية.

فالقرآن الكريم، في الوقت الذي يؤكد على عظمة الأنبياء ووصولهم إلى مراتب عالية من الكمال، هو يريد أيضًا التأكيد على بشريتهم، وعبوديتهم، باعتبار أنه كتاب تربية وتعليم وتكميل.

رابعًا:

إن كل درجة من التكامل تملي على صاحبها نوعاً معينًا والتزامات محددة من السلوك، لأن وصوله إلى مرتبة من التكامل يعني حصول زيادة في علمه وقدرته الخاصّين، وهو ما يترتب عليه نوع معين من السلوك، يتلاءم ويتناسب مع تلك المرتبة، ويصاحب هذه الزيادة إحساس بالتقصير والذنب بسبب عدم الوصول إليها قبلاً، فيظهر منه الندم والبكاء والاستغفار وإظهار الذل بين يديه تعالى، وهذا ما يبين لنا الكثير من الآيات التي اُدّعي دلالتها على عدم عصمة الأنبياء.

ص: 276

ومنه أيضاً نفهم ما يُقال من أن حسنات الأبرار سيئات المقربين...

الأنبياء يصلون إلى مرحلة من العبودية الخالصة لله تعالى، بحيث إنهم يعتبرون أن أي انشغال عنه تعالى -ولو بالأمور المباحة والمحلّلة- ذنبًا يستغفرون الله منه، وجملة من الآيات تلك تشير إلى الذنب بحسب مرتبتهم هم، لا بحسب القانون الشرعي، فإنها بحسبه ليست ذنوبًا في الواقع، ولكن النبي يعتبرها كذلك بما يتناسب مع مرتبته الكمالية التي وصل إليها.

ويمكن بيان (رابعًا) بعبارة أخرى، فيُقال:

إن النصوص القرآنية التي تحدثت عن الأنبياء، يمكن أن نقسمها إلى مجموعتين:

المجموعة الأولى

نصوص ركّزت على عبودية الأنبياء، بشريتهم، عدم علمهم بالغيب المطلق، حاجتهم إلى الباري جل وعلا في جميع شؤونهم، تسديدهم من السماء، شفاعتهم ولكن بإذنه تعالى.

هذه المجموعة تشير إلى أمرين:

الأمر الأول:

بيان الواقع كما هو وبشكل كامل، وأن الأنبياء في الوقت الذي هم أنبياء مجعولون من الله تعالى، ويوحى إليهم على خلفية مؤهلاتهم العالية، وأنهم وصلوا إلى مراحل عالية من التكامل، فهم مقرّبون، مطهرون، مخلَصون،

ص: 277

وغيرها مما يصب في وصف جانبهم الملكوتي... فهم في الوقت ذاته عبيد لله تعالى في واقعهم، ويجري عليهم ما يجري على العبيد من كونهم محتاجين إليه تعالى فقراء إليه، فهم في جانبهم المُلكي بشر، عليهم ما على البشر من هذه الجهة.

الأمر الثاني:

يفهم من هذه المجموعة أن الحد الأوسط في وصولهم إلى تلك الكمالات والمقامات إنما هي عبوديتهم لا ألوهيتهم، فلشدة إيغالهم في العبودية وصلوا إلى هذه المراتب العالية من الكمالات لوجودية.

المجموعة الثانية: آيات العتاب فما فوق من تهديد وتوبيخ

حيث يُتساءل عن الهدف من ذكر تلك الآيات وبلسان اُدّعي أنه لسان لا يتناسب مع مقاماتهم الملكوتية ويتنافى مع عصمتهم.

في مقام الجواب نُذكّر: بأنه ورد على لسان نفس المعصومين (عليهم السلام) نصوص هي غاية في إظهار العبودية بل والخوف من الله تعالى بل ونسبة الذنب إلى أنفسهم، ليس ذنبًا عابرًا فحسب، وإنما النصوص الواردة عنهم تصرّح بالإيغال في المعصية وإلى حد القنوط من الرحمة الإلهية لولا النهي عنه.

ونذكر لذلك نموذجين من الأدعية الواردة عنهم (عليهم السلام).

النموذج الأول: دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) المعروف بدعاء أبي حمزة

ص: 278

الثمالي، حيث وردت فيه العديد من المقاطع التي تشير إلى ذلك المعنى، ومنها قوله (عليه السلام):

(أَنا يا رَبِّ الَّذِي لَمْ أَسْتَحْيِكَ فِي الخَلاءِ وَلَمْ اُراقِبْكَ فِي المَلاءِ أَنا صاحِبُ الدَّواهِي العُظْمى، أَنا الَّذِي عَلى سَيِّدِهِ اجْتّرى، أَنا الَّذِي عَصَيْتُ جَبَّارَ السَّماء، أَنا الَّذِي أَعْطَيْتُ عَلى مَعاصِي الجَلِيلِ الرُّشا، أَنا الَّذِي حِينَ بُشِّرْتُ بِها خَرَجْتُ إِلَيْها أَسْعى. أَنا الَّذِي أَمْهَلْتَنِي فَما ارْعَوَيْتُ وَسَتَرْتَ عَلَيَّ فَما اسْتَحْيَيْتُ وَعَمِلْتُ بِالمَعاصِي فَتَعَدَّيْتُ وَأَسْقَطْتَنِي مِنْ عَيْنِكَ فَما بالَيْتُ، فَبِحِلْمِكَ أَمْهَلْتَنِي وَبِسِتْرِكَ سَتَرْتَنِي حَتَّى كَأَنَّكَ أّغْفَلْتَنِي وَمِنْ عُقُوباتِ المَعاصِي جَنَّبْتَنِي، حَتَّى كَأَنَّكَ اسْتَحْيَيْتَنِي)

ثم يقول (عليه السلام):

إِلهِي لَمْ أَعْصِكَ حِيْنَ عَصَيْتُكَ وَأَنا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌ وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلا لِوَعِيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَغَلَبَنِي هَوَايَ وَأَعانَنِي عَلَيْها شِقْوَتِي وَغَرَّنِي سِتْرُكَ المُرْخَى عَلَيَّ، فَقَدْ عَصَيْتُكَ وَخالَفْتُكَ بِجُهْدِي؛ فَالآنَ مِنْ عَذابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي وَمِنْ أَيْدِي الخُصَماءِ غَداً مَنْ يُخَلِّصُنِي وَبِحَبْلِ مَنْ أَتَّصِلُ إِنْ أَنْتَ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي؟ فَواسَوْأَتا عَلى ما أَحْصَى كِتابُكَ مِنْ عَمَلِي الَّذِي لَوْلا ما أَرْجو مِنْ كَرَمِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ وَنَهْيِكَ إِيَّايَ عَنْ القُنُوطِ لَقَنَطْتُ عِنْدَما أَتَذَكَّرُها...)

ص: 279

النموذج الثاني: دعاء كميل:

جاء فيه: (...اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ العِصَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ النِّقَمَ. اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَحْبِسُ الدُّعاءَ. اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الّذنُوبَ الّتي تُنْزِلُ البَلاَء. اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ كُلَّ ذَنْبٍ أذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ خَطِيئَةٍ أَخْطَأْتُها...)

وفي مقطع آخر: (...اللّهُمَّ لا أَجِدُ لِذُنُوبِي غافِراً وَلا لِقَبائِحِي ساتِراً، وَلا لِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِيَ القَبِيحِ بِالحَسَنِ مُبَدِّلاً غَيْرَكَ، لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ، سُبْحانَكَ وَبِحَمْدِكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَتَجَرَّأْتُ بِجَهْلِي، وَسَكَنْتُ إِلى قَدِيمِ ذِكْرِكَ لِي، وَمَنِّكَ عَلَيَّ. اللّهُمَّ مَوْلايَ كَمْ مِنْ قَبيحٍ سَتَرْتَهُ، وَكَمْ مِنْ فادِحٍ مِنَ البَلاءِ أَقَلْتَهُ، وَكَمْ مِنْ عِثارٍ وَقَيْتَهُ، وَكَمْ مِنْ مَكْروُهٍ دَفَعْتَهُ، وَكَمْ مِنْ ثَناءٍ جَمِيلٍ لَسْتُ أَهْلاً لَهُ نَشَرْتَهُ.

اللّهُمَّ عَظُمَ بَلائِي، وَأَفْرَطَ بِي سُوءُ حالِي، وَقَصُرَتْ بِي أَعْمالِي، وَقَعَدَتْ بِي أَغْلالِي وَحَبَسَنِي عَنْ نَفْعِي بُعْدُ أَمَلِي، وَخَدَعَتْنِي الدُّنْيا بِغُرُورِها، وَنَفْسِي بِجِنايَتِها، وَمِطالِي يا سَيِّدِي فَأَسْأَلُكَ بِعِزَّتِكَ أَنْ لا يَحْجُبَ عَنْكَ دُعائِي سُوءُ عَمَلِي وَفِعالي، وَلا تَفْضَحَنِي بِخَفِيِّ ما اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنْ سِرِّي، وَلا تُعاجِلْنِي بِالعُقُوبَةِ عَلى ما عَمِلْتُهُ فِي خَلَواتِي مِنْ سوءِ فِعْلِي وَإِساءَتِي، وَدَوامِ تَفْرِيطِي وَجَهالَتِي، وَكَثْرَةِ شَهَواتِي وَغَفْلَتِي...)

وهكذا لا نكاد نجد نصًا دعائيًا ورد عنهم (عليهم السلام) إلاّ وفيه ما يشبه هذه الفقرات المملوءة بالاعتراف بالذنوب والخوف من العقوبة الإلهية

ص: 280

والاستعاذة بالله تعالى من المؤاخذة على ذنوبهم التي توجب لهم النار...

وفي الوقت ذاته لا نجد نصًا واحدًا عنهم يذكرون فيه مقاماتهم العالية أو إبراز عظمتهم ومراتبهم الكمالية، رغم أن النصوص تؤكد تلك العظمة والمرتبة الكمالية العالية، من قبيل ما جاء في الزيارة الجامعة الكبيرة: (مَنْ أَرادَ الله بَدَأَ بِكُمْ وَمَنْ وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنْكُمْ وَمَنْ قَصَدَهُ تَوَجَّهَ بِكُمْ، مَوالِيَّ لا أُحْصِي ثَنائَكُمْ وَلا أَبْلُغُ مِنَ المَدْحِ كُنْهَكُمْ وَمِنَ الوَصْفِ قَدْرَكُمْ وَأنْتُمْ نُورُ الاَخْيارِ وَهُداةُ الاَبْرارِ وَحُجَجُ الجَبَّارِ، بِكُمْ فَتَحَ الله وَبِكُمْ يَخْتِمُ وَبِكُمْ يُنَزِّلُ الغَيْثَ وَبِكُمْ يُمْسِكُ السَّماء أنْ تَقَعَ عَلى الاَرْضِ إِلاّ بِإذْنِهِ وَبِكُمْ يُنَفِّسُ الهَمَّ وَيكشف الضُّرَّ، وَعِنْدَكُمْ ما نَزَلَتْ بِهِ رُسُلُهُ وَهَبَطَتْ بِهِ مَلائِكَتُهُ وَإِلى جَدِّكُمْ... بُعِثَ الرُّوحُ الاَمِينُ. آتاكُمُ الله مالَمْ يُؤْتِ أحَداً مِنَ العالَمِينَ، طَأْطَأَ كُلُّ شَرِيفٍ لِشَرَفِكُمْ وَبَخَعَ كُلُّ مُتَكَبِّرٍ لِطاعَتِكُمْ وَخَضَعَ كُلُّ جَبَّارٍ لِفَضْلِكُمْ وَذَلَّ كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ وَأَشْرَقَتِ الاَرْضُ بِنُورِكُمْ وَفازَ الفائِزُونَ بِوِلايَتِكُمْ، بِكُمْ يُسْلَكُ إِلى الرِّضْوانِ وَعَلى مَنْ جَحَدَ وِلايَتَكُمْ غَضَبُ الرَّحْمنِ.

إذن كيف نفسر تلك الأدعية التي هي غاية في الاعتراف بالذنوب والخوف من الله تعالى ومن نار جهنم؟

لا بد في مقام الجواب من الرجوع إلى فكرة أن الإنسان كلّما تكامل أكثر اعتبر أن التصرفات التي يمكن أن تصدر منه في المرتبة السابقة، لو صدرت منه في مرتبته اللاحقة فهي ذنب باعتبار المرتبة الأكمل. أو ما يُقال من أن (حسنات الأبرار سيئات المقربين).

ص: 281

ومن هذا القبيل ما روي مرفوعًا إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما تلّقى يوسفُ يعقوبَ ترجّل له يعقوبُ ولم يترجّل له يوسف فلم ينفصلا من العناق حتى أتاه جبرئيل فقال له : يا يوسف، ترجّل لك الصديق، ولم تترجّل له، ابسط يدك، فبسطها فخرج نور من راحته، فقال له يوسف : ما هذا ؟ قال : هذا آية لا يخرج من عقبك نبي عقوبة.(1)

ومن هنا يمكن فهم ما ورد من أن عذاب العالم مضاعف على عذاب الجاهل ولو ارتكبا نفس الذنب.

وبعبارة أخرى:

أن الفعل يتلون بالفاعل، ففعل واحد قد يكون حسنًا من شخص، ولكنه قبيح من آخر، فالأكل في الطرقات قد يكون مباحًا على شخص، لكنه محرم بالعنوان الثانوي على شخص آخر.

والقرآن الكريم عندما ينسب الذنوب للأنبياء فإنما هي باعتبار أنهم يرونها ذنوبًا لمكان مقاماتهم العالية، وإن كانت بالقانون الشرعي ليست ذنوبًا بالنسبة لنا.

مع التنبيه على أن كل ما تقدم منا لا يعني أننا نغلق الباب أمام تأويل بعض الآيات التي نسبت الذنوب للأنبياء، كيف والتأويل علم له أصوله وقوانينه، وهو مقبول جدًا، ولذلك فإن ما بذله العلماء في معالجة كل آية من هذه الآيات ولو عبر التأويل هو جهد معرفي مقبول.

ص: 282


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 55 باب 47 - العلة التي من أجلها لم يخرج من صلب يوسف نبي. ح1.
التساؤل الخامس: لماذا لم يصرح القرآن باسم علي (عليه السلام)؟

لماذا لم يصرح القرآن الكريم بإمامة علي وأولاده (عليهم السلام) ولم يذكر أسماءهم صراحة؟

الجواب:

1 / منهجياً: التصريح بمعنى الدلالة النصية والقطعية أعم من ذكر الاسم، ولا ضرورة تقضي بذكر الاسم، على أن الكناية – كما قالوا في البلاغة – أبلغ من التصريح، بمعنى أنها أدلّ في الوصول إلى المقصود. من ثم ارتهان صدق نظرية بذكر الاسم لا يُعبّر عن بعدٍ منهجي.

2 / هذا السؤال تناوله الصحابة مع أهل البيت (عليهم السلام)، وقد أجاب عنه أهل البيت (عليهم السلام) في رواياتهم.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)(1) فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ (عليهم السلام). فَقُلْتُ لَه: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: فَمَا لَه لَمْ يُسَمِّ عَلِيّاً وأَهْلَ بَيْتِه (عليهم السلام) فِي كِتَابِ الله عَزَّ وجَلَّ؟ قَال: فَقَالَ (عليه السلام): قُولُوا لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ الله(صلى الله عليه وآله) نَزَلَتْ عَلَيْه الصَّلَاةُ ولَمْ يُسَمِّ الله لَهُمْ ثَلَاثاً ولَا أَرْبَعاً حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله) هُوَ

ص: 283


1- النساء 59

الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، ونَزَلَتْ عَلَيْه الزَّكَاةُ ولَمْ يُسَمِّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً دِرْهَمٌ حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله) هُوَ الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، ونَزَلَ الْحَجُّ فَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ طُوفُوا أُسْبُوعاً حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله) هُوَ الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ ونَزَلَتْ (أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) ونَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله) فِي عَلِيٍّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه، وقَالَ (صلى الله عليه وآله): أُوصِيكُمْ بِكِتَابِ الله وأَهْلِ بَيْتِي، فَإِنِّي سَأَلْتُ الله عَزَّ وجَلَّ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُورِدَهُمَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَأَعْطَانِي ذَلِكَ، وقَالَ: لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ. وقَالَ: إِنَّهُمْ لَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ بَابِ هُدًى ولَنْ يُدْخِلُوكُمْ فِي بَابِ ضَلَالَةٍ، فَلَوْ سَكَتَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) فَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ أَهْلُ بَيْتِه لَادَّعَاهَا آلُ فُلَانٍ وآلُ فُلَانٍ، ولَكِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ أَنْزَلَه فِي كِتَابِه تَصْدِيقاً لِنَبِيِّه (صلى الله عليه وآله): (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1)، فَكَانَ عَلِيٌّ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ وفَاطِمَةُ (عليهم السلام) فَأَدْخَلَهُمْ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) تَحْتَ الْكِسَاءِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَهْلاً وثَقَلاً، وهَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وثَقَلِي. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ألَسْتُ مِنْ أَهْلِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ ولَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي وثِقْلِي.

فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) كَانَ عَلِيٌّ أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ، لِكَثْرَةِ مَا بَلَّغَ فِيه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) وإِقَامَتِه لِلنَّاسِ وأَخْذِه بِيَدِه....(2)

3 / هناك مجموعة من الآيات التي لا تقبل التأويل نزلت فيهم (عليهم السلام)،

ص: 284


1- الأحزاب 33.
2- الكافي للكليني ج1 ص 286 – 288 بَابُ مَا نَصَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ ورَسُولُه عَلَى الأَئِمَّةِ ع وَاحِداً فَوَاحِداً ح1.

إلا أنها بمواصفاتهم لا بأسمائهم، كآية المودة والتطهير من الرجس والتصدق أثناء الصلاة حال الركوع والمباهلة والغدير وعشرات الآيات الأخرى، وقد تقدم بيان بعض هذه الآيات بالتفصيل.

4 / مجموعة كبيرة من الآيات طُبّقت على أهل البيت (عليهم السلام) في الروايات بصفتهم أبرز المصاديق إن لم يكونوا المصداق الحصري، وميزة هذه الآيات بالإضافة إلى كثرتها وتوزعها على عموم القرآن: أنها تحمل عناوين كبيرة تلتقي مع العصمة والمرجعية والحق، مثل (الصراط المستقيم، والنور، والهدى، والسبيل إلى الله، والشهادة، والذكر، والتطهير...) وبعد توفر هذه المواصفات لا معنى لإنكار عصمتهم وحجيتهم بحجة عدم ذكر لفظ أسمائهم....

والروايات في هذا المجال كثيرة(1)،

نذكر منها:

عَنْ سَالِمٍ الْحَنَّاطِ قَالَ قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى (نَزَلَ بِه الرُّوحُ الأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) قَالَ: هِيَ الْوَلَايَةُ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام).(2)

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (ولَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ والإِنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) قَالَ: الْوَلَايَةُ.(3)

ص: 285


1- راجع الكافي للكليني ج1 بَابٌ فِيه نُكَتٌ ونُتَفٌ مِنَ التَّنْزِيلِ فِي الْوَلَايَةِ، حيث ذكر (92) رواية.
2- الكافي للكليني ج1 ص 412 بَابٌ فِيه نُكَتٌ ونُتَفٌ مِنَ التَّنْزِيلِ فِي الْوَلَايَةِ ح 1.
3- الكافي للكليني ج1 ص 413 بَابٌ فِيه نُكَتٌ ونُتَفٌ مِنَ التَّنْزِيلِ فِي الْوَلَايَةِ ح 6.

وعَنِ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: أَوْحَى الله إِلَى نَبِيِّه (صلى الله عليه وآله): (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قَالَ: إِنَّكَ عَلَى وَلَايَةِ عَلِيٍّ، وعَلِيٌّ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.(1)

5 / يقرّر القرآن الكريم أن الأمة ستمرُّ بحالة من الانقلاب بعد وفاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وقال تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(2)

وقد ظهرت بوادر هذا الانقلاب في حياته (صلى الله عليه وآله) والتي كان آخرها قولهم (إن النبي أو الرجل يهجر أو غلبه الوجع!)(3)

ثم إن القرآن الكريم كان قد أخبر بحفظ القرآن الكريم من التحريف، قال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(4)

وهذا الحفظ جاء بوسائل متعددة، منها العادية، ومنها الإعجازية.

من هنا، فربما كان إخفاء اسم الخليفة الشرعي وعدم ذكره (صراحة) هو من آليات حفظ القرآن من التحريف، إذ الأمة ستنقلب، فلو كان القرآن قد صرّح بذكر اسم علي وأولاده (عليهم السلام) لأمكن أن تحذف الآيات التي ذكرت

ص: 286


1- الكافي للكليني ج1 ص 416 – 417 بَابٌ فِيه نُكَتٌ ونُتَفٌ مِنَ التَّنْزِيلِ فِي الْوَلَايَةِ ح 24.
2- (144) سورة آل عمران.
3- انظر: مسند أحمد ج1 ص 325 و ج1 ص 355 وصحيح البخاري ج1 ص 37 و ج5 ص 138 و ج8 ص 161 و صحيح مسلم النيسابوري ج5 ص 76 وغيرها من مصادر العامة.
4- (9) سورة الحجر.

ذلك، مما يعني تحريف القرآن...(1)

6 / يقرّرُ القرآن الكريم مبدأ ابتلاء الناس في الدنيا في آيات كثيرة، قال تعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)(2)

وقال تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(3)

ومن الواضح أن الذي يضع منهجية الابتلاء هو الله تعالى حسب ما يراه من الحكمة، وواحدة من آليات الابتلاء هو الوضوح في عين الخفاء والخفاء في عين الوضوح، ومعه، فما المانع من أن تكون قضية الإمامة هي من ابتلاءات الأمة وتمحيص للمؤمنين أن تكون قد ثُبِّتَتْ قرآنياً بوضوح في عين الخفاء! فإننا في الوقت الذي نسمع فيه هذا السؤال القديم الجديد، نسمع إلى جانبه أن القرآن كله يتحدث عن الإمامة...

7 / ولو تنزلنا وقلنا: إن القرآن الكريم لم يذكر الإمامة ولو من بعيد! ولكن عندنا أحاديث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الكثيرة والمتواترة التي صرحت بإمامة علي وأولاده (عليهم السلام)، فضلاً عن السنة التي فسرت الآيات الكثيرة بهم (عليهم السلام)، أو التي بينت أن سبب النزول كان هم (عليهم السلام)، وهذه بمجموعها تورث

ص: 287


1- وربما يستفاد من هذا البيان سبب من أسباب منع تدوين حديث النبي (صلى الله عليه وآله) وجمع المصاحف وتوحيدها...
2- (2) سورة العنكبوت.
3- (214) سورة البقرة.

وضوحاً لا يمكن إنكاره إلا مكابرة في إمامة علي وأولاده (عليهم السلام)...

ونحن إذ قلنا: إن السنة القطعية ذكرت إمامة علي (عليه السلام) ودلّت على ذلك بوضوح، وهي حجة بنفسها، وليس معنى حجيتها كونها في عرض حجية القرآن الكريم، بل هي حجة في طوله، وبيانات النبي (صلى الله عليه وآله) هي بيانات قرآنية ولا يمكن أن تنفصل عنه، قال تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)(1) وقال تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )(2)

ومعه، فحتى لو لم نجد إشارة صريحة لقضية الإمامة في القرآن الكريم أو لم نفهم ذلك، فإن تلك السنة القطعية تكشف –إنّاً- عن وجود حقيقة الإمامة في القرآن الكريم...

ص: 288


1- (89) سورة النحل.
2- (44) سورة النحل.
التساؤل السادس: علم الأئمة (عليهم السلام) بالغيب
اشارة

تقدم أن من أهم مؤهلات الإمام أن يكون لديه علم لدني خاص، وهو ما يكشف له الواقع كما هو، وبالتالي يمكنه أن يعلم بما وراء المادة، وما خلف عالم الشهادة، أي إنه يمكنه أن يعلم بالغيب.

ولكن هذا الأمر يواجه بعض الأسئلة، فكيف يكون عالمًا بالغيب ولكنه ورد عنهم (عليهم السلام) روايات ينفون بها كونهم عالمين بالغيب، بل هناك بعض الأفعال التي كانوا يفعلونها تتنافى مع علمهم بالغيب، هذا فضلًا عن إقدامهم على شرب السم مثلًا عندما يُقدمه لهم الظالم، فلو كان يعلم بكونه سمًا فهو إلقاء للنفس في التهلكة، وإن كان لا يعلم فهو يتنافى مع كونه عالمًا بالغيب.

والجواب:

عبر الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: علمهم (عليهم السلام) ليس استقلالياً عن الله تعالى

لا شك أنه إنْ أريد من كونهم (عليهم السلام) عالمين بالغيب أنهم يعلمون به استقلالًا، فهذا لا يمكن قبوله، بل إنه يلزم منه الشرك، إذ لا مستقل في الوجود في ذاته وصفاته وأفعاله سوى الله تبارك وتعالى، وكل ما عداه فهو

ص: 289

وجود رابط وممكن ومحتاج إليه جل جلاله.

ومعه، فعلم أهل البيت (عليهم السلام) مهما عظم يبقى بالغير، أي يبقى بالله تعالى ومن الله تعالى.

وهذا المعنى هو ما كان يشير إليه أهل البيت (عليهم السلام) في بعض الروايات الشريفة، (ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في ذكر الإمام علي (عليه السلام) بعض أخبار الملاحم والفتن حيث أثار استغراب بعض أصحابه ودهشتهم...)(1)

إذ روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة أنه قال:

«يَا أَحْنَفُ، كَأَنِّي بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لاَ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلاَ لَجَبٌ، وَلاَ قَعْقَعَةُ لُجُمٍ، وَلاَ حَمْحَمَةُ خَيْلٍ، يُثِيرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ... ثمّ قال (عليه السلام): وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ، وَدُورِكم الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنَحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ، مِنْ أُولئِكَ الَّذِينَ لاَ يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ. أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا... كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وَجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَالدِّيبَاجَ، وَيَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ، وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ، حَتَّى يَمْشِيَ الْمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ، وَيَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ المَأْسُورِ! فقال له بعض أصحابه: لقد أَعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك (عليه السلام)، وقال للرجل - وكان كلبياً: يَا أَخَا كَلْبٍ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ

ص: 290


1- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 565.

ذِي عِلْمٍ...»(1).

فكأن الإمام (عليه السلام) هنا يُريد أن ينفي علمه المستقل بالغيب، لذلك أوضح له بأن ما عنده إنما هو تعليم من الله تبارك وتعالى. والرواية كما ترى لم تنف علم الغيب، بل إن الإمام بعد أن أخبر ببعض الملاحم المستقبلية، نفى أن يكون علمه بالغيب هذا مستقلًا كما تبين.

وإلى هذا المعنى أشار العلامة المجلسي (قدس سره) في بحاره بعد ذكره لهذه الرواية بقوله:

تحقيق: قد عرفت مرارًا أن نفي علم الغيب عنهم معناه: أنهم لا يعلمون ذلك من أنفسهم بغير تعليمه تعالى بوحي أو إلهام. وإلا فظاهرٌ أن عمدة معجزات الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) من هذا القبيل، وأحد وجوه إعجاز القرآن أيضا اشتماله على الإخبار بالمغيبات، ونحن أيضًا نعلم كثيرًا من المغيبات بإخبار الله تعالى ورسوله والأئمة (عليهم السلام) كالقيامة وأحوالها والجنة والنار والرجعة وقيام القائم (عليه السلام) ونزول عيسى (عليه السلام) وغير ذلك من أشراط الساعة، والعرش والكرسي والملائكة.(2)

وبنفس هذا المعنى تُفسّر الروايات الشريفة التي أكّدت أنهم (عليهم السلام) لا يعلمون الغيب، وإنما إذا أرادوا أن يعلموا ذلك أعطاهم الله تعالى علمه، فكأنهم (عليهم السلام) ينفون العلم الفعلي الذاتي بالغيب عن أنفسهم، وفي نفس

ص: 291


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 128؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 8، ص215.
2- بحار الأنوار ج26 ص 103.

الوقت يُثبتون علمهم بالغيب بتعليم من الله تعالى، وهذا يؤكد العلم الخاص لديهم ولا ينافيه.

ومن ذلك ما روي عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ قَالَ: سَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ فَقَالَ لَه: أتَعْلَمُونَ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): يُبْسَطُ لَنَا الْعِلْمُ فَنَعْلَمُ، ويُقْبَضُ عَنَّا فَلَا نَعْلَمُ، وقَالَ: سِرُّ الله عَزَّ وجَلَّ أَسَرَّه إِلَى جَبْرَئِيلَ (عليه السلام)، وأَسَرَّه جَبْرَئِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، وأَسَرَّه مُحَمَّدٌ إِلَى مَنْ شَاءَ الله.(1)

وكذلك ما روي عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الإِمَامِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): لَا، ولَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَه الله ذَلِكَ.(2)

الخطوة الثانية: مخاطبة الناس على قدر عقولهم

نحن نعلم أن من أهم الأساليب التي اعتمدها المعصومون (عليهم السلام) في خطاباتهم هو أسلوب الخطاب على قدر عقل المخاطب، وهو ما تؤكده العديد من الروايات الشريفة، من قبيل ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما كلَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) العباد بكنه عقله قطُّ»، وقال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّا معاشر الأنبياء أُمِرْنا أن نُكلِّم الناس علىٰ قدر عقولهم»(3).

وبالتالي، فيمكن أن يكون نفي علم الغيب منهم (عليهم السلام) في بعض الأحيان

ص: 292


1- الكافي للكليني ج1 ص 256 بَابٌ نَادِرٌ فِيه ذِكْرُ الْغَيْبِ ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص 257 بَابٌ نَادِرٌ فِيه ذِكْرُ الْغَيْبِ ح4.
3- الكافي للكليني 1: 23/ كتاب العقل والجهل/ ح 15.

هو رعاية لعقل المخاطب الذي لا يدرك أنه يمكن أن يكون بعض البشر يعلمون الغيب من الله تعالى، حتى وإن كان شيعيًا في بعض الأحيان، وهو ما يمكن أن تبرر به الرواية السابقة أيضًا.

الخطوة الثالثة: غلْقُ الباب أمام توهم ألوهيتهم (عليهم السلام)

نحن نعلم أن أهل البيت (عليهم السلام) اتصفوا بالكثير من الصفات التي جعلتهم فوق النقد، ولذلك لم يجد أعداؤهم إلى اليوم ما يمكن أن يعيبوا به عليهم، وهذا الأمر في الوقت الذي كان دليلًا واضحًا عند ذوي العقول على عصمتهم (عليهم السلام) وأحقيتهم بخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هو صار عند البعض سببًا للغلوّ فيهم إلى حدّ التأليه، الأمر الذي كان يتحاشاه حتى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث روي: بَيْنَا رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) ذَاتَ يَوْمٍ جَالِساً، إِذْ أَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ لَه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): إِنَّ فِيكَ شَبَهاً مِنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ولَوْ لَا أَنْ تَقُولَ فِيكَ طَوَائِفُ مِنْ أُمَّتِي مَا قَالَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لَقُلْتُ فِيكَ قَوْلاً، لَا تَمُرُّ بِمَلأٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ، يَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ...(1)

ولعل نفيهم (عليهم السلام) لعلم الغيب عن أنفسهم هو من هذا الباب، أي ليُغلقوا المجال أمام من يدّعي ألوهيتهم بتبرير أنهم يعلمون الغيب، فكانوا يقطعون الطريق أمامه بنفيهم لذلك عن أنفسهم (عليهم السلام).

والذي يؤيد هذا المعنى، أنهم (عليهم السلام) كانوا يُصرّحون بأن عندهم علم

ص: 293


1- الكافي للكليني ج8 ص 57 كِتَابُ الرَّوْضَةِ ح 18.

الغيب لخاصة أصحابهم ممن كانوا يأمنون عقيدتهم وعدم انحرافهم عن النمرقة الوسطى.

ومما يجمع هذين الأمرين (أي نفيهم لعلم الغيب من جهة، وإثباته لأنفسهم من جهة أخرى) ما روي «عَنْ سَدِيرٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو بَصِيرٍ، وَيَحْيَى الْبَزَّازُ، وَدَاوُدُ بْنُ كَثِيرٍ، فِي مَجْلِسِ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) إِذْ خَرَجَ إِلَيْنَا وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَلَمَّا أَخَذَ مَجْلِسَهُ قَالَ: يَا عَجَباً لِأَقْوَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّا نَعْلَمُ الْغَيْبَ! مَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا الله عَزَّ وَجَلَّ، لَقَدْ هَمَمْتُ بِضَرْبِ جَارِيَتِي فُلَانَةَ فَهَرَبَتْ مِنِّي، فَمَا عَلِمْتُ فِي أَيِّ بُيُوتِ الدَّارِ هِيَ.

قَالَ سَدِيرٌ: فَلَمَّا أَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ وَصَارَ فِي مَنْزِلِهِ دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَصِيرٍ وَمُيَسِّرٌ، وَقُلْنَا لَهُ: جُعِلْنَا فِدَاكَ سَمِعْنَاكَ وَأَنْتَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا فِي أَمْرِ جَارِيَتِكَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ تَعْلَمُ عِلْماً كَثِيراً، وَلَا نَنْسُبُكَ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ. قَالَ: فَقَالَ: يَا سَدِيرُ أَلَمْ تَقْرَأِ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا قَرَأْتَ مِنْ كِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ: )قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ((1)؟ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ قَرَأْتُهُ. قَالَ: فَهَلْ عَرَفْتَ الرَّجُلَ؟ وَهَلْ عَلِمْتَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِهِ. قَالَ: قَدْرُ قَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ فِي الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ، فَمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ؟ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا أَقَلَّ هَذَا؟

فَقَالَ: يَا سَدِيرُ مَا أَكْثَرَ هَذَا أَنْ يَنْسُبَهُ الله - عَزَّ وَجَلَ - إِلَى الْعِلْمِ الَّذِي أُخْبِرُكَ

ص: 294


1- النمل: 40.

بِهِ. يَا سَدِيرُ، فَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا قَرَأْتَ مِنْ كِتَابِ الله - عَزَّ وَجَلَّ - أَيْضاً: )قُلْ كَفى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ((1)؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ قَرَأْتُهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ.

قَالَ: أَفَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ كُلُّهُ أَفْهَمُ أَمْ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ بَعْضُهُ؟ قُلْتُ: لَا، بَلْ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ كُلُّهُ.

قَالَ: فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: عِلْمُ الْكِتَابِ وَالله كُلُّهُ عِنْدَنَا، عِلْمُ الْكِتَابِ وَالله كُلُّهُ عِنْدَنَا»(2).

(يتبيّن لنا من هذا النص بوضوح تام أن الإمام (عليه السلام) كان يراعي القدرة الاستيعابية لدى المخاطب، ويوازن ما بين العامة والخاصة من شيعته وأصحابه.)(3)

الخطوة الرابعة: من محاذير التعامل وفق علم الغيب

رغم أن المعصوم (عليه السلام) يعلم الغيب بالمعنى المتقدم، ولكنه لا يتعامل دومًا مع الآخرين وفق علمه ذاك، لأنه لو كان يتعامل مع الآخرين بعلمه الخاص، فإنه يلزم منه محاذير عديدة، من قبيل:

1/ (أن يُبادر الإمام في الحدّ الأدنى إلى أن يزجّ في السجن كل من علم بأنه سوف يقترف اليوم أو في المستقبل جريمة مثل: السرقة أو الزنا أو القتل

ص: 295


1- الرعد: 43.
2- الكليني، الكافي، ج 1، ص 257.
3- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 567.

وما إلى ذلك، وذلك للحيلولة دون وقوع الجرم. وفي هذه الصورة كان يتعيّن على الإمام علي (عليه السلام) أن يزجّ كثيراً من الناس في السجن على أمور لم يرتكبوها بعد، ولا يخفى ما في ذلك من المحاذير المضرّة بالمجتمع والحكومة والسلطة الدينية على السواء.

وفيما يتعلق بهذا النوع من ترتيب الآثار على علم الأئمة بالغيب يتمّ طرح سؤال جديد، وهو أيّ الأفراد الذين سيرتكبون المعصية في المستقبل سيتمّ حبسهم؟ هل أولئك الذين سيركتبون الجرم غداً، فيتمّ إلقاء القبض عليهم اليوم؟ أم حيث إن علم الإمام بالغيب مطلق ويشمل حتى آخر يوم من حياة الأفراد، يتمّ القبض على جميع الذين سيرتكبون الذنوب حتى بعد خمسين سنة؟ فهل يمكن تصور إمكان هاتين الفرضيتين؟)(1)

وماذا لو كان أكثر مَن في إدارة الدولة هم ممن سيذنبون في المستقبل أو من الذين أذنبوا في السابق ولم يتوبوا بعد، هل يعني هذا أن المعصوم سيعاقبهم جميعًا؟! إن هذا يعني انتهاء الدولة وحكمها وإدارتها في غضون أيام قلائل.

2/لو فعل المعصوم ذلك، لأمكن أن يكون للمذنب الحجة عليه، بأن يقول مثلًا: أنا أريد أن أتوب في المستقبل، فلماذا لا تترك لي الفرصة بالتوبة؟!

3/ويمكن للمذنب أن يحتج على المعصوم بأنه اقتصّ منه قبل الجناية، وهو أمر غير جائز في نظام الإسلام كما هو واضح.

ص: 296


1- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 577 – 578.

وقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما يوضح بعض المفاسد المترتبة على الحكم بالغيب وبالواقع، حيث روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «...إنَّ داود (عليه السلام) قال: يا ربِّ، أرني الحقَّ كما هو عندك حتَّىٰ أقضي به، فقال: إنَّك لا تطيق ذلك، فألح علىٰ ربِّه حتَّىٰ فعل، فجاءه رجل يستعدي علىٰ رجل فقال: إنَّ هذا أخذ مالي! فأوحىٰ الله تعالى إلىٰ داود: أنَّ هذا المستعدي قتل أبا هذا وأخذ ماله، فأمر داود (عليه السلام) بالمستعدي فقُتِلَ وأخذ ماله فدفعه إلىٰ المستعدىٰ عليه». قال: «فعجب الناس وتحدَّثوا حتَّىٰ بلغ داود (عليه السلام) ودخل عليه من ذلك ما كره، فدعا ربَّه أن يرفع ذلك، ففعل، ثمّ أوحىٰ الله تعالى إليه: أن اُحكم بينهم بالبيِّنات وأضفهم إلىٰ اسمي يحلفون به»(1).

من كل ذلك نخلص إلى التالي:

أن سنة النبي (صلى الله عليه وآله) هي الحكم بالأدلة الإثباتية الظاهرية، وهو مفاد ما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنَّما أقضي بينكم بالبيِّنات والأيمان...»(2).

وورد في ذيل نفس هذا الحديث: «... وبعضكم ألحن بحجَّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنَّما قطعت له به قطعة من النار».

ولأجل ذلك فإن أهل البيت (عليهم السلام) رغم علمهم بالغيب، فإنهم يتعمدون في بعض الأحيان أن يتعاملوا وفق الظاهر.

ص: 297


1- الكافي للكليني 7: 414 و415/ باب أنَّ القضاء بالبيِّنات والأيمان/ ح 3.
2- الكافي للكليني 7: 414/ باب أنَّ القضاء بالبيِّنات والأيمان/ ح 1.

ومما يؤيد هذه الفكرة ما روي «عن عبد الله بن أبي رافع قال: حضرت أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد وجّه أبا موسى الأشعري، فقال له: أحكم بكتاب الله ولا تجاوزه، فلما أدبر قال: كأني به وقد خُدع، قلت: يا أمير المؤمنين فلم توجّهه وأنت تعلم أنه مخدوع؟ فقال (عليه السلام): يا بني، لو عمل الله في خلقه بعلمه ما احتجّ عليهم بالرسل»(1).

فالإمام (عليه السلام) أوضح بأنه ليس من الحكمة أن يتعامل صاحب العلم الغيبي بعلمه في كل الأحوال، وهذا هو السبب في إرسال الله تعالى للأنبياء، وإلا، لأمكن لله تعالى أن يتعامل مع العبيد بعلمه الذاتي، ويُدخل المذنبين –بحسب علمه- إلى النار، والمؤمنين إلى الجنة من دون حاجة إلى الاحتجاج عليهم بالرسل والأنبياء، وإنما يكتفي بعلمه الذاتي الغيبي.

الخطوة الخامسة: الحكمة في بعض أفعال المعصومين (عليهم السلام)

ومما يتقدم، تتبين الحكمة وراء بعض تصرفات الأئمة (عليهم السلام)، من قبيل ما (يتعلق بإرسال الإمام الحسين(عليه السلام) سفيره مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وتوجهه شخصيّاً إلى كربلاء، يمكن القول: إنه (عليه السلام) كان مأموراً بالعمل بحسب العلم الظاهري، ولم يكن بإمكانه تجنّب إرسال مسلم أو يمتنع عن التوجّه إلى كربلاء استناداً إلى علم الغيب؛ إذ إنّ أهل الكوفة - في مثل هذه الحالة - سوف يسجّلون موقفهم وشهادتهم للتاريخ بأنهم رغم استعدادهم لإقامة الحكومة الدينية وإرسال الرسائل والكتب العديدة إلى الإمام الحسين

ص: 298


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 41، ص 310؛ المناقب، ج 2، ص 261.

بهذا الشأن للقدوم إليهم وتولي قيادة ثورتهم، إلا أنه لم يستجب لدعوتهم وندائهم، وسوف يُتهم الإمام - والعياذ بالله - بأنه خاف على نفسه وعلى أسرته؟

في حالة ترتيب الآثار على علم الغيب، سيعمد المؤرخون من أهل السنة وغير المسلمين من الذين لا يعترفون بعلم الغيب للإمام، سيرسمون صورة سلبية عن الإمام، ولما تمّ الحصول على كل النتائج والآثار المباركة لثورة كربلاء. وعليه فقد أدرك الإمام الحسين (عليه السلام) أن مصلحته ومصلحة المجتمع تكمن في عدم ترتيب الآثار على علمه بالغيب.)(1)

وهكذا فيما يتعلق بتناول المعصوم (عليه السلام) للأكل المسموم، إذ يمكن القول: (إن الإمام رغم علمه بكون الطعام مسموماً، ولكنه حيث كان مكرهاً على تناوله، لم يكن له بدّ من تناوله.

مضافاً إلى أنه لو أصرّ على عدم تناول السمّ، فإن الخليفة والحاكم كان يقتله بطريقة أخرى، فرأى الإمام أن المصلحة في أن يكون استشهاده بتناول السمّ. وإن كان السرّ في ذلك خافياً علينا.

وربما أمكن القول مثلاً: إن اختيار الإمام هذه الطريقة لاغتياله من قبل الحاكم، لأنها تنطوي على شيء من التكتم، وعدم افتضاح أمر الحاكم وجريمته النكراء، ولمّا كان الحاكم إنّما يختار هذه الطريقة في التخلّص من الإمام (عليه السلام)، فإنه سوف يستمر في الحفاظ على الشكليات الظاهرية، فلا يتعرّض لأتباعه

ص: 299


1- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 580 – 581.

وأسرته، بمن فيهم ابن الإمام (عليه السلام) - الذي سيتولى مقاليد الإمامة بعده - ويوفر لهم الحماية، أو أن لا يظهر العداء لهم علناً في الحد الأدنى. الأمر الذي يوفر الأرضية المناسبة لاستمرار حياة الشيعة في الوسط المخالف.)(1)

ص: 300


1- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 581 – 582.
التساؤل السابع: لماذا تُثار الأحداث التاريخية التي انتهت ولا أثر لها؟

قد يقول البعض: إنه يمكن تقسيم البحوث العقائدية، وتحديداً في موضوع الإمامة، إلى: ما هو مرتبط بالتاريخ، وما هو معاصر.

وأنه –منهجياً- لابد من غلق البحث في القسم الأول وحفظه في الأرشيف، حيث لا يترتب عليه أي مردود عملي، فلا يمكن إرجاع الحق إلى صاحبه، ولا يمكن عقاب الظالم منهما.

ناهيك عن المبررات الاجتماعية لغلق مثل هذه الملفات، لأن فتحها يعني التفرقة وعدم جمع الكلمة والتي قد ينتهي إلى التحزب (الطائفية) والقطيعة، بل والتقاتل.

فليُترك حساب المختلفين فيه إلى ربهم، ولتوجَّهْ العناية إلى معالجة عشرات المسائل العالقة في مختلف الصُعُد التي تهمُّ الحياة المعاصرة للمجتمع الإسلامي، بل وتعصف به، بل وتهدد وُجُودَه وكيانه أحياناً.

إن مثل هذه البحوث هي أشبه بالبحث عن طهارة ماء البئر أو عن أحكام العبيد في وقت لا وجود فيه للبئر ولا للعبيد، فهو بحث لا مبرر له.

وقد ينجرّ التساؤل عند البعض إلى محاولة إلغاء بعض الشعائر الخاصة، كإحياء ذكر الإمام الحسين (عليه اللام) كل سنة بل وفي كل مناسبة ممكنة، بنفس

ص: 301

الحجة السابقة.

والجواب:

إن البحث في البحوث المتعلقة بالإمام والإمامة، وأمثال حادثة السقيفة، وما شابه، له أسبابه ومبرراته المنهجية والتي تدفعنا إلى استمرار فتح ملفاتها وعدم غلقها أبداً، ومن تلك الأسباب التالي:

السبب الأول:

أ/ إن الاعتقاد بالذوات لا يتحدّد بالحياة، بل هو يتعلق بهم حتى بعد مماتهم، وشاهدُه: أننا مطالبون بالإيمان بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بل وبالأنبياء السابقين، قال تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلىٰ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.)(1)

والاعتقاد بالإمامة والإمام من هذا القبيل، فلا يتحدّد بحدود حياة الإمام حتى يُقال بأن الحديث عنه لا مبرر له لأنه في ذمة التاريخ.

ب/ دينياً، الموت والحياة وإنْ كانا ضدين، فالموت يسلب الحياة، إلا أن هناك معنى آخر أو مرتبة أخرى للحياة تجتمع مع الموت، فهناك من يموت بالموت المتعارف، ولكنه يبقى حياً في هذا العالم بحياة لا تضادد موته وقتله.

يشهد لهذه الحقيقة النصوص التالية:

1: قوله تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ

ص: 302


1- آل عمران 184.

لا تَشْعُرُونَ)(1) الدال على أن ثمة حياة في هذا العالم لمن قُتل ومات بالموت المتعارف، إلا أننا لا نشعر بتلك الحياة.

ومثله قوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.)(2)

هذه الآية تشير إلى وجود حياة للبعض رغم موتهم بالموت المتعارف، أما كون هذه الحياة هي البرزخية، أو غيرها، فهذا لا يؤثر في ما نقصده، فبالتالي هي تشير إلى وجود مرتبة من الحياة في هذا العالم، أو حياة برزخية ولكنها ذات صلة بعالمنا.

2: ما جاء في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في النصف من شعبان: حيث روي أنك: تقف عند قبره وتقول : الحَمْدُ للهِ العَلِيِّ العَظِيمِ وَالسَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهاالعَبْدُ الصَّالِحِ الزَّكِيِّ أُودِعُكَ شَهادَةً مِنِّي تُقَرِّبُنِي إِلَيْكَ فِي يَوْمِ شَفاعَتِكَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ قُتِلْتَ وَلَمْ تَمُتْ بَلْ بِرَجاءِ حَياتِكَ حَيِيَتْ قُلُوبُ شِيعَتِكَ وَبِضِياءِ نُورِكَ اهْتَدى الطَّالِبُونَ إِلَيْكَ، وأَشْهَدُ أَنَّكَ نُورُ الله الَّذِي لَمْ يُطْفَأْ وَلايُطْفَأْ أَبَداً وأَنَّكَ وَجْهُ الله الّذِي لَمْ يُهْلَكْ وَلايُهْلَكُ أَبَداً...(3)

فالزيارة تُصرّح بأنه (عليه السلام) حي رغم أنه قُتل فمات بالموت المتعارف، بل إن حياته تلك كانت سبباً لحياة قلوب شيعته، وتصرح بأن نوره لم ولن يطفأ وأنه مستمر معنا في هذا العالم.

ص: 303


1- البقرة 154.
2- آل عمران 169.
3- المصباح للكفعمي ص 498 – 499.

بالإضافة إلى:

عموم زياراتهم (عليهم السلام) التي وردت بلسان الخطاب (السلام عليك) لا بلسان القضية الحقيقية (السلام على الأئمة)، فإن الخطاب لا يصح إلا مع الحي، فهي تستبطن فرضية وجود حياة للمعصوم ما زال يمكن التواصل معه من خلالها، بغض النظر عن أن تلك الحياة هي في هذه الدنيا أو هي الحياة البرزخية، فإن المقصود هو وجود حياة ما زال يمكن التواصل معها ونحن في هذه الحياة.

بل قد يستفاد ذلك من نفس السلام ولو لم يكن بلسان الخطاب.

3: ما جاء في سلام خولة الحنفية (زوجة أمير المؤمنين عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته وهي كانت مراهقة، بما ارتكز في ذهنها من حياته (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته، حيث ورد أنها قالت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك عبده ورسوله وأنك تسمع كلامي وتقدر على رد جوابي...(1)

ص: 304


1- في الفضائل لابن شاذان ص 99 – 101 والرواية طويلة، وتمامها: عن ميمون بن صعب المكي بمكة قال: كنا عند أبي العباس بن سابور المكي فأجرينا حديث أهل الردة بذكرنا خولة الحنفية ونكاح أمير المؤمنين (عليه السلام)لها، فقال: أخبرني أبو الحسن عبد الله بن أبي الخير الحسيني قال: بلغني ان الباقر محمد بن علي كان جالساً ذات يوم، إذ جاءه رجلان فقالا: يا أبا جعفر، ألست القائل: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لم يرض بإمامة من تقدم؟ قال: بلى. فقالا له: هذه خولة الحنفية نكحها من سبيهم وقَبِل هديتهم ولم يخالفهم عن أمرهم مدة حياتهم؟ فقال الباقر (عليه السلام): من فيكم يأتيني بجابر بن عبد الله بن حزام ( وكان محجوباً قد كف بصره )، فحضر فسلم على الباقر (عليه السلام) وأجلسه إلى جانبه، وقال: يا جابر عندي رجلان ذكرا أن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي بإمامة من تقدم عليه، فسألهما الحجة في ذلك، فذكروا له خولة. فبكى جابر حتى اخضلت لحيته بالدموع ثم قال : والله يا مولاي، لقد خشيت أخرج من الدنيا ولا أُسأل عن هذه المسألة، وإني والله كنت جالساً إلى جانب أبي بكر وقد سبوا بني حنيفة بعد قتل مالك بن نويرة من قبل خالد بن الوليد، وبينهم جارية مراهقة، فلما دخلت المسجد قالت: أيها الناس ما فعل محمد (صلى الله عليه وآله)؟ قالوا: قُبض. فقالت: هل له بنية تُقصد؟ فقالوا: نعم، هذه تربته (صلى الله عليه وآله). فنادت: السلام عليك يا رسول الله، اشهد أن لا إله إلا الله واشهد أنك عبده ورسوله، وأنك تسمع كلامي وتقدر على رد جوابي، وأننا سُبينا من بعدك، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. ثم جلست فوثب رجلان من المهاجرين والأنصار، أحدهما طلحة والآخر الزبير، فطرحا ثوبيهما عليها، فقالت: ما بالكم يا معاشر العرب، تصونون حلائلكم وتهتكون حلائل غيركم! فقالا لها: لمخالفتكم الله ورسوله، حتى قلتم: إننا نزكي ولا نصلي، أو نصلي فلا نزكي. فقالت لهما: والله، ما قالها أحد من بني حنيفة، وإنا نضرب صبياننا على الصلاة من التسع، وعلى الصيام من السبع، وإنا لنخرج الزكاة من حيث يبقى في جمادى الآخرة عشرة أيام، ويوصي مريضنا بها لوصية، والله يا قوم ما نكثنا ولا غيّرنا ولا بدّلنا حتى تقتلوا رجالنا وتسبوا حريمنا، فإن كنت يا أبا بكر بحقٍّ فما بال علي لم يكن سبقك علينا، وإن كان راضياً بولايتك فلِمَ لا ترسله إلينا يقبض الزكاة منا ويسلمها إليك؟ والله ما رضي ولا يرضى، قتلت الرجال ونهبت الأموال وقطعت الأرحام، فلا نجتمع معك في الدنيا ولا في الآخرة، افعل ما أنت فاعله. فضج الناس وقال الرجلان اللذان طرحا ثوبيهما: إنا لمغالون في ثمنك. فقالت: أقسمت بالله وبمحمد رسول الله أنه لا يملكني ويأخذني إلا من يخبرني بما رأت أمي وهي حامل بي، وأي شيء قالت لي عند ولادتي، وما العلامة التي بيني وبينها، وإلا فان ملكني أحد ولم يخبرني بذلك بقرت بطني بيدي، فيذهب ثمني ويكون مطالَباً بدمي. فقالوا لها: ابدى رؤياك التي رأت أمك وهي حامل بك حتى نبدي لك العبارة بالرؤيا. فقالت: الذي يملكني هو أعلم بالرؤيا مني، وبالعبارة من الرؤيا. فأخذ طلحة والزبير ثوبيهما وجلسا، فدخل أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: ما هذا الرجف في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قالوا: يا علي، امرأة من بني حنيفة حرمت نفسها على المؤمنين، وقالت: من اخبرني بالرؤيا التي رأت أمي وهي حامل بي وعدّها لي فهو يملكني. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما ادّعت باطلاً، أخبروها تملكوها. فقالوا: يا أبا الحسن، ما فينا من يعلم الغيب، أما علمت أن ابن عمك رسول الله (صلى الله عليه وآله) قُبض، وأن أخبار السماء انقطعت من بعده؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما ادعت باطلاً، أُخبرها أَملكها بغير اعتراض. قالوا: نعم. فقال (عليه السلام): يا حنيفة، أخبرك أملكك؟ فقالت: من أنت أيها المجتري دون أصحابه؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب. فقالت: لعلك الرجل الذي نصّبه لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) صبيحة يوم الجمعة بغدير خم علماً للناس؟ فقال (عليه السلام): أنا ذلك الرجل. قالت: من أجلك أُصبنا، ومن نحوك أوتينا، لأن رجالنا قالوا: لا نسلم صدقات أموالنا ولا طاعة نفوسنا إلا إلى من نصّبه محمد (صلى الله عليه وآله) فينا وفيكم علماً. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن أجركم غير ضائع، وإن الله تعالى يؤتي كل نفس ما أتت من خير. ثم قال: يا حنفية، ألم تحمل بك أمك في زمان قحط منعت السماء قطرها، والأرض نباتها، وغارت العيون، حتى أن البهائم كانت تريد المرعى فلا تجد، وكانت أمك تقول: إنك حمل ميشوم في زمان غير مبارك، فلما كان بعد تسعة أشهر رأت في منامها: كأن وضعتك وأنها تقول: إنك حمل ميشوم وفي زمان غير مبارك، وكأنك تقولين: يا أمي، لا تطيرين بي، فأنا حمل مبارك نشوت نشواً صالحاً، ويملكني سيد وأُرزق منه ولداً يكون لبني حنيفة عزّاً؟ فقالت: صدقت يا أمير المؤمنين، فإنه كذلك. فقال (عليه السلام): وبه أخبرني ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقالت (عليه السلام): ما العلامة بيني وبين أمي؟ فقال: إنها لما وضعتك كتبت كلامك والرؤيا في لوح من نحاس، وأودعته عتبة الباب، فلما كان بعد حولين عرضته عليك، فأقررت به، فلما كانت ثمان سنين عرضت عليك فأقررت به، ثم جمعت بينك وبين اللوح فقالت لك: يا بنية، إذا نزل بساحتكم سافك لدمائكم ناهب لأموالكم سابٍ لذراريكم وسُبيتِ فيمن سُبي، فخذي اللوح معك واجتهدي أن لا يملكك من الجماعة إلا من يخبرك بالرؤيا بما في هذا اللوح. قالت: صدقت يا أمير المؤمنين، فأين اللوح؟ قال (عليه السلام): في عقيصتك. فعند ذلك دفعت اللوح إلى أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ثم قالت: يا معاشر الناس اشهدوا أني قد جعلت نفسي له عبدة. فقال ( عليه السلام ): بل قولي زوجة. فقالت: اشهدوا أن قد زوجت نفسي كما أمرني بعلي ( عليه السلام ). فقال ( عليه السلام ) قد قبلتك زوجة. فماج الناس، فقال جابر: والله يا أبا جعفر، ملكها بما ظهر من حجة وتبين من بينته، فلعن الله تعالى من اتضح له الحق وجعل بينه وبين الحق ستراً.

ص: 305

ص: 306

ج/ ما ذكره الكفعمي في الاستئذان لزيارتهم (عليهم السلام): اللّهُمَّ إِنِّي أَعْتَقِدُ حُرْمَةَ صاحِبِ هذا المَشْهَدِ الشَّرِيفِ فِي غَيْبَتِهِ كَما أَعْتَقِدُها فِي حَضْرَتِهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَكَ وَخُلَفائَكَ عَلَيْهِمْ السَّلامُ أَحْياءٌ عِنْدَكَ يُرْزَقُونَ يَرَوْنَ مَقامِي وَيَسْمَعُونَ كَلامِي وَيَرُدُّونَ سَلامِي، وَأَنَّكَ حَجَبْتَ عَنْ سَمْعِي كَلامَهُمْ وَفَتَحْتَ بابَ فَهْمِي بِلَذِيذِ مُناجاتِهِمْ...(1)

د/نحن نعتقد بأن ظاهرة الإمامة لم تنته، بل هي ما زالت مستمرة بالإمام الغائب (عجل الله تعالى فرجه)، فهي ليست ظاهرة تاريخية منقطعة، بل هي قضية معاصرة، والبحث عنها بحث عن واقع معاصر.

ه/فلسفياً ونصوصياً: أن الموت ليس فناءً، وإنما هو انفصال الروح عن البدن.

وأن الروح خالدة.

وأن الفعل والشعور إنما هو للروح، وما البدن إلا وسيلة لنقل الشعور إلى الروح، ولذا تسقط العقوبة في بعض القوانين عن المذنب لو مات، وهذا يستبطن أن البدن إنما هو وسيلة للروح، فإذا ما تم انفصال الروح عن البدن، فقد البدن طريقيته للروح، فلا يُعاقب.

ينتج: أن الروح تبقى حية وخالدة.

والإمام (عليه السلام) حي بروحه، وروحُه لم تمت، فلا يكون إثارة البحوث

ص: 307


1- المصباح للكفعمي ص 472

المتعلقة به تاريخاً منقطعاً عن العصر الراهن.

السبب الثاني:

إن الكثير من أحداث التاريخ، وخصوصاً الكبرى كالسقيفة وعاشوراء تدخل في فعل المعصوم، ومن ثم تصلح أن تكون سنداً فقهياً أو كلامياً يعالج مجموعة من الأسئلة التي تحفُّ النص، وأن معرفة الحقيقة فيها لا يكون إلا بالرجوع إلى التاريخ ومعرفة ما جرى فيه بعد البحث والتمحيص.

نموذجاً: المعتزلة اعترفوا بأفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) ولكنهم جوزوا تقديم غيره لمصلحة ما رغم النص عليه، وأن النص وإن كان موجوداً، ولكنه لا ينتج ضرورة تقديم المنصوص عليه، وإنما هو يعني أرجحيته من دون إلزام، مما ينتج التخيير، فالنص يقول: يمكنكم أن تقدموا الأفضل، ويمكنكم أن لا تقدموه، ولا يلزم عليكم أن تقدموه دوماً، والشاهد على ذلك: أن علياً (عليه السلام) سكت عن المطالبة بحقه لسنوات طوال بعد حدث السقيفة، وحتى لما جاءته الخلافة الظاهرية رفضها وتمنّع عنها وطلب إليهم أن يبحثوا عن غيره، مما يؤيد أن النص لا ينتج الضرورة.

إن مثل هذا الإشكال يمكن حلّه بالرجوع إلى التاريخ، ومعرفة الظرف الذي عاشه أمير المؤمنين (عليه السلام) لنكتشف أنه لم يسكت مختاراً، وإنما سكت مضطراً، وأنه إنما سكت لتقديمه مصلحة الإسلام العامة على مصلحته الشخصية، وهو ما صرّح به (عليه السلام) بقوله: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، واللهِ لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا

ص: 308

عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه، وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوه مِنْ زُخْرُفِه وزِبْرِجِه.(1)

فإثبات أن هناك غاصباً للحق، وأن السكوت كان اضطراراً، مما لا يمكن البتُّ به إلا بالرجوع إلى التاريخ.

أضف إلى ذلك: إن من ضمن المعتقدات الضرورية في مسألة الإمامة هو التولي والتبري، وهما يمثلان أهم عوامل امتياز الشيعة عن غيرهم الذين تميزوا بأنهم أصحاب السلطة في العادة، وهذان المفهومان لهما ارتباط بجانب العلاقة الروحية مع المعصوم، وهو غير جانب الطاعة له.

ومن أهم ما يُغذّي هذين العنوانين هي سيرة المعصوم ومتابعة مواقفه العملية وأخلاقه وزهده وتضحياته وعمله وغيرها، إذ إنها تحكي الصفات الكمالية لهم (عليهم السلام) وفي جميع جوانب شخصياتهم، مما يُقوي رابطة التولي لهم، وفي نفس الوقت تكشف عن أعدائهم وسلوكياتهم، مما يُقوي جانب التبري منهم.

وهذا يعني: أن دراسة حياتهم وما يتعلق بها، لا تتمحض في كونها بحوثاً تاريخية منقطعة عن العصر الراهن، وإنما هي مستمرة ولو على مستوى أثرها في التولي والتبري.

ص: 309


1- نهج البلاغة ج1 ص 124 من خطبة له ( عليه السلام ) لما عزموا على بيعة عثمان.

السبب الثالث:

نبدأ بذكر التنبيه التالي:

لا شك أن لكل مفهوم محدداته الخاصة به، والتي تميزه عن جميع ما عداه من المفاهيم، ولا شك أن هناك من المفاهيم ما تشترك في بعض الجهات مع مفاهيم أخرى وتختلف عنها في جهات أخرى، ولكن قد يتم تسليط الضوء على المشتركات بين المفهومين وعدم الالتفات إلى مميزات كل منهما، فيؤدي ذلك إلى تخيل الترادف بين لفظيهما، فتُسرّى أحكام أحدهما إلى الآخر.

مثال على ذلك: الموت والعدم، فحيث إن في الموت جهة عدمية، فقد يتم التعامل معه كمرادف للعدم، وبالتالي يتم ترتيب آثار العدم على الموت، لتكون زيارة الميت أو البكاء عليه أو إحياء ذكره سخفاً من الفعل، إذ إنه تعاملٌ مع عدم محض.

والحق: أن أخذ شيء مشترك بين مفهومين لا يُبرر ترتيب لوازم أحدهما على الآخر، ولا يجعل منهما مترادفين ولفظاً واحداً مفهوماً.

والمثال الآخر: التاريخ، فقد يتم التعامل معه على أنه مرادف للماضي، أو العدم، ويتم ترتيب أحكام الماضي المنقطع تماماً أو العدم على التاريخ وما فيه، لينتج أن لا فائدة من بحث التاريخ؛ لأنه عدم، فينبثق التساؤل عن إثارة قضايا الإمامة التاريخية.

والحال: أن التاريخ غير العدم، فإن في التاريخ جنبتين: جنبة انعدمت،

ص: 310

وهي نفس الحدث الخارجي، وجنبة وجودية، مستمرة إلى العصر الراهن.

بعد هذه التوطئة نقول:

تقدم منا أن الحياة منها ما يُقابل الموت المتعارف، ومنها ما يعمّه، بحيث يكون الشخص ميتاً بالموت المتعارف، ولكنه حيٌّ بالمعنى الثاني، وهنا نقول:

إن من صور هذه الحياة العامة هو خلود الشخص بخلود مقالاته ومواقفه وحضوره في النفس من خلالها، مما يعني استمرار التواصل معه من خلال هذه المواقف، وهذا هو الحاصل فيما يتعلق بأهل البيت (عليهم السلام).

إن أهل البيت (عليهم السلام) تصرفوا بما من شأنه أن يجعل سلوكهم ومواقفهم وأقوالهم ومقالاتهم حية مستمرة ما دام الدهر، بحيث تجدهم حاضرين معنا من خلالها، وبحيث إن الفاصلة الزمنية بيننا وبينهم لا تؤثر في تواصلنا معهم بالمباشر من خلال تلك المواقف والمقالات الثابتة.

استطاع المعصومون (عليهم السلام) أن يحجزوا حيزاً من هذا التواصل والحضور من خلال مقولاتهم التي حوّلوها إلى بداهات وثوابت.

والحاصل: أن الأمر لا يدور بين الانقطاع التام، أو الحضور الكامل، وإنما بينهما مراتب متعددة تشتد وتضعف، أشبه شيء بالشمس، فإنها وإن كانت غير موجودة تماماً في الليل، وموجودة في النهار، ولكن النهار قد يكون مشرقاً، وقد يجللها السحاب، فتنعدم الرؤية المباشرة للشمس، لكن الإحساس بها وبوجودها وترتيب الآثار على وجودها ما زال قائماً.

ص: 311

كما أن التغطية بالسحب ذات درجات أيضاً، تختلف معه الإضاءة شدة وضعفاً حسب طبقات السُحب التي تحجبها عن الأرض.

ومن هنا، نفهم المراد من غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه) بعد أن شبّهتها النصوص بالشمس إذا جللّها السحاب،(1) وأنها لا تعني الغيبة المطلقة وبحدّ التجميد، بل يبقى حاضراً في وسط أتباعه وناسه، ولكن مع شيء من الخفاء وهو خفاء معرفته، وهو ما عبّر عنه السفير الثاني بقوله: (والله إنَّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلّ سنة فيرىٰ الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه)(2).

السبب الرابع:

أ: في اعتقادنا:

أن الإمامة ليست قضية تاريخية بحتة، وليست هي مشروع أمير المؤمنين (عليه السلام) مثلاً منقطعاً عن مشروع الإمام الحسن (عليه السلام)، ليُقال بأن السقيفة أفرزت إقصاء أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخصوص، لا غيره من الأئمة، وبالتالي

ص: 312


1- في كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 207 ح 22 عن سليمان بن مهران الأعمش ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين (عليهم السلام) قال : نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها وبنا ينزل الغيث، وتنشر الرحمة، وتخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها، ثم قال : ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة الله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة الله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله. قال سليمان: فقلت للصادق عليه السلام : فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور ؟ قال : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب.
2- كمال الدين للصدوق: 440/ باب 43/ ح 8.

فالسقيفة باتت حدثاً تاريخياً مات ومات أبطاله، فلا داعي لإثارته.

الإمامة ليست تكاليف متغايرة، كل إمام له منها ما ليس لغيره، بحيث يأتي الثاني ليقوم بالبناء من جديد من دون اعتماد على ما وصل إليه مشروع الامام السابق، كما في صلاة الأب التي هي غير صلاة الابن وإن اشتركا في الطبيعة والماهية.

كلا، بل إن الإمامة مشروع واحد ممتد، كل واحد من الأئمة (عليهم السلام) يقوم بما عليه من مسؤوليته في مقطعه الزمني، وبالطريقة التي تفرضها الظروف الموضوعية عليه –كأنْ تكون الطريقة هي تولي الحكم أو ولاية العهد أو المعارضة أو أو السجن...- وبطريقة إتمام المشروع من حيث انتهى عند الإمام السابق.

فالمشروع واحد، والأئمة يتعاقبون عليه، هو من هذه الناحية كما في ولاية الأب والجد على الولد، فإنهما وليان، ومتعلق ولايتهما شيء واحد هو الولد.

والشاهد على أن الإمامة كذلك:

1: وحدة الدين، وهو مُسلَّمة قرآنية، وهو الإسلام، الخالد، والإمامة جزء من هذا المشروع، فهي واحدة ممتدة وخالدة بخلوده.

2: المرتكز في الذهنية الشيعية العامة وحدة الإمامة، فنحن لا نتلقى أن دور أمير المؤمنين (عليه السلام) دور منفصل تماماً عن دور الإمام الحسن (عليه السلام)، بل نتلقاه بطريقة (وحدة المشروع والهدف مع تعدد الأدوار).

ص: 313

3: وهو المفهوم من جملة من النصوص أيضاً، كما في ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين إمامان، قاما أو قعدا.(1)

وما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إنّا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله، قلنا: صدق الله، وقالوا: كذب الله. قاتل أبو سفيان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقاتل معاوية عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن عليٍّ (عليه السلام)، والسفياني يقاتل القائم (عليه السلام)»(2).

4: إن غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) تستبطن امتداد الإمامة والخشية عليها من الضياع، فتم تغييب الإمام ليحفظها إلى الوقت المناسب.

ب:

وحيث إن الإمامة مشروع واحد ممتد غير منقطع، وحيث إن الإمامة من

ص: 314


1- في علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 211 باب 159 ح2: أبي سعيد عقيصا قال: قلت: للحسن بن علي بن أبي طالب: يا بن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته وقد علمت أن الحق لك دونه وان معاوية ضال باغ ؟ فقال : يا أبا سعيد، ألستُ حجة الله تعالى ذكره على خلقه وإماماً عليهم أبي (عليه السلام) ؟ قلت: بلى. قال : ألستُ الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ؟ قلت: بلى. قال: فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذ لو قعدت، يا أبا سعيد، علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يا أبا سعيد، إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يُسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً، ألا ترى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه،حتى أخبره فرضى، هكذا أنا، سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل.
2- معاني الأخبار للصدوق: 346/ باب معنىٰ قول الصادق (عليه السلام): «إنّا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله (عزوجل)/ ح 1.

المفاهيم الإضافية التي تتوقف على طرف آخر لتتحقق وهو المأموم، حينئذٍ يكون مشروع الإمامة حاضراً في العصر الراهن من خلال المأموم، فنحن لم ننفصل عن مشروع الإمامة المستمر، بل ما زال حاضراً معنا، نأخذ منه المواقف المناسبة والأحكام الشرعية، ولذا كان الشيعة ولا زالوا يقفون ضد المستبد والظالم، حيث إن المعصوم وقف ضده.

وبعبارة أخرى: أن الإيمان بالإمامة وكونها مستمرة، يلزم منه وجود جماعة مأمومة للإمام وباستمرار، تستند إليه في موقفها السياسي، ومنه الوقوف ضد الظلم.

فحيث إن الإمامة مستمرة، فهي بالمأموم مستمرة، مما يعني أن حضور الإمامة في حياتنا ما زال قائماً، لا أنها حدث تاريخي منقطع.

ج:

إن الاعتقاد بكون الإمامة كذلك، في قبال من نظر إلى الإمامة على أنها مشروع مقطعي للحكم لا علاقة له بالمستقبل ولا هو امتداد له، أفرز وجود منطقين تجاه الحاكمية التي هي إحدى وظائف الإمامة:

منطق يعتبر الإمامة وظيفة يحكم بها الناس لا غير، فيقول: (إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنَّكم لتفعلون ذلك. وإنَّما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون).(1)

ص: 315


1- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهانى: 45.

ومنطق يرى أن الإمامة مشروع إلهي متكامل يُراد منه إسعاد الناس لا استنزاف قواهم، فيقول: «ولو شئت لاهتديت الطريقَ إلىٰ مصفىٰ هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القزِّ، ولكن هيهاتَ أنْ يغلبني هواي ويقودني جشعي إلىٰ تخيُّر الأطعمة، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أوَ أبيتُ مِبطاناً وحولي بطونٌ غرثىٰ وأكباد حرّىٰ؟ أوَ أكون كما قال القائل:

وحسبُك داءً أنْ تبيت ببطنةٍ *** وحولَك أكبادٌ تحنُّ إلىٰ القِدِّ

أأقنعُ من نفسي بأنْ يقال: أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، أوْ أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش؟!»(1).

ص: 316


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 71 و72).

المحتويات

المبحث الأول: معنى الإمامة العامة في الإسلام 7

المقدمة الأولى: 9

الإمامة لغة: 9

وأما الإمامة اصطلاحًا: 10

المقدمة الثانية: العناصر المشتركة والخاصة في الإمامة 13

أولًا: العناصر المشتركة بيننا وبين العامة: 13

ثانيًا: العناصر الخاصة بالإمامة عند الشيعة الاثني عشرية. 15

النقطة الأولى: ضرورة الشخص الحقيقي المرتبط بالسماء. 18

النقطة الثانية: الإمام يمثل القوة التشريعية. 19

النقطة الثالثة: الإمام يمثل القوة التنفيذية. 20

النقطة الرابعة: أن الإمام معصوم. 22

النقطة الخامسة: أن تعيين الإمام من السماء حصراً. 23

النقطة السادسة: أن الإمام عقيدة. 24

المقدمة الثالثة: أن الإمامة أصل 25

المقدمة الرابعة: بيانات في ضرورة الإمام المعصوم 29

البيان الأول: لو لم يكن الإمام معصومًا للزم التسلسل. 30

البيان الثاني: أن حفظ الشريعة لا يكون إلا بالمعصوم. 31

البيان الثالث: العصمة هي الطريق المنحصر للتخلص... 32

البيان الرابع: أن المعصوم هو الوحيد القادر على تحقيق... 36

ص: 317

الأمر الأول: الإرادة. 41

الأمر الثاني: القائد. 42

إشارة: نصوص في ضرورة الإمام القائد. 43

المقدمة الخامسة: بيانات في ضرورة النص على الإمام 47

تمهيد: 47

طرق تعيين الإمام لدى العامة )نظرية الأمر الواقع(. 47

نظرية النص: 49

البيان الأول: عظمة موقع الإمامة تقتضي النص. 51

البيان الثاني: أن النص لطف. 52

البيان الثالث: النصوص الخاصة: 58

المقدمة السادسة: بيانات في ضرورة العلم الخاص للإمام 61

البيان الأول: أن طبيعة وظيفة الإمام تقتضي العلم الخاص. 62

البيان الثاني: الاحتياج إلى الغير يتنافى مع الإمامة. 63

البيان الثالث: اقتضاء موقع الإمامة للعلم اللّدنّي. 64

الخطوة الأولى: 64

الخطوة الثانية: 65

الخطوة الثالثة: 66

المبرر الأول: 68

المبرر الثاني: 69

إشارة: العلم اللدني والهيمنة على النفوس والتكوين. 70

الخطوة الرابعة: 74

المقدمة السابعة: الإمامة والتوحيد 77

هل هناك صلة بين هاتين الحقيقتين أو لا؟ 77

ص: 318

الزاوية الأُولى: نصاب التوحيد. 77

الزاوية الثانية: الإمامة تعبير عن الإخلاص في التوحيد. 81

ما هو معنى الإخلاص في كلمة التوحيد؟ 82

بعض الروايات الدالة على هذه الزاوية. 84

الزاوية الثالثة: بالإمامة تتحقق معرفة الله تعالى الممكنة. 85

الزاوية الرابعة: الإمامة شرط التوحيد. 87

الزاوية الخامسة: الإمامة هي فطرة التوحيد. 91

المقدمة الثامنة:الإمامة والنبوة 99

النقطة الأولى: نصوص الإعداد والإشراف المباشر: 99

النقطة الثانية: نصوص المفاهيم المنتسبة إلى النبوة. 101

النقطة الثالثة: نصوص اكتمال الدين بولاية أمير المؤمنين عليه السلام 201

النقطة الرابعة: الإمامة تستمرّ بشخص الإمام. 104

المبحث الثاني: الإمامة الخاصة. 107

النقطة الأولى: النص على أهل البيت عليهم السلام 109

الخطوة الأولى: النص على خصوص أمير المؤمنين عليه السلام 109

النص الأول: آية الولاية: 109

النص الثاني: حادثة الغدير. 111

قرائن على أن المقصود من الولي هو الأولى بالتصرف. 114

النص الثالث: حادثة الدار. 118

النص الرابع: حديث المنزلة. 119

النص الخامس: 121

الخطوة الثانية: النص على بقية أهل البيت عليهم السلام 123

النص الأول: حديث الأئمة الاثني عشر. 123

ص: 319

النص الثاني: حديث اللوح. 134

النص الثالث: 138

النص الرابع: 138

الإشارة الأولى: شكلان لمقولة النص. 141

الإشارة الثانية: النص أحد الأدلة لا الدليل الحصري. 142

الإشارة الثالثة: بُعدان في النص على الإمام. 146

الإشارة الرابعة: قيمة النص والتعيين مع إمكان اكتشاف... 147

الإشارة الخامسة: الملازمة بين التولي والتبري. 152

النقطة الثانية: عصمة أهل البيت عليهم السلام 161

الدليل الأول: آية التطهير 163

الخطوة الأولى: نوع الإرادة في الآية. 163

الخطوة الثانية: المراد الرجس؟ 165

الخطوة الثالثة: تحديد )أهل البيت( في الآية؟ 166

الدليل الثاني: آية المودة 169

الخطوة الأولى: معنى المودة. 170

دلالات المودة ولوازمها: 171

1 / المودة: 171

2 / الحب: 172

3 / التمسك: 173

4 / التقديم. 174

5/ الاقتداء. 175

6/التعظيم. 175

7/ إحياء الأمر. 176

ص: 320

الخطوة الثانية: معنى القربى في الآية. 176

القول الأول: 177

القول الثاني: 177

القول الثالث: 178

الخطوة الثالثة: دلالة الآية على العصمة. 180

الدليل الثالث: اقتران أهل البيت عليهم السلام بالقرآن الكريم 181

المقدمة الأولى: أن القرآن الكريم معصوم. 181

المقدمة الثانية: أن أهل البيت علیهم السلام هم عِدل القرآن. 181

النقطة الثالثة: علم أهل البيت عليهم السلام اللّدني 185

النص الأول: 185

النص الثاني: 186

النص الثالث: 187

النص الرابع: 187

النص الخامس: 188

النص السادس: 188

النص السابع: 189

النص الثامن: 190

الإشارة الأولى: نصٌ في كونهم علیهم السلام واسطة في الفيض. 190

الإشارة الثانية: الإمامة التكوينية. 191

الإشارة الثالثة: التلازم بين العلم اللدني والعصمة. 195

الإشارة الرابعة: الحاجة إلى النص ضرورة في اكتشاف العلم اللدني. 195

الإِشارة الخامسة: التلازم بين العلم الخاص وبين الحكم والإدارة. 196

الإشارة السادسة: أدلة أخرى على إمامة أمير ... 199

ص: 321

الدليل الأول: لزوم تقديم الأفضل. 200

الدليل الثاني: احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل. 200

الدليل الثالث: هو الأعلم بالقرآن الكريم. 201

النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت عليهم السلام... 207

النقطة الخامسة: الإمامة والسياسة ) أو الحاكمية( 213

الخطوة الأولى: القدرة الملكوتية للإمام لا تسلب اختيار الإنسان. 213

الخطوة الثانية: الإمام هو المحقِّق للعدالة. 214

الخطوة الثالثة: ضرورة الخبرة والنزاهة في شخص الحاكم. 215

الخطوة الرابعة: بناء المجتمع الشيعي. 217

الأمر الأول: التركيز على شرعيتهم عليهم السلام. 218

الأمر الثاني: نشر مظلوميتهم عليهم السلام. 219

الأمر الثالث: بروزهم كقدوات استثنائية. 219

الأمر الرابع: العناية بشيعتهم علیهم السلام تربوياً واجتماعياً. 221

الأمر الخامس: العناية بشيعتهم علیهم السلام فكرياً وثقافياً. 221

الأمر السادس: الاستقلال المالي والاقتصادي 223

النقطة السادسة: الإمام المهدي عليه السلام 225

الجهة الأولى: معلومات إجمالية: 225

الجهة الثانية: الانتظار بين الفعل وردّ الفعل. 230

الحقيقة الأولى: 231

الحقيقة الثانية: 231

الحقيقة الثالثة: 232

الحقيقة الرابعة: 232

نظريتان في دور المنتظرين: 234

ص: 322

النظرية الأولى: 234

النظرية الثانية المختارة: 235

الجهة الثالثة: وظائفنا في زمن الغيبة الكبرى: 239

العنوان الأول: نشر القضية المهدوية بالمنهج العلمي المستدل. 239

العنوان الثاني: تربية الناشئة على حبه. 240

العنوان الثالث: ردّ الشبهات المتجددة. 242

النقطة السابعة: تسا ؤلات و شبهات و أجوبة 243

التسا ؤل الأول: وجود مانع في أ صل عصمة الإنسان عموماً. 245

1/ بُعد العصمة النظرية: 245

2/ بُعد العصمة العملية: 246

التسا ؤل الثاني: العصمة تمنع من اختيار الأتباع. 253

التسا ؤل الثالث: أن الولاية التكوينية تلازم تحديد قدرة الله تعالى. 257

الخطوة الأولى: إمكان الولاية التكوينية: 258

المستوى الأول: الجواب النقضي: 258

المستوى الثاني: تصورات لتصحيح فكرة الولاية التكوينية: 259

الخطوة الثانية: مستوى الدليل على ثبوت الولاية... 264

التسا ؤل الرابع: مضادة الجو القر آني للعصمة. 265

النموذج الأول: 271

النموذج الثاني: 271

النموذج الثالث: 272

النموذج الرابع: 272

المجموعة الأولى: 277

المجموعة الثانية: آيات العتاب فما فوق من تهديد وتوبيخ. 278

ص: 323

التسا ؤل الخامس: لماذا لم يصرح القر آن باسم علي عليه السلام؟ 283

التسا ؤل السادس: علم الأئمة عليهم السلام بالغيب. 289

الخطوة الأولى: علمهم علیهم السلام ليس استقلالياً عن الله تعالى. 289

الخطوة الثانية: مخاطبة الناس على قدر عقولهم. 292

الخطوة الثالثة: غلْقُ الباب أمام توهم ألوهيتهم. علیهم السلام 293

الخطوة الرابعة: من محاذير التعامل وفق علم الغيب. 295

الخطوة الخامسة: الحكمة في بعض أفعال المعصومين. علیهم السلام 298

التسا ؤل السابع: لماذا تُثار الأحداث التاريخية التي انتهت ولا أثر لها؟ 301

والجواب: 302

السبب الأول: 302

السبب الثاني: 307

السبب الثالث: 309

السبب الرابع: 312

ص: 324

المجلد 4

هویة الکتاب

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

nashra@alkafeel.net

کربلاء المقدسة

ص.ب(233)

هاتف: 322600، داخلی: 175-163

الكتاب: بحوث معرفية في علم الكلام/ الجزء الرابع/المعاد - موضع الاجتهاد في منظومة التشريع – الغلو

تأليف: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، معهد تراث الأنبياء للدراسات

الحوزوية الإلكترونية.

الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 500 .

ذو الحجة الحرام 1443 ﻫتموز 2021 م

ص: 1

اشارة

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

قسم اعداد المبلغات

بحوث معرفية

في علم الكلام

الجزء الرابع

المعاد - موضع الاجتهاد في منظومة التشريع – الغلو.

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

اصدارات: جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الأصل الخامس: المعاد

اشارة

إن بحوث المعاد بحوث مطولة، ومفصلة، ونحن سنقتصر على سبع نقاط مهمة:

النقطة الأولى: معنى المعاد وثمرة الإيمان به.

النقطة الثانية: بعض أدلة المعاد

النقطة الثالثة: الأقوال في المعاد.

النقطة الرابعة: النفخ في الصور والحشر

النقطة الخامسة: بعض خصائص يوم القيامة.

النقطة السادسة: الحساب

النقطة السابعة: الخلود

ص: 5

ص: 6

النقطة الأولى: معنى المعاد وثمرة الإيمان به

اشارة

المعاد مأخوذ من العود، وله هنا معاني(1):

الأول: المصير والمرجع، باعتبار أن الآخرة هي مصير الناس.

الثاني: زمان العود والمصير، أي يوم القيامة.

الثالث: مكان العود والمصير، أي مكان القيامة والمصير إلى الجنة أو النار.

وأما المعنى الاصطلاحي فهو بمعنى (عود أرواح الناس إلى أبدانهم بعد الموت، حيث يقوم الناس لله رب العالمين، ويُجازون على أعمالهم الحسنة والسيئة، في اليوم الموعود، وسيكون المصير إلى الجنة أو النار.)(2)

وقال الشيخ المظفر (رحمه الله تعالى): نعتقد أن الله تعالى يبعث الناس بعد الموت في خلق جديد في اليوم الموعود به عباده، فيثيب المطيعين ويعذب العاصين...(3)

وهذا المعنى إنما هو من مختصات الإلهيين، ولا يقول به الماديون، وإنما

ص: 7


1- الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية- ج7 ص 11.
2- الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية- ج7 ص 11و 12 بتصرف.
3- عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر- عقيدتنا في البعث والمعاد.

هم يقولون (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ)(1)

وفي اعتقادنا –نحن الإلهيين- أن يوم القيامة يتصف بأنه يوم مصير الناس ومرجعهم النهائي، وأنه اليوم الذي سيتم فيه الحساب، وأنه سيكون مهولًا مخوفًا على الظالمين والكافرين، لما سيجدونه من المصير السيء، في الوقت الذي يكون يوم سرور وفرح للمؤمنين، لما يرونه من مصير جميل وحسن.

وقد ذكروا ثمرات عديدة لهذا الاعتقاد، نذكر منها(2):

الثمرة الأولى: تحديد السلوك بالحسن

أن الإيمان بالمعاد من شأنه أن يحدد السلوك بالحسن، بعيدًا عن السيء، ذلك أن الفرد إذا آمن بيوم الحساب الذي لا تُنسى فيه صغيرة ولا كبيرة، وأن مصيره إما الجنة أو النار، فإن عقله –ومن باب دفع الضرر- يأمره أن يبتعد عن كل ما من شأنه أن يُهلكه، وبالاقتراب لكل ما من شأنه أن يُنجيه، فيُصدر العقل الأمر للإرادة أن تكون حيث النجاة، ويبقى التنفيذ بيد الإنسان –كما هو واضح- إذ لا جبر في هذه المسألة.

الثمرة الثانية: توفير الحافز للصبر على مصاعب الدنيا

أن الإيمان بالمعاد يُعطي الحافز للفرد بأن يصبر على بلاءات الدنيا

ص: 8


1- الجاثية 24
2- للتفاصيل يُنظر: الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية- ج7 ص 21 – 31 والكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 266 – 268.

وصعوباتها، إذ ما دام هو بعين الله تعالى، وأن الله تعالى عادل لا يجور، وأنه سيأخذ له بحقه، ويجازيه على ما صبر عليه من صعوبات الأحكام الشرعية في واجباتها ومحرماتها، فإذن لا بأس بالصبر، وبالالتزام بالدين، فإن الجائزة عظيمة.

هذا، وإن للإيمان بالمعاد من وجهة نظر القرآن الكريم ثمراتٍ عديدة، هذه بعضها على سبيل المثال لا الحصر(1):

* اجتناب الشرك وأداء الأعمال الصالحة: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾(2).

فالآية تبين أن من يؤمن بالله تعالى وبالعود إليه يوم القيامة ولقائه، فعليه أن يبتعد عن الشرك بالله تعالى.

* تقديم العون المادّي للمحرومين وخشية الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾(3).

الآية واضحة في أن المؤمنين بيوم القيامة يعملون على دفع ما فيه من صعوبات من خلال إعانة المظلومين.

ص: 9


1- راجع: الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 266 – 268.
2- سورة الكهف، الآية 110.
3- سورة الإنسان، الآيات 8 إلى 10.

* عبادة الله تعالى وحده وعدم الشرك به: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُون﴾(1).

* عدم إجحاف الناس حقوقهم الاقتصادية: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(2)

وهي واضحة في أن الاعتقاد –وعلى الأقل الظن- بيوم القيامة -حيث سيحاسب الله تعالى الناس على ما بدر منهم- دافع مهم للابتعاد عن أكل حقوق الناس بالباطل.

* الدور التعبوي للمعاد: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ واللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(3)

(... قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو الله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ واللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(4)

فمن يؤمن بالله تعالى وبأنه سيرجع إليه يوم القيامة، فإنه سيكون مستعداً

ص: 10


1- سورة يس، الآيتان 22 و 23.
2- المطفّفين 1 - 6
3- التوبة 44 - 45
4- البقرة 249.

لبذل نفسه في ساحات الجهاد في سبيل الله تعالى، واضعاً ثواب الله تعالى نصب عينيه.

ص: 11

ص: 12

النقطة الثانية: بعض أدلة المعاد

اشارة

هناك الكثير من الأدلة على المعاد، ونذكر منها:

الدليل الأول: الدليل القرآني

هناك الكثير من الآيات التي دلت على المعاد ولزومه والأحوال التي تجري فيه والجنة والنار، وهي أكثر من أن تُحصى هنا، والملاحظ أن القرآن الكريم يذكر تلك الآيات بطريقة منبّهة للمؤمن، وأن ذلك اليوم هو من الهول والصعوبة بحيث يستحق أن يلتفت إليه المرء ويحسب له حسابًا دقيقًا.

قال تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ. أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ. قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ

ص: 13

بِقَلْبٍ مُنِيبٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ.)(1)

وقال تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَىٰ النَّاسَ سُكارىٰ وَما هُمْ بِسُكارىٰ وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ.)(2)

وقال تعالى (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ.)(3)

الدليل الثاني: روايات المعصومين (عليهم السلام)

وهي أيضًا كثيرة جدًا، وقد ذكرت تفاصيل أكثر مما ذكره القرآن الكريم، ولا ضير، إذ إن سنة النبي (صلى الله عليه وآله) وروايات أهل البيت (عليهم السلام) هي المبينة للقرآن الكريم، ومن تلك الروايات التالي:

روي أنه لما عاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تبوك إلى المدينة، قدم عليه عمرو بن معدي كرب فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): أسلم يا عمرو، يؤمنْك الله من الفزع الأكبر. فقال: يا محمد، وما الفزع الأكبر، فإني لا أفزع !؟ فقال: يا عمرو، إنه ليس مما تحسب وتظن، إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة، فلا يبقى ميت إلا نُشر، ولا حي إلا مات، إلا ما شاء الله، ثم يصاح بهم صيحة أخرى، فيُنشر

ص: 14


1- ق 20 – 35.
2- الحج 1 -2.
3- النور 24 – 25.

من مات ويُصفَّون جميعًا، وتنشقُّ السماء وتهدُّ الأرض وتخرّ الجبال، وتزفر النيران وترمي بمثل الجبال شررًا، فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبُه، وذكر ذنبَه وشُغِلَ بنفسه، إلا ما شاء الله، فأين أنت يا عمرو من هذا؟ قال: ألا إني أسمع أمرًا عظيمًا. فآمن بالله ورسوله، وآمن معه من قومه ناس، ورجعوا إلى قومهم.(1)

وفي رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: يا عباد الله، إن بعد البعث ما هو أشد من القبر، يوم يشيب فيه الصغير، ويسكر فيه الكبير، ويسقط فيه الجنين، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، يوم عبوس قمطرير، يوم كان شره مستطيرًا. إن فزع ذلك اليوم ليُرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم، وترعد منه السبع الشداد، والجبال الأوتاد، والأرض المهاد، وتنشق السماء فهي يومئذ واهية، وتصير وردة كالدهان، وتكون الجبال كثيبًا مهيلًا بعد ما كانت صمًا صلابًا، وينفخ في الصور فيفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله تعالى، فكيف من عصى بالسمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج والبطن إنْ لم يغفر الله تعالى له ويرحمه من ذلك اليوم؟! لأنه يقضي ويصير إلى غيره، إلى نار قعرها بعيد، وحرها شديد، وشرابها صديد، وعذابها جديد، ومقامعها حديد، لا يفتر عذابها، ولا يموت سكانها، دار ليس فيها رحمة، ولا يسمع لأهلها دعوة.

واعلموا يا عباد الله أن مع هذا رحمة الله التي لا تعجز عن العباد، جنة

ص: 15


1- الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص 158.

عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للمتقين، (خيرٌ) لا يكون معها شر أبدًا، لذاتها لا تملُّ، ومجتمعها لا يتفرق، سكانها قد جاوروا الرحمن، وقام بين أيديهم الغلمان، بصحاف من الذهب فيها الفاكهة والريحان.(1)

الدليل الثالث: حكم العقل

إن العقل يحكم بضرورة وجود عالم غير عالمنا، باعتبار:

أ: أنه ثبت أن الله تعالى القادر على كل شيء هو حكيم، لا يفعل عبثًا، ولا يضيع عنده حق أحد.

ب: وأنه يقع في الدنيا الكثير من المظالم التي لم تُنتصف، فكم من ظالم مات من دون أن يؤخذ منه الحق، وكم من مظلوم مات بحسرة حقه وهو يتجرع مرارة الغصب والظلم.

ج: فلو كانت الدنيا هي الخاتمة لكان إيجاد الناس فيها على هذه الحال عبثًا، والحكيم يُجلُّ عن ذلك.

إذن، لا بد من وجود عالم آخر يتم فيه الانتصاف من الظالم وإرجاع الحق إلى المظلوم، وهو يوم المعاد.(2)

ص: 16


1- أمالي الشيخ المفيد ص 265 – 266.
2- هناك أدلة عقلية أكثر دقة من هذا، وهناك من يناقش في جدوى العقل في إثبات المعاد وأن المعاد لا يثبت إلا بالنقل، ولا يهمنا التعرض إلى تلك التفاصيل هنا.

النقطة الثالثة: الأقوال في المعاد

اشارة

يمكن أن نجد عدة أصناف لمنكري المعاد، علمًا أن بعض الإنكار يقوم على فلسفة معينة، وبعضه إنما كان لأجل جلب منفعة دنيوية أو تبعًا لنزوات النفس وشهواتها، والمنكرون باختصار هم التالي:

الأول: الماديون

حيث ذهبوا إلى أن الوجود منحصر بالمادة، فغير المادي ليس موجودًا، وبالتالي فلا وجود للغيب ولا لما وراء المادة، وبذلك أنكروا حتى وجود الروح.

وأكملوا نظريتهم بالقول: إن بداية الخلق إنما كانت صدفة ومن دون علة عالمة قادرة حية حكيمة، وبالتالي، فهذه الحياة هي كل الوجود، وما بعدها من حياة، فلا معاد.

وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. وَإِذا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ

ص: 17

صادِقِينَ)(1)

فهاتان الآيتان واضحتان في أن الماديين:

1/(يؤمنون بالدهر، أي الزمان، وأنه هو الفاعل المؤثر في الأشياء)(2) والقرآن يرد عليهم مدّعاهم هذا بقوله (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.).

وقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى هؤلاء بقوله (عليه السلام): (... فَأَمَّا كُفْرُ الْجُحُودِ فَهُوَ الْجُحُودُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ لَا رَبَّ ولَا جَنَّةَ ولَا نَارَ وهُوَ قَوْلُ صِنْفَيْنِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ يُقَالُ لَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ وهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: (وما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) وهُوَ دِينٌ وَضَعُوه لأَنْفُسِهِمْ بِالاسْتِحْسَانِ عَلَى غَيْرِ تَثَبُّتٍ مِنْهُمْ ولَا تَحْقِيقٍ لِشَيْءٍ مِمَّا يَقُولُونَ قَالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)...)(3)

2/ أنهم يحصرون الوجود بالمادة، ولذلك طلبوا أن يتم إرجاع آبائهم ليروهم فيؤمنوا. (وَإِذا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

الثاني: إنكار المعاد الجسماني رغم الاعتقاد بألوهية الله تبارك وتعالى

وهو قول من آمنوا بوجود الله تعالى، وأنه هو الخالق للكون، ولكنهم في نفس الوقت أنكروا المعاد، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ

ص: 18


1- الجاثية 24 – 25.
2- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج7 ص 85.
3- الكافي للكليني ج2 ص 389 بَابُ وُجُوه الْكُفْرِ ح1.

كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أَفْتَرىٰ عَلَىٰ اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ.)(1)

فهاتان الآيتان واضحتان في أنهم كانوا يؤمنون بالله تعالى، لذلك اتهموا النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه يفتري عليه كذبًا بقوله بالمعاد!

وقد اعتمدوا على إنكارهم للمعاد على أن الموت عبارة عن إعدام، ولا يمكن إعادة المعدوم، (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)

الثالث: النفعيون

وهؤلاء لم ينكروا المعاد بناءً على دليل أو فلسفة معينة، وإنما أنكروه عمليًا ليفتحوا أمام أنفسهم اللهث وراء شهواتها وغرائزها من دون رادع، إذ عرفنا أن الإيمان بالمعاد يعني ضرورة التقيّد بالحدود التي ترسم خط النجاة، وهذا يلزم منه ترك الشهوات المحرمة، وحصر الانتفاع بالغرائز بالطريق الذي لا يخالف الشريعة، وحتى يتخلّصوا من هذا الرادع أنكروه بألسنتهم، وخالفوا مقتضاه بعملهم.

وإليه الإشارة بقوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلىٰ قادِرِينَ عَلىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ. يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ.)(2)

ص: 19


1- سبأ 7 -8.
2- القيامة 1 -6.

فالآيات واضحة في أن سبب إنكار البعض ليوم القيامة هو (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) أي (ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان)(1)

ويدخل ضمن هؤلاء السلاطينُ الظلمةُ، وأصحابُ المناصب، حيث إنهم يخافون على مناصبهم ويتمسكون بها، فإن الملك عقيم، ولو وجدوا أن إظهار الإيمان بالمعاد لا يحقق طموحهم، لأنكروه، ولكذّبوا به.

الرابع: المعاد الروحاني (دون الجسماني)

الرابع: المعاد الروحاني (دون الجسماني)(2).

الذين قالوا بأن المعاد روحاني فقط، ولا يمكن أن يكون بالبدن، لأن البدن سيُعدم بعد التحليل، ويستحيل إرجاعه.

وبالتالي فهم اعترفوا بالمعاد، ولكنه للروح فقط، فيكون الثواب والعقاب فقط للروح، واللذات والعقوبات ستكون معنوية روحية، ولا لذات مادية.

ولكن فاتهم أن الله تعالى الذي أوجد البدن من العدم، يمكنه أن يعيده بكل يُسْرٍ بعد أن يتحلل وينتشر بين ذرات التراب، إذ بالموت لا يُعدم البدن، وإنما يتحلل ويرجع إلى موادّه الأولية، قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتىٰ بَلىٰ إِنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(3)

ص: 20


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج7 ص 30.
2- ذهب إلى هذا الرأي بعض الفلاسفة، من قبيل صدر المتألهين. انظر: الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة لصدر الدين محمد الشيرازي ج5 ص 121 الباب العاشر في تحقيق المعاد الروحاني والإشارة إلى السعادة العقلية والشقاوة التي بإزائها والى السعادة والشقاوة الغير الحقيقيتين وما قيل في بيانهما.
3- الأحقاف 33.
الرابع: المعاد الجسماني والروحاني

وهو ما عليه المشهور من علمائنا.

ص: 21

ص: 22

النقطة الرابعة: النفخ في الصور والحشر

اشارة

الحشر هو الجمع، وفي يوم القيامة سيتم حشر وجمع جميع الناس، بل سيتم حشر المخلوقات جميعاً، قال تعالى (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)(1)

هذه الآية واضحة في (أن الحشر سيكون بنحو الجماعات لا الأفراد، وبالقهر، فلا يتخلّف عنه فرد أو جماعة)(2)

فالحشر هو (حشر الأموات بعد إحيائهم بأبدانهم، وعودة أرواحهم إليها، وبعثهم للحساب والجزاء بإرادة الله تعالى وقدرته).(3)

ولقد بيّن القرآن الكريم أن ذلك يتم من خلال النفخ في الصور، وأن النفخ في الصور يكون على مرحلتين، الأولى قبل يوم البعث والحساب، حيث يموت بها كل الأحياء إلا من شاء الله تعالى. قال تعالى: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)(4)

ص: 23


1- الكهف 47.
2- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج7 ص 375 – 376.
3- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج7 ص 376.
4- النمل 87.

والثانية نفخة الإحياء حيث يقوم الجميع لرب العالمين، يُبعثون إلى ساحة المحشر ليتم حسابهم.

وقد أشار لهما القرآن الكريم بقوله ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىٰ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)(1)

ومن صفات هذا الصور أنه أداة واحدة يُفعل معها نفس الفعل، إلا أن أثره مختلف جدًّا، فبينما تكون النفخة الأولى لإماتة الجميع –إلا من شاء الله- تكون الأخرى لإحياء الجميع وعلى نحو الخلود والدوام بدوام الله تعالى وبإخلاده جل جلاله.

وقد أطلق القرآن الكريم على النفخ في الصور عدة أسماء أخرى، يشير كل اسم منها إلى صفة من صفات هذه المرحلة، ومنها: النقر بالناقور، قال تعالى (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَىٰ الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)(2)

(ولعله سُمي بالناقور هنا لأنه يصدر الصوت الذي يصكّ الأسماع ويؤثر فيها، فكأنه أحدث فيها نقبًا، وعلامة النقب هو التأثر والاستجابة لصوته بالخروج من القبر)(3)

والصيحة، وهي الصوت العالي، قال تعالى (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ

ص: 24


1- الزمر 68.
2- المدّثر 8 – 10.
3- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج7 ص 380.

بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ.)(1)

من هو المستثنى في (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ)؟

يُحتمل في معنى هذا الاستثناء أمران:

الأمر الأول: الإشارة إلى شمول القدرة الإلهية

أن المقصود من الاستثناء ليس إثبات عدم موت مجموعة معينة بالنفخة الأولى، وإنما المقصود بيان أن كل حدث يقع في عالم الإمكان فإنما يكون بإذن الله تعالى وإقداره ومشيئته وحوله وقوته، وبالتالي فإن الخيار ما زال بيده جل وعلا، ويمكنه أن يمنع من صدور فعل معين، فيكون المعنى: أنه وبالنفخة الأولى سيموت الجميع، ولكن لو شاء الله تبارك وتعالى أن لا يموت بعضٌ لما مات، ولمَا تأثّر بالنفخ في الصور، ليس لوجود خلل في النفخ في الصور، وإنما لأن أثره مشروط بإذن الله تعالى، فلو شاء الله تبارك وتعالى أن لا يموت البعض، لمَا مات بكل تأكيد.

الأمر الثاني: مجموعة خاصة من المخلوقات

قال في مجمع البيان في بيان هذا المستثنى: (من الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم، وهم: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وقيل: يعني الشهداء، فإنهم لا يفزعون في ذلك اليوم. وروي ذلك في خبر مرفوع.(2)

ص: 25


1- الفتح 42.
2- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج7 ص 409.

ويمكن القول:

إن المقصود بهم هم المعصومون (عليهم السلام) ومن تمسك بولايتهم بشكل مطلق، وله بيان تفصيلي.(1)

ص: 26


1- تفصيل هذا البيان هو التالي: إن آيات النفخة الأولى تؤكد على موت الجميع، فيموت من في الأرض، وهم المخلوقات الأرضية، ويموت أيضًا من في السموات، وهم (الملائكة وأراوح الشهداء والسعداء...) [معرفة المعاد- آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني مج 5 ج10 ص 110.] وهذه الآيات هي ما صرّحت بأن (من شاء الله) سوف لا يُصعقون ولا يموتون بالنفخة، (فلا بد –إذن- أن يكونوا أفضل وأعلى من الملائكة ومن أرواح أصحاب اليمين والمحسنين، وأن يكون لهم من القدرة والتحمل إلى درجة لا تؤثر في قلوبهم وآذانهم أبدًا تلك الصيحة الشديدة المنبعثة من الصور...) [معرفة المعاد- آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني مج 5 ج10 ص 111.] أما من هم؟ فهذا يتم بيانه عبر الخطوات التالية: الخطوة الأولى: إنه تعالى يقول (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ 87) [النمل 87] وفي نفس الوقت يقول جل وعلا بعد تلك الآية: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ.) [النمل 89] فهذه الآية تُصرّح بأن (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) آمنون من الفزع الذي يحصل بسبب النفخ في الصور. إذن، من جاء بالحسنة هو من يأمن من فزغ النفخ في الصور. الخطوة الثانية: ليس المراد من قوله تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) هو كل من عمل الحسنة ولو على نحو الموجبة الجزئية، بأن جاء ببعض الحسنات، ولكنه خلَطها بعمل بعض السيئات، وإلا للزم أن يكون كل من عمل حسنة –ولو حسنة واحدة- آمناً من نفخة الصور، وهذا واضح البطلان. إذن، المراد من قوله تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) هو من عمل الحسنة بالمطلق، بأن لم يعمل معها أي سيئة، وهذا يعني أن الآمن هو المعصوم. ويمكن بيان هذه الخطوة ببيان آخر: إن القرآن يُصرّح بأنّ الذين يشملهم الصعق بالنفخ في الصور سيُحضرون يوم القيامة ويقومون بين يدي الله تعالى، قال تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىٰ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ.) [الزمر 68] وقال تعالى (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ.) [يس 53] ولكن آية أخرى صرّحت بأن (المخلَصين) –بالفتح- سوف لا يشملهم الحضور، بل إنهم سيُعفون منه، قال تعالى (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ.) [الصافات 127 – 128] فالمخلَصون إذن لا يشملهم الصعق بالنفخ في الصور، وسيُعفون من الحضور بين يدي الله تعالى. ثم إن القرآن يبين أن المخلَص -بالفتح- هو معصوم لا ينال منه الشيطان شيئًا ولا يُغويه، قال تعالى (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.) [ص 82 – 83] وقال تعالى (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ...) [الحجر 39 – 42] إذن، المعصومون هم الذين لا يفزعون ولا يُصعقون بنفخة الصور. الخطوة الثالثة: روائيًا، فإن المقصود من قوله تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) هو من تمسك بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، فالحسنة هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ روي أنه دَخَلَ أَبُو عَبْدِ الله الْجَدَلِيُّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: (عليه السلام) يَا أَبَا عَبْدِ الله، ألَا أُخْبِرُكَ بِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه خَيْرٌ مِنْها وهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قَالَ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، جُعِلْتُ فِدَاكَ. فَقَالَ (عليه السلام): الْحَسَنَةُ مَعْرِفَةُ الْوَلَايَةِ وحُبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، والسَّيِّئَةُ إِنْكَارُ الْوَلَايَةِ وبُغْضُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْه هَذِه الآيَةَ. [الكافي للكليني ج1 ص 185 بَابُ مَعْرِفَةِ الإِمَامِ والرَّدِّ إِلَيْه ح 14.] وعن عباد بن موسى الساباطي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أبا أمية يوسف بن ثابت حدَّث عنك أنك قلت: لا يضر مع الإيمان عمل، ولا ينفع مع الكفر عمل؟ فقال (عليه السلام): إنه لم يسألني أبو أمية عن تفسيرها، إنما عنيت بهذا أنه من عرف الامام من آل محمد (عليه السلام) وتولاه، ثم عمل لنفسه بما شاء من عمل الخير قُبِل منه ذلك، وضوعف له أضعافا كثيرة، فانتفع بأعمال الخير مع المعرفة، فهذا ما عنيتُ بذلك، وكذلك لا يقبل الله من العباد الأعمال الصالحة التي يعملونها إذا تولوا الامام الجائر الذي ليس من الله (تعالى). فقال له عبد الله بن أبي يعفور: أليس الله (تعالى) قال: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه خَيْرٌ مِنْها وهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ.) فكيف لا ينفع العمل الصالح ممن تولى أئمة الجور؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): وهل تدري ما الحسنة التي عناها الله (تعالى) في هذه الآية، هي والله معرفة الامام وطاعته، وقال (عز وجل): (ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وإنما أراد بالسيئة إنكار الامام الذي هو من الله (تعالى). ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): من جاء يوم القيامة بولاية إمام جائر ليس من الله وجاء منكرًا لحقنا جاحداً بولايتنا، أكبه الله (تعالى) يوم القيامة في النار. [أمالي الشيخ الطوسي ص 418 ح 939 / 87.] وهذا يعني أن الأمان يمكن أن يتعدى المعصومين (عليهم السلام) إلى من تمسك بولايتهم بصورة مطلقة، وليس مجرد أنه ادّعى التمسك بها ولكنه خالف هذا التمسك بارتكاب ما يخالف منهجهم (عليهم السلام) العقائدي والفقهي والأخلاقي، فمن تمسك بولايتهم ومقتضياتها إلى حد يصل إلى مرحلة ما يُسمى ب-(العصمة الكسبية) يمكن أن يكون آمنًا من فزع الصيحة والنفخ في الصور. [استفيد هذا البيان من كتاب: معرفة المعاد- آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني مج 5 ج10 ص 111 – 120 بتصرف وتلخيص وإضافة.]

ص: 27

ص: 28

النقطة الخامسة: بعض خصائص يوم القيامة

اشارة

من خلال النصوص التي تعرضت ليوم القيامة، يمكن القول: إنه يوم يتميز عن عالمنا بعدة مميزات، تمثل قوانين خاصة بذلك اليوم، ومنها التالي:

الخصيصة الأولى: الدوام والثبات

واضحٌ جدًا أن الدنيا لا ثبات فيها، وأن كل شيء فيها هو إلى التغير والزوال، وقد أشارت الروايات الشريفة إلى هذه الحقيقة بتعبيرات مختلفة، والواقع يشهد على ذلك أيضًا، فلا يمكن أن نطمئن بحالٍ معينة تكون هي السمة الثابتة في هذه الحياة، فلا ثبات في الدنيا إلا للتغير. وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «لو بقيت الدنيا علىٰ أحدكم لم تصل إلىٰ من هي في يده» (1).

أما في يوم القيامة، فالثبات هي السمة والقانون، فهو إما الجنة، وإما النار، ولا تغير من هذه الناحية.

ص: 29


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 417).
الخصيصة الثانية: بروز إدراك جميع الموجودات

يشير القرآن الكريم إلى أن الموجودات في هذا العالم لها نوع من الإدراك، ولكننا لا نفقه إدراكها، قال تعالى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(1)

وقال تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(2)

وقال تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(3)

وقال تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(4)

فهذه الآيات تشير إلى أن الطيور والجبال والصخور وغيرها لها نوع من الإدراك، ولكننا في هذا العالم الدنيوي لم نطّلع على تفاصيل إدراكها ولا كيفيته.

ص: 30


1- الأنعام 38.
2- الإسراء 44.
3- البقرة (74).
4- الأحزاب (72).

أما في القيامة، فالإدراك والشعور سيكون شاملًا للجميع، وستبرز إدراكات تلك الموجودات، بحيث يتم التواصل بين الإنسان وبينها، وليس أوضح في ذلك من قوله تعالى (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَىٰ النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّىٰ إِذا ما جاؤُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.)(1)

وعن الصادق جعفر ابن محمد (عليهما السلام)، أنه قال: عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهرًا طهّره الله من ذنوبه، وكُتب من زواره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء، وصلُّوا من المساجد في بقاع مختلفة، فإنّ كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة.(2)

وفي وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: يا أبا ذر، ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له بها يوم القيامة، وما من منزل نزله قوم إلا وأصبح ذلك المنزل يصلي عليهم أو يلعنهم.(3)

ص: 31


1- فصلت (19 – 23).
2- أمالي الشيخ الصدوق ص 440 ح 584 / 8.
3- أمالي الشيخ الطوسي ص 534 ح 1162 / 1.
الخصيصة الثالثة: تجسّم الأعمال

تذكر النصوص الدينية أن يوم القيامة سيشهد تجسمًا للأعمال، بحيث إن باطن الإنسان ونواياه وأعماله تظهر على أشكال معينة، وهذا باعتبار ما يُقال من أن للأعمال صورتين: صورة ملكية، وصورة ملكوتية، أو صورة مشهودة مرئية، وصورة غيبية مخفية، فالغيبة مثلًا في صورتها الملكية المشهودة عبارة عن ذكر المؤمن بما يكره، ولكنها في صورتها الملكوتية عبارة عما أخبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)(1)

وهكذا الربا، هو أخذ زيادة على القرض مثلًا، وفي صورته الملكوتية: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ)(2)

وهكذا أكل أموال اليتيم: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامىٰ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعيراً.)(3)

وفي يوم القيامة سيتم تجسم الأعمال على غرار هذه النصوص، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له: ما أنت؟ فوالله، إني لأراك امرئ الصدق؟! فيقول له: أنا عملك، فيكون له نور أو قائد إلى الجنة، وإن الكافر، إذا خرج من قبره صور

ص: 32


1- الحجرات 12.
2- البقرة 275.
3- النساء 10.

له عمله في صورة سيئة وبشارة سيئة فيقول: من أنت؟ فوالله، إني لأراك امرأ السوء، فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخل النار.(1)

ومن ذلك ما روي عن البراء بن عازب قال: كان معاذ بن جبل جالسًا قريبًا من رسول (صلى الله عليه وآله) في منزل أبي أيوب الأنصاري، فقال معاذ: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)(2).

فقال (صلى الله عليه وآله): يا معاذ ! سألت عن عظيم من الأمر، ثم أرسل عينيه، ثم قال: يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتًا، قد ميّزهم الله من المسلمين، وبدّل صورهم بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكَّسون: أرجلهم من فوق، ووجوههم من تحت، ثم يُسحبون عليها، وبعضهم عُميٌ يترددون، وبعضهم صم بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، فيسيل القيح من أفواههم لعابًا يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلَّبون على جذوع من نار، وبعضهم أشدُّ نتنًا من الجيف،

وبعضهم يلبسون جبابًا سابغة من قطران، لازقة بجلودهم.

فأما الذين على صورة القردة فالقتّات (النمام) من الناس. وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت. وأما المنكسون على رؤوسهم فأكلة الربا. والعمي: الجائرون في الحكم. والصم والبكم: المعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون بألسنتهم فالعلماء والقضاة الذين خالف أعمالهم أقوالهم. والمقطعة

ص: 33


1- كنز العمال للمتقي الهندي ج14 ص 367 – 368 ح 38963.
2- النبأ 18.

أيديهم وأرجلهم: الذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان. والذين هم أشد نُتنًا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات، ويمنعون حق الله في أموالهم، والذين يلبسون الجباب فأهل الفخر والخيلاء.(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: مَا مِنْ مَوْضِعِ قَبْرٍ إِلَّا وهُوَ يَنْطِقُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَنَا بَيْتُ التُّرَابِ أَنَا بَيْتُ الْبَلَاءِ أَنَا بَيْتُ الدُّودِ.

قَالَ (عليه السلام) فَإِذَا دَخَلَه عَبْدٌ مُؤْمِنٌ قَالَ: مَرْحَباً وأَهْلاً، أَمَا واللهِ لَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّكَ وأَنْتَ تَمْشِي عَلَى ظَهْرِي، فَكَيْفَ إِذَا دَخَلْتَ بَطْنِي، فَسَتَرَى ذَلِكَ. قَالَ: فَيُفْسَحُ لَه مَدَّ الْبَصَرِ، ويُفْتَحُ لَه بَابٌ يَرَى مَقْعَدَه مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: ويَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ رَجُلٌ لَمْ تَرَ عَيْنَاه شَيْئاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْه، فَيَقُولُ:يَا عَبْدَ الله، مَا رَأَيْتُ شَيْئاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا رَأْيُكَ الْحَسَنُ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْه، وعَمَلُكَ الصَّالِحُ الَّذِي كُنْتَ تَعْمَلُه. قَالَ (عليه السلام): ثُمَّ تُؤْخَذُ رُوحُه فَتُوضَعُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ رَأَى مَنْزِلَه، ثُمَّ يُقَالُ لَه: نَمْ قَرِيرَ الْعَيْنِ. فَلَا يَزَالُ نَفْحَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ تُصِيبُ جَسَدَه يَجِدُ لَذَّتَهَا وطِيبَهَا حَتَّى يُبْعَثَ.

قَالَ (عليه السلام): وإِذَا دَخَلَ الْكَافِرُ قَالَ: لَا مَرْحَباً بِكَ ولَا أَهْلاً، أَمَا والله، لَقَدْ كُنْتُ أُبْغِضُكَ وأَنْتَ تَمْشِي عَلَى ظَهْرِي فَكَيْفَ إِذَا دَخَلْتَ بَطْنِي، سَتَرَى ذَلِكَ.

ص: 34


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج10 ص 242 – 243. وبعض مفردات هذه الرواية تبين عقوبات بعض الذنوب، لا تجسم الأعمال، ولكن أبقيناها للفائدة التربوية.

قَالَ: فَتَضُمُّ عَلَيْه فَتَجْعَلُه رَمِيماً، ويُعَادُ كَمَا كَانَ، ويُفْتَحُ لَه بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَرَى مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ إِنَّه يَخْرُجُ مِنْه رَجُلٌ أَقْبَحُ مَنْ رَأَى قَطُّ، قَالَ: فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، مَنْ أَنْتَ مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَقْبَحَ مِنْكَ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ السَّيِّئُ الَّذِي كُنْتَ تَعْمَلُه، ورَأْيُكَ الْخَبِيثُ. قَالَ: ثُمَّ تُؤْخَذُ رُوحُه فَتُوضَعُ حَيْثُ رَأَى مَقْعَدَه مِنَ النَّار، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ نَفْخَةٌ مِنَ النَّارِ تُصِيبُ جَسَدَه فَيَجِدُ أَلَمَهَا وحَرَّهَا فِي جَسَدِه إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ، ويُسَلِّطُ الله عَلَى رُوحِه تِسْعَةً وتِسْعِينَ تِنِّيناً تَنْهَشُه لَيْسَ فِيهَا تِنِّينٌ يَنْفُخُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ فَتُنْبِتَ شَيْئاً.(1)

وقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: إِذَا بَعَثَ الله الْمُؤْمِنَ مِنْ قَبْرِه خَرَجَ مَعَه مِثَالٌ يَقْدُمُ أَمَامَه، كُلَّمَا رَأَى الْمُؤْمِنُ هَوْلاً مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ لَه الْمِثَالُ: لَا تَفْزَعْ ولَا تَحْزَنْ وأَبْشِرْ بِالسُّرُورِ والْكَرَامَةِ مِنَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ، حَتَّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيِ الله عَزَّ وجَلَّ، فَيُحَاسِبُه حِسَاباً يَسِيراً، ويَأْمُرُ بِه إِلَى الْجَنَّةِ، والْمِثَالُ أَمَامَه. فَيَقُولُ لَه الْمُؤْمِنُ: يَرْحَمُكَ الله نِعْمَ الْخَارِجُ خَرَجْتَ مَعِي مِنْ قَبْرِي ومَا زِلْتَ تُبَشِّرُنِي بِالسُّرُورِ والْكَرَامَةِ مِنَ الله حَتَّى رَأَيْتُ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا السُّرُورُ الَّذِي كُنْتَ أَدْخَلْتَ عَلَى أَخِيكَ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا، خَلَقَنِي الله عَزَّ وجَلَّ مِنْه لأُبَشِّرَكَ.(2)

ص: 35


1- الكافي للكليني ج3 ص 241 – 242 بَابُ مَا يَنْطِقُ بِه مَوْضِعُ الْقَبْرِ ح1.
2- الكافي للكليني ج2 ص 190 بَابُ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ح8.

ص: 36

النقطة السادسة: الحساب

اشارة

تؤكد النصوص الدينية على أن من أهم منازل القيامة هو فتح محكمة إلهية عادلة، يتم فيها حساب البشر على كل صغيرة وكبيرة، قال تعالى (... وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً. وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىٰ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.)(1)

وإن من غايات الحساب هو إظهار العدل الإلهي في عباده، وحكمته وجوده وكرمه في جزائهم، إذ هو يتضمن (إعطاء كل ذي حق حقه، بمجازاة العاملين على أعمالهم، بمعاقبة المسيء، ومكافأة المحسن بالأجر والثواب.)(2)

بالإضافة إلى أنه يدفع العبد إلى التزام العمل الصالح، والابتعاد عن القبيح، إذ ما دام وراءه حساب فلماذا الكسل عن الحسن؟!

ص: 37


1- الكهف 47 – 49.
2- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج8 ص 9.
مميزات الحساب الإلهي

ثم إن الحساب الإلهي يمتاز بأنه:

أولًا: لا يقتصر على الكمّ في الأعمال، وإنْ كان الكمُّ أيضًا مهم، إذ ورد مثلًا استحباب كثرة الحج حيث روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَن أرادَ الدُّنيا والآخِرَةَ فَليَؤُمَّ هذَا البَيتَ، ومَن رَجَعَ مِن مَكَّةَ وهُوَ يَنوِي الحَجَّ مِن قابِل زيدَ في عُمُرِهِ. (1)

ولكن الكمَّ لوحده ليس هو الملاك في القبول، وإنما المهم هو النوع والداخل والجوهر، قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)(2)

ولذلك ورد التأكيد على أن تكون النية صالحة في العمل، وعلى التركيز على أسباب قبول العمل وإن كان قليلًا.

يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرٍّ: «يا أبا ذرٍّ، ليكن لك في كلِّ شيء نيَّة صالحة، حتَّىٰ في النوم والأكل»(3).

وروي عن زيد الشحّام، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّي سمعتك تقول: «نيَّة المؤمن خير من عمله»، فكيف تكون النيَّة خيراً من العمل؟ قال: «لأنَّ العمل ربَّما كان رياء للمخلوقين، والنيَّة خالصة لربِّ العالمين، فيُعطي تعالىٰ

ص: 38


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج2 ص 219 – 220 ح 2222 و 2223).
2- الملك (2).
3- مكارم الأخلاق للطبرسي: 464.

علىٰ النيَّة ما لا يُعطي علىٰ العمل»(1).

ثانيًا: أنه حساب بميزان الحق الذي لا يخطئ ولا يشتبه أبدًا، وهذا ما يولّد الاطمئنان للمؤمن بأن عمله لن يذهب سدىً مهما كان قليلًا، وحتى لو سرق أحدهم منك عملك الصالح في الدنيا ونَسَبه إلى نفسه وخَدَع الناس، فإن ميزان يوم القيامة لا يُخدع، فسيرجع لك عملك وأثره، وسيُعلن ذلك على رؤوس الأشهاد.

وقد روي في وصيَّة الإمام الصادق (عليه السلام) لابن جندب أنَّه قال له: «يا ابن جندب، لا تتصدَّق علىٰ أعين الناس ليزكُّوك، فإنَّك إنْ فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تُطلِع عليها شمالك، فإنَّ الذي تتصدَّق له سرًّا يُجزيك علانيةً علىٰ رؤوس الأشهاد، في اليوم الذي لا يضرُّك أنْ لا(2)

يطَّلع الناس علىٰ صدقتك»(3).

ثالثًا: أن الحساب يكون وفق مستندات وأدلة لا يمكن معها للمجرم أن يُنكر أبدًا، فيُكتفى بحسابه أن يقرأ هو كتابه فيُقِرّ بما فيه، قال تعالى (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(4)

رابعًا: أن الباب مفتوح فيه للشفاعة المقبولة، والتي تنفع في تخفيف

ص: 39


1- علل الشرائع للصدوق 2: 524/ باب 301/ ح 1.
2- هكذا في المصدر، ولعل المناسب هو حذف حرف (لا).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 305).
4- الإسراء 13 – 14.

الحساب أو في تمشية بعض الأخطاء والتجاوز عنها.

إن موضوع الشفاعة من الموضوعات الإسلامية، والتي دلت عليها الكثير من الأدلة، ورتبت عليها الكثير من الثمرات، وهي المقام المحمود الذي وُعد به النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، إذ روي عن الإمام الباقر أو الصادق (عليهما السلام) في قوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(1) قال: هي الشفاعة.(2)

واعتبرتها بعض الروايات أرجى ما يمكن أن يرجوه العباد يوم القيامة، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) - لما سأله بشر بن شريح البصري: أية آية في كتاب الله أرجى؟ قال (عليه السلام): ما يقول فيها قومك؟ قال: قلت: يقولون (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(3)، قال: لكنّا أهل البيت لا نقول ذلك، قال: قلت: فأي شيء تقولون فيها؟ قال (عليه السلام): نقول (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ)(4) الشفاعة، والله الشفاعة، والله الشفاعة.(5)

وعن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا قمت المقام المحمود تشفعت في أصحاب الكبائر من أمتي،

ص: 40


1- الإسراء 79.
2- تفسير العياشي ج2 ص 314 ح 148.
3- الزمر (53).
4- الضحى (5).
5- تفسير فرات الكوفي ص 570 و 571 ح 734 – 6.

فيشفعني الله فيهم، والله لا تشفعت فيمن آذى ذريتي.(1)

بل إن بعض الروايات صرحت أنْ لا أحد من الناس إلا وهو محتاج إلى شفاعة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فقد روي أنه دخل مولى لامرأة علي بن الحسين (عليه السلام) على أبي جعفر (عليه السلام) يقال له: أبو أيمن، فقال: يا أبا جعفر، يغرون الناس ويقولون: (شفاعة محمد، شفاعة محمد)؟!

فغضب أبو جعفر (عليه السلام) حتى تربّد وجهه ثم قال: ويحك يا أبا أيمن، أغرّك إنْ عفّ بطنك وفرجك؟! أما لو قد رأيت أفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله)، ويلك، فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار؟

ثم قال: ما أحد من الأولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة.

ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): إن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الشفاعة في أمته، ولنا الشفاعة في شيعتنا، ولشيعتنا الشفاعة في أهاليهم.

ثم قال: وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر، فإن المؤمن ليشفع حتى لخادمه ويقول: يا رب حقّ خدمتي كان يقيني الحر والبرد.(2)

والشفاعة تكون وفق شروط خاصة، وهذا ما تذكره الروايات الشريفة في باب الأعمال التي تخفّف الحساب.

ص: 41


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 370 ح 462 / 3.
2- تفسير القمي ج2 ص 202.

ومن ذلك ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن صلة الرحم تهوّن الحساب يوم القيامة، ثم قرأ: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ.)(1)..(2)

وغيرها من الشروط والروايات التي فصّلها العلماء في حديثهم عن الشفاعة –التي سيأتي بعض الكلام فيها في السؤال الخامس من النقطة السابعة إن شاء الله تعالى-

خامسًا: أن الناس يُدعون في يوم القيامة كلٌّ مع إمامه، وهو مفاد قوله تعالى (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً.)

وتؤكد النصوص الدينية على أن حساب الشيعة سيكون على يدي أئمتهم (عليم السلام)، فقد روي عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إذا كان يوم القيامة وَكَّلَنا الله بحساب شيعتنا، فما كان لله، سألْنا الله أن يهبه لنا فهو لهم، وما كان لنا فهو لهم، ثم قرأ أبو عبد الله (عليه السلام) (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(3).(4)

ص: 42


1- الرعد 21.
2- الزهد للحسين بن سعيد الكوفي ص 37 ح 99.
3- الغاشية 25 – 26.
4- أمالي الشيخ الطوسي ص 406 ح 911 / 59.

النقطة السابعة: الخلود

اشارة

الخلود معناه البقاء والدوام، بحيث لا يطرأ عليه العدم، وقد أوضح القرآن الكريم أن الدار الآخرة هي دار الخلود، فأهل الجنة مخلّدون في الجنة، وأما أهل النار فبعضهم مخلّد، وبعضهم يشمله العفو الإلهي أو الشفاعة، أو ربما يقضي فترة حكمه في النار ثم يخرج منها.

وإلى كون عالم الآخرة هو عالم الخلود يُشير ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، جيء بالموت فيُذبح كالكبش بين الجنة والنار، ثم يقال: خلودٌ فلا موتَ أبدًا.(1)

وهنا خمسة اسئلة:

السؤال الأول: هل يتنافى خلود الممكن مع بقاء الله تعالى؟

السؤال الثاني: ما هو الوجه في تعليق الخلود على المشيئة؟

السؤال الثالث: ألا يحصل مللٌ في الجنة؟!

السؤال الرابع: كيف يتناسب العذاب الدائم مع الذنب المؤقت؟

السؤال الخامس: هل الشفاعة تشجع على الذنب؟

ص: 43


1- تفسير القمي ج2 ص 223.
السؤال الأول: هل يتنافى خلود الممكن مع بقاء الله تعالى؟

قد يُقال: إن أدلة التوحيد قامت على أنه لا باقي على نحو الخلود غير المنقطع إلا الله تبارك وتعالى، وأما الممكن فليس له في حد ذاته إلا الفناء، فكيف يتناسب هذا مع القول بخلود أهل الجنة في الجنة وبعض أهل النار في النار؟

الجواب:

إن هذا صحيح لو كان النظر إلى ذات الممكن، فالممكن في حدّ ذاته ليس له الخلود، بل هو يحتاج في أصل وجوده وفي استمراره إلى علة فوقه تعطيه الوجود وتفيضه عليه.

ولكن هذا لا يُنافي بقاء الممكن؛ لأن علته التامة (وهو الله تبارك تعالى) أرادت له البقاء، فيكون بقاء الممكن وخلوده ليس من ذاته لينافي أدلة التوحيد الدالة على أن لا باقي إلا الله تعالى، وإنما هو بقاء بإذن الله تعالى وبإخلاد من الله تعالى، لا من ذات الممكن، وهذا لا ضير فيه أبدًا.

وقد صُرّح بهذا السؤال وجوابه فيما روي عن أبي زكريا يحيى بن أبي بكر، قال: قال النظّام [المعتزلي] لهشام بن الحكم: ان أهل الجنة لا يبقون في الجنة بقاء الأبد، فيكون بقاؤهم كبقاء الله تعالى، ومحال أن يبقوا كذلك.

فقال هشام: إن أهل الجنة يبقون بمبقٍ لهم، والله يبقى بلا مبقٍ، أوَ ليس هو كذلك؟!

ص: 44

فقال: محال أن يبقوا للأبد.

قال: ما يصيرون؟ قال يدركهم الخمود.

قال: فبلغك أنّ في الجنة ما تشتهي الأنفس؟

قال: نعم.

قال: فان اشتهوا وسألوا ربهم بقاء الأبد؟

قال: إن الله تعالى لا يلهمهم ذلك.

قال: فلو أن رجلًا من أهل الجنة نظر إلى ثمرة على شجرة، فمدّ يده ليأخذها، فتدلّت إليه الشجرة والثمار، ثم كانت منه لفتة فنظر إلى ثمرة أخرى أحسن منها، فمدّ يده اليسرى ليأخذها، فأدركه الخمود، ويداه متعلقة بشجرتين، فارتفعت الأشجار وبقي هو مصلوبًا، فبلغك أنّ في الجنة مصلوبين؟

قال: هذا محال.

قال: فالذي أتيت به أمحل منه، أن يكون قوم قد خُلقوا وعاشوا فأُدخلوا الجنان، تموّتهم فيها يا جاهل!(1)

(أي وأنت تنسبهم إلى الموت في النشأة الخالدة وتثبت لهم الممات في جنة الخلد يا جاهل.)(2)

ص: 45


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 552 ح 493.
2- من شرح المصدر.
السؤال الثاني: ما هو الوجه في تعليق الخلود على المشيئة؟

قد يُقال:

إن القول بخلود أهل الجنة في الجنة وبعض أهل النار في النار، يخالف قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ.)(1)

حيث إن هذه الآيات تدل على أن الخلود معلّق على مشيئة الله تعالى، بمعنى أنه إذا شاء الله تعالى أخرج الطائفة التي يشاء مما هي فيه، وهو ما قد يشي بأنه لا خلود في الحقيقة.

والجواب:

أن معنى الآية هو أنه:

لا ريب بأن إرادة الله تعالى غالبة على كل إرادة، وأنه لا ندّ لإرادته تعالى، فإذا أراد الله شيئًا فإنما يقول له: كن، فيكون، وهذا المعنى شامل لعالم الدنيا والآخرة، ولا يُستثنى منه موجود ممكن على الإطلاق، فحتى لو دخل أهل الجنة في الجنة، فإن إرادة الله تعالى ما زالت على حالها من كونها قاهرة على كل إرادة، فيمكن والحال هذه أن يُخرج الله تعالى المؤمنين من الجنة لو شاء ذلك، فلو شاء فلا شيء يقف بوجهه أبدًا، هذا هو المعنى المقصود من الاستثناء.

ص: 46


1- هود 106 – 108.

وهكذا الكلام في أهل النار.

وبعبارة أخرى: (من الجلي –عقلًا ونقلًا- أن أصحاب الجنة لا يُغادرونها أبدًا، لذا فإن استثناء (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في شأن السعداء لا يدل على تحقق خروجهم ووقوعه في الخارج، بل ينحصر مدلوله في بيان قهّارية الحق سبحانه، وغلبة مشيئته، أي إن إرادة الله المتعال ومشيئته مقدمتان على كل شيء، وحاكمتان عليه، وأنّ أي قانون أو قاعدة لا يحيطان أبدًا بمشيئة الحق تعالى، ولا يُخضعها لحكمه، وإن إرادة الحق واختياره مما لا يُغلب ولا يقُهر أبدًا.

إن أصحاب الجنة ماكثون فيها أبدًا، ولكن بإرادة الله ومشيئته، وأصحاب النار ماكثون فيهًا أبدًا، إلا أن يشاء الله سبحانه، أي إن إرادة الله ومشيئته في حقهم أعلى من كل قانون ووعد، وأنهم –في حال خلودهم- خاضعون لإرادة الله عز وجل، فإن شاء أخرجهم منها دون أي يصدّه مانع أو يردعه رادع.

وهذا الاستثناء الذي يُعرف في تعبير أصحاب التفسير والعرفان باستثناء المشيئة يفيد هذا المعنى)(1)

وقال الشريف المرتضى في بيان هذه الاستثناء:

(أن يكون الاستثناء غير مؤثر في النقصان من الخلود، وإنما الغرض فيه: أنه لو شاء أن يخرجهم وأن لا يخلدهم لفعل، في أن التخليد إنما يكون بمشيئته

ص: 47


1- معرفة المعاد- آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني مج 5 ج10 ص 215 – 216.

وإرادته، كما يقول القائل لغيره: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وهو لا ينوى إلا ضربه. ومعنى الاستثناء ههنا: أني لو شئت أن لا أضربك لفعلت وتمكّنت، غير أني مجمع على ضربك.)(1)

وقال الشريف المرتضى (قدس سره) في بيان وجه آخر لهذا الاستثناء:

(أن يكون تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج؛ لأن الله تعالى لا يشاء إلا تخليدهم على ما حكم به ودل عليه، ويجري ذلك مجرى قول العرب: والله لأهجرنك إلا أن يشيب الغراب ويبْيض القار، ومعنى ذلك: أني أهجرك أبدًا من حيث عُلّق بشرط معلوم أنه لا يحصل، وكذلك معنى الآيتين والمراد بهما: أنهم خالدون أبدًا لأن الله تعالى لا يشاء أن يقطع خلودهم.)(2)

السؤال الثالث: ألا يحصل مللٌ في الجنة؟!

بعد وضوح أن أهل الجنة عندما يدخلونها فإنهم سيكونون من الخالدين فيها، وسيتنعمون بلذائذها المختلفة، من أكل وشراب وقصور وحور وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكن ماذا بعد ذلك؟ أَلا يُحتمل أن المؤمن وهو في الجنة يحصل عنده الملل من الأكل والشرب وغيرها؟

الذي سيدخل الجنة هو المؤمن نفسه الذي كان في الدنيا، ونحن بالوجدان

ص: 48


1- أمالي الشريف المرتضى ج4 ص 8 وهو الوجه الخامس الذي ذكره.
2- أمالي الشريف المرتضى ج4 ص 8. وهو الوجه السادس الذي ذكره.

نجد أنفسنا أننا نملُّ من أمرٍ ما إذا تكرّر علينا عدة مرات، فكيف إذا بقي معنا إلى أبد الآبدين؟!

فكيف سيتم علاج الملل المتوقّع في الجنة؟

والجواب:

1/ لا شكّ أن لعالم الآخرة قوانين تختلف عن عالم الدنيا، فلعل الإحساس بالملل هو من خصائص الدنيا، وأما في الآخرة فيُرفع هذا الإحساس، تمامًا كما كان الإصر والأغلال من خصائص عالم الدنيا، وأما في الآخرة فيُرفع الغلُّ من قلوب المؤمنين، ولا يبقى فيها سوى الودّ والحب لبعضهم البعض، قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.)(1)

وقال تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلىٰ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ.)(2)

2/هناك العديد من الأمور واللذائذ الدنيوية، التي لا يملّ منها الإنسان، بل تجده في كل مرة يشتاق إليها، بل بعضها لا يستطيع أن يستغني عنها.

ص: 49


1- الأعراف 42 – 43.
2- الحجر 45 – 47.

انظر مثلًا إلى طعام معين، عندما تشبع منه ستملُّه، ولكنك بعد سويعات قليلة سترجع تشتهيه وكأنك لم تأكل أي طعام من قبل.

وخذ مثالًا على ذلك الحاجة إلى إشباع الغريزة الجنسية.

بل نجد أننا لا نمل من استنشاق الهواء مهما طال بنا الزمن، وفي كل مرة نستنشقه نجد لذة جديدة فيه.

وهكذا مثلًا النوم، فإنك كلما شبعت منه وهجرته، فإنك سرعان ما تعود إليه وتلتذّ به تمامًا بعد سويعات قليلة من العمل والحركة.

بل الماء رغم استعماله المستمر، فإننا نجد لذة في كل مرة نرتشف شيئًا منه، وشوقًا إليه إذا ابتعد عنا سويعات قليلة.

إذن، ملل الإنسان ليس شاملًا لكل اللذائذ والموجودات.

ومعه، فيمكن أن تكون اللذائذ في الآخرة من النوع الذي لا يُملّ، بحيث لا يشبع الإنسان من شيء منها، بل يتجدد له الشوق إليه.

3/ حيث إن نعيم الآخرة لا حدود له، فليكن في الجنة إذن أنواع من اللذائذ غير متناهية، بحيث إنها تكون متجددة على طول الوقت، وكلما وجد المؤمن لذة معينة، جاءته لذة أخرى، وكلما شبع من لذة، اشتاق إلى لذة أخرى، وهكذا دواليك.

خصوصًا مع الالتفات إلى أن الجنة هي من رحمة الله تعالى، والله تعالى غير متناهي، فرحمته جل وعلا كذلك.

ص: 50

وهذا ما تشير له بعض الروايات الشريفة، ومنها ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تعالى خلق بيده جنة لم ترها عين، ولم يطّلع عليها مخلوق، يفتحها الرب تبارك وتعالى كل صباح فيقول: ازدادي طيبًا، ازدادي ريحًا.(1)

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن أهل الجنة توضع لهم موائد، عليها من سائر ما يشتهونه من الأطعمة التي لا ألذّ منها ولا أطيب، ثم يُرفعون عن ذلك إلى غيره.(2)

وحتى لو قيل: بأن اللذائذ هناك متناهية، لكنها على كل حال أكثر بكثير جدًا مما في الدنيا، ومعه، فيمكن القول: إن كثرتها تبعد الملل عنها، فلو فرضنا أن الإنسان يحتاج إلى سنة كاملة ليدور حول كل لذائذ الجنة، فلا شك أنه بعد انتهاء السنة سيكون مشتاقًا جدًا للّذة الأولى التي رآها في أول السنة الفائتة، وهكذا بدون أن يحصل له ملل.

4/لا شك أن رغبات الإنسان غير متناهية، وأنّ عنده القدرة على تخيُّل أمور تُشبع رغباته هي غير موجودة في عالمنا، أو لا يمكن أن تتحقّق في عالمنا، وحيث إن من قوانين الجنة أن المؤمن يحصل على أي نعمة بمجرد أن يتمنّاها، إذن، يمكن القول: إن أماني الإنسان غير المتناهية تمنعه من الملل من نعم الجنة غير المتناهية، يقول تعالى (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ. هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَىٰ الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ. لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ

ص: 51


1- الزهد للحسين بن سعيد الكوفي ص 102 باب 19 (باب أحاديث الجنة والنار) ح 278.
2- الزهد للحسين بن سعيد الكوفي ص 102 باب 19 (باب أحاديث الجنة والنار) ح 279.

ما يَدَّعُونَ.)(1)

ملاحظة:

هذا السؤال لا يأتي فيما يتعلق بالعذاب في جهنم والعياذ بالله، إذ لا شك أن الإنسان لا يتعوّد على الألم، وسيبقى يتألم منه ما دام الألم موجودًا عنده ويشعر به، بالإضافة إلى أن بعض الآيات أجابت عن مثل هذا التساؤل، كما في قوله جل جلاله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً)(2)

بالإضافة إلى أنه لا معنى لهذا الكلام في ما يتعلق بالعذاب في جهنم، فإن اللحظة الواحدة منه هي أعظم بكثير من تحمل الإنسان، والنصوص التي ذكرت أنواع العذاب فيها وشدته تكفي لأن يحكم العقل بضرورة العمل على الهرب عنها بعيداً جداً، ومن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: «وَاعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَىٰ النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيه، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُه؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ؟ أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَىٰ النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِه، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِه؟...»(3).

ص: 52


1- يس 55 – 57.
2- النساء 56.
3- نهج البلاغة: 267/ الخطبة 183.
السؤال الرابع: كيف يتناسب العذاب الدائم مع الذنب المؤقت؟

بعد تسليم دلالة الآيات الكريمة على أن بعض أهل جهنم خالدون فيها، وعلى الأقل أن البعض منهم يأخذ فترات زمنية طويلة جدًا –بالقياس إلى عمر الإنسان كله في الدنيا- يأتي السؤال:

كيف يتناسب العذاب الدائم أو الطويل جدًا مع الذنب المؤقت؟

فالإنسان المذنب في الدنيا مهما طال زمن ذنبه فإنه أقل بكثير من الفترة الزمنية لمن يدخل جهنم.

وقد يتطور هذا السؤال إلى السؤال حول تكييف الخلود في جهنم أو المكث فيها فترات طويلة مع العدل الإلهي، فيُقال: هل من العدل أن يُعذّب الإنسان خالدًا في جهنم إزاء أعمال فتراتها الزمنية قليلة جدًا؟

والجواب:

1/أشارت بعض الروايات الشريفة إلى أن الخلود ليس هو فرع فعل السيئة فقط، وإنما هو فرع النية السيئة على دوام فعل الذنب.

وبعبارة أخرى: أن بعض المذنبين يكون قد بنى أمره على أن يعصي الله تعالى وعلى الدوام، بحيث لو أتيح له الخلود في الدنيا لبقي على المعصية، وعلى هذا الأساس يتمُّ تخليده في جهنم.

وإلى هذا المعنى يشير ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّما خُلِّد أهل النار في النار لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو خُلِّدوا فيها أنْ يعصوا الله أبداً،

ص: 53

وإنَّما خُلِّد أهل الجنَّة في الجنَّة لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو بقوا فيها أنْ يُطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: ]قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ[(1)، قال: «علىٰ نيَّته»(2).

بل البعض منهم وبعد أن يدخلوا جهنم في يوم القيامة، وشعورهم بعذابها بوجدانهم المباشر، لو أتيح لهم الرجوع إلى الدنيا لرجعوا إلى المعصية، فيكون خلودهم في جهنم متناسبًا مع بناء أمرهم وعزمهم على المعصية أبدًا.

قال تعالى (وَلَوْ تَرىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَىٰ النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.)(3)

وقد ورد في تفسير هذه الآية عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: فقد علم الله عز وجل أنه لو ردّهم لعادُوا لما نُهوا عنه.(4)

وهذا المعنى هو ما قد يُعبّر عنه القرآن الكريم بإحاطة السيئة والخطيئة، فالبعض من المذنبين –والعياذ بالله- تحيط به سيئته بحيث تصبح هي الوجه الثابت له، لا تفارقه في أي عالم من العوالم، قال تعالى (بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.)(5)

ص: 54


1- الإسراء: 84.
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 330 و331/ح 94).
3- الأنعام 27 – 28.
4- التوحيد للشيخ الصدوق ص 137 ح8.
5- البقرة 81.

2/إن السؤال مبني على أن العدل يقتضي المساواة بين زمن المعصية والمخالفة وزمن العقوبة، وهذا الأمر ليس صحيحًا إطلاقًا حتى في بعض الأحكام الوضعية بين العقلاء؛ (لأن العلاقة بين الإثم والعقاب ليست علاقة زمانية، بل كيفية، أي إن زمان العقاب يتناسب مع كيفية الإثم لا مع زمانه، فمثلًا قد يُقْدم شخص في لحظة على قتل نفس محترمة، وطبقًا لما في بعض القوانين يُحكم عليه بالحبس الدائم، فهنا نلاحظ أن زمن الإثم لحظة واحدة، في حين أن العقاب قد يبلغ ثمانين سنة، إذن المهم في الإثم هو كيفيته لا كمية زمانه)(1)

3/عالمنا عالم الأسباب والمسببات، ونحن نجد أن النتيجة ليست دائمًا تكون بحجم السبب من حيث الزمن، بل قد يكون زمن النتيجة أطول بكثير من زمن السبب.

لاحظ مثلًا لو أن (شخصًا يُبتلى بالقرحة المعدية نظرًا لإدمانه على المشروبات الكحولية لمدة سبعة أيام تباعًا، فيكون مجبورًا على تحمل الألم والأذى إلى آخر عمره، تُرى هل هذه المعادلة بين هذا العمل السيء ونتيجته مخالفة للعدالة؟!)(2)،

كلا طبعًا، لأن هذا هو مقتضى كون عالمنا عالم الأسباب والنتائج المترتبة، وليس هناك من قانون يقول بضرورة مساواة زمن النتيجة لزمن السبب كما في هذا المثال.

ص: 55


1- صراط الحق للشيخ محمد آصف المحسني (قُدس سره) ج4 ص 169 الناشر: سلسلة الذهب 1395 ش إيران مطبعة ثامن.
2- صراط الحق للشيخ محمد آصف المحسني (قُدس سره) ج4 ص 169 – 170.

(ولو كان عمر هذا الإنسان بدل الثمانين سنة ألف سنة، أو مليون سنة، ولأجل نزوته النفسية بشرب الخمر أسبوعًا يتألم طول عمره، تُرى هل هذا التألم لمليون سنة –مثلًا- مخالف لأصل العدالة؟ في حين أنه أُبلغ حال شرب الخمر بوجود هذا الخطر وعلم بنتيجته؟

ولنفرض أيضًا أن سائق سيارة لا يلتزم بأوامر المرور وضوابطه... وفي لحظة قصيرة تقع له حادثة... ويفقد بذلك عينه أو يده أو رجله في هذه اللحظة، ونتيجة لما وقع يعاني الألم سنين طويلة لفقد البصر أو اليد أو الرجل، فهل تتنافى هذه الظاهرة فيه مع أصل عدالة الله تعالى؟!)(1)

من هذا كله نخلص إلى التالي:

أنه لا ضرورة تستدعي أن يكون هناك مساواة زمنية بين السبب والنتيجة.

فإذا علمنا أن الثواب -وكذا العقاب- في الآخرة إنما هو على ما صدر من الإنسان من أفعال في الدنيا، أي إن الثواب والعذاب في الآخرة إنما هو أثر لسببه -وهو العمل في الدنيا- حينها لا ضرورة تستدعي أن يكون إخلاد أهل جهنم فيها مخالفًا للعدل الإلهي؛ لأن الله تعالى كان قد أبلغ الجميع بما يلزمهم فعله، وأخبرهم أن أثر هذا الذنب المعين هو الخلود في جهنم، فإذا تجاوز البعض على القانون الإلهي وفعل ذلك الفعل الذي يستوجب الخلود في جهنم، لم يكن إخلاده فيها مخالفًا للعدل الإلهي، بل هو مقتضاه ومقتضى

ص: 56


1- صراط الحق للشيخ محمد آصف المحسني (قُدس سره) ج4 ص 170. وانظر أيضًا: نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج6 ص 368.

قانون الأسباب والمسببات.

ولذلك يؤكد القرآن الكريم على أن الجزاء –سواء أكان ثوابًا أم عقابًا- إنما هو لأجل العمل الذي صدر من الإنسان في الدنيا، قال تعالى (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ. يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلىٰ نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.)(1)

وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.)(2)

وقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.)(3)

ص: 57


1- الطور 11 – 19.
2- التحريم 6 – 7.
3- الأعراف 42 – 43.

وغيرها من الآيات العديدة في هذا المجال.

السؤال الخامس: هل الشفاعة تشجع على الذنب؟
اشارة

تبين مما تقدم أن من يدخل إلى الجنة فإنه يكون خالداً فيها، وأما من يدخل جهنم، فإنه يمكن أن لا يكون خالداً فيها، وهكذا من يكون مستحقاً للعقاب عند الحساب، فإنه يمكن أن لا يُعاقب.

يمكن للمذنب أن يخرج من جهنم، ويمكن لمن يستحق العقوبة أن تسقط عنه، وذلك بفضل (الشفاعة) التي تعني: تدخّل من يأذن لهم الباري جل وعلا، ليكون وسيلة إليه في تخفيف العقوبة أو إلغائها أصلًا.

وقد يخطر إلى الذهن: أن هذا المعنى يستلزم عدة محاذير، وأهمها: أن معرفة المذنب بالشفاعة يعني تغريره بالمعصية اعتماداً على الشفاعة، وبالتالي سيتجرّأ الكثير من الناس على تقحّم المعصية اعتماداً عليها، هذا فضلاً عن أنه خلاف العدل الإلهي حيث يسمح بالشفاعة للبعض دون غيرهم.

والجواب:

أولاً: لو ضمن جميع المذنبين شمولهم بالشفاعة من دون أي شرط ولا قيد، بحيث إن كل مذنب فهو يدخل تحت دائرة الشفاعة وبضمان تام، فيمكن أن يكون لهذا التساؤل معنى، أما وقد دلت النصوص على أن الشفاعة ليست مطلقة، وليست متاحة للجميع، وإنما هناك شروط لا بد أن يتوفر عليها الفرد ليكون ضمن نطاق الشفاعة، فلا معنى لهذا السؤال.

ص: 58

وهذا يعني: أن على الفرد أن يتوفر على الشروط الخاصة بالشفاعة، ليكون مؤهلاً لنيلها، وتلك الشروط لو اطلعنا عليها لوجدناها تشترط أن يكون الفرد من المؤمنين في هذه الحياة، لا من العاصين، وقد ذكر العلماء تبعاً للنصوص الدينية عدة شروط لها، وخلاصتها(1):

- عدم الإشراك بالله تعالىٰ.

- الإخلاص في الشهادة بالتوحيد، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلَّا الله مخلصاً، يُصدِّق لسانه قلبه»(2).

- عدم كونه ناصبياً، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّ المؤمن ليشفع لحميمه إلَّا أن يكون ناصباً، ولو أنَّ ناصباً شفع له كلُّ نبيٍّ مرسل وملك مقرَّب ما شُفِّعوا»(3).

- عدم الاستخفاف بالصلاة، فعن أبي بصير، قال: قال أبو الحسن الأوَّل (عليه السلام): «إنَّه لمَّا حضر أبي الوفاة قال لي: يا بنيَّ، إنَّه لا ينال شفاعتنا من استخفَّ بالصلاة»(4).

- عدم التكذيب بشفاعة النبيِّ (صلى الله عليه وآله): قال الإمام عليُّ بن موسىٰ الرضا (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من كذب بشفاعة رسول الله لم تنله»(5).

ص: 59


1- انظر: محاضرات في الإلهيّات للشيخ جعفر السبحاني: 467 و468.
2- علل الدارقطني 9: 45.
3- المحاسن للبرقي 1: 186/ ح 198.
4- الكافي للكليني 3: 270/ باب من حافظ علىٰ صلاته أو ضيَّعها/ ح 15.
5- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق 1: 71/ ح 292.

إن الالتزام بهذه الشروط يتنافى مع كون الشفاعة تدفع إلى الجرأة على الذنوب، بل على العكس، هي تدفع الفرد إلى أن يلتزم بالأحكام الشرعية بشروطها التي ذكرتها هذه النصوص.

وبهذا يتبين: أن شمول الشفاعة لمن التزم بهذه الشروط دون غير الملتزم بها، هو عين العدالة ووضعٌ للشيء في موضعه، ولا ظلم ولا تجاوز فيها.

ثانياً: إن هذه الشروط التي ذكرت في الجواب الأول، ليست على نحو العلة التامة للحصول على الشفاعة، بل هي على نحو المقتضي، مما يعني احتمال عدم نيل الشفاعة للفرد رغم أنه التزم بتلك الشروط، بسبب مانع من الموانع.

وبعبارة أخرى:

أن الشفاعة ليست أمراً يستحقه الفرد، حتى إذا لم تشمله كان له الحق بالاعتراض، كلا، بل هي أمر تفضلي من الله تبارك وتعالى، فإن شملت المذنب فهو تفضل من الله تبارك وتعالى، وإلا، فلا يستحق المذنب شيئاً، بل هو يأخذ استحقاقه من العقوبة الإلهية من دون ظلم ولا تجاوز.

فحتى لو توفر الفرد على تلك الشروط، فلا ضمان تماماً بالدخول تحت مظلة الشفاعة، مما يعني بقاء الفرد المذنب داخل دائرة استحقاق العقوبة.

فأين التغرير بالمعصية؟ وأين دفعه نحو الجرأة على الذنب؟

ثالثاً: لو فرضنا أن الفرد المذنب ضمن الشفاعة (وهذا أمر غير ممكن

ص: 60

لعدم اطلاعنا على حقيقة الحال في ذلك)، فإن الشفاعة الكبرى إنما تقع في الآخرة، وبالتالي، فهي تنفي عقوبة الآخرة، لكن يبقى البرزخ الذي هو أيضاً محكمة إلهية، والقبر الذي هو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، فالعقوبة محتملة جداً فيه، وبالتالي، فإن هذا الأمر يدفع الفرد إلى التوبة والأوبة قبل الموت، حتى لا يواجه العقوبة البرزخية.

والحاصل: (أنّ الإنسان قبل أن يصل إلى القيامة والشفاعة الموعودة، سيبقى لمدّة مديدة في عالم البرزخ ويتكبّد أنواع العذاب ولن تنفعه الشفاعة الموعودة، إذاً، أمام الإنسان المجرم في العالم الآخر أنواع العذاب التي تنتظره بعد موته مباشرة، ووجود هكذا وضع يمنع الإنسان من التجري على الذنب بذريعة الشفاعة.)(1)

ومن هنا، وردت بعض الروايات التي تصرح بأن على المؤمن أن يخاف من عذاب البرزخ، حتى لو ضمن الشفاعة في الآخرة، فقد روي عَنْ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): إِنِّي سَمِعْتُكَ وأَنْتَ تَقُولُ: كُلُّ شِيعَتِنَا فِي الْجَنَّةِ عَلَى مَا كَانَ فِيهِمْ. قَالَ: صَدَقْتُكَ، كُلُّهُمْ والله فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ الذُّنُوبَ كَثِيرَةٌ كِبَارٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا فِي الْقِيَامَةِ فَكُلُّكُمْ فِي الْجَنَّةِ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ الْمُطَاعِ أَوْ وَصِيِّ النَّبِيِّ، ولَكِنِّي والله أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ فِي الْبَرْزَخِ. قُلْتُ: ومَا الْبَرْزَخُ؟ قَالَ: الْقَبْرُ مُنْذُ حِينِ مَوْتِه إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(2).

ص: 61


1- أجوبة الشبهات العقائدية (المعاد) ج5 ص 316.
2- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج3 ص 242 بَابُ مَا يَنْطِقُ بِه مَوْضِعُ الْقَبْرِ ح3.

مع الالتفات إلى أمر مهم جداً، وهو:

أن ما ذكرناه في (ثالثاً) لا يعني أبداً أن الشفاعة لا يمكن أن تنال العبد المؤمن في البرزخ والقبر، كلا، بل إن بعض الروايات دلت على أن عمل العبد ينفعه في قبره، وهو نوع من الشفاعة، ولنسمها شفاعة الأعمال الصالحة، بل ورد أن ولاية أهل البيت (عليهم السلام) تنفع كثيراً فيه، وأن الدفن في وادي السلام مثلاً ينفع في دفع العذاب في أول ليلة في القبر، ولكن كل ذلك لا يدفع نحو التملص من العمل في الدنيا، لأنه يبقى أمراً غير جزمي، وعلى العبد أن يزيد من أعماله الصالحة والتزامه بالدين ليفسح لنفسه المجال ليلج نعمة الشفاعة.

ومن تلك الروايات ما روي عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستة صور، فيهن صورة هي أحسنهن وجها، وأبهاهن هيئة، وأطيبهن ريحا، وأنظفهن صورة، قال: فيقف صورة عن يمينه، وأخرى عن يساره، وأخرى بين يديه، وأخرى خلفه، وأخرى عند رجليه، ويقف التي هي أحسنهن فوق رأسه، فإن أتى عن يمينه، منعته التي عن يمينه، ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست قال: فتقول أحسنهن صورة: من أنتم جزاكم الله عني خيرا؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام، وتقول التي خلفه: أنا الحج والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا بر من وصلت من إخوانك، ثم يقلن: من أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً، وأطيبنا ريحاً،

ص: 62

وأبهانا هيئة، فتقول: أنا الولاية لآل محمد (صلوات الله عليه وعليهم).(1)

4/ فضلاً عن كل ما تقدم، فإن من المتفق عليه، والمنصوص عليه، أن الله تعالى رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنها سبقت غضبه، وأن الله تعالى ينشر رحمته يوم القيامة حتى إن إبليس ليطمع فيها، فلماذا لم يستشكل البعض على سعة هذه الرحمة ولم يقل: إنها تغرّر بالعبد ليفعل المعصية؟

فقد روي عن إبراهيم بن زياد الكرخي، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام): «إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالىٰ رحمته حتَّىٰ يطمع إبليس في رحمته»(2).

وعن الإمام الرضا (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا كان يوم القيامة تجلىٰ الله عزوجل لعبده المؤمن فيوقفه علىٰ ذنوبه ذنباً ذنباً، ثمّ يغفر الله له لا يُطلِع الله علىٰ ذلك ملكاً مقرَّباً ولا نبيّاً مرسلاً، ويستر عليه ما يكره أن يقف عليه أحد، ثمّ يقول لسيِّئاته: كوني حسنات»(3).

فما أجاب به المستشكل عن سعة الرحمة الإلهية، فنحن نجيب به عن الإشكال في موردنا.

تنبيه:

لا يعني ما ذكرناه من أجوبة أن الشفاعة لا نفع فيها ولا ثمرة ولا أثر في

ص: 63


1- المحاسن للبرقي ج1 ص 288 ب47 باب الشرائع ح 432.
2- أمالي الصدوق: 273 و274/ ح (301/2).
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) للصدوق 1: 36/ ح 57.

هذه الحياة، بل على العكس، إن فيها العديد من الثمرات، نذكر ثمرتين منها:

الثمرة الأولى: بوابة الأمل

أنها تفتح باب الأمل أمام المذنبين بأن يعملوا على تصحيح أخطائهم بما استطاعوا، وأنهم بسعيهم هذا يقتربون من الدخول تحت الشفاعة، إذ من الواضح أن المذنب لو علم بأنه ستتم معاقبته جزماً، وأنه لن ينفعه ما يعمل من الصالحات -مهما كان- في تخليصه من العقوبة، فإن هذا يؤدي به إلى اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى.

أما لو علم أن باب التوبة مفتوح، وأن الشفاعة يمكن –لاحظ: يمكن وليس جزماً- أن تناله ويتخلص من عقوبة الذنوب، فإنه سيعمل جاهداً على التصحيح، وعلى أن يبقى متعلقاً بالعطف الإلهي والرحمة الإلهية، وهذا أمر مهم جداً في دفع الفرد نحو الرجوع إلى ساحة القدس، والابتعاد على مواطن الرذيلة والذنوب.

الثمرة الثانية: التقرب من الشفعاء

لا شك أن الشفعاء هم مخلوقات مختارة من الله تبارك وتعالى، وهم على درجة عالية من الكمال والقرب الإلهي، قد تعالى (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً.)(1)

وقال تعالى (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ

ص: 64


1- مريم 87.

قَوْلاً.)(1)

وبالتالي، فمن أراد الحصول على الشفاعة، فعليه أن يعمل على أن يتقرب من أولئك الشفعاء، مما يعني أن الفرد سيعمل على أن يربي نفسه ليكون عند حسن ظن أولئك الشفعاء، الأمر الذي يصب في صلاحه بلا أدنى شك.

وقد ذكرت بعض الروايات الشريفة أهم الشفعاء، الذين ينبغي لنا أن نتقرب منهم ونعمل على خلق صلة معهم، ومنها التالي:

عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): الشفعاء خمسة: القرآن، والرَّحم، والأمانة، ونبيكم، وأهل بيت نبيكم.(2)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): لَا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ.(3)

ص: 65


1- طه 109.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج2 ص 14.
3- نهج البلاغة ج4 ص 87 الحكمة (371)

ص: 66

بحثان تكميليان

اشارة

في نهاية المطاف في هذه البحوث، نتعرض لبحثين تكميليين مهمين، بشيء من التفصيل، هما:

البحث التكميلي الأول: موضع الاجتهاد في منظومة التشريع

نتعرض فيه إلى موضع الاجتهاد في التشريع الإسلامي، وهل أنه مصدر من مصادر التشريع –كما ذهب إليه العامة- أو أنه عملية بذل الجهد في مصادر التشريع لاستخراج الأحكام الشرعية منها وفق ضوابط منهجية معرفية محدّدة –كما عليه الإمامية، وما يتعلق به من بحوث مهمة، ومنها ما يتعلق بالتقليد ومعناه وبعض الأدلة عليه.

البحث التكميلي الثاني: الغلو، حقيقته، ومصاديقه

حيث نتعرض فيه لمعنى الغلو، وما قيل في مصاديقه، وبيان ما هو من الغلو فعلاً من غيره، ضمن مفردات ومقالات عديدة.

ص: 67

ص: 68

البحث التكميلي الأول: موضع الاجتهاد في منظومة التشريع

اشارة

هنا عدة نقاط:

النقطة الأولى: مصادر التشريع الإسلامي والعلاقة بينها.

النقطة الثانية: العلاقة بين مصادر التشريع.

النقطة الثالثة: معنى الاجتهاد.

النقطة الرابعة: المشتركات والفوارق بين الاجتهاد الشيعي والسني.

النقطة الخامسة: حدود الاجتهاد الشيعي.

النقطة السادسة: ضرورة الرجوع إلى الفقهاء في زمن الغيبة الكبرى.

ص: 69

ص: 70

النقطة الأولى: مصادر التشريع الإسلامي والعلاقة بينها
اشارة

الكلام هنا حول مصادر التشريع لدىٰ أتباع أهل البيت (عليهم السلام).

كلُّ تشريع يحتاج إلىٰ مصادر يستقي منها موادَّه وفقراته، والتشريع الإسلامي له مصادره الخاصَّة التي لا يمكن تجاوزها إلىٰ غيرها، وتلك المصادر مترابطة فيما بينها ترابطاً وثيقاً جدّاً، لتُكوِّن مجموعاً واحداً تمخض عن التشريع الإسلامي الأكمل.

ومصادر التشريع هي:

1- القرآن الكريم

ففيه كلُّ ما يحتاجه الناس إلىٰ يوم القيامة، وهذا هو مقتضىٰ كونه الكتاب السماوي لآخر الأديان وخاتمها.

وللقرآن الكريم سمات متعلِّقة بالتشريع، أهمُّها شموليته ومرونته، أي قابليته للاستمرار والانطباق علىٰ الموارد المختلفة، فعن الشمولية يقول تعالىٰ: ]وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي

ص: 71

الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ[(1)

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلَّا وله أصل في كتاب الله (عز وجل)، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(2).

ولذا يمكن أن تستخرج من القرآن الكريم أهم ما تحتاجه من قوانين تخصُّ الفرد والمجتمع والأُمَّة والبشرية جمعاء، لكن هذا يحتاج إلىٰ متخصِّص في القرآن، ولذا ورد المنع من تفسير القرآن بالرأي، بمعنىٰ التفسير من دون الاعتماد علىٰ الأُصول الصحيحة للتفسير المتمثِّلة بالرجوع إلىٰ المتخصِّص به، وليِّ عنق الآيات حسب المشتهيات والاستحسانات، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قال الله عزوجل: ما آمن بي من فسَّر برأيه كلامي، وما عرفني من شبَّهني بخلقي، وما علىٰ ديني من استعمل القياس في ديني»(3).

وعنه (صلى الله عليه وآله): «أكثر ما أتخوَّف علىٰ أُمَّتي من بعدي رجل يتأوَّل القرآن يضعه علىٰ غير مواضعه، ورجل يرىٰ أنَّه أحقّ بهذا الأمر من غيره»(4).

وعن مرونته يقول الصادق (عليه السلام) لمَّا سُئِلَ: ما بال القرآن لا يزداد علىٰ النشر والدراسة(5) إلَّا غضاضةً؟ فقال (عليه السلام): «لأنَّ الله لم يُنزله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلِّ زمان جديد، وعند كلِّ قوم غضٌّ إلىٰ

ص: 72


1- الأنعام: 38.
2- الكافي للكليني 1: 60/ باب الردِّ إلىٰ الكتاب والسُّنَّة.../ ح 6.
3- أمالي الصدوق: 55 و56/ ح (10/3).
4- المعجم الأوسط للطبراني 2: 242 و243.
5- أي بالرغم من أنَّه يُنشَر ويُدرَس كثيراً.

يوم القيامة»(1).

2- سُنَّة النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)

المتمثِّلة بأقواله وأفعاله وتقريراته (صلى الله عليه وآله)، فإذا قال النبيُّ (صلى الله عليه وآله) قولاً فيه تشريع، فيجب علىٰ جميع المسلمين امتثال أمره، لأنَّه (صلى الله عليه وآله) ]ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ [(2)

وإذا فعل النبيُّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) فعلاً، فهذا يدلُّ علىٰ أنَّ هذا الفعل جائز وليس بمحرَّم، لأنَّ النبيَّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) معصوم في جميع أحواله، فلا يُعقَل أنَّه يفعل فعلاً مخالفاً للقانون الإلهي.

وهكذا تقرير النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فإذا فعل أحدهم فعلاً أمام النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو أجاب عن مسألة شرعية، ولم يعترض عليه النبيُّ (صلى الله عليه وآله)، فهذا يدلُّ علىٰ قبول النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بفعل ذلك الشخص وقوله، وبالتالي يدلُّ علىٰ شرعية الفعل والقول المذكورين بحضرته (صلى الله عليه وآله)، وإلَّا لبيَّن النبيُّ (صلى الله عليه وآله) موضع الخطأ في الفعل أو القول، لأنَّه (صلى الله عليه وآله) مكلَّف بالبيان المطابق للواقع، ولو ترك الخطأ من دون بيان لأوقع الناس في مخالفة الشارع.

والدليل علىٰ لزوم المتابعة التامَّة المطلقة للنبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) كثير من الآيات والروايات، يقول تعالىٰ: ]وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا

ص: 73


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق 2: 93/ ح 32.
2- النجم: 3 و4.

وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [(1)

ويقول تعالىٰ: ]وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ [(2)

ومن السُّنَّة النبويَّة أحاديثُ أهل البيت (عليهم السلام)، لما سنعرف –إن شاء الله تعالى- من رجوعها إلىٰ سُنَّة النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله).

3- الإجماع

بمعنىٰ أنَّنا قد لا نجد دليلاً ما علىٰ حكم شرعي، ولكنَّنا عندما نبحث في أقوال علمائنا نجدهم أطبقوا علىٰ فتوىٰ معيَّنة، وإطباقهم وإجماعهم عليها يكشف لنا عن أنَّهم ربَّما استندوا إلىٰ دليل شرعي تامٍّ، ولكن ذلك الدليل لم يصل إلينا لسبب وآخر، فيمكن حينذاك الاعتماد علىٰ الإجماع في إصدار حكم شرعي، لكن مع الالتفات إلىٰ ما سنذكره بعد قليل عن علاقة الإجماع بالسُّنَّة النبويَّة.(3)

ص: 74


1- الحشر: 7.
2- النجم: 3 و4.
3- بحث الأصوليون معنى وحجية الإجماع في كتبهم الأصولية، ونذكر هنا للفائدة ما ذكره الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره) في أصوله (ج3 ص 102 وما بعدها) ما نصه: الإجماع أحد معانيه في اللغة : الاتفاق ، والمراد منه في الاصطلاح : اتفاق خاص، وهو : إما اتفاق الفقهاء من المسلمين على حكم شرعي ، أو اتفاق أهل الحل والعقد من المسلمين على الحكم ، أو اتفاق أمة محمد [ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ] على الحكم ، على اختلاف التعريفات عندهم . ومهما اختلفت هذه التعبيرات ، فإنها - على ما يظهر - ترمي إلى معنى جامع بينها ، وهو: (اتفاق جماعة، لاتفاقهم شأنٌ في إثبات الحكم الشرعي)... وعلى كل حال ، فإن هذا الإجماع بما له من هذا المعنى قد جعله الأصوليون من أهل السنة أحد الأدلة الأربعة - أو الثلاثة - على الحكم الشرعي ، في مقابل الكتاب والسنة . أما الإمامية فقد جعلوه أيضا أحد الأدلة على الحكم الشرعي ، ولكن من ناحية شكلية واسمية فقط ، مجاراة للنهج الدراسي في أصول الفقه عند السنيين ، أي أنهم لا يعتبرونه دليلا مستقلا في مقابل الكتاب والسنة ، بل إنما يعتبرونه إذا كان كاشفا عن السنة ، أي عن قول المعصوم . فالحجية والعصمة ليستا للإجماع ، بل الحجة في الحقيقة هو قول المعصوم الذي يكشف عنه الإجماع عندما تكون له أهلية هذا الكشف...

والمسألة من هذه الناحية تابعة لاجتهاد المجتهد، فلربما يقبل دليلية الإجماع، ولربما لا يقبلها إلا كمؤيد ينفع في الاحتياط مثلاً.

4- العقل

4- العقل(1):

فللعقل قدرة علىٰ اكتشاف بعض الأحكام التي تكون موضوعاً لحكم شرعي، فمثلاً إذا كان واجبٌ ما لا يتحقَّق إلَّا إذا تحقَّقت مقدّمته، فحتَّىٰ لو لم يحكم الشرع بوجوب مقدّمته، فيمكن للعقل أن يحكم بوجوبها، لتوقُّف الواجب المأمور به عليها.

ص: 75


1- انظر: أصول الفقه للشيخ محمد رضا المظفر ج2 ص 261 بحث الملازمات العقلية، وكذا ج3 ص137 تحت عنوان: (وجه حجية العقل)

ص: 76

النقطة الثانية: العلاقة بين مصادر التشريع

في الحقيقة إنَّ الأصل في كلِّ تلك المصادر هو القرآن الكريم، ولكن المعتمد الأكثر في أخذ الأحكام هو السُّنَّة النبويَّة.

أمَّا الإجماع، فيُشتَرط فيه أن يكون كاشفاً عن قول المعصوم، فيرجع بالتالي إلىٰ السُّنَّة، ولذا قالوا بعدم حجية الإجماع المدركي بل ومحتمل المدركية، لأنه مع وجود المدرك فهو الحجة لا الإجماع.

وليس للعقل أحكام إلَّا في موارد قليلة نسبياً، وذلك في بعض مفردات أصول الدين –كما تقدم في بدايات هذا الكتاب- والموضوعات التي يصلح العقل كحدٍّ أوسط لإثباتها.

أمَّا أنَّ الأصل في أخذ الأحكام هو القرآن الكريم، فهو من الوضوح بمكان، إذ إنَّ المشرِّع هو الله تعالىٰ، وقد نقل إلينا تشريعاته أوَّلاً وبالذات بواسطة القرآن الكريم.

ولكن - وكما قلنا قبل قليل - علينا أن نلتفت إلىٰ أنَّ القرآن الكريم لا يمكن لأيِّ أحد أن يستخرج منه الأحكام وبقيَّة ما يحتاجه، وهو ما عبَّر عنه الإمام الصادق(عليه السلام) بقوله المتقدِّم قبل قليل: «ولكن لا تبلغه عقول الرجال».

ص: 77

وإنَّما ذلك موكول إلىٰ المتخصِّصين بالقرآن الكريم، والمتخصِّصون هم النبيُّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرون (عليهم السلام)، يقول تعالىٰ: ]هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ 7[(1)

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله»(2).

وعن بريد بن معاوية، عن أحد الباقرين (عليهما السلام) في قوله الله (عز وجل): ]وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[: «فرسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل الراسخين في العلم، قد علَّمه الله (عز وجل) جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله ليُنزل عليه شيئاً لم يُعلِّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلَّه، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم الله بقوله: ]يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا[، والقرآن خاصٌّ وعامٌّ، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه»(3).

ومن هنا كانت أحاديث النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) هي الأساس في التشريع، بمعنىٰ أنَّها الأساس في تفصيل مجملات القرآن الكريم

ص: 78


1- آل عمران: 7.
2- الكافي للكليني 1: 213/ باب أنَّ الراسخين في العلم هم الأئمَّة (عليهم السلام)/ ح 1.
3- الكافي للكليني 1: 213/ باب أنَّ الراسخين في العلم هم الأئمَّة (عليهم السلام)/ ح 2.

وتوضيح التشريعات التي لم تُذكر بالصراحة فيه.

ويدل علىٰ أنَّ القرآن الكريم هو الأساس في تلك الأحاديث هو ما ورد من أنَّه إذا أردت أن تعرف الحديث الصادق من الكاذب فما عليك إلَّا أن تعرضه علىٰ القرآن الكريم، فما وافقه فهو صحيح، وإلَّا فاضرب به عرض الحائط.

فقد قال النبيُّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في حجَّة الوداع: «قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر بعدي، فمن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه علىٰ كتاب الله وسُنَّتي، فما وافق كتاب الله وسُنَّتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسُنَّتي فلا تأخذوا به»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «خطب النبيُّ (صلى الله عليه وآله) بمنىٰ فقال: أيُّها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»(2).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «كلُّ شيء مردود إلىٰ الكتاب والسُّنَّة، وكلُّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»(3).

ولذا نجد أنَّ الإمام الجواد (عليه السلام) قد أبطل الكثير من الأحاديث التي عرضها عليه يحيىٰ بن أكثم، وذلك بإرجاعها إلىٰ كتاب الله تعالىٰ والكشف

ص: 79


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 246.
2- الكافي للكليني 1: 69/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح 5.
3- الكافي للكليني 1: 69/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح 3.

عن مخالفتها له(1).

ص: 80


1- روىٰ الطبرسي ; في الاحتجاج (ج 2/ ص 245 - 249)، قال: روي أنَّ المأمون بعدما زوَّج ابنته أُمَّ الفضل أبا جعفر، كان في مجلس وعنده أبو جعفر (عليه السلام) ويحيىٰ بن أكثم وجماعة كثيرة. فقال له يحيىٰ بن أكثم: ما تقول يا بن رسول الله في الخبر الذي روي أنَّه نزل جبرئيل (عليه السلام) علىٰ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: يا محمّد، إنَّ الله (عز وجل) يقرؤك السلام ويقول لك: سَلْ أبا بكر هل هو عنّي راضٍ فإنّي عنه راضٍ؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): «لست بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب علىٰ صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجَّة الوداع: قد كثرت عليَّ الكذابة وستكثر بعدي، فمن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه علىٰ كتاب الله وسُنَّتي، فما وافق كتاب الله وسُنَّتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسُنَّتي فلا تأخذوا به. وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله، قال الله تعالىٰ: ]وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 16[ [ق: 16]، فالله (عز وجل) خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتَّىٰ سأل عن مكنون سرِّه؟ هذا مستحيل في العقول. ثمّ قال يحيىٰ بن أكثم: وقد روي أنَّ مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء. فقال [(عليه السلام)]: «وهذا أيضاً يجب أن يُنظَر فيه، لأنَّ جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقرَّبان لم يعصيا الله قطُّ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا بالله (عز وجل) وإن أسلما بعد الشرك. فكان أكثر أيّامهما الشرك بالله، فمحال أن يُشبِّههما بهما». قال يحيىٰ: وقد روي أيضاً أنَّهما سيِّدا كهول أهل الجنَّة، فما تقول فيه؟ فقال (عليه السلام): «وهذا الخبر محال أيضاً، لأنَّ أهل الجنَّة كلّهم يكونون شباباً ولا يكون فيهم كهل، وهذا الخبر وضعه بنو أُميَّة لمضادَّة الخبر الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحسن والحسن (علیهما السلام) بأنَّهما سيِّدا شباب أهل الجنَّة». فقال يحيىٰ بن أكثم: وروي أنَّ عمر بن الخطّاب سراج أهل الجنَّة. فقال (عليه السلام): «وهذا أيضاً محال، لأنَّ في الجنَّة ملائكة الله المقرَّبين، وآدم ومحمّد، وجميع الأنبياء والمرسلين، لا تضيء الجنَّة بأنوارهم حتَّىٰ تضيء بنور عمر؟». فقال يحيىٰ: وقد روي أنَّ السكينة تنطق علىٰ لسان عمر. فقال (عليه السلام): «لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر فقال - علىٰ رأس المنبر -: إنَّ لي شيطاناً يعتريني، فإذا ملت فسدِّدوني». فقال يحيىٰ: قد روي أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) قال: لو لم أُبعث لبُعِثَ عمر. فقال (عليه السلام): «كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: ]وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسىٰ وَعِيسَىٰ ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً 7[ [الأحزاب: 7]، فقد أخذ الله ميثاق النبيِّين، فكيف يمكن أن يُبدِّل ميثاقه؟ وكلُّ الأنبياء (عليهم السلام) لم يُشركوا بالله طرفة عين، فكيف يُبعَث بالنبوَّة من أشرك وكان أكثر أيّامه مع الشرك بالله؟ وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نُبِئت وآدم بين الروح والجسد». فقال يحيىٰ بن أكثم: وقد روي أيضاً أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) قال: ما احتبس عنّي الوحي قطُّ إلَّا ظننته قد نزل علىٰ آل الخطّاب. فقال (عليه السلام): «وهذا محال أيضاً، لأنَّه لا يجوز أن يشكَّ النبيُّ (صلى الله عليه وآله) في نبوَّته، قال الله تعالىٰ: ]اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ 75[ [الحجّ: 75]، فكيف يمكن أن ينتقل النبوَّة ممَّن اصطفاه الله تعالىٰ إلىٰ من أشرك به؟». قال يحيىٰ: روي أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) قال: لو نزل العذاب لما نجا منه إلَّا عمر. فقال (عليه السلام): «وهذا محال أيضاً، لأنَّ الله تعالىٰ يقول: ]وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 33[ [الأنفال: 33]، فأخبر سبحانه أنَّه لا يُعذِّب أحداً ما دام فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما داموا يستغفرون».

موقع أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) من مصادر التشريع الإسلامي.

إنَّ أحاديثهم (عليهم السلام) هي بمستوىٰ أحاديث النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لأنَّهم يستقون أحاديثهم منه (صلى الله عليه وآله)، وهذا ما أكَّدته الروايات الشريفة، فقد روىٰ جابر، قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر(عليهما السلام): إذا حدَّثتني بحديث فأسنده لي، فقال: «حدَّثني أبي، عن جدّي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن جبرئيل (عليه السلام)، عن الله (عز وجل)، وكلُّ ما أُحدِّثك بهذا الإسناد»، وقال: «يا جابر، لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها»(1).

وروىٰ حفص بن البختري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): نسمع الحديث منك، فلا أدري منك سماعه أم من أبيك؟ فقال: «ما سمعته منّي فاروه عن أبي، وما سمعته منّي فاروه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)»(2).

ومن هنا كانت واحدة من طرق معرفة صحَّة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) هي نفس الطريقة التي نكشف بها صحَّة أحاديث النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهي

ص: 81


1- أمالي المفيد: 42/ ح 10.
2- وسائل الشيعة للحرِّ العاملي 27: 104/ ح (33331/86).

طريقة العرض علىٰ القرآن الكريم.

عن عبد الله بن يعفور...، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومن لا نثق به، قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإلَّا فالذي جاءكم به أولىٰ به»(1).

ص: 82


1- الكافي للكليني 1: 69/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح 2.
النقطة الثالثة: معنى الاجتهاد
اشارة

إنَّ اصطلاح الاجتهاد يُطلَق علىٰ معنيين(1):

المعنىٰ الأوَّل: الاجتهاد مقابل النصِّ

أو الاجتهاد بالرأي، وهذا هو الذي يرفضه الشيعة، إذ معناه أنَّ الفقيه

ص: 83


1- قال السيد المرعشي في (القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد، ج 1 ص 127 و 128) ما نصه: كما اختلف معناه عند السنّة والشيعة ، فإنّه في مدرسة أبناء العامّة جعل الاجتهاد في عرض النصّ من الكتاب والسنّة ، فيفتي أوّلًا بهما وإلَّا فبرأيه الاجتهادي ولو مثل القياس والمصالح المرسلة الظنّية التي لا تغني من الحقّ شيئاً ، حتّى أدّى الأمر إن اجتهدوا في مقابل النصّ ، فحرّموا ما كان حلالًا في زمن الرسول الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله ) كتحريم المتعتين ، وقتلوا سيّد الشهداء سبط رسول الله الحسين بن علي ( عليهما السّلام ) اجتهاداً من يزيد شارب الخمور سفّاك الدماء . وعلى مثل هذا الاجتهاد بالرأي الذي امتاز به أصحاب المدرسة السنّية شنّ أئمة أهل البيت ( عليهم السّلام ) هجوماً عنيفاً ، وتبعهم على ذلك رواتهم وأصحاب مدرسة المذهب الإمامي من العلماء الأعلام حتّى القرن السابع ، إلَّا أنّ العلَّامة الحلَّي ( قدّس سرّه ) المتوفّى ( 676 ه ) هذّب الاجتهاد وفتح باباً جديداً فيه وجعله في طول النصّ ، وإنّه عبارة عن عملية الاستنباط ، أي استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلَّتها التفصيلية من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، ثمّ توسّع هذا الاجتهاد ، ممّا أوجب التوسّع في علم أُصول الفقه الذي يبتنى عليه الفقه ، لما فيه من القواعد العامّة والكبريات والعناصر المشتركة السيّالة في كلّ الفقه ، وصار الاجتهاد عبارة عن عملية تفاعل بين الفقه وأُصوله من أجل استنباط الحكم الشرعي . وكان الاجتهاد مفتوح الباب في المدرسة الشيعية ، يتقدّم ويتطوّر بتقدّم العلم وتطوّر الزمان ، فيزاد على ثروته العلمية والعملية ، وتثرى مباحثه ومحتوياته بين آونة وأُخرى .

إذا لم يجد نصّاً علىٰ الحكم الشرعي، فإنَّه يُعمِل فكرَه ورأيَه، فيحكم حسب ما يراه هو ويستحسنه، بل قد يحكم علىٰ خلاف ما ثبت شرعاً، لأنَّ رأيه يرىٰ ذلك! ممَّا يعني سلب الحجّية عن أحاديث النبيِّ (صلى الله عليه وآله) ولو بطريق غير مباشر.

وقد أُطلق علىٰ أتباع هذا الاجتهاد بأتباع مدرسة الرأي، في قبال أتباع أهل البيت (عليهم السلام) الذين يرون وجوب اتِّباع النصِّ والتعبُّد المطلق به وعدم جواز مخالفته، كالنصِّ علىٰ خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجواز الزواج المنقطع، وعمرة التمتُّع، وعدم تحريف القرآن، وغيرها من المسائل.

وقد روي عن حمّاد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلَّا وله حدٌّ كحدِّ الدور، وإنَّ حلال محمّد حلال إلىٰ يوم القيامة، وحرامه حرام إلىٰ يوم القيامة...»(1).

فما بيَّنه الرسول (صلى الله عليه وآله) حجَّة مطلقاً وإلىٰ يوم القيامة، ولا يُسمَع كلام بعض الهمج ممَّن يحاول سلب الحجّية عن أقواله (صلى الله عليه وآله).

المعنىٰ الثاني: الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي من مصادره الشرعية الأصيلة: القرآن والسُّنَّة

وهذا المعنىٰ هو الذي يقصده الشيعة، ويجعلونه واجباً كفائياً، وليس هو مصدراً للتشريع في عرض المصادر الأُخرىٰ، وإنَّما هو عملية استخراج للحكم من نفس النصِّ، فهو ابن للنصِّ ولا يعارضه أبداً. (وستتبين المسألة أكثر في مستقبل البحث إن شاء الله تعالى).

ص: 84


1- بصائر الدرجات للصفّار: 168/ الجزء 3/ باب 13/ ح 7.

والشيعة في ذلك يستندون إلىٰ أدلَّة خاصَّة، مثل ما روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّما علينا أن نُلقي إليكم الأُصول، وعليكم أن تُفرِّعوا»(1).

وللمجتهد شروط لا يمكن حصولها إلَّا بعد بذل جهد جهيد ووقت طويل، والتزام بالورع والتقوىٰ، ومعايشة القرآن الكريم وأحاديث السُّنَّة الشريفة لسنوات طوال، وفوقه التوفيق الإلهي.

ص: 85


1- مستطرفات السرائر لابن إدريس: 575.

ص: 86

النقطة الرابعة: المشتركات والفوارق بين الاجتهاد الشيعي والسني
اشارة

يشترك كلٌ من الاجتهاد الشيعي والآخر في التالي:

1/ينتهي إلى الظن في نتائجه.

2/ يعتمد الخبرة والتخصص.

3/يتقوّم بالفحص والتنقيب وبذل الوسع.

وهل هما حقيقة واحدة، أم أن بينهما اختلافاً بنيويا، وأين؟

الجواب:

كلا، هما معنيان، وبينهما اختلاف جوهري، ولبيان الفرق بينهما نذكر الأمور التالية:

الأمر الأول: موقعية أهل البيت (عليهم السلام) من السنة

رغم قبول كلٍّ منهما مصدرية القرآن الكريم والسنة النبوية، إلاّ أن هناك اختلافاً جوهرياً بينهما في مصدرية أهل البيت (عليهم السلام)، أي في شمول السنة -التي تُعتمد كمصدر للتشريع- لهم (عليهم السلام).

ص: 87

فالشيعة يرون التالي:

- أن السُنّة تشمل قول وفعل وتقرير النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وقد تمّ اعتماد هذه الحقيقة في فقههم بشكل مُشبّع.

- ولأن أهل البيت (عليهم السلام) معصومون.

- وأن علمهم لدني خاص(1)، وليس كسبياً اجتهادياً، فهم مصدر للتشريع وليسوا مجتهدين ولا رواة، وبالتالي فقولهم يؤخذ تعبّداً على حد سنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

أما الفريق الآخر، فقد خصّ السنة بسنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، الأمر الذي انعكس على فقههم بانعدام الاستشهاد بقول أو فعل أو تقرير المعصومين (عليهم السلام)، حتى إنهم لم يتعاملوا مع المعصومين (عليهم السلام) فقهياً ولو على

ص: 88


1- أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من العلم الخاص في العديد من الآيات الكريمة، ومنها ما في سورة الكهف حيث قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ واللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ واللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، وقوله تعالى: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ). وقد أشارت الروايات إلى ذلك أيضاً، ومنها ما جاء في الكافي للكليني ج1 ص 264 بَابُ جِهَاتِ عُلُومِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) الحديث رقم (1): عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأَوَّلِ مُوسَى (عليه السلام) قَالَ: مَبْلَغُ عِلْمِنَا عَلَى ثَلَاثَةِ: وُجُوه مَاضٍ وغَابِرٍ وحَادِثٍ، فَأَمَّا الْمَاضِي فَمُفَسَّرٌ وأَمَّا الْغَابِرُ فَمَزْبُورٌ، وأَمَّا الْحَادِثُ فَقَذْفٌ فِي الْقُلُوبِ ونَقْرٌ فِي الأَسْمَاعِ، وهُوَ أَفْضَلُ عِلْمِنَا ولَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا. وعلى منوالها عدة روايات. وقد تقدم الحديث التفصيلي عن أدلة العلم اللدني لدى أهل البيت (عليهم السلام) في الجزء الثالث.

مستوى التعامل مع الصحابي والتابعي!

الأمر الثاني: موقعية الظن
اشارة

صحيح أن كلاً من الاجتهادين ظني – أي إن النتائج ظنية في كل منهما- ولكنهما ليسا حقيقة واحدة، بل إن هناك فرقاً فارقاً بين الظن الذي يؤدي إليه كلٌ منهما، وذلك من جهتين:

الجهة الأولى

أن الظن في الاجتهاد الشيعي لا يؤدي إلى المثالية والتسلسل، فليس له موضوعية في حدّ نفسه، بل هو ينتهي إلى المعصوم واليقين، وهذا ما انعكس عملياً على القول بعدم حجية كل ظن، بل إن الظن حجةٌ في الجملة، فما لم تثبت حجية الظن بالدليل القطعي، أو قل: ما لم ينته الظن إلى اليقين المعصوم فتنقطع سلسلة الظن، فهو ليس بحجة.

فالظن إنما يكون حجة عندنا فيما إذا ارتبط بالمعصوم بطريقة وبأخرى، أي إنه لا بد أن يصل الظن إلى جهة قطعية مضمونة الحقانية تقطع التسلسل، ولا يصح أن ينتهي الظن إلى الظن، إذ الظن لا يصلح أن يكون بداية وإلاّ كانت المثالية أو السفسطة التي تعني في واحدة من حيثياتها أن البداية من الذهن، بينما الواقعية هي التي تعتبر البداية من الواقع.

أما العامي، فقد اعتبر الظن في حدّ نفسه حجة، حتى لو كان ظناً شخصياً.

ص: 89

الجهة الثانية

تأسيساً على الجهة السابقة: أن الظن –عندنا- عندما تم تأطيره وتحديده وإنهاء نسبه إلى اليقين المعصوم، فينحصر الجهد الاجتهادي عملياً في فهم النص لا في فهم الواقع، أي إن العمل الاجتهادي عند الشيعة إثباتي دلالي لا ثبوتي، والسعة الملحوظة في الاجتهاد الشيعي وفتح بابه إنما هي عمليات حفرية في النص لا في الواقع، بعد أن وفّرت النصوص الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) ما يستغني معه الباحث عن الخوض في الواقع مباشرة.

أما الفريق الآخر (أعني العامة)، فعمله الاجتهادي جاء مزدوجاً، فإنه إلى جانب فهم النص فقد تمّ التعاطي مع الواقع مباشرة، وإن لم يكن بمعزل عن النص الديني، ولكنهم أرادوا ملامسة الواقع مباشرة، ولو بقياس واقع على واقع آخر.

ويتفرع على هذا: نظريتا: التخطئة التي يقول بها الشيعة، والتصويب التي يقول بها العامة، فنحن انتهينا إلى التخطئة لأن عملنا مع فهم النص لا مع الواقع، وهو قد يُصيب الواقع وقد لا.

فالفارق إذن هو في الموادّ للاجتهادين، مما أدّى إلى قبول لون من ألوان الظن عندنا، لا مطلق الظن كما عند العامة.

وترتب على هذا الخلاف –فيما ترتب عليه- فتح باب الاجتهاد في النص عندنا، وغلقه عند الآخر. وهي مفارقة تستحق التأمل العميق، ففي حال أن الاجتهاد الشيعي كان في دائرة مغلقة إلاّ أن الاجتهاد بقي متاحاً وبقوة

ص: 90

وبتطور، في الوقت الذي لم يكن الاجتهاد الآخر مغلقاً ومسيّجاً، إلاّ أنه أغلق باب الاجتهاد!

دليل روائي:

مما يُصرح بعدم حجية كل ظن، وبضرورة ارتباط الظن باليقين والمعصوم، ويكشف عن فرق فارق في اجتهاد القوم والاجتهاد الذي يعتمد عليه أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، هو ما روي عن جعفر بن محمد صلوات الله عليه أنه قال لأبي حنيفة وقد دخل عليه، قال له: يا نعمان، ما الذي تعتمد عليه فيما لم تجد فيه نصاً من كتاب الله ولا خبراً عن الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ قال: أقيسه على ما وجدت من ذلك، قال له: إن أول من قاس إبليس فأخطأ إذ أمره الله عز وجل بالسجود لآدم (عليه السلام)، فقال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين، فرأى أن النار أشرف عنصراً من الطين، فخلده ذلك في العذاب المهين، أي نعمان، أيهما أطهر المنيُّ أم البول؟ قال المنيّ، قال: فقد جعل الله عز وجل في البول الوضوء وفى المنيّ الغسل، ولو كان يحمل على القياس لكان الغسل في البول، وأيهما أعظم عند الله، الزنا أم قتل النفس؟ قال: قتل النفس، قال: فقد جعل الله عز وجل في قتل النفس شاهدين وفى الزنا أربعة، ولو كان على القياس لكان الأربعة الشهداء في القتل، لأنه أعظم، وأيهما أعظم عند الله، الصلاة أم الصوم؟ قال: الصلاة، قال: فقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحائض أن تقضى الصوم، ولا تقضى الصلاة، ولو كان على القياس لكان الواجب أن تقضى الصلاة، فاتق الله يا نعمان، ولا تقس، فإنا نقف غدا، نحن وأنت ومن خالفنا، بين يدي الله، فيسألنا عن

ص: 91

قولنا، ويسألكم عن قولكم، فنقول: قلنا: قال الله وقال رسول الله، وتقول أنت وأصحابك: رأيْنا وقِسْنا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء.(1)

الأمر الثالث

إن الاختلاف بين الاجتهاد الشيعي والسني هو في موقعية الاجتهاد والمجتهد، ببيان:

أن الشيعة يجعلون الاجتهاد والمجتهد في صلب العمود الفقري للتسلسل المعرفي الرتبي، والتسلسل المعرفي عندنا هو بالصورة التالية:

أولاً: الرسالة والرسول.

ثانياً: الإمامة والإمام.

وهذه الإمامة مستمرة غير منقطعة إلى يوم القيامة، نعم، في عصر الحضور فالرجل الأول هو المعصوم لا غير، والفقيه يكون وكيلاً عن الرجل الأول وهو المعصوم، أما في ظرف غيبة المعصوم، فالفقيه يكون الرجل الأول لكن بالوكالة لا بالأصالة؛ اعتماداً على ما ورد عن المعصوم نفسه من إرجاع الناس إلى الفقيه بالتقليد [وهو ما سيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى].

فالمجتهد هو الرجل الأول بالنيابة عن المعصوم، وترتب على هذا: أن الكلمة الفيصل عند الشيعة تكون للفقيه لا للحاكم والسلطان، ولا دخل للحكم ولا للحاكم في الترتيب المعرفي، بل المحورية كل المحورية إنما هي

ص: 92


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي ج1 ص 91.

للعلم والعالم، وحتى من قال بولاية الفقيه العامة، فهو إنما قال بها اعتماداً على كون الولي عالماً فقيهاً، لا مجرد كونه حاكماً.

وترتب على هذه المنظومة المعرفية:

1/انضباطُ ومنهجيةُ الوصول إلى مرتبة الفقيه.

2/ضرورة التخصص العلمي فيها.

3/تحديدها بخطوط حمراء لا تُتجاوز أبداً، ووجود المنهج المنضبط وتطوره ضمن هذه المرتبة العلمية التخصصية.

أما عند السنة، فإن المجتهد لا يمثل أي حلقة أساسية في تراتبية المعرفة عندهم، فالتراتبية عندهم تبدأ بالنبي، وتنتهي بالحاكم، لا غير، وما المجتهد إلا أداة من أدوات الحاكم، وهو مجرد تابع له لا غير، وما العلم إلا وظيفة من الوظائف التي يُكلِّف بها الحاكمُ المتخصّصَ بها وهو المجتهد، بحيث كان الرجل الأول بعد النبي عندهم هو الحاكم لا المجتهد، وهذا ما أفرز تبعية المجتهد للحاكم عندهم، بل وأفرز إطلاق لقب (خليفة الرسول) على الحاكم دون المجتهد، وبالتالي تكون المحورية عندهم هي للقدرة والحكم، سواء تمت تغطية هذه القدرة بالعلم أو لا.

والخلاصة: أن الاختلاف بين الاجتهادين هنا هو في رتبته ضمن التراتبية المعرفية(1)،

وطبعاً ترتب عليه الكثير من الآثار التي انسحبت حتى على البُنية

ص: 93


1- وهذا الاختلاف غير ما تمت الإشارة إليه في الجواب الأول الذي كان اختلافاً في الجوهر.

الاجتماعية العامة، فضلاً عن الأحكام الشرعية، والتي من أهمها: شرعية أو عدم شرعية فكرة معارضة السلطة الظالمة.

استطراد: التسلسل القرآني للثوابت المعرفية لدى الشيعة
اشارة

عند التأمل في الثوابت المعرفية لدى الاجتهاد الشيعي، نجد أنه مستوحى من آيات القرآن الكريم، ضمن تسلسل منطقي منهجي، خلاصته الثوابت التالية:

الثابت الأول: انحصار حق التشريع بالله عز وجل

وهذا ثابت مذهبي واضح، فحتى تشريع المعصوم (عليه السلام) إنما هو في ظل تشريع الله تعالى وبإذنه وبتخويل منه.

قال تعالى في بيان هذا الثابت: (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(1)

وقال تعالى (قُلْ إِنِّي عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ)(2)

الثابت الثاني: محورية الوحي في تشريعات النبي (صلى الله عليه وآله)

فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ليس مجتهداً من عند نفسه شخصياً، وإنما هو مشرّع في

ص: 94


1- يوسف 40.
2- الأنعام 57.

طول وبإذن الله تعالى.

وفي بيان هذا الثابت يقول تعالى (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحىٰ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىٰ وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(1)

فالنبي هنا وكما تصرح الآية، يُبين للناس أنه لا يجتبي من عنده شيئاً إلا ما جاءه من خلال الوحي وما أُذن له به.

وفي نفس السياق جاء قوله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ)(2)

وقد بيّنت بعض الروايات الشريفة أن تشريع النبي (صلى الله عليه وآله) إنما كان بتفويض من الله تعالى، فقد روي عن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: «إنَّ الله عز وجل أدَّب نبيَّه فأحسن أدبه، فلمَّا أكمل له الأدب قال: (إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ 4)(3)، ثمّ فوَّض إليه أمر الدين والأُمَّة ليسوس عباده، فقال عز وجل: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(4)، وإنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان مسدَّداً موفَّقاً مؤيَّداً بروح القدس، لا يزل ولا يخطئ في شيء ممَّا يسوس به الخلق، فتأدَّب بآداب الله...(5)

ص: 95


1- الأعراف 203.
2- النجم 4.
3- القلم: 4.
4- الحشر: 7.
5- الكافي للكليني 1: 266 و267/ باب التفويض إلىٰ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلىٰ الأئمَّة (عليهم السلام) في أمر الدين/ ح 4.
الثابت الثالث: البيان القرآني التام لكل شيء

إن القرآن الكريم جاء ببيان شامل لكل جوانب الحياة، الأمر الذي صرّحت به العديد من الآيات الشريفة، أمثال قوله تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(1)

وقوله تعالى (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلىٰ هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىٰ وَرَحْمَةً وَبُشْرىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)(2)

وقوله تعالى (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرىٰ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىٰ وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(3)

الثابت الرابع: إلقاء البيان في صدر النبي وأولي الأمر(صلوات الله عليهم)

بعد أن أثبت القرآن محورية التشريع الإلهي والوحي، وأن القرآن تبيانُ كلِّ شيء، جاء ليثبت أن صدر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر كانت محالّاً لتلك البيانات القرآنية، وأن بيان القرآن التام أُلقي في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر ليقوموا بتفصيل ما أُجمل فيه وما لم يتبين للناس.

ص: 96


1- الأنعام 38.
2- النحل 89.
3- يوسف 111.

قال تعالى (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ)(1)

فالآية تُصرّح بأن الآيات القرآنية البيّنة هي في صدور الذين أوتوا العلم.

وقال تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفىٰ بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(2)

فالنبي (صلى الله عليه وآله) يجعل الفيصل والشهيد بينه وبين الذين كفروا هو الله تعالى ومن عنده علم الكتاب. مما يعني أن علم الكتاب يتوفر في غيره ممن سيكون شهيداً بين الرسول والأمة.

وهو أمر صرّحت الروايات الشريفة ببيانه أكثر، فقد روي عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)؟ قال: إيانا عنى.(3)

وعن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنت عنده فذكروا سليمان وما أعطى من العلم وما اوتى من الملك، فقال لي: وما أعطى سليمان بن داود إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وصاحبكم الذي قال الله: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) وكان والله عند

ص: 97


1- العنكبوت 49.
2- الرعد 43.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 224 باب (11) باب في الأئمة أوتوا العلم وأثبت ذلك في صدورهم ح (1).

علي (عليه السلام) علم الكتاب. فقلت: صدقت والله جعلت فداك.(1)

الثابت الخامس: ضرورة طاعة الله تعالى والرسول (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر (عليهم السلام)

صرّح القرآن بضرورة هذه التراتبية في الطاعة، في إشارة إلى أن التشريع والبيان القرآني، إنما يؤتي ثمرته في النجاح والفلاح فيما إذا أطاع الناس من تجب طاعتهم، وأن طاعتهم لازمة في كل ما يتعلق بالدين، سواء على مستوى أخذ التشريع، أو على مستوى طرح الحلول الناجعة للمشاكل الحاصلة، وغيرها من الجهات، وأن تلك الطاعة المطلقة بالتراتبية المذكورة إنما هي علامة الإيمان الحق، وهي التي يمكن من خلالها الوصول إلى رضا الله تعالى.

قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(2)

وقال تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(3)

وقال تعالى (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَىٰ الرَّسُولِ وَإِلىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ

ص: 98


1- بصائر الدرجات للصفار ص 232 باب مما عند الأئمة عليهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الكتاب ح (1).
2- النساء 59.
3- المائدة 55.

اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً)(1)

الثابت السادس: الفقاهة في الدين

فالقرآن يصرّح بأن على المؤمنين أن يعملوا على إيجاد مجموعة منهم، شغلهم الشاغل هو التفقه في الدين، وأن على هذه المجموعة أن تسعى لتحصيل ذلك ولو بالسفر عن بلادهم إلى بلاد العلم والفقاهة، حتى إذا ما تجهّزوا بالفقه اللازم رجعوا إلى أهلهم وبلادهم ليبينوا لهم الدين.

قال تعالى (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(2)

روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): أَصْلَحَكَ اللهُ بَلَغَنَا شَكْوَاكَ وأَشْفَقْنَا فَلَوْ أَعْلَمْتَنَا أَوْ عَلَّمْتَنَا مَنْ قَالَ: إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ عَالِماً والْعِلْمُ يُتَوَارَثُ فَلَا يَهْلِكُ عَالِمٌ إِلَّا بَقِيَ مِنْ بَعْدِه مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ عِلْمِه أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، قُلْتُ: أ فَيَسَعُ النَّاسَ إِذَا مَاتَ الْعَالِمُ أَلَّا يَعْرِفُوا الَّذِي بَعْدَه؟

فَقَالَ (عليه السلام): أَمَّا أَهْلُ هَذِه الْبَلْدَةِ فَلَا يَعْنِي الْمَدِينَةَ، وأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الْبُلْدَانِ فَبِقَدْرِ مَسِيرِهِمْ، إِنَّ اللَّه يَقُولُ (وما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

قَالَ: قُلْتُ: أرَأَيْتَ مَنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ؟

ص: 99


1- النساء 83.
2- التوبة 122.

فَقَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِه مُهَاجِراً إِلَى الله ورَسُولِه ثُمَّ يُدْرِكُه الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُه عَلَى الله.

قَالَ: قُلْتُ: فَإِذَا قَدِمُوا بِأَيِّ شَيْءٍ يَعْرِفُونَ صَاحِبَهُمْ؟

قَالَ: يُعْطَى السَّكِينَةَ والْوَقَارَ والْهَيْبَةَ.(1)

ص: 100


1- الكافي للكليني ج1 ص 380 بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ مُضِيِّ الإِمَامِ ح(3).
النقطة الخامسة: حدود الاجتهاد الشيعي
اشارة

لا يخفى ان الاجتهاد في العرف الديني الشيعي، يمثل البنية التحتية لموقع الفتيا والقضاء ومنصب المرجعية، وبالتالي فهو يحتل مكانة أساسية ومفصلية وحساسة في هذا الكيان، وعلى هذا الأساس فان عملية ضبطه وتقنينه وتحديد أطره ومساحاته، -لا اقل على المستوى النظري والمعرفي- من الضرورة بمكان؛ لأن هذا التحديد والتأطير سوف يغلق الباب على الحالة الهلامية والضبابية المتشابكة بين هذا العنوان وبين غيره من العناوين، هذا أولاً.

وثانياً: سوف يغلق الباب لاستغلاله وتوظيفه من قبل الأشخاص غير المؤهلين لتسنمه.

وثالثاً: سيغلق الباب أيضاً أمام عمليات التسطيح والتهميش لهذا المفهوم في الموضوعات المعرفية والعلمية.

لذلك كان من المناسب بيان حدود الاجتهاد عند أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما سيُبين مفهومه كثيراً في نفس الوقت.

والحدود التي ستتم الإشارة إليها هي:

ص: 101

الحد الأول: حفظ الفاصلة بين العصمة والاجتهاد.

الحد الثاني: الاجتهاد فهم لا تشريع، وفي طول النص والمعصوم لا في عرضهما.

الحد الثالث: فرصة الاجتهاد نسبية لا مطلقة.

الحد الرابع: حفظ الفاصلة بين لغة التخصص ولغة الثقافة العامة.

الحد الخامس: العدالة والتخصص.

الحد السادس: حجية اللغة المشتركة دون الخاصة.

الحد السابع: نيابة عامة لا خاصة.

والتفصيل بالآتي:

الحد الأول: حفظ الفاصلة بين العصمة والاجتهاد
اشارة

نحن نحصل على المعلومة من خلال المعصوم (عليه السلام)، ومن المجتهد في زمن غيبة المعصوم، إلا أن هذا لا يعني أبداً المساواة بين المعلومتين، بل إن بين العصمة والاجتهاد مسافة كبيرة جداً؛ لأن المعلومة التي نحصل عليها من المعصوم هي معلومة معصومة، وبالتالي فهي تعني المعلومة المضمونة الحقانية والصوابية، والمطابقة للواقع تماما، وبالتالي فهي التي لا تقبل الخلاف، فيكون العلم الحصولي بها على حد العلم الحضوري، فإن العلم الحضوري يستحيل فيه الخطأ؛ لأن الخطأ فرع الاثنينية، فرع وجود مطابِق ومطابَق، والمعلوم الحضوري هو الواقع، فلا توجد اثنينية بين العلم والمعلوم، والمعلومة

ص: 102

الحصولية المعصومة على وزانها وقانونها وإن كانت الاثنينية موجودة.

اما المعلومة الناشئة من الاجتهاد التخصصي، فهي معلومة غير مضمونة الحقانية والصوابية، وفيها احتمال عدم المطابقة مع الواقع، ولا يمكن طرد نسبة الخطأ عنها، فهي معلومة تنتمي الى مقولة:

على المرء أن يسعى بمقدار جهده وليس عليه أن يكون موفقاً

هذا هو الحد الأول للاجتهاد، وبه نعرف فرقاً مهماً بين المعلومة التي نحصل عليها من المعصوم، والتي نحصل عليها من المجتهد.

ويترتب على هذا الفارق جملة من الآثار والفوارق:

الأثر الأول: الفرق في الحجية

معنى الحجية هو كون المعلومة منجزة للواقع (أي يستحق المخالف لها العقاب)، معذرة للمكلف (أي إنها لو كانت مخالفة للواقع فإن مرتكبها معذور ولا يستحق العقوبة).

وحيث إنه يحتمل في قول المجتهد المخالفة للواقع، فلا بد من قانون شرعي يُلغي هذا الاحتمال، ويلزم العوام باتباع المجتهد، فحجية المجتهد تحتاج إلى هذا المعنى لتتم.

إن احتمال الخطأ في المعلومة التخصصية الاجتهادية (غير المعصومة) هو احتمال قائم وموجود، وعدم الضمان للمطابقة مع الواقع يلاحق هذه المعلومة باستمرار، ولذا فهي تحتاج الى غطاء شرعي قانوني للخطأ يعذر عنه.

ص: 103

أما الحجية في المعلومة المعصومة فهي ذاتية، ولا تحتاج الى تقنين وتشريع؛ لأنها تحكي وتكشف عن تمام الواقع، بنحو لا توجد شائبة في هذه الحكاية، والحجية انما تجعل في تلك الموارد التي يوجد فيها احتمال عدم الإصابة للواقع.

إن المعلومة المعصومة هي ما تكون ظاهرة بذاتها مظهرة لغيرها؛ وهذا بالحقيقة ناشئ من التوأمة بينها وبين الواقع.

فبمجرد كون المتحدث معصوماً، فإن كل ما يقوله هو حجة بذاته، ولا نحتاج إلى دليل آخر يلزمنا باتباع المعصوم.

الأثر الثاني: التعددية وعدمها

ما دام قول المجتهد يُحتمل فيه الخطأ والصواب، فهذا يتيح ويفتح الأفق لموضوعة الرأي والرأي الآخر، ولذا نجد أن آراء المجتهدين قد تختلف في موضوع أو حكم واحد، ويجوز للمجتهد أن يُخالف المجتهد الآخر، لأنه يحتمل فيه الخطأ، وهذا يبرّر له المخالفة وفق دليل خاص.

فهامش الخطأ الموجود بين ثنيات المعلومة غير المعصومة (التخصصية الاجتهادية) هو ما يؤسس لشرعية وقبول الرأي والرأي الآخر، بل يسمح لقبول التعدد بمستوى المدارس المختلفة، فكل مدرسة تحاول من خلال دراستها وتأملاتها أن تُوفَّق لإصابة الواقع والتقليل من نسبة الخطأ في عملها الذي يهدف إلى التعرف على الواقع.

ص: 104

أما في المعصوم، فحيث إن قوله هو الواقع، فلا مجال للرأي في قبال رأيه، ولا يحق ولا يصح لأحد أن يخالفه ولو كان ما يقوله المعصوم غير مفهوم العلم لديه، أو كان غير مقتنع بكلامه نفسياً؛ لأن هذه المعلومة التي يأتي بها المعصوم لا يوجد فيها أي هامش ومساحة للخطأ، وبالتالي فإن إراءتها وكشفها عن الواقع يكون كما لو أنها أحضرت الواقع بعينه، وقلنا سابقاً هي على وزان العلم الحضوري من هذه الزاوية.

وقد أشارت الأدبيات الدينية إلى هذا المعنى، من قبيل ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إذا سمعتم من حديثنا ما لا تعرفون، فردوه إلينا(1)،

وقفوا عنده، وسلموا حتى يتبين لكم الحق، ولا تكونوا مذاييع عجلى(2)...(3)

وفي بعض الروايات قال الإمام الصادق (عليه السلام) في الروايات التي ثبت صدورها عنهم (عليم السلام) ولكنها كانت متعارضة: (فَأَرْجِه حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ)(4)

ص: 105


1- هذا إذا كان طريق البلوغ معتبرا عند العقلاء بان تكون النقلة ثقات أو حسان أو هناك قرينة أو أمارة على صدق الراوي وإن كان ضعيفا بحيث جاء الوثوق أو الظن بصحة الصدور. وأما إذا أقيمت القرائن على كذب الراوي وافترائه على المعصوم عليه السلام فلا معنى لرد علمه إليهم عليهم السلام إذ ليس هو من حديثهم. مثل أكثر أخبار الباطنية أو الملاحدة الذين دسوا في الأحاديث لتشويه صورة المذهب عليهم لعائن الله سبحانه. [هامش المصدر].
2- المذياع: الذي لا يكتم سرا جمعه مذاييع، والعجلي مؤنث عجلان بمعنى عجول. [هامش المصدر]، وفي البحار ج2 ص189 قال: بيان: المذاييع: جمع مذياع من أذاع الشيء إذا أفشاه.
3- الخصال للشيخ الصدوق ص 627 حديث أربعمائة.
4- الكافي للكليني ج1 ص68 بَابُ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ح10.

ولكن يجب التنبيه على أن التعددية الدينية المقبولة، هي تلك التعددية التي تكون بين أروقة المتخصصين، وأصحاب الرأي العلمي، أما أن يدخل كل من ليس بصاحب اختصاص ليُبديَ رأيه بحجة مشروعية التعددية، وقبول الرأي والرأي الآخر، فهذا أمر غير مقبول وغير منهجي، وبالتالي يُمنع كل من كان خارج هذه السياقات من أن يدلي بدلوه في هذا الإطار.

الأثر الثالث: التوازن في التعامل مع المتخصص، والتسليم المطلق للمعصوم (عليه السلام)

توجد قضيتان تتجاذبان غير المتخصص في تعاطيه وتعامله مع المتخصص (المجتهد):

الأولى: إن قول المجتهد غير معصوم، وبالتالي فإن معلوماته ومعارفه غير مضمونة المطابقة مع الواقع، وغير مضمونة الحقانية، ومن ثم يمكن فتح الباب أمام التخطئة والتصويب، وفتح الباب للنقاش وإبداء الرأي والرأي الآخر.

الثانية: إن قول المتخصص في حقيقته عبارة عن حكم ظاهري، وهذا الحكم الظاهري واجب الاتباع مطلقاً ومن دون نقاش في مقام السلوك والعمل؛ وليس للمكلف طريق آخر في الوصول إلى الواقع سوى هذا الحكم الظاهري.

أمام هاتين القضيتين، فإن الأمر المنهجي هو التوازن في التعاطي مع المتخصص، فليس منع الكلام ومنع ممارسة النقد من خلال إضفاء هالة من

ص: 106

القداسة والعصموية على شخصيته، أمراً صائباً وصحيحاً، وفي الوقت ذاته ليس فتح باب النقد بعرضه العريض ولكل شخص كان مسموحاً ومقبولاً.

ومن الجدير بالذكر أن موضوعة النقد والنقاش للمتخصص لا تعني أبداً تجاوز السياقات الأدبية والمقامات الاجتماعية القائمة، فإننا يجب أن نفكك ونفرق بين البعد الاجتماعي وبين البعد العلمي في هذا السياق، فعلى سبيل المثال يوجد لدينا نصوص كثيرة تؤكد على طاعة واحترام الوالدين، ولكن لا يعني هذا القبول بكل مقولاتهم العلمية وبأي نحو كانت، فالإطار المعرفي والعلمي له قوانينه وسياقاته، والإطار الاجتماعي له قوانين وسياقات أخرى مختلفة عنه.

فحتى لو وصل طالب العلم إلى مستوى من المعرفة بحيث يتمكن من إبداء بعض الملاحظات على كلام المجتهد، لكن ذلك لا بد أن يكون وفق السياقات الأدبية وحفظ مقام العلمية للمجتهد، كونه نائب المعصوم (عليه السلام)، ولا يصح أبداً التحدث معه بصيغة غير مؤدبة، ولا تجاوز حدود اللباقة الأدبية معه.

وكل ما ذكرناه هنا من التعددية وإمكان النقاش لا يأتي مع المعصوم أبداً، كون ما يأتي به معصوماً فلا يقبل النقاش، وليس أمامنا تجاه المعصوم إلا التسليم التام المطلق، الأمر الذي أكدت عليه العديد من النصوص واعتبرته أمراً أساسياً في الدين، من قبيل ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «لو أنَّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجُّوا البيت،

ص: 107

وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لشيء صنعه الله تعالىٰ أو صنعه النبيُّ (صلى الله عليه وآله): ألَا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين»، ثمّ تلا هذه الآية: ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[(1)، ثمّ قال أبو عبد الله (عليه السلام): «وعليكم بالتسليم»(2).

الحد الثاني: الاجتهاد فهم لا تشريع، وفي طول النص والمعصوم لا في عرضهما
اشارة

واحدة من الأسس المهمة التي عمل الفكر الشيعي على تأصيلها وترسيخها في منظومته الفكرية، هي مسألة التراتبية الطولية بين موضوعتي التشريع والاستنباط، وأن المستنبط والمجتهد ليس له أي دور في جعل وإيجاد وتكوين التشريعات، بل كل دوره ينحصر في فهم ما يلقيه عليه الشارع، وبيان تلك التشريعات وتنزلاتها وتطبيقاتها.

ويترتب على ذلك: أن أي زحاف يحصل في عملية الاستنباط بالعمل في مساحات خارج دائرة عمله، فإنه سيؤدي بشكل تلقائي إلى انقلاب ماهوي في حقيقة الاستنباط، لتتلبس بماهية التقنين التشريعي، وتتحول من الحالة الطولية مع موضوعة التشريع إلى الحالة العرضية.

تصوير الطولية
اشارة

بالتأمل، نجد أن للعلم مراتب أربعة:

ص: 108


1- النساء: 65 .
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 271/ باب 38/ ح 365).
المرتبة الأولى: العلم الإلهي

وهو يمثل القمة والحجر الأساس في موضوع العلم، وهو يبدأ من التكوين والواقع، لأنه تعالى هو من صمّم الواقع والكون، ومن البديهي أن العلم الذي يمتلكه من صمم هذا الواقع، ووضع نظام هذا العالم، والذي هو محيط بكل شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، لاشك ولا شبهة أنه يكون في أعلى مراتب العلم وأكملها.

المرتبة الثانية: العلم الإنساني المعصوم

هذه المرتبة من العلم، ليست مرتبة عادية، إذ إنها تحصل من طريق خاص غير متعارف عند بني الانسان، وهو ما يسمى في كلمات العلماء بالعلم الوحياني أو اللدني(1)، وهذا من قبيل ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام): علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألفَ باب، يفتح ألفَ باب.(2)

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علّم عليًا (عليه السلام) بابًا من العلم، ففتح ألف باب، لكل باب فتح له الف باب. (3)

ص: 109


1- وهو نوع من العلم الذي ينكشف معه الواقع للإنسان، وهو (لدني) أي يُعطى من الله تعالى ويُفاض منه جل وعلا على بعض عباده، كما ورد هذا المعنى في الخضر (عليه السلام)، حيث قال عنه تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) [الكهف: 65]
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 647.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 323 الباب (16) باب في ذكر الأبواب التي علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) ح (5).

وقد تقدم الحديث في بيانات وإثبات العلم اللدني والعصمة لأهل البيت (عليهم السلام).

المرتبة الثالثة: العلم الإنساني التخصصي

وهو العلم الذي يحصل للإنسان من خلال منهج علمي وشروط معينة، كالدراسة والمتابعة والبحث العلمي..، ويسمى من يتصف به بالمتخصص، وهو يعتمد على قواعد منهجية ومعرفية دقيقة، ولا يصل إليها إلا من التزام بضوابطه المنهجية والمعرفية.

المرتبة الرابعة: العلم العام

أو هو العلم الذي يحصل في ذهن الإنسان العامي غير المتخصص.

في هذه المراتب نشاهد وبوضوح أنها ليست ظواهر متباينة ومختلفة بعضها عن البعض الاخر، بل توجد بينهما علاقة عضوية تراتبية شبيهة بعلاقة العلة والمعلول، يتفرع فيها اللاحق على السابق، فالإنسان العادي غير المتخصص، يأخذ معارفه وعلومه من الشخص المتخصص والخبير، ثم إن الخبير والمتخصص كالمجتهد يأخذ علومه ومعارفه من علم المعصوم، وهو من يمثل مادة الاستنباط بالنسبة إليه، والمعصوم يأخذ كل علومه ومعارفه من العلم الإلهي للحق تعالى.

وبهذا يتبين:

1/أن كل علم عليه أن يحفظ مساحة حركته ودائرته الخاصة ومرتبته

ص: 110

المعينة، ومنها أنها تستمد علميتها من سابقها، بأن تكون المرحلة السابقة دليلاً عليه، فالعامي يأخذ من المتخصص، وهو يأخذ من المعصوم، الذي يأخذ من الله تعالى.

2/لا يجوز للفرد في المرتبة الدنيا أن يتعدى على مساحات العلم الأعلى من رتبته، فغير المتخصص ليس من الصحيح أبداً أن يتدخل ويبدي رأيه في سياق كلام المتخصص، وكذلك المتخصص ليس له أن يتحرك في عرض المعصوم، ويُبدي رأيه في قبال رأيه، وكذلك من كان دون العلم الإلهي ليس له أن يتجاوز مساحته ليبدي رأيه في مساحة العلم الإلهي، فيفرض على الله تعالى أن يفعل كذا ولا يفعل كذا.

كل هذا من الخطوط الحمراء الثابتة في الفكر الشيعي، وأي تجاوز لها سوف يخل بالطولية، ومن ثم سيقود إلى الفوضى وعدم الانتظام للظاهرة العلمية.

والحاصل: أن المجتهد مهما عظم علمه، فإنه عيال وفي طول علم المعصوم، ولا يتجاوزه، ولا يفرض عليه شيئاً معيناً.

تنبيهان
التنبيه الأول: المغالطة في إمكان الارتباط المباشر بالمعصوم (عليه السلام) بلا حاجة الى متخصص

ظهرت أصوات من هنا وهناك حاولت التقليل من ظاهرة التخصص،

ص: 111

فهم قبلوا كل السلسلة ما فوق التخصص، ولكن حين انتهوا إلى التخصص رفضوه ولم يقبلوا به، وقالوا بأننا لا نحتاج إلى وسيط يدخل فيما بيننا وبين المعصوم، فحولوا السلسة الرباعية (العلم الإلهي ثم المعصوم ثم التخصص ثم العادي) إلى سلسلة ثلاثية، تبدأ من العلم الأعلى، ثم المعصوم، ثم الفهم العام للناس.

والحال أن الوجدان قاضٍ بأن التخصص ضرورة، ولا بد منه في فهم الدين، نعم حدود مرجعية التخصص تختلف عن حدود مرجعية المعصوم، فالمعصوم حجة في كلامه وفعله وتقريره، والمتخصص حجة في كلامه فقط وبحدود التخصص.

التنبيه الثاني: تحليل فكرة القداسة للمعصوم (عليه السلام)
اشارة

يختلف المعصوم عن جميع الناس في نقطتين أساسيتين:

النقطة الأولى: العلم الخاص (الوحياني)

فالمعصوم (عليه السلام) له هذا العلم دون غيره من الناس طُرّاً، وأي اقتراب من هذه المساحة، فإنه يُعدُّ نوعاً من أنواع القفز على المواقع، وبالتالي يوسم بالانحراف والضلال..

النقطة الثانية: توافق القول والفعل والتقرير في المعصوم (عليه السلام)

نعتقد أن المعصوم في كلامه وفعله وتقريره يتكئ على العلم الخاص، ولذا كانت دائرة حجيته واسعة بوسع هذه المسارات الثلاثة، أما حجية المتخصص

ص: 112

فهي تدور ضمن مساحة كلامه فقط وبحدود التخصص، فلو كان هناك طبيب يخبر المريض عن مضار التدخين وتأثيره السلبي على الإنسان وحياته، فإن عدم التزام الطبيب في الواقع العملي [بأن كان هو مدخناً مثلاً] لا يضر بتلك النظرية، ولا يعني أبداً أنها باطلة وغير صحيحة.

ومنه يتبين:

1/أن التقديس للمعصوم يكون في جميع ما ينتج عنه من قول أو فعل أو تقرير، فإنه معصوم فيها كلها، ولا تجد اختلافاً في قوله عن فعله عن تقريره، وإنما كلها تسير في مسار واحد يتكئ على العلم اللدني الوحياني.

2/ولأنه معصوم، فقوله وفعله وتقريره حجة مطلقاً، لأنها تمثل الواقع تماماً، وهذا يُضفي قداسة له لا نجدها عن غيره من الناس، فالمجتهد على قداسته، لكنها قداسة في حدود الاجتهاد والتخصص العلمي، أما المعصوم فالقداسة فيه تتجاوز ذلك إلى الواقع نفسه، فالمعصوم هو الواقع نفسه والحق واليقين والبديهي.

3/ولذلك كانت الحجية التي للمعصوم حجية شاملة على الجميع، وليس لأحد أن يناقشها أو ينقضها، ولا يُسمح فيها بالرأي والرأي الآخر. كما أنها حجة في بعديها العملي والنظري، فقوله وفعله وصمته حجة وملزم للآخرين نظراً وعملاً، وما هذا إلاّ بسبب كونها مضمونة الحقانية، بسبب كونها توأماً للواقع، بل هي الواقع، ولذلك تكون الحجية للمعصوم مطلقة وشاملة، بخلاف الحجية التي للمجتهد والمتخصص فإنها تكون نسبية

ص: 113

ومحدودة.

وفي هذا الضوء يتبين منشأ التقديس في المعصوم، فإن ذلك يرجع إلى أنه في المستوى النظري عصي على النقد، وفي المستوى العملي يكون ملزِماً للجميع، وليس لأحد -أياً كان- أن يتجاوز هذا الإلزام.

فالمعصوم معصوم في الجانب العلمي وفي الجانب العملي، وهذا يمنحه لوناً من القداسة الشاملة لا يحظى بها المتخصص، فعلم المتخصص قابل للخطأ، ومن ثم تجوز المناقشة.

وسلوكه قابل للنقد حيث لم يكن مضمون الصوابية والاستقامة.

والمهم جداً في هذا السياق هو عدم الخلط بين مساحة العصمة ومساحة الاجتهاد، فرفع المتخصص إلى مصاف المعصوم وإضفاء هالة من القداسة عليه، أو خفض المعصوم إلى مستوى المتخصص المجتهد القابل للخطأ والصواب، أمر كارثي على المستوى المنهجي العلمي وعلى المستوى الأخلاقي، وسيؤدي – إن حصل- إلى فوضى معرفية عارمة.

والخلاصة: أن ضرورة التقديس للمعصوم ناشئة من كونه معصوماً في قوله وفعله وتقريره، الأمر الذي يعني أنه هو الواقع، فكل ما يصدر منه (قولاً وفعلاً وتقريراً) هو معصوم وواقع، فتكون حجيته شاملة لكل هذه المفردات الثلاثة، ولا يجوز لأحد أن يناقشه في معرفة أو يخطّئه في تصرف، وكل ذلك غير موجود لدى المجتهد مهما كان، فالحجية للمجتهد في قوله

ص: 114

فقط، ولذا أمكن نقاش معارفه النظرية بشروط منهجية علمية خاصة، وأمكن أن يخالف قولُه فعلَه، وهذا لا يعني التقليل من شأن المجتهد، وإنما نحن مأمورون باحترامه وتبجيله، لكن مع حفظ الفاصلة بينه وبين المعصوم كما تبين.

الحد الثالث: فرصة الاجتهاد نسبية لا مطلقة

إن المعيار في الحقانية هو المطابقة مع الواقع ونفس الامر، وليس المناط مرتبطاً بأمزجة وإدراكات الناس، بحيث إنهم إذا أجمعوا على أمر كان حقاً، وإن لم يجمعوا كان باطلاً، بل المناط هو في مطابقة الواقع، فإن طابقت الفكرة الواقع فهي حق، حتى لو فرضنا إجماع الناس كلهم على بطلانها، وإن لم تطابق الواقع فهي باطلة، وإن فرضنا إجماع الناس على حقانيتها.

العلوم والمعارف بعضها نظرية، وهي ما تحتاج إلى دليل، وبعضها بديهية، أي إنها مطابقة للواقع في حد نفسها، وهي تكون الدليل على صحة العلوم النظرية.

مما يعني أنه لا بد ان تنتهي العلوم النظرية إلى البديهية، وإلا تبقى غير مستدلة، ولا ضمان لكونها مطابقة للواقع، فلا ضمان لكونها حقاً.

فالعلوم لا بد أن ترجع إلى بداية بديهية، أو قل: بداية معصومة، أي مضمونة المطابقة للواقع.

هذا بشكل عام.

ص: 115

تأسيساً على هذه الفكرة، فإنه مع ظهور المعصوم، فإنه يكون هو البداية القاطعة لأي معرفة نظرية، فنحن لو عرضت علينا مسألة نظرية، ولم نعرف الحق فيها، فنرجع إلى المعصوم ليعطينا الحق فيها.

ولكن حينما يغيب المعصوم عن الواقع الخارجي لسبب أو لآخر، وتمر البشرية في حالة استثنائية طويلة (وهي عصر الغيبة) تصبح البداية والبديهي والفكرة المعصومة خارج المتناول، فكان لا بد من توفر بداية أخرى، تكون هي المرجع لكل المعارف الأخرى، فكانت المرجعية الدينية التي تمثل نقطة البداية في زمن الغيبة، لا بمعنى أنها نقطة مستقلة في حد نفسها، وإنما بمعنى أنها الخيط الرابط بين النظريات وبين التعلق بالمعصوم ومعرفته وعلومه.

والاجتهاد في متناول اليد، أي إنه يمكن الوصول إليه وفق منهجية علمية منضبطة.

وهذا المعنى في الوقت الذي يثبت ضرورة الاجتهاد كبداية للمعارف في زمن الغيبة، هو يعني ضرورته العلمية والمنهجية أيضاً، إذ لولا هذه المرتبة من العلم، لفقدنا البداية للنظريات التي لدينا، ولحصلت الفوضى المعرفية والعشوائية العلمية.

ولعله إلى هذا المعنى يشير ما روي عن الإمام الهادي (عليه السلام) أنه قال: «لولا من يبقىٰ بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم

ص: 116

الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله (عز وجل)»(1).

كل هذا صحيح، ولكن هذا لا يعني أن الاجتهاد سيوفر المعلومة المعصومة بالمطلق، كالتي يأتي بها المعصوم نفسه، كلا، وإنما هي فكرة تمثل البداية بالنسبة لغير المجتهد وفي زمن الغيبة فقط.

وعلى كل حال، فإن واحدة من مهام المعصوم وعناياته طيلة فترة الظهور كانت هي توفير جملة من البداهات للأمة، لتصبح هي الهيكيلة المعرفية لأتباعه، تؤطر حركتهم العلمية..

ولذلك جاءت النصوص الدينية الكثيرة التي دلت على ضرورة رجوع الجاهل إلى العالم عموماً، والرجوع إلى رواة الحديث في ما يتعلق بأمور الدين خصوصاً، وسيأتي بيان بعض من هذه النصوص في محلها إن شاء الله تعالى.

ومن كل ما تقدم يتلخص: أن الرجوع إلى المجتهد إنما يكون في زمن الغيبة، لأنه الطريق الوحيد الذي يوفر لنا الدليل على ما عندنا من نظريات، أما في زمن الظهور، فيكون المرجع هو المعصوم، ومن يجعله نائباً عنه.

الحد الرابع: حفظ الفاصلة بين لغة التخصص ولغة الثقافة العامة
اشارة

تتبلور ضمن أروقة التخصص لغة خاصة بهم، تكون هي الوسيلة للتخاطب العلمي والتخصصي فيما بينهم، هذه اللغة تختلف ماهوياً وبنيوياً

ص: 117


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 260.

عن تلك اللغة التي تستخدم في الأنساق المعرفية الثقافية العامة، وما يهمنا في هذا السياق هو:

صحيح أنه لا بد من تكامل اللغتين وعدم استغناء كل منهما عن الاُخرى في توصيل المعلومة إلى الذهنية العامة، فاللغة العلمية المتخصصة ينبغي أن تتم صياغتها وفق أسس أدبية معينة، فليس من الصحيح أن يكتب المتخصص علومه ومعارفه بلغة غير منضبطة نحوياً مثلاً أو إنه يستعمل ألفاظاً لا تدل على المعنى المقصود له، وإن كان له مصطلح خاص فلا بد أن يوضحه بطريقة أدبية واضحة.

ولكن هذا لا يعني أن تكون السياقات العلمية في الأروقة التخصصية مكتوبة بلغة بعيدة عن الانضباط العلمي والمنهجي، وهذا ما يكشف لنا عن بعض الصعوبة التي نواجهها في فهم كلمات الأعلام في كتبهم التخصصية، بل في بعض الأحيان نجد الصعوبة حتى في فهم الرسالة العملية، ذلك لأن الأروقة العلمية تقتضي أن تتم كتابة التخصص بلغة خاصة وبمنهجية علمية.

فلا يأتين شخص ويُشكل على المجتهدين بأنهم يكتبون بلغة علمية صعبة، فإن هذا هو مقتضى الأروقة العلمية التخصصية، وهذا أمر واقعي نجده في كل التخصصات، فالتخصص الطبي له لغته وسياقاته وصياغاته الخاصة التي لا يفهمها إلا من يقضى وطراً من عمره في معايشة مصطلحات هذا التخصص العلمي وفهمها وهضمها ليفهمها بطريقة علمية صحيحة.

وحتى نُشبع هذا الموضوع أكثر نذكر:

ص: 118

سمات لغة التخصص
1 لغة الاصطلاح

واحدة من الوسائل التي يحتاجها المتخصص لضبط وحفظ العلم التخصصي الذي يعمل في إطاره، هي اللغة التخصصية العلمية، هذه اللغة تتحرك ضمن اصطلاحات خاصة يبتدعها أصحاب هذا الاختصاص، ليعبروا بالدقة عن مرادهم في ذلك التخصص، ولذا كان لكل علم اصطلاحاته الخاصة، وهذه الاصطلاحات تشكل مفاتيح هذا العلم، والمنفذ الرئيسي للدخول بين أبحاثه ومسائله.

وهذا الاصطلاح:

أ/ قد يختزل المعنى اللغوي المتعدد بمعنى واحد.

ب/وقد يغادره تماماً إلى معنى جديد، بأن يكون للفظ معنى لغوي معين، ولكن في اصطلاح العلم المعين يُقصد منه معنى آخر.

ولذا كان من الضروري أن نفهم مصطلحات العلم المعين قبل أن نلج فيه ونعمل على فهمه أو ربما الإشكال عليه.

2 لغة الاختصار

يعمد أصحاب العلوم التخصصية على الاقتصار في كتاباتهم التخصصية على أقل قدر ممكن من الكلمات التي تحكي وتعبر عن مرادهم التخصصي، رافضين أن تكون الكتابة التخصصية كتابة عامة مبسوطة كالسرد القصصي المفتوح، هروباً من حالة المطاطية التي قد تعتري الفكرة وتؤثر على تخصصيتها،

ص: 119

فعلم القانون -مثلاً- حين يعبر ويحكي عن المواد القانونية، فإن كل حرف وكلمة تكتب في هذا السياق تكون بعناية فائقة، ويحسب لها ألف حساب، خوفاً من أن تفسر بشكل مغاير لمراد المقنن والمشرع.

3 لغة اعتماد القرائن المنفصلة

طبيعة المدونات الكبيرة والمنظومات العلمية الواسعة هو تخادم أفكارها وتفسير بعضها البعض عبر فصولها وأبوابها ومقدمتها وخاتمتها، فلا تنتهي الفكرة بجملة بل ولا بفصل بل ولا بباب. وهذا يعني أن اللغة التخصصية تعتمد القرائن المنفصلة في رسم المفاهيم التركيبية الواسعة.

وهذا ما نفتقده في لغة التفهيم والتفاهم في الفضاء البشري العام، فإنها لا تعتمد كثيراً على القرائن المنفصلة، بل الغالب أن المتكلم يبين تمام مراده بشخص كلامه.

تنبيه: الحديث بلغة واحدة ليس مثلبة

لا ضرورة تفرض على صاحب اللغة الواحدة أن يتكلم اللغة الاُخرى، أو على صاحب التخصص أن يتكلم بلغة غير لغة تخصصه، مع الإيمان بأن قدرة الشخص الواحد على التكلم بأكثر من لغة تعتبر فضيلة وحسنة لا يمتلكها من لا يحسن إلاّ لغة واحدة، ولكن ليس من الصحيح القول بأن فقدان هذه الموهبة دليل على وجود نقص ومثلبة في هذا الشخص، فالمتخصص الذي لا يحسن اللغة الثقافية، لا يُحسن أن يسوق أفكاره التخصصية ببيان ثقافي أو كتابة ثقافية، ولا يعني ذلك أبداً أن فيه نقصاً من جهة كونه متخصصاً

ص: 120

ومتضلعاً في تخصصه، فإن عالم الفيزياء -مثلا- والذي وصل الى رتبة بروفيسور في تخصصه، يكفي أن هناك جملة من طلابه يفهمون ما يقول أو ما يكتب، وليس عليه أن يكون متمرساً في تسويق الفكر الفيزيائي إلى عموم الناس في شاشات التلفزة، وعدم إمكانيته للتحدث باللغة الثقافية لا تضر بقدراته وقيمته العلمية في ضمن تخصصه.

وهذا المعنى سيال في كل التخصصات والعلوم والمعارف، فحتى القرآن الكريم لم يكن كتاباً مفتوحاً في كل تفاصيله إلى الناس، بل ترك جزءاً كبيراً منها إلى بيان المعصومين (عليهم السلام) وتفسيرهم لها، وهو مفاد ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلَّا وله أصل في كتاب الله (عز وجل)، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(1).

بل حتى المتحدثين بأكثر من لغة حافظوا على هذا التعدد، حيث نجده يتكلم باللغة التخصصية حين يكون البحث تخصصياً، ويتكلم باللغة الثقافية في ضمن أروقة المثقفين والمفكرين، ويتكلم بلغة بسيطة جداً وعامية حين يكون مع أدنى مستويات الجنس البشري إدراكاً وفهماً، ولم يقتصر على لغة واحدة في الأروقة جميعاً إحساساً منه بضرورة تعدد اللغات وعدم إمكان توحيدها بلغة واحدة.

بل قد يتمكن الشخص من الحديث بلغتين، إلاّ انه بمنطق التزاحم وتوفير الوقت للعمل التخصصي يهمل الحديث بلغة الترجمة تاركاً هذه

ص: 121


1- الكافي للكليني 1: 60/ باب الردِّ إلىٰ الكتاب والسُّنَّة.../ ح 6.

المهمة إلى أصحابها، ومثله مشروع ومنطقي ولا يسجل مؤاخذة عليه، على شرط أن نفهم أهمية التفرغ العلمي وضرورة التخصص.

حصيلة هذا الحد:

إن ثمة فاصلاً واضحاً بين لغة الاختصاص ولغة الفهم العام، وأنه لا ضرورة تدعو المتخصص أن يتحدث بلغة عامية غير تخصصية، نعم، لا بد من وجود حلقة وصل بين المتخصص وبين العامة ليفهموا مصطلحات المتخصص.

وهكذا الحال في الاجتهاد، فإنه ليس من الضرورة أن يُكتب بلغة عامية يفهمها الجميع، بل له أروقته المعرفية التي تقتضي أن تكون اللغة المستعملة فيها تخصصية كما تبين، وعدم قدرته على بيان معانيه العلمية بلغة ثقافية لا يُشكل نقصاً فيه، نعم، يمكن لطلبة المجتهد أن يخففوا من ضغط المصطلحات وبيانها بلغة أقل تخصصاً، وهكذا وصولاً إلى لغة العامة.

ولذلك ينصح العديد من الأساتذة أنه عندما يريد طالب العلم أن يبين مسألة شرعية لغير طلبة العلم، أنّ عليه أن يختار المسائل الابتلائية من جهة، وأن يستخدم اللغة البسيطة في إيصال المعلومة وعدم استعمال المصطلحات العلمية، ولكن لا ضرورة لذلك في الدروس التخصصية الحوزوية، لأن لكل مقام مقالاً كما يُقال.

ص: 122

الحد الخامس: العدالة والتخصص
اشارة

وهنا نقطتان رئيستان:

النقطة الأولى: العلاقة العضوية بين العلم والعمل
اشارة

ويتم بيان ذلك من خلال الخطوات التالية:

الخطوة الأولى

لا يخفى على من يتابع النص الديني التأكيد البالغ على العلاقة بين العلم والعمل، ففي الوقت الذي نجد فيه جملة من النصوص تؤكد على مقولة العلم وأهميتها، نجد نصوصاً وافرة تؤكد على القيمة الكبيرة للعمل إلى جانب العلم.

إنَّ الآيات والروايات تدلُّ علىٰ الارتباط الوثيق بين الإيمان والعمل الصالح.

أمَّا الآيات فكثيرة، قال تعالىٰ: ]وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدىٰ [.(1)

وقال تعالىٰ: ]مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [.(2)

وقال تعالىٰ: ]وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ

ص: 123


1- طه: 82.
2- النحل: 97.

مِنْ أَمْرِنا يُسْراً [.(1)

وأمَّا الروايات فكثيرة أيضاً، منها: ما روي عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: أيُّها العالم أخبرني أيّ الأعمال أفضل عند الله؟ قال: «ما لا يقبل الله شيئاً إلَّا به»، قلت: وما هو؟ قال: «الإيمان بالله الذي لا إله إلَّا هو، أعلىٰ الأعمال درجةً وأشرفها منزلةً وأسناها حظًّا»، قال: قلت: ألَا تُخبرني عن الإيمان، أقول هو وعمل أم قول بلا عمل؟ فقال: «الإيمان عمل كلُّه، والقول بعض ذلك...»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «الإيمان والعمل أخوان شريكان في قرن، لا يقبل الله أحدهما إلَّا بصاحبه»(3).

ثم إن من الخطأ بمكان حصر مقولة العمل في السلوك الفيزيائي الخارجي، إذ إن العمل يبدأ من تلك الأنشطة النفسانية التي تستتبع مقولة العلم والادراك، لتمر بجملة من الأحاسيس الروحية لتنتهي بعدها إلى السلوك الفيزيائي الخارجي، فالعمل ليس مقتصراً على الخارج، بل يشمل كل الأفعال التي تقوم بها النفس سواء كان فعلاً داخلياً أو خارجياً، فالاعتقاد عمل، والنية عمل، والقصد عمل، والحب والبغض عمل، والانقياد والتجري عمل، والإرادة عمل...، والتأمل بالعلم عمل، والتفكر، والتدبر،

ص: 124


1- الكهف: 88.
2- انظر الرواية بطولها في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 33 - 37/ باب في أنَّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلِّها/ ح 1).
3- الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 1/ ص 479/ ح 3104).

وهكذا، هي وغيرها جميعاً تنتمي إلى مقولة العمل والسلوك، وتختتم في نهاية المطاف بالسلوك الفيزيائي الخارجي.

وهذه الأعمال الداخلية كانت مورداً للبحث والتنقيب من المتخصصين، سيما ضمن أروقتنا العلمية، فقد بحثت موضوعة الاعتقاد في المنطق والفلسفة والكلام، وبحث التجري والانقياد في الأصول، وفي فقه العبادات بحثت موضوعة النية، وفي فقه المعاملات بحثت موضوعة القصد وتقوّم العقود به، وفي البحث عن ماهية وحقيقة التقليد وجد رأي يقول بأن التقليد هو الالتزام النفساني.

الخطوة الثانية: العلاقة التبادلية بين العلم والعمل
اشارة

لقد قام الفلاسفة بتحليل هذه العلاقة العضوية بين العلم والعمل، لينتهوا إلى علاقة تبادلية بين الظاهرتين، ونبين ذلك بطريقتين:

الطريقة الأولى: مثالان عرفيان لبيان العلاقة بين العلم والعمل

وإذا أردت توضيح حقيقة العلاقة الوثيقة بين الإيمان والعمل الصالح فإليك مثالان للتوضيح(1):

الأوَّل: أنَّ للشجرة جذراً وأغصاناً وثماراً وأوراقاً، فكلَّما قوي الجذر قوي الجذع، فتزداد الأغصان وتكثر الأوراق وتُثمر الشجرة، وكلَّما زادت الأوراق استفادا أكثر من أشعَّة الشمس فيستفيد بالتالي الجذع فالجذر. فكلَّما

ص: 125


1- ملاك التفاضل في الإسلام- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- ص 94 و 95.

قوي هذا ازدادت تلك، وكلَّما ازدادت تلك قوي هذا.

وهكذا الإيمان، كلَّما قوي كثرت الأعمال الصالحة، وكلَّما كثرت الأعمال الصالحة قوي الإيمان.

الثاني: جهاز الهاتف النقّال (الموبايل) تعتمد الاستفادة منه علىٰ وجود (رصيد) وتوفُّر (شبكة)، ومن دون أحدهما لا يبقىٰ من الهاتف إلَّا جرمه! فلو أردت الاستفادة منه وعمل اتِّصال، فلا بدَّ لك من رصيد وشبكة.

وهكذا الاتِّصال مع الله تعالىٰ، لا بدَّ لك فيه من رصيد (هو الإيمان)، ومن شبكة اتِّصال قائمة وفعّالة (وهي الأعمال الصالحة).

الطريقة الثانية: التحليل الفلسفي للعلاقة بين العلم والعمل

هناك علاقة تفاعلية بين العلم والعمل، فكل واحد منهما يقدم لصاحبه ما ينفعه وما يجعل العلاقة عضوية بينهما.

فالعلم هو من يؤمِّن:

1.. المتعلق للعمل: فالأنشطة النفسانية، بحكم كونها أنشطة نفسانية فهي بحاجة إلى التعلق بالواقع، والمتعلق يتم تأمينه من خلال العلم، فهو من يمثل متعلق العمل والنشاط النفساني الداخلي.

فأنت عندما تتفكر في نفسك، فإنك تحتاج إلى واقع خارجي تتفكر فيه، ولو كان الواقع هو نفسك، والذي يوفر لك هذا المتعلق هو العلم.

2.. مقتضي العمل: في سلسلة مبادئ الفعل الاختياري (التصور ثم

ص: 126

التصديق ثم الحب والرغبة ثم الإرادة ثم العمل الفيزيائي الخارجي)، نجد أن العلم يمثل البنية التحتية لهذا الفعل، فالفعل والعمل ينبثق في أولى خطواته من العلم، ثم تتراكم هذه المبادئ لكي يظهر الفعل ويرى النور في نهاية المطاف.

والعمل هو:

أ.. الذي يقوم بمهمة توثيق العلم.

العلم ينتفع من العمل في استقراره وثباته في داخل النفس الإنسانية، العلم يستقر بالعمل، والعمل هو الأداة التي توثّق المعلومة، وتحولها من حالة الاستيداع إلى حالة الاستقرار، والعلم من دون عمل يبقى هشاً وعلى الهامش، فإذا عمل به العالم، ثبت واستقر.

وقد يتوهم البعض: أن المعلومة لا تحتاج الى أي عمل وسلوك خارجي لكي تستقر في داخل ذاته، فهو يتمكن أن يجعلها مستقرة من خلال التأمل أو التكرار بلا حاجة إلى إيجادها وترجمتها في سلوك خارجي.

ومنشأ هذا التوهم انه غفل عن أن التأمل أو تكرار المعلومة في داخل نفسه، هو نوع من أنواع العمل –كما أشرنا قبل قليل-، فليس العمل مقتصراً على البعد الخارجي دون العمل الداخلي النفساني.

وعلى هذا الأساس نجد أن العلماء والأساتذة الكبار وضعوا ملاحق في طبيعة وطريقة التعليم والتعلم في ضمن أروقتنا الحوزوية، كالمباحثة

ص: 127

والتدريس، والمذاكرة..، كل هذه أمور لترسيخ المعلومة وثباتها في داخل الذهن، وإلاّ كانت عرضة للمغادرة، وهو مفاد ما روي عن أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: الْعِلْمُ مَقْرُونٌ إِلَى الْعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، ومَنْ عَمِلَ عَلِمَ، والْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَه وإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْه.(1)

ب.. أن العمل هو الذي يساهم في إيجاد أرضية التطور في العلم.

فالأفكار والرؤى الإنسانية حينما تكون حبيسة البعد النظري فقط، فإن الكثير من الزوايا الحادة قد تغيب عن ذهن صاحب النظرية، وبالتالي سوف لن تنمو وتتطور هذه النظرية، ولكن لو نزلت هذه النظرية إلى أرض الواقع، وخضعت لتجربة حقيقية في الواقع، فإن الكثير من نقاط الخلل ربما ستظهر أثناء الممارسة العملية، أو إن صاحب النظرية سيلتفت إلى أمور أخرى لم تكن موجودة في نظريته، تُطوِّر تلك النظرية وتأخذ بيدها نحو الكمال.

العمل عموماً يخلق أرضية مناسبة للانفتاح على معلومات أرحب وأوسع، من خلال إخضاع الرؤى والأفكار والنظريات إلى البعد التطبيقي العملي، ولو كانت رهينة الجانب التجريدي فإنها لن تنمو أبداً، أو إن نموها سيكون نمواً غير نموذجي ومحفوفاً بالملابسات والإشكاليات.

وشاهد العلاقة العضوية بين العلم والعمل:

أن من كان مقتنعاً بأضرار التدخين على صحة الإنسان، وفي الوقت ذاته نجده يمارس فعل التدخين، نقول عنه: إن لديه ازدواجية بين الجانب العلمي

ص: 128


1- الكافي للكليني ج1 ص44 بَابُ اسْتِعْمَالِ الْعِلْمِ ح2.

والجانب العملي، وهذا التوصيف لم يكن ليتحقق إلا بسبب العلاقة العضوية بين الفكرة والسلوك الخارجي.

وبسبب هذه العلاقة العضوية بين العلم والعمل أيضاً، نجد أننا نتمكن في بعض الأحايين من فهم متبنيات الشخص والمبادئ التي ينطلق منها، على أساس ما يصدر منه من سلوكيات وأفعال وتصرفات، فالعمل كاشف إنّي عن المتبنى العلمي الذي صدر منه.

النقطة الثانية: ضرورة النزاهة السلوكية
اشارة

في مجمل التخصصات التي لها ارتباط بالإنسان، لا يكون العلم فقط هو المعيار الوحيد لاختيار هذا المتخصص دون ذاك، بل يقترن التخصص العلمي والمستوى المعرفي بمقدار معين من النزاهة المرتبطة بالسلوك.

ونعني بالنزاهة هنا: هي مطابقة السلوك الذي يمارسه المتخصص للفكرة والنظرية التي يتبناها ويؤمن بها.

فالطبيب -مثلاً- لا يمكن أن يكون أحد خيارات المريض ما لم يعتقد المريض بأن هذا الطبيب سوف يصف له الدواء وفق ما تقتضيه النظريات العلمية التخصصية التي يؤمن بها، أما لو كان هذا الطبيب محتالاً، ويريد أن يغش المريض بنوعية الدواء، أو يعطيه دواءً ليس بحاجة اليه...، فإن هذا الطبيب سوف لن يكون أحد خيارات المريض في علاجه من مرضه.

وهكذا الحال مع كل التخصصات الأخرى كالمهندس والبنّاء والنجار

ص: 129

وميكانيكي السيارات...، ففي كل هؤلاء نجد أن الإنسان بطبيعته يتحرك نحو الشخص النزيه الذي تتطابق فيه الفكرة والسلوك/ النظرية والتطبيق.

التماهي الحرفي بين النظرية والتطبيق
اشارة

في بعض التخصصات، سيما تلك التي ترتبط بالدين والفكر الديني، لا يتم الاكتفاء بالنزاهة التي تكلمنا عنها في النقطة الثانية، بل نجد أن الناس يبحثون عن تطابق ماهوي بين النظرية التي يدعو لها صاحبها وبين تطبيقه لتلك النظرية ومقدار تمثلها في ذاته.

فالشخص الذي يقول: إنه مرسل من السماء ومرتبط بها، وهو القرآن الناطق، وهو من يحمل العلوم الخاصة، ويحمل الحقيقة، لا يتم الاكتفاء فقط بالمقولة التي يحملها ومقدار حقانيتها ومطابقتها لنفس الأمر والواقع، بل يتم البحث عن مديات عليا من تمثُّل تلك النظرية والرؤية العالية في سلوك صاحب هذه النظرية، لتصل في بعض الأحيان إلى المطالبة بعصمته عن الخطأ والزلل.

فالشخص الذي يروج لموضوعة الاخلاق بين الناس، ويتكلم بالتواضع والزهد والكرم..، فإن هذا الشخص ما لم يكن متمثلاً لتلك المفاهيم في سلوكه وأفعاله، فلا أقل سوف يسري الشك حول حقيقة تلك المفاهيم، وهل إنها قابلة للتطبيق أو لا، فالناس تعتبر جزءً من صدق المقولة هو تمثل صاحب المقولة لها في سلوكه وأفعاله.

ص: 130

هذا فضلاً عن أن تأثيره بالناس وجذبهم نحو النظرية التي يدعو إليها متوقف على مقدار تمثلها في سلوكه كما هو واضح، ولذا روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «مَنْ نَصَبَ نَفْسَه لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِه قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِه، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُه بِسِيرَتِه قَبْلَ تَأْدِيبِه بِلِسَانِه، وَمُعَلِّمُ نَفْسِه وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ»(1).

التوأمة المطلوبة بين الصفتين: العلمية والعملية (ومن خلال الدليل في محله) تفرز لنا ثلاثة مستويات:

المستوى الأول: عصمة النبي والوصي

أو قل: العصمة العلمية والعملية في الوسيط بين السماء والغيب وبين الأمة.ففي هذا المستوى لا يتم الاكتفاء فقط بالعصمة على مستوى الفكرة والمعلومة، وإنما يُراد لهذه المعلومة أن تكون تطبيقاً وتمثّلاً في شخص هذا المعصوم، فلا يقبل في هذا المستوى أن تُمارس المعصية، بل لا يقبل حتى الخطأ والسهو فيه، فكانت التوأمة بين الشرط العلمي والشرط العملي بحد العصمة.

المستوى الثاني: الفقاهة والعدالة في المرجع الديني

ففي مستوى العلوم الدينية يتم التنازل عن شرط العصمة العلمية إلى

ص: 131


1- نهج البلاغة: 480/ ح 73.

الفقاهة والخبرة، كما يتم التنازل عن شرط العصمة العملية إلى العدالة في أعلى مستوياتها أو مطلق العدالة (على اختلاف الباحثين).

فالخطأ غير المقصود والسهو الذي يصدر عنه في العلم أو التطبيق مغتفر ومقبول، ولكن الشرط العملي لا يقف عند حدود صدقه في تسويقه للمعلومة، بل يتعدى ذلك ليصل إلى مستوى التزامه العملي الدقيق بما يقول، من دون المطالبة بعدم الخطأ أو السهو في ذلك.

المستوى الثالث: التخصص والنزاهة

في مستوى العلوم الحياتية (طبيب، مهندس، نجار، ميكانيكي..) يشترط -إلى جانب المستوى العلمي الذي يحمله وهو التخصص- شرط عملي يتعلق بصدقه في نقله وتسويقه لمعلومته، هو شرطٌ يُلزم هذا المتخصص أن لا يخون ولا يخادع من يرجع إليه في تخصصه، وكل ما عدا ذلك فليس مطلوباً ومراداً من قبل الناس، حتى لو يكن المتخصص ملتزماً في بعده العملي الشخصي بمعلومته التخصصية، فكل ما يطلب من الطبيب صدقه ونزاهته في نقل معلومته الطبية للمريض، أما كونه يطبقها أو لا في حياته الشخصية العملية فهو أمر لا يعني مراجعيه، ولذا قد نراجع طبيباً يمنعنا من الأكلات الدسمة وهو يأكلها، ونأخذ بدوائه ونصائحه، لأننا نعتقد بنزاهته في هذا المجال وإن خالف علمه عملياً.

ص: 132

حكمة تنوع الشرط العملي بتنوع الشرط العلمي

إن واحدة من الحِكَم والخلفيات في اشتراط العدالة في عالم الدين هو اختلاف مستويات توثيق المعلومة مع الواقع، ففي بعض الموارد يمكن للإنسان بنفسه أن يتوثق من المعلومة التي يحصل عليها، سواء من خلال التجربة أو أي أمر آخر يمكن له أن يلامس الواقع، فهنا لا يعنيه كثيراً أن من يتكلم بهذه المعلومة قد طبقها في عمله الشخصي أو لا، ولكن في بعض الموارد الأخرى لا يتمكن الإنسان بنفسه من توثيق هذه المعلومة؛ لأنها خارج إطار المعلومات التجريبية ونحوها، أو خارج قدرته على الوصول إليها بنفسه، حينها لابد من توفر شروط تؤمّن المصداقية بنحو أعلى وأكبر من تلك الشروط في المستوى الأول، ومن هذه الشروط: أن يكون ملتزماً وأميناً وعادلاً في سلوكه العملي، حتى يحصل الاطمئنان بتوفر المعادل الموضوعي للمسألة التجريبية كما في المستوى الأول.

حصيلة هذا الحد:

من كل ما تقدم يتبين:

أولاً: أن الدين يؤكد على الترابط العضوي بين العلم والعمل وعلى جميع المستويات.

ثانياً: أن العلم يتوثق بالعمل ويثبت، بحيث ينصهر تدريجياً مع وجود النفس فيشكل كمالاً من كمالاتها بعد أن كان عرضة للنسيان والغفلة، وهو معنى أن العلم يهتف بالعمل.

ص: 133

من زاوية أخرى فإن العمل يوسع من آفاق الإدراك والتعرف على الحقيقة في زواياها المختلفة.

ثالثاً: إن صدق الإدراك رهين بالعمل، وقد انعكس ذلك على علاقة الأمة بالعالِم؛ فكان أهم مقياس لصدقية فهمه وإدراكه هو مدى انسجامه بالتطبيق مع ما ينتهي إليه في البعد النظري.

رابعاً: إن اشتراط العدالة في مرجع التقاليد نابع من أننا اتبعنا أشخاصاً معصومين في تصرفاتهم وإدراكاتهم، فلم يرتض العقل بديلاً عنهم زمن الغيبة ما لم يكن على مرحلة عالية من الوثاقة والعدالة.

خامساً: هذه الشروط هي تعبير عن ارتباطات عضوية لا تقبل التفكيك أو التجزئة بين العلم والعمل، خصوصاً في مجال العلوم الإنسانية، وبالأخص العلوم الدينية المؤسسة على معرفة المطلق والارتباط به.

والعدالة هي الترجمة العملية في الفرد الذي يطرح تصوراته ومقولاته للمتابعة والتقليد.

الحد السادس: حجية اللغة المشتركة دون الخاصة

أ: واحد من أهم المرتكزات العقلائية في موضوعة التفهيم والتفاهم بين الناس هي اللغة المشتركة، هذه اللغة هي ما تسمح للتعاطي السلس داخل أروقة المجتمع بأن يفهم كلٌّ منهم الآخر، فتمتد من خلال هذه اللغة المشتركة جسور التواصل بينهم فعلاً وانفعالاً.

ص: 134

ب: واحدة من ثمرات اللغة المشتركة هو أن منها تنبثق موضوعة الحجية وإلزام الآخر، فإن اللغة المشتركة تمثل البنية التحتية والأساسية في تشييد هذه العلاقة، فلا يمكن للحجية أن تتأسس على أدوات مبهمة وغير مفهومة للجميع ولا يمكن قراءتها وتحليلها من قبل الآخرين.

وهذا المعنى سيال وضروري حتى مع اعتماد الوسيط، فإن حجية قول من أرسل الوسيط (كما لو أرسل الله تعالى نبياً يكون واسطة بيننا وبينه) مرهونة بكونها لغة عامة ومشتركة لمن هم دون الوسيط، بحيث يستعمل الوسيط لغة يفهمها الناس، لا أنها لغة خاصة بينه وبين الله تعالى، وإلا فكيف سنفهم مرادات الباري جل وعلا، وبالتالي، لو لم نفهم لغة الوسيط، فلا حجية له علينا.

على سبيل المثال لو ذهبت إلى الطبيب لغرض العلاج من مرض ما، وكان هذا الطبيب يعتمد على مصادر طبية خاصة، مجهولة تماماً لغير شخص هذا الطبيب، ولا يمكن لغيره الاطلاع عليها ونقدها وفهمها، وهي غير تلك المصادر الطبية التي يعتمدها الطب في العالم، حينها سيكون الرجوع إليه والتداوي على يده واعتبار مقولاته حجة وملزمة أمراً مجانباً للصواب جداً، حتى وإن كان الطبيب مورداً لثقة الآخرين وقبولهم من ناحية صدقه وعدم كذبه.

ج: لو لم يتوفر لدى الوسيط إلا اللغة الخاصة، فما هو البديل عن اللغة المشتركة؟

ص: 135

الجواب: لا بد من طريقة تثبت حقانية وبالتالي حجية ما يأتي به الوسيط، بحيث تكون كاشفة عن صدقه وبنسبة تامة، ومن هذا القبيل وجدنا أن الأنبياء، حيث إن مصدر معارفهم وعلومهم هو مصدر خاص (اللغة الوحيانية)، فلم يمكن أن يكون كلامهم حجة لولا موضوعة الإعجاز؛ لأن المعادلة التي يعتمدونها مجهولة تماماً بالنسبة لغيرهم، وهي غير قابلة للفهم والتحليل من قبل غيرهم، ولكن لكون الدليل دلّ على عصمتهم ولابدية تصديقهم، كان التسليم بمقولاتهم ضمن السياقات المنهجية العلمية.

فكل لغة خاصة لم يقم الدليل على حجيتها فهي بطبيعتها تدخل في دائرة اللا حجية.

د: ومنه نعلم أن اعتماد الأحلام أو قراءة الفنجان أو اعتماد غير المعصوم المكاشفة مصدراً معرفياً، كلها خارج دائرة الحجية.

ومثله ما لو ادّعى أحدٌ لقاء المعصوم في عصر الغيبة الصغرى ونقْل بعض التعليمات والأحكام عنه، فإنه خارج عن دائرة الحجية ولو كان مدعيه من أعلم العلماء وأقدسهم.

كل ذلك لأن هذه المصادر خاصة ولا تمثل لغة معرفية عامة قابلة للمتابعة والتحقق، ومن ثَمّ لا تصلح مصدراً معرفياً ولغة إلزام للآخر.

والذي يُراد قوله بالضبط: إن أي لغة لم تكن ضمن اللغات العامة والمشتركة، وكانت ضمن اللغات الخاصة، فهي في حجيتها تحتاج إلى دليل،

ص: 136

ولا يعني هذا أبداً القدح بالشخص الذي مارس هذه اللغة الخاصة واعتمد عليها، وإنما الكلام كل الكلام في حجيته وإلزامه للآخرين.

ه-: والسر الكامن وراء عدم حجية اللغة الخاصة، يرجع إلى أن الحجج في السياق الشرعي والعقلائي قائمة على فكرة بذل الجهد واستفراغ الوسع من أجل الوصول إلى مراد المقنن والمشرع، وهذا لا معنى له أبداً في اللغة الخاصة، إذ هي من الأساس ليست متاحة للجميع، ولا يمكن أن يفهمها غير مدعيها، فلو جاء شخص وألقى علينا حكماً شرعياً وقال عنه: إن هذا هو الحكم الذي يريده الله تبارك وتعالى، وقد أخبرني به الوحي، حينها ما هو الدليل الذي يجعلنا نصدق بهذا القول؟ وكيف يكون ذلك القوة حجة علينا لو لم يوجد أي طريق يمكنه من خلاله إثبات مقولته هذه؟

إنه لا بد من أحد أمرين: إما أن يتكلم بلغة نتمكن نحن بأدواتنا المعرفية المتاحة لنا أن نتأكد من صحتها، (وهذه غير متوفرة لفرض أنه ادعى الوحي أو ادعى أنه التقى بالمعصوم في عصر الغيبة)، وأما أن يأتي بمعجزة تثبت أولاً اتصاله بالغيب، وتثبت ثانياً صدقه في مدّعاه، وبالتالي تثبت حجيته علينا.

أما أن يأتي بأمر ودليله الأحلام، أو قراءة الفنجان، أو أنه التقى بالمعصوم ولم يثبت ذلك بمعجزة، فمن الواضح جداً أن هذا لا يكون حجة علينا أبداً، حتى لو فرضنا أنه صادق في مدّعاه، أي حتى لو فرضنا أنه فعلاً رأى في الحلم كذا، أو أنه التقى بالمعصوم، ولكن حيث لم يثبت لنا لقاءه بالمعصوم، فلا حجية له علينا.

ص: 137

إذا تبين كل هذا نقول:

أولاً: وضَع الاجتهاد الشيعي خطاً أحمر تجاه كل من يتحدث بهذه اللغات الخاصة في الشأن الديني العام، بحيث إن المنهج العام هو عدم حجية من يدّعي دعوى معينة ولا دليل له يمكن أن نفهمه سوى اللغة الخاصة التي يدّعيها.

ثانياً: إن موضع حركة الاجتهاد الشيعي هي ضمن دائرة اللغة المشتركة المتمثلة بالقرآن والسنة والعقل، ولم يقبل أن تكون أحد مصادره الأحلام والرؤى، أو أن تكون أحد مصادره أن الشخص الفلاني التقى بالإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) وأرشده إلى الحكم الكذائي، من دون أن يتعارض هذا مع لطفه ورعايته لنا في عصر الغيبة، فهذا موضوع آخر غير ما نتحدث فيه من حجية قول الشخص.

وهكذا لم يقبل الاجتهاد الشيعي أن تكون أحد المصادر هو أن الزاهد الفلاني حصل على الحكم الشرعي من خلال مكاشفة خاصة به، كل هذه وغيرها من المصادر غير المنهجية، لم يرتضها الاجتهاد الشيعي ووضع حولها خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه.

وفي الحقيقة، فإن هذا الأمر عقلائي، ومنهجي في نفس الوقت، وكل من رجع إلى وجدانه يجد أن قول الآخر إنما يكون حجة عليه إذا كان ضمن المنهج المفهوم للجميع، والذي يمكن أن يُستدل عليه بطريقة علمية، وهذا هو معنى اللغة المشتركة في الحجية، وأما لو كانت اللغة خاصة بصاحبها،

ص: 138

فلو فرضنا أنه صادق في حد نفسه، فإنه لا يكون حجة علينا، لفقدانه وسيلة الإثبات المنهجية.

علماً أن الحديث هنا ليس في صدد تكذيب من ادعى اللقاء بالمعصوم (عليه السلام) في غيبته ولا إثبات ذلك، وإنما حديثنا في حجية قول من ادّعى اللقاء وأخذ الأحكام الشرعية أو التعليمات منه، وفرق بين الأمرين.

فلسنا بصدد نفي أو اثبات الرؤية واللقاء بالإمام (عجل الله تعالى فرجه)، بل كل كلامنا يتمحور في إشكالية توظيف هذا اللقاء في نقل جملة من الأفكار والرؤى إلى الناس وأنه طريقة غير علمية وغير منهجية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم القبول من شخص لا يتحرك في سياق اللغة المتداولة العامة في استدلالاته، ولا يمتلك دليلاً على عصمته، ولم يأت بمعجز يعزز ما يقوله، ولم يقدم دليلاً قطعياً على حجيته..، ونجده ينتهي إلى مقولة: أنني رأيت هكذا بشكل خاص، فمثل هذا الشخص لا يمكن أبداً قبول مدعياته، ولو قبلنا بها لوقعنا في ازدواحية كبيرة، كيف! ونحن نطالب النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في إثبات صدق مقولاته إلى دليل كالعصمة أو المعجزة، في حين أننا نكتفي بما يقول هذا الشخص لصرف كونه صادقاً، بلا بينة ولا دليل!

ولذا لابد من التفكيك بين كون الانسان طيباً وصاحب سريرة حسنة، وبين أن يأخذ موقع السفارة الخاصة والباب مع الامام (عجل الله تعالى فرجه)، فهاتان مساحتان لا ينبغي الخلط بينهما، فالعقلاء لا يقبلون من شخص يتصف بالصدق والطيب أن يأخذ موقع الطبيب ليصف لهم الدواء في علاج أمراضهم،

ص: 139

وهكذا الحال مع باقي التخصصات، فالقفز في المواقع بلا أي قانون أو ضوابط يؤدي بنا إلى فوضى عارمة.

يجب أن نفهم: أن مدعي اللقاء مع صاحب الامر (عجل الله تعالى فرجه) لا يكفي في تصديقه صرف كونه صادقاً وإنساناً خيّراً؛ لاحتمال توهمه أو وقوعه في الخطأ، وإن كان صادقاً، لأنه غير معصوم حسب الفرض، ولم يأت بمعجزة تدل على صدق مدعاه.

الحد السابع: نيابة عامة لا خاصة
اشارة

يحتل شخص المعصوم مكانة خاصة في الوجدان الشيعي لما يمثله في المستوى النظري من حلقة الوصل بين الأرض والسماء، وفي المستوى العملي من تجسيد لكل معاني السمو والكمال.

بالإضافة: إلى دخوله في هوية النسيج العقدي والاجتماعي لهذا التشكل، فإن إيماننا بالمعصوم لا يقتصر على كونه واسطة بيننا وبين النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) والباري جل وعلا، وإنما صار إيماننا به (عليه السلام) مفصلاً أساسياً لانتمائنا، ومميزاً لنا عن غيرنا، وانتماؤنا لهذا المذهب الحق لم يكن من دون إيماننا بالمعصومين (عليهم السلام).

من ثم كان أدنى نوع اتصال به يمثل شرفاً عظيماً، ونحن نقدّر –كثيراً- الرواة الذي سمعوا الحديث منهم (عليهم السلام) ونقلوه لنا بكل أمانة، ونجلهم، ونحترمهم.

وهكذا الأمر لو كانت العلاقة معه (عليه السلام) حاصلة في عصر الغيبة، فكان

ص: 140

اللقاء به (سلام الله عليه) أمنية تراود نفس كل شيعي وغاية سامية يرنو إليها كل موالٍ.

وقد دوّن لنا التاريخ أسماء شخوص طهرت نفوسهم وارتقوا في مراتب الإيمان، فنالوا شرف اللقاء به (عجل الله تعالى فرجه) منهم السيد ابن طاووس والسيد بحر العلوم وغيرهم.

ولكن السؤال: في عصر الغيبة، هل يمكن أن ينعكس اللقاء بالإمام (عجل الله تعالى فرجه) على العلاقة بين الأمة ومن نال ذلك الشرف أو لا؟

هل يمكن أن نقبل إخبار من التقى الإمام بحُكمٍ شرعي أو فكرة أو مقولة أو توجيه إزاء واقعة محددة وحدث معين؟

هل يكون مفاد ذلك الإخبار ملزماً لنا باعتباره صادراً من الإمام مباشرة؟

الجواب:

بالتحليل، فإن النقل عن الإمام مباشرة وعبر دعوى لقائه لا يمثل طريقاً منهجياً (مع كل ما يحمله لقاء الإمام من مداليل عميقة في حد نفسه) يمكن أن يعتمد في الحصول على حكم أو موقف شرعي؛ لأن ثمة عنصرين يمنعان من ذلك، هما:

العنصر الأول: أنه لغة خاصة لا عامة

إن الحكم الشرعي يمثل وجهة نظر الشارع تجاه مختلف الأحداث، الاجتماعية منها والسياسية والثقافية وغيرها، فهو يحدد موقف المكلف

ص: 141

وطريقة تعاطيه مع مختلف الأحداث مهما كانت خطورتها أو صغرها، وهو في الوقت ذاته لا يقتصر على زمان دون زمان، بل يتجاوز الزمان ليحدد الموقف منها مهما ابتعدت عن عصر النص والحضور.

فالحكم الشرعي يؤثر بصورة مباشرة على مقدرات الناس من الأنفس والأموال والأعراض بل ربما الأمم، لذا فهو لا يمكن أن يقوم على آلية ذاتية وذات طابع فردي (ولغة خاصة) كاللقاء بشخص الإمام (عجل الله تعالى فرجه) في غيبته ونقل الحكم عنه (عجل الله تعالى فرجه)، إذ مثل هذا اللقاء -لو كان- فهو يفتقد منطقيته؛ باعتباره حالة استثنائية غير متاحة للعموم كي يصلح لغة مشتركة بينهم تصلح للتفاهم والاحتجاج والإقناع، وبالتالي فلا طريق لها لأن تكون ملزمة لغير من حظي بها، ومن ثم فهي تبقى في دائرة الدعاوى غير المستدلة والتي تختص قيمتها القانونية -لو صدقت- بصاحبها.

لا بد للحكم الشرعي (ولكل معرفة يراد توصيلها للآخرين) من قنوات منهجية واضحة وعامة تكون هي المعيار في قبوله أو رفضه، وهذا أمر تقضي به طبيعة الأمور ذات التداول العام بين أبناء البشر، فالبيع والشراء مثلاً في التعاملات السوقية اليومية يتم من خلال وحدات قياسية ثابتة متفق عليها مسبقاً، لتكون هي المرجع في تحديد قيم الأشياء، مع الفارق الكبير بين التداعيات المترتبة على كل من الأمرين.

ص: 142

العنصر الثاني: الأدلة الدالة على انقطاع النيابة الخاصة زمن الغيبة الصغرى

إن هناك الكثير من النصوص الدينية التي تؤكد انقطاع الصلة بالإمام (عجل الله تعالى فرجه) في عصر الغيبة، وانحصار طريق أخذ الأحكام الشرعية في رواة أحاديث الأئمة (عليهم السلام), منها ما دل على أن من ادعى الرؤية كاذب، وما دل على بدء الغيبة الكبرى للإمام (عجل الله تعالى فرجه) وحصر أخذ الأحكام الشرعية في الرواة (فإنهم حجتي عليكم). بل بات هذا الأمر من الثوابت المذهبية المحسومة التي لا تقبل الاجتهاد والرأي الآخر والتعدد.

من خلال ما تقدم يمكن أن نخلص إلى أن المجتهد لا يملك النيابة الخاصة، بل إن أقصى ما يمثله هي النيابة العامة في حدود المنهجية الموضوعة لذلك.

وحتى تتضح الصورة أكثر، نذكر الاستطراد التالي:

استطراد: أدلة انقطاع النيابة الخاصة(1):

هنالك أدلة عديدة على انقطاع السفارة، منها:

أولاً: إن انقطاع النيابة والسفارة من أوليات وبديهيات وضروريات مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ولا تجد عالماً يُشكّك في ذلك، وكل من قال بغير ذلك –لو وُجد- فهو خارج عن هذه الضرورة ولا يُعبأ به.

ص: 143


1- مستفاد من مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام) بتصرف وإضافة.

(قال الشيخ سعد بن عبد الله الأشعري القمّي - وقد كان معاصراً للإمام العسكري عليه السلام، وكان شيخ الطائفة وفقيهها - في كتابه المقالات والفِرق بعد أن بيّن لزوم الاعتقاد بغيبة الإمام عجّل الله فرجه، وانقطاع الارتباط به: فهذه سبيل الإمامة، وهذا المنهج الواضح، والغرض الواجب اللازم الذي لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإماميّة المهتدية رحمة الله عليها، وعلى ذلك إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن عليّ رضوان الله عليه.)(1)

ثانياً: إجماع الفقهاء على انقطاع النيابة وإجماعهم على كفر وضلال مدّعي السفارة والنيابة.

قال ابن قولويه (رحمه الله): (... لأن عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري (رحمه الله) فهو كافر منمس ضال مضل...).(2)

ثالثاً: التواتر:

ومعناه: إن للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) غيبتين: غيبة صغرى وغيبة كبرى، وإن من الفارق بينهما: هو أن الغيبة الصغرى يكون الخفاء فيها ليس تاماً لوجود تمثيل رسمي للإمام (عجّل الله فرجه) من خلال السفراء والنواب الخاصين، وأن الغيبة الكبرى يكون الخفاء فيها تاماً، أي يكون الانقطاع تاماً، كما أن انتهاء الغيبة الصغرى يكون بانقطاع السفارة والنيابة الخاصة، في حين أن انتهاء الغيبة الكبرى يكون بظهور الإمام (عجّل الله فرجه) وبيعته وإقامة دولته وبروز جهاز إدارته.

ص: 144


1- المقالات والفرق للأشعري حسب نقل الشيخ محمد السند في كتابه: فقه علائم الظهور ص 22.
2- الغيبة للشيخ الطوسي: ص412، ح385.

وهذا أمر متفق عليه لدى الجميع، فلو جاء شخص وادعى أنه التقى بالإمام (عجل الله تعالى فرجه) وأنه سفيره إلى الناس، لأمكن أن يأتي شخص ثانٍ وثال وعاشر، وبالتالي لا يكون فرق بين الغيبتين.

رابعاً: ومما يؤيد التسليم بانقطاع السفارة الخاصة، هو أن (علماء سنة الخلافة وجماعة السلطان قد اشتهر بينهم عن الإماميّة ذلك، وأخذوا يصيغون الإشكالات بانعدام الإمام (عجّل الله فرجه) مع انقطاعه عن شيعته في أكثر كتبهم الكلاميّة والمؤلّفة في الملل والمذاهب.)(1)

فمثل هذه الإشكالات التي طرحوها لا وجه لها لو يكن انقطاع السفارة الخاصة مسلّماً لدى الشيعة، ومشتهراً لدى الجميع، لذا استغلوا هذه الحقيقة لصياغة بعض الإشكالات، والتي أجاب عنها علماؤنا بالتفصيل.(2)

خامساً: التوقيع المبارك المروي بتوسط النائب الرابع علي بن محمد السمري (رضي الله عنه)، إذ روى الشيخ الصدوق قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المكتب قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ علي بن محمد السمري (قدس الله روحه) فحضرته قبل وفاته بأيام فأخرج إلى الناس توقيعا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية، فلا

ص: 145


1- فقه علائم الظهور للشيخ محمد السند ص 24.
2- لمزيد اطلاع يمكن مراجعة كتاب: شذرات مهدوية للشيخ حسين الأسدي – الشذرة التاسعة: الغيبة المهدوية.

ظهور إلا بعد إذن الله عز وجل وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه. ومضى رضي الله عنه، فهذا آخر كلام سمع منه.(1)

إن المشاهدة المنفية في نص الإمام لا تخلو عن أحد معنيين:

الأول: نفي مطلق المشاهدة.

الثاني: نفي بعض المشاهدة.

أمّا الأول، فباطل بالوجدان، لحدوث المشاهدة من عدة من أساطين الفقهاء والعلماء وتشرفهم بلقائه (عجّل الله فرجه)، حتى إن ثلة منهم نقل عنه (عجّل الله فرجه) بعض الأدعية المسطرة في كتب الشيعة مع عدم دعواهم للسفارة.

فلابد من أن ينحصر المعنى بالثاني (أي نفي بعض مصاديق المشاهدة)، وهذا البعض المنفي لابد أن يكون المراد منه المشاهدة مع ادعاء الوساطة والارتباط المباشر بالإمام (عجّل الله فرجه)، بقرينة أن التوقيع صدر قرب وفاة السمري، حيث ورد في أوله تعزية الإمام (عجّل الله فرجه) المؤمنين بموت السمري ما بينه وبين ستة

ص: 146


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 516 ب 45 ح 44 ورواه الشيخ الطوسي في الغيبة ص 395 ح 365.

أيام، ثم أمْرُه (عليه السلام) السمري بعدم الوصاية إلى أحد يقوم مقامه بعد وفاته، إذ قد وقعت الغيبة التامة، وأنه لا ظهور حتى يأذن الله تعالى ذكره، وهذه كلها قرائن على أن سياق الكلام دال على تكذيب المشاهدة مع دعوى النيابة والسفارة بعد السمري (رضي الله عنه). فتكون المشاهدة بمعنى السفارة من المحكمات.

على أنه ينبغي أن نلاحظ التالي:

إن التوقيع الشريف، إن كان ينفي خصوص السفارة فبها، وإن كان ينفي مطلق المشاهدة، بما يشمل السفارة والرؤية من دون ادعائها، فهو أيضاً بالتالي ينفي السفارة الخاصة. إذ السفارة أخص من مطلق الرؤية، والخاص ينتفي بانتفاء المطلق والعام.

ص: 147

ص: 148

النقطة السادسة: ضرورة الرجوع إلى الفقهاء في زمن الغيبة الكبرى
اشارة

بعد أن عرفنا الخطوط العامة للاجتهاد وموضعه في منظومة التشريع، وحدوده التي لا يجوز تجاوزها أو التغافل عنها، فمن المناسب أن تعرض إلى ضرورة الرجوع إلى الفقهاء زمن الغيبة الكبرى، مما يُسمى بالتقليد، وبيان هذه الضرورة يكون ضمن خطوات خمسة:

الخطوة الأولى: التعريف بالتقليد عموماً

الخطوة الثانية: أين يقع التقليد؟

الخطوة الثالثة: أدلة لزوم التقليد.

الخطوة الرابعة: جذور المرجعية (بمعنى الرجوع إلى العلماء في أمور الدين)في الإسلام.

الخطوة الخامسة: بعض الإشكالات على التقليد والجواب عنها

الخطوة الأولى: التعريف بالتقليد عموماً
اشارة

الخطوة الأولى: التعريف بالتقليد عموماً(1).

التقليد بمعناه العامِّ الشَّامل لباب الأحكام الشَّرعيَّة وغيرها هو: (متابعة

ص: 149


1- انظر كتاب: مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة- للشيخ جاسم الوائلي ص 19 وما بعدها.

شخصٍ لغيره في فعلٍ أو قولٍ من دون أنْ يعرف مستنده في اختياره لذلك الفعل أو القول).

ومن أمثلته: متابعة المريض لقول الطبيب فيما يأمره بفعله، كشرب دواء معيَّنٍ، أو فيما يأمره بتركه، كترك أكلة معيَّنةٍ، فيتابعه في كلِّ ما يقول له بخصوص مرضه، مع أنَّه لا يعرف ما هو مستند الطبيب فيما قاله.

ومن أمثلته الواضحة: متابعة العامِّيِّ للفقيه في كُلِّ ما يفتي به، فلو قال الفقيه بوجوب شيءٍ فالعاميُّ يقول بوجوبه أيضاً متابعةً منه لذلك الفقيه فيما قاله، ومن دون أنْ يعرف ما هو دليل الفقيه علىٰ ذلك الوجوب.

أقسام التقليد
اشارة

وينقسم التقليد إلىٰ قسمين:

1- التقليد غير المبرَّر

وهذا كما يصنعه السفهاء ممَّن أشار إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما رُوي عنه في النهج: «وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَىٰ رُكْنٍ وَثِيقٍ»(1)، وما أكثر هؤلاء في كلِّ زمان.

وما من عاقل إلَّا ويستهجن هذا القسم من التقليد، بل إنَّ قبحه من الواضحات التي لا تحتاج إلىٰ دليل، ولك أنْ تُسمِّيه ب (التقليد الأعمىٰ).

ص: 150


1- نهج البلاغة (قصار الحِكَم/ الحكمة 147).
2- التقليد المبرَّر

وهو رجوع غير المُختصِّ إلىٰ المُختصِّ، ويُعبَّر عنه برجوع الجاهل إلىٰ العالم، أي رجوع الجاهل في شيءٍ إلىٰ العالم بذلك الشيء.

وأمثلة هذا القسم لا تُعَدُّ ولا تُحصىٰ، وهو ممَّا حكم العقل بحسنه، وأمر الشرع به، وجرت عليه سيرة العقلاء، ولك أنْ تُسمِّيه ب (التقليد الواعي)...

وتقليد العوامِّ للفقهاء في مجال الأحكام الفرعيَّة هو من قبيل التقليد المبرَّر والواعي...

وينقسم التقليد الواعي إلىٰ قسمين:

1 - التقليد في الأُمور العمليَّة، وهو: (متابعة غير الخبير في فعلٍ من الأفعال لمن هو خبيرٌ في ذلك الفعل ثقةً بخبرته).

والمبرِّر لهذا التقليد: فقدانُ الخبرة لدىٰ التابع، ووجودُها لدىٰ المتبوع.

ومن هذا القبيل تقليد أصحاب المِهَن والحِرَف والفنون، فإنَّ العامل يتبع فعل الأُستاذ في تلك الحِرفة ليُتقِن الصَّنعة، ويستفيد من خبرته فيها، كما في مِهنة الخياطة، والنِّجارة، والحِدادة، والبناء، وإصلاح المكائن والمركبات، وكذا في مجال السينما، والمسرح، والفنون التشكيليَّة من الخطِّ، والرسم، والنحت، والتطريز، وغيرها، وكذا في مختلف فنون الأدب، إلىٰ غير ذلك ممَّا لم نذكره.

ولو أنَّ شخصاً تعاطىٰ مهنة الخياطة مثلاً قبل أنْ يُتقِنها فإنَّ العقلاء

ص: 151

يلقون باللَّوم عليه، ويحكمون بأنَّه ضامن لما يتلفه بسبب جهله.

ولذا ترىٰ كثيراً من العقلاء يشترطون علىٰ الأُستاذ أنْ يباشر العمل بنفسه فيما لو كانوا يشكُّون في قُدُرات عامله.

وقد جرت سيرة العقلاء - بمختلف أديانهم ومعتقداتهم - علىٰ الرجوع إلىٰ ذوي الاختصاص في جميع تلك المجالات، ومن رجع فيها إلىٰ غير المختصِّين كان مَلوماً عند العقلاء، حتَّىٰ لو جاءت النتيجة في صالحه وكما يريد.

2 - التقليد في الأُمور العلميَّة، وهو: (متابعة الجاهل بشيءٍ لقول العالم به من دون معرفة مستنده ثقةً بعلمه).

والمبرِّرُ هنا هو: فقدان العلم لدىٰ التابع، ووجدانه لدىٰ المتبوع.

ومن هذا القبيل متابعة العقلاء لأصحاب العلوم فيما توصَّلوا إليه من نتائج والأخذ بقولهم فيها من دون مطالبتهم بالدليل علىٰ ما يقولون، باعتبار أنَّهم ذوو اختصاصٍ في تلك العلوم، وأمثلته كثيرةٌ جدًّا يتعسَّر، بل يتعذَّر حصرها...

وتقليد العوامِّ للفقهاء يندرج في هذا القسم من التقليد الواعي، أعني التقليد في الأُمور العلميَّة، حيث يأخذون الأحكام الفقهيَّة من الفقهاء بما أنَّهم أصحاب الاختصاص في علم الفقه، فإنَّ العلوم الدِّينيَّة منها ما يتناول المسائل العقديَّة، ومنها ما يتناول المسائل الأخلاقيَّة، ومنها ما يتناول المسائل

ص: 152

الفقهيَّة، والعوامُّ إنَّما يتابعون الفقهاء في خصوص المسائل الفقهيَّة.

الخطوة الثانية: أين يقع التقليد؟

تقدم في التمهيد المعرفي في بداية هذه الدروس أن من الفروق بين الأصول والفروع هو جواز التقليد في الثانية دون الأولى، وهذا يعني أن التقليد الذي نتحدث عنه إنما هو التقليد في الفروع والمسائل الفقهية، (والواجب علىٰ كلِّ مسلمٍ أنْ يمتثل جميع الأحكام التي يُبتلىٰ بها في حياته، ومن البديهي أنَّ امتثالها يتوقَّف علىٰ العلم بها أوَّلاً، وحيث لا يمكن من الناحية العمليَّة أنْ يُعطِّل جميع المكلَّفين حياتهم ويتفرَّغوا للاشتغال باستنباطها، فتعيَّن أنْ تتفرَّغ جماعةٌ لهذه المَهمَّة، وعلىٰ الباقين الأخذ منها، كما أشار إلىٰ ذلك قوله تعالىٰ: ]وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[.(1)(2)

مع الالتفات إلى (أنَّ الأحكام التي يجب تعلُّمها من أجل امتثالها علىٰ قسمين:

1 - ما لا يتوقَّف العلم بها علىٰ الاجتهاد، ويمكن أنْ نصطلح عليها اسم (الأحكام الواضحة).

2 - ما يتوقَّف العلم بها علىٰ الاجتهاد، ويمكن أنْ نصطلح عليها اسم (الأحكام الاجتهاديَّة).

ص: 153


1- التوبة: 122.
2- مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة- للشيخ جاسم الوائلي 27.

أمَّا الأحكام الواضحة فتنحصر في دائرةٍ ضيِّقة، وتُشكِّل نسبةً ضئيلةً جدًّا من بين مجموع الأحكام، كوجوب الصلوات اليوميَّة مثلاً، ووجوب صوم شهر رمضان، والزكاة، والخُمُس، والحجِّ، والجهاد، وغيرها من الأفعال التي وجوبها من واضحات الدِّين، أو المذهب.

وكحرمة قتل النفس المحترمة، والزِّنا، واللواط، والسَّرقة، وشرب الخمر، وغيرها من المحرَّمات التي يتساوىٰ في العلم بحرمتها الفقهاءُ والعوامُّ.

وكاستحباب إعانة الفقراء والمساكين، وبناء مأوىٰ للأيتام أو المسنِّين، وإماطة الأذىٰ عن طريق المستطرقين، أو بناء مدرسةٍ، أو مشفىٰ، أو تعبيد طريقٍ، أو غير ذلك ممَّا لا يختلف مؤمنان في استحبابه في شرع الإسلام، أو المذهب.

وهذا القسم من الأحكام لا حاجة فيه إلىٰ تقليد الفقهاء بعد كونه من الواضحات المستغنية عن عمليَّة الاستنباط.

وأمَّا الأحكام الاجتهاديَّة فهي الغالبيَّة العظمىٰ من الأحكام الشرعيَّة، بحيث لو قيل: إنَّها تُشكِّل نسبة تسعة وتسعين بالمائة من مجموع الأحكام لكانت قليلةً، لأنَّها أكثر من ذلك قطعاً.(1)

وأما أصول الدين فالأًصل فيها هو عدم تقليد الغير، لأن المطلوب فيها

ص: 154


1- مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة- للشيخ جاسم الوائلي ص28.

هو تحصيل الاعتقاد والدليل القطعي على حقانية المعتقد، نعم، يمكن أخذ الدليل من الآخر والنظر فيه والاقتناع القطعي به، كما يحصل عندما نتعلم مسائل العقائد الدينية على يدي الأساتذة.

الخطوة الثالثة: أدلة لزوم التقليد
اشارة

ذكرت العديد من الأدلة والتنبيهات على ضرورة الرجوع إلى الفقهاء في معرفة الحكم الشرعي، ومنها التالي:

الدليل الأول: انحصار طريق تحصيل الحكم الشرعي بالتقليد
اشارة

لا شك أننا مخاطبون بتكاليف شرعية، ومن اللازم علينا أداؤها، ومن الواضح أنه لا يمكن امتثال التكليف الشرعي إلا بعد معرفته ومعرفة حدوده، فكيف لنا أن نعرف الحكم الشرعي؟

لو كنا في زمن الظهور، وكنا بالقرب من المعصوم بحيث يمكن أن نصل إليه مباشرة، لأمكن الرجوع مباشرة إلى المعصوم لمعرفته.

ولكن ماذا لو كان المعصوم غائباً؟

إنه ينحصر الأمر بأحد طرق ثلاثة:

الأول: الاجتهاد

أن يصبح كل واحد منها مجتهداً، يستنبط الحكم الشرعي من مصادره، وهذا الطريق وإن كان ممكناً عقلاً، ولكنه في الواقع ممتنع وقوعاً، إذ فضلاً عن صعوبته بما يصل إلى حد الامتناع على كثير من الناس، فإنه يؤدي إلى

ص: 155

تعطيل الحياة، إذ إن الوصول إلى مرحلة الاستنباط يحتاج إلى سنين طويلة من الدراسة والبحث والتنقيب وإتقان العديد من العلوم.

ولو أمكن ذلك فرضاً، فنسأل: في فترة الدراسة، وقبل الوصول إلى مرحلة الاجتهاد، كيف سنمتثل الأحكام الشرعية، وكيف سنعرفها؟ بعد الفراغ عن حرمة ترك امتثالها على البالغين كما هو واضح.

فهذا الطريق مستحيل، أو إنه تلزم منه محذورات لا يمكن تجاوزها.

الثاني: الاحتياط

بأن يعمل كل واحد من المكلفين على أن يمتثل ما يتيقن معه بفراغ الذمة.

(والقطع بفراغ الذمَّة تارةً يتوقَّف علىٰ الإتيان بالعمل، وتارةً أُخرىٰ يتوقَّف علىٰ تركه، وثالثةً يتوقَّف علىٰ تكراره.

مثال الأوَّل: ما لو أفتىٰ فقيهٌ بوجوب الإقامة للصلاة، وأفتىٰ فقيهٌ آخر بعدم وجوبها، ولا يتحقَّق الاحتياط بلحاظ الإقامة إلَّا بالإتيان بها.

ومثال الثاني: ما لو أفتىٰ فقيه بحرمة التدخين، وأفتىٰ آخر بجوازه، والاحتياط في ذلك يحقَّق بترك التدخين.

ومثال الثالث: ما لو أفتىٰ فقيهٌ بأنَّ الصلاة في المكان الفلاني يجب الإتيان بها قصراً، وأفتىٰ آخر بوجوب الإتيان بها تماماً، والاحتياط فيها يتحقَّق بالإتيان بها مرَّتين، مرَّة تماماً، وأُخرىٰ قصراً.)(1)

ص: 156


1- مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة ص31.

وهذا الأمر وإن كان ممكنا، ولكنه يلزم منه عدة محاذير: أهمها: الوقوع في الحرج وربما الوقوع في ما لا يمكن امتثاله، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة، بأن وجدنا فقيهاً يقول بوجوب شيء، وآخر بحرمته، فإن الاحتياط في مثل هذه الحالة مستحيل، وأي طرف يختاره المكلف، يكون قد عصى الطرف الآخر، (كما لو أفتىٰ فقيهٌ بوجوب صلاة الجمعة تعييناً في زمن الغيبة، بمعنىٰ عدم مشروعيَّة صلاة الظهر في يوم الجمعة، وأفتىٰ فقيه آخر بعكسه، أي بوجوب صلاة الظهر تعييناً، وعدم مشروعيَّة صلاة الجمعة، فإنَّ العاميَّ لو أراد الاحتياط بين هذين القولين لم يمكنه ذلك، لأنَّه لو أتىٰ بصلاة الجمعة فيحتمل أنَّه ارتكب محرَّماً، لاحتمال أنَّ الذي أفتىٰ بحرمتها قد أصاب في فتواه، ولو تركها وأتىٰ بصلاة الظهر فيحتمل أنَّه ترك واجباً، لاحتمال أنَّ الذي أفتىٰ بوجوب صلاة الجمعة هو المصيب.)(1)

على أن الاحتياط في جميع المسائل يلزم منه الحرج وربما الضرر في بعض الأحيان كما تبين.

الثالث: التقليد

بأن يتفرغ قسم من المؤمنين لطلب العلم حتى الوصول إلى درجة الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية، ويرجع إليهم بقية المكلفين، مع بقاء كل صنف منهم على اختصاصه الحياتي، وبذا تستمر الحياة من جهة، ويكون معرفة وبالتالي العمل بالحكم الشرعي متاحاً للجميع بأيسر الطرق.

ص: 157


1- مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة ص 31.

وهذا هو الطريق المتعين لعامة المكلفين.

الدليل الثاني: السيرة العقلائية على رجوع الجاهل إلى العالم

سيرة العقلاء تعني: عادة العقلاء التي يجرون عليها، وهذه السيرة يمكن أن تكون مستنداً للحكم الشرعي فيما لو لم يجد الفقيه آية أو رواية تدل عليه، لكن دليليتها مشروطة بشروط، خلاصتها(1):

1 - أنْ تكون السيرة جارية في زمان المعصوم، وإلا، فلو حدثت بعده، فلا يمكن الاستناد إليها.

2 - أنْ يسكت المعصوم عن تلك السيرة، ولا ينهىٰ عنها، إذ إن نهيه كاشف عن عدم رضاه بها، فلا تكون مستنداً لحكم شرعي معين.

وسكوت المعصوم (عليه السلام) عن السيرة يُعبَّر عنه تارةً ب (عدم الردع)، وتارةً ب (الإمضاء)، فيقال: هذه سيرةٌ لم يُردَع عنها، أو سيرةٌ مُمضاة، وهو يدلُّ علىٰ جوازها شرعاً.

3 - أنْ يكون سكوته عنها دالًّا علىٰ رضاه بها، أي أن لا يكون سكوته لأجل التقية، وإلَّا فلو كان سكوته في ظرف التقيَّة مثلاً فلا يكون دالًّا علىٰ رضاه بها، لاحتمال أنَّه لم يكن يرتضيها، ولكن منعته التقيَّة من النهي عنها.

فإذا اجتمعت الشرائط المذكورة في سيرةٍ من سِيَرِ العقلاء كانت حُجَّةً، ويمكن للفقيه أنْ يستكشف المشروعيَّة منها.

ص: 158


1- انظر: مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة- الشيخ جاسم الوائلي ص 61 و62 بتصرف.

إذا اتَّضح لك هذا فنقول: لقد جرت سيرة العقلاء بما هم عقلاء علىٰ رجوع غير المُختصِّين في أي مجالٍ من مجالات الحياة إلىٰ المختصِّ في ذلك المجال، كما في الطبِّ، والهندسة، والصناعة، والزراعة، وغيرها.

وهذا من أوضح الواضحات التي لا يناقش فيها إلَّا جاهلٌ، أو مغرضٌ، أو معاندٌ، أو مختلُّ العقل.

وهذه السيرة قديمة بقِدَم البشريَّة، فهي سابقة علىٰ الإسلام بقرون.

ثم إن هذه السيرة قامت في رجوع الجاهل بالحكم الشرعي إلى العالم به، ولو كانت مرفوضة شرعاً في مجال أخذ الأحكام الشرعيَّة لوجب الردع عنها، لأن ذلك من وظيفة المعصوم، لأن وظيفته (عليه السلام) هو بيان الحكم الشرعي وبيان الطرق المرضية التي تكشف عنه، ولو لم يبين مع قدرته على ذلك لكان هذا تقصيراً في أداء مهمته التبليغية، والمعصوم يُجلّ عن هذا التقصير.

وحيث لم يصدر أيُّ ردعٍ عنها من المعصومين (عليهم السلام) ابتداءً من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانتهاءً بالحسن العسكريِّ (عليه السلام) فتكون سيرة ممضاةً، وبإمضائها يثبت أنَّ تقليد الفقهاء العدول أمر جائز بلا أدنىٰ شكٍّ، ومن شكَّ في ذلك فهو وسواسيٌّ، والوسواسيُّ لا يُعتنىٰ بوسوسته وشكِّه.

والذي يشهد بهذه السيرة هي النصوص الكثيرة، والتي سيأتي بعضها إن شاء الله تعالى.

ص: 159

الدليل الثالث: سيرة المتشرعة

تعني سيرة المتشرعة: هو السلوك الذي جرى عليه المتشرعة والمتدينون من زمن صدر الإسلام وإلى يومنا هذا، وهذه السيرة يمكن أن يعتمد عليها الفقيه في الاستدلال على حكم شرعي لم يجد فيه آية أو رواية، ببيان:

إن الحديث عن متشرعة كانوا معاصرين للمعصوم (عليه السلام)، وكان يسهل عليهم الوصول إلى المعصوم وأخذ الحكم الشرعي منه، ومع ذلك كانوا يلتزمون بسيرة معينة، فهذا يعني أنهم كانوا قد أخذوا الجواز في تلك السيرة من المعصوم، وإلا، للزمت بعض الأمور التي نجزم بعدم تحقق أي واحد منها، من قبيل: أن كل المتشرعة والمتدينين غفلوا عن سؤال المعصوم عن حكم مسألة شرعية يرتكبونها باستمرار، أو أنهم أهملوا السؤال من المعصوم عن تلك المسألة، أو سألوا وغفلوا عن جواب المعصوم أو خالفوه.

إن هذه الاحتمالات بعيدة عن المتشرعة في زمن المعصوم، خصوصاً وأن فيهم من هم على درجة عالية من الفقاهة، والتدين، وأنهم كانوا يسألون المعصوم عن الفأرة إذا وقعت في السمن، وعن قطرة دم طفرت من الأنف وأصابت الإناء، فهم كانوا يدققون في المسائل ويسألون المعصوم عنها، فلا يمكن أن نتصور أنهم –كلهم- سلكوا سلوكاً غير مرضي عند المعصوم.

فبهذا البيان نستكشف أن سيرة المتشرعة والمتدينين الذين كانوا في زمن المعصوم، ووصلت سيرتهم لنا على سلوك معين، هذه السيرة كانت مأخوذة عن المعصوم، وإن لم يصل دليلها اللفظي لنا.

ص: 160

هذا.

ويمكن أن يُقال: إن هذه السيرة حيث كانت موجودة في زمن المعصوم، ولم يردع عنها، مع قدرته على ذلك، فهذا يكشف عن رضاه بها –كما هو الحال في سيرة العقلاء-

وعلى كل حال، فإننا نجد أن المتشرعة والمتدينين يرجعون إلى الفقهاء في أخذ أحكامهم الشرعية، ولم يصل ردع من المعصوم عن هذه السيرة، فهذا يكشف عن جواز ذلك، وهو المطلوب.

وستأتي بعض النصوص الدالة على هذه السيرة في الخطوة الرابعة، بل وسيتبين أن المعصوم (عليه السلام) نفسه هو من كان يُرجع الناس إلى الفقيه ليأخذ الحكم الشرعي.

الخطوة الرابعة: جذور المرجعية (بمعنى الرجوع إلى العلماء في أمور الدين)في الإسلام
اشارة

الخطوة الرابعة: جذور المرجعية (بمعنى الرجوع إلى العلماء في أمور الدين)في الإسلام(1):

عند مطالعة الروايات الشريفة نجد أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) كانوا يُرجِعون شيعتهم إلىٰ العلماء العارفين بأحاديثهم زمن حضورهم، وهذا منهم كان من باب: ]وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[(2)

ممَّا يعني إمكان الرجوع إليهم إذا كانوا فقهاءً في دينهم.

ص: 161


1- انظر: على ضفاف الانتظار- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- العنوان رقم 102 و 103.
2- التوبة: 122.

والروايات في هذا المجال كثيرة، نذكر منها التالي:

أوَّلاً: ما ورد في ذلك في زمن النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)

روي في قصَّة بيعة العقبة: قال ابن إسحاق: (فلمَّا انصرف عنه القوم بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) معهم مصعب بن عمير...، وأمره أن يُقرئهم القرآن ويُعلِّمهم الإسلام ويُفقِّههم في الدين)(1).

وروي أنَّه بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمرو بن حزم والياً علىٰ بني الحارث ليُفقِّههم في الدين ويُعلِّمهم السُّنَّة ومعالم الإسلام(2).

ثانياً: ما ورد في ذلك في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام)

وهو ما كتبه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلىٰ قُثَم بن عبّاس حين ما ولّاه: «وَاجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَيْنِ، فَأَفْتِ المُسْتَفْتِيَ، وَعَلِّمِ الْجَاهِلَ، وَذَاكِرِ الْعَالِمَ»(3).

ثالثاً: ما ورد في ذلك في زمن الأئمَّة المعصومين بعد أمير المؤمنين (عليه السلام)
1- الإمام الباقر (عليه السلام)

قال (عليه السلام) لأبان بن تغلب: «اُجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أُحِبُّ أن يُرىٰ في شيعتي مثلك»(4).

2- الإمام الصادق (عليه السلام)

عن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بلغني أنَّك تقعد في الجامع فتُفتي الناس؟»، قلت: نعم، وأردت أن

ص: 162


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير 2: 96.
2- البداية والنهاية لابن كثير 5: 89.
3- نهج البلاغة: 457/ ح 67، من كتاب له (عليه السلام) إلىٰ قُثَم بن العبّاس، وهو عامله علىٰ مكّة.
4- رجال النجاشي: 10/ الرقم 7.

أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون. ويجيء الرجل أعرفه بمودَّتكم وحبِّكم، فأُخبره بما جاء عنكم. ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأُدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال لي: «اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع»(1).

وعن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلَّا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمّد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي. ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا. هؤلاء حفّاظ الدين وأُمناء أبي علىٰ حلال الله وحرامه...»(2).

3- الإمام الرضا (عليه السلام)

عن محمّد بن عيسىٰ، قال: حدَّث الحسن بن عليِّ بن يقطين بذلك أيضاً، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): جُعلت فداك، إنّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلِّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: «نعم»(3).

وعن عليِّ بن المسيّب، قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقَّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كلِّ وقت، فممَّن آخذ معالم ديني؟ فقال: «من زكريا بن آدم القمّي المأمون علىٰ الدين والدنيا»، قال عليُّ بن المسيّب: فلمَّا انصرفت قدمت

ص: 163


1- اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 522 - 524/ الرقم 704.
2- اختيار معرفة الرجال للطوسي 1: 348/ الرقم 219.
3- اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 784/ الرقم 935.

علىٰ زكريا بن آدم فسألته عمَّا احتجت إليه»(1).

4- الإمام الهادي (عليه السلام)

وهنا، بدأت فكرة الرجوع إلىٰ الفقهاء الثقات تتبلور أكثر، وتصبح عملية أكثر، من خلال إرجاع الإمام الهادي (عليه السلام) الشيعة إلىٰ عثمان بن سعيد الذي كان ثقةً مأموناً عنده (عليه السلام).

عن أحمد بن إسحاق، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) وقلت: من أعامل، أو عمَّن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال له: «العمري ثقتي، فما أدّىٰ إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنَّه الثقة المأمون»(2).

5 - الإمام العسكري (عليه السلام)

وقد اتَّخذ طابع الإرجاع إلىٰ الفقهاء هنا مستوىٰ أعمق علىٰ المستوىٰ العملي، من خلال إرجاع الإمام الشيعة للسفيرين الأوَّلين، وقد كانا أتباعاً مخلصين وفقهاء مأمونين عند الإمام العسكري (عليه السلام).

عن أحمد بن إسحاق أنَّه سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك(3)، فقال له: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنَّهما الثقتان المأمونان...»(4).

6- الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)
اشارة

وهنا مرحلتان:

ص: 164


1- اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 858/ الرقم 1112.
2- الكافي للكليني 1: 329 و330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1.
3- أي ما ورد في الرواية السابقة.
4- المصدر السابق.
المرحلة الأُولىٰ: زمن الغيبة الصغرىٰ: تعيين السفراء الخاصّين:

عندما غاب الإمام المهدي (عليه السلام) غيبته الصغرىٰ، صارت معرفة الأحكام الشرعية من خلال الرجوع إلىٰ السفراء الأربعة وعلىٰ مدار ما يقرب من سبعين سنة، حيث تمَّ تعيين السفراء بأشخاصهم من قِبَل الإمام شخصياً، وهذا ما يُميِّز السفير والنائب الخاصّ عن العامّ، فإنَّ السفير هو من يُعيِّنه الإمام نفسه بشخصه لا بصفته.

وهذا المعنىٰ هو ما دلَّت الروايات الشريفة علىٰ عدم وقوعه بعد انتهاء الغيبة الصغرىٰ إلىٰ أن يخرج السفياني وتحدث الصيحة، ففي توقيع الإمام المهدي (عليه السلام) لسفيره الرابع في آخر أيّام حياته ورد:

«... وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعىٰ المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر...»(1).

وعليه، فكلُّ من ادَّعىٰ السفارة الخاصَّة عن الإمام المهدي (عليه السلام) بهذا المعنىٰ قبل أن تقع الصيحة ويخرج السفياني فنحكم بتكذيبه من دون تردّد.

المرحلة الثانية: في زمن الغيبة الكبرىٰ: تعيين الفقهاء بصفاتهم

وعندما انتهت الغيبة الصغرىٰ كانت فكرة الرجوع إلىٰ الفقهاء المأمونين قد ترسَّخت في أذهان العامَّة - رغم وجودها في الأزمنة السابقة، حيث كان المعصومون حاضرين ظاهرين - بحيث صارت أمراً طبيعياً من خلال الروايات التي عيَّنت الفقهاء الذين يمكن الرجوع إليهم تعييناً من خلال

ص: 165


1- كمال الدين للصدوق: 516/ باب 45/ ح 44.

الصفة لا الشخص.

وهذا ما ورد علىٰ لسان الإمام المهدي (عليه السلام) في توقيعه الشريف: «وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلىٰ رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم»(1).

بل نجد أنَّ هذا التعيين الصفتي قد بدأ من زمن الإمام العسكري (عليه السلام) حيث قال: «فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً علىٰ هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامِّ أن يُقلِّدوه...»(2).

بل ومن زمن الإمام الهادي (عليه السلام)، فقد ورد أنَّه قال (عليه السلام): «لولا من يبقىٰ بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله (عز وجل)»(3).

الخطوة الخامسة: بعض الإشكالات على التقليد والجواب عنها

الخطوة الخامسة: بعض الإشكالات على التقليد والجواب عنها(4).

أشكل البعض(5)

–ممن لا يد له في التخصص العلمي-، على العلم

ص: 166


1- كمال الدين للصدوق: 484/ باب 45/ ح 4.
2- الاحتجاج للطبرسي 2: 263.
3- الاحتجاج للطبرسي 2: 260.
4- مستفاد من: مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة للشيخ جاسم الوائلي- الفصل الثالث- بتصرف.
5- وذلك من خلال نشر بعض المنشورات التي أرادوا من خلالها إبطال التقليد، وقد استعانوا بمواقع التواصل الاجتماعي لنشرها إلى أقصى حد ممكن، وهي مليئة بالمغالطات والتحريف وغيرها مما سنطلع عليه في ثنايا البحث.

التخصصي ببعض الإِشكالات التي توهموا أنها تؤدي إلى إبطال القول بالتقليد، نعرض بعضاً منها، مما سينفع –إن شاء الله تعالى- في أخذ الطريقة العامة لكيفية الرد على أمثالها، ونذكر من ذلك التالي:

أولاً:

ما رواه أبو بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تَرِدُ علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سُنَّته، فننظرُ فيها؟ قال: «لا، أَمَا إِنَّك إنْ أصبتَ لم تُؤجَر، وإنْ أخطأتَ كذبتَ علىٰ الله»(1).

ثانياً:

ما رواه مسعدة بن صدقة، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): «من أفتىٰ الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادَّ الله حيث أحلَّ وحرَّم فيما لا يعلم»(2).

ثالثاً:

ما روي عن أبي شيبة الخراساني، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ أصحاب المقائيس طلبوا العلم بالمقائيس، فلم تزدهم المقائيس من الحقِّ إلَّا بُعداً، وإنَّ دين الله لا يُصاب بالمقائيس»(3).

والجواب عن هذه الثلاثة:

إن من الواضح أن هذه الروايات تنفي حجية القول بالرأي –الذي تقدم معناه-، وهو ما يحصل لدى غير مذهبنا، من أنهم عندما لا يجدون

ص: 167


1- وسائل الشيعة (ج 27/ ص 40/ أبواب صفات القاضي/ الباب 6/ ح 6).
2- وسائل الشيعة (ج 27/ ص 41/ أبواب صفات القاضي/ الباب 6/ ح 12).
3- وسائل الشيعة (ج 27/ ص 43/ أبواب صفات القاضي/ الباب 6/ ح 18).

دليلاً من النصوص الشرعية، يلجؤون إلى إعمال الرأي الخاص والقياس والاستحسان، وقد تقدم منا عدم صحة هذه الطريقة (الاجتهاد بالرأي وفي قبال النص).

رابعاً:

ما نسبه منكرو التقليد في منشورهم إلىٰ إمامنا الصادق (عليه السلام)، حيث جاء ما نصُّه: قال الصادق (عليه السلام) -وهو يعني الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بما قاله-: «أعداء الدِّين مقلِّدة الفقهاء أهل الاجتهاد ولم يرونه يحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمَّتُهم...»، ثمَّ يواصل الكلام بعد ذلك إلىٰ أنْ يقول: «إذا خرج فليس له عدوٌّ مبين إلَّا الفقهاء خاصَّة، وهو والسيف أخوانِ».

هكذا نقلوا في منشوراتهم التي وزَّعوها علىٰ الناس علىٰ ما فيه من تلاعب من جهة، وأخطاء من جهة أُخرىٰ.

وقد ذكروا لهذا الحديث المزعوم مصدرين: كتاب (إلزام الناصب)، وكتاب (ينابيع المودَّة)، كما ذكروا في بعض مواقعهم المشبوهة علىٰ الإنترنت مصادر أُخرىٰ من بينها كتاب (بشارة الإسلام).

وهذا الكلام المنسوب إلىٰ إمامنا الصادق (عليه السلام) يشتمل علىٰ مقطعين:

أوَّلهما: «أعداء الدِّين مقلِّدة الفقهاء أهل الاجتهاد ولم يرونه يحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمَّتُهم».

ثانيهما: «إذا خرج فليس له عدوٌّ مبين إلَّا الفقهاء خاصَّة، وهو والسيف أخوانِ».

ص: 168

والجواب عليه من ثلاثة وجوه:

1 - أنَّ الحديث بمقطعيه مكذوبٌ علىٰ الإمام الصادق (عليه السلام)، فإنَّ كلا المقطعين لابن عربي الصوفي المعروف، ذكَرهما في كتاب (الفتوحات).

أمَّا الأوَّل فقد ذكره ضمن كلامٍ له طويل جاء في أوَّله: (اعلم - أيَّدنا الله - أنَّ لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً).

إلىٰ أنْ قال بعد كلام له طويل فيما يقوم به الإمام المهدي (عجل الله فرجه): (يرفع المذاهب من الأرض، فلا يبقىٰ إلَّا الدِّين الخالص).

ثمّ ذكر المقطع الأوَّل قائلاً: (أَعداؤُهُ مقلِّدَةُ العُلماءِ أَهلِ الاجتهاد، لما يرونه من الحكم بخلاف ما ذهبت إليه أئمَّتُهم).

ثمّ قال: (فيدخلون كرهاً تحت حكمه خوفاً من سيفه وسطوته ورغبةً فيما لديه، يفرح به عامَّةُ المسلمين أكثرُ من خواصِّهم، يبايعه العارفون بالله من أهل الحقائق عن شهودٍ وكشفٍ بتعريفٍ إلهي...) إلىٰ آخر كلامه(1).

وأمَّا المقطع الثاني فقد ذكره أيضاً ضمن كلام طويل انتقد فيه فقهاء المذاهب الأُخرىٰ، ومدح الصوفيَّة والعرفاء ممَّن كانوا علىٰ مسلكه، وقال: (وإذا خرج هذا الإمام المهدي فليس له عدوٌّ مبينٌ إلَّا الفقهاء خاصَّةً...).

إلىٰ أنْ قال: (ولولا أنَّ السيف بيد المهدي لأفتىٰ الفقهاء بقتله، ولكن الله يُظهِره بالسيف والكرم، فيطمعون ويخافون، فيقبلون حكمه من غير إيمانٍ،

ص: 169


1- الفتوحات المكّيَّة (ج 6/ ص 40/ الباب 366/طبعة 1/ 1424ه/ دار صادر).

بل يضمرون خلافه كما يفعل الحنفيُّون والشَّافعيُّون فيما اختلفوا فيه...).

إلىٰ أنْ قال في وصفهم: (فمثل هؤلاء لولا قهر الإمام المهدي بالسيف ما سمعوا له، ولا أطاعوه بظواهرهم، كما أنَّهم لا يطيعونه بقلوبهم، بل يعتقدون فيه أنَّه إذا حكم فيهم بغير مذهبهم أنَّه علىٰ ضلالةٍ في ذلك الحكم، لأنَّهم يعتقدون أنَّ زمان أهل الاجتهاد قد انقطع، وما بقي مجتهدٌ في العالم، وأنَّ الله لا يُوجِد بعد أئمَّتهم أحداً له درجة الاجتهاد...) إلىٰ آخر كلامه(1).

والحاصل: أنَّ الكلام بمقطعيه لابن عربي، وليس لإمامنا الصادق (عليه السلام).

2 - قد اتَّضح لك من كلامه الأخير الذي لم ينقله منكرو التقليد للتدليس علىٰ المؤمنين أنَّ المقصود بالمقلِّدين لأهل الاجتهاد هم عوامُّ أهل السُّنَّة المقلِّدين لأحد الأربعة: (مالك، وأبي حنيفة، والشَّافعي، وابن حنبل) الذين هم أهل الاجتهاد الذين يعتقد مقلِّدوهم بأنَّ الاجتهاد قد خُتِمَ بهم، وأنَّ الله تعالىٰ لن يخلق مجتهداً بعدهم.

3 - أنَّ من المقطوع به والبديهي أنَّ الأحكام التي يأتي بها الإمام المهديُّ (عجل الله فرجه) ستكون علىٰ طبق أحكام آبائه (عليهم السلام) المودوع أكثرُها في كُتُبنا الحديثيَّة، وهي أحكامٌ مخالفة لأحكام المخالفين التي هي اجتهادات أئمَّتهم الأربعة، ولذا حينما يأتي بأحكام آبائه (عليهم السلام) سوف يعاديه أتباع تلك المذاهب، لأنَّهم يرون أنَّ أحكامه (عجل الله فرجه) مخالفةٌ لأحكام أئمَّتهم الأربعة، كما علَّل بذلك ابن عربي في قوله: (لما يرونه من الحكم بخلاف ما ذهبت إليه أئمَّتهم).

ص: 170


1- المصدر السابق (ص 49).

والنتيجة: قد اتَّضح أنَّ الحديث المذكور هو من كلام ابن عربيٍّ في حقِّ المخالفين، وقد نسبه منكرو التقليد إلىٰ إمامنا الصادق (عليه السلام) افتراءً عليه، وتدليساً علىٰ المؤمنين، فليتبوَّأ الكاذب مقعده من النار، وكذلك من علم به منهم وسكت عنه ولم يردعهم، بل ساعده في نشر هذه الأُكذوبة ]وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ[(1)

خامساً:

ما نقله منكرو التقليد في منشوراتهم عن كتاب (إلزام الناصب) من قوله: ذكر الصادق (عليه السلام) يوماً أهل الفتوىٰ وهو مغضب: «إذا خرج القائم ينتقم من أهل الفتوىٰ بما لا يعلمون، فتعساً لهم ولأتباعهم».

وفي المطبوع: «وينتقم من أهل الفتوىٰ في الدِّين لما لا يعلمون، فتعساً لهم ولأتباعهم»(2).

وجوابه في نقاط:

1 - أنَّ هذه الرواية قطعة من خطبة البيان المنسوبة إلىٰ عليٍّ (عليه السلام)، وليست من كلام الصادق (عليه السلام)، كما أنَّها خالية من فقرة: (ذكر أهل الفتوىٰ يوماً وهو مغضب)، فيكونون قد كذبوا علىٰ الصادق (عليه السلام)، ومن يكذب علىٰ الإمام متعمِّداً مرَّةً يمكن أنْ يكذب عليه ألف مرَّة.

2 - أنَّ سند الخطبة ضعيفٌ جدًّا، لانحصاره بسند واحد رواته كُلُّهم من المخالفين لأهل البيت (عليهم السلام)، ولم يروها أعلامنا من أمثال الكليني،

ص: 171


1- البروج: 20.
2- إلزام الناصب (ج 2/ ص 200).

والصدوق، والمفيد، والمرتضىٰ، والطوسي، ولا غيرهم ممَّن تأخر عنهم، كالشيخ محمّد تقي المجلسي، بل صرَّح ولده العلَّامة محمّد باقر المجلسي في كتابه (مرآة العقول) بكذبها، وكذب أمثالها، وجعلها من روايات الغُلاة وأشباههم(1)،

ولذا فقد حكم بضعف سندها جملة من الأعلام المحقِّقين قديماً وحديثاً، فكيف يجوز بعد هذا كلِّه لمن يدَّعي التشيُّع أنْ ينسب إلىٰ إمامه رواية ساقطة عن الاعتبار بالمرَّة؟!

سادساً:

واستدلوا بما قاله الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتابه الاقتصاد، ما نصه: (التقليد إنْ أُريد به قبول قول الغير من غير حجَّة وهو حقيقة التقليد فذلك قبيح في العقول، لأنَّ فيه إقداماً علىٰ ما لا يأمنُ كونَ ما يعتقده عند التقليد جهلاً، لِتعَرِّيه من الدليل، والإقدامُ علىٰ ذلك قبيحٌ في العقول، ولأنَّه ليس في العقول تقليدُ الموحِّدِ أولىٰ من تقليد الملحد إذا رفعنا النظر والبحث عن أوهامنا، ولا يجوز أنْ يتساوىٰ الحقُّ والباطل)(2).

وجوابه: من وجوه ثلاثة:

1 - أنَّ الشيخ قال ذلك في كتابه (الاقتصاد) وهو قسمان: أوَّلهما: في الأُصول الاعتقاديَّة، وثانيهما: في العبادات الشرعيَّة، والمقطع المذكور منقول من القسم الأوَّل، فهو ناظر إلىٰ التقليد في العقائد، حيث إنَّه بعد حصره العلم بالله بطريق الاستدلال ذكر إشكالاً هذا نصُّه: (فإنْ قيل: أين أنتم عن تقليد

ص: 172


1- مرآة العقول (ج 1/ ص 619).
2- الاقتصاد الهادي إلىٰ طريق الرشاد (ص 10 و11).

الآباء والمتقدِّمين؟)، وأجاب عليه بما نصُّه: (قلنا: التقليد إنْ أُريد به قبول قول الغير من غير حجَّة وهو حقيقة التقليد فذلك قبيح في العقول...) إلىٰ آخر عبارته التي نقلها منكرو التقليد، والتي هي واردة في باب العقائد، كما هو صريح الاستدلال في قوله: (ولأنَّه ليس في العقول تقليدُ الموحِّدِ أولىٰ من تقليد الملحد).

فحاصل ما ذكره: أنَّه لو جوَّزنا لشخصٍ أنْ يُقلِّد أهله الموحِّدين في عقيدة التوحيد لوجب أنْ نُجوِّز لشخص آخر أنْ يُقلِّد أهله الملحدين في الإلحاد، وهو قبيح عقلاً.

2 - أنَّ الطوسي من مشاهير المفتين عند جميع المسلمين، وله كُتُب فتوائيَّة عديدة ألَّفها لرجوع المؤمنين إليها، ومن بينها الكتاب المذكور في قسمه الثاني، وكتاب (المبسوط)، وكتاب (النهاية)، وغيرها.

3 - أنَّ الطوسي يُصرِّح بمشروعيَّة التقليد في كتابه (العُدَّة)، حيث قال: (والذي نذهب إليه أنَّه يجوز للعامِّيِّ الذي لا يقدر علىٰ البحث والتفتيش تقليد العالِم).

ثمَّ استدلَّ علىٰ الجواز بما نصُّه: (يدلُّ علىٰ ذلك: أنّي وجدتُ عامَّةَ الطائفة من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلىٰ زماننا هذا يرجعون إلىٰ علمائها، ويستفتونهم في الأحكام والعبادات، ويفتونهم العلماء فيها، ويُسوِّغون لهم العمل بما يفتونهم به، وما سمعنا أحداً منهم قال لمُستَفْتٍ: لا يجوز لك الاستفتاء، ولا العمل به، بل ينبغي أنْ تنظر كما نظرتُ، وتعلم كما عَلِمتُ، ولا أنكر عليه العمل بما

ص: 173

يفتونهم، وقد كان الخَلقُ العظيمُ عاصروا الأئمَّة (عليهم السلام)، ولم يُحكَ عن واحدٍ من الأئمَّة النكير علىٰ أحد من هؤلاء، ولا إيجاب القول بخلافه، بل كانوا يُصَوِّبونهم في ذلك، فمن خالفه في ذلك كان مخالفاً لما هو المعلوم خلافه)(1).

وها أنت ترىٰ كيف جعل ; المخالف للجواز مخالفاً لما هو المعلوم من جواز التقليد، وكلامه ظاهر في أنَّه يستند في الجواز إلىٰ الإجماع العملي بين الإماميَّة علىٰ جوازه.

سابعاً

قالوا: إن المحقق الحلي عبّر عن التقليد بأنه قبيح عقلاً، إذ قال ما نصه: (التقليد قبول قول الغير من غير حجَّة، فيكون جزماً في غير موضعه، وهو قبيح عقلاً)(2).

وجوابه: من وجهين:

1 - أنَّ المحقِّق إنَّما ذكر ذلك في القسم المخصَّص لأُصول العقائد من كتابه (المعارج)، حيث قال في موضع منه: (المسألة الثانية: لا يجوز تقليد العلماء في أُصول العقائد)(3)، ثم استدلَّ علىٰ عدم الجواز بعدَّة وجوه، منها قوله: (الثاني: أنَّ التقليد: قبولُ قولِ الغير من غير حُجَّةٍ، فيكون جزماً في غير موضعه، وهو قبيح عقلاً)(4).

ص: 174


1- العُدَّة في أُصول الفقه (ص 729 و730).
2- معارج الأُصول (ص 278).
3- المصدر السابق (ص 277).
4- المصدر السابق (ص 278).

وهذه هي العبارة التي دلَّس بها منكرو التقليد علىٰ المؤمنين، حيث لم ينقلوا عبارته الأُخرىٰ التي ذكرها في موضع آخر من نفس الكتاب، وهي صريحة في جواز التقليد في الفروع، حيث قال ما نصُّه: (المسألة الأُولىٰ: يجوز للعامِّيِّ العمل بفتوىٰ العالم في الأحكام الشرعيَّة).

ثمَّ استدلَّ علىٰ الجواز - بعد أنْ نقل قول المخالفين كالمعتزلة - وقال ما نصُّه: (لنا: اتِّفاق علماء الأعصار علىٰ الإذن للعوامِّ في العمل بفتوىٰ العلماء من غير نكير).

وكان هذا دليله الأوَّل، ثمَّ استدلَّ بدليل ثانٍ وقال: (الثاني: لو وَجَبَ علىٰ العامِّي النظر في أدلَّة الفقه لكان ذلك إمَّا قبل وقوع الحادثة أو عندها، والقسمان باطلان، أمَّا قبلها فمنفيٌّ بالإجماع، ولأنَّه يُؤدِّي إلىٰ استيعاب وقته بالنظر في ذلك، فيُؤدِّي إلىٰ الضَّرر بأمر المعاش المضطرِّ إليه، وأمَّا بعد نزول الحادثة فذلك متعذِّر، لاستحالة اتِّصاف كلِّ عامِّيٍّ عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين)(1).

ولا يخفىٰ علىٰ من يتأمَّل في دليله الثاني أنَّه يدلُّ علىٰ وجوب التقليد علىٰ العوامِّ، لا مجرَّد جوازه.

2 - أنَّ المحقِّق الحلِّي هو من أكابر المفتين بين علماء المسلمين، وله جملة رسائل في أجوبة الاستفتاءات، ناهيك عن رسالته العمليَّة الشهيرة باسم (شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام) التي ألَّفها ليعمل بها العوامُّ،

ص: 175


1- المصدر السابق (ص 275).

ولهذا الكتاب شهرة واسعة حتَّىٰ عند علماء المخالفين، فكيف يقول بعد كلِّ هذا بتحريم التقليد؟!

والنتيجة: قد اتَّضح من كلِّ ذلك أنَّ ما نُسِبَ إلىٰ هؤلاء الأعلام من تحريمهم للتقليد كذبٌ فاضح، أو جهل مطبق.

ثامناً:

ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ]اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ[(1)، فقال: «أمَا والله ما دعوهم إلىٰ عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوا، ولكن أحلُّوا لهم حراماً، وحرَّموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(2).

حيث إنه قد يُقال: إن المفهوم ليس المقصود أنَّهم يعبدونهم من دون الله كما يصنع عبدة الأوثان وأشباههم، بل المقصود أنَّهم أطاعوهم في فتاواهم المخالفة لأحكام الله تعالىٰ، فإنَّهم قد أحلُّوا لهم الحرام، وحرَّموا عليهم الحلال، فأخذوا بتلك الفتاوىٰ المخالفة لأحكامه (عز وجل)، والقرآن عبَّر عن هذه المتابعة فيما يخالف أحكامه تعالىٰ باتِّخاذهم أرباباً من دون الله.

والمفهوم من ذلك: أنَّ متابعة عوامِّ أهل الكتاب لعلمائهم هي بمثابة اتِّخاذهم أرباباً من دون الله، وفي هذا دلالة علىٰ أنَّ هذه المتابعة محرَّمة حرمةً شديدةً ومغلَّظةً، لأنَّها بمنزلة الشرك بالله سبحانه.

وبالتالي لا يجوز التقليد، لأن الفقيه يمكن أن يخطئ، فيكون مخالفاً

ص: 176


1- التوبة: 31.
2- الكافي (ج 1/ ص 53/ باب التقليد/ ح 1 و3) كلُّ حديث بطريق.

للواقع، فيكون تقليده عبادة له في هذا الحرام.

والجواب علىٰ هذا الاستدلال من وجهين:

1 - أنَّ الرواية ظاهرة في أنَّ الأحبار والرهبان كانوا يتعمَّدون مخالفة أحكام الله (عز وجل)، والقرآن الكريم والتاريخ الصحيح يشهدان بذلك أيضاً، وهل هناك مخالفة متعمَّدةٌ أكبر من إنكارهم نبوَّة نبيِّنا (صلى الله عليه وآله)، مع علمهم اليقيني بأنَّه هو النبيُّ الذي يجدونه مذكوراً في التوراة والإنجيل؟

وأين هذا من مراجعنا الذين نشترط فيهم العدالة التي هي وبشرح مبسَّط (صفة راسخة في النفس تدعو إلىٰ الاستقامة في جادَّة الشريعة، وعدم الميل عنها يمنةً أو يسرةً)، ومن كانت هذه صفته كيف يتعمَّد مخالفة أحكام الله تعالىٰ؟!

2 - قد روي عن الصادق (عليه السلام) حديثٌ شارحٌ لهذه الرِّواية، وهو يدلُّ دلالة صريحة علىٰ أنَّ عوامَّ أهل الكتاب كانوا يُقلِّدون علماءهم وهم يعلمون بفسقهم، ويعلمون بأنَّهم لا يتورَّعون عن الكذب، فقد نُقِلَ في الوسائل عن الطبرسي في كتاب (الاحتجاج)، عن أبي محمّد العسكري (عليه السلام)، في قوله تعالىٰ: ]فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ[(1)، قال (عليه السلام): «هذه لقومٍ من اليهود...».

إلىٰ أنْ قال: وقال رجل للصادق (عليه السلام): إذا كان هؤلاء العوامُّ من اليهود

ص: 177


1- البقرة: 79.

لا يعرفون الكتاب إلَّا بما يسمعونه من علمائهم فكيف ذمَّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم، وهل عوامُّ اليهود إلَّا كعوامِّنا يُقلِّدون علمائهم؟

إلىٰ أنْ قال(1):

فقال (عليه السلام): «بين عوامِّنا وعوامِّ اليهود فرقٌ من جهة، وتسويةٌ من جهة. أمَّا من حيث الاستواء فإنَّ الله ذمَّ عوامَّنا بتقليد علمائهم كما ذمَّ عوامَّهم. وأمَّا من حيث افترقوا فإنَّ عوامَّ اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصُّراح، وأكل الحرام والرُّشاء، وتغيير الأحكام، واضطُرُّوا بقلوبهم إلىٰ أنَّ من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أنْ يُصدَّق علىٰ الله، ولا علىٰ الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمَّهم. وكذلك عوامُّنا إذا عرفوا من علمائهم الفسقَ الظاهر، والعصبيَّةَ الشَّديدة، والتكالبَ علىٰ الدنيا وحرامها، فمن قلَّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمَّهم الله بالتقليد لِفَسَقَةِ علمائهم، فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً علىٰ هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوامِّ أنْ يُقلِّدوه، وذلك لا يكون إلَّا بعض فقهاء الشيعة لا كلُّهم، فإنَّ من ركب من القبايح والفواحش مراكبَ علماء العامَّة فلا تقبلوا منهم عنَّا شيئاً ولا كرامة، وإنَّما كثر التخليط فيما يُتحمَّل عنَّا أهل البيت لذلك، لأنَّ الفَسَقَة يتحمَّلون عنَّا فيُحرِّفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء علىٰ غير وجهها، لقلَّة معرفتهم، وآخرون يتعمَّدون الكذب علينا»(2).

أخيراً:

في ما ذُكر هنا كفاية لمعرفة عدم المنهجية العلمية لمدعي بطلان

ص: 178


1- عبارة: (إلىٰ أنْ قال) في الموضعين من صاحب الوسائل اختصاراً للرِّواية.
2- وسائل الشيعة (ج 27/ ص 131/ أبواب صفات القاضي/ الباب 10/ ح 20).

التقليد، وأنهم إنما استندوا على ما لا يُستند عليه، إما لعدم دلالته على مطلوبهم، وإما لأنه مكذوب على المعصومين (عليهم السلام).

ص: 179

ص: 180

البحث التكميلي الثاني: الغلو، حقيقته، ومصاديقه

اشارة

إن الحاجة إلى بيان هذا الموضوع تنبع من أن البعض توهم أن القول بولاية أهل البيت (عليهم السلام) التكوينية أو التشريعية –وغيرها من المقامات الوجودية العالية لهم (عليهم السلام)- يستلزم الغلو فيهم، وحتى نكون على بينة من هذا الأمر، علينا أن نعرف معنى الغلو ومصاديقه، لنعرف حقيقة الحال فيها، فهنا أربع خطوات:

الخطوة الأولى: الغلو لغة واصطلاحاً.

الخطوة الثانية: الغلو في النصوص الدينية.

الخطوة الثالثة: الغلو في كلمات بعض الأعلام.

الخطوة الرابعة: تفصيل بعض دعاوى الغلو.

والخطوة الأخيرة أهم الخطوات، وسيتم التعرض فيها إلى إحدى عشرة مقالة مما يُدّعى فيها الغلو، لنعرف حقيقة الحال فيها، وسيتم تمييز ما هو فعلاً من الغلو من غيره، على أن بعض المقالات تقدمت تفاصيلها في البحوث السابقة، وستتم الإشارة إلى الموضع الذي تقدم تفصيل الحديث فيه.

ص: 181

ص: 182

الخطوة الأولى: الغلو لغة واصطلاحاً
1/ الغلو لغة

يُستفاد من كلمات اللغويين أن الغلو يعني تجاوز حدود الشيء إلى غيرها، أي إن شيئاً ما إذا كانت له حدود، فالحديث في داخل تلك الحدود ليس غلواً، وأما إذا تجاوز الحديث حدود ذلك الشيء، فهو الغلو.

وهذا المعنى ينطبق على أي شيء، ولذلك يُقال في السعر إذا تجاوز حده بأنه غالي، ومهر المرأة إذا تجاوز المتعارف يُقال فيه: غلا مهرها، وهكذا، وحيث إن كلامنا في خصوص الغلو في الدين، فيكون المعنى اللغوي له هنا: هو تجاوز الحدود الدينية إلى غيرها.

وكلمات اللغويين في ذلك عديدة، نذكر منها التالي:

قال الطريحي في مجمع البحرين: يقال: غلا في الدين غلواً من باب قعد: تصلب وتشدد حتى تجاوز الحد والمقدار.(1)

وفي تاج العروس للزبيدي في مادة: [غلو]:

ص: 183


1- مجمع البحرين للطريحي ج1 ص 318.

وغَلا السِّعْرُ يَغْلُو غَلاءً... وفي المِصْباح... وأَغْلاهُ اللهُ: ضدُّ أَرْخَصَه، أَي جَعَلَهُ غالِياً. ويقالُ: بِعْتُه بالغالِي... و... غَالَى باللحْمِ: أَي اشْتَراهُ بثَمنٍ غالٍ... وغَلاَ في الأَمْرِ غُلُوًّا... جاوَزَ حَدَّهُ... غَلاَ في الدِّيْن غُلُوًّا تَشَدَّدَ وتَصَلَّبَ حتى جَاوَزَ الحَدَّ، ومنه قولُه تعالى: (لا تَغْلُوا في دِينِكُم غَيْر الحَقِّ) وقال الراغبُ: أَصْلُ الغُلُوِّ تَجاوُزُ الحَدِّ ؛ يقالُ ذلكَ إذا كانَ في السِّعْرِ غَلاءٌ، وإذا كانَ في القَدْرِ والمَنْزِلةِ غُلُوٌّ، وفي السَّهْمِ غَلُوٌّ...(1)

2/ أما الغلو اصطلاحاً (في باب علم الكلام)

فهو لا يخرج عن المعنى اللغوي عموماً، فهو بمعنى القول بمخلوق أكثر من حده، بالقول بأن له منزلة وجودية أوسع من حد ماهيته واقعاً، أو قل: أن تُنسب مرتبة كمالية عالية لإنسان حده أضيق من سعة تلك المرتبة الكمالية، وهذا الأمر يُمكن تصوره بالتالي:

أولاً: أن يُقال في مخلوق ما أنه إله، فإنه تجاوز عن حد ماهية المخلوق (وهو كونه محدوداً، ممكناً) إلى وجود الخالق (وهو كونه موجوداً غير محدود ولا متناهي وواجب الوجود)، لا يختلف الحال في هذه الصورة بين ادّعاء ألوهية شخص للعالم، وأنه هو الخالق والإله لا غير، وبين القول بأنه إله شريك للإله الأول. فكلاهما غلو.

ثانياً: أن يُقال في إنسان عادي أنه نبي، وهو ليس كذلك، فهو خروج عن

ص: 184


1- تاج العروس للزبيدي ج20 ص 23.

حد الإنسان العادي (وهو كونه لا يوحى إليه بالوحي الرسالي(1)

إلى كونه إنساناً يتلقى الوحي الرسالي من الله تعالى.

ثالثاً: أن يُقال في إمام مجعول من الله تعالى أنه نبي، لا يختلف في ذلك أهل البيت (عليهم السلام) عن غيرهم من الأوصياء، فضلاً عن القول بألوهيته، كما في الصورة الأولى.

رابعاً: أن يُقال في إنسان عادي أنه إمام، بمعنى أن يُقال في إنسان عادي أنه إمام مجعول من الله تبارك وتعالى، ويتم التعامل مع كلامه على أنه هو الواقع الذي لا يقبل الخطأ، وأنه يُطاع في كل ما يقول، ويؤخذ كلامه تعبداً.

الخامسة: أن يُقال باستقلال مخلوق عن الله تعالى: سواء كان استقلالاً في أصل وجوده، أو في استمراره، أو صفة من صفاته، أو حال من أحواله.

هذه هي أهم الصور التي يمكن تصور الغلو فيها، وحديثنا بالضبط في الغلو في أهل البيت (عليهم السلام).

ص: 185


1- الوحي الرسالي في قبال الوحي غير الرسالي، والأول هو ما يكون للأنبياء فقط، والثاني يكون لهم ولغيرهم، كما أوحي لأم النبي موسى (عليه وعليها السلام)، وللسيدة مريم (عليها السلام)، وهكذا كان أهل البيت (عليهم السلام) كما سيتبين في محله إن شاء الله تعالى.

ص: 186

الخطوة الثانية: الغلو في النصوص الدينية
اشارة

يُستفاد من النصوص الدينية الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) أن الغلو يتحقق في العديد من المفردات، وهي:

1/ ادعاء ربوبية أي واحد منهم.

2/ تفضيل أحد من البشر على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، سواء كان تفضيلاً بلسان القال والتصريح، أو كان بلسان الحال، كما لو رُدّ كلام الرسول (صلى الله علي وآله) وقُبل كلام غيره، أو تم التعامل مع الرسول (صلى الله عليه وآله) على انه يمكن أن يصدر منه ما لا يصدر من غيره من الأمور المخالفة للمروءة أو للشرع.

3/ ادعاء نبوة الأئمة (عليهم السلام).

4/ ادعاء إمامة أحد من غير أهل البيت (عليهم السلام) المنصوص عليهم، سواء اُدّعيت إمامة ثالث عشر، أو ادُّعيت إمامة شخص بدلاً من أحد الاثني عشر (عليهم السلام).

5/ ادعاء استقلالهم عن الله تعالى، كاستقلالهم بعلم الغيب(1)

أو الخلق

ص: 187


1- فيما يتعلق بعلمهم (عليهم السلام) بالغيب، راجع: أواخر مبحث الإمامة في الجزء الثالث: التساؤل السادس: علم الأئمة (عليهم السلام) بالغيب.

أو الشفاء عن الله تعالى.

وأما ما عدا ذلك من ادعاء المقامات الكمالية للمعصومين (عليهم السلام)، فلا إشكال فيه ما دام تحت الإذن الإلهي، وبتخويل منه جل وعلا، فالمنفي من الكمالات عنهم (عليهم السلام) هو ما يكون بالاستقلال عنه جل وعلا، لا ما يكون بإذنه، مهما عظم الكمال، وحتى لو لم تقدر عقولنا –نحن الناس العاديين- عن إدراكه أو فهمه، فالمهم أن ننزل بهم عن ادعاء الربوبية والاستقلال عنه جل وعلا.

ومن النصوص الدالة على ذلك التالي:

النص الأول

عن فضيل بن عثمان الأعور قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: اتقوا الله، وعظموا الله، وعظموا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا تفضلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحداً، فإن الله تبارك وتعالى قد فضله. وأحبوا أهل بيت نبيكم حباً مقتصداً ولا تغلوا، ولا تفرقوا، ولا تقولوا ما لا نقول، فإنكم إن قلتم وقلنا، متم ومتنا، ثم بعثكم الله وبعثنا، فكنا حيث يشاء الله، وكنتم.(1)

النص الثاني

في حديث الإمام الرضا (عليه السلام) مع المأمون:... فقال الرضا (عليه السلام) إن الله عز وجل أيّدَنا بروح منه مقدسة مطهرة، ليست بملك، لم تكن مع أحد ممن مضى إلا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي مع الأئمة منا، تسددهم وتوفقهم، وهو عمود من نور

ص: 188


1- قرب الأسناد للحميري القمي ص 129 ح 452.

بيننا وبين الله عز وجل.(1)

قال له المأمون: يا أبا الحسن، بلغني أن قوماً يغلون فيكم ويتجاوزون فيكم الحد؟

فقال الرضا (عليه السلام): حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله تبارك تعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً، قال الله تبارك وتعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(2)

قال علي (عليه السلام): يهلك في اثنان ولا ذنب لي: محب مفرط، ومبغض مفرط.

وأنا(3)

أبرء إلى الله تبارك وتعالى ممن يغلو فينا ويرفعنا فوق حدنا، كبراءة عيسى بن مريم (عليه السلام) من النصارى قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي

ص: 189


1- فهذا إثبات لمقام عظيم، لا يكون لأي أي أحد غيرهم (عليهم السلام)، ولذا، فقد يكون المأمون قد توهم أن هذا المقام يستلزم الغلو، فسأل الإمام (عليه السلام) عن تجاوز الحد فيهم.
2- آل عمران 70 و 80.
3- يبدو أن هذا الكلام للإمام الرضا (عليه السلام).

وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).(1)

وقال عز وجل: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)(2)

وقال عز وجل: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ)(3)، ومعناه إنهما كانا يتغوطان، فمن ادّعى للأنبياء ربوبية، وادّعى للأئمة ربوبية، أو نبوة، أو لغير الأئمة إمامة، فنحن منه براء في الدنيا والآخرة.(4)

النص الثالث

عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسماعيل، ضع لي في المتوضأ(5) ماءً. قال: فقمت فوضعت له. قال: فدخل. قال: فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا وكذا، ويدخل المتوضأ يتوضأ. قال: فلم يلبث أنْ خرج فقال: يا إسماعيل، لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين وقولوا بنا ما شئتم، فلن تبلغوا. فقال إسماعيل: وكنت أقول إنه وأقول

ص: 190


1- المائدة 116 و 117.
2- النساء 172.
3- المائدة 175.
4- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 216 و 217.
5- يظهر أنه يقصد بيت الخلاء.

وأقول.(1)

قال العلامة المجلسي:

بيان: كذا وكذا، أي أنه رب ورازق وخالق ومثل هذا، كما أنه المراد بقوله: كنت أقول إنه وأقول.(2)

النص الرابع

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الطَّبَرِيِّ قَالَ: كُنْتُ قَائِماً عَلَى رَأْسِ الرِّضَا (عليه السلام) بِخُرَاسَانَ، وعِنْدَه عِدَّةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وفِيهِمْ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْعَبَّاسِيُّ، فَقَالَ (عليه السلام): يَا إِسْحَاقُ، بَلَغَنِي أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّ النَّاسَ عَبِيدٌ لَنَا(3)،

لَا وقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) مَا قُلْتُه قَطُّ، ولَا سَمِعْتُه مِنْ آبَائِي قَالَه، ولَا بَلَغَنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ آبَائِي قَالَه، ولَكِنِّي أَقُولُ: النَّاسُ عَبِيدٌ لَنَا فِي الطَّاعَةِ، مَوَالٍ لَنَا فِي الدِّينِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.(4)

(قوله: (عبيد لنا في الطاعة) يعني وجب عليهم طاعتنا كما وجب على العبد طاعة السيّد، فهم عبيد لنا بهذا الاعتبار لا بالمعنى المعروف، وإطلاق العبد على التابع شائع كما يقال: فلان عبد للشيطان وعبد لهواه.

قوله: (موال لنا في الدِّين) المراد بالموالي هنا: الناصر كما في قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا)(5)

ص: 191


1- بصائر الدرجات للصفار ص 25 ب 10 ح 5.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج25 ص 279.
3- بمعنى أن يكونوا آلهتهم، أو بمعنى أن يكونوا أرقّاء يجوز لهم بيعهم وشراؤهم.
4- الكافي للكليني ج1 ص 187 بَابُ فَرْضِ طَاعَةِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح 10.
5- محمد 11.

قوله: (فليبلّغ الشاهد الغائب) فيه ترغيب في نشر الحديث، وتجويز للعمل بخبر الواحد...)(1)

النص الخامس

قال صالح بن سهل: كنت أقول في الصادق (عليه السلام) ما تقول الغلاة، فنظر إلي وقال: ويحك يا صالح، إنا والله عبيد مخلوقون، لنا رب نعبده، وإن لم نعبده عذّبنا.(2)

النص السادس

عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا والْقَاسِمُ شَرِيكِي ونَجْمُ بْنُ حَطِيمٍ وصَالِحُ بْنُ سَهْلٍ بِالْمَدِينَةِ، فَتَنَاظَرْنَا فِي الرُّبُوبِيَّةِ. قَالَ: فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَا تَصْنَعُونَ بِهَذَا، نَحْنُ بِالْقُرْبِ مِنْه، ولَيْسَ مِنَّا فِي تَقِيَّةٍ، قُومُوا بِنَا إِلَيْه.

قَالَ: فَقُمْنَا، فواللهِ مَا بَلَغْنَا الْبَابَ إِلَّا وقَدْ خَرَجَ عَلَيْنَا بِلَا حِذَاءٍ ولَا رِدَاءٍ، قَدْ قَامَ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِه مِنْه، وهُوَ يَقُولُ: لَا، لَا، يَا مُفَضَّلُ، ويَا قَاسِمُ، ويَا نَجْمُ، لَا، لَا، بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وهُمْ بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ.(3)

ص: 192


1- شرح أصول الكافي للمولى محمد صالح المازندراني ج5 ص 155.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 347.
3- الكافي للكليني ج8 ص 231 ح 303، وقال العلامة المجلسي في مرآة العقول ج26 ص 168 و 169: قوله: (في الربوبية) أي ربوبية الصادق (عليه السلام) أو جميع الأئمة (عليهم السلام)، ولعله كان غرضهم ما نسب إليهم من أنه تعالى لما خلق أنوار الأئمة (عليهم السلام) فوض إليهم خلق العالم، فهم خلقوا جميع العالم، وقد نفوا (عليهم السلام) ذلك وتبرؤا منه، ولعنوا من قال به، وقد وضع الغلاة إخبارا في ذلك ويحتمل أن يكونوا توهموا حلولاً أو اتحادا كالنصارى في عيسى (عليه السلام) وكأكثر الصوفية في جميع الأشياء، تعالى الله عن جميع ذلك علوا كبيراً.
النص السابع

عن أبي محمد العسكري (عليه السلام): أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إن من تجاوز بأمير المؤمنين (عليه السلام) العبودية فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تتجاوزوا بنا العبودية، ثم قولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا، وإياكم والغلو كغلو النصارى فإني برئ من الغالين.(1)

بيان: قوله (عليه السلام): (ثمّ قولوا فينا ما شئتم) من الصفات التي ليست من صفات الله سبحانه، كأن يقال مثلاً: إنّهم أفضل الخلق وأشرَفهم وأعلمهم وأتقاهم واشجَعَهم وأورعهم، وأحفظهم لحرمات الله سبحانه، وأحكم الناس إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي يجب أن يتّصف بها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام)...(2)

النص الثامن

عن عبد الرحمن بن كثير، قال، قال أبو عبد الله (عليه السلام) يوماً لأصحابه: لعن الله المغيرة بن سعيد، ولعن يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها السحر والشعبذة والمخاريق.

إن المغيرة كذب على أبي (عليه السلام)، فسلبه الله الإيمان، وأن قوماً كذبوا عليّ، مالهم أذاقهم الله حر الحديد، فوالله ما نحن الا عبيد الذي خلقنا واصطفانا،

ص: 193


1- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 233 وتفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص50.
2- الشيعة الفرقة الناجية- الحاج سعيد أبو معاش ج1 ص 237.

ما نقدر على ضرٍّ ولا نفع(1)، وإن رحمنا فبرحمته، وأن عذّبنا فبذنوبنا، والله ما لنا على الله من حجة، ولا معنا من الله براءة، وإنّا لميتون، ومقبورون، ومنشرون، ومبعوثون، وموقوفون، ومسؤولون، ويلهم مالهم لعنهم الله فلقد آذوا الله وآذوا رسوله (صلى الله عليه وآله) في قبره وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي (صلوات الله عليهم).

وها أنا ذا بين أظهر كم لحم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجلد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أبيت على فراشي خائفاً وجلاً مرعوباً، يأمنون وأفزع، وينامون على فرشهم، وأنا خائف ساهر وجل أتقلقل بين الجبال والبراري، أبرأ إلى الله مما قال فيّ الأجدع البراد عبد بني أسد أبو الخطاب لعنه الله(2)،

والله لو ابتُلوا بنا وأمرناهم بذلك، لكان الواجب ألا يقبلوه، فكيف، وهم يروني خائفاً وجلاً، استعدي الله عليهم وأتبرأ إلى الله منهم.

ص: 194


1- يعني بالاستقلال عن الله تعالى.
2- الخطابية، أتباع أبي الخطاب الأسدي: وهم يقولون إن الإمامة كانت في أولاد علي، إلى أن انتهت إلى جعفر الصادق، ويزعمون أن الأئمة كانوا آلهة، وكان أبو الخطاب يزعم أولا أن الأئمة أنبياء، ثم زعم أنهم آلهة، وأن الأولاد الحسن والحسين كانوا أبناء الله وأحباءه، وكان يقول: إن جعفرا إله، فلما بلغ ذلك جعفرا لعنه وطرده. وكان أبو الخطاب يدعي بعد ذلك الإلهية لنفسه، وزعم أتباعه أن جعفرا إله، غير أن أبا الخطاب أفضل منه وأفضل من علي. والخطابية يرون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم، ثم إن أبا الخطاب نصب خيمة في كناسة الكوفة ودعا فيها أتباعه إلى عبادة جعفر، ثم خرج أبو الخطاب على والي الكوفة في أيام المنصور، فبعث إليه المنصور بعيسى بن موسى في جيش كثيف، فأسروه فصلب في كناسة الكوفة. [الفرق بين الفِرَق- عبد القاهر بن محمد البغدادي ص 223].

أشهدكم أني امرؤ ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما معي براءة من الله، إنْ أطعته رحمني، وإنْ عصيتُه عذّبني عذاباً شديداً أو أشدّ عذابه.(1)

فالإمام الصادق (عليه السلام) هنا يُصرح بأنه يتصف بصفات المخلوقين، فلا يمكن أن يتصور عاقل أنه إله.

النص التاسع

وممّا خرج عن صاحب الزّمان (عجَّل الله فرجه) ردّاً على الغلاة من التّوقيع جواباً لكتاب كتب إليه على يدي محمّد بن عليّ بن هلال الكرخيّ: «يا محمّد بن عليّ تعالى الله (عزَّ وجلَّ) عمّا يصفون سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه تبارك وتعالى ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إِلّا اَللهُ﴾، وأنا -وجميع آبائي من الأوّلين آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من النّبيّين ومن الآخرين محمّد رسول الله وعليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وغيرهم ممّن مضى من الأئمّة (صلوات الله عليهم أجمعين) إلى مبلغ أيّامي ومنتهى عصري- عبيد الله (عزَّ وجلَّ)... وأشهد الله الّذي لا إله إلّا هو وكفى به شهيداً، ومحمّداً رسوله وملائكته وأنبياءه وأولياءه، وأشهدك وأشهد كلّ من سمع كتابي هذا أنّي بريء إلى الله وإلى رسوله ممّن يقول إنّا نعلم الغيب، أو نشارك الله في ملكه، أو يحلّنا محلّاً سوى المحلّ الّذي نصبه الله لنا وخلقنا له، أو يتعدّى بنا عمّا قد فسّرته لك

ص: 195


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي ج2 ص 491 و 492 رقم 403.

وبيّنته في صدر كتابي...»(1)

تنبيه مهم: في عظمة مقام الإمامة والإمام

إن النصوص وإن أكّدت على ضرورة البراءة من الغلاة، وعلى أن أهل البيت (عليهم السلام) هم عبيد لله تعالى، لكن هذا لا يعني أن يتم التعامل مع الإمام والإمامة تعاملاً ساذجاً أو هامشياً، ولا يتم التعاطي معها على أنها مجرد منصب تشريفي أو إداري بسيط، كلا، فإن الإمامة من العظمة بحيث لا يُمكن للبشر العاديين أن يُدركوا حقها أو معناها، وهو مفاد ما أشارت له بعض النصوص المتقدمة من أنه يمكن لنا أن ننسب المقامات العظيمة لهم (عليهم السلام)، بشرط أن لا ننسب لهم المقالات الخاصة بالله جل وعلا.

هذا، وهناك نص مشهور عن الإمام الرضا (عليه السلام) يُبين فيه عظمة مقام الإمامة والإمام، ننقل بعض فقراته لنطلع على ما تدركه عقولنا من تلك العظمة.

فقد روي عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ الرِّضَا (عليه السلام) بِمَرْوَ فَاجْتَمَعْنَا فِي الْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي بَدْءِ مَقْدَمِنَا، فَأَدَارُوا أَمْرَ الإِمَامَةِ وذَكَرُوا كَثْرَةَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا، فَدَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي (عليه السلام) فَأَعْلَمْتُه خَوْضَ النَّاسِ فِيه، فَتَبَسَّمَ (عليه السلام) ثُمَّ قَالَ:

ص: 196


1- الإرشاد: ص364، ج2، باب طرف من دلائل صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)؛ بحار الأنوار: ص299، ج51، باب15 - ما ظهر من معجزاته؛ تقريب المعارف: ص195؛ كشف الغمة: ص454، ج2 باب طرف من دلائل صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه).

يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ، جَهِلَ الْقَوْمُ وخُدِعُوا عَنْ آرَائِهِمْ، إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّه (صلى الله عليه وآله) حَتَّى أَكْمَلَ لَه الدِّينَ، وأَنْزَلَ عَلَيْه الْقُرْآنَ فِيه تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، بَيَّنَ فِيه الْحَلَالَ والْحَرَامَ والْحُدُودَ والأَحْكَامَ وجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْه النَّاسُ...

... إِنَّ الإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً وأَعْظَمُ شَأْناً وأَعْلَى مَكَاناً وأَمْنَعُ جَانِباً وأَبْعَدُ غَوْراً مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ.

إِنَّ الإِمَامَةَ خَصَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (عليه السلام) بَعْدَ النُّبُوَّةِ والْخُلَّةِ مَرْتَبَةً ثَالِثَةً وفَضِيلَةً شَرَّفَه بِهَا وأَشَادَ بِهَا ذِكْرَه فَقَالَ: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، فَقَالَ الْخَلِيلُ (عليه السلام) سُرُوراً بِهَا: (ومِنْ ذُرِّيَّتِي) قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، فَأَبْطَلَتْ هَذِه الآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ ثُمَّ أَكْرَمَه اللهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهَا فِي ذُرِّيَّتِه أَهْلِ الصَّفْوَةِ والطَّهَارَةِ...

... إِنَّ الإِمَامَةَ هِيَ مَنْزِلَةُ الأَنْبِيَاءِ وإِرْثُ الأَوْصِيَاءِ.إِنَّ الإِمَامَةَ خِلَافَةُ الله وخِلَافَةُ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله) ومَقَامُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) ومِيرَاثُ الْحَسَنِ والْحُسَيْنِ (عليهما السلام).

إِنَّ الإِمَامَةَ زِمَامُ الدِّينِ ونِظَامُ الْمُسْلِمِينَ وصَلَاحُ الدُّنْيَا وعِزُّ الْمُؤْمِنِينَ.

إِنَّ الإِمَامَةَ أُسُّ الإِسْلَامِ النَّامِي وفَرْعُه السَّامِي.

بِالإِمَامِ تَمَامُ الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصِّيَامِ والْحَجِّ والْجِهَادِ وتَوْفِيرُ الْفَيْءِ والصَّدَقَاتِ وإِمْضَاءُ الْحُدُودِ والأَحْكَامِ ومَنْعُ الثُّغُورِ والأَطْرَافِ.

ص: 197

الإِمَامُ يُحِلُّ حَلَالَ الله ويُحَرِّمُ حَرَامَ الله ويُقِيمُ حُدُودَ الله ويَذُبُّ عَنْ دِينِ الله ويَدْعُو إِلَى سَبِيلِ رَبِّه بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ والْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ.

الإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ الْمُجَلِّلَةِ بِنُورِهَا لِلْعَالَمِ وهِيَ فِي الأُفُقِ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهَا الأَيْدِي والأَبْصَارُ.

الإِمَامُ الْبَدْرُ الْمُنِيرُ والسِّرَاجُ الزَّاهِرُ والنُّورُ السَّاطِعُ والنَّجْمُ الْهَادِي فِي غَيَاهِبِ الدُّجَى وأَجْوَازِ الْبُلْدَانِ والْقِفَارِ ولُجَجِ الْبِحَارِ.

الإِمَامُ الْمَاءُ الْعَذْبُ عَلَى الظَّمَأِ والدَّالُّ عَلَى الْهُدَى والْمُنْجِي مِنَ الرَّدَى...

الإِمَامُ الأَنِيسُ الرَّفِيقُ والْوَالِدُ الشَّفِيقُ والأَخُ الشَّقِيقُ والأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ...

الإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِه لَا يُدَانِيه أَحَدٌ ولَا يُعَادِلُه عَالِمٌ ولَا يُوجَدُ مِنْه بَدَلٌ ولَا لَه مِثْلٌ ولَا نَظِيرٌ مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّه مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْه لَه ولَا اكْتِسَابٍ، بَلِ اخْتِصَاصٌ مِنَ الْمُفْضِلِ الْوَهَّابِ.

فَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ أَوْ يُمْكِنُه اخْتِيَارُه هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ضَلَّتِ الْعُقُولُ وتَاهَتِ الْحُلُومُ وحَارَتِ الأَلْبَابُ وخَسَأَتِ الْعُيُونُ وتَصَاغَرَتِ الْعُظَمَاءُ وتَحَيَّرَتِ الْحُكَمَاءُ وتَقَاصَرَتِ الْحُلَمَاءُ وحَصِرَتِ الْخُطَبَاءُ وجَهِلَتِ الأَلِبَّاءُ وكَلَّتِ الشُّعَرَاءُ وعَجَزَتِ الأُدَبَاءُ وعَيِيَتِ الْبُلَغَاءُ عَنْ وَصْفِ شَأْنٍ مِنْ شَأْنِه أَوْ فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِه وأَقَرَّتْ بِالْعَجْزِ والتَّقْصِيرِ...(1)

ص: 198


1- الكافي للكليني ج1 ص 198 – 202 بَابٌ نَادِرٌ جَامِعٌ فِي فَضْلِ الإِمَامِ وصِفَاتِه ح1.
الخطوة الثالثة: الغلو في كلمات بعض الأعلام
اشارة

إن مطالعة تراث علمائنا الأعاظم، يشهد بأن المقصود من الغلو هو تجاوز الحد إلى غيره، وسنقتصر هنا على نقل بعض من كلماتهم:

الكلمة الأولى: للشيخ المفيد (قدس سره) ( 336 - 413 ه )

يصرح الشيخ المفيد (قدس سره) بأن الغلاة هم:

1/من نسبوا الألوهية إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

2/ من نسبوا النبوة إليهم (عليهم السلام).

3/ من وصفوهم بما هو خارج حد الإنسانية، مما دلت الأدلة الضرورية على عدم إمكان وصفهم (عليهم السلام) بها.

4/ من يقول بالتفويض مع الاستقلال عن الله تعالى، سواء قال بأن المفوَّض إليه قديم أو حادث، فمن قال بأن الله تعالى فوّض الأمر إلى أهل البيت (عليهم السلام) بحيث أصبحوا (عليهم السلام) مستقلين عن الله تعالى، فهو من الغلو.

قال ما نصه:

والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته (عليهم السلام) إلى الألوهية والنبوة، ووصفوهم من

ص: 199

الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد، وخرجوا عن القصد، وهم ضلال كفار حكم فيهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمة (عليهم السلام) عليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام...

... والمفوضة صنف من الغلاة، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة وخلقهم ونفي القدم عنهم وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم، ودعواهم أن الله سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم خاصة، وأنه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال..(1)

الكلمة الثانية: للشيخ محمد حسن النجفي الجواهري (قدس سره)، (المتوفى سنة 1266)

صرّح الشيخ (قدس سره) بأن الغلاة هم:

1/من ادعوا ألوهية أهل البيت (عليهم السلام).

2/ من ادعوا ألوهية أي أحد من الناس.

قال ما نصه:

وأما الغلاة وهم الذين تجاوزوا الحد في الأئمة (عليه السلام) حتى ادعوا فيهم الربوبية، قيل: وقد يطلق الغلو على من قال بإلهية أحد من الناس...(2)

ص: 200


1- تصحيح اعتقادات الإمامية للشيخ المفيد ص 131 – 134.
2- جواهر الكلام للشيخ الجواهري ج6 ص 50.
الكلمة الثالثة: للشيخ المجلسي (قدس سره) ( توفي 1111 ه)
اشارة

الكلمة الثالثة: للشيخ المجلسي (قدس سره) (1)

( توفي 1111 ه):

يُستفاد من كلمات العلامة المجلسي عدة أمور:

الأمر الأول

أن الغلو في أهل البيت (عليهم السلام) له عدة صور:

أ: القول بألوهيتهم.

ب:القول باستقلالهم عن الله تعالى.

ج: القول بأنهم (عليهم السلام) شركاء لله تعالى في المعبودية أو في الخلق والرزق.

د: القول بحلول الله تعالى فيهم أو اتحاده معهم.(2)

ه-: القول باستقلالهم بعلم الغيب أو الرزق أو الخلق.

و: القول بأن الأئمة (عليهم السلام) كانوا أنبياء.

ز: القول بتناسخ أرواحهم.(3)

ح: القول بكفاية معرفتهم النظرية عن التزام الطاعات، وأنها تغني عن امتثال التكاليف.

قال العلامة (قدس سره):

اعلم أن الغلو في النبي والأئمة (عليهم السلام) إنما يكون بالقول بألوهيتهم، أو استقلالهم عن الله تعالى، أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبودية أو في الخلق والرزق، أو أن الله تعالى حلّ فيهم أو اتحد بهم، أو أنهم يعلمون

ص: 201


1- انظر: بحار الأنوار ج25 ص346 و 347.
2- وسنبين سبب امتناع ذلك في الكلمة التالية إن شاء الله تعالى.
3- وسنتحدث عن معنى التناسخ إن شاء الله تعالى في المقالة الخامسة.

الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى، أو بالقول في الأئمة (عليهم السلام) أنهم كانوا أنبياء، أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأن معرفتهم تغني عن جميع الطاعات ولا تكليف معها بترك المعاصي.

الأمر الثاني

أن هذه الأقوال كلها تعني الكفر، ويلزم منها الخروج عن الدين.(1)

فقال ما نصه:

والقول بكل منها إلحاد وكفر وخروج عن الدين كما دلت عليه الأدلة العقلية والآيات والاخبار السالفة وغيرها، وقد عرفت أن الأئمة عليهم السلام تبرؤوا منهم وحكموا بكفرهم وأمروا بقتلهم.

الأمر الثالث

أنه لو وردت رواية يظهر منها الغلو فيهم (عليهم السلام) بإحدى الصور المتقدمة، فهي لا تخلو إما أن تكون مؤولة، أو هي من وضع الغلاة أنفسهم، ولا يُعقل أن يكون أهل البيت (عليهم السلام) قالوا أو نسبوها لأنفسهم، كيف والحال أنه ورد أن أهل البيت (عليهم السلام) قد حاربوا فكرة الغلو فيهم، بل وعاقبوا من قال فيهم ذلك.

قال ما نصه:

وإن قرع سمعك شيءٌ من الأخبار الموهمة لشيء من ذلك، فهي إما مؤولة، أو هي من مفتريات الغلاة.

الأمر الرابع

أن الغلو فيهم (عليهم السلام) إنما يكون بهذه الصور المذكورة، فهي التي يتحقق فيها الخروج عن حدهم الوجودي إلى غيره، أما نسبة المقامات

ص: 202


1- أما لماذا يلزم ذلك؟ فهذا ما سيبينه السيد الشهيد الصدر (قدس سره) في كلمته التي سننقلها عنه إن شاء الله تعالى.

العالية لهم، وإن كانت فوق المستوى العام للبشرية، فهذا لا يُعد غلواً، ما دام هو بإذن الله تعالى وعدم استقلال عنه، وإن اشتبه بعضٌ واعتبر هذه الأمور من الغلو فيهم، من قبيل: نفي السهو عنهم (عليهم السلام)، أو القول بأنهم يعلمون الغيب، فهذا لا مشكلة فيه ما دام بإذن الله تعالى وبتعليم منه جل وعلا.

قال ما نصه:

ولكن أفرط بعض المتكلمين والمحدثين في الغلو لقصورهم عن معرفة الأئمة (عليهم السلام) وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم، فقدحوا في كثير من الرواة الثقات لنقلهم بعض غرائب المعجزات، حتى قال بعضهم: من الغلو نفي السهو عنهم، أو القول بأنهم يعلمون ما كان وما يكون وغير ذلك، مع أنه قد ورد في أخبار كثيرة (لا تقولوا فينا ربا وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا)، وورد: (أن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان) وورد: (لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله) وغير ذلك مما مر وسيأتي.

الأمر الخامس

بعد هذا العرض، قدّم العلامة نصيحة للباحث، في أن لا يستعجل بردّ المقامات الكمالية لأهل البيت (عليهم السلام)، بل عليه أن يتريث، ويعمل على مطابقة المقام الكمالي مع أصول الدين والمذهب، فإن رآه متوافقاً معها فيقبله، وإلا فيمكنه رفضه فيما لو صدقت عليه إحدى صور الغلو المتقدمة.

قال ما نصه:

فلابد للمؤمن المتدين أن لا يبادر برد ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أمورهم إلا إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو

ص: 203

بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة كما مر في باب التسليم وغيره.

الكلمة الرابعة: للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) (توفي 1400 ه)

الكلمة الرابعة: للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) (1) (توفي 1400 ه):

يُستفاد من بعض كلماته (قدس سره) في بيان معنى الغلو ومصاديقه الأمور التالية:

الأمر الأول: أن الغلو له ثلاثة أنحاء: غلو في مرتبة الألوهية، وغلو في مرتبة النبوة، وغلو في شؤون أخرى من الشؤون المتصلة بصفات الخالق تعالى وأفعاله.

الأمر الثاني: أن الغلو في الألوهية يتحقق بالتالي:

أ: الاعتقاد بألوهية شخص ما، وهو كفر، لأنه إنكار لله تعالى.ب: الاعتقاد بالشريك لله تعالى، فإنه غلو في شخص الشريك، ولا فرق في هذه الصورة بين القول بأن الشريك مستقل عن الله تعالى وفي عرضه، وبين القول بأنه شريك له في طوله، فهو مخلوق له، ولكنه شريك له في الخالقية أو العبادة مثلاً.

وهذا كفر، لأنه ينافي التوحيد.

ج: القول بحلول الله تعالى أو اتحاده مع مخلوق، بحيث يُدّعى أن مخلوقاً يمشي في الأسواق ويأكل الطعام قد حلّ فيه الله تعالى، أو أنه اتحد معه.

وهذا أيضاً كفر، لأنه ينافي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) من جهتين:

ص: 204


1- شرح العروة الوثقى للسيد محمد باقر الصدر ج3 شرح ص 305 – 307.

الجهة الأولى: أن كلمة التوحيد تعني أنه لا يوجد إله آخر غير الله تعالى، والقول بالحلول أو الاتحاد يعني وجود إله آخر غيره جل وعلا، وهو من حلّ فيه، وهذا كفر واضح، وهو يتنافى مع المستثنى منه في كلمة (لا إله إلا الله).

الجهة الثانية: أن كلمة التوحيد دلت على أن الإله هو فقط الله تبارك وتعالى، وهو جل وعلا متصف بالصفات الكمالية غير المتناهية، وتلك الصفات الكمالية غير المتناهية لا تتناسب مع صفات المخلوقين، من المشي في الأسواق، والأكل، والنوم، فكيف يُتصور أن الله تعالى يحل في إنسان أو يتحد معه، والحال أن هذا الاتحاد والحلول يلزم منه أن يتصف (الله) تبارك وتعالى بصفات المخلوقين من الأكل والشرب والنوم وما شابه، مما يعني أن القول بهما يعني الكفر بالله تعالى ذي الصفات الكمالية غير المتناهية، والاعتقاد بأنه متصف بصفات المخلوقين.

قال السيد الشهيد (قدس سره) ما نصه:

أن الغلو تارة: يكون بلحاظ مرتبة الألوهية، وأخرى: بلحاظ مرتبة النبوة، وثالثة: بلحاظ شؤون أخرى من الشؤون المتصلة بصفات الخالق تعالى وأفعاله.

أما الغلو بلحاظ مرتبة الألوهية، فيتمثل تارة: في اعتقاد الشخص بأن من غلا في حقه هو الله تعالى. وأخرى: في اعتقاده بأنه غير الله الواجب الوجود، إلا أنه شريكه في الألوهية واستحقاق العبادة، إما بنحو عرضي أو بنحو طولي. وثالثة: في اعتقاده بحلول الله أو اتحاده مع ذلك الغير.

وكل ذلك كفر: أما الأول، فلأنه إنكار لله، وأما الثاني، فلأنه إنكار

ص: 205

للتوحيد وأما الثالث، فلأن الحلول والاتحاد مرجعهما إلى دعوى ألوهية غير الله، لأنهما بالنظر العرفي واسطتان في الثبوت، فينافي مع عقد المستثنى منه بحسب المدلول العرفي لشهادة أن (لا إله إلا الله)، بل ينافي مع عقد المستثنى أيضاً، لأن كلمة (الله) في عقد المستثنى بحسب مدلولها الارتكازي تشتمل على كثير من الصفات المنافية لأحوال من غلا في حقه، كالمشي في الأسواق والأكل والشرب.

الأمر الثالث: أما الغلو في مرتبة النبوة، فمصاديقه هي:

أ: الاعتقاد بأن شخصاً ما أفضل من النبي (صلى الله عليه وآله)، لا فرق في ذلك بين كونه إماماً أو شخصاً عادياً.

ب: الاعتقاد بأن ذلك الشخص هو الواسطة بين النبي من جهة، وبين الله تعالى من جهة أخرى.

ج: الاعتقاد بأن ذلك الشخص مساوٍ للنبي (صلى الله عليه وآله).

وفي كل هذه الصور، يكون المعنى أن ذلك الشخص المغالى فيه غير مشمول لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه إما أفضل أو مساو أو هو الواسطة بين النبي والسماء، فلا تشمله الأحكام التكليفية التي يجيء بها النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا يلزمه أن يمتثل أوامره (صلى الله عليه وآله).

وكل ذلك كفر، لأنه ينافي الشهادة له (صلى الله عليه وآله) بأنه رسول الله، الذي يعني شموليته رسالته إلى جميع المكلفين من دون استثناء.

ص: 206

قال السيد الشهيد الصدر (قدس ره) ما نصه:

وأما الغلو بلحاظ مرتبة النبوة، فيتمثل في اعتقاد المغالي بأن من غلا في حقه أفضل من النبي وأنه همزة الوصل بين النبي والله أو أنه مساو له على نحو لا تكون رسالة النبي بين الله والعباد شاملة له.

وكل ذلك يوجب الكفر، لمنافاته للشهادة الثانية بمدلولها الارتكازي في ذهن المتشرعة المشتمل على التسليم بأن النبي (صلى الله عليه وآله) رسول الله إلى جميع المكلفين من دون استثناء.

الأمر الرابع: وأما الغلو بلحاظ الصفات والأفعال:

فبيانه من خلال التالي:

أ/ أنه بمعنى نسبة صفة معينة، أو فعل معين، إلى شخص ما، بحيث تكون تلك الصفة والفعل على غير المستوى الواقعي لذلك الشخص.

ب/ هذه الصفات على نحوين: فمنها ما ثبت كونه من مختصات الباري جل وعلا، ومنها ما لا يكون كذلك.

ج/ فإن نُسب إلى شخص ما، صفة هي من النحو الأول، فهذا كفر، لأنه يدخل في إنكار الضروري، كما لو نسب لشخص أنه تم تفويض الأمور إليه على نحو الاستقلال عن الله تعالى، كالخلق والإحياء والإماتة وما شابه.

وإلا، فلا مشكلة فيه، كما لو اُدّعي التفويض لكن لا بالاستقلال عن الله تعالى، وإنما بإذنه جل وعلا وتفويض منه وتوكيل، مع بقاء قدرة الله تعالى

ص: 207

على حالها، لا تنقص، ولا تُقيَّد، ولا تُحدَّد.

قال السيد الشهيد (قدس سره) ما نصه:

وأما الغلو بلحاظ الصفات والأفعال بمعنى نسبة صفة أو فعل لشخص ليس على مستواهما، فإن كان اختصاص تلك الصفة أو الفعل بالله تعالى من ضروريات الدين دخل في إنكار الضروري على الخلاف المتقدم فيه وإلا لم يكن كفرا.

ويدخل في الأول: ادعاء تفويض الأمر من الله تعالى لأحد من عباده، ونسبة الخلق، والإحياء، والإماتة، ونحو ذلك من أنحاء التدبير الغيبي لهذا العالم إلى أحد من الناس.

ص: 208

الخطوة الرابعة: تفصيل بعض دعاوى الغلو
اشارة

ادعى الغلاة بعض المقالات لأهل البيت (عليهم السلام) مما تجاوزوا فيه الحد، والبعض منها صحيح في بعض مراتبه دون بعض، ونذكر هنا بعض تلك المقالات لنعرف حقيقة الحال فيها، بمعنى أننا سنذكر المقالات التي فيها غلو في أهل البيت (عليهم السلام)، أو التي قيل بأنها من الغلو لنعرف حقيقة الحال فيها، وبعضها تقدم تفصيل الكلام فيه في المباحث السابقة، وبعضها لم يتقدم الحديث فيها، فسنفصل الحديث فيها إن شاء الله تعالى.

والمقالات الإحدى عشرة هي:

المقالة الأولى: أنهم (عليهم السلام) آلهة.

المقالة الثانية: أنهم (عليهم السلام) أنبياء.

المقالة الثالثة: التفويض.

المقالة الرابعة: أنهم يعلمون الغيب.

المقالة الخامسة: تناسخ أرواحهم (عليهم السلام).

المقالة السادسة: الإيحاء إليهم (عليهم السلام).

ص: 209

المقالة السابعة: أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على الأنبياء.

المقالة الثامنة: العصمة.

المقالة التاسعة: العلم الخاص.

المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة (عليهم السلام).

المقالة الحادية عشرة: الولاية التشريعية لأهل البيت (عليهم السلام).

ص: 210

المقالة الأولى: أنهم (عليهم السلام) آلهة

كان محمّد بن نصير النميري يدّعي أنَّه رسول نبي، وأنَّ عليّ بن محمّد (عليه السلام) أرسله، وكان يقول بالتناسخ ويغلو في أبي الحسن ويقول فيه بالربوبية...(1).

و...كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ النُّمَيْريُّ مِنْ أصْحَابِ أبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَن (عليه السلام) فَلَمَّا تُوُفّيَ ادَّعَى النّيَابَةَ لِصَاحِبِ الزَّمَان عليه السلام فَفَضَحَهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الإلْحَادِ وَالْغُلُوَّ وَالْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخ وَقَدْ كَانَ(2)

يَدَّعِي أنَّهُ رَسُولُ نَبِيٍّ، أرْسَلَهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَيَقُولُ فِيهِ بِالرُّبُوبيَّةِ، وَيَقُولُ بِالإجَابَةِ(3) لِلْمَحَارم... (4).

وقال أبو نصر هبة الله بن محمّد بن أحمد الكاتب ابن بنت اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري رضي الله عنه: إنَّ أبا دلف محمّد بن مظفّر الكاتب كان في ابتداء أمره مخمّساً(5)

مشهوراً بذلك لأنَّه كان تربية الكرخيين وتلميذهم وصنيعتهم وكان الكرخيون مخمّسة لا يشكّ في ذلك أحد من

ص: 211


1- الغيبة للطوسي: 398/ رقم 371.
2- في المصدر إضافة: (أيضاً).
3- في المصدر: (بالإباحة).
4- الاحتجاج 2: 552/ ذكر المذمومين/ ح 348.
5- هم فرقة من الغلاة يقولون بألوهية أصحاب الكساء الخمسة: محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بأنَّهم نور واحد والروح حالّة فيهم بالسوية لا فضل لواحد على الآخر. راجع: الملل والنحل للشهرستاني 1: 175.

الشيعة، وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به ويقول: نقلي سيّدنا الشيخ الصالح قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه عن مذهب أبي جعفر الكرخي إلى المذهب الصحيح يعني أبا بكر البغدادي. (1).

وهذه واضحة البطلان، ولا تحتاج إلى تجشم عناء البحث، وقد تقدمت بعض النصوص الدالة على أن المعصوم تبرأ ولعن من ادعى فيهم ذلك.

ص: 212


1- الغيبة للطوسي: 414/ رقم 390.
المقالة الثانية: أنهم (عليهم السلام) أنبياء

جاء في الاحتجاج: و...كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ النُّمَيْريُّ مِنْ أصْحَابِ أبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَن (عليه السلام) فَلَمَّا تُوُفّيَ ادَّعَى النّيَابَةَ لِصَاحِبِ الزَّمَان عليه السلام فَفَضَحَهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الإلْحَادِ وَالْغُلُوَّ وَالْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخ وَقَدْ كَانَ(1)

يَدَّعِي أنَّهُ رَسُولُ نَبِيٍّ، أرْسَلَهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَيَقُولُ فِيهِ بِالرُّبُوبيَّةِ، وَيَقُولُ بِالإجَابَةِ(2) لِلْمَحَارم... (3).

وهذه كسابقتها لا تحتاج إلى بحث لإثبات بطلانها، فإن القرآن الكريم صريح في أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) خاتم النبيين، فضلاً عن النصوص الروائية، من قبيل حديث المنزلة.

قال تعالى (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)(4)

ص: 213


1- في المصدر إضافة: (أيضاً).
2- في المصدر: (بالإباحة).
3- الاحتجاج 2: 552/ ذكر المذمومين/ ح 348.
4- الأحزاب 40

ص: 214

المقالة الثالثة: التفويض

تقدم الحديث بالتفصيل عن معاني التفويض(1)،

وتبيّن أن التفويض الذي يستلزم الشرك هو التفويض مع القول باستقلال الإمام عن الله تعالى، أما التفويض بإذنه جل وعلا، فلا مانع شرعياً ولا عقلياً منه، بل إنه مما دل الواقع والنصوص على تحققه في عالمنا، وقد ذكرنا في مباحث العدل الإلهي تفاصيل تلك النصوص، فراجع.

ص: 215


1- المسألة الثالثة من مسائل بحث العدل الإلهي.

ص: 216

المقالة الرابعة: أنهم يعلمون الغيب

فإنه من الغلو لو اُدّعي استقلالهم فيه، وإلا، فلا مانع منه قرآنياً وروائياً، وقد تقدم الحديث بالتفصيل عنه في آخر مبحث الإمامة، وبالضبط في (التساؤل السادس: حول علم الأئمة (عليهم السلام) بالغيب.)، وتقدم أن علمهم (عليهم السلام) بالغيب ليس استقلالياً عن الله تعالى، وإنما هو بتعليم منه جل وعلا، وهذا لا يتنافى مع التوحيد، ولا يلزم منه الغلو.

ص: 217

ص: 218

المقالة الخامسة: تناسخ أرواحهم (عليهم السلام)
اشارة

زعم بعض الغلاة أن أرواح أهل البيت (عليهم السلام) تتناسخ فيما بينها، فمثلاً: كان محمّد بن نصير النميري يدّعي أنَّه رسول نبي، وأنَّ عليّ بن محمّد (عليه السلام) أرسله، وكان يقول بالتناسخ ويغلو في أبي الحسن ويقول فيه بالربوبية...(1).

وفي الاحتجاج: ...كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ النُّمَيْريُّ مِنْ أصْحَابِ أبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَن (عليه السلام) فَلَمَّا تُوُفّيَ ادَّعَى النّيَابَةَ لِصَاحِبِ الزَّمَان عليه السلام فَفَضَحَهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الإلْحَادِ وَالْغُلُوَّ وَالْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخ وَقَدْ كَانَ(2)

يَدَّعِي أنَّهُ رَسُولُ نَبِيٍّ، أرْسَلَهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَيَقُولُ فِيهِ بِالرُّبُوبيَّةِ، وَيَقُولُ بِالإجَابَةِ(3) لِلْمَحَارم... (4).

ومن ذلك ما فعله ابن أبي العزاقر من ادعائه أن روح رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتقلت إلى محمّد بن عثمان (رضي الله عنه)، وروح أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، وروح الزهراء (عليها السلام) انتقلت إلى أم كلثوم بين أبي جعفر العمري، الملقبة بالكبيرة، فقد روى الشيخ في الغيبة قال:

ص: 219


1- الغيبة للطوسي: 398/ رقم 371.
2- في المصدر إضافة: (أيضاً).
3- في المصدر: (بالإباحة).
4- الاحتجاج 2: 552/ ذكر المذمومين/ ح 348.

...قالت الكبيرة (رضي الله عنها): وقد كنت أخبرت الشيخ أبا القاسم أنَّ اُمّ أبي جعفر بن بسطام قالت لي يوماً وقد دخلنا إليها فاستقبلتني وأعظمتني وزادت في إعظامي حتَّى انكبَّت على رجلي تقبلها فأنكرت ذلك وقلت لها: مهلاً يا ستي(1) فإنَّ هذا أمر عظيم، وانكببت على يدها فبكت.

ثُمَّ قالت: كيف لا أفعل بك هذا وأنت مولاتي فاطمة؟ فقلت لها: وكيف ذاك يا ستي؟ فقالت لي: إنَّ الشيخ _ يعني أبا جعفر محمّد بن علي _ خرج إلينا بالستر(2)، قالت: فقلت لها: وما الستر؟ قالت: قد أخذ علينا كتمانه وأفزع إن أنا أذعته عوقبت، قالت: وأعطيتها موثقاً أنّي لا أكشفه لأحد واعتقدت في نفسي الاستثناء بالشيخ رضي الله عنه _ يعني أبا القاسم الحسين بن روح _.

قالت: إنَّ الشيخ أبا جعفر قال لنا: إنَّ روح رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتقلت إلى أبيك، يعني: أبا جعفر محمّد بن عثمان (رضي الله عنه)، وروح أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، وروح مولاتنا فاطمة (عليها السلام) انتقلت إليك فكيف لا اُعظمك يا ستنا؟

فقلت لها: مهلاً لا تفعلي فإنَّ هذا كذب يا ستنا. فقالت لي: سرّ عظيم

ص: 220


1- قال الفيروزآبادي: (وستى) للمرأة أي يا ست جهاتي، أو لحن والصواب سيّدتي. وقال الشارح: ويحتمل أنَّ الأصل سيّدتي فحذف بعض حروف الكلمة، وله نظائر قاله الشهاب القاسمي، وأنشدنا غير واحد من مشايخنا للبهاء زهير: بروحي من اسميها بستي * * * فينظر لي النحاة بعين مقت يرون بأنَّني قد قلت لحنا * * * وكيف وإنَّني لزهير وقتي ولكن غادة ملكت جهاتي * * * فلا لحن إذا ما قلت ستي
2- في المصدر: (السرّ) وكذا في ما بعد.

وقد اُخذ علينا أن لا نكشف هذا لأحد فالله الله فيَّ، لا يحلّ بي العذاب، ويا ستي لو[لا] حملتني على كشفه ما كشفته لك ولا لأحد غيرك.

قالت الكبيرة اُمّ كلثوم (رضي الله عنها): فلمَّا انصرفت من عندها دخلت إلى الشيخ أبي القاسم بن روح رضي الله عنه فأخبرته بالقصّة وكان يثق بي ويركن إلى قولي فقال لي: يا بنية إيّاك أن تمضي إلى هذه المرأة بعدما جرى منها، ولا تقبلي لها رقعة إن كاتبتك، ولا رسولاً إن أنفذته إليك، ولا تلقاها بعد قولها، فهذا كفر بالله تعالى وإلحاد قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقاً إلى أن يقول لهم بأن الله تعالى اتّحد به، وحلَّ فيه، كما تقول النصارى في المسيح عليه السلام ويعدو إلى قول الحلاّج لعنه الله.

قالت: فهجرت بني بسطام، وتركت المضي إليهم ولم أقبل لهم عذراً ولا لقيت اُمّهم بعدها، وشاع في بني نوبخت الحديث فلم يبقَ أحد إلاَّ وتقدَّم إليه الشيخ أبو القاسم وكاتبه بلعن أبي جعفر الشلمغاني والبراءة منه ومن يتولاه ورضي بقوله أو كلَّمه فضلاً عن موالاته.

ثُمَّ ظهر التوقيع من صاحب الزمان عليه السلام بلعن أبي جعفر محمّد بن عليّ والبراءة منه وممن تابعه وشايعه ورضي بقوله، وأقام على توليه بعد المعرفة بهذا التوقيع... (1).

وتنقل لنا بعض النصوص أن منهم من كانوا في زمن الأئمة (عليهم السلام)، فقد جاء في رواية الإمام الرضا (عليه السلام) مع المأمون العباسي أنه: قال المأمون: يا أبا

ص: 221


1- الغيبة للطوسي: 403/ رقم 378.

الحسن، فما تقول في القائلين بالتناسخ؟ فقال الرضا (عليه السلام): من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم، مكذِّب بالجنة والنار.(1)

إن هذا النص يكفينا للقول ببطلان التناسخ وكفر من يقول به تعبداً، ولكن، ولزيادة الإيضاح، ولذكر الدليل العقلي –بالإضافة إلى التعبدي- نذكر البحث التالي(2):

بحث إجمالي في التناسخ
اشارة

عادة ما يطرح العلماء هذا البحث ذيل البحث عن المعاد الجسماني، إذ قد يُقال: إن انتقال الروح من البدن الدنيوي إلى البدن الأخروي، هو نوع من التناسخ.

والبعض يذكره عند الحديث عن عالم الذر، إذ يُقال: إن القول بوجود الأرواح في عالم الذر، ثم انتقالها إلى البدن في الدنيا، هو نوع من التناسخ.

ويمكن أن يُذكر أيضاً في بحث الغلو، إذ إن البعض غالى في أهل البيت (عليهم السلام) وقال بأن أرواحهم تتناسخ فيما بينها، أو لعل البعض يقول بتناسخها إلى أبدان غيرهم.

لذا اقتضى بيان حقيقة الحال في التناسخ إمكاناً ووقوعاً وأدلة بطلانه.

ص: 222


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 218.
2- مستفاد من كتاب: علم النفس الفلسفي لآية الله الشيخ غلام رضا فياضي، تقرير سماحة الأستاذ السيد جعفر الحكيم، الدروس: (51 إلى 69).
التناسخ لغة

بمعنى الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظلَّ إذا أزالته، ونسخ الشيبُ الشبابَ.

ويأتي بمعنى النقل، فيقال: نسختُ الكتاب، إذا نقلته حرفاً بحرف.

التناسخ اصطلاحاً
اشارة

التناسخ مشترك لفظي بين معانٍ عديدة، وهي:

المعنى الأول: التناسخ الملكوتی
اشارة

وهو تمثّل الإنسان بشكل مثالي متناسب مع أعماله وملكاته ونواياه، أو قل: هو تجسّم وتمثّل الإنسان بصورة الملكات والأعمال، فالمتّقي العادل يتجسّم بصورة وشكل مَلَك، والفاسق يتمثّل بصورة حيوان بهيمة وهكذا.

وبعبارة ثانية: يمكن القول: إنّ للإنسان بدنين:

الأوّل: البدن المادّي المتعارف.

والثاني: البدن المثالي، أي الّذي يحمل بعض خواصّ المادّة، من الطول والعرض والعمق، دون آثار المادة، من الثقل والصلابة وما شابه، أشبه شيء بصورة الإنسان في المرآة، وهذا البدن هو ما يُعدّ له عملُ الإنسان ونيّته. فهو في أوّل حياته بشكل إنسان وباطنه أيضاً إنسان، ولكن بالأعمال الّتي يقوم بها يتبدّل باطنه إلى صورة حيوان –إن كانت أعماله ونيته سيئة- أو مَلَك -إن كانت أعماله ونيته صالحة-.

ص: 223

وقد ذكر صدر المتألهين أنّ الجميع قبل هذا المعنى من التناسخ، وأنّه ثابت بالنقل والكشف والبرهان.

و التمثّل والتناسخ الملكوتي له نحوان:

النحو الأول: تناسخ ملكوتي مع انقلاب البدن المادّي

كما في مثل قوله تعالى في أصحاب السبت: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(1)

إنّ ظاهرهم كانوا بشراً، ولكن بواطنهم كانت قردة, ثمّ انقلبت أبدانهم المادّية على شكل الباطن، فظاهر الآية أن نفس البدن انقلب، من دون انتقال النفس عنه، والشاهد هو كلمة (كُونُوا) أي إن بواطنهم تقولبت بشكل القردة، والله تعالى أمر أن يكون ظاهرهم كباطنهم.

النحو الثاني: تناسخ ملكوتي من دون انقلاب في ظاهر البدن

وقد أشار القرآن الكريم إلى العديد من هذه الصور، من قبيل: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)(2)

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)(3)

ص: 224


1- البقرة 65.
2- البقرة 275.
3- النساء 10.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(1)

(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(2)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ الله تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(3)

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ واللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(4)

المعنى الثاني: التناسخ المُلْكي
اشارة

وهو المقصود بالبحث هنا، وهو بمعنى:

انتقال النفس من بدن مادي، إلى بدن مادي آخر، بحيث تستكمل بالبدن

ص: 225


1- الأعراف 175 و 176.
2- الأعراف 179.
3- الحجرات 12.
4- الجمعة 5.

الثاني كما كانت تستكمل بالبدن الأول، وهكذا تنتقل إلى بدن ثالث بموت البدن الثاني...

وهذا المعنى ينقسم إلى:

1/التناسخ بالمعنى الأخص، ويسمّى النسخ

وهو انتقال النفس من بدن إنسان إلى بدن إنسان آخر.

2/التماسخ: ويسمّى المسخ

وهو انتقال النفس من بدن إنسان إلى بدن حيوان نتيجة مخالفاته وفعله المعصية.

3/التفاسخ: ويسمّى الفسخ

وهو انتقال النفس الدنيئة من بدن إنسان إلى جسم نباتي فيصير صورة النبات.

4/التراسخ

وهو انتقال النفس الدنيئة إلى جسم جماد.

تقسيم آخر للتناسخ الملكی
1/نزولي

مثل انتقال النفس من بدن إنسان إلى بدن حيوان, أو من بدن حيوان إلى جسم نباتي.

ص: 226

2/صعودي

مثل انتقال النفس من بدن حيوان إلى إنسان.

3/غيرهما

وهو انتقال النفس من بدن إلى بدن مشابه للأوّل؛ كالانتقال من بدن إنسان إلى بدن إنسان.

الآراء في التناسخ الملكی

اختلفت الآراء فيه على أقوال:

القول الأول:

إنه باطل مطلقاً وبجميع أقسامه.

القول الثاني:

إنه حق مطلقاً وواقع بجميع أقسامه.

القول الثالث:

إن الحق من أقسامه هو التناسخ النزولي فقط، لأن النفس التي تعمل الأعمال الدنيئة، فإنها لا تتحرر بالموت، وإنما تعاقب، وعقوبتها تكون بسجنها في أبدان أدون من البدن الأول.

وبعبارة أخرى:

أنّ الروح أوّل ما توجد فإنها توجد كإنسان، فإذا لم تستفد من الفرصة لتطهير نفسها من خلال اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل، حينها تتنزّل فتتعلّق ببدن حيوان أو نبات أو جماد حسب ما يناسب أعمالها التي اكتسبتها باختيارها.

وهذا يعني: أنه لا يمكن أن تتحقّق الروح ابتداءً في الحيوان، وإنّما تتحقّق أولاً في الإنسان، والإنسان هو مصنع توليد الحيوان, مما يعني: أنّ الحيوانات

ص: 227

الموجودة في عالمنا هي عبارة عن أبدان حيوانيّة تعلّقت بها أرواح إنسانيّة؛ فالروح أوّل ما توجد هي وجود متعال, ومن ثَمَّ فليس هناك بدن مستعدّ لها إلاّ البدن الإنساني, ولكنّها بأعمالها الرديّة تأخذ شكلاً حيوانياً وتهبط, فيكون بدن الحيوان قابلاً لها, فتنتقل إلى البدن الحيواني المتناسب مع الشكل الّذي اقتبسته، وربما تهبط إلى بدن نباتي أو جمادي.

القول الرابع:

إن الحق منها هو التناسخ الصعودي فقط، بحجة أن الروح الإنسانية لا توجد دفعة واحدة في الإنسان، وإنما لابد أن توجد بالتدريج، فتبدأ بمرتبتها الجمادية، حيث تكون في بدن جماد، ثم تتكامل لتكون نباتية في بدن نبات، فحيوانية في بدن حيوان، وانتهاء بالإنسانية في بدن إنسان، فهي بالتكامل تصل إلى مرحلة التعلق بأبدان إنسانية.

والحق، هو البطلان.

أدلة بطلان التناسخ
اشارة

أدلة بطلان التناسخ(1):

الدليل الأول: للمشاء

إن المشاء يبنون على أن النفس تحدث بحدوث البدن، لا قبله، بمعنى أنه عندما يحدث البدن ويُخلق، فبنفس اللحظة تحدث وتوجد النفس، وإلا، أي لو كانت النفس موجودة قبل البدن، للزم أن تكون النفس معطلة، إذ إنها إنما تفعل بواسطة البدن، فمن دونه تكون معطلة.

ص: 228


1- عند إطلاق التناسخ يقصد منه الملكي لا الملكوتي، وسيتم عرض الأدلة من دون نقاش، فيترك النقاش لمرحلة أعلى.

وهذا يعني: أنه عندما يحدث بدنٌ ما، فإن له نفساً واحدة تحدث بحدوثه.

ولكن التناسخ يقول: إنه سيكون لهذا البدن نفس أخرى جاءته من بدن آخر.

وعليه، فيلزم أن يكون لبدن واحد نفسان.

وهو خلاف الوجدان، لأننا نحس بأن لنا نفساً واحدة لا غير.

الدليل الثاني: لصدر المتألهين

استحالة الرجوع من القوة إلى الفعل.

بيانه:

1 - القوة بمعنى الفقدان، والفعل بمعنى الوجدان.

2 - إن النفس تتحرك بالحركة الجوهرية. (وقد تقدم معناها في أدلة التوحيد، في دليل الحركة بالتحديد).

3 - إن الحركة الجوهرية ذاتية، بمعنى أنها لا تحتاج إلى فاعل من خارج الذات، فهي للنفس كالناطق للإنسان، فلا يمكن أن تتخلف الحركة الجوهرية عن النفس.

4 - وهذه الحركة الذاتية معناها وحقيقتها هو الخروج من القوة إلى الفعل، من الفقدان إلى الوجدان.

وهذا قانون عقلي لا يختلف ولا يتخلف، وإلّا - أي لو انعدمت الحركة،

ص: 229

أو كانت عكسية من الفعل إلى القوة - للزم تخلف الذاتي عن الذات، وسلب الذاتي عن الذات، وهو محال، كسلب الناطق عن الإنسان المحال.

5 - التناسخ يعني بوضوح: أن النفس الإنسانية بعد أن تقطع شوطاً تكاملياً بحركتها الجوهرية - بحيث تحصل على كمالات متعددة - بعد ذلك تُنسخ، فترجع إلى بدن جديد (نطفة مثلاً)، وهذا معناه أنها سترجع إلى القوة بعد أن كانت بالفعل، وقد ثبت أنه محال.

النتيجة من كل ما تقدم:

1/أن التناسخ -بمعنى انتقال النفس من بدن إلى آخر- باطل.

2/وأما المعاد الجسماني فلا مانع منه، لأنه ليس انتقالاً للنفس من بدن إلى آخر، وإنما هي ترجع إلى نفس بدنها.

وقد دلت النصوص الدينية على المعاد الجسماني، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً﴾(1)

وقوله تعالى: ﴿وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(2)

وغيرها من النصوص المذكورة في علم الكلام عند الاستدلال على المعاد

ص: 330


1- النساء: 56.
2- فصلت: 21.

الجسماني.

3/ونفس الكلام يقال في عالم الذر، فإن النفس تعلقت فيه بالبدن، ثم انفصلت عنه، ثم عادت إلى نفس البدن لا غيره.

4/والحال فيهما يشبه حالة النوم، فإنه الروح تخرج من البدن وتعود إليه نفسه، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾(1)

ص: 231


1- الأنعام: 60.

ص: 232

المقالة السادسة: الإيحاء إليهم (عليهم السلام)
اشارة

جاء في بعض النصوص الروائية ما يُفهم منه أن أهل البيت (عليهم السلام) كان يوحى إليهم، أو قل: تنزل عليهم الملائكة، وهو ما قد يتوهم بعضٌ فيه شبهة الغلو، وحتى تتضح المسألة نذكر أمرين:

الأمر الأول: بعض النصوص الدالة على الإيحاء لأهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

إن النصوص الواردة في هذا المعنى كثيرة، نذكر منها التالي:

النص الأول

ما ورد من أن الملائكة كانت تحدث السيدة الزهراء (عليها السلام)، من قبيل ما روي عن إسحاق بن جعفر بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنما سُميت فاطمة (عليها السلام) محدَّثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وان الله (عزَّ وجلَّ) جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها، وسيدة نساء

ص: 233

الأولين والآخرين.(1)

النص الثاني

ما روي عن أبي بصير أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال له: وإن عندنا لمصحف فاطمة (عليها السلام)، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟! قال (عليه السلام): مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، إنما هو شيء أملاها الله تعالى وأوحى إليها...(2)

النص الثالث

عنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: سَأَلَ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْجَفْرِ. فَقَالَ (عليه السلام): هُوَ جِلْدُ ثَوْرٍ مَمْلُوءٌ عِلْماً. قَالَ لَه: فَالْجَامِعَةُ؟ قَالَ (عليه السلام): تِلْكَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فِي عَرْضِ الأَدِيمِ مِثْلُ فَخِذِ الْفَالِجِ(3)، فِيهَا كُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه، ولَيْسَ مِنْ قَضِيَّةٍ إِلَّا وهِيَ فِيهَا، حَتَّى أَرْشُ الْخَدْشِ.

قَالَ: فَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟ قَالَ: فَسَكَتَ (عليه السلام) طَوِيلاً ثُمَّ قَالَ:

إِنَّكُمْ لَتَبْحَثُونَ عَمَّا تُرِيدُونَ وعَمَّا لَا تُرِيدُونَ، إِنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) خَمْسَةً وسَبْعِينَ يَوْماً، وكَانَ دَخَلَهَا حُزْنٌ شَدِيدٌ عَلَى أَبِيهَا، وكَانَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) يَأْتِيهَا فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا، ويُطَيِّبُ نَفْسَهَا، ويُخْبِرُهَا عَنْ أَبِيهَا ومَكَانِه، ويُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا، وكَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَكْتُبُ ذَلِكَ،

ص: 234


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 182 (باب 146 ح1).
2- بصائر الدرجات للصفار ص 172 ب 14 ح3.
3- الأديم: الجلد. والفالج: الجمل العظيم ذو السنامين. [هامش المصدر].

فَهَذَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام).(1)

النص الرابع

عن يَحْيَى بْن عَبْدِ الله أَبِي الْحَسَنِ صَاحِبُ الدَّيْلَمِ(2) قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) يَقُولُ -وعِنْدَه أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ-: عَجَباً لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا عِلْمَهُمْ كُلَّه عَنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) فَعَمِلُوا بِه واهْتَدَوْا، ويَرَوْنَ أَنَّ أَهْلَ بَيْتِه لَمْ يَأْخُذُوا عِلْمَه، ونَحْنُ أَهْلُ بَيْتِه وذُرِّيَّتُه، فِي مَنَازِلِنَا نَزَلَ الْوَحْيُ، ومِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ الْعِلْمُ إِلَيْهِمْ، أفَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا واهْتَدَوْا وجَهِلْنَا نَحْنُ وضَلَلْنَا؟! إِنَّ هَذَا لَمُحَالٌ.(3)

النص الخامس

عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: لَقِيَ رَجُلٌ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) بِالثَّعْلَبِيَّةِ وهُوَ يُرِيدُ كَرْبَلَاءَ، فَدَخَلَ عَلَيْه فَسَلَّمَ عَلَيْه، فَقَالَ لَه الْحُسَيْنُ (عليه السلام): مِنْ أَيِّ الْبِلَادِ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ (عليه السلام): أَمَا واللهِ يَا أَخَا أَهْلِ الْكُوفَةِ، لَوْ لَقِيتُكَ بِالْمَدِينَةِ لأَرَيْتُكَ أَثَرَ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) مِنْ دَارِنَا، ونُزُولِه بِالْوَحْيِ عَلَى جَدِّي، يَا أَخَا أَهْلِ الْكُوفَةِ، أفَمُسْتَقَى النَّاسِ الْعِلْمَ مِنْ عِنْدِنَا فَعَلِمُوا وجَهِلْنَا؟! هَذَا مَا لَا يَكُونُ.(4)

ص: 235


1- الكافي للكليني ج1 ص 241 بَابٌ فِيه ذِكْرُ الصَّحِيفَةِ والْجَفْرِ والْجَامِعَةِ ومُصْحَفِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)- ح5.
2- الظاهر هو يحيى بن عبد الله بن الحسن كما في كتب الرجال. [هامش المصدر].
3- الكافي للكليني ج1 ص 398 بَابُ أَنَّ مُسْتَقَى الْعِلْمِ مِنْ بَيْتِ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) ح1.
4- الكافي للكليني ج1 ص 398 و399 بَابُ أَنَّ مُسْتَقَى الْعِلْمِ مِنْ بَيْتِ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) ح2.
النص السادس

ما روي في أنه يوحى إلى الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، من قبيل ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: يملك القائم ثلاث مائة سنة، ويزداد تسعاً كما لبث أهل الكهف في كهفهم. يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فيفتح الله له شرق الأرض وغربها، ويقتل الناس حتىٰ لا يبقىٰ إلّا دين محمد (ويسير) بسيرة سليمان بن داود، ويدعو الشمس والقمر فيجيبانه، وتطوىٰ له الأرض، ويوحىٰ إليه فيعمل بالوحي بأمر الله تعالى.(1)

الأمر الثاني: أنواع الوحي، ومعناه في أهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

عندما نتبع آيات القرآن الكريم والنصوص الروائية، نجد أن للوحي استعمالات عديدة، نذكر منها هنا أربعة:

الاستعمال الأول: الوحي الرسالی

وهو الوحي الذي ينزل على الأنبياء والرسل بالخصوص، وهو من المفاصل الأساسية لكونهم أنبياء، وهم في هذه الحال يرون الملك ويسمعون كلامه.

وهذا المعنى هو ما تشير إليه الآية الكريمة: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ).(2)

وهذا المعنى خاص بالأنبياء فقط، وهو الذي انقطع باستشهاد النبي

ص: 236


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج52، ص390.
2- العنكبوت 45.

الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهو مقتضى كونه (صلى الله عليه وآله) خاتم النبيين، بالإضافة إلى تصريح حديث المنزلة بذلك (إلا أنه لا نبي بعدي) وتصريح بعض الروايات بذلك، من قبيل (ولا نبي بعد نبينا) كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وهذا لا يدّعيه أحد من الشيعة في أهل البيت (عليهم السلام)، فإنه من الغلو المنهي عنه كما تقدم.

الاستعمال الثاني: الوحي التكويني

استعمل القرآن الكريم الوحي بمعنى تنظيم السنن الكونية في عالم الوجود، أو قل: بمعنى وضع الأنظمة والقوانين التي تحكم عالم الوجود التكويني، من قبيل قوله تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).(1)

الاستعمال الثالث: الوحي الغريزي

بمعنى ما أودعه الله تعالى في بعض المخلوقات من النظام الداخلي لديها، الذي يجعلها تهتدي لعيشها، وبناء بيوتها، ورعاية صغارها، وما شابه، ومن ذلك ما جاء في شأن النحل، قال تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي

ص: 237


1- فصلت 12.

ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(1)

الاستعمال الرابع: الوحي بمعنى التحديث، أو الإلهام والإلقاء
اشارة

وهو الوحي الذي يكون للبشر، رجالاً ونساءً، من دون أن يكون الموحى إليه نبياً، وهذا لا مانع منه في حد نفسه، خصوصاً وأن العبد المؤمن يمكنه أن يتسامى في مراتب الكمال الوجودي، ليصل إلى مراتب يكون فيها مخدوماً للملائكة.

وهذا المعنى من الوحي هو ما يُطلق عليه بالتحديث، أو الإلهام، أو الإلقاء في الروع، أو النكت في القلب، ما شئت فعبّر، وقد شهد القرآن الكريم على ثبوت هذا المعنى لغير الأنبياء، إذ هذا المعنى هو الذي كان عند أم النبي موسى (عليهما السلام)، قال تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضَعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)(2).

وهو الذي كان عند السيدة مريم (عليها السلام)، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي

ص: 238


1- النحل 68 و 69.
2- القصص: 7.

الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ)(1)

وبنفس المعنى جاء الوحي للحواريين، قال تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ).(2)

وهذا المعنى هو ما نقوله في أهل البيت (عليهم السلام)، ولا مانع شرعياً ولا عقلياً منه، ولا يستلزم الغلو، ولا ادعاء نبوة، ولا غيرها من المحذورات الشرعية والدينية.

وقد نصت الروايات على تسمية أهل البيت (عليهم السلام) بالمحدّثين، والتي أشارت إلى الوحي إليهم بهذا المعنى، نذكر منها النصوص التالية:

النص الأول

عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) مُحَدَّثاً.(3)

النص الثاني

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) يَقُولُ: الأَئِمَّةُ عُلَمَاءُ صَادِقُونَ مُفَهَّمُونَ مُحَدَّثُونَ.(4)

النص الثالث

عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ مُحَدَّثاً.

ص: 239


1- آل عمران 42 – 46.
2- المائدة 111.
3- الكافي للكليني ج1 ص 270 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ ح2.
4- الكافي للكليني ج1 ص 271 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ ح3.

فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ: جِئْتُكُمْ بِعَجِيبَةٍ! فَقَالُوا: ومَا هِيَ؟ فَقُلْتُ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) مُحَدَّثاً. فَقَالُوا: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً، إِلَّا سَأَلْتَه مَنْ كَانَ يُحَدِّثُه؟ فَرَجَعْتُ إِلَيْه فَقُلْتُ: إِنِّي حَدَّثْتُ أَصْحَابِي بِمَا حَدَّثْتَنِي فَقَالُوا: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً، إِلَّا سَأَلْتَه مَنْ كَانَ يُحَدِّثُه؟ فَقَالَ (عليه السلام) لِي: يُحَدِّثُه مَلَكٌ. قُلْتُ: تَقُولُ: إِنَّه نَبِيٌّ؟! قَالَ: فَحَرَّكَ يَدَه هَكَذَا: أَوْ كَصَاحِبِ سُلَيْمَانَ، أَوْ كَصَاحِبِ مُوسَى، أَوْ كَذِي الْقَرْنَيْنِ، أومَا بَلَغَكُمْ أَنَّه قَالَ (صلى الله عليه وآله): وفِيكُمْ مِثْلُه.(1)

النص الرابع

عن ضريس قال: كنت أنا وأبو بصير عند أبي جعفر (عليه السلام)، فقال له أبو بصير: بما يعلم عالِمُكم؟ قال (عليه السلام): إن عالِمَنا لا يعلم الغيب، ولو وكله الله إلى نفسه لكان كبعضكم، ولكن يُحدَّث في ساعة بما يحدث في الليل، وفي ساعة بما يحدث في النهار، الأمر بعد الأمر، والشيء بعد الشيء بما يكون إلى يوم القيامة.(2)

النص الخامس

عن الحارث النصري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الذي يُسأل عنه الامام، وليس عنده فيه شيء، من أين يعلمه؟ قال (عليه السلام): يُنكت في القلب نكتاً، أو يُنقر في الأذن نقراً.

وقيل لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا سُئلت كيف تجيب؟ قال: إلهام وسماع، وربما

ص: 240


1- الكافي للكليني ج1 ص 271 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ ع مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ ح5.
2- الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج2 ص 831 و 832 ح 47.

كانا جميعاً.(1)

النص الساس

عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي (عليه السلام) محدّثاً، وكان سلمان محدثاً. قال: قلت: فما آية المحدَّث؟ قال (عليه السلام): يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت وكيت.(2)

النص السابع

عن الحرث بن المغيرة النضري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما علمُ عالِمكم جملةً، يُقذف في قلبه ويُنكت في أُذنه؟ قال: فقال (عليه السلام): وحيٌّ كوحي أم موسى.(3)

النص الثامن

عَنْ عَلِيٍّ السَّائِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأَوَّلِ مُوسَى (عليه السلام) قَالَ: قَالَ (عليه السلام): مَبْلَغُ عِلْمِنَا عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوه: مَاضٍ وغَابِرٍ وحَادِثٍ، فَأَمَّا الْمَاضِي فَمُفَسَّرٌ، وأَمَّا الْغَابِرُ فَمَزْبُورٌ، وأَمَّا الْحَادِثُ فَقَذْفٌ فِي الْقُلُوبِ ونَقْرٌ فِي الأَسْمَاعِ، وهُوَ أَفْضَلُ عِلْمِنَا، ولَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا.(4)فهذا الحديث واضح جداً في أنه في الوقت الذي يُثبت التحديث لهم (عليهم السلام)، إلا أنه ينفي النبوة عنهم (عليهم السلام)، فكأنه دفْعُ إشكال وتوهم.

ص: 241


1- الأمالي للشيخ الطوسي ص 408 ح 916 / 64.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 342 ب6 ح4.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 337 ب3 ح10.
4- الكافي للكليني ج1 ص264 بَابُ جِهَاتِ عُلُومِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام)- ح1.

أي إنه (عليه السلام): (دَفَع بذلك توهّم من يتوهّم أن كل من قذف في قلبه ونقر في سمعه فهو نبي. وهذا التوهّم فاسد لأنّه محدث والمحدّث ليس بنبي.)(1)

النص التاسع

عن عبد الله بن بكير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني أبو بصير أنه سمعك تقول: لولا أنا نزاد لأنفدنا؟ قال: نعم. قال: قلت: تزدادون شيئاً ليس عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: لا، إذا كان ذلك كان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحياً، وإلينا حديثاً.(2)

وهذا النص واضح جداً في أن المقصود بالوحي إليهم (عليهم السلام) هو التحديث، لا الوحي الرسالي.

فائدة: في ذكر رواية جامعة في معاني الوحي في القرآن

من الروايات الجامعة في تعداد استعمالات الوحي، ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سألوه عن لفظ الوحي في كتاب الله تعالى فقال (عليه السلام): منه وحي النبوة، ومنه وحي الالهام، ومنه وحي الإشارة، ومنه وحي أمر، ومنه وحي كذب، ومنه وحي تقدير، ومنه وحي خبر، ومنه وحي الرسالة فأما تفسير وحي النبوة والرسالة: فهو قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوح وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلى إِبْرَاهِيمَ

ص: 242


1- شرح أصول الكافي للمولى محمد صالح المازندراني ج6 ص 49.
2- الامالي للشيخ الطوسي ص 409 ح 919 / 67.

وَإِسْمَاعِيلَ)(1)

وأما وحي الالهام، فهو قوله تعالى: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)(2)

ومثله قوله تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضَعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)(3).

وأما وحي الإشارة فقوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً)(4)

أي أشار إليهم؛ لقوله تعالى: (أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّام إِلاَّ رَمْزاً)(5).

وأما وحي التقدير فقوله تعالى: (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا)(6) (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)(7).

وأما وحي الأمر فقوله سبحانه: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي)(8).

ص: 243


1- النساء: 163.
2- النحل: 68.
3- القصص: 7.
4- مريم: 11.
5- آل عمران: 41.
6- فصلت: 12.
7- فصلت: 10.
8- المائدة: 111.

وأما وحي الكذب فقوله عزّ وجلّ: (شَيَاطِينَ الاْنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْض)(1).

وأما وحي الخبر فقوله سبحانه: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(2).(3)

ص: 244


1- الأنعام: 112.
2- الأنبياء: 73.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج90 ص 16 و 17.
المقالة السابعة: أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على الأنبياء
اشارة

ربما يظهر من البعض الإشكال على شيعة أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم يغالون فيهم بحيث يعتبرونهم أفضل من الأنبياء، وربما يجعلونهم أفضل من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)!

فهل لهذا الكلام من واقع؟ وما هي حقيقة الحالة فيه؟

في مقام الجواب نقول:

هنا عدة أمور لا بد أن نتابعها بدقة حتى نفهم الجواب العلمي المنهجي عن هذه الشبهة:

الأمر الأول: واقعية التفاضل في الحياة

لا شك أننا نعيش التفاضل في حياتنا في كثير من مفرداتها، فلدى كل واحد منا أمور يفضلها على غيرها، سواء أكانت هي الوظيفة، أم البيت، أو الطعام، أم اللون، وهكذا.

ويقر الدين مبدأ التفاضل بين البشر، قال تعالى (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)(1)

ص: 245


1- الإسراء 21.

وله أسسه الخاصة في ذلك، وأسسه كما في القرآن الكريم أربعة: التقوى والإيمان والعلم والجهاد.

قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

(لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً).

والكمال يزيد طردياً بزيادة الاتصاف بتلك الأسس.

وهذا المعنى شامل حتى للأنبياء والأولياء، فإن بينهم تفاضلاً صرّح به القرآن الكريم، قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)(1)

وقال تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)(2)

ص: 246


1- البقرة 253.
2- الإسراء 55.

وقال تعالى: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)(1)

وينبغي الالتفات إلى أننا لا نملك في هذا المضمار غير الأدلة النقلية، وإن كان هناك دليل عقلي فهو معتمد في بدايته على النقلي...

الأمر الثاني: أفضلية منصب الإمامة على منصب النبوة

الحديث هنا ليس في المصاديق، وإنما في المفاهيم، فنفس منصب الإمامة الإلهية، التي تكون بتنصيب وجعل من الله تبارك وتعالى، هي أعلى رتبة من منصب النبوة الإلهية، فالكلام في أفضلية الموقع.

وهذا المعنى يُستكشف بالنصوص الدينية، ومنها ما روي عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه نَبِيّاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه نَبِيّاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه رَسُولاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه رَسُولاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه خَلِيلاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه خَلِيلاً قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَه إِمَاماً، فَلَمَّا جَمَعَ لَه الأَشْيَاءَ قَالَ: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قَالَ فَمِنْ عِظَمِهَا فِي عَيْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: (ومِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(2)،

قَالَ: لَا يَكُونُ السَّفِيه إِمَامَ التَّقِيِّ.(3)

ص: 247


1- الأنعام 86.
2- البقرة:124.
3- الكافي للكليني ج1 ص 175 بَابُ طَبَقَاتِ الأَنْبِيَاءِ والرُّسُلِ والأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح2 ومثله وبسند آخر الحديث الرابع في نفس الباب.

لقد مر النبي إبراهيم (عليه السلام) بسلسلة من الاختبارات الصعبة والشاقة، من الرمي في النار، إلى ترك عياله بوادٍ غير ذي زرع، إلى ذبح ولده، وغيرها مما لا نعلمه، حتى وصل إلى مرتبة الإمامة.

وقد تقدم تصريح الإمام الرضا (عليه السلام) بأفضلية الإمامة على النبوة، وأنها أعطيت للنبي إبراهيم (عليه السلام) بعد النبوة، فقال (عليه السلام): (إِنَّ الإِمَامَةَ خَصَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (عليه السلام) بَعْدَ النُّبُوَّةِ والْخُلَّةِ مَرْتَبَةً ثَالِثَةً وفَضِيلَةً شَرَّفَه بِهَا وأَشَادَ بِهَا ذِكْرَه فَقَالَ: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، فَقَالَ الْخَلِيلُ (عليه السلام) سُرُوراً بِهَا: (ومِنْ ذُرِّيَّتِي) قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، فَأَبْطَلَتْ هَذِه الآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ ثُمَّ أَكْرَمَه اللهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهَا فِي ذُرِّيَّتِه أَهْلِ الصَّفْوَةِ والطَّهَارَةِ...).(1)

فهذا شاهد على أن موقع الإمامة أفضل من موقع النبوة في حد نفسه.

وفي رواية أخرى تثبت أصل التفاضل بين الأولياء من جهة، وأفضلية موقع الإمامة على موقع النبوة من جهة أخرى، عن أبي عَبْدِ الله (عليه السلام): الأَنْبِيَاءُ والْمُرْسَلُونَ عَلَى أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ:

فَنَبِيٌّ مُنَبَّأٌ فِي نَفْسِه لَا يَعْدُو غَيْرَهَا.

ونَبِيٌّ يَرَى فِي النَّوْمِ ويَسْمَعُ الصَّوْتَ ولَا يُعَايِنُه فِي الْيَقَظَةِ ولَمْ يُبْعَثْ إِلَى أَحَدٍ، وعَلَيْه إِمَامٌ، مِثْلُ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى لُوطٍ (عليهما السلام).

ص: 248


1- الكافي للكليني ج1 ص 198 – 202 بَابٌ نَادِرٌ جَامِعٌ فِي فَضْلِ الإِمَامِ وصِفَاتِه ح1.

ونَبِيٌّ يَرَى فِي مَنَامِه ويَسْمَعُ الصَّوْتَ ويُعَايِنُ الْمَلَكَ، وقَدْ أُرْسِلَ إِلَى طَائِفَةٍ، قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، كَيُونُسَ قَالَ الله تعالى لِيُونُسَ: (وأَرْسَلْناه إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قَالَ: يَزِيدُونَ ثَلَاثِينَ أَلْفاً، وعَلَيْه إِمَامٌ.

والَّذِي يَرَى فِي نَوْمِه، ويَسْمَعُ الصَّوْتَ، ويُعَايِنُ فِي الْيَقَظَةِ، وهُوَ إِمَامٌ، مِثْلُ أُولِي الْعَزْمِ.

وقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) نَبِيّاً ولَيْسَ بِإِمَامٍ، حَتَّى قَالَ اللهُ تعالى: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ ومِنْ ذُرِّيَّتِي) فَقَالَ اللهُ تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، مَنْ عَبَدَ صَنَماً أَوْ وَثَناً لَا يَكُونُ إِمَاماً. (1)

الأمر الثالث: أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على سائر الأنبياء سوى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
اشارة

تقدمت الإشارة إلى أن هذه المعاني يمكن استكشافها من خلال النصوص، ويمكن الاستدلال على أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على سائر الأنبياء –عدا النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى- بعدة أدلة، بعضها يثبت أفضليتهم (عليهم السلام) عموماً، وبعضها يثبت أفضلية بعضهم (عليهم السلام)، وعلى كل حال، فمجموع ما سنذكره سيثبت المطلوب إن شاء الله تعالى.

الدليل الأول: ثبوت الإمامة الإلهية لهم (عليهم السلام)

ثبت في الأمر الثاني أن موقع الإمامة أعلى مرتبة من موقع النبوة.

ص: 249


1- الكافي للكليني ج1 ص 174 و 175 بَابُ طَبَقَاتِ الأَنْبِيَاءِ والرُّسُلِ والأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح1.

وقد ثبت أن موقع الإمامة الإلهية قد ثبت لأهل البيت (عليهم السلام) –وقد تقدمت الأدلة على ذلك في مبحث الإمامة الخاصة، فراجع-، فيكونون (عليهم السلام) أفضل من الأنبياء ممن لم يصلوا إلى مرتبة الإمامة.

أما أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على سائر الأنبياء حتى ممن وصلوا إلى مرتبة الإمامة –ونؤكد: عدا الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله-، فهو ما سيأتي بيانه في الأدلة اللاحقة.

الدليل الثاني: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)
اشارة

هذا الدليل يثبت أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) على سائر الأنبياء –عدا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)-، وهو مركب من مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو أفضل ما خلق الله تبارك وتعالى على الإطلاق

وهذا ما تثبته النصوص الكثيرة، من قبيل ما ورد من أنه (صلى الله عليه وآله) علة الوجود، ومن نوره خلق الوجود، فهو أفضل ما في الوجود الإمكاني.

فقد روي عن جابر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):- أول ما خلق الله نوري، ففتق منه نور علي، ثم خلق العرش واللوح والشمس وضوء النهار ونور الأبصار والعقل والمعرفة.(1)

وعن جابر بن عبد الله قال: قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أول شيء خلق الله

ص: 250


1- بحار الأنوار ج 54 - ص 170.

تعالى ما هو؟

فقال: نور نبيك يا جابر، خلقه الله ثم خلق منه كل خير ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله، ثم جعله أقساماً، فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله، ثم جعله أقساماً فخلق القلم من قسم، واللوح من قسم، والجنة من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله، ثم جعله أجزاءً، فخلق الملائكة من جزء، والشمس من جزء، والقمر والكواكب من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله، ثم جعله أجزاء، فخلق العقل من جزء، والعلم والحلم من جزء، والعصمة والتوفيق من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق الله تعالى من أنفاسها أرواح الأولياء والشهداء والصالحين.(1)

ومن قبيل الأحاديث الكثيرة المصرحة بأفضليته (صلى الله عليه وآله) على الجميع، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: خلق الله عز وجل مائة ألف نبي و أربعة وعشرين ألف نبي، أنا أكرمهم على الله ولا فخر.(2)

وروي عنه (صلى الله عليه وآله): أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق

ص: 251


1- بحار الأنوار ج 25 - ص 21 – 22.
2- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 641 ح18، وبعده قوله (وخلق الله عز وجل مائة ألف وصي وأربعة وعشرين ألف وصي، فعلي أكرمهم على الله وأفضلهم).

عنه الأرض ولا فخر، وأول شافع ومشفع، لواء الحمد بيدي يوم القيامة، تحتي آدم فمن دونه.(1)

وفي حديث المعراج قال (صلى الله عليه وآله):...وإنه لما عرج بي إلى السماء أذن جبرئيل مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى، ثم قال لي تقدم يا محمد، فقلت له يا جبرئيل أتقدم عليك؟ فقال: نعم، لأن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه على ملائكته أجمعين، وفضّلك خاصة. فتقدمت فصليت بهم ولا فخر، فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل: تقدم يا محمد، وتخلَّفَ عني، فقلت: يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني؟ فقال: يا محمد، إن انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعدي حدود ربي جل جلاله، فزج بي في النور زجة حتى انتهيت إلى حيث ما شاء الله تعالى من علو ملكه...(2)

وغيرها من الأحاديث الكثيرة.

المقدمة الثانية: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)

وقد اختص بالكثير من المناقب والمراتب الكمالية معه دون جميع البشر، يدل على ذلك العديد من النصوص، من أهمها اختصاصه بالمؤاخاة مع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) دون سائر المسلمين، وقد روي عن جابر الأنصاري أن النبي (صلى الله عليه وآله)

ص: 252


1- كنز العمال - المتقي الهندي - ج 11 - ص 433 رقم (32033).
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 6 و 7. ب7 ح1وسيأتي تمام الحديث بعد قليل إن شاء الله تعالى.

قال له: أي الإخوان أفضل؟ قلت: النبيون، فقال (صلى الله عليه وآله): أنا أفضلهم، وأحب الإخوة إليّ علي بن أبي طالب، فهو عندي أفضل من الأنبياء، فمن قال: إنهم خير منه، فقد جعلني أقلَّهم؛ لأني اتخذته أخاً لما علمت من فضله، وأمرني ربي به.(1)

ومن ذلك كونه (عليه السلام) نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسب آية المباهلة، حيث قال تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(2)

قال الشيخ المفيد (قدس سره): فدعا الحسن والحسين (عليهما السلام) للمباهلة فكانا ابنيه في ظاهر اللفظ، ودعا فاطمة (سلام الله عليها) وكانت المعبر عنها بنسائه، ودعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان المحكوم له بأنه نفسه.

وقد علمنا أنه لم يرد بالنفس ما به قوام الجسد من الدم السائل والهواء ونحوه، ولم يرد نفس ذاته، إذ كان لا يصح دعاء الانسان نفسه إلى نفسه ولا إلى غيره، فلم يبق إلا أنه أراد (عليه وآله السلام) بالعبارة عن النفس إفادة العدل والمثل والنظير، ومن يحل منه في العز والاكرام والمودة والصيانة والإيثار والاعظام والاجلال محل ذاته عند الله سبحانه، فيما فرض عليه من الاعتقاد بها وألزمه العباد.

ص: 253


1- الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي النباطي البياضي ج1 ص 211 الفصل 18.
2- آل عمران 61.

ولو لم يدل من خارجٍ دليلٌ على أن النبي (صلى الله عليه وآله) أفضل من أمير المؤمنين (عليه السلام) لقضى هذا الاعتبار بالتساوي بينهما في الفضل والرتبة، ولكن الدليل أخرج ذلك، وبقي ما سواه بمقتضاه.(1)

ويدل على ذلك أيضاً ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله جل جلاله قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلما خلق الله آدم سلك ذلك النور في صلبه، فلم يزل الله عز وجل ينقله من صلب إلى صلب حتى أقره في صلب عبد المطلب، ثم أخرجه من صلب عبد المطلب فقسمه قسمين، فصُيّر قسم في صلب عبد الله، وقسم في صلب أبي طالب، فعليٌّ مني وأنا من عليّ، لحمه من لحمي ودمه من دمي، فمن أحبني فبحبي أحبه، ومن أبغضه فببغضي أبغضه..(2)النتيجة:

بمقتضى أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أكرم الخلق أجمعين وأفضلهم، وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نفسه (صلى الله عليه وآله)، فيكون (عليه السلام) أفضل من الخلق أجمعين، عدا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

تكملة: في ذكر بعض النصوص الأخرى الدالة على أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام)
النص الأول

فقد روي عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْقَصْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ

ص: 254


1- تفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام) للشيخ المفيد (رحمه الله تعالى) ص 21 – 23.
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 640 ح 16.

أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَتَيْتُكَ ولَمْ أَزُرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام).

قَالَ (عليه السلام): بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، لَوْلَا أَنَّكَ مِنْ شِيعَتِنَا مَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ!

ألَا تَزُورُ مَنْ يَزُورُه اللهُ تعالى مَعَ الْمَلَائِكَةِ، ويَزُورُه الأَنْبِيَاءُ، ويَزُورُه الْمُؤْمِنُونَ؟!

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا عَلِمْتُ ذَلِكَ.

قَالَ (عليه السلام): اعْلَمْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَفْضَلُ عِنْدَ الله تعالى مِنَ الأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ، ولَه ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ، وعَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فُضِّلُوا.(1)

النص الثاني

عن سَعِيدٍ الأَعْرَجُ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وسُلَيْمَانُ بْنُ خَالِدٍ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، فَابْتَدَأَنَا فَقَالَ (عليه السلام):

يَا سُلَيْمَانُ، مَا جَاءَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُؤْخَذُ بِه، ومَا نَهَى عَنْه يُنْتَهَى عَنْه، جَرَى لَه مِنَ الْفَضْلِ مَا جَرَى لِرَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، ولِرَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) الْفَضْلُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقَ اللهُ(2)،

الْمُعَيِّبُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِه كَالْمُعَيِّبِ عَلَى الله عَزَّ وجَلَّ وعَلَى رَسُولِه (صلى الله عليه وآله)، والرَّادُّ عَلَيْه فِي صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بالله تعالى.

كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بَابَ الله الَّذِي لَا يُؤْتَى إِلَّا مِنْه، وسَبِيلَه الَّذِي مَنْ

ص: 255


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 4 – ص 579 و 580 بَابُ فَضْلِ الزِّيَارَاتِ وثَوَابِهَا ح3.
2- جملة: (ولِرَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) الْفَضْلُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقَ اللهُ) يُستفاد منها أمران: الأول: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو أفضل الخلق، حتى أمير المؤمنين (عليه السلام). الثاني: حيث إنه جرى لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما جرى له (صلى الله عليه وآله)، فيكون (عليه السلام) أفضل الخلق بعده (صلى الله عليه وآله).

سَلَكَ بِغَيْرِه هَلَكَ.

وبِذَلِكَ جَرَتِ الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، جَعَلَهُمُ اللهُ أَرْكَانَ الأَرْضِ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، والْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عَلَى مَنْ فَوْقَ الأَرْضِ ومَنْ تَحْتَ الثَّرَى.

وقَالَ (عليه السلام): قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَنَا قَسِيمُ اللهِ بَيْنَ الْجَنَّةِ والنَّارِ، وأَنَا الْفَارُوقُ الأَكْبَرُ، وأَنَا صَاحِبُ الْعَصَا والْمِيسَمِ، ولَقَدْ أَقَرَّتْ لِي جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ والرُّوحُ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّتْ لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، ولَقَدْ حُمِلْتُ عَلَى مِثْلِ حَمُولَةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، وهِيَ حَمُولَةُ الرَّبِّ، وإِنَّ مُحَمَّداً

(صلى الله عليه وآله) يُدْعَى فَيُكْسَى ويُسْتَنْطَقُ، وأُدْعَى فَأُكْسَى، وأُسْتَنْطَقُ فَأَنْطِقُ عَلَى حَدِّ مَنْطِقِه، ولَقَدْ أُعْطِيتُ خِصَالاً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: عُلِّمْتُ عِلْمَ الْمَنَايَا والْبَلَايَا والأَنْسَابَ وفَصْلَ الْخِطَابِ، فَلَمْ يَفُتْنِي مَا سَبَقَنِي، ولَمْ يَعْزُبْ عَنِّي مَا غَابَ عَنِّي، أُبَشِّرُ بِإِذْنِ الله، وأُؤَدِّي عَنِ الله عَزَّ وجَلَّ، كُلُّ ذَلِكَ مَكَّنَنِيَ اللهُ فِيه بِإِذْنِه(1).(2)

النص الثالث

عن حبة العرني عن أمير المؤمنين علي بن أبي الطالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا سيد الأولين والآخرين، وأنت يا علي سيد الخلائق بعدي، وأولنا كآخرنا، وآخرنا كأولنا.(3)

ص: 256


1- وهذه العبارة الأخيرة تنفي الغلو في مقامات أمير المؤمنين (عليه السلام) المذكورة، فإنها كلها بإذن الله تبارك وتعالى بتمكين منه جل وعلا.
2- الكافي للكليني ج1 ص197 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ هُمْ أَرْكَانُ الأَرْضِ ح2.
3- مائة منقبة لمحمد بن أحمد بن علي بن الحسن القمي (ابن شاذان) ص 18 المنقبة الأولى.
النص الرابع

عَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: قَالَ قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): (قُلْ كَفى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِنْدَه عِلْمُ الْكِتابِ) قَالَ (عليه السلام): إِيَّانَا عَنَى، وعَلِيٌّ أَوَّلُنَا وأَفْضَلُنَا وخَيْرُنَا بَعْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله).(1)

الدليل الثالث: روايات أخذ الإقرار من الأنبياء بولاية أهل البيت (عليهم السلام)

وهو ما تشهد به الأحاديث الشريفة، التي تحكي توقف نبوة الأنبياء على الإقرار بنبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، وفي بعضها تمني بعض الأنبياء أن يكون من أمة محمد (صلى الله عليه وآله)، والروايات في هذا المجال كثيرة، وقد عقد الصفار في كتابه بصائر الدرجات باباً في ذلك ذكر فيه تسعة أحاديث، منها ما عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما من نبي نُبّئ، ولا من رسول أُرسل إلا بولايتنا وبفضلنا عمن سوانا.(2)

وعقد باباً آخر أسماه: (باب ما خص الله به الأئمة من آل محمد (صلوات الله عليهم) من ولاية الأنبياء لهم في الميثاق وغيره وما أعلموا من ذلك)، وذكر فيه تسعة أحاديث أخرى، ومنها ما عن حذيفة بن أسيد الغفار قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما تكاملت النبوة لنبي في الأظلة حتى عُرضت عليه

ص: 257


1- الكافي للكليني ج1 ص 229 بَابُ أَنَّه لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ كُلَّه إِلَّا الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) وأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ عِلْمَه كُلَّه ح6.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار – الباب (9) باب آخر في الولاية الأئمة (عليهم السلام) ص 94ح5.

ولايتي وولاية أهل بيتي ومُثّلوا له، فأقروا بطاعتهم وولايتهم.(1)

وفي باب ثالث أسماه (باب ما خص الله به الأئمة من آل محمد (عليهم السلام) من ولاية أولى العزم لهم في الميثاق وغيره) ذكر فيه ثمانية أحاديث في هذا الشأن، ومنها ما عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في حديث:... ثم قال (تعالى): ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيمة إنا كنا عن هذا غافلين. قال (عليه السلام): ثم أخذ الميثاق على النبيين، فقال: ألست بربكم؟ ثم قال: وإن هذا محمدٌ رسول الله وإن هذا على أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى. فثبتت لهم النبوة وأُخِذَ الميثاق على أولي العزم: ألا إني ربكم، ومحمد رسولي، وعلي أمير المؤمنين، وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي، وأن المهدي انتصر به لديني وأُظهر به دولتي، وأنتقم به من أعدائي، وأُعبد به طوعاً وكرهاً، قالوا: أقررنا وشهدنا يا رب...(2)

وعن أبي بصير عن أحدهما (صلوات الله عليهما) قال: لما كان من أمر موسى الذي كان أعطي مكتلا فيه حوت مالح فقيل له: هذا يدلك على صاحبك عند عين لا يصيب منها شيء إلا حيّ فانطلقا حتى بلغا الصخرة وجاوزا ثم قال لفتاه: آتنا غداءنا، فقال: الحوت اتخذ في البحر سربا، فاقتصا الأثر حتى أتيا صاحبهما في جزيرة في كساء جالساً، فسلم عليه وأجاب

ص: 258


1- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - باب ما خص الله به الأئمة من آل محمد (صلوات الله عليهم) من ولاية الأنبياء لهم في الميثاق وغيره وما أعلموا من ذلك ص 93 ح7.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - باب ما خص الله به الأئمة من آل محمد (عليهم السلام) من ولاية أولى العزم لهم في الميثاق وغيره ص 90 ح 2.

وتعجب وهو بأرض ليس بها سلام. فقال: من أنت؟ قال: موسى، فقال: ابن عمران الذي كلمه الله تعالى؟ قال: نعم. قال: فما جاء بك؟ قال: أتيتك على أن تعلمني، قال: إني وُكّلْتُ بأمر لا تطيقه، فحدَّثه عن آل محمد وعن بلائهم وعما يصيبهم، حتى اشتد بكاؤهما، وذكر له فضل محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، وما أُعطوا وما ابتُلوا به، فجعل يقول: يا ليتني من أمة محمد (صلى الله عليه وآله).(1)

الدليل الرابع: صلاة النبي عيسى (عليه السلام) خلف الإمام المهدي (عجل الله فرجه)
اشارة

وهذا من الأمور التي اتفقت عليها كلمة المسلمين، فمن رواياتنا ما روي عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:... ثم يظهره الله (عز وجل) فيفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها، وينزل روح الله عيسى بن مريم (عليه السلام) فيصلي خلفه، وتشرق الأرض بنور ربها، ولا تبقى في الأرض بقعة عبد فيها غير الله (عز وجل) إلا عبد الله فيها، ويكون الدين كله لله ولو كره المشركون.(2)

ومن روايات العامة:

ما رووه في حديث عثمان بن أبي العاص:...وينزل عيسى بن مريم (عليه السلام) عند صلاة الفجر فيقول له أميرهم: روح الله تقدم صلّ، فيقول: هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض، فيتقدم أميرهم فيصلي...(3)

ص: 259


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 26 - ص 283 – 284.
2- كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 345 - 346 الباب 33 الحديث 31.
3- مستد أحمد بن حنبل ج4 ص 216.

وجاءَ في صحيحِ البخاريّ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله]: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ، وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ».(1)

وفي مُسندِ أحمدَ:...فَإِذَا هُمْ بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، فَتُقَامُ الصَّلَاةُ، فَيُقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللهِ، فَيَقُولُ: لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ فَلْيُصَلِّ بِكُمْ...(2)

وهنا ملحوظتان:

1/هذا الدليل وإن كان يثبت أفضلية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) بالخصوص على النبي عيسى (عليه السلام)، ولكن بضميمة ما دل على أفضلية أهل الكساء الخمسة (عليهم السلام) على الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، ينتج أفضليتهم بالأولوية على النبي عيسى (عليه السلام).

2/ ثبوت هذه الأفضلية يثبت الأفضلية أيضاً على سائر الأنبياء والمرسلين، إذ إن النبي عيسى (عليه السلام) من أولي العزم، وهو أفضل من غيره من الأنبياء والمرسلين -غير أولي العزم على الأقل-، وبالتالي فمن هم أفضل منه (عليه السلام) لا شك أنهم أفضل منهم (عليهم السلام).

تكملة: نصوص أخرى تدل على أفضليتهم (عليهم السلام)
النص الأول

عن بن بزيع عن بن ظبيان في رواية عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال آدم (صلوات الله عليه) لولده هبة الله: يا بني، وقفت بين يدي الله جل جلاله

ص: 260


1- صحيحُ البخاري ج4 ص 143 وصحيح مسلم ج1 ص 94 كتابُ الإيمانِ- بابُ بيان نزولِ عيسَى (عليهِ السّلامُ)، و مسندُ أحمد ج2 ص 336
2- مسند أحمد ج3 ص 368.

فنظرت إلى سطر على وجه العرش مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، محمد وآل محمد خيرُ من برأ الله.(1)

النص الثاني

روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كان فيما ناجى الله تعالى به النبي موسى (عليه السلام) أن قال له: يا موسى، لا أقبل الصلاة إلا ممن تواضع لعظمتي، وألزم قلبه خوفي، وقطع نهاره بذكري، ولم يبت مصرا على الخطيئة، وعرف حق أوليائي وأحبائي.

فقال موسى: رب تعني بأحبائك وأوليائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب؟

فقال عز وجل: هم كذلك يا موسى، إلا أنني أردت مَنْ مِنْ أجْلِه خلقت آدم وحواء، ومَنْ مِنْ أجْلِه خلقت الجنة والنار.

فقال موسى: ومن هو، يا رب؟

قال: محمد أحمد شققت اسمه من اسمي لأني أنا المحمود.

فقال موسى: يا رب اجعلني من أمته.

قال: أنت -يا موسى- من أمته إذا عرفته وعرفت منزلته ومنزلة أهل بيته، إن مثله ومثل أهل بيته فيمن خلقت، كمثل الفردوس في الجنان، لا ييبس ورقها ولا يتغير طعمها، فمن عرفهم وعرف حقهم جعلت له عند الجهل حلماً، وعند الظلمة نوراً، أُجيبُه قبل أن يدعوني، وأعطيه قبل أن

ص: 261


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 26 - ص 282 – 283.

يسألني...(1)

النص الثالث

عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما خلق الله عز وجل خلقا أفضل مني، ولا أكرم عليه مني.

قال علي صلوات الله عليه: فقلت: يا رسول الله، فأنت أفضل أو جبرئيل؟

فقال: يا علي إن الله تعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من ولدك، وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا.

يا علي الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا.

يا علي، لولا نحن ما خلق الله تعالى آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه، لأن أول ما خلق الله عز وجل: خلق أرواحنا، فأنطقنا بتوحيده وتحميده، ثم خلق الملائكة.

فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظموا أمرنا، فسبّحْنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون، وأنه تعالى منزه عن صفاتنا، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا.

ص: 262


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 764 و 765 ح 1028 / 2.

فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وأنا عبيد لسنا بآلهة يجب أن يعبد معه، أو دونه، فقالوا: لا إله إلا الله.

فلما شاهدوا كِبَر محلِّنا كبّرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به.

فلما شاهدوا ما جعله لنا من العزة والقوة، قلنا: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، لتعلم الملائكة أن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله.فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة، قلنا: (الحمد لله) لتعلم الملائكة ما يحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمته (نعمه - خ ل)، فقالت الملائكة: الحمد لله، فَبِنَا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده.

ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا وإكراما، وكان سجودهم لله عز وجل عبودية، ولآدم إكراما وطاعة لكوننا في صلبه، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون؟

وإنه لما عرج بي إلى السماء أذن جبرئيل مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى، ثم قال لي: تقدم يا محمد، فقلت له: يا جبرائيل أتقدم عليك؟ فقال: نعم، لأن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه على ملائكته أجمعين، وفضلك خاصة، فتقدمت فصليت بهم ولا فخر.

ص: 263

فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل: تقدم يا محمد، وتخلف عني، فقلت: يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني؟ فقال: يا محمد إن انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعدي حدود ربي جل جلاله. فزخ بي في النور زخة حتى انتهيت إلى حيث ما شاء الله من علو ملكه، فنوديت: يا محمد، فقلت: لبيك ربي وسعديك، تباركت وتعاليت. فنوديت: يا محمد أنت عبدي وأنا ربك، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، فإنك نوري في عبادي، ورسولي إلى خلقي، وحجتي على بريتي، لك ولمن اتبعك خلقت جنتي، ولمن خالفك خلقت ناري، ولأوصيائك أوجبت كرامتي، ولشيعتهم أوجبت ثوابي.

فقلت: يا رب، ومن أوصيائي؟ فنوديت: يا محمد أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي، فنظرت - وأنا بين يدي ربي جل جلاله - إلى ساق العرش، فرأيت اثني عشر نورا في كل نور سطر أخضر عليه اسم وصي من أوصيائي، أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم مهدي أمتي.

فقلت: يا رب هؤلاء أوصيائي من بعدي؟ فنوديت: يا محمد هؤلاء أوليائي وأوصيائي وأصفيائي وحجتي (حججي - خ ل) بعدك على بريتي، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك، وعزتي وجلالي لأظهرن بهم ديني، ولأعلين بهم كلمتي، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأمكننه (ولأملّكنّه - خ ل) مشارق الأرض ومغاربها، ولأسخّرنَّ له الرياح، ولأذللِّنَّ له السحاب الصعاب، ولأرقِّينَّه في الأسباب، فلأنصرنّه بجندي، ولأمدنّه

ص: 264

بملائكتي، حتى تعلو دعوتي، وتجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمنّ ملكه، ولأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة.(1)

النص الرابع

عن المحمدي سلمان (رضي الله عنه)، قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله (تبارك وتعالى) لم يبعث نبياً ولا رسولاً إلا جعل له اثني عشر نقيباً. فقلت: يا رسول الله، لقد عرفت هذا من أهل الكتابين. فقال (صلى الله عليه وآله): يا سلمان: هل علمت من نقبائي ومن الاثنا عشر الذين اختارهم الله للأمة من بعدي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم.

فقال (صلى الله عليه وآله): يا سلمان، خلقني الله من صفوة نوره، ودعاني فأطعته، وخلق من نوري علياً، ودعاه فأطاعه، وخلق من نور علي فاطمة، ودعاها فأطاعته، وخلق مني ومن علي وفاطمة: الحسن، ودعاه فأطاعه، وخلق مني ومن علي وفاطمة: الحسين، فدعاه فأطاعه.

ثم سمّانا بخمسة أسماء من أسمائه، فالله المحمود وأنا محمد، والله العلي وهذا علي، والله الفاطر وهذه فاطمة، والله ذو الاحسان وهذا الحسن، والله المحسن وهذا الحسين.

ثم خلق منا ومن نور الحسين، تسعة أئمة، فدعاهم فأطاعوه، قبل أن يخلق سماء مبنية، وأرضاً مدحية، ولا ملكاً ولا بشراً، وكنا نوراً نسبح الله، ونسمع له ونطيع.

ص: 265


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 254 – 256 ب 24 ح4.

قال سلمان: فقلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فما لمن عرف هؤلاء؟ فقال (صلى الله عليه وآله): يا سلمان، من عرفهم حق معرفتهم، واقتدى بهم، ووالى وليهم، وتبرأ من عدوهم، فهو والله منا، يردُ حيث نرد، ويسكنُ حيث نسكن...(1)

وعلى كل حال، فالروايات في هذا المعنى كثيرة، وقد عقد العلامة المجلسي (رحمه الله تعالى) باباً في بحاره بعنوان (باب تفضيلهم عليهم السلام على الأنبياء وعلى جميع الخلق وأخذ ميثاقهم عنهم وعن الملائكة وعن سائر الخلق، وان أولي العزم إنما صاروا أولى العزم بحبهم صلوات الله عليهم) وذكر فيه ثمانية وثمانين حديثاً يُستفاد منها ذلك.(2)

الأمر الرابع: أفضلية الزهراء (صلوات الله عليها) على جميع من عدا أبيها وبعلها (صلوات الله عليهما)
اشارة

ويدل عليه أدلة عديدة، نذكر منها التالي:

الدليل الأول: ما دلّ على أنّها (عليها السلام) كفؤ لأمير المؤمنين (عليه السلام)

الدليل الأول: ما دلّ على أنّها (عليها السلام) كفؤ لأمير المؤمنين (عليه السلام)(3).

فقد روي أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو لم يخلق الله عليَّ بنِ أبي طالب، لما كان لفاطمة كفو.(4)

وعن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لفاطمة (عليها السلام) تسعة

ص: 266


1- دلائل الإمامة للطبري الشيعي ص 447 – 449 ح 424 / 28.
2- انظر: بحار الأنوار ج26 ص 267 – 319.
3- مع حفظ فوراق الولاية الكبرى لأمير المؤمنين (عليه السلام).
4- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 146.

أسماء عند الله عز وجل: فاطمة، والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية، والمرضية، والمحدثة، والزهراء.

ثم قال (عليه السلام): أتدري أي شيء تفسير فاطمة؟ قلت: أخبرني يا سيدي، قال (عليه السلام): فُطمت من الشر. قال: ثم قال (عليه السلام): لولا أن أمير المؤمنين (عليه السلام) تزوجها، لما كان لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض، آدم فمن دونه.(1)

والكفؤ بمعنى المساوي والنظير(2)،

وحيث إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ففاطمة (عليها السلام) كذلك.

وهذا الوجه يثبت أفضليتها حتى على الأنبياء السابقين كما هو واضح.

الدليل الثاني: ما دلّ على أنّها (عليها السلام) بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)

بل ما دل على أنها روحه التي بين جنبيه، فإنه وبلا شك يدل على أفضليتها، كون من هي جزء منه، أو من هي روحه، هو أفضل الخلق أجمعين.

فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: أمَّا ابنَتي فاطِمَةُ فَإِنَّها سَيِّدَةُ نِساءِ العالَمينَ مِنَ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، وهيَ بَضعَةٌ مِنّي، وهيَ نورُ عَيني، وهيَ ثَمَرَةُ فُؤادي، وهيَ روحيَ الَّتي بَينَ جَنبَيَّ، وهيَ الحَوراءُ الإِنسيَّةُ مِنّي، قامَت فِي مِحرابِها بَينَ يَدَي رَبِّها جَلَّ جَلالُهُ ظَهَرَ نورُها لِمَلائِكَةِ السَّماءِ كَما يَظهَرُ نورُ الكَواكِبِ لأَِهلِ الأَرضِ، ويَقولُ اللهُ عزّوجلّ لِمَلائِكَتِهِ: يا مَلائِكَتي انظُروا إلى أمَتي فاطِمَةَ

ص: 267


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 414 ح3.
2- انظر: الصحاح للجوهري ج1 ص 68 والمخصص لابن سيده ج3 ق 3 (السفر الثاني عشر) س 156.

سَيِّدَةِ إمائي قائِمَةً بَينَ يَدَيَّ تَرتَعِدُ فَرائِصُها مِن خيفَتي وقَد أقبَلَت بِقَلبِها عَلى عِبادَتي، أُشهِدُكُم أنّي قد أمِنتُ شيعَتَها مِنَ النّارِ...(1)

نعم، بضميمة ما تقدم من تصريح الرسول (صلى الله عليه وآله) بأفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلا تكون هي (عليها السلام) أفضل منه (عليه السلام)، وإن كان يظهر من بعض النصوص والأقوال مساواتها (عليها السلام) له (عليه السلام).

الدليل الثالث: ما يدل على حجيتها (عليها السلام) على أولادها المعصومين (عليهم السلام)

هناك ما يشير إلى أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يعتمدون على بعض ما ورثوه عن أمهم الزهراء (عليها السلام)، مما يعني أنها (عليها السلام) حجة عليهم (عليهم السلام) في ذلك، وهذا يدل على أفضليتها (عليها السلام) عليهم وعلى من عداهم.

ومن ذلك ما روي في نظرهم (عليهم السلام) في المصحف الذي سُمّي بمصف فاطمة (عليها السلام)، فقد روي عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ:

تَظْهَرُ الزَّنَادِقَةُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وعِشْرِينَ ومِائَةٍ، وذَلِكَ أَنِّي نَظَرْتُ فِي مُصْحَفِ فَاطِمَةَ (عليها السلام). قَالَ: قُلْتُ: ومَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟ قَالَ (عليه السلام): إِنَّ الله تَعَالَى لَمَّا قَبَضَ نَبِيَّه (صلى الله عليه وآله)، دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام) مِنْ وَفَاتِه مِنَ الْحُزْنِ مَا لَا يَعْلَمُه إِلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، فَأَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكاً يُسَلِّي غَمَّهَا ويُحَدِّثُهَا، فَشَكَتْ(2) (عليها السلام) ذَلِكَ إِلَى

ص: 268


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 175 و 176 ح 178 / 2.
2- لعل (شكت) بمعنى أخبرت أو ذكرت ذلك لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ويؤيده أن ما بعده صرّح بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) أخذ يكتب ما يسمعه من الملك، وهو يتناسب مع الإخبار لا الشكوى.

أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ (عليها السلام): إِذَا أَحْسَسْتِ بِذَلِكِ وسَمِعْتِ الصَّوْتَ قُولِي لِي. فَأَعْلَمَتْه بِذَلِكَ، فَجَعَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ، حَتَّى أَثْبَتَ مِنْ ذَلِكَ مُصْحَفاً.

قَالَ: ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): أَمَا إِنَّه لَيْسَ فِيه شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالَ والْحَرَامِ، ولَكِنْ فِيه عِلْمُ مَا يَكُونُ.(1)

الدليل الرابع: أنها (عليها السلام) واسطة في الفيض، وعلة متوسطة للخلق

نحن نؤمن بأن الخالق والعلة المستقلة هو الله تبارك وتعالى فقط، ولكن هذا لا يمنع من أن يجعل الله تعالى عللاً متوسطة بينه وبين الناتج النهائي، وهو نوع من التفويض الذي يكون بإذنه تعالى، وهو لا مانع منه، فإن الماء هو الذي يروي العطش، لكن بإذن تبارك وتعالى، وهكذا مثلاً الوالدان هما علة في وجود الولد، لكنهما علة ناقصة، ولا بد فيها من إذن الله تبارك وتعالى، وهكذا.

وقد أشارت بعض الروايات الشريفة أن أهل البيت (عليهم السلام) عموماً كانوا واسطة في الفيض وفي وجود هذا العالم، وقد دلت النصوص على ان الزهراء (عليها السلام) هي من العلل المتوسطة الأولى للوجود، والعلة أفضل من المعلول بلا أدنى شك.

إن تلك النصوص تدل على أن الزهراء (عليها السلام) مع أبيها وبعلها (عليهما السلام) هم

ص: 269


1- الكافي للكليني ج1 ص 240 بَابٌ فِيه ذِكْرُ الصَّحِيفَةِ والْجَفْرِ والْجَامِعَةِ ومُصْحَفِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) ح2. وقد ذكر الشيخ رحمه الله عدة روايات في مصحفها (عليها السلام).

أول العلل للوجود بإذن الله تبارك وتعالى، أو بتعبير الروايات: أن أنوارهم كانت أولى الأنوار، ومنها خلق الله تعالى أو أخرج بقية الأنوار لأهل البيت (عليهم السلام).

ومن تلك الروايات ما ورد في بيان تسميتها بالزهراء (عليها السلام)، إذ روي عن جابر، عن أبي

عبد الله (عليه السلام): قال: قلت: لم سميت فاطمة الزهراء زهراء؟ فقال (عليه السلام): لأن الله عز وجل خلقها من نور عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها، وغشيت أبصار الملائكة، وخرت الملائكة لله ساجدين، وقالوا: إلهنا وسيدنا، ما هذا النور؟ فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري، وأسكنته في سمائي، خلقته من عظمتي أخرجه من صلب نبي من أنبيائي، أفضله على جميع الأنبياء وأخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري، يهدون إلى حقي، وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي.(1)

وقد تقدمت رواية سلمان المحمدي التي تدل على هذا المعنى أيضاً.

الأمر الخامس: أفضلية الإمامين الحسنين (عليهما السلام)
اشارة

هناك نصوص دلت على أفضلية الإمامين الحسنين (عليهما السلام) على ما عدا الرسول الأكرم وأمير المؤمنين والزهراء البتول (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومنها التالي:

ص: 270


1- الإمامة والتبصرة لعلي بن بابويه القمي ص 133 ح 144.
النص الأول

ما روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما.(1)

وفي رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما، وأمُّهما أفضل نساء أهل الأرض.(2)

تنبيه: من هو الأفضل: الحسن أو الحسين (عليهما السلام)؟

النصوص في هذا المجال مختلفة، ولكن تظهر أفضلية الإمام الحسن (عليه السلام) من جهة كونه الأكبر سناً، كما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:... فَلَمَّا مَضَى عَلِيٌّ (عليه السلام) كَانَ الْحَسَنُ (عليه السلام) أَوْلَى بِهَا لِكِبَرِه...(3)

بل نصت بعض الروايات على ذلك، وأن كون التسعة المعصومين (عليهم السلام) من ذرية الإمام الحسين (عليه السلام) وإن كانت خصوصية له (عليه السلام)، لكنها لا تجعله أفضل من الإمام الحسن (عليه السلام)، فقد روي عن هشام بن سالم قال: قلت للصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام): الحسن أفضل أم الحسين (عليهما السلام)؟ فقال (عليه السلام): الحسن (عليه السلام) أفضل من الحسين (عليه السلام). [ قال: ] قلت: فكيف صارت الإمامة من بعد الحسين (عليه السلام) في عقبه دون ولد الحسن (عليه السلام)؟ فقال (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أحب أن يجعل سنة موسى وهارون جارية في الحسن والحسين (عليهما السلام)، ألا

ص: 271


1- قرب الأسناد للحميري القمي ص 111 ح 386.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 67 ح252.
3- الكافي للكليني ج1 ص 287 بَابُ مَا نَصَّ الله عَزَّ وجَلَّ ورَسُولُه عَلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وَاحِداً فَوَاحِداً- ح1.

ترى أنهما كانا شريكين في النبوة كما كان الحسن والحسين (عليهما السلام) شريكين في الإمامة، وإن الله عز وجل جعل النبوة في ولد هارون (عليه السلام) ولم يجعلها في ولد موسى (عليه السلام) وإن كان موسى (عليه السلام) أفضل من هارون (عليه السلام)، قلت: فهل يكون إمامان في وقت واحد؟ قال: لا إلا أن يكون أحدهما صامتاً مأموماً لصاحبه، والآخر ناطقاً إماماً لصاحبه، فأما أن يكونا إمامين ناطقين في وقت واحد فلا.

قلت: فهل تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام؟ قال (عليه السلام): لا إنما هي جارية في عقب الحسين عليه السلام كما قال الله عز وجل: (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ)(1)ثم

هي جارية في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة.(2)

وعلى كل حال، فليس من الضروري أن نجزم بشيء في هذه المفردة، ويكفينا أن نذكر الروايات في هذا المجال.

الأمر السادس: أفضلية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) على الأئمة من ولد الإمام الحسين (عليهم السلام)
اشارة

ويدل على ذلك العديد من النصوص، من قبيل:

النص الأول

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «... واختار من الحسين الأوصياء، يمنعون عن التنزيل تحريف الضالّين وانتحال المبطلين وتأول الجاهلين، تاسعهم باطنهم

ص: 272


1- الزخرف 28.
2- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 416 و 417 ب 40 ح9.

ظاهرهم قائمهم وهو أفضلهم»(1)،

فهذه الرواية صرَّحت بأنَّ التاسع من ولد الإمام الحسين (عليه السلام) هو أفضل أُولئك التسعة.

النص الثاني

عن سلمان، قال: كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحسين بن علي (عليهما السلام) علىٰ فخذه، إذ تفرَّس في وجهه وقال: «يا أبا عبد الله، أنت سيّد من سادة، وأنت إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمَّة تسعة، تاسعهم قائمهم إمامهم أعلمهم أحكمهم أفضلهم»(2).

وأمَّا الأئمَّة الثمانية (عليهم السلام)، فالظاهر من عدَّة روايات أنَّهم متساوون، مثل ما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «...واختار من صلبك يا حسين تسعة، تاسعهم قائمهم، وكلّهم في المنزلة والفضل عند الله واحد»(3).

وأفضلية المهدي (عليه السلام) هو مقتضىٰ الروايات المتقدّمة، فتكون تلك الروايات مخصِّصة لعموم مثل هذه الرواية الأخيرة، بمعنى: ان الرواية الأخيرة وإن كان يظهر منها أن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) هو متساوي الفضل مع أولاد الإمام المحسين (عليه السلام)، ولكن النصوص الأخرى دلت على أفضليته (عجل الله تعالى فرجه)، فتخصص عموم هذه الرواية، والناتج: أن التسعة المعصومين (عليهم السلام) كلهم في الفضل سواء، إلا الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) فهو أفضلهم.

ص: 273


1- المحتضر: 277.
2- مقتضب الأثر: 9؛ بحار الأنوار 36: 372.
3- دلائل الإمامة: 447/ ح (423/27).

وعلى كل حال، فإن كان ما ذكرناه من نصوص يصلح دليلاً على التفاضل بينهم (عليهم السلام) فبها، وإلا، فليست هي من المسائل التي يلزم الاعتقاد بها، فنحن يلزمنا الاعتقاد بهم (عليهم السلام) جميعاً، وهذا المقدار كافٍ لنجاتنا في الدنيا والآخرة.

تنبيه: ما يكون فيه أهل البيت (عليهم السلام) سواء
اشارة

ثبت من خلال النصوص العديدة، والتي ذكرنا بعضاً قليلاً منها هنا، أن الأئمة (عليهم السلام) يتفاضلون فيما بينهم بالمعنى الذي تقدم، وتنبغي الإشارة هنا إلى أن بعض النصوص أشارت إلى أنه رغم التفاضل الموجود بينهم (عليهم السلام)، إلا أنهم يتساوون في بعض المنازل.

وبعبارة أخرى: أن التفاضل بينهم (عليهم السلام) إنما هو عند الله تبارك وتعالى، وإنما بالنسبة لنا،

فلا بد أن يكون تعاملنا معهم (عليهم السلام) بالسوية في ما يتعلق بالمنازل التالية:

1/أنهم مجعولون من الله تعالى وبتنصيب مباشر منه، بلّغ به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

2/لزوم الإيمان بهم (عليهم السلام) جميعاً، وعدم جواز إنكار أي أحد منهم (عليهم السلام).

3/لزوم طاعتهم (عليهم السلام) جميعاً، وعدم جواز مخالفة أي أحد منهم.

4/أنهم (عليهم السلام) كلهم حجة على جميع العباد، في قولهم وفعلهم وتقريرهم.

5/أنهم (عليهم السلام) متساوون في علم الحلال والحرام، فكلهم (عليهم السلام) يعلم ذلك تماماً.

ص: 274

6/أن علمهم (عليهم السلام) لدني لا كسبي بالطرق المتعارفة من ريادة المدارس والمعلمين العاديين.

7/ أنهم (عليهم السلام) معصومون.

وفي كل ذلك نصت الروايات الشريفة على أن للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولأمير المؤمنين (عليه السلام) الفضل والزيادة.

والنصوص الدالة على ذلك عديدة، منها التالي:

النص الأول

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لولا أنا نزداد لأنفدنا، فقلت: تزدادون شيئاً ليس عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

فقال (عليه السلام): إذا كان ذلك أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره ثم أتى علياً (عليه السلام) فأخبره، ثم إلى واحد بعد واحد، حتى ينتهي إلى صاحب هذا الأمر.(1)

النص الثاني

عَنْ ذَرِيحٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الأَئِمَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)؟ فَقَالَ (عليه السلام): كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، إِمَاماً ثُمَّ كَانَ الْحَسَنُ (عليه السلام) إِمَاماً، ثُمَّ كَانَ الْحُسَيْنُ (عليه السلام) إِمَاماً، ثُمَّ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) إِمَاماً، ثُمَّ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام) إِمَاماً، مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَانَ كَمَنْ أَنْكَرَ مَعْرِفَةَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، ومَعْرِفَةَ رَسُولِه (صلى الله عليه وآله).

ص: 275


1- الاختصاص للشيخ المفيد ص 313، وقد ذكر الشيخ هنا عدة احاديث بهذا المعنى، فليراجع.

ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ فَأَعَدْتُهَا عَلَيْه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ (عليه السلام) لِي: إِنِّي إِنَّمَا حَدَّثْتُكَ لِتَكُونَ مِنْ شُهَدَاءِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى فِي أَرْضِه.(1)

النص الثالث

عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ قَالَ: سَأَلْتُ الشَّيْخَ [يعني الإمام الكاظم (عليه السلام)] عَنِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام)؟

قَالَ (عليه السلام): مَنْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنَ الأَحْيَاءِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الأَمْوَاتَ.(2)

النص الرابع

عن مالك بن عطية قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الأئمة يتفاضلون؟

قال (عليه السلام): أما في الحلال والحرام فعلمهم فيه سواء، وهم يتفاضلون فيما سوى ذلك... (3)

النص الخامس

وعن أحمد بن عمر الحلبي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): لا يستكمل عبد الإيمان حتى يعرف أنه يجري لآخرنا ما يجري لأولنا، وهم في الطاعة والحجة والحلال والحرام سواء، ولمحمد وأمير المؤمنين (عليهما السلام) فضلهما.(4)

ص: 276


1- الكافي للكليني ج1 ص 181 بَابُ مَعْرِفَةِ الإِمَامِ والرَّدِّ إِلَيْه ح5.
2- الكافي للكليني ج1 ص 373 بَابُ مَنِ ادَّعَى الإِمَامَةَ ولَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ ومَنْ جَحَدَ الأَئِمَّةَ أَوْ بَعْضَهُمْ ومَنْ أَثْبَتَ الإِمَامَةَ لِمَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ- ح8.
3- الاختصاص للشيخ المفيد ص 268.
4- الاختصاص للشيخ المفيد ص 268.
النص السادس

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِير،ٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ الله تَعَالَى (الَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

قَالَ (عليه السلام): (الَّذِينَ آمَنُوا) النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وذُرِّيَّتُه الأَئِمَّةُ والأَوْصِيَاءُ (صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ) أَلْحَقْنَا بِهِمْ ولَمْ نَنْقُصْ ذُرِّيَّتَهُمُ الْحُجَّةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) فِي عَلِيٍّ (عليه السلام)، وحُجَّتُهُمْ وَاحِدَةٌ وطَاعَتُهُمْ وَاحِدَةٌ.(1)

النص السابع

عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الكاظم (عليه السلام) قَالَ: قَالَ لِي: نَحْنُ فِي الْعِلْمِ والشَّجَاعَةِ سَوَاءٌ، وفِي الْعَطَايَا عَلَى قَدْرِ مَا نُؤْمَرُ.(2)

النص الثامن

عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): نَحْنُ فِي الأَمْرِ والْفَهْمِ والْحَلَالِ والْحَرَامِ نَجْرِي مَجْرًى وَاحِداً، فَأَمَّا رَسُولُ اللّه (صلى الله عليه وآله) وعَلِيٌّ (عليه السلام) فَلَهُمَا فَضْلُهُمَا.(3)

ص: 277


1- الكافي للكليني ج1 ص 275 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ والشَّجَاعَةِ والطَّاعَةِ سَوَاءٌ ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص 275 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ والشَّجَاعَةِ والطَّاعَةِ سَوَاءٌ ح2.
3- الكافي للكليني ج1 ص 275 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ والشَّجَاعَةِ والطَّاعَةِ سَوَاءٌ ح3.

ص: 278

المقالة الثامنة: العصمة

قد يتخيل البعض أن القول بعصمة أهل البيت (عليهم السلام) -بالحد الذي ذكرناه في مبحث العصمة في فصل الإمامة- هو نوع من الغلو، وقد تبين أنه لا غلو، ما دامت العصمة هي بإذن الله تبارك وتعالى، وليس فيها خروج عن الطبيعية الإنسانية الممكنة، نعم، هي خروج عن المستوى العام للبشرية، أي إنها لا تكون إلا لخاصة الخاصة، ولكنها بالتالي بإذن الله تعالى، ولا مانع عقلياً ولا نقلياً منها.

ص: 279

ص: 280

المقالة التاسعة: العلم الخاص

وهو أيضاً قد يُتوهم حصول الغلو فيه، والجواب فيه نفس الجواب عما تقدم من المراتب العلمية الكمالية الوجودية، فما دام هو علماً بإفاضة من الله تبارك وتعالى، وبإذنه ورحمته وتحت قدرته، فلا مانع منه في حد نفسه، وهو مهما كان مطلقاً بالنسبة لباقي الممكنات، إلا أنه بالنسبة لله تبارك وتعالى يبقى علماً محدوداً ممكناً، وهم (عليهم السلام) فيه محتاجون إلى الباري جل وعلا ولا يستغنون عنه.

وبهذا الاعتبار لا غلو في علمهم مهما عظم.

ص: 281

ص: 282

المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة (عليهم السلام)
اشارة

المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة (عليهم السلام).(1)

قد يُقال: إن إثبات الولاية التكوينية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) هو نوع من الغلو فيهم، وحتى تتبين الحال نذكر النقاط التالية:

النقطة الأولى: معنى الولاية التكوينية
اشارة

هي القدرة على التصرف في قوانين التكوين ونظام العالم.

أو قل: هي مرتبة كمالية مرتبطة بالقدرة على التصرف في شؤون العالم وسننه وقوانينه.

وبتعبير ثالث: (هي عبارة عن تسخير المكونات تحت إرادتهم (عليهم السلام) ومشيتهم بحول الله وقوته)(2)

وبتعبير رابع: عبارة عن تأثير مشية النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) في أمر كوني بمجردها [أي بمجرد المشيئة] أو مع فعل ما يكون ذلك التأثير، من قبيل

ص: 283


1- تقدم شيء من الكلام حول الولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام) في مبحث الإمامة- الإمامة الخاصة: النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت (عليهم السلام) (الولاية التكوينية)، وانظر أيضاً (التساؤل الثالث: أن الولاية التكوينية تلازم تحديد قدرة الله تعالى) في التساؤلات التي ذُكرت أواخر مباحث الإمامة.
2- كتاب المكاسب والبيع- تقرير بحث النائيني للآملي ج2 ص 332. ومصباح الهدى في شرح العروة الوثقى للشيخ محمد تقي الآملي ج10 ص 370.

خرق العادة كإحياء عيسى على نبينا (وآله وعليه الصلاة والسلام) وتفجير موسى (عليه السلام) العيون بضرب عصاه إلى غير ذلك.(1)

وقد صرح الكثير من علمائنا بأن ثبوتها للمعصومين (عليهم السلام) أمر مفروغ عنه، ونذكر من كلماتهم التالي:

الكلمة الأولى: للسيد الخوئي (قدس سره)

قال (قدس سره): أمّا الولاية التكوينية: فلا إشكال في ثبوتها وأنّ المخلوقات بأجمعها راجعة إليهم وإنّما خلقت لهم، ولهم القدرة على التصرف فيها وهم وسائط التكوين، ولعلّ ذلك بمكان من الوضوح ولا يحتاج إلى إطالة الكلام.(2)

وقال (قدس سره): في ولايتهم (عليهم السلام) التكوينية أما الجهة الأولى، فالظاهر أنه لا شبهة في ولايتهم على المخلوق بأجمعهم، كما يظهر من الأخبار، لكونهم واسطة في الايجاد، وبهم الوجود، وهم السبب في الخلق، إذ لولاهم لما خلق الناس كلهم، وإنما خلقوا لأجلهم، وبهم وجودهم، وهم الواسطة في الإفاضة، بل لهم الولاية التكوينية لما دون الخالق. فهذه الولاية نحو ولاية الله تعالى على الخلق ولاية إيجادية، وإن كانت هي ضعيفة بالنسبة إلى ولاية الله تعالى على الخلق.(3)

ص: 284


1- إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب للميرزا جواد التبريزي ج3 شرح ص 20.
2- التنقيح في شرح المكاسب – البيع (موسوعة السيد الخوئي) تقرير بحث السيد السيد الخوئي للغروي ج37 ص 157.
3- مصباح الفقاهة للسيد الخوئي ج3 ص 279 و 280.
الكلمة الثانية: للسيد الروحاني (قُدّس سره)

(الولاية التكوينية -أي ولاء التصرف التكويني- والمراد بها: كون زمام أمر العالم بأيديهم، ولهم السلطنة التامة على جميع الأمور بالتصرف فيها كيف ما شاءوا إعداماً وإيجاداً، وكون عالم الطبيعة منقادا لهم لا بنحو الاستقلال بل في طول قدرة الله تعالى وسلطنته واختياره، بمعنى أن الله تعالى أقدرهم وملكهم كما أقدرنا على الأفعال الاختيارية، وكل زمان سلب عنهم القدرة بل لم يفضها عليهم انعدمت قدرتهم وسلطنتهم.

ومن هذا الباب معجزات الأنبياء والأولياء، وقد دل الكتاب الكريم على ثبوت ذلك لأشخاص، قال الله تعالى: (وقال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) وقال عز من قائل: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) وقال سبحانه: (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة لثبوت ولاء التصرف لأشخاص.

وإذا ثبت ذلك لهؤلاء فثبوته للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وخليفته الذي عنده علم الكتاب بنص القرآن لا يحتاج إلى بيان، وعليه فالروايات المتواترة المتضمنة للمعجزات والكرامات الصادرة على المعصومين عليهم السلام - كالتصرف الولائي في النقش وصيرورته أسداً مفترساً وما شاكل - إنما نلتزم بها ونعتقد من غير

ص: 285

التزام بالتأويل، كيف ونرى أنهم (عليهم السلام) بعد موتهم تصدر عنهم كرامات من ابراء المريض الذي عجز الأطباء عن ابرائه، وحل معضلات الأمور وما شاكل، وليس ذلك إلا لما ذكرناه.

ويمكن أن تكون الآية الكريمة: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ناظرة إلى ثبوت هذا المعنى من الولاية أيضا للنبي (صلى الله عليه وآله).

بالجملة: ثبوت الولاية بهذا المعنى للنبي والأئمة المعصومين - الذين يثبت لهم جميع ما يثبت للنبي (صلى الله عليه وآله) للروايات الكثيرة المتواترة - مما لا ينبغي التوقف فيه.

وأما شبهة استلزام ذلك للشرك، فهي تندفع بأنا لا ندّعي ثبوت ذلك لهم بالاستقلال، بل إن الله تبارك وتعالى ملّكهم وأقدرهم كما ملّكنا وأقدرنا على الأفعال الاختيارية، وبه يظهر أن لا ينافيه قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا) فإن المراد عدم الملكية بالاستقلال.)(1)

الكلمة الثالثة: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله)

المراد من الولاية التكوينية، فهي: قدرة الإنسان على التصرف في عالم الخلق والتكوين بأمر اللهِ تعالى وإذنه، والإتيان بأفعال خارقة للعادة والنواميس الطبيعية لعالم الأسباب، فمثلًا يبرئ المريض الذي لا علاج له بإذن الله، وذلك من خلال الهيمنة والنفوذ الذي وهبه الله تعالى له، أو يحيي

ص: 286


1- فقه الصادق (عليه السلام) للسيد محمد صادق الروحاني ج16 شرح ص 153 إلى ص 155.

الموتى، وأعمال اخرى من هذا القبيل، وكل أشكال التصرف المعنوي غير الاعتيادي في أرواح وأجسام البشر، وهذا النوع يشمل الطبيعة أيضاً.(1)

ومن هذا كله نخلص إلى التالي:

أولاً: أن الولاية التكوينية هي من توابع صفة القدرة، لا العلم، وإن كان للعلم مدخلية معينة في ثبوتها.

ثانياً: أنها لا تكون إلا بإذن الله تبارك وتعالى.

ثالثاً: أن الولي فيها يهيمن على الكون ومجرياته، بحيث يتمكن من التصرف في قوانينه وسننه.

رابعاً: أن القرآن الكريم أثبتها للعديد من الأنبياء بصريح آياته، وبالتالي فالوقوع أدلّ دليل على الإمكان.

خامساً: أن ثبوتها للمعصومين (عليهم السلام) أمر مفروغ عنه.

النقطة الثانية: مراتب الولاية التكوينية
اشارة

نعرض هذه المراتب بطريقتين:

الطريقة الأولى: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله تعالى)

ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي أن الولاية التكوينية لها أربع حالات، هي في الحقيقة مراتب لها، فقال ما نصه(2):

ص: 287


1- نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج9 ص 121.
2- انظر: نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج9 ص 121و 122.

1- «الولاية في أمر الخلقة وخلق العالم»: بمعنى أنّ الله تبارك وتعالى يمنح عبداً من عباده أو ملكاً من ملائكته قدرة خلق العوالم أو محوها من الوجود، ومن المسلَّم به أنّ هذا الأمر ليس مستحيلًا، لأنّ الله على كل شيء قدير وقادرٌ على منح أي نحو من القدرة لأي إنسان، بَيدَ أنّ آيات القرآن تؤكّد في كل المواضع على أنّ خلق عالم الوجود والسموات والأرضين والجن والإنس والملائكة والنباتات والحيوانات والجبال والبحار قد حصل بقدرة الله جلّ وعلا، لا عن طريق عباده الخاصين أو ملائكته، لذا فقد نسب الخلق إليه في جميع الأحوال، ولم ينسب هذا الأمر إلى غيره «بنحو واسع» في أي موضع أبداً، وعليه فإنّ خالق السموات والأرضين والنبات والحيوان والإنسان هو الله وحده.

2- «الولاية التكوينية في ايصال الفيض»: بمعنى أنّ كل إمداد ورحمة وبركة وقدرة من قبل الله تعالى تصل إلى عباده أو سائر الكائنات في عالم الوجود بواسطة أولياء الله وخاصة عباده، كمياه الشرب بالنسبة للبيوت في مدينة ما، التي تمر من خلال الأنبوب الرئيس، وهذا الأنبوب الكبير يستلم المياه من مصدرها ويوصلها إلى جميع النقاط، ويعبر عنه ب «الواسطة في الفيض».

وهذا المعنى ليس محالًا أيضاً من الناحية العقلية، ويشاهد نموذجه في العالم الصغير، وبناء الإنسان، وتوزيع المواد الغذائية على الخلايا كافّة عن طريق شريان القلب، فما المانع من ذلك في العالم الكبير أيضاً؟

ص: 288

ولكن ممّا لا شك فيه أنّ إثباته بحاجة إلى دليل مقنع، وإذا ما ثبت فهو بإذن الله تعالى.

3- «ولاية تكوينية في حدود معينة»: كإحياء الموتى وشفاء المرضى الذين يستحيل علاجهم ونحو ذلك.

وقد وردت نماذج من هذا النوع من الولاية بشأن بعض الأنبياء في القرآن الكريم بصراحة... والروايات الإسلامية شاهد على ذلك أيضاً، من هنا فإنّ هذا الفرع من الولاية التكوينية ليس ممكناً من ناحية العقل فحسب، بل هنالك أدلة نقلية عليه أيضاً.

4- «الولاية التي تعني الدعاء من أجل تحقيق المطالب»: ويأتي ذلك بقدرة الله تعالى، فإنّ النبي (صلى الله عليه و آله) أو الإمام المعصوم يدعو فيتحقق ما طلبه من الله تعالى.

وهذا المعنى ليس فيه أي محذور عقلي ولا نقلي، وأنّ الآيات والروايات مليئة بنماذج منه، بل ربّما لا يمكن إطلاق اسم الولاية التكوينية عليه؛ لأنّ استجابة دعائه تأتي من قبل الله تعالى...

الطريقة الثانية
اشارة

الطريقة الثانية(1):

الولاية التكوينية ظاهرة وجودية حقيقة، تعني القدرة النفسية والمعنوية فوق المعدل العام، وهي ظاهرة مشككة لها درجات ومراتب كأي قدرة

ص: 289


1- أشار لهذه الطريقة سماحة السيد الأستاذ جعفر الحكيم (حفظه الله تعالى) في مجلس درسه في علم الكلام (الدرس (195) السبت 19 ذو القعدة 1441 ه /11 تموز 2020م)

أخرى، وقد ذكرت لها مراتب نمر عليها بشكل سريع:

المرتبة الأولى: معرفة الملكوت

وهي مرتبة يصل إليها الفرد من خلال التزام التقوى منهجاً عاماً في حياته، وهي نتيجة لتهذيب النفس والتعبد الخالص، وهي بوابة الرحلة التكاملية التي يسير فيها الإنسان نحو عالم الغيب والمعنى، تنتج أن يقفز بها الإنسان عن المعدل الطبيعي للناس.

وهو ما يشير إليه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(1)

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.)(2)

المرتبة الثانية: السلطة على النفس

بحيث يصير مصداقاً حقيقياً لحاكمية العقل على الهوى (الشهوة والغضب)، ليس مجرد كبحها فحسب، وإنما تحويلها إلى أدوات مطيعة، بحيث تتم برمجة كل قوى النفس لتكون قوى خير فاعلة، قيادها بيد العقل.

وهي ملاك العبودية الخالصة التي تفتح النفس إلى الوصول إلى المرات الكمالية العالية.

ص: 290


1- الأنفال 29
2- الأنعام 75
المرتبة الثالثة: السيطرة على البدن

إن النفس محتاجة إلى البدن في هذا العالم في فعلها، فهي وإن كانت مجردة ذاتا إلاّ أنها حبيسة البدن، لا تفعل شيئاً إلاّ من خلاله، وبهذا اللحاظ تكون هي التابعة للبدن، وهو معنى كونها مجردة ذاتاً مادية فعلاً.

ولكن حيث يترقى الإنسان في عوالم تهذيب النفس والتكامل، فإنه قد يصل إلى مرتبة تصبح عنده القدرة على السيطرة على البدن بحيث يجعله يعمل أعمالاً جسمانية خارقة بأمر النفس، كالمشي على الماء، أو على الهواء.

المرتبة الرابعة: التصرف في عالم الوجود

بحيث يدخل صاحبها في نظام الأسباب والمسببات في عالم الوجود، فيصل إلى حد الولاية المقطعية (إقامة المعجزة)، وقد يدخل في نظام السببية الفاعلية أو الغائية.

وسيتبين أن أهل البيت (عليهم السلام) قد وصلوا إلى أعلى مراتب الولاية التكوينية.

النقطة الثالثة: مؤهلات الولاية التكوينية
اشارة

بعد الفراغ عن وتسليم أن أفعاله جل وعلا معللة بالغايات، يقع السؤال عن المؤهلات التي يلزم توفرها في الولي التكويني، والتي بها يرتفع الجزاف والعبث عن إعطائه الإذن بالتصرف في عالم التكوين، والمؤهلات هي التالي:

ص: 291

المؤهل الأول: الإذن الإلهي

فإعطاء الولاية التكوينية لغير الباري جل وعلا إنما هو فعل إلهي، أي إنه بإذنه تعالى، وأي تصوير للولاية بدون إذنه جل وعلا فهو من الغلو الذي لا يقول به أحد من الشيعة.

وهذا المؤهل يرتكز على:

أ- نفي التفويض المطلق والمستقل عن الإذن الإلهي، وأنه تعالى ما زال قادراً على التصرف في مجريات الكون.

ب- أنه تعالى خلق العالم وفق قوانين خاصة لا يعلمها إلا هو، خاصة نظام العلة والمعلول.

ج- وأن له (تعالى) الحق في أن يُعلّم بعض مخلوقاته أنظمة تلك القوانين، أو قل: أن يجعل بعض مخلوقاته عالمة بقوانين العالم، وقادرة على التصرف فيه.

د- وينتج: أنه لا يحق لأي أحد بل لا يمكن أن يتصرف في تلك القوانين ما لم يأذن له الباري جل وعلا في ذلك، ويتم الإذن عملياً بإعطاء مفاتيح تلك القوانين بيد الولي، وبالتالي يمكنه أن يتصرف في تلك القوانين ومخرجاتها التكوينية.

الماء من طبيعته أنه يروي، ولكن ذلك باعتبار أن الله تعالى جعل فيه خاصية الإرواء، وإلا، فيمكن رفع هذه الخاصية منه، فلا يكون الماء مزيلاً للعطش.

ص: 292

النار من طبيعتها أنها محرقة، ولكنها إنما كانت كذلك بإذن الله تبارك وتعالى، وإلا، فلو أمرها لكانت برداً وسلاماً لا محرقة مهلكة.

المؤهل الثاني: العلم الخاص

لقد تبين أن العالم قد صُمّم بطريقة علمية دقيقة، وأن هناك قوانين تتحكم به من الذرة إلى المجرة، وبالتالي، فأي تغيير في مجريات ومخرجات قانون ما، لا يكون بطريقة عشوائية، وإلا لأنتج الدمار الشامل، ولا يكون أيضاً من دون علم، لأنه ربما أدى إلى نتائج غير منظّمة، وعشوائية، وقد تؤدي إلى كوارث كونية.

فالولي، الذي تُدعى له الولاية التكوينية، لا بد أن يكون عنده من العلم ما يتجاوز به الحدود الطبيعية للبشر، وهو الذي أهّله إلى أن يتصرف في قوانين العالم، من دون أن يؤدي ذلك إلى العشوائية ولا الكارثية ولا حتى خلاف الحكمة الإلهية والهدف من الخلقة.

وهذا ما يبرر عدم تفعيل المعصومين (عليهم السلام) لولايتهم التكوينية مع أعدائهم بالخصوص، أو في مجمل حياتهم الشريفة، فالملاحظ في حياتهم (عليهم السلام) أنهم كانوا يتصرفون وفق القانون الطبيعي لهذا العالم، ولم يقع منهم غيره من الخوارق إلا في حالات قليلة نسبياً قياساً إلى مجمل أفعالهم، وما ذلك إلا لأنهم لا يستخدمون قدراتهم تلك إلا في موضع الحكمة.

ص: 293

وفي الحقيقة، فإن هذا يتكئ على حقيقة أشرنا لها في بحث القدرة(1)،

من أنه ليس من ذاتيات القادر أن يُفعّل قدرته كلها لتثبت له، وإنما له أن يستخدم بعض قدرته، وله أن يترك أموراً يقدر عليها، ليس إلا لأن الحكمة تأبى الفعل وإن كان الفرد قادراً عليه، وهذه مسألة وجدانية.

النقطة الرابعة: مناشئ وجذور الولاية التكوينية
اشارة

ذكر العلماء عدة مناشئ تمثل الجذور الحقيقية لتمتع الولي المعصوم بالقدرة على التصرف في مجريات الكون، والملاحظ فيها: أنها على اختلافها ترجع إلى حقيقة واحدة، وهي: الإذن الإلهي وفق الحكمة اللا متناهية لشخص يتمتع بمؤهلات خاصة، ولزيادة التوضيح ننقّط ما ذكروه بالتالي:

أولاً: الإذن الإلهي الخاص

وقد عرفنا أن الإذن هو الوجه الجامع لكل ما قيل في الولاية التكوينية لأي موجود من الموجودات.

وهو ما قد يُعبر عنه بالتفويض الإلهي لبعض مخلوقاته في ذلك.

وفي الحقيقة، أن هذا الوجه:

1- في الوقت الذي يُثبت شرعية الولي في تصرفاته، وحكمتها.

2- هو أيضاً يُثبت التفاوت في الولاية التكوينية للأفراد والموجودات،

ص: 294


1- انظر بحث القدرة في الجزء الأول: النقطة الثالثة: خصائص القدرة الإلهية- الخصيصة الثالثة: إن القدرة محكومة للحكمة.

فإن الإذن ليست له مرتبة واحدة كما هو واضح.

3- وفي الوقت ذاته، فإن الإذن الإلهي يمثل عامل اطمئنان للمولّى عليهم، بأن هذا الولي، الذي لديه قدرات عالية جداً بحيث إنه يستطيع أن يتصرف في الكون وقوانينه، هو لن يستعمل قدرته تلك في ما يرجع على العباد بالضرر والشر، وإنما سيكون فعله تصرفه في الكون بما يتناسب مع المصلحة العامة للمخلوقات، وبما يتناسب مع الهدف النهائي الذي خلق الله تعالى من أجله العالم، ويتناسب أيضاً مع الحكمة الإلهية.

وعلى كل حال، يدل على هذا المنشأ للولاية التكوينية العديد من النصوص، من قبيل النصوص القرآنية التي صرّحت بأن ما كان يفعله النبي عيسى (عليه السلام) من أفعال خارقة وتصرفات في عالم التكوين إنما كان بإذن الله تبارك وتعالى، قال تعالى حكاية عن لسان عيسى (عليه السلام): (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(1)

ثانياً: العلم الخاص

الذي يكون لدى الولي، والذي يتمكن به من اكتشاف قوانين العالم، وبالتصرف بها بما يتناسب مع الحكمة الإلهية.

ص: 295


1- آل عمران 49.

ويدل على هذا الوجه ما جاء في القرآن الكريم من أن آصف بن برخيا تمكن من الإتيان بعرض بلقيس من مملكتها إلى سليمان النبي (عليه السلام) بأسرع من لمح البصر بسبب أن لديه علماً من الكتاب، قال تعالى: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(1)

ثالثاً: معرفة الاسم الأعظم
اشارة

فقد أشارت بعض النصوص الدينية إلى أن معرفة هذا الاسم الأعظم هي السبب في امتلاك الفرد الولاية التكوينية على قوانين العالم، ولعل هذا الوجه يرجع إلى علم خاص –حسب بعض تفسيرات الاسم الأعظم كما سيأتي-، فما ذُكر في الوجه الثاني يُقصد به العلم اللدني، الذي يكون للولي بغير الطرق الطبيعية لتحصيل العلم، وما ذُكر هنا، يُراد به علم أخص من ذلك العلم اللدني، وهو العلم بخصوص الاسم الأعظم، فضلاً عن العلم الخاص.

هذا، وقد صرحت الروايات الشريفة أن العلم به متفاوت حسب درجات الولي التكاملية، فهناك من يعرف جزءاً واحداً منه، وهناك من يعلم

ص: 296


1- النمل 38 – 40.

أكثر، ومهما اتسعت معرفة الولي به، فإن هناك مرتبة منه مستأثرة، لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.

بحث استطرادي: معنى الاسم الأعظم
اشارة

ليتضح شيء من حقيقة الاسم الأعظم، نذكر التالي:

أولاً: معنى الاسم الأعظم في النصوص
اشارة

بمتابعة النصوص، فإنه يمكن وجود عدة نصوص ذكرت الاسم الأعظم، وذكرت عدة معان له، هي على عدة طوائف(1):

الطائفة الأولى: أن الاسم الأعظم هي البسملة

فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَقرَبُ إِلَى الاِسمِ الأَعظَمِ(2)

مِن سَوادِ العَينِ إِلى بَياضِها.(3)

ص: 297


1- تمكن مراجعة مصادر هذه النصوص في: موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 457 – 465.
2- في هامش المصدر: استعملت كلمة (اسم) في معناها الجامع القابل للصدق على جميع أسمائه تعالى، فهو من باب ذكر المفهوم والإشارة به إلى المصداق. وبما أنّ الاسم الأعظم أشرف المصاديق فلا محالة أن يكون أولى وأحقّ بانطباق المفهوم عليه. وبهذا يتّضح معنى كون (باسم الله) أقرب إلى الاسم الأعظم من سواد العين إلى بياضها ؛ فإنّ القرب بينهما قرب ذاتي، إذ المفهوم متّحد مع مصداقه خارجاً، وقرب سواد العين إلى بياضها قرب مكانيّ، والاتّحاد بينهما وضعيّ (البيان في تفسير القرآن: 514).
3- عدّة الداعي: 49، عيون أخبار الرضا: 2 / 5 / 11 عن محمّد بن سنان عن الإمام الرضا (عليه السلام)، تفسير العيّاشي: 1 / 21 / 13 عن إسماعيل بن مهران عن الإمام الرضا (عليه السلام)، دلائل الإمامة: 420 / 383 عن أحمد بن إسحاق عن الإمام الهادي عن الإمام الرضا (عليهما السلام)، كشف الغمّة: 3 / 210 عن أبي هاشم عن الإمام العسكري (عليه السلام) وفيها " اسم الله الأعظم " بدل " الاسم الأعظم "، بحار الأنوار: 78 / 371 / 6 وراجع: تهذيب الأحكام: 2 / 289 / 1159 والمستدرك على الصحيحين: 1 / 738 / 2027 وتاريخ بغداد: 7 / 313 / 3826 وكنز العمّال: 2 / 296 / 4047.

وفي رواية عن معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق (عليه السلام): (بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) اِسمُ اللهِ الأَكبَرُ. أَو قالَ: الأَعظَمُ.(1)

الطائفة الثانية: مجموعة من الآيات

فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ في هاتَينِ الآيَتَينِ: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)، وفاتِحَةِ سورَةِ آلِ عِمرانَ: (ألم. اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ). (2)

وعنه (صلى الله عليه وآله): اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ في سُوَر ثَلاث: البَقَرَةِ، وآلِ عِمرانَ، وطه.(3).

وعنه (صلى الله عليه وآله): اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ في هذِهِ الآيِةِ مِن آلِ عِمرانَ: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (4)

ص: 298


1- مهج الدعوات: 379.
2- سنن أبي داوود: 2 / 80 / 1496، سنن الترمذي: 5 / 517 / 3478، سنن ابن ماجة: 2 / 1267 / 3855 وليس فيه ذيله، سنن الدارمي: 2 / 907 / 3266، المعجم الكبير: 24 / 174 / 440 و ح 441 والثلاثة الأخيرة نحوه وكلّها عن أسماء بنت يزيد، كنز العمّال: 1 / 451 / 1941 نقلا عن مسند ابن حنبل.
3- سنن ابن ماجة: 2 / 1267 / 3856، المستدرك على الصحيحين: 1 / 684 / 1861 وليس فيه " الذي إذا دعي به أجاب "، المعجم الكبير: 8 / 237 / 7925، المعجم الأوسط: 8 / 192 / 8371 كلّها عن أبي أُمامة، كنز العمّال: 1 / 451 / 1942 ؛ مهج الدعوات: 380 عن أبي أُمامة، بحار الأنوار: 93 / 224.
4- المعجم الكبير: 12 / 133 / 12792 عن ابن عبّاس، كنز العمّال: 1 / 451 / 1943 ؛ مهج الدعوات: 380 عن أسماء بنت زيد وزاد فيه الآية 27 من آل عمران.

وعنه (صلى الله عليه وآله): هَل أَدُلُّكُم عَلَى اِسمِ اللهِ الأَعظَمِ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ، وإِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى الدَّعوَةُ الَّتي دَعا بِها يونُسُ، حَيثُ ناداهُ فِي الظُّلُماتِ الثَّلاثِ: (لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).(1)

وعنه (صلى الله عليه وآله): اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ في سِتِّ آيات مِن آخِرِ سورَةِ الحَشرِ.(2)

وعن البراء بن عازب: قُلتُ لِعَلِيٍّ (عليه السلام): يا أَميرَ المُؤمِنينَ، أسأَلُكَ بِاللهِ ورَسولِهِ إِلاّ خَصَصتَني بِأَعظَمِ ما خَصَّكَ بِهِ رَسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، واختَصَّهُ بِهِ جَبرَئيلُ، وأَرسَلَهُ بِهِ الرَّحمنُ، فَضَحِكَ، ثُمَّ قالَ: إِذا أَرَدتَ أَن تَدعُوَ اللهَ بِاسمِهِ الأَعظَمِ، فَاقرَأَ مِن أَوَّلِ سورَةِ الحَديدِ إِلى آخِرِ سِتِّ آيات مِنها إِلى (... عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، وآخِرَ سورَةِ الحَشرِ يَعني أَربَعَ آيات، ثُمَّ ارفَع يَدَيكَ فَقُل: يا مَن هُوَ هكَذا، أَسأَلُكَ بِحَقِّ هذِهِ الأَسماءِ أَن تُصَلِّيَ عَلى مُحَمِّد وآلِ مُحَمَّد، وأَن تَفعَلَ بي كَذا وكَذا مِمّا تُريدُ.

فَوَاللهِ الَّذي لا إِلهَ غَيرُهُ لِتَنقَلِبَنَّ بِحاجَتِكَ إِن شاءَ اللهُ.(3)

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ مُقَطَّعٌ في أُمِّ الكِتابِ.(4)

ص: 299


1- المستدرك على الصحيحين: 1 / 685 / 1865، تفسير الطبري: 10 / الجزء 17 / 82 نحوه وكلاهما عن سعد بن مالك، كنز العمّال: 1 / 452 / 1944 وراجع: بحار الأنوار: 93 / 224.
2- مجمع البيان: 9 / 401 عن ابن عبّاس، بحار الأنوار: 93 / 224 ؛ الفردوس: 1 / 416 / 1686 عن ابن عبّاس، كنز العمّال: 1 / 452 / 1945.
3- كنز العمّال: 2 / 248 / 3941 نقلا عن أبي داوود، الدرّ المنثور: 8 / 49 نقلا عن ابن النجّار في تاريخ بغداد وراجع: بحار الأنوار: 93 / 230 / 2.
4- ثواب الأعمال: 130 / 1، تفسير العيّاشي: 1 / 19 / 1، مهج الدعوات: 379 كلّها عن عليّ بن أبي حمزة البطائني، بحار الأنوار: 92 / 234 / 16.

وعنه (عليه السلام): (ألم) هُوَ حَرفٌ مِن حُروفِ اسمِ اللهِ الأَعظَمِ المُقَطَّعِ فِي القُرآنِ، الَّذي يُؤَلَّفُهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وَالإِمامُ، فَإِذا دَعا بِهِ أُجيبَ.(1)

الطائفة الثالثة: نُصوصٌ مِنَ الأَدعِيَةِ

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - لَمّا سَمِعَ رَجُلا يَقول: اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الحَمدَ لا إِلهَ إِلاّ أَنتَ وَحدَكَ لا شَريكَ لَكَ، المَنّانُ، بَديعُ السَّماواتِ وَالأَرضِ، ذُو الجَلالِ وَالإِكرامِ -: لَقَد سَأَلَ اللهَ بِاسمِهِ الأَعظَمِ، الَّذي إِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى، وإِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ.(2)

وعن بريدة: سَمِعَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) رَجُلا يَقولُ: اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنتَ اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذي لَم يَلِد ولَم يولَد ولَم يَكُن لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.

فَقالَ رَسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): لَقَد سَأَلَ اللهَ بِاسمِهِ الأَعظَمِ، الَّذي إِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى، وإِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ.(3)

ص: 300


1- معاني الأخبار: 23 / 2، تفسير القمّي: 1 / 30 كلاهما عن أبي بصير، بحار الأنوار: 2 / 16 / 38.
2- سنن ابن ماجة: 2 / 1268 / 3858، سنن الترمذي: 5 / 550 / 3544 نحوه، مسند ابن حنبل: 4 / 241 / 12206، المصنّف لابن أبي شيبة: 7 / 57 / 2 كلّها عن أنس بن مالك وراجع كنز العمّال: 1 / 452 / 1948 ومهج الدعوات: 380 وبحار الأنوار: 95 / 163.
3- سنن ابن ماجة: 2 / 1267 / 3857، سنن أبي داوود: 2 / 79 / 1493 وفيه " بالاسم " بدل " باسمه الأعظم "، سنن الترمذي: 5 / 515 / 3475 نحوه، مسند ابن حنبل: 9 / 13 / 23026 عن عبد الله بن بريدة، صحيح ابن حبّان: 3 / 173 / 891، المستدرك على الصحيحين: 1 / 683 / 1858، كنز العمّال: 1 / 453 / 1949 ؛ بحار الأنوار: 93 / 224.

وعن أنس: أَنَّهُ كانَ مَعَ رَسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) جالِساً ورَجُلٌ يُصَلّي، ثُمَّ دَعَا: اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ بأَنَّ لَكَ الحَمدَ لا إِلهَ إِلاّ أَنتَ، المَنّانُ، بَديعُ السَّماواتِ وَالأَرضِ، يا ذَا الجَلالِ وَالإِكرامِ، يا حَيُّ يا قَيّومُ. فَقالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): لَقَد دَعا اللهَ بِاسمِهِ العَظيمِ، الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ، وإِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى.(1)وعن أنس: كُنتُ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) دَعا رَجُلٌ فَقالَ: يا بَديعَ السَّماواتِ، يا حَيُّ يا قَيّومُ، إِنّي أَسأَلُكَ. فَقالَ: أتَدرونَ بِما دَعا؟ وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ، دَعَا اللهَ بِاسمِهِ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ.(2)

وعن الإمام عليّ (عليه السلام): رَأَيتُ الخَضِرَ (عليه السلام) فِي المَنامِ قَبلَ بَدر بِلَيلَة، فَقُلتُ لَهُ: عَلِّمني شَيئاً أُنصَرُ بِهِ عَلَى الأَعداءِ. فَقالَ: قُل: (يا هُوَ، يا مَن لا هُوَ إِلاَّ هُوَ)، فَلَمّا أَصبَحتُ قَصَصتُها عَلى رَسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقالَ لي: يا عَلِيُّ عُلِّمتَ الاِسمَ الأَعظَمَ. فَكانَ عَلى لِساني يَومَ بَدر.

وإِنَّ أَميرَ المُؤمِنينَ (عليه السلام) قَرَأَ قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فَلَمّا فَرَغَ قالَ: يا هُوَ، يا مَن لا هُوَ إِلاّ هُوَ، اغفِر لي وَانصُرني عَلَى القَومِ الكافِرينَ. وكانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَقولُ ذلِكَ يَومَ صِفّينَ وهُوَ يُطارِدُ، فَقالَ لَهُ عَمّارُ بنُ ياسِر: يا أَميرَ المُؤمِنينَ، ما هذِهِ الكِناياتُ؟ قالَ: اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ وعِمادُ التَّوحيدِ للهِِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ، ثُمَّ قُرَأَ:

ص: 301


1- سنن أبي داوود: 2 / 79 / 1495، سنن النسائي: 3 / 52، صحيح ابن حبان: 3 / 175 / 893 نحوه، مسند ابن حنبل: 4 / 316 / 12611 وفيه " الحنّان " بدل " المنّان "، المستدرك على الصحيحين: 1 / 683 / 1856 وفيه " باسم الله الأعظم " بدل " باسمه العظيم "، كنز العمّال: 2 / 249 / 3942.
2- الأدب المفرد: 211 / 705.

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)، وآخِرَ الحَشرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلّى أَربَع رَكعات قَبلَ الزَّوالِ.(1)

وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): كُنتُ أَدعُو اللهَ سُبحانَهُ سَنَةً عَقيبَ كُلِّ صَلاة أَن يُعَلِّمَنِي الاِسمَ الأَعظَمَ، فَإِنّي ذاتَ يَوم قَد صَلَّيتُ الفَجرَ، إِذ غَلَبتَني عَينايَ وأَنَا قاعِدٌ، وإِذا أَنَا بِرَجُل قائِم بَينَ يَدَيَّ يَقولُ لي: سَأَلتَ اللهَ تَعالى أَن يُعَلِّمَكَ الاِسمَ الأَعظَمَ؟ قُلتُ: نَعَم. قالَ: قُل: " اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ بِاسمِكَ اللهِ، اللهِ، اللهِ، اللهِ، اللهِ، الَّذي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ العَرشِ العَظيمِ ". قالَ: فَوَاللهِ ما دَعَوت بِها لِشَيء إِلاّ رَأَيتُ نُجحَهُ.(2)

وعن الإمام الرضا (عليه السلام): مَن قالَ بَعدَ صَلاةِ الفَجرِ: (بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، لا حَولَ ولا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظيمِ) مِئَةَ مَرَّة، كانَ أَقرَبَ إِلَى اسمِ اللهِ الأَعظَمِ مِن سَوادِ العَينِ إِلى بَياضِها، وإِنَّهُ دَخَلَ فيهَا اسمُ اللهِ الأَعظَمُ.(3)

الطائفة الرابعة: كُلُّ اسم مِن أَسماءِ اللهِ

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - لَمّا سُئِلَ عَنِ اسمِ اللهِ الأَعظَمِ -: كُلُّ اسم مِن أَسماءِ الله ِ، فَفَرِّغ قَلبَكَ عَن كُلِّ ما سِواهُ، وَادعُهُ بِأَيِّ اسم شِئتَ، فَلَيسَ فِي

ص: 302


1- التوحيد: 89 / 2 عن وهب بن وهب القرشي عن الإمام الصادق عن آبائه (عليهم السلام)، بحار الأنوار: 3 / 222.
2- مكارم الأخلاق: 2 / 159 / 2392، مهج الدعوات: 382 نحوه، بحار الأنوار: 61 / 170 / 27.
3- مهج الدعوات: 379 عن سليمان بن جعفر الحميري، بحار الأنوار: 86 / 162 / 41.

الحَقيقَةِ للهِِ اسمٌ دونَ اسم، بَل هُوَ الواحِدُ القَهّارُ.(1)

هذا هو مجمل الروايات الواردة في الاسم الأعظم.

ثانياً: ذكر الأقوال في معنى الاسم الأعظم

لقد تبين من خلال عرض النصوص أنه لا يمكن أن نخرج منها برأي واضح حول حقيقة الاسم الأعظم، ولذا نجد أن هناك اختلافاً كبيراً في تبيين حقيقته، (فقد ذهب جماعة... إِلى أَنّ الأَسماء الإلهيّة كلّها عظيمة، ولا وجود لاسم أَعظم من الأَسماء الأُخرى.

وذهب بعضهم: إِلى وجود الاسم الأَعظم، لكن لا يعلمه إِلاّ الله تعالى وحدَه.

ورأَى بعض آخر: أَنّ الاسم الأَعظم خاف بين الأَسماء الحسنى.

وقال آخرون: الاسم الأَعظم، هو كلّ اسم يدعو به العبد ربّه بكلّ وجوده.

ومنهم: من ذكر أَنّ الاسم الأَعظم اسم جامع للأَسماء كلّها.

ومنهم: من يعتقد أَنّ الأَنبياء مظاهر أَمّهات أَسماء الحقّ، وهي داخلة في الاسم الأَعظم الجامع، ومظهرة الحقيقة المحمّديّة...)(2)

ص: 303


1- مصباح الشريعة: 129.
2- انظر: موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 467 و 468 نقلاً عن السيوطي في الحاوي وغيره.

والبعض ذهب (إلى أنه قانون تكويني أودعه الله تعالى في الوجود، يطّلع عليه الولي، فيستخدمه في مورده.

وذهب آخرون إلى أنه حروف لفظية...

وذهب بعضهم إلى أنه اسم من أسماء الله سبحانه، يدعو بها الولي، فيستجيب الله تعالى دعاءه، ويحقق ما يريد.(1)

وذهب آخرون إلى أنه مقام معنوي يصله الولي فتتجلى فيه القدرة الإلهية...)(2)

وقد ذهب السيد الطباطبائي في الميزان إلى أن المقصود من الاسم الأعظم ليس هو لفظاً خاصاً، حتى إذا ما تلفظ به أي أحد، فإنه يتحقق به ما يريد، كلا، وإنما المقصود هو أن الله تعالى يؤثر في هذا العالم من خلال حقائق أسمائه وصفاته جل وعلا، لا ألفاظها، (ومعنى ذلك: أَنّ الله سبحانه هو الفاعل الموجد لكلّ شيء بما له من الصفة الكريمة المناسبة له التي يحويها الاسم المناسب، لا تأثير اللفظ أَو صورة مفهومة في الذهن أَو حقيقة أُخرى غير الذات المتعالية، إِلاّ أَنّ الله سبحانه وعد إِجابة دعوة من دعاه كما في قوله: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، وهذا يتوقف على دعاء وطلب حقيقي، وأَن يكون الدعاء والطلب منه تعالى لا من غيره... فمن انقطع عن كلّ سبب واتصل بربِّه لحاجة من حوائجه، فقد اتصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته،

ص: 304


1- وهو الذي يظهر من عبارة السيد الطباطبائي كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
2- الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج6 ص 19.

فيؤثر الاسم بحقيقته ويستجاب له، وذلك حقيقة الدعاء بالاسم فعلى حسب حال الاسم الذي انقطع إِليه الداعي يكون حال التأثير خصوصاً وعموماً، ولو كان هذا الاسم هو الاسم الأَعظم، انقاد لحقيقته كلّ شيء واستجيب للداعي به دعاؤه على الإطلاق...)(1)

والذي يبدو:

أن الاسم الأعظم إنما هي مرتبة كمالية يصل إليها العبد من خلال سيره التكاملي نحو مركز استقطاب الكمال اللا متناهي، وهو الباري جل وعلا، وكلما زادت مرتبته الكمالية، زاد اطلاعه على عالم التكوين وقوانينه، إلى أن يصل إلى مرتبة يقترب فيها من عظمة الباري جل وعلا، بحيث يُصبح مؤثراً في العالم، فهي مرتبة كمالية، لا لفظاً معيناً، وما ذُكر من النصوص الروائية في ذلك تُحمل على الكناية عن الوصول إلى تلك المرتبة الكمالية، واختلاف النصوص في تعيين الاسم الأعظم إنما هو لاختلاف مراتب تلك المرتبة الكمالية، بمعنى أن تلك المرتبة الكمالية مرتبة مشككة، واختلاف النصوص تابع لاختلاف مراتبها.

وبعبارة أكثر وضوحاً: أن الاسم الأعظم هو تعبير آخر عن الولاية التكوينية للعبد، وقد تقدم(2): أن تلك الولاية تستند إلى الإذن الإلهي والعلم الخاص، وحيث إن الإذن الإلهي –وكذا العلم- له مراتب متعددة، فالولاية

ص: 305


1- تفسير الميزان للسيد الطباطبائي ج8 ص 354 و 355 حيث ذكر (قدس سره) بحثاً تفصيلياً في ذلك.
2- قبل هذا الاستطراد.

التكوينية أيضاً ذات مراتب. وهو ما يبرر اختلاف النصوص في تعيين الاسم الأعظم، والله العالم.

والذي يؤيد أن الاسم الأعظم له مراتب متعددة، هو أن الروايات أشارت إلى أن الذين كان عندهم هذا الاسم، كانوا يختلفون فيما عندهم منه، فمنهم من عنده حرف واحد، ومنهم من عدنه حرفان وثلاثة وهكذا، وأن هناك حرفاً استأثر به الباري جل وعلا.

ولعل المقصود من هذا الحرف المستأثر هي القدرة اللا متناهية والمستقلة للباري جل وعلا، فإن كل من كان عنده مراتب كمالية للتحكم في عالم الوجود، أو قل: ولاية تكوينية على عالم التكوين، فإنه إنما يستمد قوته من القدرة الإلهية اللا متناهية، أما هو جل وعلا، فلا يستمد قوته من غيره جل وعلا، وهذا هو معنى المستأثر أو تأويله.

والحاصل: أن (المستفاد من مجموع الأدلة هو أن امتلاك الاسم الأعظم بأي معنى كان، يتوقف على مقام معنوي رفيع يصل إليه أولياء الله تعالى، فتخضع لهم الأشياء برمتها بإذن الله تعالى، ولكن إظهار تصرفهم في الأشياء يختلف من حال لآخر، فتارة يدعون، وتارة يذكرون الاسم، وتارة يتصرفون ويأمرون وينهون بحسب ما لهم من صلاحيات ربانية في الوجود.)(1)

ص: 306


1- الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية للشيخ فاضل الصفار ج6 ص 20.
ثالثاً: النصوص الدالة على من كان عنده الاسم الأعظم
اشارة

صرحت العديد من النصوص بأن هذا الاسم –بأي معنى فُرض- كان عند بعض الأولياء، وبمراتب مختلفة، وخصوصاً أهل البيت (عليهم السلام)، ومن تلك النصوص هي التالي:

النص الأول

عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ اسْمَ الله الأَعْظَمَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وسَبْعِينَ حَرْفاً، وإِنَّمَا كَانَ عِنْدَ آصَفَ مِنْهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ، فَتَكَلَّمَ بِه فَخُسِفَ بِالأَرْضِ مَا بَيْنَه وبَيْنَ سَرِيرِ بِلْقِيسَ، حَتَّى تَنَاوَلَ السَّرِيرَ بِيَدِه، ثُمَّ عَادَتِ الأَرْضُ كَمَا كَانَتْ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، ونَحْنُ عِنْدَنَا مِنَ الِاسْمِ الأَعْظَمِ اثْنَانِ وسَبْعُونَ حَرْفاً، وحَرْفٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الله تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِه فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَه، ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.(1)

النص الثاني

عن أبي عبد الله (عليه السلام): إِنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ (عليهما السلام) أُعْطِيَ حَرْفَيْنِ كَانَ يَعْمَلُ بِهِمَا، وأُعْطِيَ مُوسَى (عليه السلام) أَرْبَعَةَ أَحْرُفٍ، وأُعْطِيَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) ثَمَانِيَةَ أَحْرُفٍ، وأُعْطِيَ نُوحٌ (عليه السلام)، خَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفاً وأُعْطِيَ آدَمُ (عليه السلام)، خَمْسَةً وعِشْرِينَ حَرْفاً، وإِنَّ اللهَ تَعَالَى جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّه لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، وإِنَّ اسْمَ الله الأَعْظَمَ ثَلَاثَةٌ وسَبْعُونَ حَرْفاً، أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) اثْنَيْنِ وسَبْعِينَ حَرْفاً، وحُجِبَ عَنْه حَرْفٌ وَاحِدٌ. (2)

ص: 307


1- انظر: الكافي للكيني ج1 ص 230 بَابُ مَا أُعْطِيَ الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) مِنِ اسْمِ الله الأَعْظَمِ ح1.
2- انظر: الكافي للكيني ج1 ص 230 بَابُ مَا أُعْطِيَ الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) مِنِ اسْمِ الله الأَعْظَمِ ح2.
النص الثالث

عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّوْفَلِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ صَاحِبِ الْعَسْكَرِ (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: اسْمُ الله الأَعْظَمُ ثَلَاثَةٌ وسَبْعُونَ حَرْفاً، كَانَ عِنْدَ آصَفَ حَرْفٌ، فَتَكَلَّمَ بِه فَانْخَرَقَتْ لَه الأَرْضُ فِيمَا بَيْنَه وبَيْنَ سَبَأٍ، فَتَنَاوَلَ عَرْشَ بِلْقِيسَ حَتَّى صَيَّرَه إِلَى سُلَيْمَانَ، ثُمَّ انْبَسَطَتِ الأَرْضُ فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، وعِنْدَنَا مِنْه اثْنَانِ وسَبْعُونَ حَرْفاً، وحَرْفٌ عِنْدَ الله مُسْتَأْثِرٌ بِه فِي عِلْمِ الْغَيْبِ. (1)

النص الرابع

عن الإمام الصادق (عليه السلام): كانَ سُلَيمانُ (عليه السلام) عِندَهُ اسمُ اللهِ الأَكبَرُ، الَّذي إِذا سَأَلَهُ أَعطى، وإِذا دَعا بِهِ أَجابَ، ولَو كانَ اليَومَ لاحتاجَ إِلَينا.(2)

النص الخامس

عن الإمام الصادق(عليه السلام): سَلمانُ عُلِّمَ الاِسمَ الأَعظَمَ.(3)

النص السادس

عن عبد الله بن بكير عن أَبي عبد الله (عليه السلام): كُنتُ عِندَهُ فَذَكَروا سُليمانَ وما أُعطِيَ مِنَ العِلمِ وما أُوتِيَ مِنَ المُلكِ، فَقالَ لي: وما أُعطِيُ سُليمانَ بنِ داوودَ؟

ص: 308


1- انظر: الكافي للكيني ج1 ص 230 بَابُ مَا أُعْطِيَ الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) مِنِ اسْمِ الله الأَعْظَمِ ح3.
2- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 463 و 464 نقلاً عن بصائر الدرجات: 211 / 2، المناقب لابن شهر آشوب: 4 / 249 وفيه " إذا سأل به " بدل " سأله " وكلاهما عن أبي بصير، بحار الأنوار: 27 / 27 / 7.
3- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 464 نقلاً عن رجال الكشّي: 1 / 56 / 29، الاختصاص: 11 كلاهما عن أبي بصير، بحار الأنوار: 22 / 346 / 59.

إِنَّما كانَ عِندَهُ حَرفٌ واحِدٌ مِنَ الاِسمِ الأَعظَمِ، وصاحِبُكُم الَّذي قالَ اللهُ: (قُلْ كَفَى باللهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ و عِلْمُ الْكِتَبِ)، وكانَ واللهِ عِندَ عَلِيٍّ (عليه السلام) عِلمُ الكِتابِ، فَقُلتُ: صَدَقتَ وَالله، جُعِلتُ فِداكَ.(1)

النص السابع

عن أَبي عبد الله (عليه السلام): إِنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالى جَعَلَ اسمَهُ الأَعظَمَ عَلى ثَلاثَة وسَبعينَ حَرفاً، فَأَعطى آدَمَ مِنها خَمسَةً وعِشرينَ حَرفاً، وأَعطى نوحاً مِنها خَمسَةَ عَشَرَ حَرفاً، وأَعطى مِنها إِبراهيمَ ثَمانِيَةَ أَحرُف، وأَعطى موسى مِنها أَربَعَةَ أَحرُف، وأَعطى عيسى مِنها حَرفَينِ، وكانَ يُحيي بِهِمَا المَوتى، ويُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ، وأَعطى مُحَمَّداً اثنَينِ وسَبعينَ حَرفاً، وَاحتَجَبَ بِحَرف لِئَلاّ يُعلَمَ ما في نَفسِهِ، ويَعلَمُ ما في أَنفُسِ العِبادِ.(2)

تنبيه: في خطورة التسافل بعد التكامل

روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: أُعطِيَ بَلعَمُ بنُ باعورا الاِسمَ الأَعظَمَ، فَكان يَدعو بِهِ فَيُستَجابُ لَهُ.(3)

إن بلعم كان قد وصل إلى مرتبة كمالية عالية بحيث صار عنده الاسم

ص: 309


1- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 464 نقلاً عن بصائر الدرجات: 212 / 1، بحار الأنوار: 26 / 170 / 36.
2- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 464 و 465 نقلاً عن مختصر بصائر الدرجات: 125، بصائر الدرجات: 208 / 3، بحار الأنوار: 4 / 211 / 5.
3- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 465 نقلاً عن تفسير القمّي: 1 / 248 عن الحسن " الحسين " بن خالد، بحار الأنوار: 13 / 377 / 1.

الأعظم وأنه يُستجاب له به، ولكن بلعم هذا هو نفسه الذي قال عنه الباري جل وعلا: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(1)

وقد روي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنَّه «أُعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم، فكان يدعو به فيُستجاب له، فمال إلىٰ فرعون، فلمَّا مرَّ فرعون في طلب موسىٰ وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادعو الله علىٰ موسىٰ وأصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمرَّ في طلب موسىٰ وأصحابه، فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها، فأنطقها الله (عز وجل)، فقالت: ويلك علىٰ ما تضربني؟ أتريد أجيء معك لتدعو علىٰ موسىٰ نبيِّ الله وقوم مؤمنين؟ فلم يزل يضربها حتَّىٰ قتلها، وانسلخ الاسم الأعظم من لسانه.(2)

وقيل: إنَّ بلعم طلب منه قومه أنْ يدعو علىٰ موسىٰ ومن معه، فأبىٰ وقال: كيف أدعو علىٰ من معه الملائكة؟! فألحُّوا عليه حتَّىٰ فعل، فخرج لسانه فوقع علىٰ صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب.(3)

وهذه الحقيقة تعني: أن الإنسان مهما حصل على كمالات عالية، ولكنها تبقى مهددة بالزوال، وهو مهدد بالتسافل، وإحباط الأعمال مفهوم إسلامي

ص: 310


1- الأعراف 175 و 176.
2- تفسير القمّي (ج 1/ ص 248).
3- تفسير جوامع الجامع للشيخ الطبرسي (ج 1/ ص 722).

دلت عليه العديد من النصوص، وهو واقع وجداني، فكم رأينا أناساً كان يؤمل منهم الخير، ولكنهم انحرفوا عن طريق الحق، ومالوا إلى سواه.

علينا إذن أن نتمسك بحبل الدعاء لله تبارك وتعالى، وأن لا نغتر بما نحن عليه من الخير، وبل نستزيد الباري جل وعلا منه، ونتوسل إليه أن لا ننحرف عن الحق، ونستغيث به تعالى من سوء العاقبة.

ولنتأمل في الروايات التالية التي تفتح لنا أفق الحفاظ على الدين، والحفاظ على مكتسباتنا الكمالية، فقد روي أنَّه كتب الإمام الصادق (عليه السلام) إلىٰ بعض الناس: «إنْ أردت أنْ يُختَم بخير عملُك حتَّىٰ تُقبَض وأنت في أفضل الأعمال: فعظِّم لله حقَّه أنْ لا تبذل نعماءه في معاصيه، وأنْ تغتر بحلمه عنك، وأكرم كلَّ من وجدته يُذكَر منّا أو ينتحل مودَّتنا، ثمّ ليس عليك صادقاً كان أو كاذباً، إنَّما لك نيَّتك وعليه كذبه»(1).

وروي عن عليِّ بن يقطين أنَّه قال: استأذنت مولاي أبا إبراهيم موسىٰ بن جعفر (عليهما السلام) في خدمة القوم فيما لا يثلم ديني، فقال: «لا، ولا نقطة قلم، إلَّا بإعزاز مؤمن، وفكِّه من أسره»، ثمّ قال (عليه السلام): «إنَّ خواتيم أعمالكم قضاءُ حوائج إخوانك، والإحسانُ إليهم ما قدرتم، وإلَّا، لم يُقبَل منكم عمل، حنُّوا علىٰ إخوانكم وارحموهم تلحقوا بنا»(2).

وروي أنَّه نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلىٰ رجل أثَّر الخوف عليه، فقال: «ما

ص: 311


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 7/ح 8).
2- قضاء حقوق المؤمنين لابن طاهر الصوري (ص 34/ ح 48).

بالك؟»، قال: إنّي أخاف الله، فقال: «يا عبد الله، خف ذنوبك، وخف عدل الله عليك في مظالم عباده، وأطعه فيما كلَّفك، ولا تعصه فيما يُصلِحك، ثمّ لا تخف الله بعد ذلك، فإنَّه لا يظلم أحداً، ولا يُعذِّبه فوق استحقاقه أبداً، إلَّا أنْ تخاف سوء العاقبة بأنْ تُغيِّر أو تُبدِّل، فإنْ أردت أنْ يُؤمِّنك اللهُ سوءَ العاقبة، فاعلم أنَّ ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إيّاك وحلمه وعفوه عنك»(1).

النقطة الخامسة: أدلة ثبوت الولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

تبين من خلال كلمات بعض الأعلام: أن ثبوت هذه الولاية لأهل البيت (عليهم السلام) أمر متسالم ولا نقاش فيه، ويمكن بيان ذلك من خلال الوجوه التالية:

الوجه الأول: أن عندهم (عليهم السلام) الاسم الأعظم

النصوص التي صرّحت بأن لديهم (عليهم السلام) الاسم الأعظم، فإنها تثبت الولاية التكوينية لهم (عليهم السلام). وقد تقدمت جملة هذه النصوص.

الوجه الثاني: أنهم (عليهم السلام) أفضل من الأنبياء الذين ثبتت لهم الولاية التكوينية

إنه ثبتت الولاية التكوينية للعديد من الأنبياء كما صرح القرآن الكريم بذلك، كما في النبي إبراهيم (عليه السلام) وما جرى معه في قضية الطيور، قال تعالى:

ص: 312


1- التفسير المنسوب إلىٰ الإمام العسكري (عليه السلام) (ص 265).

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(1)

وقال تعالى في شأن النبي عيسى (عليه السلام): (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(2)

وغيرها من الآيات الكثيرة، كتسخير الرياح والشياطين والجان وغيرهم للنبي سليمان (عليه السلام)، وكما جاء آصف بن برخيا بعرش بلقيس من سبأ إلى فلسطين بأسرع من طرفة عين.

وبضم ما تقدم من أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) عموماً على جميع الأنبياء، يثبت أن هذا المقام الكمالي الوجودي قد ثبت لأهل البيت (عليهم السلام)، وإلا للزم كون الأنبياء أفضل منهم وأكمل، وهو ما تم إثبات عكسه فيما تقدم.

الوجه الثالث: أنهم (عليهم السلام) ورثة الأنبياء

ما ورد من أنهم (عليهم السلام) ورثوا كل كمالات الأنبياء السابقين، وهي بإطلاقها تشمل حتى علومهم اللدنية وقدراتهم على إقامة المعجزات، مما يعني وراثتهم للولاية التكوينية، دل على هذا المعنى العديد من الروايات،

ص: 313


1- البقرة 260.
2- آل عمران 49.

وزيارة وارث تصرح بتلك الوراثة.

ومن تلك النصوص ما روي عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُه (عليه السلام) يَقُولُ: أتَدْرِي مَا كَانَ قَمِيصُ يُوسُفَ (عليه السلام)؟ قَال: قُلْتُ: لَا.

قَالَ (عليه السلام): إِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) لَمَّا أُوقِدَتْ لَه النَّارُ أَتَاه جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) بِثَوْبٍ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ فَأَلْبَسَه إِيَّاه فَلَمْ يَضُرَّه مَعَه حَرٌّ ولَا بَرْدٌ، فَلَمَّا حَضَرَ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) الْمَوْتُ جَعَلَه فِي تَمِيمَةٍ وعَلَّقَه عَلَى إِسْحَاقَ (عليه السلام)، وعَلَّقَه إِسْحَاقُ (عليه السلام) يَعْقُوبَ (عليه السلام)، فَلَمَّا وُلِدَ يُوسُفُ (عليه السلام) عَلَّقَه عَلَيْه، فَكَانَ فِي عَضُدِه حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِه مَا كَانَ، فَلَمَّا أَخْرَجَه يُوسُفُ بِمِصْرَ مِنَ التَّمِيمَةِ وَجَدَ يَعْقُوبُ (عليه السلام) رِيحَه وهُوَ قَوْلُه: (إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) فَهُوَ ذَلِكَ الْقَمِيصُ الَّذِي أَنْزَلَه الله مِنَ الْجَنَّةِ.

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَإِلَى مَنْ صَارَ ذَلِكَ الْقَمِيصُ؟

قَالَ (عليه السلام):

إِلَى أَهْلِه، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): كُلُّ نَبِيٍّ وَرِثَ عِلْماً أَوْ غَيْرَه فَقَدِ انْتَهَى إِلَى آلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله).(1)

وقد خصص الشيخ الكليني في الكافي باباً أسماه (بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ وَرِثُوا عِلْمَ النَّبِيِّ وجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ والأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وذكر فيه سبعة أحاديث، ومنها:

ما عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله):

ص: 314


1- الكافي للكليني ج1 ص 232 بَابُ مَا عِنْدَ الأَئِمَّةِ مِنْ آيَاتِ الأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام) ح5.

إِنَّ أَوَّلَ وَصِيٍّ كَانَ عَلَى وَجْه الأَرْضِ هِبَةُ الله بْنُ آدَمَ، ومَا مِنْ نَبِيٍّ مَضَى إِلَّا ولَه وَصِيٌّ، وكَانَ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ مِائَةَ أَلْفِ نَبِيٍّ وعِشْرِينَ أَلْفَ نَبِيٍّ، مِنْهُمْ خَمْسَةٌ أُولُو الْعَزْمِ: نُوحٌ وإِبْرَاهِيمُ ومُوسَى وعِيسَى ومُحَمَّدٌ (عليهم السلام)، وإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ هِبَةَ الله لِمُحَمَّدٍ، ووَرِثَ عِلْمَ الأَوْصِيَاءِ وعِلْمَ مَنْ كَانَ قَبْلَه، أَمَا إِنَّ مُحَمَّداً وَرِثَ عِلْمَ مَنْ كَانَ قَبْلَه مِنَ الأَنْبِيَاءِ والْمُرْسَلِينَ، عَلَى قَائِمَةِ الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ: حَمْزَةُ أَسَدُ الله وأَسَدُ رَسُولِه، وسَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وفِي ذُؤَابَةِ الْعَرْشِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذِه حُجَّتُنَا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ حَقَّنَا وجَحَدَ مِيرَاثَنَا، ومَا مَنَعَنَا مِنَ الْكَلَامِ وأَمَامَنَا الْيَقِينُ، فَأَيُّ حُجَّةٍ تَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا.(1)

الوجه الرابع: النصوص المستفيضة بل المتواترة
اشارة

النصوص الكثيرة والمتظافرة والتي تصل إلى حد التواتر، والتي تثبت تصرف أهل البيت (عليهم السلام) في الأمور التكوينية، وهذه أكثر من أن تُذكر في هذه العجالة، ومن شاء الاستزادة فليراجع كتاب: مدينة معاجز الأئمة الاثني عشر ودلائل الحجج على البشر تأليف العلم العلامة السيد هاشم البحراني (قدس سره)، فقد طُبع في ثمانية أجزاء حوت مئات النصوص الدالة على هذا المعنى.

ونحن نكتفي هنا بذكر النصوص التالية:

ص: 315


1- الكافي للكيني ج1 ص 224 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ وَرِثُوا عِلْمَ النَّبِيِّ وجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ والأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ح2.
النص الأول

روي أنه كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أصحابه في مسجد الكوفة، فقال له رجل: بأبي وأمي إني لأتعجب من هذه الدنيا التي في أيدي هؤلاء القوم وليست عندكم؟! فقال (عليه السلام): يا فلان، أترى أنّا نريد الدنيا فلا نعطاها، ثم قبض قبضة من الحصى، فإذا هي جواهر! فقال (عليه السلام): ما هذا؟ فقلت: هذا من أجود الجواهر! فقال (عليه السلام): لو أردناه لكان، ولكنْ لا نريده، ثم رمى بالحصى فعادت كما كانت.(1)

النص الثاني

روي عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند الصادق (عليه السلام) مع جماعة فقلت: قول الله تعالى لإبراهيم (خذ أربعة من الطير فصرهن) أو كانت أربعة [ من ] أجناس مختلفة؟ أو من جنس [ واحد ]؟ فقال: أتحبون أن أريكم مثله؟ قلنا: بلى. قال: يا طاووس. فإذا طاووس طار إلى حضرته، ثم قال: يا غراب. فإذا غراب بين يديه، ثم قال: يا بازي، فإذا بازي بين يديه، ثم قال: يا حمامة. فإذا حمامة بين يديه، ثم أمر بذبحها كلها وتقطيعها ونتف ريشها، وأن يخلط ذلك كله بعضه ببعض. ثم أخذ برأس الطاووس، فقال: يا طاووس. فرأينا لحمه وعظامه وريشه، يتميز من غيره حتى التزق ذلك كله برأسه، وقام الطاووس بين يديه [ حياً ] ثم صاح بالغراب كذلك، وبالبازي والحمامة مثل ذلك، فقامت كلها أحياء بين يديه.(2)

ص: 316


1- بصائر الدرجات للصفار ص 395 ب2 ح2.
2- الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص 297.
النص الثالث

عَنْ مُثَنًّى الْحَنَّاطِ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَقُلْتُ لَه: أَنْتُمْ وَرَثَةُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)؟ قَالَ (عليه السلام): نَعَمْ. قُلْتُ رَسُولُ ا لله (صلى الله عليه وآله) وَارِثُ الأَنْبِيَاءِ عَلِمَ كُلَّ مَا عَلِمُوا؟ قَالَ (عليه السلام) لِي: نَعَمْ. قُلْتُ: فَأَنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تُحْيُوا الْمَوْتَى وتُبْرِؤُوا الأَكْمَه والأَبْرَصَ؟ قَالَ (عليه السلام): نَعَمْ بِإِذْنِ الله.

ثُمَّ قَالَ (عليه السلام) لِيَ: ادْنُ مِنِّي يَا أَبَا مُحَمَّدٍ. فَدَنَوْتُ مِنْه، فَمَسَحَ عَلَى وَجْهِي، وعَلَى عَيْنَيَّ، فَأَبْصَرْتُ الشَّمْسَ والسَّمَاءَ والأَرْضَ والْبُيُوتَ وكُلَّ شَيْءٍ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام) لِي: أتُحِبُّ أَنْ تَكُونَ هَكَذَا ولَكَ مَا لِلنَّاسِ وعَلَيْكَ مَا عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ تَعُودَ كَمَا كُنْتَ ولَكَ الْجَنَّةُ خَالِصاً؟ قُلْتُ: أَعُودُ كَمَا كُنْتُ. فَمَسَحَ عَلَى عَيْنَيَّ، فَعُدْتُ كَمَا كُنْتُ.

قَالَ (مُثَنًّى الْحَنَّاطِ): فَحَدَّثْتُ ابْنَ أَبِي عُمَيْرٍ بِهَذَا، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ كَمَا أَنَّ النَّهَارَ حَقٌّ.(1)

النص الرابع

عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: دخلت عليه فشكوت إليه الحاجة. قال: فقال (عليه السلام): يا جابر، ما عندنا درهم. فلم ألبث أن دخل عليه الكميت فقال له: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي حتى أنشدك قصيدة. قال: فقال (عليه السلام): أنشد. فأنشده قصيدة، فقال (عليه السلام): يا غلام، أخرج من ذلك البيت

ص: 317


1- الكافي للكليني ج1 ص 470 بَابُ مَوْلِدِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (غليهما السلام) ح3.

بَدْرَة(1) [أي عشرة آلاف درهم] فادفعها إلى الكميت. قال: فقال له: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي أنشدك قصيدة أخرى. قال: (عليه السلام): أنشد. فأنشده أخرى. قال (عليه السلام): يا غلام، أخرج من ذلك البيت بَدْرَة فادفعها إلى الكميت، قال: فأخرج بَدْرَة فدفعها إليه. قال: فقال له: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي أنشدك ثالثة. قال (عليه السلام) له: أنشد. فقال (عليه السلام): يا غلام أخرج من ذلك البيت بَدْرَة فادفعها إليه. قال: فأخرج بَدْرَة فدفعها إليه. فقال الكميت: جعلت فداك، والله ما أحبكم لغرض الدنيا وما أردت بذلك إلا صلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أوجب الله تعالى عليّ من الحق. قال: فدعا له أبو جعفر (عليه السلام) ثم قال: يا غلام ردها مكانها.

قال[أي جابر]: فوجدت في نفسي وقلت: قال: ليس عندي درهم، وأمر للكميت بثلاثين ألف درهم! قال: فقام الكميت وخرج، قلت له: جعلت فداك، قلت: ليس عندي دراهم، وأمرت للكميت بثلاثين ألف درهم؟!

فقال (عليه السلام) لي: يا جابر، قم وادخل البيت. قال: فقمت ودخلت البيت فلم أجد منه شيئاً، فخرجت إليه.

فقال (عليه السلام) لي: يا جابر، ما سترْنا عنكم أكثر مما أظهرْنا لكم، فقام فأخذ بيدي وأدخلني البيت ثم قال وضرب برجله الأرض، فإذا شبيه بعنق البعير قد خرجت من ذهب.

ص: 318


1- البدرة: كيس فيه مقدار من المال يتعامل به، ويقدم في العطايا. وقال في الجوهري في الصحاح (ج2 ص 587) والبدرة: عشرة آلاف درهم..

ثم قال لي: يا جابر، انظر إلى هذا ولا تخبر به أحداً إلا من تثق به من إخوانك، إن الله أقدرنا على ما نريد، ولو شئنا أن نسوق الأرض بأزمتها لسقناها.(1)

الوجه الخامس: قاعدة اللطف

بتقريب: أن إقامة الإمام للمعجزة يساعد في إثبات الإمامة، خصوصاً في فترات الشك في ثبوت الإمامة، فيكون ثبوتها لهم من اللطف الإلهي المقرب، إن لم نقل من المحصل في بعض الأحيان.

ومن ذلك ما روي من وقوع الحيرة في بعض أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) في الإمام بعده، وإخبار الإمام الكاظم (عليه السلام) لهم بأنه هو حجة الله تعالى بعد أبيه (عليه السلام)، وأن المصير إليه (لَا إِلَى الْمُرْجِئَةِ ولَا إِلَى الْقَدَرِيَّةِ ولَا إِلَى الزَّيْدِيَّةِ ولَا إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ ولَا إِلَى الْخَوَارِجِ)، فقد روي عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ كُنَّا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أَنَا وصَاحِبُ الطَّاقِ والنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى عَبْدِ الله بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّه صَاحِبُ الأَمْرِ بَعْدَ أَبِيه، فَدَخَلْنَا عَلَيْه أَنَا وصَاحِبُ الطَّاقِ والنَّاسُ عِنْدَه، وذَلِكَ أَنَّهُمْ رَوَوْا عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)أَنَّه قَالَ: إِنَّ الأَمْرَ فِي الْكَبِيرِ مَا لَمْ تَكُنْ بِه عَاهَةٌ. فَدَخَلْنَا عَلَيْه نَسْأَلُه عَمَّا كُنَّا نَسْأَلُ عَنْه أَبَاه، فَسَأَلْنَاه عَنِ الزَّكَاةِ فِي كَمْ تَجِبُ؟ فَقَالَ (عليه السلام) فِي مِائَتَيْنِ خَمْسَةٌ. فَقُلْنَا: فَفِي مِائَةٍ؟ فَقَالَ: دِرْهَمَانِ ونِصْفٌ. فَقُلْنَا: والله مَا تَقُولُ الْمُرْجِئَةُ هَذَا. قَالَ فَرَفَعَ يَدَه إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: والله مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ الْمُرْجِئَةُ.

ص: 319


1- بصائر الدرجات للصفار ص 396 ب2 ح5. .

قَالَ: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِه ضُلَّالاً لَا نَدْرِي إِلَى أَيْنَ نَتَوَجَّه، أَنَا وأَبُو جَعْفَرٍ الأَحْوَلُ، فَقَعَدْنَا فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ بَاكِينَ حَيَارَى لَا نَدْرِي إِلَى أَيْنَ نَتَوَجَّه ولَا مَنْ نَقْصِدُ، ونَقُولُ: إِلَى الْمُرْجِئَةِ إِلَى الْقَدَرِيَّةِ إِلَى الزَّيْدِيَّةِ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى الْخَوَارِجِ!

فَنَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ رَأَيْتُ رَجُلاً شَيْخاً لَا أَعْرِفُه يُومِئُ إِلَيَّ بِيَدِه، فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ عَيْناً مِنْ عُيُونِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وذَلِكَ أَنَّه كَانَ لَه بِالْمَدِينَةِ جَوَاسِيسُ يَنْظُرُونَ إِلَى مَنِ اتَّفَقَتْ شِيعَةُ جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَلَيْه فَيَضْرِبُونَ عُنُقَه، فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ. فَقُلْتُ لِلأَحْوَلِ: تَنَحَّ فَإِنِّي خَائِفٌ عَلَى نَفْسِي وعَلَيْكَ، وإِنَّمَا يُرِيدُنِي لَا يُرِيدُكَ، فَتَنَحَّ عَنِّي لَا تَهْلِكْ وتُعِينَ عَلَى نَفْسِكَ.

فَتَنَحَّى غَيْرَ بَعِيدٍ وتَبِعْتُ الشَّيْخَ، وذَلِكَ أَنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْه، فَمَا زِلْتُ أَتْبَعُه وقَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْمَوْتِ حَتَّى وَرَدَ بِي عَلَى بَابِ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) ثُمَّ خَلَّانِي ومَضَى، فَإِذَا خَادِمٌ بِالْبَابِ فَقَالَ لِيَ: ادْخُلْ رَحِمَكَ الله، فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) فَقَالَ لِيَ ابْتِدَاءً مِنْه: لَا إِلَى الْمُرْجِئَةِ، ولَا إِلَى الْقَدَرِيَّةِ، ولَا إِلَى الزَّيْدِيَّةِ، ولَا إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ، ولَا إِلَى الْخَوَارِجِ، إِلَيَّ إِلَيَّ.

فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَضَى أَبُوكَ؟ قَالَ (عليه السلام): نَعَمْ. قُلْتُ: مَضَى مَوْتاً؟ قَالَ (عليه السلام): نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَنْ لَنَا مِنْ بَعْدِه؟ فَقَالَ (عليه السلام): إِنْ شَاءَ الله أَنْ يَهْدِيَكَ هَدَاكَ. قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ عَبْدَ الله يَزْعُمُ أَنَّه مِنْ بَعْدِ أَبِيه. قَالَ (عليه السلام): يُرِيدُ عَبْدُ الله أَنْ لَا يُعْبَدَ الله! قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَمَنْ لَنَا مِنْ بَعْدِه؟ قَالَ (عليه السلام): إِنْ شَاءَ الله أَنْ يَهْدِيَكَ هَدَاكَ. قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَأَنْتَ هُوَ؟

ص: 320

قَالَ (عليه السلام): لَا، مَا أَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: فِي نَفْسِي: لَمْ أُصِبْ طَرِيقَ الْمَسْأَلَةِ. ثُمَّ قُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، عَلَيْكَ إِمَامٌ؟ قَالَ (عليه السلام): لَا، فَدَاخَلَنِي شَيْءٌ لَا يَعْلَمُ إِلَّا الله عَزَّ وجَلَّ إِعْظَاماً لَه وهَيْبَةً، أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحُلُّ بِي مِنْ أَبِيه (عليه السلام) إِذَا دَخَلْتُ عَلَيْه. ثُمَّ قُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَسْأَلُكَ عَمَّا كُنْتُ أَسْأَلُ أَبَاكَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): سَلْ تُخْبَرْ ولَا تُذِعْ، فَإِنْ أَذَعْتَ فَهُوَ الذَّبْحُ.

فَسَأَلْتُه فَإِذَا هُوَ بَحْرٌ لَا يُنْزَفُ. قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، شِيعَتُكَ وشِيعَةُ أَبِيكَ ضُلَّال، فَأُلْقِي إِلَيْهِمْ وأَدْعُوهُمْ إِلَيْكَ وقَدْ أَخَذْتَ عَلَيَّ الْكِتْمَانَ؟ قَالَ (عليه السلام): مَنْ آنَسْتَ مِنْه رُشْداً فَأَلْقِ إِلَيْه وخُذْ عَلَيْه الْكِتْمَانَ، فَإِنْ أَذَاعُوا فَهُوَ الذَّبْحُ -وأَشَارَ بِيَدِه إِلَى حَلْقِه-.

قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِه فَلَقِيتُ أَبَا جَعْفَرٍ الأَحْوَلَ فَقَالَ لِي: مَا وَرَاءَكَ؟ قُلْتُ: الْهُدَى، فَحَدَّثْتُه بِالْقِصَّةِ، قَال: ثُمَّ لَقِينَا الْفُضَيْلَ وأَبَا بَصِيرٍ فَدَخَلَا عَلَيْه وسَمِعَا كَلَامَه وسَائَلَاه وقَطَعَا عَلَيْه بِالإِمَامَةِ، ثُمَّ لَقِينَا النَّاسَ أَفْوَاجاً، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْه قَطَعَ...(1)

تنبيه: نحوا الإعجاز

بمتابعة آيات القرآن الكريم التي ذكرت معجزات الأنبياء، نجد أنها على نحوين:

ص: 321


1- الكافي للكليني ج1 ص352 بَابُ مَا يُفْصَلُ بِه بَيْنَ دَعْوَى الْمُحِقِّ والْمُبْطِلِ فِي أَمْرِ الإِمَامَةِ ح7، وتمام الحديث: إِلَّا طَائِفَةَ عَمَّارٍ وأَصْحَابَه، وبَقِيَ عَبْدُ الله لَا يَدْخُلُ إِلَيْه إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: مَا حَالَ النَّاسَ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّ هِشَاماً صَدَّ عَنْكَ النَّاسَ، قَالَ هِشَامٌ: فَأَقْعَدَ لِي بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ وَاحِدٍ لِيَضْرِبُونِي.

النحو الأول: ما أسند فعلها المباشر إلى النبي، لا إلى السماء، ومنه ما ذكره القرآن الكريم في معجزات النبي عيسى (عليه السلام)، قال تعالى: (وَرَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 49)(1)

وكذا قدرة آصف بن برخيا على إحضار عرش بلقيس (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.)(2)

النحو الثاني: ما أسند فعلها المباشر إلى الله تعالى مباشرة، لا إلى النبي، وهذه من الولاية التكوينية لله تعالى، ومنها التالي:

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلىٰ إِبْراهِيمَ)(3)

(وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)(4)

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ

ص: 322


1- آل عمران 49
2- النمل 40.
3- الأنبياء 69.
4- الإسراء 59.

الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ.)(1)

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسىٰ. قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرىٰ. قالَ أَلْقِها يا مُوسىٰ. فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعىٰ. قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأَولىٰ. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلىٰ جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرىٰ. لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرىٰ.)(2)

ولا تناقض بين النحوين، فكل منهما جائز عقلاً ونقلاً، فالدلالة على صدق النبي قد تكون مباشرة من السماء، وقد تكون من فعل النبي بإذنه تعالى.

بل لا تناقض في نسبة الفعل الواحد إلى الله تعالى تارة والى البشر أخرى، كما في التوفي مثلاً، فإنه نسب إلى الله تعالى، وإلى ملك الموت، وإلى الملائكة، قال تعالى: (اللهُ يَتَوَفَّىٰ الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرىٰ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.)(3)،

وقال تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.)(4)، وقال تعالى (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ

ص: 323


1- سبأ 10 – 12.
2- طه 17 -23.
3- الزمر 42.
4- السجدة 11.

عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(1)

فالنسبة إلى الله تعالى بما هو فاعل بالذات ترجع الفواعل إليه جميعاً وبإذنه، والنسبة إلى الملك والرسول بما هو فاعل وسطي وبالغير وبإذنه تعالى.

ص: 324


1- الأنعام 61.
المقالة الحادية عشرة: الولاية التشريعية لأهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

قد يتوهم البعض أن القول بالولاية التشريعية لأهل البيت (عليهم السلام) هو من الغلو، وقد تبين مراراً أن مثل هذه المناصب إنما تكون غلواً لو اُدّعي أن المعصوم حازها مستقلاً عن الله تبارك وتعالى، أما إذا كانت بإذنه جل وعلا، فلا إِشكال فيها في حد نفسها.

وحتى نستوضح الحال أكثر نذكر التالي:

مقدمة
اشارة

نبين فيها أمرين:

الأمر الأول: الفرق بين الولاية التشريعية والتكوينية

التشريعية/ القانونية: هي التي تكون بجعلٍ ممن يمنح الشرعية، كتعيين الرئيس لمدير أو وزير، فإن هذا التعيين جعل لولايته، ويسبقه جعل الرئيس والرجل الأول ممن بيده الشرعية.

دينياً، الجعل بالذات لله تعالى، وقد جعل سلسلة من الولايات له (صلى الله عليه وآله)، كما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإبلاغ هذا الجعل لعلي (عليه السلام)، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ

ص: 325

إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(1)، والنبي (صلى الله عليه وآله) بلغ بقوله: (من كنتُ مولاه فهذا عليٌ مولاه)، فهذا جعل قانوني تشريعي من السماء، لمنصب معين.

أما التكوينية، فهي عبارة عن قدرات خارقة تظهر لدى البعض، يتمكن بها من التصرف في نظام الوجود، فهناك قدرة مشتركة بين البشر، يتساوى فيها الجميع، وهناك مستويات من القدرة لا تكون متاحة للجميع، وإنما لبعض خاص من البشر، بحيث يكون لهم قدرات خارقة يتصرفون بها في عالم الوجود، فتلك القدرة الخارقة هي الولاية التكوينية.، فهي عبارة عن اقتدار خاص ونادر يتيح لصاحبه أن يدخل في منظومة السببية في عالم الوجود، والذي يقال في المعجزة.

ومن هنا، يتبين: أن الفارق الماهوي بين الولايتين دينياً هو:

أن التشريعية: هي صلاحية تُمنح من السماء لفرد، على إعمال قدرته بحدود الصلاحية الممنوحة، وإن كان لدى الفرد قدرة أوسع، لكنها مقيدة بحدود الصلاحيات.

أما التكوينية: فهي قدرة تكوينية واقعية حقيقية، يحصل عليها الفرد نتيجة عوامل معينة يتصرف بها في نظام العالم.

الأمر الثاني: ضرورة المؤهلات الخاصة للولاية التشريعية

إن من ثوابت الدين: نفي الجزاف عن فعل الله تعالى.

ص: 326


1- (67) من سورة المائدة.

والولاية –تشريعية كانت أو تكوينية- إنما هي فعل لله تعالى، فلا جزاف فيهما بكل أشكالهما ومستوياتهما، وهذا يعني: أن الواحدة منهما لا تعطى مجاناً ومن دون مؤهلات خاصة، وإلاّ فهو خلف نفي الجزاف.

فكل القدرات التكوينية والمناصب التشريعية لا تأتي جزافاً، بل إنهما يستندان إلى مؤهلات جاءت على خلفية اختبارات طويلة وصعبة ومجاهدات شاقة، حتى يصل العبد إلى مرحلة تؤهله ليكون صاحب ولاية تكوينية أو تشريعية، وهو ما أشار له القرآن الكريم بألفاظ الصبر والابتلاء والجهاد، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(1)

وقال تعالى (وَإِذِ ابْتَلىٰ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(2)

وقال تعالى (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(3)

وخلاصة تلك المؤهلات هي: العلم اللدني، والعبودية الخالصة.

فالعبودية الخالصة هي الحد الأوسط حتى لمقام الرسالة المهيمنة (الخاتم لما سبق، والفاتح لما استقبل، والمهيمن على ذلك كله)، وهي مع العلم اللدني تؤهلان العبد لشغل تلك المناصب.

ص: 327


1- العنكبوت 69.
2- البقرة 124
3- لقمان 24

والتعبير بأنه تعالى وهب الولاية لعبد، لا يعني الجزاف، وإنما هو تعبير أدبي يحكي تفضل الله تعالى على عباده الذين لا يملكون عليه أي استحقاق، فكل ما عند البشر إنما هو بتفضل من الله تعالى.

فالولاية تعتمد على مؤهلات موجودة، على أساسها تم جعل العبد في مقام تشريعي أو تكويني معين.

وبعد هذه المقدمة نذكر:

ولايات المعصوم التشريعية
اشارة

ذكر بعض العلماء(1) عشر ولايات تشريعية للمعصوم، نعرضها بشكل سريع:

الولاية الأولى: ولاية التبليغ وبيان الحكم الشرعي

إن أصل فكرة التبليغ وأنها مهمة الأنبياء هي ظاهرة قرآنية واضحة، وقد صرحت بذلك الآيات الكريمة، من قبيل قوله تعالى (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ.)(2)

وقوله تعالى: (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ)(3)

ص: 328


1- ذكرها المرحوم السيد محمد مهدي الخلخالي في كتابه (الحاكمية في الإسلام).
2- الأعراف 61 و 62.
3- الرعد 40.

وقوله تعالى: (فَهَلْ عَلَىٰ الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(1)

الولاية الثانية: ولاية تشريع الأحكام (أو ولاية التفويض)
اشارة

إن مطالعة الروايات الشريفة(2)، تكشف عن أن ظاهرة التشريع قد أتيحت للمعصومين (عليهم السلام)، ولترتيب المطلب نذكر الفرعين التاليين(3):

الفرع الأول: من تشريعات النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)

أمَّا ما يُنقَل من تشريعات النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فهذه بعضها:

1 - إنَّ الله تعالىٰ فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فأضاف النبيُّ (عليه السلام) للظهرين والعشاء ركعتين ركعتين.

ومن هنا نجد أنَّ الشكَّ في أوَّل ركعتين من كلِّ صلاة وفي صلاة المغرب مبطل لها، وأمَّا في الثالثة والرابعة من الرباعية فيمكن علاجه، وقد وضَّح هذه المسألة الإمام الباقر (عليه السلام) حين بيَّن أنَّ أوَّل ركعتين فرض من الله تعالىٰ، وهو لا يصحُّ الشكُّ فيه، وأمَّا الثالثة والرابعة فهما سُنَّة من رسول الله (عليه السلام) فيمكن علاجه.

وهكذا في السفر، تسقط الركعتان اللتان سنَّهما رسول الله (عليه السلام) ولا يسقط

ص: 329


1- النحل 35.
2- عقد الشيخ الكليني في الكافي باباً بعنوان: (بَابُ التَّفْوِيضِ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وإِلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) فِي أَمْرِ الدِّينِ) ذكر فيه عشرة أحاديث، وغيره من الأحاديث التي سنذكر بعضاً منها قريباً إن شاء الله تعالى.
3- للتفصيل أكثر، انظر: الهدى والضلال في القرآن الكريم- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- ص150 وما بعدها.

الفرض الإلهي.

عن عليِّ بن مهزيار، قال: قال بعض أصحابنا لأبي عبد الله (عليه السلام): ما بال صلاة المغرب لم يُقصِّر فيها رسول الله (عليه السلام) في السفر والحضر مع نافلتها؟

قال: «لأنَّ الصلاة كانت ركعتين ركعتين، فأضاف رسول الله (عليه السلام) إلىٰ كلِّ ركعتين ركعتين، ووضعها عن المسافر، وأقرَّ المغرب علىٰ وجهها في السفر والحضر، ولم يُقصِّر في ركعتي الفجر أن يكون تمام الصلاة سبع عشرة ركعة في السفر والحضر»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لَمَّا عُرِجَ بِرَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، نَزَلَ بِالصَّلَاةِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ والْحُسَيْنُ زَادَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) سَبْعَ رَكَعَاتٍ شُكْراً لله تعالى، فَأَجَازَ اللهُ لَه ذَلِكَ، وتَرَكَ الْفَجْرَ لَمْ يَزِدْ فِيهَا لِضِيقِ وَقْتِهَا؛ لأَنَّه تَحْضُرُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ ومَلَائِكَةُ النَّهَارِ، فَلَمَّا أَمَرَه اللهُ بِالتَّقْصِيرِ فِي السَّفَرِ، وَضَعَ عَنْ أُمَّتِه سِتَّ رَكَعَاتٍ، وتَرَكَ الْمَغْرِبَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْئاً، وإِنَّمَا يَجِبُ السَّهْوُ فِيمَا زَادَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله)، فَمَنْ شَكَّ فِي أَصْلِ الْفَرْضِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأَوَّلَتَيْنِ اسْتَقْبَلَ صَلَاتَه »(2).

2 - إنَّ الله تعالىٰ فرض في السنة صوم شهر رمضان، وسنَّ النبيُّ الأكرم (عليه السلام) صوم شهر شعبان، وثلاثة أيّام من كلِّ شهر، (والأفضل صيام

ص: 330


1- المحاسن للبرقي 2: 327/ ح 78.
2- الكافي للكليني 3: 487/ باب النوادر/ ح 2.

أوَّل خميس منه وآخر خميس منه، وأوَّل أربعاء من العشرة الثانية منه)(1).

3 - إنَّ الله تعالىٰ حرَّم الخمر، وحرَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسكر من كلِّ شراب.

4 - إنَّ رسول الله (عليه السلام) سنَّ النوافل اليومية، فأمضاها الله تعالىٰ له.

وقد وردت رواية جامعة لهذه التشريعات النبوية، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ لِبَعْضِ أَصْحَابِ قَيْسٍ الْمَاصِرِ:

إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّه فَأَحْسَنَ أَدَبَه، فَلَمَّا أَكْمَلَ لَه الأَدَبَ قَالَ: (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْه أَمْرَ الدِّينِ والأُمَّةِ لِيَسُوسَ عِبَادَه فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ: (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وما نَهاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا) وإِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) كَانَ مُسَدَّداً مُوَفَّقاً مُؤَيَّداً بِرُوحِ الْقُدُسِ لَا يَزِلُّ ولَا يُخْطِئُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَسُوسُ بِه الْخَلْقَ، فَتَأَدَّبَ بِآدَابِ الله.

ثُمَّ إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ فَأَضَافَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وإِلَى الْمَغْرِبِ رَكْعَةً فَصَارَتْ عَدِيلَ الْفَرِيضَةِ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهُنَّ إِلَّا فِي سَفَرٍ وأَفْرَدَ الرَّكْعَةَ فِي الْمَغْرِبِ فَتَرَكَهَا قَائِمَةً فِي السَّفَرِ والْحَضَرِ، فَأَجَازَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه ذَلِكَ كُلَّه فَصَارَتِ الْفَرِيضَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.

ثُمَّ سَنَّ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) النَّوَافِلَ أَرْبَعاً وثَلَاثِينَ رَكْعَةً مِثْلَيِ الْفَرِيضَةِ، فَأَجَازَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه ذَلِكَ والْفَرِيضَةُ والنَّافِلَةُ إِحْدَى وخَمْسُونَ رَكْعَةً مِنْهَا رَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ جَالِساً تُعَدُّ بِرَكْعَةٍ مَكَانَ الْوَتْرِ.

ص: 331


1- الفتاوىٰ الميسَّرة للسيِّد السيستاني: 173.

وفَرَضَ الله فِي السَّنَةِ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وسَنَّ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) صَوْمَ شَعْبَانَ وثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِثْلَيِ الْفَرِيضَةِ فَأَجَازَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه ذَلِكَ.

وحَرَّمَ الله عَزَّ وجَلَّ الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا، وحَرَّمَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الْمُسْكِرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَأَجَازَ الله لَه ذَلِكَ كُلَّه.

وعَافَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) أَشْيَاءَ وكَرِهَهَا ولَمْ يَنْه عَنْهَا نَهْيَ حَرَامٍ، إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا نَهْيَ إِعَافَةٍ وكَرَاهَةٍ ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا فَصَارَ الأَخْذُ بِرُخَصِه وَاجِباً عَلَى الْعِبَادِ كَوُجُوبِ مَا يَأْخُذُونَ بِنَهْيِه وعَزَائِمِه، ولَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْه نَهْيَ حَرَامٍ، ولَا فِيمَا أَمَرَ بِه أَمْرَ فَرْضٍ لَازِمٍ فَكَثِيرُ الْمُسْكِرِ مِنَ الأَشْرِبَةِ نَهَاهُمْ عَنْه نَهْيَ حَرَامٍ، لَمْ يُرَخِّصْ فِيه لأَحَدٍ ولَمْ يُرَخِّصْ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) لأَحَدٍ تَقْصِيرَ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ضَمَّهُمَا إِلَى مَا فَرَضَ الله عَزَّ وجَلّ، بَلْ أَلْزَمَهُمْ ذَلِكَ إِلْزَاماً وَاجِباً لَمْ يُرَخِّصْ لأَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا لِلْمُسَافِرِ ولَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يُرَخِّصَ شَيْئاً مَا لَمْ يُرَخِّصْه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله)، فَوَافَقَ أَمْرُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) أَمْرَ الله عَزَّ وجَلَّ ونَهْيُه نَهْيَ الله عَزَّ وجَلَّ، ووَجَبَ عَلَى الْعِبَادِ التَّسْلِيمُ لَه كَالتَّسْلِيمِ لله تَبَارَكَ وتَعَالَى.(1)

5 - إنَّ الله تعالىٰ فرض الفرائض في الإرث، ولم يَقسِم للجدِّ شيئاً، ولكن رسول الله (عليه السلام) أطعمه السُّدُس.

فعن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى أَدَّبَ نَبِيَّه (صلى الله عليه وآله)، فَلَمَّا انْتَهَى بِه إِلَى مَا أَرَادَ قَالَ لَه (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فَفَوَّضَ

ص: 332


1- الكافي للكليني ج1 ص266 و 267 بَابُ التَّفْوِيضِ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وإِلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) فِي أَمْرِ الدِّينِ ح4.

إِلَيْه دِينَه فَقَالَ (وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وما نَهاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا) وإِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ الْفَرَائِضَ ولَمْ يَقْسِمْ لِلْجَدِّ شَيْئاً، وإِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) أَطْعَمَه السُّدُسَ، فَأَجَازَ الله جَلَّ ذِكْرُه لَه ذَلِكَ وذلك قول الله (عز وجل): ]هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ[(1)»(2).

الفرع الثاني: تشريعات الأئمَّة (عليهم السلام)

وأمَّا عن تشريعات الأئمَّة (عليهم السلام)، فلا بدَّ أن نعلم أوَّلاً أنَّه وردت روايات عديدة عنهم (عليهم السلام) ظاهرها أنَّهم لا يُشرِّعون أبداً، وأنَّه لا حقَّ لهم في ذلك.

فعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «يا جابر، إنّا لو كنّا نُحدِّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نُحدِّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (عليه السلام) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم»(3).

وفي رواية ثانية: «لو أنّا حدَّثنا برأينا ضللنا كما ضلَّ من كان قبلنا، ولكنّا حدَّثنا ببيِّنة من ربِّنا، بيَّنها لنبيِّه فبيَّنها لنا»(4).

وفي رواية ثالثة: «مهما أجبتك فيه من بشيء فهو عن رسول الله (عليه السلام)، لسنا نقول برأينا من شيء»(5).

ص: 333


1- ص: 39.
2- الكافي للكليني 1: 267/ باب التفويض إلىٰ رسول الله (عليه السلام) وإلىٰ الأئمَّة (علیهم السلام) في أمر الدين/ ح 6. وراجع للتفاصيل أكثر: مفاهيم القرآن للشيخ جعفر السبحاني 2: 626.
3- بصائر الدرجات للصفّار: 319/ الجزء 6/ باب 14/ ح 1.
4- بصائر الدرجات للصفّار: 319/ الجزء 6/ باب 14/ ح 2.
5- بصائر الدرجات للصفّار: 320 و321/ الجزء 6/ باب 14/ ح 8.

ولكن في نفس الوقت وردت روايات أُخرىٰ تدلُّ علىٰ أنَّهم قاموا بعملية التشريع، فكيف الجمع بينهما؟

يمكن الجمع بأنَّهم (عليهم السلام) لا يُشرِّعون تشريعاً من عند أنفسهم، وهو ما عبَّر عنه الإمام الباقر (عليه السلام) بأنَّهم لو كانوا يفتون وفق أهوائهم لهلكوا، وإنَّما هم يُشرِّعون لمكان عصمتهم التي تعني فيما تعنيه علماً لدنّياً موافقاً للواقع، بمعنىٰ أنَّهم لعلمهم وعصمتهم يمكنهم أن يُحدِّدوا ويُشخِّصوا المصالح من المفاسد، ويعطوا أحكاماً موافقة للواقع، وهو ما عبَّر عنه الإمام الصادق (عليه السلام): «فوَالله ما نقول بأهوائنا، ولا نقول برأينا، ولا نقول إلَّا ما قال ربُّنا»(1).

وبعبارة أخرى: أن تشريعاتهم (عليهم السلام) إنما هي في طول تشريعات القرآن الكريم وتشريعات النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا تعارضها، فالجميع يأخذ من منبع واحد، ويصب في مصبٍّ واحد.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فيمكن استفادة أنَّهم (عليهم السلام) كانوا يُشرِّعون وفق المصالح والمفاسد، ووفق ما أذن الله تعالى لهم في ذلك، من الروايات التي يُعبِّرون (عليهم السلام) فيها بأنَّهم يكرهون كذا وأنَّهم يرون كذا، ومن الروايات التي صرّحت بصدور تشريع منهم (عليهم السلام).

والروايات الدالّة علىٰ ذلك كثيرة، منها:

1 - ورد أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) فرض زكاة علىٰ الخيل، فعن الإمامين الباقر

ص: 334


1- بصائر الدرجات للصفّار: 320/ الجزء 6/ باب 14/ ح 7.

والصادق (عليهما السلام) أنَّهما قالا: «وضع أمير المؤمنين صلوات الله عليه علىٰ الخيل العتاق الراعية في كلِّ فرس في كلِّ عام دينارين، وعلىٰ البراذين ديناراً»(1).

2 - وعن عليِّ بن مهزيار أنَّ الإمام الجواد (عليه السلام) عندما جاء إلىٰ بغداد في عام (220ه) فرض خمساً آخر غير الخمس الواجب المتعارف عليه في قسم عظيم من الأموال، ولمرَّة واحدة فقط(2)،

ولعلَّ ذلك (أنَّه لمَّا جاء الإمام الجواد (عليه السلام) إلىٰ بغداد، كان الشيعة يعانون الفاقة والضنك، ولذا فرض الإمام (عليه السلام) الخمس تلك السنة لحلِّ هذه المشكلة الخاصَّة)(3).

وهذا وإن أمكن حمله علىٰ عنوان الحكم الثانوي، ولكنَّه علىٰ أيِّ حالٍ تشريع واضح.

3 - عن عليِّ بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام)... عن تبعيض السورة، فقال: «أكره، ولا بأس به في النافلة»(4).

4 - عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لا بأس بأن يحتجم الصائم إلَّا في رمضان، فإنّي أكره أن يُغرِّر بنفسه إلَّا أن لا يخاف علىٰ نفسه،

ص: 335


1- الكافي للكليني 3: 530/ باب ما يجب عليه الصدقة من الحيوان وما لا يجب/ ح1؛ وفي هامش المصدر: (... والعتيق: العربية الكريمة الأصل. والبرذون: العجمية الأصل، أو ما سوىٰ العتيق. وهذه الزكاة حملها في الاستبصار علىٰ الاستحباب لما ثبت من انتفاء الوجوب عمَّا سوىٰ الأصناف التسعة. قيل: ويحتمل أن يكون في أموال المجوس ونحوهم جزية أو عوضاً عن انتفاعهم بمرعىٰ المسلمين).
2- تهذيب الأحكام للطوسي 4: 141/ ح (398/20).
3- انظر: نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي 10: 83.
4- تهذيب الأحكام للطوسي 2: 296/ ح (1192/48).

وإنّا إذا أردنا الحجامة في رمضان احتجمنا ليلاً»(1).

5 - عن عبد الله بن هلال، قال: « سُئِلَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الثَّوْبِ يَكُونُ مَصْبُوغاً بِالْعُصْفُرِ(2)

ثُمَّ يُغْسَلُ أَلْبَسُه وأَنَا مُحْرِمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ لَيْسَ الْعُصْفُرُ مِنَ الطِّيبِ، ولَكِنْ أَكْرَه أَنْ تَلْبَسَ مَا يَشْهَرُكَ بِه النَّاسُ »(3).

6 - عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال فِي الرَّجُلِ يَجُرُّ ثَوْبَه قَالَ (عليه السلام): إِنِّي لأَكْرَه أَنْ يَتَشَبَّه بِالنِّسَاءِ.(4).

7 - عن الإمام عليٍّ (عليه السلام)، قال: «نهىٰ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يُسلَّم علىٰ أربعة: علىٰ السكران في سكره، وعلىٰ من يعمل التماثيل، وعلىٰ من يلعب بالنرد، وعلىٰ من يلعب بالأربعة عشر، وأنا أزيدكم الخامسة: أنهاكم أن تُسلِّموا علىٰ أصحاب الشطرنج»(5).

من نصوص التفويض التشريعي إليهم (عليهم السلام)

فضلاً عن كل ما تقدم، فإن الهناك الكثير من النصوص التي دلت على أن الله تعالى فوّض إليهم أمر الدين، وهو يعني فيما يعنيه الولاية التشريعية بهذا المعنى الذي نحن بصدده، بل قد تشمل كل معاني الولاية المذكورة، وقد ذكر الصفار في بصائر الدرجات أكثر من ثلاثين حديثاً تدل على هذا

ص: 336


1- تهذيب الأحكام للطوسي 4: 260/ ح (776/14).
2- هو صبغ أصفر اللون. (من المصدر).
3- الكافي للكليني 4: 342/ باب ما يلبس المحرم من الثياب وما يُكرَه له لباسه/ ح 17.
4- الكافي للكليني 6: 458/ باب تشمير الثياب/ ح 12.
5- الخصال للصدوق: 237/ ح 80.

المعنى(1)،

وذكر الشيخ الكليني في الكافي عشر روايات في ذلك(2)، وغيرهما من المصادر، ونذكر نموذجاً واحداً من تلك النصوص، وهو ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي (عليه السلام)، فَأَجْرَيْتُ اخْتِلَافَ الشِّيعَةِ، فَقَالَ (عليه السلام): يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّداً بِوَحْدَانِيَّتِه، ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّداً وعَلِيّاً وفَاطِمَةَ (عليهم السلام) فَمَكَثُوا أَلْفَ دَهْرٍ، ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ، فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا، وأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا، وفَوَّضَ أُمُورَهَا إِلَيْهِمْ، فَهُمْ يُحِلُّونَ مَا يَشَاؤُونَ، ويُحَرِّمُونَ مَا يَشَاؤُونَ، ولَنْ يَشَاؤُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى. ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): يَا مُحَمَّدُ، هَذِه الدِّيَانَةُ الَّتِي مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، ومَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مَحَقَ، ومَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ، خُذْهَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ.(3)

إشكال وجواب:

التنافي بين الولاية التشريعية للمعصوم وبين حصر الكتاب التشريع بالله تعالى.

قد يُقال: إن ظاهر العديد من الآيات الكريمة تدل على حصر مهمة الأنبياء بتبليغ التشريع، وأن التشريع حصراً بيد الله تعالى، من قبيل:

ص: 337


1- يُنظر: بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص 398 باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله. وص 403 باب في أن ما فوض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد فوض إلى الأئمة عليهم السلام.
2- يُنظر: الكافي للكليني ج1 ص 265 بَابُ التَّفْوِيضِ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وإِلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) فِي أَمْرِ الدِّينِ.
3- الكافي للكليني ج1 ص 441 - ح5.

قوله تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحىٰ إِلَيَّ)(1)

وقوله تعالى: (وَإِذا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(2)

وقوله تعالى في حق النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوىٰ)(3)الدال على أن ما يأتي به النبي (صلى الله عليه وآله) إنما هو وحي من الله تعالى، لا من عنده (صلى الله عليه وآله).

وبعبارة ثانية:

تقدم أن الأسماء والصفات الإلهية نوعان:

1/مستأثرة: أي خاصة بمرتبة واجب الوجود (جل وعلا)، كوجوب الوجود والإطلاق واللا تناهي، فما عدا الله تعالى كله ممكن محدود متناهٍ.

2/ غير مستأثرة: يمكن أن توجد في مرتبتي الوجود الواجبة والممكنة، كالعلم، ففي مرتبة الواجب جل وعلا يوجد علم متناسب مع وجوبه ولا تناهيه، وفي المرتبة الممكنة من الوجود أيضاً يوجد علم متناسب معها.

ومعه قد يُقال: هل التشريع فعل مستأثر حصره الله تعالى به، وما دونه –من أنبياء ومعصومين- هم مجرد حملة ومبلغين لتشريع الله تعالى، كلٌّ منهم

ص: 338


1- الأنعام 50.
2- يونس 15.
3- النجم 3 – 5.

معنيٌّ بنقل فعل وتشريع الله تعالى لعبيده؟

أو إنه ليس كذلك، وإنما هو فعل غير مستأثر، فهو في عين كونه فعل الله تعالى مباشرة، ولكنه في الوقت ذاته خوّل أنبياءه بممارسته نسبياً، ولو كن كذلك فكيف نحلّ التعارض مع ظاهر كتاب الله تعالى الذي يحصر التشريع به تعالى كما تقدم.

والجواب:

إن التعارض يصحّ لو كانت تشريعات النبي (صلى الله عليه وآله) هي بالاستقلال عن الله تعالى ومن دون إذنه، أو إذا كانت تشريعاته تخالف التشريعات الإلهية، فهذا المعنى لا خلاف في كونه خروجاً عن الدين، وهو من الغلو.

وبعبارة أخرى: أن أقصى ما تنفيه الآياتُ -التي حصرت عمل النبي بالوحي- هو استقلال النبي بالتشريع من عندياته وبلا أن تجعل السماء مرجعية له، والناتج من اجتهاده الشخصي ولو كان مخالفاً للسماء.

وهذا ليس نقطة خلاف، فإن تشريعه ما زال مستنداً إلى السماء وموافقاً له، وهذا ما تؤيده النصوص القرآنية والروائية، فقوله تعالى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(1)يفيد

أن المنفي هو التشريع الذي هو معصية، بدليل ذيل الآية (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

ص: 339


1- يونس 15.

وهكذا قوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوىٰ)(1) فما يشرعه النبي ليس ناتجاً عن الهوى، وإنما هو من الوحي، مما يعني استناده إلى السماء.

من ثَمّ نجد التنبيه على هذا المعني في ذيل رواية أبي عبد الله (عليه السلام) المتقدمة: (...فَوَافَقَ أَمْرُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) أَمْرَ الله عَزَّ وجَلَّ ونَهْيُه نَهْيَ الله عَزَّ وجَلَّ، ووَجَبَ عَلَى الْعِبَادِ التَّسْلِيمُ لَه كَالتَّسْلِيمِ لله تَبَارَكَ وتَعَالَى.(2)

فتشريع النبي (صلى الله عليه وآله)، كخبره عن السماء، مستمد من السماء، ولذا وافق أمره أمر الله تعالى، ونهيه نهي الله تعالى، فهي ولاية متصلة بالمادة الأساسية التي هي السماء.

ونفس الكلام يُقال في تشريع المعصوم.

فلا يتوهمنّ أحدٌ أن المراد من الولاية التشريعية التي جُعلت للنبي أو المعصوم هي الولاية بالاجتهاد الشخصي وبمعزل عن السماء ومتمرداً عليها، بل هذا لا معنى محصلاً له مع افتراض عصمة النبي والإمام، كيف وهو والمعصومين (عليهم السلام): (محال معرفة الله تعالى) وهم (عيبة علم الله تعالى).

فالحديث إنما هو عن كون النبي مشرعاً مع كونه معصوماً لا يخطئ مرادات الله تعالى.

ص: 340


1- النجم 3 – 5.
2- الكافي للكليني ج1 ص266 و 267 بَابُ التَّفْوِيضِ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وإِلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) فِي أَمْرِ الدِّينِ ح4.

ومما يؤكد أن تشريع المعصوم ليس تشريعاً مستقلاً عن الكتاب والسنة النبوية، هي مجموعة من النصوص ذلك –وقد تقدمت بعضها-، من قبيل:

أ.. ما روي عن جابر، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يا جابر، لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأُصول علم عندنا، نتوارثها كابراً عن كابر، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم»(1).

ب.. وروي عن قتيبة، قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة، فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيتَ إنْ كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟ فقال له: «مَهْ، ما أجبتُك فيه من شيء فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لسنا من: أرأيتَ(2)

في شيء»(3).

ج.. وعَنْ أَبِي الْجَارُودِ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَاسْأَلُونِي مِنْ كِتَابِ الله.

ثُمَّ قَالَ فِي بَعْضِ حَدِيثِه: إِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) نَهَى عَنِ الْقِيلِ والْقَالِ، وفَسَادِ الْمَالِ، وكَثْرَةِ السُّؤَالِ. فَقِيلَ لَه: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، أَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ الله؟ قَالَ:

ص: 341


1- بحار الأنوار 2: 172/ ح 3، عن بصائر الدرجات: 320/ باب في الأئمَّة أنَّ عندهم أُصول العلم ما ورثوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يقولون برأيهم/ ح 4.
2- لمَّا كان مراده أخبرني عن رأيك الذي تختاره بالظنِّ والاجتهاد نهاه (عليه السلام) عن هذا الظنِّ وبيَّن له أنَّهم لا يقولون شيئاً إلَّا بالجزم واليقين وبما وصل إليهم من سيِّد المرسلين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 58/ باب البِّدَع والرأي والمقاييس/ ح 21).

إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وقَالَ: (ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً) وقَالَ: (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).(1)

الولاية الثالثة: ولاية القضاء
اشارة

وفي بيانها نذكر النقاط التالية:

النقطة الأولى: تعريف السلطة القضائية

عرف الشهيد الأول القضاء بأنه: (ولاية شرعيّة على الحكم في المصالح العامّة من قبل الإمام).(2)

وعرفه الشهيد الثاني في المسالك، بأنه: (ولاية الحكم شرعاً لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية، على أشخاص معينة من البرية، بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحق)(3)

فيشترك التعريفان في أن القضاء ولاية تطبيقية لحكم كلي تثبت حكماً جزئياً وتُلزِم به.

ففرقٌ بين أن يقول الفقيه (إذا رُئي الهلال ثبت الشهر، إذا استدان شخص من آخر فعليه أن يؤدي الدين لصاحب الحق) مما هو فتوى في فضاء

ص: 342


1- الكافي للكليني ج1 ص60 بَابُ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وأَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالِ والْحَرَامِ وجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه إِلَّا وقَدْ جَاءَ فِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ- ح5.
2- الدروس الشرعية في فقه الإمامية- الشهيد الأول- ج2 ص65.
3- مسالك الأفهام للشهيد الثاني ج13 شرح ص 325.

المعرفة فقط، وإنْ كان فيها إلزام معرفي، لكنه لا يصل إلى حد الإلزام العملي، وبين أن يقول: (أحكم بأن غداً عيد، أحكم بأنك مدين) فالأخير فيه إعمال للولاية والسلطة بتطبيق الفتوى الكلية على حالة جزئية مع الإلزام بها.

فالولاية القضائية عبارة عن تطبيق الكلي على الجزئي والإلزام بالجزئي، مع وجود اختلاف في سعة وضيق أنشطة القضاء وصلاحيات القاضي.

ولا شك في ثبوت هذه الولاية للمعصوم (عليه السلام) بلا أدنى شك.

النقطة الثانية: ضرورة السلطة القضائية

إن العلم وحده لا يكفي لإلزام الناس بالفعل، فكثير من الناس يعلم بالحكم، أو بالقانون، ولكنه يتمرد عليه، فالقضاء، والإلزام العملي، ضرورة، في إلزام الناس بالنظام وبالقانون وبالحكم.

والآيات الكريمة تبين هذه الضرورة:

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلىٰ أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(1)

هذه الآية واضحة في أن الله تعالى بعد أن شّرع الحكم بلزوم ردّ الأمانة، فإنه جل وعلا أمر بأن يكون الحكم بالعدل، فلو كانت القضية تنحل بحكم شرعي أو إلزام معرفي، لما كانت هناك ضرورة للأمر بالحكم بالعدل فيما لو حصل اختلاف، مما يعني أنه لا غنى للمجتمع عن تلك السلطة القضائية

ص: 343


1- النساء 58.

لتوفير العدالة والاستقرار.

وقال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)(1)فإنزال الكتاب لوحده غير كافٍ لفض النزاعات، بل لا بد من الحكم والقضاء، فالقضاء تتمة للفضاء المعرفي.

وعلى نفس المنوال جاء قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(2)

وقوله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(3)

(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(4)

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)(5)فهذه

الآية واضحة في أن الخلافة بلا حاكمية وقضاء لا تستقيم، مما يشير إلى تشريع بل وضرورة ولاية القضاء.

ص: 344


1- النساء 105.
2- النساء 59.
3- النساء 65.
4- المائدة 42.
5- ص 26.

والحاصل:

أن العوامل الأخلاقية والفقهية والقانونية مع ما يحفها من فطرية الدين والنبوات والجنة والنار، كلها لم تغنِ عن الحاجة الأساسية للسلطة القضائية، والمسألة أقرب إلى البديهية منها إلى النظرية.

النقطة الثالثة: هل هذه الولاية مختصة بالمعصوم (عليه السلام)؟
اشارة

إن للاختصاص مستويين:

المستوى الأول: الخاص بمعنى المستأثر

أي أن يكون المنصب خاصاً بالمعصوم ولا يثبت لغيره بأي وسيلة من وسائل الإثبات، فهي صلاحية حصرية بالمعصوم، ومن هذا القبيل: ولاية التشريع.

المستوى الثاني: الخاص بمعنى الأصل

فالمنصب خاص بالإمام بالأصالة، وأما غيره فهو إن حاز عليه فهو بالنيابة، بحيث يكون فرعاً ونائباً عن الأصل.

وهذا يعني ترتيب هرمية القدرة والسلطة، بأن يأخذ الآخر موقع النيابة عن الأصل، فهو مقيد بتطبيق تشريعات المعصوم.

وولاية القضاء هي من النوع الثاني، فهي:

أولاً: بالأصل للمعصوم، كما دلت عليه بعض النصوص.

ص: 345

من قبيل ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لِشُرَيْحٍ: يَا شُرَيْحُ، قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً لَا يَجْلِسُه إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ شَقِيٌّ.(1)

يدل الحديث بوضوح أن القضاء ولاية (مجلس)، وأنه خاص بالمعصوم.

ومن قبيل ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أنه قَالَ: اتَّقُوا الْحُكُومَةَ، فَإِنَّ الْحُكُومَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلإِمَامِ الْعَالِمِ بِالْقَضَاءِ الْعَادِلِ فِي الْمُسْلِمِينَ لِنَبِيٍّ أَوْ وَصِيِّ نَبِيٍّ.(2)

فالرواية قيدت القضاء بكونه (لِنَبِيٍّ أَوْ وَصِيِّ نَبِيٍّ).

والنصوص القرآنية تشهد بذلك أيضاً:

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)(3)

فالآية فرّعت الحكم بين الناس على جعله خليفة، فمن شؤون الخلافة في الأرض هو القضاء، فهو منصب مختص، فإن وجد في غير المعصوم فإنما هو بتعيينه ونصبه.

ثانياً: لكنها –أي ولاية القضاء- يمكن أن تكون لغير المعصوم، بشرط أن يكون ذلك بإذنه وتخويل منه.

ص: 346


1- الكافي للكليني ج7 ص 406 بَابُ أَنَّ الْحُكُومَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلإِمَامِ (عليه السلام) ح2.
2- الكافي للكليني ج7 ص 406 بَابُ أَنَّ الْحُكُومَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلإِمَامِ (عليه السلام) ح1.
3- ص 26.

وهو ما يستفاد من بعض النصوص أيضاً.

من قبيل: ما جاء في مقبولة عُمَر بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ، فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ وإِلَى الْقُضَاةِ، أيَحِلُّ ذَلِكَ؟

قَالَ (عليه السلام): مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، ومَا يَحْكُمُ لَه فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتاً، وإِنْ كَانَ حَقّاً ثَابِتاً، لأَنَّه أَخَذَه بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ، وقَدْ أَمَرَ الله تعالى أَنْ يُكْفَرَ بِه، قَالَ الله تَعَالَى (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِه).

قُلْتُ: فَكَيْفَ يَصْنَعَانِ؟ قَالَ (عليه السلام): يَنْظُرَانِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، ونَظَرَ فِي حَلَالِنَا وحَرَامِنَا، وعَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَلْيَرْضَوْا بِه حَكَماً، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُه عَلَيْكُمْ حَاكِماً، فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْه مِنْه فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ الله، وعَلَيْنَا رَدَّ، والرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى الله، وهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِالله.(1)

فقوله (عليه السلام): (فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُه عَلَيْكُمْ حَاكِماً) واضح في أن منصب القضاء يمكن أن يكون لغير المعصوم لكن بإذنه.

الولاية الرابعة: ولاية إجراء الحدود

لا شك ولا خلاف أن إجراء الحدود هي من آثار ونتائج القدرة والسلطة، وليست قضية معرفية بحتة، وهي -تحديداً- إعمال للقدرة وتنفيذ

ص: 347


1- الكافي للكليني ج1 ص67 بَابُ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ح10.

لحكم الحاكم، هي عملية إجراء وتطبيق لما تنتهي إليه السلطة القضائية من إلزام، أي إنها سلطة لازمة للسلطة القضائية.

وإن البداهة تقضي بأن الأصل في ولاية إجراء الحدود هي أنها ولاية مختصة بالمعصوم، باعتبار أن الولاية عموماً تعني تسلّط شخص على آخر في نفسه أو ماله أو عرضه، وتحديد حريته وسلطنته فيها، وبديهي أن الأصل عدمه إلاّ ما ثبت بالدليل؛ فالناس أحرار في أنفسهم مسلطون عليها وعلى أموالهم، ومع ذلك فإنه لا بد -وكحد أدنى- أن تثبت للمعصوم ولاية إجراء الحدود، وإلاّ لزم لغوية تشريع الحدود، فيكون ثبوتها للمعصوم هو القدر المتيقن منها، وأما غيره فالأصل عدم ثبوتها له، وثبوتها للمعصوم لا يلازم ثبوتها لغيره، اللهم إلا أن يثبتها الدليل اللفظي.

ومما يدل على أن الأصل فيها هو المعصوم، ما روى سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من يقيم الحدود السلطان أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم.(1)

فهذه الرواية تفيد أن إجراء الحدود يكون بيد من له الحكم.

وعن علي (صلوات الله عليه) أنه قال: لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلا بإمام.(2)

فهذه الرواية تجعل الحدود من اختصاصات الإمام.

ص: 348


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج4 ص 71 و 72 ح5135.
2- دعائم الإسلام للقاضي المغربي ج1 ص182.

قال العلامة الحلي: لا يجوز لأحد إقامة الحدود غير الإمام أو من نصبه الإمام لإقامتها.(1)

نعم، يمكن للمعصوم أن يأذن ويخوّل من يُجري الحدود، وهذا لا مانع منه، وبه تفسر الآيات التي ظاهرها إتاحة إجراء الحدود للجميع، من قبيل قوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(2)

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(3)

فهذه الآيات –بقرينة الروايات المتقدمة- تعني أنه يمكن لغير المعصوم أن يُجري الحدود لكن بإذن المعصوم.

الولاية الخامسة: ولاية الطاعة للأوامر الشرعية
اشارة

حتى تتبين هذه الولاية، نُذكّر بأن الطاعة في الإسلام لها مرتبتان رئيستان:

أ طاعة الله تعالى

إن أصل مبدأ لزوم الطاعة لله تعالى هو أمر ثابت قرآنياً، كما تشهد عليه مجموعة من الآيات الكريمة، مثل:

ص: 349


1- تحرير الأحكام للعلامة الحلي ج2 ص242.
2- النور 2.
3- المائدة 38.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً.)(1)

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلىٰ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(2)

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(3)

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(4)

بل هو في مرحلة سابقة ثابت عقلي، فالعقل يدرك لزوم طاعة الله تعالى لأنه الخالق المالك الرب المولى.

ب طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر
اشارة

وهو ثابت قرآني كما هو صريح الآيات المتقدمة، ويمكن تصوير لزومها العقلي بأحد وجهين:

الوجه الأول: أن الرسول وسيط بين الله تعالى وبين البشر

إن العقل يحكم بلزوم طاعة الرسول باعتبار شخصيته الحقوقية، وهي

ص: 350


1- النساء 59.
2- المائدة 92.
3- الأنفال 1.
4- الأنفال 46.

رسالته، التي تعني كونه وسيطاً بين السماء والبشر، فهو يبلغ أوامر الله تعالى للبشرية، فافتراض عدم لزوم طاعته يساوق عدم لزوم طاعة الله تعالى، وهو خلف الحكم العقلي بلزوم طاعة الخالق والرب والمالك المتقدم.

الوجه الثاني: أن الرسول مخبر معصوم عن الواقع

إن الرسول معصوم، والمعصوم يُخبر عن الواقع، وقد تقدم أن للواقع إلزاماً على العالم به، بل ولو مع الظن به بواسطة الثقة، فكيف بما لو أخبر به المعصوم.

وبنفس هذا المعنى يثبت لزوم طاعة أهل البيت (عليهم السلام)، لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول (صلى الله عليه وآله) في إيصال الدين إلينا، فضلاً عن كونهم (عليهم السلام) مخبرين معصومين عن الواقع، وهو ما تشير له العديد من النصوص، من قبيل ما روىٰ جابر، قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (عليهما السلام): إذا حدَّثتني بحديث فأسنده لي، فقال: «حدَّثني أبي، عن جدّي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن جبرئيل (عليه السلام)، عن الله (تعالى)، وكلُّ ما أُحدِّثك بهذا الإسناد»، وقال (عليه السلام): «يا جابر، لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها»(1).

وروىٰ حفص بن البختري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): نسمع الحديث منك، فلا أدري منك سماعه أم من أبيك؟ فقال (عليه السلام): «ما سمعته منّي فاروه عن أبي، وما سمعته منّي فاروه عن رسول الله صلى الله عليه وآله»(2).

ص: 351


1- أمالي المفيد: 42/ ح 10.
2- وسائل الشيعة للحرِّ العاملي 27: 104/ ح (33331/86).

بل ورد عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وحَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ وغَيْرِه قَالُوا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي، وحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي، وحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ، وحَدِيثُ الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ، وحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليهم السلام)، وحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وحَدِيثُ رَسُولِ الله قَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ.(1)

وفي نص أخر للإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي حنيفة: فاتق الله يا نعمان، ولا تقس، فإنا نقف غدا، نحن وأنت ومن خالفنا، بين يدي الله، فيسألنا عن قولنا، ويسألكم عن قولكم، فنقول: قلنا: قال الله وقال رسول الله، وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء.(2)

ص: 352


1- الكافي للكليني ج1 ص 53 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح4.
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي ج1 ص 91، وتمام الرواية: عن جعفر بن محمد صلوات الله عليه أنه قال لأبي حنيفة وقد دخل عليه، قال له: يا نعمان، ما الذي تعتمد عليه فيما لم تجد فيه نصا من كتاب الله ولا خبراً عن الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ قال: أقيسه على ما وجدت من ذلك، قال له: إن أول من قاس إبليس فأخطأ إذ أمره الله عز وجل بالسجود لآدم (عليه السلام)، فقال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين، فرأى أن النار أشرف عنصراً من الطين، فخلده ذلك في العذاب المهين، أي نعمان، أيهما أطهر المنيُّ أم البول؟ قال المنيّ، قال: فقد جعل الله عز وجل في البول الوضوء وفى المنيّ الغسل، ولو كان يحمل على القياس لكان الغسل في البول، وأيهما أعظم عند الله، الزنا أم قتل النفس؟ قال: قتل النفس، قال: فقد جعل الله عز وجل في قتل النفس شاهدين وفى الزنا أربعة، ولو كان على القياس لكان الأربعة الشهداء في القتل، لأنه أعظم، وأيهما أعظم عند الله، الصلاة أم الصوم؟ قال: الصلاة، قال: فقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحائض أن تقضى الصوم، ولا تقضى الصلاة، ولو كان على القياس لكان الواجب أن تقضى الصلاة، فاتق الله يا نعمان، ولا تقس، فإنا نقف غدا، نحن وأنت ومن خالفنا، بين يدي الله، فيسألنا عن قولنا، ويسألكم عن قولكم، فنقول: قلنا: قال الله وقال رسول الله، وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء.
الولاية السادسة: ولاية الطاعة في الأوامر العرفيّة

والمقصود من «الأوامر العرفية» هو ما يصدره النبي أو الإمام من تعاليم معينة بلحاظ مصالحه الشخصية، و ما يلقيه من أوامر خاصة أو عامة من هذا المنطلق، من دون أن تمت إلى مصالح المسلمين بأية صلة أصلاً.

ففي هذه الولاية، يُراد إثبات لزوم الطاعة للأمر الذي ترجع مصلحته إلى الولي لا إلى المولى عليه، فهو لون خامس من الأوامر، وهي الأوامر العرفية أو الشخصية.

وهذه الولاية ثابتة للمعصوم، بعد الالتفات إلى أن الآمر ما دام هو معصوماً، فحتى في أوامره الشخصية هناك منفعة ترجع إلى المكلف، ولو كانت هي التربية أو الحصول على الثواب.

وقد دلت الآيات على هذا المعنى من الطاعة الواجبة، من قبيل قوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلىٰ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(1)

ومثل قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ)(2)

الولاية السابعة: ولاية التصرف في الأموال والنفوس

وهي عبارة عن «سلطة الوليّ» على التصرف في نفس المولّى عليه وماله، كما يكون لكل شخص مثل هذه السلطة على نفسه وماله. و على هذا الأساس

ص: 353


1- المائدة 92.
2- النساء 64.

يمكن للوليّ أن يبيع ما يملكه المولّى عليه، أو يزوّجه امرأة بالعقد.

ويمكن الاستدلال على ثبوت هذه الولاية للنبي (صلى الله عليه وله) بقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(1)

مفاد هذه الآية: هو ثبوت سلطة النّبي (صلى الله عليه وآله) وولايته على نفوس المؤمنين.

كما إنه يستفاد من هذه الآية أيضاً أن مدى سلطة النّبي (صلّى اللّه عليه و آله) على الأشخاص أكثر من مدى سلطتهم على أنفسهم، والحال أنه ليس هناك سلطة أعلى من سلطة الإنسان على نفسه، لأنّ السلطة على النفس أمر طبيعي وفطري، ومع ذلك فإن سلطة النّبي (صلّى اللّه عليه و آله) أعلى من تلك السلطة.

ولهذا جاء في سبب نزول هذه الآية أنّ النّبي (صلّى اللّه عليه و آله) لما أراد غزوة تبوك، وأمر الناس بالخروج، قال قوم: نستأذن آباءنا وأمهاتنا، فنزلت هذه الآية، وهي تعني: أن النبي أولى بكم من آبائكم وأمهاتكم.(2)

إن الآية الكريمة تحدثت عن «أولويّة» النّبي بالمؤمنين من أنفسهم، لا «الولاية» فحسب، بمعنى أنّ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأحق بها منهم، وينتج عن ذلك أن يترجح ويقدم ما يريده ويرتأيه النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في حق المسلمين على ما يريدونه ويرتأونه هم في حق أنفسهم، وتظهر ثمرة (الولاية الأولى) عند اختلاف الإرادتين، وإلا فمع توافق الإرادتين لا تبرز الأولوية.(3)

ص: 354


1- الأحزاب 6.
2- انظر: تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج8 ص 121 و 122.
3- الحاكمية في الإسلام للسيد الخلخالي ص 229 و 230.

إن العلامة الطباطبائي في الميزان لم يقف في الأولوية عند تقدم الولي على الآخر مع التزاحم في الإرادة حول النفس والمال، بل تعدى إلى أولوية وجوده من وجود المولى عليه وكرامته وعزته وحياته من كرامة وعزة وحياة المولى عليه، فإنه مقتضى إطلاق أولويته من الشخص بكله.

قال العلامة ما نصه: فالمحصَّل: أن ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة واستجابة الدعوة وانفاذ الإرادة فالنبي أولى بذلك من نفسه، ولو دار الأمر بين النبي وبين نفسه في شيء من ذلك، كان جانب النبي أرجح من جانب نفسه.

ففيما إذا توجه شيء من المخاطر إلى نفس النبي، فليقه المؤمن بنفسه، ويفده نفسه، وليكن النبي أحب إليه من نفسه، وأكرم عنده من نفسه، ولو دعته نفسه إلى شيء والنبي إلى خلافه، أو أرادت نفسه منه شيئاً وأراد النبي خلافه، كان المتعين استجابة النبي (صلى الله عليه وآله) وطاعته وتقديمه على نفسه.

وكذا النبي (صلى الله عليه وآله) أولى بهم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية أو الدينية، كل ذلك لمكان الإطلاق في قوله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم).(1)

ثم إن هذه الولاية تنتقل إلى المعصومين (عليهم السلام) بحديث الغدير، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) أثبت ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) على المسلمين كما ثبتت له (صلى الله عليه وآله)، والتي هي بمستوى (أولى بهم من أنفسهم).

ص: 355


1- تفسير الميزان ج16 ص 276.
الولاية الثامنة: ولاية الإذن أو النظارة والإشراف على المصالح العامة

هو حق النظارة والمرجعية في الأمور والحوادث التي يمكن إيقاعها والقيام بها بمشاركة الناس أنفسهم، ولكنها مع ذلك تحتاج- لعلة المحافظة على النظام- أن تتم وتتحقق تحت نظر وإشراف ولي الأمر وبإذنه، مثل صرف بعض الأقسام من أموال بيت المال كالمال المجهول المالك وسهم الإمام (عليه السلام) والزكاة على قول، أو الأموال الخاصة مثل تقاص الدائن من أموال المدين أو إجراء بعض الأعمال التي هي من واجب عموم المسلمين، ولكنها مشروطة بإذن الولي، مثل تجهيز الميت الذي لا وليّ خاص له ومثل ما هو متعارف اليوم من طلب الرخصة والاذن له كبناء المساكن الخاصة من جهة مراعاة المصالح العامة وأمثال ذلك من الأمور الحسبية.

الولاية التاسعة: ولاية الأمر أو ولاية الحكومة

وتعني حق الزعامة السياسية والاجتماعية وقيادة الدولة الإسلامية، وهي من مناصب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليه السلام) القطعية البديهية، لأن ضرورة وجود زعيم ورئيس في المجتمع البشري- صغيراً كان ذلك المجتمع أم كبيراً، متحضِّراً أكان أم بدائياً، متديناً كان أم غير متدين- أمر فطريّ وبديهيّ.

وليس المجتمع الإسلامي بمستثنى عن هذه القاعدة الكلية الفطرية، فهو أيضاً بحاجة إلى قائد سياسيّ واجتماعي، لأن الإسلام عبارة عن مجموعة القوانين التي يجب أن تطبق في المجتمع البشري، وأن تخرج من مرحلة الذهن

ص: 356

والذهنية إلى مرحلة التطبيق والواقع الخارجي العملي.

ومن المعلوم أن مجرد الرغبة النفسية في تطبيق الإسلام في الصعيد الاجتماعي لا يكفي، بل يحتاج ذلك إلى قوة تنفيذية وسلطة إجرائية أيضاً ليعاقب العصاة والمتخلفين، ويؤيد الممتثلين والمطيعين، ويستطيع المسلمون في ظل ما يتحقق ويتوفّر من أمن اجتماعي، وقضائي، واقتصادي، وسياسي، وغيره من أن يواصلوا حياتهم.

وتعبّر الثقافة الإسلامية عن مثل هذا الشخص بوليّ الأمر، وعن منصبه بالولاية، بمعنى الزعامة والقيادة السياسية، ورئاسة الحكومة والدولة الإسلامية.

و قد عهد بهذا المنصب في صدر الإسلام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ عهد به من بعده إلى الأئمة المعصومين من أهل البيت (عليه السلام)، وقد أشارت إلى ذلك الكثير من النصوص، من قبيل ما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة: (السلام عليكم يا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة... ودعائم الأخيار، وساسة العباد، وأركان البلاد، وأبواب الايمان... وحجج الله على أهل الدنيا والآخرة والأولى... وحفظة سر الله، وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله، وذرية رسول الله صلى الله عليه وآله ورحمة الله وبركاته، السلام على الدعاة إلى الله، والأدلاء على مرضاة الله... والمظهرين لأمر الله ونهيه... السلام على الأئمة الدعاة، والقادة الهداة، والسادة الولاة، والذادة الحماة، وأهل الذكر، وأولي

ص: 357

الأمر...)(1)

ولكن القيادة الإسلامية انحرفت عن المسار الأصلي المرسوم لها أثر الاختلاف الذي وقع بين المسلمين بعد وفاة رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله).

الولاية العاشرة: ولاية الإمامة أو الهداية الإيصالية أو القيادة المعنوية

هناك معانٍ أشارت لها النصوص الدينية، يظهر منها وجود علاقة وجدانية بين المعصوم والأتباع، من قبيل:

أ: التعبير عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) بأنهما أبوا هذه الأمة، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى فرض عليكم طاعتي، ونهاكم عن معصيتي، وأوجب عليكم اتباع أمري، وفرض عليكم من طاعة علي بعدي ما فرضه من طاعتي، ونهاكم من معصيته عما نهاكم عنه من معصيتي، وجعله أخي ووزيري ووصيي ووارثي، وهو مني وأنا منه، حبه إيمان وبغضه كفر، ومحبه محبي، ومبغضه مبغضي، وهو مولى من أنا مولاه، وأنا مولى كل مسلم ومسلمة، وأنا وإياه أبوا هذه الأمة.(2)

فهذه الأبوة هي غير كونهما (صلوات الله عليهما) قادة الأمة وولاتها والمبلغين عن الله تعالى.

ب: ما ورد في وصف النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه قدوة، فالقدوة أمر غير الولايات السابقة، قال تعالى: 0لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا

ص: 358


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج2 ص 610 و 611.
2- الأمالي للشيخ الصدوق ص 65 ح 30 / 6.

اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً)(1)

ج: بيان أن من مهام النبي (صلى الله عليه وآله) أنه يقوم بتزكية نفوس أتباعه، فإنها مما لم تتم تغطيته بالولايات السابقة، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَىٰ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(2)

د: تصريح أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن إمامته للناس –وبالتالي لزوم اتباعه- لا تنحصر بكونه قائداً لهم، وإنما هو إمام لهم فيما يتعلق بالزهد، وعدم التعلق بالدنيا وزبرجها، وأنه قد أخذ على نفسه أن يتمثل بأقل المؤمنين حالاً، وأن على من يكون نائباً عنه أن يعمل على الاقتراب من هذه الحيثية فيه (عليه السلام)، وذلك ضمن كتابه (عليه السلام) الذي أرسله إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف، حيث جاء فيه: (أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِه، ويَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِه، أَلَا وإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاه بِطِمْرَيْه، ومِنْ طُعْمِه بِقُرْصَيْه، أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ، فواللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، ولَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، ولَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً، ولَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً، ولَا أَخَذْتُ مِنْه إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ، ولَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ... وإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى... ولَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، ويَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ، ولَعَلَّ

ص: 359


1- الأحزاب 21
2- آل عمران 164

بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَه فِي الْقُرْصِ، ولَا عَهْدَ لَه بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى، وأَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ *** وحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ، هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ، فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ... إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ، وأَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ، واجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ... فواللهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي، ولَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي، وايْمُ الله يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّه، لأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ، إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْه مَطْعُوماً، وتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً، ولأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا، مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا، أَتَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ، وتَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ، ويَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِه فَيَهْجَعَ، قَرَّتْ إِذاً عَيْنُه إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ، بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ والسَّائِمَةِ الْمَرْعِيَّةِ، طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا، وعَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا...)(1).

وعلى كل حال، في الولاية العاشرة يراد تأصيل ظاهرة القدوة، الأبوية، الرعوية، القيادة الروحية.

ص: 360


1- نهج البلاغة ج3 ص 70 – 74.

وهذا نظير العلاقة بين الولد ووالده، فإنها لا تتلخص بولاية الوالد على الولد في بعده الإداري، فقد أكدت النصوص على بعد آخر مرتبط بالعلاقة الوجدانية وضرورة تنميتها بالتقبيل والتصابي له وما شابه، وهو ما يؤكد عليه علماء التربية اليوم.

هذا البعد هو الذي يفسر محاولة الولد أن يتقمص أدوار أبيه في حياته.

والنصوص تدل على أن هذا المعنى جُعل للمعصوم، وأن المعصوم قام بهذا الدور، من خلال قيامه بجملة من الأفعال والأقوال، من قبيل ما بينه أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه لعثمان بن حنيف.

تلك الأفعال والأقوال عزّزت ذلك الجانب العاطفي والوجداني بين الولي والمولى عليه، بحيث جعلت الأتباع يعملون على تقمص شخصية المعصوم والسير على خطواته العملية في جوانب حياته اليومية.

وهذا المعنى من الولاية هو ما يسمى بالهداية الإيصالية، أي الأخذ بيد المولّى عليهم نحو النجاح والفلاح، أي إنها من قبيل التمرين على فعل الخير.

في قبال الهداية الإرائية والتي تتلخص بالتعليمات النظرية التامة.

أثر هذه الولاية في نفوس الأتباع:

إن القيادة الأبوية والإيصالية مهمة جداً في بناء علاقة خارج العلاقات الإملائية والإدارية والفرضية، هي علاقة عفوية طبيعية وعلاقة ودٍّ ومحبة.

وكان من أهم ما قام به المعصومون (عليهم السلام) من هداية -خارج السلطة-

ص: 361

هي تنمية هذا المعنى الوجداني، الأمر الذي أنتج علاقة وجدانية قوية بين المعصوم وبين الأتباع، علاقة وصلت إلى حد الفداء والتضحية، مما لا يمكن تفسيره على أن المعصوم مجرد ولي للتشريع أو قائد عسكري وسياسي.

ولذا فقول الموالي للمعصوم (بأبي أنت وأمي) لا يحكي عن اعتراف بالقيادة فحسب، وإنما يحكي عن علاقة وجدانية تجعل الفرد مستعداً للتضحية وفداء نفسه للمعصوم، بحيث إنه يصل إلى حد الفداء ويتساءل: أوفيت يا بن رسول الله؟(1)

وهو ما أدى إلى أن يكون الأنصار والأتباع (يستأنسون بالمنية)(2)

دون المعصوم (عليه السلام)، بل كانوا يرون في الموت دونه لذة تستوجب الفرح والسرور.(3)

ص: 362


1- في بحار الأنوار ج45 ص 22: خرج عمرو بن قرظة الأنصاري فاستأذن الحسين عليه السلام فأذن له فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء، وبالغ في خدمة سلطان السماء، حتى قتل جمعا كثيرا من حزب ابن زياد، وجمع بين سداد وجهاد، وكان لا يأتي إلى الحسين سهم إلا اتقاه بيده، ولا سيف إلا تلقاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين سوء حتى أثخن بالجراح، فالتفت إلى الحسين وقال: يا ابن رسول الله أوفيت؟ قال: نعم، أنت أمامي في الجنة، فاقرأ رسول الله مني السلام، وأعلمه أني في الأثر، فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه.
2- روي أنه قال الإمام الحسين (عليه السلام) في أصحابه: أَما وَاللهِ! لَقَدْ نَهَرْتُهُمْ وَبَلَوْتُهُمْ وَلَيْسَ فيهِمُ [ إِلاَّ ] الأْشْوَسَ الأْقْعَسَ يَسْتَأْنِسُونَ بِالْمَنِيَّةِ دُوني اسْتِئْناسَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ أُمِّهِ. [موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)- لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (عليه السلام) ص 493]
3- في اللهوف في قتلى الطفوف للسيد بن طاووس ص 57: روى أن برير بن خضير الهمداني وعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري وقفا على باب الفسطاط ليطليا بعد فجعل برير يضاحك عبد الرحمن فقال له عبد الرحمن: يا برير أتضحك ما هذه ساعة ضحك ولا باطل، فقال بريد: لقد علم قومي إنني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا وإنما أفعل ذلك استبشارا بما نصير إليه فوالله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ثم نعانق الحور العين.

ليس هذا فحسب، بل إن التعلق الوجداني والعاطفي بالمعصوم، جعل الأتباع يعملون على أن يتفننوا في الفداء لهم، وأن يضعوا أنفسهم موضع التضحية التي لا يمكن أن تصفها الكلمات، حتى أنهم كانوا يضحون بأولادهم ويرضون لهم الموت على أن يحصل في نياتهم تردد في ولاية أهل البيت (عليهم السلام).

ص: 363

ص: 364

المصادر

بعد كتاب الله تعالى العزيز:

1.أجوبة الشبهات العقائدية: محمد حسن قدردان قراملكي- ترجمة: أسعد مندي الكعبي- العتبة العباسية المقدسة- المركز الإسلامي للدراسات الإسلامية- قسم الكلام والعقيدة- مطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع- الطبعة الأولى 1437ه-/2016م.

2.الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ه-.

3.الأحكام السلطانية والولايات الدينية: علي بن محمد البغدادي الماوردي/ط: الثانية/ 1386 - 1966 م/ المطبعة: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر عباس ومحمد محمود الحلبي وشركاءهم – خلفاء.

4.الاختصاص: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

5.اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مط بعثت/ قم/ مؤسسة آل البيت/ 1404ه-.

6.اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مط بعثت/ قم/ مؤسسة آل البيت/ 1404ه-.

7.الأدب المفرد: البخاري/الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1406 - 1986 م/ الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت - لبنان

8.إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب: الميرزا جواد التبريزي/ تحقيق: اشرف

ص: 365

على طبعه محمد كاظم الخوانساري/ الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1411 - 1369 ش/ المطبعة: مؤسسة اسماعيليان/ الناشر: مؤسسة اسماعيليان - قم - ايران

9.الإرشاد: الشيخ المفيد/ ت مؤسسة آل البيت/ ط 2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

10.الإشاعة لأشراط الساعة: الشريف محمد بن رسول الحسيني البرزنجي

11.أصول الفقه: الشيخ محمد رضا المظفر/الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

12.الاعتقادات: الشيخ الصدوق/ ت عصام عبد السيّد/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

13.الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد: شيخ الطائفة الفقيه الأكبر أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي/ 385 – 460/ منشورات مكتبة جامع چهلستون – طهران/ مطبعة الخيام – قم/1400 - ه.

14.إلزام الناصب: الشيخ علي اليزدي الحائري/ تحقيق: السيّد علي عاشور.

15.الإلهيات: محاضرات الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني/ الطبعة الرابعة/ مطبعة اعتماد قم/ سنة 1417ه-.

16.الأمالي: السيّد المرتضىٰ/ ت النعساني الحلبي/ ط1/ 1325ه-/ مكتبة المرعشي/ قم.

17.الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط1/ 1417ه-/ مؤسسة البعثة.

18.الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسسة البعثة/ ط 1/ 1414ه-/ دار الثقافة/ قم.

ص: 366

19.الأمالي: الشيخ المفيد/ ت الأستادولي، علي أكبر الغفّاري/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

20.الإمام المهدي نظرة وجيزة شاملة: السيِّد حسن الشيرازي/ الناشر: رشيد/ الطبعة الأولى 1426/ المطبعة: شريعت.

21.الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط1/ 1404ه-/ مدرسة الإمام الهادي/ قم.

22.الإمامة والسياسة: ابن قتيبة الدينوري/ ت الزيني/ مؤسسة الحلبي.

23.الإمامة والسياسة: ابن قتيبة الدينوري/ ت علي شيري/ ط1/ 1413ه-/ مط أمير/ انتشارات شريف الرضي/ قم.

24.الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

25.أنساب الأشراف: البلاذري/ ت محمّد باقر المحمودي/ ط1/ 1394ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

26.أوائل المقالات: الإمام الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان ابن المعلم أبي عبد الله، العكبري، البغدادي (336 - 413 ه)/دار المفيد/ الطبعة الثانية 1414 هجرية - 1993 ميلادية/ بيروت. لبنان.

27.بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ه-/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.

28.بحوث في شرح العروة الوثقى: السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)/الطبعة الأولى/ مطبعة الآداب - النجف الأشرف/ 1391 ه - 1971 م

29.بحوث في علم الأصول: تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر للسيد محمود الشاهرودي/ الطبعة: الثالثة/ سنة الطبع: 1426 - 2005 م/ المطبعة: محمد/ الناشر: مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)

ص: 367

30.بداية الحكمة: السيد الطباطبائي/ تحقيق: عباس علي الزارعي السبزواري/ سنة الطبع: 1418/ الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

31.البداية والنهاية: ابن كثير/ ت علي شيري/ ط 1/ 1408ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

32.بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ ت كوجه باغي/ 1404ه-/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.

33.البيان في تفسير القرآن: السيد لخوئي (قدس سره)/ الطبعة: الرابعة/ سنة الطبع: 1395 - 1975 م/ الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان.

34.تاج العروس: الزبيدي/ 1414ه-/ دار الفكر/ بيروت.

35.تاريخ الخلفاء: السيوطي/ 1371ه-/ مط السعادة/ مصر.

36.تاريخ الطبري: الطبري/ ط 4/ 1403ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

37.تاريخ اليعقوبي: اليعقوبي/ دار صادر/ بيروت.

38.تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي/ ت مصطفىٰ عبد القادر عطا/ ط1/ 1417ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

39.تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ ت علي شيري/ 1415ه-/ دار الفكر/ بيروت.

40.التبيان في تفسير القرآن: شيخ الطائفة أبى جعفر محمد بن الحسن الطوسي/ الناشر: مكتب الاعلام الإسلامي/ الطبعة: الأولى/ تاريخ النشر: رمضان المبارك 1209 ه. ق/ تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي.

41.تحرير الأحكام: العلاّمة الحلّي/ ت إبراهيم البهادري/ ط1/ 1420ه-/ مط

ص: 368

اعتماد/ مؤسسة الإمام الصادق.

42.تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

43.التحقيق في كلمات القرآن الكريم: الشيخ حسن المصطفوي/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1417/ الناشر: مؤسسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي

44.الترغيب والترهيب من الحديث الشريف: عبد العظيم المنذري/ تحقيق: ضبط أحاديثه وعلق عليه: مصطفى محمد عماره/ سنة الطبع: 1408 - 1988 م/ الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان.

45.تصحيح اعتقادات الإماميّة: الشيخ المفيد/ ت حسين دركاهي/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

46.التعريفات: للمحقق الجرجاني، الطبعة الأولى، طهران.

47.تفسير الإمام العسكري: المنسوب إلىٰ الإمام العسكري (عليه السلام)/ ط1 محقَّقة/ 1409ه-/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.

48.تفسير البرهان: السيِّد هاشم البحراني/ مؤسَّسة البعثة/ قم.

49.تفسير العياشي: العياشي/ ت هاشم الرسولي المحلاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران.

50.تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي/ ت طيب الجزائري/ ط 3/ 1404ه-/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.

51.التفسير الكبير: فخر الدين الرازي/ الطبعة الثالثة.

52.تفسير الميزان: السيّد الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة

ص: 369

العلمية/ قم.

53.تفسير جوامع الجامع: الطبرسي/ ط1/ 1418ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

54.تفسير فرات الكوفي: فرات بن إبراهيم الكوفي/ ت محمّد الكاظم/ ط 1/ 1410ه-/ ت محمّد الكاظم/ مؤسسة طبع ونشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي/ طهران.

55.تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

56.تفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام): الشيخ المفيد/تحقيق: علي موسى الكعبي/ الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1414 - 1993 م/ الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان.

57.تلخيص البيان في مجازات القرآن: تصنيف الشريف الرضي/ حققه وقدم له وصنع فهارسه: محمد عبد الغني حسن/ دار إحياء الكتب العربية/ عيسى البابي الحلبي وشركاه/ القاهرة – 1955/الطبعة الأولى.

58.التمحيص: للشيخ الثقة الجليل أبي علي محمد بن همام الإسكافي من أصحاب سفراء الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه)/ المتوفى سنة 336 ه ق/ تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي (عليه السلام)/ قم المقدسة.

59.تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.

60.التنقيح في شرح المكاسب – البيع: (موسوعة الإمام الخوئي): تقرير بحث السيد الخوئي للغروي/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1425 - 2005 م/ الناشر:

ص: 370

مؤسسة إحياء آثار الأمام الخوئي قدس سره.

61.تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ ت حسن الخرسان/ ط 3/ 1364ش/ مط خورشيد/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

62.تهذيب الكمال: المزي/ ت بشّار عوّاد معروف/ ط 4/ 1406ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

63.التوحيد: الشيخ الصدوق/ ت هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرسين/ قم.

64.التوراة والإنجيل: موقع: arabicbible

65.توضيح المراد: تعليقة على شرح تجريد الاعتقاد- السيد هاشم الحسيني الطهراني- المطبعة: المصطفوي.

66.ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ ت محمّد مهدي الخرسان/ ط2/ 1368ش/ مط أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

67.جامع أحاديث الشيعة: السيد البروجردي/ سنة الطبع: 1399/ المطبعة: المطبعة العلمية – قم. جامع البيان عن تأويل القرآن لمحمد بن جرير الطبري

68.الجامع الصغير: السيوطي/ ط1/ 1401ه-/ دار الفكر/ بيروت.

69.الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي/ دار احياء التراث العربي/ بيروت – لبنان/ 1405 ه - 1985 م

70.جواهر الكلام: الشيخ الجواهري/ ت عبّاس القوجاني/ ط2/ 1365ش/ مط خورشيد/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

71.الحاكمية في الإسلام: السيد محمد مهدي الخلخالي (رحمه الله تعالى)/مجمع الفكر الاسلامي/ 1425 ه

ص: 371

72.حق اليقين: للسيد عبد الله شبَّر.

73.الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية: للشيخ فاضل الصفار- دار المحجة البيضاء- الطبعة الأولى- 1436ه-/ 2015م.

74.الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة: لصدر الدين محمد الشيرازي- ت: 1050- الطبعة: الثالثة- سنة الطبع: 1981 م- الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت – لبنان.

75.حلية الأبرار: هاشم البحراني/ ت غلام رضا البروجردي/ ط1/ 1411ه-/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

76.الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي/ ط1 كاملة محقّقة/ 1409ه-/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.

77.الخصال: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1403ه-/ جماعة المدرسين/ قم.

78.الدرّ المنثور: السيوطي/ دار المعرفة/ بيروت.

79.الدروس الشرعية: الشهيد الأوّل/ ط2/ 1417ه-/ مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.

80.دروس في علم الأصول: السيد محمد باقر الصدر/الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1406 - 1986 م/ الناشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - لبنان/ مكتبة المدرسة - بيروت - لبنان

81. دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ ت آصف فيضي/ 1383ه-/ دار المعارف/ القاهرة.

82.الدعوات: قطب الدين الراوندي/ ط1/ 1407ه-/ مط أمير/ مؤسسة

ص: 372

الإمام المهدي/ قم.

83.دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ ط1/ 1413ه-/ مؤسسة البعثة/ قم.

84.ربيع الأبرار ونصوص الأخبار: لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري: 467 ه - 538 ه/ تحقيق: عبد الأمير مهنا/ منشورات: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات/ بيروت – لبنان.

85.رجال النجاشي: النجاشي/ ط5/ 1416ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

86.رسائل الشريف المرتضى: الشريف المرتضى/ الوفاة: 436/ تحقيق: تقديم: السيد أحمد الحسيني/ إعداد: السيد مهدي الرجائي/ سنة الطبع: 1405/ المطبعة: مطبعة سيد الشهداء – قم/ الناشر: دار القرآن الكريم - قم

87. الرسائل العشر: الشيخ الطوسي/الوفاة: 460- الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

88.روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: محمد تقي المجلسي (الأول)/الوفاة: 1070/ تحقيق: نمقه وعلّق عليه وأشرف على طبعه «السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الإشتهاردي»/ الناشر: بنياد فرهنك اسلامي حاج محمد حسين كوشانپور.

89.روضة الواعظين: الفتال النيسابوري/ ت محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

90.الروضة في فضائل أمير المؤمنين: شاذان بن جبرئيل القمي/ ط1/ 1423ه-.

91.سبل الهدىٰ والرشاد: الصالحي الشامي/ ط 1/ 1414ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

92.سنن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ ت محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/

ص: 373

بيروت.

93.سنن أبي داود: ابن الأشعث السجستاني/ ت محمّد اللحّام/ ط1/ 1410ه-/ دار الفكر/ بيروت.

94.سنن الترمذي: الترمذي/ ت عبد الوهّاب عبد اللطيف/ ط2/ 1403ه-/ دار الفكر/ بيروت.

95.سنن الدارمي: عبد الله بن بهرام الدارمي/ 1349ه-/ مط الاعتدال/ دمشق.

96.سنن النسائي: النسائي/ ط 1/ 1348ه-/ دار الفكر/ بيروت.

97.سير أعلام النبلاء: الذهبي/ ت حسين الأسد/ ط9/ 1413ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

98.الشافي في الإمامة: الشريف المرتضىٰ/ ط 2/ 1410ه-/ مؤسّسة إسماعيليان/ قم.

99.شجرة طوبىٰ: الحائري/ ط5/ 1385ه-/ المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

100.شرح أصول الكافي: المازندراني/ ت الشعراني/ ط1/ 1421ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

101.شرح الأخبار: القاضي النعمان المغربي/ ت محمّد الجلالي/ ط2/ 1414ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

102.شرح الأسماء الحسنى: حاج ملا هادي السبزواري/ الوفاة: 1289/ الناشر: منشورات مكتبة بصيرتي - قم – إيران.

103.شرح المقاصد في علم الكلام: التفتازاني/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1401 - 1981م/ المطبعة: باكستان - دار المعارف النعمانية/ الناشر: دار المعارف

ص: 374

النعمانية.

104.شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط1/ 1378ه-/ دار إحياء الكتب العربية/ بيروت.

105.شواهد التنزيل: الحاكم الحسكاني/ ت محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1411ه-/ مجمع إحياء الثقافة.

106.الشيعة الفرقة الناجية: الحاج سعيد أبو معاش/ مؤسسة السيّدة المعصومة (عليها السلام)/ المطبعة: ثامن الحجج (عليه السلام)/ الطبعة الأولى 1428 ه

107.الصحاح: الجوهري/ ت أحمد عبد الغفور العطّار/ ط4/ 1407ه-/ دار العلم للملايين/ بيروت.

108.صحيح ابن حبان: ابن حبان/ ت الأرنؤوط/ ط 2/ 1414ه-/ مؤسسة الرسالة.

109.صحيح البخاري: البخاري/ 1401ه-/ دار الفكر/ بيروت.

110.صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.

111.الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ت محمّد باقر الأبطحي/ ط1/ 1411ه-/ مط نمونة/ مؤسسة الإمام المهدي، مؤسسة الأنصاريان/ قم.

112.صراط الحق في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية: الشيخ محمد آصف المحسني/الناشر: ذوي القربى/ الطبعة الأولى/1428ه-/مطبعة: ستاره.

113.صراط الحق في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية: للشيخ محمد آصف المحسني/الجزء الرابع/ الناشر: سلسلة الذهب 1395 ش إيران مطبعة ثامن.

114.الصراط المستقيم: علي بن يونس العاملي/ ت محمّد باقر البهبودي/ ط1/ 1384ه-/ مط الحيدري/ المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

ص: 375

115.صراط النجاة: تعليق الميرزا التبريزي علىٰ منهاج الصالحين للسيّد الخوئي/ ط 1/ 1416ه-/ دفتر نشر برگزيده.

116.الصواعق المحرقة: ابن حجر الهيتمي/ ط1/ 1997م/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

117.الطبقات الكبرىٰ: محمّد بن سعد/ دار صادر/ بيروت.

118.الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: للسيد ابن طاووس/ ط1/ 1399ه-/ مط الخيام/ قم.

119.عدّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ ت أحمد الموحّدي القمي/ مكتبة وجداني/ قم.

120.العدة في أصول الفقه (عدة الأصول) (ط.ج): الشيخ الطوسي/ تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: ذوالحجة 1417 - 1376 ش/ المطبعة: ستاره - قم

121.عقائد الإمامية: محمّد رضا المظفّر/ انتشارات أنصاريان/ قم.

122.العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت (عليه السلام): الشيخ السبحاني/ تحقيق: نقل إلى العربية: جعفر الهادي/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1419 - 1998 م/ المطبعة: اعتماد – قم/الناشر: مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام).

123.علل الدارقطني: الدارقطني/ ت محفوظ الرحمن زين الله السلفي/ ط1/ 1405ه-/ دار طيبة/ الرياض.

124.علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه-/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

125.علم النفس الفلسفي: الشيخ غلام رضا الفياضي: تقرير: السيد جعفر الحكيم/ الطبعة الأولى سنة 2013م.

ص: 376

126.على ضفاف الانتظار: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي/ تقديم: مركز القمر للإعلام الرقمي/الطبعة الأولى/1438ه-.

127.عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ ت مجتبىٰ العراقي/ ط1/ 1403ه-/ مط سيّد الشهداء/ قم.

128.العين: الخليل الفراهيدي/ ط2/ 1409ه-/ مؤسسة دار الهجرة.

129.عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

130.عيون الحكم والمواعظ: علي الليثي الواسطي/ ت حسين البيرجندي/ ط1/ دار الحديث.

131.الغدير: الشيخ الأميني/ ط4/ 1397ه-/ دار الكتاب العربي/ بيروت.

132.الغيبة: الشيخ الطوسي/ ت عبد الله الطهراني، علي أحمد ناصح/ ط1/ 1411ه-/ مط بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

133.الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط1/ 1422ه-/ مط مهر/ أنوار الهدىٰ.

134.الفتاوى الكبرى: ابن تيمية/ الوفاة: 728/ تحقيق: محمد عبد القادر عطا// مصطفى عبد القادر عطا/الطبعة: الأولى/سنة الطبع: 1408 - 1987 م/ الناشر: دار الكتب العلمية

135.الفتاوى الميسرة: السيد السيستاني (دام ظله) الطبعة: الثالثة/ سنة الطبع: 1417 – 1997م/ المطبعة: مطبعة الفائق الملونة.

136.فتح الباري: ابن حجر/ ط2/ دار المعرفة/ بيروت.

137.الفصول المختارة: الشيخ المفيد/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

ص: 377

138.الفصول المهمّة: ابن الصبّاغ/ ت سامي الغريري/ ط1/ 1422ه-/ مط سرور/ دار الحديث.

139.فضائل الخمسة من الصحاح الستة: السيد مرتضى الحسيني الفيروزآبادي/ الوفاة: 1410/الطبعة: الثالثة/سنة الطبع: 1393 - 1973 م/ الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

140. الفضائل: شاذان بن جبرئيل القمي/ 1381ه-/ منشورات المطبعة الحيدرية ومكتبتها/ النجف الأشرف.

141.فقه الرضا: علي بن بابويه/ ط1/ 1406ه-/ المؤتمر العالمي للإمام الرضا/ مشهد.

142.فقه الصادق (عليه السلام): السيد محمد صادق الحسيني الروحاني/ مدرسة الإمام الصادق عليه السلام/الطبعة: الثالثة - رجب 1412/المطبعة: العلمية

143.فلسفتنا: السيد محمد باقر الصدر/الطبعة: الثالثة/سنة الطبع: 1425 - 2004م/المطبعة: الأمير/الناشر: دار الكتاب الإسلامي

144. القاموس المحيط: الفيروزآبادي.

145.قرب الإسناد: الحميري القمي/ ط1/ 1413ه-/ مط مهر/ مؤسسة آل البيت/ قم.

146.قضاء حقوق المؤمنين: الحسن بن طاهر الصوري/الوفاة: ق 6/تحقيق: حامد الخفاف/الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث

147. الكافي: الشيخ الكليني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط5/ 1363ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

148.القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد: السيد المرعشي، الوفاة : 1411ه-، الطبعة

ص: 378

: الأولى، سنة الطبع : 1422 - 1380 ش - 2001 م، المطبعة : ستاره، الناشر : مكتبة آية الله العظمى السيّد المرعشي النجفي قدس سره - قم المقدسة.

149.الكامل في التاريخ: ابن الأثير/ 1386ه-/ دار الصادر/ بيروت.

150.كتاب الزهد: حسين بن سعيد الكوفي/ 1399ه-/ مط العلمية/ قم.

151.الكتاب المقدس: الصادر عن مجمع الكنائس الشرقية- الطبعة: الثانية- سنة الطبع: تشرين الثاني 1988- للناشر: دار المشرق - بيروت – لبنان.

152.كتاب المكاسب والبيع: تقرير بحث النائيني للآملي/ الوفاة: 1355/الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

153. كشف الخفاء: العجلوني/ ط3/ 1408ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

154.كشف الغمّة: ابن أبي الفتح الأربلي/ ط2/ 1405ه-/ دار الأضواء/ بيروت.

155.كشف القناع: البهوتي/ ط1/ 1418ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

156.كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: العلامة الحلي قدس سره/صححه وقدم له وعلق عليه: آية الله الشيخ حسن حسن زادة الآملي/ مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

157.كفاية الأثر: الخزّاز القمي/ ت عبد اللطيف الكوهكمري الخوئي/ 1401ه-/ مط الخيام/ انتشارات بيدار.

158.الكلام الإسلامي المعاصر: د. الشيخ عبد الحسين خسروبناه/ ترجمة محمد حسين الواسطي/مطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع- الطبعة الأولى سنة 1438ه-/ 2016م.

159.كمال الدين: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفّاري/ 1405ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

ص: 379

160.كنز العرفان في فقه القرآن: المقداد السيوري/ الوفاة: 826/ تحقيق: علق عليه المحقق البارع حجة الاسلام الشيخ محمد باقر (شريف زاده) وأشرف على تصحيحه واخراج أحاديثه محمد باقر البهبودي/ سنة الطبع: 1384 - 1343 ش/ المطبعة: حيدري – طهران/ الناشر: المكتبة الرضوية - طهران

161.كنز العمّال: المتّقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

162.كنز الفوائد: أبو الفتح الكراجكي/ ط2/ 1369ش/ مط غدير/ مكتبة المصطفوي/ قم.

163.لسان العرب: ابن منظور/ 1405ه-/ نشر أدب الحوزة/ قم.

164.اللهوف في قتلىٰ الطفوف: ابن طاووس/ ط1/ 1417ه-/ مط مهر/ أنوار الهدىٰ/ قم.

165.مائة منقبة: ابن شاذان/ ت الأبطحي/ ط1/ 1407ه-/ مط أمير/ قم.

166.المجازات النبوية: الشريف الرضي/ ت طه محمّد الزيتي/ منشورات مكتبة بصيرتي/ قم.

167.مجمع البحرين: الشيخ الطريحي/ ت أحمد الحسيني/ ط2/ 1408ه-/ مكتب نشر الثقافة الإسلاميّة.

168.مجمع الزوائد: الهيثمي/ 1408ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

169.المحتضر: حسن بن سليمان الحلّي/ 1424ه-/ انتشارات مكتبة الحيدرية.

170.المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: ابن عطية الأندلسي/الوفاة: 546/ تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1413 - 1993م/ المطبعة: لبنان - دار الكتب العلمية/الناشر: دار الكتب العلمية

ص: 380

171.مختار الصحاح: المؤلف: محمد بن أبي بكر الرازي/الوفاة: 721/تحقيق: ضبط وتصحيح: أحمد شمس الدين/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1415 - 1994 م/الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان

172.مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط1/ 1370ه-/ منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

173.مرآة العقول: العلاَّمة المجلسي/ ط2/ 1404ه-/ دار الكتب الإسلاميّة.

174.مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة الكبرى: الشيخ جاسم الوائلي/ تقديم: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام)/الطبعة الأولى 1331ه-.

175.مروج الذهب: المسعودي/ ط2/ 1404ه-/ منشورات دار الهجرة/ قم.

176.مسالك الأفهام: الشهيد الثاني/ ط1/ 1413ه-/ مط بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

177.المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

178.مستطرفات السرائر: ابن إدريس الحلّي/ ط 2/ 1411ه-/ مؤسَّسة النش-ر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ قم.

179.مسكن الفؤاد: الشهيد الثاني/ ط1/ 1407ه-/ مط مهر/ مؤسسة آل البيت/ قم.

180.مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

181.مشارق أنوار اليقين: الحافظ رجب البرسي/ ت علي عاشور/ ط1/ 1419ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

182.مصباح الشريعة: المنسوب للإمام الصادق/ ط1/ 1400ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

ص: 381

183.مصباح الفقاهة: السيد الخوئي (قدس سره)/الوفاة: 1413/الطبعة: الأولى المحققة/ المطبعة: العلمية – ق/لناشر: مكتبة الداوري - قم

184.مصباح المتهجّد: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1411ه-/ مؤسسة فقه الشيعة/ بيروت.

185.مصباح الهدى في شرح عروة الوثقى: الشيخ محمد تقي الآملي/الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1377 - 1337 ش/ المطبعة: فردوسي

186.ينابيع المودَّة: القندوزي/ ت علي جمال أشرف الحسيني/ ط1/ 1416ه-/ دار الأسوة.

187.المصباح: الكفعمي/ ط3/ 1403ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

188.المصنّف: ابن أبي شيبة/ ت سعيد اللحّام/ ط1/ 1409ه-/ دار الفكر/ بيروت.

189.معارج الأصول: المحقّق الحلّي/ ط1/ 1403ه-/ مؤسسة آل البيت/ قم.

190.معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1379ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

191.المعجم الأوسط: الطبراني/ 1415ه-/ دار الحرمين.

192.المعجم الكبير: الطبراني/ ت حمدي عبد المجيد السلفي/ ط2 مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.

193.معجم مقاييس اللغة: أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)/ الوفاة: 395/ تحقيق: عبد السلام محمد هارون/سنة الطبع: 1404/ المطبعة: مكتبة الإعلام الإسلامي/ الناشر: مكتبة الإعلام الإسلامي

194.المحاسن: البرقي/ ت جلال الدين الحسيني المحدّث/ 1370ه-/ دار الكتب

ص: 382

الإسلاميّة/ طهران.

195.معرفة المعاد: آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني- الطبعة الأولى- دار المحجة البيضاء- 1418ه-.

196.المغازي: الواقدي/ ت الدكتور مارسدن جونس/ 1405ه-/ نشر دانش إسلامي.

197.مفاهيم القرآن: الشيخ جعفر السبحاني: مؤسسة الإمام الصادق/ إيران/ قم.

198.مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني/تحقيق: صفوان عدنان داوودي/الطبعة: الثانية/سنة الطبع: 1427/المطبعة: سليمانزاده/الناشر: طليعة النور.

199.مقاتل الطالبين: أبو الفرج الأصفهاني/ ت كاظم المظفّر/ ط2/ 1385ه-/ المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

200.مقارنة الأديان: الدكتور أحمد الشلبي- الطبعة: الثالثة- سنة الطبع: 1973 م- الناشر: مكتبة النهضة المصرية – القاهرة.

201.مقتضب الأثر: ابن عيّاش الجوهري/ مط العلمية/ مكتبة الطباطبائي/ قم.

202.مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط6/ 1392ه-/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

203.من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ ط2/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

204.مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه-/ المكتبة الحيدرية/ النجف.

205.منتهى المقال في احوال الرجال: الشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني/الوفاة:

ص: 383

1216/الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: ربيع الأول 1416/المطبعة: ستاره – قم/الناشر: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التّراث – قم.

206.المنطق: الشيخ محمّد رضا المظفَّر/ مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم.

207.منهاج الصالحين: للسيد السيستاني/الطبعة التاسعة عشرة 1439ه-/2018م/ دار المؤرخ العربي.

208.المنهج الجديد في تعليم الفلسفة: الأستاذ الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي/ المترجم: محمد عبد المنعم الخاقاني/ الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة/ الطبعة الأولى 1409 ه-.ق.

209.مهج الدعوات ومنهج العبادات: ابن طاووس/ كتابخانه سنائي.

210.المهذَّب البارع: ابن فهد الحلّي/ ت مجتبىٰ العراقي/ 1407ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

211.مواجهة الإلحاد في منطلقاته المعرفية: الشيخ حيدر السندي الإحسائي

212.مواقف الشيعة: الأحمدي الميانجي/ ط1/ 1416ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي.

213.المواقف: الإيجي/ ط1/ 1417ه-/ دار الجيل/ بيروت.

214.موسوعة العقائد الإسلامية: للشيخ الريشهري/الطبعة الثالثة/ 1386/ مركز بحوث دار الحديث.

215.موسوعة كلمات الإمام الحسين: لجنة الحديث في معهد باقر العلوم/ ط3/ 1416ه-/ دار المعروف.

216.النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر: المؤلف: المقداد السيوري/

ص: 384

تحقيق: شرح: المقداد السيوري (وفاة 826ه-)/ الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1417 - 1996 م/ الناشر: دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان

217. النظرية الحقوقية في الإسلام: للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي/ترجمة: وليد مؤمن/الناشر: دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع/ الطبعة الثانية- بيروت 1431ه-/ 2010م.

218.نفحات القرآن: سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/الطبعة الأولى 1384ش/1426ه-/المطبعة: سليمانزاده/ الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب/إيران/قم/ شهدا/فرع 22.

219.النكت الاعتقادية: الشيخ المفيد/تحقيق: رضا المختاري/ الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1414 - 1993 م/ الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان

220. نهاية الحكمة: السيد محمد حسين الطباطبائي/تحقيق: تصحيح وتعليق: الشيخ عباس علي الزارعي السبزواري/الطبعة: الرابعة عشرة المنقحة/ سنة الطبع: 1417/ لمطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي/ لناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

221.النهاية: ابن الأثير/ ت طاهر أحمد الزاوي، محمود محمّد الطناحي/ ط4/1364ش/مؤسسة إسماعيليان/ قم.

222.نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412ه-/ مط النهضة/ دار الذخائر/ قم.

223.الهدى والضلال في القرآن الكريم: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي/ تقديم:

ص: 385

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية/ الطبعة الأولى: 1438ه-.

224.وسائل الشيعة: الحرّ العاملي/ ط2/ 1414ه-/ مط مهر/ مؤسسة آل البيت/ قم.

225.وفيات الأعيان: ابن خلكان/ ت إحسان عبّاس/ دار الثقافة/ بيروت.

ص: 386

المحتويات

النقطة الأولى: معنى المعاد وثمرة الإيمان به 7

الثمرة الأولى: تحديد السلوك بالحسن. 8

الثمرة الثانية: توفير الحافز للصبر على مصاعب الدنيا. 8

النقطة الثانية: بعض أدلة المعاد 13

الدليل الأول: الدليل القرآني. 13

الدليل الثاني: روايات المعصومين (علیهم السلام) 41

الدليل الثالث: حكم العقل. 16

النقطة الثالثة: الأقوال في المعاد. 17

الأول: الماديون. 17

الثالث: النفعيون. 19

الرابع: المعاد الروحاني (دون الجسماني). 20

الرابع: المعاد الجسماني والروحاني. 21

النقطة الرابعة: النفخ في الصور والحشر 23

من هو المستثنى في ﴿إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ﴾؟ 25

الأمر الأول: الإشارة إلى شمول القدرة ا لهلإية. 25

الأمر الثاني: مجموعة خاصة من المخلوقات. 25

النقطة الخامسة: بعض خصائص يوم القيامة. 29

الخصيصة الأولى: الدوام والثبات. 29

الخصيصة الثانية: بروز إدراك جميع الموجودات. 30

ص: 387

الخصيصة الثالثة: تجسّم الأعمال 32

النقطة السادسة: الحساب 37

مميزات الحساب الهلإي 38

النقطة السابعة: الخلود 43

السؤال الأول: هل يتنافى خلود الممكن مع بقاء الله تعالى؟ 44

السؤال الثاني: ما هو الوجه في تعليق الخلود على المشيئة؟ 46

السؤال الثالث: ألا يحصل مللٌ في الجنة؟! 48

السؤال الرابع: كيف يتناسب العذاب الدائم مع الذنب المؤقت؟ 53

السؤال الخامس: هل الشفاعة تشجع على الذنب؟ 58

الثمرة الأولى: بوابة الأمل. 64

الثمرة الثانية: التقرب من الشفعاء. 64

بحثان تكميليان 67

البحث التكميلي الأول: موضع الاجتهاد في منظومة التشريع 69

النقطة الأولى: مصادر التشريع الإسلامي والعلاقة بينها 71

1 - القرآن الكريم: 17

2 - سُنَّة النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) 73

3 - الإجماع: 74

4 - العقل: 75

النقطة الثانية: العلاقة بين مصادر التشريع 77

النقطة الثالثة: معنى الاجتهاد 83

المعنى الأوَّل: الاجتهاد مقابل النصِّ. 83

المعنى الثاني: الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استخراج الحكم... 84

ص: 388

النقطة الرابعة: 87

المشتركات والفوارق بين الاجتهاد الشيعي والسني 87

الأمر الثاني: موقعية الظن. 89

دليل روائي: 91

الثابت الأول: انحصار حق التشريع بالله عزوجل 94

الثابت الثاني: محورية الوحي في تشريعات النبي.(صلی الله علیه و آله) 94

الثابت الثالث: البيان القرآني التام لكل شيء. 96

الثابت الرابع: إلقاء البيان في صدر النبي وأولي الأمر(صلوات الله عليهم). 96

الثابت الخامس: ضرورة طاعة الله تعالى والرسول (صلی الله علیه و آله) وأولي الأمر 98

الثابت السادس: الفقاهة في الدين. 99

النقطة الخامسة: حدود الاجتهاد الشيعي 101

الحد الأول: حفظ الفاصلة بين العصمة والاجتهاد. 102

الأثر الأول: الفرق في الحجية: 103

الأثر الثاني: التعددية وعدمها: 104

الأثر الثالث: التوازن في التعامل مع المتخصص، والتسليم... 106

الحد الثاني: الاجتهاد فهم لا تشريع، وفي طول النص... 108

تصوير الطولية: 108

المرتبة الأولى: العلم ا لهلإي. 109

المرتبة الثانية: العلم الإنساني المعصوم. 109

المرتبة الثالثة: العلم الإنساني التخصصي: 110

المرتبة الرابعة: العلم العام. 110

التنبيه الأول: المغالطة في إمكان الارتباط المباشر بالمعصوم (علیه السلام) 111

التنبيه الثاني: تحليل فكرة القداسة للمعصوم(علیه السلام) 112

ص: 389

النقطة الأولى: العلم الخاص (الوحياني). 112

النقطة الثانية: توافق القول والفعل والتقرير في المعصوم(علیه السلام) 112

الحد الثالث: فرصة الاجتهاد نسبية لا مطلقة. 115

الحد الرابع: حفظ الفاصلة بين لغة التخصص ولغة الثقافة العامة. 117

سمات لغة التخصص: 119

الحد الخامس: العدالة والتخصص. 123

النقطة الأولى: العلاقة العضوية بين العلم والعمل. 123

الخطوة الأولى: 123

الخطوة الثانية: العلاقة التبادلية بين العلم والعمل. 125

الطريقة الأولى: مثالان عرفيان لبيان العلاقة بين العلم والعمل. 125

الطريقة الثانية: التحليل الفلسفي للعلاقة بين العلم والعمل. 126

النقطة الثانية: ضرورة النزاهة السلوكية. 129

المستوى الأول: عصمة النبي والوصي. 131

المستوى الثاني: الفقاهة والعدالة في المرجع الديني. 131

المستوى الثالث: التخصص والنزاهة. 132

حكمة تنوع الشرط العملي بتنوع الشرط العلمي. 133

الحد السادس: حجية اللغة المشتركة دون الخاصة. 134

الحد السابع: نيابة عامة لا خاصة. 140

العنصر الأول: أنه لغة خاصة لا عامة. 141

العنصر الثاني: الأدلة الدالة على انقطاع النيابة الخاصة... 143

النقطة السادسة:ضرورة الرجوع إلى الفقهاء في زمن الغيبة الكبرى 149

الخطوة الأولى: التعريف بالتقليد عموماً. 149

أقسام التقليد: 150

ص: 390

الخطوة الثانية: أين يقع التقليد؟ 153

الخطوة الثالثة: أدلة لزوم التقليد. 155

الدليل الأول: انحصار طريق تحصيل الحكم الشرعي بالتقليد. 155

الدليل الثاني: السيرة العقلائية على رجوع الجاهل إلى العالم. 158

الدليل الثالث: سيرة المتشرعة. 160

الخطوة الرابعة: جذور المرجعية (بمعنى الرجوع إلى العلماء في... 161

المرحلة الأُولى: زمن الغيبة الصغرى: تعيين السفراء الخاصّين: 165

المرحلة الثانية: في زمن الغيبة الكبرى: تعيين الفقهاء بصفاتهم: 165

الخطوة الخامسة: بعض الإشكالات على التقليد والجواب عنها. 166

البحث التكميلي الثاني: 181

الغلو، حقيقته، ومصاديقه 181

الخطوة الأولى: الغلو لغة واصطلاحاً 183

1/الغلو لغة: 183

2/أما الغلو اصطلاحاً (في باب علم الكلام): 184

الخطوة الثانية: الغلو في النصوص الدينية. 187

ومن النصوص الدالة على ذلك التالي: 188

الخطوة الثالثة: الغلو في كلمات بعض الأعلام. 199

الكلمة الأولى: للشيخ المفيد (336-413ه) 199

الكلمة الثانية: للشيخ محمد حسن النجفي الجواهري 200

الكلمة الثالثة: للشيخ المجلسي ( توفي 1111 ه) 201

ص: 391

الخطوة الرابعة: تفصيل بعض دعاوى الغلو 209

المقالة الأولى: أنهم عليهم السلام آلهة. 211

المقالة الثانية: أنهم عليهم السلام أنبياء. 213

المقالة الثالثة: التفويض. 215

المقالة الرابعة: أنهم يعلمون الغيب. 217

المقالة الخامسة: تناسخ أرواحهم عليهم السلام. 219

بحث إجمالي في التناسخ 222

التناسخ لغة: 223

التناسخ اصطلاحاً: 223

المعنى الأول: التناسخ الملكوتي: 223

النحو الأول: تناسخ ملكوتي مع انقلاب البدن المادّي. 224

النحو الثاني: تناسخ ملكوتي من دون انقلاب في ظاهر البدن. 224

المعنى الثاني: التناسخ المُلْكي: 225

الآراء في التناسخ الملكي: 227

أدلة بطلان التناسخ: 228

المقالة السادسة: الإيحاء إليهم عليهم السلام. 233

الأمر الأول: بعض النصوص الدالة على الإيحاء لأهل البيت.(علیهم السلام) 233

الأمر الثاني: أنواع الوحي، ومعناه في أهل البيت.(علیهم السلام) 236

الاستعمال الأول: الوحي الرسالي: 236

الاستعمال الثاني: الوحي التكويني. 237

الاستعمال الثالث: الوحي الغريزي. 237

الاستعمال الرابع: الوحي بمعنى التحديث، أو ا لهلإام والإلقاء. 238

ص: 392

المقالة السابعة: أفضلية أهل البيت عليهم السلام على الأنبياء. 245

الأمر الأول: واقعية التفاضل في الحياة. 245

الأمر الثاني: أفضلية منصب الإمامة على منصب النبوة. 247

الأمر الثالث: أفضلية أهل البيت (علیهم السلام) على سائر الأنبياء ... 249

الدليل الأول: ثبوت الإمامة ا لهلإية لهم.(علیهم السلام) 249

الدليل الثاني: أن أمير المؤمنين هو نفس رسول الله.(صلی الله علیه و آله) 250

المقدمة الأولى: أن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) هو أفضل ما خلق الله تبارك ... 250

المقدمة الثانية: أن أمير المؤمنين هو نفس رسول الله.(صلی الله علیه و آله) 252

تكملة: في ذكر بعض النصوص الأخرى الدالة على... 254

الدليل الثالث: روايات أخذ الإقرار من الأنبياء .... 257

الدليل الرابع: صلاة النبي عيسى خلف الإمام المهدي 259 .

ومن روايات العامة: 259

تكملة: نصوص أخرى تدل على أفضليتهم.(علیهم السلام) 260

الأمر الرابع: أفضلية الزهراء (صلوات الله عليها) على جميع من... 266

الدليل الأول: ما دلّ على أنّها كفؤ لأمير المؤمنين 266 .

الدليل الثاني: ما دلّ على أنّها بضعة من رسول الله.(صلی الله علیه و آله) 267

الدليل الثالث: ما يدل على حجيتها على أولادها... 268

الدليل الرابع: أنها واسطة في الفيض، وعلة متوسطة للخلق. 269

الأمر الخامس: أفضلية الإمامين الحسنين 270 .

تنبيه: من هو الأفضل: الحسن أو الحسين 271 ؟

الأمر السادس: أفضلية الإمام المهدي على الأئمة من ولد ... 272

تنبيه: ما يكون فيه أهل البيت (علیهم السلام) سواء. 274

ص: 393

المقالة الثامنة: العصمة. 279

المقالة التاسعة: العلم الخاص. 281

المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة عليهم السلام. 283

النقطة الأولى: معنى الولاية التكوينية: 283

الكلمة الأولى: للسيد الخوئي 284 :

الكلمة الثانية: للسيد الروحاني (قُدّس سره): 285

الكلمة الثالثة: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله): 286

النقطة الثانية: مراتب الولاية التكوينية: 287

الطريقة الأولى: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله تعالى): 287

الطريقة الثانية: 289

المرتبة الأولى: معرفة الملكوت. 290

المرتبة الثانية: السلطة على النفس. 290

المرتبة الثالثة: السيطرة على البدن. 291

المرتبة الرابعة: التصرف في عالم الوجود. 291

النقطة الثالثة: مؤهلات الولاية التكوينية: 291

المؤهل الأول: الإذن ا لهلإي: 292

المؤهل الثاني: العلم الخاص: 293

النقطة الرابعة: مناشئ وجذور الولاية التكوينية: 294

أولاً: الإذن ا لهلإي الخاص. 294

ثانياً: العلم الخاص. 295

ثالثاً: معرفة الاسم الأعظم. 296

بحث استطرادي: معنى الاسم الأعظم. 297

أولاً: معنى الاسم الأعظم في النصوص: 297

ص: 394

الطائفة الأولى: أن الاسم الأعظم هي البسملة. 297

الطائفة الثانية: مجموعة من الآيات. 298

الطائفة الثالثة: نُصوصٌ مِنَ الأَدعِيَةِ. 300

الطائفة الرابعة: كُلُّ اسم مِن أَسماءِ اللهِ. 302

ثانياً: ذكر الأقوال في معنى الاسم الأعظم. 303

ثالثاً: النصوص الدالة على من كان عنده الاسم الأعظم: 307

تنبيه: في خطورة التسافل بعد التكامل: 309

النقطة الخامسة: أدلة ثبوت الولاية التكوينية لأهل البيت.(علیهم السلام) 312

الوجه الأول: أن عندهم (علیهم السلام) الاسم الأعظم. 312

الوجه الثاني: أنهم (علیهم السلام) أفضل من الأنبياء الذين.... 312

الوجه الثالث: أنهم (علیهم السلام) ورثة الأنبياء. 313

الوجه الرابع: النصوص المستفيضة بل المتواترة. 315

الوجه الخامس: قاعدة اللطف. 319

المقالة الحادية عشرة: الولاية التشريعية لأهل البيت عليهم السلام 325

الأمر الثاني: ضرورة المؤهلات الخاصة للولاية التشريعية. 326

ولايات المعصوم التشريعية 328

الولاية الأولى: ولاية التبليغ وبيان الحكم الشرعي. 328

الولاية الثانية: ولاية تشريع الأحكام (أو ولاية التفويض) 329

الفرع الأول: من تشريعات النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) 329

الفرع الثاني: تشريعات الأئمَّة (علیهم السلام) 333

من نصوص التفويض التشريعي إليهم(علیهم السلام) 333

الولاية الثالثة: ولاية القضاء. 342

النقطة الأولى: تعريف السلطة القضائية. 342

ص: 395

النقطة الثانية: ضرورة السلطة القضائية. 343

النقطة الثالثة: هل هذه الولاية مختصة بالمعصوم(علیه السلام)؟ 345

المستوى الأول: الخاص بمعنى المستأثر. 345

المستوى الثاني: الخاص بمعنى الأصل. 345

والنصوص القرآنية تشهد بذلك أيضاً: 346

الولاية الرابعة: ولاية إجراء الحدود. 347

الولاية الخامسة: ولاية الطاعة للأوامر الشرعية. 349

الوجه الأول: أن الرسول وسيط بين الله تعالى وبين البشر. 350

الوجه الثاني: أن الرسول مخبر معصوم عن الواقع. 351

الولاية السادسة: ولاية الطاعة في الأوامر العرفيّة. 353

الولاية السابعة: ولاية التصرف في الأموال والنفوس. 353

الولاية الثامنة: ولاية الإذن أو النظارة ... 356

الولاية التاسعة: ولاية الأمر أو ولاية الحكومة. 356

الولاية العاشرة: ولاية الإمامة أو الهداية الإيصالية أو القيادة المعنوية. 358

أثر هذه الولاية في نفوس الأتباع: 361

المصادر 365

ص: 396

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.