شمس الأصول

هویة الکتاب

شَمسُ الأُصُول

آیة الله العظمی الحاج الشیخ شمس الدين الواعظي

دار المحجة البيضاء

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته، سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ص: 5

ص: 6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الواحد الأحد االفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

والصلاة والسلام على النبي الأكرم والرسول الأعظم محمدٍ وآله الهداة المهديّين الطاهرين من كل رجس، المنزّهين من كلّ عيب.

وبعد:

فقد كان من المقرّر إكمال هذه الدورة الأصولية تقريراً لأبحاثنا بقلم حجة الاسلام السيد مجتبى الشاهرودي (دام عزه)، وبعد تغيير النظام في العراق منّ الله - تبارك وتعالى - علينا بالعودة الى بلدنا المحروس بالله، ومجاورة إمامنا ومولانا أمير المؤمنين (سلام الله عليه) وعدم مجيء المقرّر المشار إليه آنفاً الى العراق، ارتأينا إعادة كتابة هذه الدورة من جديد مبتدئين بالمجلّد الأوّل، حيث حذفنا بعضالمطالب، وأضفنا الكثير، وأتممنا هذه الدورة الاصولية الموسومة ب-«شمس الأصول» بتوفيق من الله تعالى وبحوله وقوّته، وببركة جوار باب مدينة العلم(علیه السلام).

وقد اعتمدت غالباً في العرض والمناقشة على مطالب وآراء اثنين من أساتذتي هما: وحيد عصره وفريد دهره آية الله العظمى السيد البجنوردي، ومرجع الطائفة وزعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى السيد الخوئي (قدس الله أسرارهما).

ص: 7

وسيجد الباحث الكريم آراء قسم آخر من فطاحل العلماء مدرجة ضمن المتن، وذلك لسهولة التعرّف والاطّلاع عليها. وقد ألزمنا أنفسنا بذكر الآراء بالنص من مصادرها في الغالب.

ختاماً نشكر الله على جميع نعمه وآلائه، ونحمده على أن وفقنا الى خدمة العلم والعلماء، وجعلنا من حفظة هذا التراث الذي ورثناه عمّن ورثه عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم اجمعين، وأن يوفق جميع المشتغلين في خدمة الدين والمذهب إنه سميع مجيب.

شمس الدين الواعظي

13/ رجب المرجب/ 1425

ص: 8

مقدّمة: وفيها اُمور

اشارة

وقبل الخوض في تحقيق المسائل المبحوث عنها في علم الاُصول، فلابدّ من التعرّض لبيان اُمورٍ ترتبط بها وتمهّد لها:

الأمر الأوّل: في بيان معنى مصطلح «العلم»

كثيراً ما يطلق لفظ «العلم» ويراد به أحد معنيين:المعنى الأوّل: وهو معناه الحقيقيّ، وهو: انكشاف الواقع للنفس، وهذا هو الاعتبار الذي لاحظه المنطقيّ في تقسيمه له إلى: التصوّر والتصديق.

والثاني: القواعد التي تمهّد لغرض تحصيهل الفوائد المترتّبة عليها؛ فإنّها أيضاً تسمّى: علماً؛ إذ يقال - مثلاً -: علم النحو، وعلم الصرف، وعلم الاُصول، و... ويقال أيضاً: فلان يعرف علم النحو أو لا يعرفه. فيكون العلم بهذا المعنى الثاني متعلّقاً للعلم بالمعنى الأوّل، المقابل للجهل.

ص: 9

ثمّ إنّ العلم بالمعنى الأوّل، تارةً يكون بمعنى: (اليقين)، فقد يتعدّى إلى مفعولين، واُخرى يكون بمعنى: (المعرفة)، فيكون متعدّياً إلى مفعولٍ واحد فقط.

وسيأتي لاحقاً أنّ علم الاُصول هو: العلم بالقواعد الممهّدة - بفتح الهاء - لاستنباط الأحكام الشرعيّة، والتي هي قضايا جعليّة اعتباريّة، كما يأتي توضيحه، إن شاء الله تعالى.

الأمر الثاني: في رتبة هذا العلم

أعني: رتبته بالنسبة إلى سائر العلوم، وأنّه متقدّم عليها أو متأخّر عنها.

والكلام تارةً بالقياس إلى علم الكلام، واُخرى بالنسبة إلى سائر العلوم.

أمّا بالنسبة الى سائر العلوم:

فلا يخفى: أنّ العلوم ليست كلّها في عرضٍ واحد، وفي نفس المرتبة، بل ربّ علم يكون مقدّمة لعلم آخر، كما هو الحال في علم الفقه بالنسبة إلى علم الاُصول؛ فإنّ من الواضحات التي لا تكاد تخفى: أنّه متأخّر عن علم الاُصول؛ إذ الاُصول منجملة مقدّماته، بل الاُصول بالنسبة إليه كالعلّة التامّة، لمكان توقّف الاستنباط الفقهيّ على المسائل الاُصوليّة.

وكون الاُصول متقدّماً على علم الفقه لا ينافي تأخّره عن جملةٍ من

ص: 10

العلوم الاُخرى، كما لا يخفى، كعلوم اللّغة والمنطق. كما أنّه لا ينافي كونه أجنبيّاً بالنسبة إلى علومٍ اُخرى، كالرياضيّات والطبّ وغيرهما.

وقضيّة تأخّر علم الفقه عن علم الاُصول، مع تأخّر الاُصول عن علومٍ اُخرى، أن يكون علم الفقه بدوره متأخّراً عن تلك العلوم؛ لأنّ ما يتأخّر عمّا هو متأخّر، يكون متأخّراً أيضاً، كما لا يخفى.

وبالجملة: فنسبة بعض العلوم إلى علم الفقه هي نسبة الجزء الأخير من العلّة إليها، وذلك من قبيل: علم الاُصول بالنسبة إليه.

وأمّا بعضها الآخر فنسبته إلى علم الفقه نسبة المقدّمات الإعداديّة للشيء إليه، وهي علوم كالنحو والصرف ومتن اللّغة، وكذا الرجال، على ما قيل.

وهذا النحو من العلوم، وإن كان من المقدّمات الدخيلة في استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها، إلّا أنّها مع ذلك ليست بمثابة الجزء الأخير من العلّة، وإنّما هي من مقدّماته الإعداديّة.

وإن شئت فقل: إنّ وقوع مسائل هذه العلوم في مقدّمات الاستنباط ودخلها في الفقه لا يكون كافياً في استنتاج الحكم الشرعيّ بالاستقلال، بل لا بدّ أن تنضمّ إليها مسألة اُصوليّة تكون هي الكبرى في قياس الاستنباط، وتصبح معها مسائل هذه العلوم بمنزلة الصغرى، وإلّا فهي من دون انضمام هذه الكبرى إليها لا تكون منتجة، ولا يترتّب عليها شيء من الآثار الشرعيّة المطلوبة.

ص: 11

والوصول إلى استنباط الحكم الشرعيّ، وإن كان متوقّفاً على معرفة هذه العلوم، بحيث لا يمكن أن تتمّ عمليّة الاستنباط من دونها، كعلم النحو الذي لا مجال للوصول إلى الحكم الشرعيّ إلّا بتطبيق قوانينه وقواعده من حيث الإعراب والبناء، أو علم الصرف الذي تتوقّف عمليّة الاستنباط على معرفة أحكامه من حيث الصحّة والاعتلال مثلاً، أو كعلم الرجال ومدخليّته في الاستنباط من حيث وثاقة الرواة مثلاً، أو علم متن اللّغة ومدخليّته من حيث معرفة معاني الألفاظ العربيّة، إلّا أنّ معرفة هذه العلوم ومسائلها ليست دخيلةً في عمليّة استنباط الأحكام إلّا في الجملة، وذلك كما أشرنا آنفاً، لا على نحو الاستقلال، بل بشرط انضمام كبرى اُصوليّة إليها.

هذا كلّه من ناحية تراتبيّة هذه العلوم، ونسبة بعضها الى بعض، ونسبة العلوم الدخيلة في الاستنباط الفقهيّ إلى علم الفقه.

وأمّا من حيث الشرف والأفضليّة:

فقد يقال: بأنّ علم الفقه من أشرف العلوم، وأنّه أشرف حتّى من علم الكلام نفسه، وإن كان المبحوث عنه في علم الكلام هو المبدأ والمعاد.

ولكنّ التّصديق بدعوى أشرفيّة هذا العلم يتوقّف على معرفة فوائده والوقوف على الآثار التي من شأنها أن تترتّب عليه، فلابدّ لذلك من التعرّض لبيانها.

ص: 12

فوائد علم الفقه وآثاره

فمنها:

أنّ صحّة التقليد متوقّفة على علم الفقه، كما أنّ الوصول إلى مرحلةٍ يستغنى فيها عن التقليد ولا يحتاج إليه معها متوقّف أيضاً على هذا العلم؛ إذ ممّا يستقلّ العقلبحسنه ومرغوبيّته: أنّه لا بدّ من وجود الفقيه الذي تكون له القدرة على استنباط الأحكام الشرعيّة من مداركها.

وإنّما كان العقل يستقلّ بحسن ذلك؛ لما فيه من التأدّي إلى الارتقاء والعروج عن حضيض التقليد والجهل إلى حيث ذروة الاجتهاد وسنام العلم، وحيث إنّ الفقه هو الذي يسبّب هذا الارتقاء، دون غيره، فيكون هو الأشرف.

ومنها:

أنّ تحصيل مسائل علم الفقه يؤهّل الإنسان ويعدّه لمعرفة الطرق النافعة اُخرويّاً، ويمكّنه من تمييزها عن غيرها من الطرق المضرّة.

وظاهر: أنّه ليس في نظر العقل ما هو أهمّ من ذلك، ولمّا كان الفقه هو العلم المؤدّي إليه، فيكون - لا محالة - هو الأشرف والأهمّ.

ومنها:

أنّ معرفة الإنسان بعلم الفقه، وإلمامه بمسائله إلى أن يحصل على ملكة الاجتهاد وينال درجته الرفيعة التي تمكّنه من استنباط واستخراج

ص: 13

الأحكام الشرعيّة هو سبب للتحلّي بحلية الرئاسة الإلهيّة التي خصّ الله تعالى بها أولياءه وأهل طاعته، ليصبح بذلك واحداً من خلفاء الأئمّة( ونوّابهم، وممّا لا ريب فيه أنّ هذا - أيضاً - هو ممّا يرغب به العقل ويحثّ عليه الشرع.

فائدة علم الكلام

وأمّا علم الكلام، ففائدته منحصرة في الحفاظ على النفس وفي التمكين من دفع الشبهات والشكوك التي يواجه بها الدين الحقّ.وأمّا تلك الفوائد المهمّة التي ذكرناها لعلم الفقه، فهي ليست من آثاره التي تترتّب عليه.

وفي ضوء ما تقدّم، نجزم بأنّ مكانة علم الفقه ورتبته في الشرف متقدّمة على غيره من العلوم، بما فيها علم الكلام.

وقد انقدح بذلك: أنّ كون علم الاُصول بمنزلة الجزء الأخير للعلّة بالنسبة إليه، لا يقتضي كونه - أي: علم الاُصول - أشرف منه وأعلى منزلةً؛ إذ لو كان الفقه أشرف من علم الكلام، فهو أشرف من علم الاُصول بطريقٍ أولى. كذا قد يقال.

ولكنّ التحقيق: أنّ شرف العلم إنّما يكون بشرافة موضوعه أو غايته، ولازم ذلك: أن يكون علم الكلام أشرف العلوم على الإطلاق؛ إذ:

أوّلاً: موضوعه أشرف الموضوعات على الإطلاق، وهو المبدأ، وهو الله تبارك وتعالى.

ص: 14

وثانياً: غايته أشرف الغايات، وهي معرفة اُصول الدين، التي هي من أجلّ الغايات وأسماها.

الأمر الثالث: الفرق بين المسائل الاُصوليّة والقواعد الفقهيّة

فرّق المحقّق النائينيّ(قدس سره) بينهما بما لفظه:

«إنّ نتيجة المسألة الفقهيّة، قاعدةً كانت أو غيرها، بنفسها تلقى إلى العامّيّ غير المتمكّن من الاستنباط، فيقال له: كلّما دخل الظهر وكنت واجداً للشرائط وجبت الصلاة، فيذكر في الموضوع جميع قيود الحكم الواقعيّ، أو يقال: كلّما فرغت منعملٍ وشككت في صحّته وفساده، فلا يجب عليك الاعتناء به، فيذكر له جميع قيود الحكم الظاهريّ.

وهذا بخلاف المسألة الاُصوليّة، فإنّ إعمال نتيجتها مختصّ بالمجتهد، ولا حظّ للمقلّد فيها، ولا معنى لإلقائها إليه، بل الملقى إليه يكون الحكم المستنبط من تلك المسألة»(1).

وحاصله: أنّ النتيجة في المسائل الفقهيّة، قاعدةً كانت أو غيرها، يمكن إلقاؤها بنفسها إلى العامّيّ، على أن يذكر المجتهد في موضوع الحكم كافّة القيود المأخوذة في الحكم ثمّ يلقيه إليه، فيقول له - مثلاً - كلّما دخل عليك وقت صلاة الظهر، وكنت واجداً للشرائط، فقد وجبت عليك الصلاة.

ص: 15


1- هذه عبارته(قدس سره) في أجود التقريرات: 9- 10، وورد نظير لها في كلامه في فوائد الاُصول 4: 309- 310.

وهذا بخلاف المسائل الاُصوليّة؛ فإنّها لا تفيد العامّيّ ولا تنفعه، فلا يمكن أن تلقى إليه ما دام غير متمكّن من الاستنباط، بل يكون إعمالها في مواردها من وظيفة المجتهدين فقط.

اعتراض اُستاذنا الأعظم(قدس سره)

اعتراض اُستاذنا الأعظم(قدس سره)(1):

لا يخفى: أنّ هذا الكلام المتقدّم، وإن كان تامّاً فيما يتعلّق بالمسائل الاُصوليّة - على ما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره) - لأنّ إعمال هذه القواعد في مواردها وأخذ النتيجة منها إنّما يكون من وظائف المجتهدين فقط دون المقلّدين، إلّا أنّه - على إطلاقه - ليس تامّاً بالنسبة إلى المسائل الفقهيّة؛ فإنّ كثيراً من المسائل الفقهيّة لا يختلف حالها من هذه الجهة عن المسائل الاُصوليّة، وذلك - مثلاً - كمسألة استحباب كلّ عملٍ بلغعليه الثواب، ولو بالخبر الضعيف، بناءً على أنّ هذا الاستحباب هو المستفاد من أخبار «من بلغ»(2)، وأنّ الظاهر منها كونها بصدد إثباته، وليست للإرشاد ولا لبيان حجّيّة الخبر الضعيف، بل هي لمجرّد بيان: أنّ العمل بهذا الخبر الضعيف يكون موجباً لترتّب الثواب؛ فإنّ هذه من المسائل الفقهيّة بلا إشكال، ولكنّها - مع ذلك - تعدّ من وظائف المجتهد التي لا يمكن إلقاؤها إلى العامّي، لعدم قدرته على تشخيص مواردها من الروايات وتطبيق أخبار الباب عليها.

ص: 16


1- المقصود من الاُستاذ الأعظم إنّما هو سيّدنا واُستاذنا، واُستاذ الفقهاء والمجتهدين، المرجع الدينيّ الأعلى، الإمام الخوئيّ(قدس سره).
2- انظر: وسائل الشيعة 1: 59، الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات.

ويمكن التمثيل لذلك - أيضاً - بقاعدة: «ما لا يضمن بصحيحه لايضمن بفاسده»؛ فإنّها - أيضاً - قاعدة فقهيّة، والذي يستفاد منها حكم كلّيّ، وهو - مثلاً - الحكم بعدم الضمان في الهبة الفاسدة.

ومن هذه القواعد أيضاً: قاعدة الطهارة، فيما إذا نزا كلب على شاةٍ فأولدها؛ فإنّه - حينئذٍ - لا يلحق بأحدهما لعدم شباهته بهما، فيكون مشكوك الطهارة ويحكم بطهارته للقاعدة.

أو كقاعدة نفي الضرر، التي يستفاد منها عدم وجوب الوضوء الضرريّ.

أو قاعدة نفي الحرج، التي يثبت بها عدم وجوب الوضوء الحرجيّ.

فهذه كلّها قواعد فقهية، ولكنّ استفادة الحكم الشرعيّ منها هو من وظيفة المجتهد، وليس بمقدور العامّي أن يطبّقها على مواردها وأن يقوم بتشخيص الحكم المستفاد منها(1).أقول: بالنسبة إلى قاعدة (من بلغ)، يمكن القول: بأنّها تندرج في المسائل الاُصوليّة؛ لأنّ استفادة الاستحباب منها تتوقّف على معرفة الخبر الضعيف وتمييزه عن غيره، المتوقّف بدوره على الاطّلاع على أحوال رجال الحديث وشؤونهم. وبما أنّها من المسائل الاُصوليّة، فلا يمكن أن تلقى إلى العامّيّ، لعدم قدرته على استفادة الحكم منها. هذا من جهة.

ص: 17


1- انظر محاضرات في الاُصول 1: 7- 8. (المجلّد 43 بترتيب موسوعة الإمام الخوئيّ(قدس سره)).

ومن جهةٍ اُخرى، فإنّ مآل هذه القاعدة لمّا كان إلى إثبات الاستحباب، فيمكن القول بدخولها تحت المسألة الفقهيّة.

والحاصل: أنّ لهذه القاعدة اعتبارين ولحاظين، بأحدهما يمكن اعتبارها اُصوليّةً، وبالآخر تكون مندرجةً في القواعد الفقهيّة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ قاعدة التسامح يمكن أن تعدّ من المسائل الاُصوليّة وليست من القواعد الفقهيّة.

ومن هنا يظهر: أنّ الاعتراض بقاعدة التسامح في أدلّة السنن بشأن القواعد الفقهيّة غير واردٍ أصلاً. هذا.

والصحيح في التفريق بين المسألتين أن يقال:

إنّ كلّاً من المسائل الاُصوليّة والقواعد الفقهيّة يمكن أن تقع كبرى في قياس الاستنباط، ولا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً؛ وإنّما الفرق في أنّ الذي يستنتج من ضمّ الصغرى إلى الكبرى في المسائل الاُصوليّة يكون - دائماً - حكماً كلّيّاً، بخلاف المستنتج من ضمّ الصغرى إلى القاعدة الفقهيّة؛ فإنّه غالباً ما يكون حكماً جزئيّاً، وإن كان قد يتّفق في بعض الموارد أن يكون المستنتج منه حكماً كلّيّاً أيضاً، كما في قاعدتي: ما يضمن وما لا يضمن، وفي بعض فروع العلم الإجماليّ، وفي قاعدة الفراغ وغيرها.فمثلاً: إذا علم المكلّف إجمالاً بعد فراغه من صلاتي الظهر والعصر بنقصان ركعةٍ من إحداهما، ولم يدرِ أنّها من الظهر أو العصر؛ فإنّ الحكم

ص: 18

هنا حكم كلّيّ، وهو: الصحّة لقاعدة الفراغ. وفي هذا المورد وأمثاله لايتمكّن العامّيّ من تعيين الوظيفة بنفسه، بل يكون المرجع إلى المجتهد في ذلك.

وبعبارة اُخرى: فإنّ المائز بين المسألة الاُصوليّة والقاعدة الفقهيّة، إنّما هو أنّ القاعدة الفقهيّة، حتّى لو فرضنا أنّها دائماً تقع كبرى في قياس الاستنباط، كالمسائل الاُصوليّة، وأنّها لا فرق بينها وبين المسائل الاُصوليّة من هذه الجهة، إلّا أنّ النتيجة في مورد القاعدة تكون في الغالب حكماً جزئيّاً متعلّقاً بعمل آحاد المكلّفين وبلا واسطة، أي: من دون أن يكون المكلّف في مقام العمل بحاجةٍ إلى أيّ-ة مؤونةٍ اُخرى.

وهذا بخلاف المسائل الاُصوليّة؛ فإن النتيجة في مواردها لا يمكن أن تتعلّق بعمل الآحاد إلّا بعد تطبيقها على الموارد الخاصّة الجزئيّة، والذي يتمكّن من هذا التطبيق إنّما هو المجتهد.

وإن شئت فقل: إنّ النتيجة التي تتحصّل من المسائل الاُصوليّة تنفع المجتهد فقط، بمعنى: أنّه ليس هناك أيّة فائدةٍ تعود إلى العامّيّ المقلّد مباشرةً، ولذا، فليس للمجتهد أن يفتي بمضمون النتيجة التي أدّت إليها المسألة الاُصوليّة، كأن يفتي في رسالته العمليّة بحجّيّة خبر الواحد مثلاً؛ وذلك لما ذكرناه من أنّ تطبيق النتيجة على الصغريات إنّما هو من وظائف المجتهد وشؤونه دون المقلّد.

وأمّا القواعد الفقهيّة، فلمّا كانت نتيجتها غالباً ما تنفع المقلّد، جاز

ص: 19

للمجتهد أن يفتي بها تاركاً أمر تطبيقها إلى المقلّد نفسه وبيده، كما إذا أفتى بحجّيّة قاعدة الضرر والتجاوز والفراغ، فإنّ تطبيقها على الصغريات بيد المقلّد نفسه.

كلام المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره):

وبما بيّنّاه: يظهر صحّة ما أفاده المحقّق الأصفهاني): من أنّ الضابط للمسائل الاُصوليّة أنّها عبارة عن «القواعد الممهّدة لتحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ».

وأمّا التعريف المشهور لعلم الاُصول فليس شاملاً للعديد من المسائل الاُصوليّة، كأصالة الإباحة - بناءً على كون المجعول فيها هو الحلّية الظاهريّة وأنّها ليست ناظرةً إلى الواقع لا من جهة الحكم المماثل ولا المعذّريّة -، وكذا مسألة الانسداد - بناءً على الحكومة(1)-.

الفرق بين المسائل الاُصوليّة ومسائل سائر العلوم

وأمّا المائز بين المسائل الاُصوليّة وبين مسائل سائر العلوم؛ فإنّ المسألة الاُصوليّة هي - كما اتّضح - عبارة عن الكبريات التي تقع، بعد ضمّ صغرياتها إليها، في طريق استنباط الأحكام الكلّيّة الشرعيّة.

وأمّا مسائل سائر العلوم، فهي، وإن كانت - بدورها - يمكن أن تقع في طريق الاستنباط، إلّا أنّها لا تقع كبرى في قياسه أبداً، بل هي دائماً:

ص: 20


1- انظر: نهاية الدراية 1: 19.

الصغرى التي تنضمّ إلى المسألة الاُصوليّة الواقعة في رتبة الكبرى.

فعلم الرجال - مثلاً - يتكفّل بتشخيص خبر الثقة، وأمّا المسألة الاصوليّة فنتيجتها حجّيّة خبر الثقة.

وصورة القياس من المسألة الاُصوليّة والاُخرى الرجاليّة كأن يقال:

إنّ وجوب صلاة الجمعة ممّا أخبر به الثقة.

وكلّ ما أخبر به الثقة يجب اتّباعه.فتكون النتيجة: وجوب صلاة الجمعة.

وبعبارةٍ ثانية:

فالفرق بين المسألة الاُصوليّة ومسائل سائر العلوم: أنّ هذه الأخيرة بالنسبة إلى علم الاُصول إنّما تكون من المبادئ، أي: أنّها خارجة عن علم الاُصول ومن مبادئه والمعدّات له، فلا تذكر فيه إلّا على سبيل الاستطراد، وذلك كما لو بحث في علم الاُصول عن كلمة «الصعيد» هل هي ظاهرة في مطلق وجه الأرض أو التراب الخ الص؟ فإنّ هذا البحث لا يمكن أن يدّعى فيه كونه اُصوليّاً، كما هو أوضح من أن يخفى.

الأمر الرابع: موضوع علم الاُصول

جرت عادة المصنّفين واستقرّ ديدنهم على التمهيد لأبحاثهم باُمورٍ درجوا على بحثها تحت عنوان (المقدّمة). وقد تعارفوا على تسمية هذه الاُمور ﺑ «المبادئ»، لما لها من دخلٍ بالعلم الذي هم بصدد التصنيف فيه.

ومن جملة الاُمور التي بحثوها في المقدّمة: بحث «موضوع العلم»،

ص: 21

وأنّه هل يجب أن يكون للعلم موضوع أم لا؟ وأنّه على فرض وجوبه، فهل يجب في هذا الموضوع أن يكون أمراً شخصيّاً نظير: الكلمة والكلام في علم النحو؟ أم يكفي فيه أن يكون كلّيّاً وعامّاً، كما في: (عمل المكلّف)، الذي هو الموضوع لعلم الفقه.

مذهب الاُستاذ الأعظم(قدس سره):

اختار اُستاذنا الأعظم(قدس سره) أنّه لا دليل على اقتضاء كلّ علمٍ وجود الموضوع، وتقرير كلامه - على نحو الاختصار - كما يلي:إنّ غاي-ة ما قي-ل - أو يم-كن أن يق-ال - في لزوم الموضوع في كلّ علمٍ:

إنّ الغرض من أيّ علمٍ من العلوم أمر وحدانيّ، فالغرض من علم الاُصول - مثلاً - هو: (الاقتدار على الاستنباط)، ومن علم النحو: (صون اللّسان عن الخطأ في المقال)، ومن علم المنطق: (صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج)، وحيث إنّ هذا الغرض الواحد يترتّب على مجموع القضايا التي بالرغم من تباينها في الموضوعات والمحمولات، دوّنت في علمٍ واحدٍ، واُعطيت اسماً فارداً؛ فإنّه يستحيل - لذلك - أن يكون المؤثّر في هذا الغرض هو هذه القضايا بهذه الصفة؛ لاستلزامه تأثير الكثير بما هو كثير ف-ي الواحد بما هو واحد، ممّا يكشف إنّاً عن أنّ المؤثّر فيه جامع ذاتيّ وحدانيّ بقانون أنّ (الواحد لايصدر إلّا من واحدٍ).

إلّا أنّ هذا البرهان المزبور لا ينهض لإثبات المدّعى؛ إذ يرد عليه:

ص: 22

أنّه، وإن سلّم في العلة والمعلول الطبيعيّين - دون الفواعل الإراديّة - إلّا أنّه إنّما يكون صحيحاً بالنسبة الى العلّة التي تكون بسيطةً من جميع الجهات، وإن استشكلوا فيه هناك أيضاً.

على أنّ الأصل في جريان هذه القاعدة هو العلّة الموجبة، وإن كانت قد وقعت - هناك أيضاً - محلاً للنّقاش(1).

وأمّا اُستاذنا المحقّق(قدس سره)(2) فقد قسّم العلوم إلى قسمين:

القسم الأوّل: ما دوّن لأجل معرفة حقائق الأشياء. والعلوم من هذا القسم لا بدّ لها من موضوع، بل - والتعبير للمحقّق(قدس سره) نفسه -: «لا يمكن أن لا يكون لها موضوع، بلالقول بعدمه خلف، لأنّ المفروض، كما بيّنّاه، أنّهم عيّنوا حقيقةً من الحقائق ووضعوها للبحث عن حالاتها ومفاد هلّيّتها المركّبة»، كما هو الحال في علم الفلسفة.

والقسم الآخر: هو مجموع القضايا التي تختلف في الموضوعات والمحمولات، ولكنّها مع ذلك، جمعت ودوّنت لأجل غرض خاص وترتّب غاية مخصوصة عليها، بحيث لولا ذلك الغرض وتلك الغاية ما دوّنت ولا جمعت، فالذي تكفّل بجمع المسائل في هذا القسم ليس إلّا تلك الغاية(3).

ص: 23


1- انظر: محاضرات في الاُصول 1: 25.
2- مرادنا من «الاُستاذ المحقّق»: وحيد عصره ونادرة دهره، آية الله العظمى السّيّد البجنورديّ(قدس سره).
3- راجع: منتهى الاُصول 1: 7.

وأمّا المحقّق العراقيّ): فقد ذهب إلى أنّ وحدة العلم لا تكون بوحدة الاعتبار بل هي إنّما تكون بوحدة الغرض. قال(قدس سره):

«إنّ وحدة العلم وتعدّده إنّما هو بلحاظ وحدة الغرض وتعدّده، وعليه: فمتى كان الغرض والمهمّ واحداً كانت القواعد الدخيلة في ترتّب ذلك الغرض بأجمعها من مسائل علمٍ واحد وكانت تفرد بالتدوين وإن كانت متعدّدةً موضوعاً ومحمولاً»(1).

وعلى هذا الأساس: فلا يتوقّف حقيقة العلم وصيرورته علماً - بنظر المحقّق المذكور - على تحقّق جامع وحدانيٍّ بين موضوعات مسائله ليكون ذلك الجامع هو موضوع العلم.

مناقشة أدلّة القائلين بلزوم وحدة الموضوع:

الدليل الأوّل:

أنّ الغرض من أيّ علمٍ من العلوم غرض وحدانيّ يترتّب على مسائله المتشتّتة، فالغرض في علم الاُصول - مثلاً - هو الاقتدار على الاستنباط، وفي علم النحو هو صون اللّسان والقلم عن الخطأ في المقال والكتابة، وفي علم المنطق صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج؛ وإذا كان كذلك، لم يمكن لهذا الغرض الوحدانيّ أن يكون مترتّباً على مجموع القضايا المتباينة من حيث الموضوع والمحمول، وإن جعلت معاً في علمٍ واحد؛

ص: 24


1- نهاية الأفكار 1: 9- 11.

إذ لا يمكن أن تكون هذه القضايا - لاختلافها - مؤثّرةً في شيء واحد؛ لأنّ لازم ذلك: تأثير الكثير بما هو كثير في الواحد بما هو واحد، وهو محال؛ وذلك لما قرّر في محلّه، من أنّ الاُمور المتباينة لا يمكن أن يكون لها أثر واحد، لقاع-دتي: «الواح-د لايصدر إلّا من الواحد»، أي: أنّ كلّ معلولٍ لا بدّ له من علّةٍ واحدة، و«أنّ الواحد لايصدر عنه إلّا الواحد»، أي: أنّ العلّة الواحدة لا يكون لها إلّا معلول واحد.

وهو واضح إذا التفتنا إلى المبدأ القائل بأنّه لا بدّ أن يكون هناك نوع من السنخيّة بين العلّة والمعلول، وهذه السنخيّة هي ما يبرّر صدور هذا المعلول عن هذه العلّة الخاصّة - مثلاً - وعدم صدوره عن علّةٍ اُخرى غيرها، واشتراط هذه السنخيّة لازم ولا بدّ منه، وإلّا، أمكن أن يؤثّر كلّ شيء في كلّ شيء، ويكون كلّ شيء علّةً لكلّ شيء.

وبالجملة: فالمعلولان المتخالفان لابدّ أن تكون علّتهما كذلك، والعلّة الخاصّة لهذا المعلول لايمكن أن تكون علّةً لمعلولٍ آخر.

وفي مقامنا، قالوا: لذلك، أي: لقاعدة الواحد، لا بدّ أن يكون المؤثّر في الغرض الوحدانيّ جامع ذاتيّ وحدانيّ، وهو الموضوع للعلم. فلكلّ علمٍ - إذاً - موضوع واحد.ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ هاتين القاعدتين لا تجريان في الواحد بالنوع، بل محلّهما الواحد البسيط من جميع الجهات، وهو ذات الباري تعالى، حيث يُقال:

ص: 25

إنّ ذات الواجب تعالى، بما أنّه بسيط من جميع الجهات، فلا يمكن أن يكون له معلولات متعدّدة؛ لأنّ هذا يفترض أن يكون لكلّ معلولٍ جهة في ذاته، ولازم ذلك تركيب ذات الواجب، وهو محال. وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه، كما لا يخفى.

وثانياً: لا نسلّم أنّ هاتين القاعدتين تأتيان هناك أيضاً.

وثالثاً: يمكن أن يقال: بأنّ هذا الدليل إنّما يتمّ في مورد العلّة الموجبة - ولو أنّها في ذلك المورد أيضاً محلّ كلام كما نبّهنا عليه سابقاً -.

وأمّا الباري سبحانه، فبما أنّه تعالى فاعل مختار، فإنّ هذا الكلام لايصحّ في حقّه البتّة، بل يمكن أن يصدر عنه الأشياء الكثيرة المتباينة. وتفصيل الكلام في هذه المسألة في محلّه.

وأمّا ما أُورد على هذا الدليل من أنّ أغراض العلوم المذكورة - مثلاً - لا يمكن أن تترتّب على نفس مسائل العلم في حدّ ذاتها، وإلّا - لو كان الأمر كذلك - للزم ألّا يقع أيّ خطأٍ في الفكر أو المقال بعد تعلّم تلك المسائل وتحصيلها.

فقد أُجيب عنه: بأنّ مسائل كلّ علمٍ تكون - هي في نفسها - سبباً في ترتّب الغرض، وليست بعلّةٍ تامّة له، وإذا كان كذلك، فلا يكون تعلّم تلك المسائل موجباً لترتّب الغرض دائماً، بل إنّما يوجبه عند توفّر الشرائط وفقد الموانع فقط.

ص: 26

ومن هنا، كان من الأحسن أن يقال: إنّ تعلّم المسائل في علم المنطق أو النحو - مثلاً - ليس علّةً تامّةً لعدم الخطأ في الفكر أو المقال، بحيث لا يتخلّف ذلك عنتعلّمها، بل إنّما يكون تعلّمها سبباً لترتّب الغرض إذا وجدت الشرائط وفقدت الموانع.

والدليل الثاني:

أنّه لا بدّ لكلّ علمٍ من موضوع، لأنّ تمايز العلوم إنّما يكون بتمايز الموضوعات.

وخالف في ذلك صاحب الكفاية) الذي ذهب إلى أنّ تمايز العلوم يكون بالتمايز بين أغراضها المترتّبة على المسائل المختلفة موضوعاً ومحمولاً، لا بتمايز الموضوعات، كما قد اشتهر بينهم؛ وذلك لتحسين العقلاء تدوين علمٍ واحدٍ للمسائل التي يترتّب عليها غرض واحد، وإن كانت هذه المسائل متشتّتةً ومختلفةً من حيث الموضوع والمحمول، وبالعكس أيضاً: لتقبيحهم تدوين علمٍ واحدٍ للمسائل التي يتعدّد الغرض المترتّب عليها، ولو كان الموضوع في جميعها واحداً (1).

ص: 27


1- كفاية الاُصول: 7- 8. وإليك نصّ كلامه(قدس سره): «وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل؛ فإنّ حُسن تدوين علمين كانا مشتركين في مسألة أو أزيد في جملة مسائلهما المختلفة لأجل مهمّين ممّا لا يخفى. وقد انقدح بما ذكرنا: أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلّا كان كلّ باب، بل كلّ مسألة من كلّ علم علماً على حدة، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدّد، كما لا يكون وحدتهما سبباً لأن يكون من الواحد».

ولكن، يمكن أن يجاب عن ذلك:

بأنّ الغرض من العلم ليس إلّا الفوائد المترتّبة على نفس المسائل. وبديهيّ أنّ هذه الفوائد تكون متأخّرةً في الرتبة عن المسائل نفسها، وحينئذٍ: ففي مقام التعريف والتمايز، فلا محالة يكون التعريف بنفس المسائل أولى، إذ هي الأسبق رتبةً.

وربّما يستشكل على هذا الدليل أيضاً - ودفاعاً عن صاحب الكفاية(قدس سره) - بما حاصله:

أنّ التمايز بين العلوم لو كان بتمايز موضوعاتها، فلو وجد علمان - أو أكثر -، وكانا متّحدين في موضوعهما، كما هي الحال بالنسبة إلى علمي النحو والصرف،المشتركين في أنّ موضوعهما هو: الكلمة والكلام اجمالاً، فحينئذٍ، كيف يمكن التمييز بينهما؟ ويُجاب عنه: بأنّ الكلمة والكلام لا يقعان موضوعين لهذين العلمين من حيثيّةٍ واحدة وبنفس اللّحاظ، بل بحيثيّتين ولحاظين مختلفين، فإنّ موضوع علم النحو هو: الكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء، وأمّا موضوع علم الصرف: فهو الكلمة، ولكن من حيث الصحّة والاعتلال.

ولكن قد يستشكل على هذا الجواب: بأنّ الحيثيّة المذكورة، هل هي حيثيّة تعليليّة أم أنّها تقييديّة؟ أمّا الاُولى: فلا معنى لها هنا، وأمّا الثانية: فهي لا تجدي نفعاً؛ لأنّها لا تصلح للتمييز بين العلمين المذكورين؛ إذ

ص: 28

الكلمة حال تقييدها بحيثيّة الإعراب والبناء يبحث عنها في علم الفصاحة أيضاً.

ولكن يجاب عنه: بأنّ المراد من التقييد بالحيثيّة ليس هو حال التقييد بها، بل المراد: أنّ التقييد بها شرط.

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّ تمايز العلوم إنّما يكون بتمايز الموضوعات، لا بتمايز الأغراض، ولا أيضاً بتمايز المحمولات - على فرض اختلافها كما في مسألتي: (الفاعل مرفوع) و(الفاعل ركن) -.

أمّا عدم كون الملاك في تمايز العلوم هو التمايز بالمحمولات: فلأنّه يقتضي أنّ المسائل المختلفة من حيث المحمول تكون علوماً مختلفةً، وهو ما لم يلتزم به أحد.

على أنّه لو سلّم حصول تمايز العلوم أحياناً بتمايز المحمولات، إلّا أنّه مع ذلك، فالقول بكون التمايز بالموضوع هو الملاك لتمايز العلوم أولى نظراً لأسبقيّة الموضوع وتقدّمه على المحمول رتبةً.وأمّا عدم كون الملاك هو التمايز بالأغراض، فلجواز أن يكون لدينا علمان يشتركان في غرضٍ واحد، كما هو الحال في علمي النحو والصرف، فإنّ الغرض منهما واحد، وهو: صون اللّسان عن الخطأ في المقال، ومع ذلك، فقد جعلا علمين مستقلّين.

فالحقّ: أنّه لا بدّ لكلّ علمٍ من موضوع يبحث فيه عن العوارض الذاتيّة لهذا الموضوع، وبه يمتاز عن غيره من العلوم.

ص: 29

اعتراض الاُستاذين: الخوئيّ والبجنورديّ(رحمة الله):

وقد اعترض على ذلك كلا الاُستاذين(1) بما حاصله:

أنّه إن اُريد من الجامع: الجامع الذاتيّ الماهويّ، حتى تكون نسبته إلى موضوعات المسائل نسبة الكلّيّ الطبيعيّ إلى أفراده، فهذا غير ممكن؛ لأنّ موضوعات مسائل الفقه - مثلاً - بعضها يندرج تحت مقولة الجوهر، كالماء والدم والمنيّ، وبعضها تحت مقولة الوضع، كالقيام والركوع والسجود، وثالث تحت مقولة الكيف المسموع، كالقراءة في الصلاة ونحوها، وآخر تحت الاُمور العدميّة، كالتروك في بابي الصوم والحجّ. فإنّ ترك المفطرات - كما ذكر المحقّق العراقيّ(رحمة الله) - يكون واجباً، حيث كان فعلها محرّماً.

بل حتّى لو فرضنا القدرة على تصوير الجامع الذاتيّ بين المسائل المختلفة؛ فإنّ ذلك لا يجدي أيضاً، إذ من المعلوم أنّ العوارض المبحوث عنها في علم الفقه - مثلاً - ليست ذاتيّةً لموضوعه الذي هو فعل المكلّف، فإنّ الفقه يبحث فيه عن الأحكام الخمسة، وواضح أنّ أيّ واحدٍ من هذه الأحكام الخمسة لا يعرض على فعل المكلفبما هو فعله مطلقاً، فالوجوب - مثلاً - لا يعرض على فعله بما هو فعله مطلقاً، بل بما هو صلاة، فالخصوصية الصلاتيّة التي يتقيّد بها الفعل مقوّمة لمتعلّق

ص: 30


1- راجع محاضرات في الاُصول 1: 24، ومنتهى الاُصول 1: 9.

الوجوب، وكذا الحال في بقيّة العبادات..

ومن هنا، فلو أتى بالصلاة غير قاصدٍ عنوانها، بل كان قاصداً إلى مجرّد عنوان الفعل، أي: من حيث هو فعل صادر عن المكلّف، لما صحّ منه ذلك.

وعليه:

وبما أنّ هذه العناوين والاعتبارات والخصوصيّات دخيلة في متعلّق الحكم والتكليف، وهي اُمور مختلفة متشتّتة، فلذا لم يكن من الممكن فرض وجود جامعٍ ماهويٍّ بينها، بل كما قال اُستاذنا الأعظم(رحمة الله):

«أنّه لا يعقل وجود جامع ذاتيّ بين المقولات: كالجواهر والأعراض، لأنّها أجناس عالية ومتباينات بتمام الذات والحقيقة، فلا اشتراك أصلاً، بين مقولة الجوهر مع شيءٍ من المقولات العرضيّة، ولا بين كلّ واحدةٍ منها مع الاُخرى، وإذا لم يعقل تحقّق جامع مقوليّ بينها فكيف بين الوجود والعدم؟(قدس سره)»(1).

هذا كلّه إذا اُريد من الجامع: الجامع الذاتيّ المقوليّ.

وأمّا إذا قلنا: بأنّ المراد به: الجامع العرضيّ. فيرد عليه حينئذٍ:

أنّ المحمولات، هي أيضاً، يمكن فيها تصوير الجامع من هذا القبيل، فلماذا لا يكون تمايز العلوم بتمايز المحمولات؟

ص: 31


1- محاضرات في الاُصول 1: 25.

وأيضاً: فإنّ القول بالجامع العرضيّ لا يوافق ما ذهبوا إليه في بيان المقصود من موضوع العلم من أنّ «موضوع كلّ علمٍ هو ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتيّة»؛ إذ أنّى لمحمولات المسائل أن تكون من العوارض الذاتية لذلك الموضوع، والذي هو - بحسب الفرض - المفهوم العامّ العرضيّ؟(قدس سره)ولكنّ الحقّ: أنّ مسائل علم الفقه، وإن كانت ترجع إلى قضايا جعليّةٍ واعتباريّة، إلّا أنّه - ومع ذلك - فبالإمكان تصوير موضوعٍ يكون جامعاً حقيقيّاً لموضوعاتها؛ وذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة وإن كانت - كما قلنا - عبارةً عن قضايا اعتباريّة بلحاظ أنّها لا توجد ولا تثبت إلّا باعتبار المعتبر وإنشائه، إلّا أنّها بلحاظٍ آخر، وهو لحاظ نفس الاعتبار ومبادئ الحكم، تكون حقيقيّةً وتندرج تحت مقولة الكيف النفسانيّ.

وبهذا اللّحاظ لا يكون ثمّة محذور أصلاً في تصوير الجامع الحقيقيّ، بل يكون ذلك ممكناً، خلافاً لما ذهب إليه الاُستاذ الأعظم) وجمع من المحقّقين من تلامذته، متذرّعين لذلك بما عرفت فساده من أنّ: المسائل في مثل علم الفقه قضايا جعليّة اعتباريّة، فلا يعقل في حقّها الجامع الحقيقيّ، لأنّ الجامع الحقيقيّ لا بدّ وأن يكون من سنخ أفراده، فإذا كانت هي جعليّةً واعتباريّةً بحسب الفرض، فكيف يتأتّى بعد ذلك أن يفرض لها جامع حقيقيّ وغير اعتباريّ؟

ص: 32

تمايز العلوم فيما بينها بأيّ شيءٍ هو؟

ثمّ إنّ اُستاذنا المحقّق)، بعد ذهابه إلى أنّ تمايز العلوم إنّما يتحقّق بتمايز الأغراض لا الموضوعات، قال:

«ولا أدري(قدس سره)(قدس سره) أيّ ملزمٍ ألزمهم بالقول بوجود موضوعٍ واحد جامعٍ لجميع موضوعات المسائل...، حتى أنّ صاحب الكفاية(قدس سره) - بعدما يئس من تعيين موضوعٍ كلّيٍّ متّحدٍ مع موضوعات مسائل علم الاُصول - قال بوجود جامعٍ مجهول العنوان(1)، كأنّه نزلوحي سماويّ أو دلّ دليل عقليّ ضروريّ على وجود موضوعٍ كلّيٍّ جامعٍ لجميع موضوعات المسائل في كلّ علم»(2).

إلّا أنّه(قدس سره) عاد، بعد هذا الإنكار، ليعترف بأنّه لا بدّ من فرض وجود الموضوع في بعض العلوم، ونحن قد نقلنا عنه سابقاً أنّه يقسّم العلوم إلى قسمين، وأحد هذين القسمين «لا يمكن أن لا يكون لها موضوع، بل القول بعدمه خلف، لأنّ المفروض، كما بيّنّاه، أنّهم عيّنوا حقيقةً من الحقائق ووضعوها للبحث عن حالاتها ومفاد هلّيّتها المركّبة - إلى أن يقول(قدس سره) -: كما أنّهم عرّفوا الحكمة بأنّها: العلم بأحوال أعيان الموجودات على قدر الطاقة البشريّة، وجعلوا موضوعها مفهوماً عامّاً يشمل جميع

ص: 33


1- انظر: كفاية الاُصول: 8.
2- منتهى الاُصول 1: 7 - 8.

الحقائق، وهو مفهوم الموجود. وبهذا الاعتبار يقسّمون الحكمة إلى النظريّة والعمليّة، والنظريّة إلى الإلهيّة و الطبيعيّة والرياضيّة. فهي - بهذا الاعتبار - علم واحد، له موضوع واحد مندرج فيه جميع العلوم الحقيقيّة التي ليس الغرض منها إلّا معرفة حقائق الأشياء، ولكنّهم - مع ذلك - أفردوا البحث عن بعض الحقائق و جعلوه عامّاً على حده، وسمّوه باسم مخصوص - إلى أن يقول -: وقسم آخر عبارة عن مجموع قضايا مختلفة الموضوعات والمحمولات، جمعت ودوّنت لأجل غرضٍ خاصّ، وترتّب غايةٍ مخصوصةٍ عليها، بحيث لولا ذلك الغرض وتلك الغاية لم تدوّن تلك المسائل ولم تجمع، ولا فائدة في معرفتها وتسميتها باسمٍ مخصوص»(1). هذا تمام كلامه(قدس سره) نقلناه مع شيءٍ من الاختصار.وملخّص القول: أنّ اُستاذنا المحقّق) كان يرى بأنّ بعض العلوم - كما عرفت - يحتاج إلى الموضوع.

وهو - أيضاً - ما تبنّاه الاُستاذ الأعظم(قدس سره) عندما قال: «الثاني: أنّه لامنافاة بين ما ذكرناه من عدم قيام الدليل على لزوم الموضوع في العلوم، و بين أن يكون لبعض العلوم موضوع، وذلك لأنّ ما ذكرناه إنّما هو من جهة عدم قيام البرهان على لزوم الموضوع في كلّ علم..»(2)؛ لأنّه لو قلنا بإمكان الموضوع، فلابدّ أن نلتزم بوجود الموضوع لكلّ

ص: 34


1- راجع: منتهى الاُصول 1: 6 - 7.
2- انظر: محاضرات في الاُصول 1: 27.

علمٍ، أو أن لا نلتزم به أصلاً، حتّى بالنسبة إلى بعض العلوم، ضرورة أنّ أدلّة العقل وأحكامه أبيّة عن التخصيص.

فالحقّ: أنّ تمايز العلوم يكون بتمايز الموضوع، لا الأغراض، وأنّ قاعدة: إنّ كلّ علمٍ لا بدّ له من موضوعٍ واحدٍ تدور حوله بحوثه، ويمتاز به عن غيره من العلوم، هذه القاعدة، تشير إلى مطلبٍ ارتكازيٍّ.

ومن هنا ظهر الجواب عمّا أشار إليه الاُستاذ المحقّق بقوله: «ولا أدري(قدس سره) أيّ ملزمٍ ألزمهم بالقول بوجود موضوع واحد.... إلخ»:

إمّا بما ذكرناه آنفاً: من أنّ المحمولات متأخّرة في الرتبة عن نفس الموضوعات، فالتعريف والتمييز بالموضوع يكون أولى؛ لمكان أسبقيّته.

وإمّا بأنّ المحقّقين من العلماء متّفقون على أنّه لا بدّ لكلّ علمٍ من موضوع، ولا يضرّ أن يكون الموضوع هو الكلّيّ الذي يكون عين وجود أفراده في الخارج. وهذا الجامع حقيقيّ، وليس عرضيّاً ومن قبيل المفاهيم العامّة، كما لا يخفى تماماً، كالذي ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) تحت عنوان: القسم الأوّل من العلوم.نعم، يبقى الإشكال بأنّ موضوعات المسائل الفقهيّة بعضها يندرج تحت مقولة الجوهر، كالدم، وبعضها الآخر من قبيل الأعراض، ولا جامع حقيقيّ بين الجوهر والعرض.

وكيف كان، فينبغي أن يعلم:

ص: 35

أنّه يكفي في التمييز تصوير جامعٍ بين الموضوعات، ولسنا بحاجةٍ إلى تصوير جامعٍ بين المحمولات والموضوعات معاً - كما نسب الى المحقّق العراقيّ) -(1) مضافاً إلى أنّه لم يلتزم به أحد.

وممّا ذكرنا عرفت أنّه يمكن أن يتصوّر للعلم موضوع، ويكون هذا الموضوع هو الجامع، كما أنّ هذا الموضوع الجامع هو - في المحصّلة - ما يكون مناطاً لوحدة العلم، لا الغرض.

خلافاً لما يظهر من قول اُستاذنا المحقّق(قدس سره): «أنّ وحدة العلم بوحدة الغرض لا الموضوع، وأنّ القضية الواحدة يمكن أن تترتب عليها غاية واحدة بسيطة مع اختلاف موضوعها مع محمولها»(2)؛ فإنّ ما ذكره(قدس سره) غير تامٍّ بعد الذي ذكرناه من أنّ موضوع العلم هو الكلّيّ الذي يكون نفس موضوعات المسائل خارجاً.

نعم، إنّما يرد هذا الإشكال، لو تصوّرنا الموضوع أمراً شخصيّاً. هذا.

وقد ظهر ممّا قدّمناه - أيضاً -:

ص: 36


1- نسبه إليه صاحب منتهى الاُصول 1: 8، وتجده أيضاً في نهاية الأفكار 1: 9.
2- منتهى الاُصول 1: 8. أقول: الموجود في منتهى الاُصول ما يلي: «لأنّ مناط وحدة القضيّة والعلم التصديقيّ وحدة الحكم لا وحدة الموضوع والمحمول، والقضيّة الواحدة يمكن أن تترتّب عليها غاية واحدة بسيطة مع اختلاف موضوعها مع محمولها». وأنت خبير بأنّ هذه العبارة أجنبيّة عن كون المناط في وحدة العلم - بمعنى: الفنّ، ونفس المسائل - هو وحدة الغرض.

عدم تماميّة ما ذكره الاُستاذ الأعظم) من أنّه «لا دليل على اقتضاء كلّ علم وجود الموضوع، بل سبق: أنّ حقيقة العلم عبارة عن جملةٍ من القضايا والقواعد المختلفة بحسب الموضوع والمحمول، التي يجمعها الاشتراك في الدخل في غرضٍ واحدٍ دعا إلى تدوينها علماً»(1).

وذلك لما ذكرناه - غير مرّة - من أنّ الدليل على هذا الاقتضاء موجود، وهو الأسبقيّة والأولويّة وشبه الاتّفاق بين المحقّقين على أنّ تمايز العلوم يكون بالموضوع لا بالغرض، بل - وكما قال بعض المحقّقين المعاصرين(قدس سره) - فإنّ «قاعدة أنّ لكلّ علمٍ موضوعاً تدور حوله بحوثه، ويمتاز به عن غيره من العلوم، تشير إلى مطلبٍ ارتكازيٍّ مقبولٍ بأدنى تأمّل»(2).

العوارض الذاتيّة

المشهور بينهم: أنّ موضوع كلّ علمٍ هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة، بلا خلافٍ في ذلك.

والمشهور بينهم - أيضاً -: أنّ الأعراض تنقسم إلى أقسامٍ سبعة، على خلافٍ - نقل - بين القدماء والمتأخّرين في تفسير معنى العرض.

فقيل: إنّ (العوارض) جمع ﻟ (عرض)، وإنّ المراد به هنا: مطلق ما يحمل على الشيء ممّا يكون خارجاً عنه، وهو المعبّر عنه في لسان

ص: 37


1- انظر: محاضرات في الاُصول 1: 25.
2- بحوث في علم الاُصول 1: 41.

أهل المعقول ﺑ(العرضيّ)، كالبياض والسواد. وأمّا (العرض) الذي هو مقابل للجوهر فهو ليس مشمولاً له، كما قال المحقّق السبزواريّ في منظومته(1):

وعرضيّ الشيء غير العرض*** ذا كالبياض ذاك مثل الأبيض.

فالذي هو العرض حقيقةً هو البياض، لا الأبيض، وإنّما الأبيض ذات ثبت له البياض.

والعرض بهذا المعنى - أعني: العرضيّ - ينقسم إلى الخاصة والعرض العامّ، وهما محمولان خارجان عن ذات موضوعيهما، بل ربّما اتّسع ليشمل غير ذلك أيضاً، أي: المحمول الذي يكون من ذاتيّات الموضوع، كالجنس المحمول على النوع، كما في: (الإنسان حيوان)، وعلى الفصل، كما في: (الناطق حيوان).

أقول: المراد من (العرض) الذي يقع محلاً للبحث في هذا العلم إنّما هو القسم الأوّل خاصّةً، دون الثاني، أي أنّ المراد به هنا: خصوص المحمول الذي يكون خارجاً عن ذات الموضوع، دون ما يكون مقوّماً له ومن ذاتيّاته.

كما أنّه لا يراد من (العرض) هنا: مطلق ما يحمل على الشيء كما ذكره اُستاذنا الأعظم(قدس سره)(2).

ص: 38


1- غرر الفرائد (شرح منظومة السّبزواريّ(قدس سره)): ص 39.
2- انظر: محاضرات في الاُصول 1: 25.

تقسيم العرض

وإذا اتّضح ذلك نقول: ينقسم العرض عندهم إلى عرض ذاتيّ وعرض غريب. وذلك أنّهم قالوا:العرض:

1) إمّا أن يلحق الشيء لذاته، كالتعجّب للإنسان.

2) أو لجزئه المساوي، كالتكلّم العارض للإنسان بواسطة الناطق الذي هو ذاتيّ ومساوٍ له.

3) أو للخارج عنه المساوي له، كالضحك الذي يعرض للإنسان بواسطة التعجّب، وهو وإن كان خارجاً عن ذات الإنسان، إلّا أنّه مساوٍ له.

4) أو لجزئه الأعمّ، كالحركة الإراديّة التي تعرض للإنسان بواسطة الحيوان، والذي هو جزؤه الأعمّ.

5) أو للخارج الأعمّ، كالتحيّز العارض للأبيض بواسطة الجسم، وهو خارج عن حقيقة الأبيض.

6) أو للخارج الأخصّ، كالضحك الذي يعرض الحيوان بواسطة الإنسان، وهو - كما هو واضح - أخصّ من الحيوان.

7) أو بواسطة الأمر المباين، كالحرارة العارضة للماء بواسطة أمرٍ مباينٍ له، وهو النار.

ص: 39

وقد وقع الخلاف بينهم في العارض للجزء الأعمّ: فعن القدماء: أنّه من العوارض الغريبة.

ولكنّ ما نسب الى بعض المتقدّمين - وهو المشهور لدى المتأخرين - أنّه من جملة العوارض الذاتيّة.

وعلى كلّ حال، فقد رأى جماعة من المحقّقين - منهم: صاحب الكفاية والمحقّقان النائينيّ والعراقيّ) (1) -:أنّه بناءً على التعريف الذي تبنّاه القوم لمفهوم (موضوع العلم)، فإنّ البحث عن كثيرٍ من مسائل العلوم سوف يكون - لا محالة - بحثاً عن العوارض الغريبة لهذا الموضوع.

ومن هنا، وجدوا أنّه لا محيص من العدول عن التفسير المشهور للقوم واعتماد تفسيرٍ آخر، حاصله: أنّ المناط في كون العرض ذاتيّاً، هو ألّا يتوسّط بين العرض وبين معروضه أيّ شيءٍ آخر يكون هو المعروض في الحقيقة.

ولذا، فقد عرّفه الآخوند الخراسانيّ) في الكفاية، بأنّه: «ما يعرض للشّيء بلا واسطةٍ في العروض»(2).

ومن هنا، كان لا بدّ - أوّلاً وقبل كلّ شيء - من بيان وتحديد ما هو المقصود من (الواسطة)، فنقول:

ص: 40


1- انظر: كفاية الاُصول: 7، وفوائد الاُصول 1: 21، ونهاية الأفكار 1: 16- 18.
2- كفاية الاُصول: 7.

الواسطة تارةً تكون واسطةً في العروض، وثانيةً واسطة في الثبوت، وثالثةً في الإثبات.

والواسطة - أيضاً -: تارةً تكون جليّة، كالحركة للسّفينة، واُخرى تكون خفيّةً، كالسطح الذي هو واسطة في نسبة البياض الى الجسم، فإنّه في الحقيقة والواقع يعرض على السطح، ولو كان بنظر العرف ليس عارضاً عليه، بل على الجسم.

فأمّا الواسطة في الثبوت، فالمقصود بها: ما كان علّةً لثبوت العرض لمعروضه حقيقةً، بلا فرق بين أن يكون هذا العرض قائماً به، كالنار التي تكون واسطةً في عروض الحرارة للماء؛ أم لا، كالحركة التي تكون سبباً وعلّةً لعروض الحرارة على الجسم.وأمّا الواسطة في الإثبات، فيراد منها: ما يكون علّةً للعلم بوجود الشيء، كعلّيّة العلم بالدخان للعلم بوجود النار.

وأمّا الواسطة في العروض، فهي: أن ينسب العرض إلى الواسطة حقيقةً، وإلى ذي الواسطة مجازاً، كحركة السفينة، فإنّها - أي: الحركة - محمولة على السفينة حقيقةً، وتنسب الى الجالس فيها مجازاً.

العرض الذاتيّ بين المتقدّمين والمتأخّرين

إذا عرفت هذا، فاعلم:

أنّ المعيار في صدق العرض الذاتيّ عند المتأخّرين من المحقّقين،

ص: 41

هو أنّه: ما يصحّ حمله على الشيء بلا عنايةٍ وتجوّز في، فالعرض الذاتيّ عندهم هو كلّ ما يصحّ حمله على الشيء وإسناده إليه حقيقةً.

أو فقل: هو كون العارض محمولاً حقيقةً على المعروض، ويكون إسن-اده إليه من إسناد الشيء إلى ما هو له، بحيث لا يصحّ سلبه عنه حقيقةً.

ففي علم النحو - مثلاً -: لمّا كان يصحّ حمل عوارض النوع، كالرفع الع-ارض للفاعل والنصب العارض للمفعول، على الجنس - وهو الكلمة - حقيقةً، فإنّ البحث عن رفع الفاعل ونصب المفعول في هذا العلم، وإن كان بحثاً عن أعراض أنواع الكلمة - والتي هي موضوع علم النحو - لا نفسها، إلّا أنّه يصدق عليه حقيقةً أنّه بحث عن الكلمة نفسها، وذلك لإمكان حمل هذه العوارض على الكلمة وإسنادها إليها حقيقةً ومن باب إسناد الشيء إلى ما هو له.وعلى هذا الأساس، فلا يكون للعرض الذاتيّ إلّا مصداق واحد، وهو ما كان عروضه للشيء بلا بواسطةٍ في العروض، كحركة السفينة بالنسبة الى الجالس فيها؛ فإنّها بالنسبة إليه مجاز، وبالنسبة إلى السفينة حقيقة.

وجميع ما لا يكون عروضه بواسطةٍ في العروض، فهو عندهم داخل في العرض الذاتيّ، حتّى ذاك الذي يكون عروضه للشيء بواسطة أمرٍ مباينٍ له وخارجٍ عنه، كعروض الحرارة للماء، بواسطة الأمر المباين له وهو النار؛ إذ ما دام عروضها للماء حقيقيّاً، بحيث لا يصحّ سلبها عنه في

ص: 42

الحقيقة، فتكون بالنسبة إلى الماء من أعراضه الذاتيّة، ولو أنّ عروضها عليه لم يكن إلّا بواسطة مباينه.

وأمّا بناءً على تعريف القوم؛ فإنّ هذا يكون داخلاً في العرض الغريب.

ولكنّ تعريف المتأخّرين أحسن ممّا ذكروه؛ وذلك لسلامته من أن يخرج عن العلم جلّ مسائله، ألا ترى أنّ الرفع والنصب المبحوث عنهما في علم النحو، لا يعرضان على الكلمة والكلام إلّا بواسطة الفاعليّة والمفعوليّة، اللّذان هما بالنسبة إلى الكلمة والكلام من قبيل الخارج الأخصّ، فلا يندرجان في الأعراض الذاتيّة إلّا إذا أخذنا بتعريف المتأخّرين؟! وكذا الحال فيما يرتبط بالبحث عن حجيّة الخبر الواحد في علم الاُصول - مثلاً -، فإنّ الحجيّة، وإن كانت لا تعرض على الخبر إلّا بواسطة الجعل الذي هو مباين لنفس الخبر، إلّا أنّ البحث عنها مع ذلك بحث عمّا هو من الأعراض الذاتيّة، لكونها محمولةً على الخبر حقيقةً ولا يمكن سلبها عنه.

اعتراض المحقّق الأصفهانيّ:

ومن هنا ظهر: عدم ورود الإشكال الذي أفاده المحقّق الأصفهانيّ) وحاصله: أنّ مسائل العلوم كثيراً ما تشتمل على البحث عمّا لا يكون عرضاً ذاتيّاً لموضوع العلم، لدخالته في الغرض المطلوب(1).

ص: 43


1- نهاية الدراية: 1: 3.

وكذا لا يرد ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره) - في السياق عينه - من أنّ ما يبحث عنه في العلم قد لا يكون من العوارض الذاتيّة لموضوعات المسائل، فضلاً عن موضوع العلم، وذلك لترتّب الغرض عليه، كما هي الحال في كثيرٍ من المحمولات في مسائل علم الفقه(1).

وجه عدم الورود: أنّ المقصود من العوارض الذاتيّة عند صاحب الكفاية(قدس سره): ما لا تكون أعراضاً غريبة.

ولذلك قال(قدس سره): «بلا واسطة في العروض»(2).

تعريف موضوع العلم

قال صاحب الكفاية) في تعريفه: «وهو نفس موضوعات مسائله عيناً»(3).

وقد يشكل فيه: بأنّ موضوع المسألة في بعض العلوم قد يكون جزءاً من موضوع العل-م، لا عينه ومتّحداً مع-ه، وذلك كما في علم الطبّ - مثلاً - فإنّ موضوعه هو بدن الإنسان إجمالاً، مع أنّ ما يبحث عنه في هذا العلم هو أجزاؤه،كالرأس والرقبة واليد والرجل وغيرها، والكلّ - كما لا يخفى - لا يصدق على الجزء، ولا ينطبق عليه خارجاً،

ص: 44


1- محاضرات في اُصول الفقه: 1: 29.
2- كفاية الاُصول: 7.
3- كفاية الاُصول: 7.

وإنّما هو مباين له. وإنّما الكلّيّ هو الذي ينطبق على الجزئيّات.

ولكنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ فيما لو قلنا: بأنّ موضوع علم الطبّ هو البدن، وأمّا لو قلنا: بأنّه هو الكلّيّ، وإن لم يتشخّص، فحينئذٍ لا ورود له، كما هو ظاهر.

وبهذا التعريف لموضوع العلم، لا يرد ما ذكره علماء الميزان: من أنّ موضوع العلم قد يكون مغايراً لموضوعات مسائله، وحينئذٍ: فلا تكون محمولات المسائل أعراضاً ذاتيّةً بالنسبة إلى موضوع العلم، إذ المفروض أنّه غير موضوعات المسائل، وليس متّحداً معها.

نعم، ما يرد على صاحب الكفاية) أنّ قوله - بعد التعريف المذكور -: «وما اتّحد معها خارجاً»(1)، غير تامٍّ؛ لأنّ الاتّحاد لا ينحصر في الاتّحاد الخارجيّ، بل يشمل الاتّحاد الواقعيّ أيضاً، وبناءً على اشتراط الاتّحاد بين موضوع العلم وموضوعات المسائل خارجاً فقط، كما صنعه الآخوند) في العبارة المذكورة، تخرج المسائل المنطقيّة، فإنّ موضوعاتها من المعقولات الثانويّة باصطلاح أهل المنطق.

وهذه - كما هو معلوم - لا وجود لها في الخارج حتى يتّحد معها الموضوع خارجاً، فلذلك، لا بدّ من إصلاح العبارة أعلاه، بأن يراد من الاتّحاد: الاتّحاد الواقعيّ والنفس الأمريّ، أعمّ من أن يكون اتّحاداً في الذهن أو في الخارج. هذا.

ص: 45


1- كفاية الاُصول: 7.

وإنّ اشتراطنا في موضوع العلم أن يكون كلّيّاً ومتّحداً مع موضوعات المسائل يدفع إشكالاً آخر يمكن أن يطرح في البين، وهو: أنّهم يقولون: موضوع علم النحو - مثلاً - هو الكلمة والكلام:فإن اُريد: أنّ الموضوع لعلم النحو هو كلّ منهما على سبيل الانفراد والاستقلال، تحوّل علم النحو إلى علمين اثنين.

وإن اُريد: أنّ الموضوع له واحد معيّن منهما، لم يكن هذا الواحد المعين موضوعاً، لعدم كونه جامعاً لجميع موضوعات المسائل حينئذٍ.

وإن اُريد: أنّ الموضوع له واحد غير معيّنٍ منهما، صار الموضوع مبهماً.

وإن اُريد: أنّهما موضوع له على سبيل الاجتماع، لزم عدم صدقه على كلّ واحد من موضوعات المسائل.

وقد يقال - في الدف-اع عن صاحب الكفاية -: بأنّه(قدس سره) إنّما جعل الموضوع نفس موضوعات المسائل فراراً عن مخالفة القاعدة التي ذكرناها سابقاً - أعني: قاعدة أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد، ويستحيل صدوره عن كثير - بدعوى أنّ الغرض الذي يترتّب على علم الاُصول غرض وحدانيّ، وهو: القدرة على الاستنباط، وبما أنّه وحدانيّ فارد، لم يمكن صدوره عن الكثير، أي: عن المسائل المختلفة موضوعاً ومحمولاً، فكان لا بدّ - بنظر صاحب الكفاية - من جعل الموضوع كلّياً، وإلّا، لورد عليه هذا الإشكال.

ص: 46

ولكن يجاب عنه: بأنّ مورد القاعدة - على ما أسلفنا - هو الواحد البسيط من جميع الجهات، دون ما له جهات متعدّدة، فإنّ القدرة على الاستنباط التي تترتّب على مباحث الألفاظ هي غير القدرة المترتّبة على مبحث حجّيّة الأمارات، فكما أنّ الموضوعات كثيرة ومتعدّدة، فإنّ الأغراض كذلك أيضاً. وبالجملة: فليس هناك أيّ مخالفةٍ لقاعدة الواحد، حتّى لو سلّمنا أنّها تشمل المورد أيضاً.

موضوع علم الاُصول

هل لهذا العلم موضوع أم لا؟(قدس سره)

مختار المشهور والمحقّق القمّيّ :

قد يقال - كما هو المشهور واختاره المحقّق القمّيّ)(1) -: بأنّ موضوع علم الاُصول هو الأدلّة الأربعة، بوصف دليليّتها.

ولكن قد يرد عليه: بأنّه بناءً على ذلك: يخرج عن علم الاُصول جملة من مهمّات المسائل الاُصوليّة، كمباحث الحجّيّة والأمارات وأمثالهما، لتدخل هذه المسائل - التي هي من صميم علم الاُصول - في المبادئ؛ إذ البحث عن العوارض بحث عمّا هو مفاد «كان» الناقصة لا التامّة، فلو كانت الحجّيّة قيداً للأدلّة، التي هي موضوع العلم؛ فإنّ البحث عن الحجّيّة والدليليّة - حينئذٍ - سيكون بحثاً عن وجود الموضوع، والذي هو

ص: 47


1- انظر: منتهى الدراية: 1: 15.

مفاد «كان» التامّة، فيكون البحث عن ظواهر الكتاب مثلاً، بل البحث عن حجّيّة الظواهر مطلقاً.

وكذلك، فإنّ البحث عن حجّيّة العقل والإجماع والاُصول العمليّة والملازمات العقليّة، لن يكون بحثاً عن عوارض الأدلّة، بل سيكون بحثاً عن ثبوت الموضوع.

وهذا يعني: أنّ هذه المسائل المهمّة ستدخل في مبادئ وتخرج عن مسائل الاُصول ومقاصده. هذا أوّلاً.

وثانياً: ما ذكره المحقّق العراقيّ)، من أنّ مسائل علم الاُصول تنقسم إلى أربعة أقسام:

أ - قسم يدور البحث فيه عن أنّ الأمر الكذائي حجّة أم لا، وعن تشخيص الحجّة وتمييزها عن غيرها، كمباحث الأمارات ومباحث التعادل والتراجيح.

ب - وقسم يبحث فيه عمّا ينتهي إليه أمر الفقيه بعد الفحص واليأس عن الدليل.ج - وقسم يبحث فيه عن أحوال الألفاظ، وظهورها فيما يذكر لها من المعاني، كمباحث الألفاظ.

د - وقسم يبحث فيه عن أحوال الأحكام الخمسة، كاستلزام وجوب الشيء لوجوب مقدّمته.

ولا شيء من هذه الأقسام يبحث عن أحوال واحدٍ من الأدلّة:

ص: 48

أمّا القسم الأوّل: فلأنّه يعالج السؤال حول كون الشيء تثبت له الحجّيّة والدليليّة أم لا، لا أنّه يبحث فيه عن أحوال الدليل.

وأمّا الثاني: فلعدم ارتباطه بالأدلّة الأربعة.

وأمّا الثالث: فلأنّه يبحث عن أحوال الأحكام بما هي أحكام، من دون نظرٍ إلى كونها مستفادةً أو غير مستفادةٍ من الأدلّة.

وأمّا الرابع: فلأنّ البحث فيه ليس عن أحوال الأدلّة، بل هو يبحث عن أحوال الألفاظ بما هي ألفاظ، لا من حيث كونها من ألفاظ الكتاب والسنّة. فالبحث عن دلالة الأمر على الوجوب مثلاً، ليس بحثاً عنه بعنوان أنّه أمر واقع في الكتاب والسنّة، بل بلحاظ كونه كلاماً عرفيّاً، وبما أنّه أحد أفراد الكلام الكلّيّ والمطلق، لا بما أنّه أمر كتابيّ بخصوصه.

مختار الفصول ومناقشته:

نعم، لو فرضنا بأنّ موضوع علم الاُصول هو ذوات الأدلّة، لا بوصف الدليليّة - كما هو مختار الفصول(1) - اندرج البحث عن الحجيّة حينئذٍ في البحث عن عوارض الأدلّة، لا في المبادئ.ولكن يرد عليه الإشكال أيضاً: بخروج كثيرٍ من المسائل عن كونها مسائل اُصوليّة، كالبحث عن حجّيّة الخبر الواحد - مثلاً -، فإنّه ليس بحثاً عن عوارض الأدلّة: أمّا أنّه ليس بحثاً عن عوارض الكتاب والإجماع والعقل، فظاهر، وبلا فرقٍ بين أن تكون هذه الثلاثة موضوعاً لعلم

ص: 49


1- انظر: الفصول الغرويّة: 4.

الاُصول بذاتها، أو بوصف دليليّتها. وأمّا أنّه ليس بحثاً عن عوارض السنّة، فظاهر أيضاً، لأنّ السنّة هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره، بل هو بحث عن عوارض الخبر، وليس الخبر نفس السنّة حتى يكون البحث عن حجيّتها من عوارضها، كما لا يخفى.

وكذا الحال بالنسبة للبحث عن حجّيّة أحد الخبرين - أعني: مبحث التعادل والتراجيح - فإنّه أيضاً ليس بحثاً عن حجّيّة الأدلّة، سواء كانت النتيجة هي الترجيح أو التخيير.. وهكذا أيضاً: البحث عن المرجّحات ومباحث الملازمات العقليّة، فإنّ البحث في مسألة الملازمات يرجع إلى البحث عن الاستحالة والإمكان، وهذا ليس بحثاً عن أحوال الأدلّة مطلقاً.

فإن قلت: لا نحتاج إلى العدول عن الرأي المشهور، وهو - كما مرّ -: أنّ الموضوع لعلم الاُصول هي الأدلّة الأربعة بوصف الدليليّة، ولا إلى ما اختاره صاحب الفصول) من أنّ الموضوع هو ذوات الأدلّة، لا نحتاج إلى ذلك، لكي ندخل مسألة حجيّة خبر الواحد في المسائل الاُصوليّة، ولكي يكون البحث عن حجيّة الخبر بحثاً عمّا هو من عوارض الموضوع.

وذلك لأنّه بناءً على أن يكون الموضوع هو الأدلّة بوصف الدليليّة أيضاً، فإنّ البحث المذكور يكون بحثاً عن عوارض السنّة؛ إذ البحث عن حجّيّة الخبر يرجع في حقيقته إلى البحث عن أنّ السنّة الواقعيّة هل تثبت بخبر الواحد أم لا.وبناءً على ذلك: تدخل مسألة حجّيّة الخبر في ضمن المسائل

ص: 50

الاُصوليّة، ولا يلزم أن تكون من المبادئ التصديقيّة الخارجة عن مقاصد الفنّ. وكذا يقال بالنسبة إلى البحث عن أحد الخبرين المتعارضين.

قلنا: إنّ البحث عن العوارض - كما نبّهنا عليه آنفاً - لا بدّ وأن يكون راجعاً إلى البحث عن المحمولات المترتّبة ممّا ينطبق عليه أنّه مفاد «كان» الناقصة والهليّة المركّبة. والمرجع في البحث عن حجّيّة الخبر حينئذٍ - بناءً على هذا القول - يرجع إلى ثبوت السنّة ووجود الموضوع، والبحث عن وجود الموضوع ليس بحثاً عن المحمولات المترتّبة، وإنّما هو بحث عن الوجود المحموليّ، وعليه: فلا يكون هذا البحث من المسائل، بل يكون من جملة المبادئ. هذا.

بالإضافة إلى أنّنا نسأل عن المراد من الثبوت، ثبوت السنّة بالخبر ما هو؟ فإن اُريد منه: الثبوت التكوينيّ الواقعي، أي: أن يصبح خبر الواحد واسطةً وعلّةً لثبوت السنّة واقعاً، فهو غير معقولٍ، كما لا يخفى؛ لأنّ خبر الواحد لا يقع في سلسلة علل وجود السنّة حتّى يكون علّةً لثبوتها واقعاً، كيف؟ وهو متأخّر عنها، ودوره بالنسبة إليها دور الحاكي، وبديهيّ أنّ الحكاية عن الشيء تقع في مرتبةٍ متأخّرةٍ عنه.

وإن أُريد منه: الثبوت التعبّديّ الذي مرجعه إلى حكم الشارع بالحجّيّة ولزوم العمل بمضمون الخبر تعبّداً، فحينئذٍ يندرج في العوارض، ولكنّه لا يجدي شيئاً، إذ يكون من عوارض الخبر لا السنّة، أو فقل: يندرج في

ص: 51

عوارض السنّة المشكوكة، لا السنّة الواقعيّة، والذي هو الموضوع لعلم الاُصول إنّما هي السنّة الواقعيّة، ونتيجة البحث في هذه المسألة - حينئذٍ - ترجع إلى البحث العوارض الغريبة عن السنّة الواقعيّة.

والحاصل: أنّه لا ينفع في دفع الإشكال أن يقال: بأنّ هذا الثبوت من عوارض السنّة لا من عوارض الخبر. هذا.بالإضافة - أيضاً - إلى بقاء الإشكال على حاله بالنسبة إلى المستلزمات العقليّة.

والمتحصّل من كلّ ما ذكرنا:

أنّ موضوع علم الاُصول هو الجامع الذي ينطبق على موضوعات مسائله في نفس الأمر والواقع، لا ذوات الأدلّة، ولا الأدلّة بقيد الدليليّة. أو فقل: هو الجامع للأدلّة التي تشترك في الاستدلال الفقهيّ. والبحث في هذا الفنّ عن حجّية هذه الأدلة من حيث إنّها يمكن للفقيه أن يستند اليها في مقام الاستنباط الفقهيّ.

لا يقال: إنّ البحث في جملةٍ من المسائل الاُصوليّة لا يصدق عليه أنّه بحث عن الحجّيّة، كما هي الحال في مسألة: الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته.

فإنّه يقال: النتيجة المتحصّلة من البحث في هذه المسألة هي: دليليّة أو عدم دليليّة الأمر بالشيء على وجوب مقدّمته.

وكذا الحال في نظائر هذه المسألة.. كمسألة قبح العقاب بلا بيان؛ فإنّ

ص: 52

مآل البحث فيها إلى أنّ عدم البيان هل يكون دليلاً، عقلاً أو شرعاً، على المعذّريّة وعدم الوجوب، أم لا يكون كذلك؟(قدس سره) فتكون داخلةً في مسائل هذا العلم بلا أدنى تأمّل.

فتلخّص: أنّه بناءً على ما اخترناه في موضوع هذا الفنّ، لا يرد الإشكال بخروج جملةٍ من أهمّ المسائل والمقاصد عنه.

الأمر الخامس: تعريف علم الاُصول

والمشهور بينهم في تعريف هذا العلم أنّه: «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة».وقد عدل عن هذا التعريف صاحب الكفاية(قدس سره) قائلاً: «وإن كان الاُولى تعريفه بأنّه: صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام»(1).

وقد يقال في الاعتراض على التعريف المشهور - أوّلاً -:

إنّ التعريف الثاني أولى من التعريف الأوّل، لعدم اشتماله على كلمة (العلم)، بخلاف الأوّل؛ وعليه: فيكون التعريف الثاني - لذلك - متطابقاً مع المعرّف، الذي هو علم الاُصول، أكثر؛ لأنّ حقيقة هذا العلم - ككلّ علمٍ من العلوم -: أنّه عبارة عن نفس المسائل، لا العلم بها.

ص: 53


1- كفاية الاُصول: 9.

ولكنّ الحقّ: أنّ قولهم: «العلم بالمسائل» لا يضرّ؛ لأنّ الغرض في أيّ علمٍ كان لا يترتّب على واقع قواعده، وإنّما يترتّب على العلم بها، ألا ترى أنّ القدرة على الاستنباط - مثلاً - تتوقّف على العلم بقواعد الاُصول، لا على نفس القواعد بوجودها الواقعيّ فقط؟(قدس سره)

وقد يرد على التعريف المشهور - ثانياً -:

أنّ ظاهره كون المناط في المسألة الاُصوليّة هو فعليّة وقوع هذه القواعد في طريق الاستنباط، وأنّه لا يكفي شأنيّتها، مع أنّ هذه المسائل لا يترتّب عليها الاستنباط الفعليّ إلّا بعد ضمّ صغرياتها إليها.

ولعلّه لأجل هذا أيضاً كان عدول صاحب الكفاية(قدس سره) عن التعريف المشهور إلى التعريف الثاني، جاعلاً إيّاه أولى من التعريف الأوّل.

ولكن نقول: لو قلنا في تعريف هذا العلم: هو «العلم بالقواعد الممهّدة التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام» لسلم من ورود هذا الإشكال عليه، كما لا يخفى؛لاشتماله على ما يدلّ على أنّ المعتبر في اُصوليّة المسألة هو شأنيّة وقوعها في طريق الاستنباط، لا وقوعها الفعليّ.

وقد يرد عليه - ثالثاً -:

أنّه بناءً عليه: يلزم أن يكون البحث في كثيرٍ من المسائل المهمّة التي يتمّ تناولها في الكتب الاُصوليّة بحثاً استطراديّاً، كمسائل الاُصول العمليّة، وكمسألة حجّيّة الظنّ في حالة الانسداد، بناءً على الحكومة.

ص: 54

أمّا استطراديّة الاُولى:

فلأنّها وظائف للشّاكّ في مقام العمل، وليست ممّا يمهّد لاستنباط الأحكام كما هي وظيفة المسألة الاُصوليّة، بل هي إمّا أحكام بأنفسها، بناءً على إمكان الجعل للحكم الظاهريّ، وإمّا مجرّد ترخيصٍ في الترك بناءً على عدمه.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الاُصول العمليّة: إمّا أن لا يكون مفادها حكماً شرعيّاً، ولا يتوصّل بها إلى حكمٍ شرعيٍّ، وهي الاُصول العقليّة، كالبراءة والاشتغال العقليّين، فإنّ مفادهما فقط هو المعذّريّة والمنجّزيّة، من دون أن تكون إحداهما واسطةً في الاستنباط. وإمّا أن يكون مفادها حكماً شرعيّاً، وذلك كأصالة الحلّ ونحوها، والاستصحاب، بناءً على كونه يتكفّل بإثبات حكمٍ مماثلٍ؛ فإنّ هذه لا تعين على استنباط حكمٍ شرعيٍّ، وإنّما تكون، هي بنفسها، حكماً شرعيّاً، وهو الحلّيّة - مثلاً -.

ولهذا، فقد زاد صاحب الكفاية) على هذا التعريف جملةً اُخرى وهي قوله: «أو التي ينتهى إليها في مقام العمل»(1).

ولكن، إذا فسّرنا التعريف المشهور، فقلنا: بأنّ المراد من وقوع تلك القواعد في طريق الاستنباط إنّما هو: أنّ هذه القواعد كبريات لا بدّ من انضمام صغرياتها إليهاحتى يمكن أن يستنتج الحكم الكلّيّ الإلهيّ، سواء كان هذا الحكم حكماً واقعيّاً أو ظاهريّاً، شرعيّاً أو عقليّاً.

ص: 55


1- كفاية الاُصول: ص 9.

وبعد هذا التفسير، فلا يبقى مجال للإشكال المزبور، ومعه: فلا نحتاج إلى زيادة جملة: «أو التي ينتهى إليها في مقام العمل».

نعم، يرد الإشكال: بأنّ الكبرى العقليّة لا تثبت الحكم الكلّي الإلهيّ إلّا بعد إثبات الملازمة أوّلاً. فلو اُريد من وقوع تلك القواعد في طريق الاستنباط: أنّها أمارة وحجّة على إثبات الحكم الواقعيّ، لكان الإشكال متّجهاً، ولكنّا بحاجةٍ إلى هذه الزيادة.

ولكن الحقّ أنّ التعريف ليس تامّاً، وذلك من جهتين:

الاُولى: أنّ الحكم الموجود في موارد الاُصول العمليّة ليس حكماً يصار إلى استنتاجه من القاعدة الاُصوليّة، وإنّما هو نفس القاعدة الاُصوليّة، ونفس الأصل العمليّ.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الاُصول العمليّة - والتعبير للاُستاذ الأعظم(قدس سره)(1) - لا تقع في طريق الاستنباط للحكم الشرعيّ الكليّ لأنّ إعمالها في مواردها إنّما هو من باب تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها وأفرادها، كتطبيق الطبيعيّ على أفراده، وهو ليس من باب استنباط الأحكام الشرعيّة منها وتوسيطها لإثباتها.

وأمّا الاُصول العقليّة والظنّ الانسداديّ: فهما لا ينتهيان إلى حكمٍ شرعيٍّ أصلاً، لا واقعاً ولا ظاهراً.

ص: 56


1- انظر: محاضرات في الاُصول 1: 11.

والجهة الثانية: أنّ قسماً من الاُصول العمليّة لا ينتج حكماً شرعيّاً، حتى الظاهريّ منه، وإنّما هو مجرّد وظيفةٍ عمليّةٍ يقرّرها العقل بعد العجز عن الوصول إلى الحكم الشرعيّ.

وأمّا استطراديّة حجيّة الظنّ الانسداديّ بناءً على الحكومة

فلأنّه لا علم هناك بالحكم في مورده، لا واقعاً: لأنّ باب العلم مسدود بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة؛ ولا ظاهراً: لعدم جعلٍ هناك من قبل الشارع أصلاً.

ولا فرق في ذلك:

بين أن يكون المراد من الظنّ: الظنّ على مسلك الحكومة، أعني: حكم العقل بجواز التبعيض في الاحتياط وبجواز الاكتفاء بالامتثال الظنّيّ والعمل بالمظنونات؛ لأنّ جواز الاقتصار على الامتثال الظنّيّ وعدم لزوم الامتثال اليقينيّ لا دخل له بعالم استنباط الأحكام، بل إنّما يرتبط بعالم فراغ الذمّة والامتثال والتعذير عن الواقع، ولو في ظرف الموهومات.

وبين أن يكون المراد: أنّ العقل يرى، ببركة مقدّمات الانسداد، الحجّيّة للظّنّ، أي: أنّ للمكلّف أن يقتصر في الامتثال وأداء التكليف على المظنونات استناداً إلى مرجعيّةٍ معيّنةٍ، وهي: حجيّة الظنّ بنظر العقل. وبناءً على ذلك، فإنّ حجّيّة الظنّ عقلاً لا تعني إلّا كونه - أي: الظنّ - منجّزاً وحجّةً على العبد، وأين هذا من كونه يستنبط منه أيّ حكمٍ من الأحكام؟(قدس سره) فتأمّل.

ص: 57

وقد يستشكل في هذا التعريف أيضاً

بأنّه ليس مانعاً للأغيار، لتناوله للقواعد الفقهيّة، فإنّها - أيضاً - ممّا يستنبط منه حكم شرعيّ.

ولكن، يردّه: أنّ القواعد الفقهيّة، وإن كانت تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة، إلّا أنّ ذلك أبعد ما يكون عن باب الاستنباط، وإنّما هو من باب التطبيق.وبعبارةٍ اُخرى أدقّ: فهي نفس الحكم الشرعيّ، لا أنّه يستخرج منها الحكم الشرعيّ. فإنّ قاعدة «ما يضمن بصحيحه» هو لجميع الضمانات الموجودة في البيع والإجارة وغيرهما، لا أنّها مجرد طريقٍ للحكم أو كاشفٍ عنه.

وأمّا عدول صاحب الكفاية(قدس سره) عن التعبير ﺑ-(العلم) إلى التعبير ﺑ-(الصناعة)، وقوله: بأنّ ذلك أولى، فقد قيل في وجهه: إنّ أولويّة التعريف الثاني من جهة أنّ علم الاُصول ليس له قواعد مضبوطة كسائر العلوم حتى يعرّف بأنّه عبارة عن (العلم بالقواعد).

ولكنّ الصواب: عدم تمامية ذلك - لو كان هو المراد له(قدس سره) حقّاً كما قيل - لأنّنا لا نسلّم عدم كون قواعد علم الاُصول قواعد مضبوطةً، بل هي مضبوطة ومدوّنة في كتب الاُصول.

بل نزيد على ذلك: أنّ الإشكال يرد على التعريف الذي جاء به هو(قدس سره)،

ص: 58

والذي أخذ فيه قيد (صناعة)؛ فإنّ لازمه - لو قلنا: بأنّ الصناعة هي الملكة - هو كون ذوات القواعد خارجةً عن علم الاُصول.

فالاُولى لذلك - وخلافاً للكفاية - أن يعرّف علم الاُصول بما جاء في التعريف الأوّل، أي: بأن يقال: هو العلم بالقواعد ... إلخ.

هذا كلّه، لو لم نقل: بأنّ المقصود من العلم هو نفس القواعد - كما فيما إذا قيل: العلم الكذائي موضوعه كذا، والغرض منه كذا - وإلّا، فلو قلنا بذلك، لكان لفظ العلم زائداً ومستدركاً، كما لا يخفى.

وقد اعترض على هذا التعريف أيضاً، بأنّه يشمل بعض القواعد الفقهيّة، كقاعدة الطهارة، ويدخلها تحت المسألة الاُصوليّة.واعتذر عن هذا الاعتراض: بالمنع، لأنّ قاعدة الطهارة - مثلاً - تختصّ ﺑ «باب الطهارة»، والمسألة الاُصوليّة هي التي لا تختصّ ببابٍ دون باب(1).

ولكن هذا الاعتذار لا يتمّ إلّا إذا أخذنا هذا القيد، أعني: عدم الاختصاص ببابٍ دون باب، في تعريف علم الاُصول، أو لو أخذنا بالتعريف الذي تبنّاه بعض محقّقي المعاصرين) لعلم الاُصول وهو أنّ «علم الاُصول هو العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهيّ ... إلخ»(2).

وأمّا على التعريف المشهور، وكذا على تعريف الكفاية، فالإشكال

ص: 59


1- نسبه اُستاذنا المحقّق) إلى صاحب الكفاية(قدس سره) في منتهى الاُصول 1: 4.
2- بحوث في علم الاُصول 1: 31.

وارد ومتّجه، إلّا أن يقال: بأنّها من المسائل الاُصوليّة وليست بخارجةٍ عن المسائل الاُصوليّة حقيقةً.

وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقّق في ردّ هذا الاعتراض: من أنّ القاعدة المذكورة من المسائل الاُصوليّة، وليست بخارجةٍ عنها، غاية الأمر: أنّهم لم يتعرّضوا لها في الاُصول العمليّة، وما ذلك إلّا لكونها متّفقاً عليها، فلا تحتاج الى البحث هناك(1):

فلا يمكن المساعدة عليه بوجهٍ: لأنّ بعض المسائل الاُصوليّة اتّفاقيّة أيضاً، ومع ذلك فقد ذكروها في علم الاُصول وجعلوها من المسائل الاُصوليّة.

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ) أفاد:«أنّ المراد بوقوع تلك القواعد [يعني: القواعد الاُصوليّة] في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة هو أن تكون ناظرةً إلى إثبات الحكم بنفسه، أو بكيفيّة تعلّقه [أي: الحكم] بموضوعه»(2).

وقال أيضاً:

«إنّ مباحث العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمفهوم والمنطوق، [على سبيل المثال] ناظرة الى كيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع، فهي داخلة في علم الاُصول».

ص: 60


1- منتهى الاُصول 1: 4.
2- منتهى الاُصول 1: 3- 4.

إلى أن يقول: وهذا «بخلاف مبحث المشتقّ ونظائره، ممّا هو راجع إلى تشخيص الموضوع، فهي خارجة، لأنّها ليست ناظرةً إلى إثبات الحكم بنفسه ولا إلى كيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع».

ولكنّ الحقّ: أنّ البحث في مسألة العامّ والخاصّ لا يدور حول كيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع فيها، بل إنّما هو راجع إلى تشخيص الموضوع من جهة السعة والضيق، فعلى غرار ما أفاده المحقّق العراقيّ) في مسألة المشتقّ - مثلاً -: فلابدّ من القول بخروجها من هذا العلم.

فالظاهر - إذاً -: أنّ أحسن التعاريف لعلم الاُصول أن يقال: «إنّه القواعد التي يمكن أن تقع في كبرى القياس، بحيث لو انضمّت إليها صغرياتها استنتج منها الحكم الكلّي الإلهيّ أو الوظيفة العمليّة».

وأمّا الاُستاذ الأعظم(قدس سره)، فقد ذكر في تعريف علم الاُصول:

أنّه «هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الكلّيّة الإلهيّة من دون حاجةٍ إلى ضميمة كبرى أو صغرى اُصوليّةٍ اُخرى إليها».وفي تحديد الضابطة للمسألة الاُصوليّة يقول(قدس سره):

«أن تكون استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة من المسألة من باب الاستنباط والتوسيط، لا من باب التطبيق، أي: تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها، كتطبيق الطبيعيّ على أفراده. والنكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاُصول هي: الاحتراز عن القواعد الفقهيّة، فإنّها قواعد تقع في طريق استفادة الأحك-ام

ص: 61

الشرعيّة الإلهيّة، ولا يكون ذلك من باب الاستنباط والتوسي-ط، بل من باب التطبيق، وبذلك خرجت عن التعريف».

ثمّ إنّه) ذكر بعد ذلك اعتراضاً أورده على هذه الضابطة التي اختاره لنفسه، وحاصله:

«أنّ اعتبار ذلك يستلزم خروج عدّةٍ من المباحث الاُصوليّة المهمّة عن علم الاُصول: كمباحث الاُصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة، والظنّ الانسداديّ بناءً على الحكومة...».

وقد تولّى)، هو بنفسه، مهمّة الجواب عن هذا الإشكال لاحقاً، إذ قال:

«إنّ هذا الإشكال مبتنٍ على أن يكون المراد بالاستنباط المأخوذ ركناً في التعريف: الإثبات الحقيقيّ، بعلمٍ أو علميٍّ، إذ على هذا لا يمكن التفصّي عن هذا الإشكال أصلاً، ولكنّه ليس بمرادٍ منه، بل المراد به معنىً جامع بينه وبين غيره، وهو الإثبات الجامع بين أن يكون وجدانيّاً أو شرعيّاً أو تنجيزيّاً أو تعذيريّاً. وعليه: فالمسائل المزبورة تقع في طريق الاستنباط، لأنّها تثبت التنجيز مرّةً والتعذير مرّةً اُخرى، فيصدق عليها - حينئذٍ - التعريف، لتوفّر هذا الشرط فيها، ولا يلزم إذاً محذور دخول القواعد الفقهيّة فيه»(1).وبهذا يتمّ الكلام فيما أردنا ذكره في هذه المقدّمة.

ص: 62


1- محاضرات في الاُصول 1: 11- 12.

المقصد الأوّل: في الوضع

وفيه فصول:

ص: 63

ص: 64

الفصل الأوّل: في حقيقة الوضع

اشارة

من جملة الاُمور التي طاولها البحث الاُصوليّ وتناولتها كتب هذا الفنّ: (مبحث الوضع).

وقد قيل: بأنّه إنّما بحث عنه هنا؛ لأنّه لم يبحث عنه في أيّ علمٍ آخر، حتّى علم متن اللّغة؛ إذ من الواضح: أنّ كتب اللّغة لم تتكفّل ببيان حقيقة الوضع وماهيّته، وإنّما وقع البحث فيها عن كيفيّة وموارد الاستعمال.

ولكنّ الحقّ: أنّه قد وقع البحث عنه عند بعض اللّغويّين، وقد ذكرته بعض كتب اللّغة(1).

ص: 65


1- بحث عنه ابن جنّي في كتابه: (الخصائص): 40 - 45، «باب القول على أنّ اللغة إلهام هي أم اصطلاح»، قال: «هذا موضع محوج إلى فضل تأمّلٍ، غير أنّ أكثر أهل النظر على أنّ أصل اللّغة إنّما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف، إلاّ أنّ أبا عليٍّ) قال لي يوماً: هي من عند الله، واحتجّ بقوله تعالى: ﴿وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كلُّ-هَا﴾ - إلى أن قال - : وهذا أيضاً رأي أبي الحسن الأخفش. على أنّه لم يمنع قول من قال - : إنّها تواضع منه، على أنّه فسّر هذا بأن قيل: إنّ الله سبحانه علّم آدم جميع المخلوقات بجميع اللّغات: العربيّة والفارسيّة والسّريانيّة والعبرانيّة والروميّة، وغير ذلك من سائر اللّغات، فكان آدم وولده يتكلّمون بها، ثمّ إنّ ولده تفرّقوا في الدنيا، وتعلّق كلّ منهم بلغةٍ من تلك اللّغات، فغلبت عليه واضمحلّ عنه ما سواها، لبعد عهدهم بها».

وعلى أيّة حالٍ، فالبحث عن الوضع إنّما يكون بعد البناء على أنّ دلالة الألفاظ على معانيها لم تكن ذاتيّةً محضةً، وإلّا، فلا يكون هناك مجال لهذا البحث أصلاً.وفي المسألة وجوه ثلاثة:

أوّلها: أنّ دلالة الألفاظ على معانيها دلالة ذاتيّة محضة، بمعنى: أنّ لا منشأ لدلالة الألفاظ على معانيها إلّا وجود مناسبةٍ ذاتيّةٍ وطبعيّةٍ بينها وبين هذه المعاني.

والثاني: أنّ العلاقة التي تربط بين الألفاظ والمعاني لا تحصل إلّا بتوسّط الجعل، والذي هو الوضع.

والثالث: أنّها علاقة بالذات وبالجعل معاً.

والحقّ هو الوجه الثاني.

أمّا أوّلاً:

فلأنّ هذه الدلالة إن كانت بالطبع، لم يمكن الجهل باللّغات أصلاً، ولا اختلفت اللّغة باختلاف الأعصار والاُمم، بل لو كانت هذه الدلالة موجبةً بذاتها لأن يكون سماع اللّفظ علّةً للانتقال إلى فهم المعنى، من دون جعلٍ ولا اعتبار، فنتيجة ذلك: لزوم إحاطة كلّ شخص بكلّ اللّغات،

ص: 66

وهو كما ترى، لا أساس له من الصحّة.

وأمّا ثانياً:

فلأنّه لو فرض أنّ هناك معنىً واحداً بسيط الذات، وكان له ألفاظ عدّة، من لغةٍ واحدةٍ أو من لغات متعدّدة:

فإمّا أن يكون الربط موجوداً بينه وبين جميع هذه الألفاظ معاً.

وإمّا أن لا يكون هناك ربط بينه وبين شيءٍ منها أصلاً.

وإمّا أن يكون ثمّة ربط بينه وبين بعض هذه الألفاظ دون البعض الآخر.

أمّا الأخير: فواضح البطلان، لأنّ هذا البعض الذي لا ربط بينه وبين المعنى كيف كان من الألفاظ التي تدلّ على ذلك المعنى، كما هو المفروض؟(قدس سره) وأمّا الثاني: فبطلانه أوضح، كما لا يخفى.وأمّا الأوّل: فيستلزم التركيب في الذات وخروجها عن البساطة.

ومن هنا ظهر: أنّ ما قد نسب إلى البعض، وهو سليمان بن عباد: من «كون دلالة الألفاظ على معانيها بالطبع، أي: كانت هناك خصوصيّة في ذات اللّفظ اقتضت دلالته على معناه، من دون أن يكون هناك وضع وتعهّد من أحد»(1)، فغير تامٍّ.

ص: 67


1- فوائد الاُصول 1: 29 - 31.

الفرق بين الأمر الحقيقيّ والجعليّ

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الوضع على هذا القول، أمر حقيقيّ وتكوينيّ، وليس أمراً جعليّاً.

والفرق بين الأمر الحقيقيّ وبين الأمر الجعليّ: أنّ الحقيقيّ هو ما كان له نحو ثبوت في نفس الأمر والواقع، بلا ارتباط بجعل جاعل وفرض فارض، بل هو ثابت ولو لم يكن جاعل. ويقابله: الأمر الجعليّ؛ فإنّ ثبوته متقوّم بجعل الجاعل من دون أن يكون له تقرّر في نفس الأمر.

وممّا يترتّب على هذا: أنّ اختلاف الأنظار في ثبوت الأمر الحقيقيّ لا يوجب تغيّراً في ثبوته، ولا يستلزم التبدّل فيه، بل هو على ما هو عليه من التقرّر والثبوت، والاختلاف المذكور يرجع إلى تخطئة كلٍّ من المختلفين للآخر في نظره وعلمه بثبوته أو عدم ثبوته، ولا يضير اعتقاد عدم ثبوته فيه، بل يكون كما كان بلا تغيّرٍ ولا تبدّل.

وأمّا اختلاف الأنظار في الأمر الجعليّ؛ فإنّه يرجع إلى اعتباره وعدم اعتباره، فيوجب تبديلاً فيه، ويكون ثابتاً بالنسبة إلى بعضٍ وغير ثابتٍ بالنسبة إلى آخرين، وهو لا يرجع إلى التخطئة في النظر، إذ هو موجود مع فرض تسليم ثبوته بالنسبة إلى الجاعل والمعتبر.وذلك نظير ما لو اعتبر قوم شخصاً ما رئيساً لهم، ولم يعتبره آخرون كذلك، بل اعتبروا شخصاً غيره رئيساً، فإنّ اختلاف النظر في الرئيس لا يرجع إلى تخطئة كلٍّ من الفريقين للآخر في دعواه؛ إذ لا واقع للرئيس

ص: 68

غير الاعتبار، وإنّما يرجع هذا الاختلاف إلى الاختلاف في الاختيار وفي الاعتبار والجعل، وذلك يستلزم أن يكون لكلٍّ منهما رئيس غير الرئيس الذي للآخر.

تقسيم الأمر الحقيقيّ

ثمّ إنّ الاُمور الحقيقيّة على نوعين:

النوع الأوّل: ما يكون له وجود في الخارج، ويكون الخارج ظرفاً لوجوده، وهو: المقولات العشر: أي: الجوهر والأعراض التسعة.

والنوع الثاني: ما لا وجود له منحازاً ولا له ما بإزاء، ويعبّر عنه: بما لا يكون الخارج ظرفاً لنفسه، وذلك كالملازمات العقليّة، فإنّ الملازمة بين شيئين من الاُمور الحقيقية التي لها تقرّر في نفس الأمر ولا ترتبط بجعل جاعلٍ، إلّا أنّها لا وجود لها في الخارج ينحاز عن وجود المتلازمين.

وإذا اتّضح ذلك، نقول:

الوضع، وإن سلّمنا أنّه من الاُمور الحقيقيّة، إلّا أنّه - لا محالة - لا يمكن أن يكون من القسم الأوّل؛ لأنّ هذا القسم منحصر بالمقولات العشر، وليس الوضع من أحدها؛ إذ هو ليس من الجوهر، كما لا يخفى؛ لأنّه ارتباط بين اللّفظ والمعنى، ولا وجود لشيءٍ جوهريّ، كالجسم، بين اللّفظ والمعنى، كما هو ظاهر.

ص: 69

كما أنّه ليس من بقيّة المقولات العرضيّة؛ لأنّ العرض بدون المعروض في الخارج ليس بشيءٍ، فوجوده لا يكون إلّا في ضمن وجود المعروض الموجود خارجاً،والمفروض: أنّ الارتباط المدّعى كونه من الاُمور الحقيقيّة ليس بين اللّفظ الموجود والمعنى، بل بين طبيعيّ اللّفظ والمعنى؛ لوضوح أنّ استعمال اللّفظ متأخّر عن الوضع وعن ثبوت الارتباط بينه وبين المعنى، ووجود اللّفظ إنّما يكون بالاستعمال، فالارتباط المدّعى حاصل قبل وجود اللّفظ؛ لأنّه ثابت قبل الاستعمال، بل ولو لم يحصل الاستعمال بعد.

وهذا يعني: أنّه ليس من سنخ الأعراض، وإلّا، لكان ثبوته متوقّفاً على وجود اللّفظ فعلاً، الذي هو - بدوره - متوقّف على الاستعمال.

فتحصّل: أنّ القول بكون دلالة اللّفظ على المعنى أمراً ذاتيّاً ليس بصحيحٍ، وذلك لما أشرنا إليه سابقاً من أنّه لا ينسبق المعنى إلى الذهن من اللّفظ بدون الوضع، ولأنّ الجاهل بالوضع لا يفهم المعنى من اللّفظ.

الاعتراض بلزوم الترجيح بلا مرجّحٍ

نعم، بقي هناك إشكال، وهو: أنّ قيام الواضع باختيار لفظٍ خاصّ لمعنىً المخصوص لابدّ وأن يكون مستنداً إلى مرجّحٍ ما، وإلّا لكان من الترجيح بلا مرجّح، وهو محال.

والجواب عن هذا الإشكال:

أوّلاً: سلّمنا استحالة الترجيح بلا مرجّح، إلّا أنّه لا يلزم أن يكون

ص: 70

المرجّح هو المناسبة الذاتيّة، بل يجوز أن يكون أمراً خارجيّاً.

وثانياً: إنّ ما هو المحال إنّما هو الترجّح بلا مرجّحٍ، وأمّا الترجيح بلا مرجّح فلا استحالة فيه أصلاً، بل ولا قبح أيضاً.وعلى فرض التنزّل والقول: بأنّه قبيح أو محال، فنقول: يكفي وجود المرجّح الخارجيّ والنوعيّ في طبيعيّ الفعل، ولو لم يكن هناك مرجّح في شيءٍ من الأفراد، ولو لم يكن هناك ربط ذاتيّ بين هذا اللّفظ الخاصّ وذاك المعنى المخصوص الذي وضع هو له.

وحينئذٍ:

جاز وجود المصلحة والمرجّح في طبيعيّ الوضع، وهو - مثلاً - أنّ التفهيم والتفهّم منوط بالوضع في بعض الموارد، وبعد وجود هذه المصلحة في الطبيعيّ، فلا يلزم وجود مرجّحٍ في كلّ موردٍ من الموارد، بل تكون هذه المصلحة النوعيّة كافيةً لذلك، ولا يكون هناك قبح أصلاً.

ومن هنا ظهر:

بطلان القول الثالث الذي اختاره المحقّق النائينيّ) بقوله:

«اختلف العلماء في أنّ دلالة الألفاظ هل هي ذاتيّة محضة، أم جعليّة صرفة، أو بهما معاً؟ والحقّ هو الثالث، فإنّا نقطع - بحسب التواريخ التي بين أيدينا - أنّه ليس هناك شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ المتكثّرة في لغةٍ واحدةٍ لمعانيها التي تدلّ عليها، فضلاً عن سائر اللّغات.

ص: 71

كما أنّا نرى وجداناً عدم الدلالة الذاتيّة بحيث يفهم كلّ شخصٍ من كلّ لفظٍ معناه المختصّ به... إلخ»(1).

وحاصله: أنّ الدلالة ليست ذاتيّةً صرفة؛ لوضوح عدم تبادر المعاني من الألفاظ من حيث هي هي، ولو كانت هناك دلالة ذاتيّة للزم انسباق المعنى من اللفظ لكلّ أحد بمجرّد إلقاء اللّفظ إليه؛ كما أنّ هذه الدلالة لا يمكن أن تكون بالجعلالصرف؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح، فلا جرم - إذاً - أنّ هذه الدلالة هي بجعل الجاعل بالإضافة إلى المناسبة الذاتيّة.

وقد عرفت ما فيه، وأنّه يكفي المرجّح الخارجيّ أو النوعيّ، ولا ينحصر المرجّح في الذاتيّ.

فالمتعيّن هو القول الثاني، دون الأوّل والأخير.

وإذا عرفت ذلك، فالبحث في الوضع من جهتين:

الجهة الاُولى: في بيان معنى الوضع

وما ينبغي أن يعلم هنا: أنّ الوضع تارةً يطلق ويراد منه المعنى الاسم المصدريّ، واُخرى يراد منه المعنى المصدريّ.

فعلى الأوّل: يكون الوضع عبارةً عن ارتباطٍ خاصّ بين اللّفظ والمعنى. وعلى الثاني: فهو عبارة عن اختصاص اللّفظ بالمعنى.

ص: 72


1- أجود التقريرات 1: 10.

والجهة الثانية: أنّه قد وقع الخلاف في معنى الوضع

فمنهم من فسّره بالالتزام والتعهّد، أي: بأن يتعهّد الواضع بإرادة المعنى من اللّفظ حين استعماله للّفظ بلا قرينةٍ. وهذا القول منسوب إلى الفاضل النهاونديّ(1).

ومعنى الوضع - على هذا القول - هو أنّ الواضع يتعهّد بأن لا يأتي باللّفظ إلّا إذا أراد إفهام معناه المعيّن، ليجعل بذلك نوعاً من السببيّة بين اللّفظ والمعنى.وبعبارة اُخرى: فإنّ هذا التعهّد يكون هو السبب لنشوء هذا الارتباط بين اللّفظ والمعنى. ويشترط فيه: أن يكون ظاهراً أنّ الغرض من النطق بهذا اللّفظ هو إرادة إفهام ذلك المعنى الخاصّ، وأن ليس له من داعٍ آخر سوى إفهام هذا المعنى.

وممّا يترتّب على هذا القول: أنّه لا بدّ أن يكون كلّ مستعملٍ واضعاً حقيقةً، وهذا غير معقول، لأنّ كلّ شخصٍ مسؤول عن تعهّداته هو، ولا يعقل أنّ يكون تعهّد الواضع الواحد محققا للدّلالة على قصد إفهام المعنى من قبل غيره.

وممّا يترتّب عليه أيضاً: أن يكون الواضع للّغة متعدّداً، وليس واحداً، وأن لا يكون هناك فرق بين الواضعين المختلفين وبين الواضع الأوّل،

ص: 73


1- نسبه إليه في منتهى الدراية: 1: 23.

إلّا في أنّ الواضع الأوّل أسبق من غيره إلى الاستعمال والتعهّد، وهو كما ترى.

ويترتّب عليه أيضاً: أنّ الدلالة الوضعيّة بناءً عليه دلالة تصديقيّة وليست تصوريّةً.

ويرد عليه أيضاً: أنّ متابعة هذا المتعهّد لماذا يجب أن تكون ملزمةً للآخرين؟(قدس سره) وأيضاً: فلو قلنا بهذا القول: لبطل تقسيم اللّفظ إلى قسميه المشهورين: التعيينيّ والتعيّنيّ.

وبالجملة: فإنّ القول بالتعهّد في تفسير الوضع، مع كونه واحداً من أهمّ الظواهر العرفيّة والعقلائيّة، واضح البطلان؛ لأنّه معنىً دقيق لا تدركه ولا تصل إليه أذهان أهل العرف عادةً.

وأمّا صاحب الكفاية)، فقال:

«الوضع هو نحو اختصاصٍ للّفظ بالمعنى، وارتباط خاصّ بينهما، ناشئ من تخصيصه به تارةً، ومن كثرة استعماله فيه اُخرى»(1).ولكنّ هذا التعريف للوضع غير تامّ؛ لأنّ الاختصاص لا يمكن أن يشكّل حقيقة الوضع، كيف؟(قدس سره) وهو إنّما يحصل بعد الوضع.

ومنهم من فسّره: بجعل اللّفظ علامةً للمعنى. وهو ما اختاره اُستاذنا المحقّق(قدس سره)، وفسّره بأنّه عبارة عن «الهوهويّة والاتّحاد بين اللّفظ

ص: 74


1- كفاية الاُصول: 9.

والمعنى في عالم الاعتبار»(1).

ثمّ هذا الاتّحاد والهوهويّة، هل هو اعتباريّ، حصل من جهة الجعل أو كثرة الاستعمال أم لا؟ والحقّ: أنّ هذا الاتّحاد حصل من جهة طبيعيّ اللّفظ والمعنى، لا بمعنى: أنّ آثار اللّفظ تترتّب على المعنى حتّى يقال: بأنّ الحكومة والتنزيل يكونان بلحاظ الآثار، وحتّى يستشكل بأنّه ليس هناك من أثر جعليّ يترتّب على المعنى لكي يكون قابلاً لاعتبار ترتّبه على اللّفظ، ولكي يحصل به غرض الوضع، ويكون حاصلاً في الواقع ومع قطع النظر عن الخارج.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ طبيعيّ اللّفظ مستعدّ لإحضار طبيعيّ المعنى في ذهن من يسمع ذلك اللّفظ. ويكون هذا الاعتبار اعتباراً للعينيّة بالحمل الأوّليّ.

فالوضع - إذاً - من الاُمور الواقعيّة، ولكن ببركة الجعل والاعتبار، لا من الاُمور التكوينيّة.

ولا يخفى: أنّ مرادنا من الاعتبار هنا: جعل المؤدّى هو الواقع، ومن باب التوسعة في الموضوع، نظير: «الطواف في البيت صلاة». فهو ليس من الاُمور الاعتباريّة المحضة، ولا من الاُمور الانتزاعيّة، بل - كما ذكرنا - فهو من الاُمور الواقعيّة ببركة الجعل.

ص: 75


1- منتهى الاُصول: 1: 15.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ حقيقة الوضع عبارة عن: أن يعتبر المعتبر وجود اللّفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى، بحيث يصبح اللّفظ هو هو، ولكن في عالم الاعتبار، لا تكويناً.

وعند الاستعمال، يكون نظر المتكلّم إلى المعنى استقلاليّاً وإلى اللّفظ آليّاً، أي: فيكون نظره محصوراً فقط في إلقاء المعنى إلى المخاطب وإيجاده باللّفظ، ويكون نظره الاستقلاليّ منحصراً إلى المعنى، تماماً كالنظر إلى المرآة لرؤية الوجه.

وحينما نقول: بأنّ هذا الجعل ليس من الاُمور التكوينيّة، فإنّما نعني بذلك: أنّها ليست كإحدى المقولات: أي: لا من مقولة الجوهر؛ لأنّ الجواهر منحصرة في الخمسة: العقل والنفس والصورة والمادّة والجسم. ولا من الأعراض المنحصرة في التسع، لأنّها ليست قائمةً بنفسها في الخارج، بل الأعراض متقوّمة بالغير.

لكنّ الصواب ما ذكرناه:

من أنّ حقيقة الوضع أنّه عبارة عن ملازمة خاصّة وربط مخصوص بين طبيعيّ اللّفظ والمعنى الموضوع له، ولا يتوقّف ثبوتها وتحقّقها على وجودها في الخارج، بل هذه الملازمة والربط ثابتان في الواقع ونفس الأمر بينهما، أي: بين طبيعيّ اللّفظ ومعناه الموضوع هو له.

وهي نظير ملازمة الزوجيّة للأربعة، غاية الأمر: أنّ الملازمة بين الزوجيّة والأربعة من الاُمور التكوينيّة والأزليّة، وأمّا الملازمة هنا، فهي

ص: 76

وإن كانت حقيقيّةً أيضاً، ولكنّ ذلك بعد الجعل والاعتبار، لا قبل ذلك. لا بمعنى: أنّ الجعل والاعتبار مقوّمان لذات هذه الملازمة ودخيلان في حقيقتها، بل بمعنى: أنّهما هما العلّة لحدوثها، وأنّها بعد تحقّقهما - فقط - تصبح من الاُمور الواقعيّة.

وقد بينّا فيما سبق: أنّ هذه الملازمة ثابتة في الواقع ونفس الأمر، وأنّها ليست متوقّفةً على وجودها في الخارج، ولذا يصحّ وضع اللّفظ للمعنى المعدوم والذييستحيل وجوده في الخارج كشريك الباري أو الدور أو التسلسل، أي: فيصحّ وضع اللّفظ للحصّة التي يستحيل وجودها في الخارج، فلو أنّ الملازمة كانت تندرج تحت شيءٍ من المقولات، لكان لا بدّ من تحقّقها بواسطة اللّفظ والمعنى، ويستحيل تحقّقها بدونهما.

وقد تلخّص بما أوضحناه: أنّ بين اللّفظ والمعنى ربطاً خاصّاً متحقّقاً وواقعيّاً، حتّى مع قطع النظر عن الوجود الخارجيّ.

ثمّ إنّهم ذكروا: أنّ الوضع قابل للإنشاء والإيجاد الخارجيّ - كوضع الحجر على الحجر، وكالبيع الذي هو قابل للإنشاء الموجد لمفهومه، وكالمعاطاة للفعل الموجد لمصداقه -.

وقد قالوا في تعريف الوضع : أنّه من باب «تعيين اللّفظ للدّلالة على المعنى بنفسه»(1).

ص: 77


1- انظر - مثلاً -: بدائع الأفكار: 34، والفصول الغرويّة: 14.

فبقيد (بنفسه): تخرج المجازات، ضرورة أنّ الدلالة عليها لا تكون إلّا بمعونة القرينة.

ولكن، قد استشكل في هذا التعريف: بأنّه يخرج الألفاظ المشتركة لاحتياجها هي أيضاً في الدلالة على معانيها إلى القرينة.

ويمكن دفعه: بأنّ الدلالة على جميع المعاني في المشترك حاصلة، ومن دون قرينة، وإنّما يحتاج إلى القرينة لتعيين المراد.

واستشكل في هذا التعريف أيضاً: بأنّه مخرج للحروف؛ لأنّ دلالتها على معانيها لا تكون إلّا بمعونة مدخولها؛ فإنّ كلمة «من» - مثلاً - لا تدلّ على شيءٍ قبل ذكر مثل: «البصرة والكوفة».والصحيح في الجواب عن هذا الإشكال: أنّ المعنى على قسمين: استقلاليٍّ وآليّ، وأنّ ذكر المتعلّق في الحروف إنّما هو لتحقّق نفس المعنى الآليّ، لا لتحقّق دلالة الحرف على ذلك المعنى الآليّ، بل دلالته عليه بنفسه وبلا معونة. هذا إذا قلنا: بأنّ للحروف معنى.

ولكن، وبالرغم من هذا الجواب، فإنّ التعريف المزبور، مع ذلك، لا يسلم من ورود الإشكال، ولو من جهةٍ اُخرى، وهي: أنّه غير شاملٍ للوضع التعيّنيّ.

فالأحسن في تعريف الوضع: أن يؤخذ بمعناه الاسم المصدريّ، ليكون الوضع عبارةً عن: «الارتباط الحاصل بين اللّفظ والمعنى، تارة بالتعيين واُخرى بالتعيّن»، فتأمّل.

ص: 78

وأورد هنا بعض المعاصرين: بأنّ الغرض المقصود من عمليّة الوضع هو تحقيق دلالة اللّفظ على المعنى لحصول التفهيم بها. والدلالة - كما لا يخفى - تقتضي اثنينيّة الدالّ والمدلول، وعليه: فاعتبار الوحدة بين الدالّ والمدلول يكون لغواً وعبثاً؛ لأنّه بلا أثر؛ إذ لا يترتّب عليه أثر الوضع؛ لأنّه يقتضي التعدّد(1).

وفيه: أنّ الوحدة إنّما هي لأجل سراية القبح أو الحسن من أحدهما إلى الآخر، فلا نسلّم أنّه يكون بلا أثر. وأمّا الاثنينيّة: فإذا كانت حقيقيّة فهي موجودة بناءً على الهوهويّة.

نعم، الاثنينيّة الادّعائيّة والمجازيّة غير موجودة. فهو هو ادّعاءً، وفي الحقيقة: فإنّ اعتبار شيء شيئاً، سواء كان له وجود خارجيّ، كاعتبار الجاعل لها لما قد يكون أو لم يكن له إلّا في عالم الاعتبار، كاعتبار الشخص رئيساً.وأمّا ما ذكره - هذا المعاصر نفسه - من الإشكال: من أنّ الإنسان إذا تصوّر بعض المعاني ولم يذكر اللّفظ لم يعدّ مخالفاً لتعهّده وناقضاً لبنائه، إذ لا يرى الشخص ملزماً بذكر ألفاظ جميع ما يتصوّره من المعاني، ولو بلغت من الكثرة إلى حدٍّ كبير، كما لو قرأ الشخص كتاباً طويلاً في ليلةٍ واحدة، أو كانت من المعاني التي لا يستحسن التصريح بها(2).

ص: 79


1- انظر: منتقى الاُصول 1: 57.
2- منتقى الاُصول 1: 61.

ففيه: أنّه ليس المراد من التعهّد تصوّر المعاني على الإطلاق، بل عند الاستعمال.

وقد يستشكل: بأنّه إذا اُريد به التعهّد والبناء على ذكر اللّفظ عند إرادة تفهيم المعنى، فيستلزم أن يكون مدلول اللّفظ هو نفس إرادة التفهيم، لا المعنى، وإنّما يكون المعنى حينئذٍ من قيود المدلول لا نفسه. بمعنى: أنّ المدلول هو الحصّة الخاصّة من الإرادة، وهي الإرادة المتعلّقة بهذا المعنى - نظير ما إذا تعهّد بالإشارة بالإصبع عند مجيء زيد، فإنّ مدلول الإشارة يكون نفس المجيء، لا زيداً، بل يكون زيد من قيود المدلول -(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ إرادة التفهيم - حتّى بناءً على هذا التفسير للتعهّد - لا تكون مدلولاً للّفظ، بل مدلول اللّفظ هو المعنى، وإرادة التفهيم ما هي إلّا نوع تعهّدٍ منه، وتكون خارجةً عن مدلول اللّفظ.

وما قيل: من أنّه لا يلزم الترجيح بلا مرجّح، بل مقامنا من باب سلوك الهارب أحد الطريقين وتناول الجائع أحد الرغيفين.فمردود: بأنّه مغالطة واضحة، فالهارب من الأسد السالك لأحد الطريقين، والجائع الآكل لأحد الرغيفين المتساويين، خارج عن محلّ البحث.

ص: 80


1- منتقى الاُصول 1: 41.

إذ الكلام هنا إنّما هو عن إرادة الفاعل المختار، لا عن فعله الذي يكون خارجاً عن اختياره لجوعٍ أو خوفٍ أو غير ذلك - دون ما يكون خوفه أو جوعه قليلاً بحيث لا يضطرب ولا يخرج عن الاختيار -.

وبالجملة: فمورد هذين المثالين خارج عن محلّ البحث وأجنبيّ عن مسألة الترجيح بلا مرجّح؛ فإنّ المورد الدقيق لما نحن فيه: ما إذا كان هناك شيئان متساويان من جميع الجهات، ولا ميز لأحدهما على الآخر أصلاً؛ فاختيار الفاعل المختار لأحدهما، والحالة هذه، يكون من باب الترجيح بلا مرجّح.

وبما حقّقناه، ظهر:

بطلان ما أفاده المحقّق الكبير السيّد محمود الشاهروديّ(قدس سره) من التمثيل للمورد بأنّه إذا بني سقف - مثلاً - على جدارين، وكان ثقل ذلك السقف من جميع الجوانب بنسبةٍ واحدة، فإذا مال الجدار من جانبٍ دون آخر، مع انحفاظ تلك النسبة، فإنّه يلزم الترجيح بلا مرجّح ووجود ذلك الميل بلا علّةٍ.

وجه البطلان: أنّ ما ذكره(قدس سره) هو الترجّح بلا مرجّح، لا الترجيح بلا مرجّح. مع أنّه الميل كذلك غير ممكنٍ، إلّا أن يكون هناك ضعف في ذلك الجانب، فيكون هو المرجّح.

وكيف كان، فلازم ما أثبتناه من القول المختار، وهو: أنّ الوضع عبارة عن الهوهويّة، أن يكون الوضع قابلاً للإنشاء والإيجاد.

ص: 81

وأورد عليه: أنّ بين الألفاظ والمعاني مباينةً واضحة، ولا يمكن إيجاد المعنى باللّفظ.وفيه: أنّه بعد الالتفات إلى ما ذكرناه سابقاً - من أنّ العلاقة بين اللّفظ والمعنى حقيقيّة، وإن لم تكن تكوينيّةً، بل تحصل هذه العلاقة بعد الوضع، والوضع يكون سبباً لها وعلّةً لحدوثها - فلا يبقى مجال لهذا الإيراد أصلاً.

من هو الواضع؟!

هل الواضع هو الله تعالى أم البشر - كيعرب بن قحطان على ما قيل من أنّه هو الواضع للغة العرب - أم كلاهما؟ اختار بعضهم(1) القول الأوّل: أي: أنّ الواضع هو الله عزّ وجلّ. وقد استدلّ القائلون بذلك:

تارةً: بعدم تناهي المعاني، وعدم إحاطة أحدٍ غيره تعالى بها، إذ إنّ ما سوى الباري تبارك وتعالى من المخلوقات متناهٍ، وإذا لم يكن للمخلوق الإحاطة بها، فكيف - يا ترى - يمكنه أن يتصوّر المعاني غير المتناهية ليضع الألفاظ لها؟ بل هو عاجز عن الإحاطة بألفاظ لغةٍ واحدة فضلاً عن جميع اللّغات.

وفيه: أنّ الإنسان يضع من الألفاظ بمقدار حاجته، وأمّا الزائد عن

ص: 82


1- ومن بين هؤلاء: الميرزا النائينيّ)، انظر: فوائد الاُصول 1: 30.

ذلك فيكون لغواً، فهو لا يحتاج إلى الإحاطة بجميع الألفاظ، بل إنّما يحتاج إلى الإحاطة بما يحتاج إليه منها.

واُخرى: بما نشاهده من استيعاب الأوضاع اللّغويّة لدقائق فنّيّةٍ عالية - سواء ما كان منها مرتبطاً بجانب اللّفظ أو بجانب المعنى - تفوق عادةً طاقة جماعةٍ من الناس وقدرتهم على نسجها وإبداعها. فما ظنّك بشخصٍ واحد؟(قدس سره)وفيه: أنّ هذا الإشكال - على فرض وروده - فإنّما هو فيما إذا قلنا بكون الواضع واحداً.

والتحقيق أن يقال: بأنّ الواضع هم البشر أنفسهم، ولكن بسبب القوّة المودعة فيهم، والتي تسنّت لهم وحصلوا عليها من قبل ربّهم وخالق الكائنات جلّ وعلا، وأنّ البشر إنّما يضعون الألفاظ على حسب ما تدعو إليه حاجتهم، ولإبراز ما في ضمائرهم من المعاني.

وكما أنّ الله تبارك وتعالى قد أودع القوّة في البشر التي بواسطتها اخترعوا صناعاتٍ عجيبة، وتوصّلوا إلى ما توصّلوا إليه، كما نراه جليّاً في هذا العصر، فكذلك أودع الله في الإنسان قوّةً تمكّن بواسطتها من وضع الألفاظ للمعاني. وأمّا سعة دائرة الوضع وضيقها، فهي تبع لدائرة الحاجة سعةً وضيقاً.

وحيث كان كذلك، فالوضع - بهذا الشكل - لا يستلزم سبق إحاطة الواضع بجميع الألفاظ، بل لو فرضنا إمكان إحاطة البشر بجميع

ص: 83

الألفاظ، فإنّ وضعها للمعاني غير المتناهية، مع عدم احتياجهم إلى الجميع، وإمكان استغنائهم بأقلّ من هذا المقدار، لغو محض.

لا يقال: ليس، ولم يكن، بمقدور الإنسان البدائيّ أن يستفيد من اللّفظ لإخطار المعنى الكذائيّ لولا الإلهام من الله تبارك وتعالى، الذي بواسطته تعرّف على كيفيّة وضع اللّفظ، والذي بواسطته فقط، تمكّن من درك التعهّد والهوهوية وأمثالهما. وعلى فرض أنّه كان بإمكانه ذلك، فكيف كان في وسعه أن يفهم الآخرين بأنّه متى ما استعمل اللّفظ الكذائيّ فإنّه يكون قاصداً لإخطار المعنى الكذائيّ.فإنّه يقال: قد ظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ الوضع ليس من الله تعالى، لا بوحيٍ منه إلى نبيٍّ من أنبيائه، ولا بإلهامٍ منه إلى البشر، بل إنّما كان بالقوّة المودعة فيهم، بحيث كانوا يبرزون مقاصدهم بحسب فطرتهم.

وقد يستشكل - استنصاراً للقول بإلهيّة الوضع -: بأنّه لو كان هناك واضع بشريّ معيّن كان هو الذي أبدع كلّ هذا النظام اللّغويّ المنسّق والمتكامل، لنقل ذلك في التاريخ، ولخلد ذكره في الشعوب، بينما لا يوجد شيء من ذلك كلّه في تاريخ أي ملّةٍ من الملل، ولا أيّة لغةٍ من اللّغات، ولا أخبر أحد عن حدوث وضعٍ في أيّ عصرٍ من العصور، مع أنّ من وظيفة المؤرّخين، كما لا يخفى، تصدّيهم لضبط الأخبار السابقة(1).

ص: 84


1- راجع: أجود التقريرات 1: 11.

ولكنّ هذا الإشكال: إنّما يتمّ فيما لو قلنا بأنّ الواضع شخص واحد معروف أو جماعة معيّنون؛ وأمّا لو كنّا نقول: بأنّ الواضع كلّ واحدٍ من أفراد البشر، فإنّ الناس كان يضعون الألفاظ للمعاني، كلّ على حسب حاجته، وإن لم تكن موضوعةً من قبل، فلا محلّ لهذا الإشكال أصلاً.

ألا ترى أنّنا لو جعلنا طفلين صغيرين في معزل عن الناس كافّةً لاخترعا لنفسيهما لغة خاصّة بهما بواسطة القوة المودعة فيهما من قبل الله تبارك وتعالى، يبيّن بها كلّ واحدٍ للآخر ما في ضميره؟(قدس سره) وقد تنبّه إلى ذلك بعض اللّغويّين(1).

ص: 85


1- قال الاُستاذ محمّد الأنطاكيّ في لبابه الوجيز في فقه اللّغة: 66 - 67 ما لفظه: «وأخيراً: كيف السّبيل إلى معرفة أصل اللّغة وكيفيّة نشأتها الاُولى؟(قدس سره) هناك تجربة مضمونة النتائج حاسمة الجواب في هذه المشكلة، يقترح علينا فتدريس إجراءها كان بحكم يسخف التفكير فيها، يقول: (في أحضان المجتمع تكوّنت اللّغة). ولدت اللّغة يوم أحسّ النّاس بالحاجة إلى التفاهم فيما بينهم، وتنشأ من احتكاك بعض الاشخاص الذين يملكون أعضاء الحواسّ ويستعملون في علائقهم الوسائل التي وضعتها الطبيعة تحت تصرّفهم: الإشارة اذا أعوزتهم الكلمة، والنظرة إذا لم تف الإشارة. والاختبار الذي يمكن إجراؤه في هذا المجال: هو أن يوضع طفلان أو عدّة أطفال بعضهم مع بعض، ممّن يكون لهم جهل تامّ بكلّ شيءٍ عن اللّغة، وبعد إقصائهم إقصاءً تامّاً عن كلّ مؤثّرٍ تعليميٍّ، فعندئذٍ: إذا أغمضنا النظر عمّا قد يكون عندهم من استعداداتٍ موروثة، فليس من شكٍّ في أنّهم - ومهما كانت جنسيّتهم - سيخلقون بفطرتهم لغةً لحسابهم الخاصّ. وهذه اللّغة لن تكون هي الفرنسيّة أو الانجليزيّة أو غيرهما من اللّغات المعروفة; لأنّ الحاجة توجّه الشّخص حتماً إلى العمل، ولا بد أن الاُمور في بداية أمرها كانت قد وقعت على هذه النّحو». انتهى، نقلنا كلامه بتمامه، مع شيءٍ من التصرّف اليسير.

وليس المراد من الوضع هو وضع الشيء من باب وضع الحجر على الحجر، أو التعهّد، حتّى يكون الوضع مسبوقاً بالاستعمال، بل إنّ كلّ مستعملٍ يكون واضعاً.

كما أنّه ليس من المجعولات الإنشائيّة - من قبيل: التمليك بعوضٍ معلومٍ في باب البيع مثلاً -. وتكون دلالة اللّفظ على المعنى تصوّريّةً عندما ينتقل المعنى إلى ذهن السامع بمجرّد استعمال اللّفظ، ولو كان قد صدر منه من دون اختيارٍ، ولو كان صدوره من متكلّمٍ غير ذي شعور.

وأمّا ما قيل: من أنّ الواضع هو الله جلّ وعلا، كما يظهر من قوله تعالى: ﴿وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلّهَا﴾(1)، بتقريب: أنّ تعليم الشيء فرع وجود ذلك الشيء، وعليه: فالوضع لجميع اللّغات كان ثابتاً حين تعليمه سبحانه وتعالى إيّاه، فلا جرم يكون الواضع هو الله تعالى. وما قيل - أيضاً - في تفسير قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلّمَهُ البَيَانَ﴾(2): «إنّ المراد من (الإنسان) هو آدم(علیه السلام)، والمراد من (البيان) اللّغات كلّها»(3).

فمردود: لأنّ المراد من الأسماء في الآية الشريفة هو المسمّيات، لا اللّغات. كلفظ «الاسم»، فإنّه لمّا كان إشارةً إلى اللّفظ الدالّ على المسمّى، ومن جملة المسمّيات: لفظ «الاسم» نفسه، فقد دلّ عليه. وقد

ص: 86


1- البقرة: 31.
2- الرحمن: الآيتان 3 و4.
3- نقل هذا القول الثقة الطبرسيّ) في كتابه: جوامع الجامع: 217.

يكون مغايراً كلفظ «الجدار» الدالّ على معناه المغاير، و قد يطلق «الاسم» على نفس المسمّى أيضاً، وهو المراد هنا لبعضالقرائن الموجودة في نفس الآية، كقوله تعالى: ﴿ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾(1)، إذ على تقدير كون الأسماء مراداً بها مظاهرها كان اللّازم أن يقال: (ثمّ عرضها على الملائكة)، لا (عرضهم). ولهذا نظير أيضاً، وهو ما قيل: من أنّ المراد بالاسم في ﴿بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ﴾، هو المسمّى.

والمتحصّل: أنّ معنى تعليمه الأسماء هو أنّه تعالى علّمه المسمّيات، أي: أراه الأجناس التي خلقها، وعلّمه بأنّ هذا - مثلاً - «فرس»، وذاك «بعير»، وهكذا.. وكذا علّمه أحوالها وما يتعلّق بها من المنافع الدينيّة والدنيويّة.

وعليه: فالواضع ليس هو البشر بمعنى أنّ الإنسان هو الذي يلتزم أو يتعهّد، لأنّه لو كان هناك واضع خاصّ كذلك لوصلت إلينا أخباره.

فإن قلت: فإنّ قسماً من البشر أرادوا لأنفسهم لغةً فيما اختار الآخرون لغةً اُخرى خاصّةً بهم. وهذا شاهد أكيد على أنّ وضع اللّغات كان بالتزام البشر وتعهّدهم هم أنفسهم.

قلنا: بل كان ذلك بإرادةٍ من الله وتعليمه البشر. فهو الذي أراد هذا الاختلاف في الألسن، كما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ

ص: 87


1- البقرة: 31.

السّمَاوَاتِ وَالْأرْضِ وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ وَألْوَانِكُمْ﴾(1)، كما أنّه هو تعالى من أراد للنّاس أن يكونوا شعوباً وقبائل: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ﴾(2).

في حقيقة الوضع

قد عرفت وقوع الخلاف في معنى الوضع.. فهل هو بمعنى الالتزام والتعهّد - كما نسب إلى المحقّق النهاونديّ - أو هو عبارة عن جعل اللّفظ علامةً على المعنى أو بمعنى الهوهويّة والاتّحاد بين اللّفظ والمعنى - كما هو قول اُستاذنا المحقّق) - كما عرفت سابقاً -؟(قدس سره) أمّا القول الثاني: وهو جعل اللّفظ علامةً على المعنى، فوضع الألفاظ بناءً عليه يكون كالوضع الحقيقيّ، نظير: وضع العلم على رأس الفرسخ، غاية الأمر: أنّ الوضع في الأوّل اعتباريّ وفي الثاني حقيقيّ، ومعنى كونه اعتباريّاً: أنّ اللّفظ لم يجعل يدلّ واقعاً على أمرٍ خارجيٍّ على نحو الحقيقة، كوضع العلم خارجاً في الموضع الخاصّ للدّلالة على شيءٍ معيّن.

وقد اعترض الاُستاذ الأعظم على هذه المماثلة بما لفظه:

«أنّ وضع اللّفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقيّ كوضع العلم على

ص: 88


1- الروم: 22.
2- الحجرات: 13.

رأس الفرسخ. والوجه في ذلك هو: أنّ وضع العلم يتقوّم بثلاثة أركانٍ: الركن الأوّل: الموضوع، وهو العلم. الركن الثاني: الموضوع عليه، وهو ذات المكان. الركن الثالث: الموضوع له، وهو الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ. وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ، فإنّه يتقوّم بركنين: الأوّل: الموضوع، وهو اللّفظ. الثاني: الموضوع له، وهو دلالته على معناه، و لا يحتاج إلى شي ءٍ ثالثٍ ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه. وإطلاقه على المعنى الموضوع له، لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة، فلا أقلّ من أنّه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة. مع أنّ لازم الصيغة المذكورة هو أن يكون المعنى هو الموضوع عليه»(1).

ولكن يمكن الجواب عن هذا: بأنّه يكفي التعدّد الاعتباريّ، ولا حاجة إلى التعدّد الخارجي؛ فإنّ المعنى: من جهة أنّه وضع اللّفظ عليه، فهو مكان الفرسخ، وبمثابة الموضوع عليه؛ ومن جهة أنّه يدلّ باللّفظ عليه، فبهذا الاعتبار يقال له: الموضوع له. على أنّه يمكن فرض التعدّد هنا أيضاً، فالواضع حينما يريد وضع اللّفظ للمعنى، فإنّه - أوّلاً - يتصوّر المعنى في الذهن، ثمّ بعد ذلك يقوم بوضع اللّفظ له. فالموضوع عليه - إذاً - هو الصورة الذهنيّة الدالّة على الشيء الخارجيّ، و الموضوع له هو الدلالة على أنّه صورة الشيء.

ص: 89


1- محاضرات في الاُصول 1: 44، بتصرّفٍ يسير.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ الوضع عبارة عن الملازمة بين طبيعيّ اللّفظ وبين المعنى الموضوع له، وهذه الملازمة هي - وكسائر الاُمور الاعتباريّة - اعتبارها بيد المعتبر.

ففيه: أنّ الصحيح كونها من الاُمور الواقعيّة، وأنّها ليست من الاُمور الاعتباريّة المحضه - خلافاً لما ذكره بعض المعاصرين - ولا من الاُمور التكوينيّة، وإنّما هي موجودة في حاقّ الواقع وفي نفس الأمر. فالوضع - بناءً على ذلك - أمر واقعيّ غير قابلٍ للجعل، بل إذا كان السامع عالماً بالوضع فينبغي أن يحصل الانتقال من اللّفظ إلى المعنى عنده بمجرّد أن يلقى اللّفظ إليه، بل إنّ هذا الانتقال بالنسبة إليه ينبغي أن يكون بديهيّاً.

وأمّا على القول الأوّل - الذي يرى بأنّ الوضع هو بمعنى التعهّد -: فالوضع، بناءً عليه، ليس أمر اعتباريّاً، وإنّما حقيقته هي التعهّد والتباني. وهذا التباني يكون من قبل الواضع بأن لا يتلفّظ بالكلمة إلّا إذا اُريد إبراز ما تعلّق به قصد المتكلّم بتفهيمه بلفظٍ مخصوص، فأيّ متكلّمٍ فهو متعهّد في نفسه، مهما كان الشعب أو الملّة التي ينتمي إليها، ومضمون هذا التعهّد: أنّه متى ما أراد معنى خاصّاً فإنّه يبرزه بلفظٍ خاصّ(1).ونتيجة هذا التعهّد: أنّه متى سمع السامع بما ينطق به المتكلّم من كلمةٍ خاصّة، فإنّ ذهنه ينتقل - مباشرةً - إلى تصوّر معناها، ليفهم أنّ المتكلّم أراد ذلك، وأنّه قاصد تفهيمه له.

ص: 90


1- منتقى الاُصول 1: 53.

وبناءً على هذا، فكلّ مستعملٍ واضع حقيقةً، ولا فرق بين المستعمل العاديّ وبين الواضع، إلّا في أنّ الأخير هو الأسبق في الوضع، لا أنّ الأوّل هو الوحيد الواضع حقيقةً دون غيره.

وبعبارةٍ اُخرى: أنّ العلاقة الخاصّة التي تربط بين اللّفظ والمعنى لا تتحقّق إلّا بعد النطق باللّفظ لإفهام المعنى، وتعتبر هذه الدلالة من الدلالات التصديقيّة لا التصوّريّة؛ إذ بعد حصول هذا التعهّد فإنّ هذا اللّفظ بالكشف التصديقيّ عن إرادة المتكلّم، وعن أنّه في مقام إفهام المعنى.

ولكنّ الحقّ - كما أشرنا إليه سابقاً -: أنّ معنى الوضع هو الاتّحاد والهوهويّة بين اللّفظ والمعنى.

ويحصل هذا الاتّحاد تارةً من جعل اللّفظ بإزاء المعنى، واُخرى من كثرة الاستعمال، وهو من الاُمور الاعتباريّة كما مرّ، وليس بأمرٍ تكوينيٍّ، لأنّه لا يحصل إلّا بواسطة الجعل والإنشاء.

وبما ذكرنا ظهر: أنّ حقيقة الوضع حقيقة ادّعائيّة، وليس الوضع في باب الألفاظ كوضع العلم على رأس الفرسخ ليدلّ على أنّ المكان الموضوع هو فيه هو رأس الفرسخ، كما عرفت، لأنّ هذا معناه: أنّ دلالة العلم على رأس الفرسخ من باب الانتقال من اللّازم إلى الملزوم، كالانتقال من تصوّر الدخان إلى تصوّر النار.

بل فيما نحن فيه، فإنّ السامع حين يسمع الكلام وينتقل منه إلى المعنى

ص: 91

المراد، فإنّ هذا الانتقال يكون بمعنى فناء اللّفظ في المعنى، وليس من باب تصوّرشيءٍ للانتقال منه إلى شيءٍ آخر، بل كأنّه، ومنذ البداية، أحسّ بالمعنى بسبب سماعه للّفظ، وهذا يعني: أنّه يكون حين سماع اللّفظ غافلاً عن وجود اللّفظ، ومتّجهاً في تصوّره إلى المعنى فقط، كما حين النظر إلى المرآة، فإنّ الناظر إليها لا يرى فيها ابتداءً إلّا صورته، لا أنّه يرى صورته بواسطة النظر إلى المرآة، وليس هذا الفناء بمعنى فناء الواسطة في ذي الواسطة.

ومعلوم: أنّ إلقاء الشيء لا يكون إلقاء شيء آخر، إلّا إذا حصل بينهما الهوهويّة والاتّحاد، وبديهيّ أنّه لا يكفي في ذلك مجرّد التعهّد أو جعل العلامة أو غيرهما.

وبتعبيرٍ آخر: أنّ التباين بين اللّفظ والمعنى قائم وموجود، فلا يمكن أن يكون إلقاء أحدهما إلقاء الآخر بجعل اللّفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى، الأمر الذي يوجب حصول الاتّحاد و الهوهويّة.

هذا بالإضافة إلى أنّهم ذكروا أنّ للشيء وجوداتٍ أربع: الأوّل: الوجود الخارجيّ، والثاني: الوجود الذهنيّ، والثالث: الوجود الكتبيّ، والرابع: الوجود اللّفظيّ.

فلو لم يكن هناك اتّحاد بين الشيئين، فكيف يمكن أن يصبح وجود شيءٍ أجنبيٍّ وجوداً للآخر.

وأيضاً: فلولا هذا الاتّحاد والفناء، فكيف يسري حسن اللّفظ أو قبحه

ص: 92

وبالعكس؟(قدس سره) والتعهّد بمجرّده غير كافٍ.

بل، وعلى كلّ حال، فالسراية من اللّفظ إلى المعنى، وبالعكس، متوقّفة على الاتّحاد والهوهويّة.

وأمّا الإشكال الذي أورده الاُستاذ الأعظم(قدس سره)(1) على أصل المبنى القائل بأنّ (الوضع بمعنى الهوهويّة) بما حاصله:أنّ تفسير الوضع بهذا المعنى تفسير بمعنىً دقيقٍ بعيدٍ عن أذهان عامّة الواضعين غاية البعد، ولا سيّما القاصرين منهم، كالأطفال والمجانين الذين قد يصدر الوضع منهم عند الحاجة، بل قد يصدر الوضع عن بعض الحيوانات أيضاً.

فمردود عليه: لأنّ هذا الإشكال - هو بعينه - يرد على ما اختاره هو(قدس سره) في تفسير حقيقة الوضع، لأنّ الوضع بمعنى التعهّد أيضاً دقيق وبعيد عن الأذهان غاية البعد. وعلى تقدير تحقّقه، فكيف ينتقل المعنى إلى الذهن بصرف السماع لولا وجود هوهويّةٍ واتّحادٍ بينهما؟(قدس سره) ولا يكفي لذلك مجرّد التعهّد.

ص: 93


1- محاضرات في الاُصول 1: 41.

ص: 94

الفصل الثاني: في أقسام الوضع

اشارة

ممّا ينبغي أن يعلم: أنّ الوجوه المتصوّرة للوضع عقلاً أربعة. ويقع الكلام: تارةً في إمكان هذه الصور، واُخرى في وقوعها. وهذه الوجوه الأربعة هي:

1) الوضع العامّ والموضوع له العامّ.

2) الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ.

3) الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

4) الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ.

والممكن من هذه الصور الأربعة ثلاث فقط.وقبل الشروع في بيان كلّ واحدةٍ من هذه الصور وبيان الممكن وما وقع في الخارج منها، نقول:

بما أنّ الوضع نوع من الجعل، فيكون - لا محالة - من أفعال الواضع، وتوصيفه بهذه الأقسام توصيف مسامحيّ، وإلّا، فإنّ المتّصف بها - في

ص: 95

الواقع - هو الملحوظ للواضع عند الوضع. فمثلاً: إنّ معنى الوضع العامّ: أنّه الوضع الذي لاحظه الواضع عامّاً.

ثمّ لا يخفى: أنّ الوضع بما أنّه من الاُمور الإنشائيّة فيكون متقوّماً بالتصوّر واللّحاظ، وبما أنّه من الاُمور النسبيّة فيكون أيضاً متقوّماً باللّفظ والمعنى. ممّا يعني: أنّ على الواضع حين الوضع أن يلاحظ كلّاً منهما.

وإذا عرفت هذا، فاعلم: أنّ المعنى المتصوّر:

تارةً:

يكون عامّاً ويوضع اللّفظ بإزاء ذلك المعنى العامّ، فيسمّى الوضع في هذه الصورة ﺑ-«الوضع العامّ والموضوع له العامّ».

واُخرى:

يتمّ وضع اللّفظ بإزاء مصاديق ذلك العامّ، لكفاية تصوّر المصاديق إجمالاً في ضمن المعنى الكلّيّ الجامع لها، ليصير اللّفظ بذلك كالمشترك اللّفظيّ، من جهة: أنّ هناك لفظاً واحداً موضوعاً للمعاني المتعدّدة، بلا فرقٍ بين أن يكون ذلك بوضعٍ واحدٍ بعد جمعها في لحاظٍ واحدٍ، أو بأوضاعٍ متعدّدة، وهذا ما يسمّى ﺑ-«الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ».وقد صوّر المحقّق العراقيّ)، وتبعه الاُستاذ الأعظم(قدس سره)(1)، الإشكال في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ بما حاصله:

أنّ هذا القسم غير معقول، بتقريب: أنّ أيّ مفهومٍ في مرحلة المفهوميّة،

ص: 96


1- انظر: نهاية الأفكار 1: 37، ومحاضرات في الاُصول 1: 50.

جزئيّاً كان أو كلّيّاً، لا يحكي إلّا عن نفسه، فيستحيل أن يحكي مفهوم عن مفهوم آخر، فكما لا يعقل أن يحكي المفهوم الخاصّ بما هو خاصّ عن مفهوم عامّ أو خاصّ آخر، فكذلك لا يعقل أن يحكي المفهوم العامّ بما هو، عن مفهوم خاصّ أو عامّ آخر، بداهة أنّ لحاظ كلّ مفهوم وتصوّره هو عين إراءة شخصه، لا إراءة شي ء آخر به، فكيف يكون معرفة لغيره بوجهٍ؟ وعليه: فلا يمكن الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

وفيه - كما ذكرنا -: أنّ تصوّر العامّ تصوّر للخاصّ بالإجمال؛ إذ العامّ يمكن أن يكون عنواناً للخاصّ وحاكياً عنه، ولا يضرّ في الوضع التصوّر غير التفصيليّ.

وقد يستشكل: بأنّه لا بدّ في الوضع من لحاظ الموضوع له، والمفروض أنّ الذي وضع له اللّفظ هو الخاصّ، فهذا الخاصّ هل هو ملحوظ للواضع أم لا؟! فإن قيل: الواضع لم يلحظ الخاصّ الموضوع له، فنقول: فكيف إذاً قام بوضع اللّفظ له.

وإن قيل: بل لاحظه، قلنا: فيلزم - حينئذٍ - أن يكون الوضع خاصّاً، للحاظ الخاصّ نفسه، وهو خلف الفرض.

ولكن الحقّ: أنّه لا يعتبر في الوضع اللّحاظ التفصيليّ، بل يكفي اللّحاظ الإجماليّ، ويمكن الحكم عليه بواسطة عنوان العامّ المشير إليه، ولو من دون الالتفات أصلاً إلى نفس المعنون، إمّا للجهل بجميع

ص: 97

خصوصيّاته الموجودة لجزئيّته، أو لعدم إمكانالالتفات إليه، كما لو كان الحكم على مضادّ حكم العامّ وكان غير محدودٍ عرفاً، بحيث لا يمكن الالتفات إليه بخصوصيّاته جميعاً.

وبالجملة: فلا إشكال في إمكان الوضع للأفراد بلا التفاتٍ إليها تفصيلاً، بل تتصوّر بواسطة عنوان العامّ المشير إليها، أي: أنّ العامّ يجعل طريقاً إلى أفراده، ويوضع اللّفظ للفرد بتوسّطه؛ لأنّ العامّ وجه للأفراد، فتصوّره يكون تصوّراً للأفراد، وهذا المقدار كافٍ في صحّة الوضع لها بلا لحاظها بخصوصيّاتها.

ومن هنا ظهر: ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين من أنّ تحقّق الوضع لا يتوقّف على لحاظ الموضوع له حتّى إجمالاً، بل يمكن الوضع لمعنىً مع عدم لحاظه بالمرّة أصلاً(1).

وثالثةً:

يكون المعنى الملحوظ والمتصوّر خاصّاً، ويوضع اللّفظ بإزاء هذا الجزئيّ والخاصّ، وفي هذه الحالة، يكون الوضع والموضوع له - كلاهما - خاصّين، ويسمّى ﺑ: «الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ».

ورابعةً:

يكون المعنى الملحوظ والمتصوّر خاصّاً أيضاً، ولكن يوضع اللّفظ

ص: 98


1- منتقى الاُصول 1: 75.

بإزاء كلّيّه الجامع بين ذلك المعنى الملحوظ وبين غيره من الجزئيّات المشاركة له في ذلك الكلّيّ، ويسمّى هذا القسم: ﺑ-«الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ».

وإذا اتّضحت هذه الأقسام، فنقول:

المشهور على أنّ الأخير من هذه الأقسام غير ممكن، وعليه: فالصور في مرحلتي الإمكان والوقوع ثلاثة فقط.وقال صاحب البدائع(قدس سره): هي في مقام التصوّر والإمكان أربعة، وفي مرحلة الوقوع ثلاثة(1).

وفي الكفاية: أنّها في مقام التصوّر أربعة، وفي مقام الإمكان ثلاثة، وفي مقام الوقوع اثنان(2).

وكيف كان، فلا يخفى: أنّ القسم الرابع غير واقعٍ في الخارج أصلاً، فهل هو ممكن أم لا؟ قيل: بإمكانه؛ لأنّ الخاصّ - لاشتماله على الكلّيّ، وهو العامّ - فحين تصوّره يتصور معه الكلّيّ أيضاً؛ لاندراج الكلّيّ فيه.

وهذا المقدار من التصوّر يكفي في وضع اللّفظ بإزاء الكلّيّ. فبعد أن كان المتصوّر التفصيليّ هو الخاصّ، وكان تصوّر الخاصّ تفصيلاً تصوّراً

ص: 99


1- بدائع الأفكار: 39.
2- كفاية الاُصول: 10.

للعامّ إجمالاً، فإنّ هذا المقدار من التصوّر كافٍ في وضع اللّفظ له، ولو فرض أنّ المتصوّر التفصيلي وأوّلاً وبالذات هو الخاصّ لا العامّ.

والتحقيق: أنّ هذا القسم غير معقولٍ البتّة؛ وذلك لما ذكرناه سابقاً من أنّ الواضع لا بدّ له في مقام الوضع من أن يتصوّر المعنى واللّفظ معاً، فإذا فرض أنّه لم يتصوّر حين الوضع إلّا المعنى الخاصّ، فكيف يعقل أن يضع اللّفظ بإزاء المعنى العامّ الشامل للخاصّ المتصوّر وللأفراد المماثلة له غير المتصوّرة؟! إنّ لازم ذلك: هو تحقّق الوضع لمعنىً لم يتصوّره الواضع حين الوضع أصلاً.وبعبارة اُخرى: فإنّ الخاصّ، بما هو خاصّ، مباين للعامّ ولبقية أفراده، وكيف يمكن أن يكون المباين وجهاً وعنواناً للمباين الآخر؟! وعليه: فبما أنّ الخاصّ بما هو خاصّ لا يصلح لأن يكون وجهاً للعامّ وعنواناً له، فلا يكون تصوّره تصوّراً للعامّ أبداً، ولو بنحو الإجمال.

إن قلت: يكفي لكي يكون تصوّر الخاصّ علّةً لتصوّر العامّ لحاظ علقة التضادّ بينهما، فإنّ الذهن كثيراً ينتقل إلى أحد الضدّين بعد تصوّره للضدّ الآخر.

قلت: ولكنّ هذا ليس من التصوّر بالوجه والعنوان لكي يكون مرجعه إلى إمكان حمله على ذي الوجه والعنوان، كما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فإنّ العامّ هناك وجه للخاصّ ومحمول عليه،

ص: 100

دون العكس، أي: فلا يكون الخاصّ وجهاً للعامّ.

وبعبارةٍ أوضح: فإنّ الطبيعة اللّابشرط، لسعتها وعدم تقييدها بأيّ قيدٍ، فهي تجتمع مع ألف شرط، وأمّا المقيّد بقيدٍ فهو لا يمكنه أن يتّحد وينطبق على تلك الطبيعة الوسيعة المطلقة المجرّدة عن كلّ قيد حتى قيد اللّابشرطيّة.

أو فقل: إنّ الخصوصيّة المقوّمة للخاصّ تناقض العموم وتنافيه، ولا يمكن انطباقه على العامّ إلّا بإلغاء الخصوصيّة، ومع الإلغاء، فإنّ الخاصّ يخرج عن كونه خاصّاً، فكيف يمكن - حينئذٍ - أن يكون الشيء مرآةً وعنواناً لنقيضه؟(قدس سره) وقد عرفت أنّ الوضع من الأفعال الاختياريّة، وهو لا يحصل إلّا بتصوّر اللّفظ والمعنى، فإذا امتنع أحد التصوّرين امتنع أصل الوضع، كما هو أوضح من أن يخفى.

و من هنا ظهر: فساد ما ذكروه من إمكان هذا القسم، ببيان: أنّ الخاصّ ولو لم يكن وجهاً وعنواناً للعامّ، إلّا أنّ تصوّره يمكن أن يكون تصوّراً للعامّ، فإذا تصوّر الإنسان موجوداً خاصّاً فإنّه - لا محالة - يتصوّر أنّ هذا الموجود فرد لطبيعيٍّ ينطبق عليهوعلى أمثاله من أفراد هذه الطبيعة المعيّنة، فإذا أراد أن يضع اسماً خاصّاً لهذا الطبيعيّ أمكنه ذلك، وهذا التصوّر الإجماليّ كافٍ في الوضع، والمفروض: أنّ التصوّر التفصيليّ والتحليليّ للخاصّ لازمه التصوّر الإجماليّ للعامّ، ولو فرض أنّ هذا

ص: 101

التصوّر التفصيليّ له لا يكون تصوّراً تفصيليّاً للعامّ.

وعلى هذا المبنى يندفع الإشكال: بأنّ تصوّر الخاصّ لا يكون تصوّراً للعامّ لا تفصيلاً ولا إجمالاً.

وقد اُجيب عن هذا البيان: بأنّ تصوّر العامّ، حتّى ولو فرض إمكانه عند تصوّر الخاصّ وبواسطته، إلّا أنّه لا يظهر من هذه الملازمة كون الخاصّ عنواناً ووجهاً للعامّ، كما مرّ.

وفي المقام إشكال آخر نقضيّ، حاصله:

أنّ الخاصّ بما هو خاصّ، وإن لم يكن وجهاً وعنواناً ومرآةً للعامّ، بحيث يكون تصوّره تصوّراً للعامّ بنحو إجماليّ، إلّا أنّ هذا الإشكال - بعينه - متحقّق في عكسه أيضاً، فإنّ العامّ بما هو عامّ لا يمكن - هو أيضاً - أن يكون وجهاً للخاصّ بما هو خاصّ.

وفيه: أنّ العامّ لا يكون عنواناً للخاصّ إلّا مع إلغاء الخصوصيّة، أي: الطبيعة اللّابشرطيّة، وعدم تقييده بأيّ قيدٍ، حتّى قيد (الإطلاق)، وحينئذ فقط يكون العامّ عنواناً ومرآةً للخاصّ ويجتمع معه، لأنّه إذ ذاك يجتمع مع ألف شرطٍ.

فتحصّل: أنّ الأقسام الممكنة تنحصر في ثلاثة. ومن هذه الثلاثة قسمان واقعان بالاتّفاق، وهما:

الأوّل: الوضع العامّ والموضوع له العامّ، كأسماء الأجناس.

والثاني: الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، كما في الأعلام

ص: 102

الشخصيّة.وأمّا القسم الثالث - و هو الوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ -:

فقد اختلف فى وقوعه في الخارج أو عدم وقوعه.

والمشهور على أنّ وضع الحروف والهيئات من هذا الباب، ولكنّ صاحب الفصول) اختار أنّ كلّاً من الوضع والموضوع له فيها عامّ، وإنّما يكون المستعمل فيه خاصّاً(1).

ولا يخلو من تأمّل؛ إذ بناءً على هذا القول يكون لزاماً على اللّفظ أن لا يستعمل في معناه الموضوع له أصلاً، وقبحه ظاهر. مضافاً إلى أنّه يوجب بطلان حكمة الوضع، ويكون الوضع لغواً من هذه الجهة.

وفي الكفاية: القول بعموميّة الثلاثة فيها: الوضع والموضوع له والمستعمل فيه(2).

وحيث إنّ تحقيق المسألة متوقّف على معرفة معاني الحروف وبيان ما هو الموضوع فيها، فلابدّ أن ننقل الكلام إلى بيان المعنى الحرفيّ وتمحيص الأقوال الواردة فيه.

ص: 103


1- الفصول الغرويّة: 16.
2- كفاية الاُصول: 11.

ص: 104

الفصل الثالث: في المعنى الحرفيّ

اشارة

وفيه أقوال:

القول الأوّل:

ما اختاره صاحب الكفاية(قدس سره)(1) تبعاً للرضيّ، وحاصله:

أنّه لا فرق بين المعنى الاسميّ وبين المعنى الحرفيّ، لا من جهة المعنى الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل الموضوع له والمستعمل فيه في كليهما عامّان، أي: أنّ المعنى الحرفيّ هو نفس المعنى الاسميّ.

ومن هنا نجد: أنّ المعنى الذي يؤدّى بالحرف قد يعبر عنه، هو نفسه، بواسطة الاسم، كلفظ (الابتداء) الذي يعبّر به عن معنى (من)، فيقال مثلاً: إنّ (من) تدلّ على (الابتداء).

ص: 105


1- كفاية الاُصول: 11. قال(قدس سره): «والتحقيق - حسبما يؤدّي إليه النظر الدقيق - أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء».

وعليه: فكلمة «من» وكلمة «الابتداء» موضوعتان لمعنىً واحد ومسمّىً فارد.

فإن قلت: المستفاد من لفظ (الابتداء) هو الابتداء الاستقلاليّ وأمّا المستفاد من لفظ (من) فهو الابتداء الآليّ، وحينئذٍ: فكيف يكون كلاهما بمعنىً واحد؟(قدس سره) قلت: ليس لحاظ الآليّة والاستقلاليّة في كلٍّ منهما جزءاً للمعنى الموضوع له ولا للمعنى المستعمل فيه، وإنّما يكون اللّحاظ من قيود الوضع ومميّزاته؛ إذ كما أنّمعنى الاستقلاليّة لا يكون جزءاً لأحدهما في باب الأسماء، فكذلك معنى الآليّة لا ينبغي أن يكون جزءاً لأحدهما في باب الحروف.

وبالجملة: فإنّنا نسأل القائلين بكون المعنى المستعمل فيه في الحروف خاصّاً عن مرادهم من الخصوصيّة؟ فإن أرادوا بها: الخصوصيّة الخارجيّة، ليكون المعنى المتخصّص بها جزئيّاً خارجيّاً، ففيه: أنّ المستعمل فيه في الحروف كثيراً ما يكون كلّيّاً بحيث يصدق على كثيرين ولو بالعموم البدليّ، كقولك: «سر من البصرة إلى الكوفة»، ألا ترى أنّ المخاطب لو جعل ابتداء سيره من أيّة نقطةٍ من نقاط البصرة لكان ممتثلاً لهذا الأمر المتوجّه إليه؟(قدس سره) وإن كان المراد بها: الجزئيّة الذهنيّة، ففساده واضح.

أمّا أوّلاً: فلأنّه لو كان اللّحاظ جزءاً للموضوع له والمستعمل فيه في

ص: 106

الحروف لكان هذا المعنى - حينئذٍ - من قبيل الكلّيّ العقليّ، فيلزم عدم صدقه على الخارجيّات؛ لأنّ المستعمل فيه حينئذٍ يكون مركّباً من جزأين اثنين: أحدهما: ذات المعنى، والآخر: اللّحاظ.

ومعه: فلا يكاد يمكن امتثال الأمر في مثل قولك: «سر من البصرة إلى الكوفة»، لأنّ ما هو موجود في الذهن بقيد الذهنيّة مباين لما هو موجود في الخارج، كما هو معلوم، ولا يصدق أحدهما على الآخر، فلا يكون من الممكن - حينئذٍ - إيجاده؛ فإنّ تركّب المستعمل فيه من المعنى واللّحاظ، يوجب تقيّده بالوجود الذهنيّ؛ لأنّ اللّحاظ أمر ذهنيّ، موطنه الذهن، والشيء المقيّد بالوجود الذهني لا يمكن أن يحصل في الخارج، كما لا يخفى.ممّا يعني: أنّه لا بدّ حين الاستعمال من تجريد المعنى عن التقيّد بالأمر الذهنيّ الذي هو خصوصيّة اللّحاظ، ليصبح الابتداء مثلاً - بعد التجريد - في مثل قوله: «سر من البصرة إلى الكوفة» كلّيّاً طبيعيّاً قابلاً للانطباق على الخارجيّات.

وثانياً: لو كان المعنى في باب الحروف جزئيّاً للزم الاحتياط في مقام الامتثال عند ورود الأمر في مثل قوله: «سر من البصرة»، وذلك بالسير من جميع نقاط البصرة؛ لأنّ المطلوب بحسب الفرض هو الابتداء الخاصّ، أي: من نقطةٍ خاصّة، غاية الأمر: أنّها مردّدة بين العديد من النقاط، وليس ذلك على نحو البدليّة، ليكفي الابتداء من أيّة نقطةٍ كانت، وحينئذٍ: فيكون

ص: 107

المقام من باب الاشتباه في المكلّف به، والحكم في مثل هذا المورد هو الاحتياط، ولكن، ليس بناء العقلاء على ذلك في مثل هذا الأمر المذكور.

وثالثاً: المفروض أنّ الاستعمال يتقوّم بلحاظ كلٍّ من اللّفظ والمعنى معاً، فلو كان اللّحاظ المذكور جزءاً للموضوع له أو المستعمل فيه، لكان لا بدّ عند الاستعمال من لحاظٍ آخر يتعلّق بهذا اللّحاظ.

فمثلاً: عند استعمال كلمة «من»، المزعوم أنّ معناها مركّب من معنى (الابتداء) ومن اللّحاظ، فلابدّ من لحاظين اثنين يكون أحدهما متعلّقاً بالآخر:

أمّا الثاني منهما: فهو بحسب الفرض جزء من المعنى.

وأمّا الأوّل: فهو المقوّم للاستعمال؛ إذ لا معنى للاستعمال إلّا لحاظ ما يراد من المعنى وإلقاء اللّفظ بإزائه، ومن المعلوم: أنّ تعدّد اللّحاظ في مقام الاستعمال على خلاف الوجدان، وعليه: فلا يمكن إلّا أن يكون المستعمل فيه هو ذات المعنى صرفاً، لا مركّباً من ذات المعنى ومن اللّحاظ.وبعبارةٍ اُخرى: فلو كان اللّحاظ جزءاً من معنى الكلمة، فلابدّ عند استعمالها من لحاظين:

أوّلهما: اللّحاظ الوضعيّ، وهو الذي يكون دخيلاً فيه بحسب الوضع.

والثاني: اللّحاظ الاستعماليّ، وهو الذي يلاحظه المستعمل كمقدّمةٍ للاستعمال. وحينئذٍ: فيجتمع اللّحاظان.

ص: 108

ثمّ إنّ الاستعمال متوقّف على تصوّر المستعمل فيه، فلو فرض أنّ اللّحاظ جزء من المعنى ومقوّم له، لزم تعلّق اللّحاظ بالمعنى الملحوظ، وهو باطل؛ لأنّ الموجود لا يقبل الوجود ثانياً.

ولو كان اللّحاظ مقوّماً للمعنى، للزم عدم صدقه على الخارجيّات إلّا بالتجريد، لأنّ المقيّد بالوجود الذهنيّ يكون محلّه الذهن لا الخارج، فبدون التجريد يمتنع الامتثال الخارجيّ، ومع التجريد فلا يكون الاستعمال إلّا مجازيّاً، وهذا يعني: أن لا يستعمل اللّفظ في معناه الموضوع له أبداً، وهو كما ترى.

تنبيه:

لا يخفى: أنّ مراد القائلين بجزئيّة المعنى هو جزئيّته باللّحاظ، أي: بمصداق اللّحاظ، لا بمفهومه، أي: أنّه لا بدّ من توفّر مصداقٍ للّحاظ في مقام الاستعمال، بحيث يكون هذا المصداق دخيلاً في المستعمل فيه، شطراً أو شرطاً.

ومعلوم: أنّ اللّحاظ المصداقيّ جزئيّ ذهنيّ، فكذا يكون ما يقيّد به.

وإذا كان المعنى المستعمل فيه في الحرف جزئيّاً دائماً، فلا معنى للقول بكلّيّة المعنى الموضوع له؛ لاستلزامه المجاز بلا حقيقة؛ إذ لا يتحقّق الاستعمال في نفس ذلك الكلّيّ الموضوع له أبداً.ومن هنا ظهر: ما في القول المنسوب إلى التفتازانيّ في كيفيّة وضع

ص: 109

الحروف، وهو: أنّ كلّاً من الوضع والموضوع له فيها عامّ، وإنّما الخاصّ المستعمل فيه(1).

وأمّا بحسب المفهوم: فالاختلاف بين المفهومين محلّ اتّفاقٍ.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الموجود الخارجيّ على قسمين:

أحدهما: ما كان موجوداً في نفسه، أي: لا في موضوع، كالجوهر.

والآخر: ما كان موجوداً في غيره، كالأعراض، وكالموجود الذهنيّ الذي تقوّمه باللّحاظ، فالوجود الذهني - والذي هو عبارة عن نفس اللّحاظ - تارةً يكون مستقلاً في نفسه، ومستقلاً بالمفهوميّة بحسب اللّحاظ، واُخرى يكون موجوداً في غيره، وغير مستقلٍّ بالمفهوميّة بحسب اللّحاظ، بمعنى: أنّ لحاظ الذهن له يكون في ضمن لحاظ الغير.

وخلاصة القول:

أنّ لحاظ الاستقلاليّة والآليّة في كلٍّ منهما ليس جزءاً للموضوع له ولا للمستعمل فيه، وإنّما يكون من قيود الوضع ومميزاته، وأنّه كما أنّ اللّحاظ الاستقلاليّ ليس جزءاً لأحدهما في الأسماء، فليكن اللّحاظ الآليّ أيضاً في الحروف كذلك.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره)(2) من أنّ المقام يكون من باب الكلّيّ

ص: 110


1- انظر: منتهى الدراية 1: 39.
2- راجع: كفاية الاُصول: 11. قال(قدس سره): «مع أنّه يلزم أن لا يصدق على الخارجيّات؛ لامتناع صدق الكلّيّ العقليّ عليها، حيث لا موطن له إلّا الذهن...».

العقليّ، فمحلّ تأمّل؛ لأنّ الكلّيّ العقليّ - في اصطلاحهم - هو المجموع من العارض والمعروض، كالإنسان الكلّيّ، لأنّ ما قيّد به المفهوم - وهو الكلّيّة - لا موطن له إلّا العقل.ولكنّ هذا المصطلح، بهذا المعنى، لا ينطبق على مقامنا؛ إذ إنّ ما قيّد المعنى هنا هو اللّحاظ لا وصف الكلّيّة، ولعلّ التعبير عنه ﺑ (الكلّي العقليّ) لأجل أنّ نفس المعنى يكون كلّيّاً، وأمّا قيده - وهو اللّحاظ - فيكون عقليّاً، حيث كان موطنه هو العقل، وإلّا، فالاُولى بعد كون المقيّد به المعنى هو اللّحاظ أن يعبّر عنه ﺑ (الجزئيّ الذهنيّ).

ورابعاً: إنّ لحاظ المعنى الحرفيّ هو كلحاظ المعنى الاسميّ، ولكنّ اللّحاظ في الأوّل هو بمعنى كونه حالةً لغيره، وأمّا الثاني فهو بمعنى كونه مستقلّاً. وكما أنّ أحداً لم يتوهّم أنّ اللّحاظ الاستقلاليّ يكون مأخوذاً في المعنى الاسميّ، فكذلك اللّحاظ الآليّ.

ولكن ناقش في ذلك المحقّق العراقي(قدس سره)(1)، بما حاصله:

أنّ المعنى الموضوع له اللّفظ يستحيل فيه أن يكون مهملاً، بل هو في حدّ ذاته إمّا مستقلّ وإمّا غير مستقلّ، وإلّا، يلزم ارتفاع النقيضين، ولا جامع بين النقيضين حتّى يكون هو الموضوع له.

ولكنّ ما ذكره المحقّق المذكور) إنّما يصحّ بلحاظ النسبة إلى حاقّ الواقع، فإنّ (الرقبة) في حاقّ الواقع - مثلاً - إمّا أن تكون مقيّدةً بالإيمان

ص: 111


1- نقله عنه في: منتهى الاُصول 1: 19.

وإمّا أن لا تكون كذلك، ولا يمكن لها، بهذا اللّحاظ، أن تخلو من قيد الإيمان ومن نقيضه معاً.

ولكنّ عدم إمكان خلوّها منهما في الواقع لا ينافي عدم تقيّدها بذلك القيد ولا بنقيضه، بل يمكن أن يكون ما وضع له لفظ (الرقبة) غير مقيّدٍ بالإيمان ولا بعدمه.

ومقامنا أيضاً من هذا القبيل، فإنّ الموضوع له إنّما هو الماهيّة المهملة، والتي لم تقيّد حتّى بقيد الإطلاق، فيمكن أن تكون في حدّ نفسها لا مستقلّةً ولا غير مستقلّة.وتلخّص: أنّ المعنى الحرفيّ لا يصير جزئياً باللّحاظ الآليّ حتى يقال: بأنّ المستعمل فيه في باب الحروف يكون خاصّاً، وأنّ التفكيك بين اللّحاظين يحتاج إلى دليل.

فلا فرق بين المعنى الحرفيّ والاسميّ، وكلّ من الآليّة والاستقلاليّة خارجتان عن حريم المعنى؛ لأنّ المعنى في حدّ ذاته لا يتّصف بهما.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية(قدس سره) أورد على نفسه فقال:

«إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة (من) ولفظ (الابتداء) مترادفين صحّ استعمال كلٍّ منهما في موضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطل بالضرورة كما هو واضح»(1).

ص: 112


1- كفاية الاُصول: 12.

وحاصله: أنّه لو كان هناك ترادف بين كلمة (من) ولفظة (الابتداء) - مثلاً - لصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر، كما هو الشأن في كلّ الألفاظ المترادفة، ولكنّ بطلان هذا الاستعمال في غاية الوضوح، لعدم جواز أن يقال: (سرت ابتداء البصرة)، مكان قولك: (سرت من البصرة).

ثمّ أجاب عنه(قدس سره) بما لفظه:

«قلت: الفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كلٍّ منهما بوضعٍ، حيث إنّه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره، كما مرّت إليه الإشارة غير مرّةٍ، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخروإن اتّفقا فيما له الوضع. وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصيّاته ومقوّماته»(1).

وتوضيح كلامه): أنّ الاختلاف في كيفيّة الوضع بين الاسم والحرف هو الذي أوجب عدم الترادف بينهما، وذلك أنّ الاسم وضع ليراد به المعنى في نفسه، وأمّا الحرف فقد وضع واُريد به أن يكون آلةً لملاحظة مدخوله.

ص: 113


1- المصدر نفسه.

فالاستقلاليّة والآليّة ملحوظتان للواضع من جهة كيفيّة وضعه لكلٍّ من الاسم والحرف.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ المعنى في كلٍّ من الاسم والحرف واحد، وإنّما يفترقان من جهة اللّحاظ في عمليّة الوضع، أي: في أنّ الواضع وضع الاسم للمعنى لكن في حال إرادته بنفسه، وأمّا الحرف فقد وضعه لنفس المعنى ولكن في حال إرادته آلةً وحالةً لغيره، من دون أن يكون شيء من ذلك قيداً في المعنى، فالاسم والحرف بمعنىً واحد، غاية الأمر: أنّ دائرة الوضع ضيّقة من أوّل الأمر، من باب (ضيّق فم الركيّة)، لأنّ وضع الحروف للمعنى في حالٍ من الأحوال، ووضع الأسماء يكون في حالٍ آخر، من دون أن تكون الحالة قيداً للمعنى.

وقد يرد على جوابه هذا:

بأنّ المرجع في ما ذكر من الاختلاف في كيفيّة الوضع: لو كان إلى ما هو من قبيل الاشتراط على المستعمل، كما قد يتوهّم، ليكون - حينئذٍ - مثل الشروط الواقعة في ضمن العقد، فيرد عليه: أنّه لا دليل على لزوم الوفاء بهذا الشرط في مثل المقام بعد ما كان الاستعمال فيما خالف الشرط لا يستلزم الخروج عن المعنى الموضوع له إلىغيره. وأيضاً: فهذا يستوجب - لا محالة - تقييد الموضوع له، وهو ليس إلّا رجوعاً عمّا هو فرضه(قدس سره).

وأمّا إذا قلتم: بأنّه لا يرجع الشرط إلى الموضوع له، بل يكون من

ص: 114

باب تعدّد المطلوب، فحينئذٍ: يتحقّق الامتثال بمجرّد الإتيان بالموضوع له بدون القيد، لفرض تعدّد المطلوب.

فتكون النتيجة: جواز استعمال الحرف في مكان الاسم وبالعكس، بعدما كان الشرط خارجاً عن حيّز الموضوع له، وهذا خلف، وعليه لا يكون هذا الاستعمال غلطاً ولا مستهجناً.

وليس هذا الشرط من الشروط الشرعيّة حتى تحرم مخالفته.

ولو تنزّلنا عن ذلك، فهو إنّما يتمّ إذا كان الواضع شخصاً معيّناً.

بل حتّى لو فرضنا أنّه شخص معيّن، فلا يمكن المساعدة عليه - أيضاً - من جهةٍ اُخرى، وهي: أنّ جعل هذا الشرط ليس من وظيفة الواضع، وإنّما وظيفته مجرّد جعل العلقة بين الألفاظ ومعانيها، وأمّا تعيين طريقة الاستعمال أو إلزامهم بشروطٍ معيّنة، فخارج عن حدود صلاحيّاته.

إشكال بعض المحقّقين:

وقد استشكل بعض المحقّقين)(1) على هذه الإرادة - أعني: إرادة المعنى بما هو في نفسه في الاسم، وإرادته بما هو حالة لغيره في الحرف - فوجّهها: بأنّ الوضع للاسم والحرف ينشأ بشرطين، بنحو الشرط المتأخّر، نظير الإنشاءات التعليقيّة الشرعيّة، كالوصيّة التمليكيّة، فإن الملكيّة هناك منوطة بالموت.

ص: 115


1- هو المحقّق الشّاهروديّ) كما جاء في تقريرات السّيّد المروّج). (غير مطبوع).

والوضع - أيضاً - من الاُمور الاعتباريّة، فيمكن للواضع أن يضع اللّفظ لمعنىً ما، ولكن معلّقاً على إرادة المستعملين، فإرادة المعنى في نفسه شرط للواضع - كشرطيّة الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ - ومع حصول الشرط، وهو هنا: الإرادة المذكورة، يصير الموضوع له فعليّاً. إذاً، فحصول الوضع وفعليّته منوطة بتحقّق الشرط.

ولكنّه) عاد ليستشكل على هذا التوجيه: بأنّ هذه الإرادة المزعومة هل هي الإرادة الاستعماليّة أم غيرها؟ فإن كانت الاُولى: لزم المحال؛ إذ يلزم أن يكون الوضع بعد الإرادة الاستعماليّة التي هي متأخّرة عن الوضع، ضرورة ترتّب الاستعمال على الوضع وتأخّره عنه، فيلزم تأخّر الوضع عمّا هو متقدّم عليه رتبةً. وهذا لايتمّ إلّا بناءً على القول بتبعيّة الدلالة للإرادة.

وإن كانت غيرها: فيكذّبها الوجدان؛ إذ إنّ إرادة المعاني إنّما تحصل باعتبار اللّفظ الذي هو موضوع له، ممّا يعني إرادتها تكون متأخّرة عن الوضع.

أقول: الإشكال الذي أورده هذا المحقّق على الشقّ الأوّل - أعني: أن تكون الإرادة هي الإرادة الاستعماليّة - إنّما يتمّ لو قلنا: بأنّ الوضع مقدّم على الاستعمال، وأمّا لو قلنا: إنّه عين الاستعمال، فلا.

وإن كان المرجع في هذا - أي ما قاله صاحب الكفاية - إلى أنّ اللّحاظ قد أخذ على نحو الداعي، أي: أنّ الداعي للواضع في وضعه الحروف

ص: 116

لمعانيها هو أن تكون هذه المعاني حالةً للغير.

ففيه: أنّه أيّ دليلٍ قام على اعتبار هذا الداعي؟ وقد ذكرنا: أنّه لا يضرّ تخلّف الشرط فكيف بتخلّف الداعي؟(قدس سره)اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ وزانه كوزان الملاكات بالنسبة إلى الأوامر، فكما أنّ الأوامر تكون تابعةً للمصالح والأغراض الداعية إلى الطلب والأمر، فإذا كانت هذه المصالح ضيّقةً فلا يبقى مجال لإطلاق الأمر وتوسعته بحيث يشمل ما هو أزيد عن مقدار المصلحة الموجودة فيه؛ لأنّ ضيق المصالح والأغراض موجب لضيق دائرة المنشأ والمجعول.

ففي المقام - أيضاً - إذا كان غرض الواضع هو وضع اللّفظ للمعنى لا على نحو الإطلاق، بل لكي يدلّ على معناه بما هو حالة للغير وباللّحاظ الآليّ، فإنّ دائرة الموضوع ووضعه ستتضيّق، لا محالة.

وهذا التقييد ليس على سبيل التقييد في المعنى ليرد الإشكال بأنّه يستحيل تقييد المعنى باللّحاظ المتأخّر عنه، بل اللّازم من تضييق دائرة الوضع هو عدم صحّة استعمال أحدهما في مكان الآخر.

ولكن يرد عليه أيضاً: أنّ ضيق الوضع يوجب عدم صحّة استعمال أحدهما مكان الآخر حقيقةً، ولكنّه لا يوجب عدم صحّته مجازاً، وهذا الذي ذكره يرجع في مآله إلى مفهوم اللّحاظ، وكلامنا هنا - كما عرفت - في مصداق اللّحاظ؛ إذ هو الجزء وهو الذي يكون دخيلاً في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه.

ص: 117

وأيضاً: فلو كانت الحروف والأسماء مشتركةً في المعنى، وكان كلّ من الاستقلاليّة والآليّة وعدمهما خارجاً عن حريم المعنى، فلازم هذا: جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر، ولو مجازاً، مع أنّه من أفحش الأغلاط؛ لأنّ العلقة الداخليّة موجودة هنا، فإذا كان استعمال اللّفظ في غير ما وضع له جائزاً من جهة العلّة الخارجيّة، فاستعماله هنا يكون جائزاً بطريق أولى، لأنّها هنا ذاتيّة.وبالجملة: فعدم جواز استعمال أحدهما في مكان الآخر، ولو مجازاً، دليل على أنّ بين المعنيين تبايناً ذاتيّاً. هذا.

مضافاً إلى أنّ هذا الفرق المذكور ليس بقاعدةٍ كلّيّة ومطّردة لكي تجري في كلّ الحروف والأسماء، فمثلاً: لو قلنا: بأنّ الملاك في الحرفيّة هو أن يكون لحاظ المعنى على نحو الآليّة، فإنّ جملةً من الاسماء ستتحوّل لتصبح حروفاً.

وقد مثّل لذلك الاُستاذ الأعظم) ﺑ-«التبيّن المأخوذ غايةً لجواز الأكل والشرب في قوله تعالى: ﴿وَكُلُوُاْ وَاشْرَبُواْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأبْيَضُ﴾ الآية(1) فإنّه قد أخذ مرآةً وطريقاً إلى طلوع الفجر، من دون أن يكون له دخل في حرمة الأكل والشرب وعدمها، فبذلك يعلم: أنّ كون الكلمة من الحروف لا يدور على لحاظه آليّاً»(2).

ص: 118


1- البقرة: 187.
2- محاضرات في اُصول الفقه 1: 58.

ولكنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو لم نأخذ التبيّن على أنّه تمام الموضوع للحكم المذكور في الآية، وإلّا، فلا يكون لحاظه آليّاً، بل يكون استقلاليّاً حينئذٍ، كما هو واضح.

وفيما أفاده الاُستاذ الأعظم) أيضاً: أنّ الحرف ينقلب اسماً في مثل جملة: «جاء زيد مع عمرو»، «فإذا كان مجيء زيدٍ معلوماً، ولكن كانت كيفيّة مجيئه مجهولةً عند أحدٍ، فلم يعلم أنّه جاء مع غيره أو جاء وحده، فسأل عنها، فقيل: إنّه جاء مع عمروٍ، فالمنظور بالاستقلال والملحوظ كذلك في الإفادة والاستفادة في مثل ذلك إنّما هو هذه الخصوصيّة التي هي من المعاني الحرفيّة، دون المفهوم الاسميّ، فإنّه معلوم، بلإنّ الغالب في موارد الإفادة والاستفادة عند العرف: النظر الاستقلاليّ والقصد الاُولى بإفادة الخصوصيّات والكيفيّات المتعلّقة بالمفاهيم الاسميّة»(1).

فالحقّ: هو المباينة بين المعنيين تبايناً ذاتيّاً. وما أبعد ما بين هذا القول وبين قول من التزم بأنّه لا معنى للحرف أصلاً، كما سنبيّن.

القول الثاني:

ما عن نجم الأئمّة الرضيّ)(2): من أنّ الحروف لا معنى لها، أي: ليس لها معنى بحيث يوضع لها لفظ الحرف، بل جعل علامةً على خصوصيّة

ص: 119


1- المصدر نفسه.
2- حكاه عنه في: محاضرات في اُصول الفقه 1: 59.

المعنى في مدخوله، ويكون حالها كحال وجوه الإعراب، فكما أنّ الرفع يدلّ على فاعليّة الفاعل، ﻛ (زيد) في قولك: (قال زيد)، فإنّ (من) كذلك تدلّ على ابتدائيّة مدخولها، وهو (البصرة) في قولك - مثلاً -: (سرت من البصرة)، و(في) أيضاً تدلّ على ظرفيّة مدخولها ﻛ (الدار) في قولنا - مثلاً -: (زيد في الدار).

والحاصل: أنّه وكما أنّ الرفع علامة للفاعليّة، ولا معنى له في نفسه أصلاً، فكذلك الحرف، فهو ليس إلّا علامةً لمعرفة معنى الغير، ولا يدلّ على معنىً أصلاً.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ نفس الخصوصيّة التي دلّت عليها الحروف هي بعينها نفس معانيها؛ إذ بعدما ثبت أنّ الألفاظ موضوعة لذات معناها، كلفظ (زيد) الموضوع لذات المعنى، ولفظ (الدار) الموضوعة لنفس معنى الدار، فإنّ بين (زيد) و(الدار) أو (البصرة)و(الكوفة) مثلاً خصوصيّةً ما تكون خارجةً عمّا وضعت له هذه الألفاظ من المعاني. وما يدلّ على تلك الخصوصيّة إنّما هو الحرف.

فلو لم تكن تلك الخصوصيّة مستفادةً من كلمة (في)، بل من نفس لفظ (الدار) عند الاستعمال، لكان هذا الاستعمال غلطاً، ولا نظنّ أحداً يلتزم بذلك.

وإن كانت تلك الخصوصيّة مدلولاً عليها بالحروف، فهذا اعتراف بأنّ

ص: 120

للحروف معنىً، وهو المطلوب.

ومن هنا يظهر الحال فيما ذكره في أجود التقريرات بقوله: «ومنه يظهر الحال في المقيس عليه وهو الإعراب، فإنّا نلتزم فيه بما نلتزمه في الحروف من دلالتها على معانٍ قائمةٍ بمدخولها»(1)؛ فإنّا لا نحتاج في المقيس عليه - وهو الإعراب - أن نلتزم بما ذكره هذا المحقّق«؛ وذلك لأنّ الدلالة على الإعراب هي النسبة الصدوريّة أو الوقوعيّة أو الحلوليّة، فلا يكون الإعراب دالاً على ذلك، وهذا بخلاف المقام، فإنّ ما يدلّ على النسبة هو الحروف.

وممّا ذكرنا ظهر ما في كلام بعض المحقّقين المعاصرين.

وأمّا منعه دلالة حركات الإعراب على معنىً لنفس الوجه، ففيه: أنّه يستفاد من حركات الإعراب معانٍ وخصوصيّات خارجة عن أصل مدلول الاسم، ولذلك يتغيّر المعنى بتغيّرها وتبدّلها، وذلك ظاهر جدّاً.

وثانياً: إنّ هذا القول مخالف لما اتّفقت عليه كلمة النحويّين في تقسيمهم للكلمة إلى ثلاثة أقسام: الاسم والفعل والحرف؛ فإنّا لو جرّدنا الحرف عن المعنى لم يصحّ أن تقسّم الكلمة إلّا إلى قسمين فقط. فتأمّل.

ص: 121


1- أجود التقريرات 1: 16.

القول الثالث:

وهو المنسوب إلى المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1)، وحاصله:

أنّ معاني الحروف إيجاديّة، وليست إخطاريّةً كمعاني الأسماء، فالمعنى الحرفيّ يباين المعنى الاسميّ من جهة الذات والصفة، فالأسماء تدلّ على المعاني الاستقلاليّة، وأيضاً: فالمعاني الاسميّة عبارة عن الصور التي تحضر في الذهن ويكون لها مطابق في الخارج.

وأمّا الحروف: فليس لها مفهوم متصوّر في الذهن كالمفاهيم الاسميّة، فإنّ ما تحكي عنه كلمة (من) - مثلاً - ليس هو النسبة الابتدائيّة المقرّرة في الذهن، وإنّما هو عبارة عن وجودٍ ذهنيٍّ يحصل به الربط بين المعاني الاسميّة أو بين الاسم والفعل، فتحقّق هذا الربط بآلة هي آلة الحروف الموضوعة لإيجاد تلك المعاني المربوطة، فكلمة (من) موضوعة لإيجاد الربط الابتدائيّ بين السير والبصرة في مثل قولك: (سرت من البصرة)، وكلمة (على) لإيجاد النسبة الاستعلائيّة بين (زيد) و(السطح)، في مثل: (زيد على السطح).

وبعبارةٍ اُخرى: فالحروف لا مفهوم لها، ولا يمكن تصوّرها على نحو الاستقلال، وتصوّر الشيء فرع وجوده؛ لأنّ تصوّره بصورته منوط بإدراكه بإحدى الحواسّ الظاهرة؛ فإنّ المفهوم مترتّب على التصوّر، وهو

ص: 122


1- انظر: أجود التقريرات 1: 16 فما بعدها.

على الوجود، فإذا قلت مثلاً: (البصرة، سير)؛ فإنّ هاتين الكلمتين تدلّان على مفهومين لا ربط بينهما، فتأتي كلمة (من) لتكون هي - في أصل وضعها - ما يوجد الربط الابتدائيّ بين هذين المفهومين.وبعبارةٍ أوضح: فبما أنّ المعاني الاسميّة لا ارتباط لبعضها مع الآخر، احتيج في مقام تأليف الكلام منها إلى رابطٍ يربط بعضها بالآخر، ولا يمكن أن يكون ذلك الرابط من سنخ المعاني الإخطاريّة، لأنّه لو كان كذلك لاحتاج إلى رابطٍ آخر، وهكذا.. فيتسلسل الأمر إلى غير النهاية؛ لأنّ المعاني الإخطاريّة مستقلّة في نفسها وليست برابطة.

فتعيّن: أنّ ما يراد له أن يكون رابطاً، فلابدّ فيه أن يكون من سنخ حقيقة الربط، وهو الوجود الذهنيّ الذي يصل بين المعاني الإخطاريّة فيربط بعضها ببعض، والموضوع للرّبط بين هذه المعاني في الذهن إنّما هو الحروف.

وملخّص القول:

أوّلاً: أنّ المائز بين المعنى الاسميّ والحرفيّ هو أنّ المعاني الاسميّة إخطاريّة وأمّا الحرفيّة فإيجاديّة، وحقيقة الحروف هي الربط، فحال الحرف كحال اللّاصق الذي به تلتصق الأجزاء المتفرّقة بعضها ببعض.

وثانياً: أنّ المعاني الحرفيّة لا استقلال لها في هويّة ذاتها، بل هي قائمة بغيرها، فالارتباط الذي تدلّ عليه الحروف والهيئات يكون قائماً بالطرفين.

ص: 123

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الحروف لا معنى لها في حدّ ذاتها وبالاستقلال، وإنّما يوجد معناها في موطن الاستعمال لا قبل ذلك، إذ لا وجود لها قبل ذلك لكي يتصوّر ثمّ يتعقّل، لما ذكرناه من توقّف التعقّل على التصوّر، وهو على وجوده خارجاً حتى يدرك بإحدى الحواس.

فالحاصل: أنّ معاني الحروف لا موطن لها إلّا وعاء الاستعمال - كما مرّ - وليس لها تقرّر في وعاء الواقع والذهن؛ فإنّ الموضوع له في الحروف ليس هو مفاهيم النسب والارتباطات، بل مصاديقها التي توجد في مواطن الاستعمال، فإذا قلنا: (زيد، الدار، الكتاب ..)، فإنّ لكلّ واحدٍ من هذه الألفاظ مفهوماً مستقلاً، وعندمانلقيهما إلى المخاطب تقع في ذهنه صورتهما ومعناهما الواقعيّ، ولكنّ مفهوم لفظ (في) لا يكاد يحضر في الذهن إلّا مع حضور متعلّقيه وركنيه، وهما (زيد) و(الدار)، فالمعنى الاسميّ مستقلّ في التصوّر، ولا كذلك المعنى الحرفيّ، بل هو يدور مدار الاستعمال حدوثاً وبقاءً.

أو فقل: إنّ حال المعنى الحرفيّ حال العرض في معروضه، إذ ما يلتفت إليه إنّما هو نفس وجود العرض، وأمّا قيامه بالمحلّ وفناؤه فيه فمغفول عنه، فإذا قلنا: (زيد قائم) حضر إلى ذهننا مفهوم زيد ومفهوم القيام، ولكنّ هذين المعنيين إذا أُخذا مستقلّين كان بينهما التباين، ولا يفهم منهما المعنى الجمليّ إلّا بعد تحقّق الربط بينهما، فلو لم يوجد الربط لم يتمّ الكلام ولم يصحّ الإخبار بقيام زيد. فحال هذا الربط إذاً، هو حال ربط العرض

ص: 124

بالمحلّ، ويكون مغفولاً عنه كحال العرض مع معروضه.

وثالثاً: لو كان المعنى الحرفيّ إخطاريّاً، وهو عين المعنى الاسميّ، فلابدّ أن يصحّ استعمال الاسم مكان الحرف، وبالعكس، مع أنّ هذا الاستعمال غير جائزٍ، لا حقيقةً ولا مجازاً، الأمر الذي يكشف، كشفاً قطعيّاً عن المباينة وعدم السنخيّة بينهما أصلاً، فللحروف معانٍ، ولكن ليس لها مفاهيم، ولا يجب أن يكون المفهوم لكلّ ما له معنى؛ لما ذكرناه من أنّ معناها لا يوجد إلّا في موطن الاستعمال، لا قبل ذلك حتّى يكون موجوداً ويدرك بإحدى الحواسّ وقابلاً للتصوّر والتعقّل.

وإنّ المعنى الحرفيّ مغفول عنه وغير ملتفتٍ اليه، بخلاف الاسميّ، لأنّه - أي: المعنى الحرفيّ - لا يكون من المفاهيم المتقرّرة حتّى يكون قابلاً للّحاظ.

وممّا ذكرناه من المباينة بينهما، يظهر:

عدم فرض إمكان وجود جامعٍ بينهما حتّى يحتاج في تمييزها عن الآخر بمميّز.وظهر أيضاً: أنّ للحرف فناءين، وأمّا الاسم فليس له إلّا فناء واحد، وهو فناؤه في المعنى.

وأمّا فناءا الحرف: فأوّلهما: نفس فناء الاسم - أي فناء اللّفظ في المعنى - والآخر: فناء المعنى الحرفيّ في معنىً آخر اسميّ، فإذا قلت: (زيد على السطح) مثلاً، فإنّ كلمة (على) في هذه الجملة موجدة للاستعلائيّة

ص: 125

القائمة بالسطح، كقيام العرض بمعروضه.

وبالجملة: فالمعاني الحرفيّة إيجاديّة؛ لأنّها لا وجود لها قبل الاستعمال ولأنّها غير ملتفتٍ إليها، ولا تقرّر لها في أيّ وعاءٍ من أوعية الواقع، لا ذهناً ولا خارجاً، بل لا موطن لها حتى في عالم الاعتبار قبل الاستعمال؛ لأنّ الالتفات إليها متوقّف على تصوّرها وإحضارها في الذهن، فإذا فرض أنّه لا وجود لها في غير موطن الاستعمال، وأن ليس لها قبل الاستعمال أيّ وجودٍ أصلاً، فلا يمكن تصوّرها ولا الالتفات إليها في المرتبة السابقة على الاستعمال؛ لأنّ الالتفات إليها قبل الاستعمال إنّما يكون ممكناً مع فرض إمكان وجودها في الذهن، والمفروض - كما ذكرنا - أن لا وجود لها في أيّ وعاءٍ غير وعاء الاستعمال، وإذا لم يكن لها وجود قبل الاستعمال، امتنع إطلاق وتقييد اللّحاظين فيه.

وقد استدلّ المحقّق النائينيّ) على مبناه هذا بوجوه(1):

الأوّل: بما روي عن أبي الأسود الدؤليّ، عن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنّه قال: «الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أوجد معنىً في غيره»(2).ثمّ ذكر(قدس سره) أنّه يظهر من عدوله(علیه السلام) عن الإنباء إلى الإيجاد بالنسبة إلى

ص: 126


1- فوائد الاُصول 1: 50.
2- انظر: بحار الأنوار 40: 162.

الحرف: أنّ المعنى الحرفيّ لا تقرّر له في أيّ وعاءٍ غير وعاء الاستعمال حتى يدلّ عليه الحرف ويحكي عنه كحكاية أخويه عن معنييهما. ممّا يعني: أنّ الحرف هو فقط آلة لإيجاد معناه.

قال ): «وأمّا قوله(علیه السلام): (والحرف ما أوجد معنىً في غيره)، فكذلك، أي: أنّه منطبق على ما ذكرناه من أنّ معاني الحروف إيجاديّة بقيودها الأربعة، إذ لازم كونه ما أوجد معنىً في غيره، هو أن يكون المعنى إيجاديّاً، وأن يكون ذلك المعنى قائماً في غيره، وأن لا يكون له موطن غير الاستعمال، وأن يكون مغفولاً عنه، على ما عرفت: من أنّ القيدين الأخيرين من لوازم كون المعنى في الغير»(1).

ومّما يؤيّد ذلك: ما يظهر من تعبير أهل العربيّة وقولهم: «كلمة (في) للظرفيّة»، حيث لم يقولوا: «(في) هي الظرفيّة».

الثاني: أنّ حرف النداء مثل (يا) في «يا زيد»، لا يمكن أن يكون منبئاً وحاكياً عن النسبة الابتدائيّة المتقرّرة في غير موطن الاستعمال، إذ قبل الاستعمال لا منادىً ولا منادٍ، بل هذه العناوين إنّما توجد بنفس الاستعمال.

الثالث: لا شكّ ولا شبهة في أنّ مفاهيم أجزاء الجملة مفاهيم بسيطة في الأذهان، لا يرتبط بعضها ببعض، بلا فرق بين أن تكون تلك الجمل اسميّةً أو فعليّةً، خبريّةً أو إنشائيّة، ناقصةً أو تامّة.

ص: 127


1- فوائد الاُصول 1: 50.

مثلاً: في مثل قولك: «الماء في الكوز»، لو تصوّرت كلاً من الماء والكوز لوجدت أنّهما موضوعان لمفهومين متغايرين لا ربط لأحدهما بالآخر، ولا يمكنتأليف الكلام منهما لولا كلمة (في)، فلو أنّك استعملت كلمة (في) في مفهوم النسبة الظرفيّة، لا في حقيقة الظّرفيّة ومصداقها، لأصبحت دالّةً - هي أيضاً - على معنىً مستقلّ.

وحينئذٍ: فلابدّ أن نسأل: ما هو الرابط بين هذين المفهومين المستقلّين المتغايرين، وكيف تحقّق الربط بينهما؟! ومن هنا يظهر: أنّ الموجد للربط بين المعاني المتغايرة إنّما هو الحروف والهيئات، ولا بدّ حينئذٍ أن تكون الحروف والهيئات موضوعةً لمصاديق النسب والارتباطات، لا لمفاهيمهما؛ إذ من دون ذلك لا يكاد يمكن أن يحصل الربط بين هذه الاُمور المستقلّة والمتباينة من حيث المفهوم.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ الرواية عامّيّة لا يعتمد عليها.

ففيه - كما نسب إلى المحقّق الجليل السيّد علي البهبهانيّ) - : «أن ّ الرواية مشتهرة بين أهل العربيّة اشتهار الشمس في رابعة النهار»(1)، بل هي مشهورة بين العامّة والخاصّة.

هذا وينبغي أن يعلم: أنّ ما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره) في الاستدلال على مبناه هذا فغير تامٍّ.

ص: 128


1- فوائد الاُصول 1: 50، (الهامش).

عدم تماميّة أدلّة المحقّق النائينيّ):

أمّا أوّلاً: فلأنّ الرواية قد حكيت بأشكالٍ مختلفة، منها: «الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ به، والحرف ما جاء لمعنىً»، ومنها: «الاسم ما دلّ على المسمّى، والفعل ما دلّ على حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنىً ليس باسمٍ ولا فعل»ومنها: «إنّ الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أوجد معنىً في غيره». كما قد رويت أيضاً بألفاظٍ اُخرى(1).

ومن الروايتين الأوليين: تظهر الإخطاريّة لا الإجاديّة. نعم، الرواية الأخيرة تدلّ على مبناه. وعليه: فمع اختلاف المتن، فلا يمكن الاستدلال بهذه الرواية، حتّى وإن كانت متواترةً من جهة الصدور.

وأمّا ثانياً: فلأنّه لا فرق بين القضيّة المعقولة والقضيّة الملفوظة، فكما أنّ القضيّة الملفوظة تحتاج إلى رابط، فالقضيّة المعقولة أيضاً تحتاج إليه، وبناءً على إيجاديّة المعنى الحرفيّ، يلزم إنكار القضيّة المعقولة؛ لعدم ربطٍ ذهنيٍّ يربط بين الطرفين، اللّهمّ إلّا أن يلتزم بإمكان تحقّق القضيّة وتأليفها من دون ربطٍ بين طرفيها، وهو كما ترى.

وأمّا ثالثاً: فلا شكّ في أنّ المتكلّم إذا أراد أن يلقي كلاماً إلى مخاطبه، فلابدّ له أن يتصوّر أجزاء الكلام بما فيه من النسب والارتباطات، حتى

ص: 129


1- راجع: تأسيس الشيعة، تأليف العالم الجليل السّيّد حسن الصدر): 46- 61؛ وكتابنا الكشف الجليّ: 53 - 55.

تكون الجملة الملفوظة مطابقةً للجملة المعقولة من المسند والمسند إليه، وكذا يعتبر تصوّر النسب والارتباطات التي تدلّ عليها الحروف والهيئات.

وبعبارةٍ اُخرى: فبعد ما ذكرناه من أنّه لا بدّ من تطابق القضيّة المعقولة مع الملفوظة فالكلام الملقى إلى المخاطب كما أنّه يشتمل على ألفاظٍ تدلّ على مفاهيم مستقلّة لا بدّ من تصوّرها قبل إلقائها إلى المخاطب، فهو كذلك يشتمل على الحروف والهيئات التي تحكي عن الارتباطات والنسب، وهذه لا بدّ من تصوّرها أيضاً.

وهل يعقل إلقاء كلام مفيد إلى المخاطب من دون تصوّر أطرافها بعدما ذكرناه من لزوم التطابق بين القضيّتين؟(قدس سره) فإذا اُلقيت مفاهيم متعدّدة يرتبط بعضها مع بعض، فكماأنّ إبراز تلك المفاهيم والمعاني المستقلّة يكون بالألفاظ من الأسماء والأفعال، فكذلك إبراز تلك النسب يكون بواسطة الحروف والهيئات، فالحاكي عن نفس تلك المفاهيم والمعاني المستقلّة لا يغني عن ما يحكي عن خصوصيّاتها؛ لعدم دلالتها عليها؛ لأنّ المفروض أنّ اللّفظ لا يدلّ إلّا على نفس الطبيعة المهملة المعرّاة عن كلّ خصوصيّةٍ وارتباط.

وعليه: فكما أنّ المفاهيم تحتاج إلى دالٍّ، فالخصوصيّات تحتاج إلى دالّ آخر.

ونتيجة ما ذكرنا: أنّ مداليل الحروف والهيئات هي تماماً كمداليل

ص: 130

الأسماء إخطاريّة، وليست إيجاديّة.

وعليه: فما ذكره المحقّق النائينيّ) من أنّ المعنى الحرفيّ والاسميّ بينهما تباين بالذات هو الحقّ، وقد مرّ: أنّ التباين بينهما ذاتيّ، وليس من جهة اللّحاظ، ولكنّنا لا نوافقه فيما ذهب إليه من التفريق بين معاني الحروف ومعاني الأسماء بجعل الاُولى إيجاديّة، والثانية إخطاريّة، بل نقول: إنّ معاني الحروف كمعاني الأسماء إخطاريّة، ولا فرق بينهما من هذه الجهة، وإنّما الفرق من جهة اُخرى، وهو: أنّ الأسماء تحكي عن مفاهيم استقلاليّة، وأمّا الحروف فتحكي عن مفاهيم غير استقلاليّة.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الحروف تدلّ على معانيها التي وضعت بإزائها، أي: التي تكون سبباً للرّبط في الكلام بين المفاهيم المتباينة، والتي لم تكن مرتبطةً بعضها ببعض لولا الحروف، لا أنّ الحروف توجب الربط في نفس ذلك التركيب بحيث لا يكون لها واقع خارج تركيب الكلام.وتحصّل: أنّ للحرف نحو ثبوت في وعاء المفاهيم المستقلّة، ومن هنا نرى أنّ بعض هذه الحروف ليست بمغفولٍ عنها، بل يتعلّق بها اللّحاظ الاستقلاليّ، كما لو أردت أن تسأل عن كيفيّة مجيء زيدٍ مع علمك بأصل مجيئه.

ومعه: فلا وجه للقول بأنّ المعاني الحرفيّة لا مفهوم لها بما هي معانٍ حرفيّة

ص: 131

خارجاً عن التراكيب الكلاميّة. إلّا أن يقال: إنّ الحرف بمجرّد تعلّق اللّحاظ الاستقلاليّ به يخرج عن كونه حرفاً، ويدخل في المعنى الاسميّ، كما في قولك: إنّ (على) للاستعلاء، فإنّ هذا الحرف تحوّل عن الحرفيّة ليصير اسماً مبتدءاً، إذ كلّ ما يكون مغفولاً عنه مع البقاء على مغفوليّته فهو حرفيّ، ولكنّه وبمجرّد استقلاله يلحظ مستقلّاً، فيصير معنىً اسميّاً.

القول الرابع:

ما في هداية المسترشدين من التفصيل في الحروف، فبعض الحروف إيجاديّ، كحروف النداء والتمنّي والترجّي، وبعضها إخطاريّ، ﻛ (من) و(إلى) و(على) و(في)، فاستعمال (من) في قولك: «سرت من البصرة إلى الكوفة» - مثلاً - موجب لإخطار ما وقع في الخارج من نسبة الابتداء، واستعمال (إلى) فيه موجب لإخطار ما وقع في الخارج من نسبة الانتهاء، فهما حاكيان عمّا وقع في الخارج من باب حكاية الألفاظ عن معانيها.

وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره):

«الغالب في أوضاع الألفاظ أن تكون بإزاء المعاني التي يستعمل اللّفظ فيها، كما هو الحال في معظم الألفاظ الدائرة في اللّغات، وحينئذٍ: فقد يكون ذلك المعنى أمراً حاصلاً بقصده في نفسه، مع قطع النظر عن اللّفظ الدالّ عليه، فليس من شأن اللّفظإلّا إحضار ذلك المعنى ببال

ص: 132

السامع. وقد يكون ذلك المعنى حاصلاً بقصده من اللّفظ من غير أن يحصل هناك معنىً قبل أداء اللّفظ، فيكون اللّفظ آلةً لإيجاد معناه وأداةً لحصوله.

ويجري كلّ من القسمين في المركّبات والمفردات: فالأوّل من المركّبات: الإخبارات، والثاني منها: الإنشاءات؛ ولذا قالوا: إنّ الخبر ما له خارج يطابقه أو لا يطابقه، والإنشاء ما ليس له خارج، بل يحصل معناه بقصده من اللّفظ.

والنوع الأوّل من المفردات معظم الألفاظ الموضوعة، فإنّها إنّما تقضي بإحضار معانيها ببال السامع من غير أن تفيد إثبات تلك المعاني في الخارج، وهي أعمّ من أن تكون ثابتةً في الواقع أو لا.

والنوع الثاني منها: كأسماء الإشارة والأفعال الإنشائيّة - بالنسبة إلى وضعها النسبيّ - وعدّة من الحروف، كحروف النداء والحروف المشبّهة بالفعل ونحوها؛ فإنّ كلّاً من الإشارة والنسبة الخاصّة والنداء والتأكيد حاصل من استعمال (هذا) و(اضرب) و(يا) و(إنّ) في معانيها»(1). انتهى موضع الحاجة من كلامه(اعلی الله مقامه).

ولكن، ومّما ذكرنا لك ظهر بطلان هذا التفصيل، وأنّه لا معنى لإيجاديّة الحروف مطلقاً.

ص: 133


1- هداية المسترشدين 1: 145 - 146.

القول الخامس:

ما اختاره المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1): وحاصله: أنّ المعنى الحرفيّ هو من قبيل الوجود الرابطي، كالأعراض.وبيان ذلك: أنّ الفلاسفة - على ما قيل - يقسّمون الوجود إلى أقسامٍ أربعة:

الأوّل: الوجود في نفسه ولنفسه وبنفسه، وهو وجود الواجب تعالى شأنه، فإنّه موجود قائم بذاته، وليس معلولاً لغيره.

الثاني: الوجود في نفسه و لنفسه ولكن بغيره، وهو وجود الجوهر، فإنّه قائم بذاته، ولكنّه معلول لغيره.

الثالث: الوجود في نفسه ولكن لغيره، وهو وجود العرض؛ فإنّه غير قائم بذاته، بل متقوّم بموضوع في الخارج، فلا يعقل وجود عرض بدون موضوع متحقّق في الخارج. ويعبّر عن هذا القسم في الاصطلاح ﺑ-(الوجود الرابطيّ).

والرابع: الوجود لا في نفسه، وهو المعبّر عنه ﺑ-(الوجود الرابط)، في قبال (الوجود الرابطيّ)، وهو وجود النسبة والربط، فإنّ حقيقة النسبة لا وجود لها في الخارج إلّا بتبع وجود المنتسبين، بلا استقلالٍ

ص: 134


1- بدائع الأفكار 1: 50.

لها أصلاً، فهي بذاتها متقوّمة بالطرفين لا في وجودها.

بخلاف العرض، فإنّه بذاته غير متقوّمٍ بموضوعه، وإنّما التقوّم بموضوع من لوازم وضروريّات وجوده.

وإذا اتّضح ذلك، فإنّ الحروف قد وضعت لمعنىً ملحوظٍ بما أنّه حالة للغير ونعت له؛ لأنّه لا يتصوّر بنفسه في الذهن مع غضّ النظر عن الغير، بل لا يمكن وجوده في الذهن مستقلّاً وفي غير الموضوع، كالأعراض الخارجيّة التي لا توجد مستقلّاً وفي غير الموضوع، بل وجوداتها في أنفسها عين وجوداتها لموضوعاتها.

فمفهوم (من) - مثلاً - ليس هو في الذهن بمعنى: طبيعة الابتداء، حتّى يمكن أن يخبر عنها وأن تلاحظ مستقلّة، وإنّما معنى (من): خصوص الابتداء الذي هو حالةللبصرة - مثلاً - وبما أنّ معناه غير مستقلّ، فلا يكون من الممكن أن يخبر عنه، وهذا يعني: أنّ (من) لا تدلّ على شيءٍ.

وبالجملة: فالمعنى الحرفيّ حاله حال الأعراض، فكما أنّ الأعراض لا توجد في الخارج مستقلّةً، ولا توجد فيه إلّا في الموضوع، فإنّ الحرف كذلك أيضاً، لا يوجد إلّا حالةً لمعنىً آخر وقائماً به، وليس قيامه بنفسه كقيام المعنى الاسميّ بنفسه.

ولعلّ هذا هو المراد من قولهم: «الحرف ما دلّ على معنىً في غيره». وعليه: فالمعنى الحرفيّ من قبيل الوجود الرابطي، لا الوجود النفسيّ ولا الوجود الرابط.

ص: 135

وفيه:

أوّلاً: قد ذكرنا سابقاً: أنّ المعنى الحرفيّ من قبيل الوجود الرابط، وليس من قبيل الوجود الرابطيّ، كما أنّه ليس من قبيل الوجود النفسيّ المحض؛ إذ من المعلوم بالضرورة عدم استقلاليّة معناه، ولو كان من قبيل الأعراض والوجود الرابطيّ لاحتاج إلى طرفٍ واحد فقط، والوجدان حاكم بأنّه يحتاج إلى طرفين.

وثانياً: المتكلّم حينما يريد أن يلقي جملةً ما، فلابدّ له من تصوّرها أوّلاً، ليلقيها لاحقاً على طبق ما تصوّره، ولا شكّ في أنّ الربط الذهنيّ كالربط الخارجيّ، فكما أنّ الربط الخارجيّ قائم بالطرفين، ولا استقلال له بدونهما، فكذلك الربط الذهنيّ.

وعليه: فالحروف والهيئات تربطان بين الاُمور المستقلّة التي لا ارتباط فيما بينها، فإنّ كلمة (زيد) و (قيام) الموجودين في الجملة - مثلاً - لو قمنا بتصوّر مفهوم كلّ واحدٍ منهما على حدة، فلا مجال لتصوّر أيّ ارتباط بينهما، وكذا لو فرض وجود زيد في الخارج بلا قيام، أو وجود قيام بلا زيد، فهل يمكن الارتباط بين هذين الموجوديناللّذين لا وجود للارتباط بينهما؟(قدس سره) وكذا الحال في موطن الذهن، فإنّه لا يمكن جعل الارتباط بين شيئين لا ارتباط بينهما، إلّا بواسطة الآلة.

فتحصّل: أنّه كما أنّ الربط الخارجيّ قائم بالطرفين، فكذلك الربط الذهنيّ.

ص: 136

ثمّ إنّه حسب تقسيم الفلاسفة: فوجود العرض وجود في نفسه لغيره، والوجود الرابط وجود لا في نفسه، وهو في مقابل الوجود الرابطيّ.

القول السادس:

ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره)، قال:

«التحقيق: أنّ المعاني الحرفية و المفاهيم الأدوية، وإن كانت مرتكزةً في أذهان كلّ أحدٍ ومعلومة لديه إجمالاً، ولذا يستعملها فيها عند الحاجة إلى تفهيمها، إلّا أنّ الداعي إلى البحث عنها في المقام: حصول العلم التفصيليّ بها.

وبيان ذلك: أنّ الحروف والأدوات تباين الأسماء ذاتاً وحقيقةً، ولا اشتراك لهما في طبيعيّ معنىً واحد. وقد تبيّن حكم هذه الناحية من مطاوي كلماتنا فيها، وأنّه لا شبهة في تباين المعنى الاسميّ والحرفيّ بالذات، فلا حاجة إلى الإعادة و البيان. ونتكلّم فيها فعلاً من ناحيةٍ اُخرى - بعد الفراغ عن تلك الناحية - وهي أنّ المعاني الحرفيّة التي تباين الاسميّة بتمام الذات ما هي؟ فنقول:

إنّ الحروف على قسمين: أحدهما: ما يدخل على المركّبات الناقصة و المعاني الإفراديّة ﻛ (من) و(إلى) و(على) ونحوها. والثاني: ما يدخل على المركّبات التامّة ومفاد الجملة، كحروف النداء والتشبيه والتمنّي والترجّي وغير ذلك.

ص: 137

أمّا القسم الأوّل: فهو موضوع لتضييق المفاهيم الاسميّة في عالم المفهوم والمعنى وتقييدها بقيودٍ خارجةٍ عن حقائقها، ومع هذا، لا نظر لها إلى النسب والروابطالخارجيّة، ولا إلى الأعراض النسبيّة الإضافيّة، فإنّ التخصيص والتضييق إنّما هو في نفس المعنى سواء كان موجوداً في الخارج أم لم يكن.

توضيح ذلك: أنّ المفاهيم الاسميّة، بكلّيّتها وجزئيّتها، وعمومها وخصوصها، قابلة للتقسيمات إلى غير النهاية باعتبار الحصص أو الحالات التي تحتها، ولها إطلاق وسعة بالقياس إلى هذه الحصص أو الحالات، سواء كان الإطلاق بالقياس إلى الحصص المنوّعة، كإطلاق (الحيوان) - مثلاً - بالإضافة إلى أنواعه التي تحته؛ أو بالقياس إلى الحصص المصنّفة أو المشخّصة، كإطلاق (الإنسان) بالنسبة إلى أصنافه أو أفراده؛ أو بالقياس إلى حالات شخصٍ واحدٍ، من كمّه وكيفه وسائر أعراضه الطارئة وصفاته المتبادلة على مرّ الزمن.

ومن البديهيّ: أنّ غرض المتكلّم، في مقام التفهيم والإفادة، كما يتعلّق بتفهيم المعنى على إطلاقه وسعته، كذلك قد يتعلّق بتفهيم حصّةٍ خاصّةٍ منه، فيحتاج - حينئذٍ - إلى مبرزٍ لها في الخارج. وبما أنّه لا يكاد يمكن أن يكون لكلّ واحدٍ من الحصص أو الحالات مبرز مخصوص، لعدم تناهي الحصص والحالات، بل عدم تناهي حصص أو حالات معنىً واحدٍ، فضلاً عن المعاني الكثيرة، فلا محالة، يحتاج الواضع الحكيم إلى

ص: 138

وضع ما يدلّ عليها ويوجب إفادتها عند قصد المتكلم تفهيمها، وليس ذلك إلّا الحروف والأدوات وما يشبهها من الهيئات الدالّة على النسب الناقصة، كهيئات المشتقّات وهيئة الإضافة والتوصيف، فكلّ متكلّمٍ متعهّد في نفسه بأنّه متى ما قصد تفهيم حصّةٍ خاصّةٍ من معنىً، أن يجعل مبرزه حرفاً مخصوصاً أو ما يشبهه، على نحو القضيّة الحقيقيّة؛ لا بمعنى أنّه جعل بإزاء كلّ حصّةٍ أو حالةٍ حرفاً مخصوصاً، أو ما يحذو حذوه، بنحو الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، لما عرفت: من أنّه غير ممكنٍ من جهة عدم تناهي الحصص. فكلمة (في) في جملة:(الصلاة في المسجد حكمها كذا)، تدلّ على أنّ المتكلّم أراد تفهيم حصّةٍ خاصّةٍ من الصلاة، وفي مقام بيان حكم هذه الحصّة، لا الطبيعة السارية إلى كلّ فرد. وأمّا كلمتا (الصلاة) و(المسجد)، فهما مستعملتان في معناهما المطلق واللّابشرط، بدون أن تدلّا على التضييق والتخصيص أصلاً.

ومن هنا: كان تعريف الحرف ﺑ (ما دلّ على معنىً قائمٍ بالغير) من أجود التعريفات وأحسنها، وموافق لما هو الواقع ونفس الأمر ومطابق لما ارتكز في الأذهان من أنّ المعنى الحرفيّ خصوصيّة قائمة بالغير وحالة له».

إلى أن قال: «وبكلمةٍ واضحة: إنّ وضع الحروف لذلك المعنى من نتائج وثمرات مسلكنا في مسألة الوضع، فإنّ القول بالتعهّد - لا محالة - يستلزم وضعها لذلك، حيث عرفت: أنّ الغرض قد يتعلّق بتفهيم الطبيعيّ وقد يتعلّق بتفهيم الحصّة، والمفروض أنّه لا يكون عليها دالّ ما عدا

ص: 139

الحروف وتوابعها، فلا محالة يتعهّد الواضع ذكرها أو ذكر توابعها عند قصد تفهيم حصّةٍ خاصّة...».

إلى قوله: «ولا فرق في ذلك بين أن تكون الحصص موجودةً في الخارج أو معدومةً، ممكنةً كانت أو ممتنعةً.

ومن هنا: يصحّ استعمالها في صفات الواجب تعالى، والانتزاعيّات: كالإمكان والامتناع ونحوهما، والاعتباريّات: كالأحكام الشرعيّة والعرفيّة، بلا لحاظ عنايةٍ في البين.

مع أنّ تحقّق النسبة في تلك الموارد - حتّى بمفاد هل البسيطة - مستحيل. وجه الصحّة هو: أنّ الحروف وضعت لإفادة تضييق المعنى في عالم المفهوميّة، مع قطع النظر عن كونه موجوداً في الخارج أو معدوماً، ممكناً كان أو ممتنعاً، فإنّها على جميع التقادير تدلّ على تضييقه وتخصيصه بخصوصيّةٍ ما على نسقٍ واحد، فلا فرقبين قولنا: (ثبوت القيام لزيد ممكن)، و(ثبوت القدرة لله تعالى ضروريّ) و(ثبوت الوجود لشريك الباري ممتنع)، فكلمة (اللاّم) في جميع ذلك استعملت في معنىً واحدٍ، وهو: تخصّص مدخولها بخصوصيّةٍ ما في عالم المعنى، بلا نظرٍ لها إلى كونه محكوماً بالإمكان في الخارج أو بالضرورة أو بالامتناع، فإنّ كلّ ذلك أجنبيّ عن مدلولها.

ومن هنا: يكون استعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسقٍ واحدٍ، بلا لحاظ عنايةٍ في شيءٍ منها».

ص: 140

انتهى ما أردنا نقله من كلامه«(1).

والذي يظهر: أنّ السبب في اختياره(قدس سره) لهذا القول اُمور:

أوّلها: أنّ المعنى المشار إليه يشترك في جميع الموارد لاستعمال الحرف في الواجب تعالى والممكن والممتنع على نسقٍ واحد.

الثاني: بطلان سائر الأقوال.

الثالث: أنّ ما سلكه في حقيقة الوضع من أنّه التعهّد ينتج ضرورة أنّ المتكلّم إذا قصد تفهيم حصّةٍ خاصّةٍ فتفهيمه منحصر بواسطة الحرف ونحوه.

والرابع: موافقة ذلك للوجدان والارتكاز العرفيّ؛ فإنّ الناس يستعملونها لإفادة الحصص في المعاني وتضييقها في عالم المعنى، غافلين عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها، وعن إمكان تحقّقها أو عدم إمكانه. وعدم العناية في ذلك كلّه يكشف كشفا قطعيّاً عن أنّ الموضوع له الحرف هو ذلك المعنى وفي نفس المعاني، كان له وجود خارجيّ أم لا.

وقداُجيب عن ذلك:

بأنّ ما ذكر أوّلاً: من التباين بين المعنى الاسميّ والحرفيّ تبايناً ذاتياً حقيقيّاً هو الحقّ، كما مرّ بأنّه ليس التباين بينهما هو باللّحاظ.

ص: 141


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 75، فما بعدها.

وأمّا ما ذكر ثانياً: من أنّه من نتائج ثمرات مسلكنا - وهو التعهّد - فإنّه غير تامٍّ؛ لأنّه بناءً على الهوهويّة أيضاً ، يمكن لنا أن نقول به.

مع أنّه لا ملازمة بين البحثين أصلاً؛ لأنّ ما يقع البحث هنا هو أنّ الملاك الذي أحرزنا كونه موجوداً في الشيء، بأيّ مقدارٍ يكون موجوداً فيه؟ وهل هذا الملاك مأخوذ على نحو الإطلاق أم التقييد - أي الحصّة الخاصّة -؟ أو فقل: هل تحصل الحاجة على نحو الاستيعاب؟ أم أنّه يكفي ولو بالحصّة الخاصّة؟ فإذا كان على نحو الاستيعاب فيضع اللّفظ له، وإذا كان على نحو الحصّة الخاصّة فلابدّ من تقييده، بلا فرق بين أن يكون الوضع هو التعهّد أو الهوهويّة أو غير ذلك.

ولكنّ النسبة موجودة، والكلام في البحث اللّفظيّ، وعروض النسبة إنّما هو ممنوع بين الذات المقدّسة والوجود في الخارج، بل في الذهن، وأمّا الألفاظ والربط الذهنيّ فقوامه - كما هو ظاهر - بالمفاهيم، لا بالوجودات الخارجيّة.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ معنى (من) إخطاريّ، ولكنّ وعاءه بعد ثبوت المفاهيم المتباينة، وبعد وجود ركنيه، فما لم تتمّ ملاحظة السير والبصرة - مثلاً - ولم تلاحظ النسبة بينهما بحيث يفهم عند إلقاء الكلام بأنّ المراد ليس مطلق السير، بل السير من مكانٍ خاصّ، فلذلك لا ينطبق السير هنا على غير السير من البصرة، وحيث إنّ المراد منحصر في هذه الحصّة الخاصّة من السير، فإنّ ملاحظة المفهومين مع النسبة الكائنة بينهما أمر

ص: 142

ضروريّ، وإذا لوحظت هذه المفاهيم في المرتبة السابقة، فعند ذلك تحصل الحصّة وتتحقّق.فظهر بذلك: أنّ المعنى الحرفيّ موضوع للنّسبة الحاصلة بين السير والبصرة. أي: أنّه موضوع لشيء يكون سبباً للتحصّص، إذ بعدما دلّ كلّ من السير والبصرة على معنىً خاصّ، وبعد أن كان ما يدلّ على النسبة بينهما هو الحرف، فيكون الحرف هو الذي بسببه يحصل التحصّص، لا أنّ الحرف هو بمعنى التحصّص لكي يصبح مدلوله معنىً اسميّاً، والحصّة لا تخرج بالتحصّص عن المفهوميّة الاسميّة، وهي موضوعة للنسب والرابط والتحصص والتضييق سبب لا مسبب، فلا يمكن التضييق بدون النسبة والربط بين مفهومٍ ومفهومٍ آخر.

فمراده(قدس سره): إن كان المسبّب، فهو عين ما قاله الميرزا النائيني)؛ وإن كان المسبّب، أعني: نفس مفهوم التضييق أو مصداقه، فيلزم - بناءً على الأوّل - أن يكون من المعاني الاسميّة، وأمّا بناءً على إرادة المصداق والوجود الخارجيّ، فيرد عليه: أنّ الوجود الخارجيّ لا يقبل الانتقال.

ثمّ إنّ الحكمة إنّما تقتضي تعلّقه بتفهيم نفس الحصّة، لا بالتحصيص والتضييق، وحينئذٍ: فيكون مقتضى الحكمة هو وضع الحرف لنفس الخصوصيّة الموجبة للتضييق، لا لنفس التضييق والتحصيص.

وأيضاً: فلو وضع لنفس المصداق، لزم تحقّق الترادف بين مصاديق

ص: 143

التضييق، مع أنّه ليس بينها أيّ ترادف، وإنّما هو التباين؛ لأنّ مفهوم أحدها غير الآخر.

ثمّ إنّه حتّى لو قلنا ببطلان بقيّة الوجوه، فإنّ هذا لا يستلزم صحّة ما ذكره(قدس سره).

الخبر والإنشاء

ثمّ إنّ صاحب الكفاية(قدس سره) بعد أن اختار اتّحاد المعنى الحرفيّ والاسميّ بالذات والحقيقة، وأنّ الاختلاف بينهما مقصور على الاختلاف باللّحاظ، قال:«ثمّ لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك، فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والإنشاء ليستعمل في قصد تحقّقه وثبوته، وإن اتّفقا فيما استعملا فيه»(1).

وحاصل ما أفاده): أنّ الاختلاف بين الخبر والإنشاء اختلاف باللّحاظ فقط دون الذات والحقيقة، وأنّ الإخباريّة والإنشائيّة هما من شؤون مقام الاستعمال، من دون دخلٍ لهما في المعنى، وأنّ طبيعيّ الموضوع له فيهما واحد، وهو نسبة المبدأ إلى الذات، فيكون الخبر عبارةً عن الكلام الذي يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه، والإنشاء ما لا يكون لنسبته خارج كذلك.

ص: 144


1- كفاية الاُصول: 12.

وعليه: فإن قصد بالكلام الحكاية عن النسبة كان خبراً، وإن قصد إيجادها في الخارج كان إنشاءً.

مختار المحقّق الأصفهانيّ):

اختار المحقّق الأصفهاني(قدس سره) أنّ المعنى الحرفيّ هو كالوجود الرابط، من حيث كونه متقوّماً بالطرفين، ولا وجود ولا تحقّق له إلّا في ضمن طرفين، وأنّ وجوده ليس منحازاً عن وجوديهما، وإنّما نقطة الاختلاف بين المعنى الحرفيّ وبين الوجود الرابط: أنّ المعنى الحرفيّ موطنه الذهن، والوجود الرابط موطنه الخارج.

بل يمكن أن يقال: إنّ المعنى الحرفيّ قسم من الوجود الرابط، وهو: الوجود الرابط في الذهن القائم بمفهومين، والذي قد يعبّر عنه ﺑ«النسبة والربط بين المفاهيم» دون الوجود الرابط في الخارج المعبّر عنه ﺑ«النسبة الخارجيّة».والذي يشهد على أنّ اختياره هو كون المعنى الحرفيّ الربط في الذهن هو ما ذكره في كتابه «الاُصول على النهج الحديث»، من أنّ الفرق بين المعنى الاسميّ والحرفيّ كالفرق بين الوجود الرابط والوجود المحموليّ(1).

ص: 145


1- الاُصول على النهج الحديث: 22- 24.

وقد أورد عليه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بوجهين:

الأوّل: أنّه لو سلّمنا تحقق وجود للرّابط والنسبة خارجاً غير وجود الجوهر والعرض، فلا نسلّم وضع الحروف والأدوات لها؛ لما تقدّم من امتناع الوضع للموجودات الذهنيّة والخارجيّة، وتعيّن وضع الألفاظ لذوات المفاهيم والماهيّات؛ لأنّ المقصود من الوضع هو التفهيم، وهو يحصل بحصول صورة المعنى في الذهن باستعمال اللّفظ، والموجود الخارجيّ لا يقبل الإحضار في الذهن؛ لأنّه خلف كونه خارجيّاً، وأمّا الموجود الذهنيّ فهو غير قابل للإحضار ثانياً؛ لأنّ الموجود الذهنيّ لا يقبل وجوداً ذهنيّاً آخر.

وعليه: فيمتنع الوضع للموجود، خارجيّاً كان أم ذهنيّاً، للغويّته وعدم ترتّب أثر الوضع عليه.

والثاني: أنّه لو تنزّلنا عن ذلك، وسلّمنا إمكان الوضع للموجود بما هو موجود، فلا نسلّم وضع الحرف للنّسبة؛ لاستعماله بلا مسامحةٍ في موارد يمتنع فيها تحقّق نسبةٍ ما، حتّى بمفاد (هل) البسيطة، فلا فرق بين قولنا: (الوجود للإنسان ممكن)، و(لله ضروريّ)، و(لشريك الباري ممتنع). فإنّ (اللّام) مستعملة في جميع هذه الأمثلة على نسق واحد، بلا عناية في أحدها، مع أنّه يستحيل فرض استعمالها في النسبة فيبعضها، حتّى بمفاد (كان) التامّة، لعدم تحقّق أيّ نسبةٍ بين الواجب وصفاته، لأنّ النسبة

ص: 146

إنّما تتحقّق بين ماهيّةٍ ووجودها، نظير ما في قولك: (زيد موجود)(1).

ولكن، لا يخفى:

أنّ هذا الكلام مجرّد دعوىً بلا دليل، ولا يمكن أن يدّعى إلّا في خصوص الألفاظ المشتركة، كصيغة (بعت) و(ملكت) و (قبلت) وغيرها ممّا يستعمل في الإخبار تارةً وفي الإنشاء اُخرى. وأمّا الألفاظ المختصّة بأحدهما - كصيغة (افعل) المستعملة دائماً في الإنشاء، وكالجملة الاسميّة، المستعملة دائماً في الإخبار، نحو: (زيد قائم) - فإنّه لم تعهد هناك صحّة قصد الإخباريّة بالألفاظ المختصّة بالإنشاء، ولا الإنشائيّة بالألفاظ المختصّة بالإخبار.

فكلامه(قدس سره) - إذاً - مختصّ بالصيغ المشتركة التي تستعمل فيراد بها الإنشاء تارةً والإخبار اُخرى؛ فإنّ المعنى - كما أفاده صاحب الكفاية(قدس سره) - في مثلها واحد، كما ذكرنا، وهو نسبة المبدأ إلى الذات.

والإخباريّة والانشائيّة ليستا إلّا من الأغراض الداعية إلى الاستعمال، فإنّ الداعي في مقام الإنشاء إنّما هو إيجادها في الخارج، وفي مقام الإخبار الحكاية عنها.

وعليه: فليس الاختلاف بينهما ذاتيّاً، لا من جهة الموضوع له، ولا من جهة المستعمل فيه، وإنّما يختلفان بحسب الداعي، فاستعماله في

ص: 147


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه: 1: 76.

الإنشاء ليس بمجازٍ، ولا هو على خلاف الموضوع له، بل المعنى في مثله واحد، وهو نسبة المبدأ إلى الذات.

فاتّضح: أنّ الانشائيّة والإخباريّة هما من الأغراض التي تكون داعيةً إلى الاستعمال، بمعنى: أنّه لو قصد المستعمل الإيجاد فهو الإنشاء، وإن قصد الحكاية عن النسبة الواقعيّة فهو الإخبار، وإلّا، فإنّ الصيغة، كما ذكرنا، تستعمل في كلٍّ من الإنشاءوالإخبار، وأمّا مدلولها الذاتيّ فليس شيئاً سوى إيقاع النسبة بين المسند والمسند اليه، فكلمة (بعت) - مثلاً - تستعمل في معناها الموضوع له، وهو نسبة البيع إلى الفاعل، لا أنّها تستعمل تارةً في الإنشاء واُخرى في الإخبار، بل لو قصد المتكلّم الحكاية عن النسبة كان إخباراً، وإن قصد إيجادها كان إنشاءً. فالإنشائيّة والإخباريّة هما نظير الاستقلاليّة والآليّة، خارجتان عن كلٍّ من المعنى الموضوع له والمستعمل فيه.

وعليه: فإن قصدت بها الإنشاء واستعملتها في الإنشاء، فلا يكون ذلك مجازاً؛ لأنّ المفروض أنّه قد استعمل في الموضوع له.

الأقوال في معنى الإنشاء:

ثمّ إنّ في بيان ما هو المراد من الإنشاء احتمالاتٍ ووجوهاً، بل أقوال أربعة:

الأوّل: إيجاد المعنى باللّفظ في نفس الأمر.

والثاني: إيجاده باللّفظ بالعرض، أي: في وعاء الاستعمال.

ص: 148

والثالث: إيجاده باللّفظ في الوعاء المناسب له.

والرابع: إبراز الصفات النفسانيّة باللّفظ.

وأمّا الموضوع له في الجملة الخبريّة فهو عند المشهور ثبوت النسبة أو لا ثبوتها في الخارج.

أمّا القول الأوّل: فهو مختار المحقّق صاحب الكفاية)(1)، وتوضيحه:

أنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى في نفس الأمر، لا الحكاية عن ثبوته وتحقّقه في موطنه، من الذهن أو الخارج، بخلاف الخبر؛ فإنّه عبارة عن الحكاية عن ثبوت المعنى في موطنه. والمراد من وجوده في نفس الأمر هو: ما لا يكون بمجرّد فرضفارضٍ، لا أنّه ما يكون بحذائه شيءٍ في الخارج، فملكيّة المشتري للمبيع لم يكن لها أيّ ثبوتٍ قبل إنشاء التمليك، وإنّما ثبوتها لا يعدو الفرض، كفرض إنسانيّة الجماد وبحر من زئبق وأنياب أغوال، ولكن بعد إنشائها حصل لها نحو ثبوتٍ وخرجت عن مجرّد الفرض، وإن لم يكن بإزائها شيء في الخارج.

فالمعنى الإنشائيّ يوجد بوجودٍ إنشائيّ، ويحصل له نحو تقرّر في عالم الإنشاء، وهذا غير مختصٍّ بالاُمور الاعتباريّة، بل يتعدّاها ليشمل الخارجيّة منها، كالتمنيّ والاستفهام، ممّا يعني: أنّ إنشاء الصفات الواقعيّة النفسانيّة هو - أيضاً - أمر ممكن.

ص: 149


1- فوائد الاُصول: 285، المطبوعة ضمن الحاشية.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الإنشاء يتحقّق، ولو لم يكن للصّفة الحقيقيّة وجود في الخارج أصلاً، ويترتّب عليه آثاره، لو كانت له آثار. كما أنّه لا يعتبر في الوجود الإنشائيّ ترتّب أثرٍ شرعيٍّ أو عرفيٍّ عليه، ولذا لو تكرر اللّفظ الواحد المنشأ مراراً، فإنّه لا يخرج كلّ منها عن الإنشاء، بل يوجد المعنى بكلّ إنشاءٍ بوجودٍ إنشائيّ مستقلّ غير الآخر، ولا يكون من قبيل إيجاد الموجود كي ينفي كونه إنشاء.

وبكلمةٍ: فالإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى بوجود إنشائيّ اعتباريّ غير إيجاده في عالمه المناسب له من اعتبار وواقع، ومن أجل ذلك كان خفيف المؤونة، ولا يتوقّف على ترتّب أثر عقلائيّ عليه، ولذا، كان إنشاء المجنون لا عن قصد إنشاء، كما أنّه يصلح لأن يسري في الصفات الحقيقيّة الواقعيّة، ولا تتوقّف صحّته على ثبوت تلك الصفات في نفس الأمر والواقع في عالمها الخارجيّ. كما في قول الشاعر: (ألا ليت الشباب يعود يوماً).

والفرق بين الإنشاء والخبر من جهتين:

الاُولى: أنّ مفاد الإنشاء مفاد كان التامّة لا الناقصة.والثانية: أنّ مفاد الإنشاء يوجد ويحدث بعد أن لم يكن، ومفاد الخبر يحكى به بعد أن كان أو يكون.

وقد يستشكل على هذا:

أوّلاً: بأنّ الإنشاء - وكما يظهر من العبارة - يكون متقوّماً بقصد الإيجاد،

ص: 150

وأمّا الإخبار فهو متقوّم بقصد الحكاية، فلو فرض أنّ كلاماً لم يقصد به شيء من الأمرين فإنّه لا يكون إنشاءً ولا إخباراً، وهذا مخالف لما صدر من أهل الأدب من حصرهم الكلام التامّ الذي يصحّ السكوت عليه في قسمي الإنشاء والإخبار. ولذا نراهم يدخلون كلام الهازل والساخر في الإخبار لو كان قد صدر منهما بنّحو الحكاية، ولو لم يكن لهما أيّ قصد في ذلك، وأمّا لو صدر منهما بنحو الإنشاء فإنّهم يدخلونه في الإنشاء، على الرغم من صدور هذا الكلام بلا قصدٍ.

وثانياً: لو كان الإنشاء متقوّماً بقصد الإيجاد، والإخبار متقوّماً بقصد الحكاية، للزم - عند الاستعمال - تعلّق القصد بالقصد؛ لأنّ هذا القصد مقوّم للإنشاء أو الإخبار، فلو أراد - مثلاً - إيجاد البيع وحصوله في الخارج، فلابدّ من قصده ثانياً عند الإنشاء، وكذا في الإخبار، مع أنّا لا نرى - بالوجدان - إلّا قصداً واحداً.

وقد أورد الاُستاذ الأعظم)(1):

على الإشكال الأوّل: بأنّه لا وجود لكلامٍ لا يقصد به الإنشاء أو الحكاية، بل الكلام التامّ المفيد لا ينفكّ عن قصد أحدهما؛ لأنّ دلالته تصديقيّة لا تصوّريّة.

وعلى الإشكال الثاني: بأنّه أنما يتمّ لو أخذنا قصد الإنشائيّة أو

ص: 151


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 84.

الإخباريّة في الموضوع له أو المستعمل فيه كي يقال: إنّ أحد القصدين هو جزء الموضوع والثاني متعلّق به، ولكنّ الأمر ليس كذلك، وأنّ الموضوع مطلق وليس مقيّداً بقصد الحكايةولا الإيجاد، بل هذا القصد مأخوذ في العلقة الوضعيّة، بمعنى: أنّها في مقام الاستعمال تقيّدت في الإنشاء بقصد الإيجاد وفي الإخبار بقصد الحكاية.

فهو لا يخرج عن حقيقيّة الاستعمال، بل هو استعمال واحد؛ لأنّ المراد من ثبوت المعنى باللّفظ: إمّا أن يكون بحيث ينسب الثبوت إلى اللّفظ بالذات وإلى المعنى بالعرض، أو أن يراد ثبوته منفصلاً عن اللّفظ بآليّة اللّفظ، بحيث ينسب الثبوت إلى كلٍّ منهما بالذات.

لا مجال للثاني، لأنّ وجود الماهيّات - بالذات - منحصر في العينيّ والذهنيّ، وسائر أنّحاء الوجود من اللّفظيّ والكتبيّ وجود بالذات للّفظ والكتابة وبالجعل والمواضعة وبالعرض للمعنى.

ولا يخفى: أنّ آليّة وجود اللّفظ وعلّيّته لوجود المعنى بالذات لا بدّ من أن يكون في أحد الموطنين من الذهن والخارج، ووجود المعنى بالذات في الخارج يتوقّف على حصول مطابقه في الخارج أو مطابق ما ينتزع عنه، والواقع بخلافه، إذ لا يوجد باللّفظ موجود آخر يكون مطابقاً للمعنى أو مطابقاً لإيجاد اللّفظ بالمعنى.

والحقّ: هو الوجه الأوّل، وهو أن ينسب وجود واحد إلى اللّفظ والمعنى بالذات في الأوّل، وبالعرض في الثاني، وهو إيجاد المعنى

ص: 152

باللّفظ بالعرض. وهذا هو القول الثاني، وهو قول المحقّق الأصفهانيّ) وادّعى أنّه مراد صاحب الكفاية(قدس سره)(1).

وإنّما قيّدوه بنفس الأمر مع أنّ وجود اللّفظ في الخارج وجود للمعنى فيه أيضاً بالعرض، تنبيهاً على أنّ اللّفظ بواسطة العلقة الوضعيّة وجود للمعنى تنزيلاً في جميع النشآت، فكأنّ المعنى ثابت في مرتبة ذات اللّفظ بحيث لا ينفكّ عنه في مرحلةٍ من مراحل الوجود.فإن قلت: هذا جارٍ في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دون الاختصاص بالإنشائيّات.

قلت: الفرق أنّ المتكلّم قد يتعلّق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعة في موطنها باللّفظ المنزّل منزلتها، وقد يتعلّق غرضه بإيجاد نفس هذه النسبة بإيجاد اللّفظ المنزّل منزلتها، ﻓ (بعت) - مثلاً - إنشاءً وإخباراً واحد، وهي النسبة المتعلّقة بالملكيّة، وهيئة (بعت) وجود تنزيليّ لهذه النسبة الإيجاديّة القائمة بالمتكلّم والمتعلّقة بالملكيّة، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجاً بوجودها التنزيليّ والجعليّ اللّفظيّ، فليس وراء قصد الإيجاد بالعرض وبالذات أمر آخر وهو الإنشاء.

وقد يقصد - زيادةً على ثبوت المعنى تنزيلاً - الحكاية عن ثبوته في موطنه أيضاً، وهو الإخبار.

ص: 153


1- انظر: نهاية الدراية 1: 113.

وكذلك في صيغة (افعل) ﻛ (اضرب) فإنّه يقصد به ثبوت البعث الملحوظ نسبةً بين المتكلّم والمخاطب والمادّة، فيوجد البعث في الخارج بوجوده الجعليّ التنزيليّ اللّفظيّ، وهذا لا يقاس ولا ينتقض بالأسماء المفردة، فإنّها لا تلاحظ، ولعدم النظر إلى وجودها خارجاً ثبوتاً لفظيّاً.

وأمّا القول الثالث: فهو المشهور في تفسير الإنشاء، وحاصله:

أنّ الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى باللّفظ في عالم الاعتبار العقلائيّ. أي: أنّ المعنى الاعتباريّ في نفسه يوجد له فرد حقيقيّ بواسطة اللّفظ، فيكون إلقاء اللّفظ سبباً لتحقّق اعتبار العقلاء للمعنى، فالإنشاء هو التسبيب باللّفظ إلى الاعتبار العقلائيّ للمعنى.

إذاً، فهذا القول يتّفق مع قول صاحب الكفاية) في أنّه إيجاد للمعنى بنحو وجودٍ، وفي عالمٍ آخر غير عالم اللّفظ أو الخارج أو الذهن. وإنّما يختلف عنه: في أنّوجوده على اختيار صاحب الكفاية(قدس سره) نحو وجودٍ إنشائيٍّ من سنخ الاعتباريّات، بحيث يختلف عن سائر الاعتباريّات، فالملكيّة بإنشائها ﺑ (ملكت) توجد - على اختيار صاحب الكفاية - بوجودٍ إنشائيٍّ اعتباريٍّ غير وجودها الاعتباريّ الثابت لها في نفسها وفي وعائها المفروض لها.

وأمّا على هذا القول: فهي توجد بوجودها الاعتباريّ الثابت لها في حدّ ذاتها، وتتحقق في وعائها المقرّر لها، وهو عالم الاعتبار العقلائيّ.

ص: 154

وتظهر الثمرة في اختلاف القولين فيما يحرّر في محلّه من بطلان الصيغة مع التعليق، وأنّه يعتبر في صحّة العقد تنجيزه، وكذا في نفوذه، ويستثنى من ذلك ما إذا كان التعليق قهريّاً، فإنّه لا يضرّ التعليق عليه وعدمه، بل لا ثمرة فيه إن كان قهريّاً، كما في التعليق على رضا المالك في بيع الفضولي فإنّ الأثر بحسب الاعتبار العقلائيّ إنّما يترتّب مع رضا المالك، فالإنشاء لا ينفذ إلّا على تقدير الرضا.

ووجه ظهور الثمرة في هذا البحث: أنّه إذا التزم بأنّ معنى الإنشاء ما هو المشهور من أنّه استعمال اللّفظ بقصد إيجاد المعنى في عالم الاعتبار العقلائيّ، يتصوّر حينئذٍ قهريّة تعليق هذا على أمرٍ ما، كما لو كان الاعتبار العقلائيّ متوقّفاً على شيءٍ - كالمثال السابق -.

وأمّا لو التزم بأنّ معناه ما اختاره صاحب الكفاية) من أنّه استعمال اللّفظ بقصد إيجاد المعنى بوجود إنشائيّ، فلا يتصوّر قهريّة التعليق على شيء؛ لأنّه مرتبط بنفس المنشئ، بمعنى: أنّ هذا الوجود الإنشائيّ وإن كان عقلائيّاً، إلّا أنّه بقصد الإنشاء، فارتباطه بالمنشئ، لا بالعقلاء كي يتوقّف عندهم في بعض الصور على شيءٍ ما؛ لأنّ ما يقصد إيجاده ليس هو المعنى في وعائه الاعتباريّ العقلائيّ، بل المقصود إيجاده:هو المعنى بوجود إنشائيّ غير وجوده في وعائه المقرّر له، من اعتبار أو غيره، وذلك لا يتوقّف على رضا المالك.

وبالجملة: فلو التزم بما هو المشهور أمكن تحقّق مصداقٍ لصورة

ص: 155

التعليق القهريّ، بخلاف ما لو التزم بما التزم به صاحب الكفاية(قدس سره)، فإنّه يلزم أن نقول ببطلان العقد في التعليقيّ مطلقاً، قهريّاً كان أم غيره، كما عليه صاحب الكفاية.

ولكن يشكل - بناءً على هذا - بأنّه يلزم اختصاص إنشاء بعض العقود والإيقاعات بما كان وعاؤه الاعتبار، ولا يشمل ما يكون من الاُمور الحقيقيّة الواقعيّة التي لها ما بإزاء في الخارج، كبعض الصفات النفسيّة مثل التمنّي والترجّي والطلب والاستفهام؛ لأنّ وجودها في وعائها تابع لتحقّق أسبابها التكوينيّة، سواء تحقّق اعتبارها أم لم يتحقّق، اذ ليست هي من الاعتبارات التي تدور مدار اعتبارها وجوداً وعدماً، فلا معنى للتسبيب لإيجادها باللّفظ، كما لا يخفى.

مع أنّ عدّها من الإنشائيّات وكون صيغها من الاُمور الإنشائيّة محلّ اتّفاق.

وأيضاً: فإنّ معرفة تحقّق الاعتبار العقلائيّ تكون بترتيب الآثار من العقلاء عليه، ومعاملته معاملة الثابت حقيقةً، ومع عدم ترتّب الأثر عليه يعلم بعدم الاعتبار، لأنّه لغو مع عدم ترتيب الأثر.

فعليه: يلزم عدم تحقّق الإنشاء في المورد الذي يعلم بعدم ترتيب الأثر، لعدم قصد التسبيب من المنشئ، مع علمه بعدم تحقّق المسبّب والمفروض تقوّم الإنشاء بقصد التسبيب للاعتبار العقلائيّ، وذلك يوجب خروج كثير من الموارد عن الإنشاء:

ص: 156

منها: الإنشاء المكرّر والصيغ المتكرّرة، لوجود المعنى في عالم الاعتبار بأوّل إنشاءٍ، فلا يوجد بالإنشاء الثاني والثالث، إذ لا يوجد المعنى في عالم الاعتبار العقلائيّ مرّةً ثانيةً مع فرض ثبوته للغويّة الاعتبار ثانياً.ومنها: بيع الغاصب، فإنّه يعلم بعدم ترتيب الأثر على إنشائه.

ومنها: بي-ع الفض-وليّ م-ع علم-ه بعدم لحوق الإج-ازة، فإنّ العقلاء لا يعتبرون الملكيّة بأثر إنشائه.

ومنها: بيع غير مقدور التسليم.

ومنها: المعاملة الغرريّة.

وغير ذلك من الموارد التي لا يترتّب عليها الأثر بنظر العقلاء، مع صدق الإنشاء عليها عرفاً، ولذا لا يصحّ إنشاء الغاصب أو المجنون أو الصبيّ والطفل غير المميّز.

وقد اُجيب عن الأوّل: بأنّ معنى الإنشاء ليس هو استعمال اللّفظ في المعنى بقصد إيجاده في عالم الاعتبار، بل استعماله لا بقصد الحكاية، سواء قصد به الإيجاد أو لم يقصد، فالمأخوذ في معنى الإنشاء هو عدم قصد الحكاية لا قصد الإيجاد.

وأمّا الإشكال بلزوم خروج أكثر الإنشائيّات عن الإنشاء فقد اُجيب عنه في مورد الصيغ المتكرّرة: بالالتزام فيما لا يقبل التأكيد والشدّة والضعف، كالملكيّة، بلغويّة الإنشاء الآخر، وأنّه لا يعدّ إنشاءً، وفيما

ص: 157

يقبل الشدّة والضعف، كالطلب ونحوه، بأنّ الإنشاء الآخر تأكيد للأوّل، بحيث يكون كلّ منهما دالّاً على مرتبةٍ ما من الإرادة والطلب، فيتأكّد ولا يكون لغواً.

وأمّا بيع الغاصب، فقد اُجيب عن الإشكال به بأنّ الغاصب وإن علم بعدم كونه مالكاً، إلّا أنّه حيث يكون في مقام الإنشاء يدّعي لنفسه الملكيّة، ويبني على أنّه هو المالك ومن له حقّ التصرّف، من باب الحقيقة الادّعائيّة، وعليه: فيترتّب عليه ما يترتّب على المالك من إمكان قصد الإيجاد، ولو لم يتحقّق الإيجاد حقيقةً.ولكنّ هذا الجواب لا يتأتّى في بيع الفضوليّ، لأنّه لا يدّعي لنفسه الملكيّة كالغاصب، فيبقى الإشكال فيه على حاله. كما يبقى الإشكال في بيع غير المقدور والمعاملة الغرريّة وبيع الفضوليّ مع علمه بعدم لحوق الإجازة.

وأمّا القول الرابع: فهو ما التزم به اُستاذنا الأعظم(قدس سره)، قال):

«فالصحيح هو أنّ الجملة الإنشائية موضوعة لإبراز أمرٍ نفسانيٍّ غير قصد الحكاية، ولم توضع لإيجاد المعنى في الخارج. والوجه في ذلك هو:

أنّهم لو أرادوا بالإيجاد: الإيجاد التكوينيّ، كإيجاد الجوهر والعرض، فبطلانه من الضروريّات التي لا تقبل النزاع، بداهة أنّ الموجودات

ص: 158

الخارجيّة بشتّى أشكالها وأنواعها، ليست ممّا توجد بالإنشاء، كيف؟(قدس سره) والألفاظ ليست واقعةً في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها.

وإن أرادوا به: الإيجاد الاعتباريّ كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكيّة والزوجيّة وغير ذلك، فيردّه: أنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفسانيّ من دون حاجةٍ إلى اللّفظ والتكلّم به، ضرورة أنّ اللّفظ في الجملة الإنشائيّة لا يكون علّةً لإيجاد الأمر الاعتباريّ، ولا واقعاً في سلسلة علّته، فإنّه يتحقّق بالاعتبار النفسانيّ، سواء كان هناك لفظ يتلفّظ به أم لم يكن. نعم، اللّفظ مبرز له في الخارج، لا أنّه موجد له، فوجوده بيد المعتبر وضعاً ورفعاً، فله أن يعتبر الوجوب على ذمّة أحدٍ وله أن لا يعتبر، وله أن يعتبر ملكيّة مالٍ لشخصٍ، وله أن لا يعتبر ذلك، وهكذا...

وأمّا الاعتبارات الشرعيّة أو العقلائيّة، فهي وان كانت مترتّبةً على الجمل الإنشائيّة، إلّا أنّ ذلك الترتّب إنّما هو فيما إذا قصد المنشئ معاني هذه الجمل بها لا مطلقاً، والمفروض في المقام: أنّ الكلام في تحقيق معانيها، و فيما يترتّب عليه تلك الاعتبارات.و بتعبيرٍ آخر: إنّ الجمل الإنشائية وإن كانت ممّا يتوقّف عليها فعليّة تلك الاعتبارات وتحقّقها خارجاً، ولكن لا بما أنّها ألفاظ مخصوصة، بل من جهة أنّها استعملت في معانيها.

على أنّ في كلّ موردٍ من موارد الإنشاء ليس فيه اعتبار من العقلاء

ص: 159

أو من الشرع، فإنّ في موارد إنشاء التمنّي والترجّي والاستفهام ونحوها، ليس أيّ اعتبارٍ من الاعتبارات، لا من الشارع ولا من العقلاء حتّى يتوصّل بها إلى ترتّبه في الخارج.

إذا عرفت ذلك فنقول: قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ الجملة الإنشائيّة - بناءً على ما بيّنّاه من أنّ الوضع عبارة عن التعهّد والالتزام النفسانيّ - موضوعة لإبراز أمرٍ نفسانيٍّ خاصّ، فكلّ متكلّمٍ متعهّد بأنّه متى ما قصد إبراز ذلك يتكلّم بالجملة الإنشائيّة، مثلاً: إذا قصد إبراز اعتبار الملكيّة يتكلم بصيغة (بعت) أو (ملكت)، وإذا قصد إبراز اعتبار الزوجيّة يبرزه بقوله: (زوّجت) أو (أنكحت)، وإذا قصد إبراز اعتبار كون المادّة على عهدة المخاطب يتكلّم بصيغة (افعل) ونحوها، وهكذا...

ومن هنا قلنا: إنّه لا فرق بينها وبين الجملة الخبريّة في الدلالة الوضعيّة والإبراز الخارجيّ، فكما أنّها مبرزة لاعتبارٍ من الاعتبارات، كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما، فكذلك تلك، مبرزة لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا وجه لما ذكره المحقّق صاحب الكفاية(قدس سره) من أنّ طبيعيّ المعنى في الإنشاء والإخبار واحد، وإنّما الاختلاف بينهما من ناحية الداعي إلى الاستعمال، فإنّك عرفت اختلاف المعنى فيهما، فإنّه في الجملة الخبريّة شي ء، وفي الجملة الإنشائيّة شي ء آخر.

ص: 160

وممّا يؤكّد ما ذكرناه: أنّه لو كان معنى الإنشاء والإخبار واحداً بالذات و الحقيقة، وكان الاختلاف بينهما من ناحية الداعي، كان اللّازم أن يصحّ استعمال الجملةالاسميّة في مقام الطلب، كما يصحّ استعمال الجملة الفعليّة فيه، بأن يقال: المتكلّم في الصلاة معيد صلاته، كما يقال: إنّه يعيد صلاته، أو إنّه إذا تكلّم في صلاته أعاد صلاته، مع أنّه من أفحش الأغلاط، ضرورة وضوح غلطيّة استعمال (زيد قائم) في مقام طلب القيام منه، فإنّه ممّا لم يعهد في أيّ لغةٍ من اللّغات. نعم، يصحّ إنشاء المادة بالجملة الاسميّة، كما في جملة (أنت حرّ في وجه اللّه)، أو: (هند طالق)، و نحو ذلك»(1).

وفيه:

أوّلاً: أنّ ما اعتبره من الاعتبار الشخصيّ لا يحتاج إليه، فإنّه يكفي الاعتبار العقلائيّ.

نعم، لو لم يكن هناك اعتبار عقلائيّ فحينئذٍ تصل النوبة إلى الاعتبار الشخصيّ.

وثانياً: إنّ معنى اعتبار العقلاء هو بناء المعتبر على ما اعتبره، فيقال عند اعتبار العقلاء الملكية لزيد: إنّهم بنوا على أنّه مالك، وأنّهم يرونه مالكاً، ونحو ذلك من التعابير المترادفة. وعليه: فاعتبار الشخص زيداً

ص: 161


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 88، فما بعدها.

مالكاً - عند إرادة بيعه شيئاً - معناه أنّه بنى على أنّه مالك، ثمّ بعد ذلك يقوم بإبراز هذا الاعتبار باللّفظ.

ولكنّ الاعتبار بهذا المعنى لا أثر له، وهو مخالف للوجدان، فإنّ الشخص قبل إجراء الصيغة لا يبني على أنّه مالك، ولو فرض، فلا يرتّب عليه آثار الملكيّة في نفسه، ولا ينظر إليه نظر المالك، بل هو يقصد تمليكه بالصيغة، بحيث يبني على مالكيّته بعد إجراء الصيغة لا قبله.

وقد أورد(قدس سره) على أصل المبنى: بأنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بناءً على ما هو المتسالم عليه بينهم، من أنّ الجملة الخبريّة موضوعة لثبوت النسبة أو لا ثبوتها، فإذا كانتالجملة حينئذٍ على نحو الحكاية، فتتّصف بالصدق والكذب، أي: فإذا طابقت النسبة الكلاميّة النسبة الخارجيّة فتكون صادقةً، وإلّا فهي كاذبة.

وأمّا الجمل الإنشائيّة، فهي موضوعة لإيجاد المعنى في الخارج - ويعبّر عنه بالوجود الإنشائيّ - ولا واقع هناك حتّى تطابقه أو لا تطابقه. وقالوا: إنّ الوجود الإنشائيّ نحو من الوجود، ولذا لا تتّصف بالصدق ولا الكذب.

فبناءً على هذا المبنى يصحّ أن نقول: لا مانع من أن يكون المعنى واحداً في كلتا الجملتين، والاختلاف بينهما إنّما يقع من ناحية الداعي إلى الاستعمال(1).

ص: 162


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 84 - 85.

ولكنّ الحقّ: أنّه بناءً على القول بالتعهّد في الوضع - أي: بأنّه متى ما أراد معنىً يتعهّد أن يتكلّم بلفظٍ مخصوص - فبما أنّ ثبوت النسبة وعدمها ليس من الاُمور الاختياريّة، فلا يتعلّق بهما التعهّد؛ لأنّه إنّما يتعلّق بأمرٍ اختياريٍّ.

وعليه:

فالجملة الخبريّة ليست موضوعةً لثبوت نسبة أو عدم ثبوتها، وإنّما الذي يمكن أن يلتزم به هو: قصد الحكاية والإبراز عن الأمر النفسانيّ؛ بأن تكون الجملة الخبريّة قد وضعت - بمقتضى تعهّد الواضع - لقصد الحكاية عن الثبوت أو النفي عن الواقع، والجملة إنّما تكون مبرزةً لما يريده الواضع، فهي بنفسها تكون مصداقاً للحكاية، ودلالتها هذه دلالة تصوّريّة، لأنّها غير منفكّةٍ عنها، ولو لم يكن المتكلّم في مقام التفهيم والإفادة، بشرط ألّا ينصّب في مقام الإثبات القرينة على الخلاف.

نعم، كلامه حينئذٍ يكون على خلاف تعهّده، ولذا نرى: أنّ المتكلّم إذا أتى بالجملة الخبريّة، فبما أنّ الدلالة تكون موجودة فظاهر كلامه حجّة عليه ببناء العقلاء، وليس هذا إلّا من جهة التزامه وتعهّده، وليست الجملة الخبريّة إلّا حاكيةً عن الواقع أو مبرزةًله، ولا تتّصف من جهة الدلالة الواقعيّة بالصدق أو الكذب؛ لأنّ هذه الدلالة ثابتة، سواء كانت الحكاية مطابقةً للواقع والخبر صادقاً، أم لم تكن وكان هو كاذباً.

فقولك: (زيد عادل) - مثلاً - يدلّ على أنّ المتكلّم في مقام قصد

ص: 163

الحكاية عن ثبوت العدالة لزيد، وأمّا ثبوت العدالة له واقعاً حتّى تكون الجملة الخبريّة مطابقةً له، أو عدم ثبوتها له كذلك حتّى تكون كاذبةً، فخارج عن الدلالة بالكلّيّة.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّه لا فرق بين الجملة الخبريّة والإنشائيّة بالنسبة إلى الدلالة الوضعيّة، فكما أنّ الجملة الإنشائيّة لا تتّصف بالصدق والكذب، بل هي مبرزة، فكذلك بالنسبة إلى الجملة الخبريّة، فإنّها حاكية ومبرزة، حتّى ولو كان المخاطب على علمٍ بكذب المتكلّم في إخباره، فعلى هذا: تكون الجملتان مشتركتين في أصل الإبراز والحكاية؛ وإنّما الفرق بينهما في أنّ أمر الخبريّة متعلّق بالخارج، فإن طابقها كانت صادقةً، وإلّا فكاذبة. وأمّا الإنشائيّة، فأمرها غير مرتبطٍ بالخارج بتاتاً، بل هو أمر نفسانيّ، ومن هنا كانت لا تتّصف بالصدق ولا بالكذب.

وعلى هذا الأساس: فالصدق والكذب في الجملة الخبريّة بحسب ما لها من المدلول، لا بحسب الجملة نفسها، وإنّما تتّصف نفس الجملة بهما بالتّبع والمجاز.

وبالجملة: فما في الجملة الإنشائيّة هو - أيضاً - عبارة عن الإبراز، ولكنّه إبراز نفسانيّ، مغاير لقصد الحكاية، وليس بمعنى الإيجاد؛ لما عرفت من أنّ المقصود من الإيجاد فيها لو كان هو الإيجاد التكوينيّ، كان باطلاً بالضرورة؛ لأنّ الموجودات الخارجيّة لا تقع في سلسلة عللها.

ص: 164

وإن كان المراد: الإيجاد الاعتباريّ - كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكيّة والزوجيّة - فإنّا لا نحتاج فيها إلى اللّفظ والتكلّم به، بل يكفي في ذلك نفس الاعتبار؛ لأنّ اللّفظ في الجملة الإنشائيّة ليس بعلّةٍ لإيجاد الأمر الاعتباريّ، كما أنّهليس واقعاً في سلسلة علله، بل هو يتحقّق بالاعتبار النفسانيّ، سواء أكان هناك لفظ يتلفّظ به أم لم يكن.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ اللّفظ مبرز له في الخارج، لا أنّه موجد له، بل وجوده يكون بيد المعتبر، فبناءً على أنّ الوضع هو التعهّد والالتزام النفسانيّ - كما ذكرنا - فإنّ الجملة مبرزة لإنشاء الأمر النفسانيّ - كما قلناه - فإذا قصد أن يبرز اعتبار الملكيّة فهو - على وفق تعهّده - يأتي بالجملة بالإنشائيّة ﻛ (بعت) أو (ملّكت).

ومن هنا ظهر: أنّ هناك اختلافاً بين الجملة الإنشائيّة والإخباريّة في المعنى، وليس في الداعي فقط.

نعم، لا فرق بينهما من جهة الدلالة الواقعيّة والإبراز الخارجيّ؛ بل الجملة الإنشائيّة مبرزة لاعتبارٍ من الاعتبارات، كالملكيّة والزوجيّة، والخبريّة مبرزة لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر. فليس الفرق والاختلاف بينهما من جهة الداعي.

وأمّا ما ذكر: من أنّ معنى الإنشاء والإخبار، لو كان واحداً من جهة الذات والحقيقة، وكان الاختلاف بينهما من جهة الداعي، لكان اللّازم أن يصحّ استعمال الجملة الاسميّة في مقام الطلب، كما يصحّ استعمال

ص: 165

الجملة الفعليّة فيه، مع أنّه من أفحش الأغلاط.

فغير تامٍّ؛ لأنّ المراد في محلّ البحث إنّما هو ما يكون ﻛ (بعت)، التي تستعمل تارةً في الإنشاء واُخرى في الإخبار. وأمّا الجملة الاسميّة ﻛ (زيد قائم)، والإنشائيّة ﻛ (اضرب)، فهذه لم يقل أحد بجواز استعمال كلّ واحدةٍ منهما بدلاً عن الاُخرى، بمن في ذلك صاحب الكفاية نفسه(قدس سره).

والصواب: أنّ الإنشائيّة والإخباريّة خارجتان عن الموضوع له؛ لأنّ الهيئة لا تدلّ على أكثر من نسبة المبدأ إلى الذات، وأمّا كيّفيّة النسبة فهي إنّما تستفاد من الخارج.مضافاً، إلى أنّ المتيقّن هو نسبة العرض إلى المعروض، وأمّا قصد الحكاية أو الإيجاد فخارج عن حقيقة معاني الهيئات، ولو فرض في معنى الإنشاء أنّه الإنشاء باللّفظ للزم أن تكون الألفاظ سبباً.

وحينئذٍ: يأتي ما أورده الاُستاذ الأعظم) من أنّه هل المراد به السبب التكوينيّ أم الاعتباريّ؟ وكلاهما غير تامٍّ، فراجع ما ذكره(قدس سره) ثمّة(1).

ولكن يمكن الجواب عن هذا:

بأنّ السببيّة إنّما تضرّ بناءً على التأسيسيّة، وأمّا بناءً على الإمضائيّة، بأن تكون السببيّة من الاُمور العقلائيّة، غاية الأمر: أنّ الشارع أمضى تلك

ص: 166


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 88.

الملكيّة العقلائيّة المنشأة باللّفظ، دون تلك التي تنشأ بالحصى والمنابذة، فلا مانع في أن يكون الإنشاء بهذا المعنى.

هذا. مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: بأنّ اللّفظ ليس سبباً، وإنّما هو من قبيل الآلة - كآليّة المفتاح لفتح الباب - وحينئذٍ: فيمكن أن يقال: بأنّ الإنشائيّة والإخباريّة دخيلتان في الموضوع له، فيقال - مثلاً -: صيغة (افعل) موضوعة لإنشاء الطلب، وهكذا..

والتحقيق: أنّهما خارجتان، كخروج الآليّة والاستقلاليّة في الحروف - كما قيل -، إذ سواء كانت الجملة الخبريّة بالفعل الماضي أو المضارع، فإنّها تدلّ على نسبة المبدأ إلى الذات.

وأمّا الكيفيّة التحقيقيّة أو التلبّسيّة فتفهم من الخارج.نعم، بما أنّ المتبادر من الفعل الماضي هو أنّ المتكلّم في مقام الإخبار، فلو اُريد أن تستعمل في الإنشاء فلابدّ من نصب قرينةٍ لذلك، بخلاف ما لو اُريد منها قصد الحكاية، فإنّها حينئذٍ لا تحتاج إليها.

ص: 167

ص: 168

الفصل الرابع: استعمال اللّفظ في المعنى المجازيّ

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: في تعريف المجاز

قالوا: المراد من المجاز استعمال اللّفظ في غير ما وضع له، فالدلالة على المعنى المجازيّ هي دلالة اللّفظ على معنىً لم يكن مدلوله بحسب المعنى اللّغويّ، ولا بدّ معه من قرينة تكشف عن عدم إرادة المعنى الحقيقيّ.

وقال السكّاكيّ: المجاز هو استعمال اللّفظ في المعنى الحقيقيّ الذي يكون فرداً من أفراد الحقيقيّ ادّعاءً، وإنّ المفهوم الذي لم يوضع له اللّفظ - «المعنى المجازيّ» - هو نفس المفهوم الذي وضع له اللّفظ بالحمل الأوّليّ، أي: أنّ مفهوم (الرجل الشجاع) هو نفس مفهوم (الحيوان

ص: 169

المفترس)، فيستعمل لفظ (الأسد) في كليهما على أساس هذه العينيّة المدّعاة، أو أنّ غير ما وضع له مصداق لما هو موضوع له، على نحو أنّه يحمل عليه المعنى الموضوع له بالحمل الشائع الصناعيّ عليه، فيستعمل اللّفظ في المعنى الموضوع له، ولكنّه يطبّق على فرد ادّعائيّ.

الأمر الثاني: في منشأ دلالة اللّفظ على المعنى المجازيّ

ويقع البحث هنا في أنّه بناءً على قول المشهور فمن أين نشأت دلالة اللّفظ على المعنى المجازيّ، مع أنّه ليس هناك وضع يجمع بينهما؟! قد يقال: نشأت هذه الدلالة من القرينة على المجاز.

ولكنّ هذا غير تامّ؛ فإنّ القرينة لا يؤتى بها لإخطار المعنى المجازيّ، بل إنّما جيء بها للصرف عن المعنى الحقيقيّ، ففي قولنا: (رأيت أسداً يرمي)، ليس في كلمة (يرمي) دلالة، ولو التزاماً، على معنى (الرجل الشجاع)، بل هي إنّما تدلّ على عدم كون المراد من لفظ (الأسد) الحيوان المفترس، وأمّا أنّه اُريد به الرجل الشجاع، فلا دلالة لها عليه.وإذا ما قلنا بذلك، فلابدّ أن نقول بأنّ دلالة اللّفظ في كلّ منهما دلالة وضعيّة، ولا يكون هناك وضع نوعيّ وطوليّ في المعنى المجازيّ، بأن يقال: إنّ لفظ (الأسد) موضوع لما يشبه معناه الحقيقي، أو يقال: إنّ الوضع في المعنى المجازيّ مقيّد بفرض وجود القرينة على المعنى المجازيّ، بأخذها قيداً في الوضع للمعنى أو في اللّفظ الموضوع.

ص: 170

الأمر الثالث: ملاك صحّة الاستعمال المجازيّ

لا يخفى: أنّه قد يحسن استعمال اللّفظ في غير معناه الموضوع له، وهذا الاستعمال قد يكون لمناسبة ما، إمّا بين المعنيين: الحقيقيّ والمجازيّ، وإمّا بين اللّفظ وبين المعنى المستعمل فيه. كما إذا وضع لفظ (الأسد) للحيوان المفترس، واستعمله المتكلّم في الرجل الشجاع لعلاقة بينهما، فيكون استعمله في معنىً مناسب للمعنى الموضوع له.

فإذا عرفت هذا: فهل صحّة الاستعمال حينئذ تكون بالوضع أو بالطبع؟ أي: فهل يحتاج استعمال اللّفظ في المعنى المناسب للموضوع له إلى وضع نوعيّ بالنسبة إلى أنواع العلائق المعروفة، أو إلى ترخيص من الواضع في استعمال اللّفظ في معنىً بشرط أن يكون بين هذا المعنى وبين المعنى الموضوع له إحدى العلائق المعروفة؟! أم أنّه لا حاجة إلى ذلك، بل لا تتوقّف صحّة الاستعمال على الإذن، وإنّما المعتبر في صحّة الاستعمال في المعنى المجازيّ هو المناسبة التي يقبلها طبع أهل الاستعمال وجبلّتهم الغريزيّة وسليقتهم وطبعهم السليم؟ ذهب صاحب الكفاية(قدس سره) إلى الثاني، فقال):«صحّة استعمال اللّفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان. أظهرهما: أنّه بالطبع، بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال

ص: 171

فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه، ولا معنى لصحّته إلّا حسنه»(1).

وحاصله: أنّ الوجدان شاهد بحسن الاستعمال في ما يناسب المعنى الذي وضع له، ولو مع منع الواضع عن هذا الاستعمال، فيكون قبول الطبع السليم هو الملاك في صحّة الاستعمال، لأنّ حسنه مع المنع من الواضع دليل على عدم توقّف صحّة الاستعمال المجازيّ على وضع الواضع، فإطلاق لفظ (القمر) على حسن الوجه، واستعماله فيه صحيح وإن لم يقبله الواضع.

وبالعكس، فإنّ الاستعمال في ما لا يناسب ما وضع له مستهجن، ولو مع ترخيص الواضع به.

وعلى القول بالوضع، فهل للمعنى المجازيّ وضع جديد، أم أنّه من لوازم المعنى الحقيقيّ؟ وليس هناك حاجة إلى وضع جديد، بل تكون محاولة تحصيل هذه الدلالة بالوضع الجديد من قبيل تحصيل الحاصل، أي أنّ اللّفظ يكتسب بسبب وضعه للمعنى الحقيقيّ صلاحيّة الدلالة على كلّ معنى مقترن بالمعنى الحقيقيّ، وبما أنّ اللّفظ يقترن بالقرينة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ، فإنّ هذه الصلاحيّة التي له تصبح فعليّةً، ويكون اللّفظ دالاً فعليّاً على المعنى المجازيّ، وهذه الدلالة بما أنّها تتبع الدلالة الوضعيّة فإنّها تكون في طولها.

ص: 172


1- كفاية الاُصول: 13.

وهذا على خلاف ما هو المشهور من أنّ اللّفظ موضوع للمعنى المجازيّ بالوضع النوعيّ؛ فإنّ ظاهره هو الوضع الجديد، والوضع المجازيّ النوعيّ عندهم مقيّد بفرضوجود القرينة على المعنى المجازيّ، فتكون القرينة مأخوذةً قيداً للوضع أو في اللّفظ الموضوع، وإذا لم يكن هناك قرينة فلابدّ حينئذ من الحمل على المعنى الحقيقيّ.

والمشهور على الأوّل، وأنّ ملاك صحّة الاستعمال في المعنى المجازيّ هو بالوضع، أيّ: فلابدّ من إذن الواضع وترخيصه، سواء قبله الطبع أم لا.

وهل هذا الوضع من قبيل الوضع الشخصيّ أم الوضع النوعيّ؟ لا يخفى: أنّ الوضع هنا لا يمكن أن يكون من قبيل الوضع الشخصيّ، كالأعلام الشخصيّة الذي تتمّ فيه ملاحظة كلّ من مادّة اللّفظ وهيئته وخصوصيّة المعنى.

كما أنّه ليس من قبيل الوضع النوعيّ الملحوظ فيه الهيئة خاصّةً مع غضّ النظر عن المادّة، كما في هيئة الفاعل والمفعول أو غيرهما من المشتقّات. ولا من قبيل وضع المادّة فقط، كوضع (ض، ر، ب).

وإنّما المراد وضع كلّ من المادّة والهيئة لكلّ معنى يناسب المعنى الموضوع له، كلفظ (الأسد) الذي وضع لكلّ ما يناسب الحيوان المفترس من جهة علقة الشجاعة.

وبعبارة أُخرى: إذا كان بين الوضع الأوّل وبين أيّ معنىً من المعاني

ص: 173

أحد العلائق المعهودة، فحينئذٍ: يصحّ استعمال هذا اللّفظ في ذلك المعنى، ويكون هذا من الوضع النوعيّ باعتبار عدم لحاظ خصوصيّة المعنى فيه، بل هو شامل لكلّ معنىً مناسب للمعنى الأوّل، كما أنّ وضع الهيئات يكون كذلك، لأنّه لا يلحظ فيه خصوصيّة أيّة مادّة من الموادّ.

والحقّ: أنّ استعمال اللّفظ في غير ما وضع له ليس بالوضع، بل بالطبع، وأنّه ليس للواضع أيّ منع أو ترخيص؛ إذ ليست وظيفته إلّا وضع اللّفظ لمعنى مخصوص، وغاية ما يوجبه فعله هذا هو نشوء الارتباط بين اللّفظ وبين ما وضع له، وأمّا غيرالمعنى الموضوع له من المعاني فهو باق على أجنبيّته بالنسبة للّفظ، وعليه: فلا يكون من وظيفة الواضع المنع ولا الترخيص.

وأمّا القول بأنّ الاستعمال في المعنى المجازيّ يستند إلى الوضع النوعيّ ففيه:

أوّلاً: أنّه مجرّد إمكان، ولا دليل عليه.

وثانياً: أنّه يخرج المعنى المجازيّ عن كونه معنى مجازيّاً ويدخله في ما وضع له؛ لأنّ اللّفظ قد وضع له هو أيضاً، غاية الأمر: أنّه بالوضع النوعيّ لا الشخصيّ، أو فقل: يلزم أن يكون اللّفظ دائماً مستعملاً فيما وضع له بالادّعاء والتنزيل - كما قاله السكّاكيّ -، نحو: (الطواف بالبيت صلاة)، فإنّه ينزّل ما لم يوضع له اللّفظ منزلة ما قد وضع له بادّعاء منه، فإذا استعمله فيه كان الوضع حقيقيّاً، وفيه نوع من المبالغة المطلوبة.

ص: 174

وأمّا بناءً على القول باستعماله بتجوّز ﻛ (زيد قمر)، فليس فيه هذه المبالغة، فلا يكون حسنه كالأوّل.

وأمّا ما قيل: من أنّ فيه مبالغةً بناءً على القول المشهور أيضاً؛ لأنّ كلمة (أسد) ليست مرادفةً في مدلولها المجازيّ لكلمة (الرجل الشجاع)، وإنّما هي تزيد عليه غالباً بملاحظة أنّ الرجل الشجاع بما هو شجاع يكون شبيهاً بالحيوان المفترس، فكأنّ الكلام يستبطن تشبيهاً.

ففيه: أنّه نعم، فيه مبالغةً حتّى لو بنينا على المشهور، غاية الأمر: أنّه بناءً على قول السكّاكيّ أبلغ؛ إذ فرق بين قولك: (زيد يشبه العادل)، وبين قولك: (زيد هو العادل نفسه). ولكن يرد على هذا أيضاً: أنّه استعمال في غير ما وضع له.وثالثاً: أنّه مخالف لما ذكره علماء العربية في تعريف المجاز من أنّه: اللّفظ المستعمل في غير ما وضع له، وإن قال بعضهم: المجاز هو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له.

فإن قلت: إنّ مرادهم من (في غير ما وضع له) الوضع الشخصيّ، لا النوعيّ.

قلنا: هذا يحتاج إلى دليل، وليس.

ورابعاً: لا يستلزم انحصار الحقيقي في الشخصيّ، ويصبح اللّفظ المستعمل في المعنى الموضوع له بالوضع النوعيّ داخلاً في المعنى الحقيقيّ.

ص: 175

وخامساً: لا يمكن أن تتوقّف صحّة استعمال اللّفظ في المعنى المجازيّ على ترخيص الواضع، لما بيّناه من أنّ حقيقة الوضع ليست إلّا الهوهويّة والاتّحاد الاعتباريّ بين اللّفظ والمعنى، وإلّا، لم يكن إلقاؤه إلقاءً للمعنى، ولا وجوده وجوداً لفظيّاً للمعنى. فتكون وظيفة الواضع - حينئذٍ - منحصرةً في جعل اللّفظ حاكياً عن المعنى، ومعه: فلا يبقى مجال لترخيصه ولا لوضعه النوعيّ ولا لمنعه.

وسادساً: هذا إنّما يتمّ بناءً على كون الواضع شخصاً واحداً، وأمّا لو قلنا: بأنّ كلّ مستعمل واضع حقيقةً، وأنّ الوضع لا ينحصر في شخص معيّن، فحينئذ لا يبقى مجال لهذا البحث أصلاً.

ص: 176

الفصل الخامس: إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه

اشارة

لا شكّ ولا ريب في صحّة إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه، والمراد به: نوع اللّفظ، فحينئذ يكون اللّفظ حاكياً عن اللّفظ نفسه.

وقد مثّل له صاحب الكفاية (قدس سره)بقوله: «كما إذا قيل: (ضرب فعل ماض)»(1)، وإن كان في تمثيله هذا نوع من المسامحة، ضرورة عدم شمول النوع لشخص (ضرب) الموجود في المثال، فالأفضل تبديل المثال لذلك.

وأمّا إطلاق اللّفظ وإرادة صنفه كما يقال: «(زيد) في: (ضرب زيد) فاعل» أي: المراد به كلّ اسم وقع عقيب فعل يقوم بذلك الاسم قياماً صدوريّاً ﻛ (ضرب زيد)، أو حلوليّاً، كما في (مرض زيد)، ومن هذا القبيل أيضاً: (مات زيد).

وأمّا استعمال اللّفظ وإرادة شخصه، كما تقول: «(زيد) في (ضرب

ص: 177


1- كفاية الاُصول: 14.

زيد) فاعل» وتريد شخص هذا اللّفظ المذكور في المثال، فهل هو صحيح مطلقاً أم أنّه بحاجة إلى نوع من التأويل؟ تحقيق المقام يستدعي بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

قد عرفت أنّ صحّة إطلاق اللّفظ وإرادة المعنى المجازيّ إنّما هو بالطبع لا بالوضع، وإلّا، لكانت المهملات - أيضاً - موضوعة، ولكنّ دعوى الوضع في المهملات بلا دليل.

ومن هنا يتّضح: أنّ ما ذكره الاُستاذ الأعظم)(1) من أنّ الواضع لو كان متعدّداً، لكان كلّ مستعمل واضعاً، ولم يستبعد وجود الوضع في المهملات؛ فإنّه كما تعهّد باستعمال الألفاظ في معانيها كذلك قد تعهّد بأنّه متى ما أراد تفهيم نوع اللّفظ أو صنفه أو مثله يبرزها به، ولا مانع من الالتزام بمثل ذلك الوضع.

لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنّه مجرد دعوى وإمكان، ولا دليل عليه.

الأمر الثاني:

أنّ إطلاق اللّفظ في مثل هذه الاُمور ليس من قبيل استعمال اللّفظ في المعنى؛ إذ لا وجود ههنا إلّا لانتقال واحد، وهو الانتقال من اللّفظ إلى

ص: 178


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 95.

صورته فقط، بخلاف استعمال اللّفظ في المعنى؛ فإنّ الانتقال فيه من اللّفظ إلى صورته أوّلاً، ثمّ منها إلى المعنى.

الأمر الثالث:

أنّه بعد ما اخترنا أنّ الوضع هو الهوهويّة، فيكون الاستعمال عبارةً عن إلقاء المعنى بإلقاء اللّفظ، فيكون المنظور إليه هو المعنى لا اللّفظ، بل اللّفظ كالمرآة منظور فيه، لا إليه، وهذا هو معنى قولهم: إفناء اللّفظ في المعنى.

وأمّا مورد بحثنا فهو من قبيل النظر إلى المرآة، لأنّ المتكلّم هنا ناظر إلى اللّفظ فقط وغافل عن المعنى. فإذا كان هذا هو معنى الاستعمال، فكيف يمكن استعمال الشيء في نفسه، وكيف يكون الشيء في آن واحد ملتفتاً إليه ومغفولاً عنه؟؟ ليس هذا إلّا التناقض.

وقد أجاب عن هذا صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:

«يمكن أن يقال: إنّه يكفي تعدّد الدالّ والمدلول اعتباراً، وإن اتّحدا ذاتاً، فمن حيث إنّه لفظ صادر عن لافظه كان دالّاً، ومن حيث إنّ نفسه وشخصه مراده كان مدلولاً..»(1).

وحاصله: أنّه يكفي في رفع المحذور التعدّد الاعتباريّ، ففي استعمال اللّفظ وإرادة شخصه، وإن كان الدالّ والمدلول أمراً واحداً، إلّا أنّه يكفي

ص: 179


1- كفاية الاُصول: 14.

تعدّدهما من حيث الاعتبار، ولا يلزم أن يكون الدالّ والمدلول متعدّدين ذاتاً، فاللّفظ من جهة صدوره عن لافظ يتّصف بأنّه دالّ، ومن جهة أنّ شخصه هو مقصوده ومتعلّق إرادته يتّصف بأنّه مدلول.

واستشكل فيه الاُستاذ المحقّق) (1) بما مفاده: أنّه لا يفيد التوجيه ولا التأويل بالتغاير الاعتباريّ؛ لما ذكرناه من أنّ الوضع عبارة عن الهوهويّة وإفناء اللّفظ فيالمعنى، فكأنّه لم يلق إلى المخاطب إلّا المعنى، وكأنّه لم ينظر إلّا إليه، ولا يعقل استعمال الشيء في نفسه، كما لا يخفى؛ لأنّ لازم ذلك هو فناء الشيء في نفسه، والفناء غير ممكن إلّا بين شيئين متغايرين بالوجود.

ولكن أجاب عنه المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره) بما لفظه:

«التحقيق: أنّ المفهومين المتضايفين ليسا متقابلين مطلقاً، بل التقابل في قسم خاصّ من التضايف، وهو ما إذا كان بين المتضايفين تعاند وتناف في الوجود، كالعلّيّة والمعلوليّة، ممّا قضى البرهان بامتناع اجتماعهما في وجود واحد، لا في مثل العالميّة والمعلوميّة، والمحبّيّة والمحبوبيّة، فإنّهما يجتمعان في الواحد غير ذي الجهات، كما لا يخفى، والحاكي والمحكيّ، والدالّ والمدلول، كاد أن يكون من قبيل القسم الثاني، حيث لا برهان على امتناع حكاية الشي ء عن نفسه»(2).

ص: 180


1- منتهى الاُصول 1: 34.
2- نهاية الدراية 1: 36- 37.

وتوضيحه: أنّ المتضايفين ليسا بمتقابلين على الإطلاق، وإنّما يكون التقابل بينهما في قسم خاصّ منهما، وهو ما إذا كان المتضايفان متعاندين ومتنافيين في الوجود، بحيث لا يمكن اجتماعهما في محلّ واحد، كالعلّيّة والمعلوليّة، والاُبوّة والبنوّة؛ فإنّه لا يمكن اجتماع العلّيّة والمعلوليّة بالنسبة إلى شخص واحد، وكذلك، فلا يمكن لشخص واحد، ومن جهة واحدة، أن يصدق عليه أنّه ابن وأب، وأن تجتمع فيه الاُبوّة والبنوّة، بأن يكون أباً وابناً للشّخص عينه.وأمّا القسم الآخر من التضايف، فهو ما لا تعاند بينهما في الوجود، وذلك كالعالميّة والمعلوميّة، وكالمحبّيّة والمحبوبيّة، فإنّه يمكن اجتماعهما في واحد ولو كان هذا الواحد من غير ذي الجهات.

والحاكي والمحكيّ، والدالّ والمدلول، هما من هذا القبيل؛ إذ لا دليل على امتناع حكاية الشيء عن نفسه، أو دلالته على نفسه، بل قد ورد في دعاء الصباح لأمير المؤمنين(علیه السلام): «يا من دلّ على ذاته بذاته»(1)، وقال إمامنا زين العابدين(علیه السلام) أيضاً: «أنت دللتني عليك»(2).

وفيه: أنّ هذا إنّما يتمّ بناءً على أنّ إلقاء اللّفظ هو بمعنى الحكاية أو الدلالة، وأمّا إذا كان بمعنى الفناء والهوهويّة فلا؛ لأنّه لا يمكن - كما ذكرنا - فناء الشيء في نفسه، وكذا لا يمكن أن يكون الشيء مغفولاً عنه

ص: 181


1- بحار الأنوار 84: 339.
2- مصباح المتهجّد: 582.

وغير مغفول عنه في آن واحد، بل إنّ هذا لا يعقل إلّا بين شيئين. هذا. والإشكال هنا يرتفع بناءً على مسلك الهوهويّة أكثر من أيّ مسلك آخر؛ لأنّ الهوهويّة في المقام حقيقيّة، فينسجم المقام مع هذا المسلك، فإنّه هو هو حقيقةً، بلا حاجة إلى تكلّف أن نجعله إيّاه لحاظاً.

وأمّا اُستاذنا الأعظم(قدس سره): فإنّه بعد تسليمه بصحّة ما أفاده المحقّق الأصفهانيّ) من أنّ التقابل في قسم خاصّ من المتضايفين، وليس مطلقاً، ذكر أنّ اجتماع الدالّ والمدلول هنا في شيء واحد أمر غير ممكن؛ لأنّ مقامنا من قبيل العلّيّة والمعلوليّة، لأنّ حضوراللّفظ الملقى إلى المخاطب هو السبب والعلّة لحضور المعنى، فكلّ مخاطب، بل كلّ سامع عند سماع اللّفظ ينتقل ذهنه إلى اللّفظ أوّلاً، وبسببه ينتقل إلى المعنى ثانياً.

وبديهيّ أنّ العلّيّة والمعلوليّة يقتضيان الاثنينيّة والتعدّد، وأنّه لا يعقل أن يكون شيء واحد علّةً ومعلولاً.

ثمّ قال: «ومن هنا يظهر: أنّ قياس المقام بدلالة ذاته تعالى على ذاته قياس مع الفارق، فإنّ سنخ تلك الدلالة غير سنخ هذه الدلالة، إذ إنّها بمعنى ظهور ذاته بذاته وتجلّي ذاته لذاته، بل ظهور جميع الكائنات بشتّى ألوانها وأشكالها من المادّيّات والمجرّدات بذاته تعالى، وهذا بخلاف

ص: 182

الدلالة هنا فإنّها بمعنى الانتقال من شي ء إلى شي ء آخر»(1).

وقد يستشكل على أصل هذا الاستعمال - أعني: استعمال اللّفظ وإرادة شخصه - بأنّ لازمه كون القضيّة الواقعيّة مركّبةً من جزأين، فإنّ القضيّة اللّفظيّة بموضوعها ومحمولها والنسبة التي بينهما لا تحكي إلّا عن القضيّة الواقعيّة، وبحسب الفرض، فإنّ القضيّة الواقعيّة لا موضوع لها في المقام في قبال القضيّة اللّفظيّة، وأنّه ليس في الواقع إلّا المحمول والنسبة، مع أنّ النسبة يستحيل أن توجد بدون طرفيها وركنيها(2).

وتلخّص: أنّ إطلاق اللّفظ وإرادة شخصه غير ممكن من جهتين:

الاُولى: أنّ هذا الاستعمال ليس من قبيل استعمال اللّفظ في المعنى؛ لوجود المغايرة بين اللّفظ والمعنى، ممّا يجعل فناء أحدهما في الآخر أمراً ممكناً، ويمكنأيضاً، وبلا محذور، أن يلاحظ أحدهما باللّحاظ الآليّ والآخر باللّحاظ الاستقلاليّ، كما هو معنى الاستعمال.

وأمّا فيما نحن فيه، فذلك غير ممكن؛ لأنّ فناء اللّفظ في نفسه غير ممكن، وكذا لا يمكن أيضاً أن يتعلّق اللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ بشيء واحد.

والثانية: أنّ ما نحن فيه ليس من باب استعمال اللّفظ في شيء، مضافاً إلى أنّ القضيّة لا بدّ أن تتركّب من ثلاثة أجزاء: الموضوع، والمحمول،

ص: 183


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 98.
2- الفصول الغرويّة: ص 23.

والنسبة. وبما أنّ هذه القضيّة ليس لها موضوع، فلم يبق هناك إلّا المحمول، والقضيّة، أيّة قضيّة كانت، لا يمكن أن تتركّب القضيّة من جزأين؛ كيف؟(قدس سره) والنسبة لا يعقل أن تتحقّق بدون ركنيها.

ولكنّ صاحب الكفاية(قدس سره) أجاب عن هذا الإشكال، بما نصّه:

«مع أنّ حديث تركّب القضيّة من جزأين - لولا اعتبار الدلالة في البين - إنّما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، وإلّا كان أجزاؤها الثلاثة تامّةً، وكان المحمول فيها منتسباً إلى شخص اللّفظ ونفسه، غاية الأمر: أنّه نفس الموضوع لا الحاكي عنه، فافهم، فإنّه لا يخلو عن دقّة»(1).

وتوضيحه: أنّ القضيّة هنا أيضاً مركّبة من ثلاثة أجزاء: موضوع ومحمول ونسبة؛ وذلك لأنّ الإشكال إنّما يأتي لو كان المقام من باب استعمال اللّفظ في المعنى، باعتبار أنّ المعنى لا يوجد في الذهن إلّا بواسطة اللّفظ، فحينئذ يكون اللّفظ واسطةً في وجوده وحضوره ولا يكون هو بنفسه موضوعاً للقضيّة، بل هو لفظ الموضوع وحاك عنه.فموضوعيّة اللّفظ لها إنّما هي من جهة أنّه الواسطة لإحضار ما هو موضوع فيهما حقيقةً، فاللّفظ ليس بموضوع، وإنّما هو حاك.

نعم، في القضيّة اللّفظيّة يكون اللّفظ هو الموضوع، ولكن مقامنا ليس

ص: 184


1- كفاية الاُصول: ص 15.

من هذا القبيل؛ فإنّ حال الموضوع هنا حال بقيّة الموجودات الخارجيّة، فإنّه لا يحتاج لوجوده وحضوره في الذهن إلى أيّة واسطة، وليس حاله حال اللّفظ بالنسبة إلى معنى بحيث يكون حاكياً عنه، وحينئذ: فلا يلزم محذور تركّب القضيّة من جزأين، بل هذا المحذور إنّما يأتي لو كان الموضوع يحتاج إلى الواسطة، وبما أنّ الموضوع هنا هو نفس اللّفظ الخارجيّ، لا بما هو حاكٍ عن المعنى الذي صدر عن المتكلّم، أي: نفس اللّفظ، فيكون هو الموضوع، ويكون محموله هو الصورة الذهنيّة، فتتركّب القضيّة من ثلاثة أجزاء.

ولا يضرّ هنا خلوّ القضيّة عن الموضوع اللّفظيّ المسمّى ﺑ (الصناعيّ)، والذي يكون حاكياً عن الموضوع الواقعيّ، وإنّما الذي يضرّ هو خلوّ القضيّة عن الموضوع الواقعيّ، وأمّا عدم كونه حاكياً فغير مضرّ.

واستشكل على هذا اُستاذنا المحقّق) بقوله:

«لا يمكن تشكيل القضيّة من موضوع خارجيّ ومفهوم ذهنيّ، كما هو مفروضه، لأنّه - بناءً على ما ذكره [أي: صاحب الكفاية)] - نفس شخص اللّفظ الخارجيّ الّذي صدر عن المتكلم في ذلك الكلام الذي هو من مقولة الكيف المسموع صار موضوعاً، وما هو معنى المحمول - و المراد منه، أي: الصورة الذهنيّة التي يحكي عنها - يكون محمولاً. وهذا ما قلنا من لزوم تركب القضيّة من موضوع خارجيّ ومفهوم ذهنيّ.

ص: 185

وأمّا عدم إمكان هذا المعنى فلأنّ ظرف الحكم وتشكيل القضيّة ليس إلّا الذهن، ولذلك قالوا: إنّ القضيّة لا بدّ لها من تصوّرات ثلاثة، غاية الأمر: اختلفوا في أنّها شروط أو شطور»(1).

وملخّصه: أنّ هذه الصورة من القضيّة التي تحدّث عنها المحقّق الخراسانيّ) مستحيلة؛ لأنّها قد تركّبت من موضوع خارجيّ ومحمول ذهنيّ، مع أنّ القضيّة الذهنيّة لا بدّ أن يكون موضوعها ومحمولها في الذهن، والخارجيّة لا بدّ أن يكون محمولها وموضوعها في الخارج. وعليه: فلا يمكن فرض وجود هكذا قضيّة واقعاً.

هذا. ولكن يمكن أن يقال:

أوّلاً: نحن إنّما نسمّيها بالقضيّة الذهنيّة باعتبار جزئها - وهو المحمول - كما يقال لزيد: (مجروح) باعتبار جزء من بدنه.

وثانياً: لا ضير في الاصطلاح، إلّا يقال: القضيّة لفظيّة؛ لأنّ مدّعى المحقّق الخراسانيّ) إنّما هو صدق هذه القضيّة بدون تأويل، وأمّا تسميتها فأمر لا يهمّه.

ص: 186


1- منتهى الاُصول 1: 34.

الفصل السادس: في أقسام الدلالة

هل الألفاظ موضوعة لذوات المعاني من حيث هي هي أم أنّها موضوعة لها بما هي مرادة؟ لا إشكال في أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المعاني بما هي هي، لا بما أنّها مرادة، وإلّا، لزم إشكالات:

الإشكال الأوّل: أنّ الإرادة وقصد المعنى من مقوّمات الاستعمال، فلو أخذت هذه الإرادة قيداً أو جزءاً، لزم تعدّد اللّحاظ، بل يكون مستحيلاً للزومه الدور؛ لأنّ هذه الإرادة والقصد ناشئة من طور الاستعمال المتأخّر عن المعنى، فيكون مقامنا كمقام استحالة قصد الأمر في المتعلّق المتقدّم عليه رتبة؛ لأنّ قصد الأمر يكون متأخراً عن متعلّقه، فإذا توقّف شيء من المتعلّق على الأمر لزم الدور.

فإن كان البناء على أنّ هذه الإرادة مغايرة للإرادة الاستعماليّة لزم من ذلك محاذير عدّة:

ص: 187

منها: وجود إرادتين: إحداهما: تكون جزءاً للمستعمل فيه، والثانية: هي التي يحتاج إلى وجودها في مقام الاستعمال.

ومنها: أنّ حمل الوصف على ذات مّا إنّما يلحظ فيه حمل الوصف الخارجيّ على الذات الخارجيّة، ففي قولك: (زيد قائم)، حمل الوصف على الذات في الخارج، فإذا كان الموضوع له لفظ (زيد) و(قائم)، هو المعنى المتعلّق بالإرادة، كان المعنى أمراً ذهنيّا، لتقييده بما هو ذهنيّ، وهو الإرادة، فكان لا بدّ من تجريده عن الإرادة عند الحمل، وهو يستلزم التجوّز، بل لغويّة أخذ الخصوصيّة في الموضوع.

ومنها: أنّه بناءً على ذلك فلابدّ من تجريده، ففي قولك: (نصر زيد) - مثلاً - يكون المسند هو ذات (نصر) لا (نصر) المرادة، ممّا يعني: أنّه لابدّ أن نلتزم بالمجاز في جميع الاستعمالات، أي: بأنّ اللّفظ الموضوع لمجموع المعنى والإرادة يستعملدائماً في خصوص المعنى، دون المجموع، ممّا يعني: بقاء الوضع بلا فائدة ولا حكمة.

والإشكال الثاني: يلزم - بناءً على هذا - أن يكون الوضع في جميع الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّاً دائماً؛ لأنّ المفروض أنّ هذه الإرادة التي أصبحت جزءاً للموضوع له أو قيده موجبة لصيرورته جزئيّاً.

فإن قلت: وأيّ محذور يترتّب على ذلك؟ قلنا: إنّه خلاف ما ذهبوا إليه من تقسيم الوضع إلى أربعة أقسام.

ص: 188

والإشكال الثالث: لو كانت المعاني مقيّدةً بالإرادة لدخلت في الاُمور الذهنيّة، ولا يمكن حينئذ أن تصدق على الخارجيّات.

والإشكال الرابع: لو كان كذلك، لكان على خلاف المتبادر؛ لأنّ ما يتبادر إلى الذهن من اللّفظ هو نفس المعنى، لا المراد.

والإشكال الخامس: أنّه لا يبقى لأيّ لفظ معنى بسيط أصلاً؛ لاستلزامه تركّب جميع المعاني الموضوع لها اللّفظ من المعنى والإرادة.

وأمّا ما أفاده المحقّق العراقي(قدس سره)(1):

من أنّ انحصار اللّفظ بذلك: - أي وضعه للمعنى مع قيد المراد - يستلزم كون اللّفظ موضوعاً للمركّب من المعنى الاسميّ، وهو ذات المعنى، والحرفيّ، وهو التقيّد، أي: من الآليّة والاستقلاليّة، وهو أمر ينافي سيرة الوضع بحسب الاستقراء والتتبّع.

فقد أورد عليه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بأنّ «الاختلاف بين المعنى الحرفيّ والاسميّ - كما عرفت - اختلاف بالذات والحقيقة، لا باللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ. فالمعنى الحرفيّ حرفيّ، وإن لوحظ استقلالاً، والمعنى الاسميّ اسميّ، وإن لوحظ آليّاً، و قد اعترفهو(قدس سره) أيضاً بذلك. وعليه: فالإرادة معنىً اسميّ، وإن لوحظت آلةً، ولا تنقلب بذلك عن المعنى الاسميّ إلى المعنى الحرفيّ حتّى يلزم وضع اللّفظ لمعنىً مركّب من معنىً اسميّ وحرفيّ.

ص: 189


1- بدائع الأفكار 1: 92 (تقريرات الميرزا هاشم الآمليّ)).

على أنّك قد عرفت أنّ المعنى الحرفيّ كالمعنى الاسميّ ملحوظ استقلالاً لا آليّاً، فلا وجه حينئذ لتخصيص الإيراد بصورة أخذ الإرادة قيداً لا جزءاً. إلّا أن يكون مراده من المعنى الحرفيّ نفس التقيّد بالإرادة لا نفس الإرادة، فإنّه معنىً حرفيّ.

ولكنّه مدفوع: أوّلاً: بالنقض بوضع الألفاظ للمعاني المركّبة أو المقيّدة، فإنّ معانيها متضمّنة للمعنى الحرفيّ لا محالة، إذ كلّ جزء مقيّد بجزء آخر، فالتقيّد معنىً حرفيّ.

وثانياً: أنّه لا مانع من وضع لفظ لمعنىً مركّب من معنىً اسميّ وحرفيّ إذا دعت الحاجة إليه، فإذا فرض أنّ الغرض تعلّق بوضع الألفاظ للمعاني المقيّدة بإرادة المتكلّم، فلا مانع من وضع الألفاظ لها كذلك، إذ الوضع فعل اختياريّ للواضع، فله أن يقيّد المعنى الموضوع له بأيّة قيود شاء، ولا محذور فيه، والاستقراء المدّعى في كلامه(قدس سره) لو تمّ، فلا يدلّ على استحالة ذلك الوضع. على أنّ ذلك لو تمّ، فإنّما يتمّ إذا كان الواضع من أهل كلّ لغة واحداً أو جماعةً معيّنين ليثبت له الطريقة الخاصّة في الوضع، التي فرض عدم جواز التخلّف عنها، إلّا أنّه فرض في فرض.

وثالثاً: أنّه لا أساس لذلك الإيراد أصلاً، فإنّه مبتن على أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له، وأمّا إذا لم تؤخذ فيه أبداً، بل كانت مأخوذةً في العلقة الوضعيّة، فلا مجال لذلك الإيراد»(1).

ص: 190


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 107.

وأقول:أوّلاً: إنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ بناءً على القول بالفرق بين المعنى الحرفيّ والاسميّ باللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ، ولكن الاختلاف بينهما - كما مرّ عليك - اختلاف بالذات، والمعنى الحرفيّ أيضاً ملحوظ استقلالاً.

وثانياً: إنّ جميع المعاني المركّبة أو المقيّدة مركّبة من معنى اسميّ وحرفيّ؛ لأنّ التقيّد معنىً حرفيّ.

ولكنّ هذا النقض إنّما يتمّ بناءً على ارتباط الأجزاء بعضها ببعض في الموضوع له.

وأمّا إذا قلنا بأنّ اللّفظ موضوع لذوات الأجزاء، فلا، وسيأتي تحقيق ذلك في الأبحاث الآتية، كمبحث الوضع للصّحيح والأعمّ ومبحث مقدّمة الواجب، وشمول المقدّمة للأجزاء، فإنّه يبتني على كون المركّب هل هو ذوات الأجزاء أو بوصف الاجتماع.

وثالثاً: لا مانع من ذلك إذا دعت إليه الضرورة ولم تؤخذ الإرادة قيداً للموضوع له، بل كانت مأخوذةً في العلقة الوضعيّة، كما أشار إليه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) فيما عرفت.

المراد من كلام العلمين:

قال صاحب الكفاية(قدس سره):

«وأمّا ما حكي عن العلمين: الشيخ الرئيس والمحقّق الطوسيّ من مصيرهما إلى أنّ الدلالة تتبع الإرادة، فليس ناظراً إلى كون الألفاظ

ص: 191

موضوعةً للمعاني بما هي مرادة، كما توهّمه بعض الأفاضل، بل ناظر إلى أنّ دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقيّة، أي: دلالتها على كونها مرادةً للافظها، تتبع إرادتها منها ويتفرّع عليها، تبعيّة مقام الإثبات للثّبوت، وتفرّع الكشف على الواقع المكشوف، فإنّه لولا الثبوت في الواقع، لما كان للإثبات والكشف والدلالة مجال.ولذا، لا بدّ من إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة، وإلّا لما كانت لكلامه هذه الدلالة، وإن كانت له الدلالة التصوّريّة، أي: كون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجدار أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار.

إن قلت: على هذا: يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شي ء، ولم يكن له من اللّفظ مراد.

قلت: نعم، لا يكون حينئذ دلالة بل يكون هناك جهالة وضلالة، يحسبها الجاهل دلالةً. ولعمري(قدس سره) ما أفاده العلمان من التبعيّة على ما بيّنّاه واضح لا محيص عنه. ولا يكاد ينقضي تعجّبي(قدس سره) كيف رضي المتوهّم أن يجعل كلامهما ناظراً إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل، فضلاً عمّن هو علم في التحقيق والتدقيق»(1).

وحاصله: أنّ ما ورد عن العلمين: الشيخ الرئيس، والمحقّق الطوسيّ:

ص: 192


1- كفاية الاُصول: 16- 18.

من أنّ الدلالة تتبع الإرادة(1)، فليس المراد منه أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة، أي: أنّ الإرادة قد أخذت في المعنى الموضوع له شطراً أو شرطاً، بل المقام من باب أنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يمكن بعد إحراز كون المتكلّم في مقام البيان، وهي الإرادة الجديّة، ومعناها: أنّ المعنى الموضوع له اللّفظ مراد للمتكلّم إرادةً جدّيّةً، بحيث يصحّ للمخاطب أن يحتجّ به عليه. وهذه الدلالة تتوقّف على إحراز كون المتكلّم في مقام البيان.

وتوضيح ذلك: أنّ الدلالة على أقسام ثلاثة:القسم الأوّل: الدلالة التصوّريّة: بمعنى: خطور المعاني الإفراديّة من ألفاظها إلى نفس المخاطب بمجرّد التكلّم، وهذا لا يتوقّف على شيء سوى العلم بالوضع.

فكلّ من علم بالوضع ينتقل المعنى إلى ذهنه حين سماع اللّفظ، بلا فرق بين أن يكون المعنى مراداً للّافظ أم لا، بل حتّى لو فرض أنّه لم يرده، أو نصب قرينةً على عدم إرادته، بل ولو فرض صدروه من لافظ بلا شعور ولا اختيار، أو عن اصطكاك حجر بحجر، فإنّ هذه الدلالة تحصل وتتحقّق.

ص: 193


1- راجع: الشفاء، قسم المنطق، في المقالة الاُولى من الفنّ الأوّل، الفصل الثامن: 42، عند قول الشيخ: «وذلك لأنّ معنى دلالة اللّفظ هو أن يكون اللّفظ اسماً لذلك المعنى على سبيل القصد الأوّل». وحكى العلّامة الحلّيّ) في كتابه: الجوهر النّضيد في شرح التجريد: 4 عن اُستاذه المحقّق الطّوسيّ) قوله: «بأنّ اللّفظ لا يدلّ بذاته على معناه، بل باعتبار الإرادة والقصد».

وعليه: فهذه الدلالة من الاُمور القهريّة الخارجة عن الاختيار، وهي لا تتوقّف على شيء كما بيّنّا، سوى العلم بالوضع وسماع اللّفظ.

القسم الثاني: الدلالة التصديقيّة: وهي حضور معنى الجملة إلى الذهن بعد ضمّ المعاني الإفراديّة بعضها إلى بعض وملاحظة القرائن والأخذ بظواهرها، وما يترتّب على هذه الدلالة هو صحّة إسناد مضمون الكلام إلى المتكلّم ظاهراً، بأن يقال: إنّ كلامه كان كذا وكذا... ويجب عند أهل المحاورة العمل على طبقها، والمشي على وفقها، وهذه الدلالة غير متوقّفة على إرادة المتكلّم، فيؤخذ بظهور كلامه، كان يريده في حاقّ الواقع أم لم يكن. نعم، تتوقّف هذه الدلالة على عدم العلم بإرادة الخلاف؛ لأنّه لو أتى بما يصلح للقرينيّة لهدم الظهور، وأصبح الكلام - بالتالي - غير قابل للأخذ بظهوره.

القسم الثالث: الدلالة التصديقيّة الجدّيّة: أيّ أن الإرادة الجدّيّة مطابقة للإرادة الاستعماليّة، وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء، إلّا أنّها تتوقّف على إحراز كون المتكلّم في مقام البيان وإرادة ما يقوله.ولا شكّ في تبعيّة هذه الدلالة للإرادة، بل يكون ذلك من قبيل الضرورة بشرط المحمول، ومن المعلوم: أنّ احتجاج العبد إنّما يصحّ بعد إحرازه أنّ المولى كان في مقام البيان، ولو بأصل عقلائيّ.

وعليه: فما ذكره بعض المحقّقين من أنّ الأساس في كون الظواهر مرادةً هو بناء العقلاء على حجّيّة الظواهر، ولو مع عدم العلم بقصد

ص: 194

المتكلّم لها، لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنّ كون نفس الظواهر كاشفةً عن الإرادة الجدّيّة للمتكلّم، وترتيب الآثار على إرادته، كما هو الحال في التقارير والسجلّات محلّ تأمّل.

وقد ظهر: أنّ مراد المحقّق من تبعيّة الدلالة للإرادة هو الثالث من هذه الأقسام.

وخلاصة الكلام: أنّ الألفاظ قد وضعت لنفس المعاني، لا للمعاني المقيّدة بنحو من أنحاء الإرادة، بلا فرق بين أن يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً، أو أن يكون كلاهما داخلاً، أو كلاهما خارجاً، بأن يكون المعنى ظرفاً للقيد.

وغاية ما يمكن أن يستدلّ به على مطلبهم هو: أنّ الوضع من الأعمال العقلائيّة، ولا شبهة في أنّ الواضع حينما أراد الوضع كان دافعه إلى ذلك هو تسهيل الطريق إلى الإفادة والاستفادة، وهو - طبعاً - يكون متعلّقاً لإرادة المتكلّم، وعليه: فيكون الموضوع له هو المعنى المقيّد بالإرادة.

وفيه: أنّه إن اُريد من كون الموضوع له هو المعنى الذي يكون مقيّداً بالإرادة، ولو كان التقيّد داخلاً والقيد خارجاً، فتأتي المحاذير السابقة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ لمثل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلّ اللهُ الْبَيْعَ﴾(1)، دلالات ثلاثاً:

ص: 195


1- البقرة: 275.

إحداها: الدلالة التصوّريّة: وهي أنّ معاني الأفراد تخطر في الذهن بمجرد السماع بعد إلقاء الألفاظ، وقد قلنا: بأنّ هذه الدلالة قهريّة لا تتوقّف على شيء غير العلم بالوضع وسماع اللّفظ، ولو كان صادراً من لافظ ساه أو نائم أو غير ذي شعور.

والثانية: حضور المعنى المتحصّل من الجملة في الذهن بعد ارتباط هذه المعاني بعضها ببعض وإلقائها إلى المخاطب وملاحظة القرائن، وبعد هذا الإلقاء يصحّ نسبة مضمون الكلام إلى المتكلّم بأن يقال: إنّه قال بجواز البيع - مثلاً -.

وهذه الدلالة قسم من الدلالة التصديقيّة نظراً إلى دلالة الجملة الملفوظة على المعنى المتحصّل الذي توقّف على إسناد المحمولات إلى موضوعاتها، والإذعان من السامع بأنّ مضمون كلامه كان كذا وكذا. وأمّا إذعانه بأنّ مضمون كلامه مراد له فهو لا يظهر من هذه الدلالة.

والثالثة: دلالة الكلام على كون المعنى المتحصّل منه مقصوداً ومراداً للمتكلّم، بحيث يصحّ للمخاطب أن يحتجّ بها عليه. وهذه الدلالة تتوقّف على إحراز أنّ المتكلّم كان في مقام البيان. والدلالة التصديقيّة التي تكون تابعةً للإرادة هي هذه الدلالة. ولا ينبغي الارتياب في تبعيّتها لها، كيف لا؟(قدس سره) وصحّة احتجاج العبد على مولاه بظاهر كلامه منوطة بإحراز كون المولى في مقام البيان، ولو بأصل عقلائيّ.

فحينئذٍ: يصحّ أن يقال - مثلاً: - إنّ المتكلّم أراد حلّيّة البيع، وإنّ هذه

ص: 196

الحلّيّة التي هي مضمون الجملة كانت مرادةً ومقصودةً له، لا أنّه تكلّم بها على سبيل التقيّة أو الهزل مثلاً.

وبعبارة أُخرى: فهذه الدلالة هي بمعنى أنّ المتكلّم قال بمضمون الكلام، أي قال: بالحلّيّة - مثلاً -، فهي موجودة في القسم الثاني. وأمّا الدلالة على أنّه كان مراده جدّيّاً، وأنّه قال كلامه هذا لا عن تقيّة، فلا تثبت إلّا بعد الإحراز، كما بيّنّا.وتحصّل: أنّ الدلالة التفهيميّة لا تتوقّف على شيء غير السماع، وإحراز أنّ المتكلّم كان في مقام التفهيم، وهي موجودة حتى فيما إذا علم بكذب المتكلّم، إلّا إذا نصب قرينةً منفصلةً على أنّه ليس في مقام التفهيم.

وأمّا الإرادة الجدّيّة - والتي هي القسم الثالث - فتحتاج، علاوةً على ذلك إلى شيء آخر، وهو الإحراز، حتى تجعل الإرادة الاستعماليّة موافقة للإرادة الجديّة، ومقام الإثبات مطابقاً لمقام الثبوت والواقع. وأمّا الإرادة التفهيميّة فهي موجودة دائماً، بمقتضى الوضع والقانون اللّغويّ، سواء كانت متصادقة مع الإرادة الجدّيّة أم لم تكن.

ص: 197

ص: 198

الفصل السابع: في وضع المركّبات

لا يخفى: أنّ المركّبات لا تحتاج إلى وضع ثالث بمجموع موادّها وهيئاتها مضافاً إلى وضع أجزاء المركّب التي لها موادّ وهيئات، فلو قلت - مثلاً: - «زيد قائم»، فلكلّمن (زيد) و(قائم) مادّة وصورة، فلزيد وضع شخصيّ، لمادّته؛ لأنّه قد وضع لحصّة خاصّة من الإنسان ذات مشخّصات خاصّة.

وله - أيضاً - وضع نوعيّ هو وضع هيئة (زيد) التي تنشأ من جهة إعرابه رفعاً على الابتداء. وكذا الحال في كلمة (قائم)، فإنّها قد وضعت بوضع شخصيّ لذات متّصفة بالقيام، ووضعت بهيئتها الحاصلة من جهة رفعها بالخبريّة وضعاً نوعيّاً.

وأمّا هيئة الجملة، فهي تحصل بعد ضمّ كلّ واحد من الأجزاء إلى الآخر، أي: - في المثال - بعد ضمّ (زيد) إلى (قائم) والربط بينهما. ولولا هذا الربط والضمّ، لكان كلّ من الجزأين أجنبيّاً عن الآخر.

ص: 199

وبعد هذا، فلا حاجة إلى وضع ثالث للمركّبات، أي: لمجموع المركّب بمادّته وهيئته؛ لعدم فائدة فيه، حيث إنّ الغرض من الوضع هو تسهيل التفهّم والتفهيم، وهذا الغرض حاصل بدونه، فأيّة حاجة تبقى إلى هذا الوضع؟(قدس سره) ولكن لا يخفى: أنّ ما قلناه: من أنّ الوضع في المواد هو من قبيل الوضع الشخصيّ مختصّ بالجوامد.

وأمّا المشتقّات فالوضع بالنسبة إلى موادّها لا يكون إلّا نوعيّاً.

والمراد بالنوعيّة: عدم الاختصاص بمادّة أو هيئة، فمادّة (نصر) نوعيّة، أي: لأنّها لنفس المعنى في ضمن أيّة هيئة كانت، تماماً كهيئة (فاعل) التي هي لمن قام به المبدأ في ضمن أيّة مادّة كانت، وكذلك مادّة (ض ر ب) - مثلاً - فإنّها موضوعة للحدث الكذائيّ، ولو في ضمن أيّة هيئة كانت.

ومن هنا ظهر: أنّ الموادّ - كالأعلام الشخصيّة - إذا أصبحت في ضمن الجملة، فإنّ هيئاتها تكون موضوعةً بوضع نوعيّ، كهيئة (زيد) في المثال المتقدّم، والمرادبها:

المرفوعيّة التي تحصل من جهة إعرابه. وعليه: فما أفاده الاُستاذ المحقّق) من أنّ الجوامد بمادّتها وهيئتها شخصيّة، لا يمكن المساعدة عليه على إطلاقه(1).

وقد يقال هنا: إنّ نسبة الهيئة إلى المادّة كنسبة العرض إلى المعروض،

ص: 200


1- منتهى الاُصول 1: 37.

فإنّ المادّة لها تجوهر واستقلال في ذاتها، فيمكن أن تلاحظ مستقلّةً، وتوضع لمعنىً، ولو لم تلاحظ الهيئة معها.

وأمّا الهيئة فلمّا لم يكن لها استقلال، لم يكن من الممكن ملاحظتها مستقلّةً، بل لا بدّ من ملاحظتها في ضمن مادّة من الموادّ.

ولكنّ الصحيح: أنّه كما لا يمكن تصوّر وضع الهيئات على نحو الاستقلال، ومع قطع النظر عن لحاظ الموادّ، فكذلك الموادّ لا يمكن لحاظها مع قطع النظر عن الهيئات.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره) هنا: أنّه يلزم - بناءً على القول بالوضع الثالث - دلالة اللّفظ على معناه مرّتين، ففي مثل «زيد قائم»، تارةً تكون الدلالة بملاحظة وضع مفرداتها، واُخرى بملاحظة وضع مجموعهما مع هيئة المركّب. وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره):

«مع استلزامه الدلالة على المعنى تارةً بملاحظة وضع نفسها، واُخرى بملاحظة وضع مفرداتها»(1).

وعلّق عليه اُستاذنا المحقّق) بقوله: «وأمّا حديث دلالة الجملة على المعنى المقصود منها مرّتين بواسطة تعدّد فلا محذور عقليّ فيه أصلاً. نعم، إنّه خلاف الوجدان»(2).

ص: 201


1- كفاية الاُصول: 18.
2- منتهى الاُصول 1: 39- 40.

والحقّ: أنّ فيه محذوراً، كما اختاره الاُستاذ الأعظم)، قال: «وأمّا في مقامنا، فلو التزمنا بتعدّد الوضع، للزمنا الالتزام بعرضيّة الانتقالين، وذلك لأنّ المركّبات بما هي لو كان لها وضع، فلا محالة، كان وضعها لإفادة ما يستفاد من مجموع الهيئة والمادّة في الجملة، لعدم معنىً آخر على الفرض.

وعليه: فلزمنا الالتزام بعرضيّة الانتقالين لتحقّق كلّ من الدالّين في عرض تحقّق الآخر، وهذا مخالف للوجدان، كما هو واضح»(1).

ص: 202


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 110- 111.

الفصل الثامن: علائم الحقيقة والمجاز

اشارة

وهي عدّة:

العلامة الاُولى: التبادر

والكلام فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ هذا البحث هل له أثر في مقام العمل أم لا؟ قيل: لا أثر له في مجال العمل، لأنّ المدار في معرفة مراد المتكلّم من الكلام على ظهور الكلام في المعنى، سواء كان حقيقيّاً أو مجازيّاً؛ فإنّ الظاهر هو الحجّة بلاكلام، وأمّا مجرّد كون المعنى حقيقيّاً، وإثبات ذلك بالتبادر، فلا يجدي في الحكم بكونه مراداً من اللّفظ ما لم يكن للّفظ فيه ظهور.

نعم، تظهر الفائدة في هذا البحث فيما لو بنينا على أصالة الحقيقة تعبّداً، فإنّه لا بدّ من الالتزام حينئذ بكون المراد هو المعنى الحقيقيّ، ولو لم يكن اللّفظ ظاهراً فيه.

ص: 203

فتعيين المعنى الحقيقيّ بإحدى العلامات يكون ذا أثر على هذا البناء.

لكنّ التحقيق: عدم البناء على أصالة الحقيقة تعبّداً، وكون المدار في تعيين المراد على ظهور الكلام، وهو لا يرتبط بتعيين المعنى الحقيقيّ، لأنّ ما يكون الكلام ظاهراً فيه يكون متّبعاً، وإن لم يكن معنىً حقيقيّاً، وما لا يكون ظاهراً فيه، لا يبنى على إرادته، وإن كان معنىً حقيقيّاً قد وضع له اللّفظ.

وبهذا يكون البحث عن علامات الحقيقة بحثاً سطحيّاً، لأنّه لا يفيد إلّا من الناحية العلميّة والنظريّة دون العمليّة، كما هو الحال أيضاً في بعض أبواب الاُصول الاُخرى.

الأمر الثاني: أنّ التبادر علامة على الوضع لأنّه بمعنى انسباق المعنى إلى الذهن.

والأمر الثالث: أنّ التبادر الذي يصلح لأن يكون علامةً على الوضع، هل يجب فيه أن يكون من حاقّ اللّفظ، أو يكفي فيه أن يكون ناشئاً من القرينة؟(قدس سره) الحقّ: أنّه يجب فيه أن يكون من حاقّ اللّفظ، لأنّه لو كان كذلك، لكشف بالكشف الإنّيّ عن كون اللّفظ موضوعاً للمعنى المتبادر. وبتقييد التبادر بكونه من حاقّ اللّفظ، يخرج التبادر الحاصل من مقدّمات الحكمة، والتبادر الحاصل من الشهرة أو كثرة الاستعمال أو بقرينة

ص: 204

اُخرى، كانصراف (الماء) إلى (ماء الفرات) بقرينة مثل: (سكّان الكوفة).قال صاحب الضوابط(قدس سره): «التبادر هو بمعنى سبق المعنى من بين المعاني إلى الذهن، لا سبق الذهن إلى المعنى، كما قاله البعض؛ لأنّ السبق أمر إضافيّ يحتاج إلى السابق والمسبوق والمسبوق إليه، فهو بالنسبة إلى المعنى الأوّل متصوّر؛ لأنّ المعنى المتبادر سابق، والمعنى الآخر مسبوق، والذهن مسبوق إليه، بخلاف المعنى الآخر؛ لعدم وجود مسبوق هناك. ولكنّ الظاهر: أنّ مراد من عبّر بتلك العبارة هو مجرّد انتقال الذهن أوّلاً إلى هذا المعنى، دون غيره من المعاني من باب التسامح»(1). انتهى.

وقال(قدس سره) أيضاً: «التبادر تارةً ينشأ من حاقّ اللّفظ، واُخرى ينشأ من القرينة - كالشهرة في المجاز، كلفظ الصلاة المتبادر منه: الأركان المخصوصة - واُخرى من الشيوع في الفرد الشائع - كقولنا: (أسد يرمي) - فالأوّل: هو التبادر الوضعيّ، والثاني هو التبادر الإطلاقيّ، والمراد في محلّ البحث: هو التبادر الأوّل». انتهى.

وعليه: فالمعتبر من أماريّة التبادر - كما قيل - إنّما هو فيما إذا كان من حاقّ اللّفظ حتى يدلّ على الحقيقة، لا من القرائن، فإذا كان انسباق المعنى إلى الذهن من حاقّ اللّفظ؛ فإنّ هذا يكشف عن علقة خاصّة بين ذلك اللّفظ والمعنى، وإلّا، فلماذا تبادر هذا المعنى من هذا اللّفظ دون غيره من المعاني؟(قدس سره)

ص: 205


1- الضوابط: 30.

فالتبادر يكشف عن الوضع والهوهويّة بين اللّفظ والمعنى، وأمّا إذا كان التبادر لا من حاقّ اللّفظ، بل بواسطة القرائن، فلا يستكشف منه ذلك.

وقال صاحب الضوابط(قدس سره) أيضاً: «وقالوا: بحجّيّته وكاشفيّته عن الوضع باتّفاق العلماء، وإطباق أهل اللّسان، وبالدليل العقليّ».

تقرير هذا الدليل العقليّ: أنّ جميع المعاني بالنسبة إلى الألفاظ متساوية، فالداعي إلى السبق: إمّا هو القرينة، والمفروض فقدها. وإمّا هو الوضع، فالمطلوب حاصل.وإن لم يكن شيء منهما: لزم الترجيح بلا مرجّح. فظهر: أنّ التبادر معلول الوضع، فيحصل من العلم به العلم بالوضع.

ثمّ إنّه قسّم التبادر إلى قسمين:

التبادر بالمعنى الأخصّ، وهو: ما كان مركّباً من النفي والإثبات، بأن يعتبر المتبادر هذا المعنى فقط، فيظهر منه عدم كون الغير موضوعاً له ومراداً.

والتبادر بالمعنى الأعمّ، بأن يتبادر هذا المعنى لا فقط، كما في المشتركات، فإنّ تبادر أحد المعاني لا ينفي تبادر غيره، وكلّ من القسمين علامة الحقيقة.

ثمّ إنّ عدم التبادر بالمعنى الأعمّ ملازم للمجازيّة. وأمّا عدم التبادر بالمعنى الأخصّ فحيث إنّه موجود في المشتركات، فهو لا يدلّ على

ص: 206

المجازيّة، لعدم دلالة الأعمّ على الأخصّ.

وأمّا تبادر غير الأعمّ، فأمره بالعكس، وهو لا يلازم المجازيّة، لوجوده في المشترك، وتبادر الغير بالمعنى الأخصّ ملازم للمجازيّة. وبذلك اندفع ما اُورد على عدم التبادر.

والصحيح: أنّه لا مجال للتبادر من المشتركات. ولذا قيل: بأنّه عند الاستعمال يحتاج إلى القرينة المعيّنة للمراد.

ثمّ إنّ التبادر الذي هو علامة على الوضع هو تبادر العالم للجاهل، لا الجاهل للجاهل، لأنّه مستلزم للدّور؛ ولا العالم للعالم، لأنّه من تحصيل الحاصل؛ ولا الجاهل للعالم، لأنّه تحصيل للحاصل بالنسبة إلى العالم.

ثمّ هل إنّ التبادر من شخص واحد بالنسبة إلى نفسه ممكن أم لا؟ قد يقال: بعدم الإمكان؛ لأنّه لو كان عالماً لكان تحصيلاً للحاصل، ولو كان جاهلاً، لزم الدور.وقد أجاب(قدس سره) عن هذا: بأنّ هذا الإشكال إنّما يأتي لو كان الشخص عالماً وجاهلاً من كلّ الجهات، وأمّا إذا كان عالماً بالإجمال وجاهلاً بالتفصيل وهو من أهل اللّسان، فلا محذور، فإنّ العلم التفصيليّ متوقّف على العلم الإجماليّ عنده، ولا عكس.

وقد اعتُرض على القول: بأنّ التبادر علامة للوضع دوريّ، لأنّ التبادر موقوف على العلم بالوضع، وهو موقوف على التبادر؛ لأنّ انسباق هذا

ص: 207

المعنى الخاصّ إلى الذهن من بين المعاني منوط بالعلم بالوضع له، وإلّا لزم الترجّح بلا مرجّح.

وأُجيب عنه: بأنّ هناك مغايرةً بين العلمين، أي: العلم بالوضع الذي يتوقّف على التبادر، والعلم بالوضع الذي يتوقّف التبادر عليه، أو: العلم بالوضع الذي هو علّة للتبادر، والعلم بالوضع الذي هو معلول له؛ وذلك لأنّ العلم بالوضع الذي يتوقّف على التبادر هو العلم التفصيليّ، وأمّا العلم بالوضع الذي يتوقّف عليه التبادر فهو العلم الإجماليّ، فلو فرض - مثلاً - أنّ اللّفظ موضوع لأحد المعاني المتعدّدة، ثمّ حصل له النسيان - أي: نسيان ذلك المعنى الخاصّ -، فإنّ إجماليّة العلم ودورانه بين معان عدّة، وارتكازيّته باعتبار بقاء ذلك المعنى في قوّة الحافظة، وإن ذهب عن الذاكرة.

وأجاب صاحب الكفاية(قدس سره):

«الموقوف عليه غير الموقوف عليه، فإنّ العلم التفصيليّ بكونه موضوعاً له موقوف على التبادر، وهو موقوف على العلم الإجماليّ الارتكازيّ به، لا التفصيليّ، فلا دور. هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم، وأمّا إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة، فالتغاير أوضح من أن يخفى»(1).

ص: 208


1- كفاية الاُصول: 19.

وحاصله: أنّ التبادر المفروض كونه علامةً: إمّا أن يراد به التبادر لدى نفس الشخص المستعلم، وإمّا أن يراد به التبادر لدى العالم وأهل اللّغة حتى يكون علامةً على الوضع. فعلى الأوّل: التبادر، وإن كان يتوقّف على العلم بالوضع، إلّا أن المراد به العلم الارتكازي الإجماليّ، وهو حصول صورة الشيء في النفس ارتكازاً ومن دون التفات إليها، وإنّما يلتفت إليها بموجبات. والعلم الذي يتوقّف على التبادر هو العلم التفصيليّ بالوضع والالتفات إليه، وعليه: فالتغاير بين الموقوف عليه التبادر والموقوف على التبادر بالإجمال والتفصيل، وهو كاف في رفع غائلة الدور.

وقد استشكل على هذا بوجهين:

أوّلهما: أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى؛ لأنّه إنّما يتمّ فيما إذا كان عالماً بالوضع ثمّ نسي وغابت عن ذهنه تلك الصورة، ممّا يعني: أنّ ارتباط اللّفظ بالمعنى موجود في مكان ما في النفس، وحينئذ فقط يكون التبادر علامةً على الوضع.

وأمّا إذا لم يكن قد علم بالوضع أصلاً، ولم تكن تلك الصورة موجودةً في خزانة الذاكرة، فلا يحصل التبادر حينئذ أصلاً لكي يتأتّى أن يقال: التبادر علامة على الوضع.

ثانيهما: أنّ العلم الإجماليّ بكون أحد المعاني المعلومة تفصيلاً هو ما وضع له اللّفظ لا يوجب تبادر خصوص الموضوع له من بين تلك المعاني قطعاً، بل جهل السامع بالمعنى الموضوع له معيّناً بعد سماع

ص: 209

اللّفظ، كجهله به قبل سماعه، والعلم الإجماليّ لا يؤثّر في انسباق خصوص المعنى الموضوع له، فينحصر سبب الانسباق في صورة العلم التفصيليّ بالوضع. وفي هذه الصورة لا حاجة إلى التبادر - كما لا يخفى - فكيف يكون التبادر حينئذ علامةً على الوضع؟(قدس سره) ثمّ إنّ اُستاذنا الأعظم(قدس سره) أضاف إلى ذلك قائلاً:«ثمّ لا يخفى: أنّ تبادر المعنى من نفس اللّفظ من دون قرينة لا يثبت به إلّا وضع اللّفظ لذلك المعنى وكون استعماله فيه حقيقياً في زمان تبادره منه، وأمّا وضعه لذلك المعنى في زمان سابق عليه، فلا يثبت بالتبادر المتأخّر، فلابدّ في إثبات ذلك من التشبّث بالاستصحاب القهقرى الثابت حجّيّته في خصوص باب الظهورات بقيام السيرة العقلائيّة وبناء أهل المحاورة عليه، فإنّهم يتمسّكون بذلك الاستصحاب في موارد الحاجة ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه، بل على ذلك الأصل تدور استنباط الأحكام الشرعية من الألفاظ الواردة في الكتاب و السنّة، ضرورة أنّه لولا اعتباره لا يثبت لنا أنّ هذه الألفاظ كانت ظاهرةً في تلك الأزمنة في المعاني التي هي ظاهرة فيها في زماننا، ولكن ببركة ذلك الاستصحاب نثبت ظهورها فيها في تلك الأزمنة أيضاً، ما لم تثبت قرينة على خلافها، وسمّي ذلك الاستصحاب ﺑ (الاستصحاب القهقرى)؛ فإنّه على عكس الاستصحاب المصطلح السائر في الألسنة، فإنّ المتيقّن فيه أمر سابق،

ص: 210

والمشكوك فيه لاحق، على عكس الاستصحاب القهقرى، فإنّ المشكوك فيه أمر سابق، والمتيقّن لاحق»(1).

وحاصله: أنّ التبادر إنّما يكون كاشفاً عن الوضع وعلامةً له في ظرفه، أي: أنّه يكشف عن الوضع في زمان التبادر، أمّا قبله فلا يكشف عن الوضع.

وعليه:

فتبادر المعنى فعلاً من اللّفظ المستعمل من قبل الشارع لا يجدي في إثبات أنّه هو المعنى الموضوع له سابقاً وفي حال الاستعمال كي يؤخذ به ويلتزم بأنّ الشارع أراده، فلابدّ من ضمّ أصل عقلائيّ للتبادر ينفع في المقصود، وهو الاستصحاب القهقرى، فيبنى به على ثبوت الوضع من ذلك الزمان.وهذا الاستصحاب، وإن كان على خلاف الاستصحابات الثابتة من الشارع؛ لأنّ ملاكها اليقين السابق والشكّ اللّاحق، على العكس في هذا الاستصحاب، لأنّ الشكّ سابق واليقين لاحق، وبهذا الاعتبار سمّي ﺑ (القهقرى)، فلا يكون مشمولاً لأدلّة الاستصحاب، ولكنّه ثابت ببناء العقلاء عليه في باب الوضع والظهور، ولولاه لما قام لاستنباط الأحكام الشرعيّة من النصوص أساس؛ إذ ظهورها في معنىً في زماننا - بناءً على هذا - لا يكون دليلاً على الحكم، ما لم يثبت ظهورها فيه في زمان

ص: 211


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 114- 115.

الاستعمال، ولا مثبت لذلك سوى هذا الاستصحاب، فعلى ثبوته تدور رحى الاستنباط. هذا.

وقد أجاب عن إشكال الدور كلّ من المحقّقين: الأصفهاني والعراقي*(1).

أمّا المحقّق الأصفهاني) فقد ذكر:

أنّ التبادر ليس معلولاً للعلم بالوضع، بل لنفس الوضع، وهو من مقتضيات الوضع، ولذا نرى أنّه يكشف عنه إنّاً، وأمّا العلم بالوضع فإنّما هو شرط في تأثير الاقتضاء الثابت للوضع في التبادر.

ولكن، يجاب عنه - بما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين(قدس سره):- بأنّ هذا الجواب هو أيضاً يؤدّي إلى وقوع الدور من ناحية الشرط، لتوقّف التبادر على العلم بالوضع باعتبار كونه شرطاً، وتوقّف العلم على التبادر باعتبار كونه علامةً.

وأمّا المحقّق العراقيّ) فقد أجاب عن أصل الدور بما حاصله: أنّه ولو فرض أنّ التبادر متوقّف على العلم التفصيليّ بالوضع، ولكنّه يكفي في ارتفاع الدور التغاير بينالموقوف والموقوف عليه بالشخص، ولا نحتاج إلى التغاير بالنوع، ولا بالصنف؛ لأنّ هناك مغايرةً بين العلم الشخصيّ الحاصل بالتبادر والعلم المتوقّف عليه التبادر.

ص: 212


1- راجع: نهاية الدراية 1: 45، وبدائع الأفكار 1: 97.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ الإشكال على التبادر ونحوه وارد؛ لأنّ جعله طريقاً للعلم بالوضع لغو، إذ العلم بالوضع من مقدّمات التبادر، فالتوصّل به إلى العلم بالوضع ثانياً يكون لغواً. بل وهو باطل أيضاً من جهة اُخرى، لأنّه لو فرض أنّ العلم بالوضع معلول للتبادر، والتبادر هو علّة العلم بالوضع، فلا يمكن أن يكون المعلول والعلّة - اللّذان هما في الخارج شيء واحد - متعلّقين لعلمين تفصيليّين؛ إذ يكون معناه: أنّ العلم التفصيليّ بالوضع الذي هو معلول للعلم التفصيليّ بالتبادر الذي هو العلّة. وكذا العلم التفصيليّ بالتبادر والذي هو علّة للعلم التفصيليّ بالوضع.

وبعبارة اُخرى: فإنّ كلام المحقّق العراقيّ) وإن كان يرفع مشكلة الدور، إلّا أنّه لا يرفع مشكلة اللّغويّة.

وبعد أن قلنا بأنّ التبادر - كما هو المشهور - من دلائل الوضع، وأنّ استماع اللّفظ موجب لتصوّر المعنى، وهذا لا يكون إلّا بسبب ارتباط ذلك اللّفظ بذلك المعنى وعلاقته به في نظر السامع، ولا حقيقة للوضع عندنا إلّا ذلك الارتباط وتلك العلاقة، فيكون هذا التبادر من آثار ذلك الارتباط في نظر السامع.

وهذا في الجملة واضح. وإنّما المهمّ إحراز كون ذلك الانسباق مستنداً إلى سماع اللّفظ بشخصه، لا ببعض القرائن، ولو أنّها لا تنفكّ غالباً عنه.

ص: 213

ثمّ على فرض كون التبادر علامةً على الحقيقة، فلابدّ من إحراز كون التبادر من حاقّ اللّفظ، أي: لا بدّ من العلم بذلك، وأمّا مع الشكّ في أنّ التبادر هل كان من حاقّ اللّفظ أو من جهة القرينة، فإنّ هذا التبادر لا يكون علامةً على الوضع.فإن قلت: يمكن اكتشاف أنّ التبادر مستند إلى حاقّ اللّفظ بأصالة عدم القرينة.

قلنا: إن كان المراد من الأصل الاستصحاب العدم المحموليّ، فهو وإن كان له حالة سابقة، إلّا أنّه لا يجري، لأنّه مثبت. وإن كان المراد منه العدم النعتيّ، فلا حالة سابقة له.

مضافاً إلى أنّ هذا الأصل - على كلا التقديرين - لا دليل على حجيّته، لأنّه لا يترتّب عليه حكم شرعيّ.

وأمّا إثبات أصالة عدم القرينة ببناء العقلاء، فهو وإن ثبتت حجّيّته، إلّا أنّ الدليل - كما هو معلوم - إذا كان لبّيّاً يؤخذ بالقدر المتيقّن، ولمّا كان هذا البناء لبّيّاً، فلابدّ من الأخذ بالمتيقّن منه، وهو ما إذا كان الشكّ في مراد المتكلّم، بأن يشكّ أنّ مراده هل كان هو المعنى الحقيقيّ أو المجازيّ، فحينئذ يثبت كونه مراده بأصالة عدم القرينة. وأمّا إذا كان مراده معلوماً، وكان الشكّ في أنّ هذا المراد المعلوم هل هو المعنى الحقيقيّ أم المجازيّ، فلا يثبت بأصالة عدم القرينة كونه هو المعنى الموضوع له، ولا أنّ التبادر مستند إلى حاقّ اللّفظ.

ص: 214

العلامة الثانية: صحّة السلب وعدمها

والمراد من علاميّة عدم صحّة السلب هو أنّ صحّة الحمل علامة على الحقيقة، كما أنّ المراد من علاميّة صحّة السلب هو أنّ عدم صحّة الحمل علامة على المجازيّة، بلا فرق بين أن يكون تجوّزاً في الإسناد أو في الكلمة.

ثمّ إنّه، وقبل الدخول في صلب هذا البحث - وهو أنّ صحّة السلب هل هي علامة على الحقيقة أم لا؟ - فلا بدّ لنا من التعرّض لشرح قسمي الحمل، فنقول:القسم الأوّل: هو: الحمل الأوّليّ الذاتيّ، وهو: أن يكون الموضوع والمحمول متّحدين من جهة المفهوم والموجود، ويكون التغاير بينهما من جهة الاعتبار، أي: بأن يكون الإجمال في الموضوع والتفصيل في المحمول، كقولك: (الإنسان حيوان ناطق).

وسمّي بالحمل الأوّليّ: لكونه أوّليّ الصدق، أو لأنّه أوّل مراتب الحمل. ويسمّى بالذاتيّ؛ لأنّه جار على الذاتيّات.

والقسم الثاني: هو الحمل الشائع الصناعيّ، وهو أن يكون الموضوع والمحمول متّحدين خارجاً، وإن كانا متغايرين مفهوماً، كحمل النوع على الفرد في قولك (زيد إنسان)، فإنّهما وإن كانا متّحدين في الخارج، إلّا أنّ مفهوم (زيد) الذي هو الجزئيّ، مختلف عن مفهوم (الإنسان)،

ص: 215

الذي هو الكلّي. وتسمية هذا القسم ﺑ (الحمل الشائع): لشيوعه في الصناعات والعلوم. وقد يسمّى ﺑ (الحمل العرضيّ) لكون مناط هذا الحمل هو الاتّحاد في الوجود فقط.

وإذا عرفت ذلك: فهل مناط عدم صحّة السلب، الذي هو عين صحّة الحمل، يأتي في كلا القسمين أم لا؟ قد يقال: إنّه، وبعد أن ثبت أنّ حقيقة الوضع عبارة عن جعل الهوهويّة بين اللّفظ والمعنى، أي: جعل اللّفظ وجوداً ادّعائيّاً للمعنى، فصحّة سلب اللّفظ عن معنىً مع قبول ذلك الادّعاء، علامة على أنّه ليس هناك ادّعاء وتنزيل في البين.

وأمّا عدم صحّة السلب - أي: صحّة الحمل والجري - إذا كان بالحمل الأوّليّ الذاتيّ فيمكن أن يقال: بأنه علامة كون اللّفظ حقيقةً في ذلك المعنى، وإن كان لا يخلو عن نظر أيضاً؛ لأنّ اللّفظ لم يجعل وجوداً تنزيليّاً لذلك المعنى التفصيليّ، بلالعلاقة والارتباط جعل بينه وبين الصورة البسيطة من ذلك المعنى، لا الصورة التحليليّة العقليّة المسمّاة بالحدّ التامّ مثلاً.

وأمّا إذا كان بالحمل الشائع الصناعيّ، فلا يدلّ على أزيد من اتّحاد وجوديّ بينهما.

وبعبارة اُخرى: لا يدلّ إلّا على أنّ اللّفظ الحاكي عمّا هو الموضوع مع اللّفظ الحاكي عن المحمول - بما لهما من المفهوم - متّحدان وجوداً،

ص: 216

سواء كانا كلّيّين أو مختلفين.

نعم، إذا كان الموضوع فرداً و مصداقاً ذاتيّاً للمحمول، كقولنا: (زيد إنسان) يدلّ على أنّ المحمول تمام حقيقة الموضوع وماهيته. وهذا أيضاً شي ء يعلم من الخارج، لا من ناحية صرف الحمل، فظهر ممّا ذكرنا: أنّ الحمل الشائع لا أماريّة له، لا على الحقيقة ولا على المجاز.

وإنّما قلنا: بلا فرق بين أن يكون المجاز في الكلمة أو الإسناد؛ لأنّه لو فرض أنّ الرجل الشجاع فرد حقيقيّ ادّعائيّ للأسد، وأنّ المجاز في الإسناد والأمر العقلي، فصحّة السلب تكشف عن أنّ الرجل الشجاع معنى مجازيّ للأسد، وإن كان حقيقةً ادّعائيّةً عند السكّاكيّ(1).

ولكن مع ذلك كلّه، فإنّ إشكال الدور قد يأتي هنا أيضاً؛ لأنّ عدم صحّة السلب وصحّة الحمل تتوقّف على العلم بالوضع، فلو كان العلم بالوضع موقوفاً على عدم صحّة السلب لدار.

والجواب عن الدور بالإجمال والتفصيل هنا يرد عليه نفس ما ورد في التبادر، كما سبق.

وأمّا اُستاذنا الأعظم(قدس سره) فقد قال:«إنّ صحّة شي ء من ذينك الحملين لا تكون علامةً للحقيقة، ولا يثبت بهما المعنى الحقيقيّ. وتفصيل ذلك: أنّ الحمل الذاتيّ لا يكشف إلّا

ص: 217


1- انظر: شرح المختصر: 108.

عن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتاً، ومغايرتهما اعتباراً، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وأنّه حقيقيّ أو مجازيّ. مثلاً: حمل (الحيوان الناطق) على (الإنسان) لا يدلّ إلّا على اتّحاد معنييهما حقيقةً، ولا نظر فيه إلى أنّ استعمال لفظ (الإنسان) فيما اُريد به حقيقيّ أو مجازيّ، ومن الظاهر: أنّ مجرّد الاستعمال لا يكون دليلاً على الحقيقة.

و على الجملة: فصحّة الحمل الذاتيّ بما هو، لا يكشف إلّا عن اتّحاد المعنيين ذاتاً، وأمّا أنّ استعمال اللّفظ في القضيّة استعمال حقيقيّ، فهو أمر آخر أجنبيّ عن صحّة الحمل وعدمها. نعم، بناءً على أنّ الأصل في كلّ استعمال أن يكون حقيقيّاً، كما نسب إلى السيّد المرتضى(قدس سره) يمكن إثبات الحقيقة، إلّا أنّه لم يثبت في نفسه، كما ذكرناه غير مرّة. على أنّه لو ثبت، فهو أجنبيّ عن صحّة الحمل وعدمها.

وبكلمة اُخرى: إنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول، فمع اتّحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل، وإلّا فلا، وأمّا الحقيقة والمجاز، فهما يرجعان إلى عالم اللّفظ والدالّ، وبين الأمرين مسافة بعيدة»(1).

وملخّصه: أنّ صحّة الحمل بنوعيه: الأوّليّ الذاتيّ والشائع الصناعيّ لا تدلّ على الحقيقة والوضع.

ص: 218


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 116- 117.

بيان ذلك: أنّ الحمل الأوّليّ لا يكشف إلّا عن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتاً، ولا نظر في ذلك في حال الاستعمال إلى كونه حقيقيّاً أو مجازيّاً، فقولنا: (الحيوان الناطق إنسان) لا يدلّ إلّا على اتّحاد معنييهما حقيقةً.وأمّا أنّ استعمال لفظ الإنسان فيما اُريد به حقيقيّ أو مجازيّ، فهو أجنبيّ عن مفاد الحمل، فلا يدلّ على الوضع، وهكذا الحال في الحمل الشائع، فإنّه لا يكشف إلّا عن اتّحاد الموضوع والمحمول وجوداً، بلا نظر إلى حال استعمال المحمول فيما اُريد وأنّه حقيقيّ أو مجازيّ. وظاهر أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز.

وفي الحقيقة: فإنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول، فمع اتّحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل، وإلّا، فلا، وأمّا الحقيقة والمجاز، فهما يرجعان إلى عالم اللّفظ والدالّ. وبين الأمرين مسافة بعيدة، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره) بعد أن أشار إلى حمل اللّفظ بما له من المعنى الارتكازيّ بلا قرينة، ذكر:

أنّ التحقيق يقتضي جعل نفس الحمل والسلب علامةً للحقيقة والمجاز فيما كان النظر إلى صحّة الحمل وعدمها عند العرف، لا جعل صحّة الحمل وصحّة السلب علامةً للحقيقة والمجاز، لأنّ العلم بصحّة الحمل يحتاج إلى سبب آخر، من تنصيص أهل اللّسان أو التبادر أو

ص: 219

نحوهما، فيخرج عن كونه علامةً ابتدائيّةً مستقلّةً، بخلاف نفس الحمل والسلب، فإنّه بنفسه علامة الاتّحاد والمغايرة من دون توقّف على أمر آخر.

العلامة الثالثة: الاطّراد

قد ذكروا: أنّ الاطّراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز، ومعنى الاطّراد هو: كون الاستعمال مطّرداً في جميع الموارد، كاستعمال الكلّيّ في الفرد باعتبار أنّه مصداق لذلك الكلّيّ، كلفظة (الإنسان) المستعملة في (زيد) باعتبار أنّه فرد ومصداق للحيوان الناطق، فإنّ هذا المعنى مطّرد في جميع الموارد، فإذا جاز استعمال لفظ (الإنسان)في كلّ ما هو مصداق للحيوان الناطق باعتبار أنّه فرد له، يستكشف من هذا الاطّراد أنّ بين اللّفظ والمعنى علاقةً وارتباطاً، وتلك العلاقة لا تحصل إلّا بالوضع.

وبعبارة اُخرى: فإذا صحّ الإطلاق على نحو الاطّراد، كشف عن كونه من المعاني الحقيقيّة؛ لأنّ صحّة هذا الاستعمال وإطلاقه على نحو الاطّراد يكشف عن المعلوليّة لعلّة ما، وتلك العلّة: إمّا أن تكون هي الوضع أو العلاقة، وحيث لا اطّراد لأنواع العلائق المصحّحة للتجوّز، كما في استعمال لفظة (الأسد) في (زيد الشجاع) باعتبار المشابهة في الشجاعة، فإنّه ليس مطّرداً لكلّ ما يشابهه في الشجاعة؛ إذ لا يصحّ استعماله في (الهرّ الشجاع) مثلاً.

ص: 220

ومن هنا نستكشف أنّ لفظة (الأسد) ليس موضوعاً لكلّ ما يشبه الحيوان المفترس؛ بخلاف ما لو كان هناك اطّراد، فإنّه يعلم أنّ ذلك لم يكن مستنداً إلى العلاقة المصحّحة للتجوّز، وبالتالي: فلا مجال إلّا أن يكون الاستناد إلى الوضع، وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلّة، وهو المطلوب.

ولكن نوقش فيه: بأنّ الاطّراد ليس لازماً مساوياً للوضع حتّى يكون علامةً للحقيقة والوضع، وإنّما هو لازم أعمّ، فلا يكون الاطّراد دليلاً عليه، لعدم دلالة العامّ على الخاصّ؛ ووجه أعمّيّته هو: وجود الاطّراد في المجاز أيضاً، حيث إنّ علاقة المشابهة في أظهر الأوصاف - كشجاعة الأسد مثلاً - توجب جواز استعمال لفظ (الأسد) في كلّ مورد وجد فيه علاقة المشابهة، فالاطّراد حينئذ بلحاظ كلّ واحدة من العلائق الموجودة حاصل، مع أنّ استعمال اللّفظ في المعاني بلحاظ تلك العلائق مجاز. وعليه: فاطّراد الاستعمال أعمّ من أن يكون على نحو الحقيقة.

وقد أُجيب عن هذا: بأنّ الاطّراد في المجازات إنّما يكون بلحاظ أشخاص هذه العلائق، أي: خصوص العلائق المصحّحة للاستعمال، لا كلّ علاقة ولو لم تكنمصحّحةً له، كاستعمال (الأسد) في الرجل الشجاع؛ فإنّ استعماله هذا وإن كان مطّرداً، إلّا أنّ اطّراده إنّما هو باعتبار شخص هذه العلاقة الخاصّة المصحّحة للتجوّز التي هي موجودة بينه وبين الأسد خصوصاً، ولذا نرى عدم جواز استعماله في النملة الشجاعة

ص: 221

- مثلاً - مع أنّ نوع العلاقة موجود فيها أيضاً.

وهذا بخلاف الاطّراد في الحقائق، فإنّه يكون باعتبار أنواع العلائق، لا أشخاصها، فكلّ فرد فيه الحيوانيّة والناطقيّة يصحّ إطلاق لفظ (الإنسان) عليه، وكذا لفظ (العالم) مثلاً، فإنّه بلحاظ وضعه يصحّ ويطّرد استعماله فيشمل كلّ فرد اتّصف بالإدراك وكانت له صفة العلم، من دون خصوصيّة لمن استعمل فيه، فيطرد استعماله في زيد العالم وعمرو العالم وبكر العالم، وغيرهم من الذوات المتّصفة بالإدراك.

وقد أُجيب عن الإشكال المزبور - أي: الإشكال بوجود الاطّراد في المجاز أيضاً : - بأنّ تقييد الاطّراد بكونه من غير تأويل أو على وجه الحقيقة أو بدون الادّعاء يوجب اختصاص الاطّراد الذي هو أمارة على الوضع بالحقيقة.

هذا. ولكنّ هذا القيد، وإن كان موجباً لاختصاص الاطّراد بالمعنى الحقيقيّ، لكنّه مستلزم للدّور؛ لأنّ الاطّراد على هذا الوجه موقوف على معرفة الموضوع له، والمفروض توقّف هذه المعرفة على الاطّراد، حيث إنّه علامة الوضع.

والجواب عنه بالإجمال والتفصيل لا يتأتّى هنا، لأنّه لا سبيل للجاهل إلى إحراز كون الاطّراد عند العالم لأجل الوضع وعلى وجه الحقيقة، والمفروض: أنّ علاميّته على الحقيقة منوطة بكون الاستعمال على سبيل الحقيقة، ومع العلم بكونه على هذا الوجه، لا يكون الاطّراد علامةً، لأنّه

ص: 222

تحصيل للحاصل.وبالجملة: فبعدما اُخذت معرفة الحقيقة في أصل الدليل والعلامة على الحقيقة والوضع، فلابدّ من حصولها تفصيلاً، وحصول الالتفات إليها يعلم بحصول الدليل والعلم بها إلى مدلولها.

وأمّا العلم الارتكازيّ الإجماليّ فهو لا يجدي في التوصّل إلى المطلوب، إذ لايعلم به ثبوت العلامة والدليل.

ولكنّ الاُستاذ الأعظم(قدس سره) أثبت كاشفيّة الاطّراد عن الحقيقة - في الجملة - ولكن بمعنىً آخر. قال):

«والذي ينبغي أن يقال في المقام: هو أنّ الاطراد الكاشف عن الحقيقة في الجملة عبارة عن استعمال لفظ خاصّ في معنىً مخصوص في موارد مختلفة بمحمولات عديدة، مع إلغاء جميع ما يحتمل أن يكون قرينةً على إرادة المجاز، فهذا طريقة عمليّة لتعليم اللّغات الأجنبيّة، واستكشاف حقائقها العرفيّة.

توضيح ذلك: هو أنّ من جاء من بلد إلى بلد آخر لا يعرف لغاتهم، إذا تصدّى لتعليم اللّغة السائرة في هذا البلد، رأى أنّ أهل البلد يطلقون لفظاً ويريدون به معنىً، ويطلقون لفظاً آخر ويريدون به معنىً آخر، وهكذا... ولكنّه لا يعلم أنّ هذه الإطلاقات من الإطلاقات الحقيقيّة أو المجازيّة، فإذا رأى أنّهم يطلقون هذه الألفاظ ويريدون بها تلك المعاني في جميع الموارد، حصل له العلم بأنّها معان حقيقيّة؛ لأنّ جواز الاستعمال معلول

ص: 223

لأحد أمرين: إمّا الوضع، أو القرينة، وحيث فرض انتفاء القرينة من جهة الاطّراد، فلا محالة: يكون مستنداً إلى الوضع، مثلاً: إذا رأى أحد أنّ العرب يستعملون لفظ (الماء) في معناه المعهود، ولكنّه شكّ في أنّه من المعاني الحقيقيّة، أو من المعاني المجازيّة، فمن إلغاء ما يحتمل أن يكون قرينةً من جهةالاطّراد علم بأنّه من المعاني الحقيقيّة، ولا يكون فهمه منه مستنداً إلى قرينة حاليّة أو مقاليّة.

وبهذه الطريقة - غالباً - يتعلّم الأطفال والصبيان اللّغات والألفاظ. فقد تحصّل من ذلك: أنّ الاطّراد بهذا التفسير الذي ذكرناه علامة لإثبات الحقيقة، بل أنّ هذا هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالباً، فإنّ تصريح الواضع، وإن كان يعلم به الحقيقة، إلّا أنّه نادر جدّاً، وأمّا التبادر: فهو وإن كان يثبت به الوضع كما عرفت، إلّا أنّه لا بدّ من أن يستند إلى العلم بالوضع، إمّا من جهة تصريح الواضع، أو من جهة الاطّراد، والأوّل نادر، فيستند إلى الثاني لا محالة»(1).

وفي كلامه هذا(قدس سره) مواقع للنظر:

أوّلاً: كيف له أن يتمكّن من معرفة أنّ العرب تستعمله بدون قرينة لو لم يعلم ذلك بالوضع؟(قدس سره) وثانياً: أنّ المجاز المشهور - هو أيضاً - يستعمل بدون قرينة، فينبغي أن يقال - حينئذ - بأنّه حقيقة، وهو كما ترى.

ص: 224


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 124.

وثالثاً: إنّ التبادر حجّة في إثبات الوضع والحقيقة بذاته، لا من جهة تصريح الواضع ولا الاطّراد؛ لأنّ تصريح الواضع، لو كان، فلا نحتاج معه إلى التبادر، على أنّه ليس هناك من واضع خاصّ - كما ذكرنا -، وأمّا أهل اللّغة فهم إنّما يبيّنون مواضع الاستعمال، وليسوا - غالباً - بصدد تبيان المعنى الحقيقيّ.

ثمّ إنّ الاُستاذ الأعظم) في بيان كون الاطّراد من علامات الحقيقة ذكر: أنّ إطلاق لفظ باعتبار معنىً كلّيّ على فرد من الأفراد، مع القطع بعدم كون ذلك الفرد من حيث الفرديّة معنى حقيقيّاً له، إن كان مطّرداً كشف عن كونه من المعاني الحقيقيّة، وإن لميكن مطّرداً كشف عن كونه من المعاني المجازيّة، وذلك كإطلاق لفظ (الأسد) على كلّ فرد من أفراد الحيوان المفترس، مع العلم بعدم كون الفرد بخصوصه من المعاني الحقيقيّة، لمّا كان مطّرداً، فيكشف ذلك عن أنّ (الحيوان المفترس) معنىً حقيقيّ له.

وأمّا إطلاقه على كلّ فرد من أفراد الشجاع، فلمّا لم يكن مطّرداً، فإنّه يصحّ باعتبار هذا المفهوم الكلّيّ إطلاقه على الإنسان، وعلى جملة من الحيوانات، إلّا أنّه لا يصحّ إطلاقه على كلّ فرد فرد من الحيوان، ﻛ (النملة الشجاعة) - مثلاً -، كشف ذلك عن كونه من المعاني المجازيّة(1).

ص: 225


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 1: 122.

وقد أجاب هو(قدس سره) عن هذا(1):

بأنّ انطباق الكلّيّ على أفراده أمر عقليّ وأجنبيّ عن الاستعمال بالكلّيّة، فلا يمكن أن يكون المعنى كلّيّاً ومع ذلك لا يصدق على تمام أفراده ولا يصحّ إطلاقه على جميع مصاديقه.

وأمّا عدم صدق بعض المفاهيم على جميع الأفراد في بعض الموارد فإنّما هو لضيق دائرة هذا المفهوم من ناحية تخصّصه بخصوصيّة ما عرفاً. وبما أنّ المفهوم ضيّق فهو لا ينطبق إلّا على أفراد تلك الحصّة الخاصّة، دون غيرها، فإنّ سعة الانطباق وضيقه يدور مدار سعة المفهوم وضيقه.

فمثلاً: إذا لاحظنا مفهوم (الإنسان) بما له من السعة والإطلاق، نجد أنّه - لا محالة - ينطبق على كلّ فرد فرد، من دون تخصيص في البين. ولكن، إذا لاحظناه بما لهمن الخصوصيّة، أي: لاحظنا الحصّة الخاصّة ﻛ (الإنسان العالم)، فإنّه حينئذ لا ينطبق إلّا على أفراد تلك الحصّة.

فعدم الاطّراد بهذا المعنى، أو الاطّراد مشترك فيه بين المعنيين: الحقيقيّ والمجازيّ، ولذا نرى عدم اطّراد (الأسد) على مفهوم الشجاع، لأنّه قد اُريد منه الحصّة الخاصّة.

فمعنى الاطّراد - إذاً - هو استعمال اللّفظ الخاصّ في معنى مخصوص في موارد مختلفة مع إلغاء جميع ما هو محتمل للقرينيّة على إرادة المجاز؛

ص: 226


1- المصدر السابق 1: 122- 123.

إذ إنّ هذه الإطلاقات في جميع الموارد تكون لعلّة ما، وهي: إمّا القرينة، والمفروض انتفاؤها، وإمّا من جهة الاطّراد، فكانت العلّة هي الوضع.

وإذا عرفت ذلك: فإذا فرضنا أنّنا لم نصل إلى معرفة الوضع والحقيقة لا بالتبادر ولا بغيره من هذه العلائم المذكورة، فبأيّ شيء يمكن معرفة المعنى الحقيقيّ؟(قدس سره) أبتنصيص من الواضع؟ والحال أنّه غير موجود؛ لأنّ عمل الواضع مقصور على بيان موارد الاستعمالات، وليس من شأنه التعرّض لبيان المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازيّ.

نعم، لو نصّ الواضع في بعض الموارد على أنّ اللّفظ الفلانيّ حقيقة في معنى الفلانيّ، وحصل من قوله هذا العلم بالوضع، فهو، وإلّا، فليس هناك دليل على حجّيّة قوله.

قد يقال: بأنّ المعرفة منحصرة بأن يكون تبادر المعنى من اللّفظ عند العالمين.

وفيه - مضافاً إلى ما ذكرنا سابقاً وعلى فرض التنزّل -: أنّ التبادر لا بدّ وأن يحصل من حاقّ اللّفظ ونفس الوضع ومن دون القرينة، وإحرازه كذلك في غاية الإشكال.

وأمّا الثمرة من هذا البحث فقد يقال فيها

إنّها عبارة عن ظهور الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة، كلفظ (الظاهر) و(الباطن) و(الصعيد) - وغيرها ممّا اُخذ موضوعاً للأحكام -

ص: 227

الشرعيّة في معانيها مع العلم بالأوضاع، فتحمل الألفاظ عليها، وتكون معاني هذه الألفاظ معلومةً ولا إجمال فيها، وأمّا مع الجهل بها، فينسدّ باب الاستنباط.

ولكنّ هذا الكلام غير تامّ؛ وذلك لأنّ لبعض هذه الألفاظ قدراً متيقّناً، كلفظ (الصعيد)، فإنّ القدر المتيقّن من معنى هذا اللّفظ هو (التراب الخالص)، فيحمل عليه، ويجري الأصل في المشكوك فيه؛ وأمّا بعضها الآخر، فيمكن معرفة معانيها من خلال القرائن.

وعليه: فلا حاجة إلى معرفة المعنى الحقيقيّ والعلم بالوضع، ومعه: فلا ثمرة لهذا البحث أصلاً.

ص: 228

الفصل التاسع: في تعارض الأحوال

أي: التعارض بين التجوّز والاشتراك والتخصيص والنقل والإضمار والاستخدام، فتارةً يقع التعارض بين الحمل على أحد هذه الوجوه وبين المعنى الحقيقيّ.وينبغي أن يعلم هنا: أنّا إنّما عبّرنا بهذا التعبير تبعاً لبعض المحقّقين من السلف قدس سره تبرّكاً بالتبعيّة لهم، وإلّا، فإنّ الاشتراك والنقل من الحقيقة وليسا بمجاز، بل التخصيص أيضاً - بناءً على المسلك المختار - لا يوجب التجوّز كي يصبح مقابلاً للحقيقة، فجعل الحقيقة في قبال هذه الوجوه لا وجه له إلّا أن يكون مسامحة.

وكيفما كان، فلو فرضنا عدم وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ، ولكن دار الأمر بين الحمل عليه والحمل على إرادة أحد هذه الوجوه التي هي على خلاف المعنى الحقيقيّ، فالأصل هو الحمل على المعنى الحقيقيّ، إذ إنّ مقتضى الأصل عدم التجوّز عند احتماله، وعدم

ص: 229

وضع آخر في عرض الأوّل، وعدم الاشتراك، وهكذا...

وأمّا إذا دار الأمر بين هذه الوجوه فيما بينها، فجميع ما ذكروه من المرجّحات - من قبيل: ترجيحهم المجاز على الاشتراك بدعوى كثرته واتّساع بابه، ولأنّ القول بالمجاز فيه مراعاة جانب الفصاحة والبلاغة، وغير ذلك من الاستحسانات - لا دليل على حجيّتها.

وبالجملة: فالمتّبع هنا هو الظهورات العرفيّة، لأنّها هي ما قامت عليه السيرة العقلائيّة.

وأمّا مع عدم انعقاد الظهور فإنّ اللّفظ يصبح مجملاً.

ص: 230

الفصل العاشر: الحقيقة الشرعيّة

اشارة

وقبل الدخول في صميم البحث ينبغي بيان اُمور:

الأمر الأوّل: هل قام الشارع بنقل الألفاظ من معانيها اللّغويّة إلى معانيها الشرعيّة ووضعها لتلك المعاني حتّى تثبت الحقيقة الشرعيّة؟(قدس سره) أم أنّه لم ينقلها، وإنّما استعمل الألفاظ في المعاني الشرعيّة بنحو المجاز وأقام عليه القرينة، فالحقيقة الشرعيّة غير ثابتة، ولفظ (الصلاة) - مثلاً - موضوع للدّعاء لغةً، والشارع عندما استعمله في الأركان المخصوصة استعمله فيه بالقرينة؟(قدس سره) والأمر الثاني: الوضع قسمان: تعيينيّ وتعيّنيّ.

فهل الوضع الثابت - على القول بالنقل وثبوت الحقيقة الشرعيّة - وضع بالمعنى الأوّل أم الثاني؟(قدس سره) الظاهر الثاني.

والأمر الثالث: في الأقوال الواردة في هذه المسألة وقد ذكروا فيها أقوالاً ستّة:

ص: 231

القول الأوّل: الثبوت مطلقاً، بلا فرق بين العبادات والمعاملات، وكذا بين الألفاظ الكثيرة الدوران وغيرها، وبين الألفاظ المتداولة في عصر النبيّ- وغيرها.

والثاني: العدم مطلقاً.

والثالث: الفرق بين الألفاظ الكثيرة الدوران، كالصلاة والصوم وغيرها، بالثبوت في الاُولى دون الثانية.

والرابع: الفرق بين ألفاظ العبادات والمعاملات، بثبوتها في الاُولى دون الثانية.

والخامس: التفصيل بين الألفاظ المتداولة في عصر النبيّ- وبين عصر الصادقين'، بالنفي في الاُولى والثبوت في الثانية.

والسادس: التفصيل بين الألفاظ الكثيرة الدوران في زمان الشارع وما بعده من عصر الصادقين' وما بعده من سائر الأعصار.ولكنّ هذا القول يجب ألّا يعدّ من أقوال ثبوت الحقيقة الشرعيّة؛ لأنّه لو فرض ثبوتها بعد عصر النبيّ- والأئمّة( ف-أيّة ثم-رة تترتّب علي-ه؟(قدس سره) وأنّى للاستعم-ال بع-د عصوره-م( أن يصب-ح حقيقةً شرعيّة؟(قدس سره) وبخروجه عن الحقيقة الشرعيّة يخرج عن أصل هذا البحث، كما لا يخفى، وبخروجه، فلابدّ من إخراج القول الخامس عن البحث أيضاً.

والأمر الرابع: ما هو المراد من الحقيقة الشرعيّة؟ المراد منها: أنّ الشارع وضع أسماءً خاصّةً لمعان شرعيّة، بلا فرق

ص: 232

بين أن تكون تلك المعاني مخترعةً من نفس الشارع أم كانت موجودة قبل شرعنا.

وبلا فرق في ذلك بين ألفاظ العبادات والمعاملات، فلو فرض أنّ هناك اُموراً عرفيّةً كانت موجودةً منذ الشرائع السابقة وقد أمضاها الشارع في شرعنا، فإنّ هذا يمكن القول بدخوله في الحقيقة الشرعيّة هو أيضاً؛ إذ يجوز أن يكون الشارع قد اصطلح عليه في شرعنا باصطلاح خاصّ، وأن يكون قد سمّاه بتسمية خاصّة، فحينئذ: يكون من الحقيقة الشرعيّة عنده.

نعم، إنّما تخرج المسألة عن محلّ البحث فيما إذا كان الشارع قد أمضى التسمية أيضاً.

وبهذا ظهر: ما فيما ذكره بعض المحقّقين - كصاحب الكفاية(قدس سره) - من أنّ النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه إنّما يجري بناءً على كون المعاني الشرعيّة مستحدثةً في شرعنا، وأمّا بناءً على وجودها في الشرائع السابقة - كما هو مقتضى غير واحدة من الآيات الشريفة - فلا مجال للنزاع في ثبوتها فيها.

وفيما يلي نصّ كلامه(قدس سره):«هذا كلّه. بناءً على كون معانيها مستحدثةً في شرعنا. وأمّا بناءً على كونها ثابتةً في الشرائع السابقة، كما هو قضيّة غير واحد من الآيات، مثل قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِيِنَ

ص: 233

مِنْ قَبْلِكُمْ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَأَذِّنَ فِي النّاسِ بِٱلْحَجِّ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿وَأَوْصَانِ-ي بِٱلْصّلَاةِ وَالزّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً﴾(3)، إلى غير ذلك... فألفاظها حقائق لغويّة، لا شرعيّة. واختلاف الشرائع فيها جزءاً وشرطاً لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهيّة، إذ لعلّه كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحقّقات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى»(4).

فقد عرفت ممّا ذكرناه: أنّ الشارع وإن كان قد أمضى تلك الحقائق، إلّا أنّه يمكنه أن يصطلح عليها ويسمّيها بنفسه بتسمية خاصّة، وحينئذ أيضاً يأتي هذا البحث.

ومجرّد ورودها في القرآن المجيد أو وجود حقائقها في الشرائع السابقة، لا يكون دليلاً على أنّها مسمّيات لنفس هذه الأسماء، بل لعلّها كانت مسمّاةً بأسماء اُخرى، بل إنّ مجرّد ثبوتها في الشرائع السابقة لا يثبت به الحقائق اللّغويّة، فضلاً عن الشرعيّة، بل ثبوتها متوقّف على أمرين:

الأوّل: ثبوت تلك الماهيّات في الشرائع السابقة.

ص: 234


1- البقرة: 183.
2- الحجّ: 27.
3- مريم: 31.
4- كفاية الاُصول: 21- 22.

والثاني: تسميتها بهذه الأسماء أنفسها.

والأمر الخامس: أنّ الوضع - كما عرفت آنفاً - على قسمين: تعيينيّ وتعيّني.والأوّل - أيضاً - على قسمين؛ لأنّ الوضع تارةً يتحقّق بتصريح من الواضع بإنشائه، كما إذا قال: وضعت اللّفظ الكذائيّ للمعنى الفلانيّ. وتارةً يتحقّق بنفس استعمال لفظ في معنى يقصد الوضع له والحكاية عنه، فبنفس هذا الاستعمال يحصل الوضع، كما إذا قال لولده - الذي لم يعيّن له اسماً من قبل -: ناولني ولدي هذا زيداً، قاصداً بذلك تسمية ولده بهذا الاسم. فإنّه بنفس الاستعمال عيّن له الاسم، وقبل الاستعمال لايكون المستعمل فيه موضوعاً له، وإنّما يصير المعنى حقيقيّاً لهذا اللّفظ بنفس الاستعمال.

قد يقال: إنّه لا يكون هذا من الاستعمال في المعنى الحقيقيّ؛ لأنّه لا بدّ فيه من أن يكون الوضع سابقاً على الاستعمال، ولا في المعنى المجازيّ؛ لأنّه وإن كان توفّر على القرينة، إلّا أنّها ليست للدّلالة على المعنى المجازيّ حتى تكون صارفةً عن المعنى الحقيقيّ، بل إنّما هي للدلالة على قصد الوضع بهذا الاستعمال.

ومن هنا يتّضح الجواب المنقول عن المحقّق النائينيّ) في المقام(1)،

ص: 235


1- نقله عنه في تقريرات بحث السّيّد الشاهروديّ(قدس سره) : 65.

وملخّصه: أنّ الاستعمال عبارة عن جعل اللّفظ فانياً في معناه، ومن المعلوم: أنّ إضافة المعنى إلى اللّفظ بحيث ينسب إليه - حيث يقال: إنّ هذا المعنى هو معنى ذلك اللّفظ - منوطة بحصول العلقة بين اللّفظ والمعنى الناشئة عن الوضع، فلابدّ في صحّة الاستعمال من تقدّم الوضع عليه، وإذا كان الاستعمال متأخّراً عن الوضع فكيف يتحقّق به الوضع؟(قدس سره) وأمّا ادّعاء الوضع التعيينيّ بالمعنى الأوّل فهو مشكل؛ لأنّه لو كان مثل هذا الوضع من قبل الشارع لشاع وظهر لنا، فإنّه ليس من الاُمور التي تخضع لدواعي الإخفاء، بلمقامنا من باب «لو كان لبان»، وليس من باب «عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود».

وأمّا بالمعنى الثاني - أي: تحقّق الوضع التعيينيّ بنفس الاستعمال - فالحقّ: أنّه غير ممكن؛ وذلك لاستلزامه الجمع بين اللّحاظين: الآليّ والاستقلاليّ؛ فإنّ الوضع يقتضي تصوّر اللّفظ ولحاظه استقلالاً لكي يتمكّن من وضعه للمعنى، وأمّا الاستعمال، فإنّ معناه وحقيقته إفناء اللّفظ في المعنى، الأمر الذي يقتضي لحاظ اللّفظ آلةً ومرآةً.

وعليه: فقصد إنشاء الوضع بنفس الاستعمال يستلزم الجمع بين اللّحاظين: الآليّ والاستقلاليّ، وهو ممتنع، كما هو ظاهر.

وقد أجاب عن هذا اُستاذنا المحقّق):

بأنّه على تقدير صحّة مثل هذا القسم من الوضع التعيينيّ ، يكون هذا الاستعمال حقيقةً، لا أنّه لا حقيقة ولا مجاز؛ لأنّه لا يشترط في تأخّر

ص: 236

الاستعمال عن الوضع التأخّر الزمانيّ، وإنّما يكفي التأخّر الرتبيّ، كما هو الشأن في باب العلّة والمعلول.

ثمّ قال(قدس سره): «وبمثل هذا البيان صحّحنا إحدى المقدّمات المهمّة في باب الترتّب، وقلنا: إنّ فعليّة الأمر بالأهمّ وامتثاله وعصيانه مع فعليّة الأمر بالمهمّ وامتثاله وعصيانه، كلّ هذه الستّة في زمان واحد، مع أنّ المفروض أنّ عصيان الأمر بالأهمّ من مقدّمات فعليّة الأمر بالمهمّ وموضوع له وداخل في سلسلة علله»(1).

وأمّا إشكال الجمع بين اللّحاظين فقد أجاب عنه المحقّق العراقيّ(قدس سره): بأنّ الملحوظ باللّحاظ الاستقلاليّ في مقام الوضع هو طبيعيّ اللّفظ وهو الملتفت إليه، كما هو واضح، وأمّا الملحوظ باللّحاظ الآليّ في مقام الاستعمال فهو شخص اللّفظالمستعمل، وعليه: فلا يلزم من الوضع على النحو المزبور اجتماع اللّحاظين المتنافيين في موضوع واحد.

قال(قدس سره): «تتميم للمرام بإرشاد في المقام، وهو: أنّ حقيقة الوضع كما أنّه قد يتحقّق بجعل قبل الاستعمال، فقد يتحقّق بنفس استعمال لفظ في معناه بقصد حصوله.

وتوهّم أوله إلى اجتماع اللّحاظين غلط، إذ النظر المرآتيّ متوجّه إلى شخص اللّفظ والمعنى حال الاستعمال، وهما غير ملحوظين استقلالاً

ص: 237


1- منتهى الاُصول 1: 46.

حين الوضع، وما هو ملحوظ كذلك، فهو طبيعة اللّفظ وطبيعة المعنى حين وضعه، وأحدهما غير الآخر في مقام اللّحاظ، كما لا يخفى...»(1).

وفيه: أنّه لا شكّ في إمكان كون شخص اللّفظ حاكياً عن نوعه، ومعلوم: أنّه لا يلزم من ذلك اجتماع اللّحاظين الآليّ والاستقلاليّ، ولكنّ هذا الكلام أجنبيّ عن محلّ بحثنا، لأنّ كلامنا هنا في استعمال اللّفظ في المعنى وفنائه فيه وإرادة ذلك المعنى، فإذا قال شخص: «ناولني ولدي محمّداً» قاصداً بذلك التسمية بهذا الاسم بنفس هذا الاستعمال، فقد اجتمع فيه اللّحاظان الآليّ والاستقلاليّ.

وقد أُجيب عن هذا(2): بأنّ اللّحاظ الآليّ تعلّق بشيء والاستقلاليّ بشيء آخر، فإنّ الوضع قد حصل قبل الاستعمال بالبناء القلبيّ، وقد جاء الاستعمال ليكون مظهراً له وكاشفاً عنه.

وبمثل ذلك قال الشيخ الأنصاريّ) - في باب الفسخ الفعليّ بالأفعال المتوقّفة على الملك -: بأنّ الفسخ يحصل بالبناء، ويكون الفعل كاشفاً عنه.وأنت ترى: أنّ هذا الكلام خارج عن محلّ البحث؛ لأنّ مفروض البحث فيما إذا حصل الوضع بنفس الاستعمال لا بشيء آخر قبله.

ص: 238


1- مقالات الاُصول 1: 67 - 68.
2- منتهى الاُصول 1: 48.

وقد ظهر ممّا ذكرنا: ما في كلام اُستاذنا المحقّق(قدس سره) «من أنّ الوضع بالمعنى الاسم المصدريّ - أي: تلك العلاقة وذلك الارتباط - من الاُمور الاعتباريّة، فلابدّ وأن يكون له سبب عرفيّ أو شرعيّ، وسببيّة البناء عندهم لذلك غير معلوم، وإلّا لو كان البناء القلبيّ عندهم سبباً لذلك، ولو باعتبار تعقّبه بذلك الاستعمال مبنيّاً على ذلك البناء، لكان هذا الوجه لتصوير الوضع التعيينيّ حسناً في نفسه، وإن كان غير مربوط بما قيل من تحقّق الوضع بنفس مثل ذلك الاستعمال»(1).

وحاصله: أنّه لو ساعد البناء العرفيّ على مثل هذا الوضع، وعلمنا أنهم في مقام تسمية أولادهم يبنون على وجود مثل هذه العلاقة في هذا النوع من الاستعمالات، فلابدّ أن يحمل على أنّ البناء القلبيّ عندهم سبب لتلك العلقة إذا كان متعقّباً بمثل ذلك الاستعمال.

وكذلك يظهر الإيراد فيما ذكره اُستاذنا الأعظم(قدس سره)، ونصّ كلامه):

«بل لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا الجمع بين الوضع والاستعمال في آن واحد، لم نسلّم استلزامه الجمع بين اللّحاظين: الآليّ والاستقلاليّ، فإنّ هذا اللّازم مبتن على مذهب المشهور في مسألة الاستعمال، حيث إنّهم يرون الألفاظ في مرحلة الاستعمال آليّات، وأمّا على المذهب الصحيح من أنّ حال الألفاظ حال المعاني في مقام الاستعمال، فكما أنّ

ص: 239


1- المصدر نفسه.

المعاني ملحوظة استقلالاً، فكذلك الألفاظ، ومن هنا يلتفت المتكلّم إلى خصوصيّات الألفاظ الصادرة منه، من كونها لغةً عربيّةً أو فارسيّةً أو غيرذلك، فلا يلزم من الجمع بين الوضع والاستعمال الجمع بين اللّحاظين: الآليّ والاستقلاليّ»(1).

وملخّص ما أفاده(قدس سره): أنّ هذا الإشكال إنّما يرد لو كانت الألفاظ في مرحلة الاستعمال ملحوظةً باللّحاظ الآليّ، كما هو مذهب المشهور، وأمّا لو قلنا: بأنّها استقلاليّة: فإنّ الألفاظ في مقام الاستعمال كالمعاني في أنّها تلاحظ استقلالاً، ولذا نرى أنّ المتكلّم في مقام التكلّم يلتفت إلى أنّ هذا اللّفظ عربيّ أو غيره.

إذ يرد عليه: أنّها في مقام الاستعمال لا تلحظ إلّا آليّةً، وتكون مثل النظر إلى المرآة، فإنّها غير ملتفت إليه غالباً، وحصول الالتفات إليها أمر نادر.

أمّا القسم الثاني - وهو الوضع التعيّني -: فهو - بدوره - يتوقّف أوّلاً على عدم وضع تلك الألفاظ بإزاء تلك المعاني قبل شرعنا، وإلّا تصبح حقائق لغويّة. وثانياً: إنّما يتمّ لو فرض عدم سبق وضع شرعيّ تعيينيّ.

وعلى أيّ حال، فلو ثبت، فهل هو بمعنى كثرة الاستعمال في خصوص لسان الشارع - أي النبيّ- -؟؟ أم يكفي كثرة الاستعمال في

ص: 240


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 128.

عصره ولو كان على لسان غيره؟ وأيضاً: فلو كان ثبوته بالمجموع من الصادر عن لسان الشارع والمتشرّعة معاً، فهل تثبت الحقيقة الشرعيّة أم المتشرعيّة؟؟ الحقّ: أنّ المراد من الحقيقة الشرعيّة هو حصولها في عصر النبيّ-، ولا يشترط في ثبوتها الحصول على لسان النبيّ- خاصّةً.

ولكن، ومع ذلك، فحصول الحقيقة الشرعيّة في عصره محلّ كلام؛ إذ غاية ما فيه هو الإمكان، والإمكان - كما لا يخفى - لا يدلّ على الوقوع. فثبوت الحقيقة الشرعيّة في خصوص لسانه- ممنوع، بل لا بدّ أن تثبت في عصره حتى يصدق عليها الحقيقةالشرعيّة، وحينئذ: فإذا ورد لفظ (الصلاة) في عصره- فيحمل على الأركان المخصوصة، لا على الدعاء.

وما قيل: من حصول التبادر، فإن اُريد منه: التبادر في عصرنا فغير مفيد، وإن اُريد: التبادر في عصر النبي- فغير ثابت، وعليه: فثبوت هذه الحقائق في عصره- ولو حصلت من كثرة الاستعمال أيضاً ممنوع.

فإن قلت: إذا ثبت تبادر الحقيقة الشرعيّة عندنا فيمكن إثباته في زمان النبيّ- عن طريق الاستصحاب القهقرى.

قلت: سلّمنا حجّيّة هذا الاستصحاب، ولكنّه معارض باستصحاب عدم النقل عن المعاني اللّغويّة.

هذا. ولكن يمكن ادّعاء ثبوت الحقيقة الشرعيّة خصوصاً في أواخر

ص: 241

عصره-، بعد استعمالها لمدّة مديدة، وذلك في الألفاظ الكثيرة الاستعمال، من أمثال لفظ (الصوم) و(الصلاة).

ثمرة هذا البحث

قد يقال: تظهر الثمرة من هذا البحث بحمل الألفاظ على المعنى المدّعى وضع الألفاظ المزبورة لها إن قلنا بثبوت الوضع والحقيقة الشرعيّة، وعدم حملها عليها، بناءً على عدمه.

ولكن قد اُجيب عن هذا: بأنّ الثمرة غير مثمرة؛ لأنّا نعلم بأنّ الشارع لم يستعمل هذه الألفاظ في شريعته إلّا في المعاني المستحدثة ولو كان استعمالها بعنوان المجاز. ولكن هذا مجرّد دعوى وثبوته يحتاج إلى دليل.وخلاصة البحث: أنّه بناءً على عدم ثبوتها يلزم حمل الألفاظ الصادرة عن المعصوم المجرّدة عن القرائن على المعاني اللّغويّة، وأمّا على القول بثبوتها فإن علم تأخّر الاستعمال عن زمان الوضع، سواء كان تعيينيّاً أم تعيّنيّاً، وجب حملها على المعاني الشرعيّة.

وأمّا إذا شك في تاريخ الاستعمال، وأنّه هل كان قبل وضع هذه الألفاظ للمعاني الشرعيّة أم بعده؟ فهل تحمل على المعاني اللّغويّة، لأصالة تأخّر الوضع عن الاستعمال، أو أصالة عدم النقل إلى زمان استعمالها؟؟ أم تحمل على المعاني الشرعيّة لأصالة تأخّر الاستعمال

ص: 242

عن الوضع ؟ فيه إشكال؛ أمّا:

أوّلاً: فلكونه من الأصل المثبت.

وأمّا ثانياً: فللتعارض، كما ذكرنا.

وأمّا إذا كان المراد من الأصل: الأصل العقلائيّ فعند الشكّ في النقل حين الاستعمال فيحمل على المعنى اللّغويّ بأصالة عدم النقل.

قد يقال: هذا الأصل لا يجري؛ لأنّ بناءهم عليه إنّما هو فيما إذا كان الشكّ في أصل النقل، وأمّا إذا علم النقل وشكّ في التقدّم والتأخّر، فلم يثبت بناؤهم عليه.

ولكنّ الظاهر: أنّه لافرق في بناء العقلاء بين الشكّ في أصل النقل وبين الشكّ في التقدّم والتأخّر. فسقوط هذا الأصل إنّما يكون لأجل المعارضة، كما ذكرنا، لا لعدم حجيّته في نفسها عند الجهل بتاريخ النقل.

ثمّ إنّهم قد ذكروا: أنّه لا ثمرة عمليّة لهذا النزاع؛ إذ لا إشكال في حمل ألفاظ النصوص الواردة عن الأئمّة( على المعاني المستحدثة، وإنّما الكلام في الألفاظ الصادرة عن النبيّ-، فهذه يؤخذ بها ويتعيّن حملها على المعاني الشرعيّة إن كان رواتها من قبل الأئمّة(.وأمّا الروايات الواردة عن لسانه- لا عن طريق الأئمّة(، فلو فرضنا جواز الأخذ بهذه الروايات، إلّا أنّها غالباً ما تكون محفوفةً بالقرائن.

نعم، تظهر الثمرة في الروايات الواردة عن لسانه الخالية عن القرينة.

وأمّا ما ذكر من الثمرة في النصوص القرآنيّة، فهي - أيضاً - غير مثمرة؛

ص: 243

لأنّ المراد من الألفاظ الموجودة في القرآن غالباً المعاني المستحدثة، لا نفس معانيها اللّغويّة.

وإن كانت هذه الألفاظ قد وردت - أحياناً - واُريد منها غير المعاني المستحدثة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنّ ٱللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلّوُنَ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿إِنّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لّهُمْ وَٱللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(2)، إلى غيرهما من الآيات.

وأمّا بالنسبة إلى المعاملات، فلا يكون هذا البحث مثمراً أيضاً؛ لأنّ ألفاظ المعاملات - من أمثال لفظ (البيع) - ليست مستعملة إلّا في نفس معانيها العرفيّة.

نعم، غاية الأمر: أنّ الشارع المقدّس قد زاد فيها قيوداً، من جهة الأسباب المحصّلة، ومعلوم أنّه ليس كلّ تغيير وتبديل يكون موجباً لحصول النقل، بل أصل معناها العرفيّ باق على حاله، والشارع لم يتصرّف في أصل المعنى، غاية ما هنالك: أنّه خطّأ العرف في جعلهم التعامل الربويّ ناقلاً، فأبطله ونهى عنه، كما نهى عن بيع المنابذة والحصاة.

وبالجملة: فهو قد خطّأ العرف في الأسباب الموجبة للنّقل والانتقال، ومعناه: أنّه ليس كلّ سبب محصّل للتبديل شرعاً وموجب للتمليك.

ص: 244


1- الأحزاب: 56.
2- التوبة: 103.

الفصل الحادي عشر: الصحيح والأعمّ

اشارة

لا يخفى: أنّه قد وقع الخلاف بينهم: في أنّ ألفاظ العبادات هل هي أسام لخصوص الصحيحة منها أو للأعمّ؟؟ وقبل الدخول في البحث لا بدّ من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في تصوير النزاع:

فنقول: النزاع هنا ليس متوقّفاً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة، وليس منحصراً على القول بها، وإن كان القدر المتيقّن من هذا البحث هو ذلك. وإلّا، فبناءً على ثبوت الحقائق العرفيّة مع إمضاء الشارع لها يأتي البحث أيضاً في أنّ ألفاظ العبادات هل استعملت في خصوص الماهيّة الصحيحة أو فيما يعمّ الفاسد منها؟ ومن هنا ظهر ما في كلام صاحب الكفاية(قدس سره) من «أنّه لا شبهة في تأتّي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة، وفي جريانه على القول

ص: 245

بالعدم إشكال»(1)، إذ لا وضع لكي يقال بأنّ الموضوع له هو الصحيح أو الأعمّ.

وكذا يرد الإشكال على ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:

«لا يخفى: أنّه لو لم يمكن تصويره على القول بعدم ثبوتها واختصاص النزاع بالقول بثبوتها، لا يكون هذا المبحث مبحثاً مستقلّاً في مقابل المبحث السابق - أعني مبحث الحقيقة الشرعيّة - بل يكون من فروعه ومترتّباً عليه؛ لأنّه نتيجة أحد القولينفي تلك المسألة، إذ لا يجري الكلام في هذه المسألة على كلا تقديري تلك المسألة. والذي ذهب إليه صاحب الكفاية عدم إمكان تصوير النزاع بنحو يوجب استقلال هذا المبحث عن سابقه، وبصورة تتناسب مع علميّة المبحث والنزاع، إذ ادّعى أنّ تصويره في غاية الإشكال»(2).

وأمّا على القول بعدمهما، وأنّ الألفاظ المزبورة مستعملة في المعاني المذكورة مجازاً، فقد استشكل البعض في عدم جريان النزاع فيها.

ولكنّ الحقّ: أنّ النزاع جارٍ هنا أيضاً؛ لأنّ المعنى الذي استعمل لفظ (الصلاة) فيه ويحمل اللّفظ عليه عند وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ، هل هو خصوص التامّ أم الأعمّ منه ومن الناقص؟

ص: 246


1- كفاية الاُصول: 23.
2- منتقى الاُصول 1: 197.

وبعبارة اُخرى: فأيّ المعنيين هو الذي اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقيّ، هل هو الصحيح من أفراد المعنى الشرعيّ أم هو الأعمّ منه ومن الفاسد؟ وكذا يأتي النزاع على ما هو منسوب إلى الباقلّاني(1)، من أنّ هذه الألفاظ قد استعملت في لسان الشارع في معانيها اللّغويّة، ولكنّه أراد المعاني الشرعيّة بنصبه للقرائن، على سبيل تعدّد الدالّ والمدلول، أي: أنّ أصل المعنى قد استفيد من هذه الألفاظ أنفسها، وعرفت إرادة الخصوصيّات من دوالّ اُخرى، وهي القرائن.

وتصوير النزاع على هذا القول بأن يقال:

إنّ هذه القرائن الدالّة على الخصوصيّات الزائدة على أصل المعنى اللّغويّ، هل اُريد بها الخصوصيّات الصحيحة أم الأعمّ منها؟أي - وبعبارة اُخرى -: فإنّ الصلاة والزكاة والحجّ ليست اُموراً مخترعة ومستحدثة، لا في شرعنا ولا في الشرائع السابقة، وإنّما هي معان لغويّة قديمة، وهي: (الدعاء) و(النموّ) و(القصد)، ونحو ذلك..

غاية الأمر: أنّ الشارع قد أضاف إليها أجزاءً وشرائط، فتلك الألفاظ مستعملة في لسان الشارع في معانيها اللّغويّة، وأمّا الأجزاء والشرائط الزائدة فهي إنّما تستفاد من قرينة مضبوطة في كلامه-.

ثمّ إنّه قد يقال: لا يجري هذا النزاع هنا؛ لأنّ مورد بحثنا هو ألفاظ

ص: 247


1- كفاية الاُصول: 23 - 24.

العبادات خاصّةً، كما يقال في عنوان هذا البحث: هل وضعت ألفاظ العبادات للصّحيح أم للأعمّ؟ ولكنّ الحقّ: أنّ النزاع غير مختصّ بالعبادات، بل هو يأتي في المعاملات أيضاً، كما فعل صاحب الكفاية) الذي عنون النزاع في باب المعاملات أيضاً(1).

بل ذكر في التقريرات أنّ هذا البحث يعمّ المعاملات أيضاً؛ إذ قال فيه ما لفظه: «هل النزاع مخصوص بألفاظ العبادات، كما هو المأخوذ في العنوان، أو يعمّ ألفاظ المعاملات؟؟ ظاهر جماعة منهم: الشهيدان، هو الثاني وارتضاه بعض الأجلّة»(2).

الأمر الثاني:

أنّ البحث يمكن أن يتصوّر بناءً على القول بعدم ثبوت الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، وأمّا إذا قلنا: بثبوت ذلك، فمعناه: أنّ الصلاة موضوعة لخصوص تامّالأجزاء والشرائط، والتي هي صلاة المختار، فالواضع حين الوضع تصوّر ذلك المعنى التامّ، وأمّا الصلوات الناقصة جزءاً أو شرطاً، وصلوات ذوي الأعذار كلّها، فهي أبدال ومسقطات لها، لا أنّها صلاة.

فلم يبقَ فرد مختلف فيه حتّى يبحث في أنّ الموضوع له هل هو الجامع

ص: 248


1- كفاية الاُصول: 34.
2- مطارح الأنظار 1: 37 - 38.

للأفراد الصحيحة خاصّة أو للأعمّ منها ومن الفاسدة؟ ولكن يرد الإشكال في أنّه: ما هو ذلك المعنى التامّ للمصلّي المختار؟ فإنّه تارةً يكون في أربع ركعات، إذا كان المصلّي حاضراً، واُخرى يكون في ركعتين، كما لو كان مسافراً... وتارةً يكون في ركعة واحدة، من دون أن تكون ناقصةً أو لذوي الأعذار، كصلاة الوتر، فإنّها تامّة في الركعة الواحدة للمصلّي المختار.

وظاهر: أنّه لا يمكن تصوير الجامع بين اﻟ (بشرط شيء) واﻟ (بشرط لا) - والأوّل كصلاة الرباعيّة، والثاني كصلاة الثنائيّة - إلّا بالجامع الذي فرضه المحقّق الخراساني(قدس سره) وهو: «معراج المؤمن»، ونحوه(1).

هذا مع الإغماض عن الأخبار الواردة.

وأمّا الأخبار: فإنّ بعضها يجعل الأصل أربعةً، بدليل أنّه يعوّض للمسافر عن الركعتين الساقطتين بثلاثين من التسبيحات الأربعة(2). وبعضها الآخر(3) يجعل أصل الصلاة مثنى، ويقول: إنّ ما فرضه الله هو الاثنتان الأوليان، وأمّا الركعتانالأخيرتان، فهما ممّا فرضه النبيّ-، ولذا كانتا تقبلان الشكّ، بخلاف ما فرضه الله تعالى، فإنّ الشكّ يبطله.

ص: 249


1- كفاية الاُصول: 24.
2- وسائل الشيعة 8: 523، الباب 24 من أبواب صلاة المسافر، ح1 و2.
3- وسائل الشيعة 8: 188، الباب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصّلاة، ح1 و2.

الأمر الثالث: ما المراد من الصحّة؟

ما المراد من الصحّة إذا عرفنا بأنّ التقابل بين الصحّة والفساد هو تقابل العدم والملكة، لا تقابل التضادّ ولا السلب والإيجاب؟ لا يخفى: أنّ الفقهاء عرّفوا الصحّة: ﺑ (إسقاط الإعادة أو القضاء)، وعرّفها المتكلّمون بتعريف آخر، وهو: (موافقة الأمر أو الشريعة).

قال صاحب التقريرات): «قد تقدّم منّا الإشارة إلى ما هو المراد بلفظ الصحيح، ونزيد توضيحاً في المقام، فنقول: ليس المراد به ما هو المنسوب إلى الفقهاء: من أنّ الصحيح هو ما أسقط القضاء، أو إلى المتكلّمين: من أنّه ما وافق الشريعة...

إلى أن قال: بل المراد به الماهيّة الجعليّة الجامعة للأجزاء والشرائط التي لها مدخل في ترتّب ما هو الباعث على الأمر بها عليها، ويعبر عنه بالفارسيّة ﺑ «درست»، وهو معناه لغةً. وقد ذكرنا في محلّه: أنّ الفقهاء والمتكلّمين أيضاً لم يصطلحوا على إبداع معنىً جديد غير ما هو المعهود منه في اللّغة»(1). انتهى.

والصواب: أنّ الصحّة إنّما هي بمعنى التماميّة تكويناً أو تشريعاً، وليس هذا الاختلاف بين الفقهاء والمتكلّمين هنا من باب الاختلاف فيما

ص: 250


1- مطارح الأنظار 1: 45.

هو مفهوم الصحّة، بل من باب الاختلاف في الأغراض، وكلا التعبيرين من باب التفسير باللّازم؛ لأنّ كلاً من إسقاط الإعادة والقضاء وموافقة الشريعة لازم من التماميّة، وليس نفسالتماميّة، وإنّما حينما كان غرض الفقيه البحث عن أفعال المكلّفين عرّفهما بإسقاط القضاء أو الإعادة وعدم إسقاطهما.

وأمّا المتكلّمون فلمّا كان غرضهم الحديث عمّا يرجع إلى المبدأ والمعاد وأفعاله وصفاته تعالى، والتي منها أوامره ونواهيه، بحيث إنّ موافقة هذه الأوامر وامتثالها تكون سبباً لاستحقاق المثوبة، ومخالفتها سبباً لاستحقاق العقوبة، فلذلك عرّفوا الصحّة بموافقة الأمر والشريعة، والفساد بمخالفتهما.

ومعلوم أنّ الاختلاف في النظر إلى اللّازم لا يوجب اختلافاً في حقيقة الملزوم، وإلّا، فالصحّة عند الكلّ بمعنى واحد، وهو التماميّة.

ولكنّ المحقّق الأصفهاني(قدس سره) ادّعى: أنّ مثل موافقة الأمر وإسقاط الإعادة هما من مقوّمات التماميّة، حيث لا واقع للتماميّة إلّا التماميّة من حيث موافقة الأمر أو إسقاط الإعادة والقضاء أو ترتّب الأمر المطلوب.

ولا يخفى: أنّه يمتنع أن يكون الأثر من لوازم التماميّة، لأنّ ما يكون من مقوّمات الشيء لا يكون من لوازمه وآثاره، ونسبة اللّازم إلى الملزوم والأثر إلى المؤثر نسبة العلّة والمعلول، وهو خلف فرض كونه مقوّماً.

ص: 251

قال(قدس سره):

«إلّا أنّ حيثيّة إسقاط القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما ليست من لوازم التماميّة بالدقّة، بل من الحيثيّات التي يتمّ بها حقيقة التماميّة، حيث لا واقع للتماميّة إلّا التماميّة من حيث إسقاط القضاء، أو من حيث موافقة الأمر، أو من حيث ترتّب الأثر، إلى غير ذلك، واللّازم ليس من متمّمات معنى ملزومه، فتدبّر»(1).

وردّه الاُستاذ الأعظم(قدس سره) بأنّ الصحّة بمعنى التماميّة، والتماميّة على قسمين:الأوّل: أن يلاحظ بلحاظ نفسه، وهو معنى تامّ الأجزاء والشرائط.

الثاني: أن يلاحظ بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء؛ وهذه التماميّة لا واقع لها مع قطع النظر عن الآثار واللّوازم، بل كونه تامّاً في مقام الامتثال والإجزاء لا يعني به إلّا كونه مسقطاً للإعادة والقضاء وموافقاً للأمر، فقد خلط المحقّق الأصفهانيّ) بيّن تماميّة الشيء في نفسه - أي: جامعيّة الأجزاء والشرائط - وبين وتماميّته بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء، فإنّ هذه التماميّة هي - كما بيّنّا - التماميّة التي لا واقع لها مع قطع النظر عن هذه الآثار واللّوازم.

أو يمكن أن يقال: بأنّه قد خلط بين واقع التماميّة وعنوانها، فإنّ عنوان

ص: 252


1- نهاية الدراية 1: 58 - 59.

التماميّة عنوان انتزاعيّ ينتزع من الشيء بلحاظ أثره، فحيثيّة ترتّب الآثار من متمّمات حقيقة ذلك العنوان، ولا واقع له إلّا الواقعيّة من حيث ترتّب الآثار، ولكنّه خارج عن محلّ الكلام؛ فإنّ كلمة (الصلاة) - مثلاً - لم توضع بإزاء ذلك العنوان ضرورةً، بل وضعت بإزاء واقعه ومعنونه، وهو الأجزاء والشرائط، ومن الظاهر: أنّ حيثيّة ترتّب الآثار ليست من متمّمات حقيقة تماميّة هذه الأجزاء والشرائط(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ الصحّة هي بمعنى إسقاط القضاء والإعادة وموافقة الأمر، ولذا يقال: الصلاة صحيحة، أي: هي موجبة لإسقاط الإعادة والقضاء أو موافقة الأمر.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الفرق بين الصحّة والفساد وبين النقص والتمام هو أنّ التقابل هو التضادّ في الأوّل وعدم الملكة في الثاني.

وقد يقال هنا: إنّ الصحّ-ة والفس-اد م-ن الاُم-ور الإض-افيّة، فالص-لاة - مثلاً - تارةً تكون صحيحةً باعتبار اشتمالها على تمام ما لها من الأجزاء، وإن كانت فاسدةً باعتبار فقدها للشرائط، وقد يكون الأمر بالعكس، أي: فتكون صحيحةً باعتباراشتمالها على الشرائط وإن كانت فاسدةً باعتبار أنّها فاقدة للأجزاء، ومن هنا ذهب بعض إلى القول بأنّ وضع ألفاظ العبادات للصّحيح بالنسبة إلى الأجزاء، وللأعمّ بالنسبة إلى الشرائط(2).

ص: 253


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 135- 136.
2- انظر: فوائد الاُصول 1: 60.

ولكنّ الحقّ - كما ذكرنا - أنّ المراد من الصحيح هو تامّ الأجزاء والشرائط، غاية الأمر: أنّ الشرائط تكون دخيلةً في الصحّة دخول التقيّد وخروج ذات القيد.

وإذ عرفت أنّ المراد من الصحيح هو تامّ الأجزاء والشرائط فنقول: يأتي البحث هنا في أنّ المراد من الشرائط التي تكون دخيلةً في الصحّة هل هي مطلق الشرائط - التي تأتي بعد الطلب - أم لا؟ وذلك أنّ الشروط على قسمين:

أ - الشروط التي تكون ملحوظةً في مرحلة الجعل وتعيين المسمّى، كالطهارة والاستقبال والستر، وغير ذلك من الشروط التي تكون سابقةً على الطلب.

ب - الشروط التي تأتي بعد تعلّق الطلب، كقصد الأمر والوجه. وهذه، لا يمكن اعتبارها دخيلةً في الصحّة، كما لا يعقل فيها أن تكون دخيلةً في المسمّى، كيف؟ وهي متأخّرة عن المسمّى بمرتبتين، وبديهيّ: أنّه لا يمكن أخذ ما هو المتأخّر في المتقدّم.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ اختلاف حالات المكلّفين بالنسبة إلى السفر والحضر والصحّة والمرض والقدرة والعجز والخوف والأمن وغير ذلك لا يكون سبباً لاختلاف الصحّة، فالصلاة في السفر - مثلاً - ركعتان، وفي الحضر أربعة، وهي في حال الاختيار - مثلاً - مع الوضوء وعند الاضطرار مع التيمّم. والصحّة في الكلّ بمعنىً واحد.

ص: 254

ولا يخفى - أيضاً -: أنّ الاُمور المترتّبة على الأمر، من الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة، بما أنّها متقدّمة على الأمر والجعل - كما مرّ - فهي تكون دخيلةً في الصحّة.

وأمّا الاُمور المتأخّرة - كقصد الأمر والقربة وعدم المزاحم - فهي وإن كانت دخيلةً في الملاك، ولكن مع ذلك لا يمكن أخذها في المتعلّق؛ ضرورة أنّه لا يجوز أخذ ما هو المتأخّر في المتقدّم.

وأمّا ما قيل: من أنّ شرطيّة شيء لشيء، هو أن يكون الشرط خارجاً عن المشروط، غاية الأمر: أنّ المشروط إذا أراد أن يكون مؤثّراً، فإنّ تأثيره منوط بوجود الشرط وعدم المانع، فإذا قلنا: بأنّ الصلاة - مثلاً - مشروطة بالطهارة، فهذا يعني - لا محالة -: أنّ هذا الشرط خارج عن حقيقة الصلاة.

فيردّه: أنّه ليس المراد من دخل الشرط في الصحّة وفي وجود المسمّى - بناءً على قول الصحيحي - أنّها داخلة في مفهوم الصلاة، بل المراد أنّ المسمّى ليس هو ذوات الأجزاء مطلقاً وكيفما اتّفق، بل المراد أنّ هذه الأجزاء مقيّدة بوجود أو عدم شيء معه أو قبله أو بعده، على أن يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً.

الأمر الرابع: في تصوير الجامع:

اعلم أنّه لا بدّ من تصوير جامع بناءً على كلا قولي: الصحيحي والأعمّي، مثلاً نقول: بأنّ الصلاة الصحيحة على اختلاف أجزائها

ص: 255

وشرائطها كلّها أفراد للكلّيّ والجامع الواحد الذي ينطبق على كلّ أفرادها مع تباينها، ويكون هذا الجامع الكلّيّ هو الموضوع له لفظ (الصلاة)، وهو الجامع لشتات تلك الحقّائق المختلفة. وعلى القول بالأعمّ لا بدّ أن يكون كذلك أيضاً، غاية الأمر: أنّ الجامع في الأعمّ أوسع منه في الصحيح.ويمكن كشف هذا الجامع:

أوّلاً: من جهة الوجدان، بأنّا نرى بأنّ الوضع في عبادات ليس من قبيل الوضع في باب المشترك اللّفظيّ حتّى تكون هناك أوضاع متعدّدة، ولكي يكون لفظ (الصلاة) - مثلاً - موضوعاً لكلّ فرد فرد، بل المتسالم عليه بينهم أنّه من قبيل الاشتراك المعنويّ، ففي جميع الموارد يكون الموضوع له هو الكلّيّ المنطبق على أفراده، وهذا الكلّيّ والقدر الجامع هو المسمّى ﺑ (الصلاة).

وثانياً: أنّه بعد الفراغ من البحث في (الصلاة) وهل أنّها قد وضعت للصّحيح منها أو للأعمّ؟ فيقع البحث حينئذ في تعيين الموضوع له، ممّا يعني: أنّه لا بدّ من قدر جامع يكون هو الموضوع له. فإذا قلنا: بأنّ الموضوع هو الكلّيّ الذي ينطبق على الأفراد، فيكون الوضع هنا من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ومن هنا ذكرنا: أنّه لا بدّ من تصوير الجامع على كلا القولين.

وثالثاً: أنّ المستفاد من الروايات هو ترتيب الأثر الواحد على كلّ

ص: 256

فرد فرد من الصلوات الصحيحة من حيث الكمّيّة والكيفيّة، وهذا يستلزم وحدة المؤثّر، بناءً على ما قرّره أهل المعقول: من القاعدة القائلة بعدم إمكان صدور الواحد إلّا من الواحد، وأنّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد، فلا العلّة الواحدة يمكن أن يكون لها معلولات متعدّدة، ولا المعلول الواحد يمكن أن يكون له علل متعدّدة، وإلّا، لأمكن أن يكون كلّ شيء علّةً لكلّ شيء؛ لأنّ المعلولين المتباينين لابدّ وأن يكون بين علّتيهما تباين، بعدما كان بين العلّة والمعلول نوع من السنخيّة، فعلّة هذا المعلول لا يمكن أن تكون علّةً لمعلول آخر، وبما أنّ ذات الباري بسيطة من جميع الجهات، فلا يمكن أن يكون له معلولات متعدّدة، وبما أنّهم رأوا الاختلاففي الموجودات. فلذلك قالوا: بالنسبة إلى خلق العالم لابدّ من اختيار أحد المسلكين:

إمّا المسلك الأفلاطونيّ القائل بالعقل الطوليّ، فالذي يصدر من الواجب هو العقل الأوّل، الذي له وجود وماهيّة، فمن وجوده صدر العقل الثاني ومن ماهيّته الفلك الأوّل، ومن وجود العقل الثاني، العقل الثالث ومن ماهيّته الفلك الثاني، وهكذا... إلى العقل التاسع.

أو اختيار مذهب أرسطو، القائل بالعقول العرضيّة، وأنّه يصدر من الواجب العقل الأوّل، ومن جهة وجوده يحصل عقل واحد، ومن جهة كسبه ونوارانيّته يصدر العقل الثاني، وهكذا فمن جهة وجودهما يصدر عقل، ومن جهة استشراقهما عقل، كما في وضع المرآة أمام الشمس، ولو

ص: 257

وضعت مرآةً اُخرى تقابل ذلك النور أو الشمس لظهر منه نوران اثنان.

ولكنّ هاتين القاعدتين إنّما تكونان صحيحتين بالنسبة إلى الفاعل الموجب، وأمّا الفاعل المختار الذي هو قادر وفاعل للأشياء فالتمسّك بهما فيه ليس بصحيح، فإنّنا نرى الشمس - مثلاً - يخرج منها نور وحرارة، فالتمسّك بهذه القاعدة ليس بصحيح، ولا يمكن أن يكون هناك معلول واحد صدر من علل متعدّدة.

وفي المقام، بما أنّ هناك أثراً واحداً فالمؤثّر والعلّة يكون واحداً، وهو الجامع، وإلّا، فلو كان الأثر الوحدانيّ مستنداً إلى خصوصيّة كلّ فرد، للزم أن يكون هناك علل متعدّدة تؤثّر في معلول واحد، وهو ممتنع.

ولكن قد بيّنّا في محلّه أنّ مورد هذه القاعدة إنّما هو الواحد الشخصيّ، دون النوعيّ، وإن كان جريانها هناك أيضاً محلّ تأمّل.وفي مقامنا، بما أنّه من الواحد النوعيّ، فلا يضرّ أن يكون المؤثّر متعدّداً بعدما كان لهذا الأثر مراتب متفاوتة بالشدّة والضعف. نعم، لو كان الواحد شخصيّاً فإنّه يأتي هذا الإشكال الذي ذكروه.

ثمّ على فرض التنزّل والتسليم بجريان القاعدة في الواحد النوعيّ أيضاً، لكن إنّما هو فيما إذا كان المؤثّر من قبيل العلّة التامّة، لا من قبيل المعدّات، وما نحن فيه من قبيل الثاني، لا الأوّل، أي: فتصير الصلاة سبباً لكمال النفس، ممّا يجعلها بمثابة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وما إلى ذلك من الآثار...

ص: 258

ورابعاً: إنّا نرى صحّة استناد الصلاة إلى كلّ واحد من المصلّين مع اختلافهم من جهة الصنف أو الفرد، كما لو كان هناك جماعة يصلّون معاً، ولكنّ أحدهم يصلّي الظهر وآخر يصلّي العصر وثالث يصلّي للزلزلة وآخر للكسوف، وهكذا... فإنّه مع هذا، يصحّ أن تسند الصلاة إلى كلّ واحد منهم، فيقال: إنّ هؤلاء يصلّون...

وبما أنّ الثابت لدينا هو عدم جواز استعمال اللّفظ المشترك في أكثر من معنى، وحيث صحّ الإسناد إلى كلّ واحد من المصلّين، فنستكشف بذلك أنّ هناك جامعاً وسيعاً يصحّ انطباقه على كلّ واحد من الأفراد، وهو المطلوب.

وهنا إشكال معروف لصاحب التقريرات(قدس سره)(1)، وحاصله: أنّ الجامع بين الأفراد الصحيحة الذي قد وضع له لفظ الصلاة لا يكاد يكون أمراً مركّباً، لأنّه إن كان مركّباً من أجزاء خاصّة، فهذا باطل جدّاً؛ إذ ليس لنا أجزاء مخصوصة معيّنة تكون ملاكاً للصّحّة، بحيث كلّما وجدت هي صحّت الصلاة، وكلّما انتفت هي بطلت الصلاة؛ إذكلّ ما فرض جامعاً من الأجزاء كان صحيحاً في حال وفاسداً في الآخر؛ هذا إذا كان الجامع

ص: 259


1- مطارح الأنظار 1: 46 - 47، قال(قدس سره): «فذلك القدر الجامع لا يعقل أن يكون أمراً مركّباً موجوداً في تلك الماهيّات؛ لما عرفت من أنّه كلّ ما يتصوّر جامعاً فيحتمل أن يكون ذلك المركّب فاسداً وصحيحاً بالنسبة إلى موضوعين، فلا محالة: لا بدّ من أن يكون ذلك القدر الجامع أمراً بسيطاً يحصل في الواقع بواسطة تلك الأفعال المركّبة الخارجيّة، وتكون هذه المركّبات محقّقةً له إذا وقعت صحيحةً، دون ما إذا وقعت فاسدة».

مركّباً من أجزاء. فلابدّ - لذلك - من أن يكون الجامع بسيطاً.

وقد يستشكل في ذلك: بأنّ الجامع لا بدّ أن يكون انتزاعيّاً، كعنوان (الناهي عن الفحشاء والمنكر)؛ إذ لا يمكن أن يفرض جامع حقيقيّ بين ذوات تلك الحقائق المختلفة المتّصفة بالصحّة؛ لأنّه فرض الجامع الحقّيقيّ يستدعي إلقاء الخصوصيّات بين أفراد الصلاة - مثلاً - والأخذ بما هو المشترك والساري بين جميع الأفراد، والمفروض: أنّ لتلك الخصوصيّات دخلاً في الصحّة، فمثلاً: صحّة الصلاة للمختار متقوّمة بالقيام، بخلاف المريض غير المتمكّن منه.

فلو فرض كون الجامع هو الصلاة التي يكون القيام دخيلاً في موضوعها لم يمكن أن يصدق على الصلاة التي لا قيام فيها، بل المراد من الجامع: الجامع البسيط الذي يتّحد مع أفراده، ويمكن نسبته إلى كلّ فرد فرد منها.

وبعبارة اُخرى: هو الجامع الذي يتّحد مع الصلاة الواجدة لجميع الخصوصيّات والفاقدة لها على حدّ سواء.

وقد استُشكل على هذا بأنّه لو فرض أنّ الصلاة موضوعة للعنوان البسيط وكان الماُمور به هو العبادة المعنونة بهذا العنوان المعلوم، فمتعلّق التكليف معلوم، ويكون الشكّ في حصول هذا العنوان بإتيان الأقلّ، فبناءً على هذا: لا يمكن إجراء البراءة عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة؛ لرجوع هذا الشكّ هنا إلى الشكّ في السقوط، لا الشكّ في أصل الثبوت، ومعلوم: أنّ مجرى البراءة إنّما هو الشكّ في الثبوت، وأمّا

ص: 260

الشكّ في السقوط بعد الفراغ عن الثبوت فهو مجرىً لقاعدة الاشتغال.

إلّا أن نقول: بأنّ الجامع ليس نفس العنوان الانتزاعيّ، بل هو المحكيّ عنه بذلك العنوان المتّحد مع جميع الأفراد، فيرجع الشكّ في شرطيّة شيء أو جزئيّته لذلكالمركّب إلى الشكّ في نفس ذلك الكلّيّ باعتبار سعته أو ضيقه، أو فقل: إلى الشكّ في الثبوت.

ثمّ إنّه إنّما يجري الاحتياط في الشكّ في المحصّل، إذا كان المحصّل عقليّاً، وأمّا لو كان شرعيّاً فهو مجرىً للبراءة.

ثمّ يرد الإشكال على أصل هذا الكلام بأنّه إذا كان الموضوع نفس المعنون فكيف يمكن أن يتصوّر جامع بين اﻟ (بشرط شيء) واﻟ (بشرط لا)؟ وكيف له أن يكون بسيطاً؟(قدس سره) فلابدّ لذلك من بيان الأقوال في كيفيّة تصويرهم للجامع:

الأقوال في كيفيّة تصوير الجامع:

القول الأوّل:

ما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره) - تبعاً للشيخ الأنصاريّ(قدس سره)(1) -: ونصّ

ص: 261


1- مطارح الأنظار 1: 49، قال(قدس سره): «فالوجه في المقام هو الالتزام بأنّ المراد من الأجزاء والشرائط الشخصيّة منها. وأمّا ما عرفت من الإشكال على ذلك التقدير: من لزوم استعمال اللّفظ في غير المركّب الجامع للشرائط الواقعيّة الاختياريّة مجازاً، فيمكن دفعه: بأنّ المتشرّعة توسّعوا في تسميتهم إيّاها صلاة، فصارت حقيقةً عندهم، لا عند الشارع، من حيث حصول ما هو المقصود من المركّب التامّ من غيره أيضاً، كما سوّى كلّ ما هو مسكر خمراً، وإن لم يكن مأخوذاً من العنب، مع أنّ الخمر هو المأخوذ منه، وليس ذلك بالبعيد».

كلامه(قدس سره): «أنّ لفظة (الصلاة) موضوعة بإزاء الصلاة التامّة، ويكون إطلاقها على الفاسد أو الصحيح الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط بحسب اختلاف حال المكلّف بالعناية والتنزيل وادّعاء أنّها هي، إذا كان هناك مصحّح للادّعاء، بأن لا تكون فاقدةً لمعظم الأجزاء والشرائط، وإن لم يكن هناك مصحّح الادّعاء، فيدور إطلاق الصلاة عليه مدار إطلاق الشارع، وبعد الإطلاق الشرعيّ يمكن التنزيل والادّعاء بالنسبة إلى ما يكون فاقد البعض وما هو فاسد من تلك الحقيقة التي أطلق عليها الشارع (الصلاة)، وحينئذ: لا يلزمهناك مجاز ولا سبك من المجاز، بل يكون الإطلاق على نحو الحقيقة، غايته: أنّه لا حقيقة، بل ادّعاء»(1).

وتوضيحه: أنّ لفظ (الصلاة) - مثلاً - موضوع للصّلاة التي تكون جامعةً لجميع الأجزاء والشرائط، وهو الصحيح التامّ للمختار، ويكون إطلاقها على الفاقد من أفراد الصحيح بالعناية والتنزيل - نظير ما ادّعاه السكّاكيّ من أنّ الرجل الشجاع فرد من أفراد الأسد ادّعاءً - والحقّيقيّ الادّعائيّ يشترط فيه أن يكون هناك مصحّح لهذا الادّعاء.

فلو لم يكن هناك مصحّح له - كصلاة الغرقى - التي يطلق عليها اسم (الصلاة)؛ فإنّ إطلاق الصلاة عليه يدور مدار إطلاق الشارع، وبما أنّ الشارع أطلق عليه الصلاة فيمكن التنزيل والادّعاء.

ص: 262


1- فوائد الاُصول 1: 63.

ولكنّنا حينما نتفحّص الروايات نجد أنّ الشارع لم يطلق عليها اسم الصلاة، وإنّما عرف صدق (الصلاة) على صلاة الغرقى من لسان العلماء. وأمّا الصلاة الفاسدة، فلا يطلق عليها الصلاة إلّا من جهة المشابهة، ولذلك، فنحن لا نحتاج هناك إلى تصوير للجامع.

ولكنّ هذا الكلام لا يخلو عن إشكال؛ لأنّ لازمه أن يطلق لفظ (الصلاة) على سائر الأفراد بالعناية والتنزيل، وأن يجوز سلب الصلاتيّة عنها.

وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما ذكره بعض الأساتيذ(1) من عدم صدق (الصلاة) حقيقةً على الصلوات الاضطراريّة، وإنّما هي مسقطات وأبدال مع كونها صلوات حقيقةً.وعلى فرض التنزّل، فإنّما يتمّ ذلك بالنسبة إلى كلّ صلاة مع ناقصتها، كالظهر التامّ مع ناقصه.

وأمّا بالنسبة إلى الأفراد التامّة كالمسافر والحاضر والظهر والعصر والصبح والمغرب والعشاء فلا؛ لأنّ الرباعيّات أخذت الركعتان فيها (بشرط شيء) وفي الصبح - مثلاً - (بشرط لا). فكيف يمكن حينئذ تصوير الجامع بين اشتراط وجود الركعتين واشتراط عدمهما؟(قدس سره) وقد يجاب عن هذا: بأنّ الجامع هو وجود الركعتين، غاية الأمر: أنّهما قد قيّدتا في المسافر بشرط العدم، وفي الحاضر بشرط انضمام الركعتين

ص: 263


1- راجع: نهاية الأفكار 1: 81.

الاُخريين إليهما، فالجامع هو ذات الركعتين.

ولكن قد ذكرنا: أنّه لا يمكن وجود الجامع بين الواجد والفاقد وبين اﻟ (بشرط لا) و اﻟ (بشرط شيء).

وأيضاً: فلابدّ من القول: بتعدّد الوضع والاشتراك اللّفظي هنا، ولكنّ ما استفدناه من الروايات عكس ذلك، وأنّ الأصل في الصلوات هي الأربع، وإنّما لأجل التسهيل على المسافر سقط منها ركعتان.

وعليه:

فلابدّ أن نقول: بأنّ الجامع هو الركعات الأربع لا الركعتان. ولكن في بعض الأخبار: أنّ أصل الصلاة مثنى؛ إلّا أن نحملها على المستحبّات، ويمكن أن يكون الجامع هو (اللّا بشرط المقسمي) الذي يندرج تحته كلّ من: اﻟ (بشرط لا) واﻟ (بشرط شيء) و(اللّا بشرط القسمي).

القول الثاني:

ما اختاره المحقّق الأصفهاني)(1)، وهو: أنّ الماهيّة إذا كانت مؤتلفةً من مقولات متباينة واُمور عديدة، بحيث تزيد وتنقص من جهة الكمّيّة والكيفيّة، فمقتضى الوضع لها - بحيث يعمّ كلّ تلك الموارد مع تفرّقها وتشتّتها - أن تلاحظ على نحو مبهم غاية الإبهام، بل تعرف بمعرفيّة بعض العناوين غير المنفكّة عنها - كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر مثلاً - فيوضع اللّفظ لها.

ص: 264


1- نهاية الدراية 1: 64، وراجع: منتهى الاُصول 1: 56.

وقد شبّه(قدس سره) ذلك بالخمر، فإنّها مبهمة من جهات عديدة، فهي مبهمة - مثلاً - من حيث اتّخاذها من العنب أو التمر أو الشعير أو غير ذلك، ومن حيث الإسكار شدّةً وضعفاً، ومن حيث الطعم واللّون والرائحة؛ وكذلك الحال في مثل (الصلاة)، فإنّها كالخمر في أنّها موضوعة لماهيّة مبهمة من حيث قلّة الأجزاء وكثرتها ودخول البعض في حالة وخروج بعضها الآخر في حالة اُخرى.

وفيه: أنّه إن كان المراد من الإبهام إبهام الماهيّة من حيث ذاتيّاتها، فهو غير ممكن؛ لعدم إمكان التخلّف والاختلاف في الذاتيّات. بل إنّ أسامي العبادات والمعاملات هي كأسماء الأجناس لا إبهام فيها من حيث المفهوم والماهيّة، وإنّما يكون إبهامها بحسب الوجود.

وإن كان المراد من الماهيّة المبهمة عنده المفهوم الانتزاعيّ من أحد هذه المركّبات التي صارت متعلّقةً للأوامر الشرعيّة، ففيه: أنّه على خلاف الوجدان؛ لأنّ أسامي العبادات - كالمعاملات أيضاً - تحكي عن عناوين تفصيليّة حقيقيّة، ويكون الإبهام في منشأ الانتزاع، وإلّا، فلا معنى للإبهام في المفهوم الانتزاعيّ مع معلوميّة منشأ الانتزاع.وأمّا قياسه على الخمر فهو قياس مع الفارق، إذ الخمر - كبقيّة أسماء الأجناس - لا إبهام فيها أصلاً من ناحية الماهيّة، بل إبهامها من جهة أنّه لم تؤخذ في التسمية فيها مادّة خاصّة، كما أنّه لم تلاحظ جهة خاصّة، كالسكّر أو الطعم أو اللّون، بل هي مأخوذة فيها بنحو اﻟ (لا بشرط).

ص: 265

وبكلمة: فإنّ الملاك في التسمية هو وجود الصورة الخمريّة، ولو في ضمن أيّة مادّة من الموادّ، لا أنّها مختصّة بما يؤخذ من العنب، كما هو الحال في (الباب) - مثلاً - فإنّه ما دامت صورته موجودةً يطلق عليه اسم (الباب)، بلا فرق بين أن يكون مصنوعاً من الحديد والخشب أو غير ذلك، فهي من هذه الجهة (لا بشرط).

وأمّا الصلاة فمنشأ الانتزاع فيها اُمور خارجيّة، والإبهام فيها بمعنى قلّة الأجزاء وكثرتها، وخروج بعض الأشياء في حالة أو حين من الأحيان عنها، ودخول ذلك البعض في حالة اُخرى أو حين آخر فيها. فلذلك لا يمكن أن يكون هو جامعاً لها، وكيف يتصوّر الجامع أصلاً مع هذا الاختلاف في الماهيّة بحيث يشمل الماهيّة (بشرط شيء) و(بشرط لا)؟(قدس سره) القول الثالث:

أن يفهم الجامع من عنوان المسقطيّة، فإنّ الصلوات بجميع أقسامها - أي: الصلوات التامّة الاختياريّة والناقصة - كلّها تكون مجزئةً ومسقطةً للأمر، فالموضوع لتلك الأفراد هو ذلك العنوان المبهم الذي يفهم من عنوان المسقطيّة.

وبعبارة أُخرى: فإنّ جميع الأفراد الصحيحة كمّاً وكيفاً، فالجامع لها هو ما تدلّ عليه المسقطيّة والمفرّغ لما في الذمّة. وحينما نرى أنّ هناك أثراً واحداً وهو الإجزاء وإسقاط الأمر بالنسبة إلى جميع الأفراد الصحيحة، فإنّنا نستكشف من هذا الأثر الواحد أنّه لا بدّ أن يكون هناك شيء وحدانيّ يوثّر في مسقطيّة تلك الأفرادالصحيحة، وإلّا، يلزم أن

ص: 266

تكون العلل المتعدّدة المختلفة المتباينة مؤثّراً في الواحد، وقد مرّ عدم إمكان تأثير العلل المتعدّدة في المعلول الواحد.

والفرق بين هذا القول والقول الذي اختاره صاحب الكفاية(قدس سره) أنّ هذا الجامع وقع في سلسلة المعلولات المترتّبة على الحكم، وذلك الجامع وقع في سلسلة العلل وهو الاستكشاف، حيث هو الأثر وهو النهي عن الفحشاء واحد. فنستكشف بأنّ المؤثّر - وهو العنوان الكلّيّ - أيضاً واحد، أي الجامع المنطبق على جميع الأفراد.

وقد استُشكل فيه:

أوّلاً: بأنّ هذا لا يكشف عن وجود جامع؛ لإمكان أن تكون المصلحتان: الاضطراريّة والاختياريّة مختلفتين، ولو أنّ المصلحة الثابتة في الاختياريّ توجب السقوط، وكذا في الاضطراري، وأنّ المقام نظير المقام في الحجّ والصوم، فإنّ لكلّ واحد منهما مصلحةً مغايرةً لمصلحة الاُخرى. فلا يمكن تصوير جامع يكشف عن مصلحة واحدة في جميع الأفراد الاختياريّة والاضطراريّة.

وثانياً: إذا وضع الصلاة للجامع فالجامع لا بدّ أن يكون مبيّناً بحيث يمكن إلقاؤه إلى المكلّف، ولا جامع المذكور مجهول ومبهم.

وثالثاً: أنّ سقوط الأمر مترتّب على الإتيان، وهو متوقّف على وجود المصلحة المقتضية للسّقوط، وتكون التسمية في المرتبة السابقة على الأمر والسقوط.

ص: 267

ورابعاً: ينسدّ باب البراءة؛ إذ - حينئذ - ومع عدم معرفة الجامع، يكون الشكّ شكّاً في المحصّل، فتخضع لقانون الاحتياط، لا البراءة، دائماً.

ولكن لا يخفى: أنّ الاحتياط إنّما يجري في الشكّ في المحصّل إذا كان عقليّاً، وأمّا إذا كان شرعيّاً فشكّه يكون خاضعاً لقانون البراءة.

القول الرابع:

ما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1): من أنّ المقولات، وإن كانت متباينةً من حيث الذات، بحيث لا يمكن تصوير جامع بين هذه المقولات، ولكن بما أنّ كلّ مقولة حاوية لمرتبة من الوجود غير المرتبة الاُخرى الحاوية لها، فإنّ الجامع بين الأفراد هو مرتبة من الوجود سارية في جميع وجودات الأفراد، وتلك المرتبة المشتركة بين جميع المقولات المتباينة - التي تتركّب منها حقيقة الصلاة - قد اُخذت موضوعاً ووضع لها لفظ (الصلاة)، وهي غير محدودة بحدّ خاصّ من حيث الزيادة والنقيصة والقوّة والضعف، بل هي مأخوذة على سبيل التشكيك.

وليس المراد من تلك المرتبة هو حقيقة الوجود الواسعة المشتركة بين جميع الوجودات الممكنة والواجبة؛ لأنّه بناءً على هذا يكون بين لفظي: (الصلاة) و(الوجود) ترادف، كما هي الحال بين لفظي: (الإنسان) و(البشر)، ولازم هذا: صدق الصلاة على كلّ موجود، بل المراد: أنّ لكلّ عبادة مرتبةً خاصّةً من الوجود ساريةً في جميع وجودات أفرادها، وتكون

ص: 268


1- بدائع الأفكار 1: 117، وراجع أيضاً منتهى الاُصول 1: 57 - 58.

مشتركة بين تلك الأفراد فقط، بحيث تشمل جميع الأفراد من تلك المرتبة، ولا يخرج منها حتّى فرد واحد، كما أنّها لا تنطبق على أفراد عبادة اُخرى؛ لأنّها ليست داخلةً في تلك المرتبة، فلا تكون جامعةً لها.

وبعبارة أُخرى: فلكلّ واحد من هذه العبادات وجود سعيّ بمقدار سعة أفرادها، فقهراً لا يخرج فرد من تلك العبادة عن دائرة انطباقه، ولا يدخل فرد آخر من عبادة اُخرى في في تلك الدائرة.

ويمكن أن ينظّر للمقام بالكلمة والكلام، ولكن من حيث الجامع الوجوديّ والوجود السعيّ لا الذاتيّ الماهويّ؛ لأنّه من جهة النقصان والزيادة قابل للتشكيك؛ لأنّه يصدق على الزائد والناقص أيضاً.ولكن قد يرد عليه الإشكال:

بأنّه بعد أن كان الوجود مساوقاً للتشخّص، فإن كان المراد بالوجود السعي: عموم الوجود والانطباق على كثير فإنّه غير معقول؛ لأنّ معناه أن ينطبق على جميع العبادات.

وإن كان المراد مرتبةً من الوجود: فلا يمكن أن تكون ساريةً في جميع وجودات الطبيعة، بحيث يكون له عموم انطباق وسعة في الصدق حتّى يكون جامعاً بين الأفراد الكثيرة ومنطبقاً عليها.

وبعبارة اُخرى: فإنّ كون الشيء وجوداً ومرتبةً منه ينافي كونه جامعاً.

ولكنّ الحقّ: أنّه وإن كان الشيء بمعنى المرتبة، ولكن بعد أن فرضنا

ص: 269

التشكيك بين أفرادها فمن الممكن أن تكون جامعةً لتلك الأفراد التي تكون تحت تلك المرتبة.

أو فقل: إنّ بين أفراد كلّ نوع من الأنواع سنخيّةً وجوديّةً، وهذه السنخيّة لا تكون بين أفراد نوع آخر، بل هي معنى مشترك بين جميع أفراد ذلك النوع، فالسنخيّة الموجودة بين زيد وعمرو - مثلاً - ليس نفس السنخيّة الموجوده بينه وبين الفرس.

ولعلّ المراد من قوله: «الوجود السعي» هو هذا المعنى، وهذا مقول بالتشكيك من حيث الزيادة والنقيصة والشدّة والضعف.

فليس المراد من الوجود الوجود الخارجيّ؛ لأنّه لا يتلاءم مع الكثرة والعدد والضعف والقوّة، فالسنخيّة الموجودة بين أفراد الصلاة هي غير السنخيّة الموجودة بين أفراد الصوم.

وقد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ الجامع هو السنخيّة وقد وضع لفظ الصلاة لها.

الجامع بين الأعمّ والصحيح والفاسد:

ثمّ لو فرضنا عدم إمكان وجود جامع بين الأفراد الصحيحة فقط، فهل يمكن فرض جامع بين الأعمّ من الصحيح والفاسد أم لا؟ والجواب:

أنّه قد صوّر العلماء الجامع بين الصحيح والأعمّ بوجوه:

ص: 270

منها:

ما عن صاحب القوانين) (1): من أنّه عبارة عن الأركان، وأمّا ما عداها من الشروط والشطور فهي دخيلة في الماُمور به لا المسمى، فمع فقدانها وعدم إتيانها من غير عذر يوجب انتفاء الماُمور به لا المسمّى.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّه لا تصدق الصلاة قطعاً مع وجود الأركان دون سائر الأجزاء والشرائط، وتصدق مع وجود بعض الأركان ووجود سائر الأجزاء والشرائط.

وثانياً: أنّه يصحّ السلب عن الأركان الفاقدة لجميع الأجزاء والشرائط.

وثالثاً: لا أثر للفاسد أصلاً حتّى تجري قاعدة أنّ الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد.

ورابعاً: يلزم المجاز عند استعمال لفظ الصلاة في جميع الأركان مع سائر الأجزاء والشرائط؛ لأنّه يكون من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ.

وخامساً: بناءً على ذلك فالطهارة ليست داخلةً في التسمية، مع أنّه لولاها لم يصدق عليها الصلاة، مع أنّه قد ورد عن أبي عبد الله(علیه السلام) في

ص: 271


1- منتهى الدراية 1: 116.

مقام تحديد الصلاة قوله: «الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور، وثلث ركوع وثلث سجود»(1).وأورد عليه المحقّق النائيني(قدس سره)(2) بما حاصله:

أنّه إن اُريد عدم دخولها في المسمّى دائماً فيرد عليه الإشكال المتقدّم، وهو أنّه يلزم عند استعمالها في الصحيح أن يكون مجازاً، من باب استعمال لفظ الجزء في الكلّ.

وإن اُريد أنّها دخيلة عند وجودها وليست بدخيلة عند عدمها، فهذا أيضاً غير تامّ، إذ لا يمكن أن تكون الماهيّة (بشرط شيء) في زمان و(بشرط لا) في زمان آخر، ولا يمكن أن يكون الشيء جزءاً للماهيّة مرّةً وخارجاً عنها اُخرى.

ثمّ استشكل(قدس سره) على نفسه بقوله:

«إن قلت: ألستم تقولون بالتشكيك في الوجود وفي بعض الماهيّات كالبياض والسواد، وأنّ المعنى الواحد يصدق على الواجد والفاقد، فالوجود يصدق على وجود الواجب ووجود الممكن على اختلاف مراتبه، وكذا السواد يصدق على الضعيف والقويّ، وليكن الصلاة أيضاً صادقةً على التامّ من جميع الجهات وعلى الناقص أيضاً».

ص: 272


1- وسائل الشيعة 6: 310، الباب 9 من أبواب الركوع، ح1.
2- أجود التقريرات 1: 41.

وأجاب عنه: بما حاصله: أنّه إن أرادوا التشكيك في حقيقة الوجود فإنّه مجهول لدينا، ولا يعلم إلّا بالكشف من جهة المجاهدة، وأمّا الماهيّات، فإنّه يجري فيها التشكيك، لكن لا مطلقاً، بل إذا كانت الماهيّة بسيطةً من جميع الجهات، وأمّا إذا كانت مركّبةً من جنس وفصل ومادّة وصورة، فلا، وبما أنّ الصلاة - أيضاً - مركّبة من مقولات وأركان، فلا يتصوّر فيها التشكيك.

ثمّ على فرض التنزّل، فلا يمكن تصوّر جامع لها؛ لأنّها تختلف باختلاف الأشخاص من المسافر والحاضر والقادر والعاجز حتّى الغريق، فإنّ الركوع والسجود لهما مراتبباختلاف الحالات، فكيف يمكن تصوير جامع بينها خصوصاً مع فرض الإيماء أيضاً من الركوع والسجود؟(قدس سره) وقد أورد اُستاذنا الأعظم(قدس سره)(1) على الإشكال الذي ذكر - من عدم إمكان أخذ الشيء جزء للماهيّة تارةً وخارجةً اُخرى - بأنّ هذا إنّما يتمّ بالنسبة إلى المركّبات الحقّيقيّة التي تتركّب من الجنس والفصل والمادّة والصورة بحيث لا يمكن وجودها بدون الأجزاء، ولا يمكن تبديل الأجزاء بغيرها، من جهة احتياج كلّ جزء إلى الآخر، فإذا كان شيء واحد جنساً أو فصلاً لماهيّة فلا يمكن أن يكون جنساً وفصلاً لآخر، أو أن يكون جزءاً مرّةً وغير جزء مرّةً اُخرى، أو يختلف باختلاف الأزمنة من حيث دخول جزء وخروجه.

ص: 273


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 159- 162.

وأمّا المركّبات الاعتباريّة التي تتركّب من أمرين مختلفين أو أكثر، ولا ربط حقيقةً بين أجزائه، فلا؛ لأنّه لا افتقار ولا ارتباط بينها، بل كلّ واحد منها موجود مستقلّ في قبال الآخر، ومباين للآخر في التحصّل والفعليّة، وليست الوحدة العارضة عليها وحدةً حقيقيّةً، بل اعتباريّة، فحينئذٍ: لا مانع في كون الشيء داخلاً في المركّب تارةً وخارجاً عنه تارةً اُخرى.

ثمّ ذكر(قدس سره) أنّ مقامنا من قبيل لفظ (الدار) فإنّه موضوع لمعنىً مركّب، وهو ما اشتمل على الحيطان والساحة والغرفة، وهي الأجزاء الرئيسيّة، ولولاها لما صدق عليها عنوان (الدار)، فهذه الأجزاء تدور مدار صدق الاسم عليها، وحينئذ: فإذا أضيف إليها أشياء اُخر فهي داخلة في المسمّى كالسرداب والحوض والبئر، وإلّا فلا.

وبالجملة: فإنّ الواضع للفظ (الدار) قد تصوّر معنىً مركّباً من أجزاء معيّنة ووضع له لفظ (الدار).وأمّا بالنسبة إلى الأجزاء الاُخرى فهي مأخوذة لا بشرط، بل بالنسبة إلى الموادّ التي تتشكّل منها (الدار) أو الشكّل كذلك أيضاً، ومعنى (اللّا بشرط): أنّ هذه الأشياء إذا وجدت فتكون دخيلةً في المسمّى، وإلّا فلا. وكذا الحال في الكلمة والكلام أيضاً، فإنّهما قد وضعتا للحرفين والكلمتين فصاعداً، فمن جانب القلّة هما محدودتان، وأمّا من جانب الكثرة فغير محدودتين، فيصدقان على أكثر من حرفين وكلمتين أيضاً.

ص: 274

وهناك اُمور اُخرى لوحظ لها كثرة معيّنة في الطرفين: القلّة والكثرة، وذلك كالعدد، فإنّ الخمسة - مثلاً - محدودة بحدّ خاصّ من قلّةً وكثرةً، بحيث زاد عليها واحد أو نقص واحد لم يصدق عليها هذا العدد لا محالة.

ثمّ قال(قدس سره): «ولمّا كانت الصلاة من الاُمور الاعتباريّة، فإنّك عرفت أنّها مركّبة من مقولات متعدّدة، كمقولة الوضع، ومقولة الكيف، ونحوها، وقد برهن في محلّه: أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات، فلا تندرج تحت مقولة واحد، لاستحالة تحقّق الاتّحاد الحقيقيّ بين مقولتين، بل لا يمكن بين أفراد مقولة واحدة، فما ظنّك بالمقولات؟ فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعداً. والوجه في ذلك هو: أنّ معنى كلّ مركّب اعتباريّ لا بدّ أن يعرف من قبل مخترعه، سواء كان ذلك المخترع هو الشارع المقدّس أم غيره، وعليه: فقد استفدنا من النصوص الكثيرة أنّ حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان (الصلاة) مدارها وجوداً وعدماً عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث... وأمّا بقيّة الأجزاء والشرائط فهي عند وجودها داخلة في المسمّى وعند عدمها خارجة عنه وغير مضرّ بصدقه».ولا يخفى: أنّ الاُستاذ الأعظم(قدس سره) قد خرج بذلك عن فرض المحقّق القمّيّ): من أنّ المراد بالأركان هو النيّة والركوع والسجود. كما أنّه(قدس سره) زاد الطهارة وهي خارجة عن فرضيّة المحقّق القمّيّ).

ثمّ قال(قدس سره): «إنّ المركّبات الاعتباريّة أمرها سعةً وضيقاً بيد المعتبر،

ص: 275

فقد يعتبر التركيب بين أمرين أو اُمور بشرط لا، كما في الأعداد، وقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أزيد لا بشرط بالإضافة إلى دخول الزائد، كما هو الحال في كثير من تلك المركّبات، فالصلاة من هذا القبيل، فإنّها موضوعة للأركان فصاعداً».

ثمّ رأى(قدس سره): أنّ الأركان قد يصدق عليها الصلاة الصحيحة، فكيف يمنع عن صدق الصلاة عليها، حتّى على الأعمّ، كما استشكل على المحقّق القمّيّ؟(قدس سره) فلو كبّر المصلّي ونسي جميع الأجزاء والشرائط غير الأركان والوقت والقبلة حتّى فرغ من الصلاة، فإنّه يحكم بصحّة صلاته بلا إشكال.

وفيه: أنّ ما ذكره إنّما هو في صدق الماُمور به، وأنّه لو أتى بهما في هذه الحالة فقد امتثل، أمّا أنّه يصدق عليها عرفاً عنوان (الصلاة) بدون الأجزاء الاُخرى، فلا، حتّى عند الأعمّيّ.

فصدق الماُمور به شيء وصدق المسمّى شيء آخر، والنسبة بينهما عموم من وجه، فقد يصدق المسمّى بدون الماُمور به - كالصلاة التامّة من جميع الجهات إلّا الطهارة - وقد يكون بالعكس - كالمتطهّر الذي نسي من الصلاة كلّ أجزائها من الأركان -، ومادّة الاجتماع بينهما هي: الصلاة التامّة الأجزاء والشرائط حتّى في نظر العرف، فإذا فقدت بعض الأركان وكان الباقي من الأجزاء موجوداً، فإنّه يصدق عليها حينئذ عنوان

ص: 276

(الصلاة)، وأمّا الأركان خاصّةً، فلا.والرواية التي ذكرها مشيرة إلى أنّها دخيلة في الماُمور به، كصحيحة زرارة قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن الرجل ينسى تكبيرة الافتتاح، قال: يعيد»(1). وهي تشير إلى أنّها ليست بماُمور بها بدون التكبيرة.

وكذا موثّقة عبيد الله بن زرارة قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل أقام الصلاة فنسي أن يكبّر حتّى افتتح الصلاة، قال: يعيد الصلاة»(2).

ومنها: صحيحة ابن يقطين قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن الرجل ينسى أن يفتتح الصلاة حتّى يركع، قال: يعيد الصلاة»(3).

فلو لاحظنا هذه الروايات الثلاث لوجدناها ناظرةً إلى الماُمور به من صحّة الصلاة وبطلانه، دون صدق الاسم وعدمه.

نعم، ما ذكره من رواية أنّ الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود(4)، فيمكن أن يصرف أيضاً إلى الصلاة الماُمور بها.

وأمّا ما ذكره من مضمرة عليّ بن أسباط فهي تدلّ على أنّ التسليم أيضاً دخيل في المسمّى؛ حيث ورد فيها: «افتتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها

ص: 277


1- وسائل الشيعة 6: 12 - 13، الباب 2 من أبواب تكبيرة الإحرام، ح1.
2- وسائل الشيعة 6: 12 - 13، الباب 2 من أبواب تكبيرة الإحرام، ح3.
3- وسائل الشيعة 6: 12 - 13، الباب 2 من أبواب تكبيرة الإحرام، ح5.
4- وسائل الشيعة 6: 310، الباب 9 من أبواب الركوع، ح1.

التكبير، وتحليلها التسليم»(1)، وكذا ما ورد في موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله(علیه السلام): «... فإنّآخر الصلاة التسليم»(2). فيجب - بناءً عليه - أن تكون التسليمة من الأركان، مع أنّه لم يقل به أحد.

وقد أجاب عن هذا الإشكال الاُستاذ الأعظم(قدس سره)(3): بأنّها ليست بركن؛ لأنّها لم تذكر في حديث (لا تعاد)(4)، ولذا، لو تركت التسليمة، وكان الترك عن نسيان، لم تجب الإعادة في الوقت والقضاء خارجه.

ومنها:

أن يفرض الموضوع معظم الأجزاء، بلا فرق بين أن تكون هي الأركان أم لا، أم كان مركّباً منها، فالمسمّى هو معظم الأجزاء انضمّت إليه اُمور اُخرى أم لا.

ولا يخفى: أنّ المراد من (المعظم) هو المصداق، لا المفهوم؛ ضرورة أنّ المصداق هو الذي يترتّب عليه الأثر، كأن يكون جنّةً من النار ومعراجاً للمؤمن، وما إلى ذلك...

وهذا القول لا يرد عليه الإشكال السابق من عدم صدق الصلاة عرفاً

ص: 278


1- وسائل الشيعة 6: 415، الباب 1 من أبواب التسليم، ح1.
2- وسائل الشيعة 6: 416، الباب 1 من أبواب التسليم، ح4.
3- محاضرات في اُصول الفقه 1: 165.
4- وسائل الشيعة 5: 471، الباب1 من أبواب أفعال الصّلاة، ح14؛ وأيضاً: 6: 91، الباب 29 من أبواب القراءة في الصّلاة ح5؛ و6: 313، الباب10 من أبواب الركوع ح 5؛ و7: 234، الباب1 من أبواب قواطع الصّلاة ح 4.

وصحّة السلب عنه؛ فإنّ المعظم لا ينفكّ عن الصدق العرفيّ.

ولكن يمكن أن يناقش فيه: بأنّه لو استعمل في الكلّ حينئذ لأصبح مجازاً، ولكان من باب استعمال لفظ الموضوع للجزء في الكلّ.

فإن قلت: إذا أخذ اللّفظ الموضوع في المعظم (لا بشرط)، فلا يكون استعماله في الزائد مجازاً.قلت: إنّ لفظ (الإنسان) موضوع للماهيّة (لا بشرط)، ومع ذلك فإنّه يكون مجازاً إذا استعمل في زيد بخصوصه.

وأيضاً: فإنّ المعظم يختلف بحسب حالات المكلّفين، ففي صلاة المختار هو النيّة وتكبيرة الإحرام والركوع والسجود والقيام والتشهّد، وفي صلاة العاجز عن القيام هي تلك الاُمور مجرّدةً عن القيام.

وبعبارة اُخرى: فقد يكون المعظم ستّة أجزاء مثلاً، وقد يكون أكثر من ذلك أو أقلّ، فالشيء الواحد يدخل في المعظم تارةً ويخرج عنه اُخرى، فمصداق معظم الأجزاء يختلف ويتبدّل بحسب حالات المكلّفين، مع أنّ الذاتيّ لا يختلف ولا يتخلّف.

وأيضاً: فلا يعلم أنّ التشهّد داخل في المعظم أو غير داخل، ممّا يجعل المسمّى يصبح مجهولاً.

ومنها:

أنّ مقامنا كالأعلام الشخصيّة في أنّه لا يضرّ تبادل الحالات في التسمية؛ فإنّ لفظة (زيد) - مثلاً - قد وضعت لشخص، فلا يضرّ في

ص: 279

تسميته بذلك اختلاف حالاته - كصغره وكبره وبياضه وسواده وفقره وغناه وصحّته ومرضه وعجميّته وعربيّته - وكذلك ألفاظ العبادات بالنسبة إلى مسمّياتها، فالمسمّى بلفظ (الصلاة) كالمسمّى بلفظ (زيد)، فلا يقدح في التسمية اختلاف حالاتها من الاختيار والاضطرار والسفر والحضر والصحّة والمرض.

ولكنّ هذا أيضاً غير تامّ؛ إذ لا يمكن قياسها على الأعلام الشخصيّة؛ لأنّ العلم الشخصيّ موضوع لحصّة خاصّة من الطبيعة المتعيّنه بوجود خاصّ، وهذا الوجود الواحد لا يتعدّد بتعدّد العوارض المختلفة الواردة عليه.وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ الماهيّات المخترعة مختلفة كمّاً وكيفاً، وليس لها وجود واحد محفوظ في ضمن جميع الأفراد الصحيحة وغيرها. فهذا القياس في غير محلّه.

وبعبارة اُخرى: فإنّ الموضوع له في العلم الشخصيّ - ﻛ (زيد) - هو الحصّة الخاصّة من الطبيعة المتشخّصة بوجودها الخاصّ، فما دام هذا الوجود باقياً فيصدق عليه (زيد) وإن تغيّرت العوارض الطارئة عليه من جهة الكمّ أو الكيف أو الأين، ككونه في مكان كذا، أو غير ذلك.. فكما أنّ هذه العوارض لا تضرّ عند طروّها عليها، ولا تكون سبباً لخروجها عن المسمّى والموضوع له، فهي لا تضرّ كذلك بالتسمية.

وأمّا العبادات: فإنّ ألفاظها موضوعة لنفس المركّبات المؤلّفة من

ص: 280

الأشياء المختلفة بحسب الكمّ والكيف، وبحسب حالات المكلّف، فليس هناك من جامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة.

وعلى فرض التنزّل، فلا يكون هناك أثر للأعمّ حتّى نستكشف منه الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة.

ومنها:

أنّ الجامع هو ما قد وضعت له الألفاظ ابتداءً، أي: التامّ الواجد للأجزاء والشرائط، ولكنّ العرف، لبنائهم على المسامحة، يستعملون اللّفظ في الفاقد لبعض الأجزاء الناقصة أيضاً، بعد تنزيل الفاقد لبعض الأجزاء منزلة الواجد له، وادّعاء أنّ الموضوع له جامع بين الفاقد والواجد، وليس هذا من باب المجاز في الكلمة لكي يكون استعمالاً مجازيّا للّفظ في غير ما وضع له، أي: استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ، بل هو فرد من الأفراد، غاية الأمر: أنّه ادّعاء.فاستعماله للفاقد - إذاً - يكون استعمالاً فيما وضع له، وإنّما يكون التجوّز في الإسناد، فلو فرض أنّ للصّلاة عشرة أجزاء وقد وضع لفظ (الصلاة) لها - لأنّها تامّة الأجزاء والشرائط - إلّا أنّ استعماله في الناقص بجزء أو جزأين يكون من باب تنزيل الناقص منزلة الكامل. فمقامنا من قبيل المعاجين المركّبة من عشرة أجزاء - مثلاً - وقد وضعت الأسماء لتلك المعاجين أوّلاً، ثمّ استعملت في الفاقد لبعض الأجزاء المتشابهة شكلاً، ومن جهة اشتراكهما في الأثر المهمّ، تنزيلاً أو حقيقةً.

ص: 281

وفيه:

أوّلاً: أنّ المسامحة العرفيّة إنّما تصحّ في مقام التطبيق، وأمّا في مقام الوضع، بأن يراد إثباته بهذه المسامحة، فغير صحيح. والمراد من التطبيق هو: استنباط المفاهيم من الألفاظ، لا تطبيق المفاهيم على المصاديق.

وتوضيحه: أنّ في البين مراحل ثلاث: الاُولى: وضع اللّفظ للمعنى، والثانية: استنباط المعنى من الألفاظ، كما تقول: «إنّ الصاع 300 غراماً، والثالثة: تطبيق المعنى على المصداق، كما لو قال: «هذه الحنطة صاع» وهي أقلّ من الصاع (غرام).

والمسامحة العرفيّة إنّما تصحّ في المرحلة الثانية دون الاُولى والثالثة، ولذا، لا يجزي إعطاء تلك الحنطة لزكاة الفطرة، وإن كان العرف يحكم بأنّها صاع.

وثانياً: أنّه قياس مع الفارق.

وثالثاً: أنّ الصحيح في أفراد المعاجين موجود، وهو التامّ المشتمل على جميع ما له دخل فيه من الأجزاء والشرائط، ثمّ أطلق على الفاقد لبعض الأجزاء تنزيلاً لها منزلة الواجد، للاشتراك في الأثر أو المشابهة في الصورة، وهذا بخلاف لفظة (الصلاة) - مثلاً - فإنّه ليس لصحيحها أجزاء معيّنة مضبوطة، وإنّما هي مختلفة بحسب حالاتالمكلّف، من السفر والحضر والقدرة والعجز، فالركعات الأربع تكون صحيحةً في

ص: 282

حقّ الحاضر دون المسافر، وصلاة الجالس صحيحة في حقّ العاجز دون القادر، وهكذا.. فليس في العبادات ما يكون صحيحاً مطلقاً وفي جميع حالات المكلّف، إلّا في صلاة الصبح والمغرب، فإنّها صحيحة ركعتين لكلّ من المسافر والحاضر، لتكون هي الموضوع له، وتستعمل في الفاقد - ثانياً - بعد تنزيله منزلة الواجد، ويكون الاستعمال من باب الاستعمال الحقيقيّ، دون المجازيّ، وهذه كالمعاجين.

ومنها:

أنّ الجامع أمر عرضيّ، والمراد من المسمّى في الصلاة هي: الصورة العرضيّة، من جهة الإتيان بها بالترتيب، كالهيئة الطارئة للقطار بسبب اتّصال أجزائه وتبعيّة بعضها للبعض، وهذه الصورة الاتّصاليّة العرفيّة محفوظة بين جميع أفراد الصلاة التي هي أعمّ من الصحيح والفاسد، فمثلاً: إذا استدبر آناً ما في الصلاة، فإنّ الصورة العرفيّة باقية، وإن كانت صورتها الشرعيّة قد انقطعت.

وعليه: فيمكن تصوير جامع صوريّ بين الصلوات المختلفة باختلاف حالات المكلّفين. وهذه الصورة هي - كما ذكرنا - ناشئة عن توالي الأجزاء، وليست بالصورة الحقيقيّة المستفادة من أدلّة القواطع، كما استكشفها الشيخ؛ لأنّها مبنيّة على التركيب الحقيقيّ، وهذا لا يمكن في الماهيّات المختلفة.

إلّا أن يقال: بأنّ مراد الشيخ هو أنّ الوحدة الاعتباريّة كافية لتحقّق

ص: 283

وحدةً اعتباريّة. نعم، بما أنّ الصورة عرضيّة فهي تستفاد من الأمر بها.

وفيه:أنّ الأثر مترتّب على نفس الأجزاء، لا على الصورة؛ لأنّ الصلاة التي هي «قربان كلّ تقيّ»، هي - في الحقيقة - نفس أجزائها إذا جيء بها تامّةً، لا صورتها.

ثمّ إنّ الصورة - أيضاً - تختلف باختلاف الصلوات من حيث الزيادة والنقيصة، فإنّ الصلاة التامّة للحاضر، والتي هي (بشرط شيء)، صورتها مغايرة لصورة الصلاة التامّة للمسافر، والتي هي (بشرط لا)، وكذا الصلاة التي تتركّب من عشرة أجزاء غير صورة الصلاة المركّبة من خمسة أجزاء.

فإذاً: لا جامع صوريّ بين الفاقد والواجد، إلّا إذا فرضنا أنّ الصورة هي مجرّد حالة التتابع والقطاريّة، فإنّها موجودة في القطار الطويل والقصير على حدّ سواء؛ لأنّ التبعيّة موجودة، ولو بين جزأين فقط. نعم، لا وجود لها في الجزء الواحد كما سنشير.

مضافاً: إلى أنّ هذه الصورة ليست موجودةً في جميع أفراد الصلاة، فإنّ صلاة المستلقي والغريق - مثلاً - لا صورة فيهما؛ لعدم وجود الموادّ الصلاتيّة فيهما حتّى تترتّب عليها الصورة.

إلاّ أن يقال: إنّ الصورة أعمّ من صورة الأجزاء الصلاتيّة وأبدالها، وعلى هذا التقدير: فليس المطلوب أيّة صورة كانت، بل خصوص تتابع

ص: 284

الأجزاء، وهذا متوقّف على تعدّد الأجزاء، فالصلاة التي ليس لها أجزاء باستثناء جزء واحد - كالتسبيحة في الصلاة الغرقى - لا يتحقّق فيها هذا التتابع، فلا تتحقّق فيها هذه الصورة.

مضافاً: إلى أنّ هذا القول ليس إلّا مجرّد تصوّر، ولم يدلّ دليل على أنّ الواضع قد تصوّر صورةً أوّلاً، ثمّ وضع لها اللّفظ، بل ظاهر الأدلّة كون الصلاة موضوعةً لنفس الأجزاء.ومنها:

أنّ الجامع هو ما يحصل من اندكاك الأجزاء بعضها في بعض ويتحصّل من هذا الاندكاك صورة وخاصّيّة مغايرة لخاصّيّة كلّ واحد من الأجزاء، كما في تركيب المعاجين، فإنّ الأجزاء فيها تندكّ بعضها في بعض بشكل يسلب عن الأجزاء خصوصيّتها وأثرها الخاصّ الذي كان لها قبل التركيب - فمثلاً:

الجوز لوحده داء، والجبن لوحده داء أيضاً، ولكنّهما إذا اجتمعا صارا دواء - ويحصل للمجموع خاصّيّة مغايرة لخاصّيّة كلّ واحد من الأجزاء؛ والصلاة أيضاً كذلك، فباندكاك الركوع والسجود والقراءة وسائر الأذكار بعضها في بعض يتحقّق شيء مغاير لكلّ واحد من الأجزاء، فالماهيّة المتحصّلة من تلك الاُمور هي الصلاة. ومن المعلوم: أنّ تلك الماهيّة موجودة في كلتا الحالتين حال الوجدان والفقدان.

وفيه:

أوّلاً: أنّ أجزاء المركّبات الخارجيّة لها خاصّيّة مع قطع النظر عن

ص: 285

المركّب، ولكنّ أجزاء الصلاة ليست كذلك، فالقراءة مع قطع النظر عن وجودها في المركّب ليست واجبة. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المدّعي لم يدّع أنّ الخاصّيّة قبل التركيب لا بدّ أن تكون هي الوجوب، وإنّما ادّعى أنّ الخاصّيّة السابقة - أيّة خاصّيّة كانت - قد استبدلت بخاصّيّة اُخرى، فيمكن أن يدّعى: انّها ذات خاصّيّة موجبة لاستحبابها قبل التركيب، ثمّ تبدّلت بعد التركيب بخاصّيّة اُخرى يجب استيفاؤها، كالمعاجين، التي كانت لأجزائها خاصّيّة مع قطع النظر عن المركّب.

وثانياً: أنّ الأمر هنا متعلّق بالأجزاء، لا بالماهيّة ككلّ، ولو أنّ الأمر ورد بالجميع، ولكنّ كلّ واحد من الأجزاء ماُمور به بأمر استقلاليّ ضمنيّ.وثالثاً: أنّ حصول المزج والاندكاك في المركّبات الخارجيّة صحيح، دون الاعتباريّة؛ لأنّ الصورة النوعيّة للرّكوع والسجود باقية، ولذا تجري فيها قاعدة التجاوز، ولو أنّها كانت من المركّبات الحقيقيّة فما هو معنى القول: بجريان هذه القاعدة فيها؟(قدس سره) إذ بعد فرض الاندكاك بين الأجزاء فلا يوجد شيء يشكّ فيه حتّى تجري القاعدة المزبورة.

ومنها:

أنّ الجامع هو الذي يسمّيه العرف، فلفظ (الصلاة) - مثلاً - موضوع للمعنى الذي تدور مداره التسمية عرفاً.

وفيه:

أنّه يرجع إلى معظم الأجزاء، فقد ذكرنا: أنّ معظم الأجزاء لا ينفكّ

ص: 286

عن الصدق العرفي. وحينئذ: فيرد على هذا القول نفس ما ورد من الإشكالات هناك.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّ-ه لا يم-كن تص-وير جام-ع بين الصحيح ولا الأعمّ.

ثمرة هذا البحث

هل هناك ثمرة لهذه المسألة أم لا؟ قد يقال: بناءً على الأعمّ: يمكن التمسّك بالبراءة في مورد الشكّ في الأجزاء والشرائط، وأمّا بناءً على الصحيح: فلا، بل لا بدّ من جريان قاعدة الاشتغال؛ لأنّه بناءً على الأعمّ: فإذا شككنا في جزئيّة شيء أو شرطيّتة نتمسّك بالإطلاق، وحيث إنّ الطبيعة متساوية الأقدام بالنسبة إلى جميع الخصوصيّات والحالات الواردة، فإذا أجرينا الإطلاق فمعناه: انحفاظ نفس المتعلّق وإحراز وجوده، وإنّما يكون الشكّ في الخارج عن المتعلّق.وأمّا بناء على الصحيح: فإنّ الشكّ في الجزئيّة معناه الشكّ في شيء يحتمل أن يكون دخيلاً في قوام الذات، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ شرط الإطلاق هو انحفاظ الذات.

أو فقل: إذا بنينا على الصحيح: فبما أنّ المتعلّق هو العنوان البسيط فالشكّ في جزئيّة شيء يرجع إلى الشكّ في المحصّل؛ لأنّه المقصود، كما يقوله الشيخ): «تحصيل عنوان يشكّ في حصوله إذا اُوتي بذلك

ص: 287

المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك، كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء بحيث كان هو الماُمور به في الحقيقة، أو علم أنّه الغرض من الماُمور به، فإنّ تحصيل العلم بإتيان الماُمور به لازم»(1). فيصبح الشكّ فيه من قبيل الشكّ في المحصّل، فلابدّ من الاحتياط.

وأمّا بناءً على الأعمّ: فقد قلنا: إنّ الشكّ في شيء معناه الشكّ في شيء خارج عن الذات مع انحفاظ الذات، ولكن مع ذلك، إنّما يجري الإطلاق بناءً على الأعمّ - كما ذكرنا - فيما إذا كانت الذات محفوظةً وكان الشكّ فيما هو محتمل الدخول في الماُمور به، لا المسمّى، زائداً على الشروط المعتبرة للتمسّك بالإطلاق، المصطلح عليها ﺑ (مقدّمات الحكمة).

نعم، بدون اجتماع الشرائط نرجع إلى ما هو المرجع من أنّ العلم الإجماليّ هل ينحلّ في مقام الدوران بين الأقلّ والأكثر ويرجع في الأكثر إلى البراءة أم لا؟ فإن قلنا: بالانحلال هناك فنلتزم به هنا أيضاً.ومن هنا ظهر: أنّ ما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره)(2) من أنّ الرجوع إلى البراءة مبنيّ على القول بالانحلال رأساً، لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لما ذكرناه من أنّه مع عدم اجتماع الشرائط إنّما يرجع إلى البراءة على

ص: 288


1- فرائد الاُصول 2: 319.
2- محاضرات في اُصول الفقه 1: 170.

القول بالانحلال في الأقلّ والأكثر، لا مطلقاً. هذا.

وقد يقال هنا: كما أنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق بناءً على الصحيح، فكذلك لا يمكن التمسّك به بناءً على الأعمّ أيضاً؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يصحّ لو كان المتكلّم في مقام البيان.

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ من شرائط التمسّك بالإطلاق كون المتكلّم في مقام البيان، لا في مقام الإجمال أو أصل التشريع مع عدم وجود قرينة وما يصلح للقرينيّة، بحيث يكون سبباً للانصراف ومانعاً عن الظهور، وإلّا، فإنّ الحكم لا يكون متعلّقاً بالحصّة الخاصّة، بل يكون وارداً على مطلق الطبيعة.

وثانياً: أنّه ليس جميع الإطلاقات كذلك. نعم، يمكن الإجمال فيها وعدم فهم شيء منها قبل صدور البيان، وأمّا بعد صدور بيان من قبله بالنسبة إلى عدّة من الأجزاء والشرائط والموانع، بحيث يقال عليه لفظة (الصلاة)، فإنّه يمكن التمسّك بالإطلاق بالنسبة إلى الأعمّ.

فإذا عرفت هذا، فقد يقال:

بناءً على الأعمّ فيمكن الرجوع إلى البراءة؛ لأنّه حينما نرى أنّ الأمر ورد على الطبيعة، ولم يكن هناك قرينة تدلّ على التقييد وكان المولى في مقام البيان، فيمكن التمسّك بالإطلاق - حينئذ -. وأمّا بناءً على الصحيح: فحيث إنّ الأمر قد ورد علىالحصّة الخاصّة، وهي خصوص الصحيح

ص: 289

منها، فعند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّتة لا بدّ من إتيانها لكي نحرز موضوع الخطاب، وهو الصحيح.

ولكن:

أوّلاً: أنّ الحقّ هنا إمكان التمسّك بالبراءة، وعدم إمكان التمسّك إنّما يفرض إذا كان الماُمور به من المسبّبات التوليديّة لفعل المكلّف به، ويكون فعل المكلّف سبباً له، بحيث يكون الماُمور به عنواناً بسيطاً، والأجزاء والشرائط التي يأتي بها المكلّف تكون خارجةً عنها، وأنّ العنوان يكون هو المسبّب، وتكون الأجزاء هي السبب، وكلاهما موجود بوجود مستقلّ، كالقتل المسبّب عن المقدّمات الخارجيّة. وأمّا إذا كان المسبّب في الخارج هو عين وجود أفراده وليس شيئاً مستقلّاً بحذاء تلك الأجزاء والشرائط - خصوصاً بعد ما قلناه من أنّ الماُمور به هو نفس الأجزاء - فحينئذ: تجري البراءة بناءً على الانحلال، وبناءً على الصحيح أيضاً.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره)(1): من أنّه بناء على الصحيح لا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، كما أنّه بناءً على الأعمّي لا مناص من الرجوع إلى البراءة.

بتقريب: أنّ تصوير الجامع للصحيح لا يمكن إلّا بتقييد المسمّى بالعنوان البسيط الخاصّ، إمّا من ناحية علل الأحكام أو من ناحية

ص: 290


1- أجود التقريرات 1: 44 - 45.

معلولاتها، وأنّ هذا العنوان خارج عن المأتيّ به ومأخوذ في الماُمور به، وعليه: فالشكّ في اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً يوجب - لا محالة - الشكّ في حصول العنوان المزبور، فيرجع إلى الشكّ في المحصّل، والمرجع فيه - حينئذ - قاعدة الاشتغال.وثانياً: أنّه لو سلّمنا كون الشكّ في الصحيح شكّاً في المحصّل، فإنّ من المسلّم من عدم جريان البراءة إنّما هو المحصّل العقلي؛ لفقد شرطها فيه، وهو كون المجعول فيه من الاُمور الشرعيّة، وأمّا المحصّل الشرعي فتجري فيه البراءة لوجود شرطه.

قد يقال: تظهر الثمرة في النذر، كما إذا نذر شخص إعطاء درهم لمن يصلّي، فأعطاه درهماً، فعلى القول بالأعمّ، تبرأ ذمّته وإن علم بفساد صلاته، وأمّا على القول بالصحيح، فلا، إلّا مع إحراز صحّة صلاته.

ولكن قد يرد على هذا: أنّ هذا يخرج البحث عن مسألة الصحيح والأعمّ؛ لأنّها ليست مسألةً اُصوليّة، والمسألة الاُصوليّة هي التي تقع نتيجتها كبرىً لقياس يستنتج منه الحكم الكلّيّ الإلهيّ، وهذه المسألة، بعد ضمّها إلى صغراها، لا يستنتج منها إلّا برء النذر وعدمه، وهو حكم جزئيّ، وليس بحكم كلّي.

هذا. مضافاً إلى أنّ البراءة تابعة لكيفيّة نذر الناذر، فإذا كان مقصوده من نذره إعطاء من يصلّي مطلقاً، تبرأ ذمّته، ولو كانت الصلاة باطلة، لو فرض لفظ (الصلاة) للصّحيح، ولكن بشرط أن يكون متعلّق النذر راجحاً

ص: 291

وبقيّة شروطه موجودةً، وإن نذر الإعطاء لمن يصلّي الصلاة الصحيحة، ولو فرض وضع الصلاة للأعمّ، فلا تحصل البراءة.

قال الشيخ(قدس سره): «فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمّي هو لزوم الإجمال على القول بالصحيح، وحكم المجمل مبنيّ على الخلاف في وجوب الاحتياط أو جريان أصالة البراءة وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئيّة - لأصالة عدم التقييد - على القول بالأعمّ»(1).

وقد ذكروا من جملة الثمرات التي تترتّب على القولين:أنّ الحكم الوارد على عنوان الصلاة يختلف باختلاف القولين؛ لأنّه قد ورد النهي عن صلاة الرجل الواقف بحذاء المرأة المصلّية قبل الرجل، فبناءً على القول بالصحيح: لو كانت صلاة المرأة فاسدةً فلا نهي عن صلاة الرجل ولا تكون صلاته باطلة؛ لعدم صدق الصلاة على عمل المرأة، وأمّا على القول بالأعمّ: فصلاته منهيّ عنها، وتكون باطلة.

وفيه: أنّ هذه ليست من المسائل الاُصوليّة؛ لأنّها من المسائل الجزئيّة، وأيضاً: فالصحّة تارةً تصدق على ما عليه العرف - أي: الصحّة المأخوذة في المسمّى - وتارةً يكون المراد منها الصحّة في الماُمور به، أي: التي تكون جامعةً للأجزاء والشرائط.

فالصحّة بالمعنى الثاني غير الصحّة التي يتنازع فيها من جهة دخلها

ص: 292


1- فرائد الاُصول 2: 347.

في المسمّى، فيمكن أن لا يصدق عليها الصحيح هناك من جهة عدم الصدق العرفيّ، وإن صدق عليه عنوان الصحّة بمعنى: تامّ الأجزاء والشرائط. وعليه: فهو وإن لم يصدق عليه الصلاة عرفاً، ولكن بما أنّها جامعة للأجزاء والشرائط، فإذا صلّى الرجل بعدها تقع صلاته باطلة، فهذه الثمرة إذاً ليست بثمرة.

الكلام في المعاملات

وأمّا المعاملات: فهل هي أسامٍ لخصوص الصحيح منها أو الأعمّ؟ لا بدّ قبل الدخول في البحث من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

قد يقال: إنّ الصحّة التي هي محلّ البحث ليست بمعنىً واحد في نظر الشارع والعرف، إذ قد يكون البيع الصحيح عند العرف غير صحيح عند الشارع، كبيعالصبيّ، الذي هو صحيح عند العرف دون الشرع، فيتخيّل من هذا: أنّ الصحيح في نظر الشارع هو غير الصحيح في نظر العرف.

وقد اُورد عليه: بأنّ الصحيح في نظر كليهما بمعنىً واحد، والاختلاف بينهما ليس في المعنى، بل الاختلاف في تحقّق الصحيح ومصداقه، فالشارع يخطّىء العرف، حيث لا يرى البلوغ دخيلاً في الصحّة، ويلتزم الشارع بدخله فيها، والعقد المؤثّر لا بدّ أن يكون صادراً عن البالغ.

ولكنّ الحقّ: أنّ الاختلاف بينهما في نفس المعنى، لا في

ص: 293

المصداق، فإنّ العرف حينما يلتزم بصحّة بيع الصبي، فإنّه يرى عدم دخل البلوغ في مفهوم البيع، وعلى العكس، فالشارع يرى دخله فيه، وبعد مراجعة اللّغة المفسّرة للبيع بمبادلة مال بمال، وأمثاله، يظهر: أنّ مفهوم البيع هو المبادلة الخاصّة فقط، وأمّا البلوغ وغيره فليس داخلاً في المفهوم، وإنّما يحقّق المصداق الخارجيّ، أي: فهو معتبر في تحقّقه، فكلاهما يتّفقان على أنّ البيع هي المبادلة من المالكين، ولكنّ الشارع يقول: هذا العمل ليس مبادلة واقعيّة لقيام الصبي به، وأمّا العرف فيقول: هي مبادلة واقعيّة.

فيكون بين البيع العرفيّ وبين البيع الشرعيّ عموم مطلق؛ لأنّه بناء على الصحيح فكلّ ما يكون صحيحاً بنظر الشرع يكون صحيحاً في نظر العرف، لا العكس.

والأمر الثاني:

قد يقال: هذا البحث إنّما يجري بناءً على كون هذه الألفاظ موضوعةً للأسباب، وأمّا لو فرضنا أنّها قد وضعت للمسبّبات، فلا.

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سره):«أمّا لو قلنا: بوضعها للمسبّبات - كما هو كذلك - فلم يبق مجال للنزاع أصلاً، وذلك من جهة ما بيّنا: أنّ الصحّة والفساد متقابلان تقابل العدم والملكة، والفساد عبارة عن عدم التماميّة في موضوع قابل للتماميّة، والمسبّبات عناوين واعتبارات بسيطة أمرها دائر بين الوجود والعدم،

ص: 294

لا أنّه هناك شيء موجود تارةً يكون غير تامّ، فيقال: بأنّه بيع فاسد أو صلح فاسد - مثلاً - واُخرى تامّ، فيقال: إنّه صحيح.

وبعبارة اُخرى: المتّصف بالصحّة والفساد لا بدّ أن يكون مركّباً حتّى يقال - عند وجود جميع أجزائه وشرائطه وفقد جميع موانعه بحيث يكون مؤثّراً في وجود أثره -: إنّه صحيح وتامّ، وعند فقد جزء أو شرط أو وجود مانع: إنّه فاسد غير تامّ. وأمّا الشيء البسيط الذي لا جزء له ولا شرط ولا مانع له، بل إنّما تكون هذه الاشياء من أسبابه، وليس هو إلّا أثراً لما هو السبب التامّ ، فإذا تحقّق السبب التامّ يوجد بلا تصوير نقص وعدم التماميّة فيه، وإذا لم يتحقّق، لا يوجد شيء أصلاً، لا أنّه يوجد ناقصاً وغير تامّ»(1).

ولكنّ هذا الذي ذكره) إنّما يتمّ فيما لو أخذ الموضوع شرعاً، وأمّا الموضوع العرفيّ فإنّه يمكن أن يقال: بأنّ العرف قد يساعد على تحقّقه ولو مع عدم ترتيب الآثار عليها في نظر الشرع.

والحقّ: أنّه ما دام قد فرض بساطته فلا فرق بين الشرعيّ والعرفيّ، ولكنّ الصحّة، ولو كانت بمعنى التماميّة، فالتماميّة تكون نسبيّة، أي أنّها من بعض الجهات تامّة ومن بعضها ناقصة، كالخلّ - مثلاً - إذا فرضت صحّته من ناحية الطعم وفساده من ناحية الرائحة، فنقول: هذا المسبّب وهذا الانتقال صحيح بالنسبة إلى اللّيل دون النهار.وبعبارة اُخرى: فإنّ

ص: 295


1- منتهى الاُصول 1: 66 - 67.

الانتقال إذا تصوّرناه بالنسبة إلى الأزمنة والأمكنة يصبح كالمركّب في أنّه يوجد الانتقال نهاراً وإن لم يوجد ليلاً.

والأمر الثالث:

أنّ كلّ فعل - بالنسبة إلى النتيجة الحاصلة منه - ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: أن يكون من قبيل المعدّ.

والثاني: أن يكون فعلاً مباشراً للفاعل.

أمّا الأوّل: كما إذا أمر شخصاً بأن يقتل آخر، فإنّ الأمر يكون معدّاً بالنسبة إلى فعل زيد، فالقاتل في الحقيقة هو المباشر لا الآمر.

وأمّا الثاني: وهو المباشر، فهو:

تارةً يكون بلا واسطة شيء بين الفعل والنتيجة ولا بتوسّط إرادة فاعل مختار بينهما، بل تترتّب النتيجة عليه مباشرةً، مثلاً: لو ألقي شخص في النار، فإنّ الإلقاء مقتض للإلحراق، إلّا لمانع كالرطوبة أو كالأمر الذي في قوله تعالى: ﴿قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم﴾(1) - إلّا أن يقال: إنّ ظاهر الآية المباركة انّ الأمر أثّر في رفع المقتضي لا إيجاد المانع - ويسمّى هذا القسم ﺑ (المسبّب التوليديّ).

واُخرى: يكون فعلاً مباشراً للفاعل صادراً بآلة، والآلة تارةً من أعضاء البدن كالضرب باليد، واُخرى من الاُمور الخارجيّة كالضرب بالعصا .

ص: 296


1- الأنبياء: الآية 69.

مثلاً: لو كتب بالقلم، فإنّ الكتابة في الحقيقة صادرة منه لا من القلم.

والفرق بين المسبّبات التوليديّة والمباشريّة: أنّ الأوّل ناتج من أفعال الواسطة التي تفعل الشيء بلا اختيار وشعور وإرادة، فإنّ الإلقاء في النار مقتض للإحراق، وهذابخلاف الفعل المباشريّ، فإنّ وضع القلم على القرطاس غير مقتضٍ للكتابة، وإنّما تنسب الكتابة في الحقيقة إلى الشخص لا إلى القلم.

فإذا عرفت هذا، فنسأل: هل النقل والانتقال من الأسباب التوليديّة أم من الاُمور المباشريّة؟ فنقول: ليس باب العقود من قبيل الأسباب والمسبّبات التوليديّة، بل هو من قبيل الفعل المباشريّ والإيجاد بالآلة. فإنّ المسبّب في باب الأسباب والمسبّبات لم يكن بنفسه فعلاً اختياريّاً للفاعل، بل يصدر منه بدون اختيار، كالإحراق للنّار، فلا يمكن أن تتعلّق الإرادة به بنفسه.

نعم، الفعل الاختياريّ وما تتعلّق به الإرادة هو السبب، وأمّا الفعل المباشريّ - كالإيجاد بالآلة، مثل الكتابة - فهو بنفسه فعل اختياريّ للفاعل ومتعلّق للإرادة ويصدر عنه أوّلاً وبالذات؛ فإنّ الكتابة ليست مجرّد وضع القلم على القرطاس، بل وضع القلم مع إرادة خاصّة، فهو بنفسه فعل اختياريّ صادر عن المكلّف مع الإرادة والقصد، وأمّا الإحراق فإنّ الذي هو فعل اختياريّ للمكلّف هو محض الإلقاء في النار، لا الإحراق بنفسه.

ص: 297

وقد اتّضح: أنّ البيع من الأفعال المباشريّة، وهو إمضائيّ، وليس تأسيسيّاً، بمعنى: أنّ الشارع المقدس قد أمضى البيع العرفيّ العقلائيّ، وأنّه اسم للمسبّبات، وبما أنّ المسبّب أمر بسيط، والانتقال عبارة عن إضافة الملكيّة بلفظ أو فعل، فهذه الإضافة: إمّا أن توجد بهذا اللّفظ كما أمضى الشارع له، أو لا توجد، كبيع الصبيّ الذي لم يمضه الشارع.

وليست هذه العقود من الاُمور المخترعة الشرعيّة حتّى يبحث عن أنّها قد وضعت للصّحيح أو للأعمّ.وكذا بناءً على التأثير والتأثّر، حيث قلنا: بأنّ بالمسبّبات اُمور بسيطة - وهي الأثر البسيط الذي يترتّب على الأسباب - فلا تتّصف أيضاً بالصحّة والفساد، وإنّما تتصف بالوجود والعدم؛ لأنّ ملاك الصحّة هو ترتّب الأثر على الصحيح، والمسبّبات في المعاملات هي آثار صحيحة، فإذا وضع الاسم لنفس الأثر، فلا معنى لأن ينازع في أنّ المسمّى بذلك الاسم هل هو الصحيح أو الأعمّ من الصحيح والفاسد.

ولكن لا يخفى أنّه:

أوّلاً: أنّه لو فرض بأنّ البيع هو المسبّب فتارةً يتصوّر على أنّه أمر حقيقيّ واقعيّ يتحقّق في الواقع عند تحقّق بعض أسبابه، فحينئذ: يكون النهي عنه من الشارع تخطئةً للعرف الذي يرى وقوعه بالسبب الذي أوجده وتخيّل أنّه يتوصّل به إليه، فبهذا المعنى لا مجال للنّزاع؛ لأنّه إمّا أن يوجد بهذا السبب أو لا يوجد، والصحيح عند الشارع والعرف بمعنىً

ص: 298

واحد، وإنّما تخيّل العرف أنّه إذا أوجد البيع بهذه الأسباب فإنّه يتحقّق ويكون الانتقال صحيحاً، وقد خطّأه الشارع في ذلك، فنهي الشارع حينئذ يكون تخطئةً للعرف الذي يرى وقوعه بالسبب الذي تخيّله.

وثانياً: أنّ البيع، وإن كان أمراً واقعيّاً، إلّا أنّه يتحقّق بأمرين، وبنحوين من الأسباب، كإلقاء المال إلى المشتري أو إجراء الصيغة، إلّا أنّ الشارع قد اشترط في تحقّق أحكام البيع وصحّة تصرّف المشتري ووجوب تسليم البائع له، أن يكون البيع متحقّقاً بسبب مخصوص، وإن اشترك السببان أو الأسباب في إيجاده وتحقّقه، والشارع يرى أنّ ترتّب آثار الملكيّة وأحكامها إنّما يتحقّق عند إجراء بعض هذه الأسباب - كالبيع بالصيغة - دون البعض الآخر، كإلقاء المال إلى المشتري - مثلاً -.وثالثاً: أنّ البيع، بما أنّه أمر اعتباريّ، فمفهومه، وإن كان بنظر العرف والشارع واحداً، إلّا أنّ مصاديقه تختلف باختلاف الاعتبار؛ وذلك لأنّ الشارع يعتبر من مصاديقه المحقّقة عند العرف مصداقاً خاصّاً، وهو: البيع الصادر من البالغ - مثلاً - باعتبار أنّ البلوغ يكون دخيلاً في تحقّق ما لا يعتبره العرف كذلك، ولذلك يرى العرف أنّ بيع الصبيّ صحيح.

وقد ظهر على ضوء ما مرّ: أنّ البحث يجري في القسمين الأخيرين حتّى لو قلنا: بأنّ البيع قد وضع للمسبّب، فيمكن حينئذ أن يقال: بأنّ لفظ

ص: 299

البيع هل وضع للصّحيح أو للأعمّ منه ومن الفاسد؟ وأنّ ما ذكره المحقّق المذكور) من عدم تأتّي البحث بناءً على أن يكون البيع اسماً للمسبّب مطلقاً، في غير محلّه.

نعم، لو قلنا: بأنّ البيع بمعنى التأثير والتأثّر، وأنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للمسبّبات - وهي الآثار المترتّبة على الأسباب كالنقل والانتقال - فلا يتصوّر جريان النزاع فيه؛ لما ذكرنا من أنّها اُمور بسيطة، فلا تتّصف بالصحّة والفساد، بل بالوجود والعدم. إلّا أن نقول بإمكانه بالنسبة إلى الأمكنة أو الأزمنة، كما مرّ.

ص: 300

الفصل الثاني عشر: الاشتراك

اشارة

لا يخفى: أنّ مورد البحث هو الاشتراك اللّفظيّ. ويبحث عنه: تارةً من جهة الإمكان، واُخرى من جهة الوقوع.

أمّا الجهة الاُولى:

فقد اختلف في إمكانه وعدمه. فمنهم من ذهب إلى القول بالاستحالة، لأنّ الاشتراك ينافي حكمة الوضع؛ فإنّ المراد من الوضع هو التفهيم والتفهّم، والاشتراك سبب لإجمال المعنى؛ لأنّ نسبة اللّفظ الموضوع إلى كلّ من المعنيين على حدّ سواء، فالاشتراك يوجب إجمال المعنى، وهو مناف لحكمة الوضع.

وقد أُجيب عن هذا:

أوّلاً: بأنّ الاشتراك ليس سبباً لإجمال المعنى، ولا للإخلال بالتفهيم، ولا هو منافٍ لحكمة الوضع؛ وذلك لإمكان الاتّكال في تفهيم المعنى وإرادته على القرائن، ولذا قيل: إنّ الاشتراك كالمجاز يحتاج إلى القرائن،

ص: 301

مع فارق، وهو أنّ القرينة في الثاني من أجل إرادة خلاف الحقيقة، وفي الأوّل لتعيين المراد وتسمّى ﺑ «معيّنة المراد».

وثانياً: قد تكون الحكمة في الإجمال وعدم إظهار المراد في بعض الموارد، كمجلس التخاطب، فيلقي المتكلّم الكلام على وجه الإجمال ثمّ بعد ذلك يبيّنه، كما في ترك ذكر الخاصّ إلّا في وقت العمل، وعليه: فقد يكون الإجمال في المراد من الأغراض العقلائيّة.

وفي مقابل هذا القول قول آخر، وهو القول: بوجوب الاشتراك؛ بدعوى تناهي الألفاظ وعدم تناهي المعاني.أمّا تناهي الألفاظ: فمن جهة تركّبها من الحروف الهجائيّة المتناهية، والمركّب من المتناهي متناه، والمعاني غير متناهية، ومن المعلوم عدم وفاء المتناهي بغير المتناهي. إذاً، فلابدّ من الاشتراك ووضع لفظ لمعان متعدّدة حتّى تكون الألفاظ وافيةً بالمعاني، ولكيلا يبقى معنىً بدون لفظ.

وقد استدلّ بعض العامّة على حجّيّة القياس في الأحكام الشرعيّة بنظير هذا الاستدلال، فقالوا: إنّ الفروع غير متناهية، وأحكام الكتاب والسنّة متناهية وغير وافية بالفروع، فلابدّ من القول: بحجّيّة القياس ليفي بالفروع.

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّه على فرض التنزّل والقول بأنّ الألفاظ متناهية، فإنّ وضعها بإزاء المعنى غير المتناهية يدور أمره بين أن يكون محالاً أو لغواً؛ بيان

ص: 302

ذلك: أنّ الواضع إمّا هو البشر، وهم متناهون، فلا يمكنهم ذلك، إذ كيف يمكن صدور الأوضاع غير المتناهية عن المتناهي؟(قدس سره) وإمّا هو الله تعالى، وهو عزّ وجلّ، وإن كان قادراً على وضع الألفاظ غير المتناهية، لعدم تناهيه، ولكن بما أنّ المستعمل هم البشر، وبما أنّ الوضع ليس إلّا مقدّمةً للاستعمال، فوضع الزائد عن مقدار الحاجة لغو.

فيكون وضع الألفاظ بإزاء المعاني غير المتناهية، والحالة هذه، لغواً، والحكيم تعالى منزّه عنه.

وثانياً: لا نسلّم أنّ المعاني غير متناهية؛ لأنّها إمّا جوهر أو عرض، وكلاهما متناهيان.

وبعبارة اُخرى: فإنّ جميع ما سوى الباري جلّ وعلا يكون متناهياً. وعلى فرض التنزّل وتسليم أنّ المعاني والمفاهيم الجزئيّة ليست متناهيةً، إلّا أنّه لا محيص عنالالتزام بالتناهي في المعاني الكلّيّة، فلا مانع من أن يوضع اللّفظ بإزاء تلك المعاني الكلّيّة دون مصاديقها وجزئيّاتها.

وثالثاً: هذا الكلام إنّما يتمّ لو تنزّلنا وسلّمنا بعدم التناهي المحتاج إليه في التفهيم والتفهّم، ولكنّ هذا إنّما يقبل فيما لو فرض أنّ جميع الاستعمالات يجب أن تكون على نحو الحقيقة.

وأمّا لو قلنا: بأنّ الألفاظ موضوعة بإزاء بعض المعاني الحقيقيّة؛ فإنّ باب المجاز واسع، ولا ينحصر التفهيم التفهّم بالوضع واستعمال اللّفظ في المعنى الحقيقيّ، بل يمكن تفهيم بعض المعاني باستعمال اللّفظ في

ص: 303

المعنى الحقيقيّ، والبعض الآخر باستعماله في المعنى المجازيّ.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّ الاشتراك ليس بواجب، كما قد عرفت أنّه ممكن، وليس بمحال.

وقد استدلّ صاحب الفصول(قدس سره) لإمكان الاشتراك بقوله:

«فصل:

الحقّ كما عليه المحقّقون: إمكان الاشتراك ووقوعه في اللّغة. - إلى أن قال -: لنا على إمكانه: عدم ما يقتضي وجوبه وامتناعه، وعلى وقوعه في اللّغة: نصّ اللّغويّين عليه في ألفاظ كثيرة ﻛ (القرء) في الطهر والحيض، و(العين) في الجارية والجارحة، و(عسعس) في أقبل وأدبر. وظاهر أنّ نقلهم إذا سلم عن المعارض كان حجّةً اتّفاقاً»(1). انتهى.

وأمّا الجهة الثانية:

فقد استدلّوا على وقوع الاشتراك بالآية الشريفة: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنّ اُمّ الْكِتَابِ وَاُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾(2)، والمتشابه هو المجمل. فلا مانع من وقوع الاشتراك بعدما ذكرناه من أنّه قد يتعلّق الغرض بالإجمال والإهمال، وعليه: فيمكن وقوعه مطلقاً.

وأمّا التفصيل بين القرآن وغيره، والقول بامتناع وقوعه فيه دون غيره؛

ص: 304


1- الفصول الغرويّة: 31.
2- آل عمران: 7.

فوجهه: أنّه لو وقع الاشتراك في القرآن، فإمّا أن يتّكل على القرائن في إفهام المعنى فيلزم التطويل بلا طائل، إذ كان بالإمكان أن يبيّن المراد بلفظ متّحد المعنى، فلا حاجة - حينئذٍ - إلى الاشتراك. وإمّا أن لا يتّكل في تعيين المراد على القرائن، فيلزم الإجمال، وكلا الأمرين غير لائق بكلامه تبارك وتعالى، كما هو ظاهر.

قد يقال: بأنّ هذا الكلام غير تامّ بعد الفراغ عن وقوع الاشتراك في القرآن. ولكنّه إنّما يصحّ إذا قلنا: بأنّ المراد من التشابه: تردّد اللّفظ بين المعاني.

أمّا دعوى: لزوم التطويل بلا طائل، فواضحة البطلان في الموارد التي يكون الاتّكال فيها على القرائن الحاليّة، فإنّ القرائن لا تنحصر بالمقاليّة، كما هو واضح. ثمّ كيف يلزم التطويل بلا طائل إذا كان هناك غرض آخر زائداً على بيان معنى المراد؟(قدس سره) وأمّا دعوى: كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى، ففيها: أنّه قد يتعلّق الغرض بالإجمال أحياناً، فيكون لائقاً.

هذا.وقد أضاف صاحب الفصول(قدس سره) جواباً ثالثاً، بقوله: «على أنّ اللّفظ المشترك قد يكون أفصح من غيره وأوفق بالقافية ونحو ذلك، فيترجّح من جهته»(1).

ص: 305


1- الفصول الغرويّة: 31.

ويمكن أن يُضاف جواب رابع في البين، حاصله:

أنّ ثبوت الاشتراك في مثل ألفاظ: (قرء) و(عين) و(عسعس) - ممّا نصّ اللّغويّون على اشتراكه كما تقدّم - ممّا يقضي بوقوع الاشتراك في القرآن المجيد بعد وضوح وجود هذه الألفاظ فيه.

والحاصل: أنّ ما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) تبعاً للمحقّق الخراسانيّ)(1) - من أنّ «ما ذكروه من الأدلّة على الوجوب أو الامتناع معلوم الفساد، فلا يليق بأن يذكر أو يسطر»(2)- وجيه وفي محلّه.

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ منشأ الاشتراك هل هو الوضع التعيينيّ أو التعيّني أو اختلاف اللّغات نتيجةً لكون العرب طوائف متعدّدة، واختلاط هذه اللّغات بعضها ببعض، كما استظهره المحقّق النائيني(قدس سره)(3) من بعض المؤرّخين، أنّه حدث «من خلط بعض اللّغات ببعض، مثلاً: كان يعبّر عن معنىً في لغة الحجاز بلفظ، ويعبّر عن ذلك المعنى في لغة العراق بلفظ آخر»، ومن جمعهما أخيراً وجعل الكلّ لغةً واحدةً حدث الاشتراك.

ولا يخفى: أنّه إذا قلنا بوجود الترادف، فحاله في ذلك، حال الاشتراك بعينها.

ص: 306


1- أجود التقريرات 1: 51.
2- منتهى الاُصول 1: 70.
3- كفاية الاُصول: 35.

ثمّ إنّ الاُستاذ الأعظم(قدس سره) ذكر(1): أنّ ما قد أُفيد من إمكان الاشتراك وأنّه لا يمتنع ولا يجب، وإن كان صحيحاً، إلّا أنّه إنّما يتمّ على مسلك القوم في تفسير الوضع، أي:على المسلك القائل بأنّ حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار الواضع وجعله الملازمة بين طبيعيّ اللّفظ والمعنى الموضوع له، أو بأنّ حقيقته جعله وجود اللّفظ وجوداً للمعنى تنزيلاً، أو بأنّ حقيقته جعله اللّفظ على المعنى في عالم الاعتبار...

فهنا لا مانع من الاشتراك وتعدّد الجعل، لأنّ الاعتبار سهل المؤونة، ولا محذور في تعدّده في اللّفظ الواحد أصلاً.

وأمّا بناءً على المسلك الذي اختاره هو) من أنّ حقيقة الوضع هي التعهّد فغير ممكن؛ لأنّه لا يمكن للواضع أن يجمع بين تعهّدين بلفظ واحد، فإنّ الثاني يكون مناقضاً للأوّل، ففي فرض تعهّده للثاني فلابدّ له أن يرفع يده عن التعهّد الأوّل.

ولكنّ ذلك إنّما يتمّ لو قلنا: بأنّ منشأ الاشتراك هو الوضع من شخص واحد، وأمّا لو قلنا: بأنّ الاشتراك حصل من خلط اللّغات، فلا ريب في أنّه يصحّ على مذهبه هو أيضاً؛ إذ يمكن أن يتعهّد كلّ شخص منهم في مورد لفظ خاصّ أن يأتي به لمعنىً غير ما وضعه له الآخر، ولا منافاة بين التعهّد الأوّل التعهّد الثاني، كما لا يخفى.

ص: 307


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 202 - 203.

وخلاصة القول: أنّه بعد المفروغيّة عن وقوع الاشتراك في الكلام الفصيح وفي مسموع اللّغة - ﻛ (القرء) وغيره - فلا نتيجة لهذا البحث.

ص: 308

الفصل الثالث عشر: استعمال اللّفظ في أكثر من معنى

اشارة

وقبل الدخول في أصل البحث لا بدّ من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

المراد من استعمال اللّفظ في أكثر من معنى هو: استعماله في كلّ من هذه المعاني على نحو الاستقلال، وإرادة كلّ منها كذلك في استعمال واحد، كما يراد كلّ واحد من المعاني باللّفظ منفرداً، وليس المراد استعماله في مجموع المعاني، بحيث يعدّ كلّ منها جزءاً للمستعمل فيه، كالعامّ المجموعيّ؛ فإنّ هذا خارج عن محلّ البحث، وكذا استعماله في الجامع بين المعاني، بحيث يكون كلّ واحد فرداً لذلك الجامع، كاستعمال صيغة الأمر في مطلق الطلب الذي هو جامع بين الوجوب والندب.

ص: 309

وكذا استعمال اللّفظ في كلّ واحد لا بعينه، بحيث يكون المعنى هو الفرد المردّد بين المعاني.

والأمر الثاني:

أنّ المراد من الاستعمال هو: استعمال اللّفظ في المعاني الإفراديّة التصوّريّة، دون التركيبيّة؛ لأنّ الألفاظ موضوعة لذلك، وأمّا معاني الجمل فإنّها تستفاد من ضمّ المفردات بعضها إلى بعض.

الأمر الثالث:

هل هذا الاستعمال مجاز أم لا؟ قد يقال: بالمجازيّة؛ لأنّ اللّفظ وضع للمعنى مقيّداً بالوحدة، فاستعماله في المعنيين مستلزم لإلقاء قيد الوحدة، فيصبح استعمالاً في غير ما وضع وغير المعنى الحقيقيّ.

ويرد عليه: ما سيأتي: من أنّه لم يوضع للمعنى مع قيد الوحدة، بل لا دليل على اعتباره فيه؛ لأنّه لو اُريد من قيد الوحدة: لحاظ المستعملين للوحدة، فإنّه محال أخذه؛ لأنّه يوجب أخذ ما هو المتأخّر عن الوضع - أي اللّحاظ الناشئ عن الاستعمال الذي هو متأخّر - في الموضوع له.

وبعبارة اُخرى: فإنّنا نسأل: هل المراد من الوحدة التي تصوّرها قيداً هو أن تكون قيداً للموضوع له أو للاستعمال، بأن يكون الواضع قد شرط

ص: 310

على المستعملين أنّه لا يجوز لهم استعمال اللّفظ في الموضوع له إلّا حال الانفراد، أي: انفراد المعنى ووحدته؟(قدس سره) إن كان هذا هو المراد، فهو شرط تعبّديّ ولا يجب اتّباعه، بل - وعلى فرض المخالفة - لا يضرّ بحقيقة الكلام.

وأمّا لو فرض أنّه شرط لتحقّق الوضع، فإن كان المراد: أنّ الوحدة قيد للموضوع له، فلابدّ من اتّباع الواضع عند الاستعمال، ولكنّ هذا غير ثابت.

وأمّا إذا كان قيداً لنفس الوضع، بحيث يكون ثبوت الوضع متوقّفاً على الاستعمال، ففيه: أنّه محال؛ لأنّ معناه: أن يكون الشيء المتأخّر دخيلاً في المتقدّم، وقد ذكرنا سابقاً: أنّ الاستعمال عبارة عن إفناء اللّفظ في الموضوع له، فلو توقّف الوضع عليه لدار.

وأمّا ما ذكره صاحب القوانين(قدس سره): من أنّ الوضع حصل حال وحدة المعنى، وبما أنّ اللّغات توقيفيّة، فلا يجوز استعماله في أكثر من معنى، بل لا بدّ من مراعاة الانفرادحين الاستعمال في المعنى. وأمّا استعماله في أكثر من معنىً فهو مناف لتوقيفيّة اللّغات.

قال(قدس سره): «لا أقول: إنّ الواضع يصرّح بأنّي أضع ذلك اللّفظ لهذا المعنى بشرط أن لا يراد معه شي ء آخر وبشرط الوحدة، ولا يجب أن ينوي ذلك حين الوضع أيضاً، بل أقول: إنّما صدر الوضع من الواضع مع الانفراد، وفي حال الانفراد، لا بشرط الانفراد، حتى تكون الوحدة جزءاً للموضوع

ص: 311

له - كما ذكره بعضهم - فيكون المعنى الحقيقيّ للمفرد هو المعنى في حال الوحدة لا المعنى والوحدة...

إلى أن يقول(قدس سره): والحاصل: أنّ المعنى الحقيقيّ توقيفيّ لا يجوز التعدّي فيه عمّا علم وضع الواضع له، وفيما نحن فيه: لا نعلم كون غير المعنى الواحد موضوعاً له اللّفظ، فلا رخصة لنا في استعمال اللّفظ بعنوان الحقيقة إلّا في المعنى حالة الوحدة، لا بشرط الوحدة»(1).

فقد أجاب عنه صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:

«فانقدح بذلك: امتناع استعمال اللّفظ مطلقاً - مفرداً كان أو غيره - في أكثر من معنى، بنحو الحقيقة أو المجاز، ولولا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه، فإنّ اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع، وكون الوضع في حال وحدة المعنى، وتوقيفيّته، لا يقتضي عدم الجواز بعدما لم تكن الوحدة قيداً للوضع ولا للموضوع له، كما لا يخفى»(2).وتوضيحه: أنّ الوضع وإن كان قد تحقّق حال وحدة المعنى وانفراده، إلّا أنّ هذا لا يمنع عن استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، وهو لا يعني: أنّ هذه الحال تجب متابعتها، وإلّا، فلو كانت متابعته واجبةً، لكانت متابعة سائر الحالات المقارنة للوضع أيضاً واجبة، ولكان تركها مانعاً عن صحّة

ص: 312


1- قوانين الاُصول 1: 63 و 67.
2- كفاية الاُصول: 36- 37.

الاستعمال، كما إذا أوقع الوضع في اللّيل - مثلاً - فيجب الالتزام حينئذ بعدم استعماله إلّا في اللّيل، وهو كما ترى. فالحقّ: أنّ اللّفظ قد وضع لذات المعنى، من دون قيد من الوحدة وغيرها. نعم، قد يوضع اللّفظ للمعنى المقيّد بشيء؛ كالرجل الموضوع للإنسان بقيد الذكوريّة، فهنا لا يكون محذور أصلاً في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.

نعم، يأتي المنع إذا فرض الانفراد قيداً للوضع، ويكون هذا القيد من قبيل الشرط على المستعملين من قبل الواضع، كأن يقال: لا تستعملوا اللّفظ إلّا في حال الانفراد، ولو كان الموضوع له هو طبيعيّ المعنى. وهذا نظير الشرط المأخوذ في ضمن العقد، ولكنّ الشرط على هذين النحوين لا يكون مانعاً؛ لأنّ الأوّل مستحيل والثاني لم يثبت. فلا مانع من جواز الاستعمال من هذه الجهة، بل المانع الامتناع العقليّ؛ إذ:

أوّلاً:

قد ذكرنا أنّ حقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللّفظ فانياً في المعنى - وليس بمعنى العلامة - بحيث يعدّ اللّفظ وجوداً لفظيّاً للمعنى في مقابل سائر الوجودات.

وملخّص ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) في الاستدلال على عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى:

أنّ حقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللّفظ وجهاً للمعنى، ولا يمكن جعل اللّفظ وجهاً إلّا لمعنىً واحد، وذلك لأنّ لحاظ اللّفظ وجهاً في

ص: 313

إرادة المعنى، ينافي جعله وجهاً لمعنىً آخر.ووجه المنافاة: أنّ لحاظ اللّفظ وجهاً للمعنى، لا يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانياً فيه اللّفظ، وكيف يمكن في نفس الحال إرادة معنىً آخر يفنى فيه اللّفظ أيضاً في استعمال واحد، مع استلزامه الجمع بين اللّحاظين في حال واحد.

وبعبارة اُخرى: فإنّه لا يمكن أن يجعل اللّفظ بتمامه وجهاً لتمام المعنى، وفي عين جعله كذلك يجعل أيضاً وجهاً بتمامه لتمام معنىً آخر في استعمال واحد، بل هذا ممتنع عقلاً، فإنّ اللّفظ بعد أن جعل بتمامه وجهاً لتمام المعنى الأوّل، فلا يبقى هناك شيء لكي يجعل بعينه وبتمامه وجهاً لتمام المعنى الآخر. أو فقل: إنّ اللّفظ بعد جعله فانياً بتمامه في المعنى الأوّل فهو لم يبق فارغاً لكي يجعل فانياً بتمامه في معنىً آخر، وهذا واضح.

والحاصل: أنّ استعمال اللّفظ في أكثر من معنى إنّما يكون معقولاً إذا كان على نحو الانضمام، وأمّا على نحو الانفراد والاستقلال فلا.

وبعد أن ذكرنا أنّ للشيء وجودات أربعة، هي: الوجود الخارجيّ والوجود الذهنيّ والوجود اللّفظيّ والوجود الكتبيّ، يتّضح: أنّ اللّفظ نحو من أنحاء الوجود للمعنى، فإذا كان استعمال اللّفظ إيجاداً المعنى بهذا الوجود اللّفظيّ، بعدما كان اللّفظ فانياً في المعنى وعنواناً له فكيف يمكن - في استعمال واحد - كون الشيء الواحد وجوداً لطبيعيّ هذا اللّفظ

ص: 314

أو هذه الماهيّة أو ذلك اللّفظ أو تلك الماهيّة الاُخرى باستعمال واحد؟(قدس سره) أو فقل: بما أنّ اللّفظ مرآة وحاك عن المعنى، وبما أنّ المرآتيّة ملحوظة حين استعمالها باللّحاظ الآليّ، فيلزم من استعمال اللّفظ الواحد في معنيين أو أكثر: أن يلاحظ اللّفظ الواحد في آنٍ واحد بلحاظين آليّين بعد صيرورته لذلك الاستعمالمرآتين حاكيتين عن معنيين، فيجتمع حينئذ اللّحاظان في استعمال واحد وفي واحد شخصيّ.

نعم، لو كان الوضع من باب وضع العلامة للمعنى لم يكن هناك مانع في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.

وأمّا ما قد يقال: من أنّه لا مانع في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى من جهة لزوم أن يكون الواحد الشخصيّ علّةً لأكثر من واحد، مع أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد.

ففيه: أنّ اللّفظ، وإن صار بالوضع مقتضياً لحضور المعنى عند سماعه، إلّا أنّه لا يكون بعلّة تامّة لذلك فيما إذا كان مشتركاً؛ إذ لا يفهم المعنى منه إلّا مع القرينة المعيّنة للمراد، ومعه يخرج عن كونه واحداً ولا يلزم صدور الكثير عن الواحد.

وثانياً:

أنّ استعمال اللّفظ في معناه: إيجاد للمعنى به إيجاداً تنزيليّاً، فيكون وجود اللّفظ في الخارج وجوداً طبيعيّاً لماهيّة اللّفظ ووجوداً تنزيليّاً للمعنى، وعند استعمال اللّفظ في كلا المعنيين يلزم أن يكون وجود اللّفظ

ص: 315

الحقيقيّ وجودين تنزيليّين، وصيرورة وجود واحد حقيقي وجودين تنزيليّين لمعنيين، بمعنى: وجود واحد بالذات لماهيّتين، وهذا محال.

وقد أُجيب عن هذا: بأنّ ثمّة فرقاً بين صيرورة وجود واحد بالذات وجوداً لماهيتين وبين تنزيل شيء منزلة شيء آخر؛ لأنّ هذا يكون محالاً، كما سنبيّنه.

أمّا محاليّة ذلك الوجود لماهيّتين لا يستلزم صيرورة الوجود الواحد بالذات وجودين تنزليّين لمعنيين؛ لأنّ امتناع الأوّل ذاتيّ، بلا فرق بين أصالة الماهيّة أو أصالةالوجود؛ لأنّ فرض الماهيّتين معناه: فرض الحدّين لهما، ونتيجته فرض وجودين، وهذا خلف.

وكذا بناءً على أصالة الوجود؛ لأنّ انتزاع الماهيّتين للوجود معناه: تعدّد الوجودين؛ لأنّ الماهيّة بناءً على أصالة الوجود حدّ للوجود، فيلزم تعدّد الحدود بتعدّد الوجود، وإلّا يكون الوجود حقيقةً واحدة.

ولكن في المقام يمكن تنزيل شيء منزلة شيء آخر بعدما كان المدار على نظر المعتبر من جهة السعة والضيق، غاية الأمر: أنّ كون الوجود الواحد وجوداً تنزيليّاً لوجودين، ولو كان ممكناً على نحو الاجتماع، إلّا أنّه ليس ممكناً على نحو الانفراد والاستقلال؛ لأنّ معنى الاتّحاد بين اللّفظ والمعنى هو الهوهويّة، وصيرورة الاثنين واحداً.

فلو أصبح اللّفظ وجوداً فانياً في المعنى الأوّل فلم يبقَ له وجود آخر حتّى يتّحد مع المعنى الثاني ويفنى فيه.

ص: 316

أمّا أنّ كون حقيقة الاستعمال فناء اللّفظ في المعنى كما قلنا، فيمكن أن نتصوّره من خلال بيان اُمور:

الأوّل: أنّ الوجود اللّفظيّ من أنحاء الوجود، وبعد أن فرضنا أنّ معنى الاستعمال فناء اللّفظ في المعنى على نحو يكون وجوداً لفظيّاً له، فتحقّق هذا الوجود للمعنى لا يمكن إلّا بعد فناء اللّفظ فيه.

والثاني: بعد أن قلنا: بأنّ هناك مغايرةً بين اللّفظ والمعنى وبأنّ هناك تنافياً بينهما، فلا يمكن أن يكون إلقاء اللّفظ إلقاءً للمعنى، إلّا بجعل الهوهويّة، وإلّا فكيف يمكن أن يكون إلقاء أحد الأجنبيّين إلقاءً للآخر، وهذه الهوهويّة متوقّفة على أن يكون اللّفظ فانياً في المعنى؟(قدس سره)والثالث: أنّ قبح اللّفظ - كما هو معلوم - يسري إلى المعنى، وبالعكس، فلو لم يكن هذا الاتّحاد بينهما فكيف يتحقّق ذلك؟ فإن قلت: يكفي في السراية مجرّد القرب والجوار.

قلنا: هذا لا يمكن أن يسلّم في جميع الموارد وعلى نحو العموم.

فإذا عرفت هذا: فالحقّ عدم الجواز، وذلك من جهة عدم إمكان لحاظين مستقلّين في آن واحد، وعدم إمكان فناء لفظ واحد في شيئين مستقلّين باستعمال واحد.

وإذ قد اتّضح: أنّ الصحيح هو القول بعدم الإمكان، فلا وجه لتفصيل

ص: 317

صاحب المعالم(قدس سره)(1) والقول بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع وعلى نحو المجاز في المفرد:

أمّا في التثنية والجمع: فبدعوى أنّهما بمنزلة تكرار اللّفظ، فكأنّ الذي لدينا لفظان أو ألفاظ لا لفظ واحد، ولا مانع من استعمال أحد اللّفظين أو الألفاظ في معنىً غير المعنى الذي استعمل فيه اللّفظ الآخر أو الألفاظ الاُخرى.

وأمّا في غير التثنية والجمع، وهو الإفراد، فبدعوى: أنّ الاستعمال في أكثر من معنىً واحد مستلزم لإلقاء قيد الوحدة وصيرورة المستعمل فيه جزءاً للمعنى الموضوع له.

فقد عرفت ممّا ذكرنا: أنّ عدم الجواز يأتي من جهة اجتماع اللّحاظين المتضادّين، فاستعمال اللّفظ في أكثر من معنى، بناءً على هذا، غير جائز مطلقاً، لا في التثنية والجمع ولا في المفرد، لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز.

وأمّا ما ذكر: من أنّ أقوى دليل على إمكان الشيء وقوعه، فإذا تحقّق الشيء في الخارج فلا معنى لاستحالته، ومثّلوا لذلك بتعدّد البطون في القرآن إلى سبع أو سبعين بطناً.ففيه: أنّ هناك فرقاً بين إرادة المعاني العديدة من لفظ واحد، وبين

ص: 318


1- معالم الاُصول: ص 44.

استعمال اللّفظ الواحد في أكثر من معنى، ومحلّ كلامنا هو الثاني دون الأوّل. فهذه البطون مرادة من اللّفظ، لا أنّ اللّفظ قد استعمل في المعاني المتعدّدة باستعمال واحد.

ويحتمل أن يكون المراد من البطون بعد فرض كونها مرادةً بالاستقلال: أنّ الدلالة على هذه المعاني مقارنة لاستعمال اللّفظ في معناه، لا أنّ اللّفظ يدلّ عليها منفرداً، كما إذا قال قائل: «حان وقت أداء الدين»، وأراد - مقارنةً لهذا الكلام - معنىً آخر، وهو مثلاً: «دخلنا في شهر كذا».

ويحتمل أن يكون المراد من البطون لوازم المعنى الموضوع له، لا يكون اللّفظ مستعملاً في تلك المعاني، كما إذا كان مجيء زيد غالباً ملازم لنزول البركات، فإذا قيل: (جاء زيد) فهم منه هذا اللّازم من غير أن يكون اللّفظ مستعملاً فيه هو أيضاً.

وقد انقدح بما بيّنّاه: أنّ ما ذكره بعض شرّاح الكفاية بقوله: «فالجواب الصحيح أن يقال: إنّ الأخبار الدالّة على أنّ للقرآن بطوناً سبعةً أو سبعين، وإن كانت هي ظاهرة في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى...». فغير تامّ.

وظهر أيضاً عدم تماميّة ما ذكره بقوله:

«وبالجملة: في إرادة البطون من القرآن المجيد احتمالان:

أحدهما: أن يكون من قبيل استعمال اللّفظ في المجموع، نظير

ص: 319

استعمال ألفاظ المركّبات في مجموع الأجزاء، فيكون كلّ بطن جزءاً للمعنى، لا معنىً مستقلّاً برأسه.وثانيهما: أن يكون من قبيل استعمال اللّفظ في القدر الجامع بين الجميع، نظير استعمال المشتركات المعنويّة في الجوامع بين المعاني العديدة، فيكون كلّ بطن فرداً للمعنى ومصداقاً له، لا معنىً مستقلّاً برأسه»(1).

فإنّ هذه الأخبار تكون - بهذا المحمل - خارجةً عن محلّ الكلام.

والإنصاف: أنّ حمل تلك الأخبار على أن تكون تلك البطون مرادةً من اللّفظ من دون أن يكون اللّفظ مستعملاً فيها، وكذا حملها على أن يكون المراد من البطون لوازم المعنى المستعمل فيه اللّفظ، على خلاف الظاهر.

ثمّ على فرض التنزّل وتسليم أنّ المراد من البطون من ظاهر الروايات هو جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، فلابدّ من تأويلها؛ لأنّها لا تتمكّن من معارضة الدليل العقليّ.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّ عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى إنّما يتمّ بناءً على الهوهويّة، وأمّا بناءً على أنّ حقيقة الاستعمال عبارة عن كونه علامةً على المعنى - كأماريّة النصب والعقود - فلا محذور أصلاً في استعمال اللّفظ الواحد في معنيين، بل في المعاني المتعدّدة.

ص: 320


1- عناية الاُصول 1: 115.

كما ظهر أيضاً: فساد ما ذكره بعض المحقّقين: من أنّه بناءً على كونه علامة أيضاً لا يجوز؛ لأنّ شرط الاستقلال ومعناه: الانفراد وعدم انضمام معنى آخر معه، فحينئذ في فرض الاستعمال في اكثر من معنى لا يتصوّر الاستقلال.

وجه الفساد: أنّ المراد من الاستقلال عدم الارتباط والقيديّة بين المعنيين، أي لا يكون كلّ من المعنيين قيداً للآخر، كالعامّ المجموعيّ، بل المراد: عدم ارتباط كلّمنهما بالآخر، كمجيء زيد بالنسبة إلى مجيء عمرو، فإنّ كلّ واحد من المجيئين ليس مقيّداً بالآخر. نعم، كان مجيئهما في زمان واحد.

وكيف كان، فقد عرفت أنّ الحقّ في حقيقة الاستعمال أنّه عبارة عن الهوهويّة لا العلاميّة؛ لأنّ المراد من استعمال اللّفظ هو إيجاد المعنى باللّفظ، وهو ليس إيجاداً تكوينيّاً له، وإنّما هو الإيجاد التنزيلي، كإيجاد المعنى كتابةً.

كيف لا؟(قدس سره) ولو كان بمعنى العلامة فلا يكون إيجاده إيجاداً للمعنى، ولا وجوده وجوداً تنزيليّاً له.

الثمرة

هل هناك ثمرة لهذا البحث؟ والجواب: نعم؛ فإنّه لو قلنا بجواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى

ص: 321

لأمكن في مثل المرويّ من قوله(علیه السلام): «لا صلاة إلّا بأذان وإقامة»(1)، الحمل على الوجوب في الثاني والاستحباب في الأوّل - هذا إذا لم نقل باستحباب كلّ من الأذان والإقامة، وإلّا، فلا كلام كما لا يخفى -. وفي مثل: «اغتسل للجمعة والجنابة»(2)، الحمل على الاستحباب في الأوّل والوجوب في الثاني.

ولكن - وكما ذكرنا في محلّه - فإنّ هذه الثمرة ليست بثمرة؛ وذلك لأنّ الأمر - كما سيأتي في محلّه - موضوع لمطلق الطلب، والوجوب أيضاً أمر بسيط، وكذا الاستحباب.فلا يكون معنى الوجوب عبارةً عن طلب الشيء مع المنع من الترك، ولا الاستحباب هو طلب الشيء مع جواز الترك، ولا أنّ الوجوب هو المرتبة الأكيدة، ولا الاستحباب هو المرتبة الضعيفة.

بل إنّما يعرف الوجوب والاستحباب من الدليل العقليّ ومن الخارج. فلا تنافي بين الوجوب والاستحباب بحسب الوضع، فاستعمال «اغتسل» وإرادة الوجوب والاستحباب ليس استعمالاً في أكثر من معنى حتّى تترتّب عليه هذه الثمرة. وكذا قوله(علیه السلام): «لا صلاة إلّا بأذان وإقامة»؛ فإنّ الاستعمال هنا - أيضاً - ليس استعمالاً في أكثر من معنىً واحد.

ثمّ إنّه قد يُستشكل في القول بعدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من

ص: 322


1- وسائل الشيعة 5: 444، الباب 35 من أبواب الأذان والإقامة، ح2.
2- ورد نظير لهذا اللّفظ في وسائل الشيعة 2: 261، الباب 43 من أبواب الجنابة.

معنىً بإشكال نقضيّ، وهو: جواز استعمال العامّ الاستغراقي في جميع أفراده، بتقريب: أنّ حكم العامّ يتناول كلّ واحد من أفراده، وذلك يستلزم كون كلّ واحد من الأفراد ملحوظاً بلحاظ يخصّه، فإذا صحّ تعلّق الحكم الواحد باُمور متعدّدة، مع كون كلّ واحد منها ملحوظاً بلحاظ خاصّ به في إطلاق واحد وآن واحد، فلتكن صحّة استعمال اللّفظ في أكثر من معنى أيضاً كذلك.

ولكنّ هذا النقض غير تامّ؛ لأنّ العامّ الاستغراقيّ لا يكون ملحوظاً إلّا بعنوان عامّ وحداني، وهذا العنوان العامّ الوحدانيّ هو الذي يستعمل فيه اللّفظ ويشار به إلى تلك الأفراد.

وأمّا الأفراد، فليس كلّ واحد منها ملحوظاً بلحاظ خاصّ به، ولا أنّ الملحوظ جميع الأفراد، كالعامّ المجموعيّ. إذاً، فهذا النقض غير تامّ.

ثمّ، وعلى فرض التنزّل والقول: بأنّ الحكم في العامّ الاستغراقيّ يستلزم ملاحظة كلّ واحد من الأفراد بلحاظ خاصّ به، ولكن ليس هناك لحاظات متعدّدة فياستعمال اللّفظ الواحد الشخصيّ - أعني به: اللّفظ العامّ - الذي هو عنوان لتلك الأفراد والمشار به إليها، بل ملاحظة تلك الأفراد كذلك إنّما تكون في مقام الجعل ووضع الحكم لها، لا في مقام الاستعمال، وكم من فرق بين المقامين.

وقد ذكرنا: أنّ المانع هو إرادة أكثر من معنىً واحد من اللّفظ في استعمال واحد له، لأنّه يستلزم تعدّد اللّحاظات المتنافية.

ص: 323

وإذ قد اخترنا القول بعدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، فلا فرق بين أن يستعمل اللّفظ المفرد أو المثنّى أو المجموع في النفي أو في الإثبات، على نحو الحقيقة أو المجاز، فإنّ الاستعمال في جميع هذه الموارد على حدّ سواء من عدم الجواز.

ص: 324

الفصل الرابع عشر: المشتقّ

اشارة

وتحقيق الحال فيه يستدعي بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

في بيان المعنى اللّغويّ للمشتقّ وتحديد ما هو المعنى الاصطلاحيّ، وبيان ما هي النسبة بينهما من النسب الأربعة؟أمّا المشتقّ لغةً: فهو: مطلق أخذ الشيء من الشيء، واقتطاف فرع من الأصل، يقال: اشتقّ النهر من الوادي، إذا أخذ شيء من مائه(1).

لا يخفى: أنّ هناك فرقاً بين مبدأ الاشتقاق وبين نفس المشتقّ، فإنّ حمل الأوّل على الذات من قبيل: (حمل ذو هو)، إذ لا يمكن ولا يصحّ حمل البياض على الجسم بحمل المواطاة و(حمل هو هو)، وإنّما يحمل عليه بواسطة (ذي) فيقال - مثلاً -: (الجسم ذو بياض).

ص: 325


1- راجع: لسان العرب 10: 184، مادّة (شق).

وهذا بخلاف نفس المشتقّ، فإنّ حمله (حمل هو هو)، المعبّر عنه ﺑ (حمل المواطاة)؛ إذ يمكن أن يثبت المشتقّ للذات ويقال: إنّه هو الذات، ويصحّ هذا الحمل بلا واسطة، فلا يقال: (الجسم ذو أبيض). نعم، يمكن حمل المبدأ على الذات بدون ذي من باب المبالغة، كقولك: (زيد عدل)، وفي غير هذه الحالة لا يجوز.

خلافاً لما نسب إلى الشيخ هادي الطهراني(1) أنّه قد فرّق بين المشتقّ والجامد بأنّ الحمل في الأوّل (حمل ذو هو)، وفي الثاني (حمل هو هو)، مع أنّ المشتقّ يحمل بحمل (هو هو)، فيكون كحمل الجوامد، وأمّا المبدأ فهو الذي يكون الحمل فيه (حمل ذو هو).

وقد قسّموا الاشتقاق إلى ثلاثة أقسام: صغير وكبير وأكبر:

الأوّل: أن يكون الفرع موافقاً للأصل في فروعه الأصليّة وزيادة، ويعتبر فيه - أيضاً - الموافقة المعنى وفي ترتيب الحروف الأصليّة، ﻛ (المقتل) الذي هو فرع من (القتل). ويشمل أسماء الفاعلين والمفعولين والأزمنة والأمكنة والأفعالوالمصادر المزيد فيها والمجرّدة، بناءً على أنّ الأصل هو الفعل وأنّ المصدر مشتقّ منه، كما هو مذهب الكوفيّين، لا أنّ الأصل هو المصدر.

والثاني: أن يكون الفرع موافقاً لأصله في الحروف دون الترتيب فيها، ولا يشترط فيه الموافقة في المعنى، فيشمل مثل: (جذب) و(جبذ)،

ص: 326


1- انظر: منتقى الاُصول 1: 328.

المتّحدين في المعنى.

والثالث: ويعتبر فيه المناسبة بينهما في اللّفظ والمعنى، دون الموافقة فيهما، ﻛ (ثلم وثلب)، و(نهق ونعق).

وقد أحصى بعض المحقّقين(1) الفروق بينهما فأنهاها إلى خمسة عشر قسماً؛ لأنّه إمّا أن يكون المشتقّ موافقاً للمشتقّ منه في عدد الحروف الأصليّة والترتيب، وعدم التصرّف في شيء من الحروف - ﻛ (ضرب) و(الضرب) - فإنّه لم يتصرّف لا في عدد حروفها ولا في ترتيبها. وإمّا إلّا يكون موافقاً له.

وعدم الموافقة، تارةً يكون من جهة الاختلال في ترتيب الحروف من التقديم والتأخير، واُخرى يكون من جهة الزيادة والنقيصة، واُخرى من جهة القلب، كقلب الواو بالألف في كلمة (قول). وتضرب الخمسة، وهي: المجموع من صور الموافقة مع عدم الموافقة، في ثلاثة - وهي الثلاثيّة والرباعيّة والخماسيّة - لتكون النتيجة خمسة عشر.

الأمر الثاني:

أنّ النسبة بين المشتقّ بالمعنى اللّغويّ والاصطلاحيّ هي العموم من وجه؛ وذلك لاجتماعهما في أسماء الفاعلين والمفعولين، وافتراقهما في بعض الجوامد، كتلكالجوامد التي تجري على الذات باعتبار اتّصافها

ص: 327


1- الفصول الغرويّة: 59.

بالمبادئ الجعليّة، كالزوج والحرّ والرقّ، فإنّه يصدق المشتقّ عليها عند الاُصوليّ دون النحويّ.

وافتراقهما - أيضاً - في الأفعال والمصادر المزيد فيها؛ لصدق المشتقّ عليها عند النحويّ، دون الاُصوليّ.

وخلاصة القول: أنّ الفرق بين المشتقّ المأخوذ في عنوان النزاع هنا، وبين الخارج عنه في أنّ المشتقّ بالمعنى الأوّل: هو مطلق ما يكون مفهومه جارياً على الذات ومحمولاً عليها، وهو يلاحظ باعتبار اتّصافها كالسواد والبياض ونحوهما من الأعراض المتأصّلة والتي لها حظّ من الوجود، ولو في ضمن معروضها. أو العرضيّ الذي لا وجود له في الخارج، وإنّما الموجود هو منشأ انتزاعه كالفوقيّة والتحتيّة والزوجيّة والملكيّة، وهي من الاُمور الانتزاعيّة المحضة. ولا يفرّق بين أن يكون الجاري على الذات اسماً مشتقّاً أو اسماً جامداً.

فقد يصدق على اللّفظ اسم (المشتقّ)، ولكن، مع ذلك، لا يدخل في محلّ البحث، كأمثال المصادر المزيدة فيها. وقد يدخل في حريم البحث، ومع ذلك، لا يكون من المشتقّ اللّغويّ، كالأسامي الجامدة الجارية على الذات بملاحظة اتّصافها بعرض: ﻛ (الزوج) و(الزوجة) و(الرقّ) و(الحرّ)، ونحو ذلك... وقد يكون اللّفظ مشتقّاً، ويدخل في محلّ البحث، ويصدق عليه - مضافاً إلى ذلك -: أنّه مشتقّ باعتبار المعنى اللّغويّ.

ص: 328

وأمّا خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها: فلأنّها وإن صدق عليها المشتقّ بالمعنى اللّغويّ، ولكن لا يصدق عليها بالمعنى المصطلح، إذ هي غير جارية على الذوات. وكذا المصادر المجرّدة.لا لما قيل: من أنّها بنفسها تكون موضوعاً، وليس هي بمشتقّة، وإنّما هي مبدأ الاشتقاق، لما سيأتي من أنّ الحقّ أنّ المصدر أيضاً من المشتقّات، وأنّ ما هو الأصل في المشتقّات ليس هو الفعل ولا المصدر كما هو معروف بين النحويّين.

وبعبارة اُخرى: فإنّ مبدأ الاشتقاق ليس هو (الضرب) أو (ضرب)، وإنّما هو (ض ر ب)، فإنّ المبدأ هو ما يسري في جميع مشتقّاته، كالخشبة التي توجد في الباب وفي الشبّاك وفي الطاولة و... و(الضرب) مشتقّ من (ض ر ب)، تماماً كبقيّة المشتقّات، والذي يسري في جميع المشتقّات إنّما هو (ض ر ب).

فظهر من جميع ما ذكرنا:

أنّ المشتقّ الذي هو محلّ البحث هو كلّ لفظ دالّ على مفهوم ينتزع من الذات ويحمل عليها بملاحظة اتّصافها بأمر خارج عن ذاتها، سواء صدق عليه أيضاً أنّه مشتقّ نحويّ - كأسماء الفاعلين والمكان - أو كان جامداً - كألفاظ (الزوج) و(الزوجة) و(الحرّ) و(الرقّ) وما إلى ذلك -.

وبهذا يخرج الذاتيّ في باب إيساغوجي، كالجنس والفصل؛ لأنّ من شرط الدخول في محلّ البحث إلّا يكون ممّا تنعدم الذات بانعدامه.

ص: 329

والوصف الذاتيّ ممّا تنعدم الذات بانعدامه، ومعه: فلا يبقى موضوع في البين أصلاً حتّى يقع مورداً للبحث، وحتّى يقال: إنّ استعمال المشتقّ فيه هل هو حقيقة أو مجاز؟ فإنّ الذاتيّ لا يختلف ولا يتخلّف، وإلّا يلزم الخلف، فهو لا ينقضي عن الذات إلّا وتزول الذات معه، فلا يتأتّى في النزاع الآتي.

وبعبارة اُخرى: فإنّ الأسامي الجامدة الجارية على الذات والتي تعبّر عن اتّصاف هذه الذات بذاتيّ من ذاتياتها - ﻛ (الإنسان) و(الحجر) - فإنّ الإنسان منتزع عن الذات باعتبار الإنسانيّة، والحجر منتزع عن الذات بملاحظة اتّصافه بالحجريّة -خارجة عن محلّ البحث، لأنّ مفروض هذا البحث أن تكون الذات باقيةً بعد انعدام الوصف الذاتيّ، والإنسان لا يصدق على الذات التي لم تبق إنسانيّتها، كما أنّ الحجر لا يصدق على الذات التي لم تبقَ حجريّتها، وهذا واضح.

وأيضاً: فإنّ المحمولات التي تحمل على موضوعاتها:

تارةً: تكون منبعثةً عن نفس الذات أو الذاتيّ مع قطع النظر عن كلّ شيء خارج عنها، من الزمان والزمانيّ، أو الاجتماع والافتراق، أو...

واُخرى: تكون منتزعةً عن الذات بضميمة عارض يعرض عليها، بلا فرق بين أن يكون من الأعراض المتأصّلة الخارجيّة، كالسواد والبياض المنتزعين من الأسود والأبيض، أو من الاُمور الاعتباريّة، التي ليست باُمور خارجيّة ولا ذهنيّة، كالملكيّة والزوجيّة والرقّيّة.

ص: 330

والذي يكون محلاً للبحث هو القسم الثاني دون الأوّل.

والسرّ في عدم وقوع الأوّل في محلّ البحث: هو ما ذكرناه من عدم بقاء الذات وانحفاظها في كلتا الحالتين، أي: حالة وجود الصفة وعدمها، وحالة وجود العارض وعدمه؛ فإنّ هذا مفقود في نظر العرف في القسم الأوّل؛ لأنّ الشيء في نظر العرف ينعدم عند فقده صورته النوعيّة وتلبّسه بصورة نوعيّة اُخرى.

ومن هنا: حكموا بطهارة الكلب إذا أصبح ملحاً؛ لأنّه من باب انعدام وجوده وحصول وجود آخر، ولم يبق هناك من مادّة أو ذات مشتركة في الحالتين.

بل قد يقال: بأنّه لم يبق مادّة وذات مشتركة حتّى بالدقّة العقليّة؛ لأنّ شيئيّة الشيء بصورته لا بمادّته، فإذا انعدمت الصورة الاُولى لزم تحقّق الصورة بدون المادّة، ويتخلّل العدم بين انعدام الصورة الاُولى ووجود الثانية، مع أنّه يستحيل بقاء المادّة بدون الصورة.فإن قلت: إنّ الصورة الاُولى لم تنعدم عند ورود الصورة الثانية.

قلت: هذا - أيضاً - محال؛ لأنّ معناه اجتماع الصورتين في محلّ واحد؛ لأنّه عند ورود صورة العلقة مع بقاء صورة المنيّ - مثلاً - يكون الشيء الواحد علقةً ومنيّاً في الوقت عينه، وهو محال.

وبعبارة اُخرى: فليس المراد من المشتقّ: المشتقّ الاصطلاحيّ الذي هو مشتقّ من المصدر - بناءً على أنّ أصل الأشياء هو المصدر، والفعل

ص: 331

مشتقّ منه - ولا خصوص اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبّهة، بل المراد: كلّ عنوان عرضيّ جار على الذات متّحد معها وجوداً بحيث يصحّ حمله عليها، بلا فرق بين أن يكون من المشتقّ الاصطلاحيّ ﻛ (الضارب) و(المضروب)، وأن لا يكون كذلك، كبعض الجوامد التي هي من العناوين العرضيّة كالزوجيّة والرقّيّة والحرّيّة.

وإن كان يظهر ممّا ذكروه في عنوان المسألة المعنى الأوّل، ولكنّ ما يظهر من كلماتهم في أثناء البحث هو التعميم لكلّ عنوان عرضيّ.

ويدلّ على ما ذكرناه: ما عن القواعد(1)، مع ما في الإيضاح(2)، وقال الشهيد(قدس سره) في المسالك(3) - تعليقاً على قول المحقّق في الشرائع(4):«ولو كان له زوجتان وزوجة رضيعة، فأرضعتها إحدى الزوجتين أوّلاً، ثمّ أرضعتها الاُخرى، حرمت المرضعة الاُولى والصغيرة، دون الثانية، لأنّها أرضعتها وهي بنته، وقيل: بل تحرم أيضاً، لأنّها صارت اُمّاً لمن كانت زوجته، وهو أولى» - ما لفظه:

«لا إشكال في تحريم الاُولى مطلقاً، لأنّها صارت اُمّ زوجته، وتحريمها

ص: 332


1- قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام 3: 25، ونقله عنه ولده في إيضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد 3: 52.
2- إيضاح الفوائد 3: 52.
3- مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 7: 268.
4- شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 2: 230.

غير مشروط بشيء، وأمّا تحريم الصغيرة فمشروط بأحد أمرين: إمّا كون اللّبن للّزوج لتصير ابنته، أو كون إحدى الكبيرتين مدخولاً بها، سواء كانت الاُولى اُمّ الثانية؛ لأنّ الصغيرة تصير بنتاً لهما، فبأيّهما دخل صارت بنت زوجته المدخول بها، وهذا واضح.

وبقي الكلام في تحريم الثانية من الكبيرتين، فقد قيل: إنّها لا تحرم، وإليه مال المصنّف، حيث جعل التحريم أولى، وهو مذهب الشيخ في النهاية، وابن الجنيد، لخروج الصغيرة عن الزوجيّة إلى البنتيّة، واُمّ البنت غير محرّمة على أبيها، خصوصاً على القول باشتراط بقاء المعنى المشتقّ منه في صدق الاشتقاق، كما هو رأي جمع من الاُصوليّين...»، انتهى ما أردنا نقله من كلامه«.

ولا بأس هنا بنقل عبارة القواعد أيضاً، قال(قدس سره):

«ولو أرضعت الصغيرة زوجتاه على التعاقب، فالأقرب تحريم الجميع؛ لأنّ الأخيرة صارت اُمّ من كانت زوجته، إن كان قد دخل بإحدى الكبيرتين، وإلّا حرمت الكبيرتان مؤبّداً وانفسح عقد الصغيرة».

وأمّا المرضعة الثانية، فقد بنوا تحريمها على أنّ المشتقّ حقيقة فيما انقضى، فيصدق عليها حينئذ أنّها اُمّ الزوجة، وإن لم تكن المرتضعة زوجةً فعلاً، لصيرورتها بالرضاعة الاُولى بنتاً للزوجة - أي: ربيبة له - وخروجها بذلك الرضاع عن الزوجيّة.

ولكنّ هذا التحريم، كما هو واضح، مبنيّ على تحريم اُمّ الزوجة

ص: 333

بالرضاع، لأنّ ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع، وكما أنّ اُمّ الزوجة النسبيّة محرّمة على الزوج،فكذلك تحرم عليه الاُمّ الرضاعيّة أيضاً، ولمّا كانت بنت الزوجة نسباً تحرم على الزوج بشرط الدخول باُمّها، وجمعاً ولو لم يدخل بها، فكذلك البنت الرضاعيّة للزوجة، فإنّها تحرم على الزوج بشرط الدخول باُمّّها، وجمعاً مع الاُمّّ، ولو لم يدخل بها.

ولا يخفى: أنّ هذه المسألة إنّما تتمّ لو التزمنا بكون اللّبن من غير زوج الصغيرة - أي لبن كلّ واحدة من المرضعتين - وإلّا، فإنّ حرمة الصغيرة تكون من جهة البنتيّة، لا من جهة الرضاعة.

وتوضيح كلماتهم في هذه المسألة: أنّ المرضعة الاُولى: تحرم من جهة صيرورتها اُمّّ الزوجة. وأمّا الصغيرة: فحرمتها من أجل صيرورتها ربيبةً بالرضاع، فمع الدخول بإحدى الكبيرتين تحرم مؤبّداً، وإلّا، فمع عدم الدخول تحرم جمعاً.

وأمّا المرضعة الثانية: فإن قلنا: بأنّ المشتقّ حقيقة فيما انقضى، فتحرم، كالاُولى، لصيرورتها اُمّّ الزوجة هي أيضاً، وإلّا فلا تحرم أصلاً، إلّا أن يقال: بأنّه لا حاجة إلى إثبات تحريم الثانية بالدخول في مسألة المشتقّ، بل يمكن أن يقال - كما أفاده الاُستاذ المحقّق) -:

«إنّ حصول الزوجيّة ولو كان في زمان متقدّم كاف في حرمة اُمّها، ولو في زمان متأخّر عن زمان الزوجيّة، مثلاً: لو عقد على امرأة ثمّ طلّقها، تحرم اُمّها أبداً، ولو بعد طلاق بنتها، فليكن الأمر في الاُمومة الحاصلة من

ص: 334

الرضاع أيضاً كذلك. وبعبارة اُخرى: في باب النسب تحرم اُمّ من كانت زوجته، فكذلك في باب الرضاع، وبناءً على هذا لا تكون حرمة المرضعة الثانية أيضاً مبنيّةً على مسألة المشتقّ»(1).ولكن يرد الإشكال بالنسبة إلى المرضعة الاُولى، وهو أنّ حرمتها وإن أُرسلت عند المشهور إرسال المسلّمات، ولكن بما أنّه لا شكّ في أنّ الاُمومة والبنتيّة متضايفان، والمتضايفان متكافئان قوّةً وفعلاً، وهما في مرتبة واحدة.

فبناءً على هذا: فزمان حصول الاُمومة هو زمان انتفاء الزوجيّة، وصدق هذا العنوان - وهو الاُمومة - على المرضعة موقوف على بقاء عنوان الزوجيّة للمرتضعة، وهذا لا يتحقّق في عالم الوجود، لأنّها حينما تكون زوجةً فليست باُمّّ، وحينما تكون اُمّّاً فليست بزوجة.

وقد أُجيب عن هذا: بأنّ الرضاع الشرعي بأيّ نحو حصل علّة لحصول اُمومة المرضعة وبنتيّة المرتضعة، فالاُمومة والبنتيّة في مرتبة واحدة، لأنّهما معلولان لعلّة واحدة، وما هو سبب ارتفاع الزوجيّة هو بنتيّة المرتضعة لزوجته، أي: صيرورتها ربيبةً له - فيكون ارتفاع الزوجيّة متأخّراً رتبةً عن حصول البنتيّة للمرتضعة، التي هي في مرتبة حصول الاُمومة للمرضعة، فالزوجيّة ثابتة في مرتبة حصول الاُمومة للمرضعة

ص: 335


1- منتهى الاُصول 1: 77.

والبنتيّة للمرتضعة، وإلّا، يلزم ارتفاع النقيضين في تلك المرتبة، فيتحقّق موضوع الحرمة، أي: عنوان (اُمّّ الزوجة) في رتبة حصول الاُمومة للمرضعة وحصول البنتيّة للمرتضعة.

وبعبارة اُخرى: فإنّ منشأ خروج الصغيرة عن الزوجيّة هي حرمتها الناشئة عن أنّها بنت الزوجة بالرضاعة، وهذه الحرمة متأخرّة عن هذا الصدق؛ لأنّ المعلول متأخّر عن علّته، فصدق البنتيّة متقدّم على الحرمة التي هي متقدّمة على الخروج عن الزوجيّة. فبناءً على هذا: يصدق على الصغيرة أنّها بنت الزوجة، ويكون كلّ من (الزوجيّة) و(البنتيّة) في رتبة واحدة، ولا حاجة حينئذ إلى عدّ المسألة من مسائل المشتقّ.ولكن الحقّ: أنّ هذا التوجيه وإن كان تامّاً في حدّ نفسه، إلّا أنّه لا يجدي، لأنّ التقدّم والتأخّر الرتبيّ - كما أُفاده اُستاذنا المحقّق)(1) - لا يفيد في مثل هذه الموارد مع وحدة زمان حصول اُمومة المرضعة وحصول بنتيّة المرتضعة، مع ارتفاع وعدم الزوجيّة بحكم وحدة زمان العلّة مع زمان المعلول، ففي زمان حصول الاُمومة للمرضعة لا زوجيّة في البين، وإلّا، يلزم اجتماع النقيضين، مع أنّ اللّازم في التحريم اجتماع الاُمومة مع الزوجيّة في عالم الوجود زماناً، لكي يتحقّق موضوع الحكم. وعليه: فالاُولى أن يقال: إنّ حرمة المرضعة

ص: 336


1- انظر: منتهى الاُصول 1: 78.

الاُولى متوقّفة على مسألة المشتقّ أيضاً.

فإن قلت: قد ذكرتم أنّه يكفي في الحرمة اُمومة من كانت زوجته، فلا يرد هنا إشكال أصلاً.

قلنا: بناءً على هذا، فلا تكون المسألة مربوطةً بمحلّ بحثنا حتّى بالنسبة إلى المرضعة الثانية، فتحرم المرضعة الثانية أيضاً، سواء قلنا بأنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ أم لا.

ولكن مع ذلك، فما قاله الاُستاذ المحقّق) محلّ تأمّل؛ لأنّ مضمون كلامه: أنّه لا يشترط في بقاء المشتقّ بقاء الموضوع، بل يكفي وجوده فقط في مرحلة تشريع الحكم وبقائه، ولا ملازمة بين الموضوع والحكم في مرحلة البقاء، ومقامنا مثل مقام: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِيَ الظّالِميِنَ﴾(1)، في أنّه بمجرّد الشرك لا يكون الشخص لائقاً لمنصب الخلافة.ولكنّ هذا الكلام أجنبيّ عن محلّ البحث؛ لأنّ محلّ البحث هو حدوث الاُمومة حين ارتفاع الزوجيّة، فلابدّ من إثبات هذا العنوان للزّوجة الكبيرة، مع أنّ هذا العنوان لا يكون مقارناً لزوجيّة البنت حتّى يصدق على الكبيرة عنوان: (اُمّّ الزوجة)، وعلى البنت عنوان الزوجيّة في زمان واحد.

وعليه: فلا يكون عنوان (اُمّّ الزوجة) من العناوين التي يكفي في

ص: 337


1- البقرة: 124.

موضوعيّتها للحكم وجود الزوجيّة في آن من الآنات، مع أنّ حدوث هذا العنوان يكون في زمان ارتفاع الزوجيّة.

فلا بدّ - إذاً - من دخول المسألة في محلّ البحث، وأن يكون حكم كلتا الزوجتين - أي المرضعة الاُولى والثانية - متوقّفاً على مسألة وضع المشتقّ.

ولذا استشكل صاحب المستند) بقوله: «فلأنّ صيرورة الكبيرة اُمّ الزوجة موقوفة على كون الصغيرة زوجةً في آن صيرورة الكبيرة اُمّاً لها، وكون الصغيرة زوجةً على عدم صيرورة الكبيرة اُمّاً، فيمتنع اجتماعهما في آن. والحاصل: أنّه ترتفع زوجيّة الصغيرة، وتتحقّق اُمومة الكبيرة في آن واحد، فلم تكن الكبيرة اُمّ الزوجة أصلاً»(1).

إذا عرفت هذا:

فليس المشتقّ الذي هو محلّ البحث هو المشتقّ النحويّ الذي يشمل الأفعال والمصادر، بل هو خصوص ما يكون مفهومه منتزعاً عن الذات ويكون متّحداً معها، ﻛ (الضارب)، فإنّه يجري على الذات ويكون عنواناً لها، بل يشمل أسماء الفاعلين والجواهر ﻛ (العالم) و(العادل) و(الشجاع) وغيرها، بل والاُمور الاعتباريّة ﻛ (الملكيّة) و(الزوجيّة)، والأعراض ﻛ (البياض) و(السواد).

ص: 338


1- مستند الشيعة في أحكام الشريعة 16: 295- 296.

والاتّحاد الذي اشترطناه بين المبدأ والذات لا يفرّق فيه بين أن يكون بنحو الحلول، كالمرض والحسن والقبح؛ أو بنحو الانتزاع، كالفوقيّة والتحتيّة؛ أو كان من الاُمور الاعتباريّة، كالملكيّة والزوجيّة.

وخالف في ذلك صاحب الفصول) حيث خصّ البحث بأسماء الفاعلين، قال(قدس سره):

«هل المراد به - أي: بمحلّ النزاع - ما يعمّ بقيّة المشتقّات من اسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبّهة وما بمعناها، وأسماء الزمان والمكان والآلة وصيغ المبالغة، كما يدلّ عليه إطلاق عناوين كثير منهم، كالحاجبيّ وغيره، أو يختصّ باسم الفاعل وما بمعناه، كما يدلّ عليه تمثيلهم به، واحتجاج بعضهم بإطلاق اسم الفاعل عليه دون إطلاق بقيّة الأسماء على البواقي مع إمكان التمسّك به أيضاً؟؟ وجهان. أظهرهما الثاني؛ لعدم ملائمة جميع ما أوردوه في المقام على الأوّل» (1).

ولعلّ منشأ توهّم صاحب الفصول) اختصاص النزاع باسم الفاعل وما بمعناه - على ما أفاده صاحب الكفاية)(2) -: أنّ معاني بقيّة المشتقّات - مثل كون اسم المفعول حقيقةً في الذات الذي وقع عليه المبدأ في الحال، أو كون اسم الزمان حقيقةً في الزمن الذي وجد فيه المبدأ في الحال

ص: 339


1- الفصول الغرويّة: 60.
2- كفاية الاُصول: 39.

والماضي، إلى غير ذلك - ممّا اتّفق عليه الكلّ، ما عدا اسم الفاعل، فينحصر النزاع به.

ولا بأس هنا بذكر كلامه في الفصول، قال(قدس سره):«ثمّ اعلم أنّهم أرادوا بالمشتقّ الذي تشاجروا على دلالته في المقام: اسم الفاعل وما بمعناه، من الصفات المشبّهة وما يلحق بها، على ما سنحقّقه. ولا بأس بالتنبيه على مدلول بواقي المشتقّات».

ثمّ أخذ ببيان معنى الفعل الماضي ثمّ المستقبل ثمّ اسم المفعول، ذاكراً أنّه «حقيقة في الذات التي وقع عليها المبدأ في الحال».

إلى أن قال: «ومنها اسم الزمان، وهو حقيقة في الزمن الذي وجد فيه المبدأ ومجاز في غيره».

ثمّ قال: «ومنها اسم المكان، وهو حقيقة في المكان الذي حصل فيه المبدأ، والمرجع فيه إلى العرف، والكلام فيه كالكلام في سابقه. ومنها اسم الآلة، وهو حقيقة فيما أعدّ للآليّة أو اختصّ بها، سواء حصل به المبدأ أو لم يحصل. ومنها صيغة المبالغة، وهي حقيقة في الذات التي كثر اتّصافها بالمبدأ عرفاً وذلك يختلف باختلاف المبادئ، ولا يعتبر الاتّصاف حال النطق، ويظهر من بعضهم دخول ذلك في محلّ النزاع الآتي، وهو بعيد»(1). انتهى.

ص: 340


1- الفصول الغرويّة: 59.

الأمر الثالث:

هل يجري هذا البحث في اسم الزمان أم لا؟ قد يقال: بعدم جريانه فيه، بتقريب: أنّ الزمان - كما لا يخفى - هو من الاُمور غير القارّة - كما هو المشهور سابقاً - وهي الاُمور التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود، بل ما لم ينعدم الجزء السابق منها فلا يوجد الجزء اللّاحق، وحال الزمان حال بقيّةالتدريجيات كالتكلّم - الذي كان في نظرهم من الاُمور غير القارّة بالذات، ولكنّ العلم الحديث أثبت عدم انعدام الأصوات، بل هي باقية في جوّ السماء -.

وحينئذ: فلا يبقى موضوع في البين بعد انقضاء المبدأ حتّى يقال: إنّ اسم الزمان هل هو حقيقة فيه أم لا؟ وبعبارة اُخرى: فليس للزمان أفراد ثلاثة هي: التلبّس والانقضاء والاستقبال، وإنّما له فرد واحد، وهو التلبّس فقط، ومع فرض انحصاره في هذا الفرد، فيقتضي خروجه عن محلّ البحث، ولا يقع حينئذ محلّاً للنزاع؛ إذ لا مجال فيه لأن يقال: إنّ الوصف الجاري عليه في الحقيقة هو خصوص المتلبّس بالحال أو ما يعمّ المتلبّس به في الماضي.

وقد أجاب عن هذا المحقّق صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:

«ويمكن حلّ الإشكال بأنّ انحصار مفهوم عامّ بفرد، كما في المقام، لا يوجب أن يكون وضع اللّفظ بإزاء الفرد، دون العامّ، وإلّا، لما وقع

ص: 341

الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، مع أنّ الواجب موضوع للمفهوم العامّ مع انحصاره فيه تبارك وتعالى»(1).

وحاصله: أنّ العامّ - وهو المفهوم - وإن كان له فرد واحد ومنحصر فيه، ولكنّ النزاع فيه جار كسائر المشتقّات، فيقال: بأنّ الموضوع له - الذي هو مفهوم عامّ - هل يشمل المتلبّس والمنقضي أم لا؟ نعم، لو كان محلّ النزاع هو مصداق الزمان، فحينئذ يقتضي خروجه عن محلّ النزاع؛ إذ ليس للزمان أفراد ثلاثة: تلبّسيّ وانقضائيّ واستقباليّ، وانحصار المفهوم في الفرد لا يمنع من جريان النزاع فيه، وحال هذا هو حال بقيّة المفاهيمالكلّيّة - كالشمس - ومفهوم الواجب، فإنّ مفاهيمها تكون كلّيّةً مع انحصار أفرادها في واحد، فلا تنثلم كلّيّة المفهوم بواسطة انحصار المصداق في فرد للنزاع، وينصرم الجزء السابق ويوجد آخر، وهذه هي الحركة القطعيّة، والذي هو محلّ الكلام هي الحركة التوسّطيّة، أي: ملاحظة مجموع الآنات المتخلّلة بين المبدأ والمنتهى والأجزاء شيئاً واحداً بالنسبة إلى اللّيل والنهار.

فبناءً على هذا: يمكن استصحابه إذا ترتّب عليه حكم شرعيّ، فيكون حال يوم العاشر كحال (زيد) من حيث الحدوث والبقاء، فإذا كان في ساعة منه متلبّساً بالمبدأ، وفي ساعة اُخرى غير متلبّس به، كأن يصدق

ص: 342


1- كفاية الاُصول: 40.

عليه أنّ هذه الذات كانت متلبّسةً بالحدث الكذائيّ، والآن قد انقضى عنها التلبّس، ويأتي البحث في أنّ المشتقّ هل هو حقيقة في من تلبّس أو يشمل المنقضي أيضاً؟ ومن هنا ظهر ما يقال: من أنّه يلاحظ جميع حركات الفلك المحدثة للزمان إلى آخر الدهر شيئاً واحداً، فلو اتّصف جزء من ذلك الزمان بالقتل، كأن يقال - مثلاً -: «الدهر مقتل فلان»؛ فإنّ النزاع يصحّ فيه، بأن يقال: إنّ العرض قد ارتفع، أي أنّ الحركات المجعولة موضوعاً واحداً قد ارتفعت، فهل يصحّ إطلاق ذلك العنوان ﻛ (المقتل) على الزمان الذي قد ارتفع من بعضه العرض أم لا؟ وهذا الكلام - مضافاً إلى أنّه خارج عن محلّ البحث - يستلزم أن يكون الإطلاق على الأزمنة التي تأتي بعد الزمان الأوّل أيضاً حقيقةً، أي: بناءً على كون المشتقّ حقيقةً في ما انقضى، وهذا محلّ كلام.

نعم، إطلاقه على الأزمنة المستقبلة يكون مجازاً يقيناً، وهو من باب المشافهة والمماثلة.فيقع النزاع - إذاً - بالنسبة إلى الزمان الجامد - كاليوم والشهر والسنة - دون المشتقّ ﻛ (المقتل).

ولا بدّ هنا من بيان الفرق بين المشتقّ والمصدر ﻛ (الضارب) و(الضرب) - مثلاً -، والفرق بينهما هو:

أنّ المشتقّ لا يأبى بذاته عن الحمل، بل نقول (زيد ضارب)، ولكنّ

ص: 343

(الضرب) بمفهومه يأبى عن الحمل. نعم، يمكن الحمل بضرب من التأويل - كما ذكر في محلّه - ﻛ (زيد عدل).

وهنا يقول أهل المعقول: إنّ المشتقّ مأخوذ (لا بشرط) والمبدأ مأخوذ (بشرط لا).

والمراد به: اللّابشرطيّة الحقيقيّة، والبشرط لائيّة كذلك، بمعنى: عدم الإباء عن الحمل مفهوماً وإبائه عنه كذلك، كما في الفرق بين الجنس والمادّة والفصل والصورة.

فالأوّل: كالجنس والفصل، غير آبٍ عن الحمل حقيقةً.

والثاني: كالمادّة والصورة، وهما آبيتان عن الحمل حقيقةً، وليست اللّابشرطيّة بالنسبة إلى العوارض الخارجيّة كي يكون اعتباره بيد المعتبر كما فهم صاحب الفصول(قدس سره) من كلام أهل المعقول، ولذا قال بعدم استقامة هذا الفرق؛ لامتناع محلّ العمل والحركة عن الذات وإن اعتبرا لابشرط.

الأمر الرابع:

خروج المصادر مطلقاً عن محلّ البحث، بلا فرق بين المصادر المجرّدة والمزيد فيها، وذلك لما ذكرنا:أوّلاً: في تعريف المشتقّ: من أنّ المراد منه ما كان مفهومه منتزعاً عن الذات ويكون متّصفاً بالمبدأ، فإنّ المصادر لا تجري على الذوات حتّى

ص: 344

تكون مفاهيمها منتزعةً عنها ومتّصفةً بها، وليس كحمل (العالم) على (زيد) المتّصف بالعلم. وهذا الحمل إنّما يحصل بعد اتّحاد الذات مع الوصف ووجوده، إذ بدون الاتّحاد وجوداً لا يصحّ الحمل.

وتوضيح ذلك: أنّ الاتّحاد على أقسام:

الأوّل: الاتّحاد الخارجيّ، كما في قولك: (الإنسان قائم)، فإنّهما متغايران مفهوماً ومتّحدان مصداقاً وخارجاً.

والثاني: الاتّحاد الماهويّ، كما في قولك: (الإنسان حيوان ناطق)، فإنّهما من جهة المفهوم متغايران بالإجمال والتفصيل، لوضوح بساطة المفهوم في الأوّل، وتركّب المفهوم في الثاني.

والثالث: الاتّحاد المفهوميّ، كما في قولك: (الإنسان إنسان)، فإنّهما متّحدان مفهوماً وماهيّةً وخارجاً، والتغاير بينهما اعتباريّ، ولو بالإجمال والتفصيل، فإنّ (الإنسان) الأوّل إشارة إلى الذات، والثاني إشارة إلى الذات بذاتيّاتها التي بها يمتاز عمّا عداها، ولو لم يكن هذا التغاير، لم يصحّ حمل أحدهما على الآخر، لأنّ ملاك الحمل هو الهوهويّة والاتّحاد من جهة، والمغايرة من جهة اُخرى.

وثانياً: عدم وجود جامع في المصدر بين حالة الوجود - وهو التلبّس - وحالة العدم - أي: الانقضاء - حتّى يمكن إجراء نزاع المشتقّ فيه، ولا معنى - حينئذ - لخروج المصادر المزيدة عن محلّ البحث، بل تكون المصادر - مطلقاً - خارجة.

ص: 345

ولعلّ تخصيصهم البحث بالمزيد لتخيّلهم بأنّه هو المشتقّ، والحقّ: أنّ المصدر المجرّد أيضاً من المشتقّات؛ لأنّ الأصل في الكلام هو (ض ر ب) لا(الضرب)، بل (الضرب) أيضاً مشتقّ، وهو - أعني: الأصل - عبارة عن المادّة السارية، أي: المأخوذة (لا بشرط) من حيث اللّفظ عن جميع الهيئات، كما هو شأن مطلق الموارد، بالنسبة إلى الأشياء التي تصنع منها، كما سنشرحه فيما يأتي إن شاء الله.

فإن قلت: إنّ (ض ر ب) - مثلاً - لو كان هو أصل المشتقّات، فلابدّ لها من معنىً، ولا معنى لها.

قلت: إنّما يتحصّل معناها في ضمن الهيئة، ﻓ (ض ر ب) - مثلاً - لو دخلت في ضمن هيئة (ضرب) يصبح لها معنى.

ومن هنا ظهر: خروج الأفعال عن محلّ النزاع أيضاً؛ لأنّها لا تجري على الذوات حتّى تكون مفهوماً منتزعاً عن الذات:

لا بمادّتها؛ لأنّها عبارة عن نفس الطبيعة المعرّاة عن كلّ خصوصيّة، وتسمّى في مبحث المشتقّ ﺑ (المبدأ).

ولا بهيئاتها؛ لأنّها عبارة عن كيفيّة قيام المبدأ بالذات بأيّ نحو كان، من الحدوثيّ والصدوريّ والحلوليّ.

ويظهر ممّا نسب إلى صاحب البدائع(قدس سره): عدم دلالة الفعل إلّا على نفس النسبة، حيث يقول:

«الأفعال إنّما تدلّ على نسبة المعنى إلى الذات، لا المعنى والذات،

ص: 346

وإن كانا مدلولاً عليهما التزاماً، لأنّ الدالّ على النسبة يدلّ على المنتسبين بالضرورة دلالةً التزاميّةً»(1)، انتهى.

وخلاصة الفرق بين هيئات الأفعال وهيئات الأسماء المشتقّة من جهات:الاُولى: أنّ مفاد الهيئات عبارة عن الربط الخاصّ بين مفهومين: أحدهما: مفهوم الحدث، والثاني: مفهوم الذات الذي وقع منها الحدث. فحال الهيئات حال الحروف - كما قيل - لأنّ الحروف تدلّ على ربط خاصّ بين شيئين متمايزين باللّحاظ، وكذلك تكون هيئة الأفعال.

وأمّا هيئة المشتقّ: فهي عبارة عن ربط الحدث بالذات على نحو الاتّحاد حتّى يمكن انتزاع العنوان عنه.

والثانية: أنّ مفهوم المشتقّ، بما هو في الذهن، يكون حاكياً عمّا في الخارج بلا زيادة ولا نقيصة، فيكون هناك مطابقة تامّة بينهما. وأمّا الفعل: فلا يكون مفهومه، بما هو في الذهن، حاكياً عمّا في الخارج؛ لأنّه بحسب الذهن عبارة عن الذات والحدث، وفي الخارج عبارة عن الذات المتلبّسة بالمبدأ والحدث.

والثالثة: أنّ مفهوم الفعل يدلّ بنفسه على أنّ هناك شيئاً في الخارج يطابقه، سواء كان على نحو الإخبار أو الإنشاء، لكون النسبة فيه نسبةً

ص: 347


1- نسبه إليه في: منتهى الدراية 1: 235، وانظر بدائع الأفكار: 174.

تامّة، وهي المقصودة بالدلالة عليها والنظر إليها والتصديق بها.

والرابعة: أنّ الفعل دالّ على خروج الحدث من القوّة إلى الفعل، ومن العدم إلى حيّز الوجود، بخلاف الاسم المشتقّ، فإنّه يدلّ على اتّصاف الذات بذلك الحدث الذي تحقّق وصار فعليّاً.

وبناءً على ذلك: يكون مدلول الاسم المشتقّ متأخّراً رتبةً عن مدلول الفعل، فإنّ اتّصاف الذات بالحدث متوقّف على صدوره منها، وأمّا مفهوم المشتقّ: فإنّ حاله حال سائر المفاهيم التصوّريّة، والنسبة التي تشتمل عليها هي من مقوّمات مفهوم المادّة، فلا يكون مفهومه كمفهوم الفعل ناظراً بطبعه إلى مطابقه في الخارج، فحاله حال الجوامد من هذه الجهة، فكما أنّ مفهوم (رجل) غير دالّ على كونه ذا مطابقفي الخارج عند تصوّره، بخلاف الفعل؛ فإنّه إذا قال: (ضرب) - مثلاً - فبمجرّد أن يسمع السامع منه ذلك يتصوّر أنّ هذا الشيء قد وقع في الخارج فعلاً، وأنّ له في الخارج مطابقاً.

الأمر الخامس:

ماالمراد من الحال؟ لا يخفى: أنّ الحال على ثلاثة أقسام: حال التلبّس، وحال النطق، وحال الجري والانتساب، والمراد من الأوّل: حال التلبّس بالمبدأ، والمراد من الثاني: حال النطق، وهي: زمان الحال، لا الماضي ولا

ص: 348

المستقبل، ومن الثالث: حال الجري والانتساب.

ولا يخفى: أنّ المراد ﺑ (الحال) في مفروض المسألة هو: حال التلبّس خاصّةً، وهي تنطبق على الماضي والحال والاستقبال.

ولكنّ ما يظهر من المحقّق القمّيّ(قدس سره) - فيما نسب إليه -: أنّ المراد من (الحال) هو حال النسبة(1).

ومعنى (حال التلبّس) هو: الاتّصاف بالمبدأ، بمعنى: أنّ للذّاتيّ المتلبّسة بالمبدأ حالات متعدّدةً حال تلبّسها به، وحال انقضاء المبدأ عنها، وحال عدم تلبّسها به.

وبعد.. فإنّه لا إشكال في كونه مجازاً فيها، أي: في حال عدم تلبّسها بها بعد، ولكن محلّ النزاع هو فيما إذا انقضى عنه المبدأ. فإن قلنا: بأنّه قد وضع للأعمّ من حال تلبّسه به وحال انقضائه عنه، كان حقيقةً، وأمّا إن قلنا: هو مختصّ بحال التلبّس، كان مجازاً.ويمكن تصوير الحالات الثلاث في هذا المثال:

وهو ما إذا كان (زيد) راكباً قبل يوم أمس، فلو قلت: «زيد راكب أمس»، فحال التلبّس هو الحال الذي وقع قبل يوم أمس، وحال الجري والانتساب هو أمس، وحال النطق هو حال التلفّظ بالفعل. وأمّا لو قلت: «زيد راكب الآن»، وكان زيد في الحقيقة راكباً في هذا الحال، فهنا تتّحد

ص: 349


1- انظر: عناية الاُصول 1: 130.

الحالات الثلاث: النطق والتلبّس والجري.

ولا إشكال - حينئذٍ - في كون المشتقّ حقيقةً بلا خلاف. كما أنّه يكون بنحو الحقيقة إذا كان زمان التلبّس والجري متّحدين، كما إذا قلت: «زيد راكب أمس»، بحيث يكون (أمس) قيداً لكليهما، أو: «سيكون زيد راكباً غداً» أيضاً كذلك؛ لأنّ الجري والانتساب يكون بحال التلبّس، لا حال النطق.

وأمّا إذا اختلف حال التلبّس والجري، كما إذا كان الجري والانتساب في الحال، والتلبّس في المستقبل، فهو - لا محالة - يكون مجازاً، كقولك: «زيد راكب غداً»، إذا جعل (الغد) قيداً للتلبّس فقط دون الجري، وان اتّحد زمان النطق مع زمان الجري.

وأمّا إذا تحقّق التلبّس في الزمان الماضي، وكان زمان الجري والانتساب هو الحال، فقد وقع هذا محلّاً للخلاف، في أنّ استعمال المشتقّ حينئذ هل هو حقيقة أو مجاز؟ وممّا ذكرنا: ظهر أنّ المراد من (الحال) ليس هو زمان النطق، إذ لو كان المراد منه زمان النطق لكان مثل قولنا: «زيد كاتب أمس» أو «سيكون كاتباً» مجازاً أيضاً.

نعم، لو استندت تلك الأوصاف إلى الزمانيات، فإنّها تدلّ على أنّ هذه الذات التي تلبّست بالمبدأ قد وقع تلبّسها بالمبدأ في إحدى الأزمنة، وذلك لأنّ هذا الحدث ما دام قد أُسند إلى الزمانيّ، فلابدّ من وقوعه في

ص: 350

زمان ما، وأنّه خال عن الزمان، وإنّما الزمان ظرف له، والدليل على أنّ الزمان لم يؤخذ فيه، لا بنحو الجزئيّة، ولا بنحو القيديّة، أنّها تنسب إلى نفس الزمان وتنسب إلى المجرّدات على نسق واحد.قد يقال: إنّ للمشتقّات ظهور في زمان الحال، وهذا الظهور هو الظهور الإطلاقيّ، ومنشؤه: إمّا من جهة انصراف إطلاق المشتقّات إلى زمان الحال، وإمّا من جهة مقدّمات الحكمة، وليس هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب؛ لانصراف الإطلاق إليه، ولا دليل على خصوص حال التخاطب.

فالنتيجة هي: حمل المشتقّ على الزمان المقابل للماضي والمستقبل؛ لأنّ إرادة غير حال النطق يحتاج إلى الدليل.

وقد يجاب عنه: بأنّ هذه الدلالة ليست من جهة الدلالة الوضعيّة، ولو لم يكن سبيل إلى إنكارها بحدّ ذاتها، بل تستفاد من ظهور الجملة عند الإطلاق، ولكن هذا لا يعني أنّ المشتقّ قد وضع لها.

وبعبارة اُخرى: فإنّ التبادر المثبت للوضع هو ما يكون مستنداً إلى حاقّ اللّفظ دون ما يستفاد من الإطلاق، فالتبادر المستفاد من الإطلاق وقرينة الحكمة غير مفيد.

قد يقال: بأنّهم قد ذكروا - في محلّه -: أنّ إعمال اسم الفاعل عمل فعله مشروط عندهم بأن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال، فيتوهّم من ذلك أنّ الزمان جزء من مدلوله.

ص: 351

ولكن فيه: أنّ المراد من الحال هو فعليّة التلبّس إلى زمان الجري، ومن الاستقبال هو عدم فعليّة التلبّس إليه، ومعناه: أن يصبح فعليّاً فيما بعد. نعم، لو صدر منه التلبّس والانقضاء فلا يعمل عمله.

الأمر السادس:

بعدما ذكرنا أنّ الأفعال لا تدلّ إلّا على نسبة المادّة إلى الذات - سواء كان بمعنى تحقّق النسبة كالفعل الماضي، أو ترقّب وقوعها كالمضارع، أو طلب تلك النسبةكفعل الأمر - فقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره): أنّه «قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان»(1).

وقال شيخنا البهائيّ) في كتاب الصمديّة: «والفعل كلمة معناها مستقلّ مقترن بأحدها، أي: أحد الأزمنة الثلاثة»(2).

وقال نجم الأئمّة في حدّ الفعل: هو: «ما دلّ على معنىً في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة»(3). وكذا قال غيره من النحويّين: بأنّ الزمان دخيل في الفعل.

ولكنّ الحقّ: عدم دلالة الفعل على الزمان، لا من جهة المادّة، ولا من جهة الهيئة.

ص: 352


1- كفاية الاُصول: 40.
2- جامع المقدّمات: 220 - 221.
3- شرح الرّضيّ على الكافية 4: 5.

أمّا من جهة المادّة: فلأنّها لا تدلّ إلّا على الحدث، ثمّ هي مشتركة بين الأسماء والأفعال المشتقّة، فلو كانت دالّةً على الزمان، لكانت الأسماء المشتقّة أيضاً دالّةً على الزمان.

وبعبارة اُخرى: فإنّ المادّة في فعل الأمر لا تدلّ إلّا على طلب الفعل وتركه، دونما دلالة على الزمان أصلاً، وأمّا هيئته فهي لا تدلّ إلّا على إنشاء الطلب، فليس ثمّة ما يوجب الدلالة على الزمان.

وأمّا من جهة الهيئة: فلأنّها لا تدلّ إلّا على نسبة المادّة إلى الفاعل. أو فقل: إنّ مدلولها هو المعنى الحرفيّ، والزمان المدلول عليه الفعل هو المعنى الاسميّ، فيلزم من ذلك أن يكون لها معنيان: الاسميّ والحرفيّ، وهو كما ترى.ومن قال بأخذ الزمان في مدلول الفعل استدلّ بأمرين:

الأوّل: اتّفاق النحويّين.

والثاني: التبادر.

والجواب عن الأوّل: أنّ هذا الاتّفاق والإجماع ليس بحجّة؛ بل هو إنّما يكون حجّةً إذا كان كاشفاً عن قول المعصوم(علیه السلام)، فإنّ من المعلوم: أنّ الإجماع الذي يكون حجّةً هو الإجماع التعبّديّ الكاشف عن قول المعصوم(علیه السلام). نعم، إنّما يكون هذا الاتّفاق والإجماع حجّةً إذا كانا كاشفين عن تنصيص الواضع، وهو غير معلوم، لاحتمال أن يكون قولهم عن اجتهاد منهم.

ص: 353

وأمّا الثاني فقد أُجيب عنه: بأنّه غير مفيد؛ لأنّ التبادر إنّما يكون حجّةً إذا كان من حاقّ اللّفظ - بناءً على حجّيّته - وبأصالة عدم القرينة لا يثبت أنّه من حاقّ اللّفظ.

فالحقّ: في باب دلالة الفعل على الزمان هو: ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره)، خلافاً للمشهور بين النحاة. ورأى المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره)(1): أنّ المشتقّ يكون مقيّداً بالسبق واللّحوق، وهما - بناءً على هذا المبنى - مدلول ضمنيّ للفعل، وبناءً على مبنى صاحب الكفاية) مدلول التزاميّ، لأنّ الزمان ليس جزءاً لمدلول الفعل، كما مرّ.

وما أفاده صاحب الكفاية(قدس سره) في وجه اشتباه النحويّين، هو التالي، قال(قدس سره):

«وهو اشتباه ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النهي عليه، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الأمر: نفس الإنشاء بهما في الحال، كما هو الحال في الإخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما، كما لا يخفى، بل يمكن منع دلالة غيرهما من الأفعال علىالزمان إلّا بالإطلاق والإسناد إلى الزمانيّات، وإلّا، لزم القول بالمجاز والتجريد عند الإسناد إلى غيرها من نفس الزمان والمجرّدات»(2).

ص: 354


1- انظر: منتقى الاُصول 1: 338.
2- كفاية الاُصول: 41.

وملخّص ما ذكره: أنّه من الواضح عدم دلالة فعل الأمر ولا النهي إلّا على إنشاء طلب الفعل أو الترك، بل يمكن منع دلالة غير الأمر والنهي على الزمان، تماماً كالماضي والمضارع.

نعم، لو أنّه أسند إلى الزمانيّات، أي: الذي يوجد في الزمان، كما في قولك: (جاء زيد) و(يجيء عمرو)، فهو يدلّ عليه، ولكن بالدلالة الالتزاميّة، لا التضمّنيّة، أي: فلا يكون الزمان حينئذ جزءاً من مدلول الفعل، وإلّا، فلو قلنا بمقالة النحويّين لكان لا بدّ من التجريد والتجوّز عند إسناد الفعل إلى نفس الزمان أو إلى المجرّدات، كما في مثل قول القائل: (مضى الزمان) أو (علم الله)، فإنّه - حينئذ - يكون المعنى: أنّه تعالى متّصف بالعلم بالزمان الماضي، فيجب تجريده لا محالة لأنّه جلّ وعلا عالم على الإطلاق. ولا بدّ أن يستعمل فيما عدا الزمان، وأمّا فيه: فيلزم التجوّز.

نعم، لو أُسند إلى الزمانيّ - وهو ما يكون الزمان ظرفاً لوجوده، بخلاف المجرّدات عن الزمان كالباري تعالى والنفس - فيدلّ على الزمان، ولكنّ هذه الدلالة ليست من حاقّ اللّفظ، بل إنّما تفهم من الإطلاق والاستناد إلى الزمانيّات.

ويمكن الاستدلال على عدم جزئيّة الزمان لمدلول الفعل باُمور:

الأوّل: أنّه لو كان مدلولاً للفعل لكان مدلولاً لهيئته أو لمادّته؛ لأنّ الدلالة منحصرة فيهما، ونحن نرى: أنّ مادّته لا تدلّ إلّا على نفس

ص: 355

الطبيعة المجرّدة.وأمّا الهيئة: فهي لا تدلّ إلّا على نسبة المادّة إلى الفاعل، وهو معنىً حرفيّ - كما ذكرنا - والزمان له معنى اسميّ، أي: له معنى استقلاليّ، فكيف يمكن أن تدلّ الهيئة، وهي من المعاني الحرفيّة، على الزمان الذي هو معنىً اسميّ؟(قدس سره) والثاني: لو كان الزمان مدلولاً للفعل، للزم دلالته على أمرين متباينين بإطلاق واحد، وهما النسبة إلى فاعل مّا والزمان.

والثالث: أنّ النسبة إلى فاعل مّا من المعاني الحرفيّة، والزمان معنىً اسميّ، فدلالة الهيئة عليهما تستلزم صيرورتها اسماً وحرفاً في آن واحد.

والرابع: لو كان الفعل دالّاً على الزمان، فلا يجوز استعماله مع نفس الزمان، كقولك: «مضى الزمان» و«خلق الله الزمان»، لأنّ الزمان لا يمكن أن يكون في زمان آخر، بل لا بدّ عند الاستعمال من التجريد عن الزمان، وهو خلاف الوجدان؛ لعدم الفرق بين إسناد الفعل إلى الزمانيّ وبين إسناده إلى الزمان نفسه، بل إلى المجرّدات عن المادّة، سواء كان من صفات الذات - كقولك: «علم الله» جلّ جلاله - أو من صفات فعله - كقولك: «خلق الله الأرواح» - فلو فرض أنّ الزمان مأخوذ في مدلول الفعل، فلابدّ من تجريده حينما ينسب إلى المجرّدات، كما في هذه الأمثلة المذكورة.

والخامس: لو كان الفعل دالّاً على الزمان لما جاز إسناده إلى الزمان

ص: 356

ولو بنحو التجوّز أيضاً؛ لاستحالة وقوع الحدث المسند إلى الزمان في الزمان، مضافاً: إلى عدم وجود علقة مصحّحة للاستعمال حتّى يصحّ استعماله مجازاً، ومجرّد وجود علاقة الكلّ والجزء بينهما غير مفيدة؛ لأنّه هذه العلقة لا تكون مصحّحةً لجواز الاستعمال.

والسادس: عند إلقاء الجملة، فلابدّ من لحاظ الطرفين من السبق أو اللّحوق، والمفروض عند الاستعمال أنّه لم يلحظ السبق ولا اللّحوق.فظهر ممّا ذكرنا: أنّ الفعل لا يدلّ على الزمان بأقسامه الثلاثة بالدلالة التضمنيّة، بحيث يكون الزمان جزءاً لمدلوله.

نعم، هناك خصوصيّة في الفعل، سواء كان ماضياً أو مستقبلاً أو حالاً، و هذه الخصوصيّة تكون هي المسبّبة لاستلزام الزمان، وبها يمتاز كلّ منها عن الآخر، وهذه تدلّ على تحقّق المادّة وخروج الحدث من القوّة إلى الفعل، ومن العدم إلى الوجود، وهذه الخصوصيّة في الماضي دالّة على قصد الحكاية عن تحقّق شيء قبل زمان التكلّم، وتكون موجودةً في الماضي في جميع موارد استعمالاته، أي: بلا فرق بين أن ينسب إلى الزمانيّ - كقولك: (مضى زيد) - أو إلى الزمان - كقولك: (مضى الزمان) - أو إلى ما فوق الزمان - كقولك: (علم الله) - وفي جميع هذه الموارد يدلّ على تحقّق هذه الاُمور قبل زمان التكلّم، وإن كان الزمان لا يقع في الزمان، وكذا الفعل الذي صدر ممّن هو ما فوق الزمان.

وأمّا في المضارع، فإنّ هذه الخصوصيّة توجب التهيّؤ والتصدّي

ص: 357

لتحقّق المبدأ في حال تحقّق التكلّم إن كان بمعنى الحال، أو ما بعده إن كان بمعنى الاستقبال، من دون أن يدلّ على وقوعه في الزمان.

إذاً: فلا يدلّ الفعل الماضي والمضارع على الزمان بنحو التضمّن، وإنّما تكون دلالتهما عليه على نحو الالتزام.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّهما - أي: المشتقّ والفعل - خاليان عن الزمان.

ويؤيّد ذلك: استعمال فعلي: الماضي والمضارع في الزمان الماضي والمستقبل الإضافيّين، ولا يكونان ماضيين ومستقبلين حقيقيّين، كما في قولك: «جاء زيد قبل سنة وهو يضرب غلامه» و«يجيء زيد في شهر كذا وقد ضرب عمراً قبله بأيّام».وليس مثل هذا الاستعمال عند أهل المحاورة مجازاً، مع أنّه لو كان الزمان جزءاً للماضي أو المضارع لكان مجازاً لا محالة، الأمر الذي يكشف عن عدم دلالته عندهم على الزمان.

وأمّا لو كانت دلالته على الزمان بالإطلاق عند إسناده إلى الزمانيات، فلا يلزم تجوّز أصلاً، كما لا يخفى.

وقد استُشكل على هذا: بأنّ المشتقّ إذا لم يدلّ على الحال أو الاستقبال لم يكن له أن يعمل عمل الفعل.

ولكنّا قد أجبنا عنه:

أوّلاً: بأنّ المراد من الحال هو فعليّة التلبّس، والمراد من الاستقبال هو عدم فعليّة التلبّس.

ص: 358

وثانياً: أنّ دلالته على الزمان إنّما هو بالقرينة، لا أن يكون بوضعه للزمان الحاضر أو المستقبل، وكما أنّهم اتّفقوا على عدم كون الزمان أحد مدلولي اسم الفاعل والمفعول، فهذا يكون مورد اتّفاق لدى أهل العربية وإن التزموا بدلالة الفعل على الزمان؟(قدس سره) وثالثاً: لو قلنا: بأنّ الزمان ليس جزءاً للمشتقّ، فلا يبقى مجال للنزاع بين الشيخ والفارابي في عقد الوضع، من أنّه يكون بالفعليّة كما يقوله الشيخ؛ أو بالإمكان كما يقوله الفارابي(1)، بل يكون هذا النزاع لغواً حينئذ.

وتوضيحه: أنّ كلّ قضيّة تنحلّ إلى قضيّتين: إحداهما: عقد وضعها، والثانية: عقد حملها، فقولنا: «الخمر حرام» ينحلّ إلى قضيّتين:

الاُولى: وجد شيء فكان خمراً.والثانية: الخمر حرام.

والنزاع بين الشيخ والفارابي من جهة القضيّة التي ينحلّ إليها عقد الوضع؛ فإنّه عند الشيخ يكون بالفعل، أي أنّه ينحلّ إلى (مطلقة عامّة) وعند الفارابي بالإمكان، أي: فينحلّ إلى (ممكنة عامّة)، بعدما ثبت بأنّ كلّ قضية لا بدّ أن تكون موجّهةً بجهة، كالفعليّة أو الإمكان أو الضرورة أو الدوام. وهذه الجهات منحصرة في جهات ثمان، وتسمّى بالقضايا البسيطة، وسبعة وتسمّى بالمركبة.

ص: 359


1- نقله عنهما في كفاية الاُصول: 53.

فنزاع الشيخ والفارابي في عقد الوضع في أنّه هل هو مأخوذ بالفعل أو بالإمكان كقولك: «زيد إنسان» أو «الخمر حرام»؟ فمعناه هو: أنّ زيداً بالفعل يكون إنساناً، أو أنّ الخمر بالفعل يكون حراماً، أو: مهما وجد شيء وأمكن أن يكون زيداً أو خمراً كان إنساناً أو حراماً.

أمّا لغوية النزاع لو قلنا بأنّ المشتقّ خال من الزمان، فلأنّ معناه: أنّ إطلاق المشتقّ على الذات منوط بفعليّة التلبّس، فيلغو كلام الفارابي من كفاية الاتّصاف بالإمكان؛ لعدم كفاية صلاحيّة التلبّس حينئذ حتّى يصحّ الاتّصاف الإمكانيّ.

ولكن هذا الكلام غير تامّ؛ لأنّ البحث هناك يكون في الجمل الحمليّة وفي القضيا التركيبيّة، أي: في أنّ المحمول في عقد الوضع للقضيّة الحمليّة هل يحمل على الموضوع بالفعل أو بالإمكان؟ وأمّا البحث في المشتقّ فهو في المفردات وفي المعاني الإفراديّة.

وعليه: فالنزاع في المشتقّ يكون أجنبيّاً عن النزاع الأوّل.

ولكن مع ذلك كلّه، فلو فرض أنّ الزمان جزء للمشتقّ فكلام الفارابيّ من أصله غير مستقيم؛ إذ إنّ تأليف القضيّة وتركيبها لا يصحّ إلّا بعد فرض اتّصاف الموضوع بعنوان أنّه موضوع في الزمان الحاضر؛ لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.اللّهمّ إلّا أن يقال: يمكن أن يجعل ثبوته بنحو فرض الوجود - وهو الإمكان - الذي ادّعاه الفارابي.

ص: 360

الكلام في بساطة المشتقّ وعدمه:

لا يخفى: أنّ المركّب على أقسام:

الأوّل: المركّب الخارجيّ: وهو الذي يكون له أجزاء في الخارج، كالجسم الذي هو مركّب من الأجزاء الخارجيّة والأعراض التي تعرض على الجسم، فإنّها تنقسم أيضاً بالتبع إلى أجزاء.

والثاني: المركّب العقليّ: وهو الذي فرض له في العقل أجزاء، وإن كان في الخارج بسيطاً، كالنوع المركب من الجنس والفصل.

والثالث: المركّب الوهميّ: وهو الذي تركّب من الوجود والماهيّة، ولو لم يكن له جنس ولا فصل، وذلك كالعقل، فإنّه جوهر بسيط وليس له مادّة ولا صورة، ولا يحتاج إليهما، لا بالفعل ولا بالقوة، ولكنّه بالدقّة الوهميّة يتصوّر له جهتان: أُولاهما: الجهة الوجوديّة، والثانية: الجهة الماهويّة.

وأمّا البسيط: فهو الذي ليس له أجزاء، وهو على قسمين: بسيط إضافيّ، وبسيط حقيقيّ.

فالبسيط الإضافيّ: هو الذي يكون مجرّداً عن المادّة والصورة، كالعقل والنفس، فإنّهما جوهران بسيطان بالنسبة إلى المركّبات الاُخرى، وإن كانا بحسب الوهم مركّبين من الوجود والماهيّة.والبسيط الحقيقيّ: هو الذي يكون بسيطاً من جميع الجهات حتّى

ص: 361

من الوجود والماهيّة، وهذا يكون مختصّاً بذات الباري جلّ وعلا؛ لأنّه وجود محض، ومحض الوجود.

فإذا عرفت هذا: فأيّ معنىً من البسيط هو الذي اُريد في محلّ البحث؟؟ ولا بدّ هنا من بيان بساطة المشتقّ وعدمه حتّى ينكشف ما هو المراد في محلّ البحث، فنقول:

لا يخفى: أنّ هناك شكلاً آخر للبسيط، وهو بمعنى: البساطة في التصوّر، بمعنى أنّ اللّفظ إذا سمعه العاقل تصوّر منه معنىً وحدانيّاً، كلفظ (الرجل) و(الشجر)؛ فإنّه إذا سمعه تصوّر معناه، وهو الحيوان الخاصّ أو الجسم الخاصّ. ويقابل البساطة بهذا المعنى: التركيب، كلفظ (غلام زيد) و (زيد رجل).

ولا يخفى: أنّ البساطة بالمعنى الأوّل، وإن كان العقل يحلّله إلى جنس وفصل، ولكن هذه البساطة بهذا المعنى خارجة عن محلّ البحث، بل هو بحث فلسفيّ.

وأمّا المعنى الثاني: فهو أيضاً خارج عن محلّ البحث؛ لأنّ المشتقّ الذي هو محلّ البحث غير المركّب بهذا النحو، بل محلّ البحث والنزاع في المشتقّ معنىً آخر من البساطة، فإنّ المشتقّ، وإن كان بسيطاً بالمعنى الأخير، بحيث لو سمع لا يتصوّر منه إلّا شيء واحد، إلّا أنّه ليس مرتبطاً بمحلّ البحث، بل المشتقّ في محلّ البحث هو الذي يكون مركّباً من المادّة والهيئة، وبما أنّهما مندمجان، أحدهما في الآخر، أمكن

ص: 362

النزاع، وذلك بأن نقول: إنّ مدلول لفظ المشتقّ هل هو عبارة عن ثلاثة اُمور - أعني: الحدث والذات والنسبة بينهما، أو الحدث والنسبة، أو الحدث الملحوظ لا بشرط - أم لا؟فمن أخذه بالاعتبار الأوّل فقد تصوّره مركّباً، ومن أخذه بالاعتبار الثاني فهو قد اعتبره بسيطاً من حيث الذات ومركّباً من ناحية النسبة، ومن أخذه بالاعتبار الثالث فمعناه: أنّه بسيط حتّى من ناحية النسبة والذات أيضاً.

ولا يخفى: أنّ الاحتمالات في مفهوم المشتقّ على أقسام:

أحدها: أن يكون مركّباً من الذات ومبدأ الاشتقاق والنسبة بينهما، ولكنّ هذه الاُمور تأتي بصورة وحدانيّة في الذهن، وأمّا صورتها التفصيليّة فهي مفاد الجملة. وبعبارة اُخرى: فإذا قلت: (ضارب)، فلا يأتي في الذهن إلّا صورة وحدانيّة.

وأمّا إذا قلت: (زيد ضارب)، فهذه صورة تفصيليّة للاُمور الثلاثة، ﻓ (ضارب) عين ذلك المعنى التفصيليّ، ولكنّه يدخل إلى الذهن بنحو الإجمال. فالذي يقول فيه: أنّه مركّب فإنّما أراد هذا المعنى، يعني: الصورة التفصيليّة.

والثاني: أنّ مفاد المشتقّ هو المبدأ المنتسب إلى الذات، وأمّا نفس الذات فخارجة، فيكون مدلول المشتقّ هو الحدث والنسبة، ولازمه: أنّه على الذات - أي بالدلالة الالتزاميّة - لأنّ المبدأ المنتسب إلى الذات ملازم للذّات.

ص: 363

والثالث: أنّ الذات والمبدأ ليسا داخلين في المشتقّ، بل مفاده هو الحدث الملحوظ (لابشرط) في قبال المصدر الذي لوحظ المبدأ بالنسبة إليه (بشرط لا).

وعلى هذا: فالذات والنسبة ليسا بمدلولين للّفظ، لا على وجه التضمّن ولا على وجه الالتزام، وليس معنى (اللّابشرطيّة) أن يكون نفس هذا اللّحاظ مقوّماً للمعنى الموضوع له ليستلزم دخله فيه، وإلّا للزم هناك محاذير:

منها: أنّه لو كان اللّحاظ دخيلاً لاجتمع عند الاستعمال لحاظان؛ أحد هذين اللّحاظين هو اللّحاظ المتقوّم بالمعنى، والثاني: هو اللّحاظ الاستعماليّ، وهو على خلاف الوجدان؛ لأنّ ما يرى حين الاستعمال ليس سوى لحاظ واحد. هذا، مضافاًإلى امتناع الجمع - عقلاً - بين اللّحاظين: (اللّابشرطيّة) مع (البشرط شيء)، وهو اللّحاظ الاستعماليّ، في ملحوظ واحد.

ومنها: أن يكون الشيء الواحد متقدّماً على نفسه ومتأخراً عن نفسه برتبة، ولو فرض أنّ الموجود هناك عند الاستعمال هو اللّحاظ الاستعمالي فقط، واكتفينا به عن اللّحاظ (اللّابشرطيّ) المقوّم للمعنى؛ لأنّ المستعمل فيه يكون متقدّماً على الاستعمال بالطبع، والاستعمال متأخّر بالطبع عن المستعمل فيه، فيلزم أن يكون اللّحاظ الواحد مقوّماً للمستعمل فيه والاستعمال، وهذا اللّحاظ الواحد: تارةً يكون متقدّماً،

ص: 364

واُخرى يكون متأخّراً، في حال واحد.

ومنها: أنّه لو كان اللّحاظ مقوّماً للمعنى، فلا يمكن أن يحمل على الشيء في الخارج، أو توصيفه به؛ لأنّ معناه متقوّم بما هو في الذهن - أعني: لحاظ (اللّابشرطيّة) - وملاك صحّة الحمل هو الاتّحاد وجوداً والاختلاف مفهوماً.

فحينئذ: لا بدّ عند الحمل من تجريده عن اللّحاظ، ليأتي الاتّحاد في الخارج؛ لأنّ هذا الاتّحاد يكون مصحّحاً للحمل، وتجريده عن اللّحاظ معناه: أنّ هذا القيد يكون لغواً أبداً؛ لأنّه مع وجود هذا القيد لا يكون المعنى قابلاً للحمل على الشيء ولا للتوصيف به.

والرابع: أن يكون المشتقّ هو الذات المتلبّس بالمبدأ، أي: كون المشتقّ عبارةً عن نفس الذات، وإن كان منشأ انتزاع هذا العنوان هو تلبّسها بالمبدأ. وبعبارة اُخرى: فإنّ التلبّس يكون واسطةً في الثبوت، فيكون المبدأ والنسبة خارجين.

والخامس: أنّ المشتقّ هو الحدث، لكن ليس مطلقاً، بل حين انتسابه إلى الذات، بمعنى: أنّه ليس هو الحدث المطلق، بل حصّة خاصّة منه، فحينئذ: يكون مفاد المشتقّ هو خروج الذات والنسبة معاً عنه.إذا عرفت هذا، فالحقّ في المقام هو القول الثالث: من أنّ المشتقّ ليس بمركّب.

ص: 365

أمّا أوّلاً:

فلمّا سنبيّنه من بطلان القول الأوّل: وهو كونه مركّباً من الذات والمبدأ والنسبة.

وقد استدلّ المحقّق الكبير الشيرازي وتلميذه المحقّق السيّد محمد الأصفهانيّ رحمهما الله(1) بالدليلين: الإنّيّ واللّمّيّ.

وحاصل الدليل الإنّيّ: هو أنّ الشبه المعنويّ - كما هو معلوم في محلّه - يوجب أن يكون اللّفظ مبنيّاً، كما قال ابن مالك في الخلاصة الألفيّة:

كالشبه الوضعيّ في اسمي جئتنا *** والمعنويّ في متى وفي هنا.

وهذا الدليل هو غير الدليل الذي ذكره السيّد الشريف، وحاصله: أنّ المشتقّ إن دلّ على النسبة فلابدّ من كونه مبنيّاً؛ لتضمنّه المعنى الحرفيّ حينئذ، - أعني به: النسبة - ومعلوم أنّ من المشابهات المقتضية للبناء (الشبه المعنويّ).

هذا، مضافاً إلى أنّ الهيئة إن اقتضت الدلالة على النسبة، فيلزم على ذلك بناء المصدر؛ لأنّ هيئة المصدر أيضاً تدلّ على نسبة الحدث إلى فاعل ما، ولم يقل به أحد، وبالملازمة يثبت عدم أخذ الذات فيه أيضاً؛ لما تقدّم من استلزام أحدهما للآخر.

وأمّا الدليل اللّمّي: فهو أنّ المادّة لم توضع إلّا للدّلالة على الحدث،

ص: 366


1- نقلاً عن تقريرات بحث السّيّد الشاهروديّ(قدس سره) (غير مطبوع): 132.

وهيئة المشتقّ لا تدلّ إلّا على اتّحاد المبدأ مع محلّه، وليس هناك أمر ثالث يدلّ على النسبة أو على الذات.ووجه استحالة أخذ الذات في مفهوم المشتقّ هو: لزوم أخذ معنى المعروض في العرضيّ؛ إذ الشارب - مثلاً - هو الذات المعروضة للشّرب؛ وأخذ الجنس في الفصل، كالناطق، فإنّه هو الذات، أي: هو الجنس الذي ثبت له النطق، فيندرج الجنس في الفصل؛ والنوع في العرضيّ، كما في الإنسان الذي هو كاتب أو متعصّب - (وبشاعة ذلك غنيّة عن البيان) - هذا إذا قلنا: بانّ الناطق فصل، وإلّا، يدخل الجنس في العرضيّ.

وأمّا ثانياً:

فلما ذكرنا من أنّ المشتقّ له مادّة وهيئة، وكلّ منهما دالّ على معنىً غير المعنى الذي يدلّ عليه الآخر، فالمادّة دالّة على الحدث، والهيئة دالّة على انتساب مدلول المادّة إلى ذات ما.

وأمّا ثالثاً:

فلأنّه لو كان مركّباً من الذات، لكان حمل الموجود على الوجود الحقيقيّ مجازاً أو غير صحيح في مثل قولنا: «الوجود موجود»؛ لأنّه ليس بمركّب، مع أنّ الموجود الحقيقيّ هو الوجود، ولذا، لو أنكرنا وجوديّة الوجود كالسوفسطائيّة، لم يبق لنا شيء، والوجوديّة من الاُمور الواقعيّة الوجدانيّة، ولا يحتاج في إثباته إلى دليل.

ص: 367

وأمّا رابعاً:

فلأنّه لو فرض أخذ الذات في المشتقّ، لزم لغويّته؛ لأنّه حينئذ يلزم تجريده عن الذات ليصحّ الحمل.

وأمّا خامساً:

فلأنّه يستلزم التكرار في القضيّة؛ لأنّ معنى «زيد ضارب» حينئذ: «زيد ضارب، زيد ضارب»، إذ الضارب المحمول حسب الفرض هو ذات الضارب، والمفروض أنّهمتّحد مع زيد؛ لإناطة الحمل بالاتّحاد، مع أنّ المراد من الذات هو (زيد) فيلزم تكرار القضيّة المفيدة لمعنىً واحد. فلابدّ من تجريد القضيّة حتّى يصحّ الحمل، وهو خلاف الوجدان.

وأمّا سادساً:

فلأنّه يلزم من أخذ الذات فيه أخذ النسبة فيه أيضاً، فيلزم اشتمال الكلام الواحد على نسب ثلاث في عرض واحد.

إحداها: التامّة الخبريّة؛ لانحلال المشتقّ إلى الذات والعرض والنسبة فكانت معناه ذات ثبت له الكتابة.

والثانية: النسبة الناقصة التقييديّة؛ لأنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف.

والثالثة: النسبة التامّة الحاصلة بعد حمل المشتقّ على الموضوع، فتنقلب النسبة التقييديّة إلى التامّة، وهذا خلاف الوجدان؛ لعدم التفاوت عند أبناء المحاورة في القضيّة الواحدة الدالّة على نسبة واحدة، مضافاً إلى أنّ النسبة التقييديّة إنّما تكون في الاضافة ﻛ «غلام زيد»، وفي الوصف

ص: 368

كقولنا: «زيد العالم».

وكلا الدليلين قابل للخدشة:

أمّا دليله الإنّيّ: فلأنّ مجرّد أخذ النسبة في المشتقّ لا يوجب بناءه حتّى يكون إعرابه دليلاً على عدم أخذ النسبة فيه، ضرورة أنّه كثيراً ما يكون الاسم معرباً مع مشابهته معنى الحرف، كبعض أقسام النداء، وكما في الفعل المضارع، فإنّه مع دلالته على النسبة التي هي معنىً حرفيّ، فإنّه مع ذلك يكون معرباً، فالشبه بالحرف إنّما يوجب البناء إذا لم تغلب عليه جهة الاسميّة، وإلّا فهو معرب.

ثمّ لو فرض أنّ المشتقّ لم يدلّ على النسبة، فلا مانع من دلالته على الذات فقط، بدون النسبة، ودعوى الملازمة بين دلالته على الذات وبين دلالته على النسبة؛لاستلزام الذات والعرض للنّسبة، غير تامّة، إذ الكلام إنّما هو في الأوضاع والمعاني الإفراديّة، لا التركيبيّة المدلول عليها بالقضيّة، فيمكن وضع المشتقّ للذّات والعرض دون النسبة.

وبالجملة فهذا البرهان الإنّيّ مخدوش.

وأمّا دليله اللّمّيّ: ففيه: أنّ تلك المحاذير المذكورة هي: إمّا غير لازمة أو أنّها ليست بمحاذير.

أمّا حديث استلزامه لدخول المعروض في مفهوم العرض ففيه: أنّه لا يلزم ذلك، إذ لا مانع من دلالة اللّفظ على معنيين، ومجرّد حكاية اللّفظ عنهما لا يوجب دخول أحدهما في الآخر، كما هو واضح، وإن كان في

ص: 369

التحليل العقليّ كذلك أيضاً؛ إذ المفهوم هو نفس العرض، وبعد تحليله ينحلّ إلى ذات معروضة للعرض، ومن المعلوم: أنّ معنى «زيد ضارب» هو (زيد ذات ثبت له الضرب)؛ إذ من المعلوم استحالة اتّحاد الماهيتين المتعدّدتين، مضافاً: إلى أنّ هذا الإشكال - لو سلّم المحذور فيه - فإنّه يرد على الجوامد، كما في قولك: «زيد زوج». فلا يلزم من دخول الذات في المشتقّ دخول المعروض في العرض.

وأمّا إشكال لغويّة الوضع: ففيه: أنّه يكفي في فائدة الوضع لذلك، صحّة حمل المشتقّ على الذات، فيصحّ أن يقال: إنّ زيداً ذات ثبت له الضرب، فيما إذا قلت: «زيد ضارب».

وأمّا إشكال تكرار القضيّة: فإنّه لا مانع منه، فإنّ كلّ قضيّة تنحلّ إلى قضيّتين: إحداهما: قضيّة وضعها، والاُخرى: قضيّة حملها، وتكرار النسبة لا مانع منه ولا محذور فيه.فتلخّص من مجموع ما ذكرناه: أنّ البرهان المذكور لا يصلح لأن يكون دليلاً على بساطة المشتقّ.

فإن قلت: فإنّنا نرى بالوجدان: أنّ المتبادر والمنساق من لفظ (العالم) هو الذات المتّصفة بالعلم، أي: من انكشف لديه الشيء، والمراد من (من) هنا هو الذات.

قلت: إنّ التبادر إنّما يحصل من جهة اتّحاد الذات مع الموضوع له، وكونه طوراً من أطوار الموضوع له وفانياً في موضوعه لا من جهة

ص: 370

وضع المشتقّ للذات، فلذلك ينتقل الذهن إلى الذات، فالذات - التي هي غير العرض وتكون موضوعه - مدلول التزاميّ غالبيّ للمشتقّ؛ لأنّه في الخارج غالباً ما يكون مندكّاً وفانياً في الذات التي هي غيره، ومن هذه الجهة، يستأنس ذهن أهل العرف والمحاورة بفهم الذات المتلبّسة من المشتقّ، ولذا نجد من المستهجن جدّاً أن يدّعي أحد أنّ الوجود ليس بموجود؛ لأنّه ليس بذات ثبت له الوجود، بل - كما بيّنّا سابقاً - فالموجود الحقيقيّ هو الوجود، والمصداق الذاتيّ له هو نفس الوجود، والماهيّات الإمكانيّة الموجودة بسبب الوجود الحقيقيّ مصاديق عرضيّة لمفهوم الوجود. ويصحّ أن يقال للوجود المطلق: بأنّه مركّب، ولو قلنا: بتركيبه فيصبح ممكنا وناقصاً، فيخرج من الوجوب إلى الإمكان، مع أنّ الذي يكون موجوداً في الحقيقة هو الوجود المطلق، وأمّا بقيّة الممكنات فيكون وجودها بسبب هذا الوجود، وهي - كما قلنا - مصاديق عرضيّة لمفهوم الوجود، ولا يسري العدم إليها، فلو لم يكن الوجود موجوداً فكيف يعطي الوجود؟(قدس سره) وبعبارة اُخرى: فإنّ فاقد الشيء كيف يكون معطياً لذلك الشيء؟(قدس سره)وأمّا ما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1) من أنّ مفهوم المشتقّ هو الحدث المنتسب إلى الذات، بمعنى: أنّ الحدث والنسبة يكونان مدلولين للفظ

ص: 371


1- بدائع الأفكار: 169.

المشتقّ، فيكون المشتقّ دالّاً على الذات بالملازمة العقليّة.

ففيه: أنّه بناءً على هذا، فحينما يحمل المشتقّ على الموضوع، فلابدّ أن يكون هناك وجود لنسبتين اثنتين في مقام تشكيل القضيّة؛ لأنّ المشتقّ في هذا المقام ينسب إلى الذات بما له من مفهوم، فيكون معناه حينئذٍ: أنّ المبدأ المنتسب إلى الذات ينسب إلى الذات، مع أنّ المبدأ بحدّ ذاته غير قابل للحمل؛ لأنّه مأخوذ (بشرط لا). نعم، يصير قابلاً لذلك عندما يؤخذ (لا بشرط).

ويمكن أن نجيب عنه: بأنّه لا مانع من ذلك، وما يقوله المحقّق العراقيّ فإنّما هو ناظر إلى ما هو واقع الانتساب.

وقد برهن المحقّق الشريف على استحالة أخذ الذات في المشتقّ بقوله: «إنّ الذات المدّعى أخذها في المشتقّ: إمّا أن يكون المراد منها مفهوم الذات، أو مصداقه، أمّا الأوّل: فيلزمه دخول العرض العامّ في الفصل؛ لأنّ مفهوم الشيء من الأعراض العامّة. وأمّا الثاني: فيلزم أن ينقلب مادّة الإمكان الخاصّ إلى الضرورة، بداهة أنّ ثبوت شيء لنفسه ضروريّ، لأنّ معنى (الإنسان كاتب): الإنسان إنسان ثبتت له الكتابة»(1).

وقد أجاب صاحب الفصول(قدس سره) عمّا ذكره المحقّق الشريف بما لفظه: «ويدفع الإشكال بأنّ كون الناطق - مثلاً - فصلاً مبنيّ على عرف

ص: 372


1- حاشية شرح المطالع: 81.

المنطقيّين حيث اعتبروه مجرّداً عن مفهوم الذات، وذلك لا يوجب أن يكون وضعه لغةً كذلك»(1).وملخّصه: أنّ (الناطق) - مثلاً - ليس بفصل حقيقيّ، بل هو لازم الفصل، وقد جعل هو مكانه، لتعذّر معرفته غالباً، فلا يلزم حينئذ دخول العرض العامّ في الفصل، إلّا انّه أخذ العرض في الخاصّة لا في الفصل.

وأجاب عنه صاحب الكفاية(قدس سره): بأنّه «من المقطوع أنّ مثل (الناطق) قد اعتبر فصلاً بلا تصرّف في معناه أصلاً، بل بما له من المعنى، كما لا يخفى»(2).

وقد اعترض على الجواب الأوّل بعض المحقّقين): بأنّ النطق بمعنى التكلّم وإدراك الكلّيّات، وإن كان من عوارض الإنسان، إلّا أنّه بمعنى صاحب النفس الناطقة يكون فصلاً حقيقيّاً، فيلزم من أخذ مفهوم الذات أو الشيء فيه أخذ العرض العامّ في الفصل(3).

ولكن لا يخفى: أنّ (الناطق) لو كان بمعنى النفس الناطقة، فهو الإنسان، فيكون نوعاً لا فصلاً، وعليه: فالفصل الحقيقيّ غير معروف، وما ذكروه، وهو (الناطق)، فصل مشهوريّ.

ولا يخفى: أنّه إنّما عبّر عن مفهوم (الشيء) بالعرض العامّ دون الجنس؛

ص: 373


1- الفصول الغرويّة: 61.
2- كفاية الاُصول: 52.
3- أجود التقريرات 1: 69.

لأنّ الماهيّة من حيث هي هي ليست إلّا هي، والشيئيّة إنّما تعرض عليها لا بما أنّها موجودة؛ لأنّه يكون تحصيلاً للحاصل، ولا بما أنّها معدومة، لأنّه يكون من باب اجتماع النقيضين، وبما أنّ الوجود يعرض عليها في هذا الوعاء - أي: وعاء التقرّر - فإنّه يسمّى العرض العامّ، ولم يسمّ عندهم بالجنس، ﻓ (الشيء) عرض عامّ للماهيّة بما لها من التقرّر، وليس من العرض العامّ الاصطلاحيّ حتّى يستشكل فيه:بأنّ العرض العامّ هو ما كان خاصّةً للجنس البعيد أو القريب - كالمتحيّز والماشي - وليس ما وراء الجوهر والأعراض جنس حتّى يكون الشيء خاصّةً له وعرضاً عامّاً للجوهر - مثلاً -، بل يكون الشيء عرضاً لجميع الماهيّات، من الجواهر والأعراض، ولهذا يصدق (الشيء) على جميعها، وعليه: فالشيء بما أنّه شامل للجواهر والأعراض، فهو بمنزلة جنس الأجناس.

ولو سلّمنا بقاء الإشكال، وفرضنا أنّ غالب الفصول لم تكن من الفصول الحقيقيّة، لكن، مع ذلك، فلا يمكن نفي ذلك بنحو السالبة الكلّيّة؛ إذ لو قلنا: بكونها بنحو السالبة الكلّيّة، فيكون مآل هذا الكلام إلى إنكار وجود الحدّ، والقول: بعدم إمكانه، وانحصار التعاريف في الرسوم فقط.

وهذا لا يمكن المساعدة عليه - كما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره)(1) - وإنّما

ص: 374


1- تقريرات بحث السّيّد الشاهروديّ(قدس سره): 141- 142.

يصدق على الشيء أيضاً؛ من حيث إنّه يشمل الجوهر والعرض.

فتحصّل: أنّ البرهان الذي أقامه الشريف(قدس سره)، وأنّه بناءً على الأوّل: يدخل العرض العامّ في الفصل، وبناءً على الثاني: يلزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضروريّة، تامّ ولا غبار عليه.

ثمّ إنّه نسب إلى الميرزا النائينيّ(قدس سره)(1): أنّه، وبعد اعترافه بأنّ الشيء يكون جنساً، أورد عليه: بأنّه إنّما يصحّ أن يكون جنساً بناءً على أصالة الماهيّة وكون الماهيّة هي الأصل؛ لأنّه لو لم نقل بأصالة الماهيّة، وقلنا بأصالة الوجود، فتكونالماهيّات أعداماً، وليس لها حظّ من الوجود، كما نقل عن صاحب الأسفار(2)، فإذاً: لا يكون (الشيء) موجوداً حتّى يكون جنساً عالياً.

ولكن قد ذكرنا في مباحثنا الفلسفيّة، ردّاً على صاحب الأسفار(قدس سره)، حاصله: أنّه ولو لم نقل بأصالة الماهيّة، ولكنّ هذا لا يعني أنّ الماهيّات تكون أعداماً، بل إنّما يعني: أنّه لو قلنا بأصالة الوجود وأنّ المفاض الأصليّ هو الوجود، فالماهيّة تكون موجودةً بالتبع؛ لأنّ وجودها تابع لوجوده؛ وإن قلنا بأصالة الماهيّة، فالوجود هو الذي يكون تابعاً لها، ويظهر من هذا: أنّ الماهيّة، على كلّ حال، تكون موجودةً، غاية الأمر:

ص: 375


1- المصدر نفسه: 142.
2- منتهى الاُصول 1: 101.

أنّها موجودة تارةً بالوجود الأصليّ، واُخرى بالوجود التبعيّ.

وأجاب صاحب الفصول) عن الإشكال بما لفظه:

«ويجاب بأنّ المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقاً، بل مقيّداً بالوصف، وليس ثبوته حينئذ للموضوع بالضرورة، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريّاً»(1).

وحاصله: أنّه لا ينقلب الإمكان إلى الضرورة، إذ لا نسلّم لزوم الانقلاب؛ لأنّ المحمول مقيّد بقيد ممكن، وجهة القضيّة دائماً تكون تابعة لأخسّ المقدّمتين، فإذا كان القيد ممكناً فلا محالة يكون المقيّد به ممكناً أيضاً.

ولكنّ صاحب الكفاية)(2) أجاب عنه بما حاصله: أنّ تقييد المحمول بقيد غير ضروريّ أيضاً، لا يمنع من الانقلاب - أي انقلاب مادّة الإمكان إلى الضرورة - لأنّالمحمول: إمّا ذات المقيّد، بأن يكون القيد خارجاً عن حيّزه والتقيّد داخلاً فيه؛ وإمّا مجموع القيد والمقيّد.

فعلى الأوّل: يلزم الانقلاب قطعاً، وتكون القضيّة ضروريّة؛ إذ من البديهيّ: ضروريّة حمل الإنسان المقيّد بالنطق على الإنسان.

وعلى الثاني - بنحو يكون القيد كالتقييد داخلاً -: فأيضاً يلزم

ص: 376


1- الفصول الغرويّة: 61.
2- انظر: كفاية الاُصول: 53.

الانقلاب، غايته: أنّه انقلاب جزء القضيّة لا تمامها، وذلك أنّ القضيّة تنحلّ إلى قضيّتين: الاُولى: (الإنسان إنسان)، ولا شبهة في كونها ضروريّة، والثانية: (الإنسان له النطق)، وهي ممكنة. وبالجملة: فيكون الجزء الأوّل للقضيّة ضروريّاً، والجزء الثاني: إمّا تامّاً خبريّاً، وإمّا ناقصاً تقييديّاً؛ لعدم الفرق بين الأوصاف والأخبار، بل الأوصاف قبل العلم بها أخبار، وبعد العلم بها أوصاف، كما مرّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ هذا الكلام إنّما يصحّ لو كان المراد من قولك (زيد كاتب) - مثلاً - هو الكتابة بالفعل، وأمّا إذا اُريد به: الكتابة بالقوّة، فالقيد - وهو الكتابة - ضروريّ للإنسان، فالمحمول، وهو ثبوت الكتابة للإنسان المقيّد بالكتابة، ضروريّ له.

ولكن يمكن الجواب عن أصل هذا الإشكال ببرهان الانقلاب؛ وذلك ببيان:

أنّ الكلام في مفاهيم المشتقّات كلام فيما هو من المفاهيم الإفراديّة، لا التركيبيّة، غاية الأمر: أنّه يجرّد المشتقّ عن الذات ثمّ يحمل عليها، ﻓ (الناطق) المعتبر فصلاً ومقوّماً لماهيّة الإنسان - مثلاً - إنّما اعتبر كذلك في حال تجريده عنه بحسب الاصطلاح.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّا حينما نراجع الوجدان، نستطيع أن نرى أنّ (الناطق) الذي اعتبر فصلاً، إنّما هو لفظ (الناطق) بما له من المعنى بحسب وضعه، وقد جعل معرّفاً للإنسان كذلك، لا بعد التأويل والتجريد.

ص: 377

وخلاصة الكلام: أنّ المراد من الذات - على القول بتركيب المشتقّ من الذات والمبدأ - إن كان هو مصداق الذات، فإنّه يلزم منه - مضافاً إلى ما ذكرنا سابقاً من المحاذير -: محذور آخر، وهو: كون المشتقّ متكثّر المعنى؛ لأنّ الذوات تكون متباينةً بالضرورة. فإذا قلنا: (زيد قائم) و(الجدار قائم) و(الصلاة قائمة)، فإنّ الذات المأخوذة في كلّ من المشتقّات في هذه الجمل مباينة للذّوات المأخوذة في غيرها.

فإذا قلنا بذلك وأخذنا في مفهوم المشتقّ مصداق الذات، يلزم تكثّر مفهوم (القائم) - لا محالة - فيخرج حينئذ عن الوضع العامّ والموضوع له العامّ، ويدخل في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ويكون بذلك مخالفاً للفهم العرفيّ.

وأمّا ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره)(1) من أنّ المتبادر عرفاً من المشتقّ عند إطلاقه هو الذات المتلبّسة بالمبدأ، فقد أجبنا عنه: بأنّ هذا التبادر إنّما حصل من اتّحاد الموضوع مع المحمول.

وأمّا قوله في البرهان على هذا المدّعى: «أنّه لا يمكن تصحيح حمل المشتقّ على الذات إلّا بأخذ مفهوم الشيء فيه»(2):

ففيه: أنّه لو أخذ فيه المفهوم المذكور للزم دخول الجنس أو العرض

ص: 378


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 268.
2- المصدر نفسه.

العامّ في الفصل، حتّى ولو قلنا: بأنّه ليس بفصل حقيقي، بل خاصّة؛ فإنّ (الناطق) - مثلاً - يكون من لوازم الفصل الحقيقيّ، كما ثبت في محلّه من عدم إمكان معرفة حقيقة الأشياء.حتّى لو قلنا بذلك، فإنّه يرد الإشكال أيضاً؛ لأنّه بناءً على هذا: يكون من باب دخول العرض العامّ في الخاصّة، وهو أيضاً أمر غير ممكن؛ لمغايرة كلّ منهما للآخر، فيلزم استعمال اللّفظ الواحد في معنيين.

وتحصّل: أنّ إشكال المحقّق الشريف باق على حاله، بلا فرق بين دخول الجنس في الفصل أو دخول العرض العامّ في الخاصّة، بل إنّ الحمل إنّما يصحّ لأنّه قد أخذ (لا بشرط)، وليس المراد من (اللّابشرط) هنا: اللّابشرطيّة الاعتباريّة، حتّى يستشكل: بأنّ المغايرة الاعتباريّة لا تجدي، فقولك: «زيد شيء ثبت له النطق» تحصيل للحاصل؛ لأنّ زيداً شيء فعلاً، فثبوت الشيئيّة له مرة ثانية لا يكون إلّا تحصيلاً للحاصل.

وإذا عرفت هذا، فاعلم:

أنّ الوجه والملاك في إمكان حمل المشتقّ على الذات دون المبدأ هو (اللّابشرطيّة) و(البشرط لائيّة)، نظير الجنس والفصل، والمادّة والصورة، حيث يكون الحمل بالنسبة إلى الأوّلين (لا بشرط)، وبالنسبة إلى الأخيرين (بشرط لا)، فيقال: الإنسان حيوان، أو: الناطق حيوان، أو الإنسان حيوان ناطق. ولكن لا يقال: الإنسان مادّة، أو الإنسان صورة، كما أنّ المادّة لا تحمل على الصورة، وبالعكس.

ص: 379

واستشكل فيه صاحب الفصول(قدس سره)(1): بأنّ العلم والحركة يمتنع حملهما على الذات وإن اعتبرا (لا بشرط)، وكذا (المال) لا يحمل على الإنسان، وإن كان (المتموّل) يحمل عليه.

وفيه: أنّ المراد ﺑ (اللّابشرط) ليس هو اللّابشرط بالنسبة إلى العوارض والطوارئ الخارجيّة، كالبرودة للمادّة والإيمان للرقبة بالنسبة إلى رفع العطش والعتق.كما أنّه ليس المراد أيضاً: (اللّابشرطيّة الاعتباريّة)، كاعتبار الماهيّة، حتّى تلاحظ الماهيّة بشرط تعريتها عن كلّ مادّة سواها، وحتّى لا يكون موطنها إلّا عالم العقل، بل المراد من (اللّابشرط) هو: قبول الاتّحاد وعدمه، أي: (اللّابشرط الحقيقيّ). ومن هنا: فلا يرد إشكال صاحب الفصول.

وهل هناك ثمرة لهذا البحث أم لا؟

لا يخفى: أنّ الثمرة هنا موجودة؛ إذ:

بناءً على البساطة قيل: لا يأتي البحث في أنّ المشتقّ هل هو للأعمّ أو المتلبّس؛ إذ ليس هناك من ذات أو جامع يكون محفوظاً في الحالتين - أعني: حالة العدم وحالة الوجود - لأنّه ليس معنى المشتقّ إلّا نفس المبدأ والعرض.

ص: 380


1- الفصول الغرويّة: 62.

وأمّا بناءً على التركيب فيأتي البحث في كون المشتقّ موضوعاً لخصوص من تلبّس أو للأعمّ.

ولكن الحقّ: تأتّي هذا النزاع بناءً على البساطة أيضاً؛ لأنّه إذا قلنا: بأنّ المشتقّ يدلّ على الذات، ولكن بالدلالة الالتزاميّة، فيأتي البحث في أنّه هل اُريد منه المتلبّس أو الأعمّ؟ ثمّ إنّ صاحب الكفاية)(1) ذكر:

أوّلاً: أنّه ليس هناك أصل لفظيّ يمكن أن يعوّل عليه عند الشكّ في أنّه وضع لخصوص من تلبّس أو للأعمّ؛ لأن لكلّ من الخصوص والأعمّ خصوصيّة المسبوقيّة بالعدم، فتكون أصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة معارضةً بأصالة عدم ملاحظة العموم، فيسقط الأصلان معاً بالمعارضة.وثانياً: أنّ هذين الأصلين لا يجريان؛ لأنّ أصالة عدم الخصوصيّة تثبت العموم، إلّا بناءً على الأصل المثبت؛ لكونهما من المتضادّين، فأصالة عدم أحدهما لا يثبت الآخر، مضافاً إلى أنّ هذا الأصل لو فرض جريانه، فلا دليل على اعتباره في تعيين الموضوع له؛ لأنّ الثابت من اعتبار هذا الأصل إنّما هو فيما لو شكّ في أصل المراد، أي: أنّ الأصل يجري في تعيين المراد، لا في تشخيص الموضوع له.

وبعبارة اُخرى: فهو إنّما يكون حجّةً إذا كان جريانه في تعيين

ص: 381


1- راجع: كفاية الاُصول: 45.

المراد، لا في كيفيّة الإرادة، وأنّه هل كان بنحو الحقيقة أو المجاز مع العلم بالمراد؟ ولكن ذكر صاحب الكفاية(قدس سره)(1) أيضاً:

أنّ الأصل وإن لم يجر من الجهة الاُصوليّة، إلّا أنّه يجري من الناحية الفقهيّة. فإنّه إذا اتّصفت الذات بالمبدأ، ثمّ انقضى عنها التلبّس - كالمجتهد الذي زال اجتهاده والعادل الذي زالت عدالته - فيستصحب الحكم الشرعيّ الذي كان ثابتاً لها حينما كانت متلبّسةً بالمبدأ، فتكون النتيجة جواز الاقتداء به وتقليده بعد زوال الاجتهاد والعدالة.

وفيه إشكال حاصله: أنّ بقاء الموضوع شرط في جريان الاستصحاب، فلا يجري الاستصحاب مع الشكّ في بقاء الموضوع.

فإذا اتّضح ذلك نقول: إنّ الاجتهاد والعدالة، إن كانا من الجهات التقييديّة فارتفاع الحكم بارتفاعهما قطعيّ. وإن لم يكن لهما دخل، فبقاء الحكم بعد ارتفاعهما قطعيّ. فالشكّ في بقاء الحكم وعدمه شكّ في بقاء الموضوع وعدمه، فعلى جميع التقادير: لا مجال للاستصحاب؛ إذ في الصورتين الأُوليين، لا يوجد شكّ أصلاً؛ لأنّه إمّا أنيعلم بالارتفاع أو يعلم بالبقاء، وفي الصورة الثالثة، فإنّ جريان الاستصحاب مشروط ببقاء الموضوع.

وقد يقال: لعلّ جريان الاستصحاب من جهة أنّ الاجتهاد والعدالة

ص: 382


1- المصدر نفسه.

ونظائرهما ليست من الجهات التقييديّة، وإنّما هي من الجهات التعليليّة، فإنّ تلك الأوصاف ملاكات لتشريع الأحكام، وليست أجزاءً من الموضوع، فحينئذ يقع الشكّ في كونها ملاكات للحكم حدوثاً فقط أو حدوثاً وبقاءً.

والشكّ في كيفيّة الملاكات مستلزم ومستتبع للشكّ في بقاء الحكم وارتفاعه، وليس من قبيل الشكّ في أصل بقاء الموضوع حتّى لا يجري الاستصحاب.

وفيه تأمّل.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ اختلاف مبادىء المشتقّات - بحسب الفعليّة كالشرب، والملكة كالاجتهاد، والشأنيّة كالمفتاح، والحرفة كالصنعة - لا يكون سبباً للاختلاف فيما نحن فيه، ولا يوجب تفاوتاً من الجهة المبحوث عنها.

فمثلاً: ما أخذ فيه المبدأ على نحو الملكة ﻛ (المجتهد) و(المهندس)، أو القوّة والاستعداد ﻛ (المفتاح) و(المكنسة)، فإنّ الانقضاء فيها لا يتصوّر إلّا بزوال القوّة والملكة والاستعداد، بمعنى أنّ العرف لا يرى وجود الفترات بين تلك الأعمال موجباً لزوال التلبّس، بل تبقى الذات متلبّسةً في نظره حتّى في تلك الفترة المتخلّلة.

وبالجملة: فالانقضاء إنّما يتحقّق فيها بزوال الملكة والاستعداد، فإذا زالت الملكة الموجودة في المجتهد، وكذا القوّة الموجود في المفتاح،

ص: 383

فيدخل في محلّ البحث حينئذ، ويقال: بأنّ المشتقّ هل هو حقيقة فيما انقضى أم لا؟ وبكلمة: فإنّ تحقّق الانقضاء في المجتهد إنّما يتصوّر بزوال الملكة، ولو لم يكن مباشراً لعمليّة الاستنباط فعلاً أو كان نائماً، فيصدق عليه حقيقةً أنّه مجتهد، وهكذابالنسبة إلى الحرفة والصناعة - كالخيّاط والبنّاء والحدّاد والنسّاج والتمّار - فإنّ التلبّس بتلك المبادئ يتصوّر بأخذها حرفةً أو صنعةً، فيصدق النجّار - مثلاً - على من اتّخذ النجارة صنعةً له، فالتلبّس بها يتحقّق حسب المزاولة والممارسة، ولا يتحقّق الانقضاء بالنسبة إليه إلّا بالإعراض وترك هذه الحرفة أصلاً. فما دام لم يعرض عنها فإنّ التلبّس بالنسبة إليه يكون فعليّاً.

وهكذا - أيضاً - بالنسبة إلى أسماء الآلات، حيث أخذ التلبّس بها على نحو القوّة والاستعداد، فإنّ هيئة (المفتاح) - مثلاً - موضوعة لإفادة تلبّس الذات بالمفتاحيّة شأناً واستعداداً، لا فعلاً وتلبّساً.

فصدق الانقضاء عليه إنّما يكون فيما إذا زالت القابليّة عنه ولو من جهة فقدان بعض أسنانه.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّ (المفتاح) - مثلاً - يصدق حقيقةً على كلّ ما له قابليّة الفتح، ولو لم يقع الفتح به خارجاً، وأنّ كلّ هذه الاُمور المذكورة تقع محلّا للبحث والنزاع، غاية الأمر: أنّ الانقضاء في كلّ شيء بحسبه. والاختلاف في كيفيّة التلبّس لا يكون سبباً لخروج بعض المشتقّات عن

ص: 384

محلّ النزاع.

وملخّص القول: أنّ المبدأ:

تارةً: يكون فعليّاً فيزول بسرعة؛ كشرب الماء، فإنّ التلبّس به إنّما يصدق حين الاشتغال بالشرب، وبانتهائه ينقضي المبدأ.

وتارةً: يكون ملكةً؛ كالاجتهاد، فالتلبّس به يكون ببقاء ملكته، وان لم يكن صاحب الملكة مستنبطاً بالفعل.

وثالثةً: يكون من قبيل الشأنيّة، فالتلبّس به هو بقاء شأنيّته؛ كالمفتاح، فإن التلبّس يصدق عليه مع بقائه على هيئة المفتاحيّة وعلى قابليّته للفتح.واختلاف هذه المبادئ من حيث الفعليّة والشأنيّة وغيرهما لا يوجب اختلافاً فيما هو المبحوث عنه في المقام، أعني: وضع هيئة المشتقّ.

ومن هنا ظهر: عدم صحّة ما أفاده المحقّق النائينيّ)(1) تبعاً لصاحب الفصول(2): من خروج أسماء الآلة وأسماء المفعولين عن محلّ النزاع.

أمّا الأوّل: فلمّا ذكره في الفصول بقوله: «الحقّ أنّ المشتقّ إن كان مأخوذاً من المبادئ المتعدّية إلى الغير، كان حقيقةً في الحال والماضي، أعني: في القدر المشترك بينهما، وإلّا، كان حقيقةً في الحال فقط»(3).

فالأوّل: ﻛ (الضارب) الذي أخذ من مبدأ متعدّ إلى الغير.

ص: 385


1- نقلاً عن محاضرات في اُصول الفقه 1: 239.
2- الفصول الغرويّة: ص 60.
3- المصدر نفسه.

والثاني: كالآلات والصنائع التي يكون المبدأ فيهما لازماً.

وأمّا أسماء المفعولين: فلأنّ الهيئة فيها موضوعة لأن تدلّ على وقوع المبدأ على الذات، وهذا المعنى ممّا لا يعقل فيه الانقضاء، فإنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه، والمفروض: أنّ الضرب قد وقع عليها، فدائماً يصدق أنّها ممّا وقع عليه الضرب.

ولكنّك قد عرفت: أن الاختلاف في أنحاء التلبّس لا يكون سبباً للاختلاف في وضع هيئة المشتقّ.

وأمّا بالنسبة إلى ما أفاده في أسماء المفعولين: فقد أجاب عنه الاُستاذ الأعظم) بالنقض، قال(قدس سره):«لو تمّ ما ذكره لجرى ذلك في أسماء الفاعلين أيضاً، فإنّ الهيئة فيها موضوعة لأن تدلّ على صدور الفعل عن الفاعل، ومن المعلوم: أنّه لا يتصوّر انقضاء الصدور عمّن صدر عنه الفعل خارجاً؛ لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه. والمبدأ الواحد، كالضرب - مثلاً -، لا يتفاوت حاله بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول، غاية الأمر: أنّ قيامه بأحدهما قيام صدوريّ وبالآخر قيام وقوعيّ»(1). انتهى.

فظهر ممّا ذكره(قدس سره): أنّه لا فرق بين الهيئتين هنا أصلاً، فإنّ المبدأ في كليهما واحد، ومتى ما زال المبدأ، فبزواله كان إطلاق

ص: 386


1- محاضرات في اُصول الفقه 1: 239 - 240.

(الضارب) - مثلاً - أو (المضروب) على زيد الضارب، وعمرو المضروب، مع أنّها من الإطلاقات المنقضية عنها المبدأ لا محالة.

أصل الاشتقاق

هل المصدر أصل للكلام أم اسم المصدر أم الفعل؟ لكي يتّضح الجواب عن هذا السؤال، فلابدّ من التعرّض لبيان معاني هذه الاُمور المذكورة، فنقول:

إنّ الحدث تارةً يلاحظ في نفسه، وأنّه شيء من الأشياء، ومن دون ملاحظة انتسابه إلى ذات ما، فيصدق عليه أنّه - بهذا اللّحاظ - مفهوم «اسم المصدر».

واُخرى يلاحظ بالنظر إلى انتسابه إلى ذات ما، انتساباً مهملاً من جميع الخصوصيّات، أي: من حيث كونه قد تحقّق سابقاً أو أنّه متحقّق بالفعل أو أنّه سوف يتحقّق أو سيتحقّق أو أنّه يطلب تحقّقه، ومن هذه الحيثيّة يسمّى ﺑ «المصدر».

وبينهما فروق كثيرة:منها: أنّ المصدر يدلّ على الحدث بنفسه، وأمّا اسم المصدر فهو يدلّ عليه بواسطة المصدر، فمدلول المصدر هو اللّفظ، ومدلول اسم المصدر هو المعنى.

ومنها: أنّ المصدر موضوع لفعل الشيء، واسم المصدر موضوع

ص: 387

لأصل ذلك الشيء، ﻓ (الاغتسال) - مثلاً - موضوع لإيجاد الفعل تدريجاً، وأمّا (الغسل) فهو عبارة عن نفس ذلك الفعل باعتبار صدوره من فاعل ما، ولذا قلنا في البيع: بأنّ النهي في قوله تعالى: ﴿يَا أيّ-ُهَا ٱلّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصّلَاةِ مِنْ يَوْمِ ٱلجُمُعَةِ... وذَرُواْ ٱلبَيْعَ﴾(1)، إذا تعلّق بمعنى اسم المصدر فإنّه يكون دالّاً على فساد المعاملة؛ لأنّه عبارة عن النقل والانتقال الصادر عن البائع، من دون ملاحظة لجهة إصداره، فإذا كان ذلك النقل والانتقال مبغوضاً من قبل الشارع، فلا يتعلّق به الإمضاء، لتنافي النهي مع الإمضاء، وأمّا لو كان متعلّقاً بعنوان المصدر، فلا يدلّ على فساد المعامّلة؛ لأنّ مبغوضيّة جهة الإصدار غير مبغوضيّة ذات الصادر، ولا ملازمة بينهما، كما لا تنافي بين النهي عن جهة الإصدار وإمضاء ذات الصادر.

وبعبارة اُخرى: فإنّ اسم المصدر لا نسبة فيه أبداً؛ لأنّه عبارة عن نفس الحدث بما هو شيء وماهيّة من الماهيّات، بخلاف المصدر، فإنّه يدلّ على نسبة الحدث إلى فاعل ما، فالمصدر موضوع للدّلالة على النسبة الناقصة.

وأمّا ملاحظة الحدث مغايراً للذّات ومنسوباً إليها نسبةً تامّةً متشخّصةً من حيث زمان وقوعها، فهي: تارةً تكون ملاحظةً تحقيقيّة انقضائيّة، فبهذا الاعتبار يتكوّن مفهوم الفعل الماضي. واُخرى: تكون هذه النسبة

ص: 388


1- الجمعة: 9.

على نحو ترتّب التحقّق، أي: النسبة التحققيّة التلبّسيّة بتحقّق الارتباط بين الذات والحدث، وبهذا المعنى: يتكوّن مفهوم الفعل المضارع.فالفرق بين فعل الماضي والمضارع - بعد اشتراكهما في أنّهما يكونان متباينين عن الذات وغير مندكّين فيها - أنّ نسبة الفعل الماضي مأخوذة على وجه التحققيّة الانقضائيّة، ومن هنا توهّموا: أنّ الفعل الماضي يدلّ على الزمان، وأنّ الزمان يكون جزءاً من مدلوله. ولكن قد ذكرنا آنفاً: أنّ الفعل لا يدلّ على الزمان إلّا بالدلالة الالتزاميّة، وهذا الفعل قد تكون النسبة فيه على نحو التحقّق، وهذه النسبة تارةً تكون على نحو التلبّسيّة التحققيّة - أي: التلبّس الفعلي - واُخرى:

على نحو الترقبيّة التحققيّة.

وبعبارة اُخرى: فإنّ التلبّس الكائن في الفعل هو أعمّ من التلبّس الفعليّ والمستقبليّ، ولذا قالوا: بأنّ الفعل المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، وتخيّلوا بأنّه مشترك بين الزمانين، مع أنّ الزمانين - كما ذكرنا - من لوازم مدلول هيئة المضارع، لا أنّهما من أجزاء مدلوله أو موضوعه.

وقد يلاحظ الحدث بالنسبة إلى الذات، ولكن بنحو إرادة وقوع الحدث وصدوره عن الذات المنسوب إليها، وهي النسبة الطلبيّة، أي: طلب إصدار المادّة وإيجادها على الذات، وهي النسبة التي يدلّ عليها فعل الأمر.

ص: 389

كما أنّه قد يلاحظ الحدث بالنسبة إلى الذات، ونرى أنّ هذه النسبة بينهما مأخوذة على نحو التلبّسيّة الاتّحاديّة، وعلى نحو الاندكاكيّة والاتّحاديّة الناعتيّة. وهذه تكون على أنحاء، فإنّها تارةً صدوريّة، واُخرى وقوعيّة، وثالثةً حلوليّة، ورابعةً ظرفيّة، زمانيّة أو مكانيّة.

وإذا عرفت هذا: فالكلام يقع في أنّه أيّ معنىً من هذه المعاني هو الذي يكون أصلاً في الكلام؟ فهل هو المصدر أم اسم المصدر أم الفعل بأقسامه أم المشتقّات بأقسامها؟والصحيح: أنّه ليس شيء من هذه الاُمور مطلقاً بأصل للاشتقاق، بل الأصل إنّما هو مادّة هذه الأشياء؛ لأنّ المادّة هي السارية في جميعها، وبما أنّها كذلك، فتكون قابلةً لأن تجعل أصلاً، حتّى أنّ اسم المصدر - الذي هو أبسط هذه الاُمور - ليس قابلاً لأن يكون أصلاً؛ إذ ليس له السريان الذي للمادّة، وإن كان هو موضوعاً لأصل الحدث؛ بل إنّ هذه الاُمور كلّها في عرض واحد، لإفادة كلّ منها معنىً خاصّاً من المعاني، وليس أحدها في طول الآخر، ولا متفرّعاً عن الآخر، بل كلّ واحد منها مناف للآخر، ويأبى عن الاجتماع معه.

وأنت خبير: بأنّ ما ينبغي أن يكون أصلاً إنّما هو المادّة السارية التي تكون (لا بشرط) والتي لا تأبى عن الاجتماع مع كلّ واحد من هذه الاُمور.

وبعبارة اُخرى: فإنّ عروض كلّ هيئة من هيئات الاشتقاق على مادّة

ص: 390

من الموادّ اللّفظيّة الموضوعة يكون في عرض عروض الهيئات الاُخرى على تلك المادّة، وليس إحداها واقعاً في طول الاُخرى.

فلذلك، لا يمكن أن يفرض بعض هذه المشتقّات أصلاً والبقيّة متفرّعة عليه، كما وقع النزاع بين أهل العربيّة في أنّ أصل المشتقّات ومبدأها هل هو الاسم أو الفعل؟ وأتى كلّ واحد منهم بأدلّة على مبناه(قدس سره)(قدس سره) نعم، باعتبارٍ ما، وبالعناية، يمكن أن يقال: بتقدّم بعض المشتقّات على بعض، كما ذكر بأنّ الحدث في اسم المصدر قد لوحظ بنفسه ومجرّداً عن النسبة، ولكنّه في المصدر لوحظ منتسباً بالنسبة الناقصة.

فيمكن أن يقال: بأنّ اسم المصدر هو الأصل، وأنّ المصدر مشتقّ منه؛ لأنّه دالّ عليه مع زيادة، أي: زيادة الخصوصيّة، وهي: الانتساب، ولا يعتبر في اشتقاق اللّفظأكثر من كون اللّفظ المشتقّ مشتملاً على مادّة اللّفظ المشتقّ منه ودالاً على معناه مع زيادة خصوصيّة عليه.

فيكون مدلول اسم المصدر جزءاً من مدلول المصدر، والجزء مقدّم على الكلّ بالطبع.

وكذلك يمكن أن يقال: بأنّ المصدر متقدّم على الفعل، من جهة أنّ النسبة التي في المصدر هي النسبة الناقصة، وأمّا في الفعل فهي التامّة، والنسبة الناقصة كالجزء من التامّة، فتكون متقدّمةً عليها، فالمصدر هو الأصل.

ولكن، ومن جهة اُخرى، يمكن أن يقال بتقدّم الفعل؛ لأنّ النسبة

ص: 391

الناقصة مندكّة في النسبة التامّة؛ ولكن بما أنّ انتزاع المشتقّ من الذات - أي: (الضارب) - لا يمكن إلّا بعد وقوع الحدث، إذ ما لم يقع الضرب في الخارج، لا يقال: (الضارب)، فالفعل بما أنّه هو الدالّ على وقوع الحدث فإنّه يكون متقدّماً بالطبع على الاسم المشتقّ، فيكون كالأصل بالنسبة إليه.

ولكنّ الحقّ - كما ذكرنا -: أنّ كلّ هذه المشتقّات، بما أنّ لكلّ منها صيغاً خاصّةً به - أي: مادّةً وهيئةً - فيكون كلّ منها في قبال الآخر، وفي عرض الآخر؛ إذ لا يمكن أن يفرض شيء منها (لا بشرط)؛ مع أنّ المادّة السارية في جميع المشتقّات لا بدّ أن تكون (لا بشرط) عن جميع الخصوصيّات الواردة عليها، كما هو الشأن في الموادّ الخارجيّة بالنسبة إلى الصور المختلفة التي تتلبّس بها، كالحديد أو الخشب - مثلاً - فإنّها (لا بشرط) بالنسبة إلى الأشياء التي تصنع منهما، كالسيف والسكّين والمفتاح والقفل، وأمثال ذلك في الحديد، وكالباب والسرير وغيرهما في الخشب. وتلك المذكورات كلّها ليست مأخوذةً (لا بشرط)، لا من حيث اللّفظ، ولا من حيث المعنى.أمّا من حيث اللّفظ: فلأنّ لكلّ واحدة منها هيئةً خاصّةً غير هيئة الاُخرى.

وأمّا من حيث المعنى: فلأنّ اسم المصدر عبارة عن نفس ما يصدر

ص: 392

من الفاعل أو نتيجته، والمصدر عبارة عن الفعل باعتبار صدوره، والموجود في الماضي هو النسبة التحقّقيّة الانقضائيّة، وفي المضارع هو النسبة التحققيّة التلبّسيّة أو الترقبيّة، وفي الأمر هو النسبة الطلبيّة، وفي المشتقّات النسبة التلبسيّة الاتّحاديّة.

فكلّ واحد من هذه الاُمور في عرض الآخر، ولا يمكن أن نجعله أصلاً، لأنّه ليس كالمادّة السارية التي تسري في جميع المشتقّات.

الأقوال في وضع المشتقّ

وإذا بلغنا في الكلام إلى هذا الحدّ، فنقول:

الأقوال في وضع المشتقّات كثيرة:

منها: التفصيل بين اسم الفاعل واسم المفعول، وأنّ البحث في الثاني لا يجري؛ لأنّ الواقع لا ينقلب عمّا هو عليه.

ومنها: أنّ ما كان من قبيل الملكة والحرفة والصناعة وغيرهما يكون للأعمّ، بخلاف غيرها.

ومنها: التفصيل بين المتعدّي واللّازم، ففي الثاني، يكون للأعمّ، دون الأوّل.

ومنها: الفرق بين ما إذا طرأ ضدّ وجوديّ، فهو للمتلبّس، وإلّا، فللأعمّ.

والحقّ: أنّه موضوع لخصوص من تلبّس، والدليل على ذلك:

ص: 393

أدلّة القول بالوضع لخصوص المتلبّس

الدليل الأوّل:التبادر، فإذا قلت: (زيد قائم)، فإنّه يتبادر منه تلبّس زيد بالقيام في زمان الحمل والإطلاق.

والدليل الثاني:

صحّة السلب عن المنقضي عنه مبدأ الاشتقاق.

وهذا غير مختصّ بلغة دون لغة، فمن كان عالماً - مثلاً - ثمّ زال عنه العلم يصحّ سلب العلم عنه حقيقةً، فلو كان المشتقّ موضوعاً للأعمّ من الانقضاء والتلبّس لم يصحّ هذا السلب كما لا يخفى.

وقد يستشكل على الأوّل: بأنّه إنّما يتمّ إذا كان التبادر مستنداً إلى حاقّ اللّفظ لا الإطلاق، وإحراز ذلك يحتاج إلى دليل.

وبعبارة اُخرى: فإنّ التبادر لا بدّ وأن يكون تبادراً عند العالمين بالأوضاع، فإنّ هذا هو الذي يكون علامةً على الحقيقة عند الجاهل بالوضع، ولكن بشرط إحراز أنّ التبادر كان من حاقّ اللّفظ دون القرائن أو الإطلاق، ولا سبيل إليه هنا.

وقد يستشكل على صحّة السلب: بأنّه إن اُريد بها: صحّة السلب على الإطلاق، فهو باطل - أي: صحّة سلب المشتقّ عن المنقضي على الإطلاق - بأن نقول: (زيد ليس بضارب في شيء من الأزمنة، حتّى في

ص: 394

المنقضي عنه)، وعدم صحّة هذا القول واضح؛ لأنّ زيداً كان ضارباً أمس.

وأمّا إن اُريد صحّة السلب في الحال، كأن يقال: (زيد ليس بضارب الآن)، فهو وإن كان صحيحاً - إذ المفروض انقضاء المبدأ عنه وعدم اتّصافه فعلاً بالضرب - لكنّه غير مفيد؛ لأنّ علامة المجاز هي صحّة السلب المطلق لا المقيّد.

ولا يخفى: أنّ سلب الأخصّ لا يلزم منه سلب الأعمّ، فإنّ قولك: (كلّ إنسان حيوان) لا يعني: أنّ كلّ لاإنسان فهو ليس بحيوان، بل قد يكون حيواناً، كالفرس.ثمّ إنّ السلب على أقسام:

فإنّه تارةً يكون القيد راجعاً إلى الموضوع، أي: (زيد المنقضي عنه المبدأ ليس بضارب). وتارةً يكون راجعاً إلى السلب، بمعنى: (زيد ليس في حال الانقضاء بضارب). واُخرى يكون قيداً للمسلوب - أي: المشتقّ - كقولك: (زيد ليس بضارب في حال الانقضاء).

فإذا كان القيد قيداً للموضوع صحّ أن يقال: بأنّه علامة على المجاز، بأن يقال: (زيد الذي انقضى عنه الضرب ليس بضارب مطلقاً حتّى الضارب أمس)، أي: هو ليس من مصاديقه، إذ لو كان من مصاديق (الضارب المطلق) لم يصحّ سلبه عنه بنحو الإطلاق، كما هو ظاهر؛ لأنّ نقيض الأخصّ ليس عين نقيض الأعمّ، ولأنّه ليس بضارب الآن، ولكن

ص: 395

يمكن أن يقال: بأنّه من أفراد الضارب المطلق.

وكذا إذا كان قيداً للسلب، فإنّ صحّة السلب أيضاً تكون علامةً على المجاز، كأن يقال: يصحّ سلب الضارب مطلقاً عن زيد بلحاظ حال الانقضاء، كما لا يصحّ سلبه عنه بلحاظ حال التلبّس.

وأمّا إذا كان قيداً للمشتقّ والمسلوب، بأن يكون المسلوب - أي: الضارب - هو المقيّد بحال الانقضاء فصحّة السلب في هذا المورد لا تكون علامةً على المجاز، إذ يصدق أنّ زيداً ليس بضارب فعلاً، ولا يصدق: ليس بضارب مطلقاً حتّى بالضرب الذي مضى أمس، مع أنّه يصدق عليه الضارب بالأمس.

وبعبارة اُخرى: فلو كان قيداً للموضوع، وكان السلب على نحو الإطلاق، فيمكن أن يقال: بأنّ زيداً المنقضي عنه المبدأ في هذا الحال ليس بضارب مطلقاً، بلا فرق بين الضرب الفعليّ والمنقضي عنه، وليس الموضوع مقيّداً حتّى لا تكون صحّة السلب علامةً على المجاز.والدليل الثالث:

برهان التضادّ، وهو أنّه لو قلنا: بأنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ، يلزم اجتماع الضدّين، وذلك لأنّ المبادئ في المشتقّات تكون متضادّةً، لتضادّ القيام والقعود والسواد والبياض، وبالتبع يكون بين هيئات المشتقّات تضادّ أيضاً ، وهذا التضادّ كاشف عن أنّ المشتقّ موضوع لخصوص من تلبّس؛ لأنّا لو قلنا: بأنّه موضوع للأعمّ، فلو كان (زيد) عادلاً وظهر الآن

ص: 396

فسقه - مثلاً - فيصحّ أن يقال: (زيد عادل وفاسق)، أو كان قاعداً فقام فيصحّ في حال قيامه أن يقال: (هو قائم وقاعد).

قد يقال: بأنّ هذا التضادّ إنّما يتصوّر بين المبادئ فيما إذا كان المشتقّ بسيطاً، وأمّا إذا كان مركّباً فلا؛ لأنّه لو فرض بأنّ المراد من (القائم) هو الذات المتلبّسة بالقيام، فهناك جامع وهو الذات، فيمكن أن يلاحظ الواضع كيفيّة تلبّس الذات آناً ما بالوصف والعرض، فيضع للذّات المتلبّسة بالمبدأ آناً ما، فالقائم والقاعد موضوعان في نظره لذات تلبّس بالعلم أو القيام آناً ما، سواء بقي هذا الوصف له أم زال. إذاً: فيكون للقائم تقديران: تلبّسيّ وانقضائيّ، فيصحّ أن يقال: زيد قائم بالقيام الانقضائيّ وقاعد بالقعود التلبّسيّ.

وفيه: أنّه على خلاف الوجدان، وأنّ المتبادر في معنى كلّ من القاعد والقائم هو التضادّ، وادّعاء الخصم التبادر على خلاف هذا مخالف للوجدان.

ولكن لا يخفى: أنّه لو فرض أنّ المشتقّات تكون عاريةً عن الزمان، فوظيفة هيئة المشتقّات هي: إلصاق المبدأ بالذات وربطه بها من دون تصرّف في المبادئ والذوات.

إذاً: فالمبادئ باقية على ما عليها من التضادّ، فلا معنى للقول: بعدم التضادّ في المشتقّات وإن كان التضادّ في المبادئ موجوداً.نعم، لو أخذ الزمان في مدلول الهيئة لكان للتوهّم المذكور مجال.

ص: 397

وممّا ذكرنا: ظهر أنّ التضادّ بين المشتقّات موجود، وذلك ينافي وضعها للأعمّ.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1): من أنّه بناءً على التركيب أيضاً فلابدّ أن يكون موضوعاً للمتلبّس لا الأعمّ؛ لأنّه لو كان المشتقّ مركّباً من المبدأ والنسبة - سواءً كانت ناقصةً تقييديّةً أم تامّةً خبريّة - فلا جامع في البين حتّى يبقى مجال للنّزاع في كونه موضوعاً للأعمّ أو الأخصّ ويقال بوضعه للمتلبّس لا المنقضي عنه؛ لعدم وجود موضوع في كلتا الحالتين، وذلك لأنّه لا جامع بين وجود نسبة المبدأ وعدمه، فلا محيص عن القول: بوضع المشتقّ للأخصّ.

ففيه: أنّ مراد من يقول بالتركيب هو: أن يكون المشتقّ مركّباً من الذات والمبدأ، لا النسبة والمبدأ، فظهر: أنّ هذا البرهان غير تامّ على القول بالتركيب، فالدليل - إذاً - منحصر في التبادر وصحّة السلب.

ثمّ إنّ الميرزا النائيني(قدس سره)(2) بعد أن أذعن بأنّ بين المشتقّات تضادّاً وأنّها بسيطة ولم تؤخذ الذات في مفهومها، قال:

«إنّ مبنى التضادّ بين المشتقّات ينافي ما نقل عن أهل الميزان من عدم التضادّ بين القضيّتين العامّتين ﻛ (زيد قائم) و(زيد قاعد)، إلّا مع تقييد أحدهما بالدوام، كقوله: (زيد قائم دائماً) فإنّه ينافي: (زيد ليس بقائم)».

ص: 398


1- فوائد الاُصول 1: 121.
2- تقريرات بحث السّيّد الشاهروديّ(قدس سره): 165.

ثمّ أجاب عن هذا: بأنّ بين النظرين فرقاً، فالنظر الاُصوليّ إنّما يكون في ظواهر اللّفظ، ونظر المنطقيّ إنّما هو في الواقع، ولذا يلتزمون - لأجل حصول التنافي - بتقييد إحدى القضيّتين بالدوام؛ لأنّ نظرهم إلى الواقع. وأمّا الاُصوليّ، فبما أنّ نظره إلى ظاهر اللّفظ، فإنّ رفع التنافي عنده يكون بحسب اختلاف الزمان، فمعنى: (زيد قائم) هو: ثبوت القيام له في غير زمان عدم القيام - وهو القعود - بخلاف التقييد بالدوام، فإنّه فيه التنافي في نظرهم إذا كان الزمان واحداً.

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) غير تامّ؛ لأنّ الإخبار بأنّ (زيداً قائم وليس بقائم) مع كون الزمان واحداً يأتي فيه التنافي بنظر كليهما.

أدلّة القائلين بالأعمّ

وقد استدلّ القائلون بالأعمّ باُمور:

الأوّل: التبادر، أي: تبادر الأعمّ، لأنّه إذا قيل: (زيد ضارب)، ينسبق إلى الذهن المعنى العامّ الشامل للمتلبّس بالمبدأ والمنقضي عنه.

لكنّ ما ذكروه - مضافاً إلى ما مرّ من الإشكال على أصل التبادر - يتعارض مع القول: بأنّ المنسبق إلى الذهن هو خصوص من تلبّس بالمبدأ.

والثاني: عدم صحّة السلب في مثل: (المضروب) أو (المقتول) عمّا انقضى عنه المبدأ.

ص: 399

وفيه: أنّه تارةً يراد من (المضروب) و(المقتول) معناهما الحدثيّ، أي: تأثير الضرب والقتل فيهما حين وقوعهما. واُخرى: يراد منهما غير المعنى الحدثيّ، أي: غير معنى الاسم المصدريّ، بأن يراد من (المقتول) من اُزهقت روحه، الذي هو بمنزلة الملكة في البقاء، ويراد من (المضروب) الشخص الواقع عليه الضرب. فإناُريد الأوّل: فلا ريب في صحّة السلب. وأمّا إذا كان بالمعنى الثاني - وهو الاسم المصدريّ - فإنّ المبدأ بهذا المعنى باق وهو لم ينقض أصلاً، فعدم صحّة السلب عنهما لأنّهما متلبّسان بالمبدأ فعلاً، فلا يلزم من إطلاقه عليهما حينئذ مجاز؛ لأنّهما ليسا من باب إطلاق المشتقّ عليهما بعد أن انقضى عنهما المبدأ.

ولذا قال في البدائع: «ولك أن توجه عدم صحّة السلب في موارده بأنّ المراد بالمبدأ أمر باق، ولو مجازاً، كما في الصناعات، فيخرج عن موارده حينئذ؛ لأنّ المنقضي إنّما هو المعنى الحدثيّ لا الملكة»(1).

ومن هنا ظهر ضعف ما قد يقال: من اختصاص المفعول بعدم صحّة السلب، دون الفاعل؛ وذلك لأنّ اسم المفعول مضايف لاسم الفاعل، فإن قيل باختصاص اسم المفعول بعدم صحّة السلب فلابدّ أن يكون هناك خصوصيّة فيه غير موجودة في اسم الفاعل، وتلك الخصوصيّة، إمّا أن تكون ملحوظة في المبدأ المشتقّ منه اسم المفعول، أو في هيئته، والوجدان قاضٍ بأنّ العرف لم يتصرّف في شيء من مادّة اسم المفعول

ص: 400


1- بدائع الأفكار: 181.

وهيئته، فلم يبقَ في البين ما يوجب اختصاصه بعدم صحّة السلب دون اسم الفاعل.

ويمكن أن يجاب عن هذا: بأنّ كثرة استعمال المفعول في الأعمّ هو الذي أوجب توهّم عدم صحّة سلبه عنه، وإلّا فكيف يمكن أن يفرّق بين اسم الفاعل والمفعول بجريان صحّة السلب في الأوّل دون الثاني؟(قدس سره) مع ما نراه من عدم الفرق بينهما، وأنّهما متضائفان ومتكافئان في القوّة والفعل، ولم يختصّ الثاني بموضع خاصّ يخالف في وضعه وضع الأوّل.والثالث: قوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي ٱلظّالِمِينَ﴾(1)، وقوله: ﴿وَٱلسّارِقُ وَٱلسّارِقَةُ﴾(2)، وقوله: ﴿ٱلزّانِيَةُ وَٱلزّانِي﴾(3).

وقد استدلّ الإمام(علیه السلام) بالآية الاُولى على عدم لياقة من عبد صنماً أو وثناً لمنصب الولاية والخلافة، تعريضاً بمن قد عبد الصنم مدّةً مديدة، بقوله(علیه السلام): «من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً»(4).

ولو كان المشتقّ موضوعاً لخصوص المتلبّس، لما صحّ الاستدلال بالآية قطعاً؛ لعدم اتّصافهم بهذا الوصف حين التصدّي للخلافة، كما قال

ص: 401


1- البقرة: 124.
2- المائدة: 38.
3- النّور: 2.
4- الكافي 1: 175.

الفخر الرازي: «الروافض احتجّوا بهذه الآية على القدح في إمامة أبي بكر وعمر»(1)، أي: لأنّهم قد عبدوا الأوثان مدّةً مديدة.

ثمّ أجاب عن ذلك: بأنّ استدلالهم هذا إنّما يتمّ لو قلنا: بأنّ المشتقّ حقيقة في المنقضي لا في من تلبّس.

ثمّ أورد على نفسه: بأنّ التلبّس آناً ما بالظلم يمكن أن يكون كافياً لعدم لياقتهم للخلافة أبداً.

ولا يخفى: أنّ بعض أفراد الظلم آنيّ الوجود، ولا دوام له، كضرب اليتيم، وبعضها له دوام واستمرار، كالغصب والكفر.ثمّ إنّ التمسّك بالآية إنّما يتمّ فيما لو قلنا: بأنّهم حينما تصدّوا للخلافة ما كانوا عابدين للأصنام، وإلّا، فلا يمكن للتمسّك بالآية في مورد البحث.

وأيضاً: إنّما يصحّ التمسّك - في مورد البحث - وإطلاق (الظّالم) عليهم بعد الانقضاء، لو كان صدق (الظّالم) عليهم على نحو الحقيقة، لا على نحو المجاز؛ لأنّه لا يصدق (الظّالم) عليهم حقيقةً بالفعل.

وأيضاً: إنّه إنّما يصحّ، لو فهم من ظاهر الآية صدق (الظّالم)، ولو حقيقةً، مع انقضاء المبدأ عنهم، لا من باطنها، وإلّا، فلا يمكن أيضاً إلزام الخصم، ولا يمكن أن نتمسّك بالآية على المراد.

ص: 402


1- التفسير الكبير 3: 45.

وإذا عرفت هذا، فنقول: إنّ العناوين الواردة على الأشياء على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون العنوان مشيراً إلى الأفراد من دون أن يكون دخيلاً في موضوع الحكم أصلاً، فلوحظ العنوان مشيراً إلى الموضوع ومعّرفاً له، فلحاظ المشار إليه حينئذ استقلاليّ، والمشير هو العنوان، كقولك: «أكرم من في الدار»، إذا كان المقصود ذواتهم، لا كونهم في الدار.

والثاني: أن يكون العنوان دخيلاً في الحكم، وإنّما أخذ في الموضوع بنحو يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً، بحيث يناط الحكم بصدق الموضوع وعدمه.

والثالث: أن يؤخذ على نحو يكون دخيلاً في الحكم حدوثاً لا بقاءً، بمعنى: أن يكون اتّصاف الذات به آناً ما كافياً في الحكم حدوثاً وبقاءً.

والظاهر: من جهة مناسبات الحكم والموضوع، هو ما استفاده الفخر الرازيّ، فإنّ عنوان (الظّلم) مأخوذ في المقام بالنحو الثالث، أي: بنحو يكفي فيه اتّصاف الذات بالوصف آناً ما في ثبوت الحكم حدوثاً وبقاءً؛ لأنّ من شأن الخلافة الدينية التي هي من أعظم المناصب الإلهيّة، بحيث يكون الاتّكاء على الوسادة النبويّة والتي هي رفيعةللغاية، ولا يمكن لأيّ شخص أن يتصدّى للخلافة عنه، فالمتصدّي لهذا المنصب القدسيّ لا بدّ وأن تكون له ذات قدسيّة، بحيث لم تدنّس بالأدناس الجاهليّة في جميع أطوارها وشؤونها.

ص: 403

فمن تدنّست ذاته، ولو في بعض أطواره، وفي بعض أيام حياته، فالمنصب الإلهيّ يكون أعلى وأرفع من أن تناله يده. فالمتصدّي للخلافة بحاجة إلى اللّياقة الذاتيّة، ولا بدّ أن يكون مثالاً أسمى وأعلى للمجتمع الإنسانيّ. هذا في نظر العقل.

وأمّا في نظر العرف فيكون كذلك أيضاً، فلذا من حدّ أو سرق، ولو تاب بعد ذلك، فإنّ العرف يراه غير قابل للتقمّص بهذا القميص الإلهيّ، ولذا اختار الله تبارك وتعالى نبيّه الكريم محمّداً-، لأنّ وجوده- كان أرقى من أن تصل إليه الأرجاس والأدناس، حتّى بالنسبة إلى أصغر أنواع الظّلم وأشكاله، حتّى عرف- بالصادق الأمين، وقال فيه تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أنْفُسِكُمْ﴾(1).

وبما أنّ محطّ نظر الإمام(علیه السلام) هو أنّ من أراد اختيار هذا المنصب فلابدّ له من لياقة ذاتيّة ومن ألّا يتلبّس بالظّلم، ولو آناً ما، فاستدلّ بالآية الشريفة على عدم لياقة الثلاثة للتصدّي للخلافة، ولو في حال عدم تلبّسهم فعلاً بالظّلم والكفر.

فظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ الآية لا تدلّ على أنّ المشتقّ للأعمّ ممّن انقضى عنه المبدأ، وإنّما تدلّ على ذلك لو أخذ المشتقّ بالمعنى الثاني، أي: إذا كان الحكم يدور مداره وجوداً وعدماً.

ص: 404


1- التوبة: 128.

بقي الكلام في مسألتين

الاُولى: في ثمرة هذا البحث.والثانية: في دخول هذه المسألة في المسائل الاُصوليّة.

أمّا الثمرة: فقد ذكروا لها عدّة مسائل في الفقه.

منها:

كراهة البول تحت الشجرة المثمرة، بقوله(علیه السلام) «وكره البول على شطّ نهر جار، وكره أن يحدث إنسان تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت»(1). وغيرها من الروايات الدالّة على الكراهة.

قالوا: إنّه لو قلنا: بأنّ المشتقّ أعمّ ممّن انقضى عن التلبّس بالمبدأ وممّن تلبّس به، فإنّه يكره البول تحت الشجرة، ولو بعد اقتطاف الثمرة، بحيث لم يكن على الشجرة ثمرة. وأمّا لو قلنا: بأنّ المشتقّ مختصّ بمن تلبّس به، فلا يكون البول أو الحدث مكروهاً تحتها حينئذ.

ولكن يمكن أن يقال - كما ذكرنا -: إنّ بعض المبادئ قد اُخذت على نحو الملكة والاستعداد والشأنيّة، فيمكن أن يراد هنا ﺑ (الشجرة المثمرة) ما من شأنها أن تكون كذلك، أي: ما يكون من شأنها الإثمار، ولو لم تكن بالفعل كذلك.

وورد في بعض الروايات، كالمرويّ عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام): «إنّما

ص: 405


1- وسائل الشيعة 1: 327، الباب 15 من أبواب الخلوة، ح 9.

نهى رسول الله- أن يضرب أحد من المسلمين خلاءه تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت، لمكان الملائكة الموكّلين بها، قال: ولذلك يكون الشجرة والنخل اُنساً إذا كان فيه حمله، لأنّ الملائكة تحضره»(1).وعن العلل لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم القمّيّ قال: «أوّل حدّ من حدود الصلاة هو الاستنجاء - إلى أن قال -: ولا تحت شجر مثمر، لقول الصادق(علیه السلام): ما من ثمرة ولا شجرة ولا غرسة إلّا ومعها ملك يسبّح الله ويقدّسه ويهلّله»(2).

وبالجملة: فتحمل الروايات الواردة في البول تحت الشجرة المثمرة على أشدّيّة الكراهة، فتكون الرواية خارجةً عن محلّ البحث.

ومنها:

مسألة الحيوان الجلّال، حيث قالوا: إنّ الحيوان المأكول اللّحم لو أصبح جلّالاً، فإذا زال عنه عنوان الجلل، فيتأتّى فيه البحث ويقع محلّاً للنزاع، فيقال - مثلاً -: هل بعد زوال الجلل عنه يقال له الآن: أنّه جلّال أم لا؟ فبناءً على القول بالأعمّ يصدق عليه عنوان (الجلّال)، وإلّا، فلا، فتكون هذه المسألة من ثمار مبحث المشتقّ، لولا النصّ بأنّه لا يصدق عليه (الجلّال) بعد زوال عنوان (الجلل).

ص: 406


1- وسائل الشيعة 1: 327، الباب 15 من أبواب الخلوة، ح 8.
2- انظر مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 1: 262- 263، الباب 12 من أبواب أحكام الخلوة، ح 4.

وما قيل: من أنّه ورد الإجماع أيضاً على أنّه يصدق عليه (الجلّال).

ففيه: أوّلاً: أن هذا الإجماع ليس بحجّة؛ لأنّه محتمل المدركيّة، ولعلّ مدركهم كان النصّ الصحيح، والإجماع - كما هو معلوم - إنّما يكون حجّةً لو كان تعبّديّاً.

وثانياً: أنّ هذا ليس بثمرة للبحث، ومثالنا كمثال الماء المتغيّر في أنّ العلّة المحدثة للنّجاسة تكون هي بعينها علّةً مبقية، فنحكم بنجاسة الماء ولو بعد زوال التغيّر بنفسه.. وهكذا في مورد البحث، فنحكم بنجاسة الحيوان الجلاّل، ولو بعد زوال الجلل عنه، لولا النصّ - كما ذكرنا -.وأمّا دخول هذه المسألة في المسائل الاُصوليّة: فقد يقال - كما عليه المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1) -: بخروجها عن المسائل الاُصوليّة؛ لأنّ ضابط المسألة الاُصوليّة هو: كلّ ما يجعل كبرى لقياس يستنتج منه بعد ضمّ الصغرى إليه الحكم الكلّيّ الإلهيّ، فخرجت هذه المسألة عن المسائل الاُصوليّة؛ لعدم شمول هذه الضابطة لها؛ حيث كانت في مقام بيان إحراز موضوع الحكم، لا الحكم، لا بنفسه ولا بكيفيّة تعلّقه بالموضوع.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا فرق بين المشتقّ وبين مسألتي: المطلق والمقيّد، والعامّ والخاصّ، حيث قالوا بدخولهما في المسألة الاُصوليّة؛ إذ

ص: 407


1- مقالات الاُصول 1: 54 - 55.

بعدما قمنا بتعميم الحكم المستنبط من المسائل الاُصوليّة - كما قيل: بأنّه ما يكون لذاته أو لكيفيّة تعلّقه بموضوعه - فلا يبقى فرق بين هذه المسألة وبين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد، فإنّ العامّ كما يتصوّر فيه أن يكون في بيان كيفيّة تعلّق حكمه وتشريعه وأن يكون التعلّق على نحو العموم، والمطلق كما يتضمّن ثبوت الحكم فيه على نحو الاستمرار، غير مقيّد بحال دون حال، فكذلك مسألة المشتقّ، فإنّها تدلّ على ثبوت الحكم منوطاً ببقاء المبدأ إذا فرض أنّه قد وضع للأخصّ، أو مستمرّاً إذا فرض أنّه قد وضع للأعمّ، وهو دخيل في كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه، وتبيّن هذه الكيفيّة بأنّها هل تكون على نحو الأعمّ أو الأخصّ؟ وعليه: فكما أنّ مسألتي: المطلق والمقيّد، والعامّ والخاصّ، تكونان داخلتين في المسائل الاُصوليّة، فكذلك مسألة المشتقّ فإنّها تكون داخلة فيها أيضاً.

ما هو الأصل في المسألة؟

لا يخفى: أنّه لا أصل لفظيّ في هذه المسألة يمكن أن يرجع إليه لكي يحقّق كيفيّة وضع المشتقّ وأنّه للأعمّ والأخصّ، وكذا الاستصحاب، لا يمكن جريانه هنا، لما عرفت من أنّ كلّ واحد منهما، أعني: الأعمّيّة والخصوص، مسبوق بالعدم، فلا يمكن جريان الأصل فيهما عند الشكّ.

ص: 408

فلا بدّ من الرجوع فيه إلى الأصل العملي؛ لأنّ استصحاب عدم لحاظ الخصوصيّة معارض باستصحاب عدم لحاظ العموم، وبما أنّ اللّحاظين مسبوقان بالعدم، فلا يمكن جريان الأصل فيهما، بل يتعارضان ويتساقطان.

بل يمكن أن يقال: بعدم جريان الخصوصيّة، وذلك من جهة أنّ جريانها فيه منوط بما لو أدخلنا المسألة في المطلق والمقيّد، بعدما فرضنا أنّ أصل الجامع موجود وإنّما نشكّ في الزائد، وهي الخصوصيّة، فيجري الأصل.

وأمّا لو فرض أنّهما متباينان، ولو بحسب عالم اللّحاظ، ولم يكونا من قبيل الأقلّ والأكثر حتّى ينفى الزائد بالأصل، فأيضاً: إنّما يجري هذا الأصل - حتّى لو أدخلناهما في باب المطلق والمقيّد - إذا فرض أنّ التقابل بينهما هو من تقابل السلب والإيجاب.

وأمّا لو فرض أنّه من تقابل العدم والملكة، فلا يجري؛ لأنّ إثبات الوضع للأعمّ ببركة الأصل - حينئذٍ - لنفي الخصوصيّة تمسّك بالأصل المثبت.

وأمّا إذا اُريد من الأصل: الأصل العقلائيّ، فهو، وإن كان في ذاته حجّة، إلّا أنّ حجّيّته على نحو الإطلاق حتّى يثبت به الوضع محلّ للكلام.

إذ لم يثبت بناء العقلاء على اعتباره حتّى بالنسبة إلى إثبات الوضع.

ص: 409

وأمّا ترجيح الاشتراك المعنويّ على الحقيقة والمجاز، وإثبات أنّ الوضع يكون للأعمّ لأجل الغلبة - لأنّه إذا دار الأمر بين الحقيقة والمجاز والاشتراك المعنويّ - فالثاني يكون هو الاُولى، من باب الغلبة، فغير تامّ.

إذ الحقّ ما أفاده صاحب الكفاية)(1):

أوّلاً: من منع الصغرى، وهي: ثبوت الغلبة في الثاني.

وثانياً: على فرض القبول بذلك، فنمنع الكبرى؛ لأنّ غاية ما توجبه الغلبة هو الظّنّ، وهو ليس بحجّة.

أمّا الأصل العملي الجاري في الحكم:

فتارةً: يتصوّر فيه ورود الحكم قبل زوال الصفة، واُخرى: بعد زوالها.

أمّا في الصورة الاُولى - كما إذا قال: «أكرم كلّ عالم»، ثمّ زال العلم عن الشخص المتّصف به : - فمقتضى الاستصحاب: بقاء وجوب الإكرام؛ لأنّه كان لنا قطع بهذا الوجوب قبل أن يزول العلم عنه، وبعد ارتفاع المبدأ عنه نشكّ في وجوب إكرامه، فنجري الاستصحاب؛ إذ على فرض أنّ المشتقّ موضوع للأعمّ، فالحكم باقٍ، وعلى فرض أنّه موضوع للأخصّ، فالحكم مرتفع، فنتيجته الشكّ في ارتفاع الحكم، والاستصحاب يحكم ببقائه.

ص: 410


1- كفاية الاُصول: 45.

وأمّا في الصورة الثانية - وهي: ما إذا ورد الحكم بعد زوال المبدأ -: فلا نحكم ببقائه؛ لأنّه لو فرض أنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ، فالحكم ثابت، وإكرامه واجب، وإن كان مختصّاً بالمتلبّس، فالحكم مرتفع، وهو غير واجب الإكرام.فنلاحظ: أنّ الشكّ في معنى المشتقّ قد أوجب الشكّ في حدوث الحكم، ومعه: فتجري البراءة.

ولكن يمكن أن يقال:

بعدم جريان الأصل حتّى بالنسبة إلى الصورة الاُولى؛ لأنّ الموضوع عند الجريان لا بدّ أن يكون ثابتاً في كلتا الحالتين، فإنّ الشكّ في بقاء الحكم إنّما يجري من جهة إجمال المفهوم وعدم تحديده، وهو ما يسبّب الشكّ في بقاء الموضوع، وإحراز الموضوع في كلتا الحالتين شرط في جريان الاستصحاب.

ومعه: فيكون موردنا هنا من قبيل استصحاب الحكم بالنجاسة للماء المتغيّر؛ فإنّ هذا الاستصحاب لا يمكن جريانه فيه، لأنّ الموضوع قد تبدّل بذهاب وصف من أوصافه؛ لاحتمال دخل هذا الوصف في ترتّب الحكم، وإن كان يمكن أن نبحث هناك عن أنّ التغيّر - الذي هو علّة للنجاسة - هل هو علّة محدثة أو مبقية؟ وبهذا الاعتبار: يكون نفس الحكم مشكوكاً، ولا يمكن جريان الاستصحاب لإثباته؛ لاحتمال دخل التغيير في الموضوع.

ص: 411

وأمّا فيما نحن فيه: فإنّ المرجع في كلتا الصورتين هو البراءة، أو فقل: إنّ وصف العلم ممّا يدرك العرف كونه دخيلاً في الموضوع، بل أنّه هو الركن الأساسيّ وتمام الموضوع؛ لأنّ معنى: «أكرم العالم»: (أكرمه لعلمه). فبارتفاع الوصف يرتفع الموضوع، ولم يكن الموضوع في كلتا الحالتين موجوداً حتّى يجري الاستصحاب.

ص: 412

الفهرس

ص: 413

ص: 414

المقدّمة (7-8)

المقدّمة.... 7

مقدّمة: وفيها اُمور (9-62)

مقدّمة: وفيها اُمور...... 9

الأمر الأوّل: في بيان معنى مصطلح «العلم»:....... 9

الأمر الثاني: في رتبة هذا العلم... 10

فوائد علم الفقه وآثاره..... 13

فائدة علم الكلام........ 14

الأمر الثالث: الفرق بين المسائل الاُصوليّة والقواعد الفقهيّة 15

الفرق بين المسائل الاُصوليّة ومسائل سائر العلوم:.... 20

الأمر الرابع: موضوع علم الاُصول.... 21

مناقشة أدلّة القائلين بلزوم وحدة الموضوع 24

تمايز العلوم فيما بينها بأيّ شيءٍ هو؟...... 33

العوارض الذاتيّة........ 37

تقسيم العرض...... 39

ص: 415

العرض الذاتيّ بين المتقدّمين والمتأخّرين 41

تعريف موضوع العلم....... 44

موضوع علم الاُصول....... 47

الأمر الخامس: تعريف علم الاُصول: ..... 53

وأمّا استطراديّة حجيّة الظنّ الانسداديّ بناءً على الحكومة... 57

وقد يستشكل في هذا التعريف أيضاً........ 58

المقصد الأوّل: في الوضع وفيه فصول

الفصل الأوّل (65-93)

الفصل الأوّل: في حقيقة الوضع... 65

الفرق بين الأمر الحقيقيّ والجعليّ.... 68

تقسيم الأمر الحقيقيّ....... 69

الاعتراض بلزوم الترجيح بلا مرجّحٍ...... 70

الجهة الاُولى: في بيان معنى الوضع... 72

والجهة الثانية: أنّه قد وقع الخلاف في معنى الوضع.... 73

من هو الواضع؟...... 82

في حقيقة الوضع .... 88

الفصل الثاني (95-103)

الفصل الثاني: في أقسام الوضع.... 95

ص: 416

الفصل الثالث (105-167)

الفصل الثالث: في المعنى الحرفيّ...... 105

القول الأوّل:....... 105

تنبيه....... 109

القول الثاني:....... 119

القول الثالث:...... 122

القول الرابع........ 132

القول الخامس.... 134

القول السادس.... 137

الخبر والإنشاء...... 144

الفصل الرابع (169-176)

الفصل الرابع: استعمال اللّفظ في المعنى المجازيّ 169

الأمر الأوّل: في تعريف المجاز........ 169

الأمر الثاني: في منشأ دلالة اللّفظ على المعنى المجازيّ 170

الأمر الثالث: ملاك صحّة الاستعمال المجازيّ... 171

الفصل الخامس (177-186)

الفصل الخامس: إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه..... 177

الفصل السادس (187-197)

الفصل السادس: في أقسام الدلالة...... 187

ص: 417

الفصل السابع (199-202)

الفصل السابع: في وضع المركّبات..... 199

الفصل الثامن (203-228)

الفصل الثامن: علائم الحقيقة والمجاز...... 203

العلامة الاُولى: التبادر.... 203

العلامة الثانية: صحّة السلب وعدمها...... 215

العلامة الثالثة: الاطّراد.... 220

وأمّا الثمرة من هذا البحث فقد يقال فيها...... 227

الفصل التاسع (229-230)

الفصل التاسع: في تعارض الأحوال... 229

الفصل العاشر (231-244)

الفصل العاشر: الحقيقة الشرعيّة.... 231

ثمرة هذا البحث....... 242

الفصل الحادي عشر (245-300)

الفصل الحادي عشر: الصحيح والأعمّ...... 245

الأمر الأوّل ........ 245

الأمر الثاني ........ 248

الأمر الثالث ....... 250

ص: 418

الأمر الرابع ........ 255

الجامع بين الأعمّ والصحيح والفاسد...... 270

ثمرة هذا البحث....... 287

الكلام في المعاملات..... 293

الفصل الثاني عشر (301-308)

الفصل الثاني عشر: الاشتراك........ 301

أمّا الجهة الاُولى....... 301

وأمّا الجهة الثانية...... 304

الفصل الثالث عشر (309-324)

الفصل الثالث عشر: استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.... 309

الأمر الأوّل ........ 309

الأمر الثاني ........ 310

الأمر الثالث ....... 310

الثمرة..... 321

الفصل الرابع عشر (325-412)

الفصل الرابع عشر: المشتقّ.... 325

الأمر الأوّل ........ 325

الأمر الثاني ........ 327

الأمر الثالث ....... 341

الأمر الرابع ........ 344

ص: 419

الأمر الخامس .... 348

الأمر السادس ... 352

الكلام في بساطة المشتقّ وعدمه..... 361

وهل هناك ثمرة لهذا البحث أم لا؟........ 380

أصل الاشتقاق.... 387

الأقوال في وضع المشتقّ..... 393

أدلّة القول بالوضع لخصوص المتلبّس... 394

أدلّة القائلين بالأعمّ........ 399

بقي الكلام في مسألتين........ 405

ما هو الأصل في المسألة؟... 408

الفهرس (413-420)

الفهرس.... 413

ص: 420

المجلد 2

هویة الکتاب

شَمسُ الأُصُول

5 جلد

شمس الدين الواعظي

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته، سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ص: 5

ص: 6

مبحث الأوامر

اشارة

ويقع البحث فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: هل الأوامر من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

وقد مرّ في أوائل البحث في المجلّد الأوّل تعريف المسألة الاُصوليّة، وهي: أن تقع كبرى لقياساتٍ يُستنتج منها الحكم الكلّيّ الإلهيّ، كما في مبحث الخبر الواحد، فيقال _ مثلاً _: «صلاة الجمعة ممّا أخبر بوجوبها العادل، أو الثقة، وكلّ ما كان كذلك، فهو واجب».فبناءً على هذا: لا يمكن إدخال الأوامر في المسألة الاُصوليّة؛ لأنّ البحث فيها في أصل الظهور، لا في إثبات الحجّيّة التي هي من المسائل الاُصوليّة. ومن المعلوم: أنّ إثبات الظهور يندرج في المسائل اللّغويّة.

إن قلت: يكفي في كون المسألة اُصوليّةً دخلها في قياس الاستنباط ولو على نحو الإعداد.

ص: 7

قلنا: هذا غير تامّ؛ لأنّه لو قلنا بكفاية دخلها، ولو بنحو الإعداد، لكان علم الرجال والعلوم الأدبيّة أيضاً داخلين في المسألة الاُصوليّة؛ لكونهما داخلين في قياس الاستنباط على نحو الإعداد.

أو تقول: إنّ المسألة الاُصوليّة هي إثبات الحكم: إمّا بنفسه، أو بكيفيّة تعلّقه بالموضوع، ومسألتنا هذه ليس من شأنها إلّا إحراز نفس موضوع الحكم، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً في مسألة المشتقّ.

ولكنّ

الحقّ _ كما عرفت _ دخول المشتقّ في المسألة الاُصوليّة؛ فإنّها تدلّ _ كما ذكرنا _ على ثبوت الحكم، إمّا منوطاً ببقاء المبدأ إذا فُرِض أنّه للأخصّ، أو مستمرّاً إذا فُرِض أنّه موضوع للأعمّ، إذاً، هي دخيلة في كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه وتبيّن هذه الكيفيّة بأنّها هل تكون للأعمّ أو الأخصّ؟وكذلك هنا، فإنّ مسألة الأوامر دخيلة في إثبات تعلّق الحكم بموضوعه، بأنّه هل يكون على نحو الوجوب أو الندب، أي: أنّ الطلب هل يكون حتميّاً أو ترخيصيّاً؟

الأمر الثاني: قد يستعمل الأمر في عدّة معان:

منها: الطلب، والحادثة، والشيء، والغرض، والفعل، كقولك: (أمره بكذا)، و(جاء زيد لأمر كذا)، و(شغله أمر كذا)، وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ

ص: 8

أَمْرُنَا﴾(1)، وقولك: (رأيت اليوم أمراً عجيباً)، وهكذا...

فهل هذه كلّها معانٍ للأمر أم لا؟!

الحقّ: أنّ للأمر معنيين تبعاً لصاحب الكفاية(رحمة الله) الذي قال:

«ولا يبعد دعوى كونه حقيقةً في الطلب في الجملة، والشيء، هذا بحسب العرف واللّغة»(2).

والمراد من قوله: «في الجملة»، أي: بلا تعيين كونه للوجوب أو أعمّ منه. والشيء أعمّ من أن يكون بمعنى العين أو الصفة أو الفعل، فالأوّل: كالماء؛ فإنّه شيء، والثاني: كالعلم، والثالث: كالأخذ والعطاء.والفرق بين المعنيين: أنّ لفظ «الأمر» الدالّ على المعنى الأوّل «الطلب» يكون مشتقّاً، ويُجمع على «أوامر»، وأمّا لفظ «الأمر» الدالّ على المعنى الثاني فإنّه يكون جامداً ويُجمع على «اُمور».

وأمّا بقيّة الموارد فاللّفظ مستعمل في مصاديقها، لا في المفاهيم.

وهل يكون بين الأوّل والثاني: اشتراك لفظيّ، أم معنويّ، أم هناك تفصيل؟

أمّا الأقوال في المسألة فهي:

الأوّل: الاشتراك اللّفظيّ في الجميع.

ص: 9


1- هود: 58.
2- كفاية الاُصول: 62.

الثاني: الاشتراك المعنويّ بين جميع تلك المعاني.

الثالث: التفصيل، بالقول: بالاشتراك المعنويّ بين تلك الاُمور ما عدا الطلب، والاشتراك اللّفظيّ بينها وبين الطلب، كما في الفصول(1).

وذهب المحقّق النائيني(قدس سره)(2) إلى أنّ الأمر موضوع لهذه المعاني على نحو الاشتراك المعنويّ، وبعبارةٍ اُخرى: فعنده(قدس سره): أنّ مادّة الاُمور موضوعة لمعنىً كلّيٍّ ومفهومٍ جامع للمعاني السبعة المتقدّمة نحو جامعيّة الكلّيّ لمصاديقه. ثمّ اختلف القائلون بالاشتراك المعنويّ فيتعيين الجامع بين ما عدا الطلب، فقال بعضهم: هو الشيء، وقال بعض آخر: هو الفعل، واحتمل بعض أن يكون هو: الشغل والشأن.

وقد استدلّ المحقّق النائيني(3) على مبناه هذا: بأنّ الاشتراك اللفظيّ هنا بعيد لا يمكن المصير إليه، فلابدّ من الالتزام بالاشتراك المعنويّ ولو لم نتمكّن من تعيين جامع لهذه المعاني؛ فإنّ العجز عن تعيينه لا يدلّ على عدم وجوده، فضلاً عن أنّه لا يدلّ على عدم إمكانه.

وقد ردّه الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) بأنّ مجرّد الاحتمال لا يجدي بل يبقيه في بقعة الإمكان.

ثمّ استدرك بأنّه: إذا لم يمكن فرض الاشتراك اللّفظيّ بين الكلّ، ولم

ص: 10


1- الفصول الغرويّة: 62_ 63، وانظر: منتهى الاُصول: 1: 110.
2- انظر: فوائد الاُصول: 1: 128.
3- منتهى الاُصول: 1: 110.

يكن ها هنا احتمال آخر غير الاشتراك المعنويّ بين الكلّ، ثبت الاشتراك المعنويّ، لا محالة، كما هو شأن القياس الاستثنائيّ.

ثمّ ذكر: أنّه يمكن أن يقال بالاشتراك المعنويّ في بقيّة المعاني غير الطلب، وبالاشتراك اللفظيّ بينها وبين الطلب، أي: بين الجامع لتلك المعاني وبين الطلب.

وذكر بعد ذلك: أنّه يمكن تصوير الجامع بين الكلّ، وذلك ببيان:«أنّ الفعل باعتبار معناه المصدريّ يشمل جميع ما تعلّقت به إرادة اللّه جلّ جلاله، حتّى أنّه بهذا الاعتبار تكون الأحكام الشرعيّة _ أيضاً _ فعلاً، لأنّها أيضاً تعلّقت بها الإرادة الشرعيّة، أي: أنّها فعل ومجعول في عالم الاعتبار والتشريع، فالطلب _ الذي ينتزع عن إبراز الإرادة التكوينيّة أو التشريعيّة بالقول أو الفعل أو الكتابة، الذي هو أحد معاني الأمر _ أيضاً داخل تحت هذا المعنى؛ لأنّه أيضاً فعل، ومن مصاديقه بهذا المعنى.

نعم، لا يطلق على الذوات والأعيان باعتبار وجوداتها في أنفسها، كما أنّ الأمر في الأمر أيضاً كذلك»(1).

ولكنّ الحقّ: أنّه لا يمكن تصوير الجامع بين هذه الاُمور، خصوصاً بين الأمر الذي بمعنى «الطلب» _ وهو المعنى الحدثيّ _ وبين الأمر بمعنى «الشيء» الذي هو من الجوامد. هذا أوّلاً.

ص: 11


1- المصدر نفسه.

وثانياً: إنّ الأمر بالمعنى الأوّل _ كما أسلفنا _ يجمع على «أوامر»، وبالمعنى الثاني يجمع على «اُمور»، فكيف يمكن الجمع بينهما؟!

الأمر الثالث: في اعتبار العلوّ والاستعلاء في مادّة الأمر:

اشارة

أمّا اعتبار العلوّ:

فلا شكّ ولا شبهة فيه، ولذا يذمّ العقلاء خطاب المساوي لمن هو مساوٍ له أو أعلى منه إذا كان بلفظ الأمر، ويوبّخونه بمثل: إنّك لِمَ تأمره؟!

وقد يقال: بأنّ هذا لا يدلّ على أنّ الأمر منه غير دالٍّ على الطلب؛ لأنّ نفس التوبيخ كاشف عن كون الطلب أمراً، وإطلاق الأمر على طلبه كافٍ في مقام التوبيخ.

ويدلّ على كفاية الاستعلاء من الطالب في صدق الأمر على طلبه، وأنّه لا يُشترط العلوّ: تقبيح الطالب السافل من العالي وتوبيخه.

ولكن لا إشكال في أنّ الطلب الذي كان موجّهاً إلى الشخص، إذا لم يكن فيه العلوّ والاستعلاء فإنّه لا يعدّ أمراً. وإنّما الكلام في كفاية أن يكون الشخص عالياً، أو يشترط فيه الاستعلاء أيضاً؟

وقد أُجيب عن الأوّل: بأنّ التوبيخ كان على استعلائه، لا على كون طلبه أمراً.

وعن الثاني: بأنّه إطلاق لفظ الأمر على طلبه، إنّما كان على حسب اعتقاده؛ لأنّه يرى نفسه بمنزلة الآمر، فالتوبيخ يكون على اعتقاده. هذا.

ص: 12

ولكنّ الحقّ: عدم صدق الأمر على طلبه، لأنّه يقع محلّ الاستهزاء، وأنّ العرف لا يراه أمراً.

وقد انقدح بما ذكرناه: عدم اتّجاه ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله: «وأنت خبير: بأنّ تحقيق هذه الجهة لا أثر له أصلاً؛ لأنّ الأمر الذي نبحث فيه: ما يصدر من المولى جلّ شأنه، وهو مستجمع للعلوّ والاستعلاء كما لا يخفى»(1).

إذ فيه: أنّ البحث في الاُصول يكون دائماً بحثاً كلّيّاً، وعلى نحو القاعدة الكلّيّة، فالبحث هنا ليس في خصوص أمر المولى الحقيقيّ حتّى يجاب عنه بهذا الجواب.

قد يقال: بأنّ الطلب من المساوي يكون التماساً، ومن الداني يكون دعاءً.

ولا يخفى _ كما قال بعض المحقّقين(رحمة الله) (2) _: أنّ «العالي» ليس بمعنى: أن يكون الطالب عالياً واقعاً، كأن يكون متّصفاً بأوصافٍ معنويّة معيّنة، وملكات علميّة، بل هو أمر اعتباريّ يختلف بحسب الزمان والمكان، فالملك _ مثلاً _ إذا كان نافذ الكلمة ومسموع القول، فإنّطلبه يكون أمراً. وأمّا إذا خُلِع أو سُجِن بحيث لم يعد نافذ الكلمة، وأصبح غير قادرٍ

ص: 13


1- منتقى الاُصول: 1: 375.
2- تهذيب الاُصول: 1: 100.

على إجراء أوامره وتكليفه، فإنّ طلبه لا يعدّ أمراً والحالة هذه، بل يكون التماساً، بل يكون هناك من يكون أمره نافذاً بالنسبة إليه، كرئيس السجن الذي هو فيه؛ لأنّه نافذ الكلمة بالنسبة إلى كلّ من يكون في محيط السجن.

وهل الاستعلاء شرط أم لا؟

قيل: يشترط فيه كلا الأمرين.

وقيل: أحدهما كافٍ على نحو مانعة الخلوّ.

ولكنّ الحقّ: أنّه يعتبر العلوّ فقط.

أمّا عدم صحّته من غير العالي، فلما مرّ، وأمّا الصحّة من العالي، ولو لم يكن مستعلياً، بل كان خافضاً جناحه، فإنّما هو لشهادة العرف والوجدان، وأمّا إذا لم يكن عالياً، وكان طلبه بنحو الاستعلاء، فإنّ طلبه هذا لا يكون أمراً حقيقيّاً.

فظهر: أنّ عنوان الآمريّة متقوّم بصدور البعث من العالي فقط، ولو كان خافضاً للجناح، فالطلب من الداني، ولو كان مستعلياً، ليس بأمرٍ _ لما ذكرنا _. كما أنّه إذا كان خافضاً للجناح، فطلبه ليس بأمرٍ بطريقٍ اُولى، بل لو أمر المساوي والداني لوبّخهما العقلاء.

ومن هنا ظهر: فساد ما ذكره بعض المحقّقين بقوله:«والظاهر: أنّ الاستعلاء أيضاً مأخوذ فيه، فلا يعدّ مكالمة المولى مع عبيده على طريق الاستدعاء والالتماس أمراً، كما هو واضح، فحينئذٍ: لا مناص عن القول بأنّ معنى الأمر ومفهومه أمر مضيّق، لا ينطبق إلّا على

ص: 14

الأمر العالي المستعلي عند التحليل»(1).

فإنّ الدليل على أنّ الاستعلاء ليس بشرطٍ أنّه يكفي أن يكون عالياً؛ لأنّه لو طلب المولى من العبد على نحو الاستدعاء ولم يفعل العبد، فللمولى أن يعاقبه.

الأمر الرابع: الأمر ينقسم إلى المولويّ والإرشاديّ:

الأمر المولويّ: وهو ما كانت المصلحة موجودةً في متعلّقه، وهذه المصلحة لو كانت ملزمةً فيترتّب عليه _ بحكم العقل _ استحقاق الثواب، وكذا إذا لم تكن ملزمة. كما يترتّب على مخالفته العقاب بشرط كونها ملزمةً، فإذا ورد الأمر من المولى على شيءٍ ما، كامتثال الصلوات، فإذا امتثله العبد ترتّب عليه أمران:

الأوّل: أنّ غرض المولى قد حصل من أمره لمكان المصالح الموجودة في المتعلّق.والثاني: يُحكم عليه بأنّه يستحقّ الجزاء والمثوبة بواسطة امتثاله للفعل وإطاعته لما أُمِر به.

والأمر الإرشاديّ: وهو البعث الصوريّ، وليس بطلبٍ حقيقةً. وقد يقال: بأنّه إخبار بأنّ في الفعل مصلحةً وإرشاداً إلى فعلٍ ذي مصلحة،

ص: 15


1- المصدر نفسه.

وهو عند العقلاء ليس إلّا لأجل الوصول إلى العمل الذي فيه مصلحة، فليس في مخالفته إلّا حرمة ترك مصلحة العمل المرشد إليه. فإذا أمر المولى بوجوب الصلاة للظهر، فيجتمع في هذا الواجب أمران:

أحدهما: الأمر الإرشاديّ، ويسمّى ﺑ «الأمر الثانويّ»، من جهة انطباقه ودخوله في كلّيّ ﴿أَطِيعُواْ ٱللهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ﴾(1).

والثاني: الأمر المولويّ، وهو يكشف عن وجود مصلحةٍ في المتعلّق، فإذا أتى حينئذٍ بالظهر، لم يترتّب على موافقة الأمر الإرشاديّ أيّ جزاءٍ ومثوبة. نعم، يترتّب الثواب لأجل إطاعة الأمر المولويّ، كما أنّه لو خالف، ولم يأتِ بالظهر، فليس هناك إلّا عقاب واحد، وذلك من جهة ترك الأمر المولويّ بوجوب إتيان صلاة الظهر.ولا يخفى: أنّه لابدّ في الأوامر من المصلحة، وإلّا، يكون لغواً، فعلى هذا: المصلحة موجودة _ أيضاً _ في الأمر الإرشاديّ، وهي: الإرشاد والهداية إلى فعلٍ ذي مصلحة، هذا إذا علِم الشخص بكون الأمر مولويّاً أو إرشاديّاً، ويكون تميّز أحدهما عن الآخر بدون الرجوع إلى حكم العقل. فلابدّ من بيان معنى الإرشاديّ:

وقد اختلفت كلماتهم في ذلك:

فقالوا: إنّ الأمر في كلّ مورد حكم به العقل على نحو الاستقلال

ص: 16


1- النساء: 59.

فهو حكم إرشاديّ، كقبح الظلم وحُسن العدل؛ إذ في هذين الفعلين وأمثالهما، يوجد فيهما _ بحسب ذاتهما _ القيّم الذاتيّ في نظر العقل قبل فرض الشرع، ولذا، فلو ورد من الشارع حكم أو أمر فإنّه يكون إرشاديّاً، فالعقل له القدرة على درك الحَسَن والقبيح منهما مستقلّاً، وبدون أيّة واسطةٍ أو بيانٍ من الشارع، فبعد أن فُرِض للشيء الحُسن أو القُبح، فاللّازم على الشارع أن يحكم على طبق حكمه بقاعدة الملازمة، كما في حجّيّة القطع، وليس له أن يحكم على خلافه.

وقال آخرون: إنّ كل موردٍ لا يلزم من أمر الشارع فيه محذور عقليّ، كالدور أو التسلسل وكأوامر الإطاعة، فإنّه يكون أمراً إرشاديّاً.

وقال البعض الآخر: إنّ كلّ مورد يلزم من إعمال المولويّة فيه اللّغويّة، فهو إرشاد.

الأمر الخامس: ما وُضِع له الأمر:

هل الأمر موضوع لخصوص الوجوب أو الاستحباب _ كما ذكر في المعالم بالنسبة إلى لسان الشارع(1)_ أو للجامع بينهما؟!

الظاهر: أنّ الأمر إنّما هو موضوع لمطلق الطلب، ولو فُرِض تبادر الوجوب منه عند إطلاقه، إلّا أنّ الوجوب والاستحباب غير مأخوذين فيه

ص: 17


1- راجع: المعالم: ص 46.

وضعاً، وخارجان عمّا وُضِع له، فحينئذٍ: يمكن أن يُدّعى ظهور إطلاقيّ للوجوب عند عدم القرينة، ولو كان الوجوب داخلاً في لفظ الأمر فلم يكن للبحث الثالث _ وهو البحث عن أنّ الأمر هل هو من العالي أو الداني أو المساوي _ ثمرة.

وبناءً على هذا، فقد قالوا بدلالته على الوجوب، واستدلّوا له: بالتبادر.

ولكن: لم يُعلم أنّ التبادر الذي ادّعوه مستفاد من حاقّ اللّفظ، بل هو إنّما يُفهم من إطلاق اللّفظ. وممّن ادّعى هذا التبادر وتمسّك به صاحب الكفاية(قدس سره)، قال:

«لا يبعد: كون لفظ الأمر حقيقةً في الوجوب لانسباقه عنه عند إطلاقه، ويؤيّده قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ

الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه ِ﴾(1)،وقوله-: (لولا أن أشقّ على اُمّتي لأمرتهم بالسواك)(2)، وقوله- لبريرة بعد قوله (أتأمرني يا رسول اﷲ؟): (لا، بل إنّما أنا شافع)(3)، إلى غير ذلك... وصحّة الاحتجاج على العبد، ومؤاخذته بمجرّد مخالفة أمره، وتوبيخه على مجرّد مخالفته، كما في قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾(4)».

كما وأنكر(قدس سره) أن يكون الأمر موضوعاً للأعمّ، بقوله:

ص: 18


1- النور: 63.
2- عوالي اللآلي 2: 21، ح 43.
3- انظر: عوالي اللآلي 3: 349، ح 384.
4- الأعراف: 12.

«وصحّة تقسيمه إلى الوجوب والاستحباب إنّما يكون قرينةً على إرادة المعنى الأعمّ منه في مقام تقسيمه، وصحّة الاستعمال في معنىً أعمّ من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى»(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ الأمر لا يدلّ إلّا على إرادة جامع الطلب، لا على خصوص الوجوب _ كما ادّعى صاحب الكفاية) وغيره _ وأمّا صحّةمؤاخذه العبد: فإنّما هي لأجل مقام العبوديّة والربوبيّة، حيث إنّ العقل يحكم بالإتيان حتماً، بل وفوراً، لا أنّ الأمر وُضِع للوجوب والفوريّة.

وكذا

بالنسبة إلى الآية الشريفة، أعني: ﴿فَلْيَحْذَرِ

الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه ِ﴾(2)، فإنّها لا تصلح لإثبات المدّعى.

لا يقال: إنّه تعالى قد حذّر من مخالفة الأمر، والتحذير يدلّ على الوجوب؛ إذ لا معنى لندب الحذر وإباحته، وهو، وإن لم يدلّ على الوجوب رأساً، ولكن لا أقلّ من أنّه يدلّ على حسن الحذر من مخالفة الأمر، ومعلوم: أنّ حسنه يكشف عن ثبوت المقتضي له، وإلّا، كان التحذّر سفهاً وعبثاً، وهو محال على اﷲ عزّ وجلّ، فإذا ثبت المقتضي له، فقد ثبت وجوبه بعدم القول بالفصل، فالآية تدلّ على كون الأمر حقيقة في الوجوب.

ص: 19


1- كفاية الاُصول: 63_ 64.
2- النّور: 63.

فإنّه يقال: إنّ هذا الوجوب مستفاد من الإطلاق، لا من حاقّ اللّفظ.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:

«ولكن يعارض هذا الدليل _ بدواً _: صحّة مؤاخذة العبد بمجرّد الأمر؛ فإنّه ظاهر في ظهور الأمر في الوجوب»(1).وأمّا قوله-: «لولا أن أشقّ على اُمّتي لأمرتهم بالسواك»؛ فإنّ الأمر هنا _ أيضاً _ يدلّ على الوجوب بالقرينة، وهي كلمة «أشقّ»، وكذا بالنسبة إلى قوله: «أتأمرني يا رسول اﷲ؟»، فإنّه لا يدلّ على الوضع للوجوب، بل إنّما نفهم الوجوب من جهة القرينة، وهي: أنّ ما يأمر به رسول اﷲ- لابدّ من اتّباعه، وأنّه كان واجب الاتّباع، ولذا سُئِل: «أتأمرني يا رسول اﷲ؟». فالأمر هناك، وإن كان للوجوب، إلّا أنّه

بواسطة القرينة، وذلك غير مجدٍ كما عرفت.

وأيضاً: توبيخه على مجرّد المخالفة في قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾(2)، إنّما هو لمقام العبوديّة والمولويّة، كما سبق؛ لأنّه لابدّ أن يأتي العبد بالعمل فوراً، ولا يجوز له التأخير إلّا إذا رخّص المولى في الترك أو التأخير، فالتقسيم حينئذٍ يكون تقسيماً حقيقيّاً بعد أن بُرهن على كونه موضوعاً للطّلب.

ص: 20


1- منتقى الاُصول: 1: 376.
2- الأعراف: 12.

وقد ظهر بذلك: فساد ما ذكره صاحب الكفاية) أخيراً من أنّ تقسيمه إلى الإيجاب والاستحباب إنّما يكون قرينةً على إرادة المعنى الأعمّ منه في مقام تقسيمه، وأنّ غايته: صحّة الاستعمال، وهي أعمّ من كونه على نحو الحقيقة.ثمّ ذكر(قدس سره) أنّ «الاستدلال بأنّ فعل المندوب طاعة، وكلّ طاعة فهو فعل المأمور به، فيه ما لا يخفى: من منع الكبرى لو اُريد من المأمور به معناه الحقيقيّ، وإلّا، لا يفيد المدّعى»(1).

لكنّ الحقّ: وجود الدليل على كونه موضوعاً للمأمور به الحقيقيّ، كما سنبيّن.

أمّا ظهور الوجوب من الإطلاق: فلأنّ كلّ ما يحتاج إلى مؤونةٍ زائدةٍ على إلقاء أصل الطبيعة، ولم يأتِ المتكلّم بتلك المؤونة أو لم يُشِر إليها في كلامه، ولو بالقرينة، فإنّ الإطلاق يرفعها، سواء كانت نتيجته التوسّع أو التضييق، ولذا قالوا: إنّ إطلاق الأمر يقتضي كون الوجوب نفسيّاً؛ لأنّ الغيريّ يحتاج إلى مؤونةٍ زائدة، وهي: بيان أنّ الإتيان يكون لأجل التوصّل به إلى الغير؛ وعينيّاً؛ لأنّ الكفائيّ يحتاج إلى ذكر «أو غيرك»، وتعيينيّاً؛ لأنّ التخييريّ يحتاج إلى ذكر شيءٍ آخر.

إذاً، فإذا أمر وأطلق في أمره، ولم يأتِ بالقرينة، ولم يشِر إلى شيءٍ

ص: 21


1- كفاية الاُصول: 64.

آخر، حُمِل على الوجوب، فبالإطلاق نحكم بالوجوب، وإلّا، فإنّ نفس الأمر لا يدلّ إلّا على مطلق الطلب، والخصوصيّة _ كما مرّ _ تُفهم من الخارج، وهو: مولويّة المولى وعبوديّة العبد.ولذا، فلو أمر المولى لم يتمكّن من ترك امتثال أمره، والعقلاء يوبّخونه لو تركه، وإن اعتذر بأنّي كنت أتخيّل بأنّه ليس للوجوب، ويقولون: بأنّ الأمر لو كان غير إلزاميّ، لكان على المولى الإشارة إليه بالترخيص.

وبالجملة: فنحن نفهم الوجوب من الظهور الإطلاقيّ، وهذا لا يعني: أنّ الأمر مركّب من طلب الفعل مع المنع من الترك، وأنّ الاستحباب مركّب من الطلب والإذن في الترك، ولا أنّ الوجوب هو الطلب الشديد، وأنّ الاستحباب هو الطلب الضعيف كما قد يقال؛ إذ:

أوّلاً: إنّ اللّزوم والشدّة لا يُعرفان إلّا من جهة الملاك الملزم والعقل لا يدركه، ولا يد له فيه.

وثانياً: لا فرق في كيفيّة الطلب بين الوجوب والاستحباب، ولا بين اللّزوم وعدم اللّزوم؛ فالطلب يشملهما معاً.

وقد استدلّ للوضع للطلب باُمور:

الأوّل: تقسيم الأمر إلى الوجوب والاستحباب، والمقسم لابدّ وأن يكون غير الأقسام، و هو يدلّ على أنّ الأمر موضوع للجامع، وهو مطلق الطلب.الثاني: لو لم يكن الأمر موضوعاً للجامع، لكان إمّا موضوعاً لكلّ

ص: 22

واحدٍ منهما، فيلزم منه الاشتراك اللفظيّ، أو للوجوب، فيكون استعماله للنّدب مجازاً، وكلاهما على خلاف الأصل.

الثالث: أنّه به يرتفع الإشكال الذي ورد في قوله(علیه السلام): «اغتسل للجمعة والجنابة»(1)؛ لأنّه بناءً على قولهم: يلزم استعمال الأمر في أكثر معنىً إذا أراد في استعمالٍ واحدٍ الوجوب والندب، كما في هذا الخبر، فلابدّ أن يكون الأمر دالّاً على الطلب، وليس للوجوب والاستحباب مركّباً، ولولا أنّنا فهمنا الترخيص في إتيان غسل الجمعة من الخارج لقلنا بوجوبه هو أيضاً.

فإذا التزمنا بكون الوجوب هو الطلب الشديد والاستحباب هو الطلب الضعيف، كما نُسِب إلى المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره)، أو بأنّ الوجوب هو الطلب التامّ غير المحدود والاستحباب هو الطلب الناقص المحدود، فيلزم أيضاً نفس الإشكال، مضافاً إلى الإشكال الوارد في أصل كلامه)؛ إذ _ كما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره)(2) _ كأنّه قاس المقام بحقيقة الوجود، حيث يقول الحكماء: بأنّ مرتبة منه غير محدودةٍ وهي الوجودالصرف، وصرف الوجود، وهو وجود الواجب جلّ جلاله، لأنّه في غاية الكمال، ولا نقص فيه، ولا حدّ له أصلاً، وهو غير متناهٍ. وأمّا المراتب الاُخرى:

ص: 23


1- لم نعثر عليه في المتون الروائيّة، مع كونه مشهوراً على الألسن، والظاهر أنّه من تمثيلات الاُصوليّين والفقهاء. والله العالم.
2- منتهى الاُصول: 1: 113_ 114.

فكلّها ناقصة محدودة؛ لأنّها مركّبة من ذات الوجود وحدّه الذي هو عبارة عن الماهيّة.

ولكنّ هذا القياس في غير محلّه:

إذ المفهوم _ أعني: مفهوم الطلب _ لا يتّصف بالنقص والتمام قطعاً، وكذا الإرادة. نعم، بحسب الملاك يكون كذلك.

مضافاً: إلى أنّ كون الإرادة تامّةً وغير محدودة هو أمر لا معنى ولا محصّل له، لأنّ جميع الوجودات _ ما عدا الواجب _ محدودة، وحدودها ماهيّاتها.

وقد استدلّوا على ذلك _ أيضاً _ بالتبادر.

وفيه: أنّه ليس بحجّةٍ أوّلاً، كما سبق، ولو سلّمنا بكونه حجّة فيما لو كانت دلالته من حاقّ اللّفظ.

ومن هنا ظهر: أنّ ما ذكره بعض المحقّقين(قدس سره)(1) من أنّ الدليل الوحيد هو التبادر، ليس على ما ينبغي.وللمحقّق العراقيّ(قدس سره) هنا كلام في أنّ دلالة الأمر على الوجوب في هذه الموارد وصحّة الاستدلال على هذا المبنى مبنيّة على صحّة التمسّك بالعامّ لإثبات كون المشكوك الفرديّة فرداً للعامّ بعد اليقين بخروجه عن حكم العامّ.

ص: 24


1- تهذيب الاُصول: 1: 101.

بيان الملازمة: أنّ تلك اللّوازم _ من لزوم الخطر والتوبيخ والمشقّة _ لا تترتّب على الطلب الاستحبابيّ يقيناً، فهل خروج الطلب الاستحبابيّ عمّا هو مترتّب على الأمر هو بنحو التخصّص؛ ليكون لفظ العامّ حقيقةً في ملزوم هذه اللّوازم،وهو الوجوب ؟ أو بنحو التخصيص؛ ليكون الأمر حقيقةً في الأعمّ؟ فإذا قلنا بأصالة العموم وعدم التخصيص في المقام، لزم كون الأمر حقيقةً في خصوص الطلب الإلزاميّ(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ أصالة العموم لا تجري هنا؛ لأنّها من الاُصول العقلائيّة، وإنّما تكون حجّةً في مقام الشكّ في المراد من اللّفظ للعمل به، لا لإثبات أنّ اللّفظ موضوع لما اُريد منه.فالحاصل: أنّ الصحيح في لفظ الأمر أنّه موضوع لمطلق الطلب، لا للوجوب خاصّةً ولا للندب خاصّةً؛ لأنّه لا يُفهم من مادّته إلّا الطلب الأعمّ من الوجوب والندب.

ص: 25


1- راجع: بدائع الأفكار: ص 198.

ص: 26

الكلام في الطلب والإرادة

اشارة

هل هما متّحدان ذاتاً ومفهوماً أم متّحدان ذاتاً دون المفهوم أم هناك تباين بينهما؟؟

اختار صاحب الكفاية) القول باتّحاد الطلب والإرادة مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، بمعنى: أنّ مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب، والإرادةالإنشائيّة عين الطلب الإنشائيّ، وواقع الإرادة عين واقع الطلب، ولا فرق بينهما ذاتاً ووضعاً، وإنّما الفرق بينهما لفظيّ لا أكثر؛ فإنّ لفظ «الطلب» ينصرف إلى الطلب الإنشائيّ، ولفظ «الإرادة» ينصرف إلى الإرادة الحقيقيّة، وقد نُسِب هذا الرأي إلى المعتزلة، فيما نسِبت دعوى تغايرهما إلى الأشاعرة.

وإليك نصّ كلامه:

«فاعلم

أنّ الحقّ _ كما عليه أهله، وفاقاً للمعتزلة، وخلافاً للأشاعرة _ هو اتّحاد الطلب والإرادة، بمعنى: أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهومٍ واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه

ص: 27

أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة، وبالجملة: هما متّحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً»(1).

وقبل الدخول في البحث لابدّ من بيان مقدّمة، حاصلها:

أنّ الحمل على قسمين: (الأوّليّ الذاتيّ)، وهو أن يكون الاختلاف بين الموضوع والمحمول بالإجمال والتفصيل. و(الشايع الصناعيّ)، وهو ما كان الاتحّاد بينهما في الخارج والتغاير من حيث المفهوم.

وقد قسّم صاحب الكفاية الطلب إلى قسمين:الأوّل:

الطلب الحقيقيّ، وهو الذي يكون طلباً بالحمل الشائع، وهو _ كما مرّ _ الاتّحاد في الوجود والتغاير بالمفهوم.

والثاني: الطلب الإنشائيّ، وهو القائم بالنفس، أي: الشوق المؤكّد الحاصل للنّفس عقيب الداعي.

والطلب

الذي هو معنى الأمر هو الطلب الحقيقيّ، لا الإنشائيّ، ولا تلازم بين الطلبين، فإذا أراد المولى امتحان عبده، ولم يكن في قرارة نفسه طالباً للماء حقيقةً، ومع ذلك طلبه منه؛ فإنّ هذا يصدق عليه الطلب الإنشائيّ، دون الطلب الواقعيّ الحقيقيّ.

ولكنّه، وبعد أن ذكر أنّ الطلب والإرادة متّحدان، استدرك قائلاً:

«ولو أبيت إلّا عن كونه موضوعاً للطلب، فلا أقلّ من كونه منصرفاً

ص: 28


1- كفاية الاُصول: 64.

إلى الإنشائيّ منه عند إطلاقه، كما هو الحال في لفظ (الطلب) أيضاً، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائيّ»(1).

وحاصله: أنّه لو قلنا: بأنّ لفظ (الأمر) موضوع لجامع الطلب، لا لخصوص الطلب الإنشائيّ، ولكن مع ذلك، فإنّه يكون منصرفاً إلى خصوص الطلب الإنشائيّ، وهو سبب لظهور الأمر فيه.ثمّ قال: «كما أنّ الأمر في لفظ (الإرادة) على عكس لفظ (الطلب)، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة»، أي: التي تكون قائمةً بالنفس، فهذا الانصراف هو الذي يكون سبباً للاختلاف بينهما، وإلّا، فإنّ كلّاً من الطلب والإرادة يكون عين الآخر، فالطلب الحقيقيّ هو عين الإرادة الحقيقيّة، والإرادة الإنشائيّة هي عين الطلب الإنشائيّ.

ثمّ قال: «واختلافهما في ذلك [_ أيضاً _: في الانصراف] ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة».

وقد نسِب هذا الميل إلى المحقّق الخوانساريّ(2) وصاحب الحاشية*.

فقال الأوّل: «إذا كان الطلب هو الإرادة، وكان المطلوب من الصيغة الموضوعة للطّلب إعلام المخاطب بحصول الإرادة في النفس، فيلزم أن

ص: 29


1- المصدر نفسه.
2- في رسالته المعمولة في مقدّمة الواجب، انظر: منتهى الدّراية: 1: 382.

يكون وضع الجمل الطلبية لغواً غير محتاجٍ إليه، وتكون مفهوماتها ممّا لا يتعلّق بتصوّرها غرض أصلاً، وهو باطل».

ولكن يمكن أن يقال: إنّ الجملة الخبريّة تكون كاشفةً عن الإرادة، فيترتّب عليها ما يترتّب على الإرادة الموجودة في النفس، وعلى أنتكون الصيغة كاشفةً عن الطلب الذي هو مغاير للإرادة، فلا يترتّب عليه ما يترتّب على إحراز إرادة المولى.

وقال الثاني: «إنّهم اختلفوا في كون الطلب المدلول للأمر نفس الإرادة أو غيرها، إلى أن يقول بعد كلامٍ طويل... فظهر بما قرّرنا: قوّة القول بمغايرة الطلب للإرادة»(1).

وأمّا الأقوال في المسألة عند المتكلّمين:

فقد ذهب الأشاعرة إلى القول بالتغاير، وعمدة ما ادّعوه في المقام هو: إثبات الكلام في النفس، أي: أنّ هناك صفةً اُخرى غير الإرادة قائمة في النفس، وأنّ النفس قد دلّت عليها، كما قيل(2):

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما *** جُعِل اللّسان على الفؤاد دليلاً .

وهذه الصفة من صفات النفس، وهي غير الإرادة والعلم وسائر الصفات المشهورة من التمنّي والترجّي وغيرهما، وهي مدلول للكلام اللّفظيّ، وتسمّى ﺑ (الطلب).

ص: 30


1- هداية المسترشدين 1: 582.
2- نسبه في الشوارق إلى الأخطل، انظر: شوارق الإلهام: ص 555.

وأمّا الإماميّة فيقولون: ليس هناك وراء الصفات المشهورة، من العلم والقدرة وغيرهما صفة اُخرى تكون قائمةً بالنفس، ويسمّى ﺑ (الطلب) حتّى تكون مدلولاً للكلام اللّفظيّ.

واستدلّ الأشاعرة على ما ادّعوه:

أوّلاً: بأنّ للمولى أوامر امتحانيّة، وهذه الأوامر لم تتعلّق بها الإرادة بالفعل، وإلّا، فإنّها تكون جدّيّةً، لا امتحانيّة، ونحن نرى: أنّ الطلب هنا موجود قطعاً، ولا يمكن إنكاره، بل إنّ إنكار الطلب هنا يكون مساوقاً لإنكار أصل الأمر، وهو خلف.

ولكن لا يخفى: أنّ الأوامر الامتحانيّة على قسمين، فإنّ المولى:

تارةً: يأمر العبد ويريد بامتحانه هذا صدور العمل وتحقّقه منه خارجاً لكي يستكشف قدرته على ذلك العمل، وليس إتيانه هذا لأجل ما فيه من المصلحة، بل يحاول المولى تحصيلها بنفس العمل الصادر من العبد، ففي مثله: فكما أنّ الطلب موجود فإنّ الإرادة أيضاً تكون موجودة.

واُخرى: يكون مقصود الآمر من الأمر امتحان العبد وأنّه مستعدّ للإطاعة أم لا؟ وقد يستكشف منه الاستعداد للإطاعة من خلال شروعه في بعض مقدّمات العمل، كما فعل إبراهيم(علیه السلام)، ففي مثل هذا المورد: ليس العمل منه مراداً، وليس هناك إرادة ولا طلب جدّيّ، بل الأمرالصادر

ليس بأمرٍ حقيقيّ، وإنّما هو إنشاء للكلام بصورة الأمر، وهذا الأمر _ حينئذٍ _ كما أنّه يكون خالياً من الإرادة، فإنّه يكون خالياً من الطلب أيضاً.

ص: 31

وثانياً: أنّ الكفّار، بل ومطلق العصاة، مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاُصول، وهم يستحقّون العقاب على مخالفتها إجماعاً. وغير خفيٍّ: أنّه لا عقاب إلّا على مخالفة التكاليف الإلزاميّة الحقيقيّة، وأمّا عدم وجوب القضاء عليهم بعد إسلامهم فإنّما هو لدليلٍ خاصّ.

وإذا اتّضح ذلك: فإنّ أمر الكفّار بالإسلام والإيمان، والأوامر المتوجّهة إلى الكلّ _ بالنسبة إلى الفروع والأحكام الشرعيّة _ من الكفّار والعصاة لم تتعلّق بمتعلّقاتها إرادة من قبل المولى، وإلّا، يلزم تخلّف الإرادة عن المراد، وتخلّف إرادته تعالى عن المراد محال _ كما هو ظاهر _، فإنّه جلّ وعلا إذا أراد شيئاً فإنّما يقول له: كن، فيكون.

وإذا ثبت انتفاء إمكان إرادته عن المراد، فحينئذٍ: كيف يمكن توجّه التكاليف بالاُصول والفروع إلى الكفّار والعصاة؟! فلابدّ من القول بعدم تحقّق الطلب منه فيها، ولكن الطلب منه يكون موجوداً _ لا محالة _ وإلّا، لزم الخلف، وعليه: فيلزم تحقّق الطلب بلا إرادة، وهذا دليل على المغايرة بين الطلب والإرادة، وهو المطلوب.وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ اﷲ تبارك وتعالى حينما يأمر الكفّار بالإيمان _ مثلاً_ : فإمّا أن يكون هذا الأمر صوريّاً، فلا يكون هناك إرادة في البين أصلاً. وإمّا أن يكون جدّيّاً وتكون الإرادة موجودةً، فكيف حينئذٍ تتخلّف الإرادة عن المراد؟!

فإن قلنا: بأنّ هذه الأوامر صوريّة، فلماذا _ إذاً _ يعاقب الكفّار على

ص: 32

تركها، مع أنّهم معاقبون بالفروع، كما عليه الإجماع؟!

وإن كانت جدّيّةً فكيف يمكن الالتزام بتخلّف الإرادة عن المراد مع أنّه تعالى قد أمرهم بذلك ولم يؤمنوا؟!

وأمّا لو بنينا على التغاير بين الإرادة والطلب، فلا يلزم شيء من المحذورين؛ لأنّ التكاليف الموجّهة للكفّار _ حينئذٍ _ تكون على نحو الحقيقة، وناشئةً عن طلبٍ حقيقيٍّ، غاية الأمر: أنّه ليس في البين من إرادةٍ حقيقيّة.

ويمكن أن يجاب عنه بعد بيان معنى الإرادة وأقسامها، فنقول:

لا يخفى: أنّ الإرادة في الأفعال الاختياريّة للعباد عبارة عن العلم الأنفع الذي هو منبعث عن الشوق المؤكّد، والمقدّمات للفعل الاختياريّ للعبد، عبارة عن: التصوّر والتصديق بالفائدة والإذعان، ثمّ يحصل له على أثر ذلك شوق مؤكّد وجزم وعزم على الفعل، فإذا عرف أنّ هذا الفعل أنفع له، تتحرّك عضلاته نحو الفعل، فيصدر الفعلمنه. فآخر المقدّمات _ إذاً _ والتي تكون موجبةً لتحرّك العضلات إنّما هي الإرادة.

وأمّا الإرادة في أفعال اﷲ تعالى، فهي عبارة عن إيجاد الفعل مع العلم بالصلاح، وأمّا تلك المقدّمات التي كانت سبباً لصدور الفعل من العبد، فهي مستحيلة في حقّ الباري تعالى؛ إذ إنّ هذه المقدّمات هي العوارض والحالات المختلفة التي تعرض على الفاعل، ولا يمكن أن تكون ذاته جلّ وعلا محلّاً للعوارض والحوادث.

ص: 33

وقد اتّضح: أنّ إرادة اﷲ تعالى عبارة عن إيجاد الفعل مع العلم بالصلاح، وأنّ علمه بوجود المصلحة هو الذي يكون باعثاً له على إيجاد الفعل.

ثمّ إنّ الإرادة على قسمين: تكوينيّة وتشريعيّة.

وأيضاً: فإنّ الإرادة تنقسم بتقسيمات:

الأوّل: تقسيمها إلى إرادة فعليّةٍ واستقباليّة.

أمّا الإرادة الفعليّة: فهي ما تتعلّق بالشيء في الحال، كما إذا أراد ان يحرّك يده فعلاً أو أن يشتغل بالأكل والشرب كذلك.

وأمّا الإرادة الاستقباليّة، فهي التي تتعلّق بأمرٍ استقباليّ، كما إذا أراد الانسان الصوم غداً أو أن يسافر بعد يومين.وفي الحقيقة، فإنّ عدّ هذا التقسيم تقسيماً للإرادة مجاز، وإنّما هو تقسيم للمراد.

والثاني: تقسيمها إلى الإرادة الحقيقيّة والإنشائيّة.

وهذا التقسيم مبنيّ على تخيّل الترادف بين الطلب والإرادة، أي: على تصوّر أنّ لمعناهما مصداقين: الأوّل: المصداق الحقيقيّ، وهي الصفة الموجودة في النفس، والثاني: المصداق الإنشائيّ، وهو الطلب الإنشائيّ والإرادة الإنشائيّة.

والثالث: تقسيمها إلى الإرادة الاستعماليّة والجدّيّة.

أمّا الاُولى: فهي أن يستعمل اللّفظ في معنىً من المعاني، ولكن يشكّ

ص: 34

في أنّ المتكلّم هل أراد المعنى المستعمل فيه حقيقةً أم لا؟ فلو قال: (أكرم العلماء) فلفظ (العلماء) عامّ يستعمل في معناه الحقيقيّ، وهو شمول كلّ فردٍ فردٍ من العلماء، ولكن يشكّ في أنّ هذا الاستعمال هل هو مطابق لإرادته، حتّى تكون الإرادة جدّيّةً، أم لا، أي: أنّه هل اُريد مطلق العالم أم المقيّد بالإيمان والعدالة، ليخرج حينئذٍ الفاسق والكافر؟!

وعلى أيّ حالٍ: فالكلام في هذه الأقسام هنا في غير محلّه، بل إنّما هو في الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة.فأمّا الإرادة التكوينيّة: فهي عبارة عن علمه تعالى بصلاح إيجاد الفعل في الاُمور التكوينيّة، أي: الأفعال التي هي من مختصّاته جلّ وعلا، كالخلق والرزق والإماتة والإحياء، وهذه الإرادة تتعلّق بذوات الماهيّات، وتفيض عليها الوجود، وهي غير قابلةٍ للتخلّف عن المراد.

وأمّا

الإرادة التشريعيّة: فهي عبارة عن وجود المصلحة في إتيان العبد بالفعل الصادر منه باختياره لا بالإلجاء والاضطرار، أي: أنّ اﷲ تبارك وتعالى حينما يريد شيئاً من العباد، فهو يرسل إليهم الرسل، وينزل الكتب، ويجعل لهم قوانين وأحكاماً، وبما أنّ أوامره هي _ على الأصحّ _ تابعة للمصالح والمفاسد، والمصالح الموجودة في هذه الأحكام هي في أن يأتي العبد الشيء باختياره، لا جبراً ولا قهراً، ولذلك، فإنّ إرادة اﷲ تعالى عندما تعلّقت بهذه الأحكام فإنّما تعلّقت بإتيان العبد إيّاها على نحو الاختيار، لا جبراً.

ص: 35

وعليه: فالفرق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة هو أنّ المصلحة في الإرادة التكوينيّة في إيجاد الفعل بما أنّه من أفعال اﷲ وخارج عن اختيار العبد، فالمصلحة إنّما هي في إيجاد هذه الأفعال في الخارج، ولذلك، فبمجرّد تعلّق الإرادة بالماهيّات توجد، دونما تأنٍّ ولا تخلّف.

وأمّا المصلحة في الإرادة التشريعيّة فهي في نفس فعل العبد، وقد تكون المصلحة في الأمر والنهي، ويكون الفعل من الأفعال الاختياريّةللعبد، وتكون المصلحة تكون في صدوره من العبد باختياره. الأمر الذي يعني: أنّ الإرادة ليست علّةً تامّةً لوجود الفعل في الخارج حتّى يمتنع التخلّف، وإنّما هي علّة تامّة لإحداث الداعي للعبد ليوجِد الفعل باختياره، فما دامت الإرادة قد تعلّقت بإتيان الفعل، ولكن بالاختيار، فلو لم يأتِ به العبد، فلا يكون هناك تخلّف للإرادة عن المراد، ووجود المتعلّق بدون اختيار العبد خلف. فالطلب والإرادة الحقيقيّان كلاهما موجودان في تكاليف الكفّار والعصاة، فلا تكون هذه الإرادة صوريّةً بل تكون حقيقيّة، وكذا الطلب؛ فإنّه يكون حقيقيّاً، ولا يلزم هناك تخلّف للإرادة عن المراد، بل يستحيل أن تتخلّف الإرادة الإلهيّة عن المراد بعدما تعلّقت بإتيان الفعل بإرادة العبد.

نعم، لو كانت الإرادة تكوينيّةً، فلو قلنا بكون التكليف جدّيّاً، للزم تخلّف الإرادة عن المراد في تكاليف الكفّار، فما ذكره الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة في غير محلّه.

ص: 36

وأمّا ما ذكره بعض المحقّقين من المحشّين على الكفاية بما حاصله(1):أنّ الإرادة التشريعيّة لا يمكن أن تتعلّق بفعل الغير إلّا إذا كان ذلك الفعل الذي يصدر من الغير ذا فائدةٍ عائدةٍ إلى المريد، وحيث إنّ فعل العبد ليس فيه فائده عائدة إلى اﷲ تعالى عن ذلك، فلا يمكن أن تتعلّق إرادته بفعل العبد. نعم، تتعلّق بإيصال النفع إلى العبد بتحريكه وبعثه نحو الفعل، وإيصال النفع إلى العباد وتحريكهم نحو الأفعال الحسنة والزجر عن السيّئات يكون من أفعال اﷲ تبارك وتعالى لا فعل العبد.

فهو منه عجيب: إذ إنّ أفعال اﷲ لا تعلّل، لأنّه يكون سبباً لنقصه لو قلنا بذلك، ولو كان فعله منوطاً بوصول الفائدة إليه، مع أنّه غير محتاجٍ حتّى تصل الفائدة إليه. فإنّ أوامره _ كما هو الحقّ _ تابعة للمصالح والمفاسد، وهذا قد يكون في نفس الأمر، وقد يكون في المتعلّق، وهذا الحكم والأمر يكونان تابعين للمصلحة حتّى من جهة السعة والضيق، والمصلحة تارةً تكون راجعةً إلى النوع، واُخرى إلى الشخص، فلا فرق بين أن يتعلّق الأمر بفعل الغير أو بإيصال النفع إليه.

فإن قلت: إنّ الأفعال التكوينيّة صادرة بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلّف عن المراد، فلا يصحّ أن يتعلّق بهذه الأفعال تكاليف، لكونها خارجةً عن الاختيار؛ لأنّه إذا تعلّقت إرادته بالإيمان أو بالكفر، فلا

ص: 37


1- انظر: نهاية الدراية في شرح الكفاية 2: 123.

محيص عن اختيار أيٍّ منهما الذي تعلّقت إرادته به، فإذا كانت قد تعلّقت بالإيمان فلابدّ منه، أو بالكفر فلابدّ منه. أو يلزم عدمجواز تعلّق التكليف به لو كان تكوينيّاً، لصيرورته غير مقدورٍ للعبد، فبعد تعلّق إرادته تعالى الموجبة لضرورة وجود التكاليف أو ضرورة عدمها، فلا يبقى للعبد اختيار أصلاً كي يصحّ أن يوجّه التكليف إليه، فيكون العبد _ والحالة هذه _ مضطرّاً عليه.

قلتُ: لا يخفى: أنّ هذا الكلام شبهة في مقابل الوجدان والبديهة؛ فإنّ الإنسان العاقل يفرّق بين حركة يده حال الكتابة ويدرِك أنّه مختار، وأمّا إذا كان هناك تشنّج في العصب أو شلل _ مثلاً _ فلا يتمكّن من تحريك يده، فلو تحرّكت والحالة هذه، فإنّ حركتها _ حينئذٍ _ تكون حركةً بدون الاختيار، فهذا الوجدان الذي يعضده البرهان لا يمكن أن يقف أمامه أيّ دليل. وهل هناك دعائم أو أساس يمكن أن يستند إليها أكثر متانةً من الوجدان؟! فقيام الوجدان يكفي عن إقامة البرهان، ولكن مع ذلك، فلا بأس بالإشارة إلى الأقوال التي وردت هنا، وهي ثلاثة:

الأوّل: ما عن المجبّرة، من أنّ جميع الأفعال من اﷲ، وأنّ العبد ليس بمختارٍ في جميع ما يصدر منه، من الكفر والإيمان وغيرهما، فأفعال الجوارح أيضاً تكون كذلك، وليس العبد سوى مجرّد آلة، فاﷲ تبارك وتعالى يوجّهه بإرادته كيف يشاء.

ولكنّ جمعاً من الحكماء، وبعد أن رأوا أنّ هذا القول فاسد أيّما

ص: 38

فساد،

لأنّه بناءً عليه لا يصدق على العبد أبداً عنوان (المطيع) ولاعنوان (العاصي)، قالوا: بأنّ أصل الفعل يكون من اﷲ وعلى العبد الكسب، وقال آخرون منهم: إنّ العبد حينما يهمّ ويعزم على الإتيان بالفعل، فإنّ اﷲ تبارك وتعالى يوجده له.

والثاني: وهو يعارض القول السابق المفضي إلى الجبر؛ فعلى العكس منه، التزم أصحابه بكون العباد مستقلّين في أفعالهم وتصرّفاتهم، ورأوا أنّ كلّ ما يصدر منهم يكون بالاختيار، وأن ليس ﷲ تعالى أيّ دخلٍ في أفعال العباد. وهذه عقيدة المعتزلة، ونسِبت كذلك إلى الزيديّة. ﴿وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُواْ﴾(1).

والثالث _ وهو الحقّ _: ما التزم به الإماميّة القائلين بالقول الوسط، وهو أنّه «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين»؛ فإنّ الأفعال، وإن كانت صادرةً من العبد باختياره وإرادته، ولكنّها تحتاج _ مع ذلك _ إلى حولٍ وقوّةٍ وإرادةٍ من اﷲ جلّ وعلا، بحيث لو توافقت عليه إرادة الحقّ صدر منه، وإلّا، فلا، بل إرادة اﷲ تكون تابعةً لإرادة العبد، أراد الكفر أم أراد الإيمان؛ لأنّه هو الذي أراد للعبد أن يفعل باختياره، وحال العبد يكون حال اليد الشلّاء التي لا قدرة لها على العمل إلّا إذا اتّصلت بها القوّة الكهربائيّة، فحينئذٍ: تعمل كلّ الأشياء باختياره مادامت متّصلةً بالكهرباء،

ص: 39


1- المائدة: 64.

فما دامت هذه القوّة موجودةً، فإنّ العبد يفعل الأشياء باختياره وبإرادته جلّ وعلا، وما دامت هذه القوّة موجودةً تصبح يده كاليد العاديّة؛ فيفعل الأشياء باختياره.

أمّا المذهب الأوّل: فغير تامٍّ، لاُمورٍ:

الأمر الأوّل: كونه خلاف الوجدان والعقل؛ لأنّه يفرّق بين اليد المرتعشة والصحيحة، وبين سقوطه من السطح ونزوله باختياره، وليس كما قال الشاعر:

ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له *** إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء .

والثاني: لو كان العباد غير مختارين أصلاً، فلابدّ أن لا يكون هناك فرق بين أفعالهم، بل تكون كلّها على طرازٍ واحد، أي: غير اختياريّة.

والثالث: لو كانوا مجبورين، لكان إرسال الرسل وإنزال الكتب عبثاً، بل جعل التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والجنّة والنار كلّها يكون كذلك.

والرابع: لو كان كذلك، لكان اﷲ أظلم الظالمين _ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً _؛ إذ كان يعذّب العبد بالفعل الذي صدر منه، مع أنّه في الحقيقة صادر منه تعالى ومنسوب إليه.

والخامس: كيف يستحقّ العبد حينئذٍ الثواب على عملٍ لم يصدر منه أصلاً، أو أنّه صدر منه بلا اختيار؟!والسادس: أنّ الآيات الشريفة تشير بالصراحة إلى أنّ أفعال العباد كلّها

ص: 40

مستندة إليهم، كقوله تعالى: ﴿فَوَي_ْلٌ لّلَِّ__ذِينَ يَكتْ__ُبُون الْ_كِتَابَ بِأَي_ْدِيهِمْ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأنفُسِهِمْ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَل_ٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(4).

وكيف كان: فقد استدلّ الجبريّة باُمور:

الأمر الأوّل:

اشارة

أنّ أفعال العباد من الاُمور الممكنة، وكلّ ممكنٍ فهو محتاج، وهذه العلل لابدّ أن تنتهي إلى علّةٍ تامّة، لأنّ الممكنات لا اقتدار ولا إرادة اختياريّة لها، لبطلان التسلسل والدور.

ولا بأس هنا بأن نتعرّض لشرح الدور والتسلسل وبيان بطلانهما.

أمّا تعريف الدور:فهو أن يكون هناك شيئان يتوقّف وجود أحدهما على الآخر، ويكون وجود كلّ منهما سبباً لوجود الآخر. وهو على ثلاثة أقسامٍ: مصرّح ومضمر ومعيّ.

ص: 41


1- البقرة: 79، والويل بمعنى: الهلاك، والمراد ممّن يكتبون الكتاب اليهود.
2- الرعد: 11، أي: من عافيةٍ أو نعم، حتّى يغيّروا من الطّاعة أو المعصية.
3- النساء: 123.
4- النحل: 118، أي: بما يتعدّون على حدود ما أنزلنا على رسلنا إليهم من الأحكام.

القسم الأوّل: وهو توقّف أحد الشيئين على الآخر بدون أيّ واسطةٍ بينهما، كتوقّف وجود الأب على الابن، وبالعكس، وتوقّف وجود الدجاجة على البيض، وبالعكس.

وبطلان هذا القسم بديهيّ؛ لأنّه يلزم منه تقدّم وجود الشيء على نفسه؛ إذ لو توقّف وجود الابن على وجود الأب، ووجود الأب على وجود الابن، كان وجود الأب متوقّفاً على وجود نفسه، ومعناه: أن يكون موجوداً قبل نفسه، فيلزم اجتماع النقيضين؛ لأنّه لابدّ _ حينئذٍ _ من أن يكون في حال وجوده معدوماً.

والقسم الثاني: الدور المضمر، وهو توقّف أحد الشيئين على الآخر، ولكن مع توسّط شيءٍ بينهما، مثلاً: إنّ الأب سبب لوجود الابن، والجدّ سبب لوجود الأب، ونفس الابن يكون سبباً لوجود الجدّ.

وهذا القسم من الدور باطل أيضاً؛ لأنّ التوقّف على الشيء الذي هو متوقّف على نفسه محال، حتّى ولو كان في البين وسائط كثيرة.

والقسم الثالث: الدور المعيّ، وهو ما إذا كان شيئان يتوقّف أحدهما على الآخر، ولكن يتوقّف كلاهما على شيءٍ ثالث، كأن يكون هناكحجران يتوقّف أحدهما على الآخر، ولكن كان كلاهما مستنداً إلى شيءٍ ثالث، وهو الأرض _ مثلاً _.

وهذا القسم من الدور ليس بمحالٍ؛ لأنّ كليهما معلول لشيءٍ ثالثٍ، وهو الأرض.

ص: 42

وأمّا التسلسل:

فهو أن يتوقّف أحد الشيئين على الثاني، والثاني على الثالث، والثالث على الرابع، وهكذا... وهو باطل ومحال لأحد الدليلين المذكورين أدناه:

الدليل الأوّل:

أنّه لو كان هناك خطّان متوازيان ومتساويان، فلو قطعنا من طرف أحدهما ذراعاً، ثمّ قسنا أحدهما إلى الآخر، فلا يمكن أن يبقى هذان الخطّان متساويين، لأنّه قبل أن يقطع من أحدهما ذراع كانا كذلك، فبعد القطع، يكون أحدهما أقلّ من الآخر لا محالة، وإلّا، لزم التساوي بين الزائد والناقص، فلو كان أحدهما أنقص من الآخر فلا يمكن أن يكون غير متناهٍ؛ لأنّه لا يمكن أن يتصوّر بين الشيئين غير المتناهيين الزيادة والنقيصة. إذاً، فوجود غير المتناهي محال.

أو بتعبيرٍ آخر: هناك _ باعتبار العقل _ سلسلتان:

الاُولى: سلسلة المعلولات.والثانية: سلسلة العلل.

لأنّ كلّ مرتبةٍ تكون علّةً للمرتبة النازلة ومعلولةً للمرتبة الفوقيّة، وبما أنّ السلسلة لا تنتهي إلى مرتبةٍ محدّدة، فهي تكون غير متناهية، ممّا يعني: أنّ العلل والمعلولات تصبح غير متناهيةٍ أيضاً.

ولكنّا مهما تصوّرنا طول هذه السلسلة، فيكون الجزء الأخير من

ص: 43

هذه السلسلة معلولاً بلا علّة، فيكون عدد المعلولات غير المتناهية أكثر من العلل غير المتناهية، مع أنّه لا يمكن أن يتصوّر أنّ هناك شيئين غير متناهيين مع كون وجود أحدهما أنقص أو أكثر أو أزيد من الآخر؛ لأنّ لازمه: التساوي بين الناقص والزائد، وهو محال.

فلابدّ _ إذاً _ أن ننتهي إلى علّةٍ لا معلول لها حتّى يتساويا، ولو فرض انتهاء سلسلة المعلولات لانتهت سلسلة العلل أيضاً.

الدليل الثاني:

وهو وجه آخر لبطلان التسلسل يمكن أن يُشار إليه، حاصله: أنّ من البديهيّ أن تكون كافّة أفراد هذه السلسلة غير المتناهية الشاملة لجميع الممكنات، ممكنة الوجود، وكلّ ممكن الوجود يحتاج إلى مؤثّر، والمؤثّر بها لا يخلو من أقسام ثلاثة: فإمّا أن يكون نفس وجود السلسلة، أو جزأها، أو خارجاً عنها:فلو كان نفس السلسلة، للزم أن يؤثّر الشيء في نفسه، أي: أن يعطي الشيء الوجود لنفسه، وهذا محال؛ لأنّه يلزم تقدّم الشيء على نفسه.

ولو كان جزءاً من السلسلة للزم تأثير الشيء في نفسه _ أيضاً _؛ لأنّ جزء السلسلة من نفس السلسلة.

ولو كان شيئاً خارجاً عن السلسلة، فهذا لا يخلو من وجهين:

الوجه الأوّل: أن يكون ذلك الموجود الخارج عن السلسلة علّةً تامّة لآحاد هذه السلسلة، فيلزم _ حينئذٍ _ توارد العلّتين المستقلّتين على معلولٍ

ص: 44

واحد، إذ المفروض أنّ تلك الآحاد التي أثّر فيها هذا الشيء الخارج قد أثّرت فيها عللها الكائنة في داخل السلسلة، وهذا محال.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ كلّ جزءٍ من هذه السلسلة يكون معلولاً _ بحسب الفرض _ للجزء الذي قبله، فلو فرضنا كونه معلولاً للشيء الخارجيّ _ أيضاً _ للزم تأثير العلّتين المستقلّتين في المعلول الواحد،وهو محال؛ إذ في نفس الوقت الذي يُفرض فيه احتياج المعلول إلى العلّة الأُخرى، يكون غير محتاجٍ إليها، وليس إلّا اجتماعاً للنقيضين.

والوجه الثاني: أنّ الجزء الخارجيّ لابدّ وأن يفرض واجب الوجود في نفسه، وإلّا، فلو كان ممكناً لاحتاج إلى المؤثّر أيضاً، ولو كانواجباً، لكانت السلسلة متناهيةً، لانتهائها _ حينئذٍ _ إلى الواجب. وعليه: فالتسلسل باطل لا محالة.

وأمّا الجواب عن إشكال الجبريّة:

فبأنّنا

لا نسلّم لزوم إيجاد الممكن بلا علّةً لو لم نقل بالجبر، كما لا يخرج عن تحت اختيار اﷲ وقدرته. بل هو _ كمال القدرة _ أنّ اﷲ تعالى يخلق مخلوقاً ويجعله مختاراً في أفعاله، ويهيّئ له الأسباب والمقدّمات، ويعطيه القدرة والإرادة، بحيث كلّما أراد أن يفعل شيئاً فعله، وكلّما أراد أن يتركه تركه، أي: جعله قادراً على الفعل والترك.

والأمر الثاني:

استدلّ الجبريّة _ ثانياً _: بأنّ اﷲ تبارك وتعالى محيط بكلّ شيء، وكلّ

ص: 45

شيءٍ قائم به، ولا يمكن أن يوجد شيء في الخارج بدون إرادته، فلو كان العبيد مختارين في أفعالهم، فيلزم خروج الأفعال عن حيطة قدرته وإرادته، وتصبح قدرته _ حينئذٍ _ محدودةً، مع أنّ صفاته جلّ وعلا غير متناهية.

وفي مقابل هؤلاء من يقول بأنّ اﷲ غير قادرٍ على فعل القبيح، وهم النظّام وأتباعه؛ لأنّه تعالى عادل مطلق، ولا يصدر من العادل الفعل القبيح.

والجواب عن مقولة النظّام ومن تبعه:أنّ عدم فعله القبيح لا يدلّ على كونه غير قادرٍ عليه.

وقال بعض: إنّ اﷲ غير قادرٍ على أن يقوم بأفعالٍ كأفعال البشر، لأنّ الأفعال عبارة عن الحركة والسكون، والحركة والسكون يتوقّفان على الجسم، لأنّها أعراض، والعرض في وجوده محتاج إلى ما يكون به قوام وجوده، وبما أنّ اﷲ تعالى ليس بجسمٍ، فهو غير قادرٍ على الحركة والسكون.

والجواب: أنّه تعالى قادر على إيجاد الحركة والسكون في الأجسام، لا أنّه في نفسه يكون متحرّكاً، بل هو خالق الأجسام والعوارض، وأمّا ذاته سبحانه فمنزّهة عن عروض العوارض.

وأمّا الجواب عن الثاني، هو أنّ إرادة العبد أيضاً تحت قدرة اﷲ وإرادته، بمعنى: أنّه إذا أراد أن يفعل شيئاً فقدرته على الفعل متوقّفة على

ص: 46

إعطاء القدرة له. وبعبارةٍ أُخرى: فهو محتاج في كل آنٍ إلى فيض الفيّاض، بحيث لولا هذا الفيض لا يكون لديه شيء، ولا يتمكّن من الإتيان بأيّ شيءٍ، وإرادته تابعة لإرادة اﷲ، حيث إنّ اﷲ تعالى _ كما مرّ _ أراد للعبد أن يأتي بالشيء باختياره.

والأمر الثالث:

اشارة

أنّه لو أراد العبد الإتيان بفعلٍ، فهل يريد اﷲ تعالى وقوع هذا الفعل أم لا؟!ففي صورة عدم إرادته: فلابدّ لهذا الفعل أن لا يقع؛ لأنّه لو وقع، لكانت إرادة العبد غالبةً على إرادة اﷲ، تعالى اﷲ عن ذلك. فلو أراد اﷲ إيجاد ذلك الفعل، فإنّ الفعل إمّا أن يقع بإرادة كليهما، وتكون إرادة كلٍّ منهما على نحو الاستقلال في التأثير، فيلزم منه توارد علّتين على معلولٍ واحد، وهو محال. ولو كان التأثير لإرادتهما معاً، لزم الشرك، وكان منافياً للتوحيد الأفعاليّ. ولو كان بإرادةٍ من العبد وحده، فلازمه: أن تكون إرادة العبد غالبةً على إرادة اﷲ عزّ وجلّ، وهو خلف، فلم يبقَ _ إذاً _ إلّا وجه واحد، وهو: إيجاد الفعل بإرادةٍ من اﷲ تعالى فقط، دون إرادة العبد، وهو المطلوب.

والجواب عنه: أنّ أفعال العباد، وإن عُلِّقت على إرادة اﷲ تعالى، ولكنّ ذلك ليس على نحو الجبر حتّى لا يكون للعبد أيّ اختيارٍ أصلاً، بل إنّ إرادة اﷲ تتعلّق بفعل العبد بشرط أن يأتي هو بالفعل باختياره، حتّى تتمّ

ص: 47

في حقه نعمة الاختيار، فإذاً انّ الفعل ولو صدر من العبد باختياره ولكن يكون مستنداً إلى فعل اﷲ فلو لم تتعلّق مشيئة اﷲ بفعل العبد باختياره، لم يقدر العبد، ولم يتمكّن من الإتيان بالفعل أصلاً.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ المراد من إرادته تعالى هو علمه باشتمال فعل العبد _ الصادر منه باختياره _ على المصلحة، لا مع صدوره منه قهراً،ومن المعلوم: أنّ مثل هذه الإرادة لا توجِب الجبر، فالإرادة التي تنتهي إليها الممكنات غير موجبةٍ للجبر.

ويمكن لهذا أن يتّضح أكثر من خلال بيان أقسام الفاعل، فنقول:

لا يخفى: أنّ الفاعل ينقسم تارةً باعتبار ما منه الوجود، واُخرى: باعتبار ما به الوجود.

فبالاعتبار الأوّل: هو اﷲ تعالى؛ لأنّ معناه: أنّه مفيض للوجود ومعطٍ له، وذلك منحصر في واجب الوجود.

وبالاعتبار الثاني: هو المباشر للفعل الذي يفاض عليه، فيكون مجرياً للفيض، وهو الممكن، حيث يجري منه فيض الوجود إلى غيره.

وأيضاً: ينقسم الفاعل إلى أقسام:

الأوّل: الفاعل بالطبع، وهو الذي يصدر منه الفعل بلا إرادةٍ واختيار، وهو جاهل بفعله، ويخرج منه الفعل باقتضاء طبعه، كالحرارة من النار وكالجذب والإمساك للقوّة الهاضمة.

والثاني: الفاعل بالقسر، وهو الذي لا يكون عالماً بفعله، ويكون

ص: 48

خروج الفعل منه على خلاف طبعه. ففي هذه الصورة: الفاعل في الحقيقة هو الغير، كخروج الرصاص من البندقيّة _ مثلاً _، فإنّ نسبة الفاعليّة إلى البندقيّة مجاز، أو كتحريك يد الغير؛ فإنّ الفاعل فيالحقيقة هو المباشِر، ويد المتحرّك إنّما هي محلّ للحركة، وليس هو المتحرّك حقيقةً، بل نسبة التحرّك إليه إنّما تصحّ على نحو المسامحة.

والثالث: الفاعل بالقصد والاختيار، وهو أن يكون الفعل قد صدر منه بالإرادة، ويكون عالماً بفعله.

والرابع: الفاعل بالجبر، وهو الذي له علم بالفعل، ولكن يصدر الفعل منه بدون إرادته واختياره، كإجبار الشخص على العمل بدون إرادته.

والخامس: الفاعل بالرضا، وهو الذي له علم بالفعل، وله الإرادة، وعلمه عين فعله وعين ذات الفاعل، كإنشاء الصور الخياليّة.

والسادس: الفاعل بالعناية، وهو الذي يكون عالماً بالفعل، وله الإرادة، ولكن يكون علمه سابقاً على الفعل، وزائداً على الذات، أي: ذات الفاعل، كما إذا وقع الإنسان عن الشجرة بمجرّد التوهّم.

والسابع: الفاعل بالتجلّي، وهو الذي له علم بالفعل وإرادة إليه، ويكون علمه سابقاً على الفعل، وعين ذات الفاعل، كاستعمال الإنسان لقواه النفسانيّة.

والثامن: الفاعل بالتسخير، وهو الفاعل المختار الذي جعله الفاعل بالطبع والقسر تحت اختياره.

ص: 49

وقد اختلفوا في أنّ أفعال اﷲ من أيّ قسمٍ من هذه الأقسام؟فقال قسم من الحكماء: بأنّه فاعل بالتجلّي، وقال قسم آخر منهم: هو فاعل بالعناية. وقال العرفاء: بل هو فاعل بالرضا، وقال المتكلّمون: هو فاعل بالقصد والاختيار.

وتفصيل الكلام والإتيان بالأدلّة على صحّة واحدٍ من هذه الأقوال، يستدعي بسطاً في الشرح، وقد شرحناها بشكلٍ مفصّلٍ في محاضراتنا الفلسفيّة في النجف الأشرف.

والحقّ: أنّه تعالى فاعل بالقصد، لا بمعنى: أنّ له قصداً وعزماً وتصوّراً وتصديقاً، بل بمعنى: أنّ فعله صادر عن الحكمة والمصلحة، ولو لم يكن هناك مصلحة في إيجاد الشيء، فإنّ الإرادة لا تتعلّق به، وهو معنى القادر المختار.

وأمّا فعل العبد، فهو _ أيضاً _ يصدر منه باختياره، ولكن بعد وجود المقدّمات لذلك، فمعنى انتهاء إرادة العبد هو أنّ المراد به أنّه مجري فيض الوجود، وأنّ اﷲ تعالى هو مفيض الوجود، ولا يكون العبد مفيضاً؛ لأنّ الفاقد للشيء لا يكون معطياً أبداً، ولا يمكن أن يكون المحتاج للوجود مفيضاً له، ومع ذلك، فلا منافاة بين انتهاء إرادته إلى المولى، وكون فعله _ بالرغم من ذلك _ اختياريّاً أيضاً. نعم، لو كانت إرادة الباري تصل إلى حدّ ما به الوجود، لكان جبراً، فلو نسِب العمل حينئذٍ إلى العبد، فإنّما تكون النسبة مجازاً ويكون فعل العبد كالآلة.

ص: 50

إن قلت: إنّ الإرادة في نفس العبد تكون سبباً لإيجاد الشيء على نحو غير الاختيار.

قلت: هي ليست بعلّةٍ تامّةٍ حتّى تكون سبباً لسلب الاختيار، ولو قلنا بأنّها بمعنى الشوق المؤكّد؛ لأنّه مع ذلك، يبقى قادراً على الفعل والترك، ولا يصبح الفعل معه ضروريّ الوجود. نعم، يكون الشوق المؤكّد داعياً إلى اختيار الفعل ومرجّحاً له، والشاهد على ذلك: الوجدان، ونحن نرى: أنّه قد تتخلّف الإرادة عن المراد أحياناً، فيعلم من ذلك: أنّ الإرادة ليست بعلّةٍ تامّة.

وممّا استدلّوا به على الجبر _ أيضاً _ الآيات:

فمنها: قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤونَ إِلّاَ أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾(1).

وقوله: ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾(2).

وقوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً﴾(3).

وقوله: ﴿فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(4).ومعنى الآية الاُولى: ما تشاؤون الإسلام إلّا أن يشاء إجباركم وإلجاءكم إليه، ولكنّه لا يفعل ذلك لأنّه يريد أن تؤمنوا مختارين لتستحقّوا بذلك الثواب.

ص: 51


1- التكوير: 29.
2- الصّافّات: 96.
3- الأنعام: 125.
4- الأنعام: 149.

ومعنى الثانية: أنّ الذي هو قابل للعبادة هو الذي خلقكم من العدم إلى الوجود، وكذلك فهو الذي خلق اُصول ما تعملونه، بل جواهره كلّها مخلوقة وموجودة بقدرته.

ومعنى الثالثة: أنّ من لا يستحقّ الهداية ولا يرغب فيها، فإنّ اﷲ يخلّي بينه وبين نفسه، ويجعل قلبه كثير الضيق بالاُمور، فإذا أمر بالإيمان فكأنّما أُمِر بالصعود إلى السماء، أي: فكأنّما قد اُمِر بما لا يستطيعه ولا يقدر عليه.

ومعنى

الرابعة: أنّه لو أراد الإلجاء إلى الإيمان والإجبار عليه لتمكّن من ذلك بمجرّد المشيئة، ولكنّه لا يريد الإيمان منكم إيماناً جبريّاً، واﷲ تعالى لا يحبّ الإيمان الجبريّ الذي لا يحسن الثواب عليه.

ومع أنّ معاني هذه الآيات على ما عرفت، ولكن _ في الحقيقة _: فإنّ من الممكن جعلها ردّاً على المفوّضة القائلين بأنّ كلّ ما يصدر من العبد، فإنّما هو باختياره وعلى نحو الاستقلال، فالآيات تشير إلىأنّ مجرّد إرادة العبد غير كافيةٍ في التأثير، بل لابدّ أن تتعلّق بها إرادة الباري ومشيئته أيضاً.

مع أنّ هناك آياتٍ استدلّ بها المفوّضة لإثبات أنّ الأعمال كلّها من العبد، وأنّ إرادة العبد تكون في طول إرادة اﷲ، لا في عرضها حتّى يصبح الإنسان له شريكاً.

ص: 52

ومن الآيات التي يستفاد منها أنّ أفعال العباد مستندة إليهم:

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(1).

أي: إنّ اﷲ لا يغيّر ما بقومٍ من عافيةٍ أو نعمةٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم من الطاعة إلى المعصية أو بالعكس، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿ذَل_ِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نّعْمَةً أَنعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(2).

وقوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ﴾(3)، أي: من يعمل قبيحاً أو مكروهاً أو يظلم نفسه باجتراح السيّئات وارتكاب المعاصي، فإنّه سيتعرّض للمجازاة من قبل اﷲ تعالى.وقوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَل__ٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(4)، أي: بما كانوا يتعدّون على حدود اﷲ.

إذاً: فالعبد ليس مجبوراً في أعماله على الإطلاق، ولا هو مختار على الإطلاق، ويكون الفعل مستنداً إلى اﷲ وإلى العبد معاً، قال المحقّق السبزواريّ(قدس سره):

لكن كما الوجود منسوب لنا *** فالفعل فعل اﷲ وهو فعلنا (5).

ص: 53


1- الرعد: 11.
2- الأنفال: 53.
3- النساء: 123.
4- النحل: 118، أي: بما يتعدّون على حدود ما أنزلنا على رسلنا إليهم من الأحكام.
5- انظر: شرح المنظومة 1: 518.

ويكفي في الدليل على بطلان قول المفوّضة ما ورد عن أبي عبد اﷲ الصادق(علیه السلام) قال: «سمعت أبي يحدّث عن أبيه(علیه السلام) أنّ رجلاً قام إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) فقال له: يا أمير المؤمنين، بمَ عرفت ربّك؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم، لمّا أن هممت حال بيني وبين همّي، وعزمت فخالف القضاء عزمي، فعلمت أنّ المدبّر غيري.. الخبر»(1).

ويقول الشاعر:

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

ومن

هذا القبيل _ أيضاً _: ما دلّت عليه بعض الآيات، كقوله تعالى: ﴿إِي_َّاكَ نَعْبُدُ وَإِي_َّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(2)، وقوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَل_ٰكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَ__ٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ﴾(3)، وقوله: ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي﴾(4)، وكذا كلمة الحوقلة، وهي: (لا حول ولا قوّة إلّا باﷲ)، أو تلك التي تقال في الصلاة، وهي: «بحول اﷲ وقوّته أقوم وأقعد»(5).

ص: 54


1- بحار الأنوار: 3: 42.
2- الفاتحة: 5. وقوله: (إيّاك نعبد): لأنّه المنعم الحقيقيّ والأعظم بإعطائه النّعم الجسيمة، من الوجود والحياة، فلذلك هو تعالى مستحقّ للعبادة وأن يستعان به، دون غيره، في المهمّات.
3- الأنفال: 17. وقوله: (فلم تقتلوهم): نفى القتل مع أنّهم هم الذين قتلوا، لأنّ أفعاله تعالى كانت كالسّبب المؤدّي إلى فعل المسلمين، حيث هو الذي أقدرهم وأعانهم وشجّعهم على العمل.
4- المائدة: 110. وقوله: (تخرج الموتى): أي: بتيسيرٍ من الله وإعطائه القدرة له.
5- وسائل الشيعة: 5: 465، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصّلاة، ح9.

مع أنّ عقيدة المعتزلة تشكّل توهيناً في سلطنته جلّ وعلا، وتفضي إلى القول بالشركة في الخلقة وبأنّ الفيض مسلوب منه، تعالى اﷲ عن ذلك علوّاً كبيراً.

ثمّ إنّه خلاف الوجدان جدّاً؛ إذ في كثيرٍ من الموارد يرى الإنسان نفسه لا يوفّق لإتمام العمل الذي شرع فيه، على الرغم من أنّه يبذل أقصى جهده ويهيّئ له جميع الأسباب والوسائل والمقدّمات.فالحقّ _ إذاً _ ما ذهبت إليه الإماميّة، وهو أنّه: لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين.

ولكن مع ذلك، فقد استشكل البعض:

بأنّ

الكفر والعصيان، وإن كانا يصدران من العبد باختياره، أي: أنّ إرادته هي التي تكون مؤثرةً في اختيار الكفر أو الإيمان، وليس ما يصدر منه صادراً بلا اختيار، وليس كيد المرتعش في كونه خارجاً عن الاختيار، إلّا أنّه ومع ذلك، فبما أنّ الإرادة المتعلّقة بهما _ أعني: الكفر والعصيان _ هي من الاُمور الممكنة، فلابدّ لها من أن تنتهي أخيراً إلى علّةٍ تامّةٍ، وهي إرادة الواجب جلّ وعلا، وهي عين ذاته، فإذا انتهت إلى إرادته جلّ وعلا، فهذا يعني: أنّها ليست اختياريّةً، وحينئذٍ: فيقبح أن يكلّف المكلّف بالإيمان، لكون هذا التكليف غير اختياريٍّ، ولا يصحّ أن يعاقب الكافر لأجل كفره وعصيانه، لرجوع عمله إلى ما لا يكون بالاختيار؛ فيبقى الإشكال على حاله.

ص: 55

وأجاب عنه صاحب الكفاية) بقوله:

«العقاب إنّما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدّماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتيّة اللّازمة لخصوص ذاتهما، فإنّ (السعيد سعيد في بطن اُمّه والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه)، و(الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة)، كما في الخبر. والذاتيّ لا يعلّل، فانقطعسؤال أنّه: لِم جعل السعيد سعيداً والشقيّ شقيّاً؟ فإنّ السعيد سعيد بنفسه، والشقيّ شقيّ كذلك، وإنّما أوجدهما اﷲ تعالى»(1).

ولكنّ جوابه هذا لا يشفي الغليل؛ إذ هو _ أيضاً _ يستلزم الجبر، لأنّه لو كانت السعادة والشقاوة ذاتيّتين، وكان الكفر والإيمان من لوازمهما غير المنفكّين عنهما، لكانت النتيجة: لغويّة التكليف، وعدم صحّة عقاب الكفّار، وعدم حسن ثواب المؤمن، لعدم كون الفعل اختياريّاً لهما.

مع أنّنا نرى أنّ العقلاء يحسّنون مؤاخذة الموالي العرفيّين لعبيدهم في صورة مخالفة أوامرهم، ولا يقبلون الاعتذار بأنّ المخالفة كانت مستندةً إلى أمرٍ ذاتيٍّ، وهو الشقاوة _ مثلاً _. وهذا أقوى دليلٍ على أنّ الفعل يصدر من العبد باختياره، و أنّ العصيان ليس من اللّوازم الذاتيّة القهريّة، مضافاً إلى ما ورد من الآيات والروايات الدالّة على بطلان الجبر.

ففي توحيد الصدوق، واحتجاج الطبرسيّ، عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:«إنّ اﷲ عزّ وجلّ خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه، وأمرهم

ص: 56


1- كفاية الاُصول: 68.

ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه فقد جعل لهم السبيل إلى تركه... الخبر»(1).

وما رواه في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «اﷲ أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون»(2).

وكذا ما في الكافي عن يونس عن عدّة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «قال له رجل: جعِلت فداك(قدس سره) أجبر اﷲ العباد على المعاصي؟ فقال(علیه السلام): اﷲ أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها»(3).

وما رواه الوشّاء عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام) قال:

«سألته وقلت: اﷲ فوّض الأمر إلى العباد؟ قال(علیه السلام): اﷲ أعزّ من ذلك. قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال(علیه السلام): اﷲ أعدل وأحكم من ذلك. ثمّ قال: قال اﷲ يا بن آدم، أنا اُولى بحسناتك منك وأنت اُولى بسيّئاتك منّي، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك»(4).فأولويّة اﷲ تعالى بالحسنة: أنّه تعالى أمره بها وأعطاه القوّة والتوفيق لها، وأولويّة العبد بالسيّئات؛ لأنّه تعالى نهاه عنها، وأوعده النار عليها، ووكّله إلى نفسه، وكان قد أعطاه القوّة لكي يصرفها في الحلال فصرفها في الحرام والسيّئات.

ص: 57


1- راجع: التوحيد: ص 349، والاحتجاج 2: 158.
2- الكافي 1: 160.
3- الكافي 1: 159.
4- الكافي 1: 157.

وعن أبي الحسن الرضا(علیه السلام) _ أيضاً _ أنّه قال _ وقد ذكِر عنده الجبر والتفويض _:

«ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه، قلنا: إن رأيت ذلك، فقال: إنّ اﷲ عزّ وجلّ لم يطع بإكراهٍ، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اﷲ عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال(علیه السلام) من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه»(1).

والحاصل: أنّ العباد ليسوا مكرهين في أفعالهم؛ لأنّ العقاب على الفعل غير الاختياريّ قبيح عقلاً، فلو كان هناك آيات تدلّ بظاهرها على الجبر فلابدّ من تأويلها.وورد في بعض الروايات: أنّ العبد إذا أذنب كانت نقطة سوداء على قلبه، فإن هو تاب وأقلع واستغفر، صفا قلبه منها، وإن هو لم يتب ولم يستغفر، كان الذنب على الذنب، والسواد على السواد، حتّى يغمر القلب بتمامه فيموت بكثرة غطاء الذنوب عليه، فلا يفلح.

والمراد منه: أنّ فلاحه بعد ذلك صعب، لا أنّه لا يفلح أبداً؛ لأنّ

ص: 58


1- التوحيد: ص 361.

الخطاب موجود في تلك الحالة أيضاً.

الروايات الدالّة بظاهرها على الجبر:

ولا بأس هنا بالتعرّض لبعض الروايات التي تدلّ بظاهرها على الجبر:

الاُولى: رواية القضاء والقدر.

ولابدّ _ أوّلاً _ من بيان أنّه هل يجوز الخوض في الحديث عن مسألة القضاء والقدر أم لا؟!

قد يقال: بعدم الجواز، لما ورد من النهي عن الحديث فيه، فقد ورد أنّ رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين(علیه السلام)، فقال: «يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنيعن القدر، قال: طريق مظلم فلا تسلكه، قال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، قال: سرّ اﷲ فلا تتكلّفه»(1).

وفي

روايةٍ اُخرى عنه(علیه السلام) في القدر: «ألا إنّ القدر سرّ من سرّ اﷲ، وحرز من حرز اﷲ، مرفوع في حجاب اﷲ، مطويّ عن خلق اﷲ، مختوم بخاتم اﷲ، سابق في علم اﷲ، وضع اﷲ عن العباد علمه، ورفعه فوق شهاداتهم؛ لأنّهم لا ينالونه بحقيقة الربّانيّة، ولا بقدرة الصمدانيّة، ولا بعظمة النورانيّة، ولا بعزّة الوحدانيّة؛ لأنّه بحر زاخر موّاج، خالص ﷲ عزّ وجلّ، عمقه ما بين

ص: 59


1- بحار الأنوار 5: 110.

السماء والأرض، عرضه ما بين المشرق والمغرب أسود كاللّيل الدامس، كثير الحيّات والحيتان... الخبر»(1).

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ هذه الروايات ضعيفة من جهة السند.

وثانياً: على فرض التنزّل، فلعلّها نشأت من شبهات الجبريّة، كما كثيراً ما ينشأ من هنا. نعم، فمن لم يتمكّن من الغوص في هذا البحر العميق فهو غارق فيه _ لا محالة _، ومن لم يتسلّح بالمعرفة ولم يهتدِ إلى الطريق المستقيم فالمسير في اللّيل المظلم بالنسبة إليه يكون سبباًلأن يشذّ عن الطريق، فنهيه(علیه السلام) عن الكلام في مسألة القضاء والقدر متوجّه إلى هولاء. وأمّا من كان متمكّناً من الجواب، وهو مسلّح بالمعرفة، فلا بأس عليه ولا إشكال في خوضه غمار هذا البحث؛ إذ لا يترتّب عليه من ذلك ضرر.

معنى القضاء والقدر:

فلندخل _ إذاً _ في صلب الموضوع ولنتكلّم في معنى القضاء والقدر، فنقول:

يأتي (القضاء) لمعانٍ متعدّدة:

الأوّل: أن يكون بمعنى الصنع، كما قال تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ

ص: 60


1- المصدر نفسه 5: 97.

سَمَاوَاتٍ﴾(1)، أي: صنعهنّ وأحكمهنّ وفرغ من خلقهنّ.

الثاني: أن يكون بمعنى الأمر، كقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِي_َّاهُ﴾(2)، أي: أمر ربّك وألزم، أو أوجب، أو أوصى، على خلافٍ بين المفسّرين.الثالث: أن يكون بمعنى الإعلام، كقوله عزّ وجلّ: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(3)، أي: أعلمناهم وأخبرناهم.

الرابع: أن يكون بمعنى الحكم، نحو قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ﴾(4)، أي: يحكم أو يفصل.

قال الراغب في مفردات القرآن:

«القضاء فصل الأمر، قولاً كان ذلك أو فعلاً، وكلّ واحدٍ منهما على وجهين: إلهيٍّ وبشريّ. فمن القول الإلهيّ قوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِي_َّاهُ﴾، أي: أمر بذلك، وقال: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْ_كِتَاب﴾، فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم، أي: أعلمناهم وأوحينا إليهم وحياً جزماً... إلى أن يقول: ومن الفعل الإلهيّ قوله: ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُون___ِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾... إلى أن يقول: ومن القول البشري نحو

ص: 61


1- فصّلت: 12.
2- الإسراء: 23.
3- الإسراء: 4.
4- غافر: 20.

قضى الحاكم بكذا، فإنّ حكم الحاكم يكون بالقول. ومن الفعل البشريّ: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ﴾(1)، ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَ_هُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾(2)»(3).الخامس: أن يكون بمعنى الفعل، كقوله تعالى: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ﴾(4)، ونحوه قول الشاعر:

قضيت اُموراً ثمّ غادرت بعدها *** فوائح في أكمامها لم تفتق(5) .

السادس: أن تكون بمعنى الإتمام، نحو: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾(6)، أي: أتمّ المدّة ووفّاه، أي: أتمّ ما كان له من الإيجار.

السابع: أن يكون بمعنى الإحكام، يقال: قضى فلان أمراً، أي: أحكمه.

الثامن: أن يكون بمعنى الإتيان، نحو: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ﴾(7)، أي: أتيتم.

التاسع: أن يكون بمعنى الموت، من قضى عليه، أي: أماته.

ويتعلّق القضاء بأفعال اﷲ تعالى التي تجري في هذا العالم بالنسبة إلى

ص: 62


1- البقرة: 200.
2- الحجّ: 29.
3- مفردات غريب القرآن: ص 406.
4- طه: 72، أي: افعل ما تريد.
5- مفردات غريب القرآن: ص 406.
6- القصص: 29.
7- النساء: 103.

المخلوقات، وهو على قسمين:1) قضاء تكوينيّ.

2) وقضاء تشريعيّ. وكلّ منهما حتميّ وتعليقيّ.

أمّا القضاء التكوينيّ الحتميّ: فهو عبارة عن الأفعال التي فيها مصلحة، وهذا النوع من الأفعال ليس قابلاً للتغيير ويقع حتماً.

والقضاء التكوينيّ التعليقيّ: هو الذي يكون مشروطاً بشيءٍ، كطول العمر المشروط بصلة الرحم، ونقصان العمر المشروط بقطع الصلة.

وأمّا القضاء التشريعيّ الحتميّ: فهو عبارة عن الأوامر والنواهي الشرعيّة التي تكون المصلحة فيها دائميّةً.

والقضاء التشريعيّ التعليقيّ هو تلك الأوامر والنواهي التي تتغيّر بحسب الزمان وبحسب أحوال المكلّفين، وقد يعبّر عنه ﺑ (النسخ). وبما أنّ النسخ في التشريعيّات هو كالبداء في التكوينيّات فلابدّ _ هنا _ من التعرّض لبيان كلٍّ من النسخ والبداء.

ولا يخفى: أنّ الأحكام قد وضِعت على حسب المصالح والمفاسد، ومعلوم: أنّ مصالح العباد تختلف بحسب الأزمنة، فكلّ زمانٍ يقتضي نوعاً خاصّاً من الحكم يلائمه وينسجم معه؛ ولذا جعل جلّ وعلا دستوراً خاصّاً، وأرسل شخصاً معيّناً لإصلاح ذلك المجتمع، ولذا _ أيضاً _ تعدّدت الأنبياء واختلفت الأحكام، فالنسخ عبارة عن حذف أحكامٍ كانت تلائم العصر المتقدّم، لكونها لا تلائم العصر المتأخّرعنه

ص: 63

ولا مقتضي لها في هذا العصر، وهكذا، كلّما وجِدت المصلحة لحكمٍ آخر تغيّر الحكم الأوّل وتبدّل، فليس النسخ من جهة الجهل بالواقع، وإنّما هو لتغيّر المصلحة وتبدّلها، ولذا، كان الحكم الكذائيّ ذا مصلحةٍ في زمان ولم يكن بذي مصلحةٍ في زمانٍ آخر، كأن تكون له مصلحة في الماضي دون الحاضر.

ثمّ إنّه ليس كلّ حكمٍ يكون صالحاً وقابلاً للنّسخ، بل الأحكام في ذلك على قسمين:

أ _ قسم يستقلّ العقل بدرك ثبوت الحسنه وقبحه في كلّ زمان، كالعدل والظلم ووجوب المعرفة، وغير ذلك...

ب _ وقسم يدرك العقل أنّ مصالحها تختلف بحسب اختلاف الأزمنة. والحاصل: أنّه كلّما وجِدت المصلحة فاﷲ يجعل حكماً على طبقها.

وأمّا البداء فإنّه يكون في الاُمور التكوينيّة.

وفي الخبر: «ما عُبِد اﷲ بشيءٍ مثل البداء»(1)، وعن أبي عبد اﷲ(علیه السلام): «ما عظِّم اﷲ بمثل البداء»(2).وفي روايةٍ اُخرى: «لو علم الناس ما في القول في البداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه»(3).

ص: 64


1- الكافي: 1: 146، باب البداء، ح1.
2- المصدر نفسه.
3- الكافي: 1: 148.

والبداء في اللّغة: الظهور(1)، وفي الاصطلاح: ظهور الشيء بعد أن لم يكن ظاهراً.

وهو في حقّ العبد قد ينشأ من عدم الإحاطة بالمصالح والمفاسد، ولذا فهم يجعلون قانوناً ثمّ بعد مدّةٍ يلتفتون إلى مفاسده فيغيّرونه.

وقد ينشأ هذا التغيير من الضعف وعدم القدرة على تهيئة الأسباب والمقدّمات، ولذا نراهم يبدأون بعملٍ ثمّ يتركونه لأجل الضعف وعدم القدرة على إيجاده أو من جهة تلوّن المزاج، أو غير ذلك، ولذا، فقد يتّخذ أحدهم لنفسه كلّ يومٍ شغلاً مغايراً.

وأمّا البداء بالنسبة إلى الباري تعالى، فهو بمعنى الإبداء والإظهار بعد أن لم يكن ظاهراً، ويكون التغيير طبقاً للمصالح وعلى حسب التغييرات الأخلاقيّة التي توجد في البشر، كما قال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(2). وهو شبيه بالطبيب الذي يغيّر الدواءلمريضه حسب مراتب المرض، وليس البداء هنا موجباً للجهل والسفاهة _ والعياذ باﷲ _؛ فإنّ اﷲ تعالى عالم منذ الأزل بجميع المقتضيات، وله القدرة على أن يجعل من أوّل الأمر بالنسبة إلى كلّ زمانٍ حكماً خاصّاً به.

فتحصّل: أنّ البداء بالنسبة إلى البشر هو بمعنى الظهور بعد الخفاء، وأمّا بالنسبة إلى اﷲ تعالى فهو الإظهار بعد الإخفاء، أي: إظهار ما كان

ص: 65


1- مجمع البحرين 1: 186.
2- الرّعد: 11.

مخفيّاً على المعصومين( أو على الناس كافّةً.

وقد جاء في زيارة العسكريّين': «السلام عليكما يا من بدا ﷲ في شأنكما»(1).

والمراد منه: البداء بالنسبة إلى اﷲ تعالى، أي: الإظهار، كما قلنا. فإذا أظهر تعالى من أفعاله ما لم يكن بالحسبان والظنون، قيل: قد بدا ﷲ كذا وكذا. وعليه قوله تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾(2)، أي: ظهر لهم ما لم يكن بحسبانهم.

وقال الصادق(علیه السلام):«ما بدا ﷲ بداء كما بدا له في إسماعيل ابني». يقول(علیه السلام): ما ظهر ﷲ سبحانه أمر كما ظهر له في ابني اسماعيل؛ إذاخترمه قبلي ليعلم الناس بذلك أنّه ليس بإمامٍ بعدي _ كذا قرّره الصدوق _(3)، وبه يكشف عن ما أظهره في موسى بن جعفر(علیه السلام) حيث أبقاه بعد أبيه وقبض أخاه قبله ليعلم أنّ الإمامة له دون أخيه.

وقد تقدّم ما ورد في زيارة العسكريّين' «بدا ﷲ في شأنكما»، وذلك أنّ اﷲ تعالى قبض السيّد محمّد قبل أبيه ليعلم الناس أنّ الإمامة بعده لابنه الحسن(علیه السلام)، وأتى بالتثنية من باب التغليب.

وليس معناه: أنّ النصّ قد استقرّ في السيّد اسماعيل والسيّد محمد

ص: 66


1- بحار الأنوار 99: 61.
2- الزمر: 47.
3- التوحيد: ص 336.

فقبضهما إليه وجعل الإمامة من بعدهما في موسى والحسن'؛ فإنّ هذا مخالف لما ورد من أنّ «الأئمّة بعدي اثنا عشر»(1).

وأيضاً: فقد رُوِي عن الإمام العسكريّ(علیه السلام): «يا بنيّ، أحدِث ﷲ شكراً فقد أحدث فيك أمراً»(2).

فلا يكون البداء من اﷲ تعالى تعقيباً لأمرٍ جديد، ولا استدراكاً لأمرٍ فائت، ولا انتقالاً من تدبير إلى تدبيرٍ، ولا لحدوث علمٍ بعد أن لم يكن؛ لأنّ كلّ ذلك ممتنع في شأنه جلّ وعلا.ففي قضيّة إسماعيل _ مثلاً _ يمكن أن يتصوّر أنّ إسماعيل كان هو الولد الأكبر للإمام، وأنّه كان معروفاً بمكارم الأخلاق والأعمال الصالحة، ممّا جعل الشيعة يتخيّلون أنّه هو إمامهم بعد الصادق(علیه السلام)، وكانت إمامة الإمام الكاظم(علیه السلام) مخفيّةً عندهم ومجهولةً لديهم، فلمّا مات إسماعيل في حياة الإمام جعفر الصادق(علیه السلام) ظهر لهم أنّه لم يكن بإمام، ولو لم يرتحل قبل أبيه لكان له اللّياقة للإمامة، ولكن بما أنّ الإمام بعد الصادق(علیه السلام) لابدّ وأن يكون هو موسى الكاظم(علیه السلام)، فقد قدّر اﷲ أن يرتحل إسماعيل من الدنيا في حياة أبيه، وهذا يشبه قول الرسول- «لو عاش إبراهيم لكان صدّيقاً نبيّاً»(3)، فبما أنّ ختم النبوّة بالنبيّ-، فقد ارتحل إبراهيم في حياته-.

ص: 67


1- بحار الأنوار 36: 245.
2- بحار الأنوار 50: 240.
3- كنز العمّال 11: 469.

وينبغي أن يعلم هنا أنّ ﷲ تعالى لوحين:

الأوّل: اللّوح المحفوظ، ومكتوب فيه ما هو واقع إلى يوم القيامة، وعلمه مختصّ باﷲ تعالى.

والثاني: لوح المحو والإثبات، وفيه ما هو قابل للتغيّر والتبدّل، وعلمه ﷲ تعالى يوصله إلى أنبيائه.قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «لولا آية في كتاب اﷲ لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية: ﴿يَمْحُو للهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾(1)»(2).

وأمّا القدر: فهو ما يقدّره اﷲ من القضاء.

والذي يظهر من الروايات: أنّ المراد من القضاء في أفعال العباد هو القضاء غير الحتميّ، والذي يوجب الجبر هو القضاء الحتميّ، فهناك ملازمة بين القضاء الحتميّ وبين ارتفاع الاختيار. وأمّا القضاء غير الحتميّ، فإنّ الاختيار فيه موجود، والتكليف كذلك.

وتسأل: هل القضاء والقدر قابلان للتغيير أم لا؟

والجواب: لا يخفى: أنّ الموجودات على قسمين: موجودات مجرّدة، وموجودات مادّيّة. فإذا عرفنا أنّ نظام هذا العالم يدور مدار العلّة والمعلول، وأنّ المعلول يكتسب ضرورة وجوده من علّته، وأنّ علم اﷲ

ص: 68


1- الرعد: 39.
2- بحار الأنوار: 4: 97.

وإرادته وقضاءه موجودة في كلّ شيء يوجبه من طريقٍ خاصّ، وأنّ هناك فرقاً بين الوجود المجرّد وبين الوجود المادّيّ، وأنّ المجرّدات مستندة إلى العلل البسيطة، وليس لها شرائط في الفاعليّة أوالقابليّة.

وبعبارة اُخرى: أن ليس فيها إلّا نوع خاصّ من الوجود، كالمجرّدات العلويّة، ولا تؤثّر فيها العلل المتعدّدة؛ فهنا _ بالتحديد _ يقع القضاء والقدر الحتميّ ولا يكون قابلاً للتغيير؛ لأنّ هذا المعلول فقط يكون مربوطاً بعددٍ من العلل التي تقع في سلسلةٍ واحدة، واستناد هذا المعلول في إيجاده إلى تلك العلل، ممّا يجعل من مآل إيجاده أمراً حتميّاً.

وأمّا الوجودات المادّيّة، فهي، علاوةً على استنادها إلى العلل البسيطة، تكون _ مع ذلك _ مستندةً إلى جملةٍ من الشرائط الإعداديّة والقابليّة، بحيث إذا تغيّرت تلك الشرائط وتبدّلت تغيّرت تلك الوجودات وتبدّلت بتبعها.

وبعبارةٍ اُخرى: بعد أن كان في هذه المادّيّات أشياء تتنقش وتتلوّن بنقوشٍ وألوانٍ مختلفة، فلا يتعيّن نوع خاصّ من القدر والقضاء، وعلّة خاصّة في تقدير وجوده، بل هناك تأثيرات مختلفة تكون في انتظاره، فلو أخذنا كلّ واحدٍ من هذه السلسلة، من المؤثّرات والعلل، فيمكن أن يفرض هناك مؤثّرات وعلل اُخرى بإمكانها أن تقع مكان تلك، فاحتمال التغيير والتبديل موجود.

أو فقل: إنّ القضاء والقدر تارةً يكونان غير معلّقين، وهي المعلولات

ص: 69

المستندة إلى العلل التامّة، وتسمّى: بالقضاء والقدرالحتميّ. وتارةً تكون مشروطةً، كما في الموجودات المادّيّة، كما قلنا في القضاء والقدر التكوينيّ المعلّق، فيقال _ مثلاً _ : لو صدر على هذه النحو لكان كذا، ولو صدر على نحوٍ آخر لكان كذا.

ولك أن تقول: هناك فرق بين القضاء والقدر؛ فإنّ المعلولات كلّها تأتي من ناحية العلل، ونسبة وجودها إلى العلل تامّة، ضروريّة، وقطعيّة، وهذه العلل بالنسبة إلى معلولاتها توجِد الفعليّة والكمال لها، وإنّ كمال المعلولات المطلق مفاض إليها من ناحية العلل، والنقصان والتغيير والتقدير يأتي من ناحية الشرائط القابليّة والمادّيّة، فما هو قابل للتغيير هو قدر الأشياء، لا القضاء؛ إذ القضاء حتميّ، والقدر هو الذي يكون قابلاً للتغيير.

وورد في الخبر: «والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء»(1)، وفي أحد معاني هذا الخبر: أنّه وسط بين القضاء الإمضاء.

وورد في الخبر أيضاً: «أنّ أمير المؤمنين(علیه السلام) مرّ يوماً من تحت حائطٍ مائل، فأسرع في المشي، فقيل له: أتفرّ يا أمير المؤمنين من قضاء اﷲ تعالى؟ فقال(علیه السلام): نعم، أفرّ من قضاء اﷲ إلى قدره»(2).وأمّا ما قاله المعتزلة: من أنّ العباد مستقلّون في أفعالهم، وأنّ كلّ ما

ص: 70


1- التوحيد: 334.
2- عوالي اللّالي: 4: 111.

يفعلونه من شيءٍ فهو تحت إرادتهم واختيارهم، وليس ﷲ دخل في ذلك.

فباطل بالوجدان؛ لأنّا نرى أنّ العبد في بعض الأشغال والأعمال يبذل غاية جهده، ويوفّر لها جميع الأسباب والوسائل، ولكنّه مع ذلك لا يوفّق في عمله، وقد تقدّم ما ورد عن أمير المؤمنين(علیه السلام) من أنّه عرف اﷲ تعالى بفسخ العزائم ونقض الهمم. كما أنّ قولهم هذا يخالف ما دلّت عليه الآيات: ﴿إِي_َّاكَ نَعْبُدُ وإِي_َّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(1)، و﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَل_ٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ﴾(2)، ويخالف _ أيضاً _ مضمون كلمة الحوقلة.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ القضاء في نظر الأشاعرة عبارة عن الإرادة الأزليّة، تعلّقت بوجود الأشياء في ظرفها، والقدر الإلهيّ عبارة عن إيجاد الأشياء بها على وجهٍ خاصّ وتقديرٍ معيّن. هذا.

وثمّة خلاف يُذكر هنا بين الأشاعرة والمعتزلة؛ فإنّ القضاء والقدر الإلهيّين بنظر الأشاعرة، عامّ يشمل كلّ شيء، وليس هناك شيء يكون خارجاً عن حيطته. وأمّا بنظر المعتزلة، فهو على العكس؛ فإنّ بعضالأشياء، وهي أفعال الإنسان الاختياريّة، خارجة عن حيطة القضاء والقدر الإلهيّين. فالأشاعرة يرون عموم القضاء والقدر، ويعتقدون بالقضاء والقدر على نحو الجبر.

ص: 71


1- الفاتحة: 5.
2- الأنفال: 17.

وننقل هنا قصّةً لطيفةً وقعت بين القاضي عبد الجبّار المعتزلي وأبي إسحاق الاسفراييني الأشعريّ بمحضر من الوزير ابن عباد، ولمّا وقع نظر القاضي عبد الجبّار على ابي إسحاق قال: «سبحان من تنزّه عن الفحشاء»، فقال أبو إسحاق: «سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء».

فكلام عبد الجبّار إشارة إلى أنّ عقيدة الأشعريّ بعموميّة القضاء والقدر سبب لانتساب الاُمور القبيحة إلى اﷲ، وهو جلّ وعلا منزّه عنها. وكلام أبي إسحاق يشير إلى أنّ اعتقاد المعتزليّ بعدم عمومية القضاء والقدر لازمها: أن يكون هناك أشياء تصدر على خلاف مشيئته، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

ولكنّ

الحقّ: ما التزمه أصحاب المذهب الحقّ بقولهم: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين»، ومعناه: أنّ الأفعال التي تصدر من الإنسان تصدر بالإرادة ومشيئة اﷲ، وليس الإنسان مجبوراً عليها، ولذا يترتّب على فعله الثواب والعقاب، وهما لا يترتّبان إلّا على الإتيان بأمرٍ اختياريّ، ولكنّ منشأ إرادته واختياره وقدرته هو ذات الباري سبحانه،فهو الذي أعطاه الإرادة والقدرة، وهو الذي بيّن له طريق الهداية والسعادة وطريق الضلال، وأخبره بأنّه مختار في اختيار أيٍّ منهما يشاء، ورتّب على أفعاله على الثواب والعقاب، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَي_ْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(1).

ص: 72


1- الإنسان: 3.

فبناءً على هذا: فكلّ فعلٍ يصدر من العبد، فإنّما هو بالقوّة والإرادة التي أعطاها اﷲ جلّ وعلا للعبد، وتكون جميع الأسباب ومسبّباتها تحت اختياره، بعد أن أفاض إليه القدرة، فلذلك يمكن أن ينسب الفعل إلى اﷲ تعالى؛ حيث إنّ إرادة العبد واختياره وأسباب ومقدّمات فعله كلّها بإرادة اﷲ تعالى التي تعلّقت بإتيان العبد الفعل اختياراً.

ويمكن أن نضرب لهذا مثالاً واضحاً، فإذا أرسل السلطان حاكماً من قِبله، وأعطاه الاختيار التامّ في إصلاح وعمران ناحيةٍ من النواحي، وأعطاه كافّة الصلاحيّات، وأخبره بأنّه متى خالف فسيعاقب، فجميع ما يفعله هذا الحاكم، من الظلم أو العدل، يمكن أن ينسب إلى الحاكم، ويمكن أن ينسب إلى السلطان نفسه.أمّا نسبته إلى السلطان؛ فلأنّه هو الذي أعطاه الاختيار، وهو الذي أبقى له على هذه الصلاحيّات، وكان بإمكانه سلب الاختيار عنه متّى ما أرد ذلك.

وأمّا

نسبته إلى الحاكم؛ فلأنّ الأفعال صدرت منه باختياره، وله كامل الاختيار بأن يفعل الفعل المحبوب وغير المحبوب، وهو ليس مجبوراً في أفعاله، فلو خالف ما أمره السلطان فإنّه يعاقب عليه ويوبّخ، ولو لم يخالف فإنّه يجزى الجزاء الحسن، ويقع في محلّ استحسانٍ من السلطان.

ص: 73

تنبيه:

اشارة

هل القضاء والقدر مترادفان أم لا؟

الظاهر: أنّهما ليسا بمترادفين، فقد يستعمل القضاء في موردٍ لا يستعمل فيه القدر، كما في قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾(1)، إشارة إلى الإيجاد الإبداعيّ والفراغ منه، وإن أمكن استعماله في الحكم في موردٍ آخر، كما في قوله تعالى: ﴿واللهُ

يَقْضِي بِالْحَقِّ﴾(2).ويأتي القدر بمعنى التحديد، كما في في قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾(3)، أي: بحدٍّ محدود.

وقد جاء في الأخبار ذكر القدريّة، وهم المنسوبون إلى القدر، ويزعمون أنّ كلّ عبد هو خالق فعله، ولا يرون المعاصي والكفر بتقدير اﷲ ومشيئته، فنُسِبوا إلى القدر؛ لأنّه بدعتهم وضلالتهم.

وقيل: القدريّة هم المعتزلة(4)؛ لإسناد أفعالهم إلى قدرتهم.

وفي الحديث: «لا يدخل الجنّة قدريّ»(5)، وهو الذي يقول: لا يكون ما شاء اﷲ ويكون ما شاء إبليس.

ص: 74


1- فصّلت: 12.
2- غافر: 20.
3- القمر: 49.
4- انظر _ مثلاً _: بداية المعارف الإلهيّة 1: 120.
5- مجمع البحرين: 3: 467.

فلننقل هنا بعض الروايات الواردة المفسّرة للقضاء والقدر بالنسبة إلى أفعال المكلّفين، وأنّهما من أيّ نوعٍ يكونان.

الرواية الاُولى:

ذكرها الصدوق مسنداً إلى الحسين بن عليٍّ(علیه السلام) _ واللّفظ لعليّ بن أحمد بن محمّد ابن عمران الدقّاق _ قال: «دخل رجل من أهل العراق

على أمير المؤمنين(علیه السلام)، فقال: أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام، أبقضاءٍ من اﷲ وقدر؟ فقال له أمير المؤمنين(علیه السلام): أجل يا شيخ، فواﷲ ما علوتم تلعةً ولا هبطتم بطن وادٍ إلّا بقضاءٍ من اﷲ وقدر. فقال الشيخ: عند اﷲ أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال: مه يا شيخ، فإنّ اﷲ قد عظّم اﷲ أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيءٍ من اُموركم مكرهين، ولا إليه مضطرّين، لعلّك تظنّ قضاءً حتماً وقدراً لازماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعيد والوعد، ولم يكن على مسيءٍ لائمة، ولا لمحسنٍ محمدة، ولكان المحسن اُولى باللّائمة من المذنب، والمذنب اُولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وقدريّة هذه الاُمة و مجوسها. يا شيخ: إنّ اﷲ عزّ وجلّ كلّف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع

ص: 75

مكرهاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ﴿ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار﴾»(1).

والرواية الثانية:

عن أبي عبد الصادق(علیه السلام) قال: «إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل يزعم أنّ اﷲ عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم اﷲ في حكمه، فهو كافر. ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم، فهذا قد أوهن اﷲ في سلطانه، فهو كافر. ورجل يزعم أنّ اﷲ كلّف العباد ما يطيقون، ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، وإذا أحسن حمد اﷲ، وإذا أساء استغفر اﷲ، فهذا مسلم بالغ»(2).

والرواية الثالثة:

وقد مرّ ذكرها، وهي: ما عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام) أنّه قال _ وقد ذكِر عنده الجبر والتفويض _:

«ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه، قلنا: إن رأيت ذلك، فقال: إنّ اﷲ عزّ وجلّ لم يطع بإكراهٍ، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر

ص: 76


1- انظر: التوحيد: 380_ 381، والكافي 1: 155، بتفاوتٍ يسير في بعض ألفاظ الحديث بين الكتابين.
2- التوحيد: 360_ 361.

على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اﷲ عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وان ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحولبينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال(علیه السلام) من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه»(1).

وقال اﷲ تعالى _ في الحديث القدسيّ _: «يابن آدم بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوّتي أدّيت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً، ما أصابك من حسنةٍ فمن اﷲ، وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسك»(2).

وهنا بعض الشبهات التي قد يتصوّر بظاهرها أنّها موارد للجبر:

الاُولى:

أنّ ما يصدر من العبيد من الأفعال هل اﷲ تعالى عالم به أم لا؟ وهل هو يعلم أنّ الكافر يختار الكفر والفاسق يختار الفسق أم لا؟ فإذا كان يعلم بأنّ الكافر يختار الكفر، والفاسق يختار الفسق، فلِمَ خلقهما؟! وأيضاً: فلو كان الكافر أو الفاسق متمكّناً من ترك الكفر والفسق لتبدّل علم اﷲ بالجهل، وهو باطل. فهما _ إذاً _ مجبوران على الكفر والفسق...كما نُسِب ذلك إلى عمر الخيّام ومضمون شعره:

شربي الخمر معلوم ﷲ من الأزل *** وإن لم أشربه تبدّل علمه إلى جهل.

ص: 77


1- التوحيد: ص 361.
2- الكافي 1: 152.
والجواب عنها:

أنّ علمه تعالى ليس علّةً للكفر ولا للفسق، بل بما أنّ الكافر يختار الكفر والفسق فاﷲ يعلم به. وأمّا الحكمة في خلقهما، فهي أنّ اﷲ تعالى بما أنّه فيّاض مطلق، وفيضه يصل إلى العامّة، بل إلى مطلق الموجودات، يعطي منه للمؤمن وغير المؤمن، كأسباب الهداية التكوينيّة من أمثال العقل والجوارح والقدرة والاختيار، وكذا أسباب الهداية التشريعيّة كإرسال الرسول وبيان الأحكام والتكاليف، ولا فرق بين المؤمن والكافر في القدرة والاستفاده منها، ولكنّ المؤمن بحسن سريرته، يستفيد منها للوصول إلى الإيمان، والكافر والفاسق بسوء سريرتهما لا يستفيدان منها للوصول إلى الهداية، بل تكون كلّ هذه الأسباب مزالق لهما للهبوط إلى الهاوية.

والثانية:يظهر من بعض الروايات: أنّ الشقاوة والسعادة ذاتيّتان للسعيد والشقيّ، «الشقيّ شقيّ في بطن اُمّه»(1)، وقد ورد في بعض الروايات الأُخَر «أنّ الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة»(2)، و«شيعتنا منّا خُلِقوا من فاضل طينتنا، وعُجِنوا بماء ولايتنا»(3)، إلخ.. وقد أشار إلى بعض هذه

ص: 78


1- الكافي 8: 81.
2- الكافي 8: 177.
3- بحار الأنوار 53: 303.

الروايات صاحب الكفاية) (1).

وفيه:

أوّلاً: أنّ الرواية غير صحيحةٍ من جهة السند.

وثانياً: لو سُلِّم صحّتها وصدورها من المعصوم(علیه السلام) فهي ليست منافيةً للاختيار، وليس معناها أنّ كلّما يصدر من العبد من الخير والشرّ يكون بمقتضى طبيعته حتّى يصبح مجبوراً؛ لأنّه خلاف الوجدان، ولذا، لو فرِض أنّ طينة شخص من العلّيين وطينة الأخرس من سجّين، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّها تكون علّةً تامّة لحصول السعادة والشقاوة له، بل هما مقتضيات، والمعلول لا يوجد في الخارج إلّا مع وجود العلّة التامّة.وثالثاً: حتى لو فُرِض أنّها مقتضيات، فيحتاج حصول السعادة أو الشقاوة إلى أسبابٍ أُخرى، مثلاً: السعادة بالنسبة إلى الشخص تحصل بوجود الأسباب، كالمعارف وتكميل النفس والأخلاق الفاضلة والطاعة وترك المعصية، كما أنّ اختيار الكفر _ أيضاً _ يحتاج إلى اُمورٍ عدّة: كاختيار العقائد الفاسدة والجريمة والطغيان حتّى يصبح كافراً.

قال المحقّق السبزواري) في المنظومة:

إذ خمرت طينتنا بالملكة *** وتلك فينا حصلت بالحركة(2).

ص: 79


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 68.
2- شرح المنظومة 1: 515.

أي: أنّه لو وجدت القابليّة لطينتنا، ولكن في مقام الفعليّة نحتاج إلى أفعال وعقائد وحركاتٍ اختياريّة.

وبعبارةٍ أُخرى: _ وكما يقال: فكل أرضٍ كرويّة، ولكن ليس كلّ كرويٍّ أرضاً _ فكل من أصبح سعيداً كانت له القابليّة من بطن اُمّه، لا أنّ كل من له قابليّة يصبح سعيداً. فالأطفال الذين يعيشون في بلاد الإسلام لهم القابليّة والاستعداد للسّعادة، والأسباب مهيّئة لهم أكثر من الأطفال الذي يعيشون في بلاد الكفر، ولكنّ هذا لا يكون سبباً لسلب الاختيار بالنسبة إليهم.فإذا اختار من كانت أسباب السعادة مهيّئةً بالنسبة إليه الكفر، يكون مشمولاً لقوله تعالى في نساء النبيّ-: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾(1).

أي: ليس قدركنّ كقدر غيركنّ من الصالحات، فأنتنّ أكرم عليّ وأنا بكم أرحم، وثوابكنّ أعظم لمكانكنّ من رسول اﷲ، وإنّ مقتضيات التقوى والإيمان فيكنّ أكثر...

فنقول: أمّا ما ورد من الأخبار من عدم دخول أولاد الزنا في الجنّة بواسطة بغضهم لأهل البيت( أو أنّ أكل الوالدين للحرام وارتكابهما المعاصي يؤثّران في الأولاد.

ص: 80


1- الأحزاب: 32.

وأمّا عدم دخول أولاد الزنا في الجنّة فإنّه محمول على الاقتضاء، لا العلّيّة التامّة، أي: أنّ مقتضيات الكفر والضلال وعدوانهم لأهل البيت( أكثر، لا بمعنى: أنّ الاختيار قد سُلِب منهم، وأنّهم لا يتمكّنون من تحصيل الإيمان والعمل الصالح، بل إذا ولِدوا من الزنا فيكون هذا كالمقتضي للضلالة، لا العلّة التامّة.وأمّا أكل الحرام بالنسبة إلى الوالدين، أو ارتكابهما للمعاصي، الذي يُؤثّر في أولادهما، فيكون _ أيضاً _ من باب المقتضي، لا العلّة التامّة.

ص: 81

ص: 82

الكلام في صيغة الأمر

اشارة

وقد ذكروا لها عدّة معانٍ:

منها: الطلب كقولك: اصنع كذا.

ومنها الإنذار، كقوله تعالى: ﴿قُلْ تَمَتَّعُواْ﴾(1).ومنها: الإهانة، كقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْ_كَرِيمُ﴾(2).

ومنها: التعجيز، كقوله تعالى: ﴿فَأْت__ُواْ بِسُورَة ٍ﴾(3).

ومنها: التسخير، كقوله تعالى: ﴿كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ﴾(4).

ومنها: الدعاء، كقوله تعالى: ﴿رَبّ ِ اغْفِرْ لِي﴾(5).

ص: 83


1- ابراهيم: 30.
2- الدخان: 49.
3- البقرة: 23.
4- البقرة: 65.
5- الأعراف: 151.

ومنها: التكوين، كقوله تعالى: ﴿كُن فَيَكوُنُ﴾(1).

وهل استعمال الصيغة في هذه الاُمور على نحو الاشتراك اللّفظيّ أو المعنويّ؟ أو أنّه في البعض على نحو الاشتراك اللّفظيّ وفي الآخر على نحو الاشتراك المعنويّ؟؟ وهل الاستعمال في الجميع على نحو الحقيقة أو أنّه في بعضها حقيقة وفي الآخر مجاز؟؟

لا يخفى: أنّه لا يمكن القول بأنّ الصيغة قد وُضِعت على نحو الاشتراك اللّفظيّ أو المعنويّ؛ لأنّه، وكما ذكرنا، فلكلٍّ من الماضيوالمضارع والأمر مادّة وصورة، أمّا المادّة: فليست سوى الحدث، وأمّا الهيئة فهي تدلّ على نسبة المادّة إلى فاعلٍ ما.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ حال صيغة الأمر هو كحال صيغة المضارع والماضي، فكما أنّه لا يكون الزمان دخيلاً فيهما، فكذلك في صيغة الأمر، فهي أيضاً مركّبة من المادّة والهيئة، والمادّة فيها لا تدلّ إلّا على الحدث، والهيئة فيها ليس لها دلالة على ما سوى نسبة المادّة إلى فاعلٍ ما، ولكنّ هذه النسبة في الماضي غير المضارع والأمر، فهي في الماضي تدلّ على النسبة التحقيقيّة، وفي المضارع على النسبة التلبّسيّة أو الترقّبيّة، وفي الأمر على الإيقاعيّة.

وهنا، فإنّ الصيغة لم تُستعمل إلّا في الطلب فقط، وأمّا بقيّة المعاني

ص: 84


1- البقرة: 117.

فما هي إلّا من قبيل الدواعي؛ لأنّ الداعي إلى الطلب تارةً يكون هو النسبة الإيقاعيّة، واُخرى يكون غيرها، ولذا، فهو لا يكون قابلاً للإخبار بعدما عرفتَ من اقتضاء الصيغة للإنشاء، وبعد ما هو معلوم من المضادّة بين الإخبار والإنشاء، وأمّا بعض الماضي، فيصلح لأن يقع لكلٍّ من الإنشاء والإخبار.

قال صاحب الكفاية(قدس سره): «أنّه ربّما يذكَر للصيغة معانٍ قد استُعملت فيها، وقد عدّ منها: الترجّي والتمنّي والتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير، إلى غير ذلك... وهذا كما ترى، ضرورة أنّ الصيغةما استُعملت في واحدٍ منها، بل لم يُستعمل إلّا في إنشاء الطلب، إلّا أنّ الداعي إلى ذلك كما يكون تارةً هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعيّ [وهو الذي ينصرف إليه اللّفظ عند الإطلاق]، يكون اُخرى أحد هذه الاُمور، كما لا يخفى. قصارى ما يمكن أن يدَّعى: أن تكون الصيغة موضوعةً لإنشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك، لا بداعٍ آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثاً حقيقةً، وإنشاؤه بها تهديداً مجازاً، وهذا غير كونها مستَعمَلةً في التهديد وغيره»(1).

والحقّ: أنّ الدواعي لا يمكن أخذها في الموضوع له؛ لأنّها من شؤون الاستعمال ويكون متأخّراً عن الوضع، ولا يمكن أخذ المتأخّر

ص: 85


1- كفاية الاُصول: ص 69.

في المتقدّم. فالمعنى فيها واحد، ولم تُستعمل الصيغة في واحدٍ من هذه المعاني المذكورة، فضلاً عن أن تكون موضوعاً لها.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الصيغة بما أنّها مركّبة من المادّة والهيئة، فالهيئة موضوعة للنسبة الطلبيّة، وأمّا المادّة: فهي موضوعة للحدث الكذائيّ الشخصيّ، بلا فرقٍ بين أن يتهيّأ بهيئة الأمر أو الماضي أو المضارع.

ولهذه المادّة نسبتان: نسبة إلى الآمر، وتسمّى: بالنسبة الباعثيّة، ونسبة إلى المأمور به، وتسمّى: بالنسبة المبعوثيّة إلى إيجاد المادّة.فقد تحصّل: أنّ هذه الاُمور من الدواعي، وأنّها خارجة عن الموضوع له والمستَعمل فيه، لعدم دلالة شيءٍ من المادّة ولا الهيئة على ذلك.

نعم، لا بأس بأنّ يستفاد من الصيغة أنّها ظاهرة في كونها بداعي البعث والتحريك، بحيث يُحمل اللّفظ عليه عند الإطلاق والتجرّد من القرينة، وهذا المقدار كافٍ لحملها على الطلب، ولو لم تكن موضوعةً له، ويمكن تبرير هذه الاستفادة من وجوه:

الوجه الأوّل: غلبة الاستعمال في ذلك، على أن تكون هذه الغلبة قد حصلت ولو بالنسبة إلى مجموع سائر الدواعي _ وإن لم يمكن أن تُدّعى بالنسبة إلى أحدها خاصّةً _ وقد صارت هذه الغلبة سبباً لظهور الصيغة في الإنشاء الجدّيّ والبعث والتحريك الحقيقيّ، ولو كانت امتحانيّةً، وإن كان صدق الطلب على الامتحانيّة ليس لمكان مطلوبيّة الفعل؛ لأنّ المفروض _ عادةً _ أنّ الفعل لا يكون فيه مصلحة، بل إنّما يُؤمَر به لأجل

ص: 86

الامتحان ولنفس تحريك عضلات العبد نحو إيجاده، وإنّما يكون الفعل مطلوباً إذا كان فيه المصلحة؛ لأنّ الصحيح _ كما أشرنا آنفاً _ أنّ الأمر تابع للمصالح والمفاسد في متعلّقاته.

والوجه الثاني: أنّ الأصل العقلائيّ هو الذي يقتضي ذلك؛ فإنّ ديدن العقلاء في جميع محاوراتهم أن يحملوا الإنشاء على الجدّ؛ لأنّسيرتهم في المحاورات جارية على موافقة الإرادة الاستعماليّة للإرادة الجدّيّة، كما هو واضح من باب الإقرار _ مثلاً _ .

والوجه الثالث: أنّ مقدّمات الحكمة تقتضي حمل الإنشاء على الإنشاء الحقيقيّ، وبنحو الجدّ؛ لاحتياج حملها على معانٍ غير جدّيّة إلى قرينة.

وممّا ذكرنا من أنّ الصيغة لم توضع لإحدى تلك المعاني، بل للصّيغة معنىً واحد، والمعاني بأجمعها خارجة عنها، يظهر:

أنّه لا معنى للقول بالانسلاخ لو استعمِلت في تلك المعاني، أي: الترجي والتمنّي والاستفهام وغيره في كلام اﷲ؛ لاستحالة إرادة تلك المعاني بالنسبة إليه تعالى؛ لأنّ استعمالها في تلك المعاني مستلزم للجهل والعجز المستحيلين في حقّه تبارك وتعالى؛ لأنّ المستحيل هو الإنشاء الحقيقيّ، لا الإيقاعيّ، فإذا استعمِلت في كلامه كذلك، فليس لإظهار ثبوتها حقيقةً، بل لأمرٍ آخر، كما نرى ذلك في مثل قوله

ص: 87

تعالى: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ﴾(1)، فيكون الداعي هو التوبيخ، أوقوله:

﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾(2)، فيكون الداعي هو الإنكار، أو قوله: ﴿أَصَلاَتُكَ

تَأْمُرُكَ﴾(3)، فيكون الداعي هو التعجّب.

إذا عرفت ذلك تعلم: أنّه حينما قلنا بأنّ الصيغة موضوعة لمعنىً واحد، أي: الطلب الإنشائيّ، وأنّ الدواعي قد تختلف، فإنّه قد يكون واقعاً للطلب الحقيقيّ، وقد يكون للتهديد أو للاحتقار أو لغير ذلك من الاُمور.

هل صيغة الأمر حقيقة في الوجوب أو في الندب؟

الأقوال في المسألة ثمانية كما ذكروا:

الأوّل: كونها حقيقةً في الوجوب.

والثاني: كونها حقيقةً في الندب.

والثالث: الاشتراك اللّفظيّ بينهما.

والرابع: الاشتراك المعنويّ.

والخامس: القول بالاشتراك اللّفظيّ بين الوجوب والندب والإباحة.

والسادس: القول بالاشتراك اللّفظيّ بين الوجوب والندب والإباحة

ص: 88


1- الإسراء: 40.
2- الصّافّات: 95.
3- هود: 87.

والتهديد.

والسابع: الاشتراك المعنويّ بينها.

والثامن: التوقّف.

ولكنّ هذه الأقوال، وإن كانت كثيرةً، إلّا أنّ العمدة منها قولان:

أحدهما: كونها للوجوب، أي: للطلب الإلزاميّ، أو أنّها ظاهرة فيه؛ للانصراف.

والثاني: كونها حقيقةً في الجامع بينه وبين الندب _ وهو بمعنى: الطلب غير الإلزاميّ _.

وقبل الدخول في البحث لابدّ من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في بيان معنى الوجوب والاستحباب:

لا يخفى: أنّ الأوامر الصادرة من المولى في الكتاب والسنّة على قسمين، أحدهما: ما يراد بها اللّزوم والحتم، بحيث لا يجوز للعبد مخالفته. والثاني: ما يراد بها البعث، ولكن بحيث يكون للعبد الخيار في تركها، بمعنى: أنّه يجوز له مخالفتها، ويُسمّى الأوّل ﺑ «الوجوب»، والثاني ﺑ «الندب».

والأمر الثاني: في بيان بساطة الوجوب والندب وتركيبهما:

اشارة

قد يقال: إنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل مع المنع من الترك،

ص: 89

والاستحباب مركّب من طلب الفعل مع الترخيص في الترك.

وقد يقال: الفرق بين الوجوب والاستحباب إنّما هو: شدّة الطلب في الأوّل، وعدم شدّته في الثاني.

والحقّ: ما ذهب إليه المحقّق النائيني(قدس سره) من أنّها قد وُضِعت لمطلق الطلب، خلافاً لصاحب الكفاية) الذي اختار وضعها للطلب الوجوبيّ(1).

كلام المحقّق النائيني(رحمة الله):

ولا بأس هنا بأن نذكر ما سلكه المحقّق النائيني(قدس سره) في تحقيق المسألة _ مدّعياً عدم الوجه في البحث عن تشخيص الموضوع له، وأنّه هل الوجوب أو الندب أو الأعمّ منهما؛ لأنّ الطلب الوجوبيّ ليس سنخاً آخر غير الطلب الندبيّ، بل هما من سنخٍ واحدٍ وبمعنىً فارد؛ فإنّ الوجوب إنّما يستفاد من حكم العقل بلزوم إطاعة المولى، وعليه:فليس هناك نحوان من الطلب ثبوتاً كي يتَنازع في كون أيّهما هو الموضوع له _ فقد جاء في تقريرات بحثه للاُستاذ الأعظم(قدس سره):

«أنّ المتقدّمين من الأصحاب ذهبوا إلى تركّب الوجوب والاستحباب من جنسٍ، وهو: طلب الفعل، وفصلٍ، وهو المنع من الترك أو الإذن فيه، وهذا القول رفضه المحقّقون من المتأخّرين، وذهبوا إلى أنّهما

ص: 90


1- كفاية الاُصول: ص 70. قال(قدس سره) ما نصّه: «لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة، ويؤيّده عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحالٍ أو مقال».

مرتبتان بسيطتان من الطلب، والمنع من الترك وعدمه من لوازم شدّة الطلب وضعفه، لا أنّهما مقوّمان لحقيقة الوجوب والاستحباب، بداهة عدم خطور المعنى المركّب عند استعمال الصيغة في الوجوب أو الاستحباب...»(1).

وما ذهب إليه المحقّق النائيني(قدس سره) هو أنّ الطلب غير قابلٍ للشدّة والضعف، وأنّ المستَعمل فيه في كلتا الحالتين _ سواء كان الفعل ضروريّ الوجود أو غير ضروريّ الوجود _ ليس إلّا النسبة الإيقاعيّة، بمعنى: إيقاع المادّة على المخاطب من دون أن يكون هناك شدّة وضعف في المستعمل فيه، بل هو واحد في كلّ الحالات.

وأمّا الإرادة: فهي، وإن كانت في نفسها قابلةً للشّدّة والضعف، إلّا أنّ الإرادة فيما نحن فيه هي الشوق المؤكّد المستَتبع لتحريك العضلات،وغير ذلك لا يكون إرادةً، وهذا المعنى من الإرادة غير قابلٍ للشدّة والضعف.

قال(قدس سره): «فإنّ ما يُستعمل فيه الصيغة في موارد الوجوب والاستحباب ليس إلّا النسبة الإيقاعيّة، ولا شدّة ولا ضعف فيها، وأمّا الطلب القائم بالنفس في الأفعال التكوينيّة، فهو _ أيضاً _ كذلك؛ لأنّه _ كما عرفتَ _ عين الاختيار وتحريك النفس للعضلات، وهو في جميع الأفعال على

ص: 91


1- أجود التقريرات 1: 94_ 95.

حدٍّ سواء. وأمّا الإرادة، فهي، وإن كانت كانت قابلةً للشدّة والضعف في حدّ نفسها، إلّا أنّها ما لم تشتدّ بحيث يترتّب عليها تحريك النفس للعضلات لا تكون إرادةً، سواء كان المراد فعلاً من الأفعال الضروريّة أو غيرها».

إلى أن يقول: «إذا عرفتَ ذلك، فاعلم: أنّ الصيغة متى صدرت من المولى فالعقل يحكم بلزوم امتثاله باقتضاء العبوديّة والمولويّة، ولا يصحّ الاعتذار عن الترك بمجرّد احتمال كون المصلحة غير لزوميّةٍ، إلّا إذا كانت هناك قرينة متّصلة أو منفصلة على كونها غير لزوميّة».

فنقول _ كما قال(قدس سره) _: إنّ الصيغة لا تدلّ على معنىً مركّبٍ من طلب الشيء مع المنع من الترك، ولا يكون فيها المرتبة الشديدة ولا الضعيفة، بل وُضِعت لنفس الطلب ويفهم الوجوب أو الندب من الخارج، وهو الدليل العقليّ، أي: اقتضاء حقّ المولويّة والعبوديّةوتحتيمه على العبد أن يأتي بالفعل بمجرّد أن يأمره المولى، بحيث لا يجوز له الترك إلّا مع وجود قرينة على جوازه. والدليل على ذلك هو: حسن معاقبة المولى لعبده على مخالفته وأنّه لا يقبَل اعتذاره عنها: بأنّي تخيّلت أنّها قد اُريدَ منها الندب.

وإذا عرفت هذا فاعلم:

أنّه

لو كانت هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة على تعيين أحدهما، فلا إشكال، وإن لم تكن، فالصيغة لا تدلّ بنفسها، لا على الوجوب ولا على الندب.

ص: 92

وهناك أقوال في المسألة:

الأوّل: أنّها موضوعة للوجوب ومجاز في غيره.

والثاني: أنّ الوجوب يُستفاد منها بالإطلاق؛ لأنّ غير الوجوب يحتاج إلى مؤونةٍ زائدةٍ، وذلك باعتبار أنّ الوجوب أمر بسيط.

والثالث: أنّ الوجوب يُستفاد منها بمقدّمات الحكمة.

والرابع: أنّها تدلّ على الوجوب بحكم العقل _ كما هو الصحيح _ بمقتضى قانون العبوديّة والمولويّة فيما إذا لم ينصب قرينةً على الترخيص فلابدّ من الإتيان بالفعل.

واختار صاحب الكفاية(قدس سره) القول الأوّل، وهو أنّها موضوعة للوجوب ومجاز في غيره.واستدلّ

لذلك بالتبادر(1)، ويمكن تقريبه: بأنّ المنسبق إلى الذهن عند إطلاقها عند التجرّد من القرينة _ حاليّةً كانت أو مقاليّةً _ هو الوجوب، وبما أنّ التبادر مستند إلى حاقّ اللّفظ، فتكون الصيغة موضوعةً للوجوب؛ إذ لو كانت حقيقةً في الندب وحده، أو على سبيل الاشتراك اللفظيّ أو المعنويّ بينهما، لم يتبادر الوجوب خاصّةً، كما لا يخفى.

وقد استشكل المحقّق العراقيّ) في تقريرات بحثه في وضع الصيغة

ص: 93


1- كفاية الاُصول: ص 70.

للوجوب؛ لعدم العلم باستناد التبادر إلى حاقّ اللّفظ ونشوئه عن الوضع(1).

ثمّ أيّد كلامه بعدم قبول اعتذار العبد لو خالف الأمر باحتمال أنّ المولى قد أراد المعنى الندبيّ، وصحّت مؤاخذة المولى له.

وإنّما جعل هذا الكلام مؤيِّداً ولم يجعله دليلاً؛ لاحتمال أنّ استفادة الوجوب إنّما كانت من جهة ظهور الصيغة في الوجوب، ولو لم تكن من جهة الدلالة الوضعيّة بل كان منشؤها الانصراف أوالإطلاق والتمسّك بمقدّمات الحكمة، وعليه: فهذا الاحتجاج لا يدلّ على الوضع، ولا يقتضي كونها موضوعةً للوجوب.

ثمّ أورد على ذلك: بكثرة استعمال الصيغة في الندب، وهي _ أي: هذه الكثرة _ تشكّل مانعاً من ظهورها في الوجوب، وتبادر ذلك منها، لوضوح أنّها لو لم تكن موجبةً لظهورها فيه، فلا شبهة في أنّها مانعة من انفهام الوجوب منها، فلا يمكن حملها عليه عند الإطلاق مجرّدةً عن القرينة.

ثمّ أجاب) عن ذلك:

أوّلاً: بأنّ استعمالها في الندب ليس بأكثر من استعمالها في الوجوب لتكون كثرة الاستعمال فيه مانعاً من ظهورها في الوجوب.

ص: 94


1- بدائع الأفكار 1: 212.

وثانياً: بأنّ كثرة استعمال اللّفظ في المعنى المجازيّ مع القرينة لا تكون _ أبداً _ مانعاً عن حمله على المعنى الحقيقيّ عند إطلاقه مجرّداً عنها، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ كثرة استعمال الصيغة في الندب مع القرينة لا يمكن أن تمنع من حملها على الوجوب إذا كانت خاليةً عنها.

ثمّ استشهد على ذلك: بكثرة استعمال العامّ في الخاصّ حتّى قيل: (ما من عامٍّ إلّا وقد خصّ)، ومع هذه الكثرة فلم ينثلم ظهور العامّ فيالعموم إذا ورد في الكتاب والسنّة ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخاصّ(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: ما ذكرناه مراراً: من أنّ التبادر ليس علامة الحقيقة.

وثانياً: سلّمنا تحقّق التبادر، وأنّه علامة الحقيقة، إلّا أنّ ذلك فقط إذا كان منشؤه حاقّ اللّفظ، ولكنّ كونه هنا كذلك غير معلوم؛ إذ إنّ مجرّد انفهام المعنى من اللّفظ لا يكون علامةً على كون ذاك اللّفظ حقيقةً فيه،

ص: 95


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 70. وإليك نصّ كلامه): «وكثرة الاستعمال فيه [أي: في الندب] في الكتاب والسنّة وغيرهما لا توجب نقله إليه أو حمله عليه؛ لكثرة استعماله في الوجوب أيضاً، مع أنّ الاستعمال وإن كثر فيه، إلّا أنّه كان مع القرينة المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازيّ لا توجب صيرورته مشهوراً فيه ليرجح أو يتوقّف، على الخلاف في المجاز المشهور، كيف؟! وقد كثر استعمال العامّ في الخاصّ، حتى قيل: (ما من عامٍّ إلّا وقد خُصّ) ولم ينثلم به ظهوره في العموم، بل يُحمل عليه، ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص».

بل يبقى احتمال أن يكون التبادر ناشئاً من جهة الإطلاق أو مقدّمات الحكمة. فقد يقال هنا: إنّ منشأ الظهور في الوجوب إنّما هو مقدّمات الحكمة.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الإرادة إذا تعلّقت بفعلٍ، فتارةً يكون ذلك على نحو اللّزوم، وتكون شديدةً وأكيدةً بحيث لا يريد المولى لإرادته أن تتخلّف عن مراده. وأُخرى تكون ضعيفةً، بحيث لا يكون تعلّقها بهمانعاً عن التخلّف، بل هناك رخصة في الترك، ولا يكون العبد ملزَماً بالفعل، بل جعل إتيان الفعل وتركه باختياره، له فعله وله تركه:

فالأوّل: أي: إذا كان الطلب على سبيل الحتم واللّزوم، يعبّر عنه ﺑ(الوجوب)، والوجوب يكون مرآةً وكاشفاً عن الإرادة الشديدة.

والثاني: أي: إذا لم يكن الطلب على سبيل اللّزوم، يعَبَّر عنه ﺑ (الندب)، وهو يكون مرآةً ومثالاً موضوعيّاً للمرتبة الضعيفة.

وقد

يقال هنا: إنّ شدّة الطلب ليست إلّا عين الطلب؛ لأنّ ما به الامتياز عين ما به الاشتراك، نظير: الوجود الواجبيّ، أو السواد والبياض الشديدين؛ حيث إنّ ما به الاشتراك فيهما هو عين ما به الامتياز، وعليه: فشدّة الإرادة هي عين الإرادة، وليست أمراً زائداً عليها حتّى تدفع بالأصل. وهذا بخلاف الاستحباب؛ فإنّه عبارة عن الطلب الضعيف _ كما قيل _ والضعف ليس إلّا عدم الشدّة، فيكون أمراً عدميّاً، وحينئذٍ: فما به الامتياز لا يعود من سنخ ما به الاشتراك،

ص: 96

فيكون مركّباً، فيحتاج إلى مؤونةٍ زائدة، فيتمّ دفعها بالأصل.

وبالتالي: فإذا كان المولى في مقام البيان، ولم ينصب قرينةً على إرادة واحدٍ منهما بعينه، أو على إرادة الجامع، فقضيّة الإطلاق هو الوجوب؛ لاحتياج الاستحباب إلى أمرٍ زائدٍ، كما بيّنّا.ولكنّ الحقّ: أنّ الإرادة لا يُتَصوّر فيها الشدّة أو الضعف؛ إذ هي _ كما سبق _ نفس الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات، فحيث وصل الشوق إلى هذا الحد فهي الإرادة، وإلّا، فلا، سواء كان متعلّقهما لزوميّاً أو غير لزوميّ.

وقد يقال: بأنّ هذا إنّما يتمّ في الإرادة التكوينيّة، وأمّا التشريعيّة: فإنّما تكون تابعةً للمصلحة التي تنشأ منها، فإن كانت هذه المصلحة لزوميّةً، كانت الإرادة التي نشأت منها لزوميّةً أيضاً، وإن كانت غير لزوميّةٍ كانت الإرادة غير لزوميّة.

ولكنّ الاُستاذ الأعظم(قدس سره) أجاب عن هذا:

بأنّ الإرادة، ولو كانت تشريعيّةً، ولكن لا يُعقَل أن تختلف شدّةً وضعفاً.

ثمّ قال: «لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ مردّ اختلاف الوجوب والندب إلى اختلاف الإرادة شدّة وضعفاً، إلّا أنّ دعوى كون الإرادة الشديدة لا تزيد على الإرادة بشيءٍ، فهي إرادة صرفة دون الإرادة الضعيفة؛ فإنّها لمكان ضعفها زائدة على الإرادة وهي صفة ضعفها؛ فإنّها حدّ عدميّ،

ص: 97

خاطئة جدّاً. وذلك لأنّ الإرادة بشتّى ألوانها وأشكالها محدودة بحدٍّ، من دون فرقٍ في ذلك بين الإرادة الشديدة والضعيفة، كيف؟! فإنّهما مرتبتان متضادّتان من الإرادة. وعليه: فبطبيعة الحاليكون لكلٍّ منهما حدّ خاصّ. وإن شئتَ فقل: إنّ الإرادة التي هي واقع الوجوب وروحه من الاُمور الممكنة، ومن البديهيّ: أنّ كلّ ممكنٍ محدود بحدٍّ خاصّ، غاية الأمر: يزيد الوجوب على الندب بشدّة الإرادة»(1).

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الطلب، من أيّة مقولةٍ كان، أي: سواء كان من مقولة الكيف النفسانيّ، أو من فعل النفس، فإنّه يكون محدوداً، فكما أنّه يُطلَق على القليل والكثير، ومع هذا يكون محدوداً، فكذلك في المقام. ولا يمكن قياسه على الوجود الواجبيّ؛ فإنّه بسيط من جميع الجهات، وهو نفس الوجود، وهذا بجميع أقسامه ليس بمركّبٍ، ولا حدّ له، أي أنّه لا يكون مركّباً من الأجزاء الخارجيّة، ولا من الأجزاء العقليّة من الجنس والفصل، ولا من الأجزاء الوهميّة من المادّة والصورة، ولا من الأجزاء المقداريّة.

وقد تحصّل بذلك: أنّ جميع ما عدا واجب الوجود، يكون مركّباً محدوداً، ولو من الماهيّة والوجود، فالقول بعدم تركّب الطلب بكلا قسميه باطل.

ص: 98


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 129.

وظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ صيغة (افعل) موضوعة للطلب فقط، وليست موضوعةً، لا للوجوب، ولا للندب.

ومن هنا ظهر فساد ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:

«وإذا ثبت الاختلاف ثبوتاً من حيث المبدأ والمنتهى، أمكن دعوى رجوع اختلاف الوجوب والاستحباب إلى الاختلاف في المدلول اللّفظيّ، بأن يقال: إنّ الوجوب هو الطلب الناشئ عن الإرادة الحتميّة الأكيدة، والاستحباب هو الطلب الناشئ عن الإرادة غير الحتميّة».

إلى أن يقول(قدس سره): «وبالجملة: يمكن دعوى اختلاف الوجوب والاستحباب وضعاً، وأنّ الصيغة التي يراد بها الوجوب تُستَعمل في غير ما تُستَعمل فيه لو أُريدَ الندب»(1).

وجه الفساد: أنّ للصّيغة مادّةً وهيئةً، فالمادّة تدلّ على الحدث، والهيئة على مطلَق الطلب، فأيّ شيءٍ هو الذي يدلّ على الشدّة والضعف حتّى يتصوّر كونه مركّباً؟!

وأيضاً: قد ظهر: أنّ استعمال الصيغة في الوجوب والندب إنّما يكون بنحوٍ واحدٍ وعلى طرزٍ واحد.فإن قلت: إذاً، من أين نفهم أنّ العبد لابدّ له أن يأتي حتماً بما أمره المولى؟

ص: 99


1- منتقى الاُصول 1: 402.

قلنا: إنّ العقلاء يحكمون بلزوم إطاعة الأوامر الصادرة عن المولى، وبه تتمّ الحجّة عليه بعد صدور البعث من المولى، ويغدو عذره بتركه للعمل باحتمال تخيّل أنّ البعث لم يكن على نحو الحتم غير مقبولٍ عندهم، بل هم يبنون على أنّ بعث المولى لابدّ أن لا يترك. وليس عدم جواز الترك عندهم لأجل أنّ الصيغة قد وضِعت للطّلب الحتميّ، ولا من جهة الإطلاق، ولا مقدّمات الحكمة، بل حكمهم بالوجوب إنّما هو لأجل البعث الصادر من المولى، فهذا هو اقتضاء قانون المولويّة والعبوديّة في نظر العقلاء، فلابدّ للعبد من الإطاعة والإتيان بالفعل، ما لم يرد ترخيص من المولى في الترك، ولذا، لا يُقبل اعتذاره، كما ذكرنا.

وبهذا نفهم: أنّ العبد يجب أن يأتي بما أمر به فوراً، كما سيأتي بيانه إن شاء اﷲ.

ثمّ إنّه، وبعد أن التزمنا بأنّ الأمر موضوع للطّلب، فاستعمال الصيغة في الوجوب والندب جميعاً في مثل قوله: «اغتسل للجمعة والجنابة» لا يكون مجازاً، بل يكون على نحو الحقيقة؛ لأنّ الصيغة مستَعملة في خصوص الطلب، وإنّما نفهم الرخصة في ترك الجمعة من الخارج،ولولا وجود القرينة على استحبابيّة غسل الجمعة لكان لابدّ أن يؤتى بغسل الجمعة على نحو الحتم واللّزوم؛ إذ إنّ ذلك هو مقتضى المولويّة وحقّ العبوديّة، ولذا، لا يقبل منه الاعتذار في الترك.

وما يقال: من أنّ الصيغة وإن كانت موضوعةً لإنشاء الطلب، ولكنّها

ص: 100

تنصرف هنا عند الإطلاق إلى خصوص الوجوب.

ففيه: أنّه لا يمكن دعوى الانصراف؛ لأنّ الانصراف إنّما يُتَصوّر إذا كان الشيء من الماهيّات المشكّكة التي يُتصوّر فيها الشدّة والضعف كالبياض والسواد، حتّى يقال: بأنّ إطلاق الطلب ينصرف إلى الإرادة الشديدة.

نعم، في مثل المصلحة والمفسدة والحبّ والشوق يتصوّر ذلك، وأمّا الإنشاء، فبما أنّه من باب استعمال اللّفظ في المعنى فلا يتصوّر فيه الشدّة والضعف؛ لأنّه _ كما ذكرنا _ ليس من الماهيّات المشكّكة.

وممّا

ذكرنا: ظهر بوضوحٍ عدم تماميّة ما قاله الاُستاذ المحقّق(قدس سره) من أنّ «طبع الطلب يقتضي لزوم إيجاد المادّة، وأنّ المأمور لو لم يوجده لَعُدّ عاصياً، إلّا أن يأذن المولى في الترك، فبناءً على هذا: الاستحباب يحتاج إلى المؤونة الزائدة في مقام البيان، وقد تقدّم: أنّ كلّ ما يحتاج بيانه إلى مؤونةٍ زائدة، ولم يكن بيان لتلك الخصوصيّة الزائدة فالإطلاق يرفعه، ويوجب ظهور اللّفظ فيما لا يحتاج بيانه إلى مؤونةٍزائدة.

ففي المقام، حيث إنّ الذي يحتاج بيانه إلى مؤونةٍ زائدةٍ هو الاستحباب، لأنّه يحتاج إلى الإذن في الترك، بخلاف الوجوب، فإنّه لا يحتاج إلى أمرٍ زائدٍ على أصل الطلب، فالإطلاق يوجب ظهور الصيغة في الوجوب. نعم، هذا الظهور إطلاقيّ، وليس بوضعيّ»(1).

ص: 101


1- منتهى الاُصول 1: 125.

وفيه: كما ذكرنا، أنّه لولا قطعيّة المولويّة وقضاء حقّ العبوديّة لم يكن هناك أيّ وجوبٍ يُستفاد من الصيغة، بل الوجوب يكون بحكم العقل، وليس مدلولاً للصيغة، ولا هو يُستفاد من إطلاقها؛ لأنّ إطلاق الصيغة لا يظهر منه إلّا الطلب فقط، ولعلّ هذا هو مراد المحقّق القمّيّ(قدس سره)، من أنّ الصيغة دالّة على الوجوب بالدلالة الالتزاميّة، لكن لا من باب الدلالة الالتزاميّة اللّفظيّة للصيغة كالمفاهيم، بل من المداليل السياقيّة، نظير: الإنشائيّة والإخباريّة اللّتين هما من المداليل السياقيّة عند البعض.

إذاً، فالعقل يدرك من الصيغة لزوم الإتيان بالفعل، وأنّ المخالفة توجب العقاب، سواء كان الإنشاء لوجود الأمر، كما في الأوامر، أم الترك كما في النواهي، وعليه: فيكون الوجوب والحرمة من مدركات العقل.

الكلام في مدلول الجملة الخبريّة في مقام الطلب:

هل يُحمَل هذا المدلول على الوجوب أو الاستحباب أو غيرهما؟

فلو قُلتَ: (يعيد)، أو: (يتوضّأ)، أو غير ذلك من الجمل الخبريّة التي وردت في مقام الطلب، فهل تكون ظاهرةً في الوجوب أم لا؟

قيل: بعدم ظهورها في الوجوب؛ لأنّها غير مستعملة في معناها الحقيقيّ، وهو الإخبار بثبوت النسبة، والمعاني المجازيّة المحتملة متعدّدة، ولا مرجّح هناك لحملها على الوجوب.

ص: 102

ولكن قال صاحب الكفاية(رحمة الله) بظهورها في الوجوب، وذلك بدعوى: أنّ الصيغة لم تستَعمل في غير معناها، وهو النسبة(1)،إلاّ أنّه لم يكن بداعي الإخبار والإعلام، بل بداعي البعث والتحريك؛ فإنّ الإخبار بوقوع المطلوب في مقام طلبه إظهار بأنّه لا يرضى إلّا بوقوعه، فيكون ظهورها للبعث والتحريك آكد من ظهور الصيغة _ أي: صيغة الأمر _ في الوجوب.

ثمّ إنّه(رحمة الله) بعد ذلك اعترض على نفسه، بما حاصله:أنّه _ حينئذٍ _ يلزم الكذب في كلامه تعالى إذا كان المستعمل فيه هو النسبة، وذلك لعدم وقوع المطلوب غالباً، تعالى اﷲ عن ذلك علوّاً كبيراً.

وأجاب عنه(قدس سره) _ بما لفظه: «إنّما يَلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام، لا بداعي البعث، كيف؟! وإلّا يَلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل (زيد كثير الرماد) أو (مهزول الفصيل) لا يكون كذباً إذا قيل كنايةً عن جوده، ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلاً، وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ، فإنّه مقال بمقتضى الحال»(2).

هذا.

ويمكن أن يقرّر ظهور الصيغة في الوجوب بتقريرٍ فلسفيٍّ، وهو:

ص: 103


1- كفاية الاُصول: 70_ 71.
2- كفاية الاُصول: 71.

أنّه قد قرِّر في محلّه أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، أي: فبعد فرض عدم انفكاك المعلول عن العلّة، فإذا لم توجد العلّة المقتضية لضرورة وجود الشيء في الخارج، فلا يوجد الشيء أصلاً، فإذا أخبر بوجود شيءٍ وتحقّقه، كان ذلك كاشفاً عن ضرورة وجودهولابدّيّته، والمناسب لذلك في مقام الطلب هو الوجوب التشريعيّ والطلب الإلزاميّ، فيدلّ الإخبار على الوجوب بالملازمة.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ صيغة الأمر لا تدلّ إلّا على أصل الطلب؛ وأمّا الطلب المدلول عليه بالجملة الخبريّة، فبما أنّه علّة لوجود متعلّقه في الخارج، فوقوع مضمون الجملة الخبريّة من لوازم الطلب الحتميّ، ولا يكون هناك مانع من تأثيره، فيكون هذا الطلب آكد.

ويمكن أن يُعَبَّر عن ذلك بطريقٍ آخر، وهو الانتقال من اللّازم إلى الملزوم، كما في باب الكنايات، كما مرّ من أنّ المتكلّم إذا كان في مقام البعث وأخبر بوقوع المطلوب، فقد أخبر بما هو من لوازم شدّة الطلب، غير مزاحَمٍ بشيءٍ من موانع التأثير في وجود المطلوب، فحينما يخبر بالوجوب، ويأتي بالجملة الخبريّة فهو يدلّ على إرادة إيجاد المأمور به بحيث لا يكون راضياً بتركه، فتكون دلالة الجملة على الطلب من باب الكناية والانتقال من اللّازم إلى الملزوم، ولا يَلزم حينئذٍ المجاز في الكلمة؛ إذ إنّ الجملة لم تُستعمل في نفس الإنشاء، بل إنّما استُعمِلَت في النسبة نفسها.

ص: 104

التعبّديّ والتوصّليّ

إطلاق الصيغة هل يقتضي التعبّديّة أم التوصّليّة؟

ولابدّ أوّلاً من التمهيد ببعض المقدّمات:

المقدّمة الاُولى: في بيان معنى التعبّديّ والتوصّليّ:

قال صاحب الكفاية):

«الوجوب التوصّليّ هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب، ويسقط بمجرّد وجوده، بخلاف التعبّديّ؛ فإنّ الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لابدّ _ في سقوطه وحصول غرضه _ من الإتيان به متقرّباً به منه تعالى»(1).

ورأى اُستاذنا الأعظم(قدس سره) أنّ التعبّديّ هو ما اعتُبِر فيه قصد القربة،

ص: 105


1- كفاية الاُصول: ص 72.

والتوصّليّ ما لم يُعتَبَر فيه ذلك(1).

المقدّمة الثانية: هل التعبّديّة موجودةٌ عند غير المسلمين من أهل الملل الاُخرى؟

لا يخفى: أنّ التعبّديّة موجودة في جميع الملل والنحل؛ فإنّ للجميع تحرّكاتٍ خاصّةً يُؤدّونها لمعبودهم، وتكون هذه الحركات كاشفةً عن تذلّلهم وإظهارهم العبوديّة له. ويقابل ذلك: الأفعال التوصّليّة، التي لا يقومون بها لأجل إظهار العبوديّة.

المقدّمة الثالثة: خلاصة الفرق بين التعبّديّ والتوصّليّ:

أنّ الغرض من الأوّل يحصل منه بمجرّد الإتيان بالفعل وحصوله في الخارج، سواء أتى المكلّف به اختياراً أو جبراً، بداعي أمر المولى أو بداعٍ آخر، وذلك _ مثلاً _ كغَسل الثوب؛ فإنّ الغرض منه يحصل بأيّ قصدٍ كان، بل ولو لم يقصد، أو كان غير ملتَفت، بل ولو قَصَد الخلاف، بل يَسقط بفعل مثل النائم، ولا يُعتَبَر فيه المباشرة فيَسقط بفعل الغير أيضاً، كما أنّه يحصل مع فعل الحرام، كما إذا غسله بماءٍ مغصوب.

نعم، لو جيء بالعمل التوصّليّ بداعي الأمر والإطاعة؛ فإنّه يحصل منه عنوان الإطاعة، ويستحقّ بذلك المثوبة، وأمّا إذا لم يقصد منهذلك،

ص: 106


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 139.

فلا يكون هناك استحقاق للثواب، ولكنّ هذا لا يعني أنّ الغرض من الأمر به لم يتحقّق.

وأمّا التعبّديّ، فإنّ الغرض منه لا يحصل إلّا بالإتيان بالمأمور به مع القربة، وإلّا، فبمجرّده لا يترتّب الثواب، ولا تتحقّق المصلحة، وذلك كالاُمور العباديّة، من الصوم والصلاة وغيرهما.

وبعبارةٍ أُخرى: فالفرق بينهما إنّما هو من جهة الاختلاف في الملاك؛ إذ الحكم _ كما هو معلوم _ يكون تابعاً للملاك سعةً وضيقاً. فقد يكون الملاك القائم بالواجب في نفس متعلّق التكليف مجرّداً عن أيّ قصدٍ آخر معه، فحينئذٍ: يكفي مجرّد إتيانه ولو بغير داعٍ قربيّ، وقد يكون الملاك قائماً بإيجاده وإتيانه، ولكن مع قصد القربة، فلا يكفي فيه مطلق الإتيان.

فالأوّل: بمجرّد وجوده في الخارج، ولو بغير الداعي الإلهيّ، يحصل الغرض منه، ويسقط الأمر به، لوفاء مطلق الإتيان بالمصلحة والغرض.

وأمّا الثاني: فلو أتيتَ به بنفسه من دون قصد التقرّب، فلا يسقط التكليف المتعلّق به؛ لأنّ الغرض الداعي إلى تشريعه لم يُستوفَ مع عدم الإتيان به متقرّباً به، ولو تحقّق له وجود في الخارج.

المقدّمة الرابعة: تقسيم الواجب التعبّديّ:

ينقسم الواجب التعبّديّ إلى قسمين:

فمنه ما يُعتَبَر فيه المباشرة، كالصلوات اليوميّة، ولا يسقط بفعل غيره.

ص: 107

ومنه ما لا يُشترط فيه المباشرة، كالزكاة؛ فإنّها أمر عباديّ يحتاج إلى قصد القربة، ومع ذلك: فهي تحصل بفعل الغير، إمّا لأنّه قائمٌ مقامه، أو لأجل تبرئة ذلك إذا كان مع الإذن _ وأمّا بدونه فالسقوط محلّ تأمّلٍ _ ومنها _ أيضاً _: صلاة الاستنابة وغيرها.

المقدّمة الخامسة: أنّ القصد والاختيار في التعبّديّ شرط؛

لأنّه بحاجةٍ إلى قصد القربة، دون التوصّليّ. وهل هو جزء أو شرط شرعيّ مأخوذ في المأمور به بأمرٍ واحدٍ _ بناءً على إمكان أخذه في المتعلّق _ أو بأمرين؟ يأتي تحقيق ذلك.

المقدّمة السادسة: معنىً آخر للتعبّديّ والتوصّليّ:

اشارة

قد يُعرّف التعبّديّ والتوصّليّ بتعريفٍ آخر، وهو: أنّ التوصّليّ ما كان الداعي إلى الأمر به معلوماً، وفي قباله: التعبّديّ، وهو ما لم يُعلم الغرض منه. وإنّما سُمّي تعبّديّاً؛ لأنّ الغرض الداعي للإتيان مأمور به ليس إلّا التعبّد فقط.

ولكنّ الذي يكون محلّاً للبحث هنا، ليس هو التعبّديّ والتوصّليّ بهذا المعنى، بل المعنى الذي ذكرناه لهما سابقاً.

وإذا اتّضحت هذه المقدّمات، فنقول:

لا يخفى: أنّ التقرّب المعتَبر في المأمور به بحيث يكون العمل عباديّاً

ص: 108

على أقسام:

الأوّل: الإتيان بالفعل بقصد الأمر فقط، كما ذهب إليه جمع من الفقهاء، منهم صاحب الجواهر(قدس سره)(1)، وعلى هذا الأساس: أنكر البهائيّ(قدس سره)(2) الثمرة في بحث الضدّ؛ لأنّ العبادة تتوقّف على قصد الأمر، ولا أمر هنا لضدّ الأهمّ، ولو لم نقل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ.ولكن أُجيبَ عن ذلك: بأنّ عباديّة العبادة ليست متوقّفةً على قصد الأمر فقط، بل يكفي قصد المصلحة أو قصد ابتغاء وجه اﷲ ومرضاته. مضافاً إلى أنّ قصد العلّة قصدٌ للمعلول، فقصد الملاك بما هو علّةٌ للأمر قصدٌ للأمر.

ولكن قد استشكلنا في محلّه: بأنّه من أين لنا أن نكتشف الملاك، إذ إنّنا إنّما نفهم الملاك من وجود الأمر، أي: من طريق اللّمّ، أي: من المعلول إلى العلّة، فإذا لم يكن هناك أمرٌ فكيف يمكن استكشاف الملاك أصلاً حتّى يتمّ استكشاف الأمر؟

الثاني: ما يراد به مطلق ما يُوجب التقرّب.

الثالث: العمل بداعي حسن الفعل.

ص: 109


1- انظر: جواهر الكلام 2: 81، فما بعدها.
2- انظر: زبدة الاُصول: ص 289.

الرابع: الإتيان به بقصد كونه محبوباً عند اﷲ.

الخامس: الإتيان به بداعي كونه ذا مصلحة وملاك.

السادس: الإتيان بالعمل بداعي كون الباري جلّ وعلا أهلاً للعبادة ومستحقّاً لأن يُطاع، كما في قوله(علیه السلام): «ما عبدتُكَ طمعاً في جنّتك، ولا خوفاً من نارك، لكن وجدتُكَ أهلاً للعبادة فعبدتُك»(1).

السابع: الإتيان به لأجل الخوف من عذابه والفرار من عقابه.الثامن: الإتيان به قاصداً رجاء ثوابه وطمعاً لحصول شيء منه، ومن جملته: الجنّة.

التاسع: الإتيان بالعمل جزاءً وشكراً لما أعطاه اﷲ جلّ وعلا من نعمه.

والعمدة في محلّ البحث هو القول الأوّل.

وهل تدلّ الصيغة على اعتبار مقدوريّة المكلّف أم لا؟

لا يخفى: أنّ موضوع الحكم قد يكون مقدوراً وقد يكون غير مقدور، ولكنّ متعلّق الحكم والخطاب لابدّ وأن يكون مقدوراً دائماً، لأمرين:

أوّلهما: حكم العقل بقبح مطالبة العاجز. وهذا الحكم ليس فيه أيّ شكٍّ أو ريبٍ عند العقلاء.

والثاني: أنّ نفس الخطاب يقتضي ذلك؛ لأنّه بعد أن كانت إرادة المولى تابعةً لإرادة العبد، فيكون الخطاب محرّكاً للعبد وداعياً له إلى

ص: 110


1- عوالي اللآلي: 1: 404.

إيجاد المتعلّق. ولا يخفى: أنّ الإرادة لا تتعلّق إلّا بما هو مقدورٌ للعبد.

الكلام في أقسام القدرة:

لا يخفى: أنّ للقدرة قسمين: عقليّ وشرعيّ:

أمّا الأوّل: فهو الذي لا يمكن الإتيان بالفعل بدونها.وأمّا

الثاني: فليس كذلك؛ فإنّ الحجّ _ مثلاً _ يمكن إتيانه بدون الزاد والراحلة، بالمشي والتسكّع، ولكن مع ذلك، فقد اعتبرهما الشارع، وتُسَمّى ﺑ (القدرة الشرعيّة). وهي أعمّ من (القدرة العقليّة)؛ فإنّ غاية ما يقتضيه الخطاب هو أن يكون الشيء مقدوراً للمكلّف عقلاً، وأمّا ما هو أزيد من ذلك، أي: القدرة الشرعيّة، فلابدّ للشارع من التكليف به، كالراحلة المعتَبرة شرعاً في وجوب الحجّ مع تمكّنه من السير ماشياً.

وهنا لابدّ من طرح هذا السؤال:

وهو أنّه: إذا عارض المقدور العقليّ المقدور الشرعيّ فأيّهما يجب تقديمه على الآخر؟

قد يقال: يكون هذا _ حينئذٍ _ من باب التزاحم، وتقدّم القدرة العقليّة، من جهة أنّ اعتبارها كان من قبل العقل، وأنّ فهمها كان من نفس الخطاب، مضافاً إلى أنّ العقل يحكم بقُبح مخاطبة العاجز، فيكون المرجّح للقدرة العقليّة موجوداً فهي التي تُقَدّم.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ المرجّح ينحصر في الأهمّ، فيُقدَّم ما فيه

ص: 111

الأهمّيّة، وقد ذكروا هنا فروعاً فيما إذا تعارض المقدور الشرعيّ والعقليّ:منها: ما إذا استلزم الحجّ ترك الواجب، كالصلاة، فلا يجب الحجّ حينئذٍ؛ لأنّه يكون غير مقدور شرعاً، لأنّ وجوبه منوطٌ بعدم استلزامه لترك واجبٍ آخر. فتكون الصلاة مقدّمةً عليه.

وفيه: أنّه لم يَرِد في وجوب الحجّ أنّه مشروط بعدم استلزامه لترك واجبٍ آخر، ولا سيّما بعد وضوح شرائط وجوب الاستطاعة، وظهور أنّ القيد المذكور ليس منها. وعليه: فإذا اجتمعت الاُمور المشروط بها وجوب الحجّ، فإنّه يجب. وحينئذٍ: فإذا كان مزاحماً لواجبٍ آخر فلابدّ من ملاحظة الأهمّيّة.

ومنها: مسألة ما إذا نذر زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) في كلّ يوم عرفة، ثمّ حصلت له الاستطاعة، فلابدّ من ملاحظة الأهمّيّة هنا _ أيضاً _ فيقدّم الحجّ؛ لأنّ وجوب الوفاء بالنذر، مضافاً إلى كونه مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، فهو مشروط _ أيضاً _ بأن لا يكون مفوّتاً للمصلحة الدينيّة أو الدنيويّة، وأن لا يكون سبباً لفوت واجبٍ أو فعل حرام، كما هو مفاد بعض الأخبار.

كما عن أبي جعفرٍ(علیه السلام) قال: «قال رسول اﷲ- لا رضاع بعد فطام... إلى أن قال: ولا نذر في معصية ولا يمين في قطيعة»(1).

ص: 112


1- وسائل الشيعة 23: 317، الباب 17 من كتاب النّذر والعهد، ح2.

وعن إسحاق بن عمّار عن عليّ بن إبراهيم، قال: «سألته، أقال رسول اﷲ-: لا نذر في معصية؟! قال: نعم»(1). إلى غير ذلك من الروايات الواردة.

ومن أجل ذلك يكون الحجّ مقدّماً عليه، وذلك لأنّ وجوب الوفاء به مشروط بأن لا يكون مفوّتاً لمصلحة الواجب، وهو هنا يكون مفوّتاً لمصلحته؛ ولأنّ حقيقة النذر إلزام نفسه بشيءٍ والالتزام به، ولا شكّ في أنّ العاقل لا يلتزم بشيءٍ غير مقدورٍ له، فالمنذور باقتضاءٍ من النذر نفسه يكون مقيّداً بكونه مقدوراً في ظرفه، وهذا غير مقدورٍ هنا.

كلام الاُستاذ الأعظم رحمة الله:

وللاُستاذ الأعظم(قدس سره) كلام في هذا الباب، وهو أنّ المشهور إنّما التزموا بتقديم النذر على الحجّ لالتزامهم القدرة الشرعيّة في موضوع الحجّ، ولازم ذلك: أنّ كلّ واجبٍ يزاحم الحجّ، فإنّه يزيل موضوعه، وهو الاستطاعة، فلا يكون المكلّف معه قادراً على الحجّ، بل يصبح عاجزاً عن الإتيان به.وبعبارةٍ

أوضح: فقد أُخذ في موضوع الحجّ أن لا يزاحمه واجب آخر، فإذا وجب على المكلّف شيء في أوان الحجّ وزاحمه، بحيث لا يتمكّن من

ص: 113


1- وسائل الشيعة 23: 320_ 321، الباب 17 من كتاب النّذر والعهد، ح12.

الجمع بينهما، سقط وجوب الحجّ لعدم القدرة عليه، والحالة هذه، ولكنّ الظاهر: أنّه لا دليل على ما ذكروه أصلاً، وقد ذكرنا في بعض المباحث السابقة: أنّ الحجّ ليس مشروطاً بالقدرة الشرعيّة المصطَلحة، وإنّما الحجّ _ كسائر الواجبات الإلهيّة _ مشروط بالقدرة العقليّة. نعم، قد فُسّرت القدرة المأخوذة في الحجّ في الروايات بقدرة خاصّة، وهي: واجديّته للزاد والراحلة وصحّة البدن وتخلية السرب، ولكنّ ذلك لا يؤول إلى أخذ القدرة الشرعيّة فيه، بحيث يزاحمه أيّ واحدٍ من الواجبات الشرعيّة، بل إنّ حال وجوب الحجّ هو حال سائر التكاليف الإلهيّة في أنّه يكون مشروطاً بالقدرة العقليّة، فعند مزاحمته لواجبٍ آخر، لابدّ من ملاحظة الأهمّ منهما، كما هو الشأن في بقيّة الواجبات المتزاحمة.

هذا كلّه بحسب الكبرى.

إلّا أنّه في خصوص المقام، وهو ما لو نذر زيارة الحسين(علیه السلام) في كلّ يوم عرفة، وغير ذلك من النظائر، فإنّه لا يصل الأمر إلى التزاحم أصلاً.

والوجه فيه: أنّ وجوب الوفاء بالنذر ليس واجباً ابتدائيّاً مجعولاً على المكلّفين من قبل الشريعة المقدّسة، نظير وجوب الصلاة والصياموأمثالهما، بل إنّما هو واجب إمضائيّ، بمعنى: أنّه إلزام من اﷲ تعالى بما ألزم المكلّف به نفسه من القيام بشيءٍ ﷲ تعالى، نظير باب العقود، حيث يُلزِم البائع نفسه بتمليك ماله للمشتري، ويمضي الشارع المقدّس التزامه هذا، ويلزمه بالوفاء بالتزامه. ومعلوم أنّ العمل الذي يلتزم به

ص: 114

الناذر ﷲ تعالى لابدّ أن يكون قابلاً للإضافة إليه تعالى ومرتبطاً به نحو ارتباط، ومن هنا نجد: أنّهم اعتبروا الرجحان في متعلّق النذر؛ لأنّه لو كان خالياً من وجوه الرجحان، لم يكن قابلاً للإضافة إليه تعالى، وذلك كنذر المباحات الأصليّة التي لا رجحان فيها، ولا ترتبط به جلّ اسمه، ولذا، عبّر بعضهم عن ذلك بأنّه يجب أن لا يكون المتعلّق في نفسه محلّلاً للحرام.

قال(قدس سره):

«إنّه لابدّ من تقديم وجوب الحجّ على وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه في مقام المزاحمة، وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ وجوب النذر أو ما شابهه لو كان مانعاً عن وجوب الحجّ ورافعاً لموضوعه، لأمكن لكلّ مكلّفٍ رفع وجوبه عن نفسه بإيجاب شيءٍ ما عليه بنذرٍ أو نحوه في ليلة عرفة، المنافي للإتيان بالحجّ، كمن نَذَر أن يصلّي ركعتين من النافلة _ مثلاً _ في ليلة عرفة في المسجد الفلانيّ، كمسجد الكوفة أو نحوه، أو نذر أن يقرأ سورةً _ مثلاً _ فيليلة عرفة فيه أو في أيّ مكانٍ آخر _ مثلاً _، وهكذا... ومن الواضح جدّاً: أنّ بُطلان هذا من الضروريّات، فلا يحتاج إلى بيانٍ وإقامة برهان. كيف؟! فإنّ لازم ذلك هو أن لا يجب الحجّ على أحدٍ من المسلمين، إذ لكلٍّ منهم أن يمنع وجوبه ويرفع موضوعه بنذرٍ أو شبهه يكون منافياً ومضادّاً له، وهذا ممّا قامت ضرورة الدين على خلافه، كما هو ظاهر.

ص: 115

الثاني: أنّه قد ثبت في محلّه: أنّ صحّة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلّقه راجحاً، فلو نَذَر ترك واجبٍ أو فعل حرامٍ لم يصحّ، بل لو نذر ترك مستحبٍّ أو فعل مكروهٍ كان كذلك، فضلاً عن أن ينذر ترك واجبٍ أو فعل محرّم...».

إلى أن يقول(قدس سره):

«وعلى هذا الأساس: نستنتج من ذلك كبرىً كلّيّة، وهي: أنّ كلّ واجبٍ لم يكن وجوبه مشروطاً بعدم كون متعلّقه في نفسه محلّلاً للحرام، يتقدّم في مقام المزاحمة على واجبٍ كان وجوبه مشروطاً بذلك، كالواجبات الإلهيّة التي ليست بمجعولةٍ في الشريعة المقدّسة ابتداءً، بل هي مجعولة بعناوين ثانويّةٍ، كالنذر والعهد والحلف والشرط في ضمن عقدٍ، وما شاكل ذلك، فإنّ وجوب الوفاء بتلك الواجباتجميعاً مشروط بعدم كونها مخالفةً للكتاب أو السنّة ومحلّلةً للحرام، فتُؤخذ هذه القيود العدميّة في موضوع وجوب الوفاء بها.

وعلى ذلك يترتّب: أنّ تلك الواجبات لا تصلح لأن تزاحم الواجبات التي هي مجعولة في الشريعة المقدّسة ابتداءً، كالصلاة والصوم والحجّ وما شابه ذلك، لعدم أخذ تلك القيود العدميّة في موضوع وجوبها. وعليه: ففي مقام المزاحمة لا موضوع لتلك الواجبات، فينتفي وجوب الوفاء بها بانتفاء موضوعه.

فالنتيجة: أنّ عدم مزاحمة تلك الواجبات معها لقصور أدلّتها عن

ص: 116

شمولها في هذه الموارد _ أعني بها: موارد مخالفة الكتاب أو السنّة وتحليل الحرام في نفسها _ لانتفاء موضوعها، لا لوجود مانعٍ في البين. ومن هنا قلنا: إنّ أدلّة وجوب الوفاء بها ناظرة إلى الأحكام الأوّليّة، ودالّة على نفوذ تلك الواجبات ووجوب الوفاء بها فيما إذا لم تكن مخالفةً لشيءٍ من تلك الأحكام. وأمّا في صورة المخالفة، فتسقط بسقوط موضوعها، كما عرفتَ، وتمام الكلام في ذلك في محلّه»(1).

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) من أنّ المأخوذ في الحجّ هو القدرة العقليّة محلّ كلامٍ؛ لما ذكرناه من أنّ القدرة العقليّة هي ما لا يمكن الإتيان بالفعلمن دونها، وأمّا القدرة الشرعيّة فليست كذلك، والإتيان بالحجّ قد يكون ممكناً بدون الزاد والراحلة، كأن يذهب إليه ماشياً على الأقدام، أو متسكّعاً، فالقدرة المأخوذة في الحجّ هي القدرة الشرعيّة، لا محالة.

ما هو مقتضى الأصل؟

لا يخفى: أنّ الفعل التعبّديّ يحتاج إلى المباشرة، أي: إلى أن يأتي العبد بالعمل بنفسه، بخلاف التوصّليّ.

ثمّ إنّه لو علمنا بأنّ هذا الوجوب الذي بين أيدينا ينتمي إلى أيّ واحدٍ منهما بعينه، فهو، وأمّا لو شككنا في ذلك، فهل مقتضى الإطلاق هو التعبّديّة أم التوصّليّة؟؟

ص: 117


1- محاضرات في اُصول الفقه 3: 251_ 253.

وعلى فرض عدم جريان الأصل اللّفظيّ هنا، فما هو مقتضى الأصل العمليّ؟! هل هو المباشرة؟ أم كفاية الإتيان بالفعل مطلقاً ولو من الغير؟!

لا يخفى: أنّ فعل الغير تارةً يكون مقدوراً له وأُخرى غير مقدور، والثاني يدخل فيما ذكرناه من أنّ المتعلّق لابدّ أن يكون مقدوراً حتّى يمكن توجّه الخطاب إليه.وأمّا

إذا كان مقدوراً، فقد يكون الفعل من الأسباب والمسبّبات التوليديّة _ وهو أن لا يتوسّط بينه وبين الأثر إرادة فاعلٍ مختار، كالإحراق للنّار؛ فإنّ الإحراق ولو كان من فعل النار، ولكن لأجل عدم شعور النار فهو يُنسب إلى المحرق لا إليها _ ولكنّ مقامنا، كما لا يخفى، ليس من هذا القبيل، بل إنّ الفعل الصادر من الغير لابدّ وأن يصدر عن شعور، وأن يكون مقدوراً للغير، وحينئذٍ: فهل يُشترط فيه المباشرة إذا توجّه الخطاب إلى الغير أم لا؟ وهل مقتضى إطلاق الخطاب لزوم المباشرة أو عدمه؟

وبعبارةٍ أُخرى: فهل مقتضى الإطلاق هو العينيّة، أي: أن يكون واجباً عليه مطلقاً، أتى به الغير أم لا؟

الحقّ: هو كونه من قبيل العينيّة، وأنّ صدوره لابدّ وأن يكون من المكلّف نفسه، وأمّا صدوره عن غيره بالاستنابة أو بالتبرّع فيحتاج إلى دليل، وما لم يدلّ عليه الدليل فلا يكاد يمكن التعدّي من العينيّ إلى غيره.

ص: 118

قد يقال: إنّ مقتضى الإطلاق هو الإتيان به مباشرةً؛ لأنّ الإطلاق يدفع كلّ ما يحتاج إلى مؤونةٍ زائدة، وهنا يكون الإطلاق موجباً لضيق دائرة الانطباق _ بناءً على أنّ الإطلاق الوجوبيّ يقتضي أن يكون الواجب نفسيّاً عينيّاً وتعيينيّاً _ لأنّ مقابل كلّ واحدٍ من هذه الثلاثةيحتاج إلى مؤونةٍ زائدة تُدفع بالأصل، وبناءً على جريان الأصل اللّفظيّ، فبما أنّ الشكّ يكون في السقوط، فمقتضى قاعدة الاشتغال عدم براءة الذمّة بفعل الغير لأنّه قبل إتيان النائب أو المتبرّع كان الخطاب متوجّهاً إلى شخص المكلّف، فبعد إتيانهما بالفعل يكون الشكّ شكّاً في السقوط لا في الثبوت.

ولكن

يمكن أن يجاب عنه: بأنّ المقام من قبيل الشكّ في الثبوت، لا السقوط، أي: أنّ الشكّ يكون في مورد الاشتغال، لا الشكّ في السقوط بعد الاشتغال؛ لأنّه لا يُعلم من أوّل الأمر بأنّ الوجوب مطلق، حتّى يجب إتيان المكلّف به، ولو بإتيان النائب أو المتبرّع به، أو أنّه مشروط، فبناءً على عدم الاشتراط لا يجب عليه الإتيان بالعمل، بل لا يُشرّع بعد إتيان الغير به.

وأمّا بناءً على الاشتراط، فلا يُجزي الإتيان به من قبل النائب أو المتبرّع، فالوجوب يكون مشكوكاً من الأوّل. وعليه: فيكون الشكّ في الثبوت لا في السقوط، ومعه: فالمرجع إلى البراءة من وجوب المباشرة.

ولا يخفى: أنّ سقوط الخطاب بفعل الغير تارةً لا يكون متوقّفاً على إذن المكلّف، كما إذا تبرّع شخصٌ بأداء الدين الذي على الغير،وأُخرى:

ص: 119

يتوقّف عليه، كالتبرّع بالزكاة؛ إذ إنّ ولاية الدفع إلى المستحقّ تكون بيد المالك.

هذا فيما إذا شكّ في التوصّليّة أو التعبّديّة من جهة المباشرة وعدم المباشرة.

وأمّا إذا كان الشكّ فيهما من جهة الإرادة والاختيار، بمعنى عدم سقوطه بدونهما فعند الشكّ في ذلك يكون المرجع هو أصالة التعبّديّة، وذلك لأمرين:

الأوّل: أنّه يُحتمل في توجيه التكليف أن يكون المتعلّق صادراً من الفاعل على نحو الحسن، أي: يُعتبر عقلاً أن يكون متعلّق التكليف مقدوراً للمكلّف ليتمكّن من امتثال الأمر على وجهٍ يصدر منه حسناً، ومن المعلوم: أنّ صدوره على نحو الحسن يتوقّف على الإرادة والاختيار؛ إذ الأفعال غير الاختياريّة لا تتّصف بالحسن والقبح، فما يصدر بلا إرادةٍ واختيار يكون خارجاً عن دائرة الأمر.

إن قلت: فماذا تقولون _ إذاً _ في التوصّليّ؟

نقول: الملاك المأخوذ في التوصّليّ يكون على نحو مجرّد إيجاد الفعل في الخارج، ولذا يكفي صدوره بأيّ نحوٍ كان؛ لأنّ الأمر فيه قد ورد هكذا.وأمّا التعبّديّ، فحيث إنّ التكليف فيه متوجّه إلى شخصٍ خاصّ، ولابدّ من إتيان الفعل منه على وجه حسن، فذلك لا يمكن إلّا بالاختيار

ص: 120

والقصد.

والثاني: اقتضاء نفس الأمر؛ فإنّ نفس الأمر يقتضي اعتبار الإرادة والاختيار مع قطع النظر عن الحكم العقليّ؛ لأنّ الأمر الشرعيّ هو بمعنى توجيه العبد نحو المطلوب لتحرّك عضلاته، فهو نفسه يقتضي الإرادة والاختيار، وإن قام الدليل على سقوط التكليف ولو صدر بلا إرادةٍ واختيار، لكان حاله حال ما يسقط بفعل الغير، وهو يرجع إلى تقييد الموضوع.

والحاصل: أنّه لو شكّ في التعبّديّة والتوصّليّة بهذا المعنى، فالأصل العمليّ يقتضي عدم السقوط عند الإتيان به بدون إرادةٍ واختيار، أي: أنّ الأصل تقييد الموضوع، ومقتضى الأصل العمليّ عدم السقوط لو أتى به بلا إرادةٍ واختيار.

وأمّا لو شكّ في التعبّديّة والتوصّليّة، وأنّه هل يكفي الإتيان بالفعل ولو بفعل الحرام أم لا؟

فلا

يخفى: أنّ السقوط بالفعل الذي يكون متعلّقاً للأمر والنهي لا يمكن إلّا أن يكون هناك اتّحاد بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي خارجاً؛ إذ لا معنى للسقوط بدون هذا الاتّحاد.وهذا الاتّحاد، تارةً يُتصوّر من جهة أنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، وأُخرى من جهة أنّ النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه.

ص: 121

فإن كانت النسبة على النحو الأوّل: فتندرج المسألة في مسألة النهي في العبادة، ويخرج المحرّم عن عموم دائرة الأمر وسعته، ويتقيّد الأمر بما عدا ذلك، بلا فرقٍ بين أن يكون الواجب توصّليّاً أو تعبّديّاً.

وأمّا إذا كان الاتّحاد بينهما على النحو الثاني، فهذا يدخل في اجتماع الأمر والنهي:

فإن قلنا في تلك المسألة بالامتناع مع تقدّم جانب النهي أيضاً، فتدخل في مسألة النهي عن العبادة، كما هو مذكور في مسألة جواز الاجتماع وعدمه.

وأمّا إن قلنا في تلك المسألة بالجواز فيهما، فالمتعلّق، وإن لم يتّحد، يدخل فى مسألة التزاحم، ولكن، مع ذلك، فلا يكون الفرد المحرّم قابلاً للتقرّب به؛ لعدم انفصاله عن الحرام، ولعدم إمكان الإشارة إليه حسّيّاً في الخارج على نحو الانفراد، ولعدم حسنه الفاعليّ، فهو وإن كان فيه ملاك للأمر، إلّا أنّه يقع مبغوضاً لا محالة، لمكان مجامعته للحرام، ولا يصلح لأن يُتقرّب به، وبالتالي: فلا يسقط الأمر به.ولكنّ الحقّ: أنّ المكلّف _ في التركيب الانضماميّ _ تارةً يكون ملتفتاً لمجامعته مع الحرام، وأُخرى غير ملتفت:

ففي الصورة الأُولى: لا يكون مسقطاً؛ لعدم تمشّي قصد القربة.

وأمّا مع الغفلة: فلا مانع في البين، وليس هناك قبح فعليّ أو فاعليّ، فالملاك، بل الأمر، كلاهما موجودان، ويمكن إتيانه بقصد القربة. هذا

ص: 122

بالنسبة إلى الأصل اللّفظيّ.

وأمّا الأصل العمليّ، فقد يقال: إنّه _ هو أيضاً _ يقتضي عدم السقوط بفعل المحرّم.

ولكن الحقّ: أنّ هذا الكلام غير تامّ، وأنّ هناك فرقاً بين التعبّديّ والتوصّليّ، وأنّ إطلاق الخطاب يقتضي كفاية الامتثال بالفرد المحرّم في التوصّليّ، والبغض الفاعليّ ممّا لا أثر له، بلا فرقٍ بين أن تكون النسبة بينهما هي العموم من وجه أو العموم المطلق، وبلا فرقٍ بين أن نقول بجواز الاجتماع أو عدم جوازه؛ لأنّ إطلاق الخطاب يكشف عن وجود مصلحةٍ ملزمة، وعن اشتمال الفعل على تمام الملاك في متعلّقه مطلقاً، حتّى ولو كان بعض أفراده محرّماً.

نعم، إذا كان ملاك النهي غالباً على ملاك الأمر، فإنّه يُوجب رفع فعليّة الأمر عند اجتماعه مع النهي، لانتفاء أصل ملاك الأمر.ومعه: لا يحصل الامتثال بالفرد المحرّم، ولا يتحقّق الغرض الداعي إلى أصل الخطاب.

وعليه: فهو يسقط بانتفاء الموضوع، لا بالامتثال.

بل يمكن أن نقول: بوجود الأمر وفعليّته بناءً على التزاحم، ولكنّه يكون مشروطاً بعصيان النهي، فحينئذٍ: يكون سقوطه من جهة الامتثال أيضاً.

وأمّا بناءً على عدم جريان الأصل اللّفظيّ: فيكون المرجع حين الشكّ

ص: 123

هو البراءة، أي: أنّ الشكّ يكون في الثبوت دون السقوط، كما مرّ في البحث السابق.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره): من أنّه في التوصّليّ إذا كانت النسبة بين الدليلين عموم وخصوص مطلق، فمرجعه إلى تقييد دليل الوجوب، وأنّه لا يسقط بالفرد المحرّم لعدم الملاك، بلا فرقٍ بين أن يكون الواجب توصّليّاً أو تعبّديّاً. وأمّا إذا كانت النسبة بين الدليلين هي العموم والخصوص من وجه، فإن قلنا بالتركيب الاتّحاديّ، فالأمر كذلك، وأمّا إن قلنا بالتركيب الانضماميّ، فيصحّ مطلقاً ويكون إتياناً للواجب(1).وذلك أنّه قد يقال _ كما ذكرنا _: الأمر إذا كان توصّليّاً، فيمكن أن يقال بصحّته مطلقاً؛ لأنّه ولو لم يكن للأمر وجود في جميع الأقسام والصور، إلّا أنّ الملاك في الجميع يكون موجوداً.

ولكنّ الحقّ: أنّ استكشاف وجود الملاك إنّما يكون بوجود الأمر _ كما أشرنا سابقاً _ وإلّا، فمن أين نفهم وجود الملاك.

وعليه: ففي التوصّليّ، يصحّ في خصوص صورة الانضمام، لا مطلقاً. وأمّا إذا كان تعبّديّاً، فإنّه لا يصحّ مطلقاً.

ص: 124


1- راجع: منتهى الاُصول 1: 156.

أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر

اشارة

لا يخفى: أنّ جميع ما عدا قصد امتثال الأمر من وجوه قصد الأمر يمكن أخذه في المتعلّق، ولا يلزم هناك أيّ محالٍ، وإنّما الكلام في أنّ قصد القربة هل هو منحصر في قصد الأمر أم لا؟

إنّ معنى العبادة هو كلّ ما يصلح أن يكون موجباً لمرضاة اﷲ، فأيّ وجهٍ يقصد، حتّى تلك الوجوه التي قد مضت، يحصل به التقرّب، كما أنّ في بعضها يكون قصد الملاك الذي وقع في سلسلة العلل قصداً للأمر الذي هو المعلول.

وإنّما الكلام في إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به أم لا؟

وقد ذهب صاحب الكفاية(قدس سره) إلى امتناع أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر، معلّلاً ذلك باستحالة أخذ ما لا يتأتّى إلّا من قبل الأمر في متعلّق ذلك الأمر مطلقاً، شرطاً كان أم شطراً، فما لم تكن نفس الصلاة متعلّقة

ص: 125

للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها(1).

وما يظهر من كلامه) محذوران:الأوّل: أنّ متعلّق الأمر متقدّم على الأمر، والأمر متأخّر عنه؛ لأنّ العرض يكون متأخّراً عن معروضه، فقصد الأمر متأخّر عن نفس الأمر، فكيف يمكن أخذه في المتعلّق؟!

الثاني: اشتراط القدرة في إتيان المتعلّق، وأنّ الطلب من العاجز قبيح عقلاً، والذي هو ممكن هو الإتيان بنفس المتعلّق، وأمّا الإتيان بالمتعلّق بداعي أمره، فغير ممكنٍ؛ إذ لا يكون هناك إلّا أمر واحد تعلّق بذات الصلاة _ مثلاً _، فالإتيان بالمتعلّق بداعي الأمر يحتاج إلى أمرٍ آخر يتعلّق به الأمر الأوّل حتّى يمكن إتيانه بداعي أمره، أي: أمره الأوّل، بعد أن صار موضوعاً للأمر الثاني، فإذا لم يكن هناك أمر ثانٍ، فلا يمكن الإتيان به بداعي أمره؛ لأنّ اعتبار القدرة شرط في متعلّق التكليف.

وقبل الدخول في صلب هذا البحث لابدّ من بيان مقدّمات:

الاُولى: في بيان التقابل بين الإطلاق والتقييد.

لا يخفى: أنّ التقابل الكائن بين الإطلاق والتقييد هو ليس من تقابل السلب والإيجاب، أي: تقابل النقيضين، بل التقابل بينهما هو تقابل العدم

ص: 126


1- كفاية الاُصول: ص 73.

والملكة، فما لا يمكن الإطلاق فيه، لا يمكن التقييد فيه _أيضاً _ فالقدرة على أحدهما ملازمة للقدرة على الآخر، أو عينه، كما أنّ امتناع أحدهما هو عين امتناع الآخر.

الثانية:

أنّ نسبة الموضوع إلى الحكم هي نسبة العرض إلى المعروض، والعلّة إلى المعلول، ولا يعقل تقدّم الحكم على الموضوع، وإلّا، يلزم عدم موضوعيّة ما قد فُرض موضوعاً.

الثالثة:

أنّ

الإطلاق والتقييد تارةً يُلاحظ في الواجبات بالنسبة إلى التقسيمات الأوّليّة وطروّ الحالات والخصوصيّات، أي: أن يتعلّق بذات الشيء قبل ورود الحكم وتعلّق الأمر، بلا فرقٍ بين متعلّق التكليف ومتعلّق المتعلّق والموضوع، كالصلاة _ مثلاً _ فإنّها تارةً تُلاحظ من جهة الأجزاء، كذات السورة وفاقدتها، وذات التسليمة وفاقدتها؛ وأُخرى من جهة الشرائط، كذات الطهارة وفاقدتها، بناءً على كونها شرطاً وليست بجزءٍ، وما استقبِلت فيها القبلة وما لم تستقبَل فيها القبلة، وغير ذلك من الأجزاء والشرائط. وتسمّى هذه التقسيمات ﺑ «التقسيمات الأوّليّة».فإنّ الصلاة في مرحلة الواقع والثبوت:

ص: 127

تارةً: تلاحظ بالنسبة إلى هذه الاُمور بشرط شيءٍ، أي: كالصلاة بالنسبة إلى الأجزاء أو الشرائط، من الطهارة والاستقبال والسورة والركوع والسجود.

واُخرى: تلاحظ بشرط لا، كالصلاة بالنسبة إلى القواطع.

وثالثةً: لا بشرط، كالصلاة بالنسبة إلى القنوت.

وإنّما سمّيت هذه التقسيمات ﺑ «التقسيمات الأوّليّة»؛ لأنّها تقسيمات لاحقة لذاتها مع قطع النظر عن ورود الأمر بها.

هذا في مرحلة الثبوت.

وأمّا في مرحلة الإثبات والدلالة:

فإن دلّ دليل على وجود قيد أو عدمه فبه، وإلّا، فالمرجع في ذلك أصالة الإطلاق إذا توفّرت الشروط التي يمكن مع وجودها التمسّك بهذا الأصل، فبأصالة الإطلاق يُستكشف أنّ إرادة الأمر قد تعلّقت في الواقع بالمطلق، فإنّ الواجب لم يقيّد بشيءٍ، بل هو قد أخذ بالنسبة إلى الشكّ في جزئيّته لا بشرط.

وأمّا «التقسيمات الثانويّة»، وهي التي تأتي للواجب بعد ورود الحكم والأمر، وتنقسم إلى ما يؤتى به في الخارج بداعي أمره، وبعدم داعي أمره. وإنّما سمّيت ﺑ «الثانويّة»؛ لأنّها يرد البحث عليها بعد ورود الحكم،وإلّا، فقبل تحقّق الحكم لا معنى للبحث بأنّه هل لابدّ من إتيان الصلاة بداعي أمرها أم لا؟ إذ في تلك الحالة ليس هناك أمر ولا حكم حتّى يتأتّى

ص: 128

هذا البحث، وحتّى يمكن فرض قصده.

وبعبارةٍ اُخرى: فهي إنّما سمّيت ﺑ «التقسيمات الثانويّة»؛ لأنّ هذا التقسيم لا يرد على هذه الاُمور أوّلاً وبالذّات، بل يرد عليها ثانياً وبالعرض.

وهذا

بخلاف التقسيمات الأوّليّة، فإنّها ترد عليها أوّلاً وبالذات، لا من ناحية الأمر والحكم.

فإذا عرفت هذا: فلو شككنا في اعتبار قيدٍ في المأمور به، فيمكن لنا التمسّك بأصالة الإطلاق، وكما ذكرنا، فإنّ التمسّك بها يستكشف منه أنّ الواجب قد أُخذ بالنسبة إليها لابشرط، فلو أتى به بدون شرطٍ فإنّه يكون مجزياً.

وأمّا بالنسبة إلى التقسيمات الثانويّة: فجواز التمسّك بالإطلاق متوقّف على إمكان تقييد المأمور به بالأمر، فإذا قلنا بعدم إمكانه واستحالة التقييد به، فيستحيل التمسّك بالإطلاق، لما مرّ من أنّ التقابل بينهما هو تقابل العدم والملكة، فلا يمكن فرض إمكان الإطلاق إلّا في مكانٍ يمكن التقييد بالنسبة إليه.وإذا عرفت ذلك، وعرفت ما قلناه: من أنّ النسبة بين الموضوع والحكم هي النسبة بين العلّة المعلول، بلا فرقٍ بين أن يراد به المتعلّق أو متعلّق المتعلّق أو نفس المكلّف أو الموضوع بجميع أجزائه وشرائطه، وعرفت _ أيضاً _ ما قلناه: من أنّ الموضوع حكمه حكم المعروض؛ لأنّه

ص: 129

لابدّ وأن يكون متقدّماً على الحكم بجميع أجزائه وشرائطه بعد ما فُرض من رجوع جميع القيود إلى الموضوع. فقوله تعالى: ﴿وِللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(1)، معناه: عليك أيّها المستطيع أن تحجّ.

فإذا فُرض أنّ القربة _ أي: قصد الأمر _ هو من قيود المأمور به، كبقيّة القيود، فيدخل في حيّز الخطاب، ويكون الخطاب متعلّقاً بالصلاة مع قصد القربة والأمر، مع أنّ القربة تتولّد من قصد الأمر، فهي قبل أن يرد الأمر تكون معدومةً. ففي الرتبة السابقة على الأمر لا قربة؛ لأنّها _ كما ذكرنا _ متولّدة من نفس الأمر، والمفروض: أنّه لابدّ أن يكون الشيء موجوداً حتّى يتعلّق الأمر به، فقبل ورود ذلك الأمر يكون فرض وجود القربة محالاً.وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الحكم حينما يرد على نحو القضيّة الحقيقيّة، فهي ترجع إلى القضايا الشرطيّة التي مقدّمها عبارة عن وجود الموضوع وتاليها عبارة عن ثبوت المحمول له، فإذا قلت: يجب على المستطيع الحجّ، فيكون وجوب الحجّ مشروطاً بوجوب الاستطاعة، وكذا فعليّته، فإنّها _ أيضاً _ تدور مدار فعليّة الاستطاعة، فرجع القيد إلى الموضوع.

وبما

أنّ هذا القيد يأتي من قبل الأمر والحكم، فلا يمكن أخذه في الموضوع؛ لأنّ المشروط لا يقتضي وجود شرطه، والحكم لا يثبت

ص: 130


1- آل عمران: 97.

موضوعه في الخارج، والمفروض في محلّ الكلام هو: تولّد القربة من قصد الأمر، وهو معدوم قبل ورود الأمر عليها، ففي الرتبة السابقة، لا قربة؛ لأنّها متولّدة من الأمر، ولابدّ من وجود الموضوع أوّلاً حتّى يتعلّق به الأمر، الأمر الذي يعني: أنّ وجود القربة قبل ورود الأمر غير معقول.

وبعبارةٍ أُخرى: فإذا فُرض أنّ الموضوع هو الصلاة المقيّدة بقصد الأمر، فإنّ الأمر لو تعلّق بالصلاة بقصد الأمر، فإنّ قصد الصلاة بهذا القيد متوقّف على وجود الموضوع الذي أحد أجزائه قصد الأمر، والجزء الثاني هو الصلاة، والمفروض: توقّف قصدها على الأمر، لكونه من الاُمور المتأخّرة عن الأمر، مع أنّ الأمر يكون متأخّراً عن قصد الأمر؛ لأنّه بالنسبة إليه _ كما قدّمنا _ كالمعلول بالنسبة إلى العلّة، أوكالعرض بالنسبة إلى المعروض، ولازمه: أن يكون الأمر متوقّفاً على قصده، وهو متوقّف على الأمر.

ولكن في حقيقة الأمر: هذا الإشكال إنّما يرد لو تعلّق الأمر بالفرد وبالموضوع الخارجيّ، وأمّا لو فرضنا وروده على الطبيعة، كما إذا تصوّر المتعلّق وتصوّر الموضوع، فهو كافٍ في ورود الأمر عليه، فلا يكون هناك من دور أصلاً، وهذه الطبيعة تنطبق على الفرد الخارجيّ والفعل الصادر من المكلّف؛ لأنّ الموضوع هو الطبيعة الكلّيّة المقيّدة بإنشائها بداعي الأمر، ولا يحتاج تصوّرها إلى وجود الأمر في الخارج، فلو تصوّر الموضوع هكذا، فيمكن أن يرد عليه الأمر في الخارج، ولا دور هناك.

ص: 131

فبناءً على هذا: لا يتوقّف مفهوم قصد امتثال الأمر الذي هو جزء المتعلّق على الأمر الخارجيّ حتّى يلزم الدور.

ولكن مع ذلك، يمكن أن يقال: بأنّ التقييد بقصد الأمر مستحيل بالنسبة إلى كلتا المرحلتين: أعني: مرحلة الإنشاء، ومرتبة الفعليّة.

أمّا في مرحلة الإنشاء: فلعدم إمكان لحاظ شيئين لحاظاً واحداً في آنٍ واحدٍ مع كونهما في رتبتين مختلفتين كالعلّيّة والمعلوليّة.

وأمّا في مرتبة الفعليّة: فلاستحالة وجود قصد الأمر قبل الأمر الذي هو متقدّم على القصد الذي هو متأخّر عن الأمر.وكذا إذا كان المراد بالقربة قصد المصلحة، فإنّه لا يمكن أخذها في المتعلّق؛ لأنّ المصلحة _ التي هي موضوع القصد _ متقدّمة على القصد، وإذا لم توجد لم يتحقّق القصد، فقصد المصلحة منوط بوجود المصلحة، لكون المصلحة موضوعاً للقصد، كموضوعيّة الأمر له، فالقصد _ إذاً _ موضوع للمصلحة، لقيامها به وبغيره من الأجزاء.

ففي الحقيقة: يكون قصد المصلحة موقوفاً على وجود المصلحة سابقاً، والمصلحة موقوفة على القصد، لقيام المصلحة بالقصد، هذا دور.

وهكذا يحسب بالنسبة إلى الانقسامات الثانويّة، كالعلم والجهل؛ لأنّه بعد استحالة تقييد الموضوع بالعلم، واستحالة أن يكون الخطاب مختصّاً بالعالمين، يرد الإشكال نفسه أيضاً.

ص: 132

هذا إذا كان هناك أمر واحد.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ قصد الأمر في المتعلّق، وإن لم يمكن أخذه، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ التقييد غير ممكنٍ بحسب الفرض. ولكنّ نتيجته ممكنة، أي: أنّه يمكن إدخاله في المتعلّق بأمرٍ آخر، لا بنفس الأمر الأوّل؛ لأنّ الأمر الأوّل قد تعلّق بالأجزاء والشرائط طرّاً عدا قصد الأمر؛ لمكان قصور الأمر عن شموله له، فالأمر الثاني قد تعلّق بالصلاة بقصد الأمر الأوّل.والحاصل: أنّ لحاظ كلٍّ من الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى الأمر الأوّل، وإن كان ممتنعاً، إلّا أنّه بنتيجته لا يكون ممتنعاً.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ استحالة تعلّق الوجوب بالقصد مختصّة بالخطاب الأوّل الذي له تعلّقات عديدة من جهة الأجزاء والشرائط، ولا يكون الأمر الأوّل متعلّقاً بالفعل بقصد الأمر، وإنّما الذي له تعلّق به هو الأمر الثاني، فلذا يصحّ التمسّك بالإطلاق المقاميّ لنفي اعتباره.

وقد يُستشكل على هذا: بعدم فائدة الأمر الثاني، وأنّه لا وجه لهذا الخطاب؛ لأنّ الإتيان بما تعلّق به الأمر الأوّل إن أوجب سقوطه، فلا حاجة إلى الأمر الثاني، وإلّا، فلابدّ من القول بعدم السقوط لأجل بقاء الغرض الأوّل، والعقل المستقلّ في باب الإطاعة حاكم بوجوب إتيانه ثانياً، إذاً: فلا حاجة إلى الأمر الثاني أصلاً.

ولكن يمكن الجواب عن هذا: بأنّ هناك فرقاً بين قصد الأمر الذي

ص: 133

هو جزء من المتعلّق والموضوع وبين سائر أجزاء الموضوع والملاك، والمفروض أنّ قصد الأمر دخيل في الملاك، وبدونه لا ملاك ولا مصلحة لسائر الأجزاء والشرائط، ولا تجري قاعدة الميسور عند فقدانه، بخلاف بقيّة الأجزاء والشرائط؛ لأنّ قصد الأمر روح العمل، وغيره أجزاء لجسمه، كاليد والرجل بالنسبة إلى الإنسان، فمع وحدةالملاك يكون الأمران بمنزلة أمرٍ واحد، والإشكال إنّما يأتي بناءً على تعدّد الملاك، ويكون الأمر الثاني متعلّقاً بواجبٍ آخر.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الأمر الثاني يكون إرشاداً إلى أنّ قصد القربة شرط ودخيل، أي: مشير إلى الشرطيّة، كالأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط كالركوع والسجود وغيرها؛ فإنّ الأمر المتعلّق بقصد القربة كغيره من الأوامر الواردة على الأجزاء والشرائط تنشأ عن غرضٍ وملاكٍ واحد، لا ملاكين، حتّى لا تحتاج إلى الأمر في الإتيان بقصد الأمر.

إذاً،

ففي صورة الشكّ، ولو لم يمكن التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ؛ لاستحالة تقييد الموضوع بالقيود المتأخّرة، لما عرفت من أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فإذا لم يمكن التقييد لم يمكن الإطلاق، ولكن _ مع ذلك _ يمكن التمسّك بالإطلاق المقاميّ، كما مرّ؛ لأنّ سكوت المولى عن هذا القيد، وهو في مقام البيان _ أي: عدم تعرّضه للإخبار عن لزوم الإتيان بقصد القربة _ كاشف عن عدم اعتباره إيّاه، فعند الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة تكون النتيجة البناء على التوصّليّة.

ص: 134

ثمّ على فُرض عدم إمكان جريان الأصل اللّفظيّ فما هي الوظيفة بالنسبة إلى الأصل العمليّ؟

قد يقال: إنّ مقتضى الأصل العمليّ هو أصالة الاشتغال.ولكنّ الحقّ: أنّ المقام من باب التردّد بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ويكون المرجع هنا هو البراءة.

هذا.

وأمّا إذا قلنا بأنّ التقابل بينهما هو تقابل السلب والإيجاب، فيمكن على هذا أن يتمسّك بالإطلاق، ولا يلزم بناءً على هذا استحالة الإطلاق، بل على العكس، وكذلك، فإنّ استحالة التقييد توجب تعيين الإطلاق، لعدم إمكان ارتفاع النقيضين، كذا إذا كان التقابل بينهما تقابل التضادّ كما نُسب إلى الشيخ(قدس سره)؛ لاستحالة ارتفاع الضدّين اللّذين لا ثالث لهما.

ما استدلّ به على التعبّديّة:

اشارة

إذا عرفت هذا فقد استدلّ على التعبّديّة باُمور:

الأمر الأوّل:

إذا شكّ في كون واجبٍ ما تعبّديّاً أو توصّليّاً، فمقتضى قاعدة الاشتغال: أن يكون تعبّديّاً؛ وذلك لأنّ المطلوب الحقيقيّ في الواجبات هو تحصيل الغرض والملاك اللّذين صارا سبباً لتشريع الحكم كما ذكرنا؛ لأنّ الحكم يدور مدار الملاك سعةً وضيقاً، فيجب تحصيلالغرض،

ولهذا الغرض

ص: 135

في الخارج محصّلات لا يمكن تحصيله بدونها، فالمحصّلات في باب الصلاة _ مثلاً _ هي الأجزاء والشرائط، فإذا أتينا بهذه الأجزاء بدون قصد القربة، مع أنّ هناك شكّاً في كونها جزءاً ومحصّلاً أم لا؟ فحينئذٍ: فمآل الشكّ في دخله إلى الشكّ في المحصّل فتجري قاعدة الاشتغال. فلابدّ أن يأتي بالصلاة مع القربة حتّى يتيقّن بحصول الغرض في الخارج.

قال

في الجواهر: «أمّا العبادات فلا إشكال في اعتبار القصد فيها، لعدم صدق الامتثال والطاعة بدونه، واعتبارهما في كلّ أمر صدر من الشارع معلوم بالعقل والنقل، كتاباً وسنّةً، بل ضرورةً من الدين، بل لا يصدقان إلّا بالإتيان بالفعل بقصد امتثال الأمر، فضلاً عن مطلق القصد، ضرورة عدم تشخّص الأفعال بالنسبة إلى ذلك عرفاً إلّا بالنيّة، فالخالي منها عن قصد الامتثال والطاعة لا ينصرف إلى ما تعلّق به الأمر، إذ الأمر والعبثيّة، فضلاً عن غيرها، على حدٍّ سواء بالنسبة اليه، ومن هنا: إذا كان الأمر متعدّداً توقّف صدق الامتثال على قصد التعيين، لعدم انصراف الفعل بدونه إلى أحدهما.إلى أن يقول: أمّا القربة بمعنى القرب الروحانيّ الذي هو شبيه بالقرب المكانيّ فهو من غايات قصد الامتثال المزبور ودواعيه، ولا يجب نيّة ذلك وقصده قطعاً»(1).

وفيه: أنّ الغرض يكون واقعاً في سلسلة الأمر ويكون داعياً إليه،

ص: 136


1- جواهر الكلام 9: 155_ 157.

فلا يمكن أن يكون موضوعاً للأمر حتّى يتعلّق به الأمر، فلا يكون الغرض مأموراً به حتّى إذا شكّ في اعتبار قصد القربة، فلا يكون شكّاً في المحصّل ويكون المقام أجنبيّاً عن الشكّ في المحصّل الذي مرجعه إلى قاعدة الاشتغال. وفي الحقيقة: فإنّ المأمور به هو نفس الأجزاء فقط.

وقد نُسب إلى المحقّق الشيرازيّ(قدس سره)(1): أنّ العباديّة ليست للأمر، ولا مأخوذة

في المأمور به، بل العباديّة عبارة عن الوظيفة التي شرّعت لأجل أن يتعبّد بها، فالصلاة التي جيء بها بعنوان التعبّد، وإظهاراً للعبوديّة، هي المأمور بها، فيمكن أن يرد الأمر على الصلاة بهذا الوجه، ولا استحالة _ حينئذٍ _ ولا دور؛ فإنّ المكلّف يتمكّن من الإتيان بالصلاة تارةً بعنوان التعبّد وإظهاراً للعبوديّة، واُخرى: بعنوانقصد الأمر وقصد القربة، فلو قلنا بأنّ المأمور به هي الصلاة المأتيّ بها بعنوان التعبّد، فالدواعي: إمّا عن قصد الأمر أو الجهة أو غيرها وهي محقّقة لعنوان العبادة ومحصّلة لها، من دون أن يتعلّق الأمر بها، لأنّها ليست بمنحصرةٍ، لحصول العبادة في الخارج، فكما يمكن الإتيان بالصلاة بعنوان العبوديّة، فيمكن الإتيان بها كذلك بعنوانٍ آخر، وهو تلك الدواعي.

ولكنّ الحقّ: انحصار العبادة بما يؤتى بها بعنوان العبوديّة، والعبرة بما ورد في تلك الأخبار. ولو أتى بالفعل لا بتلك الدواعي تبطل، وهذه

ص: 137


1- نقل النسبة إليه في فوائد الاُصول 1: 153.

الدواعي كما ذكرنا لا يمكن أخذها في المأمور به. فما نُسب إلى المحقّق المذكور) لا يرجع إلى معنىً محصّل.

الأمر الثاني:

أنّ الغرض من الأوامر ليس إلّا تحريك العباد وحثّهم على إيجاد متعلّقات الأمر، فلابدّ أن يكون الإتيان بالواجب ﷲ سبحانه حتّى يكون من الأمر، لا من الشهرة والرياء _ مثلاً _ فالغرض من الأوامر هو نفسه يقتضي التعبّديّة.وفيه: أنّه ليس الغرض من الأمر إلّا تحريك المكلّف على إيجاد متعلّقه في الخارج، فيكون ورود الأمر سبباً لإلزامه بإيجاد المأمور به، وأمّا كون هذا الإيجاد بداعي أمره وقصد الأمر لم يظهر من الغرض فالتمسّك بالغرض إنّما يكون لإثبات تعبّديّة المأمور به حتّى يتمسّك في مقام الشكّ في التعبّديّة بها، وإثبات التعبّديّة للفرد المشكوك بالغرض لا يرجع إلى محصّل.

والأمر الثالث:

قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾(1).

وقد قالوا في تفسير هذه الآية الكريمة: إنّهم لم يؤمروا إلّا لأجل العبادة، فيكون الغرض من كلّ أمرٍ هو العبادة.

ص: 138


1- البيّنة: 5.

ولكنّ الاستدلال بالآية على اعتبار التعبّد في الأوامر كافّةً ظاهر الفساد؛ لأنّ الآية وردت لبيان معنىً آخر، وهو: أنّ العبادة لابدّ وأن تكون ﷲ تعالى دون غيره من الأصنام، ويظهر من صدر الآية ومن الآيات المتقدّمة: أنّ الخطاب متوجّه للكفّار، وأنّ الكفّار لم يؤمروا بالتوحيد إلّا لكي يعبدوا اﷲ ويعرفوه ويكونوا مخلصين له غيرمشركين، فالآية واردة في مقام بيان تعيين المعبود ومعرفته وبيان كيفيّة عبادته، لا لبيان أنّ الأمر يكون عباديّاً.

وعليه: فتكون الآية الشريفة أجنبيّةً عمّا نحن فيه؛ لأنّ الاحتمال الثاني الذي ذكرناه في تفسيرها، إمّا أن يكون أظهر من الأوّل، فهو المطلوب، أو لا أقلّ من أنّه يكون مساوياً له، فتصبح الآية _ حينئذٍ _ مجملةً.

وأمّا ما ذكروه من أنّ المراد من الآية أنّهم لم يؤمروا إلّا لأجل العبادة، فإنّه لو كان صحيحاً لاستلزم تخصيص الأكثر، لعدم غلبة الواجبات التعبّديّة على التوصّليّة.

ولكن

نجيب عن هذا: بأنّ الاستهجان في تخصيص الأكثر إنّما يتصوّر إذا كان التخصيص إفراديّاً، كما إذا قال: (كل كلّ ما في البستان من رمّان)، ثمّ قال: (لا تأكل هذه الرمّانة وتلك الرمّانة... إلى تسع مائة وتسعٍ وتسعين)، وكان كلّ ما في البستان ألف رمّانةٍ، فإنّ هذا يكون مستهجناً لا محالة، وأمّا إذا كان تخصيص الأكثر نوعيّاً، فلا استهجان هناك، كما إذا قال: (لا تُكرم شاربي التتن من العلماء) وكان أكثرهم من شاربي التتن.

ص: 139

وأيضاً: فلا يفيد الاستدلال للتعبّديّة بقوله-: «إنّما الأعمال بالنيّات»(1)، وفسّروه بأنّ النيّة هي قصد القربة وامتثال الأمر، أي: فالعمل الذي لا قربة فيه فهو كالمعدوم.

ولكن

يرِد عليه: أنّه لم يظهر من الرواية هذا المعنى، بل المراد: أنّ العمل الذي وقع قهراً أو بلا إرادةٍ واختيار، ليس بعملٍ يترتّب عليه الثواب.

أو نقول: بأنّ عنوان العمل لا يتحصّل ولا يتعيّن إلّا بالقصد، فإن كانت عبادةً، فلا يتعيّن بعنوان العباديّة إلّا بالقصد، ولو كانت التوصّليّة غير محتاجةٍ إلى القصد. وليست هذه الرواية ناظرةً إلى إثبات عباديّة الأوامر الشرعيّة أصلاً.

ويؤيّد ذلك: ما ورد عن النبيّ- أيضاً: «لكلّ امرءٍ ما نوى»(2)، أي: أنّ العمل تابع لقصده، ﷲ تعالى كان أم لغيره.

فظهر: أنّه يمكن التمسّك بالإطلاق المقاميّ إذا شكّ في تعبّديّة شيءٍ أو توصّليّته، بناءً على إمكان قصد الأمر بنتيجة الإطلاق.أمّا إذا لم يمكن التمسّك بذلك الإطلاق، ولو بورود ألف أمرٍ، فلابدّ حينئذٍ من القول بالتوصّليّة ببركة الأصل العمليّ، لا بالتعبّديّة بواسطة أصالة الاشتغال.

ص: 140


1- وسائل الشيعة 1: 48، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 6.
2- وسائل الشيعة 1: 49، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 10.

الواجب المطلق والمشروط

اشارة

ولابدّ قبل الدخول في محلّ البحث من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

في معنى الإطلاق: فالواجب المطلق هو الطلب غير المقيّد بأمر وجوديٍّ أو عدميٍّ، والمقيّد على العكس من ذلك.

الأمر الثاني:

الإطلاق والتقييد من الاُمور الإضافيّة، فكلّ قيدٍ قيس إليه الواجب، فإمّا أن يكون وجوبه بالنسبة إليه مشروطاً أو مقيّداً أو مطلقاً.

ولذا يصحّ أن يقال: بأنّ الواجب قد يكون بالنسبة إلى قيدٍ من القيود مشروطاً، وبالنسبة إلى آخر مطلقاً، كما أنّ الواجب _ مطلقاً _ يكون مقيّداً بالاُمور العامّة كالبلوغ والعقل والقدرة والاختيار، فالواجبات جميعاً

ص: 141

مقيّدة بها، وكالالتفات الذي يكون قيداً للتنجيز والفعليّة، وأمّا العلم بالتكليف، فهو ليس من الشروط العامّة؛ لأنّ التكاليف مشتركة بين الجاهل والعالم.

نعم، العلم شرط ودخيل في استحقاق العقاب.

ومن هنا يظهر: أنّه ليس هناك وجوب مطلق بحيث لم يقيّد بشيءٍ أصلاً، حتّى بالنسبة إلى القيود العامّة، وليس هناك شيء مشروط بكلّشيءٍ، بل كلّ واجبٍ _ على الإطلاق _ فإنّه يكون مشروطاً، ولكن بالإضافة.

قال صاحب الكفاية(قدس سره):

«الظاهر: أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيّان، لا حقيقيّان، وإلّا، لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب كلّ واجبٍ ببعض الاُمور، لا أقلّ من الشرائط العامّة، كالبلوغ والعقل. فالحريّ أن يقال: إنّ الواجب مع كلّ شيءٍ يلاحظ معه، إن كان وجوبه غير مشروطٍ به فهو مطلق بالإضافة إليه، وإلّا، فمشروط كذلك، وإن كانا بالقياس إلى شيءٍ آخر، كانا بالعكس»(1).

ومحصّل كلامه): أنّ الواجب قد يكون مطلقاً بالإضافة إلى شيءٍ ومشروطاً بالإضافة إلى آخر، وأمّا الإطلاق من جميع الجهات، وبقولٍ مطلق، فهو غير متحقّقٍ في أيّ واجبٍ من الواجبات؛ إذ كلّ واجبٍ لابدّ

ص: 142


1- كفاية الاُصول: ص 95.

أن يكون وجوبه مشروطاً بشرط، ولا أقلّ من اشتراطه بالشرائط العامّة من البلوغ والعقل، فعلى هذا يقال: إنّ كلّ واجبٍ لوحظ بالإضافة إلى أمرٍ ما، فإمّا أن يكون وجوبه متقيّداً بهذا الأمر أو لا. والأوّل: هو الواجب المشروط، والثاني: هو الواجب المطلق.ثمّ إنّ المراد من المطلق والمشروط في محلّ البحث هو: لحاظ الواجب بالنسبة إلى ما عدا شروط العامّة، فيقال _ مثلاً _: إنّ وجوب الحجّ مشروط بالنسبة إلى الاستطاعة، ولكنّه بالنسبة إلى قرب الشخص من مكّة وبعده عنها فلا يكون مقيّداً.

الأمر الثالث:

اشارة

هل هذه القيود راجعة إلى المادّة، بمعنى: أن يكون الواجب هو المشروط، أو أنّها راجعة إلى الهيئة، بمعنى: أنّ الوجوب هو الذي يكون مشروطاً؟!

المنسوب إلى الشيخ الأنصاريّ«(1) هو القول بإرجاع القيد إلى

ص: 143


1- نسبه إليه في مطارح الأنظار، قال): «والألفاظ إنّما تتّصف بالإطلاق والتقييد باعتبار المعنى، وبعد ما فرضنا من أنّ المعنى المقصود بالهيئة هو خصوصيّات الطلب وأفراد، فلا وجه لأن يُقال: إنّ الهيئة مطلقة أو مقيّدة، بل المطلق والمقيّد هو الفعل الذي تعلّق به الطلب؛ فإنّ معنى الضرب في حدّ ذاته معنىً كلّيّ، واللّفظ الكاشف عنه مطلق، والضرب الواقع في الدار مقيّد. فظهر من ذلك: أنّ معنى الهيئة ممّا لا يختلف باختلاف المطلوب، وإن كان لهذه الاختلافات مدخل في تعدّد أفراد الطلب كما لا يخفى، إلّا أنّه لا دخل له بما نحن بصدده. ولا خفاء أيضاً في أنّ الشرط أيضاً من الاُمور الراجعة إلى المطلوب؛ فإنّ الفعل: تارةً: يكون متعلّقاً للطلب على جميع تقاديره _ من قيام عمروٍ وقعود بكرٍ وحياة زيد وموت خالد، ونحو ذلك _. وتارةً: يكون متعلّقاً للطلب على تقديرٍ خاصّ؛ فلا اختلاف في حقيقة الطلب، كما لا اختلاف فيها عند اختلاف سائر قيود الفعل، من الزمان والمكان. وإذ قد تحقّقت ذلك عرت: أنّه لا وجه للقول بكون هيئة الأمر حقيقةً في الوجوب المطلق مجازاً في المشروط؛ فإنّ ذلك ممّا لا يرجع إلى طائل، بل التحقيق: أنّها موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ للأعمّ من الطلب الواقع على الماهيّة المطلقة أو المقيّدة...» إلى آخر كلامه). انظر: مطارح الأنظار 1: 236 _ 237.

المادّة. وملخّص كلامه): أنّ عدم إمكان إرجاعه إلى الهيئةناشئ من أنّ مداليل الهيئات من المعاني الحرفيّة، والوضع في المعنى الحرفيّ عامّ والموضوع له فيها خاصّ، والهيئة قد وضعت لخصوصيّات أفراد الطلب، فيكون الموضوع له والمستعمل فيه كلاهما خاصّين.

وعليه: فالهيئة غير قابلةٍ للتقييد، بل إنّ المعاني الحرفيّة ليست قابلةً للّحاظ على نحو الاستقلال، وإنّما هي مغفول عنها وغير ملتفتٍ إليها، ولذا، فهي لا تقع مسنداً ولا مسنداً إليها، فلا يمكن تقييدها؛ لأنّ التقييد يحتاج إلى اللّحاظ، كالمسند والمسند إليه.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّا نرى _ بحسب المتفاهم العرفيّ _ أنّ القيد راجع إلى الهيئة دون المادّة، وفائدة هذا القيد تقييد المعنى، فحينما نقول _ مثلاً _: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فيظهر من هذه الجملة: أنّ الإكرام ليس بواجبٍ مطلقاً، بل فقط إذا جاء زيد.

وثانياً: أنّ الوجدان شاهد على أنّ الإرادة والوجوب ليستا مشروطتين

ص: 144

في شيءٍ من الموارد، بل المشروط هو المقيّد.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ القيود والشروط:تارةً تكون غير اختياريّةٍ وغير واجبة التحصيل، كالشروط العامّة.

وأُخرى: تكون اختياريّةً، ولكن لا يجب تحصيلها كالاستطاعة وبلوغ النصاب.

وثالثةً: تكون اختياريّةً ويجب تحصيلها كبقيّة الشروط.

فإذا عرفت هذا، فإنّ العاقل إذا تصوّر شيئاً، فهو تارةً لا يرى فيه مصلحةً، بل يرى المفسدة في إيجاده، وفي هذه الصورة لا تتعلّق به إرادته؛ واُخرى: يرى فيه المصلحة وتتعلّق به إرادته، وهنا: تارةً تتعلّق الإرادة بالشيء مطلقاً، واُخرى تتعلّق به مع قيد الخصوصيّة، كما إذا وقع طلب المولى على الماء بقيد البرودة، فأقسام القيود كلّها تكون راجعةً إلى المراد والواجب دون الوجوب.

وأمّا

عدم جواز رجوع القيد إلى الهيئة، دون المادّة، في الكلام المنسوب إلى الشيخ)؛ فلأنّ الهيئات تدلّ على المعاني الحرفيّة، والمعنى الحرفيّ جزئيّ لا سعة فيه، وتكون المعاني الحرفيّة _ كما ذكرنا سابقاً _ مرآتيّةً؛ إذ يتوصّل بها إلى ملاحظة غيرها من المعاني الاسميّة، وأمّا هي، فمغفول عنها بخصوصها في حال استعمالها تمهيداً لملاحظة غيرها، ومعه: فكيف يمكن تقييدها بقيد؟! فإنّ ذلك يستلزم ملاحظتها والالتفات إليها، وبناءً على ذلك: فالمتعيّن هو صرف القيد إلى المادّة دون الهيئة.

ص: 145

وفيه:أوّلاً: أنّه لا يتمّ على مبنى صاحب الكفاية(قدس سره) الذي يرى أنّ الحروف لا يفرّق بينها وبين الأسماء في كون الموضوع له والمستعمل فيه في كلٍّ منهما عامّين.

وثانياً: أنّه لو فرض أنّ الهيئة مندرجة في المعنى الحرفيّ، والمعنى الحرفيّ جزئيّ غير قابلٍ للتقييد، ولكنّ الكلام هنا إنّما يتمّ لو لاحظناها بالإضافة إلى أحواله وأطواره، كما يعبّر عن هذا بالعموم الأحواليّ والإطلاقيّ، فهو قابل للتقييد.

وثالثاً: بعد أن ذكرنا أنّها إخطاريّة وليست بإيجاديّة، فلها معنىً مستقلّ قابل للتوجّه إليه وغير مغفولٍ عنها.

وقد حكي عن السيّد الشيرازي(قدس سره)(1): أنّ المقرّر قد اشتبه، وأنّه لم يصل إلى مرام الشيخ(قدس سره) ومقصوده. وإنّما غرض الشيخ(قدس سره) في إنكاره رجوع الشرط إلى الهيئة أنّ الإنشاء غير قابلٍ للتقييد.

وهذا الذي ذكره تامّ؛ لأنّ الإنشاء غير قابلٍ للاشتراط والتعليق، فلذلك كان لا يتّصف بالإطلاق والتقييد، وإنّما يتّصف بالوجود والعدم.

وهناك قول ثالث في البين، اختاره المحقّق النائيني(قدس سره)، وحاصله:أنّ

القيد راجع إلى المادّة المنتسبة، وإليه أرجع كلام الشيخ(قدس سره)، لا إلى

ص: 146


1- نقل الحكاية عنه في فوائد الاُصول 1: 181.

الأوّل، مدّعياً استحالة الأوّل، لرجوعه إلى الواجب المعلّق، وهو محال(1).

وبالجملة: فلابدّ هنا من بيان أنّ القيد هل يكون راجعاً إلى المادّة أم إلى الهيئة أم إلى غيرهما؟!

القضيّة الخارجيّة والقضيّة الحقيقيّة:

ولكن قبل الدخول في صلب هذا البحث لابدّ لنا أن نشرح الحال في القضايا الخارجيّة والقضايا الحقيقيّة ليتّضح الحال، فنقول:

أمّا القضايا الخارجيّة:

فهي عبارة عن ثبوت حكمٍ على شخصٍ خاصّ وموضوعٍ موجودٍ في الخارج، سواء كان هذا الموضوع شخصاً واحداً أو أشخاصاً متعدّدين، وبلا فرقٍ بين أن يكون إلقاء القضيّة في الخارج بصورةٍ جزئيّة، ﻛ (أكرم زيداً)، أو كلّيّة، كما لو قال: (قُتل من في العسكر). ووروده هنا بصورةٍ كلّيّة لا يخرج القضيّة عن كونها خارجيّةً، ولكنبما

أنّ المحكوم عليه هو نفس الأشخاص في الخارج، لا ما يفرض وجودها فهو قضيّة خارجيّة.

وأمّا القضايا الحقيقيّة:

فهي ما يرد الحكم فيها على العنوان، لا بنفسه، بل بما أنّه قنطرة

ص: 147


1- راجع: أجود التقريرات 1: 132.

للخارج، بلا فرقٍ بين أن تكون الجملة خبريّةً أو إنشائيّةً، كلّيّةً أو جزئيّة، وبلا فرقٍ بين أن تكون الأفراد فعليّة الوجود في الخارج أم لا، بل يصحّ الإطلاق ولو لم يفرض له فرد في الخارج ولم يوجد أصلاً، المهمّ: أنّ جعل العنوان موضوعاً للحكم لا يكون بما هو هو؛ لأنّه _ بحسب الفرض _ يمتنع صدقه في الخارج، بل بما هو قنطرة ومرآة في الخارج.

الفرق بينهما:

والحاصل: أنّ الفرق بين القضايا الخارجيّة والحقيقيّة يكمن في اُمورٍ:

الأوّل: أنّ الاُولى منها ترد على الموجود الخارجيّ، وأمّا الثانية فهي إنّما ترد على العنوان.والثاني: أنّ الحكم في القضايا الحقيقة يكون على مناطٍ وملاكٍ واحد، وأمّا في القضايا الخارجيّة فإنّ المناط في كلّ قضيّة يختلف عن المناط في الاُخرى.

وبعبارةٍ ثانية: فالقضايا الخارجيّة ليس لها ملاك جامع وعنوان عامّ ينطبق على الأفراد، بل إنّ لكلّ فردٍ حكماً خاصّاً بحسب ملاكه الخاصّ الذي فيه، وهو لا يتعدّاه إلى غيره.

والثالث: أنّ الحكم المنشأ في القضايا الحقيقيّة لا ينفكّ عن الإنشاء، وإنّما يكون التقدّم والتأخّر فيها بالرتبة، كالعلّة والمعلول. وأمّا الخارجيّة: فإنّ الحكم فيها لا يترتّب إلّا مع وجود الموضوع وتحقّقه في الخارج.

ص: 148

والرابع: أنّ القضايا الخارجيّة ليست واقعةً في طريق الاستنباط؛ لأنّها _ كما أسلفنا _ لم ترد على العنوان العامّ، ولذا، فقد أصبحت جزئيّةً، والجزئيّ لا يكون كاسباً ولا مكتسباً، فلذلك لا يمكن أن تقع صغرىً في قياسٍ يستنتج منه الحكم الكلّيّ الإلهيّ.

فمثلاً: لا يمكن أن يستفاد ويستنتج من القضيّة الخارجيّة التالية، وهي: (قتل كلّ من في العسكر) أنّ زيداً قد قتل إلّا بعد أن يقتل الجميع، أو بعد أن يعلم بقتل كلّ من في العسكر وزيد منهم، ولانحتاج إلى تأليف قياس نقول فيه: (زيد في العسكر، وكلّ من في العسكر قُتل، فزيد قد قُتل).

والخامس: أنّ الموضوع في القضايا الخارجيّة، سواء كان هو متعلّق الحكم أم متعلّق المتعلّق؛ فإنّه يكون موضوعاً بما أنّه موجود في الخارج بجميع شرائطه، فالإنسان الحرّ البالغ المستطيع يكون موضوعاً بوجوده الخارجيّ لوجوب الحجّ، لا بوجوده العلميّ.

وأمّا في القضايا الحقيقيّة، فإنّ جميع القيود وإن كانت دخيلةً في الموضوع ليترتّب الحكم عليه، إلّا أنّ ذلك بوجودها العلميّ، وإلّا، تخرج القضيّة عن كونها قضيّةً حقيقيّة؛ فإذا قال: (يا زيد ادخل داري)، معتقداً أنّه صديقه فهنا يجوز له الدخول في الدار، وإن لم يكن صديقه، وعلم أنّ الآمر قد أخطأ في الأمر.

وأمّا لو قال: (كلّ من كان صديقي فليدخل)، فإنّ القضيّة حينئذٍ تكون حقيقيّةً، فكلّ من رأى نفسه صديقاً له فيجوز له الدخول.

ص: 149

والسادس: أنّ الشرط المتأخّر معقول بناءً على أن تكون القضايا حقيقيّةً؛ لأنّ الشيء بوجوده العلميّ يكون دخيلاً.

وأمّا في القضايا الخارجيّة فإنّ الشرط يكون دخيلاً بوجوده الخارجيّ، ولمّا لم يتحقّق الموضوع في الخارج بجميع شروطه، فلايتعلّق به الحكم، وعليه: فلا يمكن فرض الشرط المتأخّر فيها، لأنّه يستوجب الخلف.

والسابع: أنّه لا يتأتّى النزاع بناءً على القضايا الحقيقيّة في أنّ الخطاب هل هو مختصّ بالمشافهين والحاضرين في مجلس الخطاب، أم أنّه يشمل الغائبين والمعدومين أيضاً؟! لأنّ الحكم في الحقيقيّة ليس متوجّهاً إلى الأشخاص حتّى يرد هذا البحث، بل إنّما يرد على عنوانٍ كلّيٍّ مفروض الوجود، فكلّ من ينطبق عليه هذا العنوان فإنّ الحكم يشمله.

والثامن: أنّه لا يأتي البحث في أنّه هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أو لا؟ بناءً على كون جعل الأحكام من قبيل القضايا الحقيقيّة، وعلى ذلك النهج؛ لأنّه لا دخل لعلم الآمر أو جهله بوجود الشرط فيها أصلاً؛ لأنّ جميع القيود تلاحظ على نحوٍ تكون مفروضة الوجود في الخارج، فلا دخل للعلم فيها أصلاً، والوجود العلميّ أجنبيّ عنها.

قضايا الأحكام حقيقيّة أم خارجيّة؟

إذا عرفت هذا، فهل الأحكام الشرعيّة، وضعيّةً كانت أم تكليفيّة، من القضايا الحقيقيّة أم الخارجيّة؟

ص: 150

الصحيح: أنّها من القضايا الحقيقيّة لا الخارجيّة؛ لأنّها لو كانت من القسم الثاني، لكان لابدّ من إنشاءاتٍ متعدّدةٍ بتعدّد الأشخاص لما يرد عليه الحكم بخصوصه، لا بعنوان انطباق عنوانٍ كلّيٍّ عليه إذا ورد الحكم عليه كذلك، فهو، مع غضّ النظر عن أيّ شخصٍ آخر، يكون موضوعاً للحكم، والخطاب الموجّه إليه لا يغني عن الخطاب الموجّه إلى سائر الأشخاص، فلابدّ أن يكون لكلّ شخصٍ خطاب خاصّ به متوجّه إليه، فنتيجته _ إذاً _ هي الاحتياج إلى تعدّد الخطاب، وهو خلاف البديهة.

كما لابدّ أن يكون هذا التعدّد في زمان الحضور، مع أنّ هناك أشخاصاً غائبين أو معدومين، وهؤلاء لا يمكن توجّه الخطاب إليهم، فعدم إمكان تعدّده كاشف عن أنّ الأحكام قد وردت على نحو القضايا الحقيقيّة.

وقد يُدفع هذا الإشكال _ أي: إشكال لزوم تعدّد الخطاب _: بأنّه يمكن أن يكون الخطاب على نحو القضايا الخارجيّة وأن يرد علىعنوانٍ كلّيٍّ منتزع، كقولك: (كلّ من في العسكر قتل)، فالموضوع هو نفس الأشخاص من دون أن يكون هناك تعدّد في الوضع والخطاب.

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ القضايا الخارجيّة منها ما هو جزئيّ ومنها ما يكون كلّيّاً، ولو فرض كفاية هذا النوع من الوضع والخطاب، فإنّ هذا يكفي بالنسبة إلى الحكم الكلّيّ، وأمّا الجزئيّ فالإشكال فيه.

وثانياً: أنّ الموضوع في القضايا الخارجيّة لابدّ وأن يكون موجوداً في

ص: 151

الخارج حين الإنشاء، والمشار إليه حقيقةً إنّما هي الأفراد الموجودة، دون المقدّرة؛ لأنّ تقدير الوجود مختصّ بالقضايا الحقيقيّة، والعنوان الكلّيّ _ بعنوانه المشير إلى الأفراد _ إنّما يتصوّر في صورة وجودها، فلا يمكن توجيه الخطاب إلى المعدوم، ولا يمكن إنشاء الحكم بالنسبة إليهم إلّا بنحو القضايا الحقيقيّة.

فإذا اتّضح ذلك، فينبغي أن يعلم:

أنّ الأحكام ترد على نهج القضايا الحقيقيّة لاُمورٍ:

الأوّل: ما عرفت من الفرق بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة، فإنّ كلّ قضيّة لوحظ فيها ترتّب المحمول على موضوعها على نحو تقدير الوجود تكون قضيّةً حقيقيّة، سواء كان الموضوع فيها كلّيّاً أو جزئيّاً،فكلّ قضيّةٍ يترتّب فيها المحمول على الموضوع لا على سبيل التقدير، بل على نحو وجود الموضوع، فإنّها تكون قضيّةً خارجيّة.

والثاني: أنّ الشارع لم يتخطّ عمّا يسلكه العرف في عمليّة جعلهم للقوانين؛ فإنّ العرف، أو المتصدّين لاُمور الدول، لو أرادوا وضع قانونٍ ما، فإنّهم يضعونه بدون ملاحظة خصوصيّة الأفراد، وإنّما يفرضون وجود كلّ من يصلح لأن يشمله القانون، ثمّ يضعون القانون له، فيمكن أن يكون الشارع المقدّس قد جرى في وضعه للقانون على نفس هذا المنوال.

ص: 152

بل إنّ الذي يظهر من مثل قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(1)، وقوله: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾(2)، هو أنّه لم يتخطّ عمّا هو السائد في وضع القوانين العرفيّة من إيراد الحكم على الموضوع المفروض الوجود.

والثالث: أنّا نرى ثبوت الاستمراريّة للأحكام، كما ورد في الخبر: «حلال محمّد _ - _ حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»(3)، وأنّها غير قابلةٍ للنسخ،ولا

تختصّ بالحاضرين في مجلس التشريع، بل تشمل الغائبين والمعدومين، وهذا كاشف عن أنّ الأحكام إنّما وردت على نحو القضايا الحقيقيّة.

ورابعاً: أنّه لو كانت الأحكام مجعولةً على نحو القضايا الخارجيّة، للزم _ كما مرّ _ تعدّد الجعل، مع أنّ المفروض عدم التعدّد فيه.

عودة إلى أصل البحث:

ولنرجع هنا إلى صلب الموضوع، وهو: أنّ القيود هل هي راجعة إلى المادّة أم إلى الهيئة أم إلى المجموع؟

وقد قلنا سابقاً: إنّه قد نسب إلى الشيخ(قدس سره) رجوعه إلى المادّة، ومرّ

ص: 153


1- البقرة: 185.
2- آل عمران: 97.
3- الكافي: 1: 58، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس، ح19.

كلامه وجوابه، فعلى أيّ حال: فإن فرضنا عدم إمكان رجوع القيد إلى الهيئة، فلابدّ من رجوعه: إمّا إلى المادّة _ كما عليه الشيخ الأعظم(قدس سره) _ أو إلى المادّة المنتسبة _ كما عليه المحقّق النائيني(قدس سره) _.

وإذا وصل الكلام إلى هذا المقام فلابدّ من بيان مقدّمةٍ حاصلها:

أنّه بعدما عرفنا أنّ الأحكام الشرعيّة تكون على نحو القضايا الحقيقيّة، وليست من القضايا الخارجيّة، فتكون تلك الأحكام مشروطةً بوجود موضوعاتها؛ لأنّ نسبة الحكم إلى الموضوع هي نسبة العرضإلى المعروض، أو العلّة إلى المعلول، كما تقدّم، فالبحث يقع تارةً في مقام الثبوت، واُخرى في مقام الإثبات.

أمّا في مقام الثبوت: فبعدما بيّنّا أنّ الحكم في القضايا الحقيقيّة عبارة عن ترتّبه على عنوانٍ كلّيٍّ أُخذ قنطرةً إلى الخارج، ويكون هذا العنوان مرآةً لأفراده المقدّرة الوجود، فلا يكاد يمكن جعل الحكم إلّا بعد فرض موضوعٍ له، فالحكم في عالم الثبوت مشروط بالموضوع، كما أنّ المعلول يكون مشروطاً بالعلّة، وكما أنّ العرض يكون مشروطاً بالمعروض.

وأمّا في مقام الإثبات _ أي: مرحلة الإبراز _: فإنّ القضيّة تارةً تكون مصدّرةً بأداة الشرط، كقولك: (إن استطعت فحجّ)، واُخرى لا تكون كذلك، كقولك: (يجب الحجّ على المستطيع). ولكنّ مآل الموضوعين في كلا الموردين إلى واحدٍ؛ إذ بعد أن نرجع القيود في القضيّة الشرطيّة إلى الموضوع، فيكون مآلها إلى أن تتّحد النتيجة.

ص: 154

نعم، تختلف بالنسبة إلى أهل العربيّة؛ فإنّ الفارق بين القضيّة الشرطيّة والحمليّة عندهم في أنّ القضيّة إذا لم تكن مصدّرةً بأداة الشرط فهي تسمّى: حمليّةً، وإلّا، فتسمّى: شرطيّةً. وإن كان مآل الحمليّة _ أيضاً _ في نظرهم إلى الشرطيّة، فمثلاً: إذا قيل: (الجسم هو ما له أبعاد ثلاثة)، فمعناه عندهم: (كلّما وجد في العالم شيء وكان ذلكالشيء جسماً فإنّه يكون ذا أبعادٍ ثلاثة)، فهذه القضيّة _ إذاً _ تنحلّ إلى شرطيّةٍ مقدّمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول.

وإذا عرفت هذه المقدّمة، وأنّه لا فرق بين القضايا الشرطيّة والحمليّة، فنقول:

القيد الموجود يتصوّر على وجوهٍ، فإنّه:

تارةً: يرجع إلى الموضوع والمادّة، أي: يرجع إليهما في المرتبة السابقة على الحكم. وهذا هو المراد من رجوع القيد إلى المادّة، أي: أن يفرض الموضوع والمتعلّق مقيّداً قبل ورود الحكم عليه، كما ذكرنا، بأن يلاحظ الصلاة مقيّدةً بالطهارة، ثمّ بعد ذلك يرد عليه الوجوب، وعليه: فالوجوب مطلق وغير مقيّدٍ بشيء، وإنّما الذي يكون مقيّداً هو الصلاة، كما عليه الشيخ الأنصاريّ(قدس سره).

وثانيةً: يفرض القيد راجعاً إلى المفهوم التركيبيّ، أي: أنّ النسبة التركيبيّة تكون هي المقيّدة بذلك القيد، وبعبارةٍ أُخرى: فالنسبة الإيقاعيّة التي تتكفّلها الهيئة تكون هي المقيّدة.

ص: 155

ثمّ إنّ المحقّق النائيني(قدس سره)، التزم _ كما أشرنا _ برجوع القيد إلى المادّة المنتسبة، ففي نظره الشريف: أنّ القيد يرجع إلى المادّة، ولكن لا بمعنى: كون القيد من قيود الواجب، وأنّ الوجوب يكون فعليّاً؛ لأنّ مآل هذا الكلام هو الرجوع إلى الواجب المعلّق الذي التزم به صاحبالفصول(قدس سره)(1)، بل القيد يطرأ على المادّة بعد ورود النسبة عليها. وذلك بتقريب: أنّ الشيء قد يكون متعلّقاً للنّسبة الطلبيّة مطلقاً، أي: من غير تقييد، وقد يكون متعلّقاً لها حين اتّصافه بقيدٍ في الخارج، فمثلاً: الحجّ مقيّد بالاستطاعة الخارجيّة، فما لم يوجد هذا القيد، فيستحيل تعلّق الطلب به، ويستحيل كونه طرفاً للنسبة الطلبيّة، فالقيد راجع إلى المادّة، لكن لا بما هي هي، بل بما هي منتسبة إلى الفاعل.

وثالثةً: يمكن أن يكون القيد راجعاً إلى الطلب الذي يستفاد من الهيئة، كما عليه المشهور.

ورابعةً: أن يرجع القيد إلى المحمول المنتسب.

فعلى أيٍّ: فإذا أرجعنا القيد إلى الطلب، فمعناه: رجوعه إلى المعنى

ص: 156


1- انظر: الفصول الغرويّة: 79. قال(قدس سره): «وينقسم [أي: الواجب] باعتبارٍ آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له، كالمعرفة، وليُسَمّ: منجّزاً، أو إلى ما يتعلّق وجوبه به، ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له، وليُسَمّ: معلّقاً، كالحجّ؛ فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ويتوقّف فعله على مجيء وقته، وهو غير مقدور له» إلى آخر كلامه(قدس سره).

الحرفيّ، بخلاف ما لو أرجعناه إلى المحمول المنتسب؛ فإنّ رجوعه يكون إلى المعنى الاسميّ.

ثمّ إنّ رجوعه إلى المحمول المنتسب: تارةً يكون في رتبة الانتساب، واُخرى في المرتبة المتأخّرة عنه رتبةً أو زماناً.وإذا عرفت هذا، فلا يخفى: أنّ أداة الشرط تارةً تكون وظيفتها الربط بين الجملتين والمعنيين المتحصّلين، لا الفردين، فيكون التعليق بين الجملتين، ففي مثل: (إذا طلعت الشمس فالنهار موجود) فإنّ المعنى المتحصّل من الجزاء هو وجود النهار؛ لأنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف، فالمادّة التي في حيّز الطلب نحو: (إن استطعت فحجّ)، ليست مقيّدةً فحسب، بل المادّة بعد اتّصافها بالطلب؛ فإنّ الجزاء هو الحجّ المقيّد بالاستطاعة، وفي قولك: (إن جاءك زيد فأكرمه)، هو الإكرام الواجب، أعني به: المادّة بعد الانتساب، وهذه البعديّة بمعنى التأخّر رتبةً لا زماناً.

إذاً: فاتّصاف المادّة بالطلب والوجوب فرع ورود النسبة الطلبيّة عليها، كقولك: (أكرمه)، وبعد تحقّق النسبة الطلبيّة وورودها على المادّة تكون مقيّدةً للجملة الطلبيّة، وهو الإكرام الواجب.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ التقييد متأخّر عن الاتّصاف الثابت في النسبة الطلبيّة، ولكن رتبةً لا زماناً.

وقد يرد على ذلك: أنّه يوجب النسخ، حيث إنّ المادّة قبل الاتّصاف

ص: 157

تقع في حيّز الطلب، فالمطلوب _ حينئذٍ _ هو نفس المادّة، ثمّ يرفع اليد عن نفس هذا الطلب المطلق وتقيّد المادّة الواجبة بقيدٍ، فالوجوب المطلق الثابت للمادّة بقوله: (أكرم زيداً) _ بناءً علىهذا _ يكون منسوخاً، وقد شرّع وجوب آخر لمادّةٍ تكون مقيّدةً بوجود زيد.

ولكن فيه: أنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ لو كان تأخّر الجملة الإنشائيّة الجزائيّة عن اتّصاف المادّة بالطلب هو التأخّر الزمانيّ لا الرتبيّ، وأمّا إذا كان رتبيّاً، فإنّه لا يلزم النسخ.

إذا عرفت هذا فنقول:

لو قيل _ مثلاً _ : (إن بنيت المسجد فصلّ)، فهنا اُمور ثلاثة: المادّة، وهي المسجد، والهيئة، وهي تدلّ على إنشاء النسبة بين الفعل وفاعله، والتعليق المستفاد من قوله: (إن بنيت).

فأمّا الإنشاء: فإنّه لا معنى لتعليقه.

وعلى هذا حملوا كلام الشيخ(قدس سره) من أنّ المراد من الهيئة هو الجملة الإنشائيّة التي هي غير قابلةٍ للتعليق؛ لأنّه إمّا موجود أو معدوم، فاذا أنشأ الضرب بقوله: (اضرب زيداً)؛ فإنّ هذا الضرب الخارجيّ الواقع على شخصٍ يقع بلا فرقٍ بين أن يكون المضروب زيداً أو عمراً، ولو علّق على كونه زيداً، فإذاً: لا معنى لتعليق الإنشاء على شيء.

وأمّا المنشأ: وهو النسبة بين الفعل والفاعل، فغير قابلٍ للتعليق والتقييد؛ لأنّ الهيئة لا تدلّ إلّا على مصداق النسبة، ولا دلالة لها على

ص: 158

مفهوم النسبة.وأيضاً _ وكما قلنا _: فإنّ الهيئة من المعاني الحرفيّة وليس لها مفهوم عامّ حتّى يكون قابلاً للتقييد، بل تحق المعاني الحرفيّة التي منها الهيئة يكون في مواطن الاستعمال، فعلى القول بإيجاديّة المعاني الحرفيّة: فالنسبة غير قابلةٍ للتقييد، فلابدّ أن نقول بأنّ المادّة لابدّ أن تكون معلّقةً، وأنّ القيد لابدّ أن يرجع إلى المادّة.

ولكنّ هذا مخالف للقواعد العربيّة، فقولك: (إن بني المسجد فصلّ فيه)، لو كان قيداً للمادّة، فإنّ بناء المسجد يكون قيداً للواجب، فيجب تحصيله؛ فإنّ الظاهر من الجملة _ طبقاً لقواعد العربيّة _ هو: توقّف الصلاة في المسجد على بنائه، فيفهم منه وجوب البناء، ثمّ الصلاة فيه بعد ذلك.

وليس التعليق هنا كالتعليق في الطهارة التي هي شرط للصلاة حيث يجب هذا الشرط وهو الموضوع، ومع ذلك، لا يمكن أن يكون الشرط عائداً للنسبة الطلبيّة كما عرفت. فلا محالة: لابدّ أن يقال برجوعه إلى المادّة المنتسبة التي تدلّ عليها (صلّ)، فتكون الصلاة المنتسبة قد علّقت على بناء المسجد.

وبعبارةٍ أُخرى: تكون الصلاة الواجبة قد علّقت على بناء المسجد، ومع عدم البناء لا تفيد الصلاة، ونتيجته: أن يكون الوجوب مشروطاً، لا بمعنى إنشاء المنشأ كما مرّ ذكره.

ص: 159

ولكن يرد عليه الإشكال: بأنّه لو قلنا بأنّ النسبة من المعاني الحرفيّة فلا يمكن تصوّرها لذلك؛ فإنّ النسبة في المحمول المنتسب مغفول عنها، فكيف يمكن تصوّرها، مع أنّه لابدّ من تصوّر المعلّق عليه، وهو المحمول والنسبة أوّلاً ثمّ تعليقه بعد ذلك؟ ونحن نرى أنّ المعلّق ليس هو المادّة فقط، بل هو المادّة مع قيد الانتساب، فلابدّ _ إذاً _ من تصوّر الهيئة أوّلاً، وهذا خلف؛ لأنّه يرجع المعنى الحرفيّ إلى المعنى الاسميّ.

ولكنّ الحقّ: هو ما ذكرناه، من أنّ الهيئة إخطاريّة، كما في جميع المعاني الحرفيّة، خلافاً للمحقّق النائيني(قدس سره)، فيتحصّل: أنّه يمكن تقييدها.

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا اُمور:

الأوّل: عدم إمكان تقييد الهيئة بناءً على مبنى الميرزا النائيني(قدس سره)؛ لأنّ معاني الحروف في نظره الشريف معانٍ إيجاديّة.

والثاني: لا يمكن توصيف المادّة بما علّقت عليها؛ فإنّ المجيء ليس قيداً للإكرام؛ لأنّ المادّة لا يمكن وصفها بالتعليق، فلا يوصف بالإكرام الذي هو فعل لعمروٍ لدى مجيء زيد، حتّى يقال: إن كان قيداً للمادّة فيجب تحصيله، بل المعلّق هو الإكرام الواجب.

والثالث: عدم إمكان رجوع القيد إلى المادّة المنتسبة؛ لأنّه يستلزم الخلف، كما مرّ.وقد مرّ الإشكال عليه: بأنّ الحكم لو ورد على المحمول المنتسب لورد الإشكال أيضاً، فإنّه لابدّ من تصوّر الانتساب، وهو معنىً حرفيّ.

ص: 160

ولكن أُجيب عنه: بأنّه إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ المعلّق عليه هي المادّة المتّصفة بالانتساب، وأمّا لو لاحظنا الموضوع، وهو المادّة، لا بنحو الاتّصاف بالنسبة، بل بحيث تقارن النسبة، وفي حال اقترانها بها، فلا يكون المعنى جزئيّاً حينئذٍ، ولا يكون المعنى جزءاً للمعلّق عليه الشرط، فلا يأتي المحذور أصلاً.

ولكن مع ذلك، يرد الإشكال: لأنّه يصبح الواجب معلّقاً.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّ الهيئة قابلة للتقييد، وأنّ المعنى الحرفيّ، ولو لم يكن مستقلّاً باللّحاظ، إلّا أنّه ملحوظ تبعاً لملاحظة غيره من المعاني الاسميّة، ولو قلنا بأنّ المعنى الحرفيّ يكون جزئيّاً وغير قابلٍ للتقييد في حدّ ذاته، إلّا أنّه بالنسبة إلى أحواله وأطواره قابل للتقييد حتماً، فالقيد _ إذاً _ راجع إلى الهيئة.

نعم، يتوجّه الإشكال على ما نسب إلى الشيخ(قدس سره) من أنّه لو كان قيداً للمادّة وأنّه لو قلنا برجوعه إليها طرّاً، فلابدّ أن لا يفرّق بين قيد الوجوب وقيد الواجب، فلابدّ أن ترجع القيود طرّاً إلى الواجب، مع أنّ هناك فرقاً بينهما، ولو كان شرط الوجوب راجعاً إلى الواجب فلا معنى لعقد البحث في عنوانين، مع أنّهم عدّوا مثل: البلوغ والعقل والحريّةمن شرائط الوجوب، وأمّا شرائط الواجب في الصلاة _ مثلاً _ فهي الاستقبال والطهارة وغيرها.

إذا عرفت هذا، فالفرق بين الواجب المشروط والواجب المطلق هو:

ص: 161

أنّ الوجوب المطلق إذا علم به المكلّف المنقاد لأمر المولى، شرع فوراً بالامتثال من دون انتظارٍ لشيءٍ آخر؛ لأنّه قد علم بأنّ التكليف تمّ في حقّه ووصل إليه من ناحية المولى.

وأمّا لو علم بأنّ الوجوب معلّق أو مشروط، وكان تعلّقه على وجود شيءٍ آخر، فلا يسعى لامتثاله بنحو من السعي؛ لأنّه يرى نفسه قبل تحقّق شرط الوجوب غير مكلّفٍ بشيء ليهتمّ ويسعى بامتثاله.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ معنى وجوب المطلق وحقيقته: إرادة الفعل من المكلّف على أيّ تقدير، وكان من آثاره انبعاث المكلّف المنقاد، إذا علم به، نحو الفعل بلا انتظار لشيءٍ أصلاً.

وأمّا الوجوب المشروط: فإنّه لمّا كانت حقيقته إرادة الفعل من المكلّف على تقديرٍ خاصّ، لا على كلّ تقدير، كان من آثاره _ إذا علم به قبل تحقّق الشرط المعلّق عليه لو كان منقاداً _ عدم الانبعاث نحو الفعل مباشرةً، بل ينتظر حصول الشرط المعلّق عليه ذلك الوجوب الذي بواسطته صار نوعاً خاصّاً مبايناً لنوع الوجوب المطلق.وليس معنى الوجوب المشروط: أنّه إنشائيّ، بل هو كالوجوب المطلق فعليّ، غاية الأمر: يختلف الفعليّان لاختلاف آثارهما واختلاف حقيقتهما، ولو كان وجوبه مشروطاً فإنّه يكون فعليّاً، ولكنّ الانبعاث غير مطلوبٍ منه؛ لأنّه لا يكون هناك انبعاث إلّا بعد حصول الشرط، ونظير هذا كثير، ففي صورة الجهل بالحكم يكون الحكم فعليّاً، وكذا في صورة

ص: 162

العلم مع التمرّد، فالحكم فعليّ وباقٍ على فعليّته.

وبعدما عرفت من الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب، فقد ذكر المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1) في الفرق بينهما ما توضيحه:

أنّ الشرط تارةً تكون علّة لاتّصاف شيءٍ بالمصلحة، واُخرى يكون علّةً لوجود المصلحة في الخارج، فالأوّل: شرط الوجوب، والثاني: شرط الواجب.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ شرط الوجوب من مبادئ الإرادة وعللها، ولذا، لا تتعلّق به الإرادة، لأنّه من التقسيمات الأوّليّة، كالاستطاعة التي هي شرط للوجوب. نعم، إذا تحقّق توجد الإرادة.

وأمّا شرط الواجب، فهو معلول للإرادة، ولذا، يجب تحصيله، فشرط الوجوب _ إذاً _ لا تتعلّق به الإرادة، ولذا، يمكن أخذه في المادّة،ومعنى أخذه فيها: أنّه معلول للإرادة، مع أنّه علّة للإرادة، ويلزم بناءً على هذا: اجتماع النقيضين؛ لأنّه يلزم تعلّق الإرادة به إذا كان من قيود الواجب وعدم جواز تعلّقها به لكونه علّةً للوجوب ومن مقدّمات الإرادة.

ولكن لا يخفى: أنّ ما ذكره(قدس سره) لا يعدو أن يكون شرحاً لشرط الوجوب وشرط الواجب، ولا يزيد شيئاً عمّا ذكرناه.

وبعدما ذكرنا من إمكان رجوع القيد إلى الهيئة، فنقول:

ص: 163


1- انظر في ذلك: منتهى الدراية 2: 172.

إنّ كلّ ما يلاحظ مع الواجب، فإمّا أن يكون له دخل فيه وجوداً، وإمّا أن لا يكون له دخل فيه. فعلى الثاني: يسمّى ﺑ «المطلق»، وأمّا على الأوّل: فإن كان القيد من القيود التي لا يمكن تحصيلها، فحينئذٍ: يكون الوجوب منوطاً به بعد صحّة كونه قيداً للمادّة؛ لأنّه لو صحّ أن يكون قيداً لها، فلابدّ أن يقع تحت الطلب؛ لأنّه غير قابلٍ لتعلّق الطلب به لعدم القدرة عليه؛ فإنّ العبد لا يقدر على إيجاده، فالخطاب بالنسبة إليه يكون قبيحاً. وأمّا إذا كان العبد قادراً على إيجاده: فتارةً يكون الخطاب بلسان الجملة الشرطيّة، كقولك: (إن استطعت فحجّ)، واُخرى بلسان الجملة الحمليّة، كقولك: (الصلاة في المسجد واجبة)، أو (الحجّ واجب عند الاستطاعة). فإن كانت القضيّة شرطيّةً: فظاهرها أنّ الشرط للوجوب، وأنّ الوجوب مشروط به، وإن كانت حمليّةً:فظاهرها كون القيد قيداً للمادّة، وهذا إنّما يتمّ فيما لو استبان من الظهور الذي لا يمكن رفع اليد عنه إلّا مع القرينة على الخلاف.

وأمّا لو شكّ في رجوع القيد إلى المادّة أو الهيئة، ولم يعلم بأنّه قيد للمادّة أو الهيئة، أي: لم يكن ظهور في البين حتّى يعلم بأنّه قيد للمادّة فيجب تحصيله، أو قيد للهيئة حتّى لا يجب تحصيله، فهنا اُمور:

الأوّل: أنّه تارةً يشكّ بأنّ القيد قيد للوجوب أم لا؟ فإن كان هناك إطلاق فيؤخذ به، وأمّا إذا لم يكن هناك إطلاق، فمقتضى أصالة البراءة عدمه.

ص: 164

والثاني: إذا كان الشكّ في تقييد الواجب، فمقتضى الإطلاق المقاميّ عدم الوجوب، وكذا مقتضى الأصل هو البراءة.

والثالث: لو علم كون الوجوب مقيّداً، ولكن لم يعلم بأنّ هذا القيد كان على نحوٍ لو حصل وتحقّق بطبعه حتّى يصبح الواجب معلّقاً، أو أنّه اعتبر على نحو الإطلاق بحيث يجب تحصيله، فلا يمكن حينئذٍ التمسّك بالإطلاق أو الأصل لنفي تقييده، والمفروض حصول العلم بالتقييد ووقوع الشكّ في كيفية التقييد، فيمكن لذلك التمسّك بالبراءة لنفي الوجوب المستلزم لتحصيل القيد.

والرابع: إن شكّ في أنّ القيد قيد للواجب أم للوجوب، بنحو التخيير، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق، إذ لم يمكن هناك ظهور يفهم منه أنّه قيدللمادّة أو للهيئة، حتّى يجب تحصيله في الأوّل دون الثاني. أمّا عدم إمكان التمسّك بالإطلاق: فلأنّ القيد إمّا أن يكون متّصلاً أو منفصلاً، ففي حال الاتّصال لا يمكن التمسّك به للإجمال، وفي حال الانفصال للتعارض. فالمرجع _ إذاً _ إلى الاُصول العمليّة، والمآل هو البراءة؛ لكون الشكّ فيه شكّاً التكليف؛ لأنّه لو كان قيداً للمادّة لوجب، أو للهيئة فلا يجب، فعند الشكّ تجري البراءة.

والخامس: لو دار أمر القيد بين أن يكون قيداً للواجب أو الوجوب على نحو المعلّق، فلا إشكال في عدم الوجوب.

ولا بأس هنا بذكر بعض الاُمور المرتبطة بمحلّ البحث:

ص: 165

الأوّل: أنّ وجوب المقدّمة بما أنّه مترشّح عن وجوب ذيها، فهو تابع في الإطلاق والاشتراط لوجوب ذيها، فإذا كان وجوب ذي المقدّمة مشروطاً بشرطٍ، كان وجوبها كذلك، كما عليه صاحب الكفاية(قدس سره)(1).والثاني: فيما يتعلّق بالثمرة، وقد تعرّض لها صاحب الكفاية(قدس سره)، مبيّناً الثمرة بين القولين، أعني: ما اختاره هو في الواجب المشروط وما اختاره الشيخ(قدس سره).

قال): «وأمّا الشرط المعلّق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب، فخروجه ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب. أمّا على ما هو ظاهر المشهور والمنصور: لكونه مقدّمةً وجوبيّة. وأمّا على المختار لشيخنا العلّامة«: فلأنّه، وإن كان من المقدّمات الوجوديّة للواجب، إلّا أنّه أخذ على نحوٍ لا يكاد يترشّح عليه الوجوب منه، فإنّه جعل الشيء واجباً على تقدير حصول ذاك الشرط. فمعه: كيف يترشّح عليه الوجوب ويتعلّق به الطلب، وهل هو إلّا طلب الحاصل؟!»(2).

ومحصّل ما أفاده): أنّ الشرط الذي يعلّق عليه الوجوب في الخطاب

ص: 166


1- كفاية الاُصول: ص 99. قال(قدس سره): «ثمّ الظاهر دخول المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط في محلّ النزاع أيضاً، فلا وجه لتخصيصه بمقدّمات الواجب المطلق، غاية الأمر: تكون في الإطلاق والاشتراط تابعةً لذي المقدّمة، كأصل الوجوب، بناءً على وجوبها من باب الملازمة».
2- كفاية الاُصول: ص 99.

يكون خارجاً عن محلّ النزاع، بناءً على ما هو المختار من رجوعه إلى الوجوب؛ لأنّه يكون مقدّمة وجوبيّةً، وقد عرفت عدم تأتّي النزاع فيها، فلا نعيده.

وأمّا على مختار الشيخ(قدس سره): فهو، وإن كان من قيود الواجب، إلّا أنّه قد أخذ بنحوٍ لا يكون قابلاً لترشّح الوجوب عليه؛ وذلك لأنّ الواجب هوالشيء على ذلك التقدير، فالوجوب متعلّق بذلك الشيء على تقدير الشرط، فتعلّق الوجوب به يكون من باب طلب الحاصل.

والثالث: ما تعرّض له صاحب الكفاية) بقوله:

«لا يخفى: أنّ إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقاً، وأمّا بلحاظ حالٍ قبل حصوله، فكذلك على الحقيقة، على مختاره(قدس سره)(1) [أي: الشيخ)] في الواجب المشروط؛ لأنّ الواجب، وإن كان أمراً استقباليّاً عليه، إلّا أنّ تلبّسه بالوجوب عليه قبله»(2).

ص: 167


1- كفاية الاُصول: ص 100.
2- مطارح الأنظار: 1: 236 _ 237.

ص: 168

الواجب المعلّق والمنجّز

اشارة

لا يخفى: أنّ الواجب المشروط بعد حصول شرطه:

قد يكون وجوبه فعليّاً، كالواجب المطلق، فيتوجّه التكليف فعلاً إلى المكلّف بعد حصول شرطه.

وقد لا يكون وجوبه فعليّاً، بل تكون فعليّة الوجوب مقارنةً لفعليّة الواجب، بمعنى: أن يكون زمان الوجوب متّحداً مع زمان الواجب، ويسمّى هذا القسم ﺑ «الواجب المنجّز»، كالصلاة بعد دخول وقتها، فإذا دخل الوقت، فكما أنّ الواجب يكون فعليّاً، فإنّ الوجوب _ هو أيضاً _ يكون فعليّاً.

أمّا إذا كان الوجوب فعليّاً، ولكنّ الواجب ليس بفعليّ، بل يكون مقيّداً بزمان متأخّر؛ فإنّ فعليّة الوجوب فيه تكون سابقةً على فعليّة الواجب، ويتأخّر بذلك زمان الواجب عن زمان الوجوب، ويسمّى هذا القسم ﺑ «الواجب المعلّق»؛ لتعليق وجوب الفعل على زمان وهو بعد غير

ص: 169

حاصل، كالحجّ؛ فإنّ الوجوب يكون فعليّاً عند الاستطاعة أو في أشهر الحجّ، ولكنّ الواجب يكون معلّقاً على زمان الموسم.

وقد يُعبّر عنه بوجه آخر، بأن يقال:الواجب تارةً يكون مقيّداً بقيد متأخّر خارج عن اختيار المكلّف من زمان أو زمانيّ، وأُخرى: لا يكون مقيّداً كذلك، فعلى الأوّل: يسمّى بالمعلّق، وعلى الثاني بالمنجّز، لأنّ كليهما يكونان فعليّين.

فبناءً على التعريف الأوّل: يدخل الواجب المشروط بشرط متأخّر في هذا الفرض؛ لأنّ الوجوب فيه يكون حاليّاً، والواجب استقباليّاً.

وبناءً على الثاني: فهو يكون منجّزاً؛ لأنّ كليهما يكون حاليّاً.

قال في الفصول:

«و[الواجب]

ينقسم باعتبار آخر إلى: ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة، وليسمّ منجّزاً، أو إلى ما يتعلّق وجوبه به، ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له، وليسمّ معلّقاً، كالحجّ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرّفقة، ويتوقّف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك للوجوب، وهنا للفعل»(1).

ص: 170


1- الفصول الغرويّة: 79.

الكلام في إمكان الواجب المعلّق وعدمه:

قد اختلفوا في إمكان الواجب المعلّق وعدمه. ونسب إلى صاحب الفصول(قدس سره) القول بإمكانه، بل وقوعه، ونسب إلى الأكثر القول باستحالته.

وأمّا الشيخ الأنصاريّ(قدس سره)، فقد أنكر الواجب المعلّق، فقال:

«بأنّا لا نعقل للواجب ما عدا المطلق والمشروط قسماً ثالثاً يكون هو المعلّق»(1).

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) إنّما يتمّ لو التزمنا بالواجب المشروط عند المشهور، وأنّ إطلاق الواجب عليه قبل حصول الشرط يكون مجازاً؛ لأنّ الشرط قيد للوجوب، وهو مفاد الهيئة، وأنّه لا وجوب حقيقةً قبل حصول الشرط، فلا محالة: يكون إطلاق الواجب عليه مجازاً بلحاظ الأول والمشارفة.

وأمّا الشيخ)، فالواجب المشروط عنده هو عين الواجب المعلّق؛ لأنّه إذا قلنا بأنّ القيد يرجع إلى المادّة في الواجب المشروط، فمعناه: أنّ الوجوب يكون فعليّاً وأنّ الواجب يكون استقباليّاً.

والذي دفع بصاحب الفصول إلى القول بذلك هو وجوب تحصيل المقدّمات قبل مجيء الواجب كمقدّمات الحجّ وغيرها من المقدّمات.وأمّا الشيخ)فهو إنّما أنكر الواجب المعلّق الذي ذكره صاحب الفصول(قدس سره)؛ لأنّ الواجب المعلّق _ بالمعنى الذي اختاره هو _ هو بعينه

ص: 171


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 2: 347.

الواجب المشروط، كما بيّنه صاحب الكفاية(قدس سره). فحينئذٍ: لا يكون للمعلّق _ بناءً على هذا _ معنىً معقول في قبال المشروط.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره): أنّ إنكار الشيخ(قدس سره) يرجع في الحقيقة إلى إنكار الواجب المشروط بالمعنى المشهور له والذي اختاره صاحب الكفاية، لا إلى إنكار الواجب المعلّق بالمعنى الذي فرضه صاحب الفصول).

وبتعبيرٍ آخر: فهو لم ينكر واقع الواجب المعلّق الذي فرضه صاحب الفصول)، وإنّما أنكر تسميته بالمعلّق وهو الاسم الذي أطلقه عليه المشهور(1).

وعلى أيّ حال: فقد يقال باستحالة هذا النوع من الواجب، إذ لا فرق هناك بين الإرادة التشريعيّة والإرادة التكوينيّة في أنّ الإرادتين تتوقّفان على العلم والتصديق بالغاية والميل.

وأيضاً: فهما تتوقّفان على تحريك العضلات وحصول الفعل بعده. ولا فرق بينهما من هذه الجهات والنواحي، وإنّما الفرق بينهما من جهةأُخرى، وهي أنّ الإرادة التشريعيّة تتعلّق بفعل الغير، والتكوينيّة تتعلّق بفعل نفس المريد. كما أنّه لا فرق بينهما _ أيضاً _ من جهة عدم جواز انفكاك الإرادة من المراد، فكما أنّ المراد التكوينيّ غير قابل لأن ينفكّ

ص: 172


1- كفاية الاُصول: ص 101.

عن الإرادة التكوينيّة، فكذلك المراد التشريعيّ هو غير قابل لأن ينفكّ عن الإرادة التشريعيّة. نعم، بينهما تأخّر رتبي.

فإذا

عرفت هذا: فالواجب المعلّق مستحيل، بعدما بيّنّا من أنّ المراد لا يمكن أن يكون متأخّراً عن الإرادة، ولازم عدم جواز انفكاك الإيجاد عن التحريك وعن المتعلّق، هو استحالة الواجب المعلّق؛ لأنّ المفروض: أنّ الوجوب فيه يكون فعليّاً، وأنّ ظرف الواجب فيه هو الاستقبال، فيلزم تخلّف المعلول عن العلّة زماناً.

وبعبارة أُخرى: فكما أنّ الإيجاب، وهو الإرادة، لا ينفكّ عن المراد التكوينيّ، فكذلك الإرادة هنا فهي لا تنفكّ عمّا تتعلّق به.

ولكن قد أجاب عن هذا صاحب الكفاية(قدس سره) بأنّ الإرادة قابلة لأن تنفكّ عن المراد، ونمنع من امتناع انفكاك الإرادة التكوينيّة عن المراد؛ فإنّ الإرادة كما تتعلّق بأمر حاليّ، فهي _ كذلك _ تتعلّق بأمر استقباليّ إذا كان المراد بعيد المسافة.

فمثلاً: إذا فُرض أنّ الشخص يريد السفر لأجل حصول المال، وأنّ هذا السفر يتوقّف على مقدّمات كثيرة محتاجة إلى زمان طويل، فحينمايهيّئ المسافر نفسه لتحصيل هذه المقدّمات، فتكون الإرادة قد تعلّقت بشيء غير قابل للتحصيل إلّا بعد حصول تلك المقدّمات، فإنّ السفر المتوقّف على تلك المقدّمات أيضاً إنّما هو لحصول ذي المقدّمة أي: المال. فهنا، تكون الإرادة منفكّةً عن المراد بعد ما كانت منوطةً بتحصيل

ص: 173

المقدّمات ومضيّ الزمان.

وبعبارة أُخرى: فإنّ المقصود من تعريف الإرادة بأنّها عبارة عن: «الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد» _ الموهِم لامتناع تعلّقها بالمتأخّر زماناً؛ لامتناع تحريك العضلات نحوه _ ليس ما هو الظاهر من إرادة التحريك الفعليّ، بل المراد منه تحديد مرتبة الشوق الذي يسمّى ﺑ «الإرادة»، وأنّه هو الحدّ الخاصّ الذي يستتبع التحريك شأناً، لا فعلاً؛ لإمكان أن يتعلّق الشوق فعلاً بأمر استقباليّ غير محتاج إلى تمهيد مقدّمة، ويكون الشوق المتعلّق به أقوى وآكد ممّا تعلّق بأمر فعليّ، بحيث يستتبع التحريك فعلاً.

وأيضاً: فلو سلّم عدم إمكان انفكاك الإرادة التكوينيّة عن المراد، فحال الإرادة التشريعيّة لا يختلف عن التكوينيّة؛ إذ الطلب لابدّ وإن يتعلّق بما هو متأخّر، وذلك لأنّ الطلب والأمر إنّما يكون لجعل الداعي وإحداثه في نفس المكلّف نحو المأمور به.ولا يخفى: أنّ حدوث الداعي يتوقّف على بعض المقدّمات، كتصوّر العمل بما يترتّب على الإتيان به من مثوبة، وعلى مخالفته من عقوبة، وهذا ممّا لا يمكن أن يتحقّق إلّا بعد البعث بزمان، ولو كان قليلاً جدّاً، فالبعث يتعلّق بالأمر بالمتأخّر عنه دائماً، وإذا لم يستحل ذلك مع قِصَر الزمان، فلا يستحيل _ أيضاً _ مع طوله؛ وذلك لأنّ ملاك الاستحالة والإمكان لا يتخلّف فيه الحال بين قِصَر المدّة وطولها بعد انطباق الموضوع عليها،

ص: 174

وهو انفكاك المراد عن الإرادة التشريعيّة، فإذا فرض أنّ الانفكاك ممكن، ولم ير العقل مانعاً فيه، فطول الزمان وقصره لا يوجب اختلاف الحال فيه، فتدبّر(1).

وأمّا ما قيل: من ظهور تعريف الإرادة في أنّها: عبارة عن «الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات»، وبناءً على هذا: فيمتنع انفكاك الإرادة عن المراد؛ إذ يمتنع تحريك العضلات نحو ما هو متأخّر زماناً.

ففيه: أنّه لو سلّمنا والتزمنا بعدم جواز انفكاك الإرادة عن المراد، ولكنّ حركة العضلات: تارةً تكون مقصودةً بالأصالة كشرب الماء ونحوه، وأُخرى تكون مرادةً تبعاً، بعدما كانت هناك مقدّمات خارجيّة للمراد، وإنّما لا تنفكّ الإرادة عن المراد لو كان المراد منحصراً فيالمقصود الأصليّ، فيكون التحريك هناك فعليّاً، وأمّا إذا كان المراد هو التبعيّ، فلا يجب التحريك الفعليّ هناك، ونمنع _ حينئذٍ _ من صحّة تعريف الإرادة بالتحريك الفعليّ للعضلات.

نعم، الإرادة عبارة عن التحريك الفعليّ للعضلات في ظرفه، وحين إيجاد المراد. وأمّا الإرادة فإنّما لا توجب التحريك إلى الشيء بالفعل، لا لقصورٍ فيها، بل من جهة الموضوع، فكما يمكن أن تتعلّق الإرادة بالأمر الفعليّ، فكذلك يمكن أن تتعلّق بأمر متأخّر.

ص: 175


1- راجع: كفاية الاُصول: ص 102.

ثمّ إنّه لا محالة: ينفكّ الوجوب عن متعلّقه زماناً، فإذا فرضنا أنّ الغرض من الحثّ هو إحداث الداعي، وأنّ الداعي إلى إيجاده يتوقّف على تصوّر الأمر وما يتوقّف عليه، وهذا يحتاج إلى زمانٍ ما، ولو كان في غاية القِصَر، مع أنّه لا تخصيص للدليل العقليّ، فإذا قلنا بعدم جواز الانفكاك، فلا فرق بين قِصَر الزمان وطوله، وكذا إذا قلنا بجواز الانفكاك؛ فإنّه لا فرق _ أيضاً _ بين قِصَر الزمان وطوله؛ لعدم الفرق بينهما فيما هو ملاك الاستحالة والإمكان، كما تقدّم.

وبعبارة أُخرى: فإنّ زمان الواجب وامتثاله متأخّر عن نفس زمان الوجوب، ولا يمكن الانبعاث في آن زمان البعث؛ لأنّ زمان الامتثال ينفكّ عن زمان الإنشاء بالضرورة، فجميع الواجبات _ إذاً _ معلّقة، بمعنى: كون ظرف امتثالها متأخّراً عن زمان فعليّة الوجوب، ففيالتشريعيّات، كالمركّبات الارتباطيّة، تتخلّل الآنات بين الوجوب والواجب؛ فإنّ وجوب الشيء فعليّ وحاليّ، والواجب يكون استقباليّاً.

وبكلمةٍ: فإنّ تأخّر زمان الواجب والامتثال عن نفس الوجوب ضروريّ، فلا يمكن الانبعاث في زمان البعث وفي آن الخطاب.

ولكن بناءً على هذا القول: فلابدّ أن نقول بعدم مشروعيّة الواجبات المضيّقة _ بناءً على قول المدّعي لجواز تأخّر زمان الامتثال عن نفس الوجوب _ مع أنّا نرى أنّ زمان الامتثال وزمان الوجوب فعليّ، ولابدّ للواجب أن يقع في تمام الظرف المضروب له، فإذا فُرِض تأخّر زمان

ص: 176

الامتثال عن الخطاب، ولو بآنٍ ولحظة، فإنّه يلزم عدم وقوع المقيّد في تمام وقته المحدّد له، وهذا خلف؛ لأنّ الواجب المضيّق هو أن يكون زمان الواجب بمقدار زمان الوجوب، فإذا قلنا بأنّ زمان الامتثال يجوز أن يتأخّر عن زمان الوجوب، يلزم خلوّ آنٍ من النهار عن الصوم؛ لأنّه _ على الفرض _ لم يتحقّق الصوم في آن طلوع الفجر، ومن المعلوم: أنّ خلوّ آنٍ من النهار عن نيّة الصوم مبطل له، والالتزام بهذا الكلام موجب للغويّة تشريع الحكم في المضيّقات، وحينئذٍ: فلا مناص من القول بوحدة زمان الواجب والوجوب؛ فإنّ فعليّة الوجوب يتوقّف على جميع ما أُنيط به من القيود.وبعدما عرفنا أنّ الأحكام الشرعيّة مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة، وأنّ معنى القضيّة الحقيقيّة _ كما سبق مراراً _ هو أخذ العنوان المأخوذ مرآةً لمصاديقه المفروض وجودها موضوعاً للحكم، فيكون كلّ حكم مشروطاً بوجود الموضوع بما له من القيود، بلا فرق بين القيود الاختياريّة وغيرها، كالبلوغ والعقل والزمان والقدرة، وإنشاء هذه القضيّة يكون أزليّاً، وأمّا فعليّتها فتكون مقيّدةً بوجود الموضوع مع جميع قيودها؛ إذ إنّ نسبة الموضوع إلى الحكم هي كنسبة العلّة إلى المعلول، فكما لا يمكن تخلّف المعلول عن علّته، فكذلك الحكم لا يمكن تخلّفه عن موضوعه، بلا فرق بين أن يكون تكليفيّاً، كوجود الصلاة المترتّبة على البلوغ والعقل وغيرهما، أم وضعيّاً، كالملكيّة المترتّبة على الإيجاب والقبول.

ص: 177

إذاً: فكما أنّه يشترط وجود باقي القيود _ غير الوقت _ قبل فعليّة الواجب، فكذلك بالنسبة إلى الوقت، فلا يمكن أن يتقدّم الوجوب عليه _ هو أيضاً _ ؛ لأنّه لا فرق بين القيود، فالكلّ مشترك في أخذه قيداً للموضوع كما قلنا في الحجّ؛ فإنّ القيود كلّها ترجع إلى الموضوع، وهو (حجّ أيّها المستطيع)؛ لأنّ الملاك في جميعها واحد.فمثلاً:

لو قلنا بأنّ الاستطاعة شرط في وجوب الحجّ، لمكان أنّ الموضوع مقيّد بها، فالوقت _ أيضاً _ يكون شرطاً فيه، لوجود نفس الملاك فيه، وإذا فرضناه كذلك فلا يمكن أن يقيّد الواجب به؛ لعدم إمكان تعلّق الخطاب به؛ لأنّه من البديهيّ اعتبار القدرة في متعلّق الخطاب، فلابدّ _ لذلك _ من أن يكون مقيّداً للوجوب، وأن يكون منوطاً ومشروطاً به.

وبعبارة أُخرى: فلا مائز بين الوقت وسائر القيود حتّى يفرض بأنّ التكليف بالنسبة إلى سائر قيود الموضوع يكون مشروطاً بها، وبالنسبة إلى الزمان يكون مطلقاً.

فإن كان لمكان تقدّم الإنشاء عليه؛ فإنّ الإنشاء متقدّم على جميع القيود؛ لأنّه أزليّ.

وإن كان لجهة عدم دخله في مصلحة الوجوب، وإنّما يكون له دخل في مصلحة الواجب، ففيه: أنّه بعدما أُخذ الموضوع مفروض الوجود، كما هو الشأن في القضايا الحقيقيّة، فهذا _ أي: دخله في مصلحة

ص: 178

الوجوب _ ممّا لا يضرّ بالمقام، فلا يعقل أن يتقدّم التكليف عليه؛ لأنّ معناه: أنّ التكليف بالنسبة إليه مطلق، وهذا مستلزم للمحال؛ لأنّه يلزم تخلّف الحكم عن موضوعه، وقد ذكرنا أنّ تخلّف المعلول عن العلّة، كتخلّف الحكم عن موضوعه، محال، فلا يمكن أن يتقدّم الحكم علىالموضوع، ولا أن يتأخّر عنه، بل لابدّ أن يكون زمان الوجوب والواجب واحداً.

وقد استشكل في ذلك بعض المحقّقين المعاصرين)، بقوله:

«وظنّي:

أنّ الذي أوقعه في الاشتباه هو تخيّل أنّ الأمر بالمقيّد أمر بنفس القيد، فتخيّل أنّ الشيء الخارج عن تحت الاختيار والحاصل بنفسه كالوقت كيف يكون واجباً ويقع تحت البعث؟! وقد مرّ أنّ الأمر بالمقيّد ليس أمراً بنفس القيد، وإلّا، لم يبقَ فرق بين الجزء والشرط، بل أمر بالتقيّد، وقد تقدّم أنّ البعث إلى الشيء لا يتجاوز عمّا تعلّق به، وذات القيد خارج، والتقيّد داخل، وإيجاد القيد، وإن كان أمراً غير اختياريّ، كالزمان والسماء، إلّا أنّ إيجاد الصلاة تحت السماء مقدور، وإتيانها في وقته المزبور، لا قبله ولا بعده، أمر ممكن، فلو فرضنا أنّ القيد سيوجد في ظرفه، أو يمكن له الإيجاد في وعائه، يصير الواجب بالنسبة إليه مطلقاً، لا مشروطاً. فاتّضح: صحّة تقسيم الواجب المطلق إلى المعلّق والمنجّز»(1).

ص: 179


1- تهذيب الاُصول 1: 185_ 186.

وفيما ذكره(قدس سره) مواضع للنظر، إذ نقول:أوّلاً: إنّ الأمر يَرِد على نفس المشروط؛ لأنّ الأوامر تابعة للمصالح والمفاسد، والتقييد ليس بشيء حتّى يرد الأمر عليه، فبما أنّ الزمان ظرف، ففيه المصلحة، ولذا، فلو جيء بالحجّ في غير وقته فليس فيه أيّ مصلحة. فالمقيّد _ إذاً _ يرد تحت الأمر.

وثانياً: ما قاله: من أنّ هناك فرقاً بين الجزء والشرط، وأنّه إذا قلنا بذلك لم يبقَ فرق بين الجزء والشرط، فنقول: إذا ورد ذلك فليكن، وهو كما ورد من أنّ «الصلاة ثلاثة أثلاثٍ: ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود»(1)، وأمّا تفريقهم بين الشرط والجزء، فما أنزل اﷲ به من سلطان، بل نقول: الجزء قسمان: جزء خارجيّ وجزء داخليّ.

وثالثاً: ما مثّل به من الزمان والسماء، في غير محلّه؛ فإنّ إيجاد الصلاة تحت السماء لا تكون السماء معه دخيلةً في المصلحة، وأمّا الزمان، فإذا كان دخيلاً، فالكلام هو الكلام. ثمّ ما قاله(قدس سره) من أنّ إتيانه في وقته المزبور، لا قبله ولا بعده، أمر ممكن، فلو فرضنا أنّ القيد سيوجد في ظرفه أو يمكن له الإيجاد في وعائه، فيصير الواجب بالنسبة إليه مطلقاً، لا مشروطاً، فأنت ترى أنّه إذا لم يمكن الإتيان بهإلّا في ذلك الزمان فكيف يصبح مطلقاً بالنسبة إليه، إذاً: فما ذكره من أنّ تقسيم الواجب إلى

ص: 180


1- وسائل الشيعة 6: 310، الباب 9 من أبواب الركوع، ح 1.

المعلّق والمنجّز صحيح، فغير تامّ.

وقد استدلّ _ أوّلاً _ على الواجب المعلّق:

بأنّه لابدّ من الالتزام بالواجب المعلّق في الواجبات الارتباطيّة، كالصلاة والصوم؛ فإنّ وجوب الجزء الأوّل من الصلاة يكون معلّقاً على حصول سائر الأجزاء، مع أنّ وجوب الجزء الأوّل فعليّ، وشرطه _ وهو الجزء الوسط والأخير _ متأخّر، والالتزام بأنّ الواجبات التدريجيّة تصير فعليّةً تدريجيّاً، خلاف الوجدان.

ولكنّ الحقّ: أنّه بعدما ذكرناه من أنّ أجزاء الواجبات استقلاليّة ضمنيّة، فتكون الواجبات التدريجيّة تدريجيّة الحصول، بل يمكن ورود الإشكال بالنسبة إلى جميع الواجبات؛ بداهة أنّ كلّ خطاب مشروط بحياة المأمور إلى وقت إكمال العمل، وإلّا، فمجرّد إدراك جزء من الوقت غير كافٍ في تحقّق الوجوب، وفعليّة صلاة الظهر _ مثلاً _ منوطة بأن يدرك المكلّف أربع ركعات من أوّل الوقت بالنسبة إلى زمان يصبح وجوب العصر فعليّاً «إلاّ أنّ هذه قبل هذه».

والجواب عن هذا _ بعد فرض محاليّة الواجب المعلّق، والقول باستحالة الواجب المشروط والشرط المتأخّر _: أنّ الدخيل في الفعليّةهو عنوان التعقّب الذي هو مقارن للوجوب، لا نفس ما ينتزع عنه عنوان التعقّب.

ص: 181

وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) بقوله:

«ولكن يمكن أن يقال: أمّا بالنسبة إلى الاُمور التدريجيّة: فالإرادة المحرّكة للعضلات نحو أوّل جزء منها ليست محرّكةً نحو الجزء باعتبار أنّه جزء المراد، بل باعتبار أنّه أوّل وجود المراد، والشروع في إيجاد المراد»(1).

فغير تامّ، بعد ما ذكرناه من أنّها واجبات استقلاليّة ضمنيّة، وليس وجوبها _ أي: وجوب الأجزاء _ باعتبار أنّه أوّل وجود المراد والشروع في المراد كما ذكره(قدس سره).

وقد استدلّ له ثانياً:

بأنّه: لو لم يمكن هذا القسم من الواجب، فيلزم جواز تفويت المقدّمات، والنتيجة هي: تفويت الواجب الذي هومتوقّف عليها، أي: لا يجب إتيانه قبل الموسم في الحجّ _ مثلاً _؛ فإنّ الحجّ لو لم يكن واجباً بغير الوجوب المعلّق لم يكن وجه لوجوب المسير؛ إذ إنّ وجوب المقدّمة متوقّف على وجوب ذيها، والمفروض: عدم وجوبذي المقدّمة قبل الوقت، فيلزم عدم وجوب المقدّمات المفوّتة وأنّه يجوز تركها، وهذا يؤدّي إلى ترك الواجب، مع أنّه لا يجوز تفويت الواجب.

فالنتيجة: أنّ التالي باطل والمقدّم مثله، فمع عدم جواز ترك المقدّمات

ص: 182


1- منتهى الاُصول: 1: 171.

يكشف عن فعليّة وجوب ذيها قبل الوقت، وهذا هو معنى الواجب المعلّق.

واستدلّ له ثالثاً:

بأنّه: لو لم نقل بالواجب المعلّق، ففي مثل وجوب الغسل على المكلّف ليلاً لصوم يوم غد؛ فإنّه لولا القول بالوجوب فعلاً، فكيف يمكن الالتزام بوجوب الغسل في اللّيل، مع أنّ الصوم غير واجب عليه إلّا بعد طلوع الفجر؟!

واستدلّ له رابعاً:

بأنّه: لولا فعليّة الوجوب، فكيف _ إذاً _ يحكم بوجوب التعلّم قبل دخول وقت الواجب، كوجوب تعلّم أحكام الصلاة قبل حصول وقتها، فإنّ الصلاة _ مثلاً _ إذا لم تكن واجبةً قبل دخول وقتها، لم يكن تعلّم أحكامها واجباً.

واستدلّ له خامساً:بأنّه: لولا وجوب الواجب المعلّق، فكيف يجب إبقاء الاستطاعة بعد أشهر الحجّ؟!

واستدلّ له سادساً:

بأنّ استحالة الواجب المعلّق لو كانت، فإنّما هي من جهة انفكاك الفعليّة عن الانبعاث، فبناءً على هذا: لابدّ من إنكار الواجب الموسّع؛ لأنّه يجوز إتيانه في آخر الوقت، فتنفكّ الفعليّة عن الانبعاث في أوّل الوقت ووسطه.

ص: 183

واستدلّ له سابعاً:

بأنّه: كيف يجب الحكم بحفظ الماء قبل الوقت وبعدم جواز إراقته إذا علم عدم تمكّنه من الطهارة المائيّة بعد دخول الوقت؟!

ولكن بالنسبة إلى الدليل السادس نقول: لو فرضنا عدم إمكان الواجب المعلّق، فلا يلزم من ذلك عدم إمكان الواجب الموسّع، فإنّ الصلاة في أوّل الوقت تكون مصداقاً للواجب، ولكنّ الترخيص في بعض أجزاء الوقت جائز، والإتيان به في الجزء الأخير عقليّ، نظير التخيير الشرعيّ.

وقد تصدّى صاحب الكفاية(قدس سره) إلى تصحيح الفتوى بالوجوب هنا بوجوه ثلاثة:الوجه الأوّل: الالتزام بالواجب المعلّق في هذه الموارد. فيصحّ أن نحكم بوجوب المقدّمة المفوّتة قبل الوقت، وقبل فعليّة وجوب ذي المقدّمة.

والوجه الثاني: الالتزام بالوجوب المشروط بالشرط المتأخّر، فإذا علم بحصوله في وقته وظرفه يعلم بفعليّة الحكم فعلاً قبل حصول الشرط، فيترشّح الوجوب من ذي المقدّمة.

فبناءً على كلا الوجهين: لا يكون وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها، بل يلزم الإتيان بالمقدّمة قبل الإتيان بذيها، وهذا ليس بمحذور.

والوجه الثالث: الالتزام بهذه المقدّمات بالوجوب النفسيّ التهيّئيّ، وذلك بعدما عُلِم من عدم سبق وجوب ذي المقدّمة؛ إمّا لعدم إمكانه

ص: 184

وعدم تصوّره ثبوتاً، أو لعدم مساعدة الدليل عليه؛ فإنّه لا محيص عن الالتزام بذلك؛ إذ الوجوب الغيريّ محال؛ لعدم وجوب ذي المقدّمة، فيلتزم بالوجوب النفسيّ، غاية الأمر: أنّه ليس لغرضٍ في نفس المقدّمة، بل لتحصيل غرض الواجب والتهيّؤ للإتيان به في ظرفه(1).وقد استشكل المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره) في الوجه الثاني الذي ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) في جواب الإشكال:

بأنّ التخلّص منه ليس بالالتزام بالواجب المعلّق؛ لأنّه لا فائدة في الالتزام بالشرط المتأخّر ما لم يلتزم بتأخّر زمان الواجب، وذلك ببيان: أنّ الغرض تصحيح وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها، فلابدّ من فرض تأخّر زمان الواجب وتقيّده بوقت معيّن متأخّر، فالالتزام بالشرط المتأخّر الملازم لفعليّة الوجوب المصحّح لوجوب المقدّمة فعلاً إنّما يتعقّل بناءً على الالتزام بالواجب المعلّق، فحاليّة الوجوب وفعليّته لتحقّق شرطه في ظرفه لا تكفي ما لم يلتزم بالواجب المعلّق، لكون المفروض تأخّر زمان الواجب عن زمان وجوبه(2).

وبالجملة: فالواجب بحسب الفرض مقيّد بزمان معيّن، فالالتزام بفعليّة الوجوب قبله لتصحيح وجوب مقدّماته التزام بالواجب المعلّق

ص: 185


1- كفاية الاُصول: ص 105.
2- نهاية الدراية 1: 357.

أيضاً؛ لأنّه التزام بانفكاك زمان الوجوب عن الواجب، فلا محيص عن الالتزام به، وان التزم باشتراط الوجوب بالشرط المتأخّر وحصول الشرط في ظرفه.وقد يمكن المناقشة فيه: بأنّ دفع الإشكال المزبور عن تلك الموارد وما هو على شاكلتها لا يتوقّف على الالتزام بالواجب التعليقيّ؛ إذ كما يمكن دفعها بالالتزام به، يمكن دفعه _ كذلك _ بالقول بوجوبها وجوباً نفسيّاً، لكن لا لأجل مصلحة في نفسها، بل لأجل مصلحة كامنة في غيرها، فيكون وجوبها للغير، لا بالغير(1).

ولكن يردّ عليه: بتعدّد العقاب، لو قلنا بالشرط المتأخّر، أي: أنّ الوجوب يكون مشروطاً بالشرط المتأخّر، أو الوجوب الكاشف عن تماميّة الملاك بعدما حكم العقل بوجوب تحصيل القدرة قبل حصول الشرط وقبل مجيء زمانه، وبوجوب حفظها بعد دخول الوقت؛ لعدم القدرة بعد ذلك على تحصيلها، ونستكشف من هذا: الوجوب الشرعيّ بقاعدة الملازمة، وهذا الوجوب، وإن كان نفسيّاً، إلّا أنّه لا يمكن أن يكون ترشّحيّاً، لعدم وجوب ذي المقدّمة بعد على الفرض.

ولكنّ هذا الجعل ليس لملاك في نفسه، بل لملاك في الغير، أي: في ذي المقدّمة، بمعنى: أنّ ملاك ذي المقدّمة لا يمكن تحصيله إلّا بجعلين،

ص: 186


1- انظر: محاضرات في الاُصول 2: 355.

لا بجعلٍ واحد، وهذان الجعلان مسبّبان عن ملاك واحد، ويسمّى ﺑ «متمّم الجعل».فيمكن القول: بوجوب هذه المقدّمات مع عدم وجوب ذيها فعلاً، ومع الإغماض عن ذلك، فيمكن الالتزام بحكم العقل بلزوم الإتيان بها؛ فإنّ العقل حاكم بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه، كحكمه بقبح المخالفة الفعليّة، فبعد العلم بأنّ الحجّ في ظرفه ذو ملاك ملزم، وأنّه لو لم يأتِ بمقدّماته بالفعل لفات ذلك الملاك، فالعقل يستقلّ بلزوم الإتيان بتلك المقدّمات، ولو قبل شهر أو أكثر.

ثمّ إنّه(قدس سره) فرّق بين الواجبات:

ففي بعضها: أيّد ما التزم به صاحب الفصول(قدس سره) من كون الوجوب فيه فعليّاً والواجب استقباليّاً، كمسألة الحجّ والصوم(1)، فإنّ الظاهر من آيتيهما _ ﴿وَل__ِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾(2)، و﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(3) _ هو فعليّة وجوب الحجّ عند فعليّة الاستطاعة، وفعليّة وجوب الصوم عند حضور الشهر.وأمّا بالنسبة إلى الصلوات الخمس، فقد ذكر) أنّ الأدلّة لا تساعد على ذلك؛ فإنّ الظاهر من قوله(علیه السلام): «إذا دخل الوقت وجب الطهور

ص: 187


1- محاضرات في الاُصول: 2: 355_ 356.
2- آل عمران: 97.
3- البقرة: 185.

والصلاة»(1)، هو تحقّق الوجوب بعد الزوال.

ولكنّ الحق: أنّه لا مجال لهذا التفصيل؛ لأنّه لو قلنا بالاستحالة عقلاً فهي غير قابلةٍ للتفكيك، وبعبارة اُخرى: فإن أمكن القول بوجوب الواجب المعلّق، فبها، وأمّا لو قلنا بالاستحالة، فلابدّ من رفع اليد عن ظواهر الأدلّة التي دلّت على ذلك، ولكن مع ذلك، يمكن المساعدة عليه بالدليل.

فلندخل هنا في صلب الموضوع، وهو أنّ المقدّمات هل يمكن أن تتّصف بالوجوب الغيريّ قبل وجود شرط الواجب، مع أنّ الواجب مشروط بالنسبة إليه أم لا؟

بعد الفراغ من لزوم الإتيان بهذه المقدّمات قبل الإتيان بالواجب في وقته بحيث لو لم يأتِ بها لفات الواجب في ظرفه.

وبعبارة أُخرى: فإنّ النتيجة هي لزوم الإتيان بتمام مقدّمات الواجب المعلّق قبل زمانه أو التحفّظ عليها إذا حصلت قبل وقت الواجب مع علم المكلّف بعدم تمكّنه منها في وقته. ولكن بعدما فرضنا أنّ هذهالمقدّمات لا يمكن أن تتّصف بالوجوب الغيريّ قبل وجوب الشرط الذي يكون الواجب مشروطاً بالنسبة إليه، وإلّا، يلزم تحقّق المعلول قبل تحقّق علّته.

وأمّا لو فرضنا إمكان الواجب المعلّق ولكن لم يساعد الدليل على

ص: 188


1- وسائل الشيعة 1: 372، الباب 4 من أبواب الوضوء، ح1.

وقوعه، كوجوب تعلّم الصبيان أحكام الصلاة ونحوها قبل البلوغ، فلو قلنا بعدم وجوبه شرعاً عليهم _ كما هو الصحيح _ فلازمه: جواز تفويت الصلاة أوّل بلوغهم مقداراً من الزمن أو وجوب التعلّم قبل البلوغ بمقدار من الزمن يتمكّنون من التعلّم فيه.

ولا يمكن أن نقول: بأنّ التعلّم واجب في ذلك الظرف؛ لأنّه لابدّ من القول بسبق وجوب الصلاة على البلوغ، حتى لو فرضنا إمكان الالتزام بالواجب المعلّق؛ فإنّه غير مفيد هنا؛ لأنّه لا تكليف على الصبيان قبل البلوغ.

والحاصل: أنّه يمكن رفع الإشكال عن المقدّمات المفوّتة عن أمثال تلك الموارد _ بعد بيان الأقوال في المسألة _ بما بيّنّاه من أنّه على فرض عدم إمكان الواجب المعلّق يمكن الالتزام بوجوب تلك المقدّمات، ولا ملازمة بين المسألتين.

وإنّما يقع الكلام في كيفيّة ذلك الواجب وأنّه عقليّ أو شرعيّ؟!

ويقع الكلام هنا: تارةً في وجوب التعلّم، واُخرى في غيره.

أمّا الكلام في وجوب التعلّم:

فقد يقال: بوجوب التعلّم؛ لأنّه بعد العلم بتماميّة ملاك الواجب في ظرفه، وبأنّ ترك المقدّمة موجب لترك الواجب في ظرفه، فلابدّ من الإتيان بالمقدّمة في أوّل أزمنة الإمكان، لغرض تحصيل القدرة على

ص: 189

إتيان الواجب في ظرفه، وهذا الوجوب ليس من قبيل الفعليّ الترشّحي؛ لأنّ ذا المقدّمة لم يكن واجباً بالفعل _ لعدم حصول شرطه _ حتّى يترشّح الوجوب منه إلى المقدّمة، بل إنّما هو من ناحية أنّ ترك المقدّمة موجب لترك الملاك الملزم في ظرفه.

وبعبارة أُخرى: فإنّ ترك المقدّمة يوجب العجز عن امتثال الأحكام في ظرفه.

ولكنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بالنسبة إلى التعلّم بناءً على إمكان دخول هذه المسألة في المقدّمات المفوّتة حتّى تكون من المقدّمات الوجوديّة للواجب، أي: من المقدّمات التي يتوقّف عليها وجود الواجب.

وأمّا إذا قلنا بأنّه، وإن لم يتعلّم وبقي على جهله، ولكن مع ذلك، فيمكنه الاحتياط حال الجهل، وقلنا بصحّة الاحتياط مع إمكان الامتثال التفصيليّ، فلا يكون الجهل سبباً موجباً لعجزه حينئذٍ.وبعبارة أُخرى: يمكن أن يقال: بعدم إمكان إرجاع هذه المسألة إلى مسألة المقدّمات المفوّتة؛ لأنّ مرجع تلك المسألة إلى مسألة القدرة، وباب التعلّم أجنبيّ عن ذلك؛ لأنّه وإن فرِض جهله بالحكم، إلّا أنّ ذلك لا يستلزم سلب قدرته؛ حيث إنّ الأحكام مشتركة بين الجاهل والعالم. فلا يكون تركه _ أي: ترك وجوب التعلّم _، من باب المقدّمات المفوّتة حتّى يدخل في قاعدة: «أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار»، وحتّى يكون ملاكه ملاك تلك القاعدة.

ص: 190

بل الملاك في وجوب التعلّم هو عين ملاك الوجوب في الشبهات الحكميّة، فكما أنّ لكلّ من المولى والعبد وظيفةً هناك ولابدّ لكلٍّ منهما من العمل بها، ووظيفة المولى: إرسال الرسال وإنزال الكتب وجعل الأحكام، ووظيفة العبد: الفحص عمّا يريده المولى منه؛ لأنّ العقل يحكم بلزوم العقاب عليه عند تركه للوظيفة وإخلاله بها، كما أنّ العقل يحكم بلزوم النظر في معجزة من يدّعي النبوّة، فإذا لم يكن النظر واجباً لم يكن للنبيّ- أن يحتجّ عليه لعدم تصديقه إيّاه؛ لأنّه يمكن للعبد _ حينئذٍ _ أن يحتجّ ويقول: ما كنت أعلم بأنّك نبيّ، وما كان النظر واجباً عليّ.

فتحصّل: أنّه في كلا الموردين يحكم العقل بالعمل بالوظيفة، أي: وجوب النظر في المعجزة وتعلّم أحكام الشرع، كما أنّه مع عدمالتمكّن من الاحتياط، أو مع القول بأنّ التمييز شرط في العبادات وعدم صحّة الاحتياط مع إمكان العلم التفصيليّ فيدخل في المقدّمات المفوّتة، فيجب التعلّم بحكم العقل بعد علمه الإجماليّ بالأحكام الموجب للفحص عنها حتّى يحصّل المؤمّن من تبعاتها.

مضافاً إلى ما ورد من الروايات الآمرة بوجوب التعلّم بقوله(علیه السلام): «إنّ اﷲ تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى

ص: 191

تعمل؟!»(1).

ولذا، احتمل بعض المحقّقين وجوب التعلّم نفسيّاً، كما عن المدارك(2).

ومن هنا استشكل المحقّق النائيني(قدس سره) في التفصّي بهما؛ لما عرفت من التزامه باستحالة كلٍّ من الواجب المعلّق والشرط المتأخّر، كما أضاف إلى وجه الاستشكال:

أنّ الالتزام بهما لا ينفع في إثبات إيجاب التعلّم قبل البلوغ وقبل الاستطاعة؛ لعدم تحقّق التكليف بذي المقدّمة قبلهما جزماً، مع أنّهلو

التزم بتحقّق الوجوب قبلهما فلازمه: إيجاب سائر المقدّمات لا خصوص التعلّم، مع أنّه لا يقول أحد بلزوم المسير إلى الحجّ على من يعلم بتحقّق الاستطاعة فيما بعد. فما هو الفرق بينه وبين سائر المقدّمات الوجوديّة؟(3).

قد

يقال: يجب التعلّم بحكم العقل حتّى بالنسبة إلى الصبيّ المميّز؛ لأنّه لولا وجوب التعلّم عليه عقلاً، لفاته العمل في أوائل بلوغه، ولا إشكال في وجوب الصلاة عليه أوّل البلوغ، إذاً: فيجب عليه تعلّم أحكامها قبله.

ص: 192


1- بحار الأنوار 1: 178.
2- انظر: عناية الاُصول 4: 282، ومنتهى الدراية 6: 406.
3- راجع: أجود التقريرات 1: 149.

وما يقال: من أنّ الأحكام مشروطة بالبلوغ، فليس المراد أنّ جميع هذه الأحكام مشروطة به، حتى أمثال هذه الأحكام التي يستقلّ العقل بها؛ فإنّ هذه غير مشروطةٍ بالبلوغ، بل يكفي فيها التمييز، فيجب تعلّم المسائل قبل البلوغ بحكم العقل.

ثمّ هل يمكن استكشاف الحكم الشرعيّ، نفسيّاً كان أو غيره، من هذا الحكم وبقاعدة الملازمة أم لا؟اختار المحقّق النائيني(قدس سره) ذلك(1)، بدعوى: أنّ حكم العقل بوجوب المقدّمة _ بقاعدة الملازمة _ دليل على أنّ الشارع أيضاً أوجب ذلك حفظاً للغرض، فيكون ذلك الجعل متمّماً للجعل الأوّل.

والصحيح: أنّه لا يمكن استكشاف الحكم الشرعيّ منه؛ فإنّ العقل بنفسه يحكم باستحقاق العقوبة على تقدير المخالفة، حيث يرى عدم جواز تفويت الغرض في وقته، فحكم العقل كافٍ في لزوم حركة العضلات، ومن هذا الحكم ينبعث لزوم الإتيان بالمقدّمات، كما هو الحال في مطلق موارد حكمه بذلك.

وفي مقام الإثبات أيضاً، إنّما تكون تلك الملازمة إذا كان العقل مدركاً لملاك الحكم، من المصلحة والمفسدة، ومن أين له السبيل إلى ذلك؟!

فلا تحتاج المسألة إلى مورد الأمر المولويّ، ولو فرِض وروده من

ص: 193


1- انظر: أجود التقريرات 1: 157.

الشارع، فهو إنّما يكون إرشاداً إلى حكم العقل، وعليه: فالتعلّم واجبٌ بحكم العقل، و يقبح العقاب على تركه إلّا إذا كان هناك مؤمّن شرعيّ أو عقليّ، وليس وجوبه نفسيّاً _ خلافاً لصاحب المدارك(قدس سره) _؛ لأنّه بحاجةٍ إلى دليلٍ حتّى يكون العقاب على تركه شرعاً.والعجب

من الشيخ) فإنّه وإن كان يبني على وجوب التعلّم عقلاً لا شرعاً، ومع ذلك، فقد حكم بفسق تارك تعلّم مسائل الشكّ والسهو ولو لم يتّفق الشكّ والسهو وفيها.

ثمّ إنّه لو ترك التعلّم وعلم، أو اطمأنّ، بالابتلاء وعدم التمكّن من التعلّم في ظرفه، أو احتمل الابتلاء، ففي هذه الصورة: تارةً تكون المسألة ممّا يبتلى بها غالباً كمسائل الشكّ في الصلاة، فلا إشكال في وجوب التعلّم في هذه الصورة بعد علمه بتوجّه التكليف إليه في ظرفه، بلا فرق بين أن تكون المسألة ممّا تعمّ بها البلوى أم لا.

وكذا في صورة الاحتمال بالابتلاء؛ لأنّه يكفي في حكم العقل بذلك كون الشخص واقعاً في معرض الابتلاء، ولو لم يعلم بذلك؛ لأنّ العقل حينما يأمر العبد بأنّ يعمل بالوظيفة، فيكفي في حكمه مجرّد الاحتمال بأنّه يقع في معرض ذلك، ومن هنا حكم العقل بوجوب تعلّم مسائل الشكّ والسهو، ولو لم يعلم المكلّف بابتلائه بهما.

نعم، في صورة العلم بعدم الابتلاء، فلا يجب.

وأمّا في الصورة الثالثة، أي: فيما لم تكن المسألة عامّة البلوى،

ص: 194

فلا تجب، ولعلّه لجريان أصالة عدم الابتلاء؛ فإنّ هذا الأصل يكون سبباً لدفع احتمال الابتلاء الذي هو موضوع وجوب التعلّم؛ فإنّالمكلّف في هذا الفرض ليس في محلّ الابتلاء، وإن كان يحتمله، ولكن هذا الابتلاء يُدفع بالأصل أي: استصحاب عدم الابتلاء.

وأمّا إذا فرض بأنّ المسألة ممّا يبتلى بها غالباً، وحكم العقل بلزوم التعلّم، فلا تصل النوبة إلى الاُصول العمليّة؛ إذ ليس موضوع حكمه الابتلاء الواقعيّ حتّى يدفع بالأصل.

بل يمكن أن يقال: بعدم جريان العلم الإجماليّ بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد جزماً، أي: في الموارد التي يكثر فيها الابتلاء، إذاً: فموضوع حكم العقل هو كونه في معرض الابتلاء كثيراً، ولا يمكن ارتفاعه باستصحاب عدم الابتلاء.

أمّا عدم كونه نفسيّاً مستقلّاً، وهو وجود الملاك في التعلّم ووجوبه نفسيّاً، ففيه: أنّه ليس في التعلّم أيّ ملاك، نعم، الملاك الموجود فيه هو الوصول إلى ملاكات الخطابات الواقعيّة.

وأمّا عدم كونه نفسيّاً بالمعنى الآخر، أي: لجهة كونه طريقاً إلى تحصيل الواجبات الواقعيّة، فإنّه مع ذلك لا نحتاج إلى القول بالوجوب النفسيّ في التعلّم مع حكم العقل بوجوبه. ولو فُرِض وضع حكمٍ من الشارع، فإنّما يكون إرشاديّاً.

إن قلت: إنّه بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع يمكن

ص: 195

إثبات الحكم الشرعيّ للتعلّم.قلنا: إنّ استكشاف الحكم الشرعيّ من العقل إنّما يتمّ فيما إذا كان الحكم العقليّ واقعاً في سلسلة علل الأحكام، أي: بأن يكون كاشفاً عن المصالح والمفاسد، لا ما إذا كان في سلسلة المعلولات كما فيما نحن فيه، بل مقامنا من باب: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾(1)، وهو حكم إرشاديّ محض.

ثمّ إنّ وجوب التعلّم على نحو الطريقيّة إنّما يتمّ فيما إذا كان مؤدّى الواجب عين الواقع عند المصادفة، فقولنا _ مثلاً _ : (قبول خبر الثقة لازم) فهو طريقيّ، ومعناه: أن مؤدّاه عين الواقع عند المصادفة. بخلاف المقام؛ فإنّ وجوب تعلّم أجزاء الصلاة ليس عين الصلاة؛ فإنّ تعلّم الشيء ليس نفس الشيء.

وأيضاً: فلو كان وجوبه شرعيّاً لكان جواب العبد حينما يقول له الباري: هلّا عملت، جواباً صحيحاً، إلّا أن يقال: بأنّ الوجوب وجوب نفسيّ تهيّئيّ، وقد مرّ أنّ الوجوب هنا ليس إلّا إرشاديّاً محضاً.

وأمّا الكلام في غير التعلّم

اشارة

وهو المقدّمات المفوّتة التي لو جيء بها لكان المكلّف قادراً على

ص: 196


1- النساء: 59.

إتيان الواجب في ظرفه، والتي يكون المكلّف غير قادر على الإتيان لولاها، كتحصيل الماء أو حفظ القدرة الذي يتوقّف الواجب عليها.

وقبل الدخول في البحث لابدّ من بيان امور:

الأمر الأوّل: الفرق بين القدرة العقليّة والشرعيّة:

وذلك من وجهين:

أوّلهما: أنّ القدرة العقليّة هي التي لم تؤخذ في لسان الدليل، بل العقل يحكم بقبح تكليف العاجز من دون أن يعتبرها الشارع. وأمّا القدرة الشرعيّة، فهي ما اُخذت في لسان الدليل.

والثاني: أنّ للقدرة الشرعيّة دخلاً في ملاك الحكم، دون العقليّة، فإنّها دخيلة في حسن الخطاب.

الأمر الثاني: في بيان قاعدة«الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار»:
اشارة

لا يخفى: أنّ قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، وأمّا خطاباً، فلا؛ لأنّ الخطاب يتعلّق بالمقدور، والفعل غير مقدور للمكلّف وخارج عن اختياره، فالخطاب إليه لغو محض.

أمّا عقابه بعد أن أجبر نفسه باختياره وسلب قدرته عليه، فلا مانع منه، فلا قبح فيه؛ لأنّ هذا الاضطرار منتهٍ إلى اختياره، فلا يحكم العقل بقبح هذا العقاب أبداً، فلو ألقى نفسه من شاهق، أو دخل الأرض المغصوبة

ص: 197

ولم يتمكّن من الخروج، فإنّ الخطاب والتكليف عنه ساقط حيث كان خارجاً عن اختياره، وأمّا عقابه، فلا.

إذا عرفت هذا، فنقول:

كيف يمكن أن يقال بوجوب المقدّمات المفوّتة قبل حصول الواجب النفسيّ، كالغسل قبل الفجر على من وجب عليه صوم ذلك اليوم؟

وبعبارةٍ أُخرى: فكيف يعقل وجوب المقدّمة قبل ذيها، مع أنّ وجوبها إنّما يكون من آثار وجوب ذيها؟!

وقد اُجيب عن هذا السؤال:

بقاعدة «أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار»؛ حيث إنّ المصلحة تكون للواجب النفسيّ، وإن لم يتّصف بها الواجب فعلاً، وقبل تحقّق شرطه، ومع ذلك، إذا علم المكلّف بأنّ شرطه يتحقّق في المستقبل، ويتّصف الفعل بالمصلحة، فهذا الاتّصاف يلزمه _ عقلاً _ بحفظ قدرته إلى وقت الامتثال، وتحصيل القدرة عليه، حيث لو لم يحفظ قدرته بالفعل لم يكن قادراً على إتيان الواجب في ظرفه، فعدم حفظها موجب لتفويت الواجب.

وهذا هو ديدن العقلاء؛ فإنّهم إذا علموا بأنّه يأتي عليهم زمان تكون فيه مصلحة لهم بإتيان بعض الاُمور، فإنّهم يحتفظون بتلك الوسائل التي يتمكّنون معها من تحصيل تلك المصلحة في ظرفها، حتّى إذا لم يكونوا واجدين لشيء منها قبل مجيء ذلك الزمان، سعوا في تحصيل ذلك.

ص: 198

وهكذا بالنسبة إلى المفاسد، فإنّهم يعملون على دفعها بتهيئة الأسباب لذلك، إذا علموا بأنّهم سوف يبتلون بها في المستقبل لدى تهاونهم في دفعها فعلاً.

فإذا كان شأن العقلاء كذلك بالنسبة إلى المصالح والمفاسد، فليكن، هو أيضاً، شأن المكلّفين _ وهم من العقلاء أيضاً _ في المصالح التييريد الشارع تحصيلها في ظرفه، بقاعدة الامتناع بالاختيار، وبقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع.

وقد يقال في ردّ الإشكال:

إنّ وجوب المقدّمة هنا وجوب نفسيّ تهيّئيّ، لأجل إمكان الامتثال لواجبٍ آخر في ظرفه، فلو أهمل المكلّف تهيئة المقدّمات وتعذّر عليه امتثال الواجب عليه في ظرفه، فإنّه يستحقّ العقاب؛ لأنّه في تقصيره فيما سبق، أوجب عدم تمكّنه من إتيان الواجب في ظرفه.

ولكن قد أُجيب عن هذه القاعدة:

بأنّها إنّما تتم فيما إذا كان التفويت عن تقصير، أي: فيما إذا تحقّق التكليف في حقّ المكلّف مع اجتماع الشرائط، ولكن قصّر المكلّف في تهيئة مقدّمات امتثاله حتّى امتنع عليه الامتثال فيما بعد؛ فإنّ امتناع امتثاله في ثاني أزمنته، وإن أوجب سقوط الخطاب بالنسبة إليه، لكن بما أنّه عصى ذلك الخطاب، وكان هذا العصيان باختياره، فهو يستحقّ العقاب.

وأمّا قبل وقت وجوب الواجب وفعليّته، فلو قصّر عن تحصيل

ص: 199

المقدّمات التي لو قام بتحصيلها قبل تحقّق وقت الخطاب لتمكّن من امتثال الواجب في ذاته، ولكن لو تساهل ولم يحصّلها حتّى عجزعن امتثال الواجب في ظرفه، فلا يكون المكلّف بتساهله هذا في تحصيل هذه المقدّمات مقصّراً من امتثال التكليف أصلاً.

أمّا بالنسبة إلى ذي المقدّمة: فلأنّه لم يتوجّه إليه خطابٌ في ظرفه؛ لعدم قدرته على الامتثال إلّا في ظرفه.

وأمّا

المقدّمة: فلأنّه لم يتحقّق تكليفٌ بها؛ لأنّه لم يرد تكليف بها، لا شرعاً؛ لأنّه معلوم، ولا عقلاً؛ لعدم وجود ملاكٍ فيها.

وقد يقال: بوجوب حفظ المقدّمات وتحصيلها؛ إذ قبح التكليف والخطاب إنّما يكون إذا كان المكلّف عاجزاً، والمفروض أنّه لم يكن بعاجزٍ، بل هو قادر، ولو بحفظ قدرته.

ولكن نقول: ما الدليل على وجوب حفظ هذه القدرة؟ فهل للعقل إيجاب حفظ المقدّمة وقبح تفويتها؟!

لا مجال للالتزام بذلك؛ لأنّ حفظ المقدّمات وتحصيلها وقبح تفويتها وحرمتها إنّما هو للتوصّل إلى ذي المقدّمة، والمفروض عدم الدليل على وجوب هذا الحفظ أو تحصيلها قبل الوقت.

فقبح التفويت أو وجوب التحصيل، إنّما يكون إذا كانت الإرادة والفعليّة والبعث إلى ذي المقدّمة موجودة، فحينئذ: يجب تحصيل المقدّمات؛ لأنّ المقدور بالواسطة مقدور، ولا دليل _ حينئذٍ _على

ص: 200

وجوب المقدّمة، لا شرعاً، كما هو المعلوم، ولا عقلاً، إلّا من جهة حكم العقل بحفظ المقدّمة بعد وجوب ذي المقدّمة.

مسلك صاحب الكفاية (رحمة الله) في حلّ الإشكال:

سلك صاحب الكفاية(قدس سره) طرقاً ثلاثة لدفع الإشكال المزبور:

الأوّل: هو ما ذكرناه، وهو قاعدة الامتناع بالاختيار.

والثاني: أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى الملزم إذا لم يتمكّن من إيجاد الأمر على طبقه؛ لعدم التفاته، أو لغير ذلك، كما لو رأى العبد ابن سيّده في الحوض، بحيث لو تركه لغرق، ولم يكن سيّده حاضراً، فإنّه يجب إنقاذه، تحصيلاً لغرض مولاه؛ لأنّه يعلم أنّه لو كان سيّده حاضراً، لأوجب عليه إنقاذ ابنه.

نعم، لو كان المولى متمكّناً من الأمر، ولم يأمر، لم يجب على العبد تحصيل غرضه في هذه الحال؛ لأنّ عدم أمره مع تمكّنه منه، يكشف عن عدم إرادته تحصيل هذا الغرض، ولو كان ملزماً في نفسه.

ولكن قد عرفت أنّ الكلام في أنّ العقل هل يحكم في مسألتنا أم لا؟

والثالث: أنّ القدرة على العمل:تارةً: لا تكون دخيلة في الملاك، بل تكون شرطاً عقليّاً لتصحيح التكليف، وإلّا، فالملاك بدونها حاصل.

وأُخرى: تكون دخيلة في الملاك، فتكون شرطاً شرعيّاً، وهي في هذا

ص: 201

الفرض، تارةً: تكون دخيلة في الملاك مطلقاً، في أيّ ظرفٍ تحقّقت، وأُخرى: تكون دخيلة على تقديرٍ خاصّ وظرفٍ معيّن، لا مطلقاً. والثانية: تارةً: تكون دخيلة فيه بعد حصول شرط الوجوب، ولو قبل تحقّق زمان الواجب، وأُخرى: تكون دخيلة فيه بعد تحقّق زمان الواجب، فالقدرة الحاصلة قبل ذلك غير محصّلة للملاك أصلاً.

فالاحتمالات أربعة:

أمّا الأوّل والثاني: فيلزم على تقديرهما وجوب تحصيل المقدّمات في أوّل أزمنة الإمكان.

وأمّا الثالث: فيفرّق فيه بين المقدّمات المفوّتة قبل حصول شرط الوجوب، والمقدّمات المفوّتة بعد حصوله، فلا يحرم تفويتها على الأوّل، دون الثاني.

وأمّا الرابع، فلا يجب الإتيان بالمقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب(1).وفيه: أنّ هذه التقسيمات إنّما هي في مقام الثبوت والإمكان، والكلام إنّما هو في مقام الإثبات.

وأمّا الجواب عمّا قيل من أنّ الوجوب هنا نفسيّ تهيّئيّ، فنقول:

إنّ المصلحة الموجودة فيها نفسيّاً: هل هي مصلحة التهيّؤ لواجب آخر أم لا؟

ص: 202


1- انظر: كفاية الاُصول: 104_ 105، وأجود التقريرات 1: 150_ 152.

فإن كانت كذلك فهي عين مصلحة الوجوب الغيريّ، ويرد الإشكال فيه كما سبق.

وإن كانت مصلحة شيءٍ آخر فلا تكون مقدّمةً لها حينئذٍ.

إن قلت: مصلحته لشيء آخر، وإن استلزمت تلك المصلحة التهيّؤ.

قلنا: هذا، وإن كان أمراً ممكناً في مرحلة الثبوت، إلّا أنّه خلاف الظاهر في مرحلة الإثبات.

مع أنّه لا جدوى لهذا البحث إذا فرض أنّ المقدّمة قد ورد عليها الأمر من الشارع؛ فإنّه لابدّ من الإتيان بها حينئذٍ، ولا فرق بين أن تكون واجبةً بالوجوب النفسيّ أم الغيريّ. والكلام إنّما هو فيما إذا لم يرد دليل من الشارع، ولم يأتِ ظرف ذي المقدّمة حتّى يقال: بأنّه لابدّ من تحصيل المقدّمة؛ لأنّك تتمكّن من إتيان ذي المقدّمة بعد تحصيل المقدّمة قبله، والمقدور بالواسطة مقدور.نعم، في صورةٍ واحدة يجب تحصيل المقدّمة حتّى لو لم يأتِ زمان امتثال ذي المقدّمة، وهي: ما إذا كان الملاك في الواجب تامّاً، وتكون القدرة المأخوذة هي القدرة العقليّة، وغير دخيلة في الملاك، كما في حفظ بيضة الإسلام، فإنّه يعلم أنّه لو لم يقم بتحصيل المقدّمات، أو لم يحافظ على قدرته كذلك، لما تمكّن فيما بعد، فالعقل يحكم حينئذٍ بوجوب تحصيل المقدّمات أو حفظها لئلّا يفوت الملاك الملزم في ظرفه.

ص: 203

ولكن يمكن أن نلتزم بوجوب المقدّمة عقلاً على الإطلاق؛ لأنّ ترك المقدّمة يكون مؤدّىاً لتعجيز المكلّف عن التكليف في ظرفه، مع أنّ المقتضي موجود، والعقل يحكم بعدم جواز هذا الترك وقبحه، إذاً _ لا محالة

_ يحكم العقل بلزوم إتيان المقدّمة في أوّل أزمنة الإمكان لكي يتمكّن من الإتيان بالواجب في ظرفه وحصول القدرة عليه، وليس هذا الوجوب لأجل أنّ الترك يؤدّي إلى تفويت الغرض الملزم.

ومن هنا عرفت ما فيما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره) من أنّ «ترك هذه المقدّمات، وإن استلزم ترك الواجب في موطنه، إلّا أنّه لا قبح فيه، وذلك لأنّ القبيح أحد أمرين: إمّا مخالفة التكليف الفعليّ، والمفروضعدمه، أو تفويت الغرض الملزم، والفرض خلافه، فإذاً ما هو الموجب لقبحه؟!»(1).

وبعبارة أُخرى: فقد عرفت حكم العقل بقبح ترك المقدّمة، لا من ناحية أنّ تركها يؤدّي إلى ترك الواجب الفعليّ؛ لأنّ الواجب ليس بفعليّ، لا قبل الوقت، كما هو معلوم، ولا بعد الوقت، لعدم القدرة عليه حينئذٍ.

فإن قلت: إنّ الوضوء قبل الوقت غير واجب، بل قيل: إنّه غير مشروع، فمقدّماته، كتحصيل الماء، لابدّ أن لا تكون واجبةً هي أيضاً.

قلنا: إنّ وجوب المقدّمات كان من جهة التعجيز لو تركها، ولذا

ص: 204


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 363.

أفتى بعض الفقهاء بوجوب حفظ الماء الحاصل قبل الوقت ووجوب تحصيله لو لم يحصل بعد الوقت، ولا يلتزمون بوجوب الوضوء قبل الوقت للصلاة، بل يلتزمون بعدم مشروعيّته.

والفرق واضحٌ؛ لأنّ الوضوء قبل الوقت لا يتّصف بالمصلحة الغيريّة، فلا يمكن أن يؤتى به بعنوان الواجب الغيريّ، كما أنّ نفس الصلاة لا تتّصف بالمصلحة النفسيّة إلّا بعد دخول الوقت.وقد يُستشكل _ بناءً على هذا _ بأنّه لو توضأ قبل الوقت لغير الصلاة ولم ينقضه، فكيف تقولون بصحّة الصلاة بهذا الوضوء بعد الوقت؟!

ولكن يُردّ هذا الإشكال: بأنّنا نستكشف من اتفاق العلماء على عدم مشروعيّة الوضوء للصلاة قبل الوقت، والاتّفاق على صحّة الصلاة مع الوضوء الذي جيء به قبل الوقت لأجل غايةٍ أُخرى، نستكشف أنّ الذي لا يتصف بالغيريّة هو الأول.

أمّا الوضوء الذي يؤتى به لغاية مشروعة، فإذا استمرّت الطهارة إلى دخول الوقت، فإنّه يتصف بالمصلحة الغيريّة.

ولو كنّا نحن والقاعدة، لقلنا بالفرق الذي ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) بين تفويت القدرة قبل الوقت بجعل نفسه محدثاً اختياراً، بجماعٍ أو نحوه، مع عدم تمكّنه من الماء بعد الوقت، وبين تفويتها بإهراق الماء، فاختيار الجواز في الأول دون الثاني في غير محلّه.

إلاّ أنّه(قدس سره) اختار ذلك من جهة استناده إلى رواية صحيحة.

ص: 205

ولكنّ اُستاذنا الأعظم(قدس سره) ادّعى أنّا لا نرى ورود أيّ رواية في هذا الموضوع، فضلاً عن الرواية الصحيحة(1).وممّا

ذكرناه ظهر الحال فيما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره) من أنّه لا يجب حفظ القدرة قبل الوقت، ولا تحصيلها، تبعاً للمحقّق النائيني(قدس سره)، في أنّ مورد قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار هو فيما إذا كان الخطاب موجّهاً إليه من قبل المولى، ففي فرض أنّ الامتثال يكون فعليّاً وواجباً، فلو أعجز العبد نفسه بسوء اختياره ولم يحصل على القدرة في ظرف لزوم الامتثال بسبب تعجيزه نفسه، فالقاعدة تشمله، وأمّا قبل وجود الخطاب وفعليّة التكليف فلا يجب تحصيل المقدّمة ولا حفظها ولا تشمله القاعدة المزبورة(2).

ولكنّ الحق: بما أنّه لا فرق في نظر العقل بين هاتين الحالتين _ أي: بين كون الخطاب موجوداً فعلاً، أو كون وجوده في المستقبل _ إذ في كلتا الحالتين يحكم بلزوم التحصيل أو حفظ القدرة، كما مثّل اُستاذنا المحقّق(قدس سره) للمورد بما إذا نزل ضيفاً عند شخص وكان واجب الإكرام بنظر العقل إمّا بملاك شكر المنعم، أو الأمن من العقاب أو بأيّ ملاكٍ آخر في نظره، فكذلك في المقام، فإنّه لو علم بأنّ نزول الضيف عليه

ص: 206


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 2: 364_ 365.
2- محاضرات في اُصول الفقه 2: 364.

سيكون في الغد، ولكنّ الأسواق ستكون معطّلة في الغد لا يمكنه فيه تهيئة شيء من أسباب الإكرام، فإنّ العقل يحكم عليه بلزومدخول السوق الآن وتهيئة أسباب الإكرام، كما أنّه إذا كانت الأسباب موجودة عنده بالفعل، فاللّازم عليه حفظها إذا لم يمكن تحصيلها في الغد، فلو لم يفعل يعدّ في نظر العقل من الذين يجعلون امتناع امتثال التكليف عليهم بسوء الاختيار، ولا يقبح عقابهم حينئذ.

ثمّ فرّق(قدس سره) بين القدرة العقليّة والشرعيّة، ففصّل بينهما، بأنّ القدرة الشرعيّة:

إن أُخذت مطلقة، فحكمها حكم القدرة العقليّة من وجوب حفظها، ولا يعذر عند العقل لو تركها، أي: لو لم يحفظها أو لم يحصلها قبل ظرف وجوب الواجب.

وأمّا إذا اعتبرت القدرة خاصّة فلابدّ أن يرجع إلى دليل اعتبارها:

فتارةً: يظهر من الدليل أنّ القدرة أُخذت في خصوص زمان امتثال الواجب، فحينئذ: لا يجب تحصيلها أو حفظها.

وأُخرى: تتصوّر القدرة قبل حصول ذلك الأمر وفعليّة الواجب، فحينئذٍ: يجب تحصيلها بعد ورود الأمر، وإن لم يأتِ زمان الإتيان بالواجب. نعم، لا يجب تحصيلها أو حفظها قبل زمان الأمر(1).

ص: 207


1- منتهى الاُصول 1: 177_ 178.

ص: 208

الواجب النفسيّ والغيريّ

اشارة

لا يخفى: أنّهم قد ذكروا للواجب النفسي والغيري تعاريف: فالمشهور على أنّ الواجب النفسي: هو «ما أمر به لنفسه»، أو «ما وجب لا لواجب آخر»، والغيري: «ما أمر به لأجل غيره»، أو «ما وجب لواجب آخر».

وقد يُستشكل في هذا التعريف بالنسبة إلى الواجب النفسي، بدعوى: أنّه غير منعكس؛ لأنّه بناءً على هذا التعريف يَلزم أن يكون كلّ الواجبات النفسيّة، أو جلّها، خارجةً عن الواجب النفسي؛ لأنّ جلّها مطلوب لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها.

كما يرد الإشكال على التعريف الثاني بأنّه غير مطّرد؛ لدخول أكثر الواجبات في الواجبات الغيريّة؛ لأنّها تكون واجبة لأجل الغايات المترتّبة عليها ولأجل ما يترتّب عليها من الأثر والفائدة.وقد عدل صاحب الكفاية) عن هذا التعريف إلى تعريفٍ آخر، حاصله: أنّ الواجب الغيري هو: «ما أُمر به للتوصّل إلى واجب آخر»،

ص: 209

والنفسي: «ما لم يكن كذلك». وبالجملة: فالنفسي هو «الواجب الذي أُمر به لنفسه»، والغيري «ما أُمر به لغيره»(1).

ولكنّ هذا التعريف يرد عليه أيضاً: أنّ الواجبات التي تدعى نفسيّةً، كالصلاة والصوم، تصبح غيريّةً؛ لأنّها إنّما وجبت لأجل التوصّل إلى فوائدها، ككونها «قربان كل تقيّ»(2)، و«معراج المؤمن»(3)، فيعود الإشكال.

وربّما عُرّفا بتعريف آخر، كما عن المحقّق النائيني)(4)، وهو أنّ الواجب النفسي هو الذي لا تكون إرادته مترشّحة عن إرادة الغير، بلا فرق بين أن تكون المصلحة في نفسه أو في غيره، والغيري هو الذي تكون إرادته مترشّحة عن الغير.فبناءً على هذا: يشمل المقدّمات المفوّتة، بناءً على كونها واجبةً في نفسها، لكن لا لمصلحة في نفسها بل في غيرها، ولأنّها غير مترشّحة عن غيرها.

وقد عرّفهما بعض المحققين)(5) بتعريف آخر، وهو: أنّ الواجب

ص: 210


1- كفاية الاُصول: ص 107.
2- وسائل الشيعة 4: 43 _ 44، الباب 12 من أبواب الصلاة، الحديثان 1 و 2.
3- لم نعثر عليه في كتب الحديث، ولكن نقله صاحب مستدرك سفينة البحار عن رسول الله-، انظر: مستدرك سفينة البحار 6: 343.
4- أجود التقريرات 1: 168.
5- مقالات الاُصول 1: 322.

النفسي هو أن يكون الإيجاب الصادر عن المولى بدواً، بلا تبعيّةٍ لإيجاب آخر. والغيري إيجاب ناشئ عن إيجابٍ آخر.

وأيضاً: عرّفوا النفسي بأنّه: ما أمر به لأجل ملاك في نفسه، ومقابله الغيري، وهو: ما أمر به لا لملاكٍ في نفسه، بل لملاك في غيره(1).

وقد يرد على هذا التعريف الإشكال بخروج المقدّمات المفوّتة عنه، لو قلنا بأنّها واجبة بالوجوب النفسي؛ لأنّ وجوبها لا يكون لملاك في نفسها، بل لمصلحة في الغير.

وغير خفيّ عليك: أنّ كل أو جلّ هذه التعاريف مخدوشة، ولكن بما أنّ الواجب النفسي والواجب الغيري معلوم عند كلّ أحد، فنحن لسنا بحاجة إلى هذه التعاريف حتى يستشكل في بعضها بأنّها غير جامعة، وفي بعض آخر بأنّها غير مانعة، ولذا، نرى البعض أعرض عنتعريفهما، وشرع رأساً في بيان ما هو الحكم في مسألة ما إذا شكّ في واجب في أنّه نفسيّ أو غيريّ، كصلاة الطواف؛ لدوران وجوبها بين أن يكون وجوباً نفسيّاً وبين أن تكون شرطاً لصحّة الطواف إذا أتيت بها، وذلك _ كما ذكرنا _ لعدم خفاء معنى كلا الواجبين، أعني: الوجوب النفسي والوجوب الغيري. ونحن ها هنا نجري على ذلك.

وعلى هذا الأساس: فلو شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيريّ، فما هو

ص: 211


1- نقله في منتهى الاُصول 1: 195.

مقتضى الإطلاق _ لو كان إطلاق في البين _؟! فنقول:

بعد إمكان تصوّر جامع للواجبين، وهو جامع الطلب _ كما مرّ في الأمر _ من أنّه قد وضع لجامع الطلب، وليس موضوعاً للوجوب ولا للندب، ولكن بما أنّ الغيريّة قيد زائد على مطلق الطلب؛ لأنّ تحقّق الوجوب الغيري منوط بتحقّق وجوب ذلك الغير، وإذا شككنا في الإناطة، حتى يكون غيريّاً، أو في عدم الإناطة، حتى يكون نفسيّاً، فعند الشكّ لابدّ من القول بالنفسيّة؛ لأنّ النفسيّة ليست أمراً زائداً على مطلق الطلب حتى تنفى بالإطلاق.

وبعبارة أُخرى: فإذا شككنا في واجب أنّ وجوبه نفسيّ أم غيريّ، فبما أنّ الغيريّة تحتاج إلى مؤونة زائدة، فتدفع بالأصل، فيتحصّل: أنّ الإطلاق، سواء كان من جهة الهيئة أو المادّة، يقتضي أن يكون الواجب نفسيّاً.ومن هنا ظهر فساد ما ذكره بعض المحققين)، من أنّه لا يمكن تصوّر جامع هنا، وذكر أنّ نظيره موجود في تحقيق معنى الوجوب والندب مع أنّ كلّاً من النفسيّة والغيريّة متقوّم بقيد زائد، وكذلك لو قلنا بأنّ البعث الكلّي هو الموضوع له، وهو جامع بينهما، وإن كان خلاف التحقيق؛ إذ عليه: يحتاج كلّ واحد إلى البيان، ولو من باب زيادة الحدّ على

ص: 212

المحدود(1).

ولكنّ الحقّ _ خلافاً لما ذكره(قدس سره) _: أنّ الجامع هو الطلب، وإنّما يحمل عند الإطلاق على الوجوب النفسي؛ لأنّ معنى الوجوب النفسي هو نفس الطلب، وأمّا الغيريّة، فلمّا كانت قيداً زائداً على أصل الطلب والإنشاء، فإنّها تدفع بالأصل. فحمل الواجب على النفسي يكون بمقتضى الأصل، وليست النفسيّة أمراً زائداً على أصل الطلب _ كما ذكره) _ حتى تنفى هي أيضاً، وحتى يقع التعارض بين الأصلين.

فبما ذكرنا من أنّ مقتضى النفسيّة هو نفس الطلب، وأن ليس هناك من قيد زائد، ظهر أنّه إذا شككنا في واجب في أنّه نفسيّ أو غيريّ، فيحمل على النفسيّة ببركة الإطلاق، بلا فرق بين إطلاق الهيئة، إذا أخذنا بإطلاق دليل الواجب الذي شككنا في كونه نفسيّاً أو غيريّاً،وبين إطلاق المادّة، أي: التمسّك بإطلاق الواجب، فحينئذٍ: يحمل على أنّه نفسيّ أيضاً، وليس ذلك من جهة مقتضى الانصراف إلى النفسي، كما ذكره بعض المحققين المعاصرين(قدس سره)(2).

هذا. وقد اعترض المحقق المذكور(قدس سره)(3) على التمسّك بالإطلاق

ص: 213


1- تهذيب الاُصول 1: 191.
2- تهذيب الاُصول 1: 192.
3- المصدر نفسه.

بوجهين:

الوجه الأول: أنّ معنى الهيئة حرفي، والمعنى الحرفي جزئيّ، وهو ليس قابلاً للإطلاق والتقييد.

ويرد عليه: أنّ ما ذكره(قدس سره) وإن كان تامّاً _ من جهة أنّ الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ، خلافاً لصاحب الكفاية(قدس سره) الذي اختار أنّ كلّاً من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف عامّ _ إلّا أنّ المعنى، وإن كان جزئيّاً على الفرض، ولا يمكن التمسّك فيه بالإطلاق اللّفظيّ، ولكنّه _ مع ذلك _ قابل لأن يتمسّك فيه بالإطلاق الأحوالي.

والوجه الثاني: أنّ المعنى الحرفي غير ملتفَت إليه، ومغفول عنه، ولذا، لا يقع محكوماً عليه ولا محكوماً به.ويرد عليه: ما ذكرناه مراراً من أنّ المعنى الحرفي غير مغفول عنه، بل يكون ملتفَتاً إليه؛ لأنّه ليس إيجاديّاً _ كما عليه المحقق النائيني(قدس سره) _، وقد مرّ في محلّه مفصّلاً أنّه اختياريّ، فلا نحتاج هنا إلى ما ذهب إليه بعض المحقّقين وتبعه الاُستاذ المحقّق من القول بالمحمول المنتسب، أو المادّة المنتسبة(1)، حيث كان في نظره الشريف عدم إمكان تقييد الهيئة؛ لأنّ معناها غير ملتَفتٍ إليه، فلا يمكن التمسّك بإطلاقه بعدما كان بينهما تقابل العدم والملكة، فالدليل على امتناع التقييد حينئذٍ هو بعينه الدليل

ص: 214


1- قد مرّ ذلك في مبحث المعنى الحرفي.

على امتناع الإطلاق.

ولكنّ ما ذكره) إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ التقابل بينهما هو التقابل العدم والملكة، أمّا إذا قلنا بأنّ التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب _ كما عليه الاُستاذ الأعظم)(1) _ فيمكن عندئذٍ التمسّك بالإطلاق، ولو لم يمكن التقييد. وملخّص كلامه: أنّه يمكن تقييد المادّة المنتسبة، فتكون النتيجة: أنّ المادّة المنتسبة منظورة بكذا أو تكون مطلقة.

ولكنّ الحقّ: هو إمكان التمسّك بالإطلاق، وما ذكر من الإيرادين فهو غير وارد. هذا لو كان هناك إطلاق في البين.وأمّا إذا لم يكن، فلا محالة: يكون المرجع إلى الاُصول العمليّة، وهل هي تختلف باختلاف الموارد أم لا؟ فنقول:

أوّلاً:

لو قلنا بفعليّة الخطاب النفسي بشيء كالصلاة، من دون توقّفه على شرط غير موجود، ولكن ورد الشكّ في التقييد بمثل الطهارة، في أنّ وجوبها هل يكون لنفسها أو لغيرها، فيجوز الإتيان بالصلاة من غير طهارة؛ لأنّه بالنسبة إلى الطهارة يكون من قبيل الشكّ في التكليف، وأنّ التكليف بالصلاة هل هو مشروط بالطهارة أم لا؟ لو قلنا بذلك، لكان المقام من قبيل الأقلّ والأكثر، ويكون مورداً لجريان البراءة _ كما هو

ص: 215


1- مرّ أيضاً في المعنى الحرفي.

الحقّ _ ويأتي في محلّه. وأمّا نفس الطهارة، فهي وإن كانت مشكوكة الغيريّة، ولكن بما أنّ وجوبها معلوم على كل حال، إمّا لنفسها أو لغيرها، فهي لا تقع مورداً للبراءة.

وقد استشكل فيه بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:

«وفيه: أنّ إجراء البراءة في الصلاة غير جائز بعد العلم الإجماليّ بوجوب الوضوء نفسيّاً، أو وجوب الصلاة المتقيّدة به، والعلم التفصيليّ بوجوب الوضوء الأعمّ من النفسي والغيري لا يوجب انحلاله إلّا على وجه محال، كما اعترف به القائل في الأقلّ والأكثر»(1).وفيه: أنّه يُرجع إلى لوازم الاُصول، وسيأتي بأنّها غير حجّة.

وثانياً:

أن يكون هناك شيء متيقّن الوجوب، ولكنّ وجوبه ليس بفعليّ، بل يكون مشروطاً بشرط لم يوجد بعد، فالظاهر هنا: هو عدم وجوب الإتيان بما يحتمل كونه وجوباً نفسيّاً أو غيريّاً؛ وذلك لجريان البراءة عن وجوبه، للشكّ في وجوب ما يحتمل اشتراطه به، وهو ليس ممّا يعلم بوجوبه على كلّ حال، ولذا، تجري البراءة بالنسبة إلى شرطيّة هذا المشكوك الغيريّة لذلك الغير المتيقّن الوجوب.

وقد يُتوهّم: أنّ هناك تناقضاً بين البراءتين؛ لأنّ لازم جريان البراءة

ص: 216


1- تهذيب الاُصول 1: 193.

بالنسبة إلى شرطيّة هذا المشكوك الغيريّة لذلك الغير المتيقّن الوجوب المشروط بشرط لم يوجد بعد، هو عدم تقيّد وجوب هذا المشكوك الغيريّة وعدم اشتراط وجوبه بذلك الشرط الذي لم يوجد بعد؛ ولازم جريان البراءة عن وجوبه قبل وجود ذلك الشرط هو اشتراط وجوبه به. وهما متناقضان كما لا يخفى.

ولكن يُجاب عنه: بأنّ التناقض والتنافي إنّما يتمّ لو كان بين نفس مؤدّى البراءتين، لا بين لوازمهما، كما هي الحال هنا؛ لِما قرّر في محلّه بأنّ الاُصول ليست بحجّة في لوازمها العقليّة.وثالثاً:

أن لا يكون هناك متيقّن الوجوب، فيُحتمل عدم وجوبه أصلاً، فيعلم إجمالاً بأنّه: إمّا أنّ هذا المشكوك الغيريّة والنفسيّة واجب نفسيّ، وإمّا أنّ ذلك الغير الذي هو محتَمل الوجوب واجب نفسيّ، فهنا: بالنسبة إلى غير محتَمل الوجوب، كالصلاة، تجري البراءة؛ لأنّ وجوبه كالوضوء مشكوك فيه بالشكّ البدويّ، فكونه واجباً بالوجوب النفسي غير معلوم، إذ المفروض عدم فعليّة وجوب ذلك الغير قبل الوقت، فلا محيص حينئذٍ عن جريان البراءة فيه عن وجوبه.

وأمّا

بالنسبة إلى الفعل المشكوك الغيريّة والنفسيّة، فلا مورد لجريان البراءة؛ للعلم بوجوبه، غاية الأمر: أنّه يكون مردّداً بين النفسيّة والغيريّة.

ص: 217

وقد يقال: بأنّ هذا العلم الإجماليّ _ أعني: العلم بوجوب المشكوك الغيريّة المردّد بين الوجوب الغيري والنفسي _ قابل للانحلال، وذلك بواسطة جريان البراءة في محتَمل الوجوب النفسي؛ لأنّه لو فرِض كونه واجباً بالوجوب الغيري، فلا يجب الإتيان به بعد فرض عدم وجوب الإتيان بما هو ذو المقدمة له ظاهراً بواسطة إجراء البراءة فيه، وإلّا، يخرج عن كونه مطلوباً غيريّاً، وهو خلاف الفرض،فلا يبقى إلّا الشكّ البدويّ بالنسبة إلى وجوبه النفسي، وهو مجرى البراءة.

ولكنّ هذا الكلام غير تامّ، ولا يمكن قياسه على عدم تنجّز الشرط مع عدم تنجّز المركّب المشروط به، مع تنجّز معظم أجزائه، أو تنجّز بعضها؛ فإنّ الجهل ببعض أجزاء المركّب، وإن أمكن جريان البراءة فيه _ بناءً على جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين _ إلّا أنّه لا وجه له مع كون الجهل متعلّقاً بجميع المركّب وتمامه؛ لأنّ المقدمة لا تطلب لأجل ذاتها، وإنّما تكون مطلوبةً من جهة حصول ذي المقدمة بتلك الخصوصيّة التي تحصل له بواسطة وجود تلك المقدمة وذلك الشرط الشرعيّ.

فمثلاً: إذا فرضنا أنّ للصلاة خصوصيّةً تؤثّر في حصول ملاكها بواسطة اقترانها بالوضوء الذي هو مقدّمة، فهنا: وإن أمكن إجراء البراءة بالنسبة إلى ذي المقدمة، ولكنّها لا تجري بالنسبة إلى المقدّمة بعد القول بجواز التفكيك بالتنجيز بين أجزاء الواجب وبين أجزاء مقدّماته، فلو قلنا بذلك _ ولابدّ من القول به بالنسبة إلى الأقلّ والأكثر، وذلك بجريان البراءة

ص: 218

في الأكثر، كما عرفت _ فيمكن أن يقال: إنّ الواجب الواقعيّ، وإن لم يكن منجّزاً بالنسبة إلى جميع أفراده، ولكنّهيمكن أن يكون منجّزاً بالنسبة إلى بعضها، وعليه: فلا مانع من جريان البراءة بالنسبة إلى الواجب دون المقدمات.

وقد استشكل في ذلك بعض المحققين المعاصرين)بقوله:

«وأنت خبير: بأنّ العلم التفصيلي بوجوب الوضوء وتردّده بين الوجوب النفسي والغيري لا يمكن إلّا مع العلم الإجماليّ بوجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء أو وجوب الوضوء نفسيّاً، وهذا العلم الإجماليّ لا يوجب الانحلال إلّا بوجه محال، كما عرفت. وتصوّر الشكّ البدويّ للصلاة مع العلم التفصيلي الكذائي بوجوب الوضوء، جمع بين المتنافيين. والعجب منه(قدس سره) حيث قال: لو علم بوجوب الوضوء، ولكن شكّ في كونه غيريّاً حتى لا يجب، فكيف جمع بين العلم بالوجوب والشكّ فيه؟»(1).

وما ذكره) غير تامّ؛ لما ذكرنا في المسألة بأنّ لوازم الاُصول غير حجّة.

وأمّا ما ذكره من العجب من وجوب الوضوء مع الشكّ في كونه غيريّاً، ففيه: أنّه ليس هناك ما يوجب العجب؛ لأنّ معنى العلم الإجماليّ هو العلم بأصل الوجوب والشكّ في كونه غيريّاً أو نفسيّاً.

ص: 219


1- تهذيب الاُصول 1: 194.

الكلام في استحقاق العقاب والثواب على الواجب الغيري:

تعرّض صاحب الكفاية(قدس سره) في هذا البحث إلى جهاتٍ ثلاث:

الجهة الاُولى:

في بيان عدم استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته:

وقد ذُكِر لتقريبه وجوه، نذكر منها وجهين:

الوجه الأول: ما جاء في الكفاية من بناء العرف والعقلاء على عدم العقاب والثواب على المقدمات، ولذا لا يرون من يترك واجباً ذا مقدمات متعدّدة أنّه مستحقّ لعقابات متعدّدة بعدد المقدمات، كما أنّهم لا يرون من يأتي بمثل هذا الواجب بمقدماته مستحقّاً لثوابات متعدّدة، بل لا يرونه مستحقّاً لغير عقاب واحد أو ثواب واحد على ترك الواجب أو فعله(1).

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الأصفهاني(قدس سره) في تعليقته على الكفاية، قال):«أنّ الوجوب المقدّمي _ كما عرفت _ وجوب معلوليّ، كما أنّ الغرض منه غرض تبعيّ، فيكون تحريكه ودعوته ومقرّبيّته كذلك، فكما أنّ المولى

ص: 220


1- كفاية الاُصول: ص 110.

بعد أمره بذي المقدّمة لا يتمكّن من عدم الأمر بالمقدّمة، فيكون البعث نحوها قهريّاً، كذلك انقياد العبد للأمر بذيها يوجب الانقياد بالعرض لمعلوله، وهو الأمر بها، ولا يعقل الانقياد للأمر النفسي والانبعاث عنه مع عدم الانقياد لمعلوله والانبعاث عنه، وإلّا، لم يكن منقاداً للأمر النفسي ومنبعثاً ببعثه، وهذا الانبعاث القهريّ كنفس الارتكازي، ربّما لا يلتفت إليه تفصيلاً، وحيث عرفت عدم استقلال الأمر المقدّمي في الباعثيّة، تعرف عدم استقلاله في المقرّبيّة وما يترتّب عليها عقلاً، وكذلك عدم الانبعاث إليها ليس إلّا تبعاً لعدم الانبعاث إلى ذيها، فلا بعد إلّا بتبع البعد المرتّب على ترك ذيها، فالاستقلال في استحقاق الثواب أو العقاب عقلاً محال»(1).

ومحصّل كلامه): أنّ الوجوب المقدّمي بما أنّه معلول لوجوب ذي المقدّمة، لكون الغرض منه غرضاً تبعيّاً لا استقلاليّاً، كانت محركيّته وباعثيّته تبعيّةً أيضاً بتبع باعثيّة ومحركيّة الأمر النفسي؛ فإنّ الانبعاث نحو امتثال الأمر النفسي لازم للانبعاث نحو الأمر الغيري، فإذا كانالانبعاث عن الأمر الغيري تابعاً للانبعاث عن الأمر النفسي كان أمراً ارتكازيّاً كنفس البعث الغيري، فقد لا يلتفت إليه بنحو التفصيل.

وكما أنّه غير مستقلّ في مقام البعث والانبعاث، فكذلك هو غير

ص: 221


1- نهاية الدراية 1: 197.

مستقلّ في مقام عدم الانبعاث؛ فإنّ عدم الانبعاث عنه يتبع عدم الانبعاث عن الأمر النفسي، وعليه: فلا يكون الانبعاث عنه موجباً للقرب، ولا عدمه موجباً للبعد، وبالتالي: فلا يكون امتثاله موجباً للثواب وعدمه موجباً للعقاب.

الجهة الثانية:

أنّه بناءً على عدم كون ترك الواجب الغيري موجباً لاستحقاق العقاب، فلو ترك مقدّمةً لواجب استقباليّ، بحيث لا يتمكّن من الواجب في ظرفه عند تركها، كما لو ترك إحدى المقدمات المفوّتة، كالغسل قبل الفجر للصوم؛ إذ بتركه لا يتمكّن من الصوم في ظرفه(1).

فهل يستحقّ العقاب على ترك الواجب النفسي من حين ترك المقدمة أو من زمان الواجب نفسه؟

لكلٍّ من الاحتمالين وجه.

الجهة الثالثة:

اشارة

في توجيه ما ورد في بعض النصوص من ترتّب الثواب على بعض المقدّمات، كما روي أنّ في كلّ خطوة في زيارة الحسين(علیه السلام) كذا من الثواب(2)، فإنّه بظاهره يتنافى مع نفي الثواب على المقدّمة الذي قرّر في

ص: 222


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 110.
2- كامل الزيارات: ص 133، فيما ورد في زيارة أبي عبد الله الحسين(علیه السلام).

الجهة الاُولى(1).

والكلام هنا: في أنّه إذا خالف الواجب الغيري فهل يستحقّ العقاب أم لا؟ وكذا فيما لو امتثل الواجب الغيري فهل يستحقّ الثواب أم لا؟ ثمّ إن كان استحقاق الثواب على امتثال الواجب النفسي متيقّناً واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته ممّا لا إشكال فيه، فهل الواجب الغيري كذلك أيضاً أم لا؟

يقع الكلام أوّلاً في الاستحقاق. والأقوال في المسألة على النحو التالي:الأول: ما قد يستفاد من كلام صاحب القوانين)(2)، من ثبوت استحقاق المثوبة والعقوبة على الأمر الغيري، فيكون حاله كحال الواجب النفسي، وهذا منسوب إلى المتكلّمين في المثوبة فقط.

والثاني: ما نُسِب إلى الغزاليّ(3)، من التفصيل بين الثواب والعقاب، بالالتزام بالأول دون الثاني، فإعطاء الثواب بالتفضّل والعقاب بالاستحقاق؛ لأنّ المكلّف الذي عرف اﷲ وأنّه تعالى هو الغنيّ المطلق والقادر المطلق، ومن بيده كلّ شيء، وعرف أنّه هو الفقير على الإطلاق،

ص: 223


1- كفاية الاُصول: ص 110.
2- راجع ما أفاده في القوانين في المقدّمتين السادسة والسابعة من مقدّمات مبحث مقدّمة الواجب.
3- ذكر هذه النسبة في منتهى الدراية 2: 253.

فهذا لا يمكنه أن يتفوّه بالاستحقاق دون التفضّل؛ فإنّ التفوّه بالاستحقاق لا يليق إلّا بجاهلٍ مقام ربّه وغافلٍ عن كونه ممكناً وناقصاً في حدّ ذاته وأنّ كلّ ما ملكه من الأعضاء والجوارح والنعم فليس منه، بل من اﷲ تعالى، وأنّه لذلك لا يستحقّ شيئاً، حتّى لو صرف هذه النعم في طريق العبوديّة.

والثالث: عكس ذلك، وهو الالتزام بثبوت العقاب دون الثواب، لكن لم يظهر قائله.

والرابع: أنّ كليهما على نحو التفضّل.والخامس: التفصيل بين القول بالتعبّد وتجسّم الأعمال وبين عدمه، بالقول بالاستحقاق في الأول دون الثاني منهما.

وقبل الدخول في البحث لابدّ من بيان معنى الاستحقاق:

فهل

المراد من الاستحقاق هو ثبوت حقٍّ على المولى؛ لأنّه إطاعة، والمطيع مثله مثل الأجير حينما يعمل عملاً لشخص، فيستحقّ بذلك الاُجرة، فإذا لم يعطه الاُجرة، والحالة هذه، أي: والحالة أنّه مستحقّ لذلك، فقد ظلمه؛ لأنّ منعه من حقّه وعدم دفعه إليه وكفّ الفيض عنه، مع كونه مستحقّاً للفيض، ظلم، فمعنى الاستحقاق بناءً على هذا البيان هو: ثبوت الحقّ للعبد على المولى بإزاء عمله. وهذا القول مطابق لما عرّفوا به الواجب من أنّه: «ما يستحقّ فاعله المدح والثواب، وتاركه الذمّ والعقاب».

وفي اللّغة: استحقّ فلان الأمر، أي: استوجبه، ومنه ما ورد عن رسول

ص: 224

اﷲ-: «إذا استحقّت ولاية اﷲ والسعادة جاء الأجل بين العينين، وذهب الأمل وراء الظهر، وإذا استحقّت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر»(1).والصحيح: أنّ هناك فرقاً بين استحقاق العقاب واستحقاق الثواب، فأمّا الأول: أعني: استحقاق العقاب في صورة الترك والمخالفة، فيمكن أن يقال به، والعقل حاكم بذلك؛ لأنّ المخالفة الصادرة من المكلّف بعد أن أتمّ المولى عليه جميع النعم، حتى نعمة الوجود والقدرة، وبعد أن أعطاه العقل وبيّن له سبيل الرشد والغيّ بواسطة الرسول الباطن والظاهر، لا يمكن إلّا أن تكون كفراً بالمنعم حقيقةً وظلم عليه، فيحكم العقل باستحقاقه العقاب _ حينئذٍ _ من جهة ظلمه وكفرانه للنعمة.

وأمّا الثواب على العمل: فاستحقاقه له مشكل بعد فرض أنّ وجود المكلّف وقدرته وتوفيقه للطاعة وجميع ما يستعدّ به للإتيان بالعمل ليس منه، بل من اﷲ جلّ وعلا؛ ولأنّ الامتثال والإطاعة نوع وظيفة، والعمل بالوظيفة والانقياد لأوامر المولى موجب لاستحقاقه المدح والثناء عليه، لا أنّه يستحقّ الأجر تجاه عمله كالموالي والعبيد العرفيّين.

وأمّا لو كان المراد من الاستحقاق: قابليّة العبد بسبب ما صدر منه من الأعمال الحسنة، ومعناه: أنّه لائق ليعطى الثواب، ما دام عمله هذا لم يكن

ص: 225


1- الكافي 3: 258، كتاب الجنائز، باب النوادر، ح27.

مقروناً بالمعصية المانعة من هذه القابليّة، كما إذا أتى ببعض المعاصي بحيث صار سبباً للمنع من ورود الفيوضات الإلهيّة التي يستحقّ أن تفاض عليه على حسب قابليّته واستعداده. والاستحقاق بهذا المعنى شيء لا ينكر؛ ضرورة أنّ قابليّة المحلّ للفيوضات الإلهيّة_

حينئذٍ _ بلا فرق بين الفيوضات الدنيويّة أو الآخرويّة. وأيضاً: فالاستحقاق بهذا المعنى ليس محلّاً للنزاع بين المتكلّمين.

وأمّا لو كان المراد من الاستحقاق: أنّه يجب على اﷲ إعطاؤه الأجر والثواب لأجل أنّه وعده بذلك، ولأجل أنّه لا يخلف الميعاد، حيث إنّه وعد المتّقين بالجنّة، ووعده صدق غير مكذوب، ولا خلف فيه؛ لما في الخلف من القبح. فيجب عليه الوفاء بعد أن كان وعده جلّ وعلا سبباً لمزيد من الرغبة والانقياد للعبد.

ولكن فيه: أنّ لزوم الوفاء أجنبيّ عن مسألة الاستحقاق، بل هو عين التفضّل؛ لأنّ وعده جلّ وعلا لمن أتى بالمأمور به وترك المنهيّ عنه موجب لتقوية الأمر في إحداث الداعي، وظاهر: أنّ لزوم الوفاء ليس بمعنى الاستحقاق بل أحدهما أجنبيّ عن الآخر.

مسألة:

لو فُرض استحقاق العقاب، فهل هو على ترك المقدّمة أو على ترك ذيها؟

ص: 226

الظاهر: الثاني؛ إذ لو قلنا بأنّ استحقاق العقاب هو على ترك المقدّمة، فلو كان لذي المقدّمة مقدّمات كثيرة فتَرَكها، فلابدّ من القول بتعدّد العقاب، مع أنّه ليس هناك إلّا عقاب واحد.

وأيضاً: استحقاق العقاب على الأمر الغيري مشكل؛ لأنّه لا مفسدة فيه، بل المفسدة إنّما هي في ترك ذي المقدّمة، فالعقاب إنّما يترتب على مخالفة العبد الناشئة من مخالفة الأمر بذي المقدّمة.

ومن هنا ظهر الجواب عمّا نُسِب إلى المحقق السبزواري(قدس سره)(1) من ثبوت استحقاق العقوبة على مخالفة الأمر الغيري، لأنّ كون العقاب على ترك المقدمة كالقصاص قبل الجناية، فيتعيّن أن يكون العقاب على ترك المقدّمة.

توضيح الجواب: أنّه إنّما يتصوّر القصاص قبل الجناية إذا قلنا بأنّه يعاقب من زمان ترك المقدمة، وأمّا إذا قلنا بأنّه يعاقب من زمان تركه لذي المقدمة فليس بالقصاص قبل الجناية.

ثمّ إنّه بعدما عرفت أنّ العقاب يكون على ترك ذي المقدّمة، فهل يكون استحقاق العقاب لترك الأمر نفسيّ من حين مخالفة الأمر الغيري؛لأنّ هذا العصيان قد حصل حين ترك المقدّمة الذي صار سبباً لعدم التمكّن من الإتيان بذي المقدّمة في ظرفه، أم لا؟

ص: 227


1- حكى هذه النسبة في منتهى الدراية 2: 254.

الظاهر: الثاني؛ إذ قبل وجود ظرف الإتيان بذي المقدمة لا وجوب هناك حتى يعاقب على تركه.

فإذا عرفت ذلك نقول:

أمّا الاستحقاق بالمعنى الأول: فلا يمكن الالتزام به في الواجبات النفسيّة فضلاً عن الغيريّة.

وأمّا بالمعنى الثاني، أي: بمعنى: أنّه يثاب ويؤجر، فلا إشكال فيه إذا كان إتيانه بالواجب الغيري بقصد التوصّل لذلك، ولأجل التمكّن من الإتيان بالواجب النفسي في ظرفه؛ فإنّ الإتيان بهذا الداعي يكشف عن كون العامل بمقتضى الواجب الغيري بصدد العبوديّة والانقياد، فلو أتى بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي فقد أصبح أهلاً للثواب ويحصل عليه من حين شروعه بالمقدّمة؛ لأنّه كأنّما قد شرع في إطاعة المولى، حيث قد أتى بأمره وأظهر الانقياد من حينه، وهو ما يكون سبباً لقربه، وبعد أن أصبح أهلاً وقابلاً لذلك، فلا شكّ في أنّه يكون مستحقّاً للفيض.

وأمّا لو فُرض أنّه قد أتى بالمقدّمة بدون أن يقصد التوصّل، بل كان إتيانه بها لدواعٍ اُخر، عقلائيّة أو شهوانيّة، فإنّ عمله هذا لا يكون مقرّباًله، فلا يصبح بذلك أهلاً، فلا يستحقّ الفيض؛ لأنّ استحقاقه له إنّما هو من لوازم قربه. نعم، لو أتى بها من دون قصد التوصّل والامتثال، فهو وإن لم يثبت بذلك استحقاقه للثواب، إلّا أنّ الأمر المقدّمي يسقط بمجرّد إتيانه بالمقدمة.

ص: 228

وأمّا الاستحقاق بالمعنى الثالث، فإنّنا لو تتبّعنا الروايات لوجدنا أنّه يظهر منها: أنّه لا ثواب على الواجب الغيري بما هو واجب، ولا ثواب عليه لو لم يأتِ به بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي؛ لأنّ الوعد بالثواب ثابت في حقّ للمطيع والمنقاد، وهذا لا يَصدق عليه أحد هذين العنوانين إلّا إذا كان قد أتى به لأجل التوصّل إلى ذي المقدمة.

بل نقول: حتى لو فرضنا وجود دليل خاصّ في موردٍ معيّن دلّ على ترتّب الثواب بمجرّد الإتيان بالمقدّمة ولو بغير قصد التوصّل، فإنّه هذا الدليل _ حينئذٍ _ يكشف عن أنّ الإتيان بهذه المقدّمة إنّما يترتّب عليه الثواب لكونه من المستحبّات النفسيّة، لا من جهة امتثال الأمر المقدّمي، كما يستفاد هذا الاستحباب من ذكر الثواب على العمل.

ثمّ لو فرضنا أنّه قد أتى بالمقدّمة بقصد التوصّل فهل يكون له ثواب مستقلّ في عرض الواجب أم لا؟

الظاهر: هو الثاني؛ لأنّ الأمر الغيري لا مصلحة فيه، بل ليست حقيقة هذا الأمر إلّا البعث نحو إيجاد الواجب النفسي وتمكّنه منه بالإتيان بهفقط، فالثواب لا يكون إلّا على نفس الواجب النفسي وموافقة أمره؛ لأنّ المدار في حصول الإطاعة والعصيان هو العقل، فكما أنّه لو ترك جميع المقدمات التي أصبحت سبباً لترك ذي المقدمة في نفسه فالعقل لا يحكم إلّا بعقاب واحد، فكذلك لو أتى بجميع مقدّمات الواجب؛ فإنّه لا يحكم له إلّا باستحقاق ثواب واحد. فلو أنّه أتى بكل واحدةٍ من هذه

ص: 229

المقدّمات قاصداً بها التوصّل إلى الوجوب النفسي، فإنّ إتيانه بالمقدّمة بقصد التوصّل يكون _ في الحقيقة _ شروعاً في امتثال الواجب النفسي، وإطاعةً لنفس ذلك الواجب، فثواب المقدّمة ليس إلّا عين الثواب على ذي المقدّمة.

وأمّا ما ورد من الآيات والروايات التي تدلّ على ترتّب الثواب على نفس المقدمة، كقوله عزّ وجلّ: ﴿وَلاَ

يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(1)، وكذا ما ورد في ثواب زيارة سيّد الشهداء(علیه السلام) من أنّ له بكلّ خطوة حجّة بمناسكها وعمرة مقبولة(2)، وأنّ من حج البيت ماشياً كتب اﷲله سبعة آلاف حسنة من حسنات الحرم(3)، ومن زار أمير المؤمنين ماشياً كتب له بكل خطوة حجّة وعمرة(4).

فإنّ الظاهر من هذه الروايات أنّ الثواب قد ترتّب على نفس المقدّمة، مع أن مقتضى ما ذكرنا عدم استحقاق الثواب إلّا على نفس ذي المقدّمة.

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ الاُمور الواردة في هذه الأدلّة مستحبّات في نفسها.

ص: 230


1- التوبة: 121.
2- الكافي 4: 580، أبواب الزيارات، باب فضل زيارة أبي عبد اﷲ الحسين(علیه السلام)؛ وكامل الزيارات 1: 273.
3- وسائل الشيعة 11: 80، الباب 32 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، ح9.
4- بحار الأنوار 97: 260.

وثانياً: أنّ الثواب فيها على نحو التفضّل، أو من باب انطباق عنوان راجح عليها، ويكون هذا العنوان سبباً لورود الثواب عليها، كعنوان تعظيم الشعائر؛ فإنّه خارج عن عنوان المقدميّة؛ لأنّ الثواب لم يرد علىه بعنوان أنّه مقدّمة، بل إنّما ورد على العنوان الذي هو مطلوب نفسيّ، لا على المطلوب من باب المقدّميّة. أويحمل على أنّ الثواب يترتّب على ذي المقدّمة، وإنّما يكون الثواب لأجل المشقّة الحاصلة في مقام امتثال الواجب النفسي، لكثرة مقدّمات ذلك الواجب.

الإشكال في عباديّة الطهارات الثلاث:

وقع الخلاف بين الأعلام في ترتّب الثواب على الواجب الغيري، كما مرّ، بعد الاتّفاق فيما بينهم على ترتّبه في الواجبات النفسيّة، وذلك من جهة أنّ الأمر الغيري توصّليّ، فلا يوجب استحقاق الثواب على إتيان متعلّقه، كيف؟! والواجب التوصّلي يجتمع مع الحرام.

وبعبارة أُخرى: فليس معنى الأمر الغيري إلّا حصول الأمر النفسي وتمكّنه من إيجاده بإتيان مقدّمته، وليس في الأمر الغيري أيّة مصلحة؛ إذ هو لا يوجب قرباً حتى نقول بترتّب الثواب عليه.

بل يمكن أن يقال: بأنّه لا باعثيّة للأمر الغيري حقيقةً؛ لأنّ المكلّف حينما يريد أن يأتي بالمقدّمات وكان قصده من وراء ذلك هو الإتيان بالأمر النفسي؛ فإنّ الداعي في الحقيقة الداعي إنّما هو الأمر النفسي دون

ص: 231

الغيري؛ لأنّ وجوب الأمر النفسي كافٍ بمجرّده في حثّ العبد على تهيئة المقدّمات. فحينئذٍ: لو ورد هناك أمر بالشرط، فيحمل على أنّه من باب الإرشاد إلى شرطيّته.

ومن هنا وقع الإشكال في الطهارات الثلاث:

إذ كيف للثواب أن يترتّب على فعلها، مع أنّ الأوامر التي تعلّقت بها إنّما هي من قبيل الأوامر الغيريّة؟ وكيف يمكن تصوّر عباديّتها واعتبارقصد التقرّب عند إتيانها مع أنّ أوامرها غيريّة، والعباديّة إنّما تكون من شؤون الأوامر النفسيّة؟

ويمكن تصوّر ترتّب الثواب عليها بوجهين:

الأوّل: أن يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، فإنّ الإتيان بالمقدّمة بهذا القصد يعدّ في نظر العقلاء متلبّساً بامتثال الواجب النفسي من ذلك الحين، ويكون المكلّف مستحقّاً للمدح والثواب من حين إتيانه بالمقدّمة، ولو لم يكن مشغولاً بالإتيان بذي المقدّمة بعد.

ولكنّ هذا الوجه غير تامّ؛ لأنّ الملاك والمصلحة إنّما يكون في ذي المقدّمة، فالثواب لا يكون إلّا عليه.

والثاني: أنّ ترتّب الثواب على الطهارات إنّما يكون لأجل الإتيان بها بقصد القربة، بلا فرق بين أن يقصد بها التوصّل أم لا، بل الامتثال لا يتحقّق فيها إلّا بإتيانها بقصد القربة، لا بقصد التوصّل، فالقول بأنّ الأوامر المتعلّقة بها غيريّة، والأوامر الغيريّة توصّليّة، غاية ما يعنيه: أنّه

ص: 232

لا يشتَرط في سقوطها وامتثالها الإتيان بمتعلّقها بقصد التقرّب، وإلّا، فإنّ الامتثال فيها _ كما ذكرنا _ لا يتحقّق بدون قصد التقرّب بها، وليس حالها حال بقيّة المقدّمات من ناحية كفاية امتثالها ووجودها في الخارج بأيّ شكلٍ اتّفق، ولو في ضمن الحرام.وقد يقال هنا: إنّ ما هو المطلوب أوّلاً وبالذّات ليس هو ذات المقدمة بما هي عبادة، بل العباديّة مأخوذة في الأمر الغيري، وفي الرتبة السابقة على تحقّقه، فحينئذٍ نسأل: ما هو المحقّق لعباديّتها؟ فإن كان هو الأمر الغيري، فيلزم الدور، على ما قرّره الشيخ(قدس سره) في كتاب الطهارة(1).

وتقريب الدور يتوقّف على مقدّمتين:

الاُولى: أنّ رفع الحدث المانع من الصلاة _ وإن شئت فقل: الطهارة _ إنّما يتحقّق بالوضوء، إذا وقع هذا الوضوء على وجه العباديّة المتوقّف على تعلّق الأمر به كي يقصد الإتيان به بداعي ذلك الأمر فيكون عبادة. إذ من الواضح: أنّه إذا جاء بأفعال الوضوء من دون أن تتعنون بعنوان العباديّة، وبلا أن تكون على وجه العبادة، لم يتحقّق بها رفع الحدث ولا استباحة الصلاة.

والثانية: أنّه لا أمر بالوضوء لأجل الصلاة إلّا الأمر الغيري الثابت له بملاك المقدميّة.

ص: 233


1- كتاب الطهارة 2: 54.

وإذا تمّت هاتان المقدمتان يأتي الإشكال، وذلك لأنّ الأمر الغيري إنّما يتعلّق بالوضوء بما أنّه مقدمة _ باعتبار أنّه رافع للحدث المانع،ورفع المانع من المقدّمات _، ومقدّميّته متوقّفة على الإتيان به على وجه العبادة، _ إذ قد عرفت أنّ رفع الحدث المانع يتوقّف على إتيانه بنحو العبادة _، والإتيان به على وجه العبادة يتوقّف على الأمر به. فعليه: يكون الأمر الغيري متوقّفاً على مقدّميّته، ومقدّميّته متوقّفة على الأمر الغيري، فيلزم الدور.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الأمر الغيري متوقّف على عباديّتها، والمفروض أنّ عباديّتها متوقّفة عليه، وليس هناك أمر أو شيء آخر تتحقّق به عباديّتها، فلو كان هناك أمر آخر ورد عليها أوّلاً وأثبت عباديّتها فلا مناص إلّا بإتيانها بقصد ذلك الأمر، إلّا أن يقال: بأنّ الأمر الأوّل قد انعدم بعد ورود الأمر الغيري.

هذا كلّه إن كان المحقّق لعباديّتها هو الأمر الغيري.

وأمّا إن كان المحقّق لها هو الأمر النفسي، فباطل.

وقد ذكروا وجوهاً لبطلانه:

أوّلاً: أنّ هذا لا يتمّ في التيمّم لعدم استحبابه النفسي قطعاً. بل لقد استشكل بعضهم في استحباب النفسي في الوضوء أيضاً، ولو كان هذا الاستشكال ممّا لا يعتمد عليه بعد الاتفاق على استحبابه النفسي.ولكنّ

الحقّ: أنّ التيمّم من المستحبات النفسيّة _ خلافاً لما نسبه

ص: 234

صاحب التقريرات)(1) إلى الشيخ الأعظم(قدس سره) من أنّ ثبوت الاستحباب النفسي في التيمّم وإن أمكن استفادته من بعض الروايات، إلّا أنّه ممّا لم يعتمد عليه أحد ظاهراً _؛ لأنّ صاحب الجواهر) ادّعى الإجماع _ محصّلاً ومنقولاً _ على عباديّته بقوله: «فالواجب في التيمم النيّة، كغيره من العبادات، إجماعاً محصّلاً ومنقولاً ومستفيضاً حدّ الاستفاضة إن لم يكن متواتراً، منّا، ومن جميع علماء الإسلام إلّا من شذّ»(2).

وثانياً: كيف يجمع بين الأمر النفسي والأمر الغيري؟! فإنّ الأول يكشف عن أنّ الملاك الموجود فيه ملاك لنفسه، والثاني يكشف عن كونه لغيره، فإذا ورد الأمر الغيري فلابدّ من انعدام الأمر الأوّل النفسي، وقد قلنا _ أيضاً _ بأنّه يصح إتيانها بقصد أمرها الغيري.

وقد أجاب عن الإشكال صاحب الكفاية)(3) وغيره: بأنّ عباديّة هذه العبادات إنّما نشأت من الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بذواتها،وحالها حال سائر المستحبّات التي يستحقّ فاعلها الأجر والثواب، ويحتاج في امتثالها إلى قصد القربة، وأنّ عباديّتها ليست متوقّفة على ورود الأمر الغيري حتى يلزم الدور، بل لو لم يتعلّق بها أمر غيريّ أصلاً

ص: 235


1- مطارح الأنظار 1: 348.
2- جواهر الكلام 5: 167.
3- كفاية الاُصول: ص 111.

ولم تكن هذه الأشياء ممّا يتوقّف عليها واجب نفسيّ، لكانت في نفسها راجحة ومطلوبة، غاية الأمر: أنّها تكون مطلوبة بالطلب الاستحبابيّ، لا الوجوبيّ.

وأمّا ما ذكر في الاعتراض عليه من أنّه: بمجرّد الأمر الغيري الوجوبيّ ينعدم الأمر النفسي الاستحبابيّ، لما هو مقرّر في محلّه من التضادّ بين الأحكام الخمسة، إمّا في حدّ ذاتها، أو باعتبار منشأ انتزاعها.

ففيه: أنّه لا يخفى: أنّنا إن قلنا بأنّ حقيقة كلٍّ من الوجوب والاستحباب هي عبارة عن نفس المراديّة والمطلوبيّة، وإنّما الفرق بينهما في مجرّد الشدّة والضعف، ويعرف الوجوب واللّزوم، أو جواز الترك وعدم اللّزوم، من الخارج، فحينئذٍ: لا منافاة بينهما أصلاً حتى يلزم حصول التّضاد المذكور.

وقد أجاب عنه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بما لفظه:

«أنّ عروض الوجوب الغيري على ما كان مستحبّاً في نفسه، بناءً على نظريّتنا، لا يوجب اندكاك الاستحباب وتبدّله بالوجوب، بل هو باقٍ على محبوبيّته وملاكه الكامنين في الفعل، وإنّما يرفع حدّه _ وهوالترخيص في الترك _، وعليه: فإذا أتى المكلّف بها بداعي المحبوبيّة فقد تحقّقت العبادة»(1).

ص: 236


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 403.

وحاصل ما أفاده(قدس سره): أنّه لو قلنا بأنّ الفرق بين الوجوب والاستحباب هو بصرف الشدّة والضعف، فالوجوب بمعنى الطلب الشديد، والاستحباب بمعنى الطلب الضعيف، فيكون كلاهما _ حينئذٍ _ بمعنى: المطلوبيّة والمراديّة، فلو ورد الأمر الوجوبيّ الغيري فإنّه لا يكون سبباً لانعدام واقع الإرادة الضعيفة، بل إنّما يوجب انعدام حدّ الضعف.

وفيه: أنّ هذا القول إنّما يتمّ بناءً على ما قلناه من أنّ كلّاً من الضعف والشدّة يعرفان من الخارج. وأمّا لو قلنا بأنّ الضعف دخيل في حقيقة الاستحباب كما أنّ الشدّة دخيلة في حقيقة الوجوب، يحصل التباين بينهما، والمركّب ينعدم بانعدام أحد أجزائه، فكيف يعقل أن يبقى بعد زوال حدّه؟! وإذا بقي حدّ الضعيف على حاله فكيف يجمع بينه وبين الوجوب؟!

وكذا لو قلنا بأنّ الوجوب عبارة عن طلب الشيء مع المنع من الترك، والاستحباب عبارة عن طلب الشيء مع الترخيص في الترك؛ فإنّه لا مجال _ بعد مجيء الوجوب _ لبقاء أصل الاستحباب، لا أنّه لاينعدم إلّا الترخيص الذي هو حدّ الاستحباب، وأمّا أصل الإرادة فباقٍ بلا زيادة ولا نقيصة؛ لأنّ المفروض أنّها فيهما شيء واحد.

وقد يرد على هذا أيضاً: أنّه هل يؤتى به بقصد أمره النفسي أو الغيري؟

قد يقال: باندكاك الأمر النفسي في الأمر الغيري.

ولكن فيه: أنّ هذا لا يدفع الإشكال؛ إذ لو اندكّ الأمر النفسي في الأمر

ص: 237

الغيري فكيف يمكن أن يؤتى به بقصد أمره النفسي وبعنوانه العباديّ؟

وأُجيبَ عن هذا: بأنّه بعد ورود الأمر الغيري لا يلزم انتفاء الأمر النفسي وذهابه بكلّه، أي: حتى مع ما كان فيه من المحبوبيّة والطلب، بل غاية ما هنالك: أنّ حدّه، الذي هو أمر عدميّ، قد زال، وإلّا، فإنّ نفس المطلوبيّة باقية على حالها، حتى بعد ورود الأمر الغيري.

ولكنّ الحقّ في الجواب أن يقال: إنّ الطلبين المتعلّقين به، وهما الوجوب والاستحباب، ليسا في مرتبة واحدة، ولا هما في عرض واحد؛ فإنّ الوجوب الغيري ليس في عرض الاستحباب النفسي حتى يلزم انعدام هذا الأخير بمجيء الوجوب، بل يكون الاستحباب النفسي بمنزلة الموضوع للوجوب الغيري، فلا انعدام _ حينئذٍ _ ولا اندكاك.

وقد يُستشكل فيه _ كما في التقريرات _ بما لفظه:«... وذلك أيضاً لا يدفع الإشكال؛ إذ لا أقلّ من أن يكون اللازم على ذلك التقدير هو القصد إلى الطلب النفسي، ولو في ضمن الطلب الوجوبي، والمعلوم من طريقة الفقهاء هو القول بترتّب الثواب على الطهارات، وإن انحصر الداعي إلى إيجادها في الأمر المقدّمي على وجهٍ لو لم يعلم باستحبابها النفسي أيضاً يكون كافياً في ذلك»(1).

وتوضيحه: أنّه بناءً على كون هذه الطهارات مطلوباتٍ نفسيّةً عباديّة،

ص: 238


1- مطارح الأنظار: 1: 348.

فلابدّ في الإتيان بها عبادةً من قصد أمرها النفسي، ولو في ضمن الطلب الوجوبي الغيري، مع أنّه لا إشكال فقهيّاً في صحّتها لو أتى بها بداعي الأمر الغيري المترشّح عن الأمر بذي المقدمة، ولو بلا التفات إلى الأمر النفسي المتعلّق بها، وإنّ اشتراط الإتيان بها بقصد أمرها النفسي خلاف ديدن الفقهاء وطريقتهم؛ فإنّهم يبنون على الاكتفاء بالإتيان بالطهارات بداعي أمرها الغيري وعدم اعتبار قصد أمرها النفسي، وهذا كاشف عن أنّ عباديّتها ناشئة من أمرها الغيري، فيعود المحذور حينئذٍ، وهو أنه كيف يمكن التقرّب بالأمر الغيري التوصّلي وتصحيح العباديّة به؟!

وأجاب عنه صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:«والاكتفاء بقصد أمرها الغيري، فإنّما هو لأجل أنّه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه، حيث إنّه لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدّمة، فافهم»(1).

وتوضيحه: أنّ قصد الأمر الغيري إنّما كان يمكن أن يكتفى به؛ لأنّه لا يدعو إلّا إلى ما هو مقدّمة واقعاً؛ لأنّ الأمر يدعو إلّا إلى متعلّقه، ومتعلّقه _ في الحقيقة _ ليس هو ذوات الأفعال، بل هي مع قصد أمرها النفسي، وقصد الأمر النفسي يكون في ضمن قصد الأمر الغيري، فقصد الأمر الغيري قصد إجماليّ مستبطن في قصد الأمر النفسي، وهذا المقدار كافٍ في إثبات العباديّة المطلوبة، إذاً، المصحّح للعباديّة ليس هو الأمر

ص: 239


1- كفاية الاُصول: 111.

الغيري محضاً، بل قصده الذي يترتّب عليه قصد الأمر النفسي، وفي الحقيقة: فإنّ قصد أمرها الغيري قصد إجماليّ لأمرها النفسي.

ولكن قد يمكن الإشكال عليه: بأنّه إنّما يتمّ مع الالتفات إلى أنّ لها أوامر نفسيّة، وأمّا مع الجهل بذلك، أو عدم الالتفات إليه، والغفلة عنه، فلا يكون هناك داعٍ لإتيانها إلّا بقصد أوامرها الغيريّة، فمع هذه الغفلة، كيف يمكن أن يدّعى كفاية القصد إجمالاً؟! مع أنّ قصد الأمر النفسي يكون مطويّاً في قصد الأمر الغيري، فلا يكون الأمر النفسي حينئذداعياً، لا تفصيلاً ولا إجمالاً، إلى عباديّة الطهارات؛ لأنّ أوامرها مغفول عنها، أو أنّها مجهولة، ومعه: فكيف يمكن أن يقال بصحّة هذه العبادات؟!

وقد استشكل المحقّق الأصفهاني(قدس سره) فيما ذكره صاحب الكفاية:

بأنّ الأمر النفسي الاستحبابي، أو الجهة الراجحة النفسيّة، إمّا أن تكون ملتَفتاً إليها عند العمل، أو مغفولاً عنها بالمرّة، فإن كانت ملتَفتاً إليها كانت هي الداعية إلى العمل، لا الأمر الغيري، إذ لا حاجة حينئذٍ إلى توسيط دعوة الأمر الغيري. وإن كانت مغفولاً عنها، لم يتحقّق القصد إليها ولو إجمالاً، فلا تتحقّق العباديّة لكون المفروض قوامها بقصد الأمر النفسي(1).

ثمّ إنّ المحقق النائيني) أثبت عباديّة الطهارات الثلاث بطريقٍ آخر، وهو:

ص: 240


1- نهاية الدراية 1: 201.

أنّه لا فرق بين الأجزاء والشرائط، بل كلاهما متعلّق للأمر الضمني النفسي، إلّا أنّ الجزء دخيل قيداً وتقيّداً، والشرط دخيل تقيّداً لا قيداً، فالأمر الوارد على المركّب كما أنّه يشمل الأجزاء، فهو يشمل الشرائط أيضاً، فالإتيان بها بداعي أمرها النفسي الضمني ولو كان بمتمّم الجعل.وعليه: فعباديّة الطهارات إنّما هي باعتبار تعلّق الأمر النفسي، وبذلك تندفع الإيرادات؛ إذ المقرّبيّة والثواب ناشئان من امتثال الأمر النفسي الضمني، ولا أمر غيريّ في المقام كي يستشكل في عباديّته، وإشكال الدور يندفع بما يدفع به نفس الإشكال على تعلّق الأمر بنفس العمل وذي المقدمة المفروض كونه عباديّاً(1).

وبعبارة أُخرى: فلا احتياج في إثبات العباديّة للشرائط بالتمسّك بأمر آخر وإثبات استحباب مستقلّ له، ولو فُرض أنّ هناك أمراً مستقلّاً يثبت عباديّتها فإنّه يندكّ في ذلك الأمر الوجوبيّ، والذي _ كما ذكرنا _ هو مناط العباديّة في الأجزاء والشرائط، ولو قلنا بأنّ الفرق بين الأمرين إنّما هو بالشدّة والضعف، فتأمّل؛ لأنّ الاندكاك إنّما يتصوّر إذا كانا في مرتبة واحدة، وفي المقام يكون أحد الأمرين موضوعاً ومتعلّقاً للأمر الآخر.

لكنّ ما ذكره(قدس سره) غير تامّ؛ لأنّه لا يتمّ إلّا بناءً على بسط الإرادة النفسيّة المتعلّقة بالمجموع المركّب على الشرائط، كما أنّها تنبسط على الأجزاء،

ص: 241


1- أجود التقريرات 1: 175.

وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، ولا هو التزم به(قدس سره)؛ لأنّه لو كان كذلك فيكون حال الشرائط حال الأجزاء في أنّها واجبات نفسيّة،فلا يبقى مجال لوجوبها الغيري، لا لأنّه يلزم اجتماع المثلين كما توهّم؛ لأنّ الوجوبين في رتبتين، وليسا في مرتبةٍ واحدة حتى يلزم اجتماع المثلين، بل للزوم لغويّة الوجوب الغيريّ.

بل _ بناءً على ما ذكر _ فلو كان القيد داخلاً تحت الأمر أيضاً كما أنّ التقيّد يكون كذلك، فلا يبقى فرق بين الأجزاء وبين الشرائط، مع أنّه(قدس سره) صرّح في كثير من الموارد بأنّ ذات الشرط خارج عن تحت الأمر والإرادة قيداً، وإنّما هو داخل تقيّداً.

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) بالنسبة إلى الصلاة صحيح، فإنّ الطهارات الثلاث تكون جزءاً للصلاة، كما ورد في الخبر: «الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود»(1)، فيمكن القول: بأنّ الأمر بالصلاة وارد على الشرائط أيضاً.

وقد استشكل عليه أيضاً: بأنّه يلزم من تعلّق الأمر النفسي الضمني الانحلالي بالطهارات الثلاث أن تكون هذه الطهارات متّصفة بالأمر النفسيّ أيضاً، كما تتّصف بالأمر الغيري من باب أنّها مقدّمة. بل قد يجتمع في الطهارات الثلاث أوامر ثلاثة: أوّلها: الأمر الغيري. والثاني:

ص: 242


1- وسائل الشيعة 6: 310، الباب 9 من أبواب الركوع، ح1.

الأمر الاستحبابي النفسي. والثالث: الأمر الضمني.ولكنّ الأمر الاستحبابي يندكّ في الأمر الضمني، لا بمعنى: أنّه ينعدم الأمر الاستحبابي من أصله، بل بمعنى: أنّه يتبدّل حدّه بالحدّ الوجوبي؛ لأنّه من قبيل اللّبس فوق اللّبس، لا اللّبس بعد الخلع.

ثمّ بعد الاندكاك يتولّد منهما أمر واحد، وهو الأمر النفسي الوجوبي العبادي، فتكون الطهارات الثلاث واجبة بالوجوب النفسي العبادي، فيكون المقام نظير ما لو نذر الإتيان بالمستحبّات النفسية؛ فإنّه بعد النّذر يتولّد أمر وجوبي.

ولكن مع ذلك، فإنّ هذا الكلام إنّما يتم لو قلنا بأنّ الفرق بين الوجوب والندب إنّما هو بالمنع من الترك في الأوّل، وجواز الترك في الثاني، أو بالشدّة والضعف، وأمّا لوقلنا بأنّ الأمر قد وضع للطلب، وأنّ الطلب شامل للوجوب والندب معاً، فلا معنى للاندكاك حينئذٍ.

ثمّ رأى(قدس سره) أنّه بعد الاندكاك والتأكّد وتولّد أمر وجوبي نفسي متعلّق بالطهارات يتعلّق به أمر غيريّ، فيكون الأمر الغيري في طول الأمر النفسي الضمني ومتأخّراً عنه.

ولكنّ هذا الكلام في حدّ ذاته غير تامّ، كما سنذكره في جواب ما أفاده المحقق العراقي(قدس سره)، وخلاصة كلامه:

أنّ الأمر الغيري الوارد على المقدمات ينحلّ إلى أمرين وإرادتين: تتعلّق إحداهما بذوات هذه الأفعال، وتتعلّق الثانية بإتيانها بقصد أمرها.

ص: 243

وهاتان الإرادتان اللّتان انحلّت الإرادة المتعلّقة بالمجموع إليهما طوليّتان؛ لطوليّة متعلّقيهما؛ حيث إنّ الجزء الذهني من ذلك المركّب ليس في عرض الأجزاء الخارجيّة، بل نسبته إليها نسبة العرض إلى المعروض(1).

وبعبارة أُخرى: فإنّ قصد أمر الشيء ليس في عرض نفس الشيء، فإن تحقّق ووجدت هناك إرادتان طوليّتان: إحداهما: تكون متعلّقة بذوات هذه الأفعال، والأُخرى: بإتيانها بقصد أمرها، فالإرادة الاُولى ليست متوقّفة على أن يكون متعلّقها متعلّقاً للأمر؛ لأنّها تعلّقت بنفس الذّات، والإرادة الثانية وإن كانت متوقّفة على ثبوت أمر في الرتبة السابقة عليها، ولكنّها موجودة كذلك، وهي الإرادة المتعلّقة بذوات هذه الأفعال في الرتبة السابقة على الإرادة الثانية؛ فلا دور.

وهذا الذي ذكره(قدس سره) ليس تامّاً؛ لأنّ الإرادة الشخصيّة الواحدة لا يمكن أن تنحلّ إلى إرادتين طوليّتين، بل ليس هنا إلّا إرادة واحدة.

هذا. مضافاً إلى أنّ تعلّق الإرادة بالمجموع المركّب لا يمكن إلّا بعد فرض وجود أمر متعلّق بذوات هذه الأفعال في الرتبة السابقة على هذه الإرادة، والمفروض أنّه ليس من إرادة اُخرى في البين غير هذه الإرادة،فلا مناص إلّا من الالتزام باستحباب هذه الأفعال الثلاثة في حدّ أنفسها مع قطع النظر عن تعلّق الأمر الغيري بها(2).

ص: 244


1- نقله عنه في منتهى الاُصول 1: 212.
2- منتهى الاُصول 1: 212.

ولكنّ المقام هنا ليس _ كما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) _ من قبيل العامّ الاُصولي(1)؛ لأنّ الانحلال هناك من جهة أنّ الإرادة قد تعلّقت بالطبيعة، والطبيعة لها أفراد طوليّة وعرضيّة، فتنحلّ حسب انحلال الطبيعة وتبعاً لوجوداتها.

مضافاً: إلى أنّ تعلّق الإرادة هو في الحقيقة بالأجزاء الخارجيّة، وقصد القربة لا يمكن إلّا بعد وجود أمر مسبق متعلّق بذوات الأفعال في المرتبة السابقة على هذه الإرادة، وحيث إنّ المفروض أنّه ليس هناك إلّا إرادة واحدة، فلابدّ من فرض استحباب الطهارات الثلاث مع قطع النظر عن أمرها الغيري.

ولكن مع ذلك، فيمكن أن يقال بعباديّة الطهارات الثلاث، وذلك:

(أ) إمّا بقصد التوصّل بها إلى ذيها؛ فإنّه موجب لوقوع المقدّمة عباديّة.ولا يقال: بأنّ هناك دوراً؛ لأنّ قصد التوصّل إنّما يمكن إذا تعلّق بالمقدمة، والمفروض أنّها عبادة، فإذا كانت عباديّتها ناشئة عن قصد التوصّل، لزم الدور.

فإنّه يقال: إنّ المقدّمة مركّبة من ذوات الأفعال الخارجيّة ومن قصد التقرّب، وإنّ ذوات الأفعال التي هي جزء للمركّب في أنفسها تكون مقدّمة ولها دخل في إيجاد ذي المقدّمة، فحينئذ: يمكن أن يؤتى بها بقصد التوصّل بها إلى فعل الصلاة، وبذلك يتحقّق الجزء الثاني، وهو

ص: 245


1- منتهى الاُصول 1: 214.

التقرّب، غاية الأمر: أنّ القيد والمقيّد اللذان حصلا للمقدّمة، إنّما حصلا بناءً على الطوليّة، لا في عرض واحد.

وفيه: أنّ ما يكون دخيلاً في إيجاد ذي المقدّمة ليس هو نفس الأفعال فقط، بل الأفعال بما هي عبادة، فيعود الإشكال.

(ب) وإمّا بقصد أمرها غافلاً عن كونه مقدّمة للواجب، أو يبني على ذلك، كما إذا اغتسل الجنب غافلاً عن الإتيان بالصلاة بعده، أو يأتي بقصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة. وإن لم يكن ملتفتاً إلى الأمر النفسي المتعلّق بها ولم يكن قاصداً لامتثاله، فحينئذٍ: يكفي في عباديّة الطهارات الثلاث أن يأتي بها: إمّا بقصد أمرها النفسي، أو من جهة قصد التوصّل بها إلى الواجب الذي هو ذي المقدّمة.وأمّا ما قيل: من أنّ العباديّة تحصل بقصد أمرها النفسي بأن يكون الأمر الوارد على ذي المقدّمة منبسطاً على الأجزاء والشرائط، فقد مرّ مفصّلاً وبيّنا الإشكال الوارد عليه، وهو أنّه بناءً على هذا يكون حال الشرائط حال الأجزاء، فتصبح واجباتٍ نفسيّة ويلزم _ بناءً على هذا _ لغويّة وجود الأمر الغيري.

وكذا ظهر _ أيضاً _ فساد ما قيل: من أنّه بناءً على هذا يلزم اجتماع المثلين. فقد أجبنا عنه سابقاً: بأنّه لا يلزم ذلك، لمكان اختلاف الرتبة.

نعم، وكما مرّ أيضاً، فإنّ هذا إنّما يصحّ بالنسبة إلى الصلاة دون بقيّة العبادات من ذوات المقدّمات العباديّة.

ص: 246

الواجب التعييني والتخييري

اشارة

وقبل الدخول في البحث لابدّ من بيان معنى كلٍّ من التعيينيّ والتخييريّ، فنقول:الواجب التعيينيّ: هو ما لا يجوز تركه مطلقاً، ولو إلى البدل، بل يكون متعيّناً على المكلّف بنفسه، كالصلوات اليوميّة؛ فإنّها واجبة بنفسها، ولا يجوز تركها مطلقاً، ولو مع فرض الإتيان بغيرها.

وأمّا الواجب التخييريّ: فهو ما لا يجوز تركه إلّا إلى بدل، كما في خصال الكفّارة؛ فإنّ عدم جواز ترك كلّ واحد من الأبدال مقيّد بعدم الإتيان بالآخر، وإلّا، فإنّ تركه يكون جائزاً.

وقد استشكل في هذا التعريف: بأنّه كيف يكون الواجب جائز الترك، مع استبطان الوجوب لعدم جواز الترك، ففرض جواز تركه مع وجوبه تناقض.

وقد اختار كلّ واحدٍ من العلماء طريقاً للتخلّص من هذا الإشكال.

ص: 247

وقد يقال: إنّ هذا الإشكال إنّما يرد في مقام الثبوت، وأمّا في مقام الإثبات فلا إشكال، ضرورة وقوعه _ أي: الوجوب التخييريّ _ في الشرعيّات والعرفيّات، وفي المسألة أقوال:

القول الأول:

أنّ الواجب عبارة عمّا يختاره المكلّف في مقام الامتثال، أي: فكلّ فرد من الأفراد الذي اختاره المكلّف خارجاً هو الذي يكون واجباًعلى المكلّف واقعاً، مثلاً: في موارد التخيير بين القصر والإتمام، لو اختار المكلّف القصر _ مثلاً _ فيكون القصر هو الواجب عليه، ولو عكس فبالعكس.

وهذا المذهب نظير التصويب الذي قال به بعض العامّة، والذي مفاده أنّ حكم اﷲ إنّما هو ما أفتى به المجتهد.

ويردّه:

أوّلاً: أنّه _ في الحقيقة _ إرجاع للواجب التخييريّ إلى التعيينيّ.

وثانياً: أنّ الوجوب لو كان تابعاً للاختيار، فمعنى ذلك: أنّه قبل الاختيار لم يكن أحدهما واجباً.

وثالثاً: أنّه مخالف لقاعدة الاشتراك في التكليف، والتي مفادها: أنّ الأحكام مشتركة بالنسبة إلى جميع المكلّفين؛ وذلك لأنّ لازم الوجوب التخييري _ بناءً على هذا القول _: أنّ من اختار القصر فالواجب عليه هو

ص: 248

القصر، ومن اختار الإتمام فالواجب عليه هو الإتمام، فيختلف التكليف باختلاف المكلّفين، فلا اشتراك.

ورابعاً: أنّه على فرض العصيان وعدم الإتيان بأحد الطرفين أو الأطراف: فإمّا أن نقول بارتفاع الوجوب، ومعناه: أنّه لا عصيان حينئذٍ في الترك، وهو غير معقول؛ لأنّ الوجوب الذي لا يترتّب على تركه العصيان غير معقول. وإمّا أن نقول ببقائه بلا متعلّق، ففيه: أنّهذا

إنّما يتمّ فيما إذا كان ما اختاره قيداً للوجوب على ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين من دون أن يكون قيداً للواجب، وإلّا، فإنّ العصيان حينئذٍ متحقّق.

وخامساً: أنّ هذا مخالف لظاهر دليل الوجوب التخييريّ؛ فإنّ ظاهره: أنّ كلّاً من الوجوب والتكليف يتوجّهان إلى كلّ واحدٍ واحدٍ من الأبدال على السواء، لا أنّ الوجوب يكون مختصّاً بما يختاره المكلّف.

القول الثاني:

ما اختاره المحقق النائيني(قدس سره): من أنّ متعلّق الإرادة في الواجب التخييريّ هو الأمر المردّد بين أمرين أو أكثر. وهناك فرق بين الإرادة التشريعيّة والتكوينيّة، فإنّ الأخيرة يمتنع أن تتعلّق بالأمر بالمبهم، بخلاف الأُولى، فإنّه لا مانع من تعلّقها به.

والسرّ في ذلك: أنّ الإرادة التكوينيّة محرّكة لعضلات المريد نحو

ص: 249

الفعل، وتحرّك العضلات نحو المردّد غير ممكن. وأمّا الإرادة التشريعيّة: فهي بمعنى إحداث الداعي للمكلّف نحو الفعل،فكما أنّه يمكن أن تتعلّق بشيء معيّن لتوجيه المكلّف نحو إتيانه، فكذلك يمكن أن تتعلّق بأمر مردّد بين أمرين أو أكثر(1).

وبعبارة أُخرى: فإنّ الإرادة التكوينيّة، بما أنّها محرّكة لعضلات المريد نحو الفعل، فلا يُعقَل تحريكها نحو المردّد، ولا الكلّي، بل إنّما تتعلّق بالمعيّن؛ لأنّ هذه الإرادة علّة لوجود المُراد في الخارج، فلا يُعقَل فيه الإبهام.

وأمّا الإرادة التشريعيّة فحالها حال تطليق إحدى الزوجات مع عدم إرادة واحدة معيّنة منهنّ، فإنّ الإطلاق صحيح، وتعيّن المطلقة بالقرعة _ وإن كان هذا الطلاق _ حسب القاعدة _ باطل؛ لأنّ القرعة إنّما تجري لأمرٍ مجهول عنده ومعلوم عند اﷲ، وهنا هو غير معلوم أصلاً، لأنّه لا واقع له، فلا تجري القرعة.

هذا إذا قلنا بأنّ أدلّة القرعة إنّما تجري فقط في أمر يكون مجهولاً عنده ومعلوماً عند اﷲ، وأمّا إذا قلنا بأنّها تجري مطلقاً فلا يكون الطلاق باطلاً _.

وكيف كان، فبعدما كان التشريع من الاعتباريّات، فأمره ورفعه ووضعه

ص: 250


1- أجود التقريرات 1: 182.

بيد المُعتَبر. وإذا كان كذلك، فهو تارةً يعتبره بين فعلمبهمٍ وفاعلٍ معيّن، كالواجب التخييريّ، وقد يكون بالعكس فيعتبره بين فاعلٍ مبهمٍ وفعلٍ معيّن، كالواجب الكفائيّ، وكاعتبار الملكيّة لمالكٍ مبهم، كملكيّة الزكاة للفقراء والخمس للسادة.

وبعبارة

أُخرى: فإنّ الإرادة التشريعيّة كما أنّه لا مانع من تعلّقها بالكلّي بحذف جميع خصوصيّاته، أي: بالكلّي بما هو كلّيّ، بأن يكون المراد حقيقة نفس الطبيعة وغيرها من لوازم الوجود مراداً تبعاً، فإنّه يجوز أيضاً أن تتعلّق بالجزئيّ الحقيقيّ بحيث تكون لوازم الوجود مرادةً أيضاً، فيجوز أيضاً أن تتعلّق بأحد الأمرين أو الاُمور الذي له الوجوب التخييريّ.

فالفرق بين الإرادة التشريعيّة والإرادة التكوينيّة من جهات:

الجهة

الاُولى: ما ذكرناه، من أنّ الإرادة التكوينيّة تكون محرّكة للعضلات نحو الفعل، وأمّا الإرادة التشريعيّة فهي من الاُمور الاعتباريّة.

والجهة الثانية: أنّ الإرادة التشريعيّة تنقسم إلى التعبّديّة والتوصّليّة، دون التكوينيّة.

والجهة الثالثة: أنّ الاُولى يجوز أن تتعلّق بالأمر المردّد والمبهم وبالكلّي، دون الثانية.وعليه: فقياس الإرادة التشريعيّة على التكوينيّة، حتى يترتّب عليه

ص: 251

امتناع تعلّق الإرادة التشريعيّة بالأمر المبهم في غير محلّه.

بل يمكن أن يقال تأييداً لكلامه(قدس سره): إنّ حال الواجب التخييريّ هو حال الإرادة المتعلّقة بصرف الوجود من الطبائع المأمور بها، فإنّه ينحلّ إلى كل فرد من تلك الطبيعة في الخارج. فكما أنّ الطبيعيّ لا وجود له في الخارج على نحو الاستقلال، فالمردّد أيضاً لا وجود له في الخارج على نحو الاستقلال. فمتعلّق الإرادة في محلّ البحث إنّما هو مفهوم (أحدهما) الذي ينطبق على كلّ واحدٍ منهما خارجاً على سبيل البدل، ويكون حاكياً عن كلّ واحد منهما، وهذا المفهوم جامع انتزاعيّ مأخوذ منهما، فيكون كلّ واحد منهما مصداقاً له.

ولكنّ ما أفاده(قدس سره) من الفرق بين الإرادتين التشريعيّة والتكوينيّة في عدم إمكان تعلّق الإرادة التكوينيّة بالمردّد وإمكان تعلّق التشريعيّة به، فليس على ما ينبغي، بل الإرادة التشريعيّة أيضاً لا يمكن أن تتعلّق بالمردّد؛ لأنّ إرادة العبد في مقام الامتثال تابعة لإرادة المولى، بمعنى: أنّها لابدّ أن تتعلّق بنفس ما تعلّقت به إرادة المولى الآمر؛ إذ لا معنى للامتثال إلّا الإتيان بمراد المولى، وإتيان مراده بالاختيار لا يكاد يمكن إلّا أن تتعلّق إرادته بعين ما تعلّقت به إرادة المولى.وبعبارة أُخرى: فإنّ تعلّق إرادة المولى بشيء إنّما يكون ويتحقّق لأجل أن يكون محرّكاً نحو للعبد نحو إرادة نفس ذلك الشيء الذي تعلّقت إرادته به، لا إلى شيءٍ آخر، فلابدّ وأن يكون ذلك الشيء الذي

ص: 252

أراده المولى قابلاً لأن تتعلّق إرادة العبد به أيضاً، وذلك لا يكون إلّا إذا كان ذلك الشيء متميّزاً له، لا مبهماً مردّداً.

فثبت: أنّ كلّ ما لا يمكن أن تتعلّق به الإرادة التكوينيّة فلا يمكن أن تتعلّق به الإرادة التشريعيّة، فلا فرق بين الإرادتين من هذه الجهة.

وأمّا ما أفاده) من أنّ هناك فرقاً بين الإرادتين من ناحية إمكان أن تتعلّق الإرادة التشريعيّة تتعلّق بالكلّي دون التكوينيّة.

ففيه: أنّ التكوينيّة أيضاً قد تتعلّق بالكلّي، باعتبار أنّ وجود الكلّي في الخارج لا يكون إلّا بعد تشخّصه بالخصوصيّات والعوارض المشخّصة، فتكون هذه المشخّصات متعلّقةً للإرادة بها بالعَرَض، بواسطة ملازمة وجودها لوجود الكلّي. فإذا كانت المصلحة الموجبة لتعلّق الإرادة في نفس الكلّي والطبيعة، ولم يكن للعوارض المشخّصة والخصوصيّات دخل فيه أصلاً، فلا محالة، يكون المراد بالذات هو نفس الطبيعة، وتكون تلك العوارض الملازمة لها مرادةً تبعاً، لعدم انفكاكها عن تلك الطبيعة وذلك الكلّي.وأمّا ما ذكره من أنّ الإرادة التشريعيّة تنقسم إلى التعبّديّة والتوصّليّة دون التكوينيّة:

ففيه: أنّه تفريق بلا فارق؛ فإنّ التعبّديّة _ كما ذكره الاُستاذ المحقّق)_ ليس لوناً للإرادة حتى تكون موجبةً لتقسيم الإرادة بقسمين، حتى نقول بوجود هذا التقسيم في التشريعيّة دون التكوينيّة، بل التعبّديّة تحصل

ص: 253

بوجود إرادتين: إحداهما: متعلّقة بنفس العمل. والثانية: بإتيانه بقصد مراديّتة بتلك الإرادة المتعلّقة بذات العمل(1).

وبعبارة أُخرى: فإنّ الخطابات التشريعيّة إن كانت مبرزة لما في نفس المولى من الحبّ والبغض، ولم يكن هناك أيّ إنشاء في البين، فلا يمكن أن يتعلّق الحبّ أو الكراهة بشيء مبهم غير معيّن. وإن كانت إنشاء، فلمّا كان الإنشاء مترتّباً على تصوّر ما فيه المفسدة أو المصلحة، فلا يُعقل تعلّق التصوّر والتصديق اللّذين يستتبعان الإنشاء بأمرٍ مبهم.

وأمّا ما نُسب إلى بعض المحقّقين(2) من كون الإرادة إنشاءً وجوبيّاً للمولى، بحيث يكون إنشاء النسبة متعلّقاً بكلّ واحد من الأبدال، لكن لا مطلقاً، بل بنحو العِدليّة المدلول عليها بكلمة (أو)، ولو لم تكن هذهالكلمة، كان كلّ واحد من الأبدال واجباً تعيينيّاً، وليس الإنشاء في شيءٍ منها مشروطاً بعدم الآخر حتى يلزم الواجب المشروط، كما هو أحد الوجوه الآتية.

لكنّ ما ذكره(قدس سره) إنّما يتمّ بناءً على إمكان تعلّق الإرادة بشيء مبهم، وهذا مخالف لمبناه من عدم الفرق بين الإرادتين في عدم جواز تعلّقهما في المبهم، حيث أفاد(قدس سره) في الردّ على قول المحقق النائيني) بإمكان

ص: 254


1- منتهى الاُصول 1: 217.
2- نقله في منتهى الدراية 2: 542 _ 543، عن اُستاذه في مجلس الدرس.

التفريق بين الإرادتين، من مساواة الإرادتين: التكوينيّة والتشريعيّة، في امتناع التعلّق بالمبهم، وعدم إمكان التفكيك بينهما في جواز تعلّق التشريعيّة بالمبهم، وعدم جواز تعلّق التكوينيّة به.

القول الثالث:

ما اختاره المحقق العراقيّ(قدس سره) من أنّ الإرادة وإن تعلّقت بكلّ واحدٍ من الطرفين أو الأطراف، ولكنّ كلّ واحدةٍ من الإرادتين ليست إرادة تامّة، بل كلتاهما تكونان ناقصتين، بمعنى: أنّ كلّ واحدةٍ منهما لا توجب سدّ جميع أبواب عدم متعلّقها، بل تسدّ أبواب عدمه إلّا باب عدمه في ظرف وجود الطرف الآخر، فلا تحريك لهذه الإرادة في ظرف وجود الطرف الآخر. فتحريكها للمكلّف نحو الفعل ليس تحريكاً تامّاً بحيثيحرّكه نحوه في جميع الظروف والحالات، فالقول بأنّها ناقصة باعتبار نقص في تحريكها وداعويّتها في بعض الظروف والحالات، كما لو أراد المولى الصوم _ مثلاً _ في كلّ حال إلّا في حال وجود العتق.

فيتحصّل من هذا شيئان:

الأوّل:

أنّ تعلّق الإرادة بالطرفين أو الأطراف يكون على وجه ناقص، ولازم هذا النقصان هو جواز ترك بعض الأطراف في ظرف وجود الآخر.

والثاني: أنّ تركه لجميع الأطراف موجب للإثم، لعصيانه وعدم

ص: 255

الإتيان بما هو متعلّق الإرادة الفعليّة (1).

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّه إذا كانت هناك إرادات متعدّدة فلا مانع من تعدّد العقاب لأنّه خالفها، ولم يمتثل الإرادات المتعدّدة، وتكون الإرادة تامّة عند ترك الجميع.

ويمكن الجواب عنه: بأنّه يمكن أن يقال بعدم العقاب إذا كانت مصلحة جميع الأطراف واحدة، إذ لم تفت إلّا مصلحة واحدة، فلايكون إلّا عقاب واحد. وأمّا لو قلنا بتعدّد المصلحة، ولكن حيث لا يمكن تحصيل الجميع لعدم إمكان اجتماع الإرادتين معاً في عالم الوجود، لما بينها من تضادّ في الوجود، فأيضاً لم تفت إلّا مصلحة واحدة.

ثمّ لو قلنا بتعدّد المصلحة وإمكان اجتماعها، فعلى هذا الفرض: وإن فاتت مصالح متعدّدة، لكن حيث إنّ كلّها غير لازمة التحصيل، بل إيجاد إحداها كان كافياً عند المولى، بحيث ما كان يطالب بالبقيّة لو كان يأتي بإحداها، فلا يكون هناك إلّا عقاب واحد.

وثانياً: أنّه لا يمكن تصوّر النقصان في الإرادة، نعم، يمكن تأويله

ص: 256


1- انظر: منتهى الاُصول: 1: 217_ 218. وقال في نهاية الأفكار 1: 391 _ 392، ما نصّه: «إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء على وجه التخيير، فالمرجع فيه _ كما عرفت _ إلى وجوب كلّ واحدٍ منها، لكن بإيجابٍ ناقص، بنحو لا يقتضي إلّا المنع عن بعض أنحاء تروكه، وهو الترك في حال ترك البقيّة»، إلى آخر ما جاء في كلامه(قدس سره).

بضعف الشوق وتأكّده، نظير ما قال به جماعة في التفريق بين الوجوب والاستحباب.

والحقّ: أنّه لا يمكن تصوّر النقصان في الإرادة بأيّ معنى فسّرناه؛ لأنّها عبارة عن الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات، فما لم يصل إلى هذه المرتبة فلا يصدق عليه الإرادة.

وثالثاً: لو أردنا توجيه كلامه بأن نقول: إنّ معنى كلامه(قدس سره) هو أنّ إرادة كلّ واحد من الأطراف مقيّدة بعدم الطرف الآخر. ففيه: أنّ هذا رجوع إلى القول الأوّل.

القول الرابع:

اشارة

أنّ كلّ واحدٍ من الأطراف واجب ومتعلّق للإرادة التامّة، غاية الأمر: أنّ متعلّق كلّ واحدةٍ من الإرادتين ليس واجباً مطلقاً، بل وجوب كلّ واحدٍ منهما يكون مشروطاً بعدم وجود الآخر، فلا إطلاق في وجوب كلّ واحدٍ منهما يشمل حتى الوجوب الآخر.

ولكن يرد عليه الإشكال:

أوّلاً: أنّ وجوب كلٍّ من الطرفين _ بناءً على هذا القول _ متأخّر عن عدم الآخر؛ لأنّ المفروض أنّه مشروط به، والمشروط متأخّر عن شرطه، وعدم كل واحدٍ منهما في رتبة وجود نفسه؛ لأنّ النقيضين في مرتبة واحدة، فالنتيجة: أن يكون وجوب كلّ واحدٍ منهما متأخّراً عن وجود

ص: 257

الآخر، فيكون موقوفاً على وجود الآخر، والحال أنّه موقوف على عدمه، وهذا تناقض، وهو محال.

وثانياً: أنّ وجوب كلّ واحد من الأطراف _ بناءً على هذا القول _ يكون على نحو التعيين، لا التخيير.

وثالثاً: أنّه يستلزم تعدّد العقاب عند ترك الجميع؛ لحصول شرط وجوب الكلّ، وهو عدم وجود سائر الأطراف، فيكون الوجوب فعليّاً حينئذ بالنسبة إلى جميع الأطراف.ورابعاً: أنّ مرجع هذا _ كما ذكرنا سابقاً _ إلى أمرين: أوّلهما: تعدّد العقاب، وثانيهما: عدم إمكان الجمع بين الملاكات؛ لتضادّها في عالم الوجود، بمعنى: أنّ وجود كلٍّ من الافراد يكون مانعاً من استيفاء الآخر أو الأُخر.

وخامساً: لو فُرض تعدّد الملاكات في الأطراف، فلا يمكن أن يكون الملاك في كلّ واحد من الأطراف ملاكاً تامّاً لكي نلتزم بإناطة وجود كلٍّ من الأطراف بعدم الآخر؛ لأنّ هذه الإناطة إنّما تصحّ في مورد التزاحم الاتفاقيّ، أي: في باب التزاحم، حيث يتساوى الواجبان في الملاك، ويكون الملاك في كلٍّ منهما تامّاً، فإنّنا نقول هناك بتقييد كلّ واحدٍ من الخطابين بعدم وجود متعلّق الآخر؛ لأنّ ملاك كلّ واحدٍ من الحكمين هناك تامّ، والتقييد إنّما جاء من جهة العجز وعدم القدرة، كإنقاذ الغريقين مع عدم أولويّة أحدهما ورجحانه على الآخر حيث لا يمكن تحصيل كلا

ص: 258

الملاكين وإنقاذ كلا الشخصين؛

وذلك لأنّ فعليّة الخطاب مشروطة بأمرين:

أحدهما: كون المأمور به ذا ملاك تامّ.

والآخر: كونه مقدوراً للمكلّف.

وبانعدام كلّ واحدٍ من هذين ينعدم الخطاب، كما أنّه لو كان ذو الملاك التامّ مقدوراً في بعض الأحيان والظروف دون بعض آخر، فلامحالة

يتقيّد الخطاب ويُصبح مشروطاً بتلك الحال وبذلك الظرف، كما هو الحال في باب الحكمين، ولا معنى لسقوط الخطابين رأساً بعد وجود الملاك التامّ في كلّ واحد من المتعلّقين، بل لابدّ من تقيّد الخطاب بمقدار العجز؛ لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، وهذا بخلاف محلّ البحث؛ فإنّ التزاحم هنا ليس اتّفاقيّاً، بل هو تزاحم دائميّ؛ لأنّه من باب تزاحم الملاكات، فلا يمكن هنا فرض وجود ملاك تامّ في كلّ واحدٍ من الطرفين أو الأطراف؛ لابتلاء كلّ واحدٍ منها بالمزاحم، وبما أنّ العجز والتزاحم دائمان، فلا محالة: يكون أحد الملاكين، أو الملاكات، هو المؤثّر، لا جميعها.

القول الخامس:

إرجاع

التخيير الشرعيّ إلى التخيير العقليّ، ويكون متعلّق الإرادة هو الجامع الانتزاعيّ؛ لما عرفت من أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد، وأنّ المتباينات بما هي متباينات لا تؤثّر في واحد بمقتضى

ص: 259

القاعدة،

فلابدّ حينئذ أن يكون بين هذه الأطراف جامع يكون بهذا الجامع مؤثّراً في هذا الغرض الواحد، فمتعلّق الوجوب في الحقيقة واحد وهو الجامع لا الأفراد، حتى يُصبح التخيير شرعيّاً.وإذا كان المتعلّق هو الجامع، فلازمه: كون التخيير بين الأفراد عقليّاً؛ لأنّ مطلوبيّة كلّ واحدٍ معناه: مصداقيّته للجامع، فالجامع _ إذاً _ هو المتعلّق، دون الأفراد، فليس كلّ واحدٍ من الأفراد دخيلاً بخصوصيّته الشرعيّة في متعلّق الوجوب. نعم، تكون الخصوصيّة الفرديّة من لوازم الوجود، وهذا هو الفارق بين التخيير الشرعيّ والعقليّ.

وفيه:

أوّلاً: أنّ هذه القاعدة لا تجري إلّا في الواحد الشخصيّ البسيط من جميع الجهات، بل قد التزمنا في محلّه بعدم جريانها في الفاعل الموجَب، فضلاً عن المختار.

وعلى فرض التنزّل، فهي إنّما تتمّ في الواحد الشخصيّ، دون النوعيّ، كالاقتدار على الاستنباط الذي هو الغرض من علم الاُصول.

وثانياً: على فرض التنزّل والقبول بجريانها في المقام، فليس كلّ جامع ممّا يمكن أن يكون مورداً للتكليف، بل لابدّ وأن يكون جامعاً قريباً عرفيّاً، يعرفه المكلّف ويميّزه، حتى يكون حاله بالنسبة إلى الأطراف كحال سائر الطبائع بالنسبة إلى أصنافها وأفرادها، فيكون فعلاً اختياريّاً ينطبق على أطراف التخيير انطباق الكلّيّ الطبيعيّ على أفراده، ولا يندرج

ص: 260

في التكليف بالمجهول. فحتى لو سلّمنابتماميّة القاعدة، وبأنّها تجري حتى في الواحد النوعيّ، فإنّها لا تفيد هنا لإثبات مثل هذا الجامع.

وثالثاً: سلّمنا صحّة هذا القول في نفسه، إلّا أنّ لازمه: إرجاع الواجب التخييريّ إلى الواجب العقليّ، فيكون متعلّق الطلب _ حينئذٍ _ هو نفس الطبيعة، وهذا خلاف ظاهر الأدلّة؛ لأنّ الظاهر من مثل: (صُم) أو (أعتق) أو (أطعم) أنّ خصوصيّة كلّ واحد من الأطراف تكون مرادةً، فالإرادة _ بناءً على ما ذكر _ إنّما تعلّقت بالجامع والتخيير فيما بينها عقليّ، أي: أنّ العقل يخيّر المكلّف في إيجاد ذلك الجامع وتطبيقه في الخارج في ضمن هذه الخصوصيّة أو تلك، فالخصوصيّة على الثاني دخيلة في المطلوبيّة، دونها على الأوّل، وهو معنى التخيير العقليّ.

القول السادس:

أنّ متعلّق الإرادة هو العنوان الكلّيّ الانتزاعيّ، وليس هو الجامع الملاكيّ، وهو _ مثلاً _ مفهوم (أحدهما) أو (أحدها).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ المفهوم الانتزاعيّ لا ملاك له ولا مصلحة فيه، والإرادة والطلب والوجوب إنّما تكون تابعة للملاك والمصلحة، وعليه: فلا صلاحيّة لذلك العنوان لكي يكون متعلّقاً لشيءٍ من الطلب والإرادة.وثانياً: انّ المفهوم الانتزاعيّ لا مطابق له في الخارج؛ إذ الأطراف في

ص: 261

الخارج ليست إلّا عبارةً عن نفس الصوم والكفّارة والعتق، لا المفهوم المردد.

وثالثاً: إذا لم يكن العنوان صالحاً لأن يكون مركباً للملاك والمصلحة، فلا يمكن للإرادة أن تتعلّق به، وحينئذٍ: فلابدّ أن يكون متعلّق الإرادة هو محكيّ ذلك العنوان، لا نفسه، ومعه: يرجع الإشكال المتقدّم، وهو أنّه كيف جاز تعلّق الإرادة بهذه الأطراف، مع أنّ الظاهر من الأدلّة الواردة بلسان: (افعل هذا أو ذاك) هو أنّ المتعلّق ليس هو المفهوم المردّد؟! بل تكون كلّ الخصال واجبةً ومتعلّقةً للإرادة.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: عدم صحّة ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سره) من أنّ المتعلّق هو الجامع الانتزاعيّ؛ فإنّه إذا جاز أن تتعلّق به الصفات الحقيقيّة، «فما ظنّك بالحكم الشرعيّ الذي هو أمر اعتباريّ محض؟! وقد تقدّم منّا غير مرّة: أنّ الأحكام الشرعيّة اُمور اعتباريّة، وليس لها واقع موضوعيّ ما عدا اعتبار الشارع، ومن المعلوم: أنّ الأمر الاعتباريّ كما يصحّ أن تتعلّق بالجامع الذّاتيّ، كذلك يصحّ تعلّقه بالجامع الانتزاعي، فلا مانع من اعتبار الشارع أحد الفعلين أو الأفعال في ذمّة المكلّف»(1).وجه الفساد: أنّه غير ممكن كما مرّ، وقياسه على الجامع الذّاتيّ في غير محلّه، وكذا قياس الحكم الشرعيّ على الأمر الاعتباريّ المحض؛

ص: 262


1- محاضرات في الاُصول 2: 201.

لأنّ له واقعاً، غاية الأمر: أنّ واقعه هو وعاء الاعتبار.

القول السابع:

أنّ الواجب في الخارج هو كلّ واحد من الأطراف على نحو التعيين، غاية الأمر: أنّ الإتيان بأحدها يكون مسقطاً لوجوب باقي الأطراف، كما لو أنّ موضوعه بعد الإتيان بأحدها قد انتفى.

وفيه:

أوّلاً: لو كان كلّ واحد من الأطراف وافياً بغرضه، فلا وجه لوجوب كلّ واحدٍ منهما، أو منها، تعييناً مطلقاً؛ لأنّ الآمر لا يريد إلّا شيئاً واحداً، فهو في ظرف وجود أحدها لا يريد سائر الأطراف.

وثانياً: أنّه مخالف لظاهر الأدلّة؛ فإنّه يظهر من كلمة (أو) تعلّق الوجوب بكلّ واحد على نحو التخيير.

وثالثاً: لزوم تعدّد العقاب عند ترك الجميع، ومن المعلوم أنّه ليس في الواقع إلّا ملاك واحد، فتفويته لا يكون مستوجباً إلّا عقاب واحد.ورابعاً: أنّه يرجع إلى القول الرابع، وهو وجوب كلّ واحد من الأطراف عند عدم الإتيان بالآخر؛ لأنّ الآمر لا يريد سائر الأطراف في ظرف وجود أحدها، فلا محالة: تتقيّد الإرادة في كلّ واحد منها بعدم وجود الطرف الآخر.

ولكن قد يمكن التفريق بين القولين: بأنّه _ على هذا القول _ فعند وجود

ص: 263

أحد الأطراف تكون بقيّة الأطراف أيضاً واجبة، ولا يسقط الواجب عن بقيّة الأطراف إلّا من جهة عدم بقاء الموضوع، وبهذا يُفَرّق بين هذا القول وبين القول الرابع.

القول الثامن:

أنّ الواجب هو المعيّن عند اﷲ وفي علمه عزّ وجلّ، وإنّما الجهل والترديد حصل عندنا.

وفيه:

أوّلاً: أنّه خلاف ظاهر الأدلّة؛ فإنّ ظاهر الأدلّة هو أنّ الوجوب متعلّق بكلّ واحدٍ من الأطراف، لكن على نحو الترديد، لا كما يقتضيه هذا القول من وجوب كلّ واحدٍ منها على نحو التحديد.وثانياً: أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وإرادة اﷲ تعالى لا تتعلّق إلّا بشيءٍ يكون فيه المصلحة، وهذه المصلحة: إمّا أن تكون موجودة في أحد الأطراف، وإمّا أن تكون موجودة في جميعها.

فإن

كانت موجودة في أحدها المعيّن، فالواجب هو ذاك المعيّن، ولا معنى للترديد.

وإن كانت موجودة وتامّة في سائر الأطراف أيضاً، فلابدّ _ حينئذٍ _ من الإتيان بالجميع؛ لفرض إيجاب الجميع، وإلّا، للزم كفّ الفيض من مستحقّه.

ص: 264

وأمّا لو لم يكن فيها تامّاً، فكيف يسقط الواجب بالإتيان بها؟! ويلزم من هذا _ أيضاً _ تفويت الواجب التامّ الملاك بلا موجب ولا مبرر.

ولو كان في كلّ واحدٍ منها تامّاً، ولكن كان كلّ واحدٍ منها مغنياً وكافياً ووافياً بالغرض فلا وجه للقول بأنّ أحدهما المعيّن يكون واجباً، بل يكون كلّ واحد منها حينئذٍ واجباً في ظرف عدم وجود الآخر.

نعم، هذا يتمّ بالنسبة إلى العلم الإجماليّ، حيث إنّه يكون مردّداً في مقام الإثبات ومعلوماً في مقام الثبوت، ولا يتمّ في المقام؛ لأنّه لا معنى لصدور الخطاب على نحو الترديد.مع أنّه لو فُرِض أنّ المقام مقام العلم الإجماليّ، فلابدّ حينئذٍ من الإتيان بجميع الأطراف حتى يُعلم بحصول الواجب الواقعي.

إلّا أن يقال: إنّ سقوط الواجب بواسطة الإتيان بأحد الأطراف إذا كان من جهة استيفاء الغرض وحصول الملاك، فلا يجب الإتيان ببقيّة الأطراف حينئذٍ.

القول التاسع:

أنّ الواجب هو المجموع من حيث المجموع، ولكنّ الواجب يسقط بالإتيان بالبعض.

وفيه:

أوّلاً: أنّه على خلاف الظاهر من الأدلّة.

ص: 265

وثانياً: إنّ معنى القول بأنّ الواجب هو المجموع من حيث المجموع: أنّ كل واحد من الأطراف يكون دخيلاً وجزءاً للمأمور به، ومعه: فكيف يمكن الاكتفاء ببعضها؟!

وثالثاً: بما أنّ الاجتماع قيد زائد، فلو شككنا بأنّه قيد للمتعلّق أم لا؟ يمكن دفعه بالأصل.

القول العاشر:

أنّ متعلّق الوجوب هو الجامع الأصيل بحيث يكون الغرض قائماً به.

وفيه:

أوّلاً: أنّه لا يمكن تصوير جامع حقيقيٍّ بين الاُمور المتباينة.

وثانياً: سلّمنا إمكان تصوير الجامع الحقيقي، إلّا أنّ لازم هذا القول: أن يكون الملاك موجوداً في نفس هذا الجامع، لا في الأفراد، مع أنّ الملاك يكون دائماً في الأفراد، وأمّا الجامع إنّما هو بمنزلة القنطرة للوصول إلى الأفراد.

وثالثاً: أنّ نتيجة القبول بهذا القول هي: الإرجاع إلى التخيير العقليّ، وإنكار التخيير الشرعيّ.

ورابعاً: أنّه على فرض التنزّل، فلابدّ أن يكون الجامع قابلاً للإلقاء إلى المخاطب، بحيث يكون مميّزاً، وهذا ما لا يمكن تصويره هنا؛ فإنّ الفرد المردّد ليس مميّزاً، وإذا لم يكن مميّزاً في الخارج فلا يمكن معرفته لكي

ص: 266

يرِد الأمر عليه.

وإذا عرفت هذا:

فالإشكال المزبور وارد على جميع هذه التعاريف والأقوال، والأقلّ إشكالاً بينها إنّما هو القول السابع.ومع ذلك، فإنّ البحث عن إمكان الوجوب التخييري لا يكاد يكون مفيداً بعد التسليم بوقوعه في الخارج، فلا فائدة لهذا البحث إلّا الفائدة العلميّة، وليس له من أثرٍ عمليّ؛ فإنّ عدم معرفة الواجب المردّد غير مضرٍّ بعد وقوعه في الشرعيّات والعُرفيّات.

تكملة:

اشارة

لو

شكّ في الواجب أنّه تعيينيّ أو تخييريّ، فالأصل أن يكون تعيينيّاً لا تخييريّاً؛ لاحتياج التخييريّ إلى مؤونةٍ زائدة، والأصل عدمها.

الكلام في التخيير بين الأقلّ والأكثر

ويقع البحث فيه تارةً في الأقلّ والأكثر المأخوذين (بشرط لا)، وأُخرى في الأقلّ والأكثر المأخوذين (لا بشرط).

وأيضاً: فتارةً يقع البحث في الاُمور التدريجيّة، وأُخرى في الاُمور الدفعيّة.

والتخيير: تارةً: يكون عقليّاً، كما في صورة وحدة الغرض وكون

ص: 267

متعلّق الوجوب هو الجامع بين الفعلين.

وأُخرى: يكون شرعيّاً، كما في صورة تعدّد الملاك.ولا يخفى: أنّ المُراد ومحلّ البحث هنا هو التخيير الشرعيّ فقط.

وأمّا التخيير العقليّ فإمكانه في غاية الوضوح، خصوصاً فيما يُوجد دفعةً لا تدريجاً.

وكذا

لا مانع من التخيير الشرعيّ أيضاً، فيما إذا كان الأقلّ بشرط لا وبين الأكثر، كالتخيير بين القصر والإتمام في أماكن التخيير، لكنّه _ في الحقيقة _ يرجع إلى التخيير بين المتباينين، ويخرج عن التخيير بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّ الشيء مأخوذاً (بشرط لا) مباين للشيء مأخوذاً (بشرط شيء).

وأمّا التخيير بين الأقلّ لا بشرط عن الزيادة وبين الأكثر تخييراً شرعيّاً، فلا يخلو من إشكال؛ لأنّه في التدريجيّات يحصل الغرض والواجب دائماً قبل الأكثر، خصوصاً في التدريجيّات التي أجزاؤها وأبعاضها منفصلة بعضها عن بعض، فينكشف بذلك: أنّ الواجب هو الأقلّ، ويسقط الأكثر ولا يتّصف بالوجوب حينئذٍ؛ لأنّ الوجوب تابع لما في متعلّقه من الغرض، فإذا فرض حصوله بالإتيان بالأقلّ يسقط الأمر، فلا يبقى وجه لوجوب الباقي.

هذا في التدريجيّات.

وأمّا في الدفعيّات: فيمكن أن يقال بإمكان التخيير بين الأقلّ والأكثر،

ص: 268

كما إذا كان هناك مصلحتان: مصلحة قائمة بالأقلّ، ومصلحةقائمة بالأكثر، وكان كلّ واحد من الغرضين والمصلحتين وافياً بغرض الآمر، فلا محالة: يتعلّق الأمر بما فيه الغرض، وهكذا الإرادة فهي تتعلّق بكلّ منهما.

وأمّا القول بعدم الإمكان _ بدعوى: «أنّه لا يجوز ترك الزائد على الأقلّ إلّا إلى بدل»(1) _ فغير تامّ؛ لأنّ هذه القاعدة لا تجري بالنسبة إلى الأجزاء التي يدور أمرها بين الأقلّ والأكثر.

نعم، من خواصّ الواجب التخييريّ هو عدم جواز ترك مجموع الواجب إلّا إلى البدل.

وبعبارة أُخرى: فإذا وُجد الأكثر دفعةً، بحيث لا يكون للأقلّ في ضمنه وجود مستقلّ، كالخطّ الطويل إذا تحقّق دفعةً؛ فإنّه ليس للأقلّ الذي في ضمنه وجود مستقلّ، فيمكن التخيير.

وأمّا إذا كان للأقلّ وجود مستقلّ، ولو في ضمن الأكثر، كالتسبيحة، فلا تخيير هناك بعدما كان الأقلّ _ إذا أتى به _ وافياً للغرض.

ص: 269


1- منتهى الاُصول 1: 225.

ص: 270

الواجب العينيّ والكفائي

اشارة

والكلام فيه في اُمور:

الأوّل: في تعريف الواجب الكفائي:

لا يخفى: أنّ الوجوب في الواجب الكفائيّ يتعلّق بكلّ واحد من المكلّفين بنحو العامّ الاستغراقيّ، وأنّ الوجوب يسقط بفعل بعضهم، دون العينيّ؛ فإنّه لا يسقط عن أحدٍ منهم بفعل الآخرين، بل إنّما يسقط بفعل المكلّف نفسه فقط.

الأمر الثاني: الفرق بينه وبين الواجب التخييري:

الفرق بينهما: أنّ البحث في الواجب التخييريّ كان بالنسبة إلى متعلّق التكليف والمكلّف به كما مرّ، وأمّا الواجب الكفائي: فالبحث عنهبالنسبة إلى الفاعل والمكلّف، أي: أنّ المكلّف يكون جميع الآحاد وجميع الأشخاص، بمعنى: أنّ كلّ واحدٍ منهم يكون بدلاً عن الآخر،

ص: 271

بحيث لو ترك الكلّ لأثموا جميعاً.

وقد يظهر من الكفاية(1) أنّ البحث فيه هو على حدّ البحث في الوجوب التخييريّ.

إلّا أنّك عرفت أنّ موضوع البحث هناك كان عبارة عن متعلّق الحكم، وأمّا المبحوث عنه هنا فهو المكلّف.

الأمر الثالث: محلّ البحث في الواجب الكفائي:

ذكرنا في مبحث الواجب التخييريّ أنّ البحث إنّما يقع في مقام الإثبات، دون مقام الثبوت والفعليّة. وهذا الكلام _ بعينه _ يأتي هنا، بعد وضوح وجود الواجب الكفائي في الشرعيّات، كما في دفن الميّت وردّ السلام.

الأمر الرابع: في بيان كيّفيّة تعلّق الوجوب:

لا يخفى: أنّ التكليف باعتبار المكلّف به تارةً يقع بنحو صرف الوجود، وأُخرى باعتبار مطلق الوجود. وكذا بالنسبة إلى المكلّف، فهو تارةً يكون بنحو صرف الوجود من المكلّف، وأُخرى باعتبار مطلق وجوده منه. فبناءً على الأول يكون كفائيّاً، وأمّا بناءً على الثاني فإنّه يكون عينيّاً.

وبعبارة أُخرى: فإنّ التكليف إذا كان بنحو مطلق الوجود والعامّ

ص: 272


1- كفاية الاُصول: 143.

الاستغراقيّ يكون الخطاب به انحلاليّاً من قبيل الواجب العينيّ، وإذا كان بنحو صرف الوجود فيكون من قبيل الواجب الكفائي.

وبما أنّ الواجب الكفائيّ مأخوذ على نحو صرف الوجود، فهو يسقط بفعل البعض، ويستحقّ الجميع العقوبة عليه لو تركوا العمل؛ لأنّ موضوع التكليف _ بحسب الفرض _ هو صرف الوجود من طبيعيّ المكلّف، فبامتثال أحد المكلّفين يتحقّق صرف الوجود الداعي إلى الأمر، فيسقط الغرض، وبسقوط الغرض يسقط الأمر أيضاً بتبعه.

وأمّا الوجه في استحقاق الجميع للعقاب عن تركهم له، فهو وجود المناط؛ لأنّ إتيان كلّ واحد من المكلّفين مصداق لصرف الوجود، فإذاكان كلّ واحدٍ منهم مخالفاً للتكليف المتوجّه إليه، فمن الطبيعيّ أن يكون مستحقّاً العقوبة.

وأمّا استحقاق الجميع للمثوبة عند امتثال الكلّ للتكليف؛ فلأنّ الفعل قد صدر من كلّ واحدٍ منهم، فينطبق عليه صرف الوجود، فامتثال كلّ واحدٍ للأمر المتوجّه إليه محقّق لصرف الوجود، فيوجب استحقاق كلّ ممتثلٍ للمثوبة.

هذا في صورة امتثالهم للأمر دفعة.

وإلّا، فإنّ كلّاً من الملاك والأمر يسقطان بمبادرة السابق منهم إلى العمل، فلا يبقى للأمر موضوع حينئذ، فليس ثمّة ما يوجب استحقاق الجميع للمثوبة.

ص: 273

الأمر الخامس: تصوير كيفيّة تعلّق الوجوب في الواجب الكفائيّ:

اشارة

قد ذكروا في تصويره وجوهاً:

الوجه الأوّل:

ما في الكفاية من أنّ الوجوب الكفائيّ سنخ من الوجوب يتعلّق بكل مكلّف، وهو يُعرف بآثاره ولوازمه، من عقاب الكلّ لو أخلّوا بامتثاله جميعاً، ومن سقوطه بامتثال البعض.

قال): «والتحقيق أنّه من سنخ الوجوب، وله تعلّق بكلّ واحد، بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعاً، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم، وذلك لأنّه قضيّة ما إذا كان هناك غرض واحد، حصل بفعلٍ واحد، صادر عن الكلّ أو البعض. كما أنّ الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعةً، واستحقاقهم للمثوبة، وسقوط الغرض بفعل الكلّ، كما هو قضيّة توارد العلل المتعدّدة على معلولٍ واحد»(1).

وتوضيحه: أنّ التكليف في الوجوب الكفائيّ يتعلّق بكلّ واحد من المكلّفين على نحو العامّ الاستغراقيّ، فحاله في التعلّق بهم إنّما هو حال الوجوب العينيّ، وإن كان يسقط بفعل البعض وامتثاله عن الباقي.

فالوجوب، سواء كان كفائيّاً أم عينيّاً، سنخ واحد، وهو يتعلّق بكلّ

ص: 274


1- كفاية الاُصول: ص 143.

واحد

واحد من الأفراد، ولا يجوز أن يكون متعلّقاً بالمبهم؛ لأنّ ذلك غير معقول، لامتناع التحريك والبعث نحو المبهم. كما لا يجوز أنيكون متعلّقاً بالمعيّن؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، فلابدّ وأن يكون متعلّقاً بالجميع، كالوجوب العينيّ، ولا فرق بينهما أصلاً من هذه الناحية. فإذا امتثل الكلّ كانوا جميعاً مستحقّين للثواب، وإذا عصى الكلّ وتركوا كانوا جميعاً مستحقّين للعقاب.

ولكن، هل يكون كلّ واحد منهم مستحقّاً لعقاب مستقلّ، أم أنّ هناك عقاباً واحد للكلّ؟!

الحقّ: أنّ الكلّ يستحقّون العقاب حينئذٍ، ولكن، هو عقاب واحد ليس أكثر؛ لأنّ الغرض واحد، فتفويت الجميع لذلك الغرض لا يكون إلّا تفويتاً للغرض الواحد، فيكون ما يستحقّونه حينئذٍ عقاباً واحداً.

وقد ظهر بذلك: أنّ ما ذكره بعض شارحي الكفاية _ بقوله: «فإذا امتثل الكلّ استحقّوا الثواب وإذا عصوا استحقّوا العقاب، بمعنى: استحقاق كلّ واحدٍ منهم عقاباً مستقلّاً كما في الواجبات العينيّة»(1) _ من تعدّد العقاب في صورة الترك والعصيان من الكلّ، غير صحيح.

نعم، ثمّة فرق بين الوجوب الكفائيّ والعينيّ، وهو أنّ الأول يسقط عن بقيّة المكلّفين بمجرّد أن يمتثله واحد منهم؛ وذلك لارتفاع موضوع

ص: 275


1- منتهى الدراية 2: 566.

التكليف حينئذ، فإنّ وجوب تجهيز الميّت _ مثلاً _: هوالميّت الذي لم يجهّز، وظاهر أنّ تجهيزه مرّةً واحدة يخرجه عن هذا الموضوع، وإلّا، فليس هناك فرق بين الكفائيّ والعينيّ في أصل حقيقة الوجوب، وإنّما الفرق من جهة الخصوصيّة المأخوذة في متعلّق الوجوب الكفائيّ، وهي خصوصيّة ترتفع بمبادرة واحد منهم إلى الامتثال، الأمر الذي يوجب سقوط الوجوب عن الباقي؛ لعدم بقاء الموضوع.

ومن

هنا ظهر: فساد ما يستفاد من كلام الاُستاذ المحقق(قدس سره)، من أنّه إذا كان الملاك في الوجوب الكفائيّ مطلقاً، كما هي الحال في الملاك في الوجوب العينيّ، فلا معنى حينئذٍ لسقوط الوجوب فيه بفعل الآخرين وإتيانهم بالمأمور به، بل لابدّ من بقائه، سواء فعل الآخرون أم لم يفعلوا.

قال): «وممّا ذكرنا تبيّن فساد ما احتمل أيضاً من كون كلّ واحد منهما واجباً عينيّاً، غاية الأمر: أنّه يسقط بفعل الآخر؛ لأنّه لو لم يكن الملاك مطلقاً، فلا وجه لوجوبها بالوجوب العينيّ؛ لأنّ الوجوب العينيّ عبارة عن إطلاق الوجوب، بمعنى: وجود الوجوب وتحقّقه مطلقاً، سواء فعل الآخرون أم لا»(1).وجه الفساد: أنّ سقوط الأمر ليس من جهة عدم الملاك، بل من جهة

ص: 276


1- منتهى الاُصول 1: 228.

عدم بقاء الموضوع.

الوجه الثاني:

ما نُسِب إلى جمع من العامّة، كالرازي والبيضاويّ، وعُزي إلى الشافعيّة(1)، وحاصله: أنّ الوجوب الكفائيّ يتعلّق بالبعض ممّن يُكتفى به في أداء الفعل، وذلك نظير ما ذكروه في الواجب التخييريّ من انّ الوجوب قد تعلّق بواحد لا بعينه، غاية الأمر: أنّ الإبهام هناك كان في المكلّف به، وأمّا هنا، فهو في المكلّف.

ولكن فيه:

أوّلاً: قد بيّنّا هناك أنّه لا يمكن تعلّق التكليف بالمبهم، فهو غير ممكن ها هنا أيضاً.

وثانياً: أنّه مخالف لظواهر الأدلّة في الواجبات الكفائيّة، كما في الحديث عن النبيّ- «لا تَدَعوا أحداً من اُمّتي بلا صلاة»(2)؛ فإنّ الظاهر أنّ الخطاب فيه متوجّه إلى الجميع، فيكون ظاهراً في العموم.وثالثاً: انّه ترجيح بلا مرجّح؛ إذ لا وجه لتعلّق الوجوب بالبعض.

ورابعاً: بناءً على هذا القول، فيمكن لكلّ واحدٍ منهم أن يجري الأصل بالنسبة إلى توجّه التكليف بالنسبة إليه.

ص: 277


1- انظر في هذه النسبة: هداية المسترشدين 2: 372.
2- وسائل الشيعة 3: 133، الباب 37 من أبواب صلاة الجنازة، ح3.
الوجه الثالث:

ما نُسِب إلى القطب الشيرازيّ(1)، وحاصله: أنّ الوجوب تعلّق بالمجموع من حيث هو، فإذا تركه الجميع أثموا وكان العصيان ثابتاً بالذّات للمجموع، ولكلّ واحد بالعرض، وأمّا إذا أتى به البعض سقط عن الباقين.

وفيه:

أوّلاً: أنّه مخالف لظاهر الأدلّة؛ فإنّه يظهر منها أنّ الوجوب وارد على كلّ واحد واحد، لا على المجموع بما هو.

وثانياً: أنّه لا معنى لسقوطه بفعل البعض، بعد عدم كون الفعل صادراً عن المجموع؛ فإنّ الأمر _ بناءً على هذا القول _ إنّما ورد على المجموع، فيكون المجموع هو المناط للسقوط.نعم، يمكن أن يقال بالسقوط _ حينئذٍ _ عن الباقين باعتبار انتفاء الموضوع وعدم بقائه؛ لأنّ الموضوع لوجوب الغسل _ مثلاً _ إنّما هو الميّت الذي لم يُغسّل، فبعد قيام أحدهم بتغسيله، وبعد تحقّق الغسل على وجه صحيح، فلا يبقى يصدق عليه عنوان الميّت الذي لم يُغسّل، فيسقط وجوبه حينئذٍ.

ص: 278


1- انظر: هداية المسترشدين 2: 373.
الوجه الرابع:

أنّ الوجوب بالنسبة إلى كلّ واحد من الأفراد يكون مشروطاً بترك الآخر. فلا يكون هناك وجوب على المكلّف إلّا إذا ترك صاحبه، فلو ترك الكلّ أثموا جميعاً، لحصول الترك الذي هو شرط الوجوب لجميعهم. وأمّا إذا فعله واحد منهم فلا يجب على الباقي، لعدم تحقّق الشرط بالنسبة إلى الباقي، لا أنّه يسقط عنهم، لأنّه لم يكن من الأول ثابتاً عليهم حتى يسقط عنهم، فإنّ السقوط فرع الثبوت.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: بأنّه بناءً على هذا الوجه، فلو أتى به الكلّ فلا يتّصف الفعل بعنوان الوجوب أصلاً، لعدم تحقّق شرط الوجوب، وهو ترك البعض، في حقّهم جميعاً. وهو فاسد ضرورة.وثانياً: بناءً على هذا الوجه، فإنّ الوجوب عند ترك البعض يكون عينيّاً.

وثالثاً: لو شكّ بأنّ غيره قد أتى بالفعل أم لا، تجري أصالة البراءة بالنسبة إلى الشاكّ فلا يثبت الوجوب عليه، وهو كما ترى.

ورابعاً: أنّ المناط هو على ظهور لسان الدليل، ولا شكّ في أنّ ظاهره كون الوجوب على كلّ واحد من الأفراد، فالقول بأنّ الوجوب على كلّ واحد يكون مشروطاً بترك الآخر، مخالَفةٌ لظاهر الدليل بلا موجب.

ومن هنا يظهر: فساد ما ذكره الاُستاذ المحقق(قدس سره) من أنّ الواجب

ص: 279

الكفائيّ يكون متوجّهاً إلى «آحاد المكلّفين بالخطابات الانحلاليّة، كالواجب العينيّ. غاية الأمر: تلك الخطابات في الواجبات العينيّة مطلقة بالنسبة إلى إتيان الآخرين أو اشتغالهم بالإتيان، وفي الواجبات الكفائيّة مشروطة بعدم إتيان الآخرين حدوثاً وبقاءً»(1).

وخامساً: أنّه إرجاع للوجوب الكفائيّ إلى الواجب العينيّ المشروط، وهو إنكار للوجوب الكفائيّ رأساً، الأمر الذي لا نرى له توجيهاً.

وسادساً: أنّ هذا الوجه إنّما يتمّ مع تعدّد الملاك في كلّ واحد من الأطراف، وامتناع استيفاء الجميع، بسبب وجود تزاحم في مقام الفعليّة،كإنقاذ الغريقين حيث لا يمكن إنقاذهما معاً، فإنّه _ حينئذٍ _ فقط يصحّ أن يقال: بأنّ إطلاق وجوب إنقاذ كلّ منهما لابدّ وأن يكون مقيّداً بترك الآخر، فيصبح الوجوب في كلّ منهما مشروطاً لذلك. وأمّا فيما نحن فيه، فبما أنّ الملاك في الواجب الكفائيّ ليس إلّا ملاكاً واحداً، فلا يكون لهذا الاشتراط المذكور أيّ معنىً أصلاً، كما هو ظاهر.

الوجه الخامس:

أن يكون الوجوب بالنسبة إلى كلّ واحد منهما مشروطاً بعدم بناء الآخر على الإتيان بالفعل، فإذا علم بكون الغير بانياً على الإتيان بالفعل،

ص: 280


1- منتهى الاُصول 1: 226_ 227.

أو شكّ في عزم الغير على الإتيان به، فيسقط عنه الوجوب؛ لأنّه مصداق للشكّ في التكليف، فتجري فيه البراءة.

ويرد عليه:

أوّلاً: نفس ما ورد على الوجه السابق؛ فإنّ مآل هذا الوجه إلى رجوع الوجوب الكفائيّ إلى الوجوب العينيّ المشروط.

وثانياً: لو كان الجميع بانين على الإتيان بالفعل؛ فإنّ هذا الفعل من أحد منهم لا يكون متّصفاً بالوجوب؛ لعدم تحقّق شرط وجوبه، الذي هو البناء على الترك بحسب الفرض.وثالثاً: أنّ ما ذكروه في الواجبات الكفائيّة، هو أنّها لا تسقط عن الآخرين إلّا بإتيان القائم بالعمل بتمام ما هو الواجب، وأمّا مجرّد شروع بعضهم بالقيام به فلا يوجب سقوطه عن الآخرين على وجه الإطلاق، بل هو إنّما يسقط عنهم سقوطاً مشروطاً بالإتمام. والحال، أنّ ما يلزم بناءً على هذا القول هو سقوط الوجوب وعدم ثبوته في حقّ الآخرين بمجرّد أن يكون البعض بانياً على الإتيان به، ولو لم يشرع به بعد، فضلاً عن إتمامه.

فتحصّل: بطلان سائر الأقوال ما عدا القول الأوّل، وذلك لعدم جواز توجّه الخطاب إلى الواحد المبهم؛ لامتناع البعث والتحريك نحوه، وتعلّقه بواحدٍ معيّن إنّما هو ترجيح بلا مرجّح، وذلك نظير توجّه الخطاب إلى المردّد؛ فإنّ المردّد حيث لم يكن له وجود في الخارج، فلا

ص: 281

ملاك له، فلا معنى لتعلّق الخطاب به.

ومن هنا ظهر عدم صحّة ما ذكره بعض المحقّقين(قدس سره) بقوله:

«وما ربّما يدور في ألسنتهم أنّ المردّد لا وجود له، ولا يجوز البعث والإغراء بالنسبة إليه، فلا يُصغى إليه، ضرورة صحّة التكليف التخييريّ بين الفردين أو الأفراد».. إلى آخر كلامه(قدس سره)(1).وبناءً على ما ذكرناه: فلابدّ من أن يكون الوجوب متعلّقاً بكلّ واحد، حاله في ذلك حال الوجوب العينيّ، بلا فرق بينهما أصلاً من هذه الناحية. فيكون التكليف، كالمكلّف به، متعدّداً وعلى نحو العموم الاستغراقيّ في كلٍّ من الوجوب العينيّ والكفائيّ، فإذا امتثل الكلّ استحقّوا الثواب.

نعم، يرد الإشكال بناءً على هذا:

بأنّه كيف يصحّ أن يقال بتعدّد العقاب في الواجب الكفائيّ مع وحدة ملاكه؟! فإنّ وحدة الملاك لا يمكن يجتمع معها تعدّد الخطاب، بل إنّ الوحدة في الملاك تقتضي _ لا محالة _ وحدةً في الخطاب، لا تعدّداً.

ومعه: فكيف يمكن أن يقال: بأنّ حال الواجب الكفائيّ هو حال الواجب العينيّ من ناحية تعلّقه بكلّ واحدٍ من المكلّفين؟! فإنّ التعلّق بكلّ واحدٍ منهم إنّما هو فرع تعدّد الخطاب، ولا تعدّد فيه كما عرفت.

نعم، يمكن القول بأنّ الفرق بينه وبين الوجوب العينيّ هو سقوط

ص: 282


1- تهذيب الاُصول 1: 291.

الموضوع في الوجوب الكفائيّ بالامتثال الأوّل، أي: بأوّل مبادرةٍ إلى الامتثال من أحد المكلّفين، ففي وجوب التجهيز _ مثلاً _ الموضوع هو: الميّت الذي لم يجهّز أو لم يدفن، فإذا صدق هذا العنوان وجب دفنه أو تجهيزه، وأمّا بعد دفنه وتجهيزه، فلا معنىلوجوب تجهيزه أو دفنه ثانياً، لسقوط الموضوع بهذه المبادرة، كما هو ظاهر؛ ولأنّه تحصيل للحاصل.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه:

أنّ بين الواجب العينيّ والواجب الكفائيّ فرقاً، وهو أنّه لو ترك الكلّ الامتثال في الواجب العينيّ، فإنّ الجميع يعاقبون، بحيث يكون لكلّ واحد منهم عقاب مُستقلّ. وأمّا في الواجب الكفائيّ، فليس هناك في الصورة المزبورة إلّا عقاب واحد يشمل الجميع.

وكيفما كان، فحتى لو فُرض عدم تصوّر تعلّق الواجب الكفائيّ، إلّا أنّه مع ذلك، فلا إشكال في وقوعه في الشريعة المقدّسة، ومجرّد عدم إدراكنا لكيفيّة تعلّقه لا يدلّ على عدم وقوعه.

ملاحظة:

تعرّض اُستاذنا المحقق(قدس سره)(1) في المقام لذكر فرعٍ نقله عن الميرزا النائيني(قدس سره)، وقد أحببنا ذكره هنا أيضاً. وحاصله:

ص: 283


1- منتهى الاُصول 1: 228.

أنّه لو وجد جماعة من المتيمّمين ماءً مباحاً يكفي لوضوء أحدهم، فأفتى ببطلان تيمّمهم أجمع، لكون كلّ واحد منهم قادراً علىالحيازة والتمكّن من استعمال ذلك الماء، مع أنّ صحّة التيمم مشروطة _ كما هو معلوم _ حدوثاً وبقاءً، بعدم وجدان الماء وعدم التمكّن من استعماله.

ثمّ أجاب عنه(قدس سره) بما لفظه:

«وأنت خبير بأنّ قدرة كلّ واحدٍ منهم على الاستعمال _ على فرض صحّته وإغماض النظر عن الإشكال بأنّ الماء الذي لا يمكن استعمال الجميع له لا مجتمعاً ولا منفرداً كيف يمكن أن يكون استعماله مقدوراً لكلّ واحدٍ منهم _ إنّما يكون في فرض عدم مزاحمة الآخرين، وأمّا مع المزاحمة، فلا يبطل إلّا تيمّم الغالب منهم على الآخرين أو السابق إليه، وإلّا، إن لم يكن سبق أو غلبة، فلا يبطل تيمّم كلّ واحدٍ منهم»(1).

وحاصل ما أفاده): أنّه مع فرض المزاحمة، فليس هناك أحد منهم يكون قادراً على الاستعمال؛ وذلك لعدم قدرة كلّ واحد منهم على استعمال الماء، والممنوع عقلاً كالممنوع شرعاً، كما هو معلوم، فلا يبطل الوضوء. نعم، المتيمّم السابق أو الأقوى هو من يكون تيمّمه باطلاً.

وأمّا اُستاذنا الأعظم(قدس سره) فقد أورد عليه في الحاشية بما نصّه:«بل الأقوى هو التفصيل بين صورتي سبق أحدهما إلى الحيازة

ص: 284


1- منتهى الاُصول 1: 228_ 229.

وعدمه. ففي الاُولى يبطل تيمّم السابق فقط، ويُستكشف به عدم قدرة الآخر على الوضوء وبقاؤه على ما كان عليه من عدم وجدانه الماء. وأمّا في الصورة الثانية، فبما أنّ كلّاً من الشخصين المفروضين قادر على حيازة الماء واستعماله من دون مزاحم، فيبطل كلّ من التيمّمين. والوجه فيما ذكرناه هو: أنّ الأمر بالوضوء وبطلان التيمّم مترتّبان في لسان الدليل على وجدان الماء، فإذا تحقّق، يترتّب عليه كلّ من الأثرين، كما أنّه إذا لم يتحقّق، فلا يتحقّق شيء منهما، فالتفصيل بين بطلان التيمّم وعدم الأمر بالوضوء كما أُفيد في المتن لا وجه له»(1).

وتوضيح ما أفاده(رحمة الله):

أنّ بطلان التيمم كما أنّ موضوعه هو وجدان الماء، فكذلك الأمر بالوضوء، موضوعه وجدان الماء أيضاً. فكلّما فُرض تحقّق موضوع البطلان المذكور، فقد فُرض تحقّق موضوع الأمر بالوضوء أيضاً، فيكون هناك ملازمة بين بطلان التيمّم وبين الأمر بالوضوء، بعد أن كان عدم الوجدان موضوعاً لهما معاً. فلو التزمنا ببطلان تيمّم السابق منهما،في صورة سبق أحدهما إلى الحيازة دون الآخر؛ لأنّه يكشف عن عدم قدرة الآخر على الوضوء، فلابدّ من الالتزام بأنّ الآخر لا يبطل تيمّمه، حيث لم يكن قادراً على الوضوء.

ص: 285


1- أجود التقريرات 1: 189.

ص: 286

الأمر عقيب الحظر

إذا وقعت صيغة الأمر عقيب الحظر أو توهّمه، فهل تدلّ على الوجوب أم لا؟

في المسألة أقوال:

القول الأول: الإباحة.

وهل هي بمعناها العامّ أو الخاصّ؟

قال المحقّق الرشتي(رحمة الله) في البدائع: «الأمر الواقع عقيب الحظر ظاهر في الإباحة المطلقة المساوية لرفع الحرج في الفعل». وقال _ أيضاً _: «إذ الظاهر كما صرّح به غير واحد: أنّ قولهم بإفادته للإباحة لا يُراد به إفادتها الإباحة الخاصّة»(1). والإباحة بالمعنى الأعمّ هي القدر الجامع بين الأحكام الثلاثة وبين الإباحة بالمعنى الأخصّ.وقد نسب هذا القول في البدائع إلى صريح بعضٍ، وإلى صريح

ص: 287


1- بدائع الأفكار: ص 239.

المحكيّ عن الوافية، وصريح المحقّق القمّيّ(رحمة الله)، كما رأى أنّ هذا القول هو مراد من فسّر الإباحة برفع المنع، كما هو منقول عن الذريعة والنهاية(1).

القول الثاني: التوقّف، بمعنى إجمال الخطاب، وعدم ظهور اللّفظ في شيء، حتى الرخصة المطلقة(2).

القول الثالث: أنّه يُفيد الوجوب، على حدّ غيره من الأوامر الابتدائيّة. وهو منسوب(3) إلى بعض العامّة من أمثال الرازي والبيضاوي وغيرهما، وإلى بعض الخاصّة كما في الغنية والتهذيب والمنتهى وغيرها.

القول الرابع(4): أنّه يفيد الندب، إمّا بناءً على وضع الأمر له، فلا يخرج بالوقوع عقيب الحظر عن وضعه الأصليّ، بل يكون كما كانعليه، وإمّا بناءً على كون الموضوع له هو الوجوب، ولكنّه استعمل هنا في الندب مجازاً.

القول الخامس: وهو التفصيل الذي نُسب إلى العضدي أنّه نفى البعد عنه(5)، وهو أنّه يفيد الوجوب إن لم يكن معلّقاً بزوال علّة عروض النهي، والرجوع إلى الحكم السابق على الحظر والنهي إن كان معلّقاً بزوال علّة

ص: 288


1- انظر: بدائع الأفكار: ص 294.
2- نسبه إلى غير واحد. صاحب بدائع الأفكار: ص 294.
3- المصدر نفسه.
4- نقله صاحب البدائع من دون أن يسمّي قائله، انظر: بدائع الأفكار: ص 294.
5- المصدر نفسه.

عروض النهي. وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ﴾(1)، وقوله: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ﴾(2).

القول السادس: ما نسب إلى الفصول(3)، من التفصيل بين ما كان الحكم السابق على عروض النهي هو الوجوب أو الندب، فيفيد الرجوع إليهما، وبين ما لم يكن كذلك، فالحكم هو الإباحة.

وكيف كان، فلا يخفى: أنّ المراد بالوقوع بعد الحظر هو صدوره لفظاً بعد الحظر الواقع، فمثل صلاة الحائض والنفساء بعد الحيضوالنفاس خارجة عن محلّ البحث؛ لأنّ وجوبها عليهما ليس بأمر جديد وحادث بعد انقضاء زمن الحيض والنفاس، بل بنفس الأمر الأوّل الذي كان قد اقتضى وجوبها عليهما.

والحقّ: أنّ ما ذكروه من الأقوال غير مفيد؛ فإنّها لا ترجع إلى معنى محصّل؛ لأنّها محفوفة بالقرائن، وكلامنا فيما إذا وقع الأمر عقيب الحظر من دون أن يكون محفوفاً بالقرائن.

وأمّا إذا كان مجرّداً عن القرائن عند وقوعه عقيب الحظر، فإنّه يدلّ على ما كان عليه الأمر.

فإن قلنا بأنّ الأمر يدلّ على الوجوب فبعد دفع الحظر يكون _ أيضاً _

ص: 289


1- المائدة: 2.
2- التوبة: 5.
3- بدائع الأفكار: ص 294.

كذلك.

وإن قلنا: بأنّه لا يدلّ على الوجوب، بل يدلّ على مطلق الطلب فنقول به هنا _ أيضاً _، إلّا أن يدّعى بأنّ وقوعه عقيب الحظر يكون قرينة صارفة عمّا كان عليه، وليست بالقرينة المعيّنة.

وعند الشكّ في وجود القرينة يمكن دفعه بالأصل، ولو فُرِض عدم جريان هذا الأصل، فيبقى وقوعه عقيب الحظر سبباً لإجماله، ولا يحتاج في التعيين إلى قرينة معيّنة للمراد؛ لأنّ وقوعه عقيب الحظر إنّما يكون صارفاً فقط.

ص: 290

المرّة والتكرار

ذهب بعضهم إلى أنّ الأمر يدلّ على التكرار.

وقال آخرون: بل هو يدلّ على المرّة.

واستدلّ الأول: بالأمر بالصلاة، فإنّ امتثاله بتكرار الإتيان بالصلاة كلّ يوم.

وفيه: أنّ دلالته على التكرار ليس من حاقّ الأمر، بل من دليل خارجيّ؛ لأنّ الأمر إنّما ورد على الطبيعة، فيكون من قبيل الأوامر الانحلاليّة التي تتعدّد حسب تعدّد موضوعاتها، وليس هذا محلّ الكلام، بل محلّ الكلام في التكرار إنّما هو بالنسبة إلى موضوع واحد، كتكرار إكرام العالم الواحد، كما إذا قال: أكرم عالماً. ولا نظنّ أنّ هناك من يلتزم بذلك.

كما أنّ نفس الصيغة في مثل هذا الاستعمال لا تدلّ على المرّة بالدلالة اللّفظيّة، بل الاكتفاء بالمرّة من جهة أنّ الأمر لا يقتضي إلّا طرد العدم، وهو يتحقّق بأوّل الوجود؛ فإنّ العقل بعد إدراكه أنّ انطباق الطبيعيّ على

ص: 291

الفرد قهريّ، فإنّه يحكم بالإجزاء.ولا

يخفى: أنّ الأمر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار، لا بهيئته، ولا بمادّته، ولا بمجموع مادّته وهيئته.

أمّا الثالث: فمحلّ وفاق؛ لأنّ المجموع المركّب من المادّة والهيئة ليس له وضع آخر، فإذا كان كلّ من الهيئة والمادّة لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار؛ فإنّ المجموع المركّب لا يمكن أن يكون دالّاً على شيءٍ منهما.

فبقي الوجهان الآخران، وهما المادّة والهيئة، فهل تدلّان على المرّة أو على التكرار؟

الحقّ: عدم دلالة المادّة عليهما؛ لأنّ المادّة في جميع المشتقّات _ ومنها الأمر _ إنّما وضعت لنفس الحدث الذي يصدر عن الفاعل من دون ملاحظةٍ لأيّ انتسابٍ فيه، أو فقل: هي موضوعة للطبيعة المهملة والمعرّاة عن كلّ قيد وشرط.

ومن هنا، كانت المادّة هي الأصل في الاشتقاق، على ما هو الصحيح. وأمّا القول بأنّ أصل الاشتقاق هو المصدر، فقول لا أساس له من الصحّة؛ إذ المصدر مشتقّ من المشتقّات، شأنه في ذلك شأن سائر الصيغ، وذلك لملاحظة النسبة إلى فاعلٍ ما فيه _ أيضاً _، فلا يمكن أن يكون مادّة محفوظة في سائر المشتقّات؛ لوضوح أنّ هذه النسبة الملحوظة فيه لا يمكن أن تكون محفوظة في جميعها.

ص: 292

قال في الكفاية(قدس سره):

«ضرورة أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات، بل هو صيغة مثلها، كيف؟! وقد عرفت في باب المشتقّ مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى، فكيف بمعناه يكون مادّة لها؟! فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة أو التكرار في مادّتها، كما لا يخفى»(1).

وحاصل ما أفاده(قدس سره): أنّ المصدر أُخِذ فيه نحو من اﻟ (بشرط لائيّة)، فيمتنع أن يكون هو الأصل في الكلام؛ إذ لا يكون أصلاً في الكلام ومادّة للاشتقاق إلّا ما كان مأخوذاً بنحو اللّابشرط، حتى يجوز فيه أن يكون سارياً في جميع المشتقّات.

وعليه: فللمصدر معنىً مباين لمعنى سائر المشتقّات. ومعه: فكيف يمكن أن يكون المصدر بمعناه المباين لها الملحوظ بشرط لا مادّة لسائر المشتقّات، وعليه: فلا مانع من تصحيح دعوى اعتبار المرّة والتكرار في مادّة المشتقّات، وإن كنّا نقول بأنّ المصدر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار.

والصحيح: أنّ نفس المادّة ولو لم تدلّ إلّا على الحدث ونفس المعنى، إلّا أنّ المرّة والتكرار يمكن استفادتهما من القرائن.وأمّا ما قاله(قدس سره) فيمكن دفعه: بأن يقال: بأنّ المصدر وإن لم يكن هو

ص: 293


1- انظر: كفاية الاُصول: 78.

الأصل للمشتقّات، إلّا أنّ مادّته هي عين مادّة المشتقّات.

وحيث كانت كذلك، ولكن بما أنّ النسبة غير محفوظة في الجميع، فلا محالة: لا يؤخذ فيها، لا المرّة، ولا التكرار، بل هي إنّما تدلّ على الطبيعة ونفس الحدث فقط.

وأمّا الهيئة _ أي: هيئة الأمر _ فلا دلالة لها إلّا على طلب وجود ذلك الحدث، لا على خصوصيّةٍ أُخرى، فلا دلالة لها _ هي أيضاً _ لا على المرّة ولا التكرار.

ولنعم ما أفاده اُستاذنا الأعظم) في المقام بقوله:

«فالنتيجة: أنّ هذا النزاع لا يقوم على أساس صحيح وواقع موضوعيّ، فعندئذٍ: إن قام دليل من الخارج على تقييد الطلب بإحدى الخصوصيّات المذكورة فهو، وإلّا، فالمرجع ما هو مقتضى الأصل»(1).

فلابدّ من معرفة أنّ مقتضى الأصل أيّ شيءٍ هو؟

فنقول: إذا عرفنا من الخارج أنّ المطلوب من الأمر هو صرف الوجود، كالحجّ، يحصل الامتثال ويسقط الأمر بالمرّة. كما أنّه لو عرفناأنّ المطلوب منه هو الوجود الساري، فلا يحصل الامتثال بالفرد، وليس معنى ذلك: إثبات دلالة الأمر على التكرار، بل إنّما هو من ناحية أنّ الأمر الانحلاليّ يتعدّد بتعدّد الموضوع.

ص: 294


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 207.

فوجوب الصلاة في قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾(1)، يتعدّد بتعدّد الدلوك؛ لأنّ الظاهر منه: أنّه متعلّق بالوجود الساري، فلا يحصل الامتثال _ كما ذكرنا _ بمجرّد وجود أحد أفراده، بل لابدّ فيه من الإتيان بجميع الأفراد، وإن كانت نتيجته هو التكرار وإيجاد الطبيعة مراراً، ولمّا كان هذا لا يستفاد من ناحية الدلالة اللّفظيّة، فمن الواضح أنّه لا يصحّ معه أن يقال: إنّ صيغة الأمر تدلّ على التكرار، بل التكرار _ كما اتّضح _ إنّما يُفهم من انحلال القضيّة الكلّية إلى قضايا متعدّدة، ولا فرق في ذلك بين القضايا الكلّية والجزئيّة، بل حتى القضايا الجزئيّة لابدّ فيها من التكرار على هذا الفرض.

فما استدلّ به القائل بالتكرار من التمثيل بالصلاة في غير محلّه، كما بيّنّا آنفاً؛ لأنّ تكرار الصلاة لا يستفاد إلّا من دليلٍ خارجيّ، وهو الانحلال.تماماً كما أنّ دلالة بعض الأوامر على المرّة تكون بالدليل الخارجيّ، ومن الخارج فقط يُفهم أنّ المراد منه صرف الوجود، بل مطلق وجود الطبيعة المعرّاة حتى من هذا القيد؛ لأنّ كلّ القيود زائدة، فتُدفع بالأصل، والأمر _ كما مرّ _ لا يقتضي إلّا طرد العدم، ونقض العدم الأزليّ، وهو يتحقّق بأوّل الوجود.

وأمّا القول: بأنّه لا معنى لوقوع النزاع هنا؛ لأنّ كلّاً من المرّة والتكرار

ص: 295


1- الإسراء: 78.

قد يُستَفاد من القرائن، كمقدّمات الحكمة وغيرها. فالأمر تارةً يستفاد منه أنّ المادّة مطلوبة على نحو الاستمرار، وأُخرى يستفاد منه كفاية المرّة، وقد يقتضي إيجاد المطلوب بنحو الطبيعة السارية، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ﴾(1)، وقوله: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾(2).

ففيه: أنّه غير تامّ؛ لأنّ النزاع في أنّ الأمر هل يدلّ على المرّة أم على التكرار، إنّما هو فيما إذا كانت الدلالة من نفس اللّفظ، لا من الخارج.

ثمّ إنّ المحكيّ عن صاحب الفصول(قدس سره): أنّ هذا البحث إنّما يأتي بالنسبة إلى الهيئة فقط، لاتّفاق الاُدباء على أنّ المصدر المجرّد عناللّام والتنوين يدلّ على الماهيّة المطلقة والطبيعة الصرفة، وحيث إنّ المصدر هو أصل المشتقّات، وهو المادّة لها، فلا يبقى _ حينئذٍ _ مورد للنزاع بالنسبة إلى المادّة.

قال) في الفصول _ ما لفظه _: «إنّما حرّرنا النزاع في الهيئة لنصّ جماعة عليه؛ ولأنّ الأكثر حرّروا النزاع في الصيغة، وهي ظاهرة، بل صريحة فيها؛ ولأنّه لا كلام في أنّ المادّة _ وهي المصدر المجرّد عن اللاّم والتنوين _ لا تدلّ إلّا على الماهيّة من حيث هي، على ما حكى السكاكيّ وفاقهم عليه، وخصّ نزاعهم في أنّ اسم الجنس هل يدل على الجنس من

ص: 296


1- البقرة: 275.
2- المائدة: 1.

حيث هو أو على الفرد المنتشر بغير المصدر. ويؤيّد ذلك أو يدلّ عليه: عدم احتجاج القائل بالمرّة هنا بدلالة المادّة عليها، مع أنّ من الموادّ ما لا نزاع في دلالته على الدوام»(1).

وفيه:

أوّلاً: لا وجه للقول بأنّ المصدر أصلاً، بل الأصل إنّما هو (ض ر ب)؛ لأنّ المصدر هو أن يكون جارياً في جميع المشتقّات، وأنّ لها هيئةً وما كان ذا هيئة لا يمكن أن يقع أصلاً للغير.وثانياً: أنّه لا يمكن وجود المادّة بدون الهيئة، وإنّهما متلازمان، وعوارض أحدهما تُنسب إلى الاُخرى لمكان الاتّحاد.

فإذا عرفت هذا، فنقول:

إن قام الدليل من الخارج بحيث يدلّ على المرّة والتكرار فهو، وإن لم يقم عليه دليل، فتارةً: نتكلّم بما هو مقتضى الأصل اللّفظيّ، وأُخرى: بما هو مقتضى الأصل العمليّ.

وأيضاً: فتارةً يقع الكلام في الأفراد الطوليّة، وأُخرى في الأفراد العَرَضيّة.

أمّا بالنسبة إلى الأصل اللّفظيّ والأفراد الطوليّة، فنقول:

لا بأس بالتمسّك بالإطلاق لإثبات الاكتفاء بالمرّة، أي: بعد ما ذكرنا

ص: 297


1- الفصول الغرويّة: ص 71.

أنّ متعلّق الأمر هو صرف الوجود، وأنّ الاكتفاء بالمرّة يكون من جهة انطباق الطبيعة عليها خارجاً، الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر، فلا يبقى _ حينئذٍ _ أيّ مقتضٍ للتكرار.

وكذا الحال في الأفراد العَرَضيّة، والدلالة على الفرد؛ فإنّه يكفي الأخذ بما مقتضى الإطلاق، ويكتفى بالفرد الواحد من جهة انطباق الطبيعة عليه في الخارج الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر.وأمّا من ناحية الأصل العمليّ: فإنّه يكتفى بالمرّة أيضاً، ويكفي الإتيان بالفرد الواحد؛ لأنّ الزائد يحتاج إلى مؤونة زائدة، فيمكن رفعه بالأصل.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الثابت في ذمّة المكلّف هو طبيعيّ الفعل، فإثبات التكرار أو المرّة في الأفراد الطوليّة، والتعدّد وعدمه في الأفراد العَرَضيّة يحتاج إلى دليل، وحيث لا دليل عليه فمقتضى الأصل هو البراءة، فإذا رفعنا كلا الأمرين بالأصل، فلم يَبْقَ إلّا إيجاد الطبيعة، وهو يحصل بالمرّة.

ص: 298

الفور والتراخي

وممّا ذكرنا في حال دلالة الأمر على المرّة والتكرار، يظهر حال دلالته على الفور والتراخي، ونلتزم هنا _ أيضاً _ بعدم دلالة الأمر على شيءٍ منهما، لا بمادّته، ولا بهيئته، وإذا كان كلّ من الفور والتراخي خارجاً عن مدلول صيغة الأمر مادّةً وهيئةً، فلابدّ لها في الدلالة على كلٍّ منهما من دليل خارج عنه.

وأمّا ما ذكره المحقّق الشيخ عبد الكريم الحائريّ) _ بعد مقايسته للأوامر التشريعيّة على العلل التكوينيّة _ من حيث عدم جواز انفكاك معلولها عنها عقلاً؛ من «أنّ الأمر المتعلّق بموضوع خاصّ غير مقيّدٍبزمان، وإن لم يكن مدلوله اللّفظيّ ظاهراً في الفور ولا في التراخي، ولكن لا يمكن التمسّك به للتراخي بواسطة الإطلاق، ولا التمسّك بالبراءة العقليّة لنفي الفوريّة؛ لأنّه يمكن أن يقال: بأنّ الفوريّة، وإن كانت غير ملحوظة للآمر قيداً للعمل، إلّا أنّها من لوازم الأمر المتعلّق به، فإنّ

ص: 299

الأمر تحريك إلى العمل وعلّة تشريعيّة، وكما أنّ العلّة التكوينيّة لا تنفكّ عن معلولها في الخارج، كذلك العلّة التشريعيّة تقتضي عدم انفكاكها عن معلولها في الخارج، وإن لم يلاحظ الآمر ترتّبه على العلّة في الخارج قيداً»(1).

ففيه: أنّه لا يمكن قياس الأوامر التشريعيّة بالعلل التكوينيّة؛ فإنّ عدم الانفكاك عن المعلول في التكوينيّات إنّما هو من جهة ضرورة العقل، فلا يكون قابلاً للتخصيص. وأمّا التشريعيّات، فلا مانع من انفكاكها. مضافاً إلى أنّ الأمر _ أحياناً _ قد يُرى متعلّقاً بشيء، مع كونه مقيّداً بالتراخي، مع أنّنا لو قلنا بصحّة القياس المذكور لكان ذلك محالاً عقلاً.

والصحيح: أنّه لابدّ من الالتزام بأنّه لا علّيّه ولا معلوليّة بالنسبة إلى التشريعيّات، وإلّا، فإنّ المعلول _ في أيّ وعاء كان _ يستحيل انفكاكه عن العلّة. فالفوريّة إنّما هي عبارة عن لزوم المبادرة وعدم جوازالتأخير في الامتثال عن أوّل أزمنة الإمكان. وأمّا التراخي، فليس إلّا عبارة عن جواز ذلك.

ولكن مع ذلك، فكلّ منهما خارج عن مدلول صيغة الأمر، فثبوت كلّ واحد منهما يحتاج إلى دليل.

فإذا كان للصيغة إطلاق، كما لو علمنا بكون المتكلّم في مقام البيان،

ص: 300


1- كتاب الصلاة: ص 573.

فإنّ جريان الإطلاق في مدلول الصيغة يقتضي عدم تقييده بواحد منهما.

هذا من ناحية ما هو مقتضى الأصل اللّفظيّ في المسألة.

فإن لم نحرز الإطلاق، وشككنا في وجوب أحدهما، فلا يبقى مجال للتمسّك بالأصل اللّفظيّ، وتصل النوبة إلى الأصل العمليّ، ومقتضاه _ أيضاً _ عدم وجوب شيء منهما.

وكيف كان، فقد استدلّ للفور ببعض الآيات التي تدلّ المسارعة، كقوله تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مِّن رَب_ّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1)، بتقريب: أنّ المسارعة إلى الشيء تتحقّق بالمبادرة إلى الإتيان به في أوّل أوقات إمكانه، وأنّ المُراد هو المسارعة إلى أسباب المغفرة، لا إليها نفسها، لأنّ المغفرةإنّما

هي من فعل اﷲ تعالى، لا من فعل العبد، فلا يكون العبد مأموراً بالإسراع إليها، بل إلى ما يوجبها.

وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾(2)، فإنّه دالّ على وجوب استباق الخيرات، وهو المبادرة إلى فعلها في أوّل أوقات إمكانها.

وفي الحديث: «أنهاك عن التسرّع بالقول والفعل»(3)، أي: عن الإسراع والمبادرة إليهما من دون تأمّل.

ص: 301


1- آل عمران: 133.
2- البقرة: 148، والمائدة: 48.
3- بحار الأنوار 86: 339، ومجمع البحرين 2: 364، مادّة (سرع).

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ آيتي المسارعة والاستباق لا تدلّان على وجوب المسارعة، ولا يُستَفاد منهما حكم إلزاميّ مولويّ، بل المراد _ بقرينة ما ورد في ذيل الأُولى، أعني: قوله تعالى: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾(1) _ الوعظ والإرشاد إلى ما يستقلّ به العقل من حسن المسارعة والاستباق إلى ما بعث إليه المولى، وأين هذا من المولويّة؟!

وثانياً: ما عن بعض المحقّقين)(2)، وحاصله:أنّه يلزم من وجوب الاستباق إلى الخيرات عدمه؛ لأنّ الاستباق إلى الخيرات يقتضي _ بمفهومه _ وجود عددٍ منها، يتحقّق بفعل بعض دون بعض، مع كونهما من الخيرات.

وعلى فرض وجوب الاستباق إلى الخيرات، فالفرد الذي لا يتحقّق به الاستباق يلزم أن لا يكون من الخيرات، لمزاحمته بالفرد الآخر، وعلى فرض انتفاء كونه من أفراد الخيرات، يلزم عدم وجوب الاستباق فيما يتحقّق فيه، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

وفيه: أنّ وقوع التزاحم بين الأهمّ والمهمّ، وتقديم الأهمّ، في باب الواجبات، لا يُخرج الواجب المزاحَم عن كونه واجباً، بل يبقى على وجوبه. فكذلك فيما نحن فيه، فإنّ تزاحم الخيرات وتقديم أحدها على

ص: 302


1- آل عمران: 133.
2- بدائع الأفكار (تقريرات العراقيّ(رحمة الله) 1: 252.

الآخر، لا يستوجب خروج الخير المزاحَم عن الخيريّة، وإن كان يسقط عنه الحكم بوجوب الاستباق؛ لأنّ هذا السقوط المفروض ناشئ عن التزاحم، لا التعارض.

ومعه: فيبقى ظهور مفهوم الاستباق على حاله.

على أنّنا لا نسلّم وقوع التزاحم؛ لأنّ الأمر إنّما يتعلّق بالطبائع دون الأفراد.سلّمناه، إلّا أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو كان إتيان الفعل في أوّل وقته مطلوباً واحداً، بحيث لو تأخّر لسقط عن المطلوبيّة، فحينئذٍ تكون مزاحمته لفردٍ آخر موجبةً لخروجه عن الفرديّة.

وأمّا لو فرضنا تعدّد المطلوب، بحيث يكون أصل وجود الفعل مطلوباً، والإتيان به في أوّل الوقت مطلوباً آخر، فلا تستلزم المزاحمة خروجه عنها، كما هو أوضح من أن يخفى.

وثالثاً: أنّ البناء على دلالة الآيتين على وجوب الفور مستلزم لت_خصي_ص الأكث_ر، لخروج المستحبّات طرّاً وكثير من الواجبات _ كالواجبات المضيّقة _ عن ذلك، فلا يبقى إلّا القليل من الواجبات، وتخصيص الأكثر مستهجن عرفاً، فيصلح لأن يكون قرينة صارفة للآيتين عن ظاهرهما، وهو الوجوب.

ورابعاً: الواجبات على قسمين: موسّعة ومضيّقة، ولا يمكن تصوير الاستباق في الثاني.

ص: 303

مسألة:

لو سلّمنا دلالة الأمر على الفور، فهل معنى ذلك: وجوب الإتيان بالفعل فوراً ففوراً، بحيث لو عصى، أو أخلّ به، ولو لعدم التمكّن، لوجب عليه الإتيان بالفعل في الزمان الثاني أم لا؟وجهان: مترتّبان على مفاد الصيغة ما هو؟

فهل مفادها هو وحدة المطلوب، بمعنى: كون الفوريّة مقوّمة لأصل المصلحة، بحيث تفوت المصلحة بفوات الفوريّة؟

أم أنّ مفادها هو تعدّد المطلوب، بمعنى: أنّ هناك مصلحتين: إحداهما قائمة بذات الفعل، والأُخرى قائمة بالفوريّة في كلّ زمان؟!

فعلى الثاني: لو لم يأتِ بالفعل في الآن الأوّل لوجب عليه الإتيان به في الآن الثاني، وهكذا...

وأمّا على الأوّل: فتكون الفوريّة دخيلة في الواجب ومقوّمة لأصل المصلحة القائمة به، وتكون بذلك كبقيّة القيود الدخيلة في الواجب، وحينئذٍ: فيكون حالها حال تلك القيود، فكما أنّ سقوط الأمر يكون باُمورٍ عدّة، منها: العصيان والامتثال وفوت الموضوع، فكذلك يكون السقوط بعدم الإتيان بالواجب فوراً؟

وغير خفيّ: بأنّه حتى مع تسليم دلالة الصيغة على وجوب الفور، فهي لا تدلّ على أزيد من مطلوبيّة الطبيعة فوراً، ولا دلالة لها على كيفيّة

ص: 304

مطلوبيّتها، من وجوب الفور في كلّ زمان، فلا يسقط الأمر بالفوريّة بالإخلال بها في الزمان الأوّل أو بعده، أو وجوب الفور في خصوص الزمان الأوّل، فيسقط الأمر به بالإخلال بالفوريّة.وبعبارة أُخرى: فإنّ الصيغة تكون قاصرة عن بيان كيفيّة مطلوبيّة الطبيعة، وأنّها هل تكون بنحو تعدّد المطلوب أو وحدته؟

ومعه: فلابدّ من الرجوع إلى الأصل. وبما أنّ الفوريّة قيد زائد، فيندفع بالأصل.

بل حتى ولو قلنا بأنّ قيد الفوريّة مستفادة من تعدّد المطلوب، إلّا أنّه _ مع ذلك _ لا يستفاد منه وجوب الإتيان بالفعل فوراً ففوراً؛ إذ غاية ما يستفاد من دليلها: أنّ الفوريّة في الإتيان بالفعل واجبة حيث أمكن. أمّا أنّه لو لم يمكن، ولم يتحقّق الإتيان في الآن الأوّل، فيتعيّن عليه الإتيان به في الآن الثاني والثالث، وهكذا، إلى آخر أزمنة الإمكان، فلا.

وقد يقال: إنّ المصلحة القائمة بالفعل الذي تعلّق به الأمر بنحو الفوريّة ذات مراتب، فإذا لم يأتِ بالفعل في الآن الأوّل، فلابدّ من الإتيان به في الآن الثاني، فتكون الفوريّة واجباً في واجب، فإذا لم يتحصّل في الزمان الأوّل كان لابدّ من الإتيان بالفعل في الزمان الثاني والثالث وهكذا...

ولكنّ الحقّ: أنّه لو التزمنا في المقام بتعدّد المطلوب، فسقوط أصل الفوريّة لا ينافي بقاء أصل وجوبها؛ فلو لم يأتِ به في الزمان الأوّل فلابدّ أن يأتي به في الزمان الثاني، فوراً ففوراً، وهكذا.. وذلك لأنّ مقتضى

ص: 305

إطلاق دليل الفوريّة هو اعتبار الفوريّة مطلقاً؛ لأنّ المولىلو كان في مقام البيان وأمر بالإتيان بالفعل فوراً، فلو أراد أنّ الفوريّة تكون مختصّةً بالزمان الأول، لكان عليه أن يبيّن ذلك، فلمّا أطلق، فهمنا وجوب الفوريّة في الآن الثاني والثالث وهكذا..

نعم، لو استفدنا من الدليل الفوريّة في الجملة، وكان المولى في مقام التشريع، فمقتضى الأصل العمليّ البراءة بالنسبة إلى عدا الزمان الأوّل.

ص: 306

الواجب الأصليّ والتبعيّ

اشارة

والكلام فيه يقع في اُمور:

الأمر الأوّل: في بيان الأقسام من حيث التبعيّة والأصليّة:

والوجوه المحتملة في الأصالة والتبعيّة ثلاثة:الوجه الأول: أن يُراد بالواجب الأصليّ: ما يكون مراداً بإرادة مستقلّة، فلا يكون ناشئاً ولا تابعاً لإرادة أُخرى.

وأمّا التبعيّ فهو ما يكون مراداً بإرادة أُخرى، كإرادة المقدّمات؛ فإنّها تكون تابعة لإرادة ذويها التي تكون واجبةً بالوجوب النفسيّ.

والوجه الثاني: أن يُراد بالواجب الأصليّ: ما كان ملحوظاً باللّحاظ التفصيليّ، وعلى نحو الاستقلال، للالتفات إليه كذلك.

وبالواجب التبعيّ: ما كان ملحوظاً على نحو الإجمال، لعدم الالتفات التفصيليّ إليه حتى يُلاحظ تفصيلاً؛ فالأصالة والتبعيّة تدوران مدار

ص: 307

اللّحاظ من حيث التفصيل والإجمال.

والوجه الثالث: أن يكون المراد بالواجب الأصليّ: ما يكون هو المقصود بالإفهام من الخطاب، أو فقل: ما دلّ عليه الدليل مطابقةً.

والمراد بالتبعي: ما لا تكون الدلالة عليه إلّا بالتبع والالتزام. فالأوّل: كدلالة الألفاظ على المناطيق، والثاني: كدلالتها على المفاهيم.

الأمر الثاني: أنّ البحث فيهما هل يكون ثبوتيّاً أم إثباتيّاً؟

ذكر صاحب الكفاية(رحمة الله) أنّ الظاهر: «أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعيّة في الواقع ومقام الثبوت، حيث يكون الشيء تارةًمتعلَّقاً

للإرادة والطلب مستقلاً، للالتفات إليه بما هو عليه ممّا يوجب طلبه فيطلبه، كان طلبه نفسيّاً أو غيريّاً، وأُخرى: متعلَّقاً للإرادة تبعاً لإرادة غيره، لأجل كون إرادته لازمة لإرادته، من دون التفاتٍ إليه بما يوجب إرادته، لا بلحاظ الأصالة والتبعيّة في مقام الدلالة والإثبات؛ فإنّه يكون في هذا المقام تارةً مقصوداً بالإفادة، وأُخرى غير مقصودٍ بها على حدة، إلّا أنّه لازم الخطاب، كما في دلالة الإشارة ونحوها»... إلى آخر كلامه«(1).

وحاصل

ما رامه(قدس سره): أنّ هذا التقسيم بحسب مقام الثبوت، لا

ص: 308


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 122_ 123.

الدلالة والإثبات، فالمراد من الواجب الأصليّ ما يكون مراداً بالإرادة الاستقلاليّة، بواسطة الالتفات إليه وما يترتّب عليه من المصالح والأغراض، أو توقّف وجود ما له المصلحة عليه، سواء كان واجباً نفسيّاً أو غيريّاً، فبناءً على ذلك: فكلٌّ منهما يمكن أن يتّصف بالأصليّة والتبعيّة، بعدما عرفت من أنّ الأصليّ هو ما يكون مقصوداً بالإفهام والخطاب، والتبعيّ ليس كذلك.

ولكنّ الحقّ: أنّ الأصليّ والتبعيّ بناءً على الوجهين الأوّلين يرجعان إلى مقام الثبوت؛ لما عرفت: من أنّ الواجب الأصليّ هو ما يكونمستقلاً بالإرادة وملتفَتاً إليه على التفصيل، والواجب التبعيّ هو ما تكون إرادته تابعة لإرادة الغير، أي: الواجبات النفسيّة.

وأمّا على الوجه الثالث، فهما راجعان إلى مقام الإثبات والدلالة؛ لأنّ المراد بالأصليّ _ على هذا الوجه _ هو ما يكون مقصوداً بالإفهام، وبالتبعيّ: ما تكون الدلالة عليه بالالتزام والتبع.

هذا. ويمكن أن يُتصوّر هنا قسم رابع، وهو: ما لم يكن الواجب مقصوداً بالإفهام من الخطاب أصلاً، لا أصالة ولا تبعاً، كما إذا كان الواجب قد استفيد من دليل لبّيٍّ، كالإجماع ونحوه.

وفي التعليق على كلام الكفاية المتقدّم قال اُستاذنا المحقّق(قدس سره):

«وأنت خبير بأنّ ما ذكره) إن كان مجرّد اصطلاح فلا مشاحّة، وإلّا، فظاهر لفظ الأصليّ والتبعيّ إذا أُسند الواجب إليهما يقتضي أن يكون

ص: 309

المراد

من الأصليّ _ مقابل التبعيّ بقرينة المقابلة _ هو الواجب الذي ليس وجوبه وإرادته تابعة لإرادة غيره ووجوبه. ومثل هذا المعنى ينحصر في الواجب النفسيّ، وأن يكون المراد من التبعيّ هو الواجب الذي يكون وجوبه تبعاً لوجوب شيءٍ آخر، وإرادته ناشئة من إرادةٍ أُخرى، ومثل هذا المعنى ينحصر في الواجب الغيريّ؛ وذلك لأنّ الواجب الغيريّ مع النفسيّ الذي يكون ذلك الغيريّ مقدّمةً له متعاكسان وجوداً ووجوباً، فوجود النفسيّ مترتّب على وجود الغيريّ؛لأنّه من أجزاء علّة وجوده، كما أنّ وجوب الغيريّ مترتّب على وجوب النفسيّ، وهذا هو الظاهر من التبعيّة، فبناءً على هذا: لا فرق بين أن تقول: الواجب الأصليّ والتبعيّ، وبين أن تقول: الواجب النفسيّ والغيريّ»(1).

نعم، لو كان المراد هو الأصالة والتبعيّة في مقام الإثبات والدلالة، فحينئذ: يتّصف بهما كلّ واحدٍ من النفسيّ والغيريّ. وليس ببعيد أن يكون البحث كذلك، أي: بحثاً في مقام الإثبات، لا في مقام الثبوت؛ فإنّهم يذكرون الأصليّ والتبعيّ في قبال النفسيّ والغيريّ. ولولا أنّه بحث في مقام الإثبات، لا الثبوت، لكان ذكرهما لغواً.

أمّا

اتّصاف الواجب النفسيّ بالأصالة: ففيما إذا كان مقصوداً بالإفادة، كوجوب الصلاة. وأمّا اتّصافه بالتبعيّة: فلوضوح أنّ

ص: 310


1- منتهى الاُصول 1: 235_ 236.

الواجب النفسيّ قد لا يكون مقصوداً بالإفادة، بل يستفاد بتبع شيءٍ آخر، بحيث يكون المقصود بالإفادة هو ذلك الشيء، ويكون الواجب النفسيّ مفاداً تبعاً له.وذلك نظير ما دلّ على شرطيّة تقدّم الظهر لصحّة العصر(1)؛ فإنّ المقصود منه بالإفادة هو شرطيّة تقدّمها، لا كونها واجباً نفسيّاً.

وأمّا اتّصاف الواجب الغيريّ بالتبعيّة، فكأغلب المقدّمات. وأمّا اتّصافه بالأصالة، فكالذي في قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأي_ْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾(2)، حيث يكون التوجّه والالتفات إليه تفصيلاً، فمع كونه مقدّميّاً، يكون واجباً أصليّاً.

ص: 311


1- كقوله(علیه السلام) في خبر عبيد بن زرارة، قال: سألتُ أبا عبد الله(علیه السلام) عن وقت الظهر والعصر، فقال: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلّا أنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقتٍ منهما جميعاً حتى تغيب الشمس. انظر: وسائل الشيعة 4: 126، باب 4 من أبواب المواقيت، ح5.
2- المائدة: 6.

ص: 312

الواجب الموسّع والمضيّق

لا يخفى: أنّ كلّ واجب فهو محتاج إلى زمانٍ يؤتى فيه بالعمل، بمعنى: أنّ الإتيان به لابدّ أن يقع في وقت من الأوقات. غاية الأمر: أنّ الوقت قد يكون دخيلاً وقيداً في لسان الدليل، وقد لا يكون كذلك، بأن لا يكون للزمان في لسان الدليل دخل في الواجب شرعاً.

فإن كان الواجب من قبيل الأول: سمّي ﺑ «الواجب الموقّت»، كالواجب في الصلوات اليوميّة. وإن كان من قبيل الثاني سُمّي ﺑ «الواجب غير الموقّت»، كالواجب في صلاة الزلزلة.

ثمّ إنّ الواجب الموقّت _ بدوره _ ينقسم إلى قسمين:

فإنّ الزمان إمّا أن يكون بقدر الفعل ومساوياً له، وإمّا أن يكون أوسع منه؛ فالأوّل: الواجب المضيّق، كصيام شهر رمضان. والثاني: الواجب الموسّع، كالصلاة اليوميّة.

وأمّا العكس، أي: أن يكون العمل أوسع من الزمان، فمحال؛ لأنّ

ص: 313

المظروف لا يمكن أن يكون أوسع من الظرف، كما هو ظاهر.

فإذا كان للواجب دليلان، وكان أحدهما مطلقاً، وكان المستفاد من الآخر التقييد بالوقت، أعمّ من أن يكون على نحو الواجب الموسّع أوالمضيّق، فلا محالة: يكون بين هذين الدليلين تنافٍ، فيحمل المطلق على المقيّد.

وليس المقام من قبيل تعلّق الحكم بالمطلق على نحو مطلق الوجود، كما في «أكرم عالماً» و«أكرم عالماً هاشميّاً»، حتى لا يكون حمل المطلق على المقيّد جائزاً، وحتى يكون المتعيّن أن يُحمل المقيّد على أفضل الأفراد، بل إنّما هو هنا من قبيل تعلّق الحكم بالمطلق على نحو صرف الوجود، وفي مثل ذلك، يتعيّن حمل المطلق على المقيّد.

هذا، وقد يُستشكل على كلا الواجبين: المضيّق والموسّع.

الإشكال على الواجب المضيّق:

أمّا الإشكال على الواجب المضيّق، فحاصله:

أنّه غير ممكن؛ لأنّه يلزم فيه أحد محذورين، هما: إمّا تقدّم المعلول على علّته، أو تأخّره عن العلّة زماناً.

توضيح ذلك: أنّ الزمان لابدّ وأن يكون أزيد من مقدار امتثاله، ولو بآنٍ ما؛ لتأخّر الانبعاث عن البعث، وترتّبه عليه، ففي الصوم الذي يكون وجوبه مشروطاً بأوّل آن طلوع الفجر، وهنا:

ص: 314

فإذا فُرض تقدّم الوجوب عليه، لزم تقدّم المعلول والمشروط على العلّة والشرط، أعني: آن طلوع الفجر، وهو محال؛ لأنّ المفروض أنّ الوجوب متوقّف على الطلوع، وهذا التقدّم واضح البطلان.

وإذا فُرِض تأخّر الوجوب عن موضوعه، وهو طلوع الفجر، لزم خلوّ آن من آنات النهار عن الصوم، فيلزم تأخّر المعلول عن العلّة زماناً. أو فقل: لزم تأخّر الحكم عن موضوعه، مع أنّ الحكم بالنسبة إلى موضوعه هو كالمعلول بالنسبة إلى علّته، فكما أنّ العلّة والمعلول يتّحدان زماناً ويختلفان رتبةً، فكذلك الحال في الموضوع والحكم.

ولكنّ الحقّ: عدم ورود هذا الإشكال؛ لما أفاده الميرزا النائيني) بقوله:

«وجوابه: أنّ لزوم تقدّم البعث على الانبعاث، وإن كان بديهيّاً، إلّا أنّ تقدّمه عليه ليس بالزمان، بل بالرتبة؛ بداهة أنّه لا يزيد على تقدّم العلل التكوينيّة على معلولاتها؛ فإنّه أيضاً بالرتبة لا بالزمان، فلا مانع من كون أوّل آن الفجر زمان الوجوب والانبعاث كليهما.

نعم، لابدّ من أن يكون علم المكلّف بحدوث الوجوب عند الفجر متقدّماً على الفجر زماناً، ليتمكّن من الانبعاث حينه، ولعلّ المستشكلخلط بين تقدّم العلم على الانبعاث وتقدّم البعث عليه، وقد عرفت أنّ

ص: 315

اللّازم هو الأوّل دون الثاني»(1).

وتوضيح ما أفاده(قدس سره): أنّ الإشكال المزبور غير وارد؛ وذلك لاتّحاد زمان الوجوب والواجب والانبعاث؛ فإنّ الطلوع _ وهو واحد _ هو زمان البعث والانبعاث والواجب، وتأخّر الانبعاث عن البعث إنّما يكون تأخّراً رتبيّاً لا زمانيّاً.

نعم، يتوقّف الانبعاث على العلم بالبعث قبل طلوع الفجر، وهو غير تأخّر الانبعاث زماناً عن صدور البعث من المولى.

وبالجملة: فإنّ انبعاث المكلّف عن بعث المولى يتوقّف على علمه قبل طلوع الفجر بوجوب الصوم حين الطلوع حتى يتمكّن من الانبعاث فيه، بعد وضوح موضوعيّة العلم بالبعث عقلاً للانبعاث، وعدم موضوعيّة نفس البعث بوجوده الواقعيّ له.

أقول:

ولا يخفى: أنّ هذا الإشكال، وكذلك الإشكال الآتي ذكره إن شاء اﷲ تعالى في الواجب الموسّع، إنّما يأتي بالنسبة إلى مقام الثبوت، وأمّا في مقام الإثبات، فلا؛ إذ لا إشكال في وجود كلٍّ منهما ووقوعه فيالخارج في الشريعة المقدّسة، كيف لا؟! وقد عرفت فيما سبق أنّ المضيّق يمثّل له بالصوم، وللموسّع بالصلاة اليوميّة.

ص: 316


1- انظر: أجود التقريرات 1: 190_ 191.

الإشكال على الواجب الموسّع:

قد يُستشكل على الواجب الموسّع بأنّه غير ممكن؛ لاستلزامه اجتماع النقيضين، وذلك لوضوح أنّ جواز ترك الواجب في بعض أجزاء الزمان الموسّع ينافي الوجوب الذي هو عدم جواز الترك، فلو قيل _ مثلاً _ «صلّ من الدلوك إلى الغروب»، كان المراد منه: أنّ لك الخيار في أن تأتي بالصلاة في أيّ جزء من أجزاء الزمان، كالأوّل والآخر والوسط. ومقتضى ذلك: أنّه يجوز ترك الواجب في أوّل الوقت، لجواز تأخيره إلى الوسط، أو إلى الآخر.

ومن المعلوم: أنّ جواز ترك الواجب في بعض أجزاء الزمان ينافي الوجوب ويناقضه؛ لأنّ الوجوب _ كما ذكرنا _ إنّما هو عدم جواز الترك، فيلزم التناقض، بل إنّ معنى عدم جواز تأخيره عن ذلك الوقت أنّ الوجوب مختصّ بذلك الوقت، ولذا، لا يجوز تأخيره عن ذلك الوقت، فلو صلّى في غير ذلك الوقت كان قضاءً.

والجواب عن هذا الإشكال:

اشارة

أنّ الواجب الموسّع هو كالواجب التخييريّ، فكما أنّ الأمر في الواجب التخييريّ وارد على شيئين أو أكثر ويكون التخيير بينهما أو بينها عقليّاً، فكذلك في الواجب الموسّع، وعليه: فيكون المطلوب هو الجامع، ولا مانع في ذلك بعد أن كان الجامع وافياً بالغرض؛ فإنّ الأمر

ص: 317

إذا تعلّق بالجامع، فالعقل يخيّر المكلّف في تطبيقه _ أي: الجامع _ على أيّ فرد من الأفراد يشاء، بلا فرق بين أن تكون الأفراد طوليّة أو عرضيّة.

وإنّما

كان هذا التخيير في الانطباق عقليّاً؛ لأنّه _ أوّلاً _ لم يرد في لسان الدليل، وثانياً: لأنّ الغرض ليس متعدّداً، بل ليس هناك إلّا غرض واحد تعلّق بالجامع، تماماً كما أنّ الأمر لم يرد إلّا على الجامع. وحينئذ: فتكون نسبة الأفراد إلى الواجب الموسّع نسبة أفراد الطبائع إلى نفس طبائعها.

وأمّا ما قيل: من أنّ «الوقوع أدلّ دليلٍ على الإمكان»(1).فغير تامّ؛ لأنّ كلامنا _ كما لا يخفى _ إنّما في مقام الإمكان، وأنّه كيف يمكن ذلك، وإلّا، فلا إشكال ولا خلاف في وقوعه في الشريعة المقدّسة.

فالصحيح في الجواب _ إذاً _ هو ما ذكرناه، من أنّ الأمر في المقام ورد على الجامع، والتخيير بين أفراد الزمان يكون عقليّاً.

مضافاً إلى أنّ جواز الترك إنّما يكون منافياً للوجوب إذا لم يكن إلى بدل، وأمّا إذا كان إليه، فلا منافاة أصلاً، كما هي الحال في الوجوب التخييريّ أيضاً.

ثمّ ها هنا بحث ذكروه يتعلّق بالواجب الموقّت مطلقاً، أي: سواء كان

ص: 318


1- انظر: منتهى الدراية 2: 571. ذكره في مقام توضيح قول الآخوند): «ووقوع الموسّع، فضلاً عن إمكانه، ممّا لا ريب فيه، ولا شبهة تعتريه، ولا اعتناء ببعض التسويلات، كما يظهر من المطوّلات». راجع: كفاية الاُصول: ص 144.

موسّعاً أم مضيّقاً، وهو أنّ الأصل هل يقتضي سقوط الواجب فيما بعد الوقت أم يقتضي عدم السقوط؟

وربّما يُعَنون هذا البحث بعبارة أُخرى، بأن يقال:

إنّ دلالة الأمر على الوقت هل تقتضي كون الوجوب متوقّفاً على بقاء الوقت أم لا تقتضي ذلك؟

وربّما يُختار في التعبير عنه عبارة ثالثة، فيقال: هل يمكن استفادة القضاء خارج الوقت من نفس الأمر الأوّل، أم تحتاج استفادته إلى أمر جديد؟وبالجملة: فإنّ مصبّ البحث ها هنا هو أنّ تعلّق الأمر بالواجب الموقّت، موسّعاً كان أم مضيّقاً، هل يدلّ على لزوم الإتيان بالواجب في خارج الوقت إن لم يكن قد أتى به فيه، أم لا، بل يحتاج ذلك إلى أمر آخر، لسقوط الأمر بالموقّت بفوات الوقت؟

ولا يخفى: أنّ إطلاق القضاء على الإتيان بالفعل في خارج الوقت لا يكون بناءً على القول الأول إلّا من باب المجاز، كما أنّ تعبيرهم بأنّ القضاء هل يكون بالأمر الأوّل، أو بالأمر الجديد، لا معنى له، بل يُحمل على التسامح في التعبير؛ لظهور أنّه لا معنى لتسمية الفعل المأتيّ به خارج الوقت قضاءً مع دلالة الدليل الأوّل على بقاء الوجوب، بل على بقاء الواجب، بعد الوقت؛ إذ مع دلالة الدليل على ذلك، فلا يكون هناك فرق بين الإتيان بالواجب قبل خروج الوقت، وبين الإتيان به بعده، بل يكون

ص: 319

الواجب في خارج الوقت واجباً حقيقةً حينئذٍ، وليس بدلاً للواجب، ولا قضاءً.

وعليه: فلا يصحّ إطلاق القضاء عليه إلّا تجوّزاً ومسامحة.

وكيف كان، فقد وُجد في الإجابة عن هذا السؤال أقوال:

الأوّل: أنّه لا يدلّ عليه مطلقاً.

والثاني: أنّه يدلّ عليه مطلقاً.والثالث: التفصيل بين التوقيت بالمتّصل والمنفصل، فلا دلالة إذا كان من قبيل الأوّل.

والرابع: نفس التفصيل المذكور، ولكن بشرط أن يكون لدليل التوقيت المنفصل إهمال، وأن يكون في دليل الواجب إطلاق.

واختار المحقّق صاحب الكفاية) أنّه: «لا دلالة للأمر بالموقّت بوجهٍ على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به»(1).

ولا يخفى: أنّه يمكن أن يتصوّر لدليل القضاء في مقام الثبوت أقسام ثلاثة:

الأوّل: أن يكون بمعنى تعدّد المطلوب، بحيث يكون هناك طلبان، ويكون كلّ واحد منهما في عرض الآخر، يتعلّق أحدهما بنفس الصلاة،

ص: 320


1- كفاية الاُصول: ص 144.

ويتعلّق الآخر بإتيانها في الوقت.

وعليه: فإذا انتهى الوقت يبقى وجوب أصل الصلاة على حاله.

والثاني: أن يكون هناك أمر واحد كاشف عن ركنيّة الوقت في حال التمكّن، وليس قيداً على الإطلاق، وليس في الوقت إلّا أمر واحد، غايةالأمر: أنّه يتعلّق بالمقيّد في حال الاختيار، مع جهة دخل القيد في الموضوع، ويتعلّق بالمطلق في حال عدم التمكّن من القيد.

والثالث: أن لا يكون الأمر كاشفاً عن تعدّد المطلوب، بل تكون المصلحة مترتّبة على أصل الصلاة، بقيد الوقت، بحيث لا يكون لها في خارج الوقت مصلحة، وعليه: فيتعيّن أن يكون القضاء بأمر جديد.

وإذا عرفت هذا، يظهر لك أنّه في الصورتين الأُوليين يكون القضاء مستفاداً من الأمر نفسه، دون الصورة الأخيرة.

وقد ادّعى) الفرق بين كون التقييد بالوقت بدليل متّصل، وكونه بالدليل المنفصل، فلا دلالة في الصورة الاُولى.

وأمّا في الصورة الثانية، فيدلّ الدليل على ثبوت الحكم بعد الوقت، لظهور التقييد بالمنفصل في كون التقييد بنحو تعدّد المطلوب لا وحدته، فإذا انتفى أحدهما بقي الآخر على حاله.

نعم، يُستثنى من ذلك صورة واحدة أشار إليها في الكفاية، وهي: ما إذا كان دليل الواجب مطلقاً، وكان دليل التقييد بالوقت منفصلاً مجملاً؛ فإنّه إذا كان مجملاً من ناحية التمكّن من الإتيان بالعمل في الوقت وعدمه،

ص: 321

ولم يكن له إطلاق يُثبت التوقيت في كلا الحالين، كان القدر المتيقّن منه هو التقييد بالوقت في صورة التمكّن، وأمّا فيصورة

عدم التمكّن، فلا يكون التقييد به معلوماً، فنرجع إلى إطلاق دليل الواجب المتكفّل لإثبات الوجوب في مطلق الزمان.

وبعبارة أُخرى: يكون الحال في هذه الصورة كما لو كان التقييد بالوقت قد ورد _ رأساً _ في خصوص حالة التمكّن، فيثبت الواجب بعد الوقت بإطلاق الدليل.

وإليك نصّ عبارته):

«نعم، لو كان دليل التوقيت بدليلٍ منفصل، لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق، لكان قضيّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب، لا أصله»(1).

وإذا عرفت ذلك:

فالحقّ هو القول الأول؛ لأنّ الظاهر من دليل تقييده بالوقت أنّه على نحو وحدة المطلوب، وليس من قبيل تعلّق الحكم بالمطلق على سبيل مطلق الوجود، كما في قولك: أكرم عالماً، وأكرم عالماً هاشميّاً، لكيلا يكون هناك تنافٍ بينهما.

ص: 322


1- كفاية الاُصول: ص 144.

نعم، إذا كان التنافي بين المطلق والمقيّد تنافياً بنحو السلب والإيجاب فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد، وذلك لأجل أظهريّة المقيّد، كقولك: اعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة؛ لأنّ التمسّك بالمطلق إنّما يصحّ إذا لم يكن هناك بيان، والمقيّد بيان كما لا يخفى.

ويدلّ على ما ذكرناه، قوله(علیه السلام): «لا تُعاد الصلاة إلّا من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود»(1). فإنّه ظاهر في كون الوقت قيداً للمأمور به، الأمر الذي يعني: أنّ المأمور به هو المقيّد بالوقت، لا المطلق بدون الوقت.

وإنّما

قلنا بأنّه لابدّ في صورة التنافي من حمل المطلق على المقيّد _ كما في المثال المزبور _ لأنّنا لو لم نقل بالحمل حتى في هذه الصورة، لزم انسداد باب حمل المطلق على المقيّد في جميع موارد تقدّم المقيّد على المطلق، ولا خصوصيّة هنا لقيديّة الوقت، بل التقييد بالوقت كالتقييد بغيره من الأوصاف، فكما أنّ التقييد بالإيمان _ في المثال _ يوجب انحصار العتق الواجب في المؤمنة، وعدم وجوب عتق الكافرة، فكذلك التقييد بالوقت، أي: أنّه خارج الوقت لا يكون واجباً.فتحصّل: أنّ الظاهر من دليل التقييد هو وحدة المطلوب، فيكون الموضوع هو المجموع من القيد والمقيّد. وأمّا انّ ذات المقيّد يكون

ص: 323


1- وسائل الشيعة 1: 371_ 372، باب 4 من أبواب الوضوء، ح8.

مطلوباً في حالة عدم وجود القيد، أو عدم إمكانه، فيحتاج إلى دليل من الخارج، بلا فرق بين أن يكون دليل التقييد منفصلاً أو متّصلاً.

وممّا ذكرنا، ظهر: أنّه لا يمكن المساعدة على ما اختاره صاحب الكفاية(قدس سره) من التفصيل بين ما لو كان التقييد بالدليل المتّصل، كأن يقال: صلّ فيما بين دلوك الشمس إلى الغروب، فلا يدلّ على التعدّد، وبين ما لو كان تقييداً بالدليل المنفصل، كأن يقال: اغتسل، ثمّ يرد دليل بعد ذلك على وجوب الغسل أو استحبابه يوم الجمعة، فيدلّ على التعدّد.

وجه عدم تماميّة هذا التفصيل: أنّ دليل التوقيت، أي: التقييد بدليل منفصل، إمّا أن يدلّ على التقييد أو لا؛

فإن دلّ على التقييد، فحاله حال الدليل المتّصل، فلا يمكن للوجوب أن يبقى بعد أن ظهر من الدليل أن المصلحة تترتّب لا على مطلق الصلاة، بل عليها موقّتةً بوقت، فلا يُستَفاد من الدليل تعدّد المطلوب.

وان لم يدلّ على التقييد، فهو خارج عن محلّ البحث، فليس المقام من باب تعدّد الوجوب، وعليه: فإثبات وجوب الفعل بعد الوقت يحتاج إلى الدليل، ولا يكفي في ذلك نفس الدليل الأول، ولو شكّ فيذلك، أي: في شمول الوجوب والمصلحة لخارج الوقت، فإنّ الأصل عدمه.

هذا، إذا لم نقل بمفهوم الوصف، وإلّا، فإنّ التوقيت يدلّ على عدم الوجوب بعد الوقت.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الكلام في تصوير المطلق والمقيّد _ بناءً على كون

ص: 324

التقييد بدليل منفصل _ لا يخلو من صور أربع:

الاُولى: ثبوت الإطلاق لكلٍّ من دليلي الواجب والتقييد.

والثانية: عدم إطلاق شيءٍ منهما، بأن كانا مهملين.

والثالثة: إطلاق دليل المقيّد _ أعني: الواجب _ دون دليل القيد _ أعني: التوقيت _.

والرابعة: عكس الصورة السابقة، بأن يكون دليل التوقيت مطلقاً، ودليل الواجب مهملاً.

أمّا في الصورة الاُولى:

فقد يقال: إنّ معنى إطلاق دليل الواجب: أنّ الشيء واجب في الوقت وخارجه، فيكون من باب تعدّد المطلوب، ومعنى إطلاق دليل التوقيت: أن يكون الوقت دخيلاً في جميع مراتب المصلحة، بمعنى: أنّه إذا خرج الوقت فلا مصلحة في الواجب، ولا يكون بعد خروج الوقتواجب؛ لأنّه لم يكن فيه المصلحة بعد ذلك، فيكون من باب وحدة المطلوب.

فلابدّ في هذه الصورة من الأخذ بإطلاق دليل التقييد؛ لحكومته على إطلاق دليل الواجب، أي: فيكون إطلاق دليل التقييد مضيّقاً لإطلاق دليل الواجب؛ ومعنى تضيّقه هو: الحكم بعدم وجوبه بعد الوقت.

وأمّا في الصورة الثانية:

فيكون المرجع إلى الاُصول العمليّة، من استصحاب الوجوب، لو لم نقل باختلاف الموضوع. ومع عدم جريانه، تصل النوبة إلى

ص: 325

البراءة؛ إذ لو كان وجوب صلاة الظهر مقيّداً بالوقت، فيقع الشكّ في وجوبها بعد الوقت، فنستصحب الوجوب، ولكن مع الشكّ في جريان الاستصحاب _ حيث إنّه لابدّ من وجود الموضوع في كلتا الحالتين حتى يمكن الاستصحاب _ لا يكون جريانه ممكناً، ومع عدم إمكان جريانه وحصول الشكّ في الوجوب بعد خروج الوقت، تصل النوبة إلى البراءة عن وجوب القضاء.

وأمّا في الصورة الثالثة:

فيؤخذ بإطلاق دليل الواجب.

وأمّا في الصورة الرابعة:

فعلى العكس، أي: فيؤخذ بإطلاق دليل التوقيت؛ لأنّه دخيل في تمام المصلحة فمع عدم وجوده فلا مصلحة فيه.

وقد يُفَرّق بين كون التكليف بلسان الأمر، كما لو قيل: اقرأ السورة في الصلاة، وبين عدم كونه كذلك، كما لو قيل: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب.

فلو كان من قبيل الأوّل، فيجب الإتيان به ما بعد الوقت أيضاً؛ لأنّ الأمر _ كما مرّ في محلّه _ يرد على المقدور، والتكليف مختصّ به، وأمّا العاجز فلا يكون التكليف عليه منجّزاً، ففي صورة الشكّ، يتمكّن من الأخذ بإطلاق الدليل، فلابدّ _ حينئذٍ _ من الإتيان به في خارج الوقت أيضاً.

ولكنّ

الحقّ: أنّه لا فرق بين ورود الدليل بصيغة الأمر أو بغيره، لأنّ

ص: 326

الأمر حينما يرد على المركّبات، فهي تكون من باب الإرشاد إلى الجزئيّة أو الشرطيّة، فإذا ورد بصيغة الأمر، كقولك: اقرأ السورة، كان إشارة إلى الجزئيّة وإرشاداً إليها، فلا يبقى فيه ظهور وإطلاق حتى يمكن التمسّك به.

وكما ذكرنا سابقاً، فإنّ ظ_اهر دلي_ل التوقي_ت هو وح_دة المطل_وب، لا تعدّده. وإنّ حكم التقييد بالوقت هو حكم سائر التقييدات، ﻛ «أعتق رقبة مؤمنة»، فبانتقاء القيد ينتفي الحكم؛ لأنّالمصلحة تنتفي بتمام مراتبها، لا أنّ الوقت دخيل في بعض مراتب المصلحة، حتى يقال بتعدّد المطلوب، فالظاهر من الدليل: هو وحدة المطلوب، فإذا أُريدَ إثبات القضاء في خارج الوقت، فلابدّ من ورود دليلٍ آخر يدلّ عليه غير دليل التوقيت، فثبوت القضاء في جميع الصور المذكورة يحتاج إلى دليل آخر.

وبالجملة: فبعد قيام الدليل _ في بعض الموارد _ على وجوب الفعل في خارج الوقت عند فوته في الوقت، يقع البحث في أنّ التقييد بالوقت هل يكون من باب تعدّد المطلوب، وكونه واجباً في واجب؟ أو يكون من باب التقييد، ولكنّ قيديّته مقصورة على حال التمكّن؟ أو أنّه لا يكون هذا ولا ذاك، بل يكون القضاء واجباً آخر مغايراً للواجب الأوّل بحسب العنوان، وليس هو ذلك الواجب بعينه وإنّما سقط قيده؟

والفرق بين هذه الوجوه الثلاثة:

أنّه لو كان من قبيل الواجب في واجب، ففي صورة ترك القيد عمداً فاللّازم حصول الامتثال بالنسبة إلى أصل الواجب، وإن تحقّق العصيان

ص: 327

بالنسبة إلى الواجب الآخر.

ولو كان بعنوان القيديّة المختصّة بحال التمكّن، فإذا ترك القيد عمداً مع التمكّن منه، فاللّازم عدم حصول الامتثال لو أتى به خارج الوقت وبدون القيد.وأمّا على الوجه الثالث، فالواجب في خارج الوقت يكون مغايراً للواجب في الوقت، ومعنوناً بغير عنوانه، وهذا بخلافه على الوجهين الأوّلين، فإنّ الواجب في خارج الوقت بناءً عليهما هو ذلك الواجب في الوقت بعينه، وإنّما الساقط قيد من قيوده، وحينئذٍ: فلا يصدق على الإتيان به بعد الوقت أنّه قضاء، ولا يصدق عليه الفوت؛ لأنّ نفس الواجب يكون باقياً بعينه، والقضاء عبارة عن الإتيان بما فات من الواجب في خارج الوقت.

والصحيح من هذه الوجوه ثالثها، فلابدّ من ورود دليل آخر على وجوب القضاء سواء كان تركه عمداً أو سهواً، لعدم التمكّن أو لغيره؛ وذلك لأنّ المستفاد من دليل القضاء أنّه واجب مغاير للواجب الأول، وأنّه إنّما يكون بدلاً عنه وقائماً بمصلحته.

وقد أيّد الميرزا النائينيّ) ذلك _ أيضاً _ بما لفظه: «أنّه ربّما يتحقّق الفعل زماناً بين وجوب الأداء ووجوب القضاء، كما إذا لم يبقَ من الوقت مقدار ركعة، ولم يتحقّق الغروب بعد، فإنّه لم يكن مكلّفاً في هذا المقدار

ص: 328

من الزمان إلى أن يتحقّق الغروب لا بالأداء ولا بالقضاء»(1).أمّا

عدم وجوبه أداءً؛ فلعدم بقاء الوقت الكافي، لا الحقيقيّ منه ولا التنزيليّ.

وأمّا عدم وجوب القضاء؛ فلأنّه لابدّ وأن يكون في خارج الوقت، والوقت لم يخرج بعد بحسب الفرض، وليس هناك وجوب آخر في البين غير معنون بأحد ذينك العنوانين، فيظهر منه: أنّ المكلّف به في خارج الوقت مغاير لما كُلِّف به أوّلاً؛ إذ قد انفصل الأمر القضائيّ عن الأمر الأدائي ولو بمقدار نصف ركعة.

ولكن قد استشكل عليه اُستاذنا المحقّق(قدس سره) بما حاصله:

أنّه يمكن أن يؤتى به قضاءً؛ لأنّ القضاء مترتّب على فوت الفريضة والواجب، وقد فات، وموضوع القضاء ليس إلّا فوت الفريضة والواجب وعدم التمكّن من إدراكهما في الوقت، لا خروج الوقت بتمامه.

وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره):

«وأنت خبير بأنّه يمكن أن تشمله أدلّة وجوب القضاء؛ لأنّ موضوعها فوت الواجب والفريضة، وعدم إمكان إدراكها في الوقت، لا خروج الوقت بتمامه، ولا مخصّص لهذا العموم، لا عقلاً ولا شرعاً»(2).

ص: 329


1- فوائد الاُصول 1: 239.
2- منتهى الاُصول 1: 234.

ولكنّك تعلم: أنّ معنى القضاء إنّما هو الإتيان بها في خارج الوقت حين إتيانه حتى لو صدق الفوت عليه، ومعنى «يقضي ما فاته كما فاته»(1)، أي: يأتي خارج الوقت مثلما فاته في الوقت.

وملخّص الكلام: أنّ القيد ركن، ويؤيّد ذلك حديث «لا تُعاد»(2)، فإنّ المستفاد منه: أنّ الوقت ركن ودخيل في المطلوبيّة. وأيضاً: فلو كان مطلوباً على حدة ما كنّا مُحتاجين إلى قاعدة الميسور، كقوله في خبر عبد الأعلى: «امسح على المرارة»(3)، حيث استدلّ بأنّ اللّازم الإتيان بالواجب المتعذّر بعض قيوده، ويظهر منه وحدة المطلوب.

ثمّ إنّه لو شككنا في فوت واجب، فهل يمكن لنا إحراز الفوت باستصحاب عدم الإتيان في الوقت أم لا؟

هذا لا يكون ممكناً إلّا إن قلنا بأنّ الفوت أمر عدميّ.

وأمّا إذا قلنا بأنّه أمر وجوديّ، فلا يثبت الفوت باستصحاب عدم الإتيان في الوقت؛ لأنّه يكون من لوازمه، فيكون أصلاً مثبتاً، ومعلومأنّ

ص: 330


1- وسائل الشيعة 8: 268، باب 6 من أبواب قضاء الصلوات، ح6.
2- وسائل الشيعة 1: 371_ 372، باب 4 من أبواب الوضوء، ح8.
3- انظر: وسائل الشيعة 1: 464، باب 39 من أبواب الوضوء، ح5. ولفظ الخبر كالتالي: عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال: قلتُ لأبي عبد الله(علیه السلام): عثرتُ، فانقطع ظفري، فجعلتُ اصبعي على مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يُعرَف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ، قال الله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَليكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحجّ: 78]، امسح عليه.

الاُصول لا تثبت لوازمها. فتصل النوبة إلى أصالة الاشتغال؛ لأنّ ذمّته قد اشتغلت بالواجب قطعاً من أوّل الوقت، فالشكّ شكّ في فراغ ذمّته، ومقتضى الاشتغال اليقينيّ هو الفراغ اليقينيّ.

والحقّ: عدم جريان الاستصحاب ها هنا؛ وذلك لحكومة قاعدة «الوقت حائل»، والتي مفادها: أنّ الشكّ لا اعتبار به بعد مضيّ الوقت.

نعم، لا بأس بجريان هذا الاستصحاب في غير باب الصلاة من الموقّتات التي يجب فيها القضاء على تقدير فوتها، كالصوم في بعض أقسامه.

وأمّا الشكّ هنا، فلا اعتبار به كما ذكرنا؛ لأنّ التكليف الثابت في الوقت قد سقط يقيناً، إمّا بالامتثال أو بخروج الوقت.

ص: 331

ص: 332

مبحث الإجزاء

اشارة

ولابدّ قبل خوض البحث فيه من تقديم نقاط:

النقطة الاُولى:

في أنّ هذا البحث هل هو من المباحث اللفظيّة أم العقليّة؟

قد يقال في عنوان هذه المسألة _ كما صنعه في الكفاية _: «الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟»(1)، ولكنّ جعلالمسألة معنونة بهذا العنوان يوجب خروجها عن المسائل اللفظيّة والدخول في المسائل العقليّة.

ومن هنا لجأ بعضهم إلى استخدام تعبير آخر، على أساسه تكون هذه المسألة داخلة في مباحث الألفاظ، وهو: «الأمر هل يقتضي الإجزاء عند الإتيان بالمأمور به على وجهه أم لا؟»(2).

ص: 333


1- كفاية الاُصول: ص 81.
2- نقله في: منتهى الاُصول 1: 238، عن جمع.

ولكن لا يخفى: ما في هذا التعبير الثاني من المسامحة؛ لأنّ الإجزاء لا يستند إلى الأمر، ولا يكون من مقتضىاته، بل إنّما يستند إلى فعل المكلّف وما هو الصادر منه.

فالأحسن في عنونة هذا المبحث أن يقال: «إنّ امتثال الأمر على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟».

والنقطة الثانية:

أنّ البحث في هذه المسألة ليس في الدلالة وما يقتضيه مقام الإثبات، بل إنّما هو في مرحلة الواقع والثبوت؛ فإنّ ما يُراد إثباته في هذا البحث هو أنّ الإتيان بالمأمور به علّة لسقوط الغرض؛ لأنّ وجود الغرض علّة لوجود الأمر حدوثاً وبقاءً، فعند تحقّق الغرض وحصولهيسقط

الأمر، لا محالة، وإلّا وجد المعلول بغير علّته؛ وبسقوطه، فلا يجب الإعادة ولا القضاء، بمعنى: أنّه لا يجب الإتيان بالمأمور به ثانياً بعد حصول الغرض، لا من باب الإعادة ولا القضاء.

فظهر

مما ذكرنا: أنّ البحث هنا ليس من المباحث اللفظيّة، وهذا لا ضير فيه، ولا ينافيه إدراجهم لهذا البحث في ضمن المباحث اللّفظيّة؛ فإنّ الاُصوليّين لم يفردوا باباً للبحث عن الأحكام العقليّة، بل ذكروها في أبواب متفرّقة، ومن بينها: المسألة التي هي محلّ الكلام هنا.

وعليه: فلا يختلف حال مسألة الإجزاء عن حال مسألة مقدّمة

ص: 334

الواجب، التي ذكروها ضمن المباحث اللّفظيّة مع أنّ البحث فيها ينصبّ حول أنّ العقل هل يحكم بوجود الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أم لا؟

كما ظهر أيضاً: أنّ معنى الاقتضاء هو العلّيّة والتأثير في سقوط الأمر، لا مجرّد الكشف والدلالة اللّذين هما من شؤون اللّفظ، فالإجزاء هو بمعنى: أنّ الإتيان بالمأمور به يكون علّة للسقوط، لا أنّه مجرّد كاشف وحاكٍ عنه.

والنقطة الثالثة:

في أنّ هذه المسألة لا ربط لها بمسألتي المرّة والتكرار، ولا لمسألة تبعيّة القضاء للأداء؛ لأنّ البحث فيهما إنّما ينصبّ على ذات المأمور به، وتعيين حدوده وقيوده شرعاً بحسب الثبوت ومقام التشريع، وأمّا فيما نحن فيه، فالبحث ينصبّ على المأمور به بعد أن ثبت بحدوده وقيوده شرعاً، فهل يكون امتثاله موجباً لسقوطه أم لا؟ فلا ربط بين المسألتين أصلاً.

وبعبارة أُخرى: فالبحث هناك عن تعيين مدلول الصيغة، وأمّا هنا، فهو بحث عن المأمور به بعد الفراغ عن ذلك، فتكون مسألة المرّة والتكرار بمنزلة الموضوع لهذه المسألة، فيقال مثلاً: إنّ إيجاد الطبيعة مرّة _ لو قلنا بدلالتها على المرّة _ أو مكرّرة _ لو قلنا بأنّ التكرار هو مدلول الصيغة _

ص: 335

هل يقتضي الإجزاء أم لا؟

وكذا يقال أيضاً بالنسبة إلى مسألة تبعيّة القضاء للأداء؛ فإنّ الظاهر الفرق بينهما؛ فإنّ ما وقع البحث عنه في مسألة التبعيّة هو _ كما مرّ _ في تعدّد المطلوب وعدم تعدّد المطلوب.وهل أنّ الأمر الأوّل يدلّ على إيجاد المأمور به في خارج الوقت إن فاته في الوقت كما يدلّ على وجوب إيجاده في الوقت أم لا، بل إذا فات الوقت فات معه الموقّت؟

وأين هذا من محلّ البحث في مسألة الإجزاء، وهو أنّ الإتيان بالمأمور به هل يكون مجزياً عن الأمر الواقعي أم لا؟

وبعبارة أوضح: فالموضوع في المسألتين مختلف؛ فإنّ موضوع مسألة تبعيّة القضاء هو الفوت في الوقت، وأمّا موضوع مسألة الإجزاء فهو الإتيان بالمأمور به في وقته.

والنقطة الرابعة:

في أنّ الأمر تارةً يكون واقعيّاً، وأُخرى يكون ظاهريّاً، وثالثةً اضطراريّاً، والبحث في مسألة الإجزاء يقع في جميع هذه الصور الثلاث.

ولا يخفى هنا: أنّ الإجزاء وسقوط الأمر أعمّ من القبول؛ إذ يكفي في سقوط الأمر أن يُؤتى بالواجب جامع الأجزاء والشرائط، ولكنّ صرف الإتيان به كذلك أعمّ من وقوعه مقبولاً عند اﷲ تعالى أو لا؛ إذ قديحول

ص: 336

بين الإتيان بالواجب وبين قبوله موانع كثيرة، كما أنّ للقبول مراتب متفاوتة.

وإذا عرفت ذلك، فالكلام أوّلاً يقع فيما يقتضيه مقام الثبوت.

وقد يقال _ بدواً _: لو فرضنا كون هذه المسألة عقليّة لكان هذا منافياً لما هو المبحوث عنه فيها، وهو أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهريّ أو الاضطراريّ هل يكون مجزياً عن المأمور به بالأمر الواقعيّ أم لا؟

وجه المنافاة: أنّ البحث عن الإجزاء نفياً وإثباتاً إنّما يرجع إلى أنّ الأمر هل له دلالة عليه أم لا؟ وهذا أجنبيّ تماماً عن حديث الملازمة العقليّة.

ولكن يمكن الجواب عنه: بمنع المنافاة، إذ إنّ فرض المسألة عقليّة يتضمّن البحث عن دلالة الأمر أيضاً بالتبع؛ لأنّ البحث عن الدلالة وعدمها يندرج في مبادئها؛ فإنّ من يقول بالإجزاء يبحث عن أنّ الأمر هل يدلّ على وجود مصلحة في المأمور به بالأمر الظاهريّ بنحو تبقى معه المصلحة الواقعيّة أم لا؟

فالبحث _ إذاً _ يتناول بالتبع البحث عن دلالة الأمر أيضاً، ومعه: فالمسألة عقليّة، ولكنّها _ في الوقت عينه _ تدخل في المباحث اللّفظيّة بالتبع.ويشهد لذلك: أنّ البحث في مسألة الإجزاء يجري في جميع الواجبات، ولو لم يكن الدليل على وجوها من قبيل الدليل اللفظيّ، بل

ص: 337

حتى ولو كان دليلاً لبّيّاً، ومع الشمول لذلك، فلا معنى لجعل الإجزاء مدلولاً للّفظ فقط، ولا وجه لجعل المسألة لفظيّة محضة.

والنقطة الخامسة:

في ما هو المُراد من كلمة «وجهه» في عنوان المسألة:

قال في الكفاية: «الظاهر أنّ المراد من وجهه في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعاً وعقلاً، مثل أن يُؤتى به بقصد التقرّب في العبادة»(1).

لا يخفى: أنّه ليس المراد من الوجه هنا ما هو المعتبر عند المتكلّمين في العبادة من قصد الوجوب أو الاستحباب أو جهتهما، بل المراد منه: الكيفيّة التي اعتبرت في متعلّق الأمر، بمعنى: أنّ إتيان الواجب على الوجه الذي أُمر به، بحيث يقع تامّ الأجزاء والشرائط، وبالكيفيّة التي تعلّق بها الأمر، يكون مجزياً ومسقطاً لأمره.ويُرشد إلى صحّة ما ذكرناه: أنّ قصد الوجه غير معتبر في صدق الامتثال للواجب عند المشهور، مع أنّهم في مبحث الإجزاء بحثوا المسألة بهذا الشكل، فقالوا: الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟

ص: 338


1- كفاية الاُصول: ص 81.

وبذلك ظهر: أنّه لا منافاة بين المبحوث عنه هنا في مسألة الإجزاء وبين إنكار لزوم قصد الوجه عندهم.

وبه أيضاً ظهر: عدم صحّة ما قد يقال: من أنّ ذكر الوجه في العنوان إنّما هو لإدخال قصد الوجه؛ إذ لا دليل على اعتبار قصد الوجه.

هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى، فلو كان هذا هو المراد من الوجه لكان البحث مختصّاً بباب العبادات، دون مطلق المأمور به، ولو توصّليّاً، فتكون الواجبات التوصّليّة خارجة عن حريم النزاع، مع أنّ البحث عندهم عامّ.

ثمّ لو تنزّلنا بأنّ المراد من الوجه هو ما ذكره المتكلّمون، فلا معنى لإفراده وتخصيصه بالذكر دون سائر الأجزاء والقيود والشرائط؛ إذ على تقدير اعتباره ولزومه، فلن يكون حاله إلّا كحال تلك القيود والأجزاء والشرائط.

وبعد التقديم بهذه النقاط نقول:لو أتى بالمأمور به تامّ الإجزاء والشرائط، وبالكيفيّة التي تعلّق الأمر بها، أجزأ وسقط الأمر به عقلاً، سواء كان ذلك الأمر أمراً واقعيّاً أم ظاهريّاً أم اضطراريّاً، وبالجملة: فالإتيان بالمأمور به على وجهه بكلّ أمر يقتضي الإجزاء عن أمره عقلاً، حتى في الأمر الظاهريّ والاضطراريّ، فإنّهما يسقطان بامتثالهما على النحو المزبور، ولو لم يؤدّ ذلك إلى سقوط أمر آخر، فمثلاً: لو أتى بالأمر الاضطراريّ على وجهه، فإنّه مجزٍ ومسقط

ص: 339

لنفس هذا الأمر الاضطراريّ، ولو لم يكن مسقطاً للأمر الواقعيّ الأوّليّ.

وإذا عرفت هذا، فالنزاع _ في الحقيقة _ إنّما هو في دلالة الدليل على الإجزاء للمأمور به بالأمر الظاهريّ أو الاضطراريّ عن الأمر الواقعيّ أو عدم دلالته؟

وأمّا الكلام في أصل مبحث الإجزاء فيقع في مسائل ثلاث:

المسألة الأُولى: في أنّ الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء عن نفس أمره أم لا؟ أعمّ من أن يكون هذا الأمر واقعيّاً أم ظاهريّاً أم اضطراريّاً.

والمسألة الثانية: هل يكون الإتيان بالمأمور به الواقعيّ الثانويّ (الاضطراريّ) مجزياً عن الأمر الواقعيّ، ولو تبدّل الموضوع وزال العذر، سواء كان في الوقت أم خارجه، أم لا يكون كذلك، بل لابدّ من الإتيان به ثانياً، إمّا في الوقت أو خارجه؟والمسألة الثالثة: هل يقتضي الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهريّ الإجزاء عن الأمر الواقعيّ، ولو مع انكشاف الخلاف ظنّاً أو علماً، أم لا؟

أمّا الكلام في المسألة الاُولى: وهي: إجزاء كلّ مأمور به عن أمره:

فثبوت

الإجزاء فيها ممّا لا شكّ فيه؛ إذ بعد الإتيان بالمأمور به يسقط الأمر قهراً، ولا يجب الإتيان به ثانياً بمقتضى ذلك الأمر، لا أداءً ولا قضاءً؛ إذ يحصل الغرض بإيجاد ما تعلّق به الأمر، فيسقط الأمر به لا محالة، وإلّا، فلو كان باقياً بعد فرض حصول متعلّقه، لزم أن يكون من قبيل تحصيل

ص: 340

الحاصل، بلا فرق بين أن يكون المأمور به توصّليّاً أو تعبّديّاً.

وبعبارة أُخرى: فبعد الإتيان بالمأمور به تامّ الأجزاء والشرائط فإمّا أن يكون الغرض والملاك قد حصل أو لا.

فالثاني: وهو عدم كونه وافياً بالغرض مع صدق المأمور به عليه خلف.

وأمّا الأول: فيلزمه سقوط الأمر؛ لحصول الغرض، والأمر تابع لحصول غرضه، فبعد حصوله يسقط الأمر قهراً، وإلّا، لم يكن تحصيله غرضاً للأمر وغاية له، وهذا خلف أيضاً.فالحاصل: أنّ إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره ضروريّ، وهو ممّا لا كلام ولا خلاف فيه.

الامتثال عقيب الامتثال:

وقد ظهر بما بيّنّاه: أنّ الامتثال عقيب الامتثال غير معقول.

ولكنّ صاحب الكفاية) ادّعى جوازه في بعض الموارد، وهو ما إذا لم يكن المأمور به علّة تامّة لحصول الغرض. قال(قدس سره) ما لفظه:

«نعم، لا يبعد أن يقال: بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبّد به ثانياً بدلاً عن التعبّد به أوّلاً _ لا منضمّاً إليه كما أشرنا إليه في المسألة السابقة _، وذلك فيما علم أنّ مجرّد امتثاله لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض، وإن كان وافياً به لو اكتفى به، كما إذا أتى بماءٍ أمر به مولاه ليشربه، فلم يشربه

ص: 341

بعد؛ فإنّ الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا لو أُهريق الماء واطّلع عليه العبد، وجب عليه إتيانه ثانيةً، كما إذا لم يأتِ به أوّلاً، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، وإلّا لما أوجب حدوثه، فحينئذٍ: يكون له الإتيان بماءٍ آخر موافق للأمر، كما كان له قبل إتيانه الأوّل بدلاً عنه.نعم، فيما كان الإتيان علّة تامّة لحصول الغرض، فلا يبقى موقع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه، فأهرقه، بل لو لم يعلم أنّه من أيّ القبيل فله التبديل باحتمال أن لا يكون علّة، فله إليه سبيل، ويؤيّد ذلك، بل يدلّ عليه: ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعةً، وأنّ اﷲ تعالى يختار أحبّهما إليه»(1).

وتوضيح ما أفاده(قدس سره): أنّ الإتيان بالمأمور به:

تارةً: يكون هو العلّة التامّة في حصول الغرض، كما إذا أمر المولى عبده بأن يُهرق له الماء في فمه لكي يرفع عطشه، ففعل العبد ما أمره به مولاه، فإنّ المأمور به حينئذ يكون علّة تامّة لحصول الغرض، وهو رفع العطش عن المولى. وفي هذا الفرض، لا يجوز تبديل الامتثال بعد الامتثال عقلاً؛ لسقوط الأمر بمجرّد الإتيان بالفعل، فلا يبقى محلّ للامتثال ثانياً.

ص: 342


1- كفاية الاُصول: 83 _ 84.

وأُخرى: لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض، بل تكون نسبته إليه نسبة المقتضي أو المعدّ، وذلك كما إذا توقّف حصول الغرض على أمرٍ اختياريٍّ للمولى، فإذا أمره المولى بإحضار الماء لرفع العطش عنه، فمن الواضح: أنّ الغرض لا يحصل بمجرّد إحضار الماء، بل إنّمايتوقّف حصوله على شرب المولى لهذا الماء ورفع عطشه به. وفي هذا الفرض، يرى صاحب الكفاية) أنّه يجوز له _ عقلاً _ تبديل الامتثال والإتيان بفرد آخر أفضل منه، ليكون امتثالاً للأمر الأوّل، إذ المفروض أنّه لم يحصل الغرض بالإتيان به أوّلاً.

وقد أيّد) دعواه هذه بما ورد في بعض الأخبار من جواز إعادة الصلاة جماعة لمن كان قد صلّى فرادى، كما في المرويّ عن أبي بصير، قال: «قلت لأبي عبد اﷲ(علیه السلام): اُصلّي ثمّ أدخل المسجد، فتُقام الصلاة وقد صلّيتُ، فقال: صلّ معهم، يختار اﷲ أحبّهما إليه»(1).

وأمّا المحقق النائيني(قدس سره)، فقد ذهب إلى أنّ تبديل الامتثال وإن كان ممكناً عقلاً وثبوتاً، إلّا أنّه يحتاج إلى دليل إثباتيّ، وهذا بناءً على مسلكه القائل بأنّ العبادات بالنسبة إلى آثارها معدّات، وليست من قبيل العلّة التامّة بحيث لا يتخلّف ولا يتأخّر وجود المعلول منها، بل يمكن أن توجد العلّة ويتخلّف المعلول، أعني: القبول وترتّب الآثار عليها، فترتّب

ص: 343


1- وسائل الشيعة 8: 403، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 10.

الآثار يحتاج إلى أشياء أُخر لا ربط لها بفعل العبد، ككون العمل بحاجة إلى التصفية من قبل الملائكة وغير ذلك من الجهات، فلو أتى بفرد آخر، أمكن أن يصير هو الآخر مصفّىً ومورداً للقبول.وإليك نصّ كلامه، قال(قدس سره):

«الذي يظهر من بعض الأعلام: أنّ تبديل الامتثال يكون على القاعدة، وللمكلّف أن يبدّل امتثاله، و يعرض عمّا امتثل به أوّلاً، و يأتي بالفعل ثانياً، هذا. ولكنّ الإنصاف: أنّه لا يمكن المساعدة على ذلك، بل يحتاج تبديل الامتثال إلى قيام دليل على ذلك؛ فإنّ تبديل الامتثال يحتاج إلى عدم سقوط الغرض عند سقوط الأمر، كما لو أمر بالماء لغرض الشرب، وأتى به العبد والمولى لم يشربه بعد؛ فإنّ الأمر بالإتيان بالماء، وإن سقط، إلّا أنّ الغرض بعد لم يحصل، فللعبد تبديل الامتثال ورفع ما أتى به من الماء وتبديله بماء آخر، فيحتاج تبديل الامتثال إلى بقاء الغرض أو مقدار منه، وإمكان قيام الفعل الثاني مقام الغرض. و هذا _ كما ترى _ يحتاج في الشرعيّات إلى دليل يكشف عن ذلك، ومع عدم قيامه لا يمكن للمكلّف التبديل من عند نفسه، ولم نعثر في الشريعة على دليل يقوم على جواز تبديل الامتثال»(1)، إلى آخر ما جاء في كلامه«.

ولكنّ هذا الكلام في حدّ نفسه مورد للتأمّل؛ لأنّ سقوط التكليف

ص: 344


1- فوائد الاُصول 1: 243.

والأمر شيء، ووقوعه مقبولاً شيء آخر؛ إذ بمجرّد إتيانالمكلّف بالفعل تامّ الأجزاء والشرائط يسقط الأمر به، وبعده فلا يبقى أمر ولا بعث حتى يتأتّى الانبعاث عنه، فالامتثال عقيب الامتثال يحتاج إلى دليل.

وقد استشكل المحقّق الأصفهاني) فيما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:

«قد أشرنا في آخر مبحث المرّة والتكرار إلى أنّ إتيان المأمور به بحدوده وقيوده علّة تامة لحصول الغرض، فيسقط الأمر قهراً، والمثال المذكور في المتن كذلك؛ لأنّ الغرض الذي يعقل أن يكون باعثاً على الأمر بإحضار الماء هو تمكّن المولى من دفع عطشه به، لا نفس رفع العطش خصوصاً مع أنّ مصالح العبادات فوائد تقوم بها وتعود إلى فاعليها، لا أنّها عائدة إلى الأمر بها حتّى يتصوّر عدم استيفاء غرضه منها، بل من الأوفى، كما لا يخفى»(1).

وتوضيح ما أفاده:

أنّه يستحيل أن لا يكون المأمور به علّة تامّة لحصول الغرض لتبعيّة الأمر لتحصيل الغرض من المأمور به، فيستحيل أن يتوسّط بين الفعل وحصول الغرض مقدّمة غير اختياريّة للمكلّف، بل المأمور به لا ينفكّعن الغرض من الأمر. وأمّا ما ذكر من مثال الأمر باحضار الماء للشرب،

ص: 345


1- نهاية الدراية 1: 263.

فالغرض من الأمر ها هنا ليس هو نفس الشرب فإنّه أمر اختياريّ للمولى لا يرتبط بالعبد، فلا معنى لانبعاث الأمر عنه، بل الغرض منه هو التمكّن من الشرب، وهو لا ينفكّ عن المأمور به، كما لا يخفى.

وعليه: فالإتيان بالفعل مطلقاً يكون موجباً لحصول الغرض؛ لأنّه علّة تامّة له، المُستَلزِم لسقوط الأمر المانع من جواز تبديل الامتثال.

وأمّا ما استُشكل به على صاحب الكفاية(قدس سره) من «أنّ الكلام يدور بين الجواز عقلاً والمنع عقلاً، فلا معنى للاستدلال على الجواز بالروايات وبالدليل في مقام الإثبات»(1).

ففيه: أنّ ما أراده صاحب الكفاية(قدس سره) هو أن يأتي بأقوى دليل على إمكان الشيء، وهو وقوعه، وكلامنا إنّما هو في أنّ تبديل الامتثال هل هو ممكن عقلاً أم لا؟

وممّا ذكرنا ظهر: أنّ مسألة الامتثال عقيب الامتثال تحتاج إلى دليل ففي بعض الموارد، ورد الدليل، كما فيما دلّ على جواز إعادة الصلاة جماعة، وأمّا الامتثال عقيب الامتثال بمعنى: انبعاث المكلّف ثانياً بنفسالأمر الأوّل، فغير تامّ، كما عرفت؛ إذ بعد الإتيان بالمأمور به تامّ الإجزاء والشرائط سقط الأمر الأوّل، فلا يكون هناك أمر حتى يكون الانبعاث عنه للإتيان بالمأمور به ثانياً.

ص: 346


1- منتقى الاُصول 2: 13.

وبالجملة: فلمّا لم يكن تبديل الامتثال موافقاً للقاعدة، كان بحاجة إلى دليل، إلّا أن يكون الغرض لم يحصل بعد، بأن لا يكون الإتيان بالمأمور علّة تامّة لحصوله، فهنا لا مانع من الإتيان به ثانياً. كما لو أمر المولى عبده بالإتيان بالماء ليشربه، فأتى العبد بالماء، فما دام الشرب لم يحصل بعد من المولى، فيكون ملاك الأمر باقياً وموجوداً، ومعه فلا ضير للعبد في الإتيان له بفرد آخر من الماء ثانياً.

بل يمكن أن يقال: بأنّ مسألة إعادة المنفرد صلاته جماعةً أو الإمام مرّةً أُخرى إماماً، هو من قبيل الامتثال عقيب الامتثال، ولكنّ الجواز هنا لم يكن من جهة القاعدة، بل من جهة قيام الدليل على الجواز.

وأمّا المحقق العراقيّ) فقد رأى أنّ الحكم هنا يبتني على ما هو المختار من القولين في باب مقدّمة الواجب، قال):

«وأمّا

لو لم يكن مجرّد الإتيان بالمأمور به علّة تامّةً لحصول الغرض وتحقّقه، بل كان لاختيار المولى أيضاً دخل في حصول غرضه، كما نظيره في العرفيّات في مثل أمر المولى عبده بإتيان الماء وإحضاره عنده لأجل الغرض الذي هو رفع عطشه بشربه إيّاه، حيث إنّه في مثلهذا الفرق لا يكون مجرّد الإتيان بالماء وإحضاره عند المولى علّة لحصول غرضه الذي هو رفع عطشه، بل كان لاختيار المولى وإرادته إيّاه للشرب أيضاً دخل في تحقّقه؛ لكونه هو الجزء الأخير من العلّة لحصول غرضه، الذي هو رفع عطشه، ففي مثله: حيثما كان الإرادة المتعلقة بإيجاد الماء

ص: 347

بحسب اللّبّ إرادة غيريّة وتكون الإرادة النفسيّة لبّاً هي المتعلّقة بحيث رفع العطش، فلا جرم يبتني جواز الإتيان بالمأمور به ثانياً وعدم جوازه على القولين في باب مقدّمة الواجب: بأنّ الواجب هل هو مطلق المقدّمة ولو لم تُوصل؟ أو أنّ الواجب هو خصوص الموصلة منها؟

فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة: يكون حال هذا الفرض حال الفرض السابق، من علّيّة الإتيان بالمأمور به لسقوط الأمر وحصول الغرض، فكما أنّه في ذلك الفرض بإتيان المأمور به يسقط الأمر والتكليف، ولا يجب على المكلّف، بل لا يجوز عليه، الإتيان به ثانياً بعنوان امتثال الأمر بالطبيعة، كذلك في هذا الفرض، فبإتيان المأمور به في هذا الفرض أيضاً يسقط الأمر به، فلا يجوز له الإتيان به ثانياً بعنوان امتثال الأمر الأوّل فضلاً عن وجوبه.

وأمّا على القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة، لا مطلقها، فلازمه: هو جواز الإتيان بالمأمور به ثانياً بعنوان امتثال الأمر بالطبيعةمع عدم اختيار المولى إيّاه؛ إذ ما دام عدم اختيار المولى للمأتيّ به الأوّل حيثما كان الغرض الداعي على الأمر بعد بحاله، كان الأمر بالإيجاد والإتيان أيضاً على حاله من الفعليّة، غايته: أن ليس له الفاعليّة والمحرّكيّة بعد الإتيان بالمأمور به أوّلاً بملاحظة صلاحيّة المأتيّ به للوفاء بالغرض، لا أنّه يسقط رأساً بمجرّد الإتيان بالمأمور به، ونتيجة ذلك التفكيك بين فعليّة الأمر وفاعليّته هو: جواز الإتيان بالمأمور به ثانياً ما دام بقاء المأتيّ به

ص: 348

الأوّل على صلاحيّته للوفاء بغرض المولى ووجوب الإتيان به في فرض خروجه عن القابلية المسطورة _ كما في المثال من فرض إراقة الماء المأتيّ به لغرض الشرب قبل اختيار المولى إيّاه _ إذ حينئذٍ: ربّما يجب على العبد والمأمور مع علمه بذلك الإتيان بفرد آخر من الطبيعيّ المأمور به كما لا يخفى، ونتيجة ذلك في فرض تعدّد الإتيان بالمأمور به هو: وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى منهما، لا بهما معاً، وصيرورة الفرد الآخر غير المختار لغواً محضاً، لا أنّه يتحقّق به الامتثال أيضاً كي يكون قضيّة الإتيان بالمأمور به متعدّداً من باب الامتثال عقيب الامتثال»(1).

وتوضيح ما أفاده(قدس سره): أنّ الفعل الذي يكون متعلّق الأمر:إمّا أن يكون بنفسه مشتملاً للغرض الداعي للمولى إلى الأمر به فيكون تحقّقه في الخارج علّة تامّة لحصول الغرض، أي: غرض المولى، فحينئذ: بمجرّد الإتيان به يسقط الأمر.

وإمّا أن لا يكون نفس التحقّق والإتيان به علّة تامّة، بل إنّ فعل العبد يكون مقدّمة لما يترتّب عليه غرض المولى، وهو رفع العطش بشرب الماء مثلاً، أو يكون مقدّمة لفعل المولى الجوانحيّ، كما إذا كان الإتيان لأجل اختيار أحبّ الصلاتين.

فإذا كان فعل الأمر مقدّمة، فالأمر المتعلّق به أمر مقدّميّ غيريّ، فبناءً

ص: 349


1- نهاية الأفكار 1: 224 _ 225؛ وانظر أيضاً: بدائع الأفكار 1: 263.

على وجوب المقدمة الموصلة: فإذا أتى بالفعل متعدّداً، فأيّهما اختاره المولى هو الذي يقع على صفة الوجوب، سواء كانت الصلاة الاُولى أو الثانية، فالامتثال يحصل بما اختاره اﷲ.

فلو شرب الماء من أحد الكأسين، فكان الواجب هو ما اختاره، وكذا بالنسبة إلى الصلاة المعادة، فالتي اختارها المولى هي التي تكون واجبة، وعلى هذا يُحمل ما ورد من الروايات الواردة في هذا الباب الدالّة على استحباب الإعادة بعد إتيان المكلّف به.

فظهر: أنّ نفس الإتيان ليس غرضاً أصليّاً للمولى، بل ماوقع عليه اختياره هو الذي يكون واجباً، فالفرد الذي لا يقع عليه اختياره لا يكون واجباً.ولكنّ ما ذكره(قدس سره) غير تامّ؛ لأنّ الصلاة التي هي أفضل الطاعات والتي وجوبها النفسيّ من المسلّمات، تخرج _ بناءً عليه _ عن الواجب النفسيّ، ليكون وجوبها غيريّاً، ولا يمكن الالتزام به.

بل

لو التزمنا في جميع العبادات بهذا الرأي، لكان من الواجب _ حينئذٍ _ أن يقال: بأنّه ليس لنا واجب نفسيّ أصلاً، وهو واضح البطلان.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ الواجب هي الصلاة الاُولى خاصّةً؛ لاشتمالها على المصلحة الملزمة، فهي التي تقع على صفة الوجوب، وأمّا الثانية: فهي مشتملة على مصلحة راجحة، ولكنّها ليست على نحو الإلزام، بل تقع على نحو الاستحباب، ولذا يجوز الاقتصار على الاُولى.

ص: 350

ففيه: أنّ الظاهر من قوله(علیه السلام)، «يختار

اﷲ أحبّهما إليه»(1): أنّه يجعله محقّقاً لامتثال أمره بالصلاة الواجبة، أي: أنّ اﷲ يختار أحبّ العملين، ويجعله محقّقاً للامتثال دون العمل الآخر، وإن صدر من المكلّف أوّلاً.

وأيضاً: فبناءً على هذا المبنى، لا نتمكّن من الجزم بكون ما أتى به من أفراد المكلّف به واجباً، أوّلاً كان أو ثانياً؛ لأنّه لا يُدرى أيّالفردين هو الذي يُتوصّل به إلى المولى، بل لابدّ أن يأتي بكل من الفردين رجاءً حتى يحصل على مُراد المولى وغرضه.

وقد نُسِب إلى المحقق الشيخ كاظم الشيرازي(قدس سره)(2) وجه آخر، حاصله:

أنّ المولى إذا كان له غرض أقصى لا يحصل بمجرّد أن يؤتى بالفعل؛ فإنّ العُرف في مثل هذا الحال يرى أنّ المكلّف مخيّر بين إبقاء الفرد الأوّل وبين إتلافه والإتيان بفرد جديد آخر، أي: أنّ هناك وجوباً تخييريّاً تعلّق بإبقاء الفرد الأوّل والإتيان بفرد آخر على نحو التخيير.

وأمّا بناءً على القول المشهور، وهو أنّ المقام ليس من باب المقدّمة الموصلة، فلا يمكنه الإتيان بالفرد الثاني بعد الإتيان بالفرد الأوّل بعنوان الوجوب، لا بعنوان بالرجاء، لما بيّنّاه من سقوط أمره وتحقّق امتثاله للواجب.

ص: 351


1- في الخبر المرويّ عن أبي بصير، وقد مرّ تخريجه آنفاً.
2- انظر: منتقى الاُصول 2: 15 _ 16.

فالحقّ: أنّ الامتثال عقيب الامتثال غير ممكن، وأنّ الصلاة الاُولى هي التي تكون مشتملة على المصلحة الملزمة فقط، وأمّا الثانية فهي مشتملة على مصلحة راجحة، ولا تقع على صفة الوجوب أصلاً، وليس معنى أنّ اﷲ تعالى يختار أحبّهما إليه، أنّه تعالى يجعله محقّقالامتثال دون العمل الآخر، بل بمعنى: أنّه يجعل أحدهما مقبولاً عنده، وقد عرفنا أنّ القبول شيء والسقوط شيء آخر، وكذلك فالقبول شيء والوقوع على صفة الوجوب شيء آخر، فإذا أتى بالصلاة منفرداً سقط التكليف والأمر، وأمّا الامتثال الثاني، فمستحبّ، ولا يقع على صفة الوجوب أصلاً.

وبعبارة أُخرى: فإنّ غاية ما يدلّ عليه «يختار اﷲ أحبّهما إليه» هو: أنّه تعالى يقبل أحدهما، والاختيار والقبول شيء والامتثال وسقوط الأمر شيء آخر، كما مرّ، فيكون الإتيان بالصلاة الأُولى علّة تامّة لحصول الغرض وسقوط الأمر.

وأمّا الكلام في المسألة الثانية: وهي إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراريّ عن الأمر الواقعيّ:

اشارة

فمثلاً: إذا كان مأموراً بالصلاة مع التيمّم، ثمّ ارتفع العذر فهل يجب عليه الإتيان بالصلاة مع الوضوء أم لا يجب بل يكون الإتيان بالصلاة مع التيمم مجزياً عنه؟

وبعبارة أُخرى: فهل يَثبت اقتضاؤه للإجزاء بالنسبة للإعادة عند زوال العذر في الوقت؟ أم أنّه يقتضي الإجزاء بالنسبة إلى القضاء خارج الوقت

ص: 352

عند استيعاب العذر لتمام الوقت وزواله بعد الوقت؟فمثلاً: لو تعذّر أحد أجزاء المأمور به أو شروطه، وأتى المكلّف بما هو فاقد القيد بعد تعلّق الأمر الاضطراريّ به، فهل يكون هذا الإتيان كافياً في مقام الامتثال، بحيث لا يجب الإعادة في الوقت ولا القضاء خارجه، بعد وجدان القيد، وبعد إمكان الإتيان به فيهما تامّ الأجزاء والشرائط؟ أم أنّه لا يكون كافياً كذلك؟

وبعبارة

أُخرى: يمكن أن يقال: بأنّ تعلّق الأمر الاضطراريّ وافٍ بتمام مصلحة الأمر الاختياريّ، وهذا القيد الذي سقط وجوبه بالتعذّر كالطهارة المائيّة، ليس ركناً لمصلحة الأمر بالصلاة، وإلّا، فلو كان ركناً، فمع عدم إمكانه، كيف يأمر المولى به، كما في الأمر بالطهارة الترابيّة؟! فإنّ أمره به _ حينئذٍ _ يكون أمراً بشيءٍ لا ملاك ولا مصلحة فيه، مع أنّ الأوامر _ كما هو الحقّ عند الإماميّة _ تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، فمن أمره بالصلاة مع الطهارة الترابيّة، ينكشف الإجزاء بالإتيان بها كذلك، وينكشف _ أيضاً _ بأنّه في حال تعذّر الطهارة المائيّة يكون المأمور به تامّ المصلحة.

وعليه: فلابدّ من القول بالإجزاء، كما عليه أكثر المحقّقين.

وقبل الدخول في صلب الموضوع، لابدّ من بيان أنّ موضوع الأمر الاضطراريّ لابدّ وأن يكون متحقّقاً في الواقع، أي: لابدّ من أن يكون للأمر الاضطراريّ ثبوت واقعيّ حين الإتيان بالعمل، وذلك كما لوأُخذ

ص: 353

في موضوعه الاضطرار آناً ما، فتحقّق كذلك، أو كان موضوعه الاضطرار المستمرّ إلى نهاية الوقت، فتحقّق كذلك أيضاً، فإنّه في كلا الحالين يكون للأمر الاضطراريّ ثبوت واقعيّ. وأمّا إذا لم يكن موضوعه متحقّقاً في الواقع، ولم يكن الأمر الاضطراريّ ثابتاً، كما إذا فرض تحقّق الموضوع بالوجدان أو بالاستصحاب _ بناءً على إمكان جريانه في مثل الفرض _، ثمّ انكشف الخلاف وعدم تحقّقه واقعاً، كما لو كان موضوع الأمر هو الاضطرار تمام الوقت، فتخيّل أنّه يستمرّ الاضطرار معه إلى نهاية الوقت، أو قلنا بصحّة إجراء الاستصحاب في أمر استقباليّ، فاستصحب بقاء الاضطرار إلى نهاية الوقت، فجاء بالعمل الاضطراريّ ثمّ انكشف الخلاف بارتفاع الاضطرار في أثناء الوقت.

والذي هو محلّ البحث هنا ليس هو هذا القسم من الاُمور الاضطراريّة؛ إذ لا مأمور بالأمر الاضطراريّ فيه؛ لعدم وجود الأمر الاضطراريّ أصلاً كي يقع الكلام في إجزائه، فالحكم في هذا الفرض إنّما هو حكم المأمور به بالأمر الظاهريّ، وإنّما المبحوث عنه هنا هو القسم الأوّل.

وإذا اتّضح ذلك، فالكلام في هذا البحث يقع في اُمور:

الأمر الأول:

أن يكون متعلّق الأمر الاضطراريّ وافياً بتمام الغرض ومصلحة الأمر الاختياريّ، ولو كان هذا الاضطرار بسوء اختياره، ويكون الاضطرار

ص: 354

_ كالاختيار _ من الصفات المنوّعة، كالقصر والإتمام وغيرهما ممّا يوجب تعدّد الموضوع، فالاضطرار والاختيار دخيلان في الموضوع والمصلحة، بل يجوز للمكلّف حينئذٍ _ بناءً على هذا الفرض _ أن يوقع نفسه في الاضطرار باختياره، لو فُرِض أنّ موضوع الاضطراريّ كان واقعاً في طول موضوع الاختياريّ؛ إذ ما دام وافياً بتمام الغرض، ولم يفت من المصلحة شيء، فيكون ذلك جائزاً.

بل يمكن أن يقال: بأنّ الأمر تعلّق بالجامع لمتعلّق الأمرين، ولكنّ فعليّة أثر كلّ منهما مختصّة بحالٍ من الأحوال، فبناءً على هذا: يجوز البدار بعد أن أحرز وفاء المأمور به الاضطراريّ بملاك الأمر الواقعيّ ولم يفت مصلحة الواقع، بل يكون راجحاً إذا أدرك فضيلة أوّل الوقت، ولا إشكال في الإجزاء؛ لأنّ الغرض حصل بتمامه وكماله، فسقط الأمر، ولا وجه _ حينئذٍ _ للإعادة في الوقت، ولا القضاء.

الأمر الثاني:

أن لا يكون الفعل الاضطراريّ وافياً بتمام مصلحة الفعل الاختياريّ، بل يبقى منه شيء، فحينئذ: إمّا أن يكون الباقي من المصلحة قابلاً للتدارك، وإمّا أن لا يكون كذلك.

وعلى الأوّل: فإمّا أن يكون بحيث يجب استيفاؤه، أو يكون استيفاؤه راجحاً فقط.

ص: 355

وقد تعرّض صاحب الكفاية(قدس سره) إلى بيان أنحاء ما يمكن أن يقع عليه المأمور به الاضطراريّ ثبوتاً، وأنّها أربعة، قال(قدس سره):

«تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلّم فيه: تارةً: في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراريّ من الأنحاء، وبيان ما هو قضيّة كلٍّ منها من الإجزاء وعدمه. وأُخرى: في تعيين ما وقع عليه. فاعلم: أنّه يمكن أن يكون التكليف الاضطراريّ في حال الاضطرار كالتكليف الاختياريّ في حال الاختيار وافياً بتمام المصلحة وكافياً فيما هو المهمّ والغرض، ويمكن أن لا يكون وافياً به كذلك، بل يبقى منه شي ء أمكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحبّ. ولا يخفى: أنّه إن كان وافياً به يجزي، فلا يبقى مجال أصلاً للتدارك، لا قضاءً، ولا إعادة، وكذا لو لم يكن وافياً ولكن لا يمكن تداركه، ولايكاد

يسوغ له البدار في هذه الصورة إلّا لمصلحةٍ كانت فيه، لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدارٍ من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الأهمّ، فافهم.

لا يقال: عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار، لإمكان استيفاء الغرض بالقضاء. فإنّه يقال: هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت. وأمّا تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصورة الاُولى فيدور مدار كون العمل بمجرّد الاضطرار مطلقاً، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طروّ الاختيار ذا مصلحة ووافياً بالغرض. وإن لم يكن وافياً وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقاً، و لو بالقضاء خارج الوقت، فإن كان الباقي

ص: 356

ممّا يجب تداركه فلا يجزي، بل لابدّ من إيجاب الإعادة أو القضاء، وإلّا، فيجزي. ولا مانع عن البدار في الصورتين، غاية الأمر: يتخيّر في الصورة الاُولى بين البدار والإتيان بعملين: العمل الاضطراريّ في هذا الحال، والعمل الاختياريّ بعد رفع الاضطرار، أو الانتظار والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار. وفي الصورة الثانية يُجزي البدار، ويستحبّ الإعادة بعد طروّ الاختيار. هذا كلّه فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراريّ من الأنحاء»(1).وملخّص ما أفاده(قدس سره): أنّ لدينا بحسب مقام الثبوت صوراً أربع: لأنّه:

إمّا أن يكون وافياً بملاك الأمر الواقعيّ بتمامه أو لا يكون وافياً به بتمامه. والثاني: إمّا أن يكون المقدار الباقي من المصلحة والملاك ممّا لا يمكن تداركه، أو يكون ممّا يمكن تداركه. والثاني: إمّا أن يكون ذلك المقدار مصلحة ملزمة، أو لا يكون كذلك، فالصور أربعة.

الاُولى: أن يكون وافياً بتمام ملاك الأمر الواقعيّ.

الثانية: أن يكون وافياً ببعض الملاك، ولكنّ المقدار الباقي ممّا لا يمكن تداركه.

الثالثة: أن يكون وافياً ببعض الملاك، وأمكن تدارك الباقي، وكان ملزماً.

ص: 357


1- كفاية الاُصول: ص 84 _ 85.

الرابعة: أن لا يكون المقدار الباقي الممكن تداركه ملزماً، بل بنحو يوجب الاستحباب.

أمّا الصورة الثالثة: _ وهي ما لو كان وافياً ببعض الملاك، وأمكن تدارك الباقي، وكان لازم الاستيفاء _ فلابدّ فيها من الإعادة، ويُلتزم فيها بعدم الإجزاء به.

وأمّا بالنسبة إلى البدار، فقد يقال: لا مانع منه؛ لأنّه لا يكون سبباً لتفويت مصلحة الواقع بعد فرض لزوم الإتيان بالفعل بعد ارتفاع العذر.وبعبارة أُخرى: فالمكلّف مخيّر بين البدار بأن يأتي بالفعل الاضطراريّ ثمّ بالفعل الاختياريّ بعد زوال العذر، وبين أن يؤخّر ويأتي بالفعل الاختياريّ فقط حين ارتفاع العذر؛ لأنّ المصلحة تُستوفى في الصورتين.

وقد يقال: بترجيح البدار إذا أراد أن يراعي مصلحة الوقت أيضاً.

وأمّا الصورة الرابعة: _ وهي ما لا يكون وافياً بتمام الغرض، وكان ممكن الاستيفاء، لكنّه غير لازم التدارك _:

فالحقّ

فيها هو الإجزاء، بعد أن لم تكن المصلحة الفائتة سبباً للأمر الإلزاميّ، نعم، تكون منشأ للأمر الاستحبابيّ. ولا إشكال في هذه الصورة في جواز البدار والاضطرار اختياراً، ولو مع العلم بزوال العذر؛ لأنّ ما يفوت من المصلحة بسببهما غير لازم التحصيل، فلا يكون ثمّة مانع من تفويته عقلاً. فيقال حينئذٍ: حكمه حكم استحباب الجمع، فيبادر بالعمل ثمّ يأتي به ثانياً، أو يؤخّر العمل ويأتي بالعمل الاختياريّ بعد زوال العذر.

ص: 358

ولكن يرد الإشكال على ما ذكره في هذه الصورة:

أوّلاً: أنّه من التخيير بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين، وهو _ كما قُرّر في محلّه _ محلّ إشكال.وثانياً: أنّ اللّازم حينئذٍ هو الإتيان بكلا العملين بعد أن فرض أنّ لكلّ منهما مصلحة، لا أن يكون مخيّراً بين وجوبهما أو وجوب الفعل التامّ بعد رفع الاضطرار تخييراً؛ إذ لا يكون هناك إلّا مصلحة واحدة، لا مصلحتان. وواضح أنّ التخيير إنّما يُتصوّر فيما لو كان إتيانه بأحد الفعلين كافياً له عن الإتيان بالثاني.

وهذا في محلّ البحث غير معقول؛ إذ بعد فرض أنّ الشارع لم يرفع اليد عن الفرد الاختياريّ، سواء كان قد أتى بالاضطراريّ أم لا، بل أوجب على المكلّف الإتيان به على كلّ من تقديري: الإتيان بالعمل الاضطراريّ الناقص في أوّل الوقت، وعدم الإتيان به، فلا معنى لإيجابه الفرد الناقص، فإذا كان المكلّف متمكّناً من الفرد الاختياريّ، وهو الصلاة مع الطهارة _ مثلاً _، فلا تصل النوبة إلى الطهارة الترابيّة، إذ يكون الأمر الثاني (الاضطراريّ) واقعاً في طول الأمر الأوّل (الاختياريّ)، فينتج عنه: عدم جواز البدار. وأمّا ما قلناه سابقاً من جواز البدار وعدمه، فإنّما هو من جهة النظر في نفس الشيء.

وأمّا افتراض جوازه بملاك آخر أجنبيّ عن ملاك الواقع، فهو فرض خارج عن محلّ البحث، ولا صلة له بمحلّ الكلام.

ص: 359

وأمّا افتراض وجود مصلحة في نفس البدار، ولأجل تلك المصلحة جاز البدار، فهو _ أيضاً _ فرض خارج عن محلّ البحث.وأمّا الصورة الثانية: _ وهي ما لو كان وافياً ببعض الغرض، ولكن كان المقدار الباقي ممّا لا يمكن تداركه _، فلا إشكال في الإجزاء فيها، لعدم وجود الأمر الواقعي بعد أن كانت المصلحة الفائتة غير ممكنة التدارك، فلا ينشأ عن هذه المصلحة أمر بالفعل؛ لعدم إمكان تحصيلها.

وأمّا الصورة الأُولى: فهي تقتضي الإجزاء بلا كلام؛ لحصول تمام ملاك الأمر الواقعيّ بالمأمور به الاضطراريّ، فلا مجال لوجود الأمر الواقعيّ حينئذٍ، وكذا لا إشكال في جواز البدار حقيقة وواقعاً، لعدم الفرق _ حينئذٍ _ بين الفرد الاضطراريّ والفرد الاختياريّ في الوفاء بالملاك والغرض أصلاً.

هذا توضيح ما ذكره صاحب الكفاية) في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات، فقد ذهب صاحب الكفاية أنّ لأدلّة الأمر الاضطراريّ إطلاقاً يُتمسّك به في المقام، وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره):

«وأمّا

ما وقع عليه: فظاهر إطلاق دليله، مثل قوله تعالى: ﴿فَلَمْ

تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً﴾(1)، وقوله(علیه السلام): (التراب أحد الطهورين)(2)،و(يكفيك

ص: 360


1- النساء: 43؛ والمائدة: 6.
2- انظر: وسائل الشيعة 3: 381، باب 21 من أبواب التيمّم، ح1، ولكنّه فيه بلفظ: «فإنّ التيمّم أحد الطهورين».

عشر سنين)(1)، هو الإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء، ولابدّ في إيجاب الإتيان به ثانياً من دلالة دليل بالخصوص. وبالجملة: فالمتّبع هو الإطلاق لو كان، وإلّا، فالأصل، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة، لكونه شكّاً في أصل التكليف، وكذا عن إيجاب القضاء بطريق أَوْلى. نعم، لو دلّ دليله على أنّ سببه فوت الواقع، ولو لم يكن هو فريضة، كان القضاء واجباً عليه لتحقّق سببه، وإن أتى بالغرض، لكنّه مجرّد الفرض»(2).

فلو تمّ ما ادّعاه(قدس سره) من الإطلاق، فيكون مجزياً لا محالة، ولا يجب معه القضاء ولا الإعادة، ولا يدلّ على وجوبه ثانياً من دليل.

وأمّا إن لم يكن هناك إطلاق، فالمرجع _ حينئذٍ _ إلى الأصل العمليّ، ولا يخفى: أنّ دليلي المبدل والبدل إمّا مطلقان، وإمّا مبهمان، وإمّا دليل البدل مبهم دون دليل المبدل، وإمّا بالعكس، فالصور أربع.

وإنّما يُرجع إلى الأصل في واحدة من هذه الصور الأربع، وهي ما إذا كان كلٌّ من دليلي البدل والمبدل مبهماً؛ لأنّ الدليل حينئذٍ يكون مفقوداً، لعدم إمكان التمسّك بكلّ منهما مع إبهامه.وأمّا إذا كان كلاهما مطلقاً، أو كان دليل المبدل مبهماً ودليل البدل مطلقاً، فيرجع إلى إطلاق دليل البدل، لحكومته على إطلاق دليل المبدل

ص: 361


1- وسائل الشيعة 3: 380، باب 20 من أبواب التيمّم، ح7، بلفظ: «يكفيك الصعيد عشر سنين».
2- كفاية الاُصول: ص 85 _ 86.

في الصورة الأُولى، وعدم مانع من الرجوع إليه في الصورة الأخيرة، وهي إبهام دليل المبدل وإطلاق دليل البدل، ضرورة أنّ دليل المبدل يكون ساقطاً عن الحجّيّة بعد فرض إبهامه، فيرجع إلى إطلاق دليل المبدل بلا مانع.

وأمّا لو كان كلّ منهما مبهماً، فلا يمكن التمسّك بهما كما ذكرنا، لعدم وجود الإطلاق فيهما، فتكون النتيجة بعد الرجوع إلى الأصل العمليّ هي: عدم الإعادة في الوقت والقضاء خارج الوقت.

ولكنّ الحقّ: هو التفصيل _ كما ذكره بعض المحقّقين(1) _ بين الإعادة والقضاء، بالرجوع إلى الأصل في الثاني دون الأوّل؛ إذ مع ارتفاع الاضطرار في الوقت، تجري قاعدة الاشتغال المقتضية لوجوب الإعادة، لكونه من صغريات التعيين والتخيير، حيث إنّ الصلاة مع الطهارة المائيّة _ مثلاً _ مفرّغة للذمّة قطعاً، بخلاف الصلاة مع الترابيّة، فإنّ مفرّغيّتها لها مشكوكة، فلا يكتفى بها عقلاً في مقام الامتثال.وأمّا الثاني، وهو زوال العذر خارج الوقت، فتجري البراءة في وجوب القضاء، للشكّ في تحقّق موضوعه، وهو فوت الفريضة في الوقت، حيث إنّ من المحتمل انقلاب الواقع إلى المأمور به الاضطراريّ، فلم يفت فريضة في الوقت حتى يجب قضاؤها، ومن المحتمل عدم انقلابه إليه،

ص: 362


1- انظر: منتهى الدراية 2: 36 _ 37.

فيصدق الفوت الموجب لقضائه، فيكون الشكّ حينئذٍ في التكليف، وهو مجرى البراءة.

نعم، في صورة ما لابدّ من القول بعدم الإجزاء والقضاء خارج الوقت، وهي ما إذا فرضنا أنّ الاضطرار كان من الأوصاف المنوّعة؛ فإنّه إذا كان كذلك، أوجب الاختلاف في الأحكام بالنسبة إلى محلّه، فيكون حاله حال السفر والحضر، وحينئذ: فلا معنى لسقوط واجب آخر بإتيان الواجب، ولا معنى للقول بالإجزاء عن الأمر المتعلّق بموضوع آخر.

هذا. ولكنّ القول بأنّ المقام يكون من قبيل السفر والحضر ضعيف.

وخلاصة البحث: في إجزاء الأمر الاضطراريّ عن الواقعيّ في بيان اُمور:

الأوّل: أنّه لابدّ في الأمر الاضطراريّ أن يكون مستوعباً لتمام الوقت، فلو لم يكن مستوعباً كذلك، مع أنّ المطلوب هو صرف الوجود في تمام الوقت المضروب له، لم يَصدق عليه أنّه مضطرّ؛ لأنّه قادر علىالإتيان به في بعض الوقت، ففي هذه الصورة: لا يجوز البدار مع علمه بارتفاع الاضطرار في وقتٍ ما؛ وذلك لأنّ جواز البدار منوط بالعلم بعدم ارتفاع العذر، إلّا إذا كان هناك دليل على الجواز _ كما ورد في باب التقيّة بأقسامها _ فيُتّبع، حتى بالنسبة إلى التقيّة المداراتيّة. والمُراد بالتقيّة المداراتيّة هو: الحثّ على مداراتهم بحضور جنائزهم وصلواتهم. وأمّا إذا دلّ دليل على الإجزاء في غير المستوعب أيضاً، فإنّه يكون مجزياً؛ لأنّ

ص: 363

مؤدّاه هو تنزيل البدل الاضطراريّ مقام الاختياريّ.

الثاني: أنّ الاضطرار لو كان سبباً للتنوّع، كالسفر والحضر، لكان الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ مجزياً.

الثالث: أنّ تشريع الحكم الاضطراريّ دليل على أنّ اشتمال متعلّق الأمر الاضطراريّ على مصلحة لازمة الاستيفاء في الوقت، وعدم الاهتمام بما يفوت في الوقت من مصلحة الشرط والجزء المضطرّ إلى تركه؛ إذ مع الاهتمام به لا وجه لتشريع الحكم الاضطراريّ المفوّت له، فلابدّ أنّ تكون المصلحة القائمة بالجزء أو الشرط المتروك اضطراراً ساقطة كخطابه، أو غير لازمة الاستيفاء، فوجوب الإتيان بالعمل الاختياريّ بعد الإتيان بالعمل الاضطراريّ محتاج إلى تشريعٍ ثانويّ،ولا يفي به تشريع المبدل أوّلاً؛ لأنّ الأمر بالجزء أو الشرط المضطرّ إلى تركه قد سقط، وليس هناك شيء يكون كاشفاً عن بقاء المصلحة.

اللّهمّ إلّا أن يدّعى: بأنّ دليل الجزء يكون كاشفاً عن الركنيّة، ففرض جزئيّته حينئذٍ، يكون كاشفاً عن ركنيّته.

وأمّا لو فُرِض أنّ متعلّق الأمر الاضطراريّ لم يكن وافياً بتمام الغرض، بل يكون وافياً بمرتبة منه، فيكون ملزماً مع مراعاة الوقت، فكان المقدار الفائت لازم الاستيفاء، فيشمله دليل: «من فاتته فريضة فليقضها كما

ص: 364

فاتته»(1)، وإن قلنا بأنّ المصلحة الملزمة الفائتة واجبة الاستيفاء.

ولكن قد ذكرنا بأنّ ما يجب امتثاله إنّما هو ما طلب تحصيله لأجل المصلحة.

وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) بقوله:

«وأمّا على الوجه الثاني؛ فلأنّه وإن فات من المكلّف مقدار من المصلحة، إلّا أنّ ذلك المقدار ممّا لا يمكن استيفاؤه؛ لأنّ استيفاءه إنّما يكون في طيّ استيفاء المصلحة الصلاتيّة وفي ضمنه، والمفروض: أنّ المكلّف قد استوفى المصلحة الصلاتيّة في ضمنالطهارة

الترابيّة، فلا يمكنه استيفاء مصلحة الطهارة المائيّة؛ إذ ليست مصلحتها قائمة بنفسها، بل في ضمن الصلاة، مع أنّ القضاء لا يدور مدار فوت المصلحة، بل يدور مدار فوت المكلّف به، والمفروض أنّه قد أتى به في وقته، فلا يمكن قضاؤه»(2).

وتوضيحه: أنّ الفاقد _ على فرض عدم وفائه بتمام مصلحة الواجد، وفوت مقدار منها _ لا يلزم إعادته؛ لأنّه لا يمكن استيفاء ذلك المقدار؛ لعدم إمكان تحصيلها منفرداً؛ لأنّ حصولها لابدّ وأن يكون في ضمن مصلحة أصل المأمور به، والمفروض: أنّ أصل مصلحة المأمور به قد

ص: 365


1- عوالي اللآلي 2: 54، ح143.
2- فوائد الاُصول 1: 245.

حصل، وتحصيل الحاصل محال.

فيرد عليه: أنّه ولو لم يكن واجباً استيفاؤه منفرداً، إلّا أنّه يمكن في ضمن أصل العمل، وتكرار العمل يكون _ حينئذٍ _ من باب المقدّمة لحصول المقدار الفائت، والمقدور بالواسطة مقدور.

نعم، لو دلّ دليل على عدم جواز تكرار أصل العمل، فكلامه تامّ حينئذٍ، ولكنّ هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام.

الرابع: لو فُرِض أنّ الجزء له ملاك في الواقع، ولكن ما دام الشارع لم يطلبه، فهو غير واجب الاستيفاء، فالعقل إنّما يحكم بحسن إطاعة العبدوامتثاله فيما أمر المولى به، والغرض والمصلحة ليسا هما ما حكم الشارع بهما. نعم، إذا انكشف من الخارج أنّ الملاك موجود، وأنّ المولى يريده، ولكن لم يكن قادراً على إنشاء الحكم به لجهة وجود مانع خارجيّ، فحينئذ: يجب عليه الامتثال بعد رفع المانع، لكي يحصل على ما يريده المولى.

الخامس: أنّ دليل الاضطرار في عمومه وخصوصه هو كدليلي الضرر والحرج، من الأدلّة الواقعيّة النافية للحكم، فيكون رافعاً للحكم المتعلّق بالجزء أو الشرط، بلا فرق بين أن تكون القدرة شرطاً للملاك والخطاب معاً أم شرطاً للخطاب فقط.

السادس: بعد أن عرفنا حكومة دليل الأمر الاضطراريّ، ينكشف لنا أنّ الإتيان بالمأمور به بهذا الأمر الاضطراريّ يكون هو تمام الوظيفة.

ص: 366

وأمّا الكلام في المسألة الثالثة: وهي إجزاء المأمور به بالأمر الظاهريّ عن المأمور به بالأمر الواقعيّ:

لا يخفى: أنّ المُراد من الحكم الواقعي هو ما يستنبطه المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة.فإذا قلنا: بأنّ الأمارات تكون حجّة من باب الطريقيّة المحضة، كانت من الأدلّة الاجتهاديّة، وكان الحكم المأخوذ منها حكماً واقعيّاً، بخلاف الحكم في مورد الاُصول، فإنّه يكون ظاهريّاً، فيكون الفرق بينهما ظاهراً.

وأمّا إذا قلنا بجعل الحكم في مورد الأمارات، وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فهو حكم ظاهريّ، كما أنّ ما يستنبط من الاُصول العمليّة يكون حكماً ظاهريّاً، فحينئذٍ: يكون بينهما اشتراك في جهة، وهي: عدم إجزائهما عن الواقع لو انكشف الخلاف، ولكن يختلفان: في أنّ الأوّل يستخرج من الأمارات، والثاني من الاُصول.

والكلام في هذه المسألة إنّما هو في إجزاء المأمور به بالأمر الظاهريّ عن المأمور به بالأمر الواقعيّ لو انكشف الخلاف، كما لو قام أصل أو أمارة على عدم وجوب السورة، فأتى بالصلاة بلا سورة، وانكشف له لاحقاً أنّ الإتيان بالسورة كان واجباً، فهل تكون هذه الصلاة التي جيء بها بدون السورة مجزية عن الواقع أم لا؟

ولا يخفى: أنّ انكشاف الخلاف تارةً يكون قطعيّاً، وأُخرى يكون

ص: 367

ظنّيّاً، بالظنّ المُعتَبر أو بمطلق الحجّة المعتبرة شرعاً.

والكلام فيها يقع في صور ثلاث:

الصورة الأُولى: أن يكون المأمور به بالأمر الظاهريّ مفاد القطع.والصورة الثانية: أن يكون المأمور به بالأمر الظاهريّ مفاد الأمارات.

والصورة الثالثة: أن يكون المأمور به بالأمر الظاهريّ مفاد الاُصول العمليّة.

وقبل الخوض في محلّ الكلام لابدّ من التنبيه على ما هو موضوع البحث هنا، فنقول:

إنّما يأتي بحث الإجزاء فيما إذا كان للحكم الظاهريّ ثبوت واقعيّ انقطع بانكشاف الواقع وانتهى أمده بمعرفة الواقع، وامّا إذا لم يكن له ثبوت واقعيّ، بل كان له وجود تخيّليّ يتّضح انتفاؤه من أوّل الأمر بانكشاف الواقع، بل في الواقع، لم تقم حجّة واقعيّة في حقّه، بل تخيّل أنّه حجّة، وفي الواقع لم يكن إلّا جهلاً مركّباً، فهذا يكون خارجاً عن محلّ البحث؛ إذ لم يثبت الحكم الظاهريّ في حقّ الجاهل جهلاً مركّباً وإن كان معذوراً حين العمل لجهله المركّب، وهو لا يستلزم ثبوت الحكم الظاهريّ، ومعه: فلا تصل النوبة إلى الحديث عن أنّ هذا الحكم الظاهريّ المتخيّل هل يكون مجزياً عن الحكم الواقعيّ أم لا؟

وفي هذا يقول صاحب الكفاية(قدس سره):«ولا ينبغي توهّم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ؛ فإنّه لا

ص: 368

يكون موافقة للأمر فيها، وبقي الأمر بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن يخفى»(1).

ولا يخفى: أنّ تبدّل رأي المجتهد وانكشاف كون الحكم الواقعيّ خلاف ما كان يرتئيه أوّلاً، تارةً يتصوّر بالنسبة إلى عمل نفسه، وأُخرى بالنسبة إلى مقلّديه.

أمّا بالنسبة إلى عمل نفسه، فهذا لا يدخل في موضوع البحث؛ لأنّ الحكم الظاهريّ الثابت في نظره أوّلاً بواسطة الاستناد إلى حجّة حكم تخيّليّ، ثمّ بعد العمل به انكشف أنّه قد اشتبه في استفادة الحكم المزبور؛ إمّا لاشتباهه في دلالة الدليل، فكان يتخيّل ظهوره في شيء، ثمّ يظهر له أنّه ظاهر في غيره، أو من جهة الخطأ في سند الدليل بتخيّله أنّ المخبر ثقة فانكشف خلافه.

وبعبارة أُخرى: فإنّه بالنسبة إلى عمل المجتهد نفسه، فليس للحكم الظاهريّ المتخيّل الذي عمل به وجود واقعي في حقّه؛ لأنّه لم يكن مستند هذا الحكم إلى حجّة، وإذ لم ينشأ الحكم عن قيام الحجّة، كان حكماً تخيّليّاً انكشف عدمه من أوّل الأمر بانكشاف عدم حجّيّة مااستند إليه في مقام الحكم، فلا يَصدق عليه الحكم الظاهريّ، فلو قلنا بإجزاء الحكم الظاهريّ عن الواقعيّ، فهو لا يشمل هذا الفرد قطعاً.

ص: 369


1- كفاية الاُصول: ص 88.

نعم، يتأتّى بحث الإجزاء في الفرض بالنسبة إلى عمل مقلّديه، بعدما كان قول المجتهد بالنسبة إليه حجّة واقعاً، فيكون الحكم الأوّل ثابتاً عليهم في مرحلة الظاهر واقعاً، وهو وإن كان قد ارتفع بالحكم الثاني المستنبط أخيراً، إلّا أنّه ارتفع من حين حصول الرأي الثاني، لا من أوّل الأمر.

فتحصّل: أنّه يُشكل الإجزاء بالنسبة إلى عمل نفسه، وأمّا بالنسبة إلى عمل مقلّديه فيتأتّى البحث بالإجزاء وعدمه؛ لأنّ قول المجتهد حجّة للمقلّد، فالحكم يكون ثابتاً من الأوّل في حقّهم، أي: مرحلة الظاهر واقعاً، فارتفاع الحكم الأوّل بالحكم المستنبط أخيراً كان من حين الرأي الثاني، لا من أوّل الأمر.

وملخّص القول: أنّه لا وجود للحكم الظاهريّ في صورة القطع بالواقع، إذا كان هذا القطع من قبيل الجهل المركّب، وإذا لم يكن هناك من حكم ظاهريّ، فمن الواضح: أنّه لا يتأتّى فيه البحث أصلاً في أنّه هل يكون مجزياً عن الواقع أم لا؟

وإنّما يبحث فيما إذا كان للحكم الظاهريّ ثبوت واقعيّ في زمان محدود يتحدّد بانكشاف الخلاف، بحيث يكون انكشاف الخلاف رافعاًللحكم الظاهريّ من حينه، لا من أوّل الأمر، فهو لا يكشف عن عدم ثبوت الحكم الظاهريّ، بل يكون رافعاً له.

وأمّا المأتيّ به بالأمر الظاهريّ الشرعيّ، فهو تارةً يكون كاشفاً عن

ص: 370

الخلاف القطعيّ، كما إذا قام خبر الواحد على عدم وجوب السورة في الصلاة، فأفتى به المجتهد، وعمل هو ومقلّدوه عليه مدّة من الزمن، ثمّ بعد ذلك عثر على خبر متواتر قطعيّ يدلّ على وجوب السورة، ففي مثل هذه الصورة:

الحقّ عدم الإجزاء، سواء كان بالنسبة إلى الإعادة أو بالنسبة إلى القضاء، إلّا إذا كان مؤدّى دليله هو جعل الحكم وإنشاؤه، كإنشاء الحلّيّة والطهارة. فإنّه في هذا الفرض، لا يمكن أن نلتزم بالإجزاء إلّا بعد الالتزام بحدوث مصلحة في متعلّق الأمارة عند قيامها على الخلاف، وهذا، كما ترى، عين القول بالتصويب.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية(قدس سره) التزم بعدم الإجزاء في موارد الأمارات الجارية في تنقيح ما هو الموضوع أو المتعلّق بناءً على الطريقيّة، وبالإجزاء بناءً على السببيّة.

وأمّا الاُصول والأمارات الجارية في نفس الأحكام الشرعيّة، فقد التزم بعدم الإجزاء في مواردها مطلقاً، قيل بالطريقيّة أو السببيّة.

وإليك نصّ كلامه« _ ننقله بطوله لما فيه من الفائدة _:«والتحقيق: أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه، وكان بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره، كقاعدة الطهارة أو الحلّيّة، بل واستصحابهما في وجه قويّ، ونحوها، بالنسبة إلى كلّ ما اشترط بالطهارة أو الحلّيّة، يجزي؛ فإنّ دليله يكون حاكماً

ص: 371

على دليل الاشتراط ومبيّناً لدائرة الشرط، وأنّه أعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل. وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنّه ما هو الشرط واقعاً، كما هو لسان الأمارات، فلا يجزي، فإنّ دليل حجّيّته حيث كان بلسان أنّه واجد لما هو شرطه الواقعيّ، فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقداً. هذا على ما هو الأظهر الأقوى في الطرق والأمارات من أنّ حجّيّتها ليست بنحو السببيّة، وأمّا بناءً عليها، وأنّ العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره يصير حقيقةً صحيحاً كأنّه واجد له، مع كونه فاقده، فيجزي لو كان الفاقد معه _ في هذا الحال _ كالواجد في كونه وافياً بتمام الغرض، ولا يجزي لو لم يكن كذلك، ويجب الإتيان بالواجد لاستيفاء الباقي، إن وجب، وإلّا، لاستحبّ. هذا مع إمكان استيفائه، وإلّا فلا مجال لإتيانه كما عرفت في الأمر الاضطراريّ. ولا يخفى: أنّ قضيّة إطلاق دليل الحجّيّة _ على هذا_ هو الاجتزاء بموافقته أيضاً، هذا فيما إذا أحرز أنّ الحجّيّة بنحو الكشف والطريقيّة، أو بنحو الموضوعيّة والسببيّة. وأمّا إذا شك فيها ولم يحرز أنّها على أيّ الوجهين، فأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة في الوقت، واستصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليّاً في الوقت لا يُجدي، ولا يُثبت كون ما أتى به مسقطاً إلّا على القول بالأصل المثبت، وقد علم اشتغال ذمّته بما يشكّ

ص: 372

في فراغها عنه بذلك المأتيّ.

وهذا بخلاف ما إذا علم أنّه مأمور به واقعاً وشكّ في أنّه يُجزي عمّا هو المأمور به الواقعيّ الأوّليّ، كما في الأوامر الاضطراريّة أو الظاهريّة، بناءً على أن يكون الحجّيّة على نحو السببيّة، فقضيّة الأصل فيها، كما أشرنا إليه، عدم وجوب الإعادة، للإتيان بما اشتغلت به الذمّة يقيناً، وأصالة عدم فعليّة التكليف الواقعيّ بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف.

وأمّا القضاء، فلا يجب، بناءً على أنّه فرض جديد، وكان الفوت المعلّق عليه وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الإتيان، إلّا على القول بالأصل المثبت، وإلّا فهو واجب كما لا يخفى على المتأمل، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّ هذا كلّه فيما يجري في متعلّق التكاليف، من الأمارات الشرعيّة والاُصول العمليّة، وأمّا ما يجري في إثبات أصل التكليف،كما

إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها، فلا وجه لإجزائها مطلقاً. غاية الأمر: أن تصير صلاة الجمعة فيها أيضاً ذات مصلحة لذلك، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة كما لا يخفى، إلّا أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد»(1).

ص: 373


1- كفاية الاُصول: ص 86 _ 87.

وبالجملة: فليس مفاد الأمارة إلّا الحكاية عن الواقع، أو المنجّزيّة والمعذّريّة، فالمجعول فيها ليس إلّا الطريقيّة، من دون أن توجب حدوث مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، بل المتعلّق باقٍ على ما كان عليه قبل قيام الأمارة، ولم يكن ما دلّت عليه الأمارة إلّا السراب؛ إذ _ كما ذكرنا مراراً _ ليس لنا أمر ظاهريّ، بل ظاهر الحكم وإتيانه بهذا العمل الذي هو مؤدّى الأمارة لا يُفيد، لكونه لم يأتِ بالمأمور به الواقعيّ.

وفي الواقع: فإنّ حال الأمارات ليس إلّا كحال العلم، وإنّما الفرق بينهما أنّ حجّيّة العلم ذاتيّة له، وحجّيّة الأمارة إنّما تثبت لها بالجعل، ولكن في كلتا الحالتين: فلو انكشف الخلاف، فلا يكون مجزياً، حتىعلى القول بالمصلحة السلوكيّة، ولو كان نوعاً من التصويب أيضاً، ولكن، ومع ذلك، فلا يمكن القول بالإجزاء؛ إذ حتى بناءً على ذلك، فليس المراد أنّها توجب حدوث مصلحة في المتعلّق، فلا تكون مفيدة للإجزاء عند كشف الخلاف.

ولك

أن تقول: إنّ حجّيّة الأمارات إمّا أن تكون على نحو الطريقيّة، وامّا أن تكون على نحو السببيّة. وعلى السببيّة، فإمّا أن تكون المصلحة في المتعلّق أو السلوك أو الحكم. وإن كانت على نحو الطريقيّة، بأن تكون طريقاً إلى الحكم أو إلى موضوع الحكم، فإنّ معنى الطريقيّة أنّه لابدّ من الإتيان بالعمل الواقعيّ، والمطلوب إنّما هو حصول المصلحة الواقعيّة، فعلى تقدير خطأ الأمارات وانكشاف الخلاف، لم يكن قد أتى بما هو

ص: 374

المطلوب منه، ولم يكن ممتثلاً للتكليف المتوجّه إليه، فلو فُرِض أنّه كان في الواقع مكلّفاً بصلاة الظهر في يوم الجمعة، فأتى بالجمعة، ثمّ انكشف له الخلاف، فالذي كان عليه واجباً في الواقع هو الظهر، فلم يكن المكلّف في هذه الحالة ممتثلاً للتكليف المتوجّه إليه في الواقع، فكان ما أتى به سراباً، ولم يكن ماءً، مع أنّ المطلوب منه هو إتيان الماء. فلو قامت الأمارة المعتبرة على وجوب شيء، ثمّ انكشف الخلاف، لم يكن مجزياً.فإن قلت: بناءً على المعنى الآخر للطريقيّة _ وهو أنّ لسان الحجّيّة في الأمارات هو لسان تنزيل المؤدّى منزلة الواقع _ نستكشف: أنّ مصلحة الجعل تكون وافيةً بمصلحة الواقع، فيقال _ حينئذٍ _ بالإجزاء. نعم، إذا كان الجعل بلسان تتميم الكشف، أو وجوب العمل على طبق المؤدّى، فلا يكون مجزياً حينئذٍ؛ لأنّ معنى الجعل هو أن يكون الشيء ذا مصلحة، بحيث يكشف عن أنّ تلك المصلحة تكون وافيةً بمصلحة الواقع.

قلت: الصحيح في الفرض المذكور هو القول بعدم الإجزاء؛ إذ حتى لو فُرِض في الأمارة مصلحة، ولكنّ جعل تلك المصلحة لم يكن إلّا من باب التسهيل على المكلّفين، وبين المصلحتين _ أعني: مصلحة التسهيل ومصلحة الحكم الواقعيّ _ مباينة، ومعه: فكيف يتصوّر أن تفي إحداهما عن الأُخرى؟ هذا أوّلاً.

وثانياً: إنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع يكون نظير خطاب المولى للمكلّف بالعمل على طبق الواقع، فكما أنّ التعبّد بالعمل على طبق

ص: 375

المؤدّى لا يستلزم أن يكون العمل ذا مصلحة تكون وافية بمصلحة الواقع عند الفوت، فكذلك المصلحة في تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، لا يلزم أن تكون وافية أيضاً.وبعبارة أُخرى: فإنّ الأمارات إن كانت حجّة من باب تتميم الكشف، وجعل ما فيها من الكشف الناقص بمنزلة الكشف التامّ بواسطة الاعتبار، فعند قيام الأمارة لم تحدث في المتعلّق مصلحة من طرفها، وليس هناك من جعل شرعيّ في البين، فيكون حال الأمارات عين حال القطع، فكما أنّه بواسطة قيام القطع لا تحدث مصلحة في المتعلّق حتى نقول بإجزائه، حيث لم يكن هناك جعل من الشارع، فلم يكن هناك وجه للقول بالإجزاء، فكذلك بالنسبة إلى قيام الأمارات والاُصول مطلقاً، سواء كانت تنزيليّة أم غيرها.

وحيث لم يكن هناك مصلحة في المتعلّق ولا جعل، فيكون حال الأمارات والاُصول حال القطع عند انكشاف الخطأ، بلا فرق بين أن تكون الأمارات قائمة على الحكم الشرعيّ، وضعيّاً كان أو تكليفيّاً، أو على موضوع حكم شرعيّ؛ إذ لو قامت الأمارة على موضوع ما، واعتبره الشارع موضوعاً لحكم شرعيّ، أو على موضوع خارجيّ كان ذا حكم شرعيّ، فحالها _ إذ ذاك _ حال الحكم الشرعيّ في عدم الإجزاء؛ لعدم جعل شرعيّ هناك من قبل الشارع، وعدم تغيّر الموضوع الخارجيّ عمّا هو عليه بواسطة الأمارة.

ص: 376

ثمّ إنّه قد يقال بالإجزاء في الأمارات التي تجري في الموضوعات؛ لحكومة دليل حجّيّة الأمارة على ما دلّ على اعتبارالموضوعات الواقعيّة، فالشيء الفلاني ولو كان بحقيقته الواقعيّة جزءاً، إلّا أنّ دليل حجّيّة الأمارة، بما أنّه كان حاكماً، فيكون سبباً في التوسعة في الجزء والشرط، فيترتّب على ذلك: أن يكون المراد من الجزء والشرط ما هو أعمّ من الجزء والشرط الواقعيّ. فالوضوء الذي قامت الأمارة على طهارة مائه مثلاً، يكون _ بناءً عليه _ واجداً لشرائط الوضوء الواقعيّ، فيكون انكشاف الخلاف موجباً لارتفاع الموضوع.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا إجزاء، وليس هناك ارتفاع للموضوع أصلاً، وبما أنّ جعل الأمارة هو من باب الطريقيّة، فلا يكون سبباً لتغيّر الموضوع الواقعيّ عمّا كان عليه.

فلو فُرِض أنّ موضوع الوضوء كان هو الماء، ودلّت الأمارة على أنّ المائع الفلاني ماء، فبقيام الأمارة على ذلك المائع الذي هو ماء الرمّان أو الزبيب _ مثلاً _ لا يصبح هذا المائع ماءً، لا حقيقةً، كما هو واضح، ولا تنزيلاً؛ لأنّ هذا التنزيل لم يدلّ على أكثر من ترتيب الآثار الواقعيّة على مؤدّى الأمارة. ولا دلالة له على أنّ العمل على طبق الأمارة يكون سبباً لحدوث مصلحة له تفي بمصلحة الواقع حتى في حال الشكّ.

نعم، لو ثبت هذا التنزيل وقلنا بالسببيّة والموضوعيّة في الأمارات التي قامت على الموضوعات، فنلتزم بالإجزاء، وكذا نلتزم بأنّالتصويب

ص: 377

المجمع على بطلانه هو التصويب في الأحكام، لا الموضوعات، ولكن أنّى لهذا القول أن يكون صحيحاً مع ما نراه من أنّ لسان أدلّة حجّيّة الأمارات في الأحكام والموضوعات ليس إلّا التسهيل، ومصلحة التسهيل _ كما عرفت _ مباينة لمصلحة الواقع، فلا تفي بها.

هذا كلّه بناءً على الطريقيّة.

وأمّا بناءً على السببيّة، فهل يجزي عن الواقع مطلقاً، سواء كان مؤدّى الأمارة حكماً أو موضوعاً أم لا يجزي عنه؟

فنقول: إنّ السببيّة والموضوعيّة على أقسام أربعة:

الأوّل: وهو كون الأحكام الواقعيّة تابعة لآراء المجتهدين، وليس هناك في الواقع أحكام واقعيّة محفوظة بحيث قد يصيبها المجتهد ويصل إليها بتوسّط الأمارات والأدلّة، وقد يخطئ، بل إذا تبدّل رأيه إلى رأي آخر كان من باب تبدّل الموضوع؛، لانقلاب الحكم بانقلابه، ولا يُعقَل انكشاف الخلاف أصلاً؛ لأنّ ما هو الواقع إنّما هو ما توصّل إليه برأيه، وليس وراء رأيه شيء. وهذا هو التصويب الأشعريّ، وهو باطل شرعاً وعقلاً؛ إذ هو محال مجمع على بطلانه.

والثاني: أن تحدث في مؤدّى الأمارات والاُصول _ بواسطة قيامهما على الحكم الشرعيّ _ مصلحة أو مفسدة تكون غالبة على مصلحة الواقع أو مفسدته، فيكون الحكم مجعولاً على طبقهما دون الواقع،فيكون الحكم الواقعيّ الفعليّ هو مؤدّى الأمارات والاُصول، ويبقى الحكم

ص: 378

الواقعيّ الأصليّ في مرتبة الشأن، وهذا هو التصويب المعتزليّ، وليس بمحال، ولكنّ الإجماع من الطائفة منعقد على خلافه، وإن كان يظهر من كلام شيخ الطائفة(قدس سره) وبعضٍ آخر تصديق هذا القسم من التصويب(1).

والثالث: وهو من التصويب أيضاً، بمعنى القول بالمصلحة السلوكيّة، أي: بأنّ المصلحة تكون في السلوك، وهذا _ أيضاً _ باطل وتصويب؛ لاستلزامه اجتماع المصلحتين المتضادّتين، كما سنذكره في محلّه، إن شاء اﷲ تعالى.

والرابع: ما ورد عن المحقق العراقيّ(قدس سره)(2) من أنّ المتعلّقات وموضوعات الأحكام لها مصالح ومفاسد في الرتبة السابقة على الجهل بتلك الأحكام، وهي مناطات الأحكام الواقعيّة، ولها _ أيضاً _ مصالح ومفاسد في الرتبة المتأخّرة عن الجهل بها، وهي مناطات الأحكام الظاهريّة.وقد يُتوهّم أنّ هذا القسم الرابع هو نفس القسم الثاني المتقدّم، ولكنّ الصحيح أنّ بينهما فرقاً؛ إذ في القسم الثاني _ كما مرّ _ تتبدّل المصالح والمفاسد الواقعيّة، فلا تقتضي جعلاً على طبقها، فليس في البين إلّا تلك الأحكام الظاهريّة. وأمّا في هذا القسم، فلكلّ متعلّق وموضوع جُعِل حكمان: واقعيّ وظاهريّ، ولا تناقض في البين؛ لاختلاف رتبة هذين

ص: 379


1- نقله اُستاذنا المحقّق¨ في منتهى الاُصول 2: 591.
2- انظر: نهاية الأفكار 1: 244 _ 245.

الحكمين، فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة _ مثلاً _ وفرضنا أنّ الواجب في الواقع هو صلاة الظهر، فلم توجب الأمارة تغييراً للواقع ولا انقلاباً له، ولم تؤدّ إلى جعل غير الواجب واجباً، بل إنّما تكون الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في السلوك ويتدارك ما فات من مصلحة الواقع، ومعنى اختلاف الرتبة: أنّه لا الحكم الواقعيّ ينزل إلى مرتبة الظاهريّ، ولا الحكم الظاهريّ يصعد إلى رتبة الحكم الواقعيّ، بل كلّ واحد منهما يقف على موضوعه.

ولكنّ هذا أيضاً من التصويب الباطل؛ لما يأتي في مبحث الجمع بين الحكمين الظاهريّ والواقعيّ، حيث نقول: بأنّ الحكم الظاهريّ ولو لم يصعد إلى رتبة الحكم الواقعيّ، ولكنّ الحكم الواقعيّ بإطلاقه يشمل حتى هذه المرتبة ويكون ناظراً إليه، فيحصل اجتماع الضدّين.

فظهر مما ذكرنا: أنّ التصويب يأتي في جميع هذه الأقسام، وهو باطل إمّا عقلاً وإمّا إجماعاً وإمّا حقيقةً.وإذا عرفت ذلك، نقول:

أمّا على القول الأوّل: وهو القول بأنّ الحكم ينحصر في مؤدّى الأمارة، أو أنّ الحكم الواقعيّ ينقلب بعد قيام الأمارة إلى ما هو مؤدى الأمارة، فلا شكّ في أنّه _ بناءً على صحّة هذا القول _ يكون مجزياً، فلا يحتاج إلى القضاء ولا إلى الإعادة.

وأمّا على القول الثاني: وهو أنّ قيام الأمارة يوجب حدوث مصلحة

ص: 380

في مؤدّاها تجبر ما فات من مصلحة الواقع، كمن صلّى أوّل الوقت، أو مصلحة تمام الواقع مع انكشاف الخلاف، في آخر الوقت أو خارجه، فإن قلنا بأنّ الصلاة _ مثلاً _ مشروطة بالطهارة المائيّة، وعلم بأنّ الماء كان نجساً، إمّا في داخل الوقت، أي: في الشق الأخير من الوقت، أو في خارجه، فلا شكّ في الإجزاء حينئذٍ أيضاً.

وأمّا على القول الثالث: وهو أنّ قيام الأمارة على شيء يكون موجباً لحدوث مصلحة تكون غالبة على مصلحة الواقع، كما إذا قامت الأمارة على طهارة ماء، وكان في الواقع نجساً، فتوضّأ به المكلّف وصلّى، فبقيام هذه الأمارة تحدث في الوضوء مصلحة تكون غالبة على الإتيان بالوضوء بالماء الطاهر، وهذا النوع من السببيّة وإن لم يكن من التصويب المجمع على بطلانه أو الفاسد، عقلاً أو شرعاً، ولكنّه على خلاف ظاهر الأدلّة.وأمّا على القول الرابع: وهو أن تكون المصلحة في نفس الأخذ بالشيء _ كما مرّ _، أي: في السلوك، لا المتعلّق، وهذه المصلحة السلوكيّة تحافظ على الواقع باقياً على حاله في صورتي الخطأ والإصابة.

غاية الأمر: أنّه في صورة الخطأ يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع بسبب سلوك الأمارة، أي: بمقدار ما فات منه، وبسبب مخالفتها للواقع، فيجب عليه تدارك ما بقي عند انكشاف الخلاف؛ فلو أفتى بوجوب القصر في مكان عملاً بأمارة وردت بذلك، وكان في الواقع يجب عليه الإتمام، ثمّ انكشف له خطأ الأمارة، فحينئذ: إذا كان الانكشاف في

ص: 381

الوقت، وجبت الإعادة لإحراز المصلحة الواقعيّة والوقتيّة، حتى وإن كانت المصلحة الوقتيّة الفائتة متداركة بسلوكه الأمارة؛ فالقول بالسببيّة بهذا المعنى هو عين القول بالطريقيّة.

وأمّا بالنسبة إلى القضاء، فلا، بل هو مقتضٍ للإجزاء، ولا تجب عليه الإعادة؛ لأنّ سلوك الأمارة في مجموع الوقت إذا فرض وفاؤه بمصلحة الصلاة في الوقت _ كما هو مقتضى القول بالسببيّة _ كان ذلك موجباً للإجزاء، كما إذ لم ينكشف الخلاف أصلاً، وكانت مصلحة الصلاة الفائتة متداركة بسبب سلوك الأمارة، فحينئذٍ: لا شيء على المكلّف أصلاً.ولا

يخفى: أنّ هذا النوع _ أيضاً _ من التصويب، كما سبق، لتأديته إلى رجوع الواجب التعيينيّ إلى التخييريّ؛ إذ بناءً عليه: فإنّ مصلحة صلاة الظهر _ مثلاً _ في وقتها الواقعيّ تكون قائمةً بأحد الشيئين: إمّا بصلاة الجمعة، أو بما كان مؤدّى للأمارة، فيما لو لم ينكشف الخلاف في الوقت. ولا يخفى: أنّ انقلاب التعيينيّ إلى التخييريّ نوع من التصويب.

وعلى أيّ حال، فغاية ما يمكن أن يتصوّر في الإجزاء _ بناءً على القول بالسببيّة _ هو: أن يكون في المتعلّق مصلحة مسانخة لمصلحة الواقع، بحيث لا تبقى للواقع مصلحة بعد قيامها، أو يكون وافياً بمصلحته عند فوتها.

ص: 382

وأمّا ما التزم به في الكفاية من القول بالإجزاء في مورد الأمارة الجارية في تحقيق الموضوع أو المتعلّق بناءً على السببيّة، فقد بيّنه بما حاصله:

بأنّه حيث يكون مؤدّى الأمارة بقيام الأمارة ذا مصلحة واقعيّة، فيتأتّى فيه الاحتمالات الثبوتيّة المتأتيّة في المأمور به الاضطراريّ من أنّ المصلحة إمّا أن تكون وافية بتمام مصلحة الواقع أو بعضها، ولم يمكن تدارك الباقي، أو أمكن، وكان لازم التدارك، أو غير لازم التدارك، وقد تقدّم أنّ جميع الاحتمالات الثبوتيّة _ غير الاحتمال الثالث _ ملازمللإجزاء، كما عرفت أنّ مقتضى الإطلاق نفي الاحتمال الثالث المستلزم لثبوت الإجزاء(1).

وقد مرّ شرح هذه الاحتمالات آنفاً عند الحديث عن إجزاء الإتيان المأمور به بالأمر الاضطراريّ.

ولكن قد أُورد عليه: بأنّ هذا إنّما يتم بناءً على السببيّة التي يلتزم بها المصوّبة وأهل الخلاف، دون التي يلتزم بها أهل الحقّ المخطّئة(2).

وأمّا في صورة الشكّ في أنّه هل هذا يكون على نحو الاستيفاء التامّ، أي: أنّ ما دلّت عليه الأمارة بعد الإتيان بالمتعلّق يكون مجزياً عن تمام الواقع، فهل يمكن التمسّك بالإطلاق أم لا؟ فنقول:

أمّا الإطلاق اللفظيّ، فغير ممكن؛ لأنّ التغيير غير ممكن، إذ كما يمكن

ص: 383


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 86، وقد نقلنا نصّ كلامه هذا سابقاً.
2- راجع: أجود التقريرات 1: 202، وفوائد الاُصول 1: 255.

في صورة العلم أن يقول المولى: اعمل بالأمارة، أو: اعمل على طبق الواقع، أو اعمل بهما جميعاً، إلّا أنّه في حالة الجهل لا يمكن أخذ القيد وعدله، ومعه: فكيف يصحّ لنا أن نتمسّك بالإطلاق وأن نقول بكفاية العمل بمؤدّى الأمارة وإجزائه عن إتيان الواقع.وأمّا الإطلاق المقاميّ، فعلى فرض إمكان التمسّك به، يمكن للمولى أن يقول: اعمل بالأمارة؛ لأنّه كان في مقام البيان، فلو انكشف الخلاف، فيمكنه الأمر بالعمل على طبق الواقع، فلمّا لم يبيّن، أمكن التمسّك بالإطلاق، ولكن التمسّك به هنا غير مفيد؛ إذ يمكن التمسّك بإطلاق أدلّة الأحكام الواقعيّة؛ إذ يمكن أن يقال: بأنّ هذه الأدلّة تكون بياناً، وبالاستفادة من إطلاقها يثبت أنّه لابدّ في صورة الخطأ من الإتيان بما هو الواقع، إعادةً في الوقت، وقضاءً خارجه.

وعلى فرض عدم إمكان التمسّك بالإطلاق، فلابدّ من الإعادة عند كشف الخلاف؛ لأنّ أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف موجبة للإعادة.

فإن قلت: الأصل عدم كون التكليف بالواقع فعليّاً.

قلت: هذا غير مفيد؛ لأنّه لا يُثبت كون ما أتى به مسقطاً للتكليف إلّا بناءً على الأصل المثبت، بعد العلم باشتغال ذمّته، ومعلوم أنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ.

ولكنّ المحقّق الخراساني(قدس سره)، فرّق في المقام بين ما إذا كان الحكم

ص: 384

الظاهريّ _ أعني: مؤدّى الأمارة الذي هو حكم ظاهري شرعيّ _ قد جُعل موضوعاً لحكم آخر، أو قيداً لموضوع حكم آخر، كالطهارة المجعولة قيداً للماء والتراب مع كونها شرطاً في صحّةالدخول في الصلاة، وبين ما إذا كان حكماً شرعيّاً غير مجعول لحكم آخر، فهو موجب للإجزاء في الصورة الاُولى دون الثانية(1).

والوجه في الإجزاء في الصورة الأُولى، هو أنّ الشارع نزّل الطهارة الظاهريّة، أي: التي أدّت إليها الأمارة، منزلة الطهارة الواقعيّة، فعند قيام أمارة على طهارة الماء النجس في الواقع، فالقيام يكون سبباً لجعل الطهارة له شرعاً في حال الجهل بنجاسته، فيكون طاهراً واقعاً في هذه الحال، فإذا فرض أنّ الطهارة الظاهريّة نزّلت منزلة الطهارة الواقعيّة، فالعمل المشروط بالطهارة، وهي الصلاة، تكون واجدة لما هو شرطها، فالإجزاء يستفاد من إطلاق دليل الأمارة، فيكون دليل الأمارة حاكماً على الأدلّة التي دلّت على أنّ الصلاة لابدّ أن تكون مع الوضوء بالماء الطاهر واقعيّاً.

وأمّا إذا كان مؤدّى الأمارة حكماً شرعيّاً، ولكنّه كان غير مجعول موضوعاً لحكم آخر، أو قيداً لموضوع حكم آخر، ففي هذه الصورة لا يثبت الإجزاء؛ لأنّ قيام الأمارة، وإن كان يُحدث مصلحة في المتعلّق

ص: 385


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 86، وقد نقلنا آنفاً نصّ هذا الكلام.

كما هو مقتضى بعض الأقوال المتقدّمة، ولكن لم تكن هذه المصلحة مصلحة الواقع مع أنّ الدليل على وجوب أصلالمشروط يدعو إلى الإتيان بنفس الواجب، بعدما كانت المصلحة الفائتة منه غير متداركة، فحينئذٍ: لا يكون الإتيان بمؤدّى الأمارة موجباً للإجزاء، إلّا أن يدلّ دليل من الخارج على كفاية مؤدّى الأمارة عن الواقع.

ولكن لا يخفى: أنّ ظاهر الأدلّة الواقعيّة هو أنّ الشرط هو الطهارة الواقعيّة. فحتى لو كان ظاهر دليل الأمارة _ بناءً على السببيّة _ هو ترتّب آثار الواقع على المؤدّى من جهة مصلحة حدثت بسبب قيام الأمارة، إلّا أنّ الذي يستفاد من الأمارة مع ذلك هو أنّ الشرط هو الطهارة الواقعيّة، لا ما نزّل منزلتها.

وأمّا بالنسبة إلى الاُصول العمليّة، فالظاهر _ أيضاً _ هو عدم الإجزاء فيها، بلا فرق بين ما كان منها من قبيل الاُصول المحرزة، كالاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ، أو من قبيل الاُصول غير المحرزة، كبقيّة الاُصول العمليّة؛ فإنّ الاُصول العمليّة ما هي إلّا وظائف عمليّة ممهّدة من قبل الشارع ليرجع إليها عند الشكّ، لا أنّها أحكام ظاهريّة، وهذه الوظائف مجعولة من قبل الشارع للشاكّ في تكليفه، كما في قاعدتي الطهارة والحلّ؛ إذ ليس فيهما حكم ظاهريّ، بل في الكلّ يكون ظاهر الحكم مخصوصاً بمورد الشكّ؛ لأنّ القاعدتين تقرّران وظيفة للمكلّف يعمل بها عند التحيّر والشكّ في حلّيّة شيء وطهارته،فتكون وظيفة

ص: 386

المكلّف في ظرف الشكّ هي العمل على طبق هذا المشكوك بأن يحسبه طاهراً أو حلالاً.

وما ذكرنا من عدم الإجزاء في الإتيان بما هو مؤدّى الأصل العمليّ، لا يُفَرّق فيه بين أن يكون متعلّق الاُصول حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعيّ، ففي الكلّ لا يمكن القول بالإجزاء عند انكشاف الخلاف؛ لأنّ الاكتفاء بمؤدّى الأمارة عن الواقع، إنّما هو فيما إذا بقيت الأمارة على حجّيّتها، وأمّا لو انكشف الخلاف بأمارة أقوى، امتنع الاكتفاء بمؤدّى الاُولى؛ لأنّ غاية ما تدلّ عليه الأمارة _ بناءً على الطريقيّة _ ليس إلّا المعذريّة والمنجزيّة، وهي عدم صحّة المؤاخذة على ترك الواقع إذا لم ينكشف الخلاف، ولكن قد انقطعت بقيام الأمارة الأقوى، فلابدّ وأن تترتّب الآثار الواقعيّة التي تقضي بها الأُخرى، وهو وجوب الإعادة، إذا كان الانكشاف في الوقت، والقضاء إذا كان خارجه.

تنبيهان:

وينبغي التنبيه هنا على أمرين:الأمر الأوّل: أنّه لو عمل المكلّف عملاً على مدى سنين، وأهمل بعض أجزائه وشرائطه لعذر، بأن كان قاطعاً بأنّ هذا الجزء ليس بواجب، وكان تركه في الحقيقة عن دليل، فليس هنا ما يوجب توهّم الإجزاء بعد كشف الخلاف؛ لأنّه لا دليل على الإجزاء، والقاعدة تقتضي عدم الإجزاء.

ص: 387

نعم، في صورة قيام الدليل كما لو كان جزء الصلاة أو شرطه، فنقول بالإجزاء حينئذٍ تمسّكاً بحديث «لا تعاد» فإنّه دالّ على الاكتفاء به.

والأمر الثاني: بعد أن التزمنا بعدم الإجزاء، فلا يُفَرّق بين عمل المجتهد والمقلّد، فكما أنّ المجتهد إذا انكشف له الخلاف والخطأ في اجتهاده كان مقتضى القاعدة عدم الإجزاء فيما عمل به، ولو كان هذا العمل طبقاً لاجتهاده السابق، فكذلك بالنسبة إلى المقلّد، فإذا قلّد بعض من يقول بعدم وجوب السورة أو عدم كون الارتماس مفطراً، ثمّ رجع المجتهد من رأيه، أو مات ذلك المجتهد وقلّد من يقول بوجوب السورة، أو بمفطريّة الارتماس، فإنّ مقتضى القاعدة عدم الإجزاء حينئذٍ، بل لابدّ من إعادة العمل.

أدلّة القول بالإجزاء:

اشارة

ثمّ إنّ القائلين بالإجزاء ذكروا له وجوهاً:

الوجه الأوّل:
اشارة

أنّه لو لم نقل بالإجزاء فإنّه يلزم العسر والحرج، من جهة أنّه لو ربّما يتّفق أنّ إنساناً عمل عملاً مدّة طويلة باجتهاده أو اجتهاد مقلَّده، ثمّ تبدّل اجتهاده أو اجتهاد مقلَّده، فلو لم نقل بالإجزاء يلزم أن يقضي عمل هذه المدّة بطولها. أو كان قد عامل معاملات كثيرة من أنواع مختلفة من العقود والإيقاعات، باجتهاده أو اجتهاد مقلَّده، ثمّ تبدّل اجتهاده أو اجتهاد مقلَّده،

ص: 388

فلو قلنا ببطلان تلك المعاملات جميعاً، لزم العسر والحرج الشديدان، وهما منفيّان في لسان الشارع.

وفيه:

أنّ دليل نفي العسر والحرج حاكم على أدلّة الأحكام الواقعيّة ومضيّق لموضوعها، وتكون هذه الحكومة حكومة واقعيّة في جانب المحمول، فمعنى رفع الضرر والحرج أنّ الحكم الحرجيّ مرفوع واقعاً، ولكنّ عدم الإجزاء ليس حكماً واقعيّاً؛ لأنّه ليس مجعولاً للشارع حتى يُرفع بقاعدة رفع العسر والحرج.نعم،

وجوب الإعادة والقضاء لو كان حرجيّاً، يمكن رفعه، ولكن قد ذكرنا مراراً أنّ أدلّة الضرر والحرج إنّما يرفعان الضرر الشخصيّ لا النوعيّ، فيختلف بالنسبة إلى الأحكام وإلى الأشخاص، فالقول بالإجزاء في جميع الموارد بواسطة كون عدم الإجزاء في بعض الموارد لبعض الأشخاص ضرريّاً أو حرجيّاً، لا وجه له.

الوجه الثاني:
اشارة

أنّه لا وجه لترجيح الاجتهاد الثاني على الأوّل، بل هناك حجّتان، كل واحدة منهما كانت حجّة جب العمل على طبقها في زمانها، فقيام الحجّة الثانية لا يمنع من حجّيّة الاُولى في ظرفها، ولا وجه لتقديم الثانية على الاُولى لكي نلتزم بمقتضاها بعدم الإجزاء؛ لأنّ تقديمها على الاُولى ترجيح عليه بلا مرجّح.

ص: 389

وفيه:

أنّ المقام ليس من قبيل تعارض الأمارتين وترجيح إحداهما على الأُخرى حتى يكون ترجيحاً بلا مرجّح، بل قد يكون من باب ترجيح المرجوح على الراجح في بعض الصور، كما إذا مات المقلَّد الأوّل، وهو أعلم من الحيّ الذي رجع إليه، بناءً على القول بجواز تقليد غير الأعلم في مثل هذه الصورة، فعدم الإجزاء ليس من هذه الجهة، بل من جهة أنّ ما هو الطريق الفعليّ في حقّه ليس إلّا الاجتهاد الثاني، فإنّالحجّة الثانية ولو لم تكن تنفي الحجّة الاُولى في ظرفها، إلّا أنّها تمنع من حجّيّتها بقاءً، وبالعمل على طبق الاُولى يكون ما أتى به باطلاً، وليس له طريق إلى صحّته فعلاً، فلا تكون الحجّة عليه في الواقع فعلاً إلّا الثانية، وهي تقتضي أنّ الحكم الواقعيّ لم يكن هو ما أدّت إليه الحجّة السابقة، فبمقتضى الحجّة الثانية لابدّ من ترتّب الآثار الواقعيّة بعدما انكشف بأنّ الاُولى كانت سراباً، ومقتضى الحجّة الثانية هو ترتيب آثار عدم الإتيان بالواقع في ظرفه، والحجّة الاُولى قد سقطت بقيام الأمارة الثانية، وليس هناك من حجّة فعليّة تعارض الحجّة الثانية.

وبالجملة: فهو باعتبار الحجّة الفعليّة يرى بطلان العمل الذي عمله أوّلاً، ولو كان مستنداً إلى حجّة في حقّه سابقاً؛ لأنّ الحجّة الفعليّة تكشف عن بُطلان العمل الذي كان قد عمله أوّلاً، وأنّه لم يأتِ بالواقع، فيكون عليه أن يعيد أو أن يقضي، وليس له دليل آخر يعتمد عليه في عدم

ص: 390

وجوب القضاء أو الإعادة.

وقد يقال هنا: إنّ الإتيان بالوظيفة الظاهريّة التي هي مخالفة للوظيفة الواقعيّة، لم يكن بلا دليل، بل كان عن استنادٍ إلى ما هو حجّة في ظرفه؛ ومعلوم أنّ مآل الحجّيّة إلى الاكتفاء بما قامت عليه عن الواقع، والحجّة الثانية لا تنفي الحجّيّة عن الاُولى في ظرفها، بل إنّما تمنع عنحجيّتها بقاء واستمراراً، كما مرّ، فيكون مقتضاها هو الاستناد في مقام العمل في ظرفه إلى الحجّة.

ولكن فيه: أنّه بعدما كانت الحجّيّة في باب الأمارات بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة، فإنّ العبد يكون موظفاً بالعمل بما تؤدّي إليه الأمارة، بحيث لو خالف الواقع يكون معذوراً ما دامت الأمارة قائمة ولم ينكشف الخلاف، ويكتفي عن الواقع حال قيامها واستمرارها، وأمّا لو انقطعت حجّيّتها ببركة قيام الحجّة الفعليّة، وانكشف بأنّ الواقع كان على خلاف ما أدّت إليه الحجّة الاُولى، لزم عدم ترتيب آثار الواقعيّة عليها، ونحكم بعد انكشاف الخلاف بأنّ ما أُتي به بناءً عليها لم يكن هو الواقع، ومعه: فلا مجال للاكتفاء بالوظيفة التي عمل بها، وهي الوظيفة الظاهريّة، بعد العلم بأنّها على خلاف الواقع، ببركة الحجّة الثانية.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الاكتفاء بمؤدّى الحجّة الاُولى إنّما يثبت ما دامت قائمة وحجّة، وأمّا إذا زالت عنها الحجّيّة، فلا دليل على الاكتفاء بما عمله ظاهراً عن الواقع، والمعذّريّة إنّما هي بمعنى عدم صحّة المؤاخذة

ص: 391

على ترك الواقع، وتكون ثابتة لو لم ينكشف الخلاف أصلاً، وأمّا لو انقطعت بقيام الأمارة الاُخرى، فلابدّ _ حينئذ _ من ترتيب الآثار الواقعيّة التي تقضي بها الأمارة الثانية، ومن تلك الآثار: الإعادة أو القضاء.

الوجه الثالث:

أنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين، كما ادّعاه صاحب الفصول(قدس سره)(1)، فإذا اجتهد في واقعة واستنبط حكمها لا يبقى مجال للاجتهاد الثاني.

وفيه:

أنّ هذه الاستحالة إنّما تتصوّر فيما إذا كان هناك واقعة واحدة وحصل اجتهادان من شخص واحد بالنسبة إلى نفس تلك الواقعة ،ولكنّ هذه الصورة أجنبيّة عن محلّ كلامنا؛ لأنّ كلامنا إنّما هو فيما إذا كان هناك تبدّل في الاجتهاد والرأي، ولا محالة يكون الرأي الثاني متأخّراً زماناً عن الرأي الأول، وأمّا لو كان الكلام المذكور ناظراً إلى صدور اجتهادين من شخص واحد في زمانين، أو من شخصين صدر من كلّ منهما فتوى مخالفة لفتوى الآخر، ولو في زمان واحد، فلا استحالة في البين أصلاً.

ص: 392


1- راجع: الفصول الغرويّة: ص 409، قال(قدس سره) في فصل رجوع المجتهد عن الفتوى ما نصّه: «إذ الواقعة الواحدة لا يحتمل اجتهادين، ولو بحسب زمانين؛ لعدم دليلٍ عليه، ولئلّا يؤدّي إلى العسر والحرج المنفيّين عن الشريعة السمحة؛ لعدم وقوفٍ للمجتهد غالباً على رأيٍ واحد، فيؤدّي إلى الاختلال فيما يبني فيه عليها من الأعمال...»، إلى آخر كلامه(قدس سره).
الوجه الرابع:

وتوضيحه يبتني على بيان معنى النسخ الاصطلاحيّ، وقد عرّفه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بأنّه:

«رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفيّة أم الوضعيّة، وسواء أكان من المناصب الإلهيّة أم من غيرها من الاُمور التي ترجع إلى اﷲ تعالى بما أنّه شارع» إلى أن يقول: «وإنّما قيّدنا الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجاً، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها، وارتفاع مالكيّة شخص لماله بسبب موته؛ فإنّ هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا يسمّى نسخاً، ولا إشكال في إمكانه وقوعه، ولا خلاف فيه من أحد»(1).

وقال الطريحيّ في مجمع البحرين:

«النسخ الشرعيّ: إزالة ما كان ثابتاً من الحكم بنص شرعيّ»(2).

وإذا اتضح ذلك نقول:ذكر أصحاب هذا الوجه أنّ الاجتهاد الأوّل مع الثاني هو مثل الدليل الناسخ مع المنسوخ، فكما أنّه كما يجب العمل على طبق الدليل المنسوخ إلى زمان النسخ، ومن زمان وجود الناسخ يجب ترتيب الأثر

ص: 393


1- البيان في تفسير القرآن: ص 277 _ 278.
2- مجمع البحرين 4: 303، باب (نسخ).

عليه من دون نفي أثر المنسوخ إلى زمان وجود الناسخ، لا أنّه يكشف عن بطلان العمل من أوّل الأمر، فكذلك في باب الاجتهاد، يجب ترتيب الأثر على ما استنبطه أوّلاً إلى زمان الاجتهاد الثاني، ومن زمن الاجتهاد الثاني يجب ترتيب الأثر عليه من دون نفي آثار الاجتهاد الأوّل إلى زمان الاجتهاد الثاني.

وفيه:

أنّه قياس مع الفارق؛ فإنّ النسخ كالبداء، فكما أنّ البداء هو بمعنى الإبداء، فكذلك النسخ، هو بمعنى انتهاء الأمد؛ فإنّ أمد ذلك الحكم يستمرّ إلى زمان وجود الناسخ، وليس فيه انكشاف للخلاف.

نعم، كان ظاهر الدليل هو استمرار الحكم، فلمّا جاء الناسخ زال ذلك الظهور، بخلاف ما هو محلّ الكلام، بناءً على مسلك جعل الطريقيّة؛ فإنّ مؤدّاه ليس حكماً مجعولاً أصلاً، بل ليس في البين إلّا إدراك الواقع أو الجري العمليّ على طبقه، فإذا تبدّل الاجتهاد، فلا إحراز ولا حكم إثباتيّ في البين. نعم، لو قلنا بمسلك جعل الحكم في مؤدّى الأمارة، كان لهذا الكلام وجه حينئذٍ.

الوجه الخامس:

الإجماع؛ فإنّه منعقد على القول بالإجزاء.

وفيه:

أنّ هذه المسألة _ كما عرفنا _ خلافيّة، ومع وجود الخلاف بهذه

ص: 394

الدرجة الواضحة، فكيف يمكن أن يُدّعى انعقاد الإجماع؟ فيكون إجماعاً منقولاً، ولا حجّيّة له.

على أنّه لو فُرِض محصَّلاً، لكان محتمل المدركيّة، بل مظنونها، فيكون التعويل عليه مشكلاً غاية الإشكال.

وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما يمكن أن يقال: من أنّه في إجزاء الإتيان بما يصحّ الاعتذار به، كما في مورد الأمارات والاُصول والقواعد المعتَبرة عن الواقع عند كشف الخلاف، فهو من لوازم اعتبارها وصحّة الاعتذار بها؛ لأنّها إن طابقت الواقع، فلا ريب في الإجزاء، وإن خالفت، فالمكلّف معذور في ترك الواقع، لعموم أدلّة اعتبارها، وامتنان الشارع على اُمّته في هذا الأمر العامّ البلوى.

إذ فيه: ما ذكرناه سابقاً من أنّه لابدّ من استمرار الدليل للحكم الظاهريّ، وعدم انكشاف الخلاف، وإلّا، فلو انكشف الخلاف، كان لابدّ من الإعادة في الوقت، والقضاء خارجه.فظهر

مما ذكرنا: أنّه يجب القول بعدم الإجزاء، فلا يمكن ترتيب آثار الصحّة على العمل الذي كان على طبق الاستنباط الأوّل، فإذا رأى المجتهد الثاني أنّ العمل على رأي المجتهد الأوّل باطل وعلى خلاف الواقع، فكيف يمكنه، أو للمقلّد، أن يبنيا على الصحّة بالنسبة إلى الأعمال التي كان قد أتى بها على طبقه؟! فالحقّ _ إذاً _ عدم الإجزاء.

ص: 395

تنبيهات:

اشارة

وفي ختام هذا البحث، لا بأس بالتعرّض لبعض التنبيهات تبعاً لجملة من المحقّقين:

التنبيه الأوّل:

وقد أسلفنا الكلام فيه، وهو ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) بقوله:

«لا ينبغي توهّم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ؛ فإنّه لا يكون موافقة للأمر فيها، وبقي الأمر بلا موافقة أصلاً، وهو أوضح من أن يخفى. نعم، ربّما يكون ما قطع بكونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة في هذا الحال، أو على مقدار منها، ولو في غير الحال غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منها، ومعه: لا يبقى مجال لامتثالالأمر الواقعيّ، وهكذا الحال في الطرق، فالإجزاء ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعيّ أو الطريقيّ للإجزاء، بل إنّما هو لخصوصيّة اتفاقيّة في متعلّقهما كما في الإتمام والقصر والإخفات والجهر»(1).

وحاصله _ كما مرّ _: أنّ موضوع البحث في الإجزاء ما إذا كان هناك حكم ثابت ظاهريّ أو اضطراريّ، فحينئذ: يبحث عن كونه مجزياً عن الواقع وعدمه.

ص: 396


1- كفاية الاُصول: ص 88.

أمّا إذا لم يكن هناك حكم متقرّر له ثبوت، وإنّما تخيّل ثبوته، فهو أجنبيّ عن بحث الإجزاء؛ إذ لا حكم أصلاً لكي يُبحث عن إجزائه وعدمه، بل عدم الإجزاء في مثله ممّا لا كلام فيه، مثلاً: لو قطع بحكم، ثمّ انكشف خلافه، فلا إشكال في عدم إجزاء ما عمل به بواسطة ما قطع به؛ لأنّ القطع لا يثبت الحكم لا واقعاً ولا ظاهراً، بل بعد انكشاف الخلاف لم يبقَ في البين إلّا تخيّل لثبوت الحكم، فلا يكون المأتيّ به مجزياً، بعد أن لم يكن هو الواقع، ومعلوم أنّ الواجب إنّما هو إتيان ما هو الواقع حقيقةً، لا ما تخيّل أنّه الواقع.

نعم، إذا دلّ دليل على الإجزاء، ولو كان جهله عن تقصير، كما إذا صلّى جهراً في موضع الإخفات وبالعكس، وكما إذا صلّى تماماً فيالسفر مع الجهل بكون الوظيفة غير ما أتى به؛ فإنّ الدليل هنا دلّ على الاكتفاء بما أتى به، ولا يحتاج إلى الإعادة، وإلّا، فمع عدم قيام دليل إثباتيّ على ذلك، فلابدّ من الإعادة.

التنبيه الثاني:

وقد ذكره صاحب الكفاية) أيضاً، بقوله:

«لا يذهب عليك: أنّ الإجزاء في بعض موارد الاُصول والطرق والأمارات _ على ما عرفت تفصيله _ لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه في تلك الموارد؛ فإنّ الحكم الواقعيّ بمرتبته محفوظ فيها، فإنّ الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ليس إلّا

ص: 397

الحكم الإنشائيّ المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الأوّليّة بحسب ما يكون فيها من المقتضيات، وهو ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الأمارات، وإنّما المنفيّ فيها ليس إلّا الحكم الفعليّ البعثيّ، وهو منفيّ في غير موارد الإصابة، وإن لم نقل بالإجزاء، فلا فرق بين الإجزاء وعدمه إلّا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الأمر الظاهريّ، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم الإصابة. وسقوط التكليف بحصول غرضه، أو لعدم إمكان تحصيله، غير التصويب المجمع على بطلانه، وهو خلوّ الواقعة عن الحكم غير ما أدّت إليه الأمارة، كيف؟! وكان الجهل بهابخصوصيّتها أو بحكمها مأخوذاً في موضوعها، فلابدّ من أن يكون الحكم الواقعيّ بمرتبته محفوظاً فيها، كما لا يخفى»(1).

ومحصّل ما أراده(قدس سره): هو بيان عدم الملازمة بين الإجزاء والتصويب، فإنّه قد يتوهّم وجود ملازمة بينهما؛ لأنّ مرجع الإجزاء ومآله إلى كون الواقع هو مؤدّى الأمارة، الذي هو التصويب.

والذي يدّعيه صاحب الكفاية) في هذا المقام، هو القول بنفي ملازمة بين الإجزاء والتصويب، بل بعدم معقوليّته أصلاً؛ لاستلزامه عدم الشيء من وجوده.

ص: 398


1- كفاية الاُصول: ص 88.

بيان ذلك: أنّ الحكم في نظر صاحب الكفاية(قدس سره) له مراتب أربع، وهي: مرتبة الاقتضاء، ومرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعليّة، ومرتبة التنجيز، وشرح مقصوده من هذه المراتب، وبيان الصحّة أو السقم فيها موكول إلى محلّه.

والذي يرتبط بمحلّ الكلام فعلاً من هذه المراتب، هو مرتبة الفعليّة والإنشاء، دون مرتبتي: الاقتضاء والتنجّز؛ فإنّه لا ربط لهما بمحلّ الكلام، فلا نبحث عنهما هنا.ثمّ إنّ الذي ذهب إليه صاحب الكفاية(قدس سره) في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، أنّ الحكم الواقعيّ في موارد الطرق والأمارات إنشائيّ، بحيث لو حصل العلم به يصبح فعليّاً، بلا فرق بين القول بالطريقيّة أو بالسببيّة، فإنّ الحكم في الواقع يبقى في مرتبة الإنشاء، وتكون الأمارة مانعة من فعليّته لا أكثر. ولا يخفى: أنّ الحكم الذي دلّت الأدلّة على كونه مشتركاً بين العالم والجاهل هو الحكم الإنشائيّ، وأمّا الحكم الفعليّ فهو مختصّ بالعالم؛ لأنّ موضوعه هو العلم بالحكم الإنشائيّ.

وإذا عرفت ذلك، ظهر:

أنّ القول بالإجزاء لا يلازم التصويب بمعنى: ارتفاع الحكم الواقعيّ؛ لأنّ الحكم الواقعيّ يبقى على ما هو عليه بناءً على السببيّة، وكذا الحال لو قلنا بالإجزاء بناءً على الطريقيّة، بل التصويب في مورد الأمارة والحكم الظاهريّ غير معقول؛ لأنّ الجهل بالحكم الواقعيّ مأخوذ في موضوع الحكم الظاهريّ، فلابدّ أن يفرض ثبوت واقع يتعلّق به العلم والجهل،

ص: 399

فلو فُرِض ارتفاع الحكم الواقعيّ بقيام الأمارة، فحينئذٍ: يرتفع الشكّ في الواقع، فيلزم ارتفاع موضوع الحكم الظاهريّ، وذلك محال؛ لأنّه يلزم من وجود الحكم الظاهريّ عدمه.وفيه: أنّه إن قلنا بأنّ الأحكام الواقعيّة أحكام إنشائيّة كان الحقّ ما ذهب إليه صاحب الكفاية(قدس سره) في المقام، من عدم الملازمة بين الإجزاء والتصويب.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الحكم المشترك بين الجاهل والعالم هو الحكم الفعليّ، وأمّا الحكم الإنشائيّ فلا تقع فيه جهة البعث، وفي الواقع، فالحكم الواقعيّ في موارد الطرق والأمارات، ليس حكماً إنشائيّاً، بل هو حكم فعليّ، فبناءً على الإجزاء والقول بالسببيّة يلزم التصويب؛ لأنّ مآل السببيّة هو إلى رفع الحكم الواقعيّ بعد ثبوت المصلحة المعادلة لمصلحة الواقع في مؤدّى الأمارة، فيكون هذا سبباً لارتفاع الحكم الواقعيّ، فبعد الإتيان بمؤدّى الأمارة الذي فيه مصلحة يستوفى بها مصلحة الواقع، لم يبقَ مجال لامتثال الواقع، بل يرتفع الوجوب التعيينيّ الواقعيّ ويصير الوجوب الثابت تخييريّاً، فيكون المكلّف مخيّراً بين العمل بالواقع والعمل بالأمارة.

التنبيه الثالث:

وقد ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) بقوله:

«أنّه لا فرق فيما ذكرناه من كون عدم الإجزاء هو مقتضى القاعدة

ص: 400

الأوّليّة بين اختلاف الحجّة بالنسبة إلى شخص أو شخصين، كما إذا فرضنا اختلاف المجتهدين في الفتوى، فلا يجزي فتوى أحدهمابالنسبة إلى الآخر، أو لمقلّديه، ولا فرق في ذلك بين المعاملات وأبواب الطهارات والنجاسات وأبواب العبادات، إذا كان أحدهما محلّاً لابتلاء الآخر، مثلاً: إذا كان أحد الشخصين يرى جواز العقد بالفارسيّ وطهارة العصير العنبيّ وعدم جزئيّة السورة للصلاة، فلا يمكن لمن لا يرى تلك الاُمور أن يكون أحد طرفي العقد معه، أو أن يعامله معاملة الطاهر في فرض العلم بملاقاته للعصير، أو يقتدي به في الصلاة، أو يستأجره لها، مع فرض تركه للسورة، فالمسألة في جميع ذلك محلّ إشكال، لعدم تماميّة الإجماع على الإجزاء، مع كون عدمه مقتضى القاعدة، وإشكال الجميع هو باب الطهارة والنجاسة، إلّا أن يقال بكون الغيبة من المطهّرات، ولو مع عدم اعتقاد الغائب لنجاسته، كما أفتى به صاحب الجواهر(قدس سره) ومال إليه سيد أساتيذنا المحقق الشيرازيّ، وقد نقل الاُستاذa أنّه كان يفتي به شفاهاً»(1).

وأمّا اُستاذنا الأعظم(قدس سره) فقد استثنى من عدم الإجزاء مسألتين: إحداهما: مسألة النكاح، والأُخرى: مسألة الطلاق. قال):

«ولكن

يستثنى من ذلك مسألتان: إحداهما: مسألة النكاح، والاُخرى:

ص: 401


1- أجود التقريرات 1: 208.

مسألة الطلاق. أمّا المسألة الاُولى: فقد وجب على كلّأحد ترتيب آثار النكاح الصحيح على نكاح كلّ قوم، وإن كان فاسداً في مذهبه، فلو رأى شخص صحّة النكاح بالعقد الفارسيّ وعقد على امرأة كذلك، ويرى الآخر بطلانه، واعتبار العربيّة فيها، لزمه ترتيب آثار الصحّة على نكاحه، وإن كان فاسداً في نظره، بأن يحكم بأنّها زوجته، وبعدم جواز العقد عليها، وغير ذلك من الآثار المترتّبة على الزواج الصحيح. ومن هنا، وجب ترتيب آثار النكاح الصحيح على نكاح كلّ ملّة، وإن كانوا كافرين، وبذلك يظهر حال المسألة الثانية حرفاً بحرف»(1).

وبهذا تمّ الكلام في الجزء الثاني، ويتلوه الجزء الثالث إن شاء اﷲ تعالى، والحمد ﷲ ربّ العالمين.

ص: 402


1- محاضرات في اُصول الفقه: 2: 103 _ 104.

الفهرس

ص: 403

ص: 404

الفهرس

مبحث الأوامر (7-25)

مبحث الأوامر..... 7

الأمر الأوّل: هل الأوامر من المسائل الاُصوليّة أم لا؟ 7

الأمر الثاني: قد يستعمل الأمر في عدّة معان 8

الأمر الثالث: في اعتبار العلوّ والاستعلاء في مادّة الأمر....... 12

الأمر الرابع: الأمر ينقسم إلى المولويّ والإرشاديّ....... 15

الأمر الخامس: ما وُضِع له الأمر..... 17

الكلام في الطلب والإرادة (27-81)

الكلام في الطلب والإرادة... 27

الروايات الدالّة بظاهرها على الجبر..... 59

معنى القضاء والقدر....... 60

تنبيه .... 74

الرواية الاُولى....... 75

الرواية الثانية... 76

الرواية الثالثة... 76

ص: 405

الكلام في صيغة الأمر (83-104)

الكلام في صيغة الأمر.... 83

هل صيغة الأمر حقيقة في الوجوب أو في الندب؟....... 88

الأمر الأوّل: في بيان معنى الوجوب والاستحباب....... 89

والأمر الثاني: في بيان بساطة الوجوب والندب وتركيبهما....... 89

الكلام في مدلول الجملة الخبريّة في مقام الطلب....... 102

التعبّديّ والتوصّليّ (105-124)

التعبّديّ والتوصّليّ.... 105

إطلاق الصيغة هل يقتضي التعبّديّة أم التوصّليّة؟ 105

المقدّمة الاُولى: في بيان معنى التعبّديّ والتوصّليّ....... 105

المقدّمة الثانية: هل التعبّديّة موجودةٌ عند غير المسلمين...؟... 106

المقدّمة الثالثة: خلاصة الفرق بين التعبّديّ والتوصّليّ ....... 106

المقدّمة الرابعة: تقسيم الواجب التعبّديّ... 107

المقدّمة الخامسة....... 108المقدّمة السادسة: معنىً آخر للتعبّديّ والتوصّليّ 108

الكلام في أقسام القدرة....... 111

كلام الاُستاذ الأعظم)..... 113

ما هو مقتضى الأصل؟.... 117

أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر (125-140)

أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر 125

ص: 406

الاُولى: في بيان التقابل بين الإطلاق والتقييد. 126

الثانية.... 127

الثالثة.... 127

ما استدلّ به على التعبّديّة.... 135

الأمر الأوّل...... 135

الأمر الثاني...... 138

والأمر الثالث... 138الواجب المطلق والمشروط (141-167)

الواجب المطلق والمشروط...... 141

الأمر الأوّل...... 141

الأمر الثاني...... 141

الأمر الثالث..... 143

القضيّة الخارجيّة والقضيّة الحقيقيّة...... 147

الفرق بينهما.... 148

قضايا الأحكام حقيقيّة أم خارجيّة؟..... 150

عودة إلى أصل البحث... 153

الواجب المعلّق والمنجّز (169-207)

الواجب المعلّق والمنجّز..... 169

الكلام في إمكان الواجب المعلّق وعدمه.. 171

أمّا الكلام في وجوب التعلّم..... 189

ص: 407

الأمر الأوّل: الفرق بين القدرة العقليّة والشرعيّة 197

الأمر الثاني: في بيان قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار».... 197

مسلك صاحب الكفاية في حلّ الإشكال 201

الواجب النفسيّ والغيريّ (209-246)

الواجب النفسيّ والغيريّ..... 209

الكلام في استحقاق العقاب والثواب على الواجب الغيري....... 220

الجهة الاُولى... 220

الجهة الثانية.... 222

الجهة الثالثة ... 222

مسألة.... 226

الإشكال في عباديّة الطهارات الثلاث....... 231

الواجب التعييني والتخييري (247-269)

الواجب التعييني والتخييري...... 247

القول الأول..... 248

القول الثاني..... 249

القول الثالث.... 255

القول الرابع..... 257

القول الخامس...... 259

القول السابع.... 263

القول الثامن.... 264

ص: 408

القول التاسع.... 265

القول العاشر ....... 266

تكملة... 267

الكلام في التخيير بين الأقلّ والأكثر.... 267

الواجب العينيّ والكفائي (271-285)

الواجب العينيّ والكفائي..... 271

الأوّل: في تعريف الواجب الكفائي...... 271

الأمر الثاني: الفرق بينه وبين الواجب التخييري 271

الأمر الثالث: محلّ البحث في الواجب الكفائي 272

الأمر الرابع: في بيان كيّفيّة تعلّق الوجوب 272

الأمر الخامس: تصوير كيفيّة تعلّق الوجوب في الواجب الكفائيّ...... 274

الوجه الأوّل.... 274

الوجه الثاني ... 277

الوجه الثالث... 278الوجه الرابع.... 279

الوجه الخامس..... 280

ملاحظة..... 283

الأمر عقيب الحظر (287-290)

الأمر عقيب الحظر.... 287

ص: 409

المرّة والتكرار (291-298)

المرّة والتكرار..... 291

الفور والتراخي (299-306)

الفور والتراخي.... 299

مسألة.... 304الواجب الأصليّ والتبعيّ (307-311)

الواجب الأصليّ والتبعيّ..... 307

الأمر الأوّل: في بيان الأقسام من حيث التبعيّة والأصليّة....... 307

الأمر الثاني: أنّ البحث فيهما هل يكون ثبوتيّاً أم إثباتيّاً؟....... 308

الواجب الموسّع والمضيّق (313-331)

الواجب الموسّع والمضيّق... 313

الإشكال على الواجب المضيّق...... 314

الإشكال على الواجب الموسّع....... 317

مبحث الإجزاء (333-402)

مبحث الإجزاء.... 333

النقطة الاُولى... 333

والنقطة الثانية....... 334

ص: 410

والنقطة الثالثة....... 335

والنقطة الرابعة...... 336والنقطة الخامسة... 338

الامتثال عقيب الامتثال ....... 341

الأمر الأول...... 354

الأمر الثاني...... 355

تنبيهان....... 387

أدلّة القول بالإجزاء... 388

تنبيهات..... 396

الفهرس (403-411)

الفهرس.... 403

ص: 411

المجلد 3

هویة الکتاب

شَمسُ الأُصُول

5 جلد

شمس الدين الواعظي

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته، سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ص: 5

ص: 6

مقدّمة الواجب

اشارة

ولابدّ قبل الدخول في محلّ البحث من بيان اُمور :

الأمر الأوّل: في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

ولا يخفى: أنّها من المسائل الاُصوليّة، وليست من المسائل الفقهيّة ولا الكلاميّة؛ فإنّ المسألة الاُصوليّة هي ما تقع كبرى لقياس يستنتج منه الحكم الفرعيّ الكلّيّ، والبحث في هذه المسألة هو في الملازمة بين وجوب الشيء شرعاً وبين وجوب مقدّمته، فالمبحوث عنه في المقام هو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، وليس بحثاً عن وجوب المقدّمة كي تكون المسألة فقهيّة نظراً إلى كون موضوعها هو فعل المكلّف، أعني: المقدّمة، ومحمولها، أعني: الحكمالشرعيّ. نعم، ثبوت الوجوب للمقدّمة هو نتيجة إثبات الملازمة.

ص: 7

قال صاحب الكفاية(قدس سره) ما لفظه:

«الظاهر أنّ المهمّ المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدّمته، فتكون مسألة اُصولية، لا عن نفس وجوبها، كما هو المتوهّم من بعض العناوين كي تكون فرعيّة، وذلك لوضوح أنّ البحث كذلك لا يناسب الاُصوليّ، والاستطراد لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون عن المسائل الاُصوليّة»(1).

وبالجملة: فلمّا كان البحث في هذه المسألة عن ثبوت الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، فإنّها بذلك تكون من المسائل الاُصوليّة؛ لأنّ نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعيّ، وهو وجوب المقدّمة المعيّنة كالوضوء مقدّمةً للصلاة، ونحوه.

وقد يمكن فرض دخولها في الفقه من حيث إنّ المبحوث عنه فيها هو أفعال المكلّفين من جهة الاقتضاء والتخيير، وبما أنّ المقدّمة من أفعال المكلّف، فالبحث عن وجوبها يكون بحثاً فقهيّاً.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) لإخراج المقدّمة من المسائل الفقهيّة بقوله:«وأمّا جعلها من المسائل الفقهيّة، ففي غاية البعد؛ فإنّ علم الفقه متكفّل لبيان أحوال موضوعات خاصّة، كالصلاة والصوم وغيرهما،

ص: 8


1- كفاية الاُصول: ص 89.

والبحث عن وجوب كلّيّ المقدّمة التي لا ينحصر صدقها بموضوع خاصّ لا يتكفّله علم الفقه أصلاً»(1).

إذ فيه: أنّ ما أفاده(قدس سره) إنّما يتمّ في مقام التفريق بين المسائل الفقهيّة والقواعد الفقهيّة، حيث يقال: إنّ موضوع المسألة إن كان عنواناً خاصّاً كانت من المسائل، وإن كان عامّاً دخلت هي في القواعد.

مضافاً: إلى أنّ مجرّد كون الموضوع عنواناً عامّاً لا يوجب خروج المسألة عن المسائل الفقهيّة، لما نراه من أنّ كثيراً من المسائل الفقهيّة يكون الموضوع فيها قابلاً للتبدّل والاختلاف؛ كما في النذر - مثلاً - فإنّه تارةً يتعلّق بالصلاة، وأُخرى بالصوم، وثالثة بالحج، ورابعة بالزيارة، وهكذا، ومثله: العهد واليمين، ومع ذلك، فلم يكن هذا الاختلاف في المتعلّق والموضوع موجباً للخروج عن حيّز المسائل الفقهيّة.

على أنّ خروجها عن المسائل الفقهيّة، لو سُلِّم، لا يكون - بمجرّده - موجباً لدخولها في المسائل الاُصوليّة؛ لأنّ دخولها في المسائل الاُصوليّة هو فرع صدق تعريف المسائل الاُصوليّة عليها وشموله لها.وقد يقال: بأنّه يمكن دخولها في المسائل الكلاميّة، على اعتبار أنّ البحث فيها إنّما يرجع - في الحقيقة - إلى البحث عن استتباع المقدّمة فعلاً أو تركاً للثواب أو العقاب، ومثله يكون داخلاً في الأبحاث الكلاميّة.

ولكن فيه: أنّ ترتّب الثواب ليس على امتثال المقدّمة، وكذلك

ص: 9


1- أجود التقريرات 1: 213.

استحقاق العقاب، ليس على عصيانها؛ لأنّ وجوبها - على القول به - إنّما يكون وجوباً غيريّاً، فليس فيها من مصلحة نفسيّة؛ لأنّ الوجوب الغيريّ ينشأ عن مصلحة في الغير، لا عن مصلحة في نفس متعلّقه، فالثواب المترتّب على الإتيان بالمقدّمة إنّما يترتّب في واقع الأمر على قصد إطاعة ذي المقدّمة مطلقاً، ولو لم نقل بالملازمة، وكذلك استحقاق العقاب، فهو إنّما يترتّب - أيضاً - على مخالفة الأمر بذي المقدّمة، لا على مخالفة وجوب المقدّمة من حيث هو.

وممّا تقدّم عُلم: أنّ مقتضى التحقيق هو القول بدخول هذه المسألة في المسائل الاُصوليّة، وأنّها ليست من المسائل الفقهيّة؛ لأنّ البحث عنها ليس عن وجوب المقدّمة، وإن أوهمت ذلك بعض العبارات، وإنّما هو بحث عن الملازمة، والوجوب المذكور يكون نتيجتها.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ هذه المسألة هي من المبادئ الأحكاميّة، كما نُسب إلى العضديّ تبعاً للحاجبيّ وشيخنا البهائيّ(قدس سره)(1)، بتقريب إنّ تلك المبادئ عبارة عن حالاتالأحكام الشرعيّة من حيث تنويعها إلى التكليفيّة والوضعيّة، وكون الأحكام التكليفيّة بأسرها متضادّة فيما بينها، واستلزام بعضها لحكم الآخر.

أو فقل: إنّ المعروف من المبادئ الأحكاميّة عند الاُصوليّين هي

ص: 10


1- انظر: منتهى الدراية 2: 98.

المسائل التي تكون محمولاتها من عوارض الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة، كالتضادّ بين الأحكام واستلزام بعضها لبعض. فلمّا كان البحث في مسألة المقدّمة عن الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، كانت - لا محالة - من المبادئ الأحكاميّة.

فيرد عليه: أنّ حال مسألة مقدّمة الواجب يكون كحال بعض المسائل التي من جهة، تكون داخلة في المسائل الاُصوليّة، ومن جهة أُخرى، تكون داخلة في المسائل الكلاميّة، ومن جهة ثالثة، في الفقهيّة، وهكذا... وحينئذٍ: فلا ضير في أن يكون لمسألتنا جهتان أو أكثر، فمن كلّ جهة يُبحث عنها تكون تدخل في واحدة من الجهتين أو أكثر.

فمن الجهة المذكورة، لا مانع من دخول المسألة في المبادئ، وهذا لا ينافي أنّها من جهة أُخرى، وهي كون نتيجتها تقع في طريق الاستنباط، يصحّ أن تكون داخلة في المسائل الاُصوليّة.

ومن هنا يظهر: ما في كلام بعض المحقّقين المعاصرين(رحمة الله)، من «أنّ المسألة ليست من المسائل الاُصوليّة ولا الفقهيّة، وإنّما هي من مبادئ الاُصول»(1).أمّا أنّها ليست من المسائل الاُصوليّة فقد عرفت الحال فيه. وأمّا ما ذكره من أنّها ليست من المسائل الفقهيّة فهو حقّ.

ص: 11


1- منتقى الاُصول 2: 100.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ هذه المسألة هي من المبادئ التصديقيّة لعلم الاُصول، بناءً على ما اشتهر بينهم من أنّ موضوع علم الاُصول هي الأدلّة الأربعة، والبحث في هذه المسألة إنّما هو عن تحقّق الملازمة، التي هي حكم العقل، أو عدم تحقّقها، وليس بحثاً عن ما هو من عوارض أحد الأدلّة الأربعة، فلا محالة، تكون خارجةً عن المسائل، داخلةً في المبادئ التصديقيّة لهذا العلم.

فيرد عليه:

أوّلاً: إنّ موضوع علم الاُصول ليس هو الأدلّة الأربعة، حتى يقال بأنّ من جملتها العقل، حتى يرد الإشكال.

وثانياً: على فرض التنزّل، فأيّ مانع - كما أشرنا - من أن يكون للمسألة جهات متعدّدة؟ فهي بإحدى الجهات تكون داخلة في هذا العلم، وبجهات أُخرى تكون داخلة في علوم أُخرى.

الأمر الثاني:

أنّ محلّ النزاع في هذه المسألة ليس هو اللّابدّيّة العقليّة، والملازمة التي يقضي بها العقل بين وجود المقدّمة ووجود ذيها؛ لأنّ ذا المقدّمة لا يمكن حصوله عقلاً إلّا بعد فرضوجود المقدّمة، فوجودها علّة لوجود ذي المقدّمة، ولا سبيل إلى إنكار هذا، ولا اختصاص لها بالمقدّميّة الشرعيّة، بل هذا ثابت حتى لدى المنكرين للحسن والقبح

ص: 12

العقليّين، فمورد النزاع إنّما هو الملازمة من جهة الوجوب الشرعيّ، والمراد من الوجوب الذي يبحث عن ثبوته للمقدّمة هو الوجوب الغيريّ.

الأمر الثالث :أنّ وجوب المقدّمة - كما عرفنا - وجوب عقليّ لا لفظيّ :

وفي هذا يقول صاحب الكفاية(قدس سره):

«ثمّ الظاهر - أيضاً - أنّ المسألة عقليّة، والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه، لا لفظيّة كما ربّما يظهر من صاحب المعالم حيث استدلّ على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافاً إلى أنّه ذكرها في مباحث الألفاظ، ضرورة أنّه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدّمته ثبوتاً محلّ الإشكال، فلا مجال لتحرير النزاع في الإثبات والدلالة عليها بإحدى الدلالات الثلاث، كما لا يخفى»(1).

ومحصّل ما أفاده): أنّ أصل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته محلّ إشكال، فلابدّ من إيقاع البحث فيه ثبوتاً، ولا معنى لإيقاع البحث في مقام الإثبات؛ إذ ليسوجوب المقدّمة مدلولاً للّفظ بأيّ نحوٍ من أنحاء الدلالة، حتى يتأتّى البحث والنزاع في كون هذا الوجوب مدلولاً للّفظ أو ليس مدلولاً له.

ص: 13


1- كفاية الاُصول: ص 89.

وحيث كان وجوبها عقليّاً، فالبحث في هذه المسألة إنّما هو في استقلال العقل في الحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، بحيث إذا وجب شيء ما شرعاً استقلّ العقل بوجوب مقدّمته كذلك، أي: شرعاً أيضاً، وليس البحث عنها حول دلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدّمته، كما ربّما يظهر من كلام صاحب المعالم(قدس سره)، حتى تصبح المسألة لفظيّة(1).

فإنّ استدلاله على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث ضعيف - كما أشار إليه بعض شرّاح الكفاية(2) -؛ لأنّ الأمر بالشيء هب أنّه لا يدلّ بشيءٍ من الدلالات الثلاث على وجوب المقدّمة - أمّا عدم المطابقة والتضمّن فواضح، وأمّا عدم الالتزام، فلما يُشترط في دلالة اللّفظ على الخارج التزاماً من اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ، بحيث يستحيل تصوّر الملزوم بدون اللّازم، إمّا عقلاً كما في العمى والبصر، وإمّا عرفاً كما في الجود والحاتم، ومن المعلوم انتفاء اللّزوم كذلك في المقام -، إلّا أنّ عدم دلالة اللّفظ التزاماً ممّا لا يتنافى مع وجودالملازمة عقلاً بين وجوب الشيء شرعاً ووجوب مقدّمته كذلك.

ص: 14


1- انظر: معالم الاُصول: ص 62، قال(قدس سره): «وأمّا غير السبب، فالأقرب عندي قول المفصّل، لنا أنّه ليس لصيغة الأمر دلالة على إيجابه بواحدة من الثلاث، وهو ظاهر».
2- لاحظ: عناية الاُصول 1: 281 - 282.

الأمر الرابع: أنّ الوجوب ينقسم إلى أقسام:

1- الوجوب النفسيّ.

2 - والوجوب الطريقيّ.

3 - والوجوب الغيريّ.

والظاهر: أنّ الوجوب المترتّب على المقدّمة ليس من قبيل الوجوب النفسيّ؛ إذ ليس فيها - بما هي مقدّمة - مصلحة في نفسها، حتى نقول بأنّها واجبة بالوجوب النفسيّ.

كما أنّ المراد من الوجوب هنا ليس هو الوجوب الطريقيّ؛ لأنّ الوجوب الطريقيّ هو بمعنى تنجيز الواقع عند الإصابة، ووجوب المقدّمة ليس كذلك، فإنّه - على القول به - يكون تحقّقه متوقّفاً على تحقّق وجوب ذيها، فلا محالة يكون النزاع هنا في الوجوب الغيريّ.

الأمر الخامس: ينقسم الوجوب باعتبارٍ آخر إلى الأصليّ والتبعيّ:

والمراد من الأصليّ:

تارةً يكون هو الواجب المستقلّ في الخطاب، في قبال التبعيّ الذي هو غير مستقلّ فيه.وأُخرى: هو الواجب الذي لا ينشأ عن إرادة أُخرى، بل هو مراد بإرادة مستقلّة غير تابعة لإرادة أُخرى، فإن كان مراداً بإرادة أُخرى، فهو واجب تبعيّ.

ص: 15

ومحلّ البحث هو الثاني، فهل الوجوب المتعلّق بالمقدّمة يكون ناشئاً من نفس الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة وتترشّح منه هي بعينها إلى المقدّمة أم لا؟ وأمّا الوجوب الأصليّ بالمعنى الأوّل فليس مبحوثاً عنه أو متنازعاً فيه هنا؛ لأنّ إيجاب المقدّمة بخطاب مستقلّ قليل جدّاً.

الأمر السادس: تنقسم المقدّمة إلى خارجيّة وداخليّة:

وكلّ منهما ينقسم إلى قسمين: بالمعنى الأخصّ وبالمعنى الأعمّ. والمراد بالمقدّمة الداخليّة أجزاء الماهيّة المركّبة، وبالخارجيّة: الاُمور الخارجة عن الماهيّة التي يتوقّف وجود المأمور به عليها.

والمراد ﺑ «المقدّمة الداخليّة بالمعنى الأخصّ»، فهي ما يكون دخيلاً في ماهيّة المركّب قيداً وتقييداً، ويعبّر عنها بالأجزاء، وتكون دخيلة بذاتها في المركّب، واقعة تحت نفس الطلب والإرادة النفسيّة المتعلّقين به.

وفي قبالها ما يُعرف ﺑ «المقدّمة الخارجيّة بالمعنى الأعمّ»، وهي ما لا تكون دخيلة في ماهيّة المأمور به، أعمّ من أن يكون التقييد داخلاً أو غير داخل. فمثال الأوّل:الشرائط الشرعيّة، كالوضوء، ومثال الثاني: الاُمور التي يكون وجود الواجب متوقّفاً عليها.

والمراد ﺑ «المقدّمة الداخليّة بالمعنى الأعمّ» ما يكون التقييد فيها داخلاً في ماهيّة المأمور به سواء كانت ذاتها داخلة أيضاً أم لم تكن.

وأمّا «المقدّمة الخارجيّة بالمعنى الأخصّ» فهي ما لا تكون داخلةً في

ص: 16

ماهيّة الواجب، لا قيداً ولا تقييداً، وإنّما يكون لها دخل فيه عقلاً أو عادةً، لتوقّف وجود الواجب عليها، كما أنّ الصعود إلى السطح يكون متوقّفاً على نصب السلّم.

وقد تعرّض صاحب الكفاية(قدس سره) إلى البحث عن المقدّمة الداخليّة من جهتين:

الجهة الأُولى: في صحّة إطلاق المقدّمة عليها:

إذ قد يستشكل في ذلك بأنّ المقدّميّة تتوقّف على كون المقدّمة سابقة على ذي المقدّمة، والأجزاء غير سابقة على المركّب؛ لأنّ الكلّ هو عين الأجزاء، ونفس الشيء لا يكون سابقاً عليه.

وقد أجاب(قدس سره) عن هذا الإشكال بأنّ الأجزاء بالأسر لها جهتان واقعيّتان، إحداهما مترتّبة على الأُخرى، فإنّ في كلّ جزء جهة ذاته وجهة اجتماعه مع غيره من الأجزاء. ولا يخفى: أنّ جهة الذات متقدّمة على جهة اجتماع الذات مع الذات الأُخرى تقدّم المعروض على العارض؛ لأنّ جهة الاجتماع عارضة على الذوات.وعليه فنقول: إنّ الأجزاء إذا لوحظت بجهة ذاتها كانت المقدّمة، وإذا لوحظت بوصف الاجتماع والانضمام كانت الكلّ، فالمقدّمة سابقة على الكلّ وذي المقدّمة سبْقَ المعروض على العارض. وهذا السبق هو ما يصحّح إطلاق المقدّميّة عليها.

ص: 17

قال في الكفاية:

«الأمر الثاني: أنّه ربّما تقسّم المقدّمة إلى تقسيمات:

منها: تقسيمها إلى الداخليّة، وهي الأجزاء المأخوذة في الماهيّة المأمور بها، والخارجيّة، وهي الاُمور الخارجة عن ماهيّته ممّا لا يكاد يوجد بدونه.

وربّما يشكل في كون الأجزاء مقدّمة له وسابقة عليه: بأنّ المركّب ليس إلّا نفس الأجزاء بأسرها، والحال أنّ المقدّمة هي نفس الأجزاء بالأسر، وذو المقدّمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع، فيحصل المغايرة بينهما، وبذلك ظهر: أنّه لابدّ في اعتبار الجزئيّة أخذ الشي ء بلا شرط، كما لابدّ في اعتبار الكلّيّة من اعتبار اشتراط الاجتماع»(1).

أمّا المقدّمات الخارجيّة، بحيث يكون القيد خارجاً والتقييد داخلاً، كالشرط والمعدّ وعدم المانع، فهذه ممّا لا شكّ في دخولها في محلّ النزاع، وأنّ النزاع في ثبوت الملازمة بين الحكم العقل والشرع فيها أو عدم ثبوتها متأتٍّ، حيث كان لها وجود وللواجب وجود آخر.

وأمّا المقدّمات الداخليّة، فهل تقع محلّاً للنزاع أم لا؟الحقّ عدم دخولها في محلّ البحث؛ فإنّ المقدّمة يجب أن تكون سابقة على ذي المقدّمة، والأجزاء لا تكون سابقة عليه، بل هي نفس

ص: 18


1- كفاية الاُصول: ص 89 - 90.

ذي المقدّمة، كما أنّه على القول بالملازمة، فلكي يمكن أن يترشّح إلى المقدّمة وجوب غيريّ من ذي المقدّمة، فلابدّ من المباينة والاثنينيّة بينهما، ولكنّ الأجزاء عين ذي المقدّمة.

تفصيل ذلك: أنّ المركّب على قسمين: حقيقيّ وحكميّ.

فأمّا الحقيقيّ: فإمّا أن تكون أجزاؤه عقليّة أو خارجيّة، فالأوّل: كالجنس والفصل، والثاني: كالصورة والمادّة. وأمّا الحكميّ: فكالمركّب الاعتباريّ.

وفي كلا القسمين، لا يمكن جريان النزاع؛ لأنّ النزاع إنّما يجري إذا فُرض كون الأجزاء متقدّمة على المركّب وسابقة عليه. وفي محلّ البحث، فإنّ الأجزاء هي عين الكلّ في جميع الأقسام؛ أمّا الجنس والفصل فهما أجزاء تحليليّة عقليّة، ولا وجود لهما في الخارج في قبال المركّب كي يأتي النزاع فيهما. وأمّا المادّة والصورة، فكذلك، فإنّهما وإن كانا من الأجزاء الخارجيّة في الخارج، إلّا أنّ وجودهما في الخارج هو عين وجود المركّب، ولا امتياز لهما في الوجود الخارجيّ عن المركّب منهما، ليكون المركّب متوقّفاً في وجوده عليهما.

وأمّا المركّب الاعتباريّ فقد يتوهّم دخوله في محلّ النزاع؛ لأنّ بين الأجزاء وبين الكلّ تغايراً اعتباريّاً، وهذا المقدار من التغاير كافٍ، كما نسب إلى شيخنا الأنصاري(قدس سره) في التقريرات، من أنّ «الجزء له اعتباران: أحدهما: اعتباره لابشرط، وهو بهذا الاعتبار عين الكلّ ومتّحد معه؛ إذ

ص: 19

لا ينافي ذلك انضمام سائر الأجزاء إليه، فيصير مركّباً منها، ويكون هو الكلّ. وثانيهما: اعتباره بشرط لا، وهو بهذا الاعتبار يغاير الكلّ»(1)، وهذا المقدار في التغاير كافٍ.

ولكنّك خبير بأنّ هذا التغاير الاعتباريّ غير مفيد؛ لأنّه لا يوجب تعدّد الوجود المعتبر في الواجب ومقدّمته، وليس هناك في الخارج وجودان حتى يعدّ أحدهما نفسيّاً والآخر مقدّميّاً، فلا يفيد التعدّد الاعتباريّ مع الاتّحاد الخارجيّ، فالإشكال باقٍ بحاله.

ولكن قد أُجيبَ عن هذا بأنّ الفرق بين الجزء والكلّ حاصل، فإنّه «إذا لوحظت الأجزاء بجهة ذاتها كانت المقدّمة، وإذا لوحظت بوصف الاجتماع والانضمام كانت الكلّ، فالمقدّمة سابقة على الكلّ وذي المقدّمة سبق المعروض على العارض، وهذا السبق يصحّح إطلاق المقدّميّة عليها. ويمكن التعبير عن الفرق بين الأجزاء والكلّ بحسب اصطلاح المعقول بأنّ الأجزاء ما لوحظت لا بشرط، والكلّ ما لوحظ بشرط شيء»، وهذا كما هو الفرق بين الأجزاء الخارجيّة، كالمادّة والصورة، والأجزاء التحليليّة، كالجنس والفصل؛ لعدم صحّة الحمل في الأجزاء الخارجيّة، فلا يمكن حمل المادّة على الصورة؛ لأنّها أُخذتفيها بشرط لا، وأمّا الأجزاء التحليليّة، فلمّا كانت مأخوذة لا بشرط،

ص: 20


1- مطارح الأنظار 1: 211.

فيصحّ الحمل وليس ثمّة ما يمنع منه.

وقد يستشكل هنا: بأنّ أخذ الجزء بشرط لا، لا يلائم الجزئيّة؛ لأنّ الأجزاء عين الكلّ في الخارج، ومعه: فكيف يمكن تصوّره بشرط لا؟! فكون الجزء الخارجي مأخوذاً بشرط لا إنّما هو بلحاظ الحمل، لا بلحاظ الجزئيّة والكلّيّة، فإنّ كون الجزء مأخوذاً بشرط لا، لايتلاءم مع كونه جزءً للكلّ؛ لأنّ الجزئيّة والكلّيّة متضايفان.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ لحاظ الشيء بشرط لا له معنيان:

فتارةً: يكون المراد من لحاظه بشرط لا: لحاظ الشيء في قبال غيره، بحيث لا يُرى غيره.

وأُخرى: يكون المراد من لحاظه كذلك لحاظه بشرط عدم الغير، بحيث يُرى عدم الغير.

والمراد هنا هو الأوّل؛ إذ كما أنّ المراد من ملاحظة الأجزاء بشرط شيء هو ملاحظتها بشرط الانضمام، فإنّ ملاحظة الأجزاء بشرط لا تعني ملاحظتها لا بشرط الانضمام، وملاحظتها بهذا الاعتبار لا تنافي اعتبارها مع الكلّ، بخلاف ما لو اُريد من ملاحظتها بشرط لا ملاحظتها بشرط عدم الانضمام، وقد فرضنا أنّها - أي الأجزاء - هي عين الكلّ في الخارج، ومعه: فكيف يمكن تصوّرها بشرط عدم الانضمام مع أنّها بهذا الاعتبار ليست بأجزاء للكلّ؟!وممّا ذكرنا ظهر مقصود صاحب التقريرات من قوله: «إنّ الجزء له

ص: 21

اعتباران: أحدهما: اعتباره لا بشرط... »، إلى آخر ما جاء في كلامه المتقدّم؛ فإنّ مراده من اعتبار الجزء بشرط لا: ملاحظة الأجزاء بنفسها في قبال الكلّ، بحيث يكون الجزء بهذا الاعتبار مغايراً للكلّ، كما صرّح به هو نفسه. وليس المراد من بشرط لا، أي: عدم الانضمام.

وعليه: فما أورده عليه بعض المحقّقين المعاصرين من أنّ «جواب صاحب التقريرات في بيان الفرق بين الجزء والكلّ بأنّ الجزء مأخوذ بشرط لا، غفلة منه بأنّ ذلك لا يتلاءم مع كونه جزءاً للكلّ؛ لأنّ الكلّيّة والجزئيّة متضائفان، وأخذ الجزء الخارجيّ بشرط لا بلحاظ الحمل، لا بلحاظ الجزئيّة والكليّة»، غير تامّ(1).

ومن هنا، ثبت بطلان ما أفاده الاُستاذ المحقّق(قدس سره) من أنّ لحاظ الجزء «بشرط لا، مع كونه جزءاً، متباينان لا يجتمعان؛ لأنّ الشيء - مقيّداً بعدم انضمامه مع غيره - محال أن يكون جزءاً للمركّب». إلى أن يقول: «فالفرق بين الكلّ والجزء هو أنّ الأجزاء إذا لوحظت بشرط الاجتماع كانت كلّاً، وإذا لوحظت لا بشرط عن الاجتماع والانضمام كانت أجزاءً»(2).إذ قد ذكرنا أنّه يصحّ القول بأنّ الأجزاء إذا لوحظت بشرط لا كانت أجزاءً، ولكن على أن يكون المراد من ملاحظتها بشرط لا هو المعنى

ص: 22


1- منتقى الاُصول 2: 103.
2- منتهى الاُصول 1: 278.

الأوّل، أي: لا بمعنى ملاحظتها بشرط عدم الانضمام.

ولكن بالرغم من كلّ ما ذكرناه، فالإشكال يبقى على حاله؛ لأنّ مقدّميّة شيء لشيء تستلزم وجود المقدّمة بوجود مغاير لوجود ذي المقدّمة، وصرف المغايرة الاعتباريّة بينهما لا يستلزم مغايرة وجود أحدهما لوجود الآخر، كما هو أوضح من أن يخفى.

وأمّا الإشكال الثاني - وهو عدم إمكان ترشّح الأمر الغيريّ من الكلّ إلى الجزء بعد أن كان للأجزاء وجوب نفسيّ ضمنيّ لكونها مقدّمات داخليّة - فقد أشار إليه صاحب الكفاية(قدس سره) في حاشيةٍ له في المقام، ونصّ ما أفاده(قدس سره):

«وجهه: أنّه لا يكون فيه أيضاً ملاك الوجوب الغيريّ، حيث إنّه لا وجود له غير وجوده في ضمن الكلّ يتوقّف على وجوده، وبدونه لا وجه لكونه مقدّمة كي يجب بوجوبه أصلاً، كما لا يخفى. وبالجملة: لا يكاد يُجدي تعدّد الاعتبار الموجب للمغايرة بين الأجزاء والكلّ في هذا الباب، وحصول ملاك الوجوب الغيريّ المترشّح من وجوب ذي المقدّمة عليها، لو قيل بوجوبها، فافهم»(1).وحاصله: أنّه لا مقتضي للوجوب الغيريّ فيها؛ وذلك لأنّ ما يدلّ على وجوب المقدّمة وترشّح الوجوب عليها من ذي المقدّمة إنّما

ص: 23


1- كفاية الاُصول: ص 91.

هو الارتكاز العقلائيّ العرفيّ، وهو غاية ما يدلّ على ثبوت الوجوب والترشّح في مورد تعدّد الوجود ومغايرة وجود المقدّمة لوجود ذيها، وأمّا إذا لم يكن هناك مغايرة وجوديّة بين المقدّمة وذيها، بل كانا متّحدين في الوجود، وتصحيح المقدّميّة بوجه من الوجوه الدقيقة العقليّة، كما في الكلّ والجزء، فالدليل قاصر عن إثبات وجوبها وترشّح الوجوب من ذيها عليه.

وبعبارة أُخرى: فالمقدّمات الداخليّة حيث لا وجود لها غير وجود الكلّ، فهي واجبة بالوجوب النفسيّ الذي هو عين وجوب الكلّ، فلا مجال - حينئذٍ - لأن يترشّح الوجوب من ذي المقدّمة عليها حتى تكون واجبة بالوجوب الغيريّ. فعدم وجوبها بالوجوب الغيريّ هنا إنّما يستند إلى عدم وجود المقتضي، وعدم قابليّة المحلّ، وليس ناشئاً من وجود المانع.

نعم، يمكن الإشكال من جهةٍ أُخرى، يكون الامتناع فيها مستنداً إلى وجود المانع، وهو اجتماع المثلين. وقد أشار إلى هذا الإشكال في متن الكفاية، حيث قال:

«ثمّ لا يخفى: أنّه ينبغي خروج الأجزاء عن محلّ النزاع - كما صرّح به بعض - وذلك لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتاً وإنّما كانت المغايرة بينهما اعتباراً، فتكون واجبةً بعين وجوبه، ومبعوثاً إليها بنفسالأمر الباعث إليه، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر، لامتناع

ص: 24

اجتماع المثلين»(1).

وتوضيح ما أفاده): أنّ الأجزاء لمّا كانت عين الكلّ في الوجود، كان الأمر النفسيّ المتعلّق بالكلّ متعلّقاً بها حقيقةً، فهي متعلّقة للوجوب النفسيّ، وعليه: فيلزم من تعلّق الوجوب الغيريّ - بناءً على ثبوت مقتضيه - اجتماع حكمين على موضوعٍ واحد، وهو محال؛ لأنّه من باب اجتماع المثلين، وهو في المنع كاجتماع الضدّين، فالأجزاء لا تكون متعلّقة للوجوب الغيريّ، وإن ثبت مقتضيه فيها، وذلك لوجود المانع، وهو استلزامه المحال.

إن قلت: إنّ تعدد الجهة كافٍ في ورود الأمر الغيريّ، ومع تعدّدها لا يلزم الاجتماع، والمفروض هنا تعدّدها؛ لأنّ متعلّق الوجوب النفسيّ هو الأجزاء من حيث كونها عين الكلّ، ومتعلّق الوجوب الغيريّ هو الأجزاء من حيث كونها مقدّمة لوجود الكلّ، ومع تعدّد الجهة لا يلزم اجتماع المثلين، كما لم يلزم اجتماع

الضدّين في مثل الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة بسبب تعدّد الجهة، فإنّها من حيث كونها صلاةً تكون واجبةً، ومن حيث كونها غصباً تكون حراماً.

قلت: تعدّد الجهة إنّما يكون مفيداً ويرفع محذور الاجتماع لو فرضنا الجهة الملحوظة تقييديّة، وهي التي تقع موضوعاً للخطاب،

ص: 25


1- كفاية الاُصول: ص 90.

بلا فرق بين أن يكون الموضوع خارجيّاً،كالفقير والغنيّ وأمثال ذلك، أو فعلاً، كالصلاة والغصب. فإذا كانت الجهة تقييديّة كانت موجبة لتعدّد الموضوع، فتعدّدها حينئذٍ يكون مجدياً في رفع غائلة الاجتماع ومحذوره. وأمّا لو كانت تعليليّة، فإنّ تعدّدها حينئذٍ لا يكون مجدياً، ويتأتّى فيه الإشكال بلزوم اجتماع المثلين، وأمّا في مسألة الغصب والصلاة، فإنّما لم يتأتّ محذور اجتماع الضدّين؛ لأنّ الحكم لم يتعلّق بالجهة التعليليّة.

وعليه: فحيثما تكون المقدّميّة من الجهات التعليليّة، فإنّ معروض الوجوب الغيريّ يكون هو ذات المقدّمة، لا بعنوان كونها مقدّمة، والمفروض أنّها عين الكل. فالوجوب العارض إنّما هو الوجوب النفسيّ الضمنيّ، وقد عرض لها وجوب آخر، فيكون - حينئذٍ - من باب اجتماع المثلين؛ وذلك لأنّ المتوقّف عليه وجود ذي المقدّمة إنّما هو ذات المقدّمة، لا عنوانها، أعني: المقدّميّة. نعم، تكون المقدّميّة علّة لترشّح الحكم من ذي المقدّمة إليها.

وقد أجاب المحقّق النائيني(قدس سره) عن هذا الإشكال بقوله:

«فتلخّص: أنّ حيثيّة الانضمام الطارئة على ذوات الأجزاء أوجبت كونها أمراً آخر في قبال نفس ذواتها التي هي مقدّمة لهذا الأمر الواحد اعتباراً في مقام التشريع والامتثال، وبذلك يندفع إشكال ترشّح الأمر الغيريّ بشي ء من الأمر النفسيّ المتعلّق بذاك الشي ء بعينه. نعم، حيث إنّ

ص: 26

ذوات الأجزاء موجودة في ضمن المركّب لا بوجودٍ آخر، فيبقى إشكال اجتماع المثلين بحاله، وقد عرفت أنّهليس فيه كثير إشكال، للزوم مثله في العبادات الواجبة التي هي مقدّمة لواجبٍ آخر، وإنّه يمكن الجواب عنه بالالتزام بالاندكاك والتأكّد»(1).

وحاصله: أنّه لا بأس بورود وجوبين على شيءٍ واحد؛ فإنّ الوجوب الغيريّ لا بأس بوروده على الأجزاء، ولو كان الوجوب النفسيّ قد تعلّق بالأجزاء أيضاً؛ وذلك لأنّ هذا الوجوب الغيريّ الذي يتعلّق بها يكون مؤكّداً للوجوب النفسيّ، فليس هناك وجوبان مستقلّان حتى يلزم اجتماع المثلين، ومع القول بالتأكّد يرتفع محذور اجتماع المثلين.

وذلك نظير ما نلتزم به في غير الأجزاء من الواجبات النفسيّة، كصلاة الظهر تكون مقدّمة لصلاة العصر، بمعنى: أنّه لابدّ من الإتيان بها قبلها، فهي، بالرغم من أنّها واجبة بالوجوب النفسيّ، إلّا أنّ وجوبها هذا يتأكّد بثبوت ملاك الوجوب الغيريّ فيها أيضاً، ومعه: فلا يلزم اجتماع المثلين، كما هو واضح. ففي ما نحن فيه، وهو الأجزاء، يكون الأمر أيضاً من هذا القبيل.

ولكنّ نفس المحقّق النائيني) استشكل في هذا الوجه، بما لفظه:

«هذا، ولكنّ الإنصاف أنّ ما ذكرناه من التقدّم والتأخّر، وإن كان

ص: 27


1- أجود التقريرات 1: 218.

صحيحاً بالنظر إلى لحاظ الجزء والمركّب في نفسيهما، إلّا أنّه لا يصحّح اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغيريّالذي ملاكه توقّف أحد الوجودين على الآخر، وبما أنّه ليس في مفروض الكلام مغايرة بين الوجودين، فلا يُعقل ترشّح الوجوب الغيريّ المتعلّق بالأجزاء من الوجوب النفسيّ المتعلّق بالمركّب الذي هو نفس الأجزاء في الخارج على الفرض»(1).

وتوضيحه: أنّ التأكّد ها هنا ممنوع؛ بل التأكّد إنّما يتصوّر في غير المورد الذي يكون الوجوب الغيريّ فيه معلولاً للوجوب النفسيّ، نظير مثال صلاة الظهر. وأمّا إذا كان الوجوب الغيريّ معلولاً لنفس الوجوب النفسيّ، كما هو الحال في محلّ البحث، وهي الأجزاء، فإنّ وجوبها الغيريّ يترشّح من وجوبها النفسيّ، فلا يمكن فرض التأكّد فيه.

وأمّا المحقّق العراقيّ(قدس سره) فقد أورد على دعوى التأكّد بما هذا لفظه:

«وتوهّم التأكّد في مثل المقام غلط؛ إذ الوجوب الغيريّ معلول الوجوب النفسيّ ومتأخّر عنه بمقدار تخلّل الفاء الحاصل بين العلّة والمعلول، وهذا الفاء مانع عن اتّحاد وجودهما، ولو بالتأكّد»(2).

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّه ليس هناك فاصلة بين العلّة والمعلول بالفاء، بل هما واحد

ص: 28


1- المصدر نفسه.
2- مقالات الاُصول 1: 294.

خارجاً، ويكونان في زمان واحد، وإنّما العقلهو الذي يرى تقدّم العلّة على المعلول، ومن هنا يقال: إنّ تقدّم العلّة على المعلول تقدّم بالرتبة.

وثانياً: أنّ المناط في التأكّد إنّما هو اجتماع الحكمين زماناً على مورد واحد، سواءً اتّحداً بالرتبة أيضاً أم لا، فمن نذر بأن يأتي بصلاة الظهر - مثلاً - فلا ينبغي الإشكال في تأكّد وجوبها النفسيّ بالوجوب الطارئ بالنذر.

وأورد عليه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بما نصّه:

«ولنأخذ بالنقد عليه، وهو أنّ ما أفاده(قدس سره) مبتنٍ على الخلط بين تقدّم حكمٍ على حكمٍ آخر زماناً وبين تقدّمه عليه رتبةً، مع مقارنته له كذلك، بيانه: أنّ الاندكاك بين الحكمين إنّما لا يُتصوّر فيما إذا كانا مختلفين زماناً، بأن يكون أحدهما في زمانٍ والآخر في زمانٍ آخر، بحيث لا يجتمعان في زمانٍ واحد، ففي مثل ذلك لا يُعقل الاندكاك والتأكّد، وأمّا إذا كانا مقارنين زماناً ومجتمعين فيه، وإن كانا مختلفين رتبةً، فلا مناص من الالتزام بالتأكّد والاندكاك»(1)، إلى آخر ما جاء في كلامه«.

وحاصل ما أفاده(قدس سره): أنّ امتناع التأكّد إنّما يتمّ لو كان أحدهما سابقاً على الآخر زماناً، بمعنى أنّ وجود أحدهما بعد وجود الآخر، لا ما كان أحدهما متقدّماً على الآخر رتبةً مع تقاربهما في الوجود، كما فيما نحن

ص: 29


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 120.

فيه، إذ العلّة لا تنفكّ عنالمعلول وجوداً، والسبق واللّحوق بينهما رتبيّ لا زمانيّ، فلا مانع من التأكّد.

وأمّا ما قد يقال: من أنّه لا ثمرة لهذا الوجوب؛ لأنّه بعد ثبوت الوجوب النفسيّ على الأجزاء، فهو يغني عن وجوبها بالوجوب الغيريّ.

فقد يُجاب عنه: بأنّ وجوب الأجزاء بالوجوب النفسيّ محلّ كلام كما ربّما يظهر من التقريرات، حيث قال:

«وربّما يتوهّم: أنّ وجوب الكلّ مركّب من وجوباتٍ متعلّقة بأجزائه، وهو فاسد جدّاً؛ ضرورة أنّ الوجوب المتعلّق بالكلّ أمر بسيط، وهي الحالة الطلبيّة والإرادة الفعليّة، ولا يُعقل التركيب فيها»(1).

ولكنّ هذا الكلام محلّ تأمّل؛ لأنّ الأجزاء لها وجوب نفسيّ، ووجوب الكلّ مركّب من هذه الوجوبات المتعدّدة، بل هناك وجوب واحد تعلّق بالأجزاء، ويتجزّأ هذا الوجوب ويتحصّص، لترد كلّ حصّة منه على واحدٍ من الأجزاء، فالأجزاء، وفي حين أنّ لها وجوباً نفسيّاً، إلّا أنّ كلّ تلك الوجوبات تكون في ضمن وجوبٍ واحد، إذ الوجوب النفسيّ الذي يتعلّق بالأجزاء هو من قبيل الوجوب الضمنيّ لا الاستقلاليّ.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الوجوب النفسيّ على قسمين:

أوّلهما: أن يكون من قيام مصلحةٍ واحدةٍ بجميع أجزاء المركّب

ص: 30


1- مطارح الأنظار 1: 211 - 212.

بحيث لا تترتّب تلك المصلحة إلّا على وجودجميعها، كتحريك عدّة من الأشخاص - كالعشرة - الحجر الثقيل، بحيث لا يتحرّك إلّا بتحريكهم، فحركة الحجر، في حين إنّها أمر واحد، موقوفة على جميع ذلك.

والثاني: أن يكون لكلّ واحدٍ من الأجزاء مصلحة مستقلّة، غاية الأمر: أنّ شرط استيفائها هو الإتيان بغيره من الأجزاء، كما لو فرض أنّ المصلحة في القراءة - مثلاً - هي غرس مائة نخلة في الجنّة، ومصلحة الركوع بناء بيتٍ كذائيّ فيها، وهكذا سائر الأجزاء، ولكن كانت هذه المصلحة مشروطة بالإتيان بما بعد كلٍّ من القراءة والركوع، أي: بالإتيان بالأجزاء إلى تماميّة الصلاة، وهكذا...

غير أنّ هذه الوجوبات المتعدّدة المتعلّق بالأجزاء، والتي هي ناشئة عن تلك المصالح المتعددة، تكون - في حقيقة الأمر - ناشئة عن مصلحة واحدة، ومندرجة تحت أمر واحد.

فليس لهذه الوجوبات أوامر متعدّدة مستقلّة، بل جميعها تندرج تحت أمرٍ واحد، وليست كالعموم الاستغراقيّ، كما في مثل: «أكرم العلماء»، بحيث يكون للإكرام المتعلّق بكلّ عالمٍ عالم وجوب مستقلّ ليترتّب على تركه معصية مستقلّة أيضاً.

الأمر السابع: تنقسم المقدّمة إلى عقليّة وشرعيّة وعاديّة:

1) فالمقدّمة العقليّة: هي ما يستحيل وجود ذي المقدّمة بدونها عقلاً،

ص: 31

أو فقل: هي ما يتوقّف وجود الشيء عليه، كالمعلول التكوينيّ المتوقّف وجوده على وجود العلّةالتكوينيّة، فهذا التوقّف - أعني: توقّف المعلول على العلّة - يكون عقليّاً، حيث إنّ العقل يدرك ذلك بنفسه، ومن دون حاجةٍ إلى بيان الشارع.

2) وأمّا المقدّمة الشرعيّة: فهي ما يتوقّف عليها وجود الشيء شرعاً، بمعنى: أنّ الشارع يأخذ بعض الأشياء مقدّمة للواجب، على نحوٍ يكون التقيّد بذلك الشيء دخيلاً في الواجب، ولكنّ نفس القيد يكون خارجاً، كحكم الشارع بتوقّف الصلاة على مطلق الطهارة الحدثيّة والخبثيّة. ويكون هذا التوقّف شرعيّاً بلحاظ نفس هذا الجعل الصادر من الشارع وأخذه ذلك القيد قيداً في الواجب، وإلّا، فبعد فراغ الشارع من الجعل، فلا محالة يكون التوقّف عقليّاً؛ لأنّ وجود التقيّد بدون القيد يكون محالاً.

فإن قلت: فبناءً على هذا يكون مرجع المقدّمة الشرعيّة إلى العقليّة؛ لأنّ ما أخذه الشارع شرطاً وقيداً لشيء يستحيل - عقلاً - وجود ذلك الشيء بدونه، ضرورة أنّ المشروط والمقيّد يستحيل بحكمٍ من العقل أن يوجد بدون قيده وشرطه.

قلنا: إنّ المقدّمة العقليّة هي ما يدركها العقل بنفسه، من دون حاجة إلى بيانٍ وجعلٍ من الشارع، وأمّا المقدّمة الشرعيّة فلابدّ من أخذها شرطاً أو قيداً في الواجب من قبل الشارع، وإن كانت النتيجة، أي: بعد أخذ الشارع لها شرطاً أو قيداً، هي استحالة وجود المشروط بدونهما عقلاً.

ص: 32

3) وأمّا المقدّمة العاديّة: فهي التي يتوقّف وجوده عليها عادةً، بأن جرت العادة على ذلك، من دون توقّفٍ عليهوجوداً، بحيث يمكن تحقّق ذي المقدّمة بدونه، وذلك كجريان العادة حين الخروج من الدار على لبس العمّة والرداء والحذاء، فإنّه يُحكم بالتوقّف العاديّ بين الخروج وبين اللّبس، وإنّما كان توقّفاً عاديّاً لإمكان تحقّق ذي المقدّمة بدونها.

ولا يخفى: أنّ المقدّمة العاديّة تكون خارجةً عن محلّ النزاع، لعدم توقّف وجوديٍّ بين المقدّمة وذيها، كي يتأتّى ترشّح الوجوب منه إليها.

وإذا عرفت ذلك نقول:

لا يخفى أنّ مرجع جميع هذه المقدّمات إلى المقدّمة العقليّة:

أمّا المقدّمة الشرعيّة؛ فلأنّه لو قلنا بكون المقدّمة معتبرة شرطاً في المأمور به كقوله: «صلّ عن طهارة»، فمعناه: أنّه يمتنع حصول المشروط والمقيّد بدون الشرط والقيد، على فرض أنّه لم يكن قيداً شرعيّاً مأخوذاً في المأمور به، ولكنّ الشارع لإحراز تحقّق الإطاعة في الأوامر الواقعيّة كشف عن توقّف المأمور به عليه، كتوقّف الصلاة على الطهارة، فإنّ هذا أيضاً حكم عقلي؛ لأنّه يكشف عن أنّ الفعل التامّ الذي يفي بتمام المصلحة لا يمكن أن يحصل من دون الإتيان بالمقدّمة.

وأمّا المقدّمة العادّيّة؛ فلأنّه لو لم يكن هناك توقّف لذي المقدّمة على المقدّمة - كما مرّ - فهذا لا يكون من المقدّمة أصلاً؛ لأنّ معنى المقدّمة العاديّة حقيقةً إنّما هو التوقّف واستحالة وجود ذي المقدّمة من دونها

ص: 33

عادةً، وإن لم يكن مستحيلاً عقلاً، كالصعود على السطح - مثلاً - فإنّه وإنلم يكن مستحيلاً من دون نصب سلّم للصعود لمن كان قادراً على الطيران، إلّا أنّه بالنسبة إلى غير القادر عليه يكون محكوماً بالاستحالة الفعليّة، وإن كان طيرانه محكوماً بالإمكان الذاتيّ.

فهذا - أيضاً - مردّه إلى الوجوب العقليّ؛ لأنّ العقل - نفسه - هو من يحكم بأنّه إذا أردت الصعود على السطح، فلابدّ لك من نصب السلّم.

الأمر الثامن: تنقسم المقدّمة إلى مقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجود ومقدّمة الوجوب ومقدّمة العلم:

1) أمّا مقدّمة الصحّة: فهي ما تتوقّف عليه صحّة العمل، من دون أن يكون أصل العمل متوقّفاً عليه، كالصلاة التي تتوقّف صحّتها - لا أصل تحقّقها - على الطهارة.

2) وأمّا مقدّمة الوجود: فهي ما يتوقّف عليه ذو المقدّمة في أصل وجوده، كطيّ المسافة، المتوقّفة عليه نفس أعمال الحج.

ولا يخفى: أنّ مقدّمة الصحّة ترجع إلى مقدّمة الوجود على القول بوضع أسامي العبادات للصحيح؛ إذ - بناءً على قول الصحيحيّ - فإنّ غير الصحيح لا يكون فرداً للماهيّة أصلاً؛ لأنّ مرجع صحّة الشيء يكون إلى نفس وجوده؛ فإنّ فقدان الطهارة - التي هي شرط الصحّة، وبفواتها تفوت الصحّة - مانع من وجود تلك الخصوصيّة المأخوذه في الواجب،

ص: 34

وهي التقييد؛ ومحال أن يُحكم على الشيء بالصحّة إذا لم يكن واجداً لجميع خصوصيّاته.وكذا بناءً على قول الأعمّي؛ وذلك لأنّ محلّ البحث هنا إنّما هو مقدّمة الواجب، ومعلوم أنّ الواجب هو خصوص الصلاة الصحيحة، لا ما هو المسمّى باسم (الصلاة)، والصلاة الصحيحة بجميع أجزائها لا يُعقل أن توجد من دون جميع خصوصيّاتها، كما هو أوضح من أن يخفى.

3) وأمّا مقدّمة الوجوب: فهي ما يتوقّف عليه الوجوب نفسه؛ فإنّ الوجوب النفسيّ لا يتحقّق إلّا بعد تحقّق المقدّمة، وهي قد تكون من الشرائط العامّة، كالبلوغ والعقل، وقد تكون من الشرائط الخاصّة، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ.

ولا يخفى: خروج هذا القسم من محلّ النزاع أصلاً؛ إذ لا يكون للواجب وجوب أصلاً قبل تحقّق مقدّمته، أي: مقدّمة وجوبه - كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ - كي يترشّح الوجوب منه إليها، وبعد تحقّقها، فلا معنى لترشّح الوجوب إليها، كما هو واضح، إذ يكون تعلّق الوجوب بها بعد فرض حصولها من قبيل طلب ما هو حاصل.

وبعبارة أُخرى: فإنّ مقدّمة الوجوب خارجة عن محلّ البحث؛ لأنّ كلامنا هنا إنّما هو بعد ثبوت ذي المقدّمة في الخارج، فيُبحث - حينئذٍ - عن ترشّح الوجوب منه إلى المقدّمة؛ والمفروض أنّ الوجوب لا يتحقّق

ص: 35

إلّا بعد وجود مقدّمته وتحقّقها، كما في قيد الاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، ومعه: فكيف يمكن تصوير الترشّح من ذي المقدّمة إليها؟! فإنّ لازمه إمّا تحصيل الحاصل، أو تقدّم الشيء على نفسه، وكلاهما غير معقول.4) وأمّا مقدّمة العلم: فهي ما لا يتوقّف الواجب عليها، لا في وجوده ولا في وجوبه، وإنّما يتوقّف عليها العلم بوجود الواجب، كما في الإتيان بالصلاة في الثوبين المشتبهين عند اشتباه الطاهر بالنجس، وكذا الإتيان بالصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة، فإنّ العلم بتحقّق المأمور به في الخارج وحصول الامتثال والإطاعة متوقّف عليه. فهل هذه المقدّمة داخلة في محلّ البحث أم لا؟

لا يخفى: أنّ كلامنا إنّما هو في المقدّمة التي يتوقّف عليها العلم بوجود الواجب، لا ما يتوقّف عليها العلم بتحقّق الامتثال. فإنّ هذه المقدّمة تنقسم على قسمين:

أحدهما: وهي التي تكون أجنبيّةً وخارجةً عن حقيقة الواجب، كما لو أراد أن يحصّل اليقين بحصول غسل تمام اليد ومقدار الواجب من الوضوء بغسل ما فوق المرفق.

والثاني: هو الإتيان بجميع أطراف العلم الإجماليّ لحصول العلم بتحقّق الواجب، بلا فرق بين الشبهة الحكميّة، كما إذا شكّ في يوم الجمعة بأنّ الواجب عليه هو صلاة الظهر أو الجمعة، أو الموضوعيّة، كما لو علم إجمالاً بوجود القبلة إلى إحدى الجهات الأربع، فيجب عليه

ص: 36

- حينئذٍ - الإتيان بالصلاة إلى الجهات الأربع، في كلا القسمين. والعقل هو من يحكم بوجوب المقدّمة العلميّة؛ لأنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي البراءة اليقينيّة، وهي لا تحصل إلّا بغسل مقدار زائدٍ ممّا فوق المرفق، كما في مثال الوضوء، أو الإتيان بجميعأطراف العلم الإجماليّ؛ بداهة أنّ اليقين بالفراغ متوقّف على إتيان جميع المقدّمات.

ولا يخفى - أيضاً - أنّها خارجة عن محلّ النزاع؛ لأنّ وجوبها ليس من باب الملازمة وترشّح الوجوب الغيريّ من ذي المقدّمة عليها، وذلك لعدم توقّف وجود الواجب عليها حتى يحكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ما يتوقّف عليه وجوده؛ وإنّما المتوقّف عليها هو العلم بالواجب؛ وقد يمكن حصول الواجب من دونها، من باب الصدفة، كما إذا صلّى إلى واحدةٍ من الجهات الأربع، وصادفت هذه الجهة القبلة الواقعيّة، فلمّا لم يكن وجوبها من باب الملازمة، بل من باب استقلال العقل بوجوبها تحصيلاً للأمن من العقوبة، فهذه - أيضاً - خارجة عن محلّ النزاع لا محالة.

الأمر التاسع: تنقسم المقدّمة إلى المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة:

اشارة

أمّا المتقدّمة: فهي التي تكون متقدّمةً زماناً على ذي المقدّمة، كالوضوء والغسل بالنسبة إلى الصلاة، فإنّهما متقدّمان على ذي المقدّمة زماناً، ولكن بعنوانهما المصدريّ، وأمّا بعنوانهما الاسم المصدريّ،

ص: 37

فهما يخرجان عن المقدّمة المتقدّمة ويدخلان في المقارنة.

وأمّا المقدّمة المقارنة: فهي التي يكون وجودها مقارناً لوجود ذيها، وذلك كالستر واستقبال القبلة بالنسبة إلى الصلاة.وأمّا المقدّمة المتأخّرة: فهي التي تكون متأخّرة عن وجود ذيها، كأغسال الليلة الآتية المعتبرة في صحّة صوم اليوم الماضي للمستحاضة، وكالإجارة في بيع الفضوليّ بناءً على الكشف الحقيقيّ.

وقد يأتي الإشكال في إمكان المقدّمة المتأخّرة، بل وفي المتقدّمة أيضاً، فما صنعه الاُستاذ المحقّق)من حصر الإشكال في المقدّمة المتأخّرة، وقوله: «والمقدّمة المتأخّرة المسمّاة عند الاُصوليّين بالشرط المتأخّر هي التي وقع الكلام في إمكانها وامتناعها، وأمّا المقدّمة المقارنة والمتقدّمة فلا كلام فيهما»(1)، في غير محلّه.

فإنّ صاحب الكفاية(قدس سره) قد صرّح بأنّه «ليس إشكال انخرام القاعدة العقليّة مختصّاً بالشرط المتأخّر في الشرعيّات كما اشتهر في الألسنة، بل يعمّ الشرط والمقتضي المتقدّمين المتصرّمين حين الأثر»(2).

وحاصل المطلب: أنّه لا إشكال في أنّ المؤثّر في المعلول هو العلّة، فلكي تكون العلّة مؤثّرة في المعلول فلابدّ أن يكون وجوده في

ص: 38


1- منتهى الاُصول 1: 285.
2- كفاية الاُصول: ص 92.

حين وجودها، وعليه: فالعلّة بعد انصرامها لا يُعقل أن تكون مؤثّرة في المعلول، بل حال العلّة بعد انصرامها حالها كما لو كانت معدومة، فكما أنّها قبل وجودها لا يمكن أن تؤثّر في وجود المعلول، فكذلك إذاوجدت ثمّ انعدمت؛ فإنّ تأثيرها في المعلول يكون ممتنعاً بعد انعدامها. فالوصيّة في ملكيّة الموصى به للموصى له لا تكون سبباً ومؤثّراً في الملك؛ لأنّها معدومة حين الموت، وهكذا العقد في كلٍّ من بيع الصرف وبيع السلم، لا يكون مؤثّراً في حصول الملكيّة؛ إذ لا وجود للعقد حينه، فيلزم لو قلنا بتأثير العقد ودخالته في الملكيّة دخالة المعدوم في الموجود وتأثيره فيه.

بل ويتوسّع البحث ويأتي الإشكال في كلّ عقد؛ لأنّه لابدّ من مقارنة جميع أجزاء العلّة للمعلول من حيث الزمان، مع أنّنا نرى تقدّم بعض أجزاء العقد على البعض، حيث إنّ كلّ عقد يكون مركّباً من الإيجاب والقبول، وأجزاؤهما من الاُمور التدريجيّة، أي: فلا محالة يحصل جزء وينعدم، ليوجد بعده جزء آخر، فليست جميع الأجزاء مقارنة للمعلول والأثر، وهي الملكيّة، بل المقارن له إنّما هو الجزء الأخير خاصّةً، دون سائر الأجزاء من الإيجاب وسائر الشروط المعتبرة، فليس المقارن - إذاً - إلّا الجزء الأخير؛ وأمّا بقيّة الأجزاء، فتكون معدومة حال صدور الأثر، فلو قلنا بمدخليّتها في حصوله كان ذلك من باب تأثير المعدوم في الوجود، وإنّه محال.

ص: 39

ولكن لا يخفى: أنّ هذا الإشكال إنّما يرد على العقود، لو قلنا بأنّ الكلام من الاُمور غير القارّة، التي تكون أجزاؤها بحيث لا يأتي جزء إلّا بعد انعدام الجزء السابق، وأمّا إذا قلنا بأنّها من الاُمور القارّة، فلا يأتي هذا الإشكال أصلاً.وقد يجاب عن الإشكال في المقدّمة المتقدّمة: بأنّه إنّما يأتي فيما لو كانت المقدّمة المتقدّمة من قبيل العلّة التامّة، بناءً على اتّحاد العلّة والمعلول زماناً، وتبعيّة وجود المعلول لوجود العلّة. وأمّا إذا كانت من قبيل العلّة التي تقرّب المعلول إلى صدور وجوده، المسمّاة ﺑ «المعدّ»، فلا يشترط التقارن الزمانيّ بينها وبينه، بل يجوز انفكاكها عن المعلول وتقدّمها عليه من حيث الزمان، كما في طيّ المسافة للوصول إلى المقصد، فإنّ نقل الأقدام مقدّمة للوصول، بمعنى أنّه مجرّد معدٍّ ومقرّب لتحقّق الوصول إلى المكان الذي قصده.

وإن شئت فقل: إنّ الذي لابدّ أن يؤثّر في حال وجوده، ولا يجوز انفكاكه عن المعلول زماناً، إنّما هو العلّة التامّة، وأمّا المعدّ فلا يعتبر الاتّحاد الزمانيّ بينه وبين المعلول، فالإشكال المذكور لا يشمل الشرط المتقدّم، ولا تنخرم في مورده القاعدة العقليّة، وهي: عدم جواز انفكاك العلّة عن المعلول زماناً، وعدم جواز تأثير المعدوم في الموجود، كما ذهب إليه الفلاسفة، من لزوم المقارنة بين الشرط والمشروط، وامتناع تقدّمه عليه وتأخّره عنه.

ص: 40

وبالجملة: فإذا قلنا بأنّ لزوم المقارنة إنّما يكون في العلّة التامّة دون المعدّ، فلا يرد الإشكال في الشرط المتقدّم. وكذا لو قلنا بلزوم التفصيل بين الاُمور التكوينيّة والشرعيّة، وبأنّ هذه القاعدة إنّما تجري في الاُمور التكوينيّة، دون الشرعيّة.ولكنّ الحقّ: أنّه ليس هناك فرق - فيما نحن فيه - بين التكوينيّات وبين الاُمور التشريعيّة، بل العلّة في أيّ وعاءٍ كانت، يستحيل أن تنفكّ عن المعلول، فلا فرق بين تقدّم العلّة وتأخّرها في ترتّب القاعدة وامتناع الانفكاك في أيّ وعاءٍ كان. وبالتالي: فالصحيح في الجواب أن يقال: بناءً على أنّ الشرط المتقدّم من المعدّات، فيكون الإشكال منحصراً في الشرط المتأخّر.

والوجه في الإشكال في مورد الشرط المتأخّر - مضافاً إلى ما مرّ -: أنّه كيف يُعقل أن يكون للمتأخّر دخل في وجود المتقدّم وأن يكون واحداً من أجزاء علّته؟! فإنّ هذا يستوجب أن يكون المعلول متأخّراً عن جميع أجزاء علّته، والحكم لابدّ وأن يكون متأخّراً عن جميع أجزاء وشرائط موضوعه، والعلّة والموضوع لابدّ من تقدّمهما على المعلول والحكم.

وبعبارةٍ أُخرى: فبعدما عرفنا أنّ مردّ شرائط الحكم ومرجعها إلى موضوع الحكم، بلا فرق بين أن يكون الحكم تكليفيّاً أو وضعيّاً، كالاستطاعة، فإنّها بعد أخذها شرطاً للوجوب، رجعت إلى الموضوع، فمرجع قولنا: (حجّ إذا استطعت) إلى قولنا: (أيّها المستطيع يجب عليك الحجّ).

ص: 41

هذا في الحكم التكليفيّ.

وأمّا في الحكم الوضعيّ، فكشرطيّة الغليان في نجاسة العصير، فإنّ مردّ مثل هذا الجعل إلى مثل قولنا: (العصير المغلي نجس)، فلابدّ للموضوع - بجميع أجزائه وشروطه - أن يكون متقدّماً حتى يترتّب عليه الحكم، فالصوم الذييُشترط الغسل في صحّته - مثلاً - لا محالة يجب أن يكون متقدّماً بجميع أجزائه وشرائطه على الحكم، الذي هو الوجوب، فلو كان بعض شروطه متأخّراً عن الحكم لزم تأخّره هو نفسه عن الحكم، وهذا خلف.

وقد أُجيب عن الإشكال على الشرط المتأخّر:

أوّلاً: بنفس ما أُجيب في الشرط المتقدّم.

وثانياً: بأنّ المراد من الشرطيّة إنّما هو دخل الشرط في الموضوع، ومدخليّة الشرط في الموضوع إنّما هي بما له من الوجود العلميّ والتصوريّ، لا ذلك الأمر الخارجيّ.

قال في الكفاية: «فكون أحدهما شرطاً له ليس إلّا أنّ للحاظه دخلاً في تكليف الأمر، كالشرط المقارن بعينه، فكما أنّ اشتراطه بما يقارنه ليس إلّا أنّ لتصوّره دخلاً في أمره، بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر، كذلك المتقدّم والمتأخّر»(1). ومعلوم أنّ تصوّر الشرط والعلّة

ص: 42


1- كفاية الاُصول: ص 93.

يكون مقارناً للمعلول، والذي يكون متأخّراً إنّما هو ذات الشرط.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ كلّ فعل اختياريّ يكون معلولاً للإرادة، والتكليف لا يتعلّق إلّا بما هو فعل اختياريّ، وهذه الإرادة لا تتعلّق إلّا بما فيه المصلحة، وتلك المصلحة قد تترتّب على ذات الشيء وأجزائه وقد تترتّب عليه مضافاً إلى غيره المتأخّر عنه، لأجل أنّ ذلك الغير يكون دخيلاً في الصلاح، فالأمر بلحاظه يُجعَل ويُحكم به.ومن المعلوم: أنّ هذا اللّحاظ والإرادة يكونان متقارنين، والذي يكون متأخّراً إنّما هو ذات

الملحوظ، وعليه: فما يكون مؤثّراً فإنّما هو الشيء بوجوده اللّحاظيّ، لا بوجوده الخارجيّ، ومن هنا، فيمكن أن يكون نفس الشرط متأخّراً، ولا تنخرم القاعدة العقليّة في مورده أيضاً. هذا.

ولكنّ الصحيح في الجواب أن يقال:

إنّ المقام يكون من باب المعدّ - أيضاً -. فإنّ الشرط لا يكون علّةً ومؤثراً في إيجاد المعلول بما له من الوجود الخارجيّ، بل إنّما المؤثّر هو الخصوصيّة الحاصلة من جهة إضافة ذات الشرط إلى المشروط والمعلول، والشرط غير المقتضي، بل المقتضي ما يوجده المعلول، وليس نوع المقتضي مؤثّراً، بل الحصّة الخاصّة منه، فليس نوع النّار هو الذي يوجب الإحراق، بل المؤثّر هو خصوص الحصّة من النار التي يكون لها مماسّة مع الشيء، مع كون الشيء يابساً وقابلاً للاحتراق، وهذه الحصّة الخاصّة إنّما صارت مقتضياً ومؤثّراً من قبل الإضافة، وهي

ص: 43

المماسّة في المثال، فالإضافة - إذاً - هي التي تكون محصّلةً للخصوصيّة التي بها يكون المقتضي هو المؤثّر، فمن الجائز - لذلك - أن ينفصل ذات الشرط عن المعلول زماناً.

فالحقّ: جواز تقدّم الشرط على المشروط، ولا تشمله قاعدة عدم جواز الانفكاك، وهذا الذي ذكرناه يأتي بعينه في الشرط المتأخّر، بل يأتي فى جميع المقدّمات بلا استثناء، بلا فرق بين المتقدّمة منها والمقارنة والمتأخّرة.وعليه: فحيث إنّ الشرائط الشرعيّة كلّها من قبيل المعدّات المقرّبة، لم يمتنع تقدّمها على المشروط، وكونها منعدمة عند وجوده، هذا ما يُستفاد من كلامٍ للمحقّق الأصفهاني(1).

ولكن يرد عليه: أنّه إنّما يتمّ ويكون رافعاً للإشكال في خصوص الشروط المتقدّمة لا المتأخّرة. مضافاً إلى أنّه لو قلنا بأنّ المؤثّر هو لحاظها، لا نفس وجودها الخارجيّ، لامتناع تصوّر الخارجيّات في الإرادة، فالشرط في الحقيقة إنّما هو وجودها العلميّ واللّحاظيّ، لا ذات المقدّمة، أي: المقدّمات الخارجيّة، ولمّا كان هذا اللّحاظ مقارناً للمعلول، فلا يكون من باب تأثير المعدوم في الموجود، أو تقدّم المعلول على بعض أجزاء علّته في شيء، ولمّا كانت هذه المقدمات ملحوظة بوجودها الخارجيّ، وكانت بهذا اللّحاظ

ص: 44


1- انظر: نهاية الدراية 1: 170.

مطابقة لما هو الشرط في الحقيقة سُمّيت شروطاً، وإلّا، فالشرط في الحقيقة هو لحاظها لا نفس وجودها الخارجيّ.

فظهر ممّا ذكرناه: أنّ الذي يكون دخيلاً ومأخوذاً في التكليف على نحو الشرط - بناءً على الكلام المتقدّم -، إنّما هو الوجود اللّحاظيّ للمقدّمة، وهو مقارن للتكليف أبداً، وليس متقدّماً عليه ولا متأخّراً عنه، فلا انخرام للقاعدة أصلاً. ففي مثال العقد الفضوليّ - مثلاً - الذي هو دخيل على سبيل الشرط إنّما هو لحاظ الاجازة، لا ذاتها، واللّحاظ مقارن للملكيّة أو الزوجيّة، ولو كانت الإجازة نفسها متأخّرةً عنهما. هذا.ولكنّ ما ذكروه غير تامّ؛ بل هو - في الواقع - ناشئ من الخلط بين شرائط الجعل وشرائط المجعول، فإنّ الذي يكون دخيلاً في الحكم في مرحلة الجعل إنّما هو لحاظ الشرط؛ لأنّ مرجع شرائط الجعل إلى العلّة الغائيّة، والعلّة الغائيّة للشيء علّة غائيّة له بماهيّتها، أي: بوجودها الذهنيّ والعلميّ، وهو معلول لماهيّتها، لا لوجودها الخارجيّ. ذلك أنّ العلّة الغائيّة هي عبارة عن الصورة العلميّة، فالجاعل المشرّع بما أنّه حكيم، فهو بعد أن يرى المصلحة، يتصوّر الشيء بجميع ما له دخل فيه، من الشروط، متقدّمة كانت أم متأخّرة، وعدم المانع، ثمّ بعد ذلك يجعل الحكم ويرتّبه عليه، فلحاظ الشروط في مرحلة الجعل - لا محالة - يكون مقارناً للمشروط، الذي هو الجعل.

وأمّا شروط المجعول - وهي الشروط الراجعة إلى الموضوع وفعليّة

ص: 45

الحكم -، فليست من هذا القبيل، فإنّ فعليّة الحكم إنّما تتوقّف على وجود الموضوع بجميع أجزائه وشرائطه.

فالنتيجة: أنّ هذا الكلام المتقدّم ناظر إلى شرط الجعل، لا المجعول، ومورد البحث إنّما هو شرط المجعول، فالإشكال بلزوم المحال وانخرام القاعدة العقليّة باقٍ على حاله، ولا يصلح الكلام المتقدّم لرفعه.

محاولات للجواب:

وقد وجدت في المقام محاولات عديدة للجواب عن هذا الإشكال:منها:

ما نُسب إلى صاحب الجواهر) من أنّ «استحالة تخلّف المعلول عن علّته وتقدّمه عليها، إنّما تكون في العلل والمعلولات التكوينيّة، دون الاُمور الاعتباريّة، التي منها: الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ كيفيّة اعتبارها - كأصله - تابعة لاعتبار معتبرها، فله اعتبار الملكيّة - مثلاً - في الصرف والسلم والوصيّة مع شرطيّة القبض والموت المتأخّرين عن العقد لها، واعتبار وجوب الحجّ - مثلاً - قبل الموسم، مع كونه شرطاً متأخّراً»(1).

ولكنّ الحقّ - كما ذكرنا آنفاً -: أنّه لا فرق بين الاُمور التكوينيّة والاعتباريّة؛ فإنّ الأمر المتأخّر إمّا أن يكون دخيلاً أو لا، فإن كان دخيلاً، فيمتنع تخلّفه - أي: المشروط - عنه، ولا يمكن أن يتحقّق المشروط

ص: 46


1- راجع: منتهى الدراية 2: 137 - 138.

والموضوع قبل وجود شرطه، وإن لم يكن دخيلاً لم يكن شرطاً أصلاً، سواء كان تكوينيّاً أم تشريعيّاً.

ومنها:

ما عن المحقّق الشاهرودي(قدس سره) - نقلاً عن بعض تلامذته - من «أنّ امتناع تخلّف المعلول عن العلّة إنّما يكون في المؤثّر والمتأثّر الحقيقيّين، دون الأحكام الشرعيّة التي ليست إلّا أحكاماً مجعولةً لموضوعاتها، وليست رشحات لها، لما ثبت في محلّه من امتناع جعل السببيّة، فكلّ من الدلوكوالعقد ونح-وهم-ا موض-وع للوجوب، أو الملكيّة، أو الزوجيّة، لا سبب لها، ومن المعلوم دوران الحكم مدار موضوعه، فلا يحكم الشارع بالوجوب أو الملكيّة - مثلاً - إلّا بعد تماميّة الموضوع من الدلوك في الأوّل، والقبض في الثاني، وهكذا.. وبالجملة: فالشرط المتأخّر دخيل في الموضوع، فلا تأخّر في الشرط حقيقة»(1).

وفيه: أنّ الموضوع - أيضاً - بالنسبة إلى الحكم هو كالعلّة بالنسبة إلى المعلول، والكلام إنّما هو في فعليّة الحكم، فإذا لم يتحقّق الشرط لم يتحقّق الموضوع، ولم يبلغ الحكم مرحلة الفعليّة، وهو معترف بأنّ القيد دخيل في الموضوع.

فكلامه يرجع إلى أنّه لا أثر تكليفي أو وضعي إلّا بعد حصول الشرط،

ص: 47


1- منتهى الدراية 2: 138.

وكلامنا في أنّه مع دخل القيد في الموضوع ودخول المتأخّر في المتقدّم، يحصل الأثر الاعتباريّ قبل وجود الشرط.

ومنها:

ما قد يقال: من أنّ الذي لابدّ من تقدّمه هو وجود المقتضي حيث يترشّح منه المقتضى - بالفتح - وأمّا الشرائط، فلمّا لم يكن من شأنها ترشّح المعلول منها، فلا مانع من تأخّرها عقلاً.

وفيه: أنّ الشرط حيث كان دخيلاً في الموضوع، فيفرض أنّ له دخلاً في وجود المعلول، فيكون تأخّره عن المشروطمن باب تأخّر المقتضي عن المقتضى، فالامتناع موجود في كلا الانفكاكين.

ومنها:

ما يُستفاد من كلام المحقّق النائيني(قدس سره)، حيث قال:

«وأحسن ما قيل في المقام من الوجوه: هو أنّ الشّرط عنوان التّعقّب والوصف الانتزاعيّ، وقد تقدّم عدم توقّف انتزاع وصف التّعقّب على وجود المتأخّر في موطن الانتزاع، بل يكفي في الانتزاع وجود الشي ء في موطنه، فيكون الشرط في باب الفضوليّ هو وصف التعقّب، وإنّ السبب للنقل والانتقال هو العقد المتعقّب بالإجازة، وهذا الوصف حاصل من زمن العقد»(1).

وحاصله: أنّنا لا نرى بدّاً لدفع الإشكال عن الشرط المتأخّر من القول

ص: 48


1- فوائد الاُصول 1: 281.

بأنّ الشرط إنّما هو عنوان التعقّب، وهو عنوان مقارن للمشروط، وليس متأخّراً عنه.

ففي باب الفضوليّ - مثلاً - المؤثّر في حصول الملكيّة وترتّب النقل والانتقال إنّما هو العقد المتعقّب بالإجازة، وفي صوم المستحاضة المؤثّر في صحّة الصوم هو الصوم المتعقّب للغسل، وكذا الحال في بيع المكره، فإنّ المؤثّر هو البيع المتعقّب بالإذن وطيب النفس، وليس هناك من شرط متأخّر.ومرجع كلامه(قدس سره): إلى أنّ عالم المجعول والمعتبر مغاير لعالم الجعل والاعتبار، وعليه: فلا مانع من انفكاك الجعل عن المجعول، فيمكن تحقّق الجعل في زمن، على أن يتحقّق المجعول فيما بعد؛ لأنّه غير مرتبط بالاُمور الخارجيّة.

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ المصالح تكون قائمة في نفس المعنون لا العنوان؛ لأنّه أمر انتزاعيّ لا وجود له حقيقةً، فلا يكون دخيلاً، حيث إنّه لا تأثير له، فالمؤثّر إنّما هو ذات المعنون، ولا دخل للعنوان، فلا يكون العنوان هو الشرط.

وثانياً: أنّه خلاف ظاهر أدلّة اعتبار الإجازة وطيب النفس - مثلاً -، حيث إنّ ظاهر هذه الأدلّة - كما يبدو لمن لاحظها - أنّ الذي يكون دخيلاً في حصول الملكيّة أو الزوجيّة هو نفس الإجازة وطيب النفس وذاتهما، لا العنوان والأمر الانتزاعيّ، كعنوان التعقّب أو التأخّر أو غير ذلك.

ص: 49

وثالثاً: أنّ ما أفاده(قدس سره) لا يصلح لأن يكون دافعاً للإشكال، إذ لو كان عنوان التعقّب - مثلاً - هو الشرط، لم يكن من قبيل الشرط المتأخّر، بل إنّما يكون من باب الشرط المقارن، كما اعترف به هو(قدس سره)، فيكون هذا خروجاً عن محلّ الكلام، واعترافاً منه بامتناع الشرط المتأخّر، فالإتيان بهذا الجواب في مقام دفع الإشكال عن الشرط المتأخّر ليس على ما ينبغي.

ورابعاً: أنّه من المستحيل - أيضاً - أن ينفكّ المعتبر عن الاعتبار؛ لأنّ وعاءهما واحد، كاستحالة انفكاك العلّة عن المعلول، وذلك كما أنّ الماهيّة المتصوّرة تكون غير قابلةالانفكاك عن التصوّر، بحيث يوجد التصوّر بدون الماهيّة، فكذلك في محلّ البحث، فإنّه يستحيل أن ينفكّ المعتبر عن الاعتبار، والمجعول عن الجعل.

وخامساً: أنّ نسبة الاعتبار إلى المعتبر هي كنسبة المعلول إلى العلّة والإيجاد إلى الوجود، فبما أنّهما متّحدان، فلا يكاد يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر خارجاً.

نعم، العلّة والإيجاد متقدّمان رتبةً على المعلول والوجود، وهذا التغاير بينهما ليس بتغاير حقيقيّ، بل هو تغاير اعتباريّ، وإن أصبح بعد الاعتبار حقيقة. هذا.

وقد التزم صاحب الجواهر) بكاشفيّة الإجازة في عقد الفضوليّ، وذكر أنّ استحالة تأثير المتأخّر في المتقدّم، سبباً كان أو شرطاً، تختصّ

ص: 50

بالاُمور العقليّة، وأمّا الاعتباريّات، ومنها المجعولات الشرعيّة، فليست مجرى هذه القاعدة، وذكر أنّ الشارع المقدّس كثيراً ما جعل ما يشبه تقديم السبب على المسبّب، كغسل الجمعة يوم الخميس، وإعطاء الفطرة قبل وقته، فضلاً عن تقدّم المشروط على الشرط، كغسل الفجر قبل الفجر للمستحاضة الصائمة، و... (1)ودفعه الشيخ(قدس سره) بأنّه «لا فرق فيما فرض شرطاً أو سبباً بين الشرعيّ وغيره، وتكثير الأمثلة لا يوجب وقوع المحال العقليّ، فهي كدعوى أنّ التناقض الشرعيّ بين الشيئين لا يمنع من اجتماعهما؛ لأنّ النقيض الشرعيّ غير العقليّ»(2).

وأورد عليه المحقّق اليزديّ) في حاشيته على المكاسب بما لفظه:

«ودعوى أنّ ذلك من المحال العقليّ، وتكثير الأمثلة لا يوجب وقوعه، مدفوعة:

أوّلاً: بأنّ الوجه في الاستحالة ليس إلّا كونه معدوماً، ولا يمكن تأثير

ص: 51


1- جواهر الكلام 22: 286 - 287. قال(قدس سره): «... بعد احتمال كون المراد من شرطيّته في المقام المعنى الذي لا ينافي السببيّة المذكورة، وهو الشرط الكشفيّ الذي لا مانع من تصوّره في العلل الشرعيّة التي هي بحكم العلل العقليّة، وإن لم يكن هناك من الشرع ما يقتضي خلاف ذلك، كما جاء في تقديم غسل الجمعة يوم الخميس الذي هو شبه تقديم المسبّب على السبب، فلا مانع - حينئذٍ - من التزام توقّف تأثير العقد على حصوله المستقبل، وإن ترتّب الأثر الآن قبل وقوعه...»، إلى آخر كلامه(قدس سره).
2- كتاب المكاسب 3: 401.

المعدوم في الموجود، وهذا يستلزم عدم جواز تقدّم الشرط - أيضاً - على المشروط؛ لأنّه حال وجود المشروط معدوم، وكذا تقدّم المقتضي وأجزائه، ولازم هذا التزام أنّ المؤثّر فى النقل (التاء) من قوله: (قبلت)، وأنّ الأجزاء السابقة ليست بمؤثّرة أو أنّها معدّات.

وثانياً: بإمكان دعوى أنّ المؤثّر إنّما هو الوجود الدهريّ للإجازة، وهو متحقّق حال العقد، وإنّما تأخّره في سلسلة الزمان.

وثالثاً: نقول: إنّ الممتنع إنّما هو تأثير المعدوم الصرف، لا ما يوجد ولو بعد ذلك.ورابعاً: على فرض تسليم الامتناع نقول: إنّ ذلك مسلّم فيما إذا كان المؤثّر تامّاً، لا مجرّد المدخليّة، فإنّ التأخّر في مثل هذا ممّا لا مانع منه، وأدلّ الدليل على إمكانه وقوعه: أمّا في الشرعيّات: ففوق حدّ الإحصاء، وأمّا في العقليّات: فلأنّ من المعلوم أنّ وصف التعقّب - مثلاً - متحقّق حين العقد، مع أنّه موقوف على وجود الإجازة بعد ذلك، فإن كانت في علم اﷲ موجودة فيما بعد، فهو متّصف الآن بهذا الوصف، وإلّا فلا.

لا يقال: إنّه من الاُمور الاعتباريّة؛

لأنّا نقول: لو لم يكن هناك معتبر - أيضاً - يكون هذا الوصف متحقّقاً، وكذا الكلام في وصف الأوّليّة والتقدّم. مثلاً: يوم أوّل الشهر متّصف الآن بأنّه أوّل، مع أنّه مشروط بوجود اليوم الثاني بعد ذلك، ومتّصف بالتقدّم

ص: 52

فعلاً، مع أنّه مشروط بمجيء التأخّر، وهكذا الجزء الأوّل من الصلاة، متّصف بأنّه صلاة إذا وُجد - في علم اﷲ - بقيّة الأجزاء. وكذا لو اشتغل بتصوير صورة من أوّل الشروع، يقال: إنّه مشتغل بالتصوير بشرط أن يأتي ببقيّة الأجزاء، وهكذا إمساك أوّل الفجر صوم لو بقي إلى الآخر، وكذا لو هيّأ غذاءً للضيف، يقال: إنّه فيه مصلحة، وليس بلغو إذا جاء الضيف بعد ذلك، وإلّا، فهو من أوّل الأمر متّصف بأنّه لغوٌ، وكذا لو حفر بئراً ليصل إلى الماء، فإنّه متّصف من الأوّل بعدم اللّغويّة إن وصل إليه، وإلّا، فباللّغويّة، وهكذا إلىما شاء اﷲ من اتّصاف شيء بوصف فعليٍّ

مع إناطته بوجودٍ مستقبليّ.

بل أقول: لا مانع من أن يدّعي مدّعٍ أنّ النفوس الفلكيّة والأوضاع السماويّة والأرضيّة، كما أنّ كلّ سابقٍ معدٌّ لوجود اللّاحق، كذلك كلّ لاحق، له مدخليّةٌ في وجود السابق.

بل يمكن أن يقال: إنّ جميع أجزاء العالم مرتبطة، بمعنى: أنّه لولا هذا لم يوجد ذاك، وبالعكس، فلو لم يوجد الغد لم يوجد اليوم، وهكذا... فجميع العالم موجود واحد تدريجيّ، ولا يمكن إيجاد بعضه من دون بعض. والإنصاف: أنّه لا سادّ لهذا الاحتمال، ولا دليل على بطلان هذا المقال»(1).

ص: 53


1- حاشية المكاسب (السيّد اليزديّ)) 1: 149 - 150.
وفي كلامه) مواضع للنظر:

إذ يرد على ما أفاده أوّلاً: أنّه من باب الدليل النقضيّ، وقد ذكرنا أنّ البعض قد استشكل بالنسبة إلى الشرط المتقدّم أيضاً، وذكرنا هناك في دفع هذا الإشكال: أنّ الذي يكون تقدّمه محالاً إنّما هو تقدّم العلّة التامّة على المعلول، أي: الجزء الذي يكون سبباً وعلّةً تامّة للمعلول، وأمّا الأجزاء السابقة فهي تكون من باب المعدّات، ولا يضرّ تقدّمها.

ويأتي على ما أفاده ثانياً: أنّا قد أجبنا عنه سابقاً.

ويأتي على ما أفاده ثالثاً: إشكال عدم جواز انفكاك المعلول عن العلّة زماناً.ويرد على ما أفاده رابعاً: أنّا إذا قلنا باستحالة وقوعه، فإذا رأينا مورداً ما من الشرع ظاهره الوقوع، كان لابدّ من التأويل.

وأمّا ما ذكره(قدس سره) من الأمثلة، فهو من قبيل المعدّ، وليس بينهما علّيّة ومعلوليّة.

وقوله: « فجميع العالم موجود واحد تدريجيّ»، أي: في وعاء الدهر، وقد أجبنا عنه سابقاً.

وقوله: «كلّ سابقٍ معدّ لوجود اللّاحق، كذلك كلّ لاحق، له مدخليّةٌ في وجود السابق»، تامّ في شقّه الأوّل، أي: بالنسبة إلى معدّيّة السابق للّاحق، وليس تامّاً في شقّه الثاني، أعني: ثبوت مدخليّة اللّاحق في السابق، وقياسه على الأوّل قياس بلا دليل.

ص: 54

ومنها:

ما عن المحقّق الشيرازي(قدس سره)، وهو «أنّ الشرط في هذه الموارد ليس المتقدّم أو المتأخّر بوجوده الكونيّ الزمانيّ، لكي يلزم المحذور، بل بوجودهما الدهريّ المثاليّ، وهما بهذا الوجود لا يكونان إلّا مقارنين للمشروط؛ فإنّ المتفرّقات في سلسلة الزمان مجتمعات في وعاء الدهر»(1).

وفيه: أنّ الاجتماع في وعاء الدهر لايرفع غائلة استحالة تقدّم المعلول على العلّة زماناً؛ ولا غائلة محذور تأثيرالمعدوم في الموجود فعلاً، إلّا أن يقال: إنّه وإن كان معدوماً بحسب الزمان، إلّا أنّه يكون موجوداً بحسب الوجود الدهري، فلا يؤثّر المعدوم في الموجود.

ولكنّ الحمل عليه تأويل في الأدلّة بلا موجب، فلا يمكن المصير إليه، بل ما يظهر منها هو الوجود الزمانيّ.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره السيّد(قدس سره) في حاشية المكاسب - ونقلناه سابقاً -، من إمكان أن يُدَّعى أنّ المؤثّر إنّما هو الوجود الدهريّ للإجازة، وهو متحقّق حال العقد، وإنّما تأخّره في سلسلة الزمان.

ومنها:

ما أفاده المحقّق العراقي(قدس سره) بقوله:

«ثمّ إنّه ممّا ذكرنا من المناط في مقدّميّة الشرائط والموانع يظهر لك

ص: 55


1- نقله عنه الآخوند الخراساني) في فوائد الاُصول: ص 58.

اندفاع الإشكال المعروف في الشرائط المتأخّرة، وعدم لزوم انخرام قاعدة عقليّة: من لزوم تحقّق المعلول قبل وجود علّته، إذ نقول: بأنّ ذلك إنّما يرد إذا كان دخل الشرائط - أيضاً - كالمقتضي بنحو المؤثّريّة، إذ حينئذٍ يتوجّه الإشكال المزبور في شرطيّة الوجودات المتأخّرة، وإلّا، فبناءً على ما قرّرناه من كون دخلها من باب دخل منشأ الاعتبار في الأمر الاعتباريّ لا يكاد مجال للإشكال المزبور، حيث أمكن - حينئذٍ - تصوير الشرطيّة للوجودات المتأخّرة بعين تصويرها للوجودات المقارنة والمتقدّمة، إذ حينئذٍ كما يمكن أن يكون الشي ء بوجوده المقارن محدّداً للماهيّة بحدٍّ خاصّ تكون بذلك الحدّقابلة للتحقّق عند وجود مقتضيها، كذلك يمكن ذلك في الوجود»(1).

وتوضيحه: أنّ حقيقة الشرط ليس كما يقال من أنّه المتمّم لتأثير المقتضي كي يمتنع تأخّره؛ لامتناع أن يؤثّر المعدوم في الموجود، وإنّما حقيقته هو كونه طرفاً لإضافة المقتضي إليه، فيتحدّد بها ويتحصّص بواسطتها، فيكون بهذه الإضافة مؤثّراً من دون أن يكون لنفس الشرط أيّ تأثير في وجود المعلول، بل المؤثّر ليس إلّا المقتضي، لكنّه الحصّة الخاصّة منه، فالمؤثّر في الإحراق ليس هو مطلق النّار، بل الحصّة الخاصّة منها، وهي النار المجاورة للشيء، أو يكون طرفاً لإضافة المعلول إليه،

ص: 56


1- نهاية الأفكار 2: 279.

فيكون بتلك الإضافة قابلاً للتأثير.

فليس الشرط كما يُدّعى هو المتمّم لفاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل، بل هو طرف إضافة وتحديد بها تحصل الفاعليّة للفاعل والقابليّة للقابل، ومن الواضح: أنّه لا يمتنع أن يكون طرف الإضافة من الاُمور المتأخّرة بعد أن كانت الإضافة مقارنة، ولم يكن للأمر المتأخّر أيّ تأثير.

ولكن فيه: أنّ الإضافة من الاُمور الاعتباريّة والتصوّريّة، فلا معنى للقول بدخالتها في التأثير في إيجاد المعلول؛ فإنّ تأثير النار في الإحراق - مثلاً - وقابليّة الشيء للاحتراق ليس له أي دخل بعالم اللّحاظ والإضافات، بل هو مرتبط بعالم الخارج وناشئ عن الجهات الخارجيّة، ومن هنا، فلو اشتغل بتصوير صورة - مثلاً - فمن أوّل الشروع يقال: إنّهمشتغل بالتصوير، ولكن بشرط أن يأتي ببقيّة الأجزاء، وهكذا الحال في الإمساك من أوّل الفجر، فإنّه يقال له صوم منذ ذلك الحين لو بقي إلى غسق الليل.

فالمؤثّر - إذاً - إنّما هو الشرط الخارجيّ، فدعوى: تأثير نفس الإضافة في القابليّة بحيث لا يكون المضاف قبل اللّحاظ الخاصّ قابلاً للتأثّر أو التأثير لا ترجع إلى معنى محصّل.

قد يقال: بأنّه يمكن أن يراد من الإضافة في كلامه): الإضافة الواقعيّة الحقيقيّة التي لها تقرّر واقعيّ.

ص: 57

ولكن فيه: أنّ هذه الإضافة تحتاج إلى تحقّق طرفيها فعلاً، كالفوقيّة والتحتيّة والأماميّة والخلفيّة وغيرها من الإضافات المقوليّة التي تحتاج في حصولها إلى وجود كلا طرفيها، والمفروض أنّه بصدد تصحيح كون أحد طرفيها معدوماً وغير متحقّق فعلاً.

مع أنّ القول بأنّ للمأمور به جهة إضافة يرد عليه الإشكال بعدم إمكان التمسّك بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين؛ لأنّه لو لم يكن المأمور به هو نفس الأجزاء، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق والبراءة عند الشكّ في جزئيّة شيء للشكّ في حصول تلك الحصّة الخاصّة، ولا تحصل إلّا بإتيان تلك الحصّة والجزء المشكوك.

فظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ جعل الأحكام لمّا كان على نحو القضايا الحقيقيّة، ولمّا كانت شرائط الأحكام ترجع إلى شرائط الموضوع، كان لابدّ أن يكون الموضوع موجوداً في الخارج بجميع أجزائه وشرائطه في رتبة سابقة؛ لأنّ فعليّةالحكم منوطة بوجود الموضوع. نعم، بما أنّ الشرط في مقام الجعل ليس هو ذات الشرط، بل صورته الذهنيّة، ولمّا كان اللّحاظ الذهنيّ للشرط هو الذي يكون دخيلاً، وهو ليس من باب الشرط المتأخّر، بل من الشرط المقارن، كان لا محالة ممكناً ولا مانع منه. وأمّا في مقام المجعول فبما أنّ الشرط بذاته هو الدخيل فيكون محالاً.

فظهر ممّا ذكرناه ما في كلام صاحب الكفاية(قدس سره)، الذي فرّق في مقام

ص: 58

الجواب عن المحاذير الواردة في هذا المقام بين شرائط المأمور به وشرائط الأحكام من جهة التكليف والوضع:

فأجاب عن القسم الأوّل بقوله:

«والتحقيق في رفع هذا الإشكال أن يقال: إنّ الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها، لا يخلو: إمّا أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف أو الوضع، أو المأمور به.

أمّا الأوّل: فكون أحدهما شرطاً له ليس إلّا أنّ للحاظه دخلاً في تكليف الأمر، كالشرط المقارن بعينه، فكما أنّ اشتراطه بما يقارنه ليس إلّا أنّ لتصوّره دخلاً في أمره بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر، كذلك المتقدّم أو المتأخّر.

وبالجملة: حيث كان الأمر من الأفعال الاختياريّة، كان من مبادئه بما هو كذلك تصوّر الشي ء بأطرافه ليرغب في طلبه والأمر به، بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره، فيسمّى كلّ واحد من هذه الأطراف التي لتصوّرها دخل فيحصول الرغبة فيه وإرادته: شرطاً؛ لأجل دخل لحاظه في حصوله، كان مقارناً له أو لم يكن كذلك، متقدّماً أو متأخّراً، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطاً، كان فيهما كذلك، فلا إشكال، وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقاً، ولو كان مقارناً، فإنّ دخل شي ء في الحكم به وصحّة انتزاعه لدى الحاكم به ليس إلّا ما كان بلحاظه يصحّ انتزاعه، وبدونه لا يكاد يصحّ اختراعه عنده، فيكون دخل كلٍّ من المقارن

ص: 59

وغيره بتصوّره ولحاظه، وهو مقارن، فأين انخرام القاعدة العقليّة في غير المقارن؟! فتأمّل تعرف»(1).

وحاصله: أنّه يحصل للمتقدّم بواسطة تقدّمه وتعقّبه بالمتأخّر وإضافته إليه عنوان حسن يفي به للغرض، بحيث لولاه لما كان كذلك، ولا يخفى: أنّ الحسن والقبح والأغراض تختلف باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات، والإضافة كما تكون إلى المقارن، تكون إلى المتقدّم والمتأخّر، بلا تفاوت أصلاً.

ولكن قد أجبنا عنه سابقاً، وقلنا بأنّه لا يرد إشكال في كون المتأخّر شرطاً للمأمور به بوجوده الخارجيّ أصلاً حتى يحتاج إلى مثل هذا الجواب.

وأمّا ما أجاب به(قدس سره) عن القسم الثاني، بما لفظه:«وأمّا الثاني: فكون شي ءٍ شرطاً للمأمور به، ليس إلّا ما يحصل لذات المأمور به بالإضافة إليه وجه وعنوان به يكون حسناً أو متعلّقاً للغرض، بحيث لولاها لما كان كذلك، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات ممّا لا شبهة فيه ولا شكّ يعتريه، والإضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخّر أو المتقدّم بلا تفاوتٍ أصلاً، كما لا يخفى على المتأمّل، فكما تكون إضافة

ص: 60


1- كفاية الاُصول: ص 93.

شي ء إلى مقارنٍ له موجباً لكونه معنوناً بعنوانٍ يكون بذلك العنوان حسناً ومتعلَّقاً للغرض، كذلك إضافته إلى متأخّر أو متقدّم؛ بداهة أنّ الإضافة إلى أحدهما ربّما توجب ذلك أيضاً، فلولا حدوث المتأخّر في محلّه لما كانت للمتقدّم تلك الإضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به، كما هو الحال في المقارن أيضاً، ولذلك أطلق عليه (الشرط) مثله، بلا انخرامٍ للقاعدة أصلاً؛ لأنّ المتقدّم أو المتأخّر كالمقارن، ليس إلّا طرف الإضافة الموجبة للخصوصيّة الموجبة للحسن، وقد حقّق في محلّه: أنّه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح: أنّها تكون بالإضافات.

فمنشأ توهّم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخّر، وقد عرفت أنّ إطلاقه عليه فيه كإطلاقه على المقارن، إنّما يكون لأجل كونه طرفاً للإضافة الموجبة للوجه الذي يكون بذاك الوجه مرغوباً ومطلوباً، كما كان في الحكم لأجل دخل تصوّره فيه، كدخل تصوّر سائر الأطراف والحدود، التيلولا لحاظها لما حصل له الرغبة في التكليف، أو لما صحّ عنده الوضع»(1).

وملخّص ما أفاده(قدس سره):

أنّ الشرط للتكليف والوضع هو لحاظ الأمر المتأخّر، وذلك من جهة أنّ الآمر أو الجاعل للحكم الوضعيّ لابدّ له من ملاحظة الموضوع

ص: 61


1- كفاية الاُصول: ص 93 - 94.

بجميع أجزائه وخصوصيّاته وأطرافه ليرغب في طلبه ويأمر به، بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ، أو يجعل الحكم ويخترعه بذلك اللّحاظ، بالنسبة إلى الحكم الوضعيّ، فالذي نسمّيه بالشرط في كلا الموردين، أي: في الحكم التكليفيّ والوضعيّ، ليس إلّا للّحاظ وللوجود العلميّ، وهو مقارن للأمر والجعل، فليس المتأخّر بوجوده الخارجيّ المتأخّر شرطاً حتى ترد تلك الإشكالات؛ فهو تامّ ولا غبار عليه.

وإذا عرفت هذا، فهل هناك ملازمة بين وجوب ذي المقدّمة نفسيّاً ووجوب مقدّماته غيريّاً؟

الحقّ: ثبوت الملازمة؛ لأنّ إرادة الشيء ملازمة لإرادة ما يتوقّف عليه وجود ذلك الشيء، ولا يكاد يتخلّف إرادة المقدّمة عن إرادة ذيها، بعد الالتفات إلى أنّ كون الشيء مقدّمة يجعل حال إرادة الآمر كحال إرادة الفاعل، فهل ترى لو أردت شيئاً، وكان ذلك الشيء يتوقّف على مقدّمةٍ ما، فهل بمقدورك أن لا تريد تلك المقدّمة، مع أنّ الشيء المراد متوقّف عليها؟!بل لابدّ أن تترشّح وتتولّد من إرادة ذي المقدّمة إرادة إلى المقدّمة.

أو فقل: بأنّ الإرادة التشريعيّة تقاس على التكوينيّة؛ إذ لا فرق بين الإرادتين إلّا في أنّ الثانية يكون متعلّقها نفس الفعل للمريد، وأمّا التشريعيّة، فمتعلّقها فعل الغير.

ومن هنا يأتي الإشكال في التشريعيّة كالتكوينيّة، بأنّ فعل الغير إن لم

ص: 62

يكن تحت اختياره، فكيف تتعلّق الإرادة به؟! فإنّه حينما يرى أنّ الإرادة الأصليّة (التكوينيّة) متوقّفة على شيء، فتتعلّق إرادته بإيجاد ما يتوقّف عليه - أيضاً -، ففي التشريعيّة أيضاً كذلك.

تنبيهات:
اشارة

وهنا ينبغي التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل:

لا يخفى: أنّه إذا قلنا بأنّ وجوب المقدّمة يتولّد من وجوب ذي المقدّمة ومعلول لوجوب ذي المقدّمة، فوجوبها يتبع وجوبه في الإطلاق والاشتراط والسعة والضيق، ولا يمكن أن يكون وجوبها مغايراً لوجوبه، وإلّا، يلزم تخلّف المعلول عن علّته، ولو فرض في بعض الموارد أنّ وجوب المقدّمة يكون قبل وجوب ذيها، فإنّما هو بملاكٍ آخر، لا بملاك الملازمة كملاك حفظ القدرة أو حكم العقل بوجوب إتيان شيء، إذا كان عدم الإتيان سبباً لتفويت غرض المولى، أو بملاك التهيّؤ لإطاعة أمر مولاه، أو يكون له وجوب نفسيّ،ولو كان له وجوب مقدّميّ بالنسبة إلى أمرٍ آخر، كالإتيان بصلاة الظهر مقدّمةً للتمكّن من الإتيان بصلاة العصر.

والأمر الثاني:

هل يكون تعلّق الوجوب بالمقدّمة بأيّ نحوٍ من الأنحاء ومن دون أيّ شرط أم لا؟ في المسألة أقوال:

ص: 63

الأوّل: أنّ معروض الوجوب هو ذات المقدّمة مطلقاً، مجرَّداً عن كلّ قيدٍ ولا شرط، كما ذهب إليه صاحب الكفاية(قدس سره)(1) ووافقه عليه المحقّق النائيني(قدس سره)(2).

والثاني: أنّه الذات بقيد الإيصال إلى ذي المقدّمة، كما ذهب إليه صاحب الفصول(3) والمحقّق العراقي"(4).

والثالث: أنّه الذات عند إرادة ذي المقدّمة، كما عليه صاحب المعالم(قدس سره)(5).

ص: 64


1- كفاية الاُصول: ص 114. قال(قدس سره): «وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بها إلى ذي المقدّمة... إلى أن قال: الظاهر: عدم الاعتبار... فيقع الفعل المقدّميّ على صفة الوجوب، ولو لم يقصد به التوصّل، كسائر الواجبات التوصّليّة».
2- فوائد الاُصول: 1: 286، فما بعدها.
3- الفصول الغرويّة: ص 87، التنبيه الأوّل: «أنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب والمطلوبيّة من حيث كونها مقدّمة إلّا إذا ترتّب عليها وجود ذي المقدّمة، لا بمعنى أنّ وجوبها مشروط بوجوده، فيلزم ألّا يكون خطاب بالمقدّمة أصلاً على تقدير عدمه؛ فإنّ ذلك متّضح الفساد، كيف؟ وإطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لإطلاق وجوبه وعدمه، بل بمعنى: أنّ وقوعها على الوجه المطلوب منوط بحصول الواجب...».
4- حكاه عنه اُستاذنا المحقّق) في منتهى الاُصول 1: 293، وانظر أيضاً: نهاية الأفكار 2: 333.
5- المعالم: ص 77. قال في مبحث الضدّ: «وأيضاً: فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر». فإنّ الظاهر من كلامه: أنّ المقدّمة لا تتّصف بالوجوب إلّا عند إرادة ذيها.

والرابع: أنّه الذات بشرط قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، كما عليه الشيخ الأنصاريّ(قدس سره)، على ما في التقريرات(1).

والأمر الثالث:

لو فرضنا أنّ الواجب هو ذات المقدّمة، فهذا لا ينافي الالتزام بلزوم قصد الإيصال في بعض الموارد في موضوع الواجب لجهةٍ خارجيّة، كما لو فرض أنّ إنقاذ الغريق توقّف على خصوص التصرّف في ملك الغير. فنقول: إنّ الواجب من ناحية الإنقاذ هو التصرّف بقصد الإنقاذ؛ إذ لا إشكال في عدم جواز التصرّف في ملك الغير، ولكن بما أنّ وجوب الإنقاذ أهمّ وأولى، فحينئذٍ: يجوز له التصرّف في ملك الغير بشرط قصد الإنقاذ، فلو لم يقصد الإنقاذ لم يجز له التصرّف.

فإذن الشارع هنا في الدخول إلى الأرض المغصوبة، مع أنّه يُعَدّ تصرّفاً في المغصوب، فإنّما هو من جهة أهمّيّة الإنقاذ، إذ لمّا كان فعل الإنقاذ أهمّ من فعل الغصب، أجاز الشارع الدخول إليها؛ لأنّ الضرورات تبيح المحظورات، وهي تتقدّر بقدرها. فالإذن يجوز - ولو مع المزاحمة بحرمة الغصب - شريطة أن يكون في التصرّف المقصود منه الإنقاذ، وأمّا التصرّف غير الإنقاذيّ، فليس جائزاً البتّة. ومن هنا يُعلم: أنّ قصد الإنقاذ يكون دخيلاً.

ص: 65


1- مطارح الأنظار 1: 353، قال: «وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بالوجوب الغيريّ لأجل التوصّل به إلى الغير أو لا؟ وجهان، أقواهما الأوّل».

وخلاصة الكلام: أنّ منشأ اعتبار القيود والشروط هو أنّ المقدّمة في حدّ ذاتها، ومع قطع النظر عن المشروط، كانت واجبةً ومن غير اعتبار شيء، ومع أنّه قد يكون محرّماً بالذات، ولكن يتوقّف وجوبه على الإتيان بواجبٍ أهمّ، كما مرّ، في إنقاذ الغريق، فبما أنّه أهمّ من التصرّف في الأرض المغصوبة، وجب التصرّف فيها مقدّمةً لإنقاذ الغريق، فلابدّ من أن يتحقّق لديه هذا القصد.

ومن هنا، فالقول بأنّ التصرّف في الأرض المغصوبة واجب مطلقاً ولو من غير قصد إنقاذ الغريق، بل عدواناً أو نزهةً - مثلاً - لا يقبله الذوق السليم، ولا يساعد عليه الوجدان. وهذا ما دفع صاحب المعالم(قدس سره) إلى القول بتقيّد وجوب المقدّمة بقيد إرادة ذيها. وأيضاً، هذا ما جعل الشيخ الأعظم(قدس سره) - في المحكيّ عنه - يقيّد وجوب المقدّمة بما إذا قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة. وهو - أيضاً - وما أدّى بصاحب الفصول(قدس سره) إلى القول بوجوب المقدّمة الموصلة، أي: في صورة كونها موصلة إلى ذيها.

ولكنّ الحقّ: أنّ المعروض إنّما هو ذات المقدّمة، من دون أيّ قيد ولا شرط؛ لأنّ حكم العقل بالملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، إنّما هو لأجل أنّ الغرض من ذلك هو التمكّن من الإتيان بالواجب؛ لأنّ ذات الواجب متوقّفة عليها، ومن المعلوم: أنّ هذا يتحقّق إذا جيء بذات المقدّمة من دون دخلٍ لأيّ قصد، ولذا ترى من يقول باعتبار القصد المزبور يقول بالاكتفاء بالمقدّمة التي يؤتى بها بدون القصد. ولايخفى:

ص: 66

أنّ اعتبار القصد إنّما يكون من جهة قيام الدليل عليه، ومقامنا ممّا لم يقم عليه دليل، أو يكون من العناوين القصديّة التي يتحقّق عنوان المأمور على القصد، نظير التعظيم أو التأديب، وأنت ترى: أنّ مقامنا ليس من هذا القبيل، أي: ليس من العناوين القصديّة.

فإن قلت: الواجب هو عنوان المقدّميّة، فلابدّ من قصد ذلك العنوان.

قلنا: إنّ العنوان ليس موضوعاً للحكم، بل الموضوع للوجوب إنّما هو ذات المقدّمة، لا مقدّميّتها، والمقدّميّة تكون واسطة في العروض، أي: أنّ المقدّمة تكون علّة لثبوت الحكم على الذات، وأما جهة المقدّميّة فهي من الجهات التعليليّة لا التقييديّة، وبناءً على ذلك، فهي واسطة في الثبوت لا العروض. فالقول بأنّ المقدّمة هي الذات مع قصد الإتيان والإرادة، ممّا لا دليل عليه.

وأيضاً: فقد مرّ مراراً أنّ تابع للملاك سعة وضيّقاً، فكلّ قيدٍ أوجبت دخله في المأمور به لابدّ من دخله في الملاك، وإلّا، يلزم أن تكون دائرة الملاك أوسع من دائرة الحكم مع أنّه تابع له سعة وضيّقاً. وفي محلّ البحث، بعدما ذكرنا بعدم دخل العنوان في الملاك، أعني: عنوان التوقّف والمقدّميّة والتمكّن من المأمور به، أي: من ذي المقدّمة، فإذا اعتبر قصد التوصّل في الواجب، أعني: المقدّميّة، لزم أن تكون دائرة الملاك أوسع من دائرة الحكم بوجوب المقدّمة، وثبوت الحكمبدون الملاك ممتنع؛ لامتناع دخل ما لا يكون فيه الملاك.

ص: 67

وأيضاً: فهذا يكون من باب تحصيل الحاصل؛ إذ لو كان الواجب هو المقدّمة بقصد التوصّل، فالأمر الوارد عليها من قبل ذي المقدّمة كذلك؛ لأنّ الغرض من هذا الأمر هو إحداث الداعي في العبد لإيجاد الداعي في متعلّقه، وبعد وجود الداعي، وهو قصد التوصّل، فلا معنى لورود الأمر والبعث.

وأيضاً: يخرج الواجب عن كونه واجباً؛ لأنّه لو كان قصد التوصّل إلى ذيها دخيلاً، فمعنى ذلك ترتّب إرادة ذي المقدّمة، وبعد أن كان وجوبها معلولاً لوجوب ذي المقدّمة، وكان وجوب ذيها مترتّباً على إرادته، ولم يقصد هذه الإرادة، فلابدّ أن يكون مباحاً مسلوب الوجوب عنه.

نعم، قصد التوصّل يكون دخيلاً في حصول امتثال الأمر، ولو لم يكن دخيلاً في الواجب، ولا في تحصيل الغرض، أي: أنّ المقدّمة هي - كسائر الاُمور التوصّليّة - لا يشترط في امتثالها قصد أمرها، بل هي واجبة، ولو لم يقصد الإتيان بها بداعي أمرها، أو بقصد التوصّل إلى ذيها، فالواجب - إذاً - هو ذات المقدّمة. نعم كما ذكرنا أنّ قصد المزبور يكون دخيلاً في الامتثال وترتّب الثواب.

بل يمكن أن نقول: بأنّه في المقدّمة المحرّمة - أيضاً - لا نحتاج إلى قصد التوصّل، بل في مثال الدخول في أرض الغير بدون إذنه المتوقّف عليه واجب فعليّ منجّز كإنقاذ غريق، فإن لم يكن المكلّف ملتفتاً إلى توقّف الواجب عليه،وكان دخوله في الأرض المغصوبة باعتقاد الحرمة

ص: 68

كان متجرّياً؛ لأنّه أتى بما هو واجب واقعاً باعتقاد حرمته.

نعم، في خصوص المقدّمة المحرّمة لابدّ من القصد، ولا تبقى الحرمة إذا كان ذو المقدّمة أهمّ، كما تقدّم. والذي يحكم به العقل إنّما هو لزوم الإتيان بهذه المقدّمة من جهة عروض الواجب الأهمّ، فالمقدار المتيقّن من الجواز هو ما إذا قُصد بها التوصّل، لا عندما يؤتى بها لأيّ غرض آخر، كما لو جيء بها بقصد التفرّج والنزهة.

ولكن لا يقاس المقام بمحلّ البحث، وهو المقدّمة المباحة؛ فإنّ وجوبها ليس لأجل التزاحم، بل هي بذاتها تكون واجبةً من دون أيّ قيد. وأمّا المقدّمة المحرّمة ذاتاً، فبما أنّ الذات هي التي تقتضي الحرمة، فالمقدار الممكن لرفع اليد عنها إنّما هو صورة التوصّل، لا مطلقاً، و لو لم يقصد التوصّل.

وأمّا ما ذهب إليه صاحب الفصول(قدس سره)من القول بالمقدّمة الموصلة وبأنّ وجوب المقدّمة مشروط بأن يترتّب عليها ذو المقدّمة، فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة: إمّا أن يعتبر في المقدّمة بنحو شرط الوجوب، أو بنحو شرط الواجب، وعلى كلٍّ من التقديرين: إمّا أن يكون من قبيل الشرط المقارن أو الشرط المتأخّر، فالصور أربع:

الاُولى: أن يكون من قبيل الشرط المقارن للوجوب. وهو مستحيل؛ لأنّ وجود ذي المقدّمة في الخارج لا ينفكّ عنوجود المقدّمة، فلو كان وجوبها منوطاً بوجوده - أيضاً - لكان ذلك من باب تحصيل الحاصل.

ص: 69

والثانية: أن يكون من قبيل الشرط المتأخّر للوجوب؛ والمحذور المتقدّم وإن لم يكن وارداً عليها، كما هو واضح، إلّا أنّه مستحيل من ناحية أُخرى، وهو أنّه يستلزم التهافت في نظر الآمر؛ إذ بلحاظ أنّ وجود ذي المقدّمة شرط لوجوبها، يراه متقدّماً، وبلحاظ أنّ وجود ذي المقدّمة هو بمنزلة المعلول لوجوب المقدّمة، يراه متأخّراً.

والثالثة والرابعة: أن يكون من قبيل الشرط المقارن والمتأخّر للواجب، ويرد عليه: أنّ الوجوب لو كان مشروطاً بوجود ذي المقدّمة، فلابدّ وأن يكون مشروطاً بوجود نفس المقدّمة - أيضاً -؛ لأنّ وجود ذي المقدّمة متوقّف على وجودها، وإلّا لم تكن مقدّمة، واشتراط الشيء بوجوده، أو اشتراط الواجب وتقييده بوجود نفسه، ليس إلّا تحصيلاً للحاصل.

وثانياً: أنّه لو كان الإيصال قيداً للواجب، لكان وجود ذي المقدّمة من المقدّمات الوجوديّة لوجود المقدّمة، ووجوب المقدّمة من المقدّمات لوجود ذي المقدّمة، فيصبح كلٌّ منهما مقدّمة للآخر، فيتوقّف وجود كلّ واحدٍ منهما على وجود الآخر، وهذا عين الدور.

وثالثاً: أنّ الوجدان أقوى شاهد على أنّ الذي يكون دخيلاً إنّما هو ذات المقدّمة، وهو الذي يكون ملاكاً لوجوبها دون غيره.ورابعاً: أنّ الذي يكون دخيلاً في وجوب ذي المقدّمة، والغرض الداعي إلى وجوبها، ليس إلّا ما يترتّب على وجودها، ومن الواضح - ضرورةً -: أنّ جميع أفراد ذي المقدّمة لا تترتّب على مقدّماتها إلّا

ص: 70

إذا كانت المقدّمات من قبيل الأسباب والمسبّبات التوليديّة.

نعم، الغرض هو إمكان تحقّق ذي المقدّمة وترتّبه عليها، وهذا لابدّ أن يكون من جهة المقدّمة، أي: أنّ الغرض هو حفظ وجود ذي المقدّمة من ناحية المقدّمة، بحيث ينسدّ عنه باب العدم من هذه الناحية. فالداعي إلى إيجاب المقدّمة هو هذا، والمفروض أنّ الذي له تمام المدخليّة في تحصيل هذا الغرض هو ذات المقدّمة، ولو لم تنضمّ إليها سائر المقدّمات.

وخامساً: أنّ الأمر الغيريّ إذا تعلّق بالمقدّمة، فإنّه يسقط بمجرّد الإتيان بتلك المقدّمة، كما يشهد به الوجدان، فلو كان المتعلّق مقيّداً بما هو خارج عن ذات المقدّمة، لكان سقوط الأمر من دون أن يتحقّق تمام المتعلّق بلا سببٍ يقتضيه.

وقد ذكر المحقّق العراقي(قدس سره) بعد هذه الإشكالات ما لفظه:

«والتحقيق في المقام: هو القول بأنّ الواجب ليس مطلق المقدّمة، ولا خصوص المقدّمة المقيّدة بالإيصال، بل الواجب هي المقدّمة في ظرف الإيصال بنحو القضيّة الحينيّة. وبعبارة أُخرى: الواجب هي الحصّة من المقدّمة التوأمة مع وجود سائر المقدّمات، الملازمة لوجود ذي المقدّمة»(1).وحاصله: أنّه ليس المراد من تقييد الواجب بخصوص الموصلة أنّ

ص: 71


1- بدائع الأفكار: (تقريرات المحقّق العراقي) 1: 389.

التوصّل يكون قيداً للواجب، بل إنّما هو على نحو خروج القيد والتقييد معاً - كما ذكر مثل هذا في الفصول(1) في مبحث المعنى الحرفيّ من أنّ التقييد والقيد كلاهما خارجان عمّا وُضِعت له الحروف - ولكن مع ذلك، لا يكون الواجب هو الذات مطلقاً، بل المراد: أنّ الواجب هو الذات من حيث الإيصال، أي: الذات في حال الإيصال. فالواجب هو تلك الحصّة من المقدّمة التي تكون توأماً مع وجود سائر المقدّمات.

وبالجملة: فإنّ معروض الوجوب المقدّمي هو الذات، لكن لا بلحاظ انفرادها، ولا بلحاظ التوصّل بها، بحيث يؤخذ التوصّل قيداً، بل بلحاظها في حال كونها ممّا يتوصّل بها، أي: لحاظها ولحاظ ذيها على وجه التوأميّة، وبذلك يسلم عن المحاذير المتقدّمة، فإنّ تلك المحاذير إنّما كانت ترد على تقدير كون التوصّل قيداً، وبعد خروج قيديّة التوصّل لا يكون فيه محذور، فللواجب مقدّمات كثيرة، وهذه الحصّة ليست كبقيّة الحصص في حدّ ذاتها، كما أنّ وجود زيد مغاير لسائر أفراد الإنسان.

نعم، بما أنّ المقدّمات تكون كلّها مطلوبةً من قبل ذي المقدّمة، وكان الغرض من كلّ مقدّمة هو سدّ بابٍ من أبواب عدم ذي المقدّمة،

ص: 72


1- الفصول الغرويّة: ص 13، قال(قدس سره): «فهي - عند التحقيق - موضوعة بإزاء المفاهيم المقيّدة بأحد أفراد الوجود الذهنيّ الآليّ من غير أن يكون القيد والتقييد داخلاً، فيكون مداليلها جزئيّات حقيقيّة متّحدة في مواردها ذاتاً، ومتعدّدة تقييداً وقيداً».

وليس كلّ واحد من السدود مطلوباًعلى نحو الاستقلال، بل في ضمن المجموع، فكلّ فرد إنّما يكون مطلوباً في حال توفّر سائر القيود، ولكن لا بحيث يكون مقيّداً بها ولا مطلقاً مجرّداً عنها.

وهذا، وإن لم يمكن أن ينطبق عليه مقالة صاحب الفصول، لتصريحه بأخذ التوصّل قيداً، إلّا أنّه يمكن أن ينطبق عليه كلام أخيه المحقّق صاحب الحاشية(1)، حيث إنّه قد تكرّر في كلامه نفي اعتبار قيد التوصّل، ومع ذلك يقول بأنّ الواجب هو المقدّمة من حيث الإيصال، فيمكن أن يكون مراده من قيد الحيثيّة ما ذكرنا من خروج كلٍّ من القيد والتقييد على وجه لا يستلزم الإطلاق أيضاً.

وفيه تأمّل؛ فإنّ الظاهر أنّ مراد المحقّق من الحيثيّة التعليليّة، وتكون حيثيّة الإيصال علّة لعروض الوجوب على ذات المقدّمة، ولو لم تكن موصلة.

ولا يخفى: أنّه إن كان المراد من التوأميّة والحيثيّة والحاليّة وغير ذلك ممّا شئت أن تعبّر به، هو نفي التقييد بالموصلة لحاظاً، وإن أوجب التقييد بها نتيجةً، فيرد عليه: أنّ نتيجة التقييد بالموصلة - أيضاً - لا يمكن كالتقييد اللّحاظيّ.

ص: 73


1- راجع: هداية المسترشدين في شرح معالم الدين، الأمر الرابع من الاُمور التي ذكرها في خاتمة بحث مقدّمة الواجب، عند قوله: «قد يتخيّل أنّ الواجب من المقدّمة هو ما يحصل به التوصّل إلى الواجب دون غيره».

نعم، لو اُريد أنّها غير مقيّدة لحاظاً ولا نتيجةً، فهو تامّ، ولكنّ مرجعه إلى أنّ المقدّمة تصبح مهملة بعد أن كان التقابل بين الإطلاق والتقييد هو من قبيل التقابل بين الملكةوالعدم، فإذا لم يمكن التقييد لم يمكن الإطلاق، وليس التقابل بينهما من تقابل السلب والإيجاب حتى يكون رفع أحدهما موجباً لثبوت الثاني لامتناع ارتفاع النقيضين.

وقد أورد عليه بعض المحقّقين المعاصرين ﺑ «أنّ القضيّة الحينيّة إنّما تكون معقولة في المورد الذي لا يكون الإطلاق معقولاً، سواء كان التقييد معقولاً أو غير معقول؟ إذ لا لزوم للتقييد في حصر الحكم بالحصّة الخاصّة؛ لأنّه بحكم طبعه لا يتعدّى عنها»(1).

وفيه: أنّ معقوليّة الإطلاق إنّما تتصوّر عند عدم معقوليّة التقييد إذا كان التقابل بينهما من قبيل تقابل السلب والإيجاب، وأمّا إذا قلنا بأنّ التقابل بينهما هو من التقابل بين العدم والملكة، فإذا لم يعقل التقييد لم يعقل الإطلاق، كما هو أوضح من أن يخفى.

ولكن مع ذلك، فما ذكره المحقّق العراقي(قدس سره) غير تامّ لو قلنا بأنّ الأحكام مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة لا الخارجيّة، إذ يقال: إنّ المولى إذ جعل الحكم ولاحظ متعلّق الأمر ولاحظ القيد، فإمّا أن يقيّده به أو لا يقيّده به: أمّا نفس جعل الحكم مع لحاظ القيد من دون تقييد فهذا

ص: 74


1- منتقى الاُصول 2: 310.

لا يستلزم شيئاً، بل يكون من قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان، فلا أثر له في ثبوت نتيجة التقييد، وما نحن فيه كذلك، فإنّ الأمر الذي يتعلّقبالمقدّمة يتعلّق بها استقلالاً لا ضمناً، والدعوى أنّه يتعلّق بالحصّة التي تلازم الإيصال، فنقول:

نفس لحاظ المقدّمة في ظرف الإيصال لا يستلزم تخصيص الحكم بها إلّا إذا ورد نصّ من قبل المولى على تقييد وتحصيص متعلّق الأمر، وإلّا، يكون الأمر متعلّقاً بذات المقدّمة، ولحاظ ظرف الإيصال معها لحاظ أجنبيّ لا أثر له في أيّ شيء ما دام لا يغيّر من واقع الأمر وكيفيّة الإرادة، والتحصيص من دون التقييد يكون محالاً.

وبعبارة ثانية: فإنّ تحصّص الطبيعة وتميّزها عن سائر الحصص، سواء كان في الذهن أم في الخارج، لا يكاد يكون ممكناً إلّا إذا تقيد بقيد، ومن دون ذلك فهي باقية على إطلاقها، وفيما نحن فيه، فالتوأميّة إذا صارت سبباً لصيرورتها حصّة خاصّة، فلابدّ أن تتقيّد الطبيعة بها، وهذا لا يكون إلّا بتبديل الطبيعة، ونفس لحاظ الحصّة حال الأمر لا يستلزم ذلك ما لم يرجع إلى التقييد وإنشاء الحكم على المقيّد، بل يكون اللّحاظ المزبور من قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان، لا ربط له بالأمر ومتعلّقه بما هو متعلّق الأمر.

تصوير الأصفهاني للمقدّمة الموصلة:

وقد ذهب المحقّق الأصفهاني(قدس سره) إلى تصوير المقدّمة الموصلة بتصوير آخر من دون أن يأخذ الإيصال قيداً، وذلك بدعوى: أنّ الواجب

ص: 75

هو المقدّمة إذا وصلت في مقام الفعليّة.توضيح ذلك: أنّ المقدّمات بجميع أنحائها لا تكون مقدّمات فعليّة إلّا إذا ترتّب الواجب عليها، ومن دون ذلك فهي مقدّمات بالقوّة، فالمقتضي الموجود وحده، من دون وجود سائر أجزاء العلّة، يكون فاعلاً بالقوّة، والموجود مع سائر أجزاء العلّة فاعل بالفعل، والشرط الموجود فقط من دون اقتران بالمقتضي مصحّح للفاعل بالقوّة، وأمّا الموجود مع المقتضي فهو مصحّح بالفعل. وهكذا الحال في غيرهما من أجزاء العلّة، فكلّ منها لو وجد من دون انضمام جميع أجزاء العلّة غير مفيد، إذ لا يُنسب إليه أثره - والحالة هذه - إلّا بالقوّة، ومع انضمام الأجزاء الاُخرى يُنسب إليه الأثر بالفعل.

وحينئذٍ يقال: إنّ متعلّق الوجوب الغيريّ هو المقدّمات الفعليّة، لا مطلق المقدّمات ولو كانت بالقوّة، وهذا المعنى ملازم للإيصال؛ لأنّ الفعليّة لا تتحقّق إلّا بتحقّق الواجب من دون أن يُؤخذ الإيصال قيداً (1).

ص: 76


1- انظر: نهاية الدراية 1: 395، قال(قدس سره): «يمكن أن يقال - أيضاً - حيث إنّ المعلول متعلّق الغرض الأصيل، فلا محالة: تكون علّته التامّة متعلّقة للغرض بالتّبع حيث إنّها علّة ومحصِّلة لغرضه الأصيل، لا كلّ ما له دخل وإن لم يكن محصّلاً للغرض الأصيل؛ فإنّ وجوده وعدمه مع عدم الغرض الأصيل على حدّ سواء، فالعلّة التامّة هي المرادة بتبع إرادة المعلول، وكما أنّ الإرادة المتعلّقة بالمعلول واحدة، وإن كان المعلول مركّباً كذلك الإرادة المتعلّقة بالعلّة التامّة واحدة، وإن كانت العلّة مركبة، وكما أنّ منشأ وحدة الإرادة في الأوّل وحدة الغرض، كذلك المنشأ في الثاني وحدة الغرض، وهو الوصول إلى المعلول، وكما أنّ إتيان بعض أجزاء المعلول لا يسقط الإرادة النفسيّة المتعلّقة بالمركّب، بل باقية إلى آخر الأجزاء، وإن كان يسقط اقتضاؤها شيئاً فشيئاً، كذلك الإرادة الكلّيّة المتعلّقة بالعلّة المركّبة، لا يسقط إلّا بعد حصولها الملازم لحصول معلولها، وإن كان يسقط اقتضاؤها شيئاً فشيئاً، وكما أنّ أجزاء المعلول لا تقع على صفة المطلوبيّة إلّا بعد التماميّة، كذلك أجزاء العلّة لا تقع على صفة المطلوبيّة المقدّميّة إلّا بعد التماميّة؛ لوحدة الطلب في كليهما ومنشأيهما وحدة الغرض».

وقد استدلّ الاُستاذ الأعظم(قدس سره) على وجوب المقدّمة الموصلة بقوله:«وعلى الجملة، فالغرض بما أنّه قائم بخصوص المقدّمة الموصلة دون غيرها ودون الجامع بينهما، فلا مقتضى لإيجاب غيرها، ولو بإيجاب الجامع، فالنتيجة: أنّ ما أفاده المحقّق صاحب الفصول(قدس سره) متين جدّاً ولا مناص عنه لو قلنا بوجوب المقدّمة»(1).

ولكن قد عرفت الإشكال فيه ممّا تقدّم.

ولا يخفى: أنّ ما أفاده المحقّق الأصفهاني(قدس سره) إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأسباب والمسبّبات التوليديّة، كالإحراق بالنسبة إلى النار، حيث لا يكون هناك واسطة بين الشيء وبين مقدّماته، بل بمجرّد حصول أجزاء العلّة التامّة يحصل المعلول.

وأمّا ما في المقام، وهي الأفعال المباشرة، فحتى لو حصلت جميع المقدّمات لا يلزم منه حصول ذي المقدّمة حتماً، بل تكون جميع المقدّمات من قبيل المعدّ، وليس عمل الأجزاء إلّا المقرّبيّة والتمكّن

ص: 77


1- محاضرات في اُصول الفقه: 2: 260.

ليس غير، وهي تتحقّق بإتيان ذات المقدّمات، وأمّا العلّة التامّة فهي الإرادة، وهي تكون مؤثّرة في حصول الواجب، فلا يحصل الواجب إلّا بها، والفعل لا يتخلّف عنها، وبما أنّ الإرادة من أفعال النفس، فلا يؤثّر فيها شيء خارج عن النفس، وحيث إنّ الواجب المراد لا يتخلّف عنه، فلا معنى لورود الوجوب عليه وحده.

فإذا فرضنا أنّ المقدّمات بأجمعها هي من قبيل المعدّ، ولا يكون الملاك الذي هو حصول الواجب موجوداً فيها، و شأنالمعدّ إنّما هو التقريب والتمكين من ذي المقدّمة، فلابدّ أن يكون متعلّق الوجوب هو الإرادة؛ لأنّها هي التي تكون سبباً للإيصال.

وممّا ذكرنا يتّضح الإشكال فيما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) من أنّ ما يترتّب على المقدّمة ليس إلّا التمكّن من الواجب دون حصوله، وهو - أي: التمكّن - يحصل ولو بالإتيان بذات المقدّمة(1).

ولا بأس هنا بذكر ما استدلّ به صاحب الفصول على مبناه(2)، وهي اُمور:

ص: 78


1- راجع: كفاية الاُصول: ص 118، قال(قدس سره): «وقد عرفت بما لا مزيد عليه: أنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدّمة، لا خصوص ما إذا ترتّب عليها الواجب».
2- الفصول الغرويّة: ص 86. قال(قدس سره): «والذي يدلّ على ذلك: أنّ وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية، فالعقل لا يدلّ عليه زائداً على القدر المذكور، وأيضاً: لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: اُريد الحجّ، واُريد المسير الذي يتوصّل به إلى فعل الحجّ له دون ما لا يتوصل به إليه، وإن كان من شأنه أن يتوصّل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له، مطلقاً، أو على تقدير التوصّل بها إليه، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدّمته على تقدير عدم التوصّل بها إليه، وأيضاً: حيث إنّ المطلوب بالمقدمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله، فلا جرم يكون التوصّل إليه وحصوله معتبراً في مطلوبيتها، فلا تكون مطلوبة إذا انفكّت عنه، وصريح الوجدان قاضٍ بأنّ من يريد شيئاً لمجرد حصول شي ء لا يريده إذا وقع مجرّداً عنه، ويلزم منه: أن يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطاً بحصوله».

الأوّل: أنّ الحاكم بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته إنّما هو العقل، ومن الطبيعي أنّه لا يدرك أزيد من الملازمة بين طلب الشيء وطلب مقدّماته التي في سلسلة علّة وجود ذلك الشيء في الخارج، بحيث يكون وجودها فيه توأماً وملازماً لوجود الواجب، وأمّا ما لا يقع في سلسلة علّته،ويكون وجوده مفارقاً عن وجود الواجب، فالعقل لا يدرك الملازمة بين إيجابه وإيجاب ذلك أبداً.

وفيه: أنّ جميع المقدّمات على سنخٍ واحد بعد أن كان الفعل من الأفعال المباشريّة وليست كلّها بعد اجتماعها أيضاً ملازمة لوجود الواجب، بل الذي يكون ملازماً إنّما هو الإرادة، وهي لا يعقل أن تتّصف بالوجوب.

وقد أورد عليه صاحب الكفاية(قدس سره) بأنّ العقل لا يفرّق في الحكم بالملازمة بين الموصلة وغيرها، نظراً إلى أنّ ملاك حكمه بالملازمة إنّما هو حصول التمكّن للمكلّف من الإتيان بالواجب من قبل الإتيان

ص: 79

بها، وهذا مشترك على الفرض بين تمام أنواع المقدّمة، ولا يُفرّق فيه بين الموصلة وغيرها(1). ولكن قد عرفت ما في جوابه هذا.

والثاني: أنّ العقل لا يأبى عن تصريح الآمر الحكيم بعدم إرادة غير المقدّمة الموصلة، كأن يقول - مثلاً -: إنّي لا اُريد من المسير إلى الحجّ إلّا المسير الذي يكون موصلاً إلى بيت اﷲ الحرام، ومن الطبيعيّ أنّ عدم إباء العقل عن ذلك وتجويزه دليل قطعيّ على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة، دون مطلق المقدّمة، فلو كان الواجب هو مطلق المقدّمة لم يكن وجه لهذا الجواز، فتجويز العقل لذلك دليل على أنّ الوجوب مختصّ بالمقدّمة الموصلة دون غيرها.ولكن الحقّ: ما عليه صاحب الكفاية) من أنّ الغرض إذا كان حاصلاً من جميع المقدّمات ومشتركاً بين الكلّ، وهو التمكّن من الإتيان بالواجب، فليس للمولى النهي عن سائر المقدّمات. وبعبارة أُخرى: فالعقل بعد أن يرى الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، يحكم بوجوب مطلق المقدّمة، لا خصوص الموصلة منها، لاشتراك الجميع في الغرض، وهو حصول التمكّن، إلّا مع ورود الدليل الخاصّ بمنع الإتيان ببعض المقدّمات، وعليه: فلا تتّصف تلك المقدّمة المنهيّ عنها بالوجوب .

الثالث: أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة كما يدركه العقل إنّما هو إيصالها إلى الواجب، ووقوعها في سلسلة علّة وجوده، ومن المعلوم،

ص: 80


1- كفاية الاُصول: ص 118.

أنّ الواجب تابع للملاك والمصلحة من جهة السعة والضيق، وبما أنّ الغرض الداعي إلى الإيجاب لا يتحقّق إلّا في المقدّمة الموصلة، فيكون الواجب تلك المقدّمة دون غيرها من المقدّمات؛ لأنّ إيجاب غيرها، بما أنّه خالٍ عن الملاك، فلا يكون ممكناً؛ لأنّه بلا داعٍ، فلا يرتكبه الحكيم، فيختصّ الوجوب بخصوص الموصلة.

ولكن قد مرّ مراراً: أنّ الغرض مشترك فيما فيه الملاك، والملاك، وهو التمكّن، موجود في الكلّ.

ثمرات القول بالمقدّمة الموصلة:
الثمرة الاُولى:

أنّ العبادة تصبح فاسدة ومحرّمة إذا وقعت ضدّاً لواجبٍ أهمّ؛ لأنّ ترك العبادة يكون مقدّمة للواجب، فيكون واجباً، فيحرم الفعل، كالصلاة والإزالة، فإنّ ترك الصلاة يكون مقدّمة لفعل الضدّ، وهو الإزالة، فيكون الترك واجباً، فيحرم فعل الضدّ، وهو الصلاة؛ لأنّه منهيّ عنه، والمنهيّ عنه لا يصلح التقرّب به، هذا على القول بأنّ الواجب هو مطلق المقدّمة.

وأمّا بناءً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة؛ فلا يكون الفعل حراماً؛ لأنّ الترك الواجب هو الترك الموصل لا مطلق الترك، والفعل - وهو الصلاة في المثال - ليس نقيضاً للترك الموصل الى ذي المقدّمة،

ص: 81

لجواز ارتفاعهما، والنقيضان لا يرتفعان؛ لأنّ عدم الترك الموصل كما يحصل بترك الصلاة يحصل أيضاً بفعلٍ آخر، كالنوم والأكل، ومن المعلوم: أنّ الحرمة لا تسري من أحد المتلازمين إلى الآخر، فضلاً عن مجرّد المتقارنين، فحرمة الضد الذي هو عدم الترك الموصل لا تسري إلى المقارن، وهو الصلاة.

وقد استشكل على هذه الثمرة بأنّها ليست تامّة، وذلك لأنّ الفعل على كلا القولين ليس نقيضاً للترك؛ لأنّ نقيض كلّ شيءٍ رفعه، فيكون نقيض الترك ترك الترك، وترك الترك غير الفعل؛ لأنّ عدم العدم ليس بوجود، غاية الأمر: أنّه على القول بوجوب مطلق المقدّمة ينحصر مصداق النقيض خارجاًفي فردٍ واحد هو الفعل فحسب، وأمّا على القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة، فيكون للنقيض فردان في الخارج: أحدهما: الفعل، والآخر: الترك غير الموصل، وفي المثال المذكور: الفردان هما: فعل الصلاة وغيره، من النوم والأكل والشرب.

ولكن قد أورد عليه المحقّق الخراساني(قدس سره) بما لفظه:

«قلت: وأنت خبير بما بينهما من الفرق، فإنّ الفعل في الأوّل لا يكون إلّا مقارناً لما هو النقيض من رفع الترك، المجامع معه تارةً، ومع الترك المجرّد اُخرى، ولا تكاد تسري حرمة الشي ء إلى ما يلازمه فضلاً عمّا يقارنه أحياناً، نعم، لابدّ أن لا يكون محكوماً فعلاً بحكمٍ آخر خلاف حكمه، لا أن يكون محكوماً بحكمه، وهذا بخلاف الفعل في الثاني،

ص: 82

فإنّه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه، لا ملازم لمعانده ومنافيه، فإن لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً، لكنّه متّحد معه عيناً وخارجاً، فإذا كان الترك واجباً، فلا محالة يكون الفعل منهيّاً عنه قطعاً. فتدبّر جيّداً»(1).

وحاصله: أنّ هناك فرقاً بين وجوب مطلق الترك وبين الترك الموصل؛ فإنّه على الأوّل، يكون عين ترك الترك مصداقاً، ولو كان مفهوماً غير الصلاة، وأمّا بناءً على وجوب الترك الخاصّ، فنقيضه ترك الترك الخاصّ، وهوغير متّحد مع الصلاة خارجاً، والصلاة ليست من أفراد هذا النقيض بالفرد الشايع، بل هي من المقارنات؛ لأنّ رفع الترك الخاص قد يجامع فعل الصلاة، وقد لا يجامعه، كما إذا ترك الصلاة والإزالة معاً، ومن المعلوم: أنّ النهي لا يسري إلى الملازم فضلاً عن المقارن.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ فساد العبادة لا يتوقّف على وجوب تركها من باب المقدّمة، ولو قلنا بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة للآخر، بل ولو لم نقل بوجوب المقدّمة، أو بمقدّميّة الترك، لكانت العبادة فاسدة، لعدم الأمر بها حيث إنّ ضدّها، وهو الإزالة، يكون ماُموراً به، ولا يمكن الأمر بالضدّين معاً، وعدم الأمر بالصلاة يكفي في الفساد.

فقد أجبنا عنه سابقاً في باب الترتّب، بأنّ الأمر بالمهمّ أيضاً موجود؛

ص: 83


1- كفاية الاُصول: ص 121- 122.

لأنّ الأمر بالأهمّ مطلق، وبالمهمّ مشروط بعصيان الأهمّ، ولا يكون هذا الأمر بالضدّين على نحو الإطلاق.

وأمّا ما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره) من «أنّ الفعل لا يُعقل أن يكون مصداقاً للترك، لاستحالة كون الوجود مصداقاً للعدم، لتباينهما ذاتاً واستحالة صدق أحدهما على الآخر، كيف؟! فإنّ العدم لا تحقّق له خارجاً لينطبق على الوجود»(1).فإنّما يتمّ في العدم المطلق، وأمّا العدم الخاصّ والمقيّد فله شائبة من الوجود، فليس العدم مقارناً للوجود، بل هو متّحد معه إذا كان الواجب هو مطلق المقدّمة.

والثمرة الثانية:
اشارة

برّ النذر بالإتيان بالمقدّمة بناءً على القول بوجوبها فيما إذا تعلّق النذر بإتيان فعلٍ واجب، وعدم حصول البرّ به على القول بعدم وجوبها.

ولكن لا يخفى:

أوّلاً: أنّ مسألة النذر مسألة فرعيّة، وليست باُصوليّة؛ لأنّها غير قابلة لأن تقع كبرىً لقياس بحيث لو انضمّ إليها صغرى لاستنتج منهما الحكم الكلّيّ.

وثانياً: أنّ الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر، فإن قصد من لفظ الواجب

ص: 84


1- محاضرات في اُصول الفقه: 2: 267.

خصوص الواجب النفسيّ، لم يكفِ الإتيان بالمقدّمة في الوفاء به، ولو قلنا بوجوبها، وإن قصد منه مطلق ما يلزم الإتيان به ولو عقلاً، كفى الإتيان بها، وإن قلنا بعدم وجوبها.

والثمرة الثالثة:

حصول الفسق بترك الواجب النفسيّ بجميع مقدّماته على القول بوجوبها، وعدم حصوله على القول بعدم وجوبها.

وفيه: أنّ الواجب ليس إلّا شيئاً واحداً، وهو ذو المقدّمة، لا أنّه لو كان للواجب مقدّمات كثيرة فتركها وبالتالي: حصل منه الترك لذي المقدّمة، يكون قد حصل منه عصيان كثيرومخالفات بعدد المقدّمات المتروكة، بل هو عصيان واحد يحصل من حين تركه لاُولى المقدّمات، إذ حينئذٍ حصل الامتناع للواجب الواحد، الذي هو ذو المقدّمة.

نعم، ثمّة فرق بين باب الامتثال وباب العصيان، ففي باب الامتثال بما أنّ هناك أوامر كثيرة ومتعدّدة، فلو حصل الامتثال لبعض تلك الأوامر، فلا يسقط الباقي، وهذا بخلاف باب العصيان؛ فإنّه بعصيان البعض حصل الامتناع للواجب، فتسقط بقيّة الأوامر، ومعه: فلا يبقى مجال لأيّ عصيان آخر.

والثمرة الرابعة:

أنّه لو قلنا بوجوب المقدّمة فلا يجوز أخذ الاُجرة عليها؛ لأنّه من أخذ

ص: 85

الاُجرة على الواجبات، وهو لا يجوز.

وفيه: أوّلاً: أنّه لا دليل على عدم جواز أخذ الاُجرة على الواجبات مطلقاً.

وثانياً: سلّمنا عدم جواز أخذ الاُجرة على الواجب، ولكنّ الذي لا يمكن أخذ الاُجرة عليه هو الواجب إذا كان مأخوذاً بنحو معنى الاسم المصدريّ؛ لأنّ الواجب، بل المقدّمات، تكون خارجةً حينئذٍ عن تحت الاختيار، وأخذ الاُجرة على شيء خارج عن الاختيار غير صحيح، وأمّا إذا اعتبرناه بنحو المعنى المصدريّ، جاز أخذ الاُجرة على مقدّماته حينئذٍ بعد أن كانت واقعةً تحت اختياره.

وثالثاً: أنّ هذه الثمرة، لو سُلّمت، فهي لا تصلح لأن تكون ثمرة للمسألة الاُصوليّة التي يُراد لها أن تقع كبرى في قياس الاستنباط.

والثمرة الخامسة:

أنّه على القول بوجوب المقدّمة، فلو كانت المقدّمة محرّمة يلزم اجتماع الأمر والنهي، بخلاف القول بعدم الوجوب.

وقد يقال في الجواب: بأنّه لا يكون من ذاك الباب، بل المورد من باب النهي في العبادة أو المعاملة.

ولكنّ الحقّ أن يقال: إنّه تارةً: تكون المقدّمة في نوعها محرّمة بحيث لا يكون للمكلّف مندوحة، كما إذا انحصر الإنقاذ بالتصرّف في ملك

ص: 86

الغير، ففي مثل هذا يقع التزاحم بين وجوب الإنقاذ وحرمة التصرّف، فينبغي مراعاة الأهمّ، أو سائر مرجّحات باب التزاحم، وبما أنّ وجوب الإنقاذ أهمّ فلا يبقى للمقدّمة المحرّمة وجوب فعليّ، فلا يكون المورد مندرجاً إلّا في باب اجتماع الأمر والنهي، لا في باب النهي عن العبادة أو المعاملة.

وأُخرى: لا تكون المقدّمة في نوعها محرّمة، بل كان لها أفراد مباحة، فتارةً يرد النهي عن فردٍ منها بالخصوص، كما إذ نهى عن سيرٍ خاصٍّ إلى الحجّ، فهذا يندرج في باب النهي عن العبادة إن كانت المقدّمة عباديّة، أو المعاملة إن لم تكن كذلك. وأُخرى لا يرد النهي عن فردٍ منها بالخصوص، بل كان المنهيّ عنه عنواناً كلّيّاً انطبق على بعض أفراد المقدّمة، كما في السير على الدابّة المغصوبة في الحجّ، فإنّ الواجب الذي هو السير له أفراد متعدّدة، والمنهيّ عنه، الذي هو الغصب، له أفراد متعدّدة، وقد اجتمع كلّ من السير والغصب في فرد واحد، فهذا يكون من باب اجتماع الأمر والنهي،وليس من باب النهي عن العبادة أو المعاملة، ولكن في المقام، بما أنّ وجوب المقدّمة توصّليّ، فيحصل الغرض منه، ولو بالركوب على الدابّة المغصوبة، سواء قلنا بجواز الاجتماع أو بعدم جواز الاجتماع.

وأمّا لو كانت المقدّمة عباديّة، فإن كانت منحصرة، فتدخل في التزاحم بين الأهمّ والمهمّ، حيث لا تبقى حرمة فعليّة متعلّقة بالمهمّ،

ص: 87

فتقع صحيحة، وأمّا لو كان هناك مندوحة، بأن كان لها أفراد مباحة، فالوجوب يترشّح إلى المقدّمة المباحة، ومعه: لا يصح التعبّد بالمنهيّ عنه، بل تدخل المسألة في باب النهي عن العبادات.

والثمرة السادسة:

لو أمر شخص بوجوب شيء له مقدّمات، فلو قلنا بوجوب المقدّمة، وبناءً على الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، فإنّ نفس الأمر بالشيء يكون علّة للأمر بالمقدّمات، فكما يستحقّ الاُجرة على الإتيان بذي المقدّمة، فكذلك يستحقّ الاُجرة ثانية على الإتيان بالمقدّمة؛ لأنّه إنّما فعلها بأمره أيضاً، كما أنّ الإتيان بأصل ذي المقدّمة كان كذلك.

وفيه: بما أنّ هناك لابدّيّة عقليّة، تقضي بعدم إمكان الإتيان بالمقدّمة، لأجل تلك الملازمة واللابدّيّة العقليّة، فإذا شككنا في وجوب المقدّمة وعدمها، فهل هناك أصل يمكن التمسّك به أم لا؟

ولا يخفى: أنّه لا أصل هناك يمكن التمسّك به؛ لأنّه من جهة البحث الاُصوليّ، بما أنّه يبحث عن الملازمة وعدمها،فإنّه لا حالة سابقة لها، بل هي أزليّة، واستصحاب العدم الأزليّ غير صحيح. وأمّا من ناحية المسألة الفقهيّة؛ فلأنّ الوجوب، أعني: وجوب المقدّمة، ولو لم يكن عند عدم وجوب ذيها، ويمكن لنا أن نستصحبه، ولكن لا أثر لهذا الاستصحاب، لعدم وجود الملازمة، ولابدّ منها، ولا يكون هناك فائدة إلّا بجريان استصحاب العدم الأزليّ، ولكنّه ليس بحجّة.

ص: 88

مبحث الضدّ

الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا؟

ولابدّ قبل الدخول في محلّ البحث من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاُصوليّة أم الفقهيّة أم غيرها؟

لا يخفى: أنّه إذا كان البحث في هذه المسألة في أنّ الضدّ هل هو حرام أم لا، فهي داخلة في المسائل الفقهيّة، بناءً على أنّ الضدّ هو فعل المكلّف، وهو - أي: الفعل - يكون موضوعاً للحكم الشرعيّ، والحرمة تكون من عوارضه. وأمّا إذا كانالمبحوث عنه فيها هو الملازمة وعدمها فهي مندرجة في المسائل الاُصوليّة.

وقد ذكرنا سابقاً في الفرق بين المسألة الاُصوليّة وغيرها: أنّ المسألة الاُصوليّة إنّما هي المسألة التي تقع في كبرى قياس الاستنباط، وبناءً عليه قلنا في مسألة مقدّمة الواجب أنّ البحث فيها بما أنّه بحث عن الملازمة

ص: 89

بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، كان بحثاً عن الملازمة التي يصحّ أن تقع كبرى لقياس يستنتج منه الحكم الكلّيّ الفرعيّ، فدخلت لذلك في حيّز المسائل الاُصوليّة. وكذلك فيما نحن فيه، فإنّ البحث هنا حول أنّ وجوب الشيء هل يستلزم حرمة ضدّه أم لا؟ فهي - أيضاً - من جملة المسائل الاُصوليّة.

الأمر الثاني :هل هذه المسألة لفظيّة أو عقليّة؟

لا يخفى: أنّه ليس المراد ﺑ «الأمر» في عنوان المسألة هو خصوص الأمر اللّفظيّ حتى يقال بأنّ الاقتضاء يكون على نحو الدلالة اللّفظيّة الوضعيّة، إمّا بنحو المطابقة أو التضمّن أو الالتزام، بل المراد من الأمر ما هو أعمّ من اللّفظيّ واللبّيّ، فيشمل ما دلّ عليه الدليل اللّفظيّ والعقليّ والإجماع، فهي لذلك من المسائل العقليّة، لا من مستقلّاتها الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح، بل هي من باب الملازمات العقليّة، بمعنى: أنّه إذا ورد أمر من الشارع بشيءٍ ما، فيحكم العقل بالملازمة بين هذا الشيء وبين النهي عن ضدّه؟نعم، هي من المسائل العقليّة قطعاً، ولكن بما أنّ الأصحاب لم يفردوا للمسائل العقليّة باباً مستقلاً، وكانت الأوامر في معظمها لفظيّةً، أدرجوها في مباحث الألفاظ. ومن هنا يُبحث فيها، تارةً من ناحية الدلالة اللّفظيّة، وأُخرى من ناحية الدلالة العقليّة.

ص: 90

الأمر الثالث :ما هو المراد من الضدّ؟

هل المراد من «الضدّ» هنا هو الأمر الوجوديّ الذي يُعرّف في المنطق بأنّه أمر وجوديّ لا يجتمع مع الضدّ الآخر في موردٍ واحد، بل يتعاقبان على موردٍ واحد؟

الظاهر: أنّ المراد به ها هنا ما هو أعمّ من الضدّ الوجوديّ، إذ المراد من الضدّ في هذه المسألة هو مطلق المعاند والمنافي، ويسمّى عندهم ﺑ «الضدّ العامّ»؛ لأنّه يتلاءم مع كلّ فردٍ من أفراد الأضداد الخاصّة، فهو يشمل النقيض - بمعنى: الترك -، ويتناول أيضاً الأمر الوجوديّ الخاصّ المعبّر عنه ﺑ «الضدّ الخاصّ»، وهو شامل أيضاً للقدر المشترك بين الأضداد الوجوديّة، إن كان للشيء أضداد متعدّدة، وهو المعبّر عنه ﺑ «الضدّ العامّ» في كلمات جملة من المحقّقين.

الأمر الرابع :ما هو المراد من الاقتضاء؟

ليس المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة هو معناه الحقيقيّ الظاهر منه، وهو الاستلزام، بل هو أعمّ من العينيّة والاستلزام، وأمّا الاقتضاء بمعنى: الجزئيّة فلم يقل به أحد.

وعلى هذا الأساس، فما ذكره الاُستاذ الأعظم) من «أنّ المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة ليس ما هو ظاهره، بل الأعمّ منه ومن

ص: 91

الاقتضاء بنحو الجزئيّة والعينيّة، ليعمّ جميع الأقوال»(1)، في غير محلّه.

ومثله - أيضاً - ما في الكفاية، من أنّ «الاقتضاء في العنوان أعمّ من أن يكون بنحو العينيّة أو الجزئيّة أو اللّزوم، من جهة التلازم بين طلب أحد الضدّين وطلب ترك الآخر، أو المقدّميّة، على ما سيظهر»(2).

كما أنّ الالتزام أعمّ من اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ وغيره.

وأمّا النهي: فإمّا أن يُراد منه النهي التشريعيّ، أي: الحرمة، وإمّا أن يُراد منه ما هو منشأ اعتبار هذا النهي، وهو الكراهة، التي هي عبارة عن الكيفيّة النفسانيّة.

فإن كان المراد هو الأوّل، فلا يكون هناك أيّة ملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه، بل يمكن أن يكون الشيء واجباً من دون أن يكون ضدّه حراماً؛ لأنّهما من الاُمور الاعتباريّة،وكلّ منهما يحتاج إلى جعل مستقلّ، وليس بينهما علّيّة ومعلوليّة، أي: ليس أحدهما علّة للآخر، كما إذا كان هناك مجعولان مستقلّان تكوينيّان، فيحتاج كلّ منهما إلى جعل مستقلّ.

وأمّا إذا كان المراد هو منشأ الاعتبار، فلا ملازمة هنا - أيضاً -، إذ لا يلازم الأمر بأحدهما كراهة الآخر؛ لأنّه ربّما يكون مريداً للشيء وطالباً

ص: 92


1- محاضرات في اُصول الفقه: 2: 289.
2- كفاية الاُصول: ص 129.

له مع كونه غافلاً عن ضدّه أصلاً، وأمّا الكراهة التقديريّة التي لا توجب الحرمة الفعليّة فهي لا تفيد.

الأمر الخامس: ما الفرق بين هذه المسألة ومسألة مقدّمة الواجب؟

نقول: إن كان المراد من الاقتضاء بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه، الاقتضاء بنحو العينيّة أو الاستلزام، لم يكن بين المسألتين أيّ ربطٍ أصلاً، بل إحداهما تباين الأُخرى لا محالة.

وأمّا إن كان المراد من الاقتضاء هو مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر الواجب، كالصلاة والإزالة، فبما أنّ ترك الصلاة يكون مقدّمة للإتيان بالإزالة الواجبة، فإنّ فعلها يكون حراماً.

وحينئذٍ: تكون هذه المسألة من صغريات مسألة مقدّمة الواجب. ولعلّ إفرادهم لهذه المسألة عنها وجعلهم إيّاها مسألةمستقلّة إنّما كان لأجل الإشكالات الكثيرة التي طرحوها في مسألة المقدّمة.

فإذا اتّضحت هذه الاُمور، فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في الضدّ الخاصّ.

والمقام الثاني: في الضدّ العامّ، وهو الترك.

أمّا المقام الأوّل:

اشارة

فقد استدلّ للقول باقتضاء الأمر بالشيء عن النهي عن ضدّه الخاصّ،

ص: 93

بلا فرق بين أن يكونا من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، أو الجامع بين الأضداد، إذا كان هناك ضدّ ثالث بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه لا يمكن الجمع بين الضدّين أو الأضداد في الوجود. فإنّ وجود كلّ ضدّ يلازم عدم الآخر، والمتلازمان لابدّ وأن يكونا متوافقين في الحكم، فلو كان أحد الضدّين واجباً، فلابدّ أن يكون ملازمه، وهو عدم الآخر، واجباً أيضاً، كما هي قضيّة التوافق، فحينئذٍ: لو كان عدمه واجباً، لكان فعله حراماً، فيثبت المطلوب.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ ترك الضدّ، وهو المهمّ - مثلاً - يكون مقدّمة لفعل الضدّ الآخر، فيكون واجباً، وإذا كان كذلك، كان فعله حراماً.

ولكن فيه: أنّه لا دليل على وجوب توافق المتلازمين في الحكم، بل الذي لابدّ منه إنّما هو أن لا يكونا متخالفين في الحكم، بأن يكون أحد المتلازمين واجباً والآخر حراماً، وإلّا،دخل المقام في مسألة التعارض، إذا كان هناك ملازمة دائميّة، أو التزاحم إذا كان بينهما ملازمة اتّفاقيّة.

والوجه الثاني: أنّ ترك أحد الضدّين يكون مقدّمة للضدّ الآخر، فيكون واجباً، ويكون فعله حراماً.

وفيه: أنّهم قد استشكلوا في كون الترك مقدّمة لفعل الضدّ، بل قالوا باستحالته؛ وذلك لأنّ أجزاء العلّة - كما هو معلوم - ثلاثة، وهي: وجود المقتضي، والشرط، وعدم المانع.

أمّا تأثير المقتضي في الشيء، بمعنى: أنّ الأثر منه، كالإحراق بالنسبة

ص: 94

إلى النار، فإنّ الإحراق يترشّح منه.

وأمّا الشرط، فهو المصحّح لفاعليّة المقتضي، كالمماسّة في مثال النار، فإنّه لولا المماسّة لا يتحقّق الإحراق، ولا تؤثّر النار أثرها، فمع فقدان الشرط لا تأثير للمقتضي.

وأمّا عدم المانع، فهو دخيل في أجزاء العلّة التامّة أيضاً، وذلك باعتبار أنّ وجود المانع، كالرطوبة في المثال، يكون مانعاً من الإحراق، فلولا عدم المانع لما ترتّب الأثر، وهو الإحراق، على النار.

فإذا عرفت هذا، اتّضح أنّ مانعية المانع تكون متأخّرة عن وجود المقتضي ووجود جميع الشرائط، كما أنّ الشرطيّة في الشرط يكون متأخّرة عن وجود المقتضي، فإنّ الرطوبة لا تكون مانعة من الاحتراق قبل وجود النار، ولا قبل مماسّتها، وإلّا، فلو لم تكن النار موجودةً أصلاً، أو كانت، ولكنّها لم تكن مماسّة؛ فإنّ عدم الاحتراق - والحالة هذه - لا يستند إلىوجود المانع، وهو الرطوبة، تماماً كما أنّ المماسّة لا تكون سبباً للإحراق إذا لم يكن مقتضي الإحراق في النار موجوداً.

وإذا اتّضح ذلك، فاعلم: أنّه يستحيل أن يكون وجود أحد الضدّين مانعاً عن وجوب الضدّ الآخر، لما عرفت من أنّ المانع إنّما يصبح مانعاً في ظرف وجود المقتضي للشيء مع بقيّة شرائطه، ومن المعلوم: أنّه عند وجود أحد الضدّين، الذي هو المانع، يستحيل ثبوت المقتضي للضدّ الآخر حتى يكون عدمه مستنداً إلى فعل ضدّه؛ إذ كما أنّ الضدّين يستحيل

ص: 95

اجتماعهما في شيءٍ واحد في الخارج، فكذلك المضادّة والمنافرة بين مقتضييهما تكون موجودة أيضاً.

وهذا يستلزم اجتماع الضدّين، ووجود السواد في فرض وجود البياض - مثلاً -، كما لو فرضنا أنّ وجود السواد مضادّ لوجود البياض، ففي هذه الحالة، لابدّ وأن يكون المقتضي للبياض موجوداً حتى يكون عدمه مستنداً إلى وجود المانع، وهو وجود السواد، لا إلى عدم المقتضي في البياض. وثبوت المقتضي محال؛ لأنّه لو كان كذلك، لثبت وجود البياض في عرض وجود الضدّ الآخر، وهو السواد، وهو محال؛ لأنّ الضدّين لا يجتمعان.

وملخّص القول: أنّ وجود الإزالة - مثلاً - بما أنّه يكون متوقّفاً على عدم الصلاة، فلابدّ أن يكون من جهة عدم المانع، فلو فرض أنّ المقتضي للإزالة لم يكون موجوداً أصلاً، فلا معنى لإسناد عدم الإزالة إلى مانعيّة الصلاة؛ لأنّ الشيء إنّمايكون مانعاً من وجود الآخر في فرض أن يكون المقتضي للآخر موجوداً.

فإذا لم يكن المقتضي للإزالة موجوداً، لا مانع من أن تكون الصلاة مانعاً.

وأمّا مع وجود المقتضي للإزالة، فلا يبقى مجال لوجود المقتضي للصلاة، ولا يبقى في ذلك الحين، فكيف يمكن أن يكون مانعاً؟ فعدم الصلاة - حينئذٍ - ليس من جهة عدم المانع حتى تتوقّف الإزالة عليه، كما

ص: 96

أنّه مع عدم المقتضي للإزالة، فعدمها ليس من جهة وجود المانع.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّه إذا فرض توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر، فلابدّ من وجود المقتضي لكلا الضدّين.

لا يقال: إنّ المقتضي لكلا الضدّين لابدّ وأن يكون موجوداً، وإلّا، لم يتحقّق مانع في أيّ مورد أصلاً؛ لأنّ أثر المانع يكون دائماً ضدّ الممنوع، الذي هو أثر لمقتضيه الموجود. وبعبارة أُخرى: فإنّ أثر الرطوبة - مثلاً - يكون دائماً ضدّاً لأثر النار الذي هو الإحراق، فلابدّ من وجود كلا المقتضيين في الضدّين، وإلّا، لا يحصل التمانع والتضاد بينهما.

فإنّه يقال: إنّ المانع لا يكون فيه أثر يكون مضادّاً لأثر ضدّه الآخر، فإنّ الرطوبة لا تقتضي أن يكون للشيء أثر يكون مضادّاً للإحراق، بل إنّما توجب عدم قابليّة الجسم للاحتراق حتى تؤثّر النار فيه؛ لا أنّه بالرطوبة وُجد له أثر هو ضدّ للإحراق الذي هو أثر وجود النار.قد يقال: إنّ نفس الرطوبة في الجسم ضدّ للاحتراق، والمفروض أنّ المقتضي وجد لكليهما؛ أمّا بالنسبة إلى المانع - أي: الرطوبة - فباعتبار أنّ المفروض وجودها، فلابدّ وأن يكون المقتضي لها موجوداً أيضاً، وأمّا بالنسبة إلى الممنوع، فالمفروض - أيضاً - وجود المقتضي له، وإلّا لا يصدق المانع على المفروض مانعاً، وهو خلف.

قلت: قد أجاب عن هذا اُستاذنا المحقّق) بما ملخّصه:

أنّ الرطوبة ليست ضدّاً للاحتراق، بل الجسم المرطوب ليس قابلاً

ص: 97

للاحتراق، فما دام الماء موجوداً في الجسم يمنع من احتراقه، لا أنّ الماء الموجود في الجسم ضدّ للاحتراق(1).

ولكن فيه: أنّ عدم احتراق الجسم المرطوب إنّما هو باعتبار وجود الماء فيه، وفي الحقيقة: فإنّ التضادّ إنّما يكون بين الماء والاحتراق.

ولكن مع ذلك، فالحقّ: هو ما أفاده المحقّق النائيني(قدس سره)(2) من أنّه لو فرض المقتضي لكلّ منهما موجوداً، لكان ذلك من باب اجتماع المقتضيين، وهذا محال، إذ كما أنّ بين الضدّين مضادّة ومنافاة، فكذلك بين مقتضييهما أيضاً. ثمّ لو فرض وجود المقتضي للمانع، فلا يبقى الممنوع، ولا يكون حينئذٍ: من باب توقّف الممنوع على عدم المانع.ومن هنا ظهر بطلان الإشكال الذي أورده صاحب الكفاية وصاحب الحاشية" بلزوم الدور، ببيان أنّ فعل الضدّ لو كان مانعاً من فعل الواجب، لكان فعل الواجب مانعاً منه، بعدما كانت المضادّة والممانعة من الطرفين، فترك المانع - كالصلاة - لمّا كان مقدّمة ومن أجزاء العلّة لحصول الإزالة، فحصوله يكون مانعاً ورافعاً لفعل الإزالة، فيكون فعل الواجب، وهو الإزالة، متوقّفاً على ترك الضدّ، وهو الصلاة، ويكون ترك الصلاة بدوره متوقّفاً على فعل الإزالة. وهو دور واضح.

ص: 98


1- انظر: منتهى الاُصول 1: 310.
2- راجع: فوائد الاُصول 1: 308.

قال صاحب الكفاية(قدس سره) ما نصّه:

«كيف؟! ولو اقتضى التضادّ توقّف وجود الشي ء على عدم ضدّه توقّف الشي ء على عدم مانعه، لاقتضى توقّف عدم الضدّ على وجود الشي ء توقّف عدم الشي ء على مانعه، بداهة ثبوت المانعيّة في الطرفين، وكون المطاردة من الجانبين، وهو دور واضح»(1).

وقال صاحب الحاشية(قدس سره):

«لو كان كذلك لزم الدور؛ فإنّه لو كان فعل الضدّ من موانع فعل الواجب، كان فعل الواجب مانعاً منه أيضاً؛ ضرورة حصول المضادّة من الجانبين، وكما أنّ ترك المانع من مقدّمات حصول الفعل، فكذا وجود المانع سبب لارتفاعالفعل، فيكون فعل الواجب متوقّفاً على ترك الضدّ، وترك الضدّ متوقفاً على فعل الواجب...» إلى آخر كلامه)(2).

وقد فسّر المحقّق الأصفهاني(قدس سره) كلام صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه: «أنّه لا تقدّم ولا تأخّر بين الضدّين بما هما ضدّان، فنقيض أحدهما، وهو العدم البديل للوجود أيضاً لا تقدّم له على وجود الآخر، وهذا معنى كونهما في مرتبة واحدة»(3).

وحاصله: أنّه لا إشكال في كون كلّ من الضدّين مع الآخر في رتبة

ص: 99


1- كفاية الاُصول: ص 131.
2- انظر: هداية المسترشدين 2: 223.
3- نهاية الدراية 1: 425.

واحدة، فليس أحدهما متقدّماً على الآخر، ومن المسلّمات - أيضاً -: أنّ وجود كلّ ضدّ وعدمه في رتبة واحدة؛ فإنّهما يتواردان على محلّ واحد، فعدم الشيء في رتبة وجوده بلا إشكال.

وعليه: فيكون عدم كلّ ضدّ في رتبة الضدّ الآخر قهراً؛ لأنّه في رتبة نفس الضدّ، والمفروض بالمقدّمة الأُولى أنّ نفس الضدّ في رتبة ضدّه الآخر.

وبعبارة أُخرى: فلو كان عدم الصلاة - مثلاً - مقدّمة لوجود الإزالة، بمقتضى التضادّ بين العينين - أعني: الصلاة والإزالة -، كان وجود الإزالة أيضاً مقدّمة لعدم الصلاة، إذ لو اقتضى التضادّ المقدّميّة لاقتضاها من الطرفين، لوحدة الملاك في الجانبين، وتوقّف فعل الضدّ - أعني: الإزالة - على تركضدّه - أعني: الصلاة - من باب توقّف المشروط على شرطه، لوجود ملاك الشرطيّة فيه، وهو استلزام انتفاء الشرط انتفاء المشروط، وعدم استلزام وجوده وجود المشروط؛ فإنّ عدم الصلاة يستلزم وجود الإزالة، ولكن لا يلزم من وجوده وجود الإزالة؛ لإمكان وجود الصارف عنها. وتوقّف عدم الضدّ - أعني: الصلاة - على فعل ضدّه - أعني: عدم الإزالة - من باب توقّف المسبّب على سببه، لوجود ملاك السببيّة فيه، وهو: استلزام وجود السبب لوجود المسبّب، فإنّ فعل الإزالة مستلزم لترك ضدّها.

ولكن قد أجاب عن هذا المحقّق الخوانساري(قدس سره) - كما في الكفاية - ﺑ «أنّ التوقّف من طرف الوجود فعليّ، بخلاف التوقّف من طرف العدم،

ص: 100

فإنّه يتوقّف على فرض ثبوت المقتضي»(1).

وتوضيحه: أنّ التوقّف في طرف الوجود - أي: وجود أحد الضدّين - على ترك الآخر فعليّ؛ ضرورة أنّ وجود الشيء منوط بعلّته التامّة، من المقتضي، والشرط، وعدم المانع، فوجود الواجب فعلاً - كالإزالة - مترتّب على عدم ضدّه، كالصلاة.

وهذا بخلاف التوقّف في طرف العدم - أي: توقّف عدم أحد الضدّين على وجود الآخر -، كتوقّف عدم الصلاة على وجود الإزالة؛ فإنّ توقّفه على وجود الإزالة إنّما يكون في ظرفوجود المقتضي لوجود الصلاة مع شرائطه، وانحصار المانع في وجود الضدّين كالإزالة ليصحّ استناد عدم الصلاة إلى المانع - وهو وجود الضدّ -، وإلّا كان العدم مستنداً إلى عدم المقتضي - أعني: عدم الإرادة - لا إلى وجود المانع.

فتوقّف وجود الإزالة - مثلاً - على عدم ضدّها، كالصلاة، فعليّ؛ لتوقّف وجود الشيء على علّته التامّة، التي من أجزائها عدم المانع، بخلاف توقّف عدم الضدّ - كالصلاة - على وجود الضدّ - كالإزالة - فإنّه حينئذٍ توقّف شأنيّ؛ لأنّه حين وجود الإزالة يستند عدم الصلاة إلى عدم مقتضيها - وهو الإرادة - لا إلى وجود الإزالة، فلا محالة: يكون توقّف عدم الضدّ على وجود ضدّه شأنيّاً، يعني: على فرض وجود الإرادة

ص: 101


1- كفاية الاُصول: ص 130.

المقتضية للوجود مع الشرائط يستند العدم - لا محالة - إلى وجود الضدّ، كالإزالة في المثال، فعليه: لا يلزم الدور، لكون التوقّف في طرف الوجود فعليّاً، وفي طرف العدم شأنيّاً.

لكن قد أُجيب عن هذا - كما في الكفاية - بأنّ رفع غائلة الدور بالفعليّة والشأنيّة إنّما يصحّ إذا كانت الإرادة من شخص واحد، كما إذا فرض أنّه أراد إيجاد السواد والبياض أو الصلاة والإزالة في آنٍ واحد، وفي مكانٍ كذلك؛ فإنّه يمتنع إرادة إيجادهما من شخص واحد، لامتناع تعلّق إرادةٍ واحدة بشيئين متضادّين.فلا محالة: يستند عدم الضدّ الآخر إلى عدم المقتضي، وهو الإرادة، لا إلى وجود المانع، فيكون توقّف عدم أحدهما على وجود الآخر شأنيّاً.

وأمّا لو كانت إرادة إيجاد الضدّين من شخصين، بأن أراد أحدهما الصلاة والثاني الإزالة، أو أحدهما البياض والثاني السواد، فالمقتضي لوجود كلٍّ من الضدّين حينئذٍ موجود، فلا محالة: يستند عدم أحدهما إلى وجود المانع - وهو الضدّ الآخر -، لا عدم المقتضي، وهو الإرادة، حتى يكون التوقّف شأنيّاً، إذ المفروض وجوده، أعني: إرادة إيجاد الضدّ الآخر أيضاً من شخصٍ آخر، فيكون التوقّف من الطرفين فعليّاً.

فبناءً على هذا، الدور باقٍ على حاله، ولو في بعض الموارد، واستحالته دليل على مقدّميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر، فلا يتمّ

ص: 102

مذهب المشهور من أن اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ يكون من باب المقدّميّة.

لكن الحقّ: هو ما أفاده الخونساري من أنّ عدم الضدّ مستند إلى عدم المقتضي دائماً، لا إلى وجود المانع؛ وذلك لأنّه لو فرض أنّ الإرادتين حصلتا من شخصين، ولكن مع ذلك، فبما أنّهما ضدّان ولا يجتمعان في مورد واحد، فلا يمكن أن تؤثّر كلتا الإرادتين؛ لأنّه مع تعلّق الإرادة بالسواد لا يمكن أن تتعلّق بالبياض، فإذا وُجد أحد الضدّين، فلا يبقى مقتضٍ للضدّ الآخر، فيستند عدم الضدّ الآخر إلى عدم المقتضي والإرادة، لا إلى وجود المانع. فلا محالة: تكونإحدى الإرادتين مغلوبة، ومع فرض مغلوبيّتها يصدق عدم المقتضي، فيكون عدم الضدّ مستنداً إليه، لا إلى وجود المانع، وهو الضدّ الآخر، حتى يلزم الدور.

ولكنّ المحقّق صاحب الكفاية(قدس سره) ذهب إلى أنّ هذا الكلام غير سديد؛ «فإنّه وإن كان قد ارتفع به الدور، إلّا أنّ غائلة لزوم توقّف الشيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه على حالها؛ لاستحالة أن يكون الشيء الصالح لأن يكون موقوفاً عليه الشيء موقوفاً عليه، ضرورة أنّه لو كان في مرتبةٍ يصلح لأن يستند إليه، لما كاد يصحّ أن يستند فعلاً إليه»(1).

ص: 103


1- كفاية الاُصول: ص 131.

وحاصله: أنّ هذا الكلام المذكور يُجدي في رفع محذور الدور، إلّا أنّه مع ذلك، يأتي عليه إشكال آخر، وهو أنّ ملاك توقّف الشيء على نفسه باقٍ؛ فإنّ عدم الصلاة، وإن كان موقوفاً شأناً على الإزالة، أي: لو وجد المقتضي والشرائط لوجود الصلاة ووجد ضدّها، فحينئذٍ: يكون عدم الصلاة متوقّفاً عليه، أي: على الضدّ، وهو الإزالة، والمفروض أنّ الإزالة متوقّفة فعلاً على ترك الصلاة، فيكون ترك الصلاة متوقّفاً على نفسه.

وبعبارة اُخرى: فإنّ الإزالة متأخّرة عن ترك الصلاة؛ لأنّ هذا الترك يكون مقدّمة لها، ومقدّماً على عدم الصلاة، لتوقّف عدم الصلاة على الإزالة، فتكون الإزالة في رتبة علّتهاموجودة ومعدومة. أمّا وجودها: فلكونها علّة لترك الصلاة، وأمّا عدمها: فلتوقّفها على هذا الترك.

وممّا ذكرنا يُعلم: أنّ ترك الضدّ ليس لوجود المانع، بل لعدم وجود المقتضي لوجوده، وبه تندفع شبهة الكعبيّ، وهي انتفاء المباح، بل انتفاء المستحبّ والمكروه، بدعوى: أنّ ترك الحرام يتوقّف على فعلٍ وجوديّ؛ لعدم خلوّ الإنسان عنه، فيكون الفعل مقدّمة لترك الحرام، فيكون واجباً.

وجه الاندفاع: أنّ ترك الحرام لا يتوقّف على فعلٍ وجوديّ، بل يتوقّف على الصارف عنه. نعم، لو فرض أنّ الصارف كان وجوده منحصراً في فعلٍ ما، فهنا نتمكّن من الحكم بوجوب ذلك الفعل، كما إذا توقّف بقاء الصارف عن الزنا على الخروج من الدار، بحيث لولاه لوقع في الحرام،

ص: 104

فالالتزام بوجوب الخروج في مثل هذا الفرض لا محذور فيه، ولا يلزم نفي المباح رأساً.

مع أنّه يمكن المنع حتى في هذه الصورة أيضاً؛ لأنّ العقل يحكم بذلك. هذا، مضافاً إلى أنّ المتلازمين لا يشترط أن يكونا محكومين بحكمٍ واحد، فالترك، وإن كان واجباً، إلّا أنّه لا يجب أن يكون ملازمه، وهو الفعل، واجباً.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، لا من جهة الملازمة، ولا من جهة المقدّميّة.

الثمرة من هذا البحث:

ثمّ إنّهم عدّوا للنزاع في الاقتضاء وعدم الاقتضاء ثمرات:

منها: فساد الضدّ إذا كان عبادةً بناءً على الاقتضاء؛ لأنّه يكون من النهي في العبادة، وعدم فساده بناءً على عدم الاقتضاء.

ولكن نقل عن البهائي(قدس سره)(1) إنكار هذه الثمرة، والقول بأنّ الفساد لا

ص: 105


1- انظر: زبدة الاُصول: ص 287، المطلب الأوّل من المنهج الثالث، بحث الضدّ، وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره): «هذا، ولا يخفى: أنّ من ذهب إلى بطلان الصلاة والحجّ وغيرهما في الصور المذكورة وأمثالها، لو عدل عن الاستدلال باستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضدّه إلى الاستدلال باستلزامه عدم الأمر بضدّه لكان أقرب إلى الثبوت؛ لأنّ إتمام الأوّل في غاية الإشكال، بخلاف الثاني، كما لا يخفى على المتأمّل...».

يتوقّف على القول بالاقتضاء، بل يكفي في الفساد عدم الأمر بالضدّ، أمّا على القول بالاقتضاء فواضح، وأمّا على القول بعدم الاقتضاء، فإنّ الصلاة لا أمر بها، فلا يكون الضدّ ماُموراً به، فيُحكم بالفساد لا محالة بعدما لم يكن الضدّ ماُموراً به، حيث إنّ صحّة العبادة تتوقّف على الأمر بها، ويمتنع ورود الأمر بالضدّين.

وحكي عن المحقّق الكركي(قدس سره)(1) المنع من إطلاق مقالة البهائي(قدس سره) من فساد الضدّ على الإطلاق لو قلنا بتوقّف العبادة على الأمر، بل ذلك إنّما يتصوّر في خصوص الواجبينالمتزاحمين المضيّقين إذا كان أحدهما أهمّ، كما لو فرض مزاحمة الصلاة في آخر الوقت لواجبٍ آخر أهمّ، كإنقاذ الغريق، ففي مثل هذا يتمّ كلام البهائي(قدس سره) من فساد الصلاة بناءً على توقّف صحّة العبادة على الأمر بها.

ولكن سيأتي في باب الأهمّ والمهمّ: أنّ المهمّ - حينئذٍ - له أمر فعليّ، ولكن لا على نحو الإطلاق.

ص: 106


1- راجع: جامع المقاصد في شرح القواعد: 5: 12- 13؛ كتاب الدين وتوابعه، المطلب الأوّل من المقصد الأوّل. قال(قدس سره) - تعليقاً على ما أفتى به العلّامة(قدس سره) من بطلان الصلاة في أوّل وقتها لمن كان عليه دين واجب الأداء على نحو الفوريّة - «لأنّ الأمر بالأداء على الفور يقتضي النهي عن ضدّه، والنهي في العبادة يقتضي الفساد»، ولكنّك خبير بأنّ هذه العبارة ليست صريحةً في التفصيل الذي نقلنا محكيّه عنه في المتن، نعم، قد يُقال: بأنّ ذاك التفصيل هو لازم كلام المحقّق الكركيّ(قدس سره) المذكور؛ لما يظهر منه من أنّ إطلاق الأمر بالموسّع يعمّ الفرد المزاحم للمضيّق. فتأمّل جيّداً.

نعم، الأمر بالأهمّ، فعليّ كذلك، أي: على نحو الإطلاق.

على أنّه حتى لو فرض أنّ هذا الفرد ليس له أمر بالخصوص من جهة مزاحمته للأمر بالأهمّ، وأنّه تكليف بالمحال، ولكن بعدما ذكرنا أنّ الأمر ورد على مطلق الطبيعة، وأنّ هذه الطبيعة تكون مقدوراً عليها، ولو بالقدرة على بعض أفرادها، وأنّ التكليف ليس مشروطاً إلّا بالقدرة على صرف إيجاد الطبيعة، أمّا القدرة على جميع أفرادها الطوليّة والعرضيّة، فلا؛ إذ في الحقيقة ليس هناك طبيعة تكون جميع أفرادها مقدوراً عليها، فلو فرض أنّه لا يتمكن على الإتيان بالفرد المزاحم، ولكن بما أن بقيّة أفرادها مقدورة، فيمكن أن يتعلّق الأمر بالطبيعة باعتبار تلك الأفراد.

فهذا الفرد المزاحم، وإن لم يكن له أمر بالخصوص، ولكن يمكن الإتيان به باعتبار تعلّق الأمر بالطبيعة؛ لأنّ انطباقها على هذا الفرد قهريّ، واللّابشرط من كلّ شيء يجتمع مع البشرط شيء منه. بل يمكن أن يقال: بأنّ هذا الفرد يؤتى به بقصد الأمر المتعلّق بالطبيعة.ولكن قد أجاب عن هذا اُستاذنا المحقّق(قدس سره) بما لفظه:

«وفيه: أنّه لا شكّ في اشتراط التكاليف بالقدرة، إمّا من جهة أنّ تكليف العاجز قبيح، وصدور القبيح عن الحكيم تعالى محال، وإمّا من جهة أنّ حقيقة الأمر وماهيّته عبارة عن البعث إلى أحد طرفي المقدور، فالقدرة على إيجاد متعلّق الأمر مأخوذة في نفس حقيقة الأمر وماهيّته، بحيث لو قلنا - كالأشاعرة - بعدم قبح تكليف العاجز، وأنكرنا الحسن

ص: 107

والقبح العقليّين، فمع ذلك أيضاً لا يجوز تعلّق الأمر بغير المقدور؛ لأنّ القدرة على المتعلّق مأخوذة - على ما قلنا - في نفس حقيقة الأمر وماهيّته، ويكون من قبيل ذاتيّاته، وهي لا تختلف ولا تتخلّف، فيكون بناءً على الأوّل من هذين الوجهين لاشتراط القدرة في متعلّق الأمر، ولو كان هو صرف الوجود مقيّداً بالقدرة بتقييدٍ عقليّ، وذلك كما في العامّ الوارد في لعن بني اُميّة قاطبة، حيث إنّه مقيّد عقلاً بكونهم غير مؤمنين، فلا يشمل المؤمنين منهم؛ لعدم جواز لعن المؤمن عقلاً.

وعلى الثاني من الوجهين: لا تقييد في البين؛ لأنّ الأمر - في حدّ نفسه - قاصر عن شموله لغير المقدور، فيكون بالنسبة إليه من قبيل التخصّص، لا التقييد والتخصيص. وعلى كلا التقديرين: لا تنطبق الطبيعة المأمور بها - بما هي ماُمور بها - على الفرد غير المقدور، وذلك من جهة أنّه بناءً على الأوّل من الوجهين في اشتراط القدرة، حيث إنّها مقيّدة بالقدرة بتقييدٍ عقليّ، ومعلوم أنّ الطبيعة المقيّدة لاتنطبق على الفرد الفاقد لذلك القيد، وبناءً على الثاني من الوجهين: لا تنطبق على هذا الفرد الذي له مزاحم أهمّ، لضيقٍ في المتعلّق آتٍ من قبل نفس الأمر»(1).

وقد أجاب المحقّق النائيني(قدس سره) عن ذلك بما لفظه:

«ولكنّ الإنصاف: أنّ الالتزام بذلك بلا موجب، بل يكفي في صحّة

ص: 108


1- منتهى الاُصول 1: 317- 318.

العبادة اشتمالها على الملاك التامّ، سواء أمر بها فعلاً، كما إذا لم يتزاحم ما هو أهمّ منها، أو لم يؤمر بها فعلاً، كما في صورة المزاحمة، فوجود الأمر وعدمه سيّان في ذلك. ولكن مع ذلك، لا تظهر الثمرة في اقتضاء الأمر بالشّي ء للنّهي عن ضدّه؛ لأنّه هب أنّ الضّد يكون منهيّاً عنه، ولكن لمّا كان النّهي غيريّاً، لمكان الملازمة أو المقدّميّة - على الوجهين اللّذين بنوا عليهما النّهي عن الضدّ - لم يكن ذلك موجباً لخلل في الملاك، بل الضدّ يكون باقياً على ما هو عليه من الملاك لولا المزاحمة.

وليس النهي في المقام عن ملاكٍ يقتضيه، كما في باب النهي عن العبادة، وباب اجتماع الأمر والنهي بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي، فإنّ النهي في البابين يكون استقلاليّا عن ملاكٍ يقتضيه، ولم يبقَ معه الملاك المصحّح للعبادة؛ لأنّه لا يتعلّق النّهي الاستقلاليّ بالعبادة، إلّا لمكان أقوائيّة ملاك النهي والمفسدة التي أوجبته عن ملاك العبادة ومصلحتها، ومعه: لا يكون في العبادة ملاك تامّ يقتضيصحّة العبادة. وهذا بخلاف النهي الغيريّ المتعلّق بالعبادة، فإنّه لمّا لم يكن عن مفسدة تقتضيه، بل كان لمجرّد المزاحمة لواجبٍ آخر أهمّ، والوصلة إليه كانت العبادة على ما هي عليه من الملاك التامّ المقتضي لصحّتها»(1).

وتوضيح ما أفاده(قدس سره): أنّه على تقدير أن يكون الأمر بالشيء يقتضي

ص: 109


1- فوائد الاُصول 1: 315 - 316.

النهي عن ضدّه الخاصّ، فليس ذلك النهي نهياً نفسيّاً ناشئاً عن مفسدة في متعلّقه، بحيث يكون مبغوضاً للمولى، بل هو نهي غيريّ مقدّمة لحصول ذلك الضدّ الآخر، من دون أن ينقص من مصلحته ومحبوبيّته، وليس من قبيل النهي النفسيّ المتعلّق بالعبادة في باب النهي عن العبادة، أو النهي المتعلّق بطبيعةٍ اتّحدت مع الطبيعة المأمور بها بناءً على الامتناع؛ لأنّ النهي النفسيّ المتعلّق بالعبادة يكون كاشفاً عن مفسدةٍ ومبغوضيّةٍ فيها لا يمكن التقرّب بها بواسطة تلك المفسدة والمبغوضيّة.

وهكذا الحال في باب الاجتماع بناءً على الامتناع، إذ مبنى الامتناع اتّحاد متعلّقي الأمر والنهي وسراية كلّ واحدٍ منهما إلى متعلّق الآخر، ففي الحقيقة: في باب الاجتماع أيضاً، بناءً على الامتناع: النهي النفسيّ تعلّق بنفس العبادة، ويكون كاشفاً عن وجود مفسدة في العبادة، التي لأجلها صارت العبادة مبغوضة، فلا يمكن أن يتقرّب بها، وذلك بخلاف ما نحن فيه، فإنّ النهي - بناءً على الاقتضاء - نهي مقدّميّ غيريّ، لا يتغيّرمتعلّقه عمّا كان عليه من المصلحة والمحبوبيّة، فيمكن أن يقع عبادة ويتقرّب به. هذا.

ولكن يمكن أن يقال: إنّه وإن كان النهي المقدّمي غيريّاً، ولكن بما أنّ مخالفته تكون هتكاً لحرمة المولى وعصياناً له، فلا يمكن - والحالة هذه - أن يتقرّب إليه بالعبادة الملازم لهتك حرمة المولى وعصيانه، إذ لا يطاع اﷲ من حيث يعصى.

ص: 110

وأمّا المقام الثاني:

والكلام فيه في الضدّ العامّ بمعنى الترك، فقد يقال: إنّ الأمر يدلّ عليه بالدلالة التضمّنيّة، بعدما كان مركّباً من طلب الشيء مع المنع من الترك، فيكون النهي جزء مدلول الوجوب.

ولكنّه مندفع: بأنّ الوجوب بسيط وليس مركّباً؛ فإنّه ليس إلّا عبارة عن المرتبة الأكيدة من الطلب، فطلب الشيء مع المنع من الترك إنّما هو عبارة عن الطلب الشديد، ولازم المرتبة الشديدة هو المنع من الترك، كما أنّ الندب هو الطلب الضعيف.

وللمحقّق النائيني(قدس سره) في المقام كلام إليك نصّه:

«أمّا المقام الأوّل: فربما يدّعى فيه أنّ الأمر بالشي ء عين النهي عن ضدّه، بتقريب: أنّ عدم العدم، وإن كان مغايراً للوجود مفهوماً، إلّا أنّه عينه خارجاً، لما عرفت سابقاً من أنّ نقيض العدم هو الوجود وعدم العدم عنوان ومرآة له، لاأنّه أمر يلازمه، فكما أنّ الإرادة التكوينيّة لا تتعلّق إلّا بنفس الوجود، وهو بنفسه ناقض للعدم، كذلك الإرادة التشريعيّة إنّما تتعلّق به، فطلب ترك الترك عين طلب الفعل، والفرق بينهما إنّما هو بحسب المفهوم فقط. وفيه: أنّ محلّ الكلام هو أنّه إذا تعلق الأمر بشي ء، فهل هو بعينه نهيٌ عن الترك أو لا؟ لا أنّه إذا كان هناك أمر بالفعل ونهيٌ عن الترك، فهل هما متّحدان أو لا. والدليل إنّما يُثبت الاتّحاد في المقام الثاني، لا الأوّل، بداهة أنّ الآمر بالشي ء ربما يغفل عن ترك تركه،

ص: 111

فضلاً عن أن يأمر به، فلا يبقى لدعوى الاتّحاد فيما هو محلّ الكلام مجال أصلاً»(1).

وملخّص ما أفاده: أنّه إذا فسّرنا النهي بطلب الترك، فمعنى النهي عن الترك هو طلب تركه، وطلب ترك الترك عين طلب الفعل واقعاً، وإن تغاير عنه مفهوماً؛ لأنّ ترك الترك لا واقع له غير الفعل، وإلّا، لزم أن يكون هناك واقع وراء المتناقضين، وهو محال، ولأجل ذلك اشتهر أنّ نفي النفي إثبات. فعليه يكون الأمر بالشيء عين النهي عن الترك.

إلاّ أنّ هذا لا يرتبط بما نحن فيه، فإنّه إنّما يرتبط بما إذا كان هناك إنشاءان أحدهما يتضمّن طلب الفعل والآخر يتضمّن النهي عن الترك. فنقول: إنّ أحدهما يرجع إلى الآخر، وكلّ منهما عين الآخر حقيقة. أمّا إذا كان هناك إنشاء واحد يتضمّن طلب الفعل، فلا يتأتّى فيه ما ذكر، إذ قد يغفلالآمر عن ترك تركه كي يطلبه، فيقال: إنّه عين طلب الفعل، وما نحن فيه من هذا القبيل.

ولكن الحقّ: أنّ ترك الترك ترك؛ لأنّ عدم العدم عدم وليس بوجود. وقد ذكر اُستاذنا المحقّق(قدس سره) «أنّ مفاد الوجوب والاستحباب من ناحية الطلب والإرادة شيء واحد، لا فرق بينهما، وإنّما الفرق بإتيان الترخيص في الترك في ناحية الاستحباب دون الوجوب. وبعبارة أُخرى: طبع الطلب

ص: 112


1- أجود التقريرات 1: 251 - 252.

والإرادة يقتضي الوجوب إلّا إذا جاء ترخيص في الترك، والاستحباب يحتاج إلى مؤونة زائدة، دون الوجوب، ولذلك يقولون: إنّ إطلاق الطلب يقتضي الوجوب»(1).

والصحيح: أنّ الطلب لا يدلّ على الوجوب ولا على الاستحباب، ولذا يمكن أن يطلب الوجوب والاستحباب بطلبٍ واحد ﻛ «اغتسل للجمعة والجنابة»، غاية الأمر: أنّ مقتضى مقام المولويّة والعبوديّة أنّ المولى إذا طلب فالعقل يحكم بالإتيان بالمأمور به على سبيل الحتم واللّزوم؛ إذ لو كان الشارع يرخّص في الترك لكان عليه أن يبيّن. وليس للعبد عدم الإتيان به معتذراً بأنّه كان يتخيّل إرادة المولى للاستحباب، كما أنّ للمولى أن يعاقبه على تركه إيّاه. فليس الطلب للوجوب خاصّةً، ولا للاستحباب كذلك، بل هو للقدر الجامع بينهما.

الاقتضاء بمعنى العينيّة:

وأمّا الاقتضاء بمعنى العينيّة كما نسب إلى جمع من المحقّقين، أي: أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ، وأنّ الأمر بالصلاة عين النهي عن تركه، فلابدّ فيه أوّلاً من بيان ما هو المراد من العينيّة؟ فنقول:

قد يُراد من العينيّة أنّ هناك طلباً واحداً، وهذا الطلب الواحد منسوب إلى الفعل تارةً، وإلى الترك أُخرى، ومن هنا يصحّ وضع أحدهما مكان

ص: 113


1- منتهى الاُصول 1: 303.

الآخر، فمثلاً: يجوز أن يقال بدلاً عن (صلّ) أو (افعل): (لا تترك الصلاة أو الفعل).

وهذا المعنى وإن كان صحيحاً، إلّا أنّه ليس مراداً لهم من العينيّة في هذا الباب، بل المراد من النهي إمّا أن يكون هو الحرمة التي هي اعتبار تشريعيّ، وإمّا أن يكون المراد منه منشأ هذا الاعتبار، أعني: الكراهة التي هي من الكيفيّات النفسانيّة والأعراض البسيطة الخارجيّة.

فإن كان المراد هو الأوّل: فلا يتمّ القول بأنّ اعتبار وجوب شيء ملازم عقلاً لاعتبار حرمة ترك ذلك الشيء، بل ليس هناك إلّا جعل واحد، وهو الوجوب، وليس وراء الوجوب أيّ منع أو نهي من قبل الشارع. فليس هناك من نهيٍ مولويٍّ عن الترك يقتضيه الأمر بالفعل، ولا يكون في كلّ واجب حكمان اثنان: أحدهما: وجوب الفعل، والثاني: حرمة الترك، وإلّا، لزم أن يترتّب عليه عقابان اثنان أيضاً، ولا نظنّ أحداً يلتزم به.

وان كان المراد هو الثاني: فربّما يكون مريداً وطالباً لشيء وغافلاً عن تركه غير ملتفت إليه أصلاً حتى يكون كارهاً له،اللّهمّ إلّا أن يراد من الكراهة: الكراهة التقديريّة، أي: بحيث لو التفت إليه لكان يكرهه، ولكن، كونها علّة وسبباً للحرمة في الفعل في تلك الحالة محلّ كلام، مضافاً إلى أنّه يلزم على هذا أيضاً وجود جعلين وعقابين، كما مرّ.

فظهر ممّا ذكرناه: أنّ المراد من النهي هو النهي العقليّ، فإنّ العقل يحكم بأنّ نفس الأمر بالشيء يكون كافياً عن الزجر عن تركه، كما أنّ

ص: 114

نفس النهي عن الشيء يكون للدعوة إلى تركه، فلا حاجة إلى أيّ جعلٍ آخر زائداً على الأمر بذلك الشيء.

الاقتضاء بمعنى الاستلزام:

وأمّا الاقتضاء بمعنى الاستلزام، أي: بمعنى: أن يكون الأمر بالشيء مستلزماً للنهي عن ضدّه العامّ، فهل المراد من الاستلزام اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ، أو الأعمّ؟

فبناءً على الأوّل فإنّ نفس تصوّر الأمر والوجوب يكون كافياً في تصوّر المنع من الترك، ولا يحتاج إلى تصوّر آخر.

وأمّا بناءً على الثاني فإنّه يحتاج إلى تصوّر ثالث.

فقد ذهب المحقّق النائيني(قدس سره) إلى المعنى الأوّل بقوله: «وأمّا دعوى الدلالة عليه بالالتزام بنحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ، بأن يكون نفس تصوّر الوجوب كافياً في تصوّر المنع عن الترك، فليست ببعيدة، وعلى تقدير التنزّل عنها، فالدلالة الالتزاميّة باللّزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ممّا لا إشكال فيها ولا كلام»(1).وقد استشكل فيه اُستاذنا الأعظم) بأنّ «دعوى استلزام الأمر بشيء النهي عن تركه باللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ واضحة الفساد، ضرورة أنّ الآمر ربّما يأمر بشيء ويغفل عن تركه ولا يلتفت إليه أصلاً ليكون كارهاً

ص: 115


1- أجود التقريرات 1: 252.

له، فلو كانت الدلالة على نحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ، لم يتصوّر غفلة الآمر عن الترك وعدم التفاته إليه في موردٍ من الموارد. ومن هنا اعترف هو(قدس سره)أيضاً ببداهة إمكان غفلة الآمر بشيءٍ عن ترك تركه، فضلاً عن أن يتعلّق به طلبه، وهذا منه يناقض ما أفاده من نفي البعد عن اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ.

وأمّا دعوى الدلالة الالتزاميّة باللّزوم البيّن بالمعنى الأعمّ، فهي أيضاً لا يمكن تصديقها، وذلك لعدم الدليل عليها، لا من العقل ولا من الشرع؛ أمّا من ناحية العقل، فلأنّه لا يحكم بالملازمة بين اعتبار الشارع وجوب شيء واعتباره حرمة تركه، فإنّ كلّاً من الوجوب والحرمة يحتاج إلى اعتبارٍ مستقلّ، والتفكيك بينهما في مقام الاعتبار بمكانٍ من الإمكان، وكذا لا يحكم العقل بالملازمة بين إرادة شيء وكراهة نقيضه، إذ قد يريد الإنسان شيئاً غافلاً عن تركه وغير ملتفتٍ إليه، فكيف يكون كارهاً له؟! إلى أن يقول:

وأمّا من ناحية الشرع؛ فلأنّ ما دلّ على وجوب شيء لا يدلّ على حرمة تركه، بداهة أنّ الحكم الواحد، وهو الوجوب في المقام، لا ينحلّ إلى حكمين: أحدهما: يتعلّق بالفعل،والآخر: بالترك، ليكون تاركه مستحقّاً لعقابين من جهة تركه الواجب وارتكابه الحرام»(1).

ص: 116


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 335 - 337.

كما أورد الاُستاذ الأعظم(قدس سره) في المقام بما لفظه: «لا يخفى: أنّ النهي عن الترك إن اُريد به طلب تركه المنطبق على الفعل، فلا معنى للقول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن تركه أصلاً، إذ هو في قوّة القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي نفسه، وهو قول لا محصّل له»(1).

وحاصله: أنّ النهي إذا كان عبارة عن طلب الترك، وكان الأمر بالشيء عين النهي عن تركه، لا معنى لأن يقال: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الترك، فإنّه عينه، فلا محصّل له، فإنّه بمثابة أن يقال: إنّ الأمر بالشيء يقتضي الأمر بالشيء.

إلاّ أنّ كلامه(قدس سره) هذا يرجع إلى بيان أنّ المراد بالاقتضاء ما يساوق العلّيّة، لا ما هو أعمّ منها ومن العينيّة والتضمّن، فلا يصحّ التعبير بالاقتضاء في مورد العينيّة، فيكون إشكالاً على أخذ الاقتضاء بمعنى أعمّ، مع أنّه قائل به.

الفرق بين التعارض والتزاحم:

ثمّ إنّ جماعة من الفضلاء - كالميرزا الكبير وتلميذيه: السيّد محمّد الأصفهاني والميرزا النائيني(قدس سره) - تصدّوا لتصحيح الأمربالضدّ بالترتّب. ولكن لابدّ قبل الدخول في البحث من بيان معنى التعارض والتزاحم،

ص: 117


1- أجود التقريرات 1: 251، الهامش رقم 1.

وبيان ما هو الفرق بينهما، فنقول:

الفرق بينهما من جهاتٍ ثلاث:

الجهة الأُولى:

لا يخفى: أنّ المتعارضين هما ما لا يمكن اجتماعهما في الواقع في عالم الجعل والتشريع كلّ واحد على موضوعه، بحيث يكون لكلّ واحد من المتعارضين ملاك، كما لا يمكن - مثلاً - تشريع صحّة بيع العذرة وتشريع فساده معاً، لأنّهما متناقضان.

وأمّا المتزاحمان - فبعد الفراغ عن إمكان جعلهما وتشريعهما كلّ واحدٍ منهما على موضوعه، ووجود الملاك في كلّ واحد منهما - فهما الحكمان اللّذان لا يمكن امتثالهما معاً، بل لا مناص للمكلّف من ترك أحدهما، ويكون هذا التزاحم وعدم القدرة على الامتثال فيهما اتّفاقيّاً، وأمّا لو كان دائميّاً يرجعان إلى التعارض.

وخلاصة الكلام: أنّ التعاند في باب التعارض إنّما يرجع إلى مقام الثبوت، فإنّه لا يمكن جعل حكمين متعارضين في مرحلة الجعل والتشريع؛ لأنّه يستلزم التناقض، بل معناه اجتماع الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة بالنسبة إلى متعلّق واحد، فمثلاً: تارةً يفرض أنّ بين المتعلّقين تضادّاً، وهذا التضادّ يكون دائميّاً، كالقيام والجلوس، ولكن الحكم واحد، فإذا أوجب القيام دائماً والجلوس دائماً، كان تكليفاً بمالا يطاق، أو إذا كان بين المتعلّقين تلازم دائميّ، ولكنّ الحكم كان

ص: 118

مختلفاً، كما إذا أوجب استقبال القبلة وحرّم استدبار الجدي، أو حرّم الشيء وأباح نفس ذلك الشيء، كأن يقول: بيع العذرة سحت، ولا بأس ببيع العذرة، فإنّه هنا إمّا أن يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة، أو الإرادة والكراهة، أو أن يلزم التكليف بما لا يطاق.

وأمّا في باب التزاحم، فليس الأمر كذلك، إذ ليس هناك أيّ تنافر بين الحكمين المتزاحمين، بل بينهما كمال الملاءمة والموافقة. نعم، التعاند بينهما حصل اتّفاقاً، أي: حصل في مقام الفعليّة، كإنقاذ الغريقين، فإنّه لا يوجد أيّ محذورٍ في أصل الجعل، كتشريع إنقاذ كلّ غريق، أو تشريع حرمة التصرّف في ملك الغير، وإيجاب نجاة المؤمن من الهلكة، فإنّه هنا لا ربط بين كلٍّ من التكليفين، بل إنّما شرّع الشارع كلّ حكم على نحو القضيّة الحقيقيّة مقدّرة الموضوع، وليس هناك في مقام الجعل اجتماع للإرادة والكراهة، ولا تكليف بما لا يطاق. نعم، إنّما حصل التنافي والتزاحم بينهما اتّفاقاً في مقام الفعليّة.

والجهة الثانية:

أنّ التخيير بين الخبرين المتعارضين جاء من قبل الشرع، وإلّا، لولا الشرع لحكمنا بالتساقط، وأمّا التخيير بين المتزاحمين، فقد جاء من قبل العقل؛ لأنّ العقل يحكم بالتخيير بينهما عند عدم التمكّن من الإتيان بهما معاً، مع تساوي الملاكين، وعدم وجود مرجّح في البين من مرجّحات بابالتزاحم. نعم، لو كان في أحدهما ملاك، كالأهمّ والمهمّ، فيقدّم الأوّل.

ص: 119

والجهة الثالثة:

أنّ المرجّحات في باب التعارض غير المرجّحات في باب التزاحم، فالمرجّحات في باب التعارض:

أمّا في الروايتين المتعارضتين: فهي ما جعلها الشارع مرجّحاً، وتسمّى ﺑ «المرجّحات المنصوصة»، وهي قد تكون من جهة السند، وقد تكون من جهة الدلالة، وقد تكون من جهات أُخرى.

وفي بعض الأمارات الأُخر المتعارضة، كتعارض البيّنات أيضاً له مرجّحات خاصّة، وذلك كتقديم بيّنة الخارج على الداخل، وبيّنة الإثبات على النفي، وكتقديم البيّنة على اليد، بناءً على كون اليد حجّة مرجوحة عند قيام البيّنة على خلافها، لا أن تكون حجّيته مشروطة بعدم قيام البيّنة على خلافها.

وأمّا نتيجة تقديم أحد المتعارضين على الآخر - بإحدى المرجّحات المذكورة في باب التعارض - فهي ترجع إلى رفع الحكم عن موضوعه، وفي باب التزاحم ترجع إلى رفع الحكم برفع موضوعه، مثلاً: في العامّين من وجه، لو ورد: أكرم العلماء، ولا تكرم الفسّاق، فلو قدّمنا (أكرم العلماء) في زيد العالم الفاسق الذي هو مورد الاجتماع، تكون نتيجة هذا التقديم هي رفع حكم (لا تكرم) عن موضوعه، حيث إنّه معبقاء زيد العالم - مثلاً - على فسقه، ومع قدرة المكلّف على إكرامه ورجحان الإكرام يرتفع حكمه.

ص: 120

وأمّا في مثل الغريقين، لو قدّمنا أحدهما على الآخر لأحد موجبات التقديم في باب التزاحم، تكون نتيجة التقديم هي سلب قدرة المكلّف عن إنقاذ الآخر، وتعجيزاً مولويّاً بالنسبة إليه، وهذا كما إذا زاحمت الطهارة المائيّة واجباً آخر لا بدل له، كما في الإزالة والصلاة، فإنّه يقدّم ما ليس له البدل على ما له بدل؛ لأنّ كونه ذا بدل يعني: أنّك إذا لم تتمكّن من أن تأتي بالمبدل منه فتأتي ببدله؛ لأنّ معناه أنّ وجوبه يكون مشروطاً بالقدرة والتمكّن، سواء كان هذا القيد مصرّحاً به في لسان الدليل، كما في مثل: ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ﴾(1)، حيث جيء بالحكم مقيّداً بصورة عدم الوجدان، أو لم يكن مصرّحاً به كذلك، فحينئذٍ: إذا زاحم الطهارة واجب آخر، فتسقط وينتقل عنها إلى التيمّم.

وأمّا مرجّحات باب التزاحم فهي اُمور خمسة:

المرجّح الأوّل:

تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل، كتقديم الواجب المضيّق على الموسّع، حيث إنّ الموسّع له أفراد تخييريّه عقليّة، والمضيّق لا بدل له، بل قد يقال: بأنّ هناك تعانداً بدويّاً في الواقع؛ لأنّ ما لا اقتضاء له لا يمكن أن يزاحم ما فيه الاقتضاء، فالمضيّق يقتضي صرف القدرة إليه في ذلك الزمان، وأمّا الموسّع، فلا، أو فقل: إنّ الموسّع مطلقوالمضيّق مشروط، فإنّ الموسّع مشروط بالقدرة العقليّة، وذلك معجّز للقدرة الشرعيّة، فإنّه

ص: 121


1- النساء: 43، والمائدة: 6.

لا يتوقّف إلّا على القدرة العقليّة، وهي حاصلة، فإذا كان كذلك فهو معجز للواجب الآخر، ومعه: فلا يبقى موضوع للواجب الآخر أصلاً. هذا في القدرة العرضيّة.

وأمّا القدرة الطوليّة، فبما أنّ الممتنع الشرعيّ هو كالممتنع العقليّ، فعدم وجوب إنقاذه لعدم القدرة عليه، فيرتفع الحكم بارتفاع الموضوع غير المقدور.

المرجّح الثاني:

تقديم ما هو المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة، وذلك لأنّ القدرة الشرعيّة دخيلة في الملاك، والخطاب تابع للملاك سعة وضيقاً، فعند عدم القدرة شرعاً وعقلاً لا ملاك، فلا خطاب. وما لا يكون مشروطاً بالقدرة الشرعيّة ملاكه مطلق، وليس مشروطاً بوجود القدرة، ووجوبه تابع لملاكه. فيكون رافعاً شرعاً للقدرة على الواجب المشروط بالقدرة الشرعيّة، فيذهب بموضوعه؛ لأنّ القدرة من قيود موضوعه، فيبقى بلا ملاك، فيرتفع الحكم بالتبع.

المرجّح الثالث:

لا يقع التزاحم في الشرائط التي لها دخل في التكليف، وفي أصل ثبوت الملاك، كالبلوغ والعقل، بل إنّما يقع فيما هو من شرائط حسن الملاك، فالذي هو محلّ التزاحم هو القدرة، وهي التي تكون من شرائط حسن الخطاب.

ص: 122

المرجّح الرابع:

أهمّيّة ملاك أحد الواجبين المتزاحمين، فيقدّم الأهمّ ملاكاً على الآخر إن كان الملاكان فعليّين، وأمّا لو كان ملاكه مشروطاً بأمر متأخّر، أي: لا يكون فعليّاً في زمان فعليّة المهمّ، فلا وجه لمزاحمته له حينئذٍ. أمّا تقديمه في صورة الفعليّة لحسن ترجيح ما هو المرجَّح، ولزوم قبح ترجيح المرجوح على الراجح عقلاً لو قدّمنا المهمّ، لكن في صورة تقديم المهمّ، إذا كان له ملاك في تلك الحالة لم يحتج إلى وجود الخطاب، وأمّا إذا لم يكن الملاك موجوداً فلا يقدّم.

المرجّح الخامس:

تقدّم أحد المتزاحمين على الآخر في الوجود بحسب الزمان، والسرّ فيه: أنّه بعدما لم تكن أهمّيّة في البين، وكان كلاهما متساويين من هذه الحيثيّة، فالعقل يحكم بإتيان ماهو المتقدّم زماناً، كما لو فرضنا - مثلاً - عدم قدرة المكلّف إلّا على الإتيان بقيامٍ واحد، وله قدرة واحدة يصرفها: إمّا إلى الظهر أو إلى العصر، وقد مثّل المحقّق النائيني(قدس سره) لذلك بمثالٍ آخر، وهو فرض عدم قدرة المكلّف إلّا على القيام في الركعة الأُولى والثانية من صلاة واحدة، أو عدم قدرته عليه في صلاتين، كصلاة الظهر والعصر(1).

ص: 123


1- راجع: أجود التقريرات 1: 318.

ولا معنى لعدم الإتيان بالمتقدّم وحفظ القدرة للمتأخّر، مع كون الواجب المتقدّم فعليّاً، وأمّا المتأخّر فلا بعث ولا تحريكمن قبل المولى بالنسبة إليه حتى يزاحم المتقدّم، هذا بناءً على إنكار الواجب المعلّق والقول بامتناعه.

وأمّا بناءً على إمكان الواجب المعلّق وتحقّقه بالنسبة إلى المتأخّر، فيمكن أن يقال: بأنّ الملاك في كليهما فعليّ، وليس لأحدهما ترجيح على الآخر من حيث الملاك والمناط، فحينئذٍ: لا يحكم العقل بصرف القدرة في المتقدّم دون المتأخّر؛ إذ غاية ما هناك أنّ ظرف امتثال أحدهما متقدّم، بل يحكم بالتخيير بينهما.

هذا إذا لم يكن الواجب المتأخّر أهمّ من الواجب الفعليّ.

وأمّا إذا كان أهمّ، ففي هذه الصورة: ذهب المحقّق النائيني(قدس سره) إلى القول بامتناع الترتّب لوجهين:

الأوّل: أنّ تعليق الأمر الفعليّ على عصيان الأمر المتأخّر لابدّ وأن يكون بأخذ العصيان بنحو الشرط المتأخّر - كما هو واضح جدّاً - وهو ممتنع، كما قرّر في محلّه. نعم، تعليق الأمر الفعليّ على تعقّب العصيان، فيكون الشرط هو عنوان التعقّب لا نفس العصيان، أمر معقول، لكنّه يحتاج إلى دليل خاصّ، وإلّا، فنفس إمكان التعقّب لا يقتضيه، وليس لدينا ما يدلّ على شرطيّة التعقّب.

الثاني: أنّ أساس جواز الترتّب هو كون المهمّ في ظرف عصيان الأهمّ

ص: 124

مقدوراً وقابلاً لتعلّق الخطاب به، وهذا المعنى لا يتحقّق فيما نحن فيه فإنّ عصيان الأمر المتأخّر لا يوجب مقدوريّة المهمّ فعلاً، لحكم العقل فعلاً بحفظ القدرة للواجب المتأخّر الأهمّ، فلا يرتفع محذور المزاحمة وعدمالقدرة بالترتّب بعد وجود حكم العقل الفعليّ بحفظ القدرة، وهو رافع للقدرة على القيام فعلاً، ومزاحم للأمر بالمهمّ.

وخلاصة الكلام: أنّ الترتّب مستلزم للشرط المتأخّر، وهو ممتنع، وشرطيّة عنوان التعقّب تحتاج إلى دليل، وأيضاً: فجواز الترتّب غير صحيح؛ فإنّ عصيان الأمر المتأخّر لا يوجب مقدوريّة المهمّ، بعدما ورد الأمر بحفظ القدرة للأهم؛ إذ إنّ عصيان الأهمّ لا يوجب مقدوريّة المهمّ(1).

ص: 125


1- انظر: أجود التقريرات 1: 318 - 319، وإليك نصّ كلامه(قدس سره): «وأمّا إذا كان الواجب المتأخّر أهمّ من المتقدّم، وقع التزاحم بين الخطاب بالمتقدّم والخطاب بحفظ القدرة للواجب المتأخّر ويتقدّم الخطاب بحفظ القدرة؛ لأهمّيّة الواجب المتأخّر على الفرض، وهذا لا إشكال فيه، إنّما الإشكال في جواز الخطاب بالواجب المتقدّم مترتّباً على عصيان الخطاب المتأخّر وعدمه. والحقّ: عدم جوازه؛ لأنّه يستلزم اشتراط خطاب الواجب المتقدّم بالعصيان المتأخّر، وهو غير معقول. وأمّا الالتزام بكون عنوان التعقّب شرطاً، فقد عرفت أنّه يدور مدار قيام الدليل عليه، ولم يقم من غير جهة اشتراط التكليف بالقدرة في الواجبات التدريجيّة دليل على ذلك، فيكون الالتزام بالترتّب في المقام على خلاف القاعدة من غير دليلٍ يقتضي ذلك. هذا، مضافاً إلى أنّ عمدة الوجه في جواز الترتّب بين خطابي الضدّين هو كون المهمّ مقدوراً في ظرف عصيان خطاب الأهمّ، وقابلاً لتعلّق الخطاب به - حينئذٍ - من دون أن يستلزم ذلك طلب الجمع بينهما، فعجز المكلّف عن الإتيان بالمهمّ في ظرف امتثال الأمر بالأهمّ الموجب لاستحالة طلبه لا يوجب عدم طلبه في فرض عصيان الأهمّ، الذي فرض فيه قدرة المكلّف على الإتيان بالمهمّ. وهذا الوجه مفقود فيما نحن فيه؛ لأنّ العصيان المتأخّر لا يوجب قدرة المكلّف على الواجب المتقدّم مع فرض الخطاب الفعليّ بحفظ القدرة للواجب المتأخّر المفروض كونه الأهمّ ومعجّزاً عن الواجب المتقدّم». إلى آخر كلامه(قدس سره).

منشأ التزاحم:

ثمّ إنّ منشأ التزاحم اُمور خمسة:

الأوّل: أن يكون بين المتعلّقين تضادّ، بمعنى: أنّه لو اجتمع المتعلّقان في زمان واحد على نحو الاتّفاق، بحيث لا يمكن للمكلّف فعلهما معاً، كما في إنقاذ الغريقين، أو الصلاة والإزالة، وأمثال ذلك ممّا لو اجتمع المتعلّقان في زمان واحد.والثاني: عدم قدرة المكلّف على فعل كلٍّ من المتعلّقين، مع اختلافهما من حيث الزمان، كما إذا لم يتمكّن من القيام في الركعة الأُولى والثانية معاً، بل كان قادراً على القيام في إحداهما فقط.

والفرق بين هذا وسابقه هو أنّ عدم القدرة في هذا الوجه ناشئ عن عجز المكلّف في حدّ ذاته عن فعل المتعلّقين، وأمّا في سابقه، فهو ناشئ عن وحدة زمان المتعلّقين، من دون أن يكون المكلّف في حدّ ذاته عاجزاً لولا اتّحاد الزمان.

ص: 126

والثالث: تلازم المتعلّقين مع اختلافهما في الحكم، كما إذا وجب استقبال القبلة وحرم استدبار الجدي، مع تلازمهما في بعض الأمكنة.

والرابع: صيرورة أحد المتعلّقين مقدّمة وجوديّة لمتعلّق الآخر، كما إذا توقّف إنجاء المؤمن على التصرّف في ملك الغير بغير رضاه.

والخامس: اتّحاد المتعلّقين في الوجود، كالصلاة في الأرض المغصوبة.

وإذا عرفت هذا، فهل يجري الترتّب في جميع هذه الاُمور الخمسة؟

الظاهر: أنّ النزاع في مسألة الترتّب إنّما وقع في القسم الأوّل، أي: مسألة التضادّ. ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن جريانه - أيضاً - في جميع الأقسام، إلّا القسم الثاني، لأنّه إذا فرض عصيان الأوّل والإتيان بالثاني فهذا يكون موجباً للبطلان، أي: بطلان الصلاة؛ لأنّه عباديّ، فترك الإتيان بالركعةالاُولى وعصيان الأمر بها، عصيان لجزء من الصلاة، فتكون باطلة.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ مسألة الترتّب من المسائل العقليّة؛ لأنّ البحث فيها بحث في الحقيقة عن الإمكان والاستحالة؛ إذ يقال - مثلاً -: هل الأمر بالضدّين على نحو الترتّب ممكن أم لا؟ وبعد أن كان الحاكم فيها هو العقل لا اللّفظ، فلا يبقى معنى لإدخالها في مباحث الألفاظ، ولعلّ إدخالها في سلك هذه المباحث لنفس ما ذكرناه آنفاً في بحث مقدّمة الواجب من أنّهم لم يفردوا للمسائل العقليّة باباً مخصوصاً.

ومن هنا ظهر فساد ما ذكره بعض المعاصرين من الاستدلال لصحّة

ص: 127

الترتّب بالمسلك العرفيّ، بأن يقال: «إنّ ثبوت الترتّب ووقوعه في الأوامر العرفيّة والشرعيّة ممّا لا إشكال فيه، فنرى أنّ الأب يأمر ابنه بالذهاب إلى المدرسة، ثمّ يقول له: إذا لم تذهب إلى المدرسة فابقَ في البيت، فالأمر بالبقاء في البيت مشروط بترك الذهاب إلى المدرسة مع عدم سقوط الأمر به. ومن المعلوم: أنّه لا يرى بذلك أيّ محذور واستحالة. هذا في العرفيّات.

وأمّا في الشرعيّات، فكما لو وجب على المكلّف قصد الإقامة في البلد الذي سافر إليه، فإنّه يجب عليه الإفطار والقصر لو لم يقصد الإقامة، فالأمر بالإفطار مشروط بعدم قصد الإقامة مع تعلّق الأمر بها فعلاً، فالأمران يجتمعان فيزمان واحد. وإذا ثبت وقوع الترتّب، فهو خير دليل على الإمكان وعدم الاستحالة»(1).

وجه الفساد: أنّ المسألة - كما ذكرنا - عقليّة، والدليل العقليّ غير قابل للتخصيص، فما دام العقل حاكماً بالاستحالة، فلابدّ من تأويل هذه الأمثلة، عرفيّة كانت أو شرعيّة؛ لأنّها غير صالحة لمقابلة الدليل العقليّ الحاكم باستحالة الأمر بالضدّين.

وإذا عرفت هذا: فإنّ عمدة ما يكون سبباً للمحاليّة هو غائلة التضادّ، وإنّ إيجاب الجمع بين الضدّين محال، والأمر بهما تكليف بما لا يطاق،

ص: 128


1- منتقى الاُصول 2: 390.

والقائل بإمكان الترتّب يريد أن يرفع هذه الغائلة، فمثلاً: لو كان أحد الواجبين أهمّ، وكان الآخر مهمّاً، فإنّما يقع التضادّ بينهما، وبالتحديد: بين إطلاقيهما.

أمّا لو كان التقييد من طرف المهمّ مترتّباً على عصيان الأهمّ، فكأنّ المولى يقول: أزل النجاسة، فإن عصيت فصلّ، فحينئذٍ: لا تضادّ بينهما، بل يكون عصيان الأمر بالإزالة موضوعاً للمهمّ. فالأمر بالمهمّ مترتّب على عصيان الأمر بالأهمّ، وواقع في طوله، فلا تضادّ.

ولا يخفى: أنّ الترتّب إنّما يتصوّر إذا اجتمعت هناك اُمور ستّة، وهي: فعليّة خطاب الأهمّ، وعصيانه، وامتثاله، مع فعليّة خطاب المهمّ وعصيانه وامتثاله، فجميع هذه الستّة تكون في زمان واحد، وإن كان بين بعضها تقدّم وتأخّررتبيّ، كتقدّم فعليّة الخطاب على امتثاله أو عصيانه رتبةً، وكتقدّم عصيان الأهمّ على فعليّة المهمّ.

أمّا اشتراط فعليّة الخطابين في زمان واحد، فلكي يحصل التزاحم بينهما، فيكون الترتّب علاجاً لهما، فإذا لم يكن هناك تزاحم، فلا حاجة إلى الترتّب، فإذا فرض أنّه لا فعليّة ولا تنجّز للخطابين، فلا تحريك للامتثال حتى يكون كلّ منهما داعياً إلى صرف القدرة في امتثاله، حتى يصبح المكلّف عاجزاً عن امتثال الخطابين وإجابة دعوتهما، كما أنّه إذا فرض أنّ أحدهما غير فعليّ - أيضاً -، فلا تزاحم، إذ لا بعث ولا تحريك إليه في زمان البعث والتحريك إلى الآخر، ففي هذا الزمان لا يكون هناك

ص: 129

تزاحم حتى تحتاج إلى الترتّب.

وأيضاً: فلابدّ أن يكون التزاحم موضع الضدّين اللّذين لهما ثالث، وأمّا لو فرض وقوع التزاحم في الفردين اللّذين لا ثالث لهما، فيكون الترتّب تحصيلاً للحاصل؛ لأنّه على فرض عصيان أحدهما يوجد الثاني قهراً؛ لأنّ عصيانه مساوق لوجود الآخر، كالحركة والسكون، فإنّ عدم أحدهما مساوق لوجود لآخر، فلا يحتاج إلى وجود الأمر الترتّبي حينئذٍ.ومن هنا، ظهر الحال فيما صنعه كاشف الغطاء(قدس سره) في مسألة الجهر والإخفات من تخريج الحكم فيها على الترتّب، فالتزم بأنّ الأمر متعلّق بالإخفات عند عصيان الأمر بالجهر(1).

وقد أورد عليه الشيخ(قدس سره) في رسائله: بأنّا لا نعقل الترتّب، واكتفى بهذا المقدار من البيان(2).

ص: 130


1- انظر: كشف الغطاء: 1: 171. ونصّ كلامه(قدس سره) كالتالي: «ولو تضيّقا معاً بالعارض تخيّر مع المساواة، وقدّم الراجح مع الترجيح بحقيّة المخلوق أو شدّة الطلب، ويرجع الأوّل إلى الثاني؛ لأنّ انحصار المقدّمة بالحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية. وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لماُموره: إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل كذا؟ كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات».
2- راجع: فرائد الاُصول: 2: 440. قال(قدس سره): «ويردّه: أنّا لا نعقل الترتّب في المقامين، وإنّما يُعقل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقّق معصية الأوّل، كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائيّة، فكُلِّف لضيق الوقت بالترابيّة».

كما أورد المحقّق النائيني على كاشف الغطاء" بما لفظه:

«أنّ مورد الخطاب الترتّبي هو ما إذا كان خطاب المهمّ مترتّباً على عصيان الأمر بالأهمّ، وهذا لا يكون إلّا فيما إذا لم يكن المهمّ ضروريّ الوجود عند عصيان الأمر بالأهمّ، كما هو الحال في الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، وأمّا الضدّان اللّذان لا ثالث لهما، ففرض عصيان الأمر بأحدهما هو فرض وجود الآخر لا محالة، فيكون البعث نحوه طلباً للحاصل، وبالجملة: لو كان وجود الشيء على تقدير وجود موضوع الخطاب وشرطه ضروريّاً لامتنع طلبه؛ لأنّه قبلوجود موضوعه يستحيل كونه فعليّاً، وبعد وجوده، يكون طلباً للحاصل»(1).

وملخّص ما أفاده: أنّ المسألة ليست من مصاديق الترتّب كي يدّعى تقرّره فيها؛ لأنّ الجهر والإخفات من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، إذ القارئ لا يخلو عن أحدهما، وقد ثبت أنّ الترتّب لا يجري في الواجبين المتضادّين اللّذين لا ثالث لهما؛ لامتناعه.

واستشكل فيه الاُستاذ الأعظم(قدس سره) بما نصّه:

«ما أفاده شيخنا الاُستاذ(قدس سره) من اختصاص جواز القول بالترتّب بما إذا كان للواجبين المتضادّين ثالث، وإن كان متيناً لا مناص عن الالتزام به، إلّا أنّ ما أفاده من إدراج محلّ الكلام في الضدّين اللّذين ليس لهما ثالث

ص: 131


1- أجود التقريرات 1: 311.

غير مطابق للواقع، وذلك لأنّ المأمور به في الصلاة إنّما هي القراءة الجهريّة أو الإخفاتيّة، ومن الواضح: أنّهما من قبيل الضدّين اللّذين لهما ثالث، فلا مانع من الأمر بهما في زمانٍ واحد، مع اشتراط الأمر بأحدهما بعصيان الآخر. نعم، إذا فرض تحقّق القراءة في الخارج فهي لا تخلو من كونها جهريّة أو إخفاتيّة، لكنّه لا يوجب كون الواجبين المفروضين في محلّ الكلام من قبيل الضدّين اللّذين ليس لهما ثالث، كما هو ظاهر»(1).وتوضيحه: أنّ متعلّق الأمر ليس هو الجهر أو الإخفات، بحيث يفرض في موضوع الأمرين هو القراءة كي لا يتخلّف القارئ عن أحدهما، بل متعلّق الأمر هو القراءة الجهريّة أو القراءة الإخفاتيّة. ومن الواضح: أنّهما ليسا من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، إذ المكلّف قادر على تركهما معاً بترك أصل القراءة.

والحقّ: أنّ ما ذكره الاُستاذ) غير تامّ؛ لأنّ المفروض في محلّ البحث هو الجاهل المقصّر الذي جاء بالقراءة الإخفاتيّة، لا الذي ترك القراءة الجهريّة، فقد أُخذ في الفرض موضوعيّة القارئ إخفاتاً، لا تارك القراءة جهراً، ومن الواضح أنّ القارئ لا يخلو حاله عن أحد الوصفين، كما اعترف به نفس المستشكل، فهما من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، فلا يتأتّى الترتّب.

ص: 132


1- أجود التقريرات 1: 311، الهامش رقم 1.

وقد يقال: إنّ وجوب الجهر في الصلوات اليوميّة مطلق، ووجوب الإخفات مقيّد بعصيان الآخر، كما مرّ، وذلك لأنّه يلزم اللّغويّة وتحصيل الحاصل؛ لأنّ ترك الجهر مساوق لوجود الإخفات، فجعل الوجوب له لغوٌ.

وممّا ذكرنا - أيضاً - ظهر: أنّه لا يعقل الترتّب فيما إذا كان التزاحم واقعاً بين شيئين مختلفين بحسب الزمان؛ لأنّ هناك قدرةً واحدة فقط، فإمّا أن تصرف هذه القدرة في الركعة الأُولى أو في الثانية، فهنا، وإن فرض كون الثانية أهمّ، ولكن مع ذلك، يجوز له الصرف في الأُولى، وذلك لأنّه حين تصرف القدرة في المهمّ لم يتحقّق عصيان الأهمّ.نعم، إنّما تحقّق عصيان الأهمّ في زمانه، فحينما يصرف القدرة في المهمّ، فهو إنّما صرفها لشيء له فعليّة وخطاب مستقلّ، ولا يمكن تعقّل الترتّب ها هنا؛ لأنّه حينما يعصي الأمر الوارد بالمهمّ، فإمّا أن يصرف القدرة في الركعة الأُولى، وإمّا في غيرها، كشيء آخر. فإن صرفها في الأُولى: كان تحصيلاً للحاصل، وإن صرفها في غيره يلزم سقوط الخطاب من الأهمّ والمهمّ. ولو فرض أنّه لا أهمّيّة لأحدهما، فلابدّ من صرف القدرة إليه؛ لأنّه ممّا يحكم به العقل؛ إذ الخطاب فعليّ بالنسبة إليه، فإنّ صرف القدرة في الأُولى معجّز للركعة الثانية والخطاب بها، ولا يمكن صرف القدرة إليها. وبعبارة أُخرى: فلم يبقَ قدرة أصلاً حتى يتوجّه الخطاب إليها.

ص: 133

وخلاصة الكلام: أنّه بعد أن كان زمان فعليّة التكليف بالأهمّ متّحداً مع زمان التكليف بالمهمّ، وإلّا لم يصدق التزاحم، أو يقال: بأنّ زمان فعليّة التكليف بالمهمّ متّحد مع زمان عصيان التكليف بالأهمّ؛ لأنّ العصيان، أو إرادة العصيان، يكون موضوعاً لفعليّة المهمّ، فيكون عصيان الأهمّ شرط فعليّة المهمّ، حيث كان موضوعاً له، وبما أنّ الحكم والموضوع هما كالعرض والعروض، فكما لا يمكن أن يتقدّم العرض على المعروض، ولا أن يتأخّر عنه من حيث الزمان، فكذلك في محلّ الكلام؛ فإنّه يستحيل أن تتقدّم فعليّة المهمّ على عصيان الأهمّ أو أن تتأخّر عنه زماناً.نعم، إنّما يكون التقدّم والتأخّر بينهما رتبيّاً، مع أنّ زمان عصيانه للأهمّ متّحد مع زمان عصيانه للمهمّ.

وفي النتيجة: فإنّ زمان الخطاب بالأهمّ مقارن لزمان فعليّة الخطاب بالمهمّ، فالأمر بالمهمّ واقع في طول الأمر بالأهمّ، أي: من حيث الرتبة، لا زماناً.

وأمّا اتّحاد زمان فعليّة الخطاب مع الامتثال، فمن جهة أنّه بعدما أثبتنا في محلّه بطلان الواجب المعلّق، بأن يكون الخطاب والبعث الآن والمنبعث في زمان متأخّر، بل لابدّ أن يتعلّق البعث الفعليّ بأمرٍ حاليّ، ولا يجوز تقدّم البعث آناً واحداً، إذ لو جوّزنا ذلك لم يبقَ فرق بين طول الزمان وقصره، فيمكن أن يكون البعث الآن إلى أمر متأخّر بعد مرور سنين.

ص: 134

وبعد أن فرغنا من إثبات عدم إمكان كون البعث فعليّاً والمبعوث إليه في زمان متأخّر، فلابدّ وأن يكون البعث في زمانٍ يمكن انبعاث المكلّف عنه، بحيث لو انبعث عنه عُدّ ممتثلاً، وإلّا، عُدّ عاصياً، إذا كان الواجب مضيّقاً من جهة الزمان، ففي كلّ زمانٍ صار البعث فعليّاً وكان الواجب مضيّقاً ليس له أفراد طوليّة، فلابدّ وأن يتحقّق أحد الأمرين: إمّا أن ينبعث المكلّف عن ذلك البعث فيكون ذلك امتثالاً، ويكون موجباً لسقوط الأمر، وإمّا أن لا ينبعث في ذلك الزمان، فيكون عصياناً، واجتماع كلا الأمرين، وكذا ارتفاعهما، لا يمكن؛ لأنّهما متقابلان متناقضان.وممّا ذكرنا ظهر: أنّ زمان الامتثال وزمان العصيان - أيضاً - واحد؛ لأنّهما في مرتبة واحدة، وكلّ واحدٍ منهما بدل عن الآخر، وأمّا في زمان فعليّة الامتثال، فلابدّ وأن يكون الخطاب موجوداً وفعليّاً، وإلّا يلزم أن يكون الانبعاث عن غير بعث.

وقد ذكرنا مراراً: أنّ جميع القيود والشروط للموضوع والحكم ترجع إلى الموضوع، فبما أنّ شرط تكليف المهمّ هو العصيان، أي: أيّها العاصي للأهمّ ائتِ بالمهمّ، أو كما في المثال: أيّها العاصي للأمر بالإزالة ائتِ بالمهمّ، وهو الصلاة، فيكون زمان الموضوع والحكم واحداً، كما ذكرنا بالنسبة إلى اتّحاد زمان العرض مع المعروض، بما أنّ زمان فعليّة الأمر مع عصيانه وامتثاله واحد؛ لأنّ زمان الامتثال أو زمان العصيان لابدّ وأن يكون متّحداً مع زمان فعليّة الأمر.

ص: 135

فتحصّل: أنّ جميع الأقسام الستّة تقع في زمان واحد كما أشرنا، وهو المطلوب.

وأمّا إذا كانا متساويين في الملاك، فالعقل - حينئذٍ - يحكم بالتخيير، أي: أنّ العقل يرى أنّ المكلّف مخيّرٌ في الإتيان بأيّهما شاء، فإذا اشتغل بأحدهما كان معذوراً في ترك الآخر.

وأمّا إذا لم يشتغل بأحدهما، بل تركهما كليهما، فلا يكون معذوراً في ترك شيءٍ منهما؛ لأنّه - على الفرض - قادر على الإتيان بكلٍّ منهما، وفي صورة الاشتغال بأحدهما يكون معذوراً عن الإتيان بالآخر، لعجزه عنه.

وهل إذا ترك أحدهما يستحقّ عقابين أو عقاباً واحداً؟فيه كلام: أمّا إذا كان أحدهما أهمّ، فلو أتى به فهو معذور في ترك المهمّ، لعدم القدرة عليه حينئذٍ، وإن أتى بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعليّ، فيثاب، ولكن يعاقَب على عصيانه للأهمّ؛ لأنّ العقل يحكم بصرف القدرة إلى الثاني، وهو الأهمّ، وإذا تركهما استحقّ عقابين.

دعوى استحالة الترتّب:

وقد استشكل على الترتّب بأنّه طلب للضدّين، وطلب الجمع بين الضدّين قبيح؛ لأنّه طلب للمحال؛ لأنّ الضدّين، وإن كان ارتفاعهما ممكناً، إلّا أنّ اجتماعهما - كالنقيضين - غير ممكن.

بل يمكن أن يقال: بأنّ مآل ومرجع طلب الضدّين إلى طلب الجمع بين النقيضين؛ لأنّ طلب كلّ واحدٍ من الضدّين يلازم عدم طلب الضدّ

ص: 136

الآخر، فطلب الإزالة - مثلاً - يلازم عدم طلب الصلاة؛ لأنّ المزاحمة وإن لم توجب النهي عن الضدّ، فلا أقلّ من اقتضائها عدم الأمر به، وكذا طلب الصلاة يلازم عدم طلب الإزالة، ولازم ذلك: مطلوبيّة وجود الإزالة وعدمها، ووجود الصلاة وعدمها، وليس هذا إلّا طلب الجمع بين النقيضين.

واستحالة هذا الطلب لا تختصّ بحال دون حال، بل هي ثابتة في كلّ حال من الاختيار وعدمه.

ولكن يمكن أن يجاب عن هذا:

بأنّ الطلب في كلٍّ من الضدّين إنّما يكون طارداً للآخر إذا كانا عرضيّين، بخلاف ما إذا كانا طوليّين، كما في الترتّب المبحوث عنه، فإنّ كلّاً من الضدّين حينئذٍ لا يطارد الآخر؛لأنّ مطلوبيّة المهمّ منوطة بعصيان أمر الأهمّ، فمقتضى الترتّب: وقوع مطلوبيّة كلٍّ من الضدّين في طول مطلوبيّة الآخر، وامتناع وقوعهما معاً على صفة المطلوبيّة عرضاً، فلو فرض محالاً إيجادهما معاً، فلا يتّصف بالمطلوبيّة إلّا خصوص الأهمّ؛ لأنّ مطلوبيّة المهمّ موقوفة على عصيان أمر الأهمّ، والمفروض امتثاله.

وقد أوردوا على هذا الجواب بما حاصله:

أنّ المطاردة الناشئة من فعليّة الطلب وتضادّ المتعلّقين - كالصلاة والإزالة - موجودة في الترتّب كوجودها في اجتماع طلب الضدّين عرضيّاً، حيث إنّ أمر الأهمّ فعليّ، وأمر المهمّ - لعصيان الأمر بالأهمّ -

ص: 137

أيضاً صار فعليّاً، فيجتمع الطلبان الفعليّان بالضدّين في آنٍ واحد، فكلّ منهما يطرد الآخر، فأمر الأهمّ ينفي مطلوبيّة المهمّ، وبالعكس، فتحصل المطاردة من الطرفين في الترتّب كحصولها منهما في اجتماع الطلبين عرضيّاً.

فالمتحصّل: أنّ الترتّب محال، لوجود المطاردة فيه.

وعلى فرض التنزّل والقول بأنّه وإن لم تتعلّق الإرادة بالمهمّ في الإتيان بالأهمّ، إلّا أنّ هذا لا يمنع المطاردة، حيث لو فرض فعليّة الأمر بالمهمّ فمطاردته للأمر بالأهمّ موجودة أيضاً؛ لأنّ ملاك المطاردة، وهو الفعليّة، موجود فيه أيضاً.

وعلى فرض التنزّل - أيضاً - فحتى لو سلّمنا عدم المطاردة من الطرفين، والتزمنا بطرد أمر الأهمّ فقط للمهمّ من دون عكس، ولكن مع ذلك نقول باستحالة الترتّب؛ لأنّ أمر الأهمّيطرد طلب المهمّ على كلّ حال، سواء أتى بالمهمّ أم تركه، إذ المفروض كون أمره فعليّاً مطلقاً، من دون اشتراطه بشيء، والطرد من طرفٍ واحد كافٍ في استحالة طلب الضدّين، لعدم قدرة المكلّف على امتثال الأمرين معاً، فاستحالة طلب الضدّين ليست منوطة بالمطاردة من الطرفين حتى يقال: إنّ طلب المهمّ لا يطرد طلب الأهمّ، فلا مطاردة بينهما كي يحكم بالاستحالة.

وعلى أيّ حال، فلو قلنا بالترتّب وصحّحناه، فلابدّ أن نلتزم بلوازمه، وهو تعدّد استحقاق العقوبة لو ترك الأهمّ والمهمّ معاً، وهذا قبيح؛ لأنّ

ص: 138

امتثاله كلا الأمرين المتعلّقين بالضدّين غير مقدور، والمؤاخذة على أمر غير مقدور ممّا هو قبيح على الحكيم، وهذا يوجب بطلان الترتّب؛ لأنّ بطلان اللّازم يكشف عن بطلان الملزوم.

والحقّ في الجواب أن يقال:

إنّ الترتّب لا يقتضي الجمع بين الخطابين، بل يقتضي الجمع بين إطلاق الطلبين، فإذا قيّدنا أحد الإطلاقين، فلا يبقى محذور أصلاً، فإنّ كون الأمر على سبيل الترتّب يرفع غائلة الجمع.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ هيئة افعل له نسبتان، نسبة المادّة إلى الآمر بالنسبة الطلبيّة، ونسبتها إلى الفاعل بالنسبة التلبّسيّة، والتنافي في الأمر الترتّبيّ إنّما يكون بين النسبة الطلبيّة في جانب المهمّ والنسبة الفاعليّة في جانب الأهمّ، لا النسبة الطلبيّة في جانبه، فإنّ المفروض انحفاظ طلب الأهمّ عندطلب المهمّ، فلا تنافي بين النسبتين الطلبيّتين، كما في باب الوضوء والتيمّم، حيث إنّ التنافي هناك بين النسبة الطلبيّة للوضوء والنسبة الطلبيّة للتيمّم، وكان طلب التيمّم مترتّباً على عدم طلب الوضوء.

وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ التنافي فيه إنّما يكون بين النسبة الطلبيّة من جانب المهمّ والنسبة الفاعليّة من جانب الأهمّ، فصورة القضيّة الحمليّة تكون هكذا: إمّا أن يكون الشخص فاعلاً للأهمّ، وإمّا أن يجب عليه المهمّ، فهناك تنافٍ بين وجوب المهمّ وفعل الأهمّ، ومع هذا التنافي كيف يُعقل إيجاب الجمع؟ مع أنّ إيجاب الجمع يقتضي عدم التنافي

ص: 139

بين كون الشخص فاعلاً للأهمّ وبين وجوب المهمّ عليه، بل لا يوجب اجتماع الطلبين معه مطلقاً، لا من جانبين، ولا من جانبٍ واحد.

وقد يستشكل هنا بوجهٍ آخر، بأن يقال:

إنّ عصيان الأهمّ إمّا أن يكون شرطاً متقدّماً أو متأخّراً، فإن كان شرطاً متقدّماً، أي: لابدّ أن يتحقّق حتى يصبح المهمّ فعليّاً، وحينئذٍ: يسقط الأمر بالأهمّ؛ لأنّ الأمر يسقط بالعصيان، مع أنّ المفروض أنّ كلا الأمرين موجودان في زمانٍ واحد. وإن كان العصيان شرطاً متأخّراً، فقبل سقوطه، وإن كان المهمّ فعليّاً، ولكن يلزم أن يجتمع طلب الأهمّ والمهمّ معاً في زمانٍ واحد، وهذا من طلب الضدّين.ولكن قد عرفت أنّ الأمر بكلّ من الضدّين أمرٌ مقدور وممكن، وإنّما الذي يكون غير مقدور هو جمع المكلّف بين متعلّقيهما في الإتيان، وهو غير متعلّق للتكليف.

وتوضيحه: أنّه إذا قامت الحجّة في أوّل الزوال على وجوب الصلاة، وقامت حجّة اُخرى على وجوب الإزالة عن المسجد، فكلّ واحد حجّة في مفاده مستقلّاً، لا في الجمع بينهما. وليس قيام الحجّتين على الضدّين إلّا كقيامها على الأمرين المتوافقين غير المتزاحمين في أنّ كلّ واحد منهما حجّة في مفاده، لا في الجمع بينهما.

ويمكن أن نجيب عن هذا الإشكال أيضاً:

بأنّ العصيان ليس شرطاً متقدّماً ولا متأخّراً، وإنّما هو من الشرط

ص: 140

المقارن؛ لأنّ المراد أنّ الشرط ليس هو نفس العصيان حتى يكون من الشرط المتأخّر، بل هو البناء والعزم، وهو من الشرط المقارن.

وبعدما عرفنا أنّ القيود والشروط ترجع إلى الموضوع في نفس زمان العصيان للأهمّ، فخطابه يكون موجوداً، وليس بساقط، ويكون خطاب المهمّ فعليّاً أيضاً، ولكنّه ليس طلباً للجمع بين الضدّين. نعم، هو جمع بين الطلبين المتضادّين، فليس العصيان بشرط متأخّر؛ إذ ليس المراد هو واقع العصيان، بل العزم، وأمّا الشرط فهو عنوان التعقّب بالعصيان، وهو من الشرط المقارن.

وخلاصة البحث:

أنّ الخطابين إن كانا مطلقين، فلا محالة يقتضيان إيجاب الجمع، فإن أمكن للمكلّف الجمع بينهما وجبا معاً، كما إذا ورد خطاب بالصلاة وخطاب بالصوم، والمفروض أنّ كلّاً من الخطابين أيضاً مطلق، فيجب الجمع بينهما.

وإن لم يمكن للمكلّف الجمع بينهما، إمّا لتضادّ المتعلّقين، وإمّا لقصور قدرة المكلّف عن الجمع بينهما، كإنقاذ هذا الغريق أو هذا، فلا محالة يكون حكم العقل فيه هو التخيير؛ لأنّه يوجب إيجاب الجمع بين الشيئين المتضادّين.

وأمّا إن كان كلّ من الخطابين مشروطاً بعدم فعل الآخر، أو كان أحدهما مشروطاً بذلك، فلا يعقل أن يقتضيا إيجاب الجمع؛ لأنّ

ص: 141

المفروض أنّ التكليف بكلٍّ منهما مقيّد بعدم الآخر، فيكون حكمه حكم الأحكام التخييريّة الأوّليّة، كخصال الكفّارات، فحينئذٍ: لا يلزم منه إيجاب الجمع كما هو واضح، وليس طلباً للجمع بين الضدّين. نعم، هو جمع بين الطلبين، فكيف يتصوّر إيجاب الجمع مع أنّ الجمع ليس بمطلوب، بحيث لو أمكن للمكلّف الجمع بينهما لم يقعا على صفة المطلوبيّة؟

فظهر: أنّ الخطاب الترتّبيّ لا يقتضي إيجاب الجمع، وما لم يكن مقتضياً لإيجاب الجمع بين الضدّين فلا وجه لاستحالته، ففي محلّ البحث، وإن كان الخطابان الفعليّان واقعين في زمان واحد، إلّا أنّ اجتماعهما لايوجب إيجاب الجمع، وليس طلباً للجمع؛ لأنّ الجمع هو عبارة عن اجتماع كلّ منهما في زمان امتثال الآخر، بحيث يكون امتثال أحد الخطابينمجامعاً في الزمان لامتثال الآخر، كمجامعة الصلاة للصوم، وبالعكس.

وأمّا الذي يوجب إيجاب الاجتماع فهو أحد أمرين:

الأوّل: تقييد كلّ من المتعلّقين بحال فعل الآخر، أو تقييد أحدهما بحال الآخر، كتقييد القراءة بحال القيام.

والثاني: إطلاق كلّ من الخطابين لحال فعل الآخر، كإطلاق الأمر بالصلاة في حال فعل الصوم، وبالعكس، فإنّ الإطلاق ينتج نتيجة التقييد في اقتضائه إيجاب الجمع.

ص: 142

إذا عرفت ذلك، ظهر: أنّ الخطاب الترتّبي لا يقتضي إيجاب الجمع، بل يقتضي نقيض إيجاب الجمع، بحيث لا يكون الجمع مطلوباً لو فرض إمكانه؛ لمكان أنّ الخطاب بالمهمّ مشروط بعصيان الأهمّ وخلوّ الزمان عنه، ومع هذا، فكيف يقتضيان إيجاب الجمع؟

فإذا فرض أنّ مطلوبيّة المهمّ إنّما كانت في طرف عصيان الأهمّ، ولو فرض وقوعه على صفة المطلوبيّة في حال وجود الأهمّ وامتثاله، كما هو لازم إيجاب الجمع، يلزم الجمع بين النقيضين، ولذا، لا يجتمع الخطابان؛ فإنّ الخطاب بالأهمّ يكون من علل عدم الخطاب بالمهمّ؛ لأنّه يوجب رفع موضوعه، ولو اجتمع خطاب الأهمّ والمهمّ وصار أحدهما في عرض الآخر لكان هذا من باب اجتماع الشيء مع علّة عدمه، وهو خلف.

وخلاصة الكلام: أنّ طلب الجمع بين فعلين في الخارج يتصوّر على صور أربع - كما أفاده اُستاذنا الأعظم(قدس سره) -:الاُولى: ما إذا كان هناك أمر واحد تعلّق بالجمع بين الفعلين على نحو يرتبط كلّ منهما بالآخر ثبوتاً وسقوطاً، كما إذا تعلّق الأمر بالجمع بين الكتابة والجلوس مثلاً.

الثانية: ما إذا تعلّق أمران بفعلين، على نحو يكون متعلّق كلّ من الأمرين مقيّداً بحال امتثال الأمر الآخر، كما إذا أمر المولى بالصلاة المقارنة لامتثال الأمر بالصوم، وبالعكس.

ص: 143

الثالثة: أن يكون متعلّق أحد الخطابين مقيّداً بحال امتثال الآخر، دون العكس، كالقراءة المقيّدة بحال القيام.

الرابعة: ما إذا تعلّق أمران بفعلين على وجه الإطلاق، بأن يكون كلّ منهما مطلقاً بالإضافة إلى حال امتثال الآخر والإتيان بمتعلّقه، كما هو الحال في الأمر المتعلّق بالصوم والصلاة، فإنّ وجوب كلّ منهما مطلق بالإضافة إلى الإتيان بالآخر، لكن عند امتثال أحدهما كان الآخر مطلوباً(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ القول بالترتّب، وهو اجتماع الأمر بالأهمّ مع الأمر بالمهمّ، لا يستلزم القول بطلب الجمع بينهما؛ أمّا الجمع بمعنى: تعلّق طلب واحد به، كما في الصورة الاُولى، فواضح.

وأمّا الجمع بالمعنى الموجود في الثاني والثالث أيضاً، فواضح؛ لأنّ الترتّب معناه: أنّ امتثال كلّ منهما مقيّد بعصيان الآخر، كامتثال المهمّ المقيّد بعصيان الأهمّ، لا أنّ امتثال أحدهما يكون مقيّداً بامتثال الآخر، وهكذا بالنسبة إلىالصورة الرابعة؛ لأنّ تقييد امتثال أحدهما بالآخر يكون عرضيّاً، وليس مطلوباً بعنوانه ولا بواقعه.

والدليل على أنّ الترتّب لا يوجب وقوع الفعلين في زمان واحد، أنّه لو فرض أنّ المكلّف تمكّن من الإتيان بهما معاً، فلا يقع هذا الإتيان على

ص: 144


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 2: 414.

سبيل المطلوبيّة؛ لأنّ الأمر بالمهمّ إذا فرض اشتراطه بعصيان الأمر بالأهمّ وترك متعلّقه، فلا يمكن فعليّة أمره بدون تحقّق شرطه، وهو ترك الأهمّ، وفي ظرف وجوده، وإلّا لزم أحد محذورين: إمّا اجتماع النقيضين، أو الخلف، وكلاهما مستحيل؛ وذلك لأنّ الأمر بالمهمّ تتوقّف فعليّته على فعليّة موضوعه وهو ترك الأهمّ وعدم الإتيان به، وعليه: فإذا فُرض فعليّة الأمر بالمهمّ في ظرف وجود الأهمّ، فعندئذٍ: لابدّ إمّا من فرض عدم الأهمّ عند وجوده، فلزم اجتماع النقيضين، وإمّا من فرض أنّ عدم الأهمّ ليس بشرط، وهذا خلف، ونتيجة ذلك: هي استحالة فعليّة الأمر بالمهمّ في ظرف وجود الأهمّ وتحقّقه في الخارج، لاستلزامها أحد المحالين المزبورين.

نعم، لو كان تعلّق أمرين بهما في عرضٍ واحد، وعلى وجه الإطلاق، كما في مثل: (أنقذ هذا الغريق سواء أنقذت الآخر أم لا)، و(أنقذ ذلك الغريق سواء أنقذت هذا أم لا) لكان ذلك مستلزماً لطلب الجمع بينهما لا محالة، ولكن أين هذا من تعلّق أمرين بهما على نحو الترتّب، بأن يكون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً بعصيان الأوّل وعدم الإتيان بمتعلّقه، لأنّك عرفت أنّ اجتماع الأمرين كذلك لا يستلزم طلب الجمع بينمتعلّقيهما، بل هو في طرف النقيض معه وينافيه ويعانده، لا أنّه يقتضيه كما مرّ.

وعلى الجملة: فالمقام يمتاز عن الصور المتقدّمة، وفعليّة الأمرين في تلك الصور تستلزم طلب الجمع، لا في المقام، كما عرفت، بل هو هنا بمعنى الجمع بين الطلبين، لا طلب الجمع، كما مرّ.

ص: 145

وأمّا الإشكال بأنّ الأمر الترتّبيّ في المقام يتوقّف على القول بالشرط المتأخّر؛ لأنّ الحرمة حينئذٍ تكون مشروطة بعصيان ذي المقدّمة المتأخّر زماناً عن المقدّمة، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الشرط المتأخّر في المقام حتى نرجعه إلى وصف التعقّب.

فقد أجاب عنه المحقّق النائينيّ« بقوله:

«ولكنّ هذا الإشكال - أيضاً - مندفع: بأنّ الشرط المتأخّر في المقام ممّا يحكم به العقل ويستقلّ به، بعدما بيّنّا سابقاً: من إباء الذوق والاعتبار عن اتّصاف المقدّمة بالمطلوبيّة مطلقاً على أيّ وجه اتّفقت، ولو كان التصرّف في أرض الغير - مثلاً - لأجل التنزّه والتفرّج، وبعدما بيّنّاه من أنّ الأمر بالمقدّمة واقع في رتبة الوصول إلى ذيها لا في رتبة اليأس عنه، وبعدما كان كلّ مقدّمة منقسمة في حدّ ذاتها إلى ما يتعقّبها وجود ذي المقدّمة وما لا يتعقّبها، فإنّ هذه الاُمور توجب استقلال العقل باعتبار الشرط المتأخّر، فهو ممّا قام عليه دليل بالخصوص، غايته: أنّه ليس شرعيّاً بل عقليّاً.والحاصل: أنّه لا يختصّ اعتبار الشرط المتأخّر بمعنى التعقّب بباب القدرة، بل يجري في المقام أيضاً؛ لأنّ صريح العقل والوجدان حاكم باعتبار الشرط المتأخّر (بمعنى التعقّب)، بعدما كان الوجدان شاهداً على عدم وقوع المقدّمة على صفة المطلوبيّة كيف ما اتّفقت، وهذا الوجدان هو الذي أوجب الشرط المتأخّر، وأوجب الأمر الترتّبيّ، فليس اعتبار الشرط المتأخّر في المقام من جهة اقتضاء الأمر الترتّبيّ ذلك حتى يقال:

ص: 146

إنّه لم يقم دليل بالخصوص في المقام على الأمر الترتّبيّ ليقتضي بدلالة الاقتضاء اعتبار الشرط المتأخّر، بل الموجب للذهاب إلى الأمر الترتّبيّ في المقام هو الموجب لاعتبار الشرط المتأخّر فيه، وهو تلك المقدّمات العقليّة، فلا تغفل»(1).

تنبيهات:

التنبيه الأوّل:

في عدم صحّة الترتّب فيما إذا كان أحد الواجبين مشروطاً بالقدرة العقليّة والآخر مشروطاً بالقدرة الشرعيّة؛ إذ كما ذكرنا سابقاً، فلابدّ أن يكون الملاك والأمر لكلّ من المترتّب والمترتّب عليه موجوداً وثابتاً حقيقةً في صورة التزاحم، وحينما قلنا بأنّ القدرة على الواجب دخيلة في الملاك، فإذا كان أحد الواجبين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، والآخرمشروطاً بالقدرة العقليّة، كما إذا كان عنده مقدار من الماء يكفي إمّا للوضوء وإمّا لرفع العطش عمّن هو مشرف على الهلاك بواسطة العطش، أو يدور الأمر بين صرفه في الوضوء أو إعطائه للعيال الواجبي النفقة، فبناءً على أنّ الوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة، أي: التمكّن من الماء المستفاد هذا الاشتراط من اشتراط التيمّم بفقدان الماء وعدم التمكّن منه بقرينة المقابلة، وأنّ التفصيل قاطع للشركة، فلا يجوز فيه الترتّب،

ص: 147


1- فوائد الاُصول 1: 388.

وأن يكون الأمر بالوضوء مقيّداً بعصيان أمر الراجح، أي: الأمر بإعطاء الماء للعطشان المشرف على الهلاك أو للعيال الواجبي النفقة؛ لأنّهما مشروطان بالقدرة العقليّة، والوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة على الفرض، والمشروط بالقدرة العقليّة مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة.

والسرّ في عدم مجيء الترتّب في هذا القسم هو أنّ الوضوء - مثلاً - يكون غير مقدور شرعاً؛ لأنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، فلا يبقى للوضوء ملاك ومصلحة بعد تزاحمه مع الواجب المطلق المشروط بالقدرة العقليّة، فإذا لم يكن له ملاك ومصلحة، فعصيان ذلك الأمر لا يفيد ولا يحدث فيه مصلحة وملاك.

وقد عرفت أنّ الأمر الترتّبيّ لا يتعلّق بشيء إلّا بعد تماميّة الملاك فيه، فلو اعترف شخص بأنّ الوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة فليس له الحكم بصحّة الوضوء إذا عصى وجوب إعطاء الماء إلى من هو مشرف علىالهلاك من العطش، أو عصى إعطاء المال للعيال الواجبي النفقة وتوضّأ، لا بالأمر الترتّبيّ، ولا بالملاك، ولذا لم يُفتِ الشيخ الأعظم الأنصاريّ)، وكذا السيّد الكبير الميرزا الشيرازيّ(قدس سره) - على ما حُكي عنهما - بصحّة الوضوء في الفرض، وليس هذا إلّا من جهة ما قلنا من عدم مجيء الترتّب في مثل المقام، وعدم وجود الملاك فيه.

ص: 148

وهذا من غير فرق بين أن تكون القدرة مأخوذة من دليل متّصل، كما في الحجّ، كما في قوله تعالى ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(1)، أو بدليل منفصل، كما في الوضوء، حيث إنّ الأمر الوضوئيّ وإن لم يقيَّد بالقدرة في لسان دليله، إلّا أنّه من تقييد الأمر التيمّميّ بذلك يُستفاد تقييد الأمر الوضوئيّ بالقدرة. هذا بعد تفسير الوجدان المأخوذ في آية التيمّم بالتمكّن، وعدم الوجدان بمعنى عدم التمكّن لا بمعنى الامتناع خاصّةً.

قال بعض المفسّرين: «يمكن أن يراد بعدم وجدان الماء عدم التمكّن من استعماله، وإن كان موجوداً، فيسري الحكم إلى كلّ من لا يتمكّن من استعماله، كفاقد الثمن أو الآلة أو الخائف من لصٍّ أو سبع ونحوهم». قال: «وهذا التفسير وإن كان فيه تجوّز، إلّا أنّه هو المستفاد من كلام محقّقي المفسّرين من الخاصّة والعامّة»(2).فإنّ مقتضى المقابلة بين الوضوء والتيمّم من حيث تقييد التيمّم بعدم التمكّن من الماء يستفاد من الآية أنّ الوضوء مشروط شرعاً بالتمكّن، وإلّا لم تتحقّق المقابلة بين الوضوء والتيمّم، ولزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه، وأن يكون التفصيل غير قاطع للشركة، وبطلان كلّ ذلك واضح.

ص: 149


1- آل عمران: 97.
2- انظر: مجمع البحرين 4: 468.

مع أنّ نفس بدليّة التيمّم للوضوء معناه: إذا لم تجد الماء فتيمّم، فلو فرض أنّ الوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة، ولم يكن له قدرة شرعيّة على الوضوء، بحيث انتقل تكليفه إلى التيمّم، - كما لو وجب صرف ما عنده من الماء لحفظ النفس المحترمة - كان وضوؤه خالياً عن الملاك، فلو عصى وتوضّأ، كان وضوؤه باطلاً، ولا يمكن تصحيحه لا بالملاك، ولا بالأمر الترتّبيّ.

ومن هنا، يبدو غريباً ما حُكي عن بعض الأعاظم في حاشيته على نجاة العباد من القول بصحّة الوضوء والحال هذه(1)، ولعلّ نظر هذا المفتي بالصحّة إلى القول بأنّ القدرة المأخوذة فيه عقليّة لا شرعيّة، واﷲ العالم.

والتنبيه الثاني:

لا إشكال في أنّ الترتّب مورده هو الضدّان اللّذان لهما ثالث. وأمّا الضدّان اللّذان ليس لهما ثالث، كالحركة والسكون، فبما أنّ ترك الحركة يكون موجب للسكون، وترك السكون يكون موجباً للحركة، فلا يحتاج إلى الأمر بعد ترك أحدهما، بل هو من باب تحصيل الحاصل.وقد أدخلوا في هذا البحث مسألة الجهر والإخفات، فذهب بعضهم ككاشف الغطاء(قدس سره) إلى القول بصحّة الإتيان بالجهر على تقدير عصيان

ص: 150


1- انظر: فوائد الاُصول 1: 368.

الأمر بالإخفات، وهكذا الإخفات يكون واجباً على تقدير عصيان الأمر بالجهر.

ونصّ كلامه في مقدّمة كشف الغطاء كالتالي:

«لأنّ انحصار المقدّمة بالحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة، وإن استلزم المعصية، وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لماُموره: إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل كذا؟ كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات...» (1).

وقد ذكرنا سابقاً أنّ الشيخ الأنصاري(قدس سره) أنكر أصل الترتّب معتبراً إيّاه أمراً لا يمكن تعقّله، كما ذكرنا أيضاً أنّ المحقّق النائينيّ) بدوره أورد على كاشف الغطاء(قدس سره) بالدليل النقضيّ في مسألة التعارض بناءً على السببيّة، حيث إنّه ملتزم بالترتّب من الطرفين.

وقد ذكر اُستاذنا المحقّق(قدس سره) - تبعاً لاُستاذه المحقّق النائيني(قدس سره) - وجوهاً عدّة لخروج هذه المسألة عن باب الترتّب:

منها: ما تقدّم من أنّه لو كان التضادّ بين المتعلّقين دائميّاً بحيث لا يمكن الإتيان بكلا المتعلّقين معاً دائماً، فالدليلان الدّالّان على وجوب كلا الأمرين يكونان متعارضين، ويجب أن يتمّ التعامل معهما معاملة تعارض

ص: 151


1- كشف الغطاء 1: 171، وقد تقدّم نقل هذا الكلام آنفاً في بعض الهوامش المتقدّمة.

الدليلين، وذلكمن جهة أنّ تشريع الحكمين اللّذين لا يمكن اجتماعهما في عالم الوجود دائماً لغو، بل لابدّ من تشريع التخيير بينهما لو كان فيهما الملاك وكانا متساويين من هذه الجهة.

وأمّا لو كان ملاك أحدهما أهمّ، فلابدّ وأن يجعل الحكم على طبق الملاك الأهمّ، وإلّا، لو جعل على طبق الملاك غير الأهمّ يلزم ترجيح المرجوح على الراجح، ولو جعل التخيير يلزم التسوية بين الراجح والمرجوح، ولو لم يجعل حكم أصلاً لزم تفويت كلا الملاكين.

ومعلوم أنّ هذه الثلاثة كلّها قبيحة عقلاً، فيتعيّن الأوّل، أي: الجعل على طبق الملاك الأهمّ، فلو كان مفاد كلّ واحدٍ من ذينك الدليلين اللّذين بين متعلّقيهما تضادّ، بمعنى: عدم إمكان اجتماعهما في عالم الوجود دائماً، وجوب متعلّقهما مطلقاً، فلا محالة: يكون مثل هذين الدليلين متعارضين، لعدم إمكان جعل مفادهما، للزوم اللّغويّة، فيكون مثل هذا الجعل - الذي لا يمكن دائماً إلّا امتثال أحدهما - قبيحاً على الحكيم، بل كما ذكرنا، لو كان الملاك في كليهما، وكان فيهما متساويين، فلابدّ وأن يُجعل على طبق ذاك الأهمّ.

ومنها: أنّ الجهر والإخفات في القراءة من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، وفي مثل هذا لا يمكن الترتّب، بحيث يكون عدم أحدهما شرطاً وموضوعاً للأمر بالآخر؛ لأنّ في ذلك الظرف يكون الآخر حاصلاً، لما ذكرنا من الملازمة، فيكون طلبه من قبيل طلب الحاصل.

ص: 152

لكن قد أورد على النائيني) اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بما نصّه:«ولكنّ هذا ليس من محلّ الكلام في شيء، ضرورة أنّ المأمور به - كما عرفت - ليس هو الجهر والإخفات بما هو، والقصر والتمام كذلك، بل المأمور به هو القراءة الجهريّة والقراءة الإخفاتيّة، والصلاة قصراً والصلاة تماماً، وقد عرفت أنّ بينهما واسطة، فلا يكون وجود إحداهما ضروريّاً عند ترك الأُخرى..»(1).

وحاصله: أنّ متعلّق الأمر ليس هو الجهر والإخفات حتى يكونا كالحركة والسكون خارجين عن مسألة الترتّب، ويكونا من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، بل مورد الأمر هو القراءة الجهريّة أو الإخفاتيّة، ومن الواضح أنّها ليسا من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما. بل المكلّف قادر على تركهما معاً، بترك أصل القراءة.

وقد أجاب عن هذا الإيراد اُستاذنا المحقّق) بما لفظه:

«وأمّا توهّم أنّ إيجاد القراءة الجهريّة مع القراءة الإخفاتيّة ليس من الضدّين اللّذين لا ثالث لهما، بل لهما ثالث، وهو عدم إيجاد القراءة أصلاً، فهو خلاف الفرض؛ لأنّ وجوب القراءة في الصلاة معلوم، وليس مشروطاً بشرط، وإنّما الكلام في الجهر بها والإخفات كذلك. وبعبارة أُخرى: القراءة المفروضة الوجود لقوله%: (لا صلاة إلّا بفاتحة

ص: 153


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 473.

الكتاب)، تعلّق الأمر بالجهر أو الإخفات فيها،ومعلوم أنّ عدم أحد الضدّين - اللّذين لا ثالث لهما في القراءة - ملازم لوجود الآخر أو عينه كما ذكرنا»(1).

وكذا في صورة الجهل بالتكليف لا يعقل الخطاب الترتّبيّ؛ لأنّ موضوعه ممّا لا يقبل الإحراز؛ لأنّ مورد الخطاب الترتّبيّ إنّما يكون فيما إذا كان الموضوع في كليهما محرزاً، والتزاحم لا يمكن إلّا بعد إحرازهما، أي: إمّا أن يكون محرزاً بنفسه، أو بالإحراز الوجدانيّ، أو بالطرق المحرزة، كالأمارات والاُصول المحرزة، وإذا كان الشيء مساوقاً لانعدامه، فلا يعقل فيه الترتّب، بل يكون لغواً.

فإنّ الناسي للتكليف، وإن كان عن تقصير، لا يرى نفسه عاصياً، ولا يلتفت إلى ذلك؛ إذ الالتفات إلى كونه عاصياً يتوقّف على العلم بالتكليف، فيخرج عن كونه جاهلاً، فلا يعقل أن يقال: أيّها العاصي للتكليف المجهول يجب عليك كذا، فإنّه بمجرّد التفاته إلى كونه عاصياً ينقلب جهله بالتكليف إلى كونه عالماً به.

والحاصل: أنّه في صورة الجهل بالتكليف لا يعقل الخطاب الترتّبيّ؛ لأنّه ليس هناك مزاحمة بين التكليفين، وإن فرض استحقاق العقاب على ترك التكليف المجهول في صورة كون الجاهل مقصّراً، وكيف يُعقل

ص: 154


1- منتهى الاُصول 1: 355- 356.

الخطاب الترتّبيّ مع أنّه عبارة عن أخذ عصيان أحد التكليفين شرطاً وموضوعاً للتكليف الآخر؟فمقامنا - إذاً - نظير ما لو كان ناسياً لجزء، فلا يمكن تكليفه بالفاقد له؛ لأنّه بمجرّد الالتفات إلى كونه ناسياً يخرج عن كونه ناسياً.

والتنبيه الثالث:
اشارة

لا يخفى: أنّه كما يجري الترتّب في المتزاحمين المضيّقين كإنقاذ الغريقين، وكما يكون الترتّب من الجانبين إذا لم يكن أحدهما أهمّ، فكذلك يجري فيما إذا كان أحد الواجبين مضيّقاً والآخر موسّعاً، وقد ذهب المحقّق النائيني) إلى جريان الترتّب في هذه الصورة، ودورانها مدار الالتزام بالترتّب وعدمه(1).

ووجّهه الاُستاذ الأعظم) بما لفظه:

«وأمّا الكلام في الناحية الثانية، فجريان الترتّب فيه يبتني على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ(قدس سره) من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق، وبما أنّ تقييد المهمّ في المقام بخصوص الفرد المزاحم محال، فإطلاقه بالإضافة إليه - أيضاً - محال، وعليه: فلا يمكن الحكم بصحّته من جهة الإطلاق، فلا محالة تبتني صحّته على القول بالترتّب مع قطع النظر عن كفاية الملاك، غاية الأمر: أنّ الترتّب هنا إنّما هو في إطلاق الواجب

ص: 155


1- أجود التقريرات 1: 314.

المهمّ، بمعنى: أنّ إطلاقه مترتّب على ترك الواجب الأهمّ، وهذا بخلاف الترتّب في غير المقام، فإنّ هناك أصل الخطاب بالمهمّ مترتّب على تركامتثال الخطاب بالأهمّ، لا إطلاقه، وعلى كلّ حال، فالترتّب في المقام مبتنٍ على مسلكه(قدس سره)»(1).

وحاصله: أنّ ما أفاده المحقّق النائيني) مبنيّ على التزامه بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة، فإذا امتنع التقييد في مورد يمتنع الإطلاق فيه، وبما أنّه يمتنع تقييد الواجب الموسّع بصورة الإتيان بالفرد المزاحم - لمكان التضادّ بينهما - امتنع إطلاقه بالنسبة إليه.

وعليه: فيقع التزاحم بين إطلاق الواجب الموسّع وخطاب الواجب المضيّق، فلا يمكن الجمع بينهما، بل لابدّ من رفع اليد عن أحدهما: إمّا إطلاق الموسّع، أو خطاب المضيّق.

ثمّ أورد عليه(قدس سره) بقوله: «ولكن قد ذكرنا غير مرّة أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل التضادّ، فاستحالة أحدهما في مورد لا يستلزم استحالة الآخر، وعليه: فلا يتوقّف الحكم بصحّته على القول بجواز الترتّب، ضرورة أنّه عندئذٍ يمكن الإتيان به بداعي امتثال الأمر المتعلّق بالطبيعة»(2).

ص: 156


1- محاضرات في اُصول الفقه 2: 491 .
2- المصدر نفسه.

وملخّصه: أنّه قد عرفت أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من تقابل العدم والملكة، بل تقابل التضادّ، فإذا امتنع التقييد كان الإطلاق ضروريّاً، لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت.قلت: وسيأتي في محلّه: أنّ التقابل هنا هو من تقابل العدم والملكة، وحينئذٍ: فيجري بحث الترتّب بلا إشكال.

وأمّا مثال ما إذا كان أحد الواجبين مضيّقاً والآخر موسّعاً، فهو كما إذا دار الأمر بين واجب موسّع، كالصلاة في أوّل الوقت، وآخر مضيّق، كأداء الدين، أو وجوب الإزالة. وبما أنّ الأمر بالأهمّ مطلق، وكذلك الأمر بالمهمّ، فيتقيّد الأمر بالمهمّ بصورة الإتيان بالأهمّ.

وأمّا في صورة عصيانه وعدم الاشتغال بالأهمّ فالإطلاق باقٍ.

ويكون الفرق بين المضيّقين وبين الموسّع والمضيّق هو أنّه في المضيّقين أصل الأمر بالمهمّ يكون مشروطاً بعصيان الأهمّ، وأمّا في الموسّع والمضيّق فإطلاق الأمر بالموسّع مشروط، على وجه يشمل الفرد المزاحم للمضيّق يكون مشروطاً بعصيان المضيّق، لا أصل الأمر؛ لأنّ جميع أفراد الموسّع لم تكن مزاحمة للمضيّق حتى يكون أصل الأمر به مشروطاً بعصيان المضيّق.

فإذا عرفت هذا، فلو احتاجت صحّة العبادة إلى الأمر، وكان في أوّل الوقت - مثلاً - دخل المسجد للصلاة، فرأى نجاسة فيه، فوجوب إزالة النجاسة من حيث إنّه مضيّق مقدّم على وجوب الصلاة؛ لأنّه موسّع

ص: 157

كما تقدّم في مرجّحات باب التزاحم، فحينئذٍ: لو قلنا بصحّة الترتّب وإمكانه، تكون الصلاة - أيضاً - ماُموراً بها في ظرف عصيان الإزالة، فلوقلنا باحتياج صحّة العبادة إلى الأمر وعدم كفاية الملاك، لكان لها الأمر الترتّبيّ أيضاً.

نعم، لو قلنا بمقالة بعض المحقّقين من أنّ الطبيعة في الواجب الموسّع مقدورة، ولو ببعض وجوداتها، وهي بقيّة الأفراد الطوليّة التي لا تزاحم المضيّق، وهذا المقدار من مقدوريّتها كافٍ في توجّه الخطاب والتكليف.

وحينئذٍ: انطباق المأمور به على ذلك الفرد قهريّ، والإجزاء عقليّ، فلا يحتاج إلى الأمر الترتّبيّ، بل لو قلنا بمحاليّة الترتّب - أيضاً - يكفي في صحّتها الأمر المتعلّق بنفس الطبيعة.

والتنبيه الرابع:

في جريان الترتّب في الحرام الذي وقع مقدّمة لواجب يكون فعله أهمّ من ترك ذلك الحرام، وعدم لزوم محذور عقليّ أو شرعيّ، ولابدّ في هذا التنبيه من التكلّم في اُمور:

الأوّل: أنّ المقدّمة تارةً تكون مباحة، وأُخرى تكون مكروهة، وثالثة تكون محرّمة، ولا كلام لنا هنا فى الأوّلين، وسيأتي الكلام في المقدّمة المحرّمة.

الثاني: أنّ المقدّمة تارةً تكون متقدّمة في الوجود على ذي المقدّمة،

ص: 158

وأُخرى تكون مقارنة له، أمّا الصورة الأُولى: فكالتصرّف في أرض الغير لإنقاذ الغريق. وأمّا الثانية: فكالتصرّف في الماء الذي وقع فيه الغريق لأجل إنقاذه.

الثالث: أنّ المقدّمة تارةً تكون متساوية في الملاك مع الواجب، أي: أنّ ملاك حرمتها يكون مساوياً لملاك ذيالمقدّمة، وأُخرى: يكون ملاك الواجب أهمّ، وثالثة يكون ملاك المقدّمة أهمّ من ملاك الواجب؛ لأنّ التزاحم يقع بين الحرمة النفسيّة لتلك المقدّمة مع الوجوب النفسيّ الذي يكون لذي المقدّمة، فإذا كانت الحرمة أهمّ يسقط وجوب ذي المقدّمة، وأمّا إذا كان الملاكان متساويين، تُقدّم الحرمة، لما ذكرنا من أنّ التخيير في باب التزاحم عقليّ، وليس بشرعيّ، حتى يقال بسقوط كلا الخطابين ويتولّد خطاب تخييريّ من جديد، كسائر الخطابات التخييريّة الشرعيّة، وحينئذٍ: فإذا لم يكن ملاك ذي المقدّمة أهمّ فلا معجّز مولويّ يوجب سقوط الحرمة وسلب القدرة عنها، بل تكون الحرمة معجّزاً مولويّاً عن إتيان الواجب؛ لأنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً بلا فرق بين المقدّمة المتقدّمة والمقارنة.

نعم، لو كانت المقدّمة مكروهة أو مستحبّة أو مباحة فلا تزاحم ذا المقدّمة، بل يتقدّم ذو المقدّمة عليها، فتسقط هذه الاُمور عند فرضها مقدّمة للواجب.

الرابع: أنّ الذوق آبٍ عن وقوع المقدّمة على صفة الوجوب بعدما

ص: 159

كانت محرّمة ذاتاً على نحو الإطلاق، فلو دخل الأرض المغصوبة لا لأجل إنقاذ الغريق، بل لأجل التنزّه، فلا يمكن القول بأنّ هذا التصرّف، وإن كان في ذاته حراماً، ولكنّه يصبح واجباً؛ لأنّ إنقاذ الغريق يتوقّف عليه، فإنّ تصرّف الشخص في الأرض المغصوبة لم يكن لأجل ذلك، بل إنّما كان قصده إلى شيءٍ آخر، وهو التنزّه - مثلاً -، فالقول بأنّ هذا النحو من التصرّف يقع واجباً ومحبوباً للمولى قولٌيكذّبه الوجدان السليم. ومن هنا، وكما ذكرنا سابقاً، فقد سلك كلّ واحدٍ من العلماء مسلكاً خاصّاً:

فذهب صاحب المعالم) إلى القول بأنّ وجوب المقدّمة مشروط بإرادة ذي المقدّمة. ونصّ كلامه(قدس سره) - في بحث الضدّ - كالتالي:

«وأيضاً: فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر»(1).

وأمّا الشيخ(قدس سره) في التقريرات فقد قيّد وجوب المقدّمة بصورة قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، بقوله: «وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بالواجب الغيريّ لأجل التوصّل به إلى الغير أو

ص: 160


1- المعالم: ص 77.

لا؟ وجهان: أقواهما الأوّل»(1).

وذهب صاحب الفصول(قدس سره) إلى أنّ الوجوب إنّما يرد على المقدّمة الموصلة(2).ولكن قد ذكرنا سابقاً أنّه لا يمكن أن يتقيّد الواجب بهذه القيود. ونحن صحّحنا المقام بالترتّب، بمعنى: تقييد إطلاق النهي بصورة عصيان ذي المقدّمة.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الحرمة الذاتيّة للمقدّمة باقية لم تسقط على نحو الإطلاق، بل الذي يسقط إنّما هو إطلاقها الشامل لحالتي فعل ذي المقدّمة وتركها، مع انحفاظ ما للمقدّمة من الحكم، سواء كان حراماً أو مباحاً أو مستحبّاً أو مكروهاً.

الخامس: ذهب المحقّق النائيني(قدس سره) إلى أنّ حرمة المقدّمة مترتّبة على عصيان وجوب ذي المقدّمة، فعند عدم الإتيان بذي المقدّمة تكون المقدّمة محرّمة بحكم الترتّب. وبعبارة أُخرى: يقع التزاحم بين حرمة المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة، وحيث لم يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال، فلا بأس بالقول بالترتّب، وهو في صورة عصيان ذي المقدّمة، فتبقى المقدّمة على حرمتها.

ص: 161


1- مطارح الأنظار 1: 353.
2- انظر: الفصول الغرويّة: ص 87، قال(قدس سره): «هذا إذا أتى بالمقدّمة وصلةً إلى المطلوب من حيث كونه مطلوباً، وأمّا إذا أتى بها لغيره، فلا ريب في عدم ترتّب الثواب عليها من هذه الجهة...»، إلى آخر ما أفاده(قدس سره).

ولا يخفى: أنّ المقدّمة لا تسقط حرمتها الذاتيّة لمجرّد كونها مقدّمة، بل إنّما تسقط إذا كان وجود ذي المقدّمة أهمّ، وإلّا، تكون حرمتها باقية، وعلى فرض كونهما متساويين، ولم يكن ذو المقدّمة أهمّ، فلا تصل النوبة إلى التخيير ولو قلنا في المتساويين المتزاحمين عقليّاً أو شرعيّاً بأنّ التخيير يكون عقليّاً، إلّا أنّه لا يمكن تصوّره هنا بين المقدّمة وذيها، بل إذا كان ذو المقدّمة أهمّ يكون ذلك سبباً في التعجيز عن المقدّمة وسلب القدرة عنها.وأمّا لو لم يكن أهمّ، بل كانا متساويين، فلا يكون هناك معجّز مولويّ يكون سبباً لسقوط المقدّمة، فحينئذٍ: تبقى المقدّمة على حالها، وهو الحرمة الذاتيّة، بل تكون حرمتها معجّزاً عن وجوب ذيها، بلا فرق بين أن تكون المقدّمة متقدّمةً أو مقارنة؛ لوضوح أنّ التصرّف في ماء الغير إنّما يجب إذا توقّف عليه واجب أهمّ، من إنقاذ نفس محترمة، أو تلف مال كثير. وأمّا لو لم يكن ذو المقدّمة أهمّ، فتكون حرمة التصرّف باقيةً على حالها.

وأمّا المقدّمة المقارنة لذيها بحسب الزمان، فالأقوى جريان الأمر الترتّبيّ فيها أيضاً، ومثالها المهمّ الذي يترتّب عليه الأثر هو باب الضدّين بناءً على مقدّميّة ترك أحدهما للفعل الآخر.

وإشكال استلزام الأمر الترتّبيّ للشرط الآخر لا يأتي هنا؛ لأنّ المفروض كون المقدّمة مقارنة بحسب الزمان.

ص: 162

نعم، يأتي إشكال استلزام الوجوب والحرمة في زمانٍ واحد، كالمقدّمة المتقدّمة بحسب الزمان، ويزداد الإشكال في الضدّين، حيث إنّه يلزم اجتماع الحكمين في كلٍّ من طرف الأهمّ والمهمّ، فإنّ ترك الأهمّ حيث كان مقدّمة للإتيان بالمهمّ الذي فرضناه واجباً بالأمر الترتّبيّ، فيجب ترك الأهمّ من باب المقدّمة، وبالوجوب المقدّميّ، مع أنّه يحرم لوجوب فعل الأهمّ، وكذلك ترك المهمّ يكون مقدّمة لفعل الأهمّ، فيجب من باب المقدّمة، مع أنّه حرام لغرض وجوب فعل المهمّبمقتضى الأمر الترتّبيّ، فيأتي إشكال اجتماع الحكمين المتضادّين في كلٍّ من الأهمّ والمهمّ بناءً على المقدّميّة.

ولكنّ الحقّ: أنّهما ليسا في مرتبة واحدة، فالحرمة في ترك المهمّ تكون في مرتبة تركه وعصيانه، وأمّا الوجوب فإنّما يكون في مرتبة الوصول إلى الأهمّ، وبما أنّ رتبة الوجوب تختلف عن رتبة الحرمة، وليسا في رتبةٍ واحدة، فلا يكون هناك مانع من الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة. هذا في طرف المهمّ.

وأمّا الإشكال في طرف الأهمّ، فلا يندفع بذلك؛ لأنّ الأمر في طرف الأهمّ ليس ترتّبيّاً حتى يتحقّق اختلاف الرتبة، ويصحّ اجتماع كلٍّ من الوجوب والحرمة لمكان اختلاف الرتبة، بل إنّ الأمر في طرف الأهمّ هو الأمر الأوّليّ الذّاتيّ.

إلّا أنّ الذي يسهّل الخطب هو أنّ ترك الأهمّ لا يكون واجباً بالوجوب

ص: 163

المقدّميّ أصلاً، بل ليس حكمه إلّا الحرمة، فإنّ ترك الأهمّ وإن كان مقدّمة وجوديّة لفعل المهمّ، إلّا أنّه مع ذلك يكون مقدّمةً وجوبيّةً له أيضاً؛ لأنّ وجوب المهمّ مشروط بترك الأهمّ، ومعلوم أنّ المقدّمة الوجوبيّة لا تجب بالوجوب المقدّميّ، فترك الأهمّ حرام ليس إلّا، وهو باقٍ على حرمته، ولا يجتمع فيه الحكمان المتضادّان.

السادس: هل يأتي الترتّب فيما إذا كان التزاحم بين الشيئين دائميّاً ولأجل الملازمة بين المتعلّقين؟

الحقّ: عدم جريان الأمر الترتّبيّ في ذلك؛ لأنّه يلزم منه طلب الحاصل، فإنّه لو كان استقبال القبلة الملازم لاستدبارالجدي هو المأمور به الأصليّ، واُريد إثبات وجوب استقبال الجدي بالأمر الترتّبيّ عند عصيان استقبال القبلة، لزم من ذلك طلب استقبال الجدي بعد فرض حصوله، فلا يصحّ أن يقال: إن لم تستقبل القبلة يجب عليك استقبال الجدي؛ لأنّ عدم استقبال القبلة ملازم لاستقبال الجدي خارجاً، فيلزم طلب استقبال الجدي بعد حصوله.

السابع: في إجراء الترتّب بين التدريجين، وهما:

تارةً: يكونان آنيّين كإنقاذي الغريقين، فلا يكون عصيان أحدهما إلّا آنيّاً؛ لأنّه لو تركه وعصى فبمجرّد تركه يسقط الأمر لفوات موضوعه. وبعبارة أُخرى: فليس لهما بقاء واستمرار في وعاء الزمان حتى يكون لعصيانه الذي هو شرط للخطاب المترتّب عليه نحو بقاء واستمرار،

ص: 164

بل يكون هذا العصيان دفعيّاً آنيّاً، من جهة أنّ موضوعه غير قابل للبقاء حتى يستمرّ عصيانه، فإنّ إنقاذ الغريق إذا لم يبادر إليه يصبح الغريق ميتاً، ويسقط الأمر والتكليف.

وأُخرى: يكون أحدهما تدريجيّاً والآخر آنيّاً، كما في الصلاة وإنقاذ الغريق.

وثالثةً: يكون كلّ منهما تدريجيّاً، ولكن عصيان كلّ منهما يتحقّق بمجرّد ترك جزء منه، فلا يكون عصيانه إلّا آنيّاً، نظير الصوم الذي يتحقّق تركه بمجرّد تركه في جزء من النهار، فيسقط الأمر بذلك.

ورابعةً: يكون كلّ منهما تدريجيّاً، وكان عصيان أحدهما، وهو الأهمّ، تدريجيّاً أيضاً، ففي مثال الإزالة والصلاة؛ فإنّوجوب الإزالة مستمرّ، والأمر به لا يسقط بمجرّد العصيان، بل يجب آناً فآناً، فإذا عصاه في الآن الأوّل، يجب الإزالة في الآن الثاني، وهكذا... لما هو معلوم من أنّ وجوب الصلاة ارتباطيّ، فلا يتحقّق امتثاله إلّا بامتثال جميع الأجزاء، وإلّا، فلو فرض بأنّه كبّر ولم يأتِ ببقيّة الأجزاء، ينكشف أنّ التكبير لم يكن واجباً، فالتكبير - مثلاً - إنّما يقع على صفة الوجوب والمطلوبيّة لو أتيت بالتسليم.

ومحلّ الكلام في هذا الأمر هو هذا القسم دون الأقسام الأُخرى، فيبحث في صحّة الترتّب فيه بأن يُؤخذ خطاب الصلاة معلّقاً على عصيان خطاب الإزالة، وهل يمكن إجراء الترتّب بين التدريجيين

ص: 165

مطلقاً أم لا؟ لأنّ وجوب الإزالة باقٍ ومستمرّ في جميع أزمنة امتثال وجوب الصلاة.

وقد يستشكل في جريان الترتّب هنا بما حاصله: أنّ الأمر بالإزالة لمّا كان مستمرّاً ويأتي في جميع آنات الصلاة، وحيث إنّ المهمّ تدريجيّ الحصول، والأمر بالإزالة مستمرّ، فعصيانه في الآن الأوّل وحين الإتيان بالتكبير لا يكفي؛ لأنّ زمانه يكون أقلّ من زمان فعليّة المهمّ الذي هو تدريجيّ الحصول بحسب الفرض، لغرض تجدّد الأمر بالإزالة واستمراره في جميع آنات الصلاة، وعدم سقوطه بمجرّد العصيان؛ لأنّه ليس آنيّ الحصول كي يبقى الأمر بالصلاة بدون مزاحم؛ لأنّ الأهمّ يكون مستمرّاً في أيّ وقت، وله أن يرجع ويهدم المهمّ؛ لأنّ وجوب المهمّ في أزمنة امتثاله منوطبعصيان الأهمّ حتى في آخر أزمنة امتثال الأهمّ، وهذا هو الشرط المتأخّر.

وقد أُجيب عن هذا الإشكال: بأن الشرط هو وصف التعقّب لا واقع التعقّب، وهو شرط مقارن لا متأخّر.

ولكن يرد عليه: أنّ ذلك يحتاج إلى دليلٍ خاصّ، وهو غير موجود، والموجود إنّما هو إطلاقات الأدلّة، وهي لا تكفي لإثبات شرطيّة عنوان التعقّب.

ولكنّ هذا يأتي في كلّ واجب تدريجيّ، فإنّ وجوب التكبيرة وفعليّته مشروط بالقدرة على الجزء الأخير، وهو التسليم، وعليه: فدخالة عصيان

ص: 166

الأمر بالإزالة في ظرف التسليم في وجوب التكبيرة إنّما يكون من جهة أنّ القدرة على التسليم لا تكون إلّا بالعصيان المذكور، ومن هنا قلنا: إنّ الشرط هو عنوان التعقّب، حتى تكون القدرة على الجزء الأوّل منوطة بشرطيّة عنوان التعقّب، فلا يأتي المحذور.

السابع: حكي عن بعض المحقّقين(رحمة الله)(1) أنّه ذكر هنا فرعاً وزعم جريان الترتّب فيه، وهو أنّه لو كان هناك ماء مباح له التصرّف فيه، ولكنّه في إناءٍ يكون استعماله حراماً:

إمّا من جهة كون الإناء مغصوباً، أو من جهة أنّه من ذهبٍ أو فضّة، فيكون وجوب الوضوء مشروطاً بعصيان النهي عن الاستعمال، كما أنّ وجوب الصلاة - بناءً على صحّة الترتّب وإمكانه - يكون مشروطاً بعصيان الأمر بالإزالة،فيكون الوضوء صحيحاً حتى بناءً على احتياج العبادة إلى الأمر.

ولكنّ هذا الذي ذكر إنّما يتمّ فيما لو كان المتوضّئ من مثل ذلك الإناء قد اغترف غرفة كافية لتمام الوضوء؛ فإنّ وضوءه، والحالة هذه، يكون صحيحاً لا إشكال فيه؛ لأنّه بعد عصيانه بالاغتراف بمثل تلك الغرفة صار واجداً للماء وحصل موضوع الوضوء.

وأمّا لو كانت الغرفة لا تكفي إلّا لغسل بعض أجزاء الوضوء، فبعد

ص: 167


1- انظر: منتهى الاُصول 1: 361.

الاغتراف الأوّل لا يصير واجداً للماء، إذ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً؛ لأنّ بقيّة الاغترافات كلّها - أيضاً - محرّمة، والوضوء مشروط بالقدرة الشرعيّة، فلا قدرة عليه ولا ملاك له ولا أمر به.

نعم، لو كان الإناء غير منحصر، وكان هناك إناء آخر فيه ماء مباح، مع كونه هو مباحاً أيضاً، واغترف منه غرفة، فبما أنّ القدرة على جنس استعمال الماء تكون موجودة، فوضوؤه يكون صحيحاً.

ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) من أنّه «لو كان استعمال الكأس والإناء جائزاً من جهة تخليص مائه فيما إذا كان الماء ملكاً له، ولم يكن وجوده في الإناء بسوء اختياره، بل كان قد غصب الإناء - مثلاً - أو صبّه فيه جهلاً بالموضوع أو غفلة، فخارج عن الفرض، ويكونالوضوء صحيحاً بلا ريب، ولا يحتاج إلى أمر ترتّبيّ أصلاً»(1).

الثامن: أنّ الترتّب لا يجري في باب اجتماع الأمر والنهي، بناءً على أنّ التركيب فيهما انضماميّ، لا اتّحاديّ؛ لأنّه بناءً على الثاني يدخلان في باب التعارض، وأمّا بناءً على الانضمام، فإنّه لا يجري الترتّب؛ لأنّه يلزم إمّا طلب الممتنع وإمّا طلب الحاصل؛ فإنّه لو قال: (لا تغصب، فإن عصيتَ فصلِّ)، فليس المراد به العزم والقصد على الغصب، بل المراد التلبّس.

فحينئذٍ: إذا كان المراد منه التلبّس والعصيان والغصب الصلاتيّ

ص: 168


1- منتهى الاُصول 1: 361.

فصلّى، كان هذا تحصيلاً للحاصل؛ لأنّ المراد بالغصب هو الذي يحصل في ضمن الصلاة، فهو موجود، وإن كان المراد الغصب غير الملازم للصلاة، كان هذا طلباً للممتنع، وإن كان المراد ما هو أعمّ يلزم كلا المحذورين.

ص: 169

ص: 170

مبحث النواهي

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: في الفرق بين صيغة الأمر وصيغة النهي:

لا يخفى: أنّ النواهي كالأوامر ترد على الطبائع الكلّيّة، والفرق بينهما فقط في أنّ المراد في الأمر هو وجود الطبيعة، وفي النهي هو الترك.

قال صاحب الكفاية(قدس سره): «الظاهر: أنّ النهي بمادّته وصيغته في الدلالة على الطلب مثل الأمر بمادّته وصيغته، غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما الوجود، وفي الآخر العدم»(1).

فعنده(قدس سره)أنّ الاختلاف بينهما ينحصر في المتعلّق، فمتعلّق الأمر هو نفس الفعل، وأمّا متعلّق النهي فهو الترك، وإلّا، فالمستفاد من كلٍّ من النهي والأمر مادّةً وصيغة، شيء واحد، وهو الطلب. ومن هنا رأى الآخوند)أنّه «يعتبر فيه [أي: في النهي] ما استظهرنا اعتباره فيه [أي: في

ص: 171


1- كفاية الاُصول: ص 149.

الأمر] بلا تفاوت أصلاً»(1)، فكما يعتبر في صدق الأمر لزوم صدوره من العالي، فكذلك النهي.ولكنّ هذا الرأي لم يتّفق عليه الأعلام، بل خالفه بعضهم، فذهب إلى اختلاف النهي بمادّته وصيغته مع الأمر مفهوماً، وأنّ ما ذهب إليه صاحب الكفاية يتنافى مع الوجدان لوجهين:

الأوّل: انتقاضه ببعض الواجبات المطلوب فيها الترك، كالصوم، مع أنّها لا تعدّ من المحرّمات، بل من الواجبات.

الثاني: أنّ مراجعة الوجدان تشهد بأنّ النهي ينشأ عن مفسدة في الفعل يكون بها مبغوضاً للمولى ومتعلّقاً لكراهته فيزجر عبده عنه، فواقع النهي يختلف عن واقع الأمر، فإنّه كراهة الفعل، والأمر إرادة الفعل، كما أنّ المنشأ في النهي هو الزجر عن الفعل، والمنشأ في الأمر طلبه والبعث إليه، فيختلف الأمر والنهي مفهوماً ومادّةً وصيغةً، ومتعلّقهما واحد، وهو الفعل(2).

ص: 172


1- المصدر نفسه.
2- يستفاد هذا الكلام من حاشية للاُستاذ الأعظم(قدس سره) على تقريرات المحقّق النائيني)، حيث قال(قدس سره): «التحقيق أنّ متعلّق النهي إنّما هو الفعل، ومعنى النهي عنه هو الزجر عنه الناشئ عن اشتماله على المفسدة، فالنزاع في كون المطلوب في النواهي هو الكفّ عن الفعل أو نفس تركه باطل من أصله. نعم، ربّما يكون الترك مطلوباً لاشتماله على المصلحة الداعية إلى طلبه، لكنّ ذلك يرجع إلى إيجاب الترك، وهو أجنبيّ عن تحريم الفعل كما هو ظاهر». انتهى موضع الحاجة من كلامه«. انظر: أجود التقريرات: 1: 327، الهامش رقم2، هذا. وسيأتي نقل هذا الكلام لاحقاً في المتن.

ولكنّ الحقّ: ما ذكرناه أوّلاً، من أنّ حقيقة النهي ليست سوى أنّه طلب الترك؛ ذلك لأنّ مفهوم النهي ليس إلّا طلب الترك وعدم الفعل، ولا تعلّق له بالفعل، وأمّا الانزجار عن الفعل فليس إلّا لازم إرادة ترك العمل التي هي حقيقة النهي الصادر عن المولى.

وليس هناك موجب للقول بأنّ النهي بمعنى الكفّ، بدعوى أنّ الترك هو العدم الأزليّ، وهو ليس اختياريّاً، فلا يمكن أنتتعلّق به المطلوبيّة؛ بل العدم الأزليّ - بوجهٍ من الوجوه - يُعدّ أمراً اختياريّاً؛ فإنّ القدرة إنّما تتعلّق بالعدم باعتبار بقائه، فنفس العدم الأزليّ وإن كان خارجاً عن الاختيار، إلّا أنّ إبقاءه أمر اختياريّ للمكلّف، لقدرته على كلا الطرفين، أعني: نقض الاستمرار وإبقاءه، فإنّه بمجرّد كونه قادراً على الأوّل يكون قادراً على الثاني لا محالة. وعلى هذا الأساس: فالإعراض عن مقولة أنّ النهي هو طلب الترك إلى مقولة أنّه ليس إلّا طلب الكفّ عن الفعل، بزعم عدم معقوليّة تعلّق الطلب بالترك في غير محلّه.

الأمر الثاني:

عرفنا أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فكما أنّ الأمر إنّما يتعلّق بالشيء باعتبار وجود المصلحة الملزمة فيه، فباعتبار التقابل بين الأمر والنهي، فإذا ورد النهي على شيء فإنّما يرد عليه باعتبار وجود المفسدة الملزمة فيه. فالأمر - إذاً - هو النسبة الطلبيّة الوجوديّة، والنهي هو النسبة الطلبيّة العدميّة.

ص: 173

وأمّا ما أفاده المحقّق العراقيّ) من «أنّ المادّة حاكية عن وجود تلك الماهيّة، سواء كانت في الجمل الخبريّة أو الإنشائيّة، والإنشائيّة سواء كانت في الأوامر أو النواهي، فلابدّ وأن يكون مفاد النهي معنىً قابلاً لأن يتعلّق بالوجود،وليس هو إلّا الزجر والردع، كما أنّه في الأمر يُسمّى ﺑ- «البعث»(1).

وكذا ما أفاده اُستاذنا الأعظم(قدس سره)في حاشيته على أجود التقريرات بقوله: «التحقيق: أنّ متعلّق النهي إنّما هو الفعل، ومعنى النهي عنه هو الزجر عنه الناشئ عن اشتماله على المفسدة، فالنزاع في كون المطلوب في النواهي هو الكفّ عن الفعل أو نفس تركه باطل من أصله. نعم، ربّما يكون الترك مطلوباً لاشتماله على المصلحة الداعية إلى طلبه، لكنّ ذلك يرجع إلى إيجاب الترك، وهو أجنبيّ عن تحريم الفعل كما هو ظاهر»(2).

ففيه: أنّه كما أنّ الب-عث من ل-وازم الأم-ر، ولي-س نفسه، فالزجر - أيضاً - يكون من لوازم ترك الشيء، وليس نفس النهي، وبالجملة: فليسا بموضوعين للبعث والزجر؛ لأنّهما اسميّان، ومفاد الهيئة معنىً حرفيّ.

ص: 174


1- حكاه في منتهى الاُصول 1: 377، وانظر: مقالات الاُصول 1: 347، ونهاية الأفكار 2: 402.
2- أجود التقريرات 1: 327، الهامش رقم 2.

الأمر الثالث:

ذكرنا أنّ مقتضى الأمر هو طلب إيجاد الطبيعة، ومقتضى النهي هو طلب ترك الطبيعة، ويحصل الأوّل بأوّل وجودات الطبيعة، بخلاف الثاني؛ فإنّه لا يحصل إلّا بترك جميعأفرادها، والحاكم بهذا الفرق بينهما هو العقل كما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره)، حيث قال - ما لفظه -:

«ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار، كما لا دلالة لصيغة الأمر، وإن كان قضيّتهما عقلاً تختلف، ولو مع وحدة متعلّقهما، بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها تعلّق بها الأمر مرّةً والنهي أُخرى، ضرورة أنّ وجودها يكون بوجود فردٍ واحد، وعدمها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع، كما لا يخفى»(1).

وتوضيحه: أنّ حصول الطبيعة في الأمر يكون بمجرّد إيجاد فردٍ منها، وذلك لانطباق الطبيعة عليه قهراً؛ لأنّ وجود الفرد وجودها، فإنّ وجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج ما هو إلّا وجود نفس الفرد، وبمجرّد وجود الفرد يكون الغرض قد حصل، وذلك موجب لسقوط الأمر.

وأمّا في طرف النهي فإنّ عدم الطبيعة متوقّف على عدم جميع أفرادها عقلاً؛ لأنّ المطلوب هو ترك الطبيعة، ولا يحصل الترك إلّا بترك جميع أفرادها، الطوليّة منها والعرضيّة، ولذا، لو أتى بفرد واحد يكون قد عصى

ص: 175


1- كفاية الاُصول: ص 149.

النهي، فيسقط بالعصيان.

هذا، ولكنّ هذا الفرض، إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ المطلوب في باب النواهي إنّما هو السلب الكلّيّ، وبنحو العامّ المجموعيّ. وأمّا لو قلنا بأنّه بنحو العامّ الاستغراقيّ، بحيث يكون لكلّوجود عصيان بحقّه، ولكلّ فرد امتثال وعصيان مستقلّ، غير مربوط بعصيان أو امتثال سائر الأفراد، فمن الواضح حينئذٍ: أنّ النهي لا يسقط بمجرّد العصيان في أحد الأفراد.

وقد استشكل فيما ذكره صاحب الكفاية اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بما لفظه:

«وعلى هدي ذلك البيان الإجماليّ قد ظهر أنّه لا أصل لما هو المشهور من أنّ صرف وجود الطبيعة يتحقّق بأوّل الوجود، وصرف تركها لا يمكن إلّا بترك جميع أفرادها، والوجه في ذلك: هو أنّ صرف ترك الطبيعة كصرف وجودها، فكما أنّ صرف وجودها يتحقّق بأوّل الوجود، فكذلك صرف تركها يتحقّق بأوّل الترك، ضرورة أنّ المكلّف إذا ترك الطبيعة في آنٍ ما، لا محالة يتحقّق صرف الترك، كما أنّه لو أوجدها في ضمن فردٍ ما يتحقّق صرف الوجود، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، وهذا لعلّه من الواضحات الأوّليّة». انتهى موضع الحاجة(1).

وملخّص ما أفاده(قدس سره): أنّ ما ذكره في الكفاية إنّما يتمّ لو كان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل، إذ يُقال: إنّ متعلّقه صرف الوجود، وأمّا بناءً

ص: 176


1- محاضرات في اُصول الفقه 3: 278 (المجلّد 45 في موسوعة الإمام الخوئيّ(قدس سره)).

على أن النهي عبارة عن طلب الترك - الذي عليه صاحب الكفاية(قدس سره)، وهو المختار - فلا يتمّ ما ذكر، إذ متعلّق الطلب هو صرف ترك الفعل، وهو - كصرف الوجود- يتحقّق بأوّل ترك، فلا يتوقّف امتثال النهي على ترك جميع الأفراد، لتحقّق صرف الترك بدونه.

وفيه:

أوّلاً: أنّه لا يمكن أن يقال بأنّ النهي موضوع للزجر؛ لأنّه - كما تقدّم - معنى اسميّ والهيئة معنىً حرفيّ.

وثانياً: سلّمنا أنّه يدلّ على الزجر بالملازمة، إلّا أنّ الوجدان شاهد على أنّ النهي لا يتحقّق الامتثال فيه إلّا بترك جميع الأفراد، وهذا لا يفرّق فيه بين أن نقول بأنّ النهي هو الزجر، أو بأنّ لازمه هو الزجر، فهذا الإشكال غير واردٍ أصلاً.

وقد يُتصوّر للنهي وجه آخر، وهو فرض أنّ النهي يكون متعلّقاً بمجموع الأفراد، بحيث لو ارتكب البعض لم يحصل العصيان، ولم يخالف النهي. نعم، لو ارتكب الجميع يكون عاصياً، كما يُقال: (لا تأكل كلّ رمّانة في هذا البستان)، فبما أنّ المنهيّ عنه هنا هو أكل الجميع، فلو أكل البعض فلا محذور.

الأمر الرابع:

أنّ النهي قد يتعلّق بعنوانٍ بسيط وصفة تحصل من ممارسة الفعل المنهيّ عنه، وذلك كعنوان شارب الشاي، فإنّه لا يحصل إلّا مع المعاودة

ص: 177

والممارسة، ومثله عنوان: شارب الخمر، فلو اكتفى بشرب مقدار فقط لم يصدق عليه هذا العنوان، فيكون المقصود من قوله - مثلاً - : (لا تشربالشاي)، أي: لا تكن ممّن تعوّد شربه، فلو شرب مقداراً لم يوجب تعوّده وحدوث مثل هذه الصفة فيه ما خالف النهي، فلو خالف النهي وأتى بالعمل بالمنهيّ عنه فهل مقتضاه الاستمرار بعد المخالفة أم لا؟

ذهب صاحب الكفاية(قدس سره) إلى أنّه «لا دلالة النهي على إرادة الترك لو خولف، أو عدم إرادته، بل لابدّ من تعيين ذلك من دلالة، ولو كان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة، ولا يكفي إطلاقها من سائر الجهات، فتدبّر جيّداً»(1).

يعني: التمسّك بإطلاق المتعلّق من جهة العصيان، فيقال إنّ مقتضاه ثبوت النهي له مطلقاً، عصى النهي أم لم يعصِ، ويكون مقتضى هذا الإطلاق ثبوت النهي وتعلّقه بالفعل بنحو العموم الاستغراقيّ، فينحلّ إلى أفرادٍ متعدّدة بتعدّد أفراد الفعل، فإذا عصى أحدها بقي الآخر على حاله.

ثمّ هل هناك فرق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة؟

لا يخفى: أنّ إطلاق الاستمرار والدوام الكاشفين عن المفسدة، على الإطلاق، أو بنحو التقييد، وأنّ الحكم بالاستمرار، سواء استفيد من

ص: 178


1- كفاية الاُصول: ص 150.

الوضع أو الخارج، فإنّما هو فيما إذا تعلّق النهي بمطلق الطبيعة، حيث إنّ عدم هذه الطبيعة متوقّف على ترك جميع الأفراد، بلا فرق بين أن تكون عرضيّة أو طوليّة، وأمّا إذا كان النهي وارداً علىالطبيعة المقيّدة بزمانٍ أو حال، فإنّ الاستمرار يكون منوطاً بذلك الزمان أو الحال.

وهذا - كما تقدّم - هو ما ذهب إليه صاحب الكفاية(قدس سره) الذي رأى أنّه لا يستفاد من صيغة النهي إلّا ترك الطبيعة، سواءً كانت مطلقة أو مقيّدة. وأمّا ترك جميع الأفراد، فيفهم من العقل، لا من الصيغة، على أنّه لو عصى الفرد الأوّل فيحرم عليه الفرد الثاني والثالث، وهكذا... ولا دلالة للصيغة على عدم حرمة الفرد الثاني والثالث، وهكذا... بل لا يفهم سقوط النهي بمجرّد عصيانه أوّلاً.

والحقّ: عدم دلالة نفس الطبيعة على كلّ فرد فرد حتى يكون من العامّ الاستغراقيّ، بل إنّما يفهم ترك جميع الأفراد بحكم العقل، وأمّا الصيغة فلا دلالة لها على حرمة الجميع.

وقد يُقال: بأنّ إرادة الترك وعدمه إنّما تفهم من دليلٍ آخر، كالإجماع أو الضرورة أو غيرهما، ولو بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، ببيان أنّه لو كان متعلّق النهي مختصّاً ببعض الأفراد لنبّه عليه، وإلّا، لكان مخلّاً بالغرض، وبما أنّه في مقام البيان، لا الإجمال والإهمال، فعدم تخصيصه ببعض الأفراد دون بعض، يدلّ على أنّ مراده هو الطبيعة على نحو الوجود الساري، ومعه: يكون المطلوب هو ترك كلّ الوجودات، بحيث

ص: 179

لو عصيت في فرد لم يسقط التكليف عن بقيّة الأفراد، بل تكون الحرمة باقية بالنسبة إلى البقيّة.

وهذا، وإن كان ينسجم مع ما ذكره صاحب الكفاية) في مبحث النواهي، إلّا أنّه لا ينسجم مع ما ذكره في مبحثالمطلق والمقيّد من أنّ استفادة الاستغراق وغيره إنّما تنشأ من قرينة خاصّة، وليست هي مفاد الإطلاق، فإنّ مفاد مقدّمات الحكمة ليس إلّا إرادة ذات الطبيعة من غير تقييد، فلاحظ مبحث المطلق والمقيّد من الكفاية(1).

وقد استدلّ اُستاذنا الأعظم(قدس سره) في حاشيته على أجود التقريرات بهذا البيان: على أنّ امتثال النهي لا يكون إلّا بترك جميع الأفراد، وهذا الشيء هو الفارق بين الأمر والنهي. قال): «قد عرفت آنفاً أنّ ما تعلّق به النهي هو بعينه متعلّق الأمر، غاية الأمر: أنّ النهي عنه يكون زاجراً عنه، والأمر به يكون باعثاً إليه، فلا يبقى لدعوى أنّ متعلّق النهي هو صرف ترك الطبيعة ولذا لا يتحقّق امتثاله إلّا بترك جميع أفرادها مجال أصلاً، هذا مع أنّ صرف الوجود كما يتحقّق بأوّل وجود من الوجودات، كذلك صرف الترك، يتحقّق بأوّل ترك من التروك، فما يكون هو الفارق بين الأمر والنهي»(2).

ص: 180


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 247.
2- أجود التقريرات 1: 328، الهامش رقم 1.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني(قدس سره) فرّق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة، ببيان: «أنّ ترك الطبيعة تارةً يكون مطلوباً استقلالاً وملحوظاً بنحو المعنى الاسميّ، بأن يكون المطلوب خلوّ صحيفة الوجود عن تلك الطبيعة، فيكون ترك الأفراد - حينئذٍ - ملازماً للمطلوب، لا نفسه. وأُخرى: يكون مرآةًوبنحو المعنى الحرفيّ، توصّلاً به إلى طلب ترك أفرادها، فالمطلوب في الحقيقة هو ترك نفس تلك الأفراد، ويلزمه خلوّ صحيفة الوجود عن الطبيعة، ويتفرّع على الأوّل أنّه إذا عصى النهي بإيجاد فردٍ من تلك الطبيعة سقط النهي، ولا يبقى لامتثاله بعده مجال أصلاً، وأمّا على الثاني: فعصيان النهي بإيجاد بعض أفراد المنهيّ عنه لا يوجب سقوطه عن غيره من أفراد الطبيعة المنهيّ عنها؛ لأنّ النهي إذا كان انحلاليّاً، وكان كلّ فرد من أفراد المنهيّ عنه محكوماً بحكم مستقلّ، فسقوط النهي في بعض الأفراد لا يوجب سقوطه في غيره»(1).

ولكن ينبغي أن يُعلم أنّ هناك - كما ذكره الاُستاذ الأعظم) - قسماً آخر، وهو تعلّق الطلب بمجموع التروك، فيكون ترك كلّ فردٍ في هذا القسم جزءاً من المطلوب، لا نفسه، ولا جزء ما يلازمه(2).

وكيف كان، فقد ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) أنّ «هذا القسم [يعني: القسم

ص: 181


1- أجود التقريرات 1: 329.
2- راجع: المصدر نفسه، الهامش رقم 1.

الثاني] هو الغالب في موارد النهي، سواء كان له موضوع خارجيّ تدور فعليّة الحكم مدار فعليّته، كما في (لا تشرب الخمر)، أم لم يكن له ذلك، بل كان المتعلّق للنهي فعل المكلّف الذي لا تعلّق له بموضوع خارجيّ، كما في (لا تكذب)؛ لأنّ الغالب أنّ النهي ينشأ عنالمفسدة في متعلّقه، فلا محالة يشترك جميع الأفراد في تلك المفسدة، وذلك يستلزم انحلال النهي إلى نواهٍ متعدّدة بتعدّد أفراد الطبيعة المنهيّ عنها، من دون فرق في ذلك بين كون ترك الطبيعة مطلوباً نفسيّاً، كما في المثالين المتقدّمين، وكونه مطلوباً غيريّاً، كما في النهي عن الصلاة في النجس؛ لأنّ النهي في كلا المقامين ظاهر في الانحلال، وأنّ الطلب النفسيّ أو الغيريّ متعلّق بترك كلّ فردٍ فرد، لا بترك نفس الطبيعة بنحو المعنى الاسميّ»(1).

ثمّ إنّه(قدس سره) فرّق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة، فقال:

«ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ النهي بالنسبة إلى الأفراد العرضيّة، وهي الأفراد التي يمكن للمكلّف إيجاد كلّ واحد منها فعلاً، إنّما هو بأخذ ترك الطبيعة حال تعلّق الطلب به فانياً في معنوناته، التي هي عبارة عن ترك كلّ واحدٍ واحد من الأفراد الخارجيّة، وأمّا انحلال النهي بالنسبة إلى الأفراد الطوليّة وبقاؤه في الآن الثاني بعد امتثاله في الآن الأوّل، فهو إنّما يمكن بأحد وجهين:

ص: 182


1- المصدر نفسه.

الأوّل: أن يؤخذ الزمان في ناحية المتعلّق، بأن يكون شرب الخمر في كلّ زمان - مثلاً - محكوماً بالحرمة، فيكون الشرب في الآن الثاني حراماً، وإن امتثل النهي في الزمان الأوّل بترك تمام أفراد الطبيعة.الثاني: أن يؤخذ الزمان في ناحية الحكم، بأن يكون الحكم المتعلّق بترك الطبيعة باقياً في الأزمنة اللّاحقة، وبما أنّه لا دليل على أخذ الزمان في ناحية المتعلّق، ولا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله آناً ما، كان دليل الحكمة مقتضياً لبقاء الحكم في الأزمنة اللاحقة أيضاً».

ثمّ استشكل على نفسه قائلاً:

«فإن قلت: إنّ ما ذكرته من ثبوت الحكم وبقائه في الآن الثاني كثبوته في الآن الأوّل ينافي ما أفتى به الفقهاء في باب النذر من أنّه إذا تعلّق النذر بترك فعل، كشرب التتن ونحوه، فحرمته تسقط بمجرّد تحقّق العصيان آناً ما، فلا يحرم النذر وعلى الناذر شربه بعد ذلك. نعم، لو قصد الناذر ترك شربه في كلّ آنٍ، بنحوٍ يكون الزمان قيداً للموضوع، لبقي الحكم بعد تحقّق الحنث أيضاً».

وأجاب(قدس سره):

«قد عرفت أنّ استمرار الحكم وبقاءه إنّما هو بدليل الحكمة، ودليل الحكمة في المقام إنّما يجري قبل تحقّق الحنث، وأمّا بعده فلا مقتضي لبقاء الحكم أصلاً؛ لأنّ المفروض أنّ الحرمة لم تنشأ عن مفسدة في شرب التتن ليشترك فيها جميع أفراده العرضيّة والطوليّة، بل الحرمة إنّما

ص: 183

نشأت عن مفسدة في الحنث، فإذا تحقّق في الخارج لم يبقَ مقتضٍ لبقاء الحكم واستمراره بعده، وهذاهو الفارق بين موارد النذر وموارد النواهي الناشئة من المفاسد المتحقّقة في نفس متعلّقاتها»(1).

ولكن لا يخفى: أنّ في كلامه(قدس سره) مواضع للنظر:

منها: أنّه لا فرق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة، فإنّ الطبيعة المنهيّ عنها إذا كانت مطلقة وغير مقيّدة بزمان خاصّ، كان مقتضى إطلاقها هو وجوب تركها في كلّ آنٍ من الآنات، وأنّها غير مختصّة بآنٍ دون آن، فتكون الأفراد الطوليّة كالعرضيّة منهيّاً عنها بلا فرق في ذلك أصلاً.

ومنها: أنّ النذر يتبع في وجوب وفائه قصد ناذره، فقد يكون مراد الناذر هو ترك الفعل بنحو العامّ الاستغراقيّ، فحينئذٍ: حتى لو حنث في بعض الأفراد، فيجب عليه الوفاء بنذره بالنسبة إلى بقيّة الأفراد، وأمّا إذا كان قصده ترك الفعل بنحو العامّ المجموعيّ، فلم يبقَ لوجوب الوفاء بعد الحنث ولو مرّةً واحدةً محلّ أصلاً، ويسقط الطلب، ولو شكّ الناذر بعد نذره في كيفيّته، فأصالة البراءة عن الزائد على وجوب واحد تقتضي جواز إيجاد الفعل بعد تحقّق الحنث بارتكاب ذلك الفعل مرّةً واحدة.

إلى غير هذين من الإشكالات، فليتأمّل.

ص: 184


1- المصدر نفسه: ص 329 - 331.

مسألة اجتماع الأمر والنهي

اشارة

يقع الكلام في هذه المسألة في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وامتناعه، وقبل الدخول في البحث ينبغي التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل:

لا يخفى: أنّ النزاع هنا صغرويّ وليس بكبرويّ، وإن أوهم العنوان ذلك؛ إذ من المسلّم والمفروغ عنه أنّ الأحكام متضادّة فيما بينها، وبعد فرض تضادّ الأحكام، فلا معنى للقول بالجواز، بل هو غير قابل للنزاع.

فما عنون به القوم النزاع بأنّه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي وجهين أو لا، تبعاً لغيرهم من المتقدّمين، ليس على ما ينبغي، وإنّما النزاع في أنّه هل يلزم من تعلّق النهي والأمر المطلقين بطبيعتين متضادّتين في مورد واحد اجتماع الأمر والنهي، حتى يجب

ص: 185

تقييد أحد المطلقين بالآخر؟ أو لا يلزم ذلك، بل يمكن أن يتعقّل للأمر محلّ وللنهي محلّ، ولو اجتمعا في مصداق واحد وكان بينهما عموم وخصوص من وجه؟

وبعبارة أُخرى: النزاع صغرويّ، وهو أنّه هل أنّ المسألة من صغريات باب التعارض باعتبار اجتماع الضدّين فيمورد واحد، حتى لا يمكن مثل هذا الجعل والتشريع، أو لا يلزم ذلك، حتى يكون من باب التزاحم ويكون حكمه حكم المتلازمين المختلفين في الحكم إذا كان التلازم اتّفاقيّاً؟

الأمر الثاني:

المراد بالواحد الذي وقع في عنوان هذا البحث أعمّ من أن يكون واحداً شخصيّاً، كما إذا اجتمع العنوانان: الصلاة والغصب في خصوص صلاة زيد في المغصوب؛ فإنّ هذه الحركات الخاصّة تكون - حينئذٍ - تصرّفاً في المغصوب؛ لامتناع صدق هذه الحركة الشخصيّة على كثيرين فتكون - لا محالة - جزئيّة، ويصحّ حمل كلّ من الصلاة والغصب عليها أيضاً، أم كلّيّاً، كالصلاة في المكان المغصوب، حيث إنّها مصداق لطبيعتين، وهما: الصلاة والغصب، بحيث يصحّ حمل كلٍّ منهما على الحركات الصلاتيّة الواقعة في المغصوب.

ومن المعلوم: أنّ الصلاة في المغصوب كلّيّ ينطبق على أفراد كثيرة، كصلاة زيدٍ وعمرو وغيرهما فيه، فهذه الحركات من حيث إنّها

ص: 186

مصداق للصلاة تكون محبوبة، ومن حيث إنّها مصداق للغصب تكون منهيّاً عنها.

قال في الكفاية(قدس سره): «المراد من الواحد مطلق ما كان ذا وجهين ومندرجاً تحت عنوانين، بأحدهما كان مورداً للأمر وبالآخر للنهي، وإن كان كلّيّاً مقولاً على كثيرين، كالصلاة في المغصوب، وإنّما ذكر لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمروالنهي ولم يجتمعا وجوداً، ولو جمعهما واحد مفهوماً، كالسجود للّه تعالى والسجود للصنم - مثلاً -، لا لإخراج الواحد الجنسيّ أو النوعيّ كالحركة والسكون الكلّيّين المعنونين بالصلاتيّة والغصبيّة»(1).

وقد يستشكل فيما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) بما حاصله:

أنّه لا معنى لأن يفرض الواحد في موضوع النزاع هو الواحد في الوجود، إذ إنّ القول بالامتناع يبتني على وحدة الوجود، والقول بالجواز يبتني على تعدّده، فكيف يفرض إرادة الواحد في الوجود في العنوان الذي يكون موضوع النفي والإثبات وموضوع القول بالجواز والقول بعدمه؟

وقد التزم المحقّق النائيني(قدس سره) بأنّ المراد بالواحد هو الواحد بالإيجاد، لا الواحد بالوجود، وهو لا يستلزم وحدة الوجود، إذ يمكن تحقّق

ص: 187


1- كفاية الاُصول: ص 150.

وجودين بإيجادٍ واحد، كإيجاد الحركة الغصبيّة الصلاتيّة، فإنّه يحقّق وجود الصلاة ووجود الغصب، فيقع البحث في أنّه في موردٍ يوجد متعلّق الأمر والنهي بإيجاد واحد، هل الوجود واحد فيمتنع الاجتماع، أو متعدّد فيجوز(1)؟

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ الإيجاد والوجود مختلفان ذاتاً، وأمّا بناءً على ما قرّر في محلّه من أنّهما متّحدان ذاتاًمختلفان مفهوماً واعتباراً، فيمتنع أن يفرض وحدة الإيجاد وتعدّد الوجود.

وممّا ذكرنا يظهر: فساد ما صنعه صاحب الفصول(قدس سره)، حيث خصّ المورد بالواحد الشخصيّ، فقال):

«الوحدة قد تكون بالجنس، وهذا ممّا لا ريب في جواز الاجتماع فيه في الجملة، كالسجود، حيث اجتمع فيه الأمر والنهي باعتبار إيقاعه له تعالى وللصنم.. إلى أن يقول: وقد تكون الوحدة بالشخص، وحينئذٍ: فإن اتّحدت الجهتان، أعني: الطبيعة المأمور بها والطبيعة المنهيّ عنها، أو تغايرتا وانحصرت أفراد النوع الأوّل في الثاني ولو اتّفاقاً، أو تعلّقتا بجزئيٍّ ابتداء، وما جرى مجرى ذلك، فلا ريب في عدم جواز الاجتماع فيه.. إلى قوله: وإن اختلفت الجهتان وكان للمكلّف مندوحة في الامتثال، فهو موضع النزاع».. هذا موضع الحاجة من كلامه«(2).

ص: 188


1- انظر: أجود التقريرات 1: 340.
2- الفصول الغرويّة: ص 124.

وجه الفساد: أنّ خروج هذه المسألة، وهي السجود ﷲ تعالى والسجود للصنم، عن محلّ البحث تخصّصيّ؛ إذ لا تصادق - أصلاً - بين السجود للّه والسجود للصنم، ومحلّ البحث إنّما هو ما إذا كان هناك فرد واحد وقد أصبح هذا الفرد مصداقاً لعنوانين، فلو لم يكن كذلك، كان خارجاً عن محلّ النزاع تخصّصاً وموضوعاً، وهنا كذلك، فحيث لم يتصادق السجودان على فردٍ واحد، كان بينهما تمام التباين،وكانا غير قابلين للاتّحاد. نعم، هما يتّحدان بحسب المفهوم، ولكنّ هذا غير مفيد، إذ المفيد إنّما هو الاتّحاد من ناحية المصداق.

الأمر الثالث:

ما الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة؟

الحقّ: أنّ هناك فرقاً بينهما، فإنّ مسألة الاجتماع يبحث فيها عن أنّ متعلّق النهي هل هو عين متعلّق الأمر أم لا؟ أي: هل تعدّد الجهة يوجب تعدّد المتعلّق حتى تخرج المسألة عن الواحد الذي يمتنع الاجتماع فيه، فإذا ورد الأمر على طبيعة الصلاة والنهي على طبيعة الغصب، فهل موردهما واحد، فيسري كلّ منهما من متعلّقه إلى متعلّق الآخر أم لا؟

وأمّا مسألة النهي في العبادة فالمبحوث عنه فيها هو أنّ النهي في العبادة هل هو موجب للفساد أم لا؟ بعد الفراغ عن أنّ متعلّق الأمر والنهي واحد.

ص: 189

وأمّا ما قد يُقال: من أنّ الفرق بين المسألتين هو أنّ النزاع في مسألة الاجتماع عقليّ، وأمّا في تلك المسألة فلفظيّ.

ففيه: أنّ هذا لا يصلح لأن يكون فارقاً؛ بل إنّما يكون هناك فرق بينهما فيما إذا رجع البحث إلى تعدّد الجهة وعدمه، وأمّا إذا لم يرجع إلى ذلك فلا يكون هناك فارق، بل لا يكون هذا إلّا من التفصيل في حيّز المسألة الواحدة، كأن يقال: بأنّه إمّاأن يجوز الاجتماع عقلاً وإمّا أن لا يجوز؛ وإمّا أن يدلّ النهي لفظاً على الحرمة أو الفساد، أو أن يدلّ الأمر لفظاً على الصحّة والوجوب، وإما أن لا يدلّ.

أضف إلى ذلك: أنّ مسألة اقتضاء النهي للفساد ليست مختصّة بالدلالة اللّفظيّة، بل يمكن استفادتها من الإجماع وغيره، بأنّ يقال - مثلاً -: الحرمة المستفادة من الإجماع هل تقتضي الفساد أم لا؟

الأمر الرابع:

اشارة

هل هذه المسألة اُصوليّة أم أنّها من المبادئ الأحكاميّة أم المسائل الكلاميّة أم المبادئ التصديقيّة أم من المسائل الفرعيّة؟

ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) أنّه «يمكن أن تكون المسألة كلاميّة باعتبار أنّها يبحث فيها عن استحالة اجتماع الحكمين في موردٍ واحد وجوازه، وبما أنّ الأمر والنهي من الاُمور الواقعيّة، يصحّ البحث عن امتناع اجتماعهما وجوازه»(1).

ص: 190


1- أجود التقريرات 1: 332.

وفيه:

أوّلاً: ما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره)من أنّ «المسائل الكلاميّة وإن كانت مسائل عقليّة، إلّا أنّه ليس كلّ مسألة عقليّة يتكلّمفيها عن الاستحالة والإمكان مسألة كلاميّة، وذلك ظاهر لا يكاد يخفى»(1).

وثانياً: أنّ المسائل الكلاميّة ليست عقليّة بأجمعها، بل قسم منها عقليّ، وقسم منها ضروريّ، إمّا من ضروريّات الدين أو المذهب، وقسم منها يثبت بنصّ كتاب أو بنصٍّ متواتر أو بإجماع قطعيّ أو بخبر الواحد المحفوف بالقرائن القطعيّة.

وثالثاً: على فرض التنزّل، فنقول: ليس كلّ مسألة يبحث فيها عن الاستحالة والإمكان وتكون مسألة عقليّة تخرج عن كونها من المسائل الاُصوليّة.

ثمّ قال المحقّق النائيني): «ويمكن أن تكون المسألة فرعيّة باعتبار أنّه يُبحث فيها عن صحّة الإتيان بالمجمع وحصول الامتثال به وعدمها»(2).

وفيه: أنّ البحث عن صحّة عبادة أو معاملة، كالبحث عن صحّة الصلاة في المغصوب - مثلاً - وعدمها، أو عن وجوب إعادتها أم لا، وإن كان من الأبحاث الفقهيّة، إلّا أنّ البحث في المقام ليس بحثاً عن صحّة العبادة وفسادها؛ لأنّ البحث في محلّ الكلام متمحّض في لزوم

ص: 191


1- نفس المصدر، الهامش رقم 2.
2- أجود التقريرات 1: 332 - 333.

اجتماع الحكمين في فعلٍ واحد وعدم لزومه، وأمّا الحكم بصحّة العبادة على القول بالجواز فهو ثمرة من ثمراته، لا أنّه بنفسه هو محلّ الكلام في المقام.ثمّ قال المحقّق النائيني(قدس سره): «ويمكن أن تكون المسألة من المبادئ الأحكاميّة باعتبار أنّه يبحث فيها عن استلزام حرمة الشيء ووجوبه لعدم الآخر وعدم استلزامه له، فيكون البحث فيها نظير البحث عن استلزام وجوب الشيء لوجوب مقدّمته أو لحرمة ضدّه، غاية الأمر: أنّ البحث فيهما عن لازم حكمٍ واحد، وفيما نحن فيه عن لازم حكمين»(1).

وفيه: أنّه بعد أن ثبت أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة قطعاً، فكلّ واحد من هذه الأحكام يستلزم عدم غيره، وليس ذلك محلّ الكلام هنا أصلاً، وإنّما البحث هنا - كما عرفنا - في لزوم اجتماع الحكمين في فعلٍ واحد وعدم لزومه.

ثمّ خلص المحقّق النائينيّ) إلى القول بأنّ «التحقيق: أنّ المسألة من المبادئ التصديقيّة [والمراد بها - كما هو معلوم - المسائل التي تبتني عليها المسائل الاُصوليّة] ضرورة أنّه لا يترتّب فساد العبادة على القول بالامتناع، بل القول به يوجب دخول دليلي الوجوب والحرمة في باب التعارض وإجراء أحكامه عليهما ليستنبط من ذلك حكم فرعيّ، وقد

ص: 192


1- أجود التقريرات 1: 333.

عرفت فيما تقدّم: أنّ الميزان في كون المسألة اُصوليّة هو ترتّب نتيجة فرعيّة عليها بعد ضمّ صغرى نتيجة تلك المسألة إليها، وليس ذلك متحقّقاً فيما نحن فيه قطعاً، وعليه: فالنزاع في الجهة الأُولى يدخل في مبادئ بحثالتعارض، كما أنّ النزاع في الجهة الثانية يدخل في مبادئ بحث التزاحم»(1).

ولكنّ الصحيح: أنّ هذه المسألة اُصوليّة؛ لأنّ المسألة الاُصوليّة إنّما هي المسألة التي تقع كبرى لقياس يستنتج منه الحكم الكلّيّ الشرعيّ، وهو ما ينطبق على المقام، والبحث فيها بحث عن كفاية تعدّد الجهة أو عدم كفايتها.

ومن هنا ظهر الحال في ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) بقوله: «أنّه حيث كانت نتيجة هذه المسألة ممّا تقع في طريق الاستنباط، كانت المسألة من المسائل الاُصوليّة، لا من مبادئها الأحكاميّة ولا التصديقيّة ولا من المسائل الكلاميّة ولا من المسائل الفرعيّة، وإن كانت فيها جهاتها كما لا يخفى، ضرورة أنّ مجرّد ذلك لا يوجب كونها منها إذا كانت فيها جهة أُخرى يمكن عقدها معها من المسائل، إذ لا مجال - حينئذٍ - لتوهّم عقدها من غيرها في الاُصول، وإن عقدت كلاميّة في علم الكلام، وصحّ عقدها فرعيّةً أو غيرها بلا كلام، وقد عرفت في أوّل الكتاب أنّه لا ضير

ص: 193


1- أجود التقريرات: 1: 333 - 334.

في كون مسألة واحدة يبحث فيها عن جهةٍ خاصّة من مسائل علمين، لانطباق جهتين عامّتين على تلك الجهة، كانت بإحداهما من مسائل علم، وبالأُخرى من آخر، فتذكّر»(1).فإنّ البحث فيها ليس عن جهاتٍ متعدّدة، كما أنّ ضابطة المسألة الاُصوليّة، وهي وقوعها كبرى لقياسٍ يستنتج منه الحكم الكلّيّ الشرعيّ، متوفّرة فيها.

ثمّ هل تُعدّ هذه المسألة من المسائل العقليّة أم لا؟

الظاهر: أنّها من المسائل العقليّة؛ لأنّ الحاكم فيها إنّما هو العقل، فإنّه هو الذي يحكم بالاستحالة إذا رأى أنّ المجمع في مورد التصادق واحد. وقد يحكم بالجواز، إذا رأى التعدّد، وإن كان العرف يرى الوحدة؛ لأنّ بناء العرف غالباً - كما هو معلوم - على المسامحة، وإلّا، فبالمداقّة العقليّة قد يرى العقل التعدّد؛ لأنّ متعلّق الأمر في نظره يكون طبيعةً مغايرةً للطبيعة التي هي متعلّق النهي.

وبما أنّ الحاكم في مسألة الاجتماع هو العقل، فلا يُفَرّق فيها بين أن يكون الدليل الدالّ عليهما، هو اللّفظ، أو غيره، كالإجماع والضرورة، فإنّ هذا لا يُغيّر من واقع كون المسألة العقليّة شيئاً.

ومن هنا ظهر: فساد القول المنسوب إلى المحقّق الأردبيليّ(قدس سره) في

ص: 194


1- كفاية الاُصول: 152.

شرح الإرشاد(1)، وهو التفصيل بالجواز عقلاً والامتناع عرفاً، بمعنى: أنّ اللّفظ يدلّ عرفاً على الامتناع، وهذه الدلالة تكشف عن كون النزاع في دلالةالأمر والنهي على الجواز وعدمه، وهما ظاهران في الطلب بالقول، فتكون المسألة لفظيّةً أيضاً، إذ لو كانت عقليّة محضة، لم يكن وجه للامتناع العرفيّ الذي مرجعه إلى ظهور اللّفظ في الامتناع.

إذ فيه:

أوّلاً: أنّ المقام ليس من الموارد التي يناط فهمها إلى العرف؛ فإنّ نظر العرف إنّما يكون متّبعاً في تعيين سعة المفهوم وضيقه، وأمّا في محلّ البحث، وهو كفاية تعدّد الجهة وعدمها، بحيث يسري النهي من متعلّقه إلى ما تعلّق به الأمر أو لا يسري، فهذا ليس من شأن العرف، بل الحاكم به إنّما هو العقل.

وثانياً: على فرض التنزّل، فليس فهم العرف من جهة دلالة اللّفظ حتى تكون المسألة لفظيّة.

نعم، يمكن أن توجّه دعوى التفصيل بالتوجيه التالي، وهو أن يُقال: بما أنّ فهم العرف مبنيّ على المسامحة غالباً - بل دائماً - فهو يرى الواحد ذو الجهتين، كالصلاة في المغصوب، شيئاً واحداً، وأمّا العقل فبما أنّه

ص: 195


1- نسبه إليه في شرح الإرشاد 2: 110، وفي مطارح الأنظار 1: 611، ثمّ قال بعد أسطر: «وقد يُنسب ذلك إلى فاضل الرياض(قدس سره) أيضاً، وكأنّه مسموع منه شفاهاً».

مبنيّ على المداقّة، فهو يراه شيئين؛ لأنّ ما تعلّق به الأمر - في نظره - مغاير لما تعلّق به النهي، فيجوز الاجتماع في نظره، دون نظر العرف.

وبعبارة أُخرى: فالواحد ذو الوجهين بالنظر العقليّ اثنان، وأمّا بالنظرالعرفيّ فهو واحد، ومن هنا يُحكم بالامتناع عرفاً.

فإن لم يكن مراد المفصّل ما ذكرناه من الامتناع العرفيّ، الذي مرجعه إلى كون الواحد ذي الوجهين واحداً بنظرالعرف، لم يكن للامتناع العرفيّ معنىً محصّل؛ لأنّ امتناع اجتماع الضدّين حكم عقليّ، فلا معنى لجوازه عقلاً وامتناعه عرفاً.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ معناه المحصّل دلالة كلٍّ من الأمر والنهي على عدم صاحبه، فالأمر يدلّ على اتّصاف متعلّقه بالمحبوبيّة المحضة، والنهي يدلّ على اتّصاف مبغوضيّة متعلّقه كذلك، ومن المعلوم: امتناع اجتماعهما في واحد؛ لاستلزامه اجتماع النقيضين، وهما المطلوبيّة وعدمها، والمبغوضيّة وعدمها.

وخلاصة الكلام: أنّ مسألتنا هذه تعدّ من المستقلّات غير العقليّة، شأنها في ذلك شأن بقيّة المسائل التي تكون من هذا القبيل، كمسألة مقدّمة الواجب، والمراد بغير المستقلّات العقليّة المسائل التي تكون إحدى مقدّمتيها غير عقليّة والأُخرى عقليّة، في قبال المستقلّات، وهي التي تكون كلتا مقدّمتيها عقليّة، كحكم العقل بحسن الشيء أو قبحه، ثمّ حكمه بأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

ص: 196

فالثاني هو الذي يحكم العقل بوجوبه، كحكمه بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها، فهذه مقدّمة عقليّة صرفة، ولكن ينضمّ إليها حكم الشرع بوجوب ذي المقدّمة، وإنّما عبّر عنها بالمقدّمة العقليّة تغليباً لجانب العقل. فالعقل هنا مستقلّ بالحكم، والحاكم هو وحده؛ لأنّه هو الذي يدرك الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، وهو - أيضاً - الذي يحكم بالاستحالة.وليس المراد من كون المسألة من غير المستقلّات أنّ العقل لا يحكم على نحو الاستقلال، بل المراد أنّه يحتاج إلى ضمّ مقدّمة أُخرى غير المقدّمة العقليّة التي حكم بها هو باستقلاله حتى تحصل النتيجة.

الأمر الخامس:

لا يخفى: أنّ النزاع هنا يشمل جميع موارد الأمر والنهي، بلا فرق بين أن يكون الأمر والنهي نفسيّين أو غيريّين.

وقد ذكر ذلك صاحب الكفاية(قدس سره)، كما تعرّض إلى أنّه قد يدّعى انصراف لفظ الأمر والنهي المأخوذين في عنوان المبحث إلى خصوص النفسيّين التعيينيّين العينيّين. ثمّ حكم عليها بأنّها دعوى تعسّفيّة في مادّة الأمر والنهي. نعم، هي غير بعيدة في صيغة الأمر والنهي، ثمّ منعها فيها أيضاً، وذكر أنّ الثابت ظهور الصيغة في ذلك بالإطلاق، وهو غير منعقد هنا؛ لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة، إذ القرينة على العموم ثابتة، وهي

ص: 197

عموم الملاك وجريان النقض والإبرام في جميع الأقسام.

وإليك نصّ كلامه«:

«لا يخفى: أنّ ملاك النزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعمّ جميع أقسام الإيجاب والتحريم، كما هو قضيّة إطلاق لفظ الأمر والنهي، ودعوى الانصراف إلى النفسيّين التعيينيّين العينيّين في مادّتهما غير خالية من الاعتساف، وإن سُلّم في صيغتهما. مع أنّه فيها ممنوع.نعم، لا يبعد دعوى الظهور والانسباق من الإطلاق بمقدّمات الحكمة الغير الجارية في المقام، لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام، وكذا ما وقع في البين من النقض والإبرام...» إلى آخر كلامه)(1).

وبالجملة: فإذا قلنا باستحالة الاجتماع، وبلزوم اجتماع الضدّين بعد التسليم بفرض وحدة المجمع، فكما أنّه لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم النفسيّين فيه، فكذلك لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الغيريّين، فكما أنّه لا يمكن أن يكون شيء واحد واجباً نفسيّاً وحراماً نفسيّاً إذا كان المتعلّق واحداً؛ لامتناع أن يكون الشيء الواحد مصداقاً للمأمور به والمنهيّ عنه معاً، فكذلك لا يمكن أن يكون شيء واحد واجباً غيريّاً وحراماً غيريّاً؛ لأنّ تعلّق الأمر الغيريّ به يعني وجوب إتيانه مقدّمة للغير، وتعلّق النهي الغيريّ به يعني النهي عن فعله مقدّمة للغير، فيلزم أن

ص: 198


1- كفاية الاُصول: ص 152 - 153.

يكون شيء واحد محبوباً باعتبار أنّه مقدّمة لشيء، ومبغوضاً باعتبار أنّه مقدّمة لذلك الشيء، ومحال أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهيّ عنه معاً، ولو كانا غيريّين.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ كون شيءٍ مقدّمة لواجب يقتضي محبوبيّته، كما أنّ كونه مقدّمة لحرام يقتضي مبغوضيّته، ومن المعلوم أنّه لا يمكن تأثير كلٍّ منهما في مقتضاه، كما أنّهلا يمكن تأثير المصلحة والمفسدة في تحريم شيء واحد وحرمته معاً.

وأيضاً: لا يفرّق بين أن يكون الوجوب والحرمة على نحو العينيّة أو على نحو الكفائيّة، فإنّه لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الكفائيّين؛ لوضوح أنّه لا يمكن أن يكون في فعلٍ واحد ما يقتضي وجوبه وما يقتضي تحريمه ويؤثّر كلّ منهما في مقتضاه، من دون فرق بين أن يكون المكلّف بهما آحاد المكلّفين، كما في التكاليف العينيّة، أو الطبيعيّ الجامع للأفراد كما في التكاليف الكفائيّة.

وأمّا لو كان الوجوب والحرمة تعيينيّين فعدم إمكان الاجتماع واضح، وكذا لو كانا تخييريّين، فقد ذكرنا أنّه لا فرق بين الواجب التعيينيّ والتخييريّ، وإنّما الكلام في التخييريّ في أنّ الواجب ليس واحداً على نحو التخيير، أي الواحد المردّد، بل يكون كلّ واحد من الأفراد واجباً بخصوصه، فإذا أتيت بأحدهما يسقط الأمر، لعدم بقاء الموضوع.

ذكر اُستاذنا الأعظم(قدس سره) أنّه لا يمكن «اجتماع الوجوب والحرمة

ص: 199

التخييريّين في شيءٍ واحد ليقع التنافي بينهما. والوجه فيه هو: أنّ الحرمة التخييريّة تمتاز عن الوجوب التخييريّ في نقطة واحدة، وتلك النقطة تمنع عن اجتماعهما في شيء واحد، وهي: أنّ مردّ الحرمة التخييريّة إلى حرمة الجمع بين فعلين باعتبار قيام مفسدة ملزمة بالمجموع، لا بالجامع بينهما، وإلّا، لكان كلّ من الفعلينمحرّماً تعييناً، لفرض أنّ النهي المتعلّق بالجامع ينحلّ بانحلال أفراده، فيثبت لكلّ فرد منه نهي مستقلّ»...

إلى أن يقول:

«ومردّ الوجوب التخييريّ إلى إيجاب الجامع بين شيئين أو أشياء، لا إلى إيجاب كلٍّ منهما بخصوصه، كما تقدّم بيان ذلك في بحث الواجب التخييريّ بشكلٍ واضح، وبعد ذلك نقول: إنّه لا تنافي بين إيجاب الجامع بين شيئين وحرمة الجمع بينهما، لا بحسب المبدأ ولا بحسب المنتهى»(1).

أمّا بحسب المبدأ؛ فلأنّه لا مانع من أن يكون لكلّ واحد منهما مصلحة ملزمة قائمة به، بحيث لو أتى بأحدهما لاستوفى تلك المصلحة، ولم يبقَ بعد ذلك مصلحة وحكم حتى يمكن استيفاؤها بالإتيان الآخر، وأن يكون هناك مفسدة ملزمة قائمة بالمجموع منهما؛ فإنّ المصلحة الملزمة حينئذٍ تكون قائمة بالجامع بينهما، والمفسدة الملزمة تكون قائمة بالمجموع

ص: 200


1- محاضرات في اُصول الفقه 3: 385 - 386.

منهما، ومعلوم أنّ المانع إنّما هو قيام كلتيهما في شيءٍ واحد، لا قيام إحداهما بشيء والأُخرى بشيءٍ آخر، وهذا واضح.

وأمّا بحسب المنتهى؛ فلفرض أنّ المكلّف قادر على امتثال كلا التكليفين معاً؛ لأنّه إذا أتى بأحدهما وترك الآخر، فقد امتثل كلّاً من الوجوب والحرمة.والحاصل: أنّنا نفهم من عموم الملاك وإطلاق الأمر والنهي في العنوان أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي تشمل جميع أقسام الإيجاب والتحريم، باستثناء الواجب والحرام التخييريّين؛ خلافاً لصاحب الكفاية) الذي رأى أنّ البحث يأتي حتى فيهما.

ثمّ إنّه قد يُدّعى الانصراف إلى النفسيّين والعينيّين والتعيينيّين، وأنّ هذا يفهم من الإطلاق بمقدّمات الحكمة؛ لأنّ غير هذه الثلاثة يحتاج إلى مؤونة زائدة، كما هو مقرّر في محلّه، فعدم البيان يكون كاشفاً عن عدم إرادة غيرها.

ولكن قد عرفنا أنّ هناك قرينة، وهي عموم الملاك، فتكون هذه القرينة مانعة من الأخذ بالإطلاق؛ لأنّها بيان، ومعلوم أنّ الأخذ بالإطلاق منوط بعدم البيان.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الحكم الذي يرد على الطبيعة إنّما يرد عليها لا باعتبار أنّها موجودة، أي مقيّدة بالقيد الذهنيّ؛ لأنّ الذي يكون كذلك من المحال أن يوجد في الخارج، بل يكون من قبيل الكلّيّ العقليّ الذي

ص: 201

لا موطن له إلّا العقل، ولا ينطبق على الخارج، بل لو أوجد هذه الطبيعة في الذهن مرّتين فبما أنّها مقيّدة بالوجود الذهنيّ فهي في كلّ مرّة مباينة للأُخرى، بلا فرق بين أن تكون من المفاهيم المتأصّلة، أي: التي لها ما بإزاء في الخارج، كمفهوم الإنسان، أو من المفاهيم الاعتباريّة، كالملكيّة، أو الانتزاعيّة، كالفوقيّة والتحتيّة.

هل تتعلّق الأحكام بالطبائع أم بالأفراد؟

فإذا عرفت هذا، يقع الكلام في أنّ الأحكام هل تتعلّق بالطبائع أم بالأفراد؟

وقبل الدخول في البحث نتكلّم في أنّ الكلّيّ الطبيعي هل هو قابل للوجود في الخارج أم لا؟ وعلى هذا هل هو وجوده عين وجود أفراده أو أنّه يوجد بوجود أفراده؟ فالنزاع في وجود الطبيعيّ في الخارج أو عدم وجوده فيه إنّما هو في هذه النقطة، ضرورة أنّه - وكما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره) -:

«لم يدّعِ أحد أنّه موجود في الخارج بوجود مباين لوجود فرد، كما أنّ القول بأنّه موجود بوجود واحد لا بعينه باطل من رأسه، ضرورة أنّ الواحد بعينه لا مصداق له في الخارج ولا تعيّن له، والوجود له تعيّن ومصداق فيه، ففرض وجوده خارجاً يناقض فرض عدم تعيّنه فيه، فلا يجتمعان»(1).

ص: 202


1- محاضرات في اُصول الفقه 3: 194.

فإذا عرفت هذا، فالنزاع الذي وقع بينهم في أنّ الأمر تعلّق بالطبيعة، ليس المراد منها الطبيعة المقيّدة بالقيد الذهنيّ، أي: الصرفة، مع قطع النظر عن أن تكون قنطرة إلى الخارج؛ لأنّ مثل هذه الطبيعة محال أن توجد في الخارج، فلا يتعلّق بها الأمر. كما أنّ من قال بأنّ الأمر وردعلى الأفراد ليس مراده أنّ الأمر قد تعلّق بالموجودات الخارجيّة؛ لأنّ تعلّق الطلب بما هو موجود في الخارج فعلاً يسلزم طلب حصول الحاصل، كما أنّ الموجود الخارجيّ مسقط للأمر، فلا يمكن أن يتعلّق به الأمر، وإلّا، كان ظرف سقوط الأمر هو نفس ظرف تعلّق الأمر.

فإذا عرفت أنّ وجود الكلّيّ عين وجود أفراده في الخارج، فالنزاع في تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد يدور - في الحقيقة - مدار أنّ الطبيعة، أي: الكلّيّ الطبيعيّ، هل هي موجودة في الخارج أم لا؟ فعلى الأوّل: يتعلّق الأمر بالطبيعة، وعلى الثاني يتعلّق بالفرد.

فإنّ القائل بوجود الكلّيّ الطبيعيّ خارجاً يقول بجواز نسبة الوجود إلى الطبيعة حقيقةً، على اعتبار أنّ للوجود في الخارج نسبتين: نسبةً للفرد، ونسبةً للطبيعة.

وأمّا المنكر لوجوده، فيدّعي أنّه لا يصحّ نسبة الوجود إليها حقيقةً.

فإذا اتّضح هذا، فالقائل بالجواز يرى أنّ الأحكام تتعلّق بالطبيعة، وانّ المتعلّق متعدّد ماهيّةً، وإن اتّحد وجوداً، لكونه عبارة عن طبيعتين متغايرتين ماهيّةً، فلا مانع من اجتماع الحكمين، والقائل بالامتناع يرى

ص: 203

اتّحادهما وجوداً وماهيّةً، والواحد لا يتحمّل حكمين متضادّين. هذا بناءً على تعلّق الأحكام بالطبائع.

وأمّا بناءً على تعلّقها بالأفراد، فلا محيص عن القول بالامتناع، ولا وجه للجواز على هذا القول أصلاً؛ لأنّهموجب لاجتماع الضدّين في مورد واحد. ومن هنا قد يُقال: بأنّ نزاع الجواز وعدمه مبنيّ على تعلّق الأحكام بالطبائع دون الأفراد.

ثمّ إنّه هل لابدّ من اعتبار مندوحة في محلّ البحث أم لا؟

ذكر صاحب الكفاية) أنّ البعض قيّد عنوان النزاع بوجود المندوحة، إذ مع عدم المندوحة في مقام الامتثال لا إشكال في الامتناع ولا خلاف، ومحلّ الخلاف مورد وجود المندوحة.

وذكر أنّه ربّما قيل بأنّ إطلاق العنوان وعدم تقييده إنّما هو لأجل وضوح ذلك.

قال(قدس سره): «السادس: أنّه ربّما يؤخذ في محلّ النزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال، بل ربّما قيل بأنّ الإطلاق إنّما هو للاتّكال على الوضوح، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال»(1).

وقد مرّ أنّه لابدّ أن يكون المتعلّق مقدوراً، وكذلك مرّ أنّه لا يمكن توجيه الخطاب إلى العاجز، لحكم العقل بقبح تكليف العاجز.

ص: 204


1- كفاية الاُصول: ص 153.

وبعبارة أُخرى: فإنّه بناءً على أنّ حقيقة الأمر هي عبارة عن البعث إلى أحد طرفي المقدور بحيث تكون القدرةمأخوذة في ماهيّة الأمر وحقيقته، فالمحذور يرجع إلى مرتبة الجعل.

وأمّا بناءً على أنّ اشتراطه بها من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز، فالمحذور يرجع إلى مرتبة الامتثال.

فإن كان وجه الاشتراط هو الأوّل: فلأنّ نفس الخطاب والتكليف يوجب ذلك؛ لأنّ المتعلّق يكون هو الحصّة المقدورة دون الأعمّ منها ومن غيرها، فلا ينطبق على غير المقدور؛ لأنّ المقيّد بقيد لا يمكن انطباقه على فاقده.

وأمّا إن كان الوجه هو الثاني: فليس في نفس الأمر ومقام توجّه الخطاب أيّ قصور، ولا يجيء من قبله تضييق وتقييد في جانب المتعلّق بكونه مقدوراً، فالأمر إنّما يتعلّق بالطبيعة المجرّدة عن هذا القيد. نعم، العقل يحكم بعدم شموله لغير المقدور، وخروج الفرد غير المقدور عن تحت الأمر بحكم العقل لا يوجب تقييداً في المتعلّق بكونه مقدوراً، بل المأمور به هو نفس الطبيعة من دون أيّ قيد، فينطبق على المجمع كانطباقه على سائر الأفراد.

وقد يقال هنا: إنّ الخلاف في جواز الاجتماع وعدمه يختصّ بصورة وجود المندوحة حتى يكون للمكلّف القدرة على الطبيعة، وأن يكون متمكّناً من فعل الصلاة - مثلاً - في غير المكان المغصوب، لأنّه بناءً

ص: 205

على كلا المسلكين، فإذا فرض وجود المندوحة، فإنّه يمكن توجّه الأمر إلى الصلاة باعتبار أنّ طبيعتها تكون مقدورة للمكلّف، وليس هناك من تكليف بالمحال، ثمّ بعد إمكان توجّه الخطاب يُبحثعن جواز الاجتماع وعدمه، فبناءً على عدم جواز الاجتماع يُتعامل معهما معاملة المتعارضين، فلو فرض ترجيح جانب الأمر فلا نهي في البين حتّى يقال بعدم إمكان الإتيان بالمجمع وعدم وقوع الامتثال؛ لأنّ المورد مثل الموارد التي لا نهي فيها.

وأمّا لو فرض ترجيح جانب النهي، فلا يكون هناك أمر؛ إذ لا ملاك فيه؛ لأنّ الجمع حرام، فلو أتيت بالصلاة لم يقع الامتثال، فلا يسقط الأمر المفروض وروده على الطبيعة.

وأمّا بناءً على جواز الاجتماع، فعلى القول بعدم إمكان توجّه الخطاب إلى غير المقدور، تكون القدرة مأخوذة في المتعلّق، بل في ماهيّة الأمر، فلابدّ أن يكون الفرد مقدوراً، فلو أتيت بالمجمع لم يكن مفيداً؛ لأنّ المأمور به - بناءً على هذا الوجه - إنّما هو الحصّة المقدورة، فلا ينطبق على غير المقدور؛ لما ذكرناه آنفاً من أنّ المقيّد بقيد لا يمكن أن ينطبق على فاقده.

وأمّا على الوجه الثاني، وهو أنّه لا يشترط في الأمر أن يتوجّه إلى الحصّة المقدورة، بل العقل هو من يحكم بعدم شموله لغير المقدور، فليس هناك قصور من جانب الخطاب، بل الأمر يتعلّق بالطبيعة غير

ص: 206

المقيّدة بهذا القيد، فخروج الفرد المقدور عن تحت الأمر بحكم العقل لا يوجب تقييداً في المتعلّق بكونه مقدوراً، بل المأمور به هو نفس الطبيعة من دون أيّ قيد، فعلى القول بالجواز: ينطبق على المجمع كانطباقه على سائر الأفراد كما عرفنا فيما مرّ.ولكنّ صاحب الكفاية) لم يشترط وجود المندوحة، حيث قال - ما نصّه -: «ولكنّ التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها فيما هو المهمّ في محلّ النزاع من لزوم المحال، وهو اجتماع الحكمين المتضادّين، وعدم الجدوى في كون موردهما موجّهاً بوجهين في رفع غائلة اجتماع الضدّين أو عدم لزومه، وأنّ تعدّد الوجه يجدي في رفعها، ولا يتفاوت في ذلك أصلاً وجود المندوحة وعدمها. ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع»(1).

وملخّص كلامه(قدس سره): أنّ الكلام في عدم جواز اجتماع الأمر والنهي - كما مرّ - تارةً يتصوّر في مرحلة الجعل، وأُخرى في مرحلة الامتثال. فالنظر في الأُولى إلى أنّه هل يمتنع تعلّق حكمين متضادّين في أنفسهما - مع قطع النظر عن مقام الامتثال - بشيء واحد ذي وجهين أم لا؟ والنظر في الثانية إلى أنّه هل يصحّ التكليف بأمر غير مقدور للمكلّف أم لا؟

والعمدة والغرض الأصليّ من البحث في مسألة الاجتماع هو

ص: 207


1- كفاية الاُصول: ص 153.

المقام الأوّل؛ لأنّ محطّ النزاع هو كون تعدّد الموجّه مجدياً في تعدّد المتعلّق حتى يجوز اجتماع حكمين متضادّين، ويرتفع به غائلة اجتماع الضدّين، أو عدم كونه مجدياً في ذلك وأنّه كوحدة الجهة في لزوم اجتماع الضدّين؟

وبالجملة: فمركز البحث مقام الجعل دون الامتثال، والمندوحة أجنبيّة عن محلّ الكلام.وأمّا اُستاذنا الأعظم(قدس سره) فقد ذكر أنّه لا دخل في هذه المسألة بمسألة المندوحة، «والوجه في ذلك: ما تقدّم من أنّ النزاع في المسألة إنّما هو في سراية النهي من متعلّقه إلى ما تعلّق به الأمر وبالعكس، وعدم سرايته. وقد سبق أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين: الأوّل: كون المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً. الثاني: الالتزام بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر. كما أنّ القول بالجواز يرتكز على أمرين هما: تعدّد المجمع، وعدم سراية الحكم من أحدهما إلى الآخر، كما هو الصحيح، ومن الواضح جدّاً أنّه لا دخل لوجود المندوحة في ذلك أبداً».

ثمّ قال): «هذا من ناحية. ومن ناحية أُخرى: قد ذكرنا أنّه يترتّب على القول بالامتناع والسراية وقوع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع، والتكاذب بينهما فيه بحسب مرحلة الجعل، بحيث لا يمكن أن يكون كلّ منهما مجعولاً على نحوٍ يشمل مورد الاجتماع، فإنّ

ص: 208

ثبوت كلّ منهما في مرحلة الجعل يستلزم كذب الآخر في تلك المرحلة وعدم ثبوته فيها، وهذا معنى التعارض بينهما، فإذاً، لابدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض لتشخيص الكاذب عن الصادق، وقد تقدّم بيان ذلك بشكلٍ واضح. وعلى القول بالجواز وعدم السراية وقوع التزاحم بينهما فيما إذا لم تكن مندوحة في البين، لما عرفت من أنّه إذا كانت مندوحة فلا تزاحم أصلاً، لفرض تمكّنالمكلّف عندئذٍ من امتثال كليهما معاً، ومعه: لا مزاحمة بينهما.

نعم، إذا لم تكن مندوحة فلا محالة تقع المزاحمة بينهما؛ لعدم تمكّن المكلّف وقتئذٍ من امتثال كليهما معاً، فإذاً: لابدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة»(1).

وخلاصة كلامه: أنّه على القول بالامتناع يترتّب وقوع المعارضة بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع، سواء أكانت هناك مندوحة أم لم تكن، فلا أثر لوجود المندوحة وعدم وجودها بالإضافة إلى هذا القول أصلاً.

وعلى القول بالجواز يترتّب وقوع التزاحم بينهما، إذا لم تكن مندوحة في البين لا مطلقاً.

ولكن قد عرفت أنّه بناءً على مبنى المحقّق النائيني(قدس سره) فلابدّ من وجود

ص: 209


1- محاضرات في اُصول الفقه 3: 387 - 388.

المندوحة حتى يأتي هذا البحث؛ لأنّه لا يمكن توجّه الخطاب، لأنّ الطبيعة غير مقدورة للمكلّف. فحتى لو فرض إمكان توجّه الخطاب، فإنّ الامتناع يكون عقليّاً.

نعم، بناءً على ما ذهب إليه، فهل يكون متعلّق الأحكام هو المفاهيم المتأصّلة، أي: التي لها تأصّل في عالم الخارج، أم الاُمور الخارجيّة، أم المفاهيم الانتزاعيّة التي ليس لها تأصّل في الخارج، أم الاُمور الاعتباريّة، أم لا؟ بل هو من قبيل الكلّيّ الطبيعيّ، موطنه العقل، ولا ينطبق على الخارج أصلاً، وإنّما يكون منشأ انتزاعه في الخارج؟وفي مقام الجواب نقول: إنّ متعلّق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلّيّة التي يمكن انطباقها في الخارج على الأفراد والمصاديق الخارجيّة، بشتّى ألوانها وأشكالها. وتلك الطبائع الكلّيّة قد قيّدت بقيوداتٍ متعدّدة، مثلاً: الصلاة مقيّدة بقيودات كثيرة، من حيث الزمان أو المكان والمصلّي أو من حيث نفسها، فلو لاحظنا طبيعة الصلاة - مثلاً - نجد أنّها مقيّدة من جهة الزمان بالأوقات الخمسة، أي: أنّها واجبة، ولكن لا على الإطلاق، بل وجوبها إنّما هو في زمان خاصّ، وكذلك من ناحية المكان، فلابدّ أن تقع في مكانٍ غير مغصوب، وكذا من ناحية المصلّي، فلابدّ أن يكون حائزاً على الشروط العامّة، من البلوغ والعقل، ولابدّ أن يكون غير حائض، وكذا الحال من ناحية نفسها، كالطهور والقيام واستقبال القبلة، وغير ذلك من القيود.

ص: 210

ولا يخفى: أنّ هذه القيود لا توجب إلّا تضييق دائرة انطباق الطبيعة على أفرادها في الخارج، ولا توجب خروجها عن الكلّيّة.

فإذا عرفت هذا، فنقول:

إنّ المراد من الواحد في محلّ الكلام هو مقابل المتعدّد، لا في مقابل الكلّيّ، بمعنى: أنّ المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد، وليس بمتعدّد، بأن يكون مصداق المأمور به في الخارج غير مصداق المنهيّ عنه، ولو كان كلّيّاً قابلاً للانطباق على كثيرين، فالمراد من الواحد في محلّ الكلام هو ما يشمل كلّاً من الواحد الشخصيّ والنوعيّ والجنسيّ، أي:أنّ هذه الحصّة بما لها من الأفراد تكون مجمعاً لهما، ومحلّاً للتصادق والاجتماع، في مقابل ما إذا لم يكن كذلك، بأن يكون مصداق المأمور به حصّة، ومصداق المنهيّ عنه حصّة أُخرى مباينة للأُولى بما لها من الأفراد.

وبذلك يظهر: أنّه يخرج عن محلّ البحث أمثال السجود إذا تعلّق بها نهي أو أمر، كالسجود ﷲ تعالى والسجود للملائكة - مثلاً -؛ لأنّ الأمر هنا قد تعلّق بحصّة، والنهي بحصّة أُخرى، فالحصّتان متباينتان، وليس هناك شيء واحد يكون مجمعاً للأمر والنهي، بل مصداق المأمور به غير مصداق المنهيّ عنه.

كما يظهر أيضاً: أنّه لا فرق في محلّ البحث بين أن يكون متعلّق الأمر والنهي هو الطبائع أو الأفراد، فما قد يقال: من أنّ المتعلّق لو كان هو

ص: 211

الطبايع فنقول بالجواز؛ لتعدّد متعلّق الأمر والنهي ذاتاً وإن اتّحدا وجوداً، وأمّا لو كان هو الأفراد فنقول بالامتناع؛ لكون المتعلّق حينئذٍ شخصاً وجزئيّاً حقيقيّاً، ومن المعلوم: امتناع تحمّله لحكمين متضادّين، فلا محيص حينئذٍ عن القول بالامتناع.

بل الحقّ: أنّ تعدّد الوجه في مسألة الاجتماع إن كان مجدياً في تعدّد المتعلّق بحيث لا يضرّ معه الاتّحاد الوجوديّ، فذلك مجدٍ حتى على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد، لكون الموجود الخارجيّ الموجّه بوجهين مجمعاً لفردين موجودين بوجود واحد يتعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهي.وان لم يكن تعدّد الوجه مجدياً في تعدّد المتعلّق، فلابدّ من البناء على الامتناع حتى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع؛ لاتّحاد الطبيعتين المتعلّقتين للأمر والنهي وجوداً، فالاتّحاد الوجوديّ إن كان مانعاً عن تعدّد المتعلّق، كان مانعاً مطلقاً، بلا فرق بين تعلّق الأحكام بالطبايع والأفراد، وإن لم يكن مانعاً عنه لم يكن مانعاً كذلك.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ المجمع لابدّ أن يكون ذا ملاكين، أي: لابدّ أن يكون كلّ من المتعلّقين ذا ملاك بعدما فرضنا أنّ المورد من صغريات باب التزاحم حتى في مورد الاجتماع، فالصلاة في الدار المغصوبة - مثلاً - إنّما تكون مجمعاً لمتعلّقي الأمر والنهي إذا كان ملاكا الأمر والنهي مجتمعين فيها، حتى يحكم - بناءً على الجواز - بكون الصلاة في الدار المغصوبة

ص: 212

مجمعاً محكوماً فعلاً بحكمين؛ لأنّ كلا الملاكين موجودان فيه، وعدم التنافي بينهما من ناحية أُخرى، وحتى يُحكم - بناءً على الامتناع - بأنّ الصلاة في الدار المغصوبة محكومة بما هو أقوى الملاكين.

هذا، إذا كان أحد الملاكين أقوى، وأمّا لو لم يكن أحدهما أقوى، فالصلاة في الأرض المغصوبة حينئذٍ تكون محكومةً بحكمٍ آخر غير الوجوب والحرمة، كالإباحة، بمقتضى الأصل اللّفظيّ أو العمليّ.

فإذا لم يكن كلّ من المتعلّقين واجداً للملاك، يخرج المورد - حينئذٍ - عن مسألة الاجتماع، بلا فرق بين أن لا يكون شيء منهما ذا ملاك أصلاً، أو كان الملاك في أحدهما دون الآخر،فيخرج عن باب التزاحم ويدخل في باب التعارض، ومعه: فلابدّ من الرجوع - عندئذٍ - إلى مرجّحات باب التعارض.

مسألة الاجتماع والقول بتبعيّة الأحكام للملاكات:

اشارة

لقائلٍ أن يقول: إنّ بحث الاجتماع لا يختصّ بمذهب دون آخر، بل يجري على جميع المذاهب، حتى على مذهب الأشعريّ المنكر لتبعيّة الأحكام للملاكات والمصالح والمفاسد مطلقاً، فاعتبار اشتمال كلٍّ من متعلّقي الإيجاب والتحريم على مناط الحكم - كما هو مذهب العدليّة القائلين بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد - في اندراجهما في مسألة الاجتماع غير ظاهر.

ص: 213

والوجه في ذلك: أنّ مرجع البحث في مسألة الاجتماع إلى أنّ مورد الاجتماع هل هو واحد وجوداً وماهيّةً أو متعدّد كذلك؟ فعلى الأوّل: لابدّ من الامتناع مطلقاً، ولو على مذهب الأشعريّ، لامتناع اجتماع الضدّين على جميع المذاهب. وعلى الفرض الثاني: لابدّ من القول بالجواز بناءً على عدم سراية حكم الملزوم إلى اللّازم، فيكون المورد حينئذٍ من صغريات باب التزاحم.

وينبغي هنا أن يُعلم: أنّه لو قلنا بجواز الاجتماع ودخلت المسألة معه في باب التزاحم، فليس المراد من التزاحم التزاحم بين الملاكات بعضها ببعض، بل المراد هو التزاحمبين الأحكام كذلك، وأمّا النوع الأوّل فهو خارج عن محلّ البحث.

والسرّ في ذلك: أنّ الملاكات لمّا كانت بيد الشارع، وهي غير معروفة لنا، لم يكن سبيل لنا إلى معرفة مرجّحات الملاكات، بل الترجيح بين الملاكات إنّما يكون بيد المولى، فله أن يلاحظ الجهات الواقعيّة ويرجّح بعضها على بعضها الآخر.

على أنّ ذلك ليس من وظيفة العبد، فإنّ وظيفته إنّما هي امتثال الأحكام المجعولة من قبل المولى.

وعلى الجملة: فالمراد هو التزاحم بين الدليلين، بمعنى: أنّه ليس هناك تنافٍ في مقام الجعل، بل مقام الامتثال، بحيث لا يتمكّن العبد من الإتيان بهما معاً. ولا ربط لمسألة تبعيّة الأحكام للملاكات وعدمها فيما هو محلّ

ص: 214

البحث، فلذلك قلنا إنّه يجري بحث الاجتماع على كلا المذهبين؛ لأنّ المهمّ في المسألة هنا هو أنّه هل يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما في مقام الامتثال أم لا؟

وكذا الحال لو رجعت المسألة إلى باب التعارض، فإنّ البحث يأتي على كلا المذهبين - أيضاً -؛ لأنّ منشأ عدم إمكان جعل الحكمين المتضادّين إلى أنّ ثبوت كلّ منهما في مقام الإثبات هل ينفي الآخر في مقام الجعل أم لا؟ فلا فرق - حينئذٍ - بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد أو القول بعدمها.

ثمرة مسألة الاجتماع:

لا يخفى: أنّه تارةً نقول بالجواز، وأُخرى نقول بالامتناع، والعمل تارةً يكون توصّليّاً، وأُخرى يكون تعبّديّاً.

أمّا بناءً على القول بالجواز، فقد يُقال:

بأنّه لو أتى بالمجمع فقد امتثل يقيناً، ويسقط الأمر، بلا فرق بين أن يكون العمل توصّليّاً أو تعبّديّاً، نعم، هو مطيع وعاصٍ في آنٍ معاً. وهكذا الحال، لو قلنا بالامتناع ورجّحنا جانب الأمر، إذ المفروض أنّ النهي قد سقط من جهة غلبة الأمر.

وأمّا لو قلنا بالامتناع، وكان العمل توصّليّاً، فأيضاً: يسقط الأمر، ويحصل الامتثال، ولو كان ملتفتاً إلى الحرام؛ لأنّ التوصّليّ يجتمع مع

ص: 215

الحرام. وأمّا لو كان العمل تعبّديّاً، فإن غلّبنا جانب الأمر، فقد مرّ بيانه، وأمّا لو كان المقام من باب الامتناع، وغلّبنا جانب النهي، فسيأتي الكلام فيه.

أمّا في الفرض الأوّل، أعني: القول بالجواز، فتكون مسألة الاجتماع صغرى لكبرى التزاحم، فلابدّ من الرجوع إلى قواعد باب التزاحم ومرجّحاته، فنقول: إن كان الوجوب أهمّ أو محتمل الأهمّيّة قُدّم على الحرمة، ومقتضاه صحّة العبادة، وأنّه يمكن الإتيان بها حينئذٍ بداعي أمرها، وكذا الحال إذا كان الوجوب مساوياً للحرمة مع الأخذ بالوجوب دون الحرمة.

وإن كانت الحرمة أهمّ، أو محتملة الأهمّيّة، قُدّمت على الوجوب، وحينئذٍ: يمكن القول بالصحّة وسقوط الأمر بناءً على الترتّب. وأمّا لو لم نقل بالترتّب، فيمكن تصحيح العبادةببركة اشتمال المجمع على الملاك مع الالتزام بكفايته في صحّة العبادة.

ولكن قد يستشكل فيه: بعدم الطريق إلى إحراز بقاء الملاك في المجمع بعد سقوط الأمر عنه من جهة غلبة جانب النهي عليه، ولا طريق لنا في هذا المورد إلى اكتشاف وجود الملاك، فكما يحتمل أن يكون سقوطه لوجود المانع، فكذا يحتمل أن يكون لعدم المقتضي في هذا الحال، ولا مرجّح لأحد الاحتمالين على الآخر، ضرورة أنّ طريق إحرازه منحصر بوجود الحكم، وبعد سقوطه لا سبيل لنا إلى إحراز الملاك.

ص: 216

ويُجاب عنه: بأنّه خلاف الفرض، إذ المفروض دخول هذه المسألة في باب التزاحم، واندراجها تحت كبراه، ومن المعلوم: وجود الملاك في كلٍّ من المتزاحمين؛ إذ التزاحم إنّما يكون في مقام الامتثال، وعدم قدرة العبد على امتثالهما معاً لا يكون سبباً لرفع الملاك؛ لما قرّر في محلّه من عدم دخل القدرة في الملاكات، وأنّها دخيلة في حسن الخطاب؛ لقبح مطالبة العاجز؛ فإنّ إنقاذ كلٍّ من الغريقين المؤمنين ذو مصلحة قطعاً وإن لم يتمكّن العبد من إنقاذهما معاً.

وأمّا على القول بالامتناع لو رجّحنا جانب الأمر، بعد أن كان متيقّن الأهمّيّة، أو محتمل الأهمّيّة، فبعد تغليب جانبه لا تبقى فعليّة للنهي، فلا نهي هناك حتى إذا خالفناه نعدّ من العاصين.وقد يقال: إنّه بناءً على القول بالامتناع، حتى وإن قدّمنا جانب الأمر، إلّا أنّه مع ذلك، لا يحصل الامتثال؛ لأنّ الأمر والنهي - كلاهما - واردان على الطبيعة، غاية الأمر: أنّ طبيعة الأمر تحصل بإتيان فردٍ من أفرادها، و طبيعة النهي لا تحصل إلّا بترك جميع أفرادها.

فهنا، وإن كانت مصلحة الأمر أقوى، ولكن بما أنّ طبيعة النهي لا تحصل إلّا بترك جميع أفرادها؛ لأنّ المفسدة كامنة في جميع أفرادها، فيكون الإتيان بفرد لا مفسدة فيه، أعني: الفرد الذي فيه المصلحة، أمراً غير ممكن.

ولكن فيه: أنّه خلاف الفرض، وهو تقديم جانب الأمر على النهي

ص: 217

لأقوائيّة مصلحته من مفسدة النهي، إذ لا معنى للتقديم إلّا مغلوبيّة المفسدة بالمصلحة، وعدم مانعيّتها عن استيفاء مصلحة الأمر بالفرد المشتمل على المفسدة، وعن تمشّي قصد القربة وحصول التقرّب به، من دون مانعٍ عنه، لا من الفعل ولا من الفاعل.

نعم، بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي، فلا محيص عن امتناع الامتثال وعدم تمشّي قصد القربة. نعم، يصحّ العمل لو كان توصّليّاً والإلزام ببطلان العبادة في المغصوب مطلقاً، حتى مع النسيان والجهل القصوريّ به لعدم المقتضي لصحّتها من الملاك والأمر، وامتناع مصداقيّة الحرام للواجب.

وأمّا بناءً على اندراج المسألة في باب التزاحم، وتقديم جانب النهي على الأمر، فتصحّ العبادة في المغصوب معالنسيان والجهل القصوريّ بالحكم، بل وبالموضوع أيضاً، كما هو المشهور.

أدلّة القائلين بالامتناع:

منها: ما أوضحه صاحب الكفاية) بمقدّمات، نذكر منها:

المقدّمة الأُولى: ما ذكره(قدس سره) بقوله:

«إحداها: أنّه لا ريب في أنّ الأحكام الخمسة متضادّة في مقام فعليّتها، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامّة بين البعث نحو واحدٍ في زمان، والزجر عنه في ذلك الزمان، وإن لم يكن

ص: 218

بينهما مضادّة ما لم تبلغ إلى تلك المرتبة، لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الإنشائيّة قبل البلوغ إليها، كما لا يخفى. فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال، بل من جهة أنّه بنفسه محال، فلا يجوز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضاً»(1).

وتوضيح هذه المقدّمة: أنّ التضادّ بين الأحكام الخمسة ليس في جميع المراتب، من الإنشاء والاقتضاء وغيرهما، بل هو كائن في خصوص مرتبة فعليّتها، إذ البعث والزجر الفعليّان المترتّبان على انقداح الإرادة والكراهة متضادّان، ضرورة امتناع تعلّق الإرادة بإيجاد شيء والزجر عنه في آنٍ واحد،فإنّ مقتضى البعث والزجر الفعليّين - وهو الفعل والترك - متناقضان، فنفس البعث والزجر المقتضيين لهما - أيضاً - متنافيان، ويستحيل اجتماعهما، لا أنّهما يكونان من التكليف بغير المقدور؛ لعدم قدرة العبد على الجمع بين الفعل والترك حتى يكون من التكليف بالمحال الذي هو جائز عند الأشاعرة.

والمقدّمة الثانية: ما أشار إليها(قدس سره) بقوله:

«ثانيتها: أنّه لا شبهة في أنّ متعلّق الأحكام إنّما هو فعل المكلّف، وما هو في الخارج يصدر عنه، وما هو فاعله وجاعله، لا ما هو اسمه، وهو واضح، ولا ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه، بحيث لولا انتزاعه تصوّراً

ص: 219


1- كفاية الاُصول: ص 158.

واختراعه ذهناً لما كان بحذائه شيء خارجاً، ويكون خارج المحمول كالملكيّة والزوجيّة والرقّيّة والحرّيّة والمغصوبيّة، إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات، ضرورة أنّ البعث ليس نحوه، والزجر لا يكون عنه، وإنّما يؤخذ في متعلّق الأحكام آلةً للحاظ متعلّقاتها، والإشارة إليه بمقدار الغرض منها والحاجة إليها، لا بما هو هو وبنفسه وعلى استقلاله وحياله»(1).

وحاصلها: أنّ متعلّق الأحكام هو نفس المعنونات، لا العناوين؛ لأنّ الحكم تابع لملاكه، فكلّ ما فيه الملاك يكون متعلّقاً للحكم؛ لأنّ تعلّقه بغير ما يقوم به الملاك ينافي ما عليهمشهور العدليّة من تبعيّة الأحكام للملاكات الثابتة في متعلّقاتها، فتعلّق الحكم بغير ما يقوم به الملاك يكون جزافاً.

هذا من ناحية.

ومن ناحية أُخرى: فإنّ الملاكات لا تقوم بالاُمور الاعتباريّة التي لا تأصّل لها في الخارج، بل تقوم بالموجودات الخارجيّة المتأصّلة. وعليه: فالعنوان الاعتباريّ المأخوذ متعلّقاً للتكليف في ظاهر الخطاب ليس متعلّقاً له حقيقةً، بل هو قنطرة وعنوان مشير إلى ما هو المتعلّق واقعاً وحاكٍ عنه، فالمتعلّق للتكليف في الواقع هو المعنون والمسمّى، دون

ص: 220


1- كفاية الاُصول: ص 158 - 159.

العنوان والاسم اللّذين ينتزعان من المعنون والمسمّى، ولا يكون لهما ما يحاذيهما في الخارج؛ فمتعلّق الحكم إنّما هو الفعل الخارجيّ الصادر من المكلّف؛ لأنّه مركب الملاك، لا اسمه وعنوانه، فالصلاة الواقعة في الدار المغصوبة هي التي يتعلّق الأمر والتكليف بها، أي: بما يقع في الخارج منها من الأجزاء والشرائط، دون عنوانها، وكذا الغصب؛ فإنّ النهي يتعلّق بنفس تلك التصرّفات الخارجيّة في مال الغير بدون رضاه، لا بعنوانه.

وعلى هذا الأساس: فلا يكون هناك سوى عمل واحد يكون ماُموراً به ومنهيّاً عنه، فإنّ متعلّق التكليف هو نفس الفعل، لا اسمه وعنوانه حتى يُقال: إنّ متعلّق الأمر عنوان غير العنوان الذي تعلّق به النهي، فيجوز الاجتماع.

دليل القائلين بالجواز:

استدلّ القائلون بالجواز بأدلّة:

منها:

ما عن المحقّق القمّيّ)(1)، من أنّ متعلّق الأمر والنهي إنّما هو

ص: 221


1- انظر: قوانين الاُصول: ص 77، بحث الاجتماع، والوجه الأوّل من الوجوه التي استدلّ بها لجواز الاجتماع، وإليك نصّ ما أفاده في المقام: «أنّ الحكم لمّا تعلّق بالطبيعة على ما أسلفنا لك تحقيقه، فمتعلّق الأمر طبيعة الصلاة، ومتعلّق النهي طبيعة الغصب، وقد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شخص واحد، ولا يرد من ذلك قبح على الآمر؛ لتغاير متعلّق المتضادّين، فلا يلزم التكليف بالمتضادّين، ولا كون الشيء الواحد محبوباً ومبغوضاً من جهةٍ واحدة. فإن قلت: الكلّيّ لا وجود له إلاّ بالفرد، فالمراد بالتكليف الكلّيّ هو إيجاد الفرد، وإن كان متعلّقاً بالكلّيّ على الظاهر، وما لا يمكن وجوده في الخارج يقبح التكليف بإيجاده في الخارج. قلت: إن أردت عدم إمكان الوجود في الخارج بشرط لا، فهو مسلّم، ولا كلام لنا فيه، وإن أردت استحالة وجوده لا بشرط، فهو باطل جزماً؛ لأنّ وجود الكلّيّ لا بشرط لا ينافي وجوده مع ألف شرط، فإذا تمكّن من إتيانه في ضمن فرد، فقد تمكّن من إتيانه لا بشرط. غاية الأمر: توقّف حصوله في الخارج على وجود الفرد، والممكن بالواسطة لا يخرج عن الإمكان، وإن كان ممتنعاً بدون الواسطة، وهذا كلام سارٍ في جميع الواجبات بالنسبة إلى المقدّمات، فالفرد هنا مقدّمة لتحقّق الكلّيّ في الخارج، فلا غاية في التكليف به مع التمكّن من المقدّمات. فإن قلت: سلّمنا ذلك، لكن نقول: إنّ الأمر بالمقدّمة اللّازم من الأمر بالكلّيّ على ما بنيت عليه الأمر يكفينا، فإنّ الأمر بالصلاة أمر بالكون، والأمر بالكون أمر بهذا الكون الخاصّ الذي هو مقدّمة الكون الذي هو جزء الصلاة، فهذا الكون الخاصّ ماُمور به، وهو بعينه منهيّ عنه؛ لأنّه فرد من الغصب، والنهي عن الطبيعة يستلزم النهي عن جميع أفراده، ولو كان ذلك أيضاً من باب مقدّمة الامتثال بمقتضى النهي، فإنّ مقدّمة الحرام حرام أيضاً، فعاد المحذور، وهو اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصيّ. قلت: نمنع أوّلاً وجوب المقدّمة، ثمّ نسلّم وجوبه التبعيّ الذي بيّنّاه في موضعه، ولكن غاية الأمر حينئذٍ توقّف الصلاة على فردٍ ما من الكون، لا الكون الخاصّ الجزئيّ، وإنّما اختار المكلّف مطلق الكون في ضمن هذا الشخص المحرّم».

الطبيعة، وأمّا الفرد فهو مقدّمة لوجود الكلّيّ، لا عينه، فهذا الفرد من الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة، ليس بنفسه ماُموراً به بالأمر النفسيّ، بل متعلّق الأمر النفسيّ هو طبيعة الصلاة، لا هذا الفرد، فهذا

ص: 222

الفرد مقدّمة محرّمة لوجود الواجب النفسيّ، أعني: الطبيعة المأمور بها، ومقدّمة الواجب ليست بواجبة، فلم يجتمع هناك الوجوب والحرمة، ولو قيل: بوجوب المقدّمة، فوجوبهايكون غيريّاً تبعيّاً، ولا مانع من اجتماع الوجوب الغيريّ مع النهي النفسيّ، وإنّما المانع هو اجتماع الوجوب النفسيّ مع النهي النفسيّ.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّ الفرد ليس مقدّمة لوجود الطبيعيّ، بل هو عينه خارجاً. ولو قيل: إنّ المحقّق لم يدّعِ مقدّميّة الفرد للطبيعة مطلقاً، بل ادّعى ذلك في طرف الأمر فقط؛ لأنّه ذكر أنّه بناءً على وجوب المقدّمة يلزم اجتماع الأمر الغيريّ مع النهي النفسيّ، فلو كان مدّعاه مقدّميّة الفرد مطلقاً، لكان في طرف النهي أيضاً نهي غيريّ.

فمن ذلك يُعلم: أنّ ما قاله من المقدّميّة مقصور على طرف الأمر، وحينئذٍ: لابدّ أن يكون مراده من الأمر خصوص الأمر المطلوب منه صرف الوجود، لا الأمر الانحلاليّ؛ لأنّه لا فرق بين الأوامر الانحلاليّة والنواهي الانحلاليّة من حيث عدم مقدّميّة الفرد للطبيعة، والذي يمكن هو الفرق بين الأوامر المطلوب منها صرف الوجود كالصلاة، وبين الأوامر والنواهي الانحلاليّة؛ حيث إنّه تصحّ دعوى كون الفرد مقدّمة لتحقّق صرف الوجود، بحيث يكون الفرد من المحصّلات والمحقّقات للطبيعة وصرف الوجود، لا عينها.

ص: 223

ففيه: أنّ ذلك وإن كان توجيهاً لكلامه، إلّا أنّه مع ذلك لا يستقيم، ضرورة أنّ الفرد في صرف الوجود أيضاً لم يكن مقدّمة، بل هو عين الطبيعة.نعم، لو قلنا بأنّ الكلّيّ الطبيعيّ لا وجود له في الخارج أصلاً، وأنّه انتزاعيّ صرف، كان الفرد - الذي هو منشأ الانتزاع - مقدّمة لانتزاعه.

ولكن الحقّ - كما هو معلوم - أنّ وجود الفرد هو نفس وجود الطبيعيّ، فلا معنى للقول بمقدّميّة الأفراد للطبيعة.

وثانياً: أنّ دعوى عدم وجوب المقدّمة ممّا يكذّبها الوجدان، ولا يمكن القول به، كما تقدّم في بحث مقدّمة الواجب.

وثالثاً: أنّ دعوى أنّ الممنوع هو اجتماع الوجوب النفسيّ مع النهي النفسيّ لا الوجوب الغيريّ لا شاهد عليها؛ لوضوح أنّه لا فرق بين الوجوب النفسيّ والوجوب الغيريّ، بعدما كان مطلق الوجوب مضادّاً من حيث الاقتضاء للحرمة؛ حيث إنّ الوجوب يقتضي البعث والحرمة تقتضي الزجر.

ومنها:

أنّ الاجتماع إنّما يكون ماُموريّاً لا آمريّاً، أي: أنّ الآمر أورد الحكم على طبيعة الصلاة، وأورد النهي على طبيعة الغصب، فمتعلّق الأمر شيء ومتعلّق النهي شيء آخر، وكلّ منهما مباين للآخر، والآمر لم يجمع المتعلّقين في أمره، وإنّما جمعهما المأمور به.

ص: 224

ولكن لا يخفى:

أنّ هذا القول إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ الأمر ورد على الطبيعة بلحاظ الذهن، لا بلحاظ الخارج، وكذا النهي، مع أنّ الأمر - كما هو معلوم - غير متعلّق بالطبيعة المقيّدة بلحاظها فيالذهن، وكذا النهي، بل بما هي مرآة للخارج؛ إذ لو كانت مقيّدة باللّحاظ الذهنيّ كانت غير قابلة للامتثال.

مع أنّ المأمور إنّما جمع بينهما في مقام الامتثال، ولابدّ أن يكون الامتثال على طبق المأمور به، فلو لم يجمع الآمر بين المتعلّقين، ولو بالإطلاق الشموليّ أو البدليّ، فكيف يمكن للمكلّف الجمع في الامتثال؟

مع أنّه لو بنينا على أنّ الاجتماع ماُموريّ، يلزم سدّ باب التعارض من وجه، فإنّه دائماً يكون الاجتماع ماُموريّاً، وفي مقام الامتثال، فيلزم أن لا يتحقّق مورد للتعارض من وجه، وتكون جميع الموارد من باب التزاحم.

ومنها:

أنّ هناك فرقاً بين ظرف العروض وظرف الاتّصاف. وبعبارة أُخرى: فإنّ متعلّقات الأحكام إنّما هي الماهيّات الواقعة في رتبة الحمل، لا الواقعة في رتبة نتيجة الحمل، فالاُولى تكون من الاُمور العقليّة، والثانية من الاُمور الخارجيّة، وتكون تلك رتبة الاتّحاد، وعينيّة الكلّيّ لمصداقه.

ص: 225

فإذا عرفت هذا، فإذا كان متعلّق الحكم هي الماهيّة الواقعة في رتبة نتيجة الحمل، فيلزم اتّحاد المتعلّقين؛ لأنّ هذه الرتبة - كما عرفت - هي رتبة عينيّة كلّ كلّيّ لمصداقه، والمفروض أنّ المصداق واحد، فيلزم اتّحاد المتعلّقين. وأمّا إذا كان متعلّق الحكم هي الماهيّة الواقعة في رتبة الحمل، فحينئذٍ لا يلزم اتّحاد المتعلّقين؛ لأنّ هذه الرتبة هي رتبة مغايرة الموضوع للمحمول المصحّحة للحمل، فلا اتّحاد.

ولكن فيه:

أنّ الإشكال هنا هو عين الإشكال المتقدّم؛ لأنّه بناءً على أن يكون متعلّق الأحكام هي الصور الذهنيّة بما هي فهذا الكلام تامّ لا غبار عليه؛ ولكنّ الصحيح: أنّ المتعلّق إنّما هي الصور بما أنّها مرآة للخارج، ومعه: فيأتي محذور الاتّحاد، لاتّحاد المرئيّ وذي الوجه.

ومنها:

دعوى: أنّ متعلّقات الأحكام هي الماهيّات غير المتحصّلة، وهي ليست متّحدة بعضها مع بعض، والاتّحاد إنّما يكون بين الماهيّات.

ولكنّك خبير:

بأنّ هذا الوجه إنّما هو عبارة أُخرى عن الوجه السابق، ولا يكون له معنىً محصّل؛ فإنّ متعلّقات الأحكام، وإن كانت هي الماهيّات غير المتحصّلة، إلّا أنّ الأمر بها إنّما يكون بلحاظ التحصّل، وبما هي مرآة للخارج، وهي في مقام التحصّل متّحدة.

ص: 226

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ الضابط للقول بالامتناع والقول بالجواز في المسألة هو وحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهيّةً وتعدّده كذلك، فعلى الأوّل: لا مناص من القول بالامتناع، وعلى الثاني: من القول بالجواز، لعدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى كبرى مسألة الاجتماع.وأمّا الصغرى، وهي ملاحظة أنّ الصلاة هل يمكن أن تتّحد مع الغصب خارجاً أم لا؟

قال المحقّق النائيني) بعدم إمكان اتّحادهما، بدعوى: أنّ الصلاة من مقولة، والغصب من مقولة أُخرى، ولا يمكن أن تتّحد المقولتان وتندرجا تحت مقولة واحدة(1).

ولكن الحقّ - كما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سره) - أنّ «الأمر ليس كذلك، فإنّ الصلاة وإن كانت مركّبة من مقولات متعدّدة، إلّا أنّ الغصب ليس من المقولات في شيء، بل هو مفهوم انتزاعيّ منتزع من مقولات متعدّدة، كما أشرنا إليه، وعليه: فيمكن اتّحاده مع الصلاة»(2).

أمّا أنّ الصلاة مركّبة من مقولات متعدّدة، فواضح؛ لأنّها ليست حقيقة مستقلّة ومقولة برأسها، بل هي مركّبة من مقولات عديدة، منها: الكيف

ص: 227


1- انظر: أجود التقريرات 1: 355.
2- محاضرات في اُصول الفقه 3: 484.

المسموع، كالقراءة والأذكار، ومنها: الكيف النفسانيّ، كالنيّة، ومنها: الوضع، كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد.

وبما أنّها مركّبة من مقولات متعدّدة، فلا يمكن تصوير جامع حقيقيّ لها، بل الجامع لهذه المقولات أمر اعتباريّ، فلذا لا مطابق لها في الخارج، بل الخارج هو نفس المقولات المؤلّفة الصلاة منها.وأمّا أنّ الغصب ليس مقولة؛ فلأنّه يمكن انطباقه على مقولات متعدّدة، ولا يمكن أن يفرض كونه جامعاً حقيقيّاً لها، بل هو من المفاهيم الانتزاعيّة؛ حيث إنّه منتزع من مقولات مختلفة، كالكون في الأرض المغصوبة الذي هو من مقولة الأين، وأكل مال الغير أو لبسه الذي هو من مقولة أُخرى.

فإذا عرفت هذا، فنقول:

بما أنّ عنوان الغصب انتزاعيّ، فلا مانع من اتّحاده مع الصلاة خارجاً أصلاً. وإنّما الكلام في أنّ الأمر في الخارج هل هو أيضاً كذلك أم لا؟ وهذا يتوقّف على بيان حقيقة الصلاة التي هي عبارة عن عدّة مقولات كما عرفنا، لنرى أنّ الغصب هل يتّحد مع هذه المقولات خارجاً أو مع إحداها أم لا؟

فنقول: أمّا النيّة، فهي أوّل أجزاء الصلاة - بناءً على أنّ قصد القربة يكون مأخوذاً في متعلّق الأمر، وليس وجوبه بحكم العقل -، وهي من

ص: 228

مقولة الكيف النفسانيّ، ولا يشكّ أحد في أنّها ليست تصرّفاً في مال الغير عرفاً لتكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب في الخارج ومصداقاً له؛ لأنّ الغصب لا يصدق على الاُمور النفسانيّة كالنيّة.

وأمّا التكبيرة، وهي من مقولة الكيف المسموع؛ فإنّها لا تتّحد مع الغصب في الخارج؛ لأنّه لا يصدق على التكلّم في الدار المغصوبة أنّه تصرّف فيها، فلا تكون مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.فإن قلت: التكلّم وإن لم يكن تصرّفاً في الدار، إلّا أنّه تصرّف في الفضاء؛ لأنّه يوجب تموّج الهواء فيه، والمفروض أنّ الفضاء ملك للغير، كالدار، فكما أنّ التصرّف فيها غير جائز ومصداق للغصب، فكذلك التصرّف فيه.

قلت: نمنع أن يصدق على التكلّم أنّه تصرّف في الفضاء المغصوب، وعلى تقدير صدقه عليه عقلاً، فلا يصدق عليه عرفاً كما هو واضح، وحيث لم يكن في نظر العرف تصرّفاً، لم تشمله الأدلّة وكانت منصرفة عنه قطعاً، وإن كان يعدّ في نظر العقل تصرّفاً.

وأمّا السجود والركوع والقيام والقعود، والصحيح أنّها - أيضاً - لا تكون متّحدة مع الغصب خارجاً؛ فإنّ هذه الأفعال من مقولة الوضع، والغصب من الاُمور الانتزاعيّة، وهو في المقام - بحسب الفرض - منتزع من الكون في الأرض المغصوبة، وهو من مقولة الأين، فيستحيل اتّحادهما خارجاً.

ص: 229

والحاصل: أنّ هيئة الركوع والسجود والقيام والجلوس ليست في أنفسها، مع قطع النظر عن مقدّماتها، من الهويّ والنهوض، مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.

اللّهمّ إذا قلنا بأنّ هذه المقدّمات من أجزاء الصلاة؛ لأنّها نحو من الحركة، والحركة في الدار المغصوبة من أوضح أنحاء التصرّف فيها، فتكون مصداقاً للغصب ومتّحدة معه خارجاً، وحينئذٍ: فلا مناص من القول بالامتناع، لفرض أنّ الصلاة عندئذٍ تكون متّحدة مع الغصب في الخارج ومصداق له، ولو باعتبار بعض أجزائها، خصوصاً بالنسبة إلىالسجود؛ لأنّه ليس بمعنى: المماسّة فقط، بل مع الاعتماد، وهذا يصدق عليه التصرّف في ملك الغير.

ومعه: لابدّ من القول بالامتناع، أي: امتناع الصلاة في الأرض المغصوبة، لاستحالة أن يكون شيء واحد مصداق للمأمور به والمنهيّ عنه معاً.

وقد تحصّل من جميع ما تقدّم: أنّ ثمرة المسألة على القول بالجواز صحّة العبادة في مورد الاجتماع مطلقاً، ولو كان يعلم بحرمة التصرّف في المغصوب، فضلاً عمّا إذا كان جاهلاً بها، وتبطل على القول بالامتناع، مع العلم بالحرمة، وكذا مع الجهل التقصيريّ، إذا كان جانب النهي مقدّماً، وأمّا مع تقديم جانب الأمر، أو عدم كون الجهل عن تقصير، فلا بطلان.

ص: 230

غير أنّ المحقّق النائيني(قدس سره)(1) قال ببطلان العبادة في صورة العلم بالحرمة، وبصحّتها في صورة الجهل بها والنسيان، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك: أنّه لا يمكن تصحيح العبادة هنا بالأمر؛ لأنّ متعلّق الأمر هو الحصّة الخاصّة، وهي الحصّة المقدورة، والترتّب لا يجري في المقام، ولا يمكن القول بصحّته بالنسبة إلى الملاك؛ إذ لا يمكن أن نعلم بوجود الملاك، لفرض أنّ صدور المجمع منه قبيح، ومع القبح الفاعليّ لا تصحّ العبادة، كما أنّها لا تصحّ مع القبح الفعليّ.وقد أجاب عنه الاُستاذ الأعظم(قدس سره) بقوله: «يمكن الحكم بصحّتها من ناحية الأمر؛ لما عرفت من إطلاق المتعلّق وعدم المقتضي لتقييده بخصوص الحصّة المقدورة، ومن ناحية الترتّب؛ لما ذكرناه هناك من أنّه لا مانع من الالتزام به في المقام أصلاً، ومن ناحية الملاك؛ لما عرفت من عدم القبح الفاعليّ بالإضافة إلى إيجاد ما ينطبق عليه المأمور به»(2).

ولكن فيه: أنّه حتى لو فرض تقديم جانب الأمر، ولكن مع ذلك، فالنهي موجود، والحركة واحدة، فيحصل الاتّحاد، فلا مناص من الحكم بالبطلان.

وأمّا ما ذكره من أنّ المتعلّق مطلق وغير مشروط بالحصّة المقدورة،

ص: 231


1- يراجع في ذلك: أجود التقريرات 1: 368 - 370؛ وفوائد الاُصول 2: 442 - 443.
2- محاضرات في اُصول الفقه 3: 496.

فهو ممنوع، إذ حتى مع فرض وجود المندوحة، فلابدّ وأن يتعلّق الأمر بالحصّة المقدورة.

وأمّا دعواه: أنّه لا مانع من جريان الترتّب في المقام، فيرد عليها: أنّ الترتّب لا يجري إلّا بين شيئين، أحدهما أهمّ والثاني مهمّ، لا بين شيء واحد.

وأمّا دعوى إمكان تصحيح العبادة من ناحية الملاك، ففيها: أنّه مع عدم وجود الأمر، فلا سبيل لنا إلى العلم بوجود الملاك. وعليه: فعلى فرض الجواز، فإن كان المكلّف عالماً بالحرمة فلا تصحّ العبادة، وإن قدّمنا جانب الأمر.

نعم، يصحّ في صورة النسيان والجهل.

في العبادات المكروهة:

لا يخفى: أنّ الأحكام بأسرها متضادّة فيما بينها، لا فرق في ذلك بين الوجوب والحرمة وبين الاستحباب والكراهة.

ولكن قد يقال: بأنّه قد وقع في الشرع اجتماع الاستحباب مع الكراهة، فيكون هذا دليلاً على جواز اجتماع الأمر والنهي، إذ إنّ أدلّ شيء على جواز الشيء وقوعه، وذلك كالعبادات المكروهة، ﻛ «الصلاة في موضع التهمة» و«الصلاة في الحمّام» و«الصيام في السفر» و«صيام يوم عاشوراء»، ونحو ذلك...

ص: 232

ولكن فيه: أنّه بعد قيام الدليل القطعيّ على امتناع الاجتماع، وبعد القطع بالتضادّ فيما بين الأحكام بأسرها، فلابدّ - حينئذٍ - من التصرّف بالدليل الظاهر في جواز الاجتماع وتأويله، كيف لا؟! والظاهر لا يصادم الدليل العقليّ القطعيّ.

هذا هو الجواب الإجماليّ.

ولكن لابدّ هنا من التفصيل، فنقول:

إنّ العبادات المكروهة على أقسام ثلاثة:

الأوّل: ما تعلّق النهي به بذاته، وليس له بدل، ﻛ «صوم يوم عاشوراء» والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات، والمراد بالمبتدأة: غير ذات الأسباب، كصلاة الزيارة، أو صوم يوم الغدير. وليس لهذه العبادة بدل؛ فإنّ صوم عاشوراء لا بدل له.والثاني: ما تعلّق النهي به بذاته، وكان له بدل، ﻛ «الصلاة في الحمام»؛ فإنّ لها بدلاً، إذ يمكن أن يصلّي في غيره.

والثالث: ما تعلّق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً، أو ملازم له خارجاً، كالصلاة في مواضع التهمة، فإنّ النهي إنّما ورد على الكون في تلك المواضع، وهو متّحد مع الصلاة فيها.

أمّا القسم الأوّل: فالنهي عنه تنزيهيّ، أي: أنّه أقلّ ثواباً، بعد ورود الإجماع على صحّة هذه العبادة لو جيء بها مع أرجحيّة تركه، كما هو مستفاد من مداومة الأئمّة(على الترك.

ص: 233

وكذا الحال في القسم الثاني، فإنّ النهي إنّما هو عبارة عن وجود منقصة هناك.

وأمّا في القسم الثالث: فإنّ النهي يمكن أن يكون إرشاديّاً، ويمكن أن يكون مولويّاً، ويكون النهي قد ورد على ذلك العنوان، وهو الكون في مواضع التهمة، فتدخل معه في مسألة الاجتماع؛ فإنّه بناءً على الامتناع يحكم بالجواز هنا في صورة ترجيح جانب الأمر، من جهة الإجماع على صحّة هكذا عبادة.

الاضطرار إلى ارتكاب الحرام:

اشارة

قال صاحب الكفاية): «إنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام، وإن كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة عليه، مع بقاء ملاك وجوبه لو كان مؤثّراً له كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام،إلّا أنّه إذا لم يكن اختياره لم يكن اضطراره إليه بسوء الاختيار، بأن يختار ما يؤدّي إليه لا محالة، فإنّ الخطاب بالزجر حينئذٍ، وإن كان ساقطاً، إلّا أنّه حيث يصدر عنه مبغوضاً عليه وعصياناً لذاك الخطاب ومستحقّاً عليه العقاب، لا يصلح لأن يتعلّق به الإيجاب، وهذا في الجملة ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب»(1).

لا يخفى: أنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام يتكلّم فيه: تارةً: فيما إذا لم يكن بسوء اختياره، وأُخرى: فيما إذا كان بسوء اختياره. والكلام

ص: 234


1- كفاية الاُصول: ص 162.

في كلتا الصورتين، تارةً: من حيث الحكم التكليفيّ، وأُخرى من ناحية الحكم الوضعيّ.

فالصورة الأُولى كالمحبوس في الدار الغصبيّة، إذا لم يكن هناك مندوحة، ولا إشكال حينئذٍ: في ارتفاع الحرمة؛ لأنّه مضطرّ إلى ارتكاب الحرام، ويكون عمله مسقطاً للأمر عقلاً، وسقوط قيديّة لزوم عدم إيقاعها في المكان المغصوب مطلقاً، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي أو امتناعه.

أمّا بناءً على القول بالامتناع: فلأنّ مورد التصادق يكون من صغريات النهي عن العبادة، والقيديّة المستفادة من الحرمة النفسيّة تدور مدار الحرمة، والحرمة ارتفعت، وليست كالقيديّة المستفادة من النواهي الغيريّة، كما إذا قلت: لا تصلّ في غير المأكول، حيث إنّ الظاهر منه هو القيديّة المطلقة، سواء تمكّن المكلّف منها أم لم يتمكّن؟ نعم،غاية الأمر: أنّه في صورة عدم التمكّن من القيد يسقط التكليف عن المقيّد.

وأمّا بناءً على الجواز، فسقوط القيديّة عند الاضطرار أولى، إذ بناءً على الجواز تكون المسألة من صغريات التزاحم كما عرفنا، والقيديّة المستفادة من التزاحم تدور مدار وجود المزاحم لا محالة، وبعد سقوط المزاحم بالاضطرار تنتفي القيديّة.

وقد ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) في مقدّمة هذا البحث: أنّ القيود العدميّة

ص: 235

المعتبرة في المأمور به بحيث تحدّد الحكم وتجعله مختصّاً بموردٍ دون آخر على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن تكون مدلولة للنهي الغيريّ ابتداءً، فيكون النهي نهياً إرشاديّاً يفيد مانعيّة متعلّقه عن صحّة العمل المحفوف به، كالنهي الوارد عن لبس الحرير في الصلاة، وهذا لا يرتفع بالاضطرار إذا كان دليله مطلقاً؛ فإنّه يفيد أنّ المانعيّة تثبت في كلا الحالين: الاضطرار والاختيار، فلا تسقط المانعيّة في حال الاضطرار ولا محذور فيه.

إلّا أنّ التكليف هنا لا يسقط، للدليل الذي قام بالخصوص على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، فانّه يدلّ على إلغاء الشارع كلّ قيد من قيودها حال العجز.

الثاني: أن تكون تابعة للنهي النفسيّ الدالّ على التحريم، فيستفاد منه مانعيّة متعلّقه عن صحّة العمل، كما في مورد الاجتماع بناءً على الامتناع من الجهة الأُولى، ولكنّ المانعيّة:تارةً يُقال: إنّها في طول الحرمة وتابعة لها، كما هو المشهور.

وأُخرى يُقال: إنّها في عرضها، بمعنى: أنّ النهي يستفاد منه في عرضٍ واحد الحرمة والمانعيّة.

فعلى الأوّل: يكون الاضطرار رافعاً للحرمة والمانعيّة؛ لأنّ المفروض كون المانعيّة تابعةً للحرمة، فإذا زالت الحرمة زالت المانعيّة، فيصحّ العمل.

ص: 236

وعلى الثاني: لا يرفع الاضطرار المانعيّة، وإنّما يرفع الحرمة فقط، إذ المانعيّة لا تنافي الاضطرار، كما عرفت، والمفروض عدم إناطتها بالحرمة.

الثالث: أن تكون ثابتة لأجل مزاحمة المأمور به مع المنهيّ عنه، كما هو الحال لو قيل بالجواز من الجهة الأُولى؛ فإنّه يقع التزاحم بين الحكمين، فيرتفع الأمر باعتبار المزاحمة، ففي مثله: لو حصل الاضطرار يبقى الأمر؛ وذلك لارتفاع الحرمة وزوال المزاحمة؛ لأنّ أساسها كون الحكم فعليّاً، ولا فعليّة للحرمة مع الاضطرار.

هذا ملخّص ما أفاده(قدس سره)(1).

ص: 237


1- انظر: أجود التقريرات 1: 371- 372؛ وإليك نصّ كلامه، قال): «أمّا الكلام في المقام الأوّل: أعني به: ما إذا كان الانحصار بغير سوء اختيار المكلّف، فتوضيحه بأن يقال: إنّ اعتبار القيود العدميّة إمّا أن يكون مدلولاً للنهي الغيريّ، فيكون التقييد هو المستفاد من الدليل ابتداءً، وإمّا أن يكون مستفاداً بالدلالة الالتزاميّة من النهي النفسيّ الدالّ على الحرمة، كما في موارد النهي عن العبادة، أو موارد اجتماع الأمر و النهي، بناءً على الامتناع من الجهة الاُولى، وإمّا أن يكون لأجل مزاحمة المأمور به للمنهيّ عنه، مع فرض تقديم جهة الحرمة على الوجوب، فهناك أقسام: (أمّا القسم الأوّل): أعني به: ما كان اعتبار القيد العدميّ في المأمور به مدلولاً ابتدائيّاً للنهي الغيريّ، كما في النهي عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فمقتضى إطلاق دليل التقييد فيه - على تقدير تماميّة مقدّماته - هو اعتبار القيد في المأمور به في جميع أحوال المكلّف، ولازم ذلك هو سقوط الأمر عند انحصار الامتثال بالفرد الفاقد للقيد، كما ف-ي صورة الاضطرار إلى لبس الحرير أو غير المأكول المعتبر عدمهما في الصلاة، إلّا أنّ ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال قد دلّ على إلغاء الشارع كلّ قيدٍ من قيودها في حال العجز عن تحصيله. (وأمّا القسم الثاني): أعني به: ما كان اعتبار القيد العدميّ مستفاداً من نهيٍ نفسيّ، فإن قلنا فيه بكون التقييد تابعاً للحرمة ومتفرّعاً عليها كما هو المشهور، فمقتضى القاعدة فيه هو سقوط القيد عند الاضطرار؛ لسقوط علّته المقتضية، أعني بها: الحرمة، وأمّا إذا قلنا بكون التقييد والحرمة معلولين للنهي في مرتبة واحدة من دون سبقٍ ولحوق بينهما، فيكون حال هذا القسم حال القسم الأوّل، في أنّ القاعدة الأوّليّة فيه تقتضي سقوط الأمر عند تعذّر قيده، والقاعدة الثانويّة تقتضي سقوط التقييد ولزوم الإتيان بكلّ ما أمكن الإتيان به من أجزاء الصلاة وشرائطها. (وأمّا القسم الثالث): أعني به: ما كان اعتبار القيد العدميّ ناشئاً من مزاحمة المأمور به للمنهيّ عنه، فالقاعدة فيه تقتضي سقوط التقييد عند الاضطرار؛ لأنّ التزاحم فرع وجود التكليف التحريميّ وتنجّزه، كي يكون معجّزاً للمكلف عن الإتيان بالمأمور به، ومعذّراً له في تركه، فإذا فرض سقوط الحرمة بالاضطرار، لم يبقَ موضوع للتزاحم الموجب لعجز المكلّف شرعاً عن الإتيان بالمأمور به؛ فلا محالة يسقط التقييد، ويبقى الأمر متعلّقاً بغير المقيّد».

وأمّا إذا كان بسوء الاختيار، فتارةً نتكلّم فيه من حيث الحكم التكليفيّ، وأُخرى من حيث الحكم الوضعيّ.

فالأوّل: بمعنى أنّ خروجه هل هو حرام أم لا؟ أي هل هو ماُمور به أو منهيّ عنه؟

والثاني: بمعنى: هل تصحّ صلاته في حال الخروج أم لا؟

والأقوال الواردة في المقام أربعة، وهي:

الأوّل: أنّ الخروج ماُمور به فقط، ولا يعاقب عليه، وهو منسوب إلى الشيخ الأعظم(قدس سره)(1).

ص: 238


1- انظر: مطارح الأنظار 1: 708 - 709، وقال: «وقد نسبه بعضهم إلى قوم، ولعلّه الظاهر من العضديّ كالحاجبيّ، حيث اقتصروا على كونه ماُموراً به فقط».

الثاني: أنّ الخروج واجب، ومع ذلك فهو حرام، أي: أنّه يكون ماُموراً به ومنهيّاً عنه في الوقت عينه، وهو المنسوب إلى أبي هاشم واختاره صاحب القوانين(قدس سره)(1).

الثالث: أنّه ماُمور به ومنهيّ عنه، لكن بالنهي السابق لا الفعليّ، فيجب عقابه؛ لأنّه دخل الأرض المغصوبة باختياره،والمراد من النهي السابق: النهي السابق على الدخول الساقط حال الخروج، وهو خيرة صاحب الفصول(قدس سره)(2).

الرابع: أنّه غير ماُمور به ولا منهيّ عنه بالنهي الفعليّ، ولكن يعاقب عليه ويجري عليه حكم الغصبيّة، مع إلزام العقل بالخروج؛ لكونه أقلّ محذوراً، من دون أن يكون ماُموراً به شرعاً، وهو الذي اختاره صاحب الكفاية) بقوله:

«والحقّ أنّه منهيّ عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه، وعصيان له بسوء الاختيار، ولا يكاد يكون ماُموراً به..»(3).

ص: 239


1- قوانين الاُصول 1: 153، عند قوله: «والثالث: أنّه ماُمور به ومنهيّ عنه أيضاً، ويحصل العصيان بالفعل والترك كليهما، وهو مذهب أبي هاشم وأكثر أفاضل متأخّرينا، بل هو ظاهر الفقهاء، وهو الأقرب..».
2- الفصول الغرويّة: ص 140، قوله(قدس سره): «والحقّ: أنّه ماُمور بالخروج مطلقاً أو بقصد التخلّص، وليس منهيّاً عنه حال كونه ماُموراً به، ولكنّه عاصٍ به بالنظر إلى النهي السابق..».
3- كفاية الاُصول: ص 168.

ولابدّ قبل الأخذ باختيار أحد الأقوال من بيان اُمور:

الأوّل:

أنّ التصرّف الخروجيّ هل يكون حسناً وواجباً على الإطلاق، أم لا، بل في خصوص ما إذا قصد التخلّص؟

الحقّ: أنّ الذي يكون حسناً إنّما هو التصرّف الخروجيّ إذا كان بعنوان التخلّص، وأمّا لو خرج متنزّهاً كما كان دخوله كذلك، فإنّ دخوله وبقاءه وخروجه تكون كلّها تصرّفات قبيحة عقلاً، وممنوع منها شرعاً، وكذلك إذا كان خروجه منها لشغل آخر.وأمّا مثل الخروج التخلّصيّ، فبما أنّه حسن، فلا يمكن أن يعرضه القبح؛ وإلّا، لزم اجتماع الضدّين؛ فإنّ الخروج التخلّصيّ رفع للظلم، وما يكون رفعاً ونقيضاً للظلم والعدوان كان حسناً لا محالة.

والثاني:

هل المقام من صغريات قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً» أم لا؟

لا يخفى: أنّ قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار إنّما تعني أنّ التكليف إذا توجّه إلى المكلّف وكان قادراً على امتثاله، ثمّ بسوء اختياره جعل ذلك الامتثال ممتنعاً على نفسه، فلا يكون حينئذٍ معذوراً في ترك امتثال الواجب، بل يؤاخذ ويستحقّ العقاب؛ لأنّه - في الحقيقة - ترك الامتثال عمداً، وبسوء اختياره، أو فقل: هو الذي عجّز نفسه اختياراً،

ص: 240

وأمّا الخروج من الدار المغصوبة، فليس من هذا القبيل؛ لأنّه كان مقدوراً للمكلّف فعلاً وتركاً، ولم يعرض عليه الامتناع، وإنّما الممتنع هو المقدار من الكون في المغصوب، وهذا المقدار كما يحصل بالخروج يحصل بتركه، وهذا لا يكون سبباً لامتناع الخروج؛ لأنّ الاضطرار إلى الجامع لا يستلزم الاضطرار إلى ما يحصل به.

وعليه: فإدخال هذا الخروج في مسألة الامتناع بالاختيار في غير محلّه، بل هو على عكس هذه القاعدة؛ فإنّ مورد تلك القاعدة هو ما إذا كان ترك المقدّمة ومخالفتها سبباً لترك الواجب، كترك المسير الموجب لترك الحجّ؛ فإنّ من تركالمسير إلى الحجّ بعد وجود الاستطاعة، مستحقّ للعقاب على تركه، وإن امتنع عليه الفعل - حينئذٍ - في وقته؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، كما فيمن ألقى نفسه من شاهق.

وأمّا في مورد الكلام، فإنّ الدخول موضوع للخروج ومن مقدّماته التي يتوقّف عليه الخروج، فقبل الدخول لا نهي عن الخروج، وبعد الدخول لا يكون الخروج منهيّاً عنه، بل المنهيّ عنه هو الجامع، أي: المقدار من البقاء، بل يكون الخروج حسناً إذا كان لأجل التخلّص، من باب أقلّ المحذورين، أو من باب ردّ الغصب. وعليه: فوجوب الخروج بعد الوقوع ممّا يحسّنه العقل، فكيف يكون مندرجاً في القاعدة المذكورة؟

وعلى الجملة: فهناك ثلاثة تصرّفات في مال الغير بلا إذنٍ منه: الدخوليّ

ص: 241

والبقائيّ والخروجيّ، وما يكون حراماً من هذه الثلاثة اثنان فقط، وهما: الدخوليّ والبقائيّ، دون الخروجيّ؛ لأنّه يكون سبباً للتخلّص من الحرام، فلا يمكن أن يتّصف بالحرمة في حال من الأحوال، نظير شرب الخمر إذا توقّفت عليه حياة الشخص.

وبعبارة أُخرى: فالخروج لا يقع محرّماً أصلاً، لا قبل الدخول ولا بعده؛ لأنّه قبل الدخول غير متمكّن من الخروج، وبعد الدخول يكون الخروج سبباً للتخلّص من الحرام، فلا يمكن أن يقال: إنّ المكلّف قبل الدخول متمكّن من جميع هذه التصرّفات، فجميعها تكون محرّمة؛ لأنّه غيرمتمكّن من التصرّف الخروجيّ قبل الدخول، كما هو واضح.

إلّا أن يقال: إنّه ممكن مع الواسطة، أي مع واسطة الدخول، قال في الكفاية:

«وبالجملة: كان قبل ذلك متمكّناً من التصرّف خروجاً كما يتمكّن منه دخولاً، غاية الأمر: يتمكّن منه بلا واسطة، ومنه بالواسطة، ومجرّد عدم التمكّن منه إلّا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدوراً، كما هو الحال في البقاء، فكما يكون تركه مطلوباً في جميع الأوقات، فكذلك الخروج..»(1).

ص: 242


1- كفاية الاُصول: ص 170.

وعلى فرض إمكانه، فبما أنّه سبب للتخلّص، فلا يكون حراماً.

ولكن قد يستشكل فيه: بأنّ الخروج ليس بواجب حتى ترتفع الحرمة، لا بوجوب نفسيّ ولا بوجوب غيريّ:

أمّا الوجوب النفسيّ: فلأنّ مصلحته النفسيّة متوقّفة على انطباق عنوانٍ حسن عليه شرعاً، والعنوان المتصوّر انطباقه على الخروج ليس إلّا التخلّص من الغصب الموجب لكونه ذا مصلحة نفسيّة، وواجباً نفسيّاً، وذلك لا يصلح لجعل الخروج معنوناً بهذا العنوان ولا مصداقاً له؛ لأنّ التخلّص من الغصب عبارة عن تركه المتحقّق بانتهاء الحركة الخروجيّة إلى الكون في الخارج عن المغصوب، فليس الخروج بنفسهمعنوناً بعنوان التخلّص ولا مصداقاً له في الخارج حتى يكون ذا مصلحة نفسيّة وواجباً نفسيّاً.

وأمّا الوجوب الغيريّ: فلأنّ الخروج ليس مقدّمة للتخلية، بل الحركات الخروجيّة مقدّمة للكون في خارج المكان المغصوب، وليست هذه الحركات مقدّمة للتخلية الواجبة التي هي إفراغ المكان عن التصرّف العدوانيّ.

وبعبارة ثانية: فإنّ الخروج مقدّمة لملازم التخلية الواجبة - وهو الكون في المكان المباح - لا مقدّمة لنفس الواجب حتى يكون واجباً غيريّاً لأجل المقدّميّة. فالخروج ليس بواجب، لا نفسيّاً ولا مقدّميّاً، حتى يقدّم جانبه وترتفع الحرمة.

ص: 243

نعم، يمكن القول: بالوجوب العقليّ، لا الشرعيّ؛ لأنّ العقل يحكم بالخروج دفعاً للأفسد - وهو الغصب الزائد على الخروج - بالفاسد، وهو الغصب بمقدار الخروج.

ثمّ إنّ وجوب المقدّمة مع انحصارها إنّما يكون بشرطين:

الأوّل: أن يكون الواجب أهمّ من ترك المقدّمة، كإنقاذ الغريق، فإنّه أهمّ من حرمة الدخول في المكان المغصوب، وأيضاً: كالخروج عنه تخلّصاً من الغصب، فإنّ الواجب - وهو التخلّص عنه - أهمّ من ترك الحرام، وهو الخروج.

والثاني: أن لا يكون الاضطرار إلى المقدّمة المحرّمة - كالخروج - بسوء اختياره، وإلّا، تبقى المقدّمة على حالها من الحرمة والمبغوضيّة، فلا يبقى هناك تنافٍ بين وجوب المقدّمة والحرمة، خصوصاً فيما إذا كان توصّليّاً.وقد استُشكل في ذلك: بأنّ الالتزام بالحرمة يوجب ارتفاع الوجوب عن ذي المقدّمة، وهو التخلّص من الغصب، أو حفظ النفس بالنسبة إلى شرب الخمر؛ حيث إنّ المقدّمة - وهي الخروج والشرب - ممنوعة شرعاً، وموجبة لاستحقاق العقوبة عقلاً.

ومن المقرّر: أنّ الممنوع شرعاً كالممنوع عقلاً، فالتكليف بذي المقدّمة مع امتناع مقدّمته الوجوديّة تكليف بغير المقدور؛ إذ لا يمكن الجمع بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها، فلابدّ أن نقول: إمّا بسقوط

ص: 244

الحرمة عن المقدّمة، أو بسقوط الوجوب عن ذي المقدّمة.

ولكنّ الالتزام بسقوط الوجوب كما ترى، حيث لم يلتزم أحد بسقوط وجوب التخلّص عن المغصوب وحفظ النفس، فلا محالة: يتعيّن القول بسقوط الحرمة عن المقدّمة، وهي الخروج والشرب، وهو المطلوب(1).

قد أجاب عنه صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:

«إنّما كان الممنوع كالممتنع إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشاداً إلى ما هو أقلّ المحذورين، وقد عرفت لزومه بحكمه، فإنّه مع لزوم الإتيان بالمقدّمة عقلاً لا بأس في بقاءذي المقدّمة على وجوبه، فإنّه حينئذٍ ليس من التكليف بالممتنع كما إذا كانت المقدّمة ممتنعة»(2).

وحاصله: أنّه بعد حكم العقل بلزوم فعل المقدّمة، فالوجوب باقٍ على حاله؛ لأنّه ليس من التكليف بالممتنع وغير المقدور، بعد أن كانت مخالفته من باب أقلّ المحذورين، فلا منافاة بين كون الخروج

ص: 245


1- هذا الوجه - كما أفاده المحقّق المشكيني) - ممّا يمكن الاستدلال به للتقريرات، وإن لم يستدلّ هو به. وقد أشار إليه في الكفاية بقوله: «إن قلت: كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعاً عنه شرعاً ومعاقباً عليه عقلاً مع بقاء ما يتوقّف عليه على وجوبه، ووضوح سقوط الوجوب مع امتناع المقدّمة المنحصرة، ولو بسوء الاختيار، والعقل قد استقلّ بأنّ الممنوع شرعاً كالممتنع عادةً أو عقلاً؟». انظر: حواشي المشكيني 2: 174، وكفاية الاُصول: ص 171- 172.
2- كفاية الاُصول: ص 172.

واجباً وبين كونه ممتنعاً شرعاً بالنهي السابق الذي سقط بالفعل وكان بسوء اختياره.

ثمّ تنزّل(قدس سره) وقال:

«لو سُلّم، فالساقط إنّما هو الخطاب فعلاً بالبعث والإيجاب، لا لزوم إتيانه عقلاً خروجاً عن عهدة ما تنجّز عليه سابقاً، ضرورة أنّه لو لم يأتِ به لوقع في المحذور الأشدّ ونقض الغرض الأهمّ، حيث إنّه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية بلا حدوث قصورٍ، أو طروّ فتورٍ فيه أصلاً، وإنّما كان سقوط الخطاب لأجل المانع، وإلزام العقل به لذلك إرشاداً كافٍ، لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والإيجاب له فعلاً، فتدبّر جيّداً»(1).

وحاصله: أنّه لو فرض سقوط وجوب ذي المقدّمة، لعدم التمكّن منه، من جهة حرمة مقدّمته، إلّا أنّ الساقط هو فعليّته، التي هي البعث والإيجاب بحفظ النفس عن الهلاك والتخلّص من الغصب.ولكن بما أنّ حكم العقل بلزوم الخروج باقٍ على حاله، فلا نحتاج مع هذا الحكم إلى الحكم الشرعيّ الفعليّ، فإنّ الملاك موجود، وحرمة المقدّمة مانعة عن فعليّة وجوب ذي المقدّمة، ووجوب التخلّص ثابت بحكم العقل، وحكمه كافٍ لا حاجة معه إلى الحكم الشرعيّ.

ص: 246


1- المصدر نفسه.

فظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ الخروج باقٍ على حرمته ولا تتبدّل حرمته بالوجوب من جهة الاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار، ولم يخرج عن عموم دليل حرمة الغصب، ولم يصر مطلوباً بسبب توقّف التخلّص عليه؛ لأنّ الاضطرار إنّما كان بسوء اختياره.

ولكنّ المحقّق النائيني) ذكر أنّ الخروج ليس مورد الاضطرار، فلا يدخل المورد تحت قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار»، فالبحث إنّما يقع في التزاحم الحاصل بين حرمة الخروج ووجوب التخلّص عن الغصب الزائد، فالمورد من موارد التزاحم بين الحكمين بسوء الاختيار(1).

نعم، إنّما يحكم العقل بالخروج من جهة أنّه أقلّ المحذورين، كما ذكرنا سابقاً.

فإن قلت: إذا كان الخروج لازماً ولو باللّزوم العقليّ ومن جهة الفرار عمّا هو أكثر عقوبة، فكيف يكون معاقباً عليه عقلاً؟ بل هناك تنافٍ بين لزوم الخروج واستحقاق العقاب.قلت: إنّ حكم العقل باللّزوم ليس لأجل أنّ هناك مصلحةً في ذات الخروج تكون موجبةً لإلزام العقل، بل لأجل أنّ الخروج موجب للفرار عن العقوبة الزائدة، وهو ترك الخروج والبقاء.

فإن قلت: لو كانت حرمة الخروج باقية، فكيف يمكن أن يكون ماُموراً

ص: 247


1- انظر: أجود التقريرات 1: 376.

به؟ فإنّ النهي لا يزال باقياً والخروج لا يزال حراماً حتى من بعد حدوث الاضطرار.

قلت: ليس الخروج ماُموراً به - كما مرّ - لا بالأمر النفسيّ ولا بالأمر الغيريّ، وإنّما العقل يحكم بلزومه من باب أقلّ المحذورين.

فإن قلت: فبناءً على هذا يلزم اجتماع الضدّين، وهما الوجوب والحرمة في فعلٍ واحد بعنوانٍ واحد.

قلت: يمكن الجواب عن ذلك: بأنّا نختار القول الذي ذهب إليه صاحب الفصول(قدس سره)، ولا يرد هذا الإشكال؛ لأنّه لا يقول بأنّ الخروج معصية حقيقيّة حتى يكون حراماً كي يلزم اتّصافه بالوجوب والحرمة، بل يقول بأنّه في حكم المعصية، أي: بلحاظ استحقاق العقوبة.

ومن هنا ظهر فساد ما أورده الاُستاذ الأعظم(قدس سره) على هذا القول من أنّه يستلزم التكليف بالمحال ببيان:

«أنّ المتوسّط في الأرض المغصوبة لا يخلو من أن يبقى فيها أو يخرج عنها ولا ثالث لهما. هذا من ناحية.ومن ناحية أُخرى: المفروض أنّ البقاء فيها محرّم، فلو حرم الخروج - أيضاً - لزم التكليف بما لا يطاق، وهو محال، فإذاً لا يعقل أن يكون الخروج محكوماً بالحرمة»(1).

ص: 248


1- محاضرات في اُصول الفقه 4: 70، (المجلّد 46 من موسوعة الإمام الخوئي(قدس سره)).

حكم الصلاة حال الخروج:

وأمّا الصلاة حال الخروج، فهي تارةً تكون تصرّفاً زائداً وأُخرى لا تكون كذلك. وعلى الفرض الثاني، فتارةً يكون هناك مندوحة وأُخرى لا يكون هناك مندوحة.

أمّا في صورة وجود المندوحة، فلا إشكال في عدم الجواز، خصوصاً إذا جيء بها بنحو الايماء والإشارة مع التمكّن من الإتيان بها تامّةً خارج مكان الغصب.

وأمّا في صورة عدم المندوحة، ولم تكن تصرّفاً زائداً في الغصب:

فبناءً على نظريّة الشيخ(قدس سره) القائلة بأنّ الخروج ليس بحرام، وأنّ الخروج وقع حسناً، فلا إشكال في صحّة الصلاة، ولابدّ له أن يصلّي مع الإيماء والإشارة إذا كان يصلّي وهو يمشي، وأمّا إذا كان في السيّارة حال الخروج، فيأتي بالصلاة تامّةً؛ لأنّ هذا التصرّف لا يعدّ تصرّفاً زائداً ولا زماناً زائداً.

اللّهمّ إلّا أن يدّعى أنّ العرف يراه تصرّفاً زائداً في الغصب، ولو لم يكن بالدقّة كذلك، ولكن السؤال هنا: هو أنّ فهم العرفهل يكون متّبعاً مطلقاً أم في خصوص تعيين المفهوم دون التطبيق؟

الصحيح: أنّ فهم العرف ونظره إنّما يكون متّبعاً في الأوّل دون الثاني، فلابدّ من الأخذ بما تقتضيه الدقّة، بعد أن كان أصل تحقّق مفهوم الغصب

ص: 249

والتصرّف في المغصوب معلوماً، وإنّما الشكّ في أنّه هل يتحقّق تصرّف في الغصب زائداً على التصرّف في أصل الغصب بالركوع والسجود حين الخروج أم لا؟

وأمّا بناءً على سائر الأقوال: فبعدما قلنا أنّ التصرّف الخروجيّ حرام كالدخوليّ والبقائيّ، وفرضنا وجود المندوحة، فلا فرق بين أن يكون الخروج محرّماً بالحرمة الفعليّة أو بالنهي السابق، فلا يجوز الإتيان بالصلاة إلّا خارج المكان المغصوب حيث يمكن الإتيان بها تامّةً مستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط.

ولا إشكال في القول بفسادها إذا صلّاها قبل الخروج، وإن فرض جواز اجتماع الأمر والنهي؛ فإنّ القبح الفاعليّ إذا كان موجوداً وكان العمل عباديّاً، فمن الواضح: أنّه لا يمكن التقرّب به حينئذٍ.

وأمّا مع فرض عدم وجود المندوحة وضيق الوقت، فلابدّ من القول بسقوط النهي وعدم مانعيّة الغصب، ولابدّ من ترجيح جانب الصلاة؛ لأنّ الصلاة لا تسقط بحال - كما عرفنا -، وإلّا، كان اللّازم الحكم بسقوط الصلاة في هذه الحالة.

ص: 250

مسألة اقتضاء النهي الفساد

اشارة

الكلام في أنّ النهي إذا تعلّق بالعبادة أو المعاملة هل يوجب الفساد أم لا؟ والكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في النهي عن العبادة.

والمقام الثاني: في النهي عن المعاملة.

ولابدّ أوّلاً من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

في الفرق بين هذه المسألة ومسألة الاجتماع:

لا يخفى: أنّ موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي هو أنّ الأمر والنهي قد تعلّقا بعنوانين بينهما افتراق في الجملة وقد ينطبقان على واحد.

وأمّا موضوع هذه المسألة فهو ما إذا تعلّق النهي بعين ما تعلّق به الأمر في العبادات، أو الإمضاء في المعاملات، أو ببعضه، فموضوع

ص: 251

تلك المسألة - إذاً - مغاير لموضوع هذه المسألة. والكلام في تلك المسألة يدور حول أنّ كلّاًمنهما هل يسري إلى متعلّق الآخر أم لا؟ وأمّا هنا فالاتّحاد مسلّم ومفروغ عنه.

نعم، بناءً على السراية في تلك المسألة تكون موارد الاجتماع من صغريات هذه المسألة.

ولا يقتصر الفرق بين المسألتين على الفرق بينهما موضوعاً، بل هناك فرق بينهما محمولاً - أيضاً -؛ إذ إنّ المحمول في مسألة الاجتماع هو أنّه هل يسري ويتّحد المتعلّقان أم لا؟ وأمّا في هذه المسألة بعد الفراغ عن السراية، فهل يقتضي النهي الفساد أم لا؟

وأيضاً: فالفساد هنا ناشئ عن النهي، لكن بوجوده الواقعيّ، ولو لم يصل إلى مرتبة التنجّز؛ لأنّ المسألة داخلة في باب التعارض، فإذا ورد النهي، كشف عن عدم المصلحة، وإذا لم تكن هناك مصلحة، لم تصحّ العبادة؛ لأنّ صحّتها - كما هو معلوم - منوطة بالأمر، أو بالملاك، وبما أنّ هنا متعلّقاً واحداً، فيكون النهي كاشفاً عن عدم الملاك في الأمر، فلا يكون هناك ما يصحّح العبادة.

وأمّا في مسألة الاجتماع، فإنّ فساد العبادة مترتّب على تنجّز النهي؛ لأنّ تلك المسألة داخلة في باب التزاحم، فيكون الملاك في كليهما موجوداً، والتزاحم بينهما إنّما يكون في مقام الامتثال، من جهة عدم قدرة المكلّف على الإتيان بهما جميعاً.

ص: 252

ففساد العبادة هنا ناشئ عن عدم صلاحيّة الفعل للمقرّبيّة، أو عن عدم تمشّي قصد القربة، وكلاهما راجعانإلى مقام التنجّز، ومن هنا قالوا بصحّة العبادة في المكان المغصوب في صورة الجهل.

الأمر الثاني:

هل هذه المسألة من المسائل العقليّة أم لا؟

أدخل بعض المحقّقين(رحمة الله) المسألة في المسائل اللّفظيّة، ووجهه: «هو وجود القول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة العقليّة بين النهي والفساد فيها، فلو جُعل البحث بحثاً عقليّاً لم يكن هذا القول من أقوال المسألة، بخلاف ما لو جعل البحث لفظيّاً، فإنّه يكون من أقوالها»(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ هذه المسألة - هي كمسألة الاجتماع - من المسائل العقليّة؛ لأنّ النزاع هنا في حكم العقل بالملازمة بين الحرمة والفساد، بلا فرق بين أن يكون الدالّ على الحرمة هي صيغة النهي أو الإجماع أو الضرورة أو غير ذلك.

الأمر الثالث:

هل هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

ص: 253


1- منتقى الاُصول 3: 166.

الحقّ: أنّها منها؛ لأنّ نتيجتها تقع كبرى في قياس يستنتج منه الحكم الكلّيّ الإلهيّ بعد ضمّ الصغرى إليها، والمسائل الاُصوليّة دائماً تثبت الكبرى، فإذا حُكم في الاُصولبأنّ النهي يدلّ على الفساد، أي: بأنّ هناك ملازمة بين الحرمة والفساد، فإذا كان هناك عبادة منهيّ عنها، كقوله%: «دعي الصلاة أيّام أقرائك»(1)، أو كانت المعاملة الفلانيّة منهيّاً عنها، كالنهي عن البيع في يوم الجمعة، فيحكم بالفساد، أي: بفساد كليهما.

وأمّا لو قلنا في الاُصول بأنّ النهي لا يقتضي الفساد، فحينئذٍ: يحكم بصحّة العبادة والمعاملة، وعليه: فهذه المسألة من المسائل الاُصوليّة لا محالة.

الأمر الرابع:

هل النهي المأخوذ في عنوان المسألة يشمل النهي التنزيهيّ أم لا، بل المراد منه خصوص النهي التحريميّ؟

قد يقال: بالعموم؛ لأنّ الملاك، وهو التنافي، كما أنّه موجود في النهي التحريميّ، فكذلك هو موجود في النهي التنزيهيّ أيضاً؛ لأنّ ما تقتضيه العبادة هي المحبوبيّة، وهي لا تجتمع مع المبغوضيّة، ولو كانت غير إلزاميّة.

ص: 254


1- تهذيب الأحكام 1: 384، باب 19، الحيض والاستحاضة والنفاس.

هذا في العبادات.

وأمّا في المعاملات، فإنّه لا منافاة بين النهي التنزيهيّ والفساد، ولو تعلّق بمعناه الاسم المصدريّ، بخلاف النهي التحريميّ، فإنّه إذا تعلّق بالمعاملة على نحو الاسمالمصدريّ، فمعناه مبغوضيّة وقوع هذه المعاملة، ومنع الشارع عن إيقاعها، وهذا ينافي الإمضاء.

ولأجل ذلك استشكلوا على الشيخ الأعظم(قدس سره) حيث خصّ العنوان بالنهي التحريميّ دون التنزيهيّ، فقال - على ما في التقريرات -: «الثاني: ظاهر النهي المأخوذ في العنوان هو النهي التحريميّ، وإن كان مناط البحث في التنزيهيّ موجوداً، وذلك لا يوجب تعميم العنوان»(1).

الأمر الخامس:

أنّ النهي المأخوذ في العنوان يشمل النهي الغيريّ الأصليّ، كالنهي عن لباس الحرير أو غير المأكول في الصلاة؛ لأنّ المركّب مقيّد بعدمه، ومعلوم أنّ كلّ مركّب فهو ينتفي بانتفاء أحد قيوده، ومن جملة قيوده هنا هو القيد العدميّ، فلو كانت الصلاة فاقدةً لهذا القيد كانت فاسدة لا محالة.

هذا في النهي الغيريّ الأصليّ.

ص: 255


1- انظر: مطارح الأنظار 1: 728، وكفاية الاُصول: ص 181.

وأمّا النهي الغيريّ التبعيّ، أعني: النهي الذي لا يكون مدلولاً للخطاب بحيث يكون مقصوداً من اللّفظ، بل كان لازماً للمراد باللّزوم العقليّ الذي يحكم به العقل بملاحظة الخطاب، وشيء آخر وهو مقدّميّة ترك الضدّ لفعل الضدّ الآخر، كما إذا أمر بإزالة النجاسة عن المسجد المتوقّفة على مقدّمات، منها: ترك الصلاة، فيقال: إنّ الصلاة حينئذٍ تكونمنهيّاً عنها بالنهي الغيريّ التبعيّ، فبناءً على ثبوت المقدّميّة، فإنّ مثل هذا النهي، وهو النهي عن الصلاة بالنهي الغيريّ، لا يضرّ مع وجود الملاك في المنهيّ عنه، ولا يكشف عن عدمه. فلا يدلّ على الفساد.

ولكنّ النهي مطلقاً، ولو كان تبعيّاً، يكون موجباً للفساد، إذا كان عباديّاً، ولاسيّما بعدما جعلوا الثمرة في باب «أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه» هي فساد الضدّ إذا كان عباديّاً.

والحاصل: أنّ العبادة، وهي الصلاة في المثال، تبطل إذا كان الإتيان بها موجباً لترك الإزالة المأمور بها.

الأمر السادس:

لا يخفى: أنّ المبحوث عنه في هذه المسألة إنّما هو العبادة بالمعنى الأخصّ، أي: ما يقصد منها القربة، أي: يشترط في صحّتها قصد القربة. وأمّا العبادة بالمعنى الأعمّ فلا؛ فإنّ غسل الثوب النجس - مثلاً - يجتمع مع النهي، إذ لو ورد نهي عن غسل الثوب النجس بالماء المغصوب؛ فإنّ

ص: 256

هذا النهي لا يدلّ على فساد المغسول، فالنهي لا يؤثّر فيه أصلاً، بعد أن كان أثره، وهو طهارة الثوب، ملازماً له دائماً، ولا يتخلّف عنه.

الأمر السابع:

أنّه يدخل في محلّ النزاع كلّ معاملة كانت قابلةً للاتّصاف بالصحّة والفساد، وأمّا ما لا يقبل الاتّصاف بهما كليهما، إمّا لعدم كونه ذا أثر أصلاً، أو لأنّه ذو أثر ولكن كان ملازماً له دائماً لا يتخلّف عنه، فهذا لا يدخل في محلّ النزاع؛ لعدم اتّصافه بالفساد، فلا معنى للبحث عنه.

ومن هنا ظهر: أنّه لا وجه لما صنعه المحقّق النائيني(قدس سره) من تخصيص الكلام بالعقود والإيقاعات، بدعوى: عدم توهّم اقتضاء النهي في مثل التحجير للفساد(1). فإنّها تندفع بأنّ الملاك الذي يقتضي الفساد في مثل العقود يقتضيه في مثل التحجير.

نعم، إذا ورد النهي على المعاملات بنحو المعنى الاسم المصدريّ كان موجباً للبطلان إذا كان النهي تحريميّاً، وكانت المعاملة من قبيل العقود والإيقاعات.

وأمّا المعاملات بالمعنى الأعمّ، فلا، فلو نهى الوالد ولده عن إحياء

ص: 257


1- انظر: أجود التقريرات 1: 388، وإليك نصّ ما أفاده): «وأمّا المعاملة بالمعنى الأعمّ الشاملة للتحجير والحيازة وأمثالهما، فلم يتوهّم أحد دلالة النهي فيها على الفساد».

الأرض فأحياها، كان العمل مؤثّراً، وإن كان وروده بنحو المعنى الاسم المصدريّ، وبناءً على وجوب إطاعة الوالد مطلقاً، وكذا لو نذر أو حلف على عدم الإحياء، ثمّ خالف وأحياها.

الأمر الثامن:

في تفسير المراد من الصحّة والفساد:

قال صاحب الكفاية): «أنّ الصحّة والفساد وصفان إضافيّان يختلفان بحسب الآثار والأنظار، فربّما يكون شيء واحد صحيحاً بحسب أثر أو نظر، وفاسداً بحسب آخر، ومن هنا صحّ أن يقال: إنّ الصحّة في العبادة والمعاملة لا تختلف، بل فيهما بمعنىً واحد، وهو التماميّة، وإنّما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس عليها تتّصف بالتماميّة وعدمها»(1).

لا يخفى: أنّ الصحّة تطلق تارةً ويراد بها ما يقابل العيب، فالصحيح على هذا هو ما ليس بخارج عن الخلقة الأصليّة. وتطلق أُخرى في مقابل الفساد، فالصحيح بناءً عليه هو ما يترتّب عليه الأثر. والمراد في محلّ البحث عن أنّ النهي يقتضي الفساد أم لا هو هذا المعنى الثاني، أي: أنّ النهي هل يوجب عدم ترتّب الأثر، أي: عدم الصحّة التي مقابل الفساد أم لا؟

ص: 258


1- كفاية الاُصول: ص 182 - 183.

ولا يخفى - أيضاً -: أنّ التقابل بينهما هو من باب التقابل بين العدم والملكة، وليس من قبيل التضادّ؛ لأنّ الفساد ليس بأمرٍ وجوديّ، ولا من تقابل السلب والإيجاب؛ لأنّ الفساد إنّما يترتّب على شيء يكون قابلاً للصحّة، ولا يترتّب على عدم الصحّة مطلقاً.فالصحيح - إذاً - هو ما يترتّب عليه الأثر المطلوب، والفاسد هو ما لا يترتّب عليه الأثر المطلوب ممّا هو قابل لأن تترتّب عليه الصحّة، وهما، أي: الصحيح والفاسد، لا يصدقان إلّا في المركّبات التي لها أجزاء وشرائط، بحيث لو أتيت بالشيء تامّ الأجزاء والشرائط سمّي صحيحاً، وإلّا، سمّي فاسداً.

فبناءً على هذا: فالبسائط لا تتّصف بالصحّة ولا بالفساد، بل الأمر في البسائط دائر بين الوجود والعدم، فإذا وجدت فهي صحيحة؛ إذ ليس لها أجزاء وشرائط حتى يقال: إنّ المركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، وإن لم توجد كانت من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع بالنسبة إلى الصحّة والفساد؛ لأنّهما وصفان لا يترتّبان ولا يُحملان على الشيء إلّا بعد وجوده.

ثمّ إنّ المركّب وإن كان هو الذي يتّصف بالصحّة والفساد، ولكن ليس كلّ مركّب قابل لذلك؛ فإنّ موضوعات الأحكام، وإن كانت مركّبة، لا يترتّب عليها الصحّة والفساد، كما في الاستطاعة المركّبة من البلوغ والعقل، فإنّ أمرها يدور بين الوجود والعدم، لا بين الصحّة والفساد؛ فإنّه إن كانت الشروط جميعاً موجودة فالموضوع موجود، وإن فقد

ص: 259

الموضوع، ولو بفقد بعض شروطه، فالموضوع مفقود.

نعم، الذي يتّصف بهما هو متعلّقات الأحكام، كالحجّ والصلاة، وما يُلحق بها، كالأسباب في العقود؛ فإنّ العقد مركّب من الإيجاب والقبول، فهو تارةً يترتّب عليه الصحّة إذا كان تامّ الأجزاء والشرائط، وأُخرى يترتّب عليه الفساد إذالم يكن كذلك. وأمّا الملكيّة والزوجيّة وأمثالهما، فبما أنّهما بسيطان، فلا يدور أمرهما مدار الصحّة والفساد.

وبالجملة: فلابدّ أن يكون للشيء أثر شرعيّ حتى يتّصف بالصحّة أو بالفساد، وأمّا لو لم يكن له أثر شرعيّ، أو كان أثره غير منفكّ عنه، كالغصب الملازم للضمان، فلا مجال لأن يتّصف بهما.

وهل الصحّة والفساد أمران واقعيّان أم أمران مجعولان شرعاً؟

أم أنّ هناك تفصيلاً بين العبادات والمعاملات، فهما مجعولان شرعاً في المعاملات دون العبادات؟

أم أنّ هناك تفصيلاً بين المعاملات الكلّيّة والمعاملات الشخصيّة، فهما مجعولان في الاُولى شرعاً دون الثانية؟

أم أنّ هناك تفصيلاً بين الحكم الظاهريّ والحكم الواقعيّ، فهما مجعولان في الأوّل شرعاً دون الثاني؟

وجوه بل أقوال.

اختار الاُستاذ الأعظم(قدس سره) «التفصيل بين كون الصحّة والفساد في

ص: 260

العبادات غير مجعولين شرعاً، وفي المعاملات مجعولين كذلك ..»(1). وقال): «إلى هنا استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أنّ الصحّة والفسادفي المعاملات أمران واقعيّان، وفي المعاملات أمران مجعولان شرعاً»(2).

ولكنّ الحقّ: أنّ الصحّة، وإن كانت بمعنى التماميّة، فإنّها البحث فيها يقع في مقامين؛ إذ إنّها:

تُلحظ تارةً بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ.

وأُخرى بالنسبة إلى الأمر الثانويّ والظاهريّ.

أمّا الصحّة بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ، فهي عند الفقيه تكون من الاُمور العقليّة؛ لوضوح أنّ العقل يحكم بسقوط الأمر بعد انطباق المأمور به على المأتيّ به، فلا يبقى هناك موجب للإعادة والقضاء، فليست الصحّة أمراً انتزاعيّاً.

وأمّا بالنسبة إلى الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهريّ أو الواقعيّ الثانويّ:

فتارةً: تكون الصحّة فيهما حكماً وضعيّاً شرعيّاً، كما إذا بقي من الملاك - بعد الإتيان بالمأمور به - مقدار يقتضي تشريع وجوب الإعادة أو

ص: 261


1- محاضرات في اُصول الفقه 4: 143.
2- المصدر نفسه 4: 145.

القضاء، ولكنّ الشارع المقدّس تخفيفاً على العباد لم يوجب شيئاً منهما، واكتفى بالمأمور به بالأمر الثانويّ أو الظاهريّ تفضّلاً عليهم، فلا محالة: تكون الصحّة - حينئذٍ - حكماً وضعيّاً شرعيّاً، لا عقليّاً، ولا انتزاعيّاً.

وأُخرى: تكون الصحّة حكماً عقليّاً، كما إذا فرض وفاء المأمور به بالأمر الثانويّ الظاهريّ أو الواقعيّ بتمام الملاك أو بمعظمه، بحيث لا يقتضي الباقي تشريع وجوبالإعادة أو القضاء، والصحّة - حينئذٍ - حكم عقليّ؛ لأنّها تكون من اللّوازم العقليّة للإتيان بالمأمور به.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الصحّة عند المتكلّم أمر انتزاعيّ ناشئ من انطباق المأمور به على المأتيّ به. وأمّا عند الفقيه، فالصحّة بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ الأوّليّ من اللّوازم العقليّة، وبالنسبة إلى الأمر الثانويّ أو الظاهريّ إمّا حكم وضعيّ شرعيّ، وإمّا حكم عقليّ.

ثمّ إنّ الصحّة والفساد من الاُمور الإضافيّة، أي: ليس لهما حدّ معيّن واقعاً، بل ربّما يكون الشيء الواحد صحيحاً بالنسبة إلى أثر، وفاسداً بالنسبة إلى أثرٍ آخر؛ فإنّ المأمور به بالأمر الظاهريّ، كالوضوء المستصحب، صحيح، كما في حال التقيّة، ويسقط الأمر به إذا جيء به مطابقاً للأمر الظاهريّ، ولكنّه مع ذلك، يكون فاسداً بالنسبة إلى أمرٍ آخر، كسقوط القضاء، أو في غير حال التقيّة، فإنّه يكون صحيحاً بالنسبة إلى أمرهما، دون الأمر الواقعيّ. كما أنّه قد يكون الشيء الواحد صحيحاً بنظر العرف دون الشرع، كما في بيع المنابذة.

ص: 262

ويمكن أن يقال: بأنّ الصحّة بمعنى التماميّة، فالصحيح هو ما يكون واجداً لجميع الأجزاء والشرائط، وأمّا الفاسد فهو أن يكون العمل فاقداً لبعض الأجزاء أو الشرائط، فإذا كان كذلك، لم يكن هناك من فرق بين الصحّة عند الفقيه والصحّة عند المتكلّم، وإن عرّف المتكلّمونالصحّة بأنّها بمعنى موافقة الشريعة، والفقهاء بأنّها بمعنى إسقاط القضاء.

إلّا أنّ هذا لا يعدو أن يكون محض اختلاف في الأغراض، وإلّا، فالصحّة عند الجميع بمعنى واحد، وهو: التماميّة، غاية الأمر: أنّ نظر الفقيه كان إلى إسقاط الإعادة والقضاء فعرّفها بذلك، ونظر المتكلّم إلى حيثيّة استحقاق الثواب والعقاب، فلذا عرّفها بموافقة الأمر أو موافقة الشريعة.

وبعبارة أُخرى: فإنّ المقصد الذي مشى عليه كلّ منهما هو الذي دعاهما إلى التعبير عن التماميّة - التي هي حقيقة معنى الصحّة - بما يكون من لوازمها.

فإذا اتّضح هذا: فإنّ النسبة بين التعريفين هي العموم المطلق؛ فإنّ كلّ ما يسقط وجوب الإعادة أو القضاء يكون - لا محالة - موافقاً للأمر والشريعة، ولا عكس، أي: ليس كلّ ما هو موافق للأمر يكون مسقطاً لهما؛ لأنّ المأتيّ به مع الطهارة المستصحبة يكون موافقاً للأمر، ولكن إذا انكشف الخلاف فلا يكون مسقطاً للأمر بالإعادة والقضاء.

ص: 263

فإذا عرفت هذا، فنقول:

تحقيق هذه المسألة منوط بمعرفة أقسام الأمر، وهي ثلاثة:

الأوّل: الواقعيّ الأوّليّ، كالأمر بالصلاة، كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾(1).

الثاني: الواقعيّ الثانويّ، كالأمر بالوضوء بغسل الرجلين أو الأمر بالصلاة متكتّفاً تقيّةً.الثالث: الظاهريّ، كالصلاة مع الوضوء المستصحب.

وحينئذٍ نقول: إنّ فرض كون النسبة بين التعريفين هي العموم والخصوص المطلق منوط:

أوّلاً: بأن يكون المراد من تعريف المتكلّم (موافقة الأمر) ما يعمّ الأقسام الثلاثة المذكورة للأمر. إذ لو كان المراد من (موافقة الأمر) خصوص الأمر الواقعيّ الأوّليّ، فلو جيء بالواقعيّ الثانويّ، أو بالظاهريّ، فلا يكون موافقاً، كما أنّه لا يكون مسقطاً للقضاء والإعادة.

وثانياً: بأن يبني الفقيه على عدم الإجزاء بموافقة الأمر الظاهريّ، فحينئذٍ يصدق أنّ كلّ ما يسقط الإعادة والقضاء موافق للأمر، ولا عكس، أي: لا يصدق أنّ كلّ ما هو موافق للأمر على نحو الإطلاق مسقط للإعادة أو القضاء؛ وذلك لأنّ المأمور به بالأمر الظاهريّ، وإن كان موافقاً للأمر

ص: 264


1- انظر - مثلاً - : البقرة: الآية 43.

عند المتكلّم؛ لأنّ المفروض أنّه أراد بالأمر في تعريفه ما يعمّ الأقسام الثلاثة، إلّا أنّه ليس مسقطاً للإعادة أو القضاء؛ لأنّ الفقيه لا يقول بمسقطيّة الأمر الظاهريّ لهما.

والحاصل: أنّه بانتفاء أحد الأمرين - بأن خصّ المتكلّم الأمر بالواقعيّ، أو بنى الفقيه على الإجزاء - تنتفي النسبة المذكورة بين التعريفين، وتكون النسبة بينهما هي التساوي؛ لأنّ موافقة مطلق الأمر مسقطة للإعادة أو القضاء، وكذا كلّ مسقط لهما موافق للأمر، فعلى انتفاء أوّل الأمرين تكون الصلاة مع الطهارة المستصحبة موافقة للأمر الظاهريّ، ومسقطة لهما.وعلى انتفاء ثانيهما لا تكون الصلاة المذكورة موافقة للأمر، ولا مسقطة للإعادة أو القضاء.

في بيان معنى العبادة والمعاملة:

لا يخفى: أنّ تحقيق مسألة أنّ النهي في العبادة أو المعاملة هل هو موجب للفساد أم لا؟ لا يتمّ إلّا بعد تحديد ما هو المراد من كلٍّ من العبادة والمعاملة.

أمّا المراد من العبادة: فأحد معنيين:

الأوّل: ما يكون بذاته عبادة من دون إناطة عباديّتها بأمر، فالعبادة حينئذٍ فعليّة ذاتيّة، كالسجود والركوع ونحوهما ممّا يكون بنفسه عبادة، فإذا فرض تعلّق النهي بهذا القسم من العبادات، ترد عليه الحرمة، ولكنّ

ص: 265

هذه الحرمة الآتية من قبل النهي لا تكون سبباً لإخراجه عن العباديّة، لكون عباديّته ذاتيّة بحسب الفرض. نعم، تكون سبباً لإخراجهما عن المقرّبيّة.

الثاني: أنّ المراد بالعبادة هو الأعمّ من العبادة الفعليّة الناشئة عباديّتها عن ذاتها، كالركوع والسجود كما تقدّم آنفاً، أو ما تكون عباديّته تعليقيّة، بمعنى: أنّه لو أمر به لصار عبادة، وكان أمره عباديّاً بحيث لا يسقط إلّا إذا أتى به على وجه قربيّ، كالصلاة في أيّام الحيض، أو صوم العيدين.

التحقيق: أنّ النزاع لا يأتي في العبادة التقديريّة؛ لأنّ المفروض أنّ العبادة التقديريّة لا أمر فيها فعلاً، وعدم الأمركافٍ في فسادها، فلا تصل النوبة إلى تأثير النهي في الفساد، كما هو ظاهر عنوان المسألة، حيث أُسند الفساد فيه إلى النهي.

فالأَولى أن يُقال: المراد من العبادة هو ما لولا النهي لكان عبادة، بحيث لو تعلّق به النهي لتعلّق بما هو عبادة فعلاً، فلو اُريد من العبادة هذا المعنى - أي: العبادة لولا النهي - سلم من الإشكال.

وأمّا لو فرض أنّ المراد منها هي العبادة الفعليّة، فمن الواضح أنّه لا يمكن تأتّي النزاع فيها حينئذٍ، ضرورة استحالة اجتماع الأمر والنهي؛ فإنّ معنى حرمتها فعلاً، أنّها مبغوضة في نظر المولى ولا يمكن التقرّب بها إليه، ومعنى كونها عبادة له، أي: يمكن التقرّب بها، ومن المعلوم استحالة اجتماعهما.

ص: 266

وأمّا المراد من المعاملة: فهو كلّ شيء اعتباريّ قصديّ يتوقّف عليه الأثر شرعاً أو عرفاً، إذا قصد اعتباره وإنشاؤه، فالمعاملة - على هذا التعريف - شاملة للعقود والإيقاعات، وأمّا ما لا يتوقّف أثره على القصد والإنشاء، بل هو متوقّف على وجوده، كتطهير الثوب ونحوه، فهو خارج عن محلّ البحث.

ثمّ هل الصحّة والفساد تردان على الموجودات الخارجيّة أم على الماهيّة؟

الحقّ: أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي، لا موجودة ولا معدومة في حدّ نفسها، إلّا أنّها تعدّ من المعدومات فيالخارج، ولا يعقل عروض الوصفين المذكورين للمعدوم. فإنّ الصحّة - كما عرفنا - هي بمعنى التماميّة، أي: الإتيان بالمأمور به تامّاً في العبادات والمعاملات، وهذا لا يكاد يمكن إلّا في الفرد الخارجيّ، لا الأمر العدميّ. هذا من ناحية.

ومن ناحية أُخرى، فإنّ الشيء لا يتّصف بالصحّة والفساد في مقام الجعل، بل في مقام الامتثال، بلا فرقٍ في ذلك بين العبادات والمعاملات. فإذا جيء بهما في الخارج تامّين، انطبق المأمور به والمنهيّ عنه عليهما، وهذا الانطباق تكوينيّ قهريّ، وهو معنى الامتثال، ومعلوم أنّ الانطباق وعدمه إنّما يكونان باعتبار الخارج، لا باعتبار عالم الذهن، الذي هو عالم الماهيّات.

ص: 267

في تفسير المراد من الأثر:

عرفنا أنّ العبادة التامّة الأجزاء والشرائط - مثلاً - هي العبادة التي يترتّب عليها الأثر، إذا انطبق المأمور به على المأتيّ به منها في الخارج، فما هو المراد من الأثر؟

والجواب: أنّ المراد بالأثر هو الأثر المترتّب على العمل قبل ورود النهي، وأمّا الأثر الذي يأتي بعد ورود النهي، فلا، كما إذا أتى ببعض المحرّمات، فإنّه يترتّب عليه بعض الآثار، من الكفّارات والحدود ونحو ذلك.

والمتحصّل ممّا ذكرناه سابقاً - من أنّ التقابل بين الصحّة والفساد هو من باب تقابل الملكة والعدم -: أنّ الفساد لا يصدقإلّا في مورد يكون قابلاً للصحّة، بلا فرق في ذلك بين أن يكون المنهيّ عنه عبادة أو معاملة، كالبيع - مثلاً -؛ فإنّه إذا كان صحيحاً جامعاً لكافّة الأجزاء والشرائط يترتّب عليه الأثر، وأمّا إذا كان فاسداً بأن لم يستجمع كافّة الأجزاء والشرائط، فلا يترتّب عليه الأثر، فمعنى عدم التماميّة والفساد إنّما هو اختلال بعض ما يترتّب الأثر عليه، كما لو فرضنا أنّه يعتبر في العقد العربيّة، أو تقدّم الإيجاب على القبول، أو عدم الفصل بينهما، ونحو ذلك، وكذا الصلاة - مثلاً -؛ فإنّها قابلة لأن تتّصف بأنّها صحيحة تارةً وفاسدة أُخرى. وبعبارة أُخرى - كما مرّ سابقاً -: فلابدّ أن يكون المأتيّ به مركّباً ذا أجزاء حتى

ص: 268

يصدق عليه أنّه صحيح أو أنّه فاسد.

إذا عرفت هذا، فهل هناك أصل يمكن الرجوع إليه عند الشكّ في دلالة النهي على الفساد أم لا؟

قال في الكفاية: «لا يخفى: أنّه لا أصل في المسألة يُعوّل عليه لو شُكّ في دلالة النهي على الفساد. نعم، كان الأصل في المسألة الفرعيّة الفساد لو لم يكن يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحّة في المعاملة. وأمّا العبادة فكذلك، لعدم الأمر بها مع النهي عنها، كما لا يخفى»(1).

وبالجملة: فلا أصل يمكن أن يُرجع إليه في المقام؛ لأنّ النهي إمّا أن يكون في نفس الأمر والواقع دالّاً على الفسادوإمّا أن لا يكون دالّاً عليه، وحيث لم يعلم شيء منهما، فليس له حالة سابقة معلومة حتى يمكن استصحابها.

فإن قلت: الأصل عدم وضع لفظ النهي للفساد.

قلت: نعم، ولكنّه معارَض بأصالة عدم وضعه للصحّة، فيتساقطان.

وأمّا في المسألة الفرعيّة فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى الاسم المصدريّ، لا بالنسبة إلى المصدر، أي: الأسباب؛ لأنّ الأسباب لا حالة سابقة لها حتى يمكن جريان الاستصحاب لإثباتها.

وأمّا بالنسبة إلى الأثر، وهو الانتقال، ففي المعاملات عند ورود النهي

ص: 269


1- كفاية الاُصول: ص 184.

تجري أصالة الفساد وعدم انتقال الملك وبقاء كلٍّ من المالين عن ملك مالكه.

نعم، لو كان هناك إطلاق أو عموم، فلا تصل النوبة إلى الأصل، كما إذا شككنا بأنّ النهي عند النداء هل هو نهي تكليفيّ أو وضعيّ، فببركة مثل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾(1)، أو قوله: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾(2)، يمكن أن نحمل النهي على التكليفيّ دون الوضعيّ فنحكم بصحّة المعاملة.

فإذا عرفت هذه المقدّمات، فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في النهي عن العبادة:

والنهي في العبادة: تارةً: يتعلّق بنفس العبادة، كصوم الوصال، أو صلاة الحائض، وأُخرى: يتعلّق بجزئها، كقوله: لا تقرأ سور العزائم في الصلاة، وثالثةً: بشرطها، كقوله: لا تتوضّأ بالماء المغصوب، ورابعةً: بوصفها، سواء كان ملازماً لها أو غير ملازم، فالملازم كالقراءة، وغير الملازم كالغصب؛ لأنّه قد لا يكون من أكوان الصلاة، كما إذا صلّيت في غير المكان المغصوب.

والنهي الوارد على الجزء والشرط والملازم: تارةً يكون على نحو الواسطة في الثبوت، وأُخرى على نحو الواسطة في العروض، فعلى

ص: 270


1- البقرة: 275.
2- المائدة: 1.

الأوّل، يكون النهي - في الحقيقة - وارداً على ذات العبادة. وعلى الثاني، فالنهي - في الحقيقة - لم يرد على ذواتها، إلّا على نحو العرض والمجاز.

أمّا إذا تعلّق النهي بالعبادة بذاتها - سواء كان مع الواسطة في الثبوت أو بدونها - فإنّه يدلّ على الفساد - سواء كان إطلاق الأمر بدليّاً، كقولك: (صلّ)، أو شموليّاً ﻛ (أكرم العلماء) - لو فرض عباديّته، فهنا بما أنّ النسبة بين الأمر والنهي هي العموم المطلق، فلا محالة يتقيّد إطلاق الأمر بما عدا مورد النهي، وإذا لم يقيّد بذلك، فلابدّ من إلغاء النهي.

وحين ورود النهي على العبادة، فبما أنّ هذا النهي يدلّ - بطبعه - على الحرمة الذاتيّة وعلى المبغوضيّة، فلا يمكن أن يجتمع مع المحبوبيّة؛ لأنّ الضدّين - في أيّ وعاء كانا - لايجتمعان، فيدلّ النهي - حينئذٍ - على الفساد؛ وذلك لأجل عدم وجود الأمر عندها، والعبادة تحتاج إلى الأمر، وبعد تعلّق النهي به لم يبقَ الأمر، لاستلزامه اجتماع الضدّين، كما عرفنا، وبعد عدم وجود الأمر بالعبادة، فلا محالة تكون فاسدة.

ولو قيل: بأنّا لا نحتاج في عباديّة العبادة إلى الأمر، بل يكفي في صحّتها الملاك - كما عليه اُستاذنا المحقّق(قدس سره)وفاقاً للمحقّق النائيني)(1) - إلّا أنّ هذا الملاك إنّما يكون مصحّحاً للعبادة إذا كان تامّاً في عالم ملاكيّته، ولم

ص: 271


1- انظر: فوائد الاُصول 2: 465، ومنتهى الاُصول 1: 417.

يكن مقهوراً بما هو أقوى منه؛ إذ الملاك المقهور غير صالح للعباديّة، وإلّا، لما صار مغلوباً.

ومن المعلوم: أنّ النهي عن العبادة يكشف عن ثبوت مفسدة فعليّة في العبادة تغلب وتقهر مصلحة الأمر وملاكه، لو فرض أنّه كان فيها جهة مصلحة، وإلّا، فمن الممكن أن لا يكون في العبادة المنهيّ عنها جهة مصلحة أصلاً. بل وعلى تقدير ثبوت المصلحة، فهي مقهورة ومغلوبة للمفسدة التي هي أقوى منها، والتي كانت سبباً لورود النهي، وإلّا، فلو كانت المصلحة مساوية أو أقوى من مفسدة النهي لم يرد النهي على العبادة أصلاً. فإذا كانت المصلحة مغلوبة فلا تكون قابلة للتقرّب، وكانت العبادة فاسدة لا محالة.نعم، لو فرض أنّ العبادة لم يكن لها أمر، وكان الملاك موجوداً فيها، وكان عدم الأمر بها لأجل عدم القدرة عليها، لمكان المزاحمة، لا من جهة المغلوبيّة، فالعبادة تكون صحيحة حينئذٍ بالملاك، ولو لم يكن ثمّة أمر بها.

هذا إذا تعلّق النهي بذات العبادة، وأمّا إذا تعلّق بجزئها، فهو كالنهي المتعلّق بنفس العبادة - أيضاً -، بلا فرق بين أن يكون بنحو الواسطة في الثبوت أو العروض، إذ ليس الكلّ في الخارج إلّا نفس هذه الأجزاء، فكما أنّ ذات العبادة تكون مضادّة للنهي، فكذلك الجزء؛ فإنّ النهي عنه نهي عن العبادة - أيضاً -.

ص: 272

ومعه: لا تكون هذه العبادة تامّة الأجزاء والشرائط، ولا موافقةً للأمر والشريعة، ولا مسقطةً للقضاء ولا للإعادة - بلا فرق بين إعادة ذلك الجزء والإتيان بغيره الذي هو غير الجزء المحرّم وبين عدم الإتيان بغيره -، فلا تكون صحيحة، لا عند المتكلّم، ولا عند الفقيه، وإن قلنا بأنّ النهي كان بنحو الواسطة في العروض لا الثبوت.

وأمّا لو قلنا بأنّه على نحو الواسطة في الثبوت، فإنّ العبادة تكون باطلة قطعاً؛ وذلك لأنّ النهي عن جزء العبادة يقيّدها بعدم ذلك الجزء، ويُثبت مانعيّة وجوده مطلقاً، سواء كان الجزء من سنخ الأفعال أم كان من سنخ الأقوال، وسواء اقتصر على ذلك الجزء المنهيّ عنه، كما إذا اقتصر على قراءة سورة العزيمة بناءً على كونها منهيّاً عنها، أو لم يقتصر، كما إذا قرأ سورة أُخرى مباحة بعد سورة العزيمة أوقبلها، وسواء كان اعتبار ذلك الجزء في العبادة بشرط لا، كما إذا قلنا بحرمة القرآن بين السورتين في الصلاة، أو كان لا بشرط، كما إذا قلنا بجواز القرآن؛ فإنّه على جميع هذه التقادير يكون النهي عنه مفسداً للعبادة، وذلك لما ذكرناه من أنّ النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة بما عدا ذلك الجزء، فتكون بالنسبة إليه بشرط لا لا محالة، ومن الواضح أنّ نفس تقييد العبادة بعدم جزء يقتضي فساد العبادة الواجدة لذلك الجزء.

هذا وقد ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) في وجه البطلان أمرين آخرين:

الأوّل: شمول أدلّة الزيادة في المكتوبة الموجبة لبطلانها وفسادها.

ص: 273

والثاني: شمول أدلّة التكلّم العمديّ المبطل، إذا كان المنهيّ عنه من سنخ الأقوال.

قال): «مضافاً إلى أنّه يعمّه أدلّة الزيادة، ويكون قد زاد في صلاته - مثلاً - فتفسد. ومضافاً إلى أنّه يعمّه - أيضاً - أدلّة التكلّم إذا كان المنهيّ عنه من سنخ الأقوال، فإنّه وإن لم يخرج بالنهي عن كونه قرآناً - مثلاً - ولا يدخل في كلام الآدميّ، إلّا أنّه بعد النهي عنه يخرج عن أدلّة جواز القرآن والذكر في الصلاة، وبعد خروجه عن ذلك يندرج في إطلاقات مبطليّة مطلق التكلّم من غير تقييد بكلام الآدميّ، والقدر الخارج عن هذا الإطلاق هو التكلّم بالقرآن والذكر الجائز، ويبقى الذكر أو القرآن المنهيّ عنه داخلاً تحت الإطلاق. وممّاذكرنا يظهر: أنّه لا فرق في بطلان الصلاة بقراءة العزيمة بين ما إذا قرأها بعد الحمد في مكان السورة، أو قراءتها في حال التشهّد، أو في الركوع، أو غير ذلك، إذ مناط الفساد مطّرد بعدما كانت العزيمة منهيّاً عنها في الصلاة مطلقاً وفي جميع الحالات، فتأمّل جيّداً»(1).

هذا إذا تعلّق النهي بالجزء، وأمّا إذا تعلّق بالشرط، فهو تارةً يكون من التوصّليات، وأُخرى من التعبّديات. أمّا إذا كان من الأوّل، فالنهي عنه لا يوجب الفساد، كالنهي عن غسل الثوب بالماء النجس، فلو غسل بدنه بماء مغصوب أو ثوبه لم تبطل صلاته؛ لأنّ الشرط خارج عن المشروط، وليس من الاُمور التعبّديّة حتى يسري بطلانه إلى العبادة.

ص: 274


1- فوائد الاُصول 2: 466.

وأمّا إذا كان عباديّاً، فالنهي عنه يرجع - في الحقيقة - إلى العبادة، فإذا كان الشرط باطلاً، فبطلانه يستلزم بطلان العبادة لا محالة، فإذا أتى بالعبادة بالشرط المنهيّ عنه، كما إذا صلّى متوضّأً بالماء المغصوب، كانت صلاته باطلة كوضوئه.

وأمّا إذا تعلّق النهي بالوصف، فنقول: الوصف على قسمين: فإنّه تارةً يكون متّحداً مع الموصوف - وهو العبادة - في الوجود، ويكون من قبيل الوصف الملازم، كالصلاة إلى القبلة، وأُخرى لا يكون كذلك، كالغصب. والأوّل ليس له وجود استقلاليّ مغاير للموصوف، كالجهر والإخفات في القراءة، حيث إنّه ليس للجهر وجود مغاير لوجود القراءة، بلهو من كيفيّاتها. والثاني له وجود استقلاليّ مغاير لوجود الموصوف، كالتستّر والاستقبال في الصلاة.

فإن كان على الوجه الأوّل، فالنهي عن الوصف - في الحقيقة - نهي عن نفس العبادة؛ لأنّهما - أي الوصف والموصوف متّحدان -، والنهي عن الوصف لا ينفكّ عن الموصوف، وإلّا، فلو قلنا بأنّ النهي عن الوصف المتّحد مع موصوفه ليس نهياً عن نفس الموصوف، لاستلزم ذلك اجتماع الضدّين، واجتماع الأمر والنهي الفعليّين في شيء واحد؛ لأنّ المفروض أنّ بينهما اتّحاداً وجوديّاً.

وإن كان على الوجه الثاني، فالنهي تارةً يكون نفسيّاً، وأُخرى يكون تبعيّاً.

ص: 275

أمّا الأوّل: فالنهي عنه لا يقتضي فساد العبادة، إذ لا موجب لفسادها، بل إنّ أقصى ما يقتضيه هذا النهي هو حرمة الوصف، وأنّ هناك شيئاً محرّماً وقع في أثناء الصلاة والعبادة، وهذا لا يوجب الفساد؛ لأنّ النهي لم يرد لا على ذات العبادة ولا على جزئها، إلّا إذا فرضنا أنّ العبادة مقيّدة بالخالي عنها، وأمّا لو لم يكن كذلك، فيكون حال الوصف كحال النظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة في أنّه لا يكون مبطلاً للصلاة.

وبالجملة: فالنهي عن الوصف لا يسري إلى الموصوف إلّا إذا كانا متّحدين وجوداً، بناءً على امتناع اجتماع الحكمين، وأمّا بناء على الجواز، حيث لا يسري الحكم من أحدهما إلى الآخر، فلا يكون مبطلاً.وأمّا الثاني - وهو النهي الغيريّ التبعيّ -: كالنهي المتولّد من الأمر بالشيء، كالنهي عن الصلاة المتولّد من الأمر بالإزالة، لكونها ضدّاً للصلاة، فإنّ هذا النهي لا يكون مبطلاً للصلاة، إلّا إذا قلنا بعدم كفاية الملاك في تصحيح العبادة، وبأنّ تصحيحها منوط بالأمر، أو لم نقل بالترتّب.

المقام الثاني: في النهي عن المعاملة:

وأمّا المعاملات فقد ذكر بعض المحشّين على الكفاية أنّ النهي عن المعاملة - أيضاً -: تارةً: يكون نهياً عنها لذاتها كنكاح المحارم، والبيع الربويّ. وأُخرى: يكون نهياً عنها لجزئها، كنكاح الكبير الصغيرة بدون

ص: 276

إذن وليّها، وبيع الشاة بالخنزير. وثالثةً: يكون نهياً عنها لشرطها، كالنكاح بشرط كون الطلاق بيد الزوجة، وبيع العنب بشرط أن يُعمل خمراً. ورابعةً: يكون نهياً عنها لوصفها الملازم، كنكاح الشغار، وبيع الحصاة، والمنابذة. وخامسةً: يكون نهياً عنها لوصفها المفارق، كنكاح المرأة المحرّمة، وبيع لحم الشاة الجلاّلة.

وكيف كان، فهل النهي عن المعاملة موجب لبطلانها أم لا؟

عرفنا سابقاً: أنّ النهي في العبادات موجب لفسادها؛ لأنّ الشيء المبغوض ليس له صلاحيّة المقرّبيّة. وأمّا في المعاملات، فإنّ فساد المعاملة عبارة عن عدم ترتّب الأثر المقصود منها كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما عليها، وصحّتهاعبارة عن ترتّب الأثر المزبور عليها، ومن المعلوم أنّه لا منافاة - بعد ورود النهي - بين حرمة المعاملة وبين الأثر المترتّب عليها عقلاً.

ولكن النهي عن المعاملة - كما ذكره بعض الأعاظم) - «تارةً يكون للإرشاد إلى عدم حصولها، فهذا لا إشكال في كونه موجباً لفسادها، سواء تعلّق بناحية السبب أو بناحية المسبّب، فإن تعلّق بناحية السبب فهو يقتضي عدم ترتّب المسبّب على ذلك السبب، وإن تعلّق بناحية المسبّب فهو يقتضي عدم حصوله في الخارج، وهذا ممّا لا إشكال فيه، فإنّ النهي الإرشاديّ حيث ما تعلّق يقتضي الفساد، حيث إنّه إرشاد إلى الفساد.

وأمّا إذا كان النهي عن العبادة مولويّاً مفاده الحرمة، فتارةً يتعلّق

ص: 277

بالسبب، وأُخرى يتعلّق بالمسبّب، وثالثة يتعلّق بآثار المسبّب، من التصرّف في الثمن والمثمن، وغير ذلك من الآثار المترتّبة على المعاملة ... إلى أن يقول:

المراد من تعلّق النهي بالسبب تعلّقه بالإيجاد بمعناه المصدريّ، ويكون المحرّم المنهيّ عنه هو إيجاد المعاملة وإنشاؤها والاشتغال بها، كالبيع وقت النداء، حيث إنّ المحرّم هو الاشتغال بالبيع وقت النداء لا النقل والانتقال. والمراد من تعلّقه بالمسبّب تعلّقه بالموجد، بمعناه الاسم المصدريّ، ويكون المحرّم المبغوض هو المُنشأ والنقل والانتقال، كبيع المسلم والمصحف للكافر، حيث إنّ المبغوض هو نقل المسلم والمصحف للكافر، لا إنشاء النقل،ومبغوضيّة الإنشاء لمكان ما يستتبعه من الأثر، وهو النقل والانتقال.

إذا عرفت ذلك، فنقول: إنّ النهي لو كان عن نفس الإيجاد والإنشاء والاشتغال بالمعاملة، فهو لا يقتضي الفساد؛ إذ حرمة الإيجاد لا يلازم مبغوضيّة الموجد وعدم تحقّقه. وأمّا لو تعلّق النهي بنفس المنشأ والموجد، فهو يقتضي الفساد؛ لخروج المنشأ حينئذٍ عن تحت سلطانه، ولا قدرة عليه في عالم التشريع، والمانع التشريعيّ كالمانع العقليّ.

والحاصل: أنّ الأمر والنهي الشرعيّين موجبان لخروج متعلّقهما عن سلطة المكلّف، ويكون في عالم التشريع مقهوراً على الفعل أو الترك، ومن هنا كان أخذ الاُجرة على الواجبات حراماً؛ لخروج الفعل بالإيجاب

ص: 278

الشرعيّ عن تحت قدرته وسلطانه، فليس يمكنه تمليكه إلى الغير ليأخذ الاُجرة عليه، إلّا إذا تعلّق الإيجاب بنفس الإيجاد والإصدار، كما في الصناعات النظاميّة، فإنّ له أخذ الاُجرة على عمله، لعدم خروج عمله بمعناه الاسم المصدريّ عن تحت سلطانه، لعدم تعلّق الإيجاب به، بل تعلّق الإيجاب بنفس الإيجاد والإصدار وعدم احتكار العمل.

وأمّا إذا تعلّق الأمر بنفس العمل بمعناه الاسم المصدريّ، فقد خرج العمل عن تحت سلطانه، كما أنّه لو تعلّق النهي بنفس العمل فإنّه - أيضاً - يخرج عن تحت سلطانه، ويكون النهي مخصّصاً لعموم (الناس مسلّطون على أموالهم)، وعلى ذلك يبتني جواز بيع منذور الصدقة ومشروطها فيضمن العقد، أو نذر البيع من زيد، أو شرط ذلك، فإنّه لا يصحّ بيعه من غير زيد...

إلى أن يقول: هذا إذا تعلّق النهي بنفس المنشأ، وأمّا إذا تعلّق بآثاره، كقوله: ثمن العذرة أو الكلب سحت، فهو يكشف - أيضاً - إنّاً عن عدم ترتّب المنشأ وعدم تحقّقه. ومن الغريب: أنّ بعض الأعلام سلّم دلالة النهي عن الآثار على الفساد، وأنكر دلالة النهي عن نفس المنشأ على الفساد، مع أنّ الثاني أولى، فتأمّل جيّداً»(1).

انتهى ما أفاده(قدس سره)، نقلناه بطوله لما فيه من الفائدة.

ص: 279


1- فوائد الاُصول 2: 471 - 473.

إذا عرفت هذا، فهل النهي ظاهر في الفساد أم لا؟

فنقول: الكلام تارةً في المعاملة بالمعنى الأخصّ، وأُخرى في المعاملة بالمعنى الأعمّ.

أمّا المعاملة بالمعنى الأخصّ:

فالنهي عنها موجب للبطلان؛ لأنّه إرشاد إلى الفساد، وليس بمعنى الحرمة التكليفيّة، بعد أن عرفنا أنّ الغرض الأصليّ في المعاملات هو الصحّة والفساد، فكما أنّ الأمر في باب المعاملات يكون إرشاداً إلى صحّتها، من دون أن يدلّ على وجوبها أو استحبابها، فقوله تعالى - مثلاً -: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، لا يدلّ إلّا على صحّة ولزوم كلّ عقد على نحو الإطلاق، فما ورد النهي عن بعض البيوع يكون مخصّصاً ومقيّداً للعموم والإطلاقات الواردة في هذا الباب، فيكون النهي - أيضاً -دالّاً على الفساد، ويكون حاله حال إرشادات الطبيب إلى ما يضرّ المريض، فكما أنّ النواهي الشرعيّة دالّة على المانعيّة في العبادات كالتكتّف والضحك وأمثال ذلك، فكذلك النهي في المعاملات، فإنّه يدلّ على على المانعيّة وفساد المعاملة.

وبالجملة: فالنهي عن المعاملة نظير الأمر الواقع عقيب الحظر، فكما أنّ الأمر حينئذٍ لا يدلّ على الوجوب، بل على رفع المنع والحظر، فكذلك النهي عنها لا يدلّ إلّا على رفع الصحّة التي تقتضيها أدلّة الإمضاء مثل: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾.

ص: 280

فظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ النهي لا يكون ظاهراً في النهي عن المعنى المصدريّ؛ لأنّ (لا تَبِع ما ليس عندك) - مثلاً - ليس معناه: أنّه يحرم عليك التكلّم والتلفّظ بالألفاظ الخاصّة، بل هو دالّ على منع النقل والانتقال، أو على المنع من ترتّب الآثار، وكلاهما يقتضيان الفساد.

وأمّا الروايات التي استدلّ بها لإثبات دلالة النهي على الفساد، ومنها: الخبر الذي رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن أبي جعفر الباقر%: «سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده، فقال: ذلك إلى سيّده، إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما، قلت: أصلحك اﷲ تعالى، إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعيّ وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد، فلا تحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر%: إنّه لميعصِ اﷲ، وإنّما عصى سيّده، فإذا أجاز له فهو جائز»(1).

وتقريب الاستدلال بها أن يقال: إنّ الرواية ظاهرة في أنّه لو كان عاصياً ﷲ تعالى لكان نكاحه فاسداً.

ولكن فيه: أنّ المعصية - وهي مخالفة الحرمة التي هي المقصودة في المقام - أجنبيّة عن المعصية المرادة من هذه الروايات.

توضيح ذلك: أنّ الحرمة والمعصية في محلّ البحث غير الحرمة

ص: 281


1- انظر: الكافي 5: 478، باب المملوك يتزوّج بغير إذن مولاه، بتفاوتٍ يسير؛ والفقيه: 3: 350، باب طلاق العبد، بتفاوتٍ يسير.

والمعصية الواردة في الرواية، فإنّ المعصية الواردة في الرواية ليس المراد بها هو مخالفة الحرمة التكليفيّة حتى يدلّ على الفساد؛ لأنّه لا إشكال أنّه لو كان المراد بها الحرمة التكليفيّة لم يستقم معنى الحديث؛ لأنّ مخالفة العبد للمولى مخالفة ﷲ تعالى أيضاً؛ لأنّ وجوب إطاعة المولى ممّا ثبت بضرورة الشرع، فهو حكم إلهيّ، فمخالفته مخالفة ﷲ سبحانه وعصيان له، مع أنّ الإمام% قال: «لم يعصِ اﷲ»، فنفي الإمام المعصية عن مخالفته لسيّده قرينة على كاشف عن أنّه ليس المراد بالمعصية مخالفة الحرمة التكليفيّة، وعلى أنّ العبد لم يرتكب حراماً؛ ذلك أنّ ما صدر منه لم يكن من الموارد التي نهى الشارع عنها ولم يمضها ويشرّعها، كتزويج المحارم، بل كان ممّا أمضاه وأجازه.فالمراد من المعصية المنفيّة في هذا الخبر هي التصرّف في ملك وسلطان الغير؛ فإنّه عبد مملوك لا يقدر على شيء، وقد عقد بدون إذن المولى، فيكون فضوليّاً، كما هو كذلك بالنسبة إلى كلّ من تصرّف في ملك الغير وباعه أو نقله إلى الغير بدون إذن صاحبه، فتقع المعاملة فضوليّة، فإذا أجازه المولى وقع صحيحاً وترتّب عليه الأثر.

والحاصل: أنّ النكاح مشروع ذاتاً، وليس من الاُمور التي لم يشرّعها الشارع، غاية الأمر: أنّ نفوذه محتاج إلى إذن السيّد، فلا يتصوّر هنا حرمة تكليفيّة لكي يدّعى دلالتها على الفساد، بخلاف ما لو كانت المعاملة ممّا لم يشرّعه الشارع، كما في الفرض الأوّل، فإنّه يكون عصياناً اﷲ تعالى،

ص: 282

فلا تفيده الإجازة، ويكون ما أوقعه من النكاح باطلاً، وكذا لو كان المولى قد نهى عبده عن النكاح، فإنّ نهيه موجب للفساد؛ لأنّ مخالفة نهي السيّد مخالفة ﷲ عزّ وجلّ.

وخلاصة الكلام: أنّ مقتضى العبوديّة هو عدم صدور أيّ فعل من العبد إلّا إذا كان عن إذن مولاه، وحيث إنّه عبد مملوك لا يقدر على شيء، وهو كلّ على مولاه، وقد اشتغل بعملٍ بغير إذن مولاه، كان عاصياً؛ لأنّه قد أتى بما هو منافٍ للعبوديّة، وتصرّف فيما لا يجوز له التصرّف فيه، ولا سيّما في أمثال النكاح، التي هي من الاُمور الخطرة، فلابدّ من إطلاع المولى عليها وأخذ إذنه فيها.

تذنيب:

حُكي عن أبي حنيفة وتلميذه محمّد بن الحسن الشيبانيّ أنّ النهي في المعاملات والعبادات يدلّ على الصحّة وعدم الفساد، وتبعهما في ذلك فخر المحقّقين(رحمة الله)، وعن العلّامة(قدس سره) التوقّف(1).

وأمّا صاحب الكفاية) فقد قال: «والتحقيق أنّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبّب، أو التسبيب، لاعتبار القدرة في متعلّق النهي كالأمر، ولا يكاد يقدر عليهما إلّا فيما كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة، وأمّا إذا كان

ص: 283


1- انظر: حكاية ذلك كلّه في: مطارح الأنظار 1: 763.

عن السبب فلا، لكونه مقدوراً، وإن لم يكن صحيحاً، نعم، قد عرفت أنّ النهي عنه لا ينافيها»(1).

ومثال تعلّق النهي بمضمونها: بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر، حيث إنّ النهي في هذا البيع قد تعلّق بالمضمون، وهو تمليكهما من الكافر، لا بالمعاملة بما هي فعل مباشريّ، والنهي إنّما تعلّق بها من حيث كونها موجبة لترتّب مسبّب مبغوض في نفسه، وهو جعله في يد الكافر.

ومثال تعلّق النهي بالتسبيب، كما إذا كان النهي قد ورد عن بيع العنب أو الخشب لمن يعمل العنب خمراً أو الخشب صنماً، فإنّ النهي لم يتعلّق بالسبب، وهو العقد، ولا بالمسبّب،وهو التمليك، بل تعلّق بأمر خارجٍ عنهما، وهو الإعانة على الإثم.

وأمّا العبادات، فقد ذكر(قدس سره) أنّ «ما كان منها عبادة ذاتيّة، كالسجود والركوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى، فمع النهي عنه يكون مقدوراً، كما إذا كان ماُموراً به، وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه، لو كان ماُموراً به، فلا يكاد يقدر عليه إلّا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شيء ولو بعنوان واحد»(2).

ص: 284


1- كفاية الاُصول: ص 189.
2- كفاية الاُصول: ص 189.

وقبل أن نشرح ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره) لابدّ أن ندخل في صلب الموضوع، وبيان أنّ النهي كيف يدلّ على الصحّة، فنقول:

لا يخفى - كما ذكرنا مراراً -: أنّ الأمر لابدّ أن يتعلّق بأحد طرفي المقدور، أي: أنّ كلّ حكم تكليفيّ لابدّ وأن يكون مقدوراً للمكلّف، بحيث يكون كلّ من الفعل والترك تحت قدرته، والنهي - أيضاً - كذلك، ولا فرق بينه وبين الأمر من هذه الناحية، فلابدّ عند تعلّقه بشيء أن يكون متعلّقه مقدوراً من ناحيتي الفعل والترك، حتى يمكن موافقة النهي أو مخالفته، ولا يكون متعلّق النهي مقدوراً إلّا إذا كان جميع أجزائه وشرائطه التي تكون متعلّقة للنهي وتحت النهي مقدوراً عليها، فلو فرض أنّ المكلّف أتى بالمنهيّ عنه كذلك، أي: بجميع أجزائه وشرائطه، لكان صحيحاً، ولترتّب عليهالأثر، وهذا هو معنى الصحّة. فالنهي عن الشيء يدلّ على الصحّة لا محالة.

وأمّا لو كان النهي عنهما موجباً لفسادهما، فلا يمكن للمكلّف مخالفة هذا النهي؛ لأنّه بنفس تعلّق النهي بهما خرجا عن تحت قدرته؛ لأنّه لا يمكن إيجادهما حينئذٍ.

والجواب عن هذا:

أمّا في المعاملات: فبأنّه ليس المراد بها إلّا المعاملات العرفيّة، وليس المراد بها هو المعاملات الصحيحة، أي: أنّ العرف مع علمهم بفساد بيع الخمر يتعاملون بها ويرتّبون آثار الصحّة عليها وهي مقدورة للمكلّف

ص: 285

ولو بعد ورود النهي، فبما أنّ الصحّة والفساد لا يُنتزعان إلّا من إمضاء الشارع وعدم إمضائه، والنهي الشرعيّ يوجب فسادها، أي: عدم تحقّق المعاملة خارجاً، ولو أنّها كانت بنظر العرف حاصلة ومتحقّقة.

وأمّا في العبادات: فبأنّه ليس المراد بها هو العبادة الفعليّة حتى يستشكل ويقال بأنّها ليست مقدرورة بعد النهي، حتى يترتّب عليه الفساد، وإنّما المراد هو العبادة الشأنيّة، بمعنى: أنّه لو تعلّق به أمر، ولم يتعلّق به نهي لأمكن امتثاله، وحصل الغرض منه إذا أتى بها بقصد القربة. فالعبادة الشأنيّة من الاُمور المقدورة، وأمّا الذي لا يكون مقدوراً، فهو العبادة الفعليّة بعد ورود النهي عنها.

وخلاصة الكلام: أنّه بناءً على قول صاحب الكفاية)، من التفصيل بين حالتين:إحداهما: ما إذا تعلّق النهي بالمسبّب، كالنهي عن البيع المصحف من الكافر، باعتبار أنّ إبقاءه عنده غير جائز، ولذا إذا وجد عنده لابدّ من انتزاعه منه، فهنا: بنهي الشارع عنه لا يترتّب على هذه المعاملة الأثر، أعني به: الملكيّة. فقالوا: بأنّه لابدّ من القول بالصحّة؛ لأنّه لو لم يكن قادراً على هذا التمليك - بأن يوجد البيع بحيث يترتّب عليه الأثر - فما معنى النهي عنه حينئذٍ؟

والثانية: تعلّق النهي بالتسبّب، كالظهار؛ فإنّ التسبّب به إلى الفراق بين الزوجين مبغوض، فلو لم يؤثّر الظهار عمله، ولم يترتّب الفراق على

ص: 286

الظهار، كان النهي عنه لغواً.

وأمّا إذا ورد النهي على السبب، فإنّه لا يدلّ على الصحّة؛ لأنّ ما هو المنهيّ عنه، هو العقد المفوّت للصلاة في يوم الجمعة - مثلاً - لا العقد المؤثّر للملكيّة، وبما أنّ هذا العقد من الأفعال المباشريّة، وللمكلّف القدرة عليه، أي: على العقد بمعناه المصدريّ، لا المعنى الاسم المصدريّ، من دون أن تتوقّف القدرة على الصحّة، وهذا السبب يكون مقدوراً، صحيحاً كان أو فاسداً، فالنهي هنا لا يدلّ على الفساد.

وأمّا العبادات فهي على قسمين:

فمنها: ما يكون ذاتيّاً، من غير توقّفه على قصد القربة، كالسجود، كما مرّ، والنهي في هذا القسم يدلّ على الصحّة؛ لأنّ متعلّقه مقدور عليه؛ لأنّه قادر على إيجاد السجود وعلى تركه، فلو أتى بالسجود المنهيّ عنه كان صحيحاً، إذ لاتتوقّف عبادته على الأمر حتى لا يكون ممكن الإيجاد مع النهي.

ومنها: ما لا يكون ذاتيّاً، ويحتاج إلى قصد الأمر والقربة، فمع ورود النهي لا يمكن ورود الأمر به؛ لأنّه - حينئذٍ - يكون من باب اجتماع الأمر والنهي في واحدٍ كما مرّ.

نعم، لو قلنا بإمكان اجتماع الأمر والنهي في واحدٍ بعنوانين لصحّ ذلك.

وبهذا تمّ الكلام في مبحث النواهي

ص: 287

ص: 288

مباحث المفاهيم

مقدّمة:

وهي: أنّ المفهوم - كما يظهر من موارد إطلاقه - هو عبارة عن حكم إنشائيّ أو إخباريّ تستتبعه خصوصيّة المعنى الذي اُريد من اللّفظ، بتلك الخصوصيّة، ولو بقرينة الحكمة، وكان يلزمه لذلك، سواء وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه.

فالمفهوم - اصطلاحاً - هو: كلّ حكم إنشائيّ كما في الجمل الإنشائيّة، كحرمة الإكرام المستفادة من قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه)، بناءً على ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة.أو كلّ حكم إخباريّ كما في الجمل الخبريّة، كالإخبار عن فعله بإعطاء دينارٍ - مثلاً -، المستفاد من قوله: (إن جئتني فأنا أعطيك ديناراً)، فإنّ الإعطاء فعله الذي يخبر عنه على تقدير المجيء بالكلام المزبور(1).

ص: 289


1- هذا مضمون كلام الكفاية و شرحه

ولابدّ قبل الدخول في محلّ البحث من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في معنى كلمة المفهوم:

تطلق كلمة المفهوم على ثلاثة معانٍ:

الأوّل: المعنى الذي يفهم من اللّفظ، بلا فرق بين أن يكون من المعاني الإفراديّة أو التركيبيّة.

والثاني: ما يقابل المصداق، فيراد منه كلّ معنى يفهم، وإن لم يكن مدلولاً للّفظ، كالإشارة والكناية، ونحو ذلك.

والثالث: ما يقابل المنطوق؛ والمراد بالمنطوق هو المدلول المطابقيّ للجملة، بلا فرق بين أن يكون المعنى حقيقيّاً له أو مجازيّاً، ويُعرف بالقرينة الخاصّة، وذلك كقولنا: (رأيت أسداً)، فإنّه يدلّ على كون المرئيّ هو الحيوان المفترس بالمطابقة، وكقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً﴾(1)، حيث إنّه يدلّ على طهوريّة الماء بالمطابقة، وعلى طهوريّة جميع أفراده بالإطلاق والقرينة العامّة، كماأنّ قولنا: (رأيت أسداً يرمي) يدلّ على كون المرئيّ هو الرجل الشجاع بالقرينة الخاصّة، وهكذا...

ولا يخفى: أنّ معنى المفهوم هو ما يقابل المنطوق، أي: لا يفهم المعنى بالدلالة المطابقيّة بل بالدلالة الالتزاميّة، بنحو اللّزوم البيّن

ص: 290


1- الفرقان: الآية: 48.

بالمعنى الأخصّ، فإنّ منطوق قولهم: (الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء) هو عدم تنجّس الماء البالغ قدر كرّ بشيء من النجاسات، فدلالة اللّفظ على المنطوق تكون أوّلاً وبالذات، وأمّا دلالته على المفهوم فهي تابعة لدلالة المنطوق، فإذا قلت - مثلاً -: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فدلالته المطابقيّة تكون أوّلاً وبالذات، وهي الثبوت عند الثبوت، أي: ثبوت الإكرام عند المجيء، ودلالته المفهوميّة ثانياً وبالتبع، وهي الانتفاء عند الانتفاء، ومعنى أنّها بالتبع: أنّ انفهام المفهوم من اللّفظ إنّما يكون تابعاً لانفهام معناه المطابقيّ الأوّليّ.

وبعبارة أُخرى: فإنّ المفهوم يكون ناشئاً عن خصوصيّة المعنى في المنطوق، ولا فرق في هذه الخصوصيّة بين أن تكون ثابتة بالوضع أو بالقرينة العامّة أو الخاصّة، فإن دلّ المنطوق على تلك الخصوصيّة كانت القضيّة دالّةً على المفهوم، وتلك الخصوصيّة في الجملة الشرطيّة - مثلاً - هي عبارة عن كون الشرط علّة منحصرة للجزاء.

الأمر الثاني: المفهوم قسمان: موافقة ومخالفة:

ينقسم المفهوم إلى قسمين: مفهوم الموافقة، ومفهوم المخالفة.

فمفهوم الموافقة، فهو المفهوم الذي يكون موافقاً للمنطوق في الإيجاب والسلب، ومفهوم المخالفة، هو المفهوم الذي يكون مخالفاً للمنطوق في الإيجاب والسلب.

ص: 291

والأوّل كدلالة الأولويّة في مثل قول تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ٍ﴾(1)، على حرمة الضرب والشتم، ونحو ذلك ممّا هو أشدّ إيلاماً للأبوين من التأفيف - وهو التلفّظ ﺑ (أفّ) - المحرّم بحكم الآية - ويُلاحَظ هنا: أنّ حرمة التأفيف حكم مذكور ومنطوق به، وأمّا حرمة الضرب والشتم المستفادة من مفهوم الموافقة فهو حكم غير مذكور ومصرّح به في الكلام. وهذا الحكم المفهوميّ لازم لخصوصيّة المعنى الأوّل، وهو كون التأفيف أدنى مرتبة من الإيذاء، إذ إنّ حرمة الفعل الأدنى تلازم حرمة الأعلى والأشدّ.

ومثال مفهوم المخالفة: ما في مثل قولك: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فإنّ مفهومه هو عدم وجوب الإكرام عند عدم مجيء زيد، وهذا يخالف المنطوق في السلب والإيجاب، وهو - أيضاً - لازم لخصوصيّة المعنى المذكور في الكلام، وهوانفهام كون المجيء علّة منحصرة للوجوب، ولازم العلّيّة المنحصرة هو انتفاء الحكم عند انتفائها.

فالمفهوم عبارة عن حكم إنشائيّ كما في المثال الثاني، وهو مفهوم المخالفة، أو إخباريّ، كما في المثال الأوّل، وهو مفهوم الموافقة، غير مذكور في القضيّة، وتقتضيه خصوصيّة المعنى المنطوقيّ، فصحّ قولنا - إذاً -: إنّ المفهوم هو عبارة عن حكم غير مذكور في القضيّة اللّفظيّة؛ لأنّ عدم

ص: 292


1- الإسراء: الآية: 23.

وجوب إكرام زيد لم يكن مذكوراً في القضيّة الشرطيّة، وكذا حرمة الضرب والشتم، فهما إنّما يُستفادان من الخصوصيّة الموجودة في المنطوق.

وقد استشكل في ذلك المحقّق الأصفهاني(قدس سره) بقوله:

«إن اُريد ﺑ (الحكم) غير مذكور، كونه بشخصه غير مذكور، فكلّ موضوع - أيضاً - بشخصه غير مذكور، وان جعل الموضوع نفس زيد في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه)، بداهة تشخّص كلّ قضيّة بموضوعها ومحمولها، وإن اُريد بكون الحكم غير مذكور كون سنخ الحكم غير مذكور فلا يعمّ المفاهيم جميعاً؛ لخروج مفهوم الموافقة، إذ الحكم في طرف المنطوق والمفهوم واحد سنخاً»

إلى أن يقول:

«فالعبرة في تغاير القضيّتين حقيقةً بمجرّد المغايرة نوعاً وماهيّةً، موضوعاً أو محمولاً، لكنّ العبرة في المذكوريّة وعدمها بالذكر وعدمه في شخص الكلام، والمراد: أنّ القضيّة التابعة لقضيّة أُخرى من حيث كونها غير مذكورةمفهوم، وإن كانت من حيث مذكوريّتها في موارد أُخر منطوقاً»(1).

ولا يخفى: أنّ النزاع إنّما هو في ثبوت المفاهيم، وفي أصل دلالة الجمل عليها، وأمّا الحجّيّة عندهم فهي من المسلّمات، ولا كلام فيها - أصلاً - بعد إحراز الدلالة.

ص: 293


1- نهاية الدراية 1: 605 - 606.

ومن هنا عرّف المفهوم بأنّه: «قضيّة تدلّ عليها خصوصيّة القضيّة المنطوقيّة».

الأمر الثالث: في أنواع المفهوم:

هو على أقسام:

الأوّل: مفهوم الوصف، كما إذا ورد (في الغنم السائمة زكاة)، فوجوب الزكاة للسائمة منطوق، وعدمه للمعلوفة مفهوم.

الثاني: مفهوم الشرط، كما في مثل: (إذا جاءك زيد فأكرمه)، فإنّ وجوب الإكرام عند مجيء زيد منطوق، وعدم الوجوب عند عدم مجيئه مفهوم، عند إحراز كون المجيء علّة منحصرة.

الثالث: مفهوم الغاية، كما إذا قيل: (يجب عليك الصوم إلى الغروب)، فعدم الوجوب بعد الغروب مفهوم.الرابع: مفهوم اللّقب، كما إذا قيل: (أكرم زيداً)، فإنّ عدم وجوب إكرام عمرو مفهوم. ولا يخفى: أنّ المراد باللّقب الأعلام الشخصيّة وأسماء الأجناس.

الخامس: مفهوم الاستثناء، كما إذا قيل: (جاءني القوم إلّا زيداً)، فإنّ نسبة المجيء إلى قوم ليس فيهم زيد تستلزم عدم مجيء زيد، بناءً على كون (إلّا) حرفاً من الحروف، وموضوعةً للمعنى الآليّ. وأمّا إذا قلنا بكونها اسماً أو فعلاً، فيكون الحكم بعدم المجيء منطوقاً.

ص: 294

فصل في مفهوم الجملة الشرطيّة

اشارة

يقع الكلام في أنّ الجملة الشرطيّة هل تثبت لها دلالة على المفهوم أم لا؟

وفيه مباحث:

المبحث الأوّل:

أنّ القضيّة الشرطيّة تتركّب من جملتين إحداهما: تسمّى ﺑ (الشرط)، والأُخرى: ﺑ (الجزاء)، ومفاد الجملة الشرطيّة هو تعليق الحكم في ظرف الجزاء على ثبوته في ظرف الشرط،بلا فرق بين أن يستفاد هذا التعليق والإناطة من مفاد أداة الشرط أو من مفاد هيئة الجملة.

وقد عرفنا أنّ دلالة الجملة على المفهوم إنّما تكون من باب الدلالة الالتزاميّة، بنحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ للمنطوق، فهي - لذلك -

ص: 295

تكون تابعةً لدلالة المنطوق، فكان لابدّ من اشتمال القضيّة الشرطيّة على خصوصيّةٍ بها تكون مستتبعة للقضيّة التي نسمّيها ﺑ (المفهوم)، وإنّما تُستفاد منها هذه الخصوصيّة فيما إذا أحرزنا أنّ الشرط بالنسبة للجزاء هو من قبيل العلّة المنحصرة بالنسبة إلى معلولها.

وبعبارةٍ أُخرى: فلو لم يكن هناك لزوم، بأن لم تكن القضيّة الشرطيّة لزوميّة، بل كانت اتّفاقيّة، كما في مثل قولنا: (إذا كان زيد ناطقاً كان الحمار ناهقاً)، لم تكن لها دلالة على المفهوم، بل لا دلالة لها، لا على الثبوت عند الثبوت، ولا على الانتفاء عند الانتفاء.

وكذا إذا لم يكن للجملة الشرطيّة دلالة على الترتّب، أي: على ترتّب الجزاء على الشرط، وعلى تأخّر الجزاء عن الشرط، فإنّه لا يكون لها دلالة على المفهوم - أيضاً -؛ لأنّ ترتّب الجزاء على الشرط وتأخّره هو من مقوّمات المفهوم، فلو فرضنا - مثلاً - أنّ الشرط والجزاء كانا في مرتبةٍ واحدة، كما إذا قلنا: (إذا كان الخمر حراماً كان البيع باطلاً)، فإنّ انتفاء الحرمة يوجب انتفاء بطلان البيع لا محالة، لكونهما في مرتبة واحدة، وكون كليهما معلولين للإسكار؛ لأنّ بطلان البيع ليس معلولاً للحرمة في الخمر. فلو كان الشرط والجزاءفي مرتبةٍ واحدة، ولم يكن هناك ترتّب وتأخّر للجزاء عن الشرط، لم يكن لها أن تدلّ على المفهوم.

وكذا لو فرضنا أن كان هناك ترتّب بينهما، ولكنّه لم يكن من قبيل الترتّب على نحو العلّيّة، كما في ترتّب صلاة العصر على الظهر - مثلاً -

ص: 296

فلا يكون لها دلالة على المفهوم.

وكذا الحال، لو كان علاقة العلّيّة قائمة بينهما، ولكنّها لم تكن من قبيل العلّيّة بنحو الانحصار، بأن لم يكن الشرط سبباً منحصراً للجزاء، فإنّها - حينئذٍ - لا تكون صالحةً لأن يُستفاد منها المفهوم.

وبعبارة أُخرى: فإنّ استفادة المفهوم من الجملة الشرطيّة مشروط - أوّلاً - بدلالتها على التعليق، وهو ربط أحد الشيئين بالآخر بحيث لا يتخلّف عنه ولا يتحقّق بدونه، وهو مساوق للعلّة المنحصرة، وبدلالتها على الترتّب، وهو لزوم حصول أحد الشيئين عند حصول الآخر، كما في مثل قولنا: (إذا طلعت الشمس وجد النهار)، فإنّ وجود النهار إنّما يحصل عند طلوع الشمس، وطلوع الشمس هو ما يكون منشأً لوجود النهار، وبدلالتها على اللّزوم، وهو عبارة عن حصول أحد الشيئين مع الآخر، بحيث لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي.

المبحث الثاني:

اشارة

هل هذا الربط بين المقدّم والتالي هو مفاد الأداة، أعني: أداة الشرط، أو هيئة القضيّة، أعني: ترتّب الجزاء على الشرط؟

وقد ذكر الاُستاذ المحقّق(قدس سره) أنّه لا يمكن إثبات ذلك، لا في أدوات الشرط، ولا في هيئة القضيّة؛ لعدم دلالتهما «على أزيد من ترتّب الجزاء

ص: 297

على الشرط والملازمة بينهما، وأمّا إثبات هذا الترتّب من جهة علّيّة المقدّم والشرط للجزاء، أو من جهة أُخرى فمشكل، فضلاً عن إثبات انحصار العلّة»(1).

فلابدّ من بيان الشروط، وأنّ هذه الشروط هل هي موجودة كلّها لكي يكون للجملة دلالة على المفهوم أم لا؟

وقد نقل بعض الشارحين للكفاية عن الفوائد الطوسيّة «أنّه استقصى مائة مورد أو أكثر من القرآن الكريم لا دلالة فيها على المفهوم»(2).

وقبل بيان الشروط نقول:

للمحقّق النائيني(قدس سره) كلام في موضعين:

أحدهما: ما ذكره في مبحث الواجب المشروط، وهو القول بأنّ «أداة الشرط بما أنّها وُضعت لجعل مدخولها واقعاً موضع الفرض والتقدير، فهي لابدّ وأن تكون رابطة بين الجملتين، فلا يُعقل أن يكون مدخولها قيداً للمادّة قبلالنسبة، ولا في رتبتها؛ لأنّها مفهوم إفراديّ وأداة الشرط موضوعة لربط الجملتين...»(3)، هذا موضع الحاجة من كلامه).

وحاصله: أنّ الأداة لا تدلّ على أكثر من اللّزوم، والترتّب يُستفاد من

ص: 298


1- منتهى الاُصول 1: 423.
2- حقائق الاُصول 1: 448.
3- أجود التقريرات 1: 131.

سياق الكلام وجعل التالي تالياً والمقدّم مقدّماً.

والآخر: ما ذكره في مبحث مفهوم الشرط، وهو «أنّ أدوات الشرط إنّما وُضعت لتعليق مفاد جملة على مفاد جملة أُخرى»(1).

ولا يخلو ما بين كلاميه في الموضعين من تهافت كما هو واضح، فإنّ من الظاهر أنّ التعليق أخصّ من الترتّب واللّزوم، فلا يمكن الجمع بين دعوى كونها موضوعة للتعليق، ودعوى كونها موضوعة للّزوم.

ولابدّ هنا أن نقول، وتبعاً للاُستاذ الأعظم)، بأنّه «لو بنينا على رجوع القيد إلى الهيئة دون المادّة فحال القضيّة الشرطيّة عندئذٍ حال القضيّة الوصفيّة في الدلالة على المفهوم وعدمها، لما سيأتي من أنّ المراد بالوصف ليس خصوص الوصف المصطلح في قبال سائر المتعلّقات، بل المراد منه مطلق القيد، سواء أكان وصفاً أم كان غيره من القيود»(2).

أمّا الشرط الأوّل:

فهو كون القضيّة الشرطيّة لزوميّة، بأن يكون بين الشرط والجزاء علاقة خاصّة هي عبارة كون الأُولى علّة للثانية.

وهذا الشرط ممّا لا ينكر، ضرورة أنّه لولا هذه العلاقة، لكان يجوز تعليق كلّ شيء على كلّ شيء من دون أن يكون هناك أيّ ارتباط بينهما،

ص: 299


1- المصدر نفسه 1: 415.
2- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 4: 199، (المجلّد 46) من موسوعة الإمام الخوئي)، بتصرّف يسير.

فلا شكّ في أنّ الاستعمال بدون هذه العلاقة اللّزوميّة، لو صحّ، فإنّه يكون بحاجة إلى إعمال عنايةٍ ما، وبدون ذلك، فالقضيّة تكون ظاهرة في وجود العلاقة اللّزوميّة بين الشرط والجزاء.

ومن هنا يظهر: أنّ القضيّة الاتّفاقيّة ليست من القضيّة الشرطيّة، وتقسيم المناطقة القضيّة الشرطيّة إلى قسمين: اللّزوميّة والاتّفاقيّة، غير تامّ، بل الاتّفاقيّة - في حقيقة الأمر - ليس لها من القضيّة الشرطيّة إلّا صورتها.

وأمّا الشرط الثاني:

فهو دلالة الشرطيّة على أنّ ترتّب الجزاء على الشرط من ترتّب المعلول على العلّة، وهذا الشرط ممنوع عندنا، فإنّ القضيّة وإن دلّت على ترتّب الجزاء على الشرط والتالي على المقدّم، إلّا أنّها لا تدلّ على أنّ هذا الترتّب يكون على نحو ترتّب المعلول على العلّة التامّة، بل كما يمكن أن يكون كذلك، كترتّب وجوب إكرام زيد على مجيء زيد، يمكن أن يكون على العكس من ذلك تماماً، كترتّب طلوع الشمس على وجود النهار، وترتّب تغيّر العالم على حدوثه.وبالجملة: فلم تثبت دلالة الجملة الشرطيّة على كون الشرط علّة للجزاء، فضلاً عن دلالتها على الانحصار، بعد وضوح غلبة كون الشرط والجزاء متلازمين في الوجود، مثل: «المسافر إذا قصّر الصلاة أفطر»، فإنّ تقصير الصلاة ليس علّة للإفطار، بل هما حكمان متلازمان ثابتان للمسافر غير الناوي لإقامة عشرة أيّام.

ص: 300

فإن قلت: يمكن دعوى التبادر على وجود العلّيّة بين الجزاء والشرط والترتّب بنحو العلّة المنحصرة.

قلت: مع كون الجملة الشرطيّة كثيراً ما تُستعمل في العلّيّة الغير المنحصرة، كما في المثال المذكور - أعني: مثل: المسافر إذا قصّر الصلاة أفطر، ومع كون استعمالها في موارد العلّيّة غير المنحصرة مساوٍ لاستعمالها في موارد العلّيّة المنحصرة، فكيف يمكن ادّعاء التبادر؟!

على أنّه لو فرض صحّة هذا التبادر، لكان استعمالها في غير العلّة المنحصرة مجازاً؛ لأنّ التبادر علامة الحقيقة، فيكون استعمالها في موارد مطلق اللّزوم مجازاً، ولا مجال للالتزام به.

وأيضاً: فلو كانت الجملة الشرطيّة تدل على العلّيّة المنحصرة بالتبادر لكان من الواجب الأخذ بمفهومها حتى في مقام المخاصمات، وكان لها مفهوم حتى في مثل هذا المقام، والمفهوم لو ثبت، فإنّه يكون حجّة كالمنطوق، مع أنّهم لا يأخذون بالمفهوم في باب المخاصمات كما هو واضح.فتحصّل: أنّ غاية ما يمكن إثباته هو دلالة الجملة الشرطيّة على تعليق الجزاء على الشرط، وأمّا أنّه مترتّب عليه بنحو العلّيّة التامّة، حتى يكون في غيره مجازاً، فلا، بل لا دلالة لها على أزيد من مطلق الترتّب، أي: ترتّب المعلول على العلّة، كترتّب وجوب الحجّ على الاستطاعة، أو ترتّب العلّة على المعلول، كقولك: إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة.

ص: 301

وعلى هذا الأساس: فالقضيّة الشرطيّة لا تدلّ على المفهوم؛ لأنّ غاية ما تقتضيه هذه القضيّة هو أنّ تحقّق المقدّم يكون مستلزماً لتحقّق التالي، ولا يكشف عدمه عن عدم المقدّم.

وبعبارة أُخرى: فإنّ وجود المعلول، وإن كان منوطاً بوجود العلّة؛ لاستحالة وجود المعلول بدون علّته، إلّا أنّ عدمه لا يكشف عن عدم العلّة؛ لأنّه يمكن أن يكون عدمه كاشفاً عن وجود المانع، لا عن انعدام العلّة؛ فإنّ وجود الممكن - مثلاً - بما أنّه معلول، فهو يكون كاشفاً عن وجود الواجب، وأمّا عدمه، فليس كاشفاً - بالضرورة - عن عدمه، ولا عن عدم ممكن آخر؛ لجواز أن يكون عدمه من جهة مانع مختصّ به، فدلالة القضيّة الشرطيّة على كون علقة الترتّب بين الجزاء والشرط موجودة ممّا لا ينكر، ويمكن - أيضاً - أن يُدّعى استفادة ذلك منها ببركة الوضع، وأمّا علّيّة الشرط للجزاء، فلا سبيل إلى استفادتها من الوضع، ولا من الإطلاق.

نعم، يمكن استفادة العلّيّة التامّة والمنحصرة بدعوى الظهور السياقيّ للجملة في ذلك.وقد استدلّ المحقّق النائيني(قدس سره) على الانحصار والعلّيّة وإفادة الجملة الشرطيّة للمفهوم بقوله:

«نعم، ظاهر القضيّة الشرطيّة هو ذلك؛ لأنّ ظاهر جعل شيء مقدّماً وجعل شيء آخر تالياً هو ترتّب التالي على المقدّم، فإن كان هذا الترتّب موافقاً للواقع ونفس الأمر، بأن يكون المقدّم علّة للتالي، فهو، وإلّا، لزم

ص: 302

عدم مطابقة ظاهر الكلام للواقع، مع كون المتكلّم في مقام البيان، على ما هو الأصل في المخاطبات العرفيّة، وعليه: فبظهور الجملة الشرطيّة في ترتّب التالي على المقدّم يُستكشف كون المقدّم علّةً للتالي، وإن لم يكن ذلك مأخوذاً في نفس الموضوع له»(1).

وعلّق عليه اُستاذنا الأعظم(قدس سره) بقوله:

«وهذا الذي أفاده(قدس سره) وإن كان غير بعيد في نفسه، نظراً إلى أنّ المتكلّم إذا كان في مقام بيان تفرّع الجزاء على الشرط وترتّبه عليه بحسب مقام الثبوت والواقع، لدلّت القضيّة على ذلك في مقام الإثبات أيضاً للتبعيّة، نظير ما إذا قلنا: جاء زيد ثمّ عمرو، فإنّه يدلّ على تأخّر مجيء عمرو عن مجيء زيد بحسب الواقع ونفس الأمر، وإلّا لم يصحّ استعماله فيه. وأمّا إذا لم يكن المتكلّم في مقام بيان ذلك، بل كان في مقام الإخبار أو الإنشاء، فلا يتمّ ما أفاده(قدس سره)، وذلك لأنّ القضيّة الشرطيّة - عندئذٍ - لا تدلّ إلّا على أنّ إخبار المتكلّمعن وجود الجزاء متفرّع على فرض وجود الشرط، أو إنشاء الحكم واعتباره متفرّع على فرض وجوده وتحقّقه، وأمّا أنّ وجود الجزاء واقعاً مترتّب على وجود الشرط، فلا دلالة للقضيّة على ذلك أصلاً...»(2)، إلى آخر ما جاء في كلامه).

ص: 303


1- أجود التقريرات 1: 416.
2- محاضرات في اُصول الفقه 4: 203، (المجلّد 46) من موسوعة الإمام الخوئي)

وبعبارة أُخرى: فلو كان للشرط المذكور في القضيّة، كقوله: «إن جاءك زيد فأكرمه»، عِدْلٌ، لكان على المتكلّم بيانه، بأن يقول: «إن جاءك زيد أو أرسل كتاباً فأكرمه»، فعدم بيان العِدل، مع كونه في مقام البيان، يقتضي كون الشرط علّة منحصرة.

فإطلاق التعليق بمقتضى مقدّمات الحكمة يستلزم كون الشرط علّة منحصرة، فيستفاد المفهوم - حينئذٍ - من الإطلاق، كما يستفاد من إطلاق صيغة الأمر الوجوب النفسيّ؛ لأنّ الوجوب الغيريّ يحتاج إلى مؤونة زائدة ثبوتاً وإثباتاً، إذ كون الوجوب للغير قيد زائد يحتاج إلى اللّحاظ والبيان الزائدين على لحاظ أصل الوجوب وبيانه.

وممّا ذكرنا ظهر: بطلان ما ذكره الاُستاذ المحقّق) من أنّ «ذلك - أيضاً - لا يفيد في إثبات الانحصار»(1).

وقد تمسّك بعضهم لإثبات الانحصار بإطلاق الشرط، وتقريبه:«أنّه لو كان لشيء آخر غير الشرط - أيضاً - دخل في ثبوت الحكم في طرف الجزاء، فإن كان ذلك الآخر تمام العلّة، لكان عليه أن يأتي بكلمة (أو)، وإن كان جزءاً لكان عليه أن يأتي بالواو العاطفة، فمن عدم تقييده بأحد هذين مع أنّه في مقام البيان نستكشف عدم دخل شيء آخر في الجزاء، لا مع الشرط، ولا مستقلّاً، ومعنى هذا هو الانحصار، فمن

ص: 304


1- منتهى الاُصول 1: 424.

إطلاق الشرط نستكشف انحصار العلّة فيه»(1).

وقد يُستشكل فيه: «بأنّ هذا فيما تمّت هناك مقدّمات الحكمة، ولا تكاد تتمّ فيما هو مفاد الحرف، كما ها هنا، وإلّا لما كان معنىً حرفيّاً، كما يظهر وجهه بالتأمّل»(2).

وحاصله: أنّه لا مورد لمقدّمات الحكمة في المقام؛ لأنّ الدالّ على الخصوصيّة المستتبعة للمفهوم هو (إن) الشرطيّة - مثلاً -، التي هي من الحروف، وقد ثبت في محلّه: أنّ المعنى الحرفيّ معنى جزئيّ غير قابل للتقييد، وحيث إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة، لا السلب والإيجاب، فيكون الإطلاق - دائماً - ممتنعاً، وبعين امتناع التقييد.ومن المعلوم: أنّ مورد مقدّمات الحكمة إنّما هو المعنى الذي يكون قابلاً للإطلاق والتقييد، فينحصر موردها في المعاني الاسميّة الملحوظة استقلالاً لا آليّاً.

ولكن قد عرفت: أنّ الحقّ أنّ للحرف معنىً إخطاريّاً، لا إيجاديّاً، فيمكن التمسّك فيه بالإطلاق.

والعجب من صاحب الكفاية) كيف صدر عن هذا الإشكال مع كونه لا يفرّق بين الاسم والحرف ذاتاً.

ص: 305


1- المصدر نفسه.
2- كفاية الاُصول: ص 195.

على أنّه لو سُلِّم عدم إمكان التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ، فيمكن التمسّك بالإطلاق المقاميّ والأحواليّ، وعليه: فيكون للجملة الشرطيّة مفهوم.

لكن قد يستشكل في هذا - أيضاً - بأنّ «تعيّنه من بين أنحائه بالإطلاق المسوق في مقام البيان بلا معيّن، ومقايسته مع تعيّن الوجوب النفسيّ بإطلاق صيغة الأمر مع الفارق، فإنّ النفسيّ هو الواجب على كلّ حال، بخلاف الغيريّ، فإنّه واجب على تقديرٍ دون تقدير، فيحتاج بيانه إلى مؤونة التقييد بما إذا وجب الغير، فيكون الإطلاق في الصيغة مع مقدّمات الحكمة محمولاً عليه، وهذا بخلاف اللّزوم والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة، ضرورة أنّ كلّ واحد من أنحاء اللّزوم والترتّب محتاج في تعيّنه إلى القرينة مثل الآخر، بلا تفاوت أصلاً، كما لا يخفى»(1).وحاصله: أنّه لا يمكن تعيين العلّة المنحصرة بمقدّمات الحكمة، وذلك لأنّ للعلّة المنحصرة خصوصيّة في مقابل الخصوصيّات الأُخَر، وفرد للعلّة المطلقة التي نسبتها إلى أفرادها نسبة واحدة، فإثبات إحدى الخصوصيّات بالإطلاق الذي نسبته إلى جميع هذه الخصوصيّات على حدٍّ سواء تعيين لأحد الأفراد المتساوية بلا معيّن، وذلك لتساوي العلّة

ص: 306


1- كفاية الاُصول: ص 195 - 196.

بالمطلقة بالنسبة إلى جميع أفرادها، من العلّة المنحصرة وغيرها.

ولا يمكن قياس المقام بالواجب الغيريّ؛ لأنّ النفسيّة ليست بقيد زائد وجوديّ حتى يحتاج إلى البيان، بل هي أمر عدميّ، أعني: عدم وجوبه لشيء آخر، وأمّا الغيريّ، فإنّه مشروط بوجوب الغير، فيكون محتاجاً إلى مؤونة زائدة، يمكن رفعها بالأصل.

وأمّا العلّة المنحصرة، فليست كالوجوب النفسيّ، حيث إنّ لها خصوصيّةً في مقابل الخصوصيّات الأُخر - أي: أنّها فرد متساوٍ لسائر أفرادها -، ونسبة الإطلاق إلى جميع الخصوصيّات واحدة من دون مرجّح لخصوص العلّة المنحصرة، فلا يمكن إثباتها بالإطلاق، أو فقل: إنّ الخصوصيّة أمر عدميّ، والأصل إنّما يرفع الشيء الوجوديّ.

حجج المنكرين للمفهوم:

استدلّ المنكرون للمفهوم بوجوه:منها:

أنّه لا يمكن استفادة المفهوم من الجملة الشرطيّة؛ لأنّ فائدة الشرط إنّما هي تعليق الحكم به، فكون المجيء - مثلاً - شرطاً لوجوب الإكرام، معناه: إناطة الوجوب به، ومن الممكن أن يقوم مقام هذا الشرط شرط آخر، كالعدالة - مثلاً -، ويكون هذا الشرط كالعلّة، فيحفظ المشروط عن الانتفاء.

ص: 307

وعلى هذا: فانتفاء المجيء لا يكون سبباً منحصراً لانتفاء الوجوب، فتعليق الحكم على الشرط لا يدلّ على المفهوم الذي هو الانتفاء عند الانتفاء، فإذا فرض جريان شرط آخر مكان الشرط الأوّل في حفظ الحكم المترتّب عليه، فالشرط الأوّل باقٍ على شرطيّته؛ فإنّ الشمس - مثلاً -، وإن كانت علّة لثبوت الحرارة، إلّا أنّ انتفاءها لا يوجب انتفاء الحرارة بالضرورة، لاحتمال قيام النار مقامها.

ويُجاب عن هذا الوجه:

اشارة

بأنّ المراد من إمكان أن يقوم شرط آخر مقام الشرط الأوّل المذكور في القضيّة، إن كان هو إمكانها ثبوتاً، فهو غير قابل للإنكار، والقائل بالمفهوم لا ينكره، وإنّما هو يدّعي أنّ القضيّة الشرطيّة تدلّ على عدم وقوع هذا الممكن الذاتيّ في مقام الإثبات، ومن المعلوم: أنّ مجرّد إمكان قيام شرط مقام الشرط المذكور في القضيّة لا ينفي المفهوم بعد دلالة القضيّة على عدم قيامه مقامه في مقام الإثبات.

وإن كان مراده احتمال وقوع شرط مقام الشرط المذكور في القضيّة في مرحلة الإثبات، فهو - أيضاً - لا ينافي مايدّعيه المثبت للمفهوم؛ لأنّ مجرّد هذا الاحتمال لا يضرّ بدعوى القائل بالمفهوم؛ حيث إنّه يدّعي ظهور الجملة في الانتفاء عند الانتفاء، وعدم نيابة شرط مقام الشرط المذكور فيها.

على أنّه يمكن أن يقال: بأنّ الشرط في الحقيقة هو كلّ واحد منهما،

ص: 308

كما في مثل «إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفيت الجدران فقصّر»، بأن يكون كلّ واحد منهما من قبيل جزء العلّة، أو أن يكون كلّ واحد منهما علّة مستقلّة. نعم، لو فرض هذا الاحتمال مساوياً أو راجحاً لاحتمال دلالة الجملة على المفهوم، لم يكن من الممكن - حينئذٍ - الأخذ بالمفهوم.

ومنها:

أنّ الجملة لا تدلّ على المفهوم؛ لأنّها لو كانت كذلك، لكان ذلك بإحدى الدلالات الثلاث: المطابقيّة أو التضمّنيّة أو الالتزاميّة. ولكنّ الانتفاء عند الانتفاء ليس مدلولاً مطابقيّاً للجملة الشرطيّة ولا تضمّنيّاً ولا التزاميّاً؛ لأنّ المفهوم ليس عين الثبوت عند الثبوت حتى يكون هو مدلولها المطابقيّ، ولا هو جزؤه حتى يكون مدلولها التضمنيّ، ولا لازمه حتى يكون مدلولها الالتزاميّ، إذ المعتبر في الدلالة الالتزاميّة هو اللّزوم العقليّ أو العرفيّ أو العادي، والكلّ مفقود في المقام.

فينتج ذلك: عدم دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم بشيءٍ من الدلالات، وهو المطلوب.ولكنّ الحقّ: أنّ الدلالة الالتزاميّة عليه موجودة، لدلالة اللّزوم على الحصر بالالتزام، وليس المفهوم إلّا ما يكون مدلولاً التزاميّاً للقضيّة.

ص: 309

بقي ها هنا اُمور:

الأمر الأوّل:

لا يخفى: أنّ المراد من (الحكم) المأخوذ في تعريف المفهوم، حيث يقال: انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، إنّما هو طبيعيّه، لا شخصه، بلا فرق بين أن يكون الحكم المعلّق على المنطوق بنحو الشرط أو الوصف أو اللّقب أو غير ذلك؛ لأنّ انتفاء شخص الحكم إنّما يكون من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، كما في مثل: «إن رزقت ولداً فاختنه»، ممّا ينتفي الحكم فيه بانتفاء الموضوع عقلاً، أو كما إذا قيل: «وقفت هذه الدار على الفقهاء إن كانوا مجتهدين»، فإذا انتفى الاجتهاد عنهم ينتفي الوقف لا محالة، ولكن لا من جهة المفهوم، بل من جهة عدم قابليّة المال لإنشاء الوقف ثانياً، فيكون الحكم بالوقف منتفياً بانتفاء الموضوع بحكم العقل، وهذا متسالَم عليه، وخارج عن محلّ النزاع قطعاً.

وبعبارة أُخرى: فإنّما نقول بالمفهوم في المورد الذي يمكن فيه وجود الحكم مع انتفاء ما علّق عليه، من الشرط أو غيره، كما في مثل وجوب الإكرام؛ فإنّه لا مانع من فرض وجوده عند انتفاء المجيء، كما عند ثبوته.فلا محالة: يكون الحكم المعلّق على الشرط كلّيّاً ذا أفراد، حتى يمكن بقاؤه عند انتفاء المعلَّق عليه، وأمّا لو كان الحكم شخصيّاً، لم يكن من معنىً - أصلاً - لهذا النزاع؛ إذ لا يمكن - عقلاً - فرض بقاء شخص

ص: 310

الحكم مع انتفاء موضوعه، حتى يقال: بأنّه إذا انتفى ما عُلّق عليه فهل يبقى الحكم أم لا؟

وخلاصة البحث: أنّه ليس المعيار في أخذ المفهوم هو شخص الحكم، بل كلّيّه وسنخه، ومن هنا، فلو قام دليل على ثبوت الحكم عند انتفاء الشرط، كما لو دلّ دليل على وجوب الإكرام عند عدم المجيء، كان معارضاً للمفهوم.

الأمر الثاني:

أنّ المفهوم يتبع المنطوق في جميع قيوده وما هو دخيل فيه. وإنّما يكون الفرق بينهما بالإيجاب والسلب، وإلّا، فيجب الاتّحاد بينهما في الموضوع والمحمول. فلو قلت - مثلاً -: «إن جاءك زيد غداً راكباً فأكرمه»، فمفهومه: «إن لم يجئك زيد غداً راكباً فلا تكرمه»، فلو فرض أنّ أحد القيود لم يكن موجوداً، كعدم مجيئه غداً، أو جاء غداً، ولكنّه لم يكن راكباً، فلا يجب إكرامه، فيكفي في انتفاء وجوب الإكرام فقدان أحد القيود.

والسرّ في ذلك: هو ما ذكرناه من أن المفهوم تابع للمنطوق من جميع الجهات، أي: من جهة الموضوع والمحمول والنسبة. غاية الفرق بينهما: أنّ المنطوق والمفهوم متعاكساندائماً بلحاظ الكيف، فإن كان المنطوق قضيّة موجبة فالمفهوم قضيّة سالبة، وإن كان قضيّة سالبة فالمفهوم قضيّة موجبة.

ص: 311

إذا عرفت هذا، فيمكن أن يُستشكل في استفادة المفهوم من القضيّة الشرطيّة بما حاصله:

أنّه قد تقرّر في محلّه في المنطق: أنّ نقيض الموجبة الكلّيّة سالبة جزئيّة، وتقرّر في محلّه في الاُصول أنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فمنطوق قوله - مثلاً -: «الماء إذا بلغ قدر كرٍّ لا ينجّسه شيء»، هو عدم تنجّس الماء الكرّ بأيّة نجاسة،

والمفهوم هو: إذا لم يكن الماء كرّاً فإنّه يتنجّس بشيء من النجاسات، وتكون النتيجة: أنّ الماء القليل يتنجّس في الجملة بنجاسة ما، ولا يفيد المفهوم نجاسته بجميع النجاسات.

ولكنّ الحقّ: أنّ مفهومه هو أنّ الماء القليل يتنجّس بكلّ نجاسة؛ لأنّ المدار في المباحث الفقهيّة والاُصوليّة على الاستظهارات العرفيّة، أي: على ما يستفاد من الدليل لغةً وعرفاً، وهذا بخلاف المباحث المنطقيّة، فإنّ المدار فيها على البراهين العقليّة.

ولذا يُقال: إنّ بين نظر المنطقيّ ونظر الفقيه عموماً وخصوصاً من وجه؛ فإنّه قد يكون المستفاد من الدليل عرفاً هو أنّ السالبة الكلّيّة هي نقيض الموجبة الكلّيّة، في الوقت الذي يكون نقيضها - بنظر المنطقيّ - هي الموجبة الجزئيّة، كما في المقام؛ فإنّ العرف يفهم من هذه القضيّة العموم، وهو أنّ الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء، من البول و الدموالمني، والمنطوق - أيضاً - يكون كذلك، كما أنّه ليس المراد من المنطوق بلحاظ النكرة الواقعة في سياق النفي هو العامّ المجموعيّ، بل العامّ الأفراديّ، ففي

ص: 312

المفهوم - أيضاً - مثل المنطوق، فإنّ نقيض الإيجاب الكلّيّ - عرفاً - هو السلب الكلّيّ.

الأمر الثالث:

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء كقوله: «إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفيت الجدران فقصّر»، فعلى القول بثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة، فكيف يمكن الجمع بين هاتين القضيّتين؛ لأنّ مآل الجملتين - بلحاظ معناهما - إلى التعارض؛ لأنّ مفاد الجملة الثانية من ناحية المفهوم: إذا لم تخفَ الجدران فلا تقصّر، سواء خفي الأذان أم لا، كما أنّ مفاد الجملة الأُولى من ناحية المفهوم - أيضاً -: إن لم يخفَ الأذان لم يجب القصر، سواء خفيت الجدران أم لا، فمفهوم الجملة الأُولى ينافي منطوق الثانية، كما أن مفهوم الجملة الثانية ينافي منطوق الأُولى، ففي هذه الصورة قد يقال: بوجود تعارض وتهافت بين الشرطين.

فكيف السبيل إلى حلّ هذا التعارض؟

فهل اللّازم هو رفع اليد عن استقلال كلّ منهما في السببيّة التامّة، وجعل كلّ منهما جزء السبب؟

أم أنّ اللّازم هو رفع اليد عن انحصار كلّ منهما في السببيّة، وجعل كلّ منهما سبباً مستقلّاً؟فعلى الأوّل: تكون النتيجة: أنّه لا يكفي خفاء أحدهما، ويكون الحكم

ص: 313

مشروطاً بخفاء كليهما معاً.

وأمّا على الثاني: فيكون خفاء أحدهما كافياً في ثبوت الحكم.

ولكن بناءً على القول بأنّ خفاء الأذان يحصل - غالباً - قبل خفاء الجدران، فلا يمكن الأخذ بالفرض الثاني، أي: بدعوى استقلال كلّ منهما في السببيّة؛ لأنّ المفروض حصول خفاء الأذان قبل خفاء الجدران، فجعل الشرطيّة لخفاء الجدران - حينئذٍ - يكون من اللّغو الواضح؛ إذ لا تصل النوبة إليه.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره) وجوهاً خمسة لرفع التعارض، إذ قال):

«لابدّ من التصرّف ورفع اليد عن الظهور، إمّا بتخصيص مفهوم كلٍّ منهما بمنطوق الآخر، فيُقال: بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين. وإمّا برفع اليد عن المفهوم فيهما، فلا دلالة لهما على عدم مدخليّة شيءٍ آخر في الجزاء، بخلاف الوجه الأوّل، فإنّ فيهما الدلالة على ذلك. وإمّا بتقييد إطلاق الشرط في كلٍّ منهما بالآخر، فيكون الشرط هو خفاء الأذان والجدران معاً، فإذا خفيا وجب القصر، ولا يجب عند انتفاء خفائهما، ولو خفي أحدهما. وإمّا بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون تعدّد الشرط قرينة على أنّ الشرط في كلٍّ منهما ليس بعنوانه الخاصّ، بل بما هو مصداق لما يعمّهما من العنوان»(1).

ص: 314


1- كفاية الاُصول: ص 201.

ومحصّل هذه الوجوه الخمسة:

أوّلها: الالتزام بتقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر، إذ النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق.

والثاني: الالتزام بعدم المفهوم في كلّ منهما، فلا تدلّ كلّ جملة إلّا على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، وهو لا ينافي ثبوته عند ثبوت الآخر.

والثالث: الالتزام بتقييد إطلاق الشرط - المقابل للعطف بالواو - في كلٍّ منهما بالآخر، فيكون الشرط هو المركّب منهما، لا كلّ منهما مستقلّاً.

والرابع: الالتزام بأنّ المؤثّر هو الجامع بين الشرطين، لا كلّ منهما بعنوانه، بل كلّ منهما بما هو فرد للجامع.

والخامس: رفع اليد عن المفهوم في أحدهما.

والكلام - أوّلاً - يقع في خصوص المثال والمسألة الفقهيّة المتعلّقة به، فنقول: لم يرد في المصادر الحديثيّة المعتبرة رواية بهذا اللّفظ، بل ما ورد في صحيح محمّد بن مسلم قال: «قلتُ لأبي عبد اﷲ%: الرجل يريد السفر، متى يقصّر؟ قال: إذا توارى من البيوت»(1). الحديث.

فإنّه ظاهر في أنّ المدار على تواريه من البيوت، لا على تواري البيوت منه، كما هو مقتضى التعبير ﺑ (خفيت الجدران).وعلى فرض التنزّل، وقلنا بأنّ المراد هو خفاء الجدران، فهل يمكن

ص: 315


1- انظر: الكافي 3: 434، باب 3 من أبواب السفر، ح1؛ ووسائل الشيعة 8: 470 - 471، باب 6 من أبواب صلاة المسافر، ح 1.

الجمع بين خفاء الجدران وخفاء الأذان كما ورد في صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اﷲ% قال: «سألته عن التقصير، قال: إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتمّ، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر، وإذا قدمْتَ من سفرك فمثل ذلك»(1).

ولا يخفى: أنّ المراد من خفاء الجدران هو الجدران المتوسّطة في الأراضي المتوسّطة، والمراد جدران البيوت، وليس المراد القبب والمنارات؛ لأنّها قد تُرى عن بعد فراسخ، كما في قبب أمير المؤمنين% وبقيّة الأئمّة(.

وأيضاً: فالمراد خفاء صورها وأشكالها على نحو لا يمكن تمييزها عمّا عداها، ولو كانت الأشباح غير مخفيّة، والمراد هو وصوله إلى حدٍّ يمكن أن تتوارى الجدران، لا أنّ التواري هو بنفسه يكون موضوعاً للحكم، فيكون عدم الرؤية مستنداً إلى البعد المكانيّ المحدود، لا التواري بعنوانه؛ لأنّ عدم الرؤية قد يكون من جهة وجود الموانع، من انخفاضٍ أو وجود حائلٍ أو غيمٍ أو نحو ذلك.

وأمّا خفاء الأذان وعدم سماعه، فإنّ المحتملات في المراد من السماع فيه ثلاثة:

الأوّل: سماع الأذان وتميّزه عن غيره، سواء ميّز فصوله أم لا.

ص: 316


1- انظر: تهذيب الأحكام 4: 230، باب حكم المسافر والمريض في الصيام، ح50؛ ووسائل الشيعة 8: 472، باب 6 من أبواب صلاة المسافر، ح 3.

الثاني: سماعه مع تمييز فصوله بعضها عن بعض.

الثالث: أن يكتفى فيه بسماع الصوت فقط، وإن لم يشخّص أنّ المسموع له أذان أم لا.

والظاهر: أنّ المراد هو الاحتمال الأوّل؛ لأنّه يصدق عليه الأذان. وأمّا الاحتمال الثاني، وهو التقييد بتمييز فصوله، فيحتاج إلى دليل. كما أنّ الثالث - أيضاً - ساقط؛ لأنّ المراد سماع الأذان، لا مجرّد سماع الصوت بدون تمييز.

فإذا عرفت هذا، فيمكن الجمع بين

الدليلين، بأن يُقال:

يجب أن يكون خفاء الأذان في مرتبة خفاء الجدران، وهو خفاء المجموع من حيث المجموع، لا الفصول. فيكون - لذلك - في مرتبة واحدة مع خفاء الجدران، أو فقل: إنّ تواري الجدران المتوسّطة وعدم سماع صوت مجموع الأذان متلازمان غالباً.

ولا يخفى هنا: أنّ البحث عن تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء إنّما يتمّ فيما لو كان الاتّحاد سنخيّاً قابلاً للتعدّد، وأمّا إذا لم يكن قابلاً للتعدّد، وكان مفاد الجزاء صرف الوجود، وما هو عادم العدم، فحينئذٍ: يخرج عن محلّ البحث؛ لأنّه ليس قابلاً للتعدّد، بل بمجرّد الوجود الأوّل لم يبقَ مجال للوجود الثاني؛ لأنّ صرف الوجود عبارة عن أوّل وجودٍ للطبيعة، وهو مصداق عادم العدم، والوجود الثاني ليس مصداقاً له؛ لأنّ عدم الطبيعة قد انعدم بالوجود الأوّل.

ص: 317

كما لا يخفى - أيضاً -: أنّ البحث إنّما يأتي لو كان بينهما تباين في الجملة، وأمّا إذا كان خفاء أحدهما قبل الآخر، فلا يأتي هذا البحث - أصلاً -.

وأمّا الوجوه التي ذكرها صاحب الكفاية):

فالوجه الأوّل: لا معنى له؛ لأنّه بعد تبعيّة المفهوم للمنطوق فلا يمكن أن يقال بتقييد أحدهما للآخر أي تقييد مفهوم أحدهما بمنطوق الآخر، فإنّ المفهوم تابع للمنطوق، كما أنّه لا معنى للقول بعدم المفهوم بعد إثباتنا أنّ الجملة الشرطيّة لها مفهوم.

ومنه ظهر: بطلان ما قاله صاحب الكفاية(قدس سره)، الذي رجّح الوجه الثاني بلحاظ النظر العرفيّ، فذهب إلى أنّ العرف يساعد عليه، ورجّح الوجه الرابع بحسب النظر الدقّي العقليّ، فذهب إلى أنّ العقل يعيّنه لاستحالة تأثير المتعدّد بما هو متعدّد في واحد، فوحدة الجزاء تكشف عن وحدة المؤثّر، وهو يقتضي أن يكون المؤثّر هو الجامع بين الشرطين، لا كلاً منهما بنفسه؛ لامتناعه عقلاً بمقتضى قانون السنخيّة بين العلّة والمعلول.

قال): «ولعلّ العرف يساعد على الوجه الثاني، كما أنّ العقل ربّما يعيّن هذا الوجه [أي: الرابع]، بملاحظة أنّ الاُمور المتعدّدة بما هي مختلفة لا يمكن أن يكون كلّ منها مؤثّراً في واحد، فإنّه لابدّ من الربط الخاصّ بين العلّة والمعلول، ولا يكاد يكون الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنين بما هما اثنان، ولذلك - أيضاً - لا يصدر من الواحد إلّا الواحد،

ص: 318

فلابدّ من المصير إلى أنّ الشرط فيالحقيقة واحد، وهو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم، وبقاء إطلاق الشرط في كلٍّ منهما على حاله، وإن كان بناء العرف والأذهان العامّيّة على تعدّد الشرط وتأثير كلّ شرط بعنوانه الخاصّ، فافهم»(1).

ولكنّك قد عرفت أنّه لا تنافي بين الدليلين بعد إمكان الجمع بينهما بالبيان المتقدّم.

البحث في تداخل الأسباب والمسبّبات

إذا فرض هناك شرطان، بلا فرق بين أن يتقدّم أحدهما على الآخر بحسب الزمان أو لا، فهل يوجب التداخل في المسبّبات أم لا؟

لابدّ هنا من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: ما الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة؟

والجواب: أنّ المسألة السابقة يقع البحث فيها في أنّ كلّاً من الشرطين هل هو سبب مستقلّ أم لا؟ وأمّا هنا، فالبحث يقع في أنّ السببين المستقلّين هل يتداخلان في المسبّب، أي هل يكون لهما مسبّب واحد، أم لا؟

الأمر الثاني: أنّ هذا البحث إنّما يأتي في صورة قابليّة الجزاء للتعدّد، كالكفّارة بالنسبة إلى نهار شهر رمضان، وأمّالو فرض أنّه غير قابل للتعدّد،

ص: 319


1- كفاية الاُصول: ص 201 - 202.

كالقتل، فلا معنى للكلام في أنّه هل يتعدّد الجزاء بتعدّد الشرط أم لا؟

الأمر الثالث: أنّه لا فرق في محلّ البحث بين أن يكون الشرط المتعدّد من سنخ واحد، كالأكل المتعدّد في نهار شهر رمضان بالنسبة إلى كفّارة الإفطار، أو من أسناخ متعدّدة، كما إذا أكل وشرب في نهار شهر رمضان - أيضاً - بالنسبة إلى الكفّارة.

الأمر الرابع: أنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة فيما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء، هو تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط، ويسمّى ﺑ (عدم تداخل الأسباب) كما هو المشهور.

قال في الكفاية: «قلت، نعم، لو لم يكن ظهور الجملة الشرطيّة في كون الشرط سبباً أو كاشفاً عن السبب، مقتضياً لذلك، أي: لتعدّد الفرد، وبياناً لما هو المراد من الإطلاق. وبالجملة: لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الإطلاق، ضرورة أنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقاً على عدم البيان، وظهورها في ذلك صالح لأن يكون بياناً، فلا ظهور له مع ظهورها، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرّف أصلاً، بخلاف القول بالتداخل كما لا يخفى، فتلخّص بذلك: أنّ قضيّة ظاهر الجملة الشرطيّة، هو القول بعدم التداخل عند تعدّد الشرط»(1).

وخلاصة كلامه: أنّ ظهور الجملة في وحدة المتعلّق ظهور إطلاقيّ،

ص: 320


1- كفاية الاُصول: ص 204.

وهذا الظهور متوقّف على مقدّمات:إحداها: أن يكون المولى في مقام البيان.

والثانية: عدم البيان وعدم ما يصلح للبيانيّة.

وبما أنّ ظهور الجملة الشرطيّة إنّما هو في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، فيقتضي تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط؛ لأنّ وحدته تنافي ظهورها في الحدوث عند الحدوث؛ فإنّ وحدة الجزاء تكشف عن عدم ذلك، وظهور الجملة الشرطيّة في اقتضائها تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط صالح لأن يكون بياناً لما اُريد من الجزاء، وهو الفرد لا الطبيعة، والقضيّة الشرطيّة تشتمل على ظهورين: الأوّل: تعدّد الحكم في الجزاء. والثاني: يقتضي الوحدة.

ولكنّ الظهور الثاني هو من قبيل الظهور الإطلاقيّ، وهو معلّق على عدم البيان، وظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث يكون صالحاً لأن يكون بياناً لما هو المراد من المطلق؛ لأنّ الظهور الأوّل ظهور إطلاقيّ متوقّف على عدم البيان، وأمّا الظهور الثاني فهو ظهور وضعيّ غير متوقّف على شيء، فيكون حاكماً على الظهور الإطلاقيّ.

فظهر ممّا ذكر: أنّ الالتزام بعدم التداخل لا يستلزم تصرّفاً في الظاهر، بل مقتضاه: الالتزام بالظاهر، بخلاف القول بالتداخل.

وقد ذكر صاحب الكفاية) في آخر كلامه أنّ البحث عن التداخل وعدمه إنّما يأتي في المورد القابل للتعدّد، نظير الوضوء والصلاة

ص: 321

وغيرهما. وأمّا المورد غير قابل للتعدّد فلا يجري فيه بحث التداخل وعدمه، بل لا إشكال فيالتداخل، نظير القتل، فإنّه إذا اجتمع سببان للقتل لا يتعدّد الحكم لعدم قابليّة متعلّقه للتعدّد، كما لا يخفى.

وإليك نصّ ما أفاده(قدس سره): «هذا كلّه فيما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلاً للتعدّد، وأمّا ما لا يكون قابلاً لذلك، فلابدّ من تداخل الأسباب فيما لا يتأكّد المسبّب، ومن التداخل فيه فيما يتأكّد»(1).

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سره) فقد وافق صاحب الكفاية) في اختياره عدم التداخل، ولكنّه خالفه في الدليل عليه، فقد قرّب) دعواه بنحوٍ آخر:

فذكر - أوّلاً -: أنّ القضيّة الشرطيّة ترجع إلى قضيّة حقيقيّة حمليّة موضوعها الشرط ومحمولها الجزاء، كما أنّ القضيّة الحقيقيّة ترجع إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها الموضوع وتاليها المحمول، فهما - حقيقةً - قضيّة واحدة، وعليه: فكما أنّ الحكم في القضيّة الحمليّة الحقيقيّة ينحلّ بانحلال موضوعه، كذلك يكون الانحلال في القضيّة الشرطيّة، فيتعدّد الحكم بتعدّد أفراد الشرط ووجوداته، وأمّا تعدّده بتعدّد الشرط ماهيّةً، فهو يستفاد من ظهور إطلاق القضيّة في الاستقلال.

وذكر بعد ذلك: أنّ الطلب المتعلّق بالماهيّة لا يقتضي إلّا إيجاد متعلّقه خارجاً، ونقض عدمه المطلق، وبما أنّ نقض العدم المطلق يصدق على

ص: 322


1- كفاية الاُصول: ص 206.

أوّل وجود من الطبيعة، كان مجزياً عقلاً.وأمّا كون متعلّق الطلب صرف الوجود، فليس هو مدلولاً لفظيّاً لصيغة الأمر، لا مادّةً ولا هيئة، إذ المادّة لم توضع إلّا إلى الماهيّة، والهيئة لا تدل إلّا على طلب إيجادها، وهو يصدق قهراً على أوّل الوجود، وذلك لا يقتضي كون مطلوبيّة صرف الوجود مدلول الكلام.

وعليه: فإذا كان مقتضى الطلب هو إيجاد الطبيعة ونقض عدمها، فإذا تعلّق طلبان بماهيّة، كان مقتضى كلّ منهما إيجاد ناقض للعدم - التداخل وعدمه -، فمقتضى الطلبين إيجاد ناقضين للعدم، نظير ما إذا تعلّقت الإرادة التكوينيّة بشيء مرّتين، فإنّ مقتضاها تحقّق وجودين منه.

وأمّا وحدة الطلب وتعدّده، فهو ممّا لا يتكفّله الطلب المتعلّق بالمادّة، بل هو ينتج عن عدم ما يقتضي التعدّد، لا عن ظهور اللّفظ في الوحدة، فإذا فرض ظهور الجملة في الانحلال وتعدّد الطلب، لكان الظهور مقتضياً للتعدّد، فيرتفع موضوع وحدة الطلب، وهو عدم المقتضي للتعدّد. ولو سلّم ظهور الجزاء في وحدة الطلب، فهو ناتج عن عدم المقتضي للتعدّد، وبما أنّ ظهور الجملة الشرطيّة في التعدّد لفظيّ، كان حاكماً على ظهور الجزاء في الوحدة، لرفعه موضوعه، وهو عدم المقتضي للتعدّد(1).

ص: 323


1- انظر: أجود التقريرات: 1: 428 - 430. ونصّ ما أفاده): «والحقّ هو القول بعدم التداخل مطلقاً، وتوضيح ذلك إنّما يتمّ ببيان أمرين: الأوّل: ما تقدّم سابقاً من أنّه لا إشكال في أنّ كلّ قضيّة شرطيّة ترجع إلى قضيّة حقيقيّة، كما أنّ كلّ قضيّة حقيقيّة تنحلّ إلى قضيّة شرطيّة، مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول، فالمعنى المستفاد منهما في الحقيقة شيء واحد، وإنّما الاختلاف في كيفيّة التعبير عنه، وعليه: فكما أنّ الحكم في القضيّة الحقيقيّة ينحلّ بانحلال موضوعه إلى أحكام متعدّدة، إذ المفروض أنّ فرض وجود الموضوع فرض ثبوت الحكم له، كذلك ينحلّ الحكم في القضيّة الشرطيّة بانحلال شرطه؛ لأنّ أدوات الشرط، اسميّة كانت أم حرفيّة، إنّما وُضعت لجعل مدخولها موضع الفرض والتقدير وإثبات التالي على هذا الفرض، فلا يكون بين القضيّة الشرطيّة والحقيقيّة فرق من جهة الانحلال أصلاً. وعليه: فيتعدّد الحكم بتعدّد الشرط وجوداً كما يتعدّد بتعدّد موضوعه في الخارج. وأمّا تعدّد الحكم بتعدّد شرطه جنساً، فهو إنّما يستفاد من ظهور كلٍّ من القضيّتين في أنّ كلّاً من الشرطين مستقلّ في ترتّب الجزاء عليه مطلقاً، فإنّ ظاهر قضيّة: (إذا بلْتَ فتوضّأ) هو أنّ وجوب الوضوء مترتّب على وجود البول، ولو قارنه أو سبقه النوم - مثلاً -، وكذلك ظاهر قضيّة (إذا نمْتَ فتوضّأ) هو ترتّب وجوب الوضوء على النوم، ولو قارنه أو سبقه البول - مثلاً -، فإطلاق كلٍّ من القضيّتين يستفاد منه استقلال كلٍّ من النوم والبول في ترتّب وجوب الوضوء عليه على جميع التقادير، ولازم ذلك هو تعدّد وجوب الوضوء عند حصول الشرطين في الخارج. الثاني: أنّ تعلّق الطلب بشيء لا يقتضي إلّا إيجاد ذلك الشيء خارجاً، ونقض عدمه المطلق، وبما أنّ نقض العدم المطلق يصدق على أوّل وجودٍ من وجودات الطبيعة، يكون الإتيان به مجزياً في مقام الامتثال عقلاً. وأمّا توهّم أنّ ذلك من جهة تعلّق الطلب بصرف الوجود وصدقه على أوّل الوجودات، فهو فاسد؛ إذ لا موجب لأخذ صرف الوجود في متعلّق الطلب بعد عدم كونه مدلولاً عليه بالهيئة ولا بالمادّة، ضرورة أنّ المادّة لم توضع إلّا لنفس الماهيّة المعرّاة عن الوجود والعدم، وأمّا الهيئة، فهي لا تدلّ إلّا على طلب إيجادها ونقض عدمها الصادق قهراً على أوّل الوجودات، وليس هناك ما يدلّ على اعتبار صرف الوجود في متعلّق الطلب غير صيغة الأمر المفروض عدم دلالتها على ذلك هيئةً ومادّةً. وعليه: فالطلب لا يرد على صرف الوجود المأخوذ في المتعلّق في مرتبة سابقة على عروض الطلب عليه، بل الطلب هو بنفسه يقتضي إيجاد متعلّقه خارجاً ونقض عدمه المطلق، فإذا فُرض تعلّق طلبين بم-اهيّة واحدة، كان مقتضى كلٍّ منهما إيجاد تلك الماهيّة، فيكون المطلوب - في الحقيقة - هو إيجادها ونقض عدمها مرّتين، كما هو الحال بعينه في تعلّق إرادتين تكوينيّتين بماهيّة واحدة، فتعدّد الإيجاد تابع لتعدّد الإرادة، تشريعيّة كانت أم تكوينيّة. وبالجملة: إنّ كلّ أمر في نفسه لا يدلّ إلّا على الطلب المقتضي لإيجاد متعلّقه، وأمّا كون هذا الطلب واحداً أو متعدّداً، فليس في الأمر بهيئته ومادّته دلالة عليه قطعاً. نعم، إذا لم يكن هناك ما يقتضي تعدّد الطلب، وقد فُرض تعلّق الطلب بالطبيعة، كان الطلب واحداً قهراً، إلّا أنّه من جهة عدم المقتضي لتعدّده، لا من جهة دلالة اللّفظ عليه، فإذا فُرض ظهور القضيّة الشرطيّة في الانحلال وتعدّد الطلب، أو فُرض تعدّد القضيّة الشرطيّة في نفسها، كان ظهور القضيّة في تعدّد الحكم موجباً لارتفاع موضوع الحكم بوحدة الطلب - أعني به: عدم المقتضي للتعدّد - ووارداً عليه. ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا ظهور الجزاء في وحدة الطلب، لكان ذلك من جهة عدم ما يدلّ على التعدّد، فإذا دلّت الجملة الشرطيّة، بظهورها في الانحلال، أو من جهة تعدّدها في نفسها، على تعدّد الطلب، كان هذا الظهور، لكونه لفظيّاً، مقدّماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب» إلى آخر كلامه«..

والصحيح - تبعاً للآخوند والنائيني" -: هو القول بعدم التداخل،

ص: 324

بلا فرق بين الإتيان بالجزاء قبل تكرّر الشرط وعدمه، أي: لا فرق بين أن يكفّر بعد الأكل الأوّل في نهار شهر رمضان، وبين أن لا يكفّر.

وينبغي أن يُعلم: أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة:

أحدها: ما هو المشهور، وهو القول بعدم التداخل.والثاني: ما عن جماعةٍ، منهم المحقّق الخونساري(قدس سره)، على ما نقله

ص: 325

صاحب الكفاية(قدس سره)(1)، وهو القول بالتداخل.

والثالث: ما عن الحلّيّ(قدس سره)(2)، وهو القول بالتفصيل بين اتّحاد جنس الشروط وتعدّده.

لكنّ الحقّ في جميع الصور التي ذكرناها هو عدم التداخل، لكونه على خلاف الأصل، ومقتضى القاعدة التعدّد.

ولا يخفى: أنّه تارةً يراد بالتداخل تداخل الأسباب، ويُقصد به: أنّ مقتضى القاعدة في مورد تعدّد الشرط هل هو تعدّد الجزاء أو عدم تعدّده؟ وأُخرى يُراد منه تداخل المسبّبات، ويُقصد به: أنّه لو ثبت تعدّد الجزاء، فهل مقتضى القاعدة تحقّق امتثال الجميع - مع الاشتراك في الاسم - بواحد أو لا يتحقّق إلّا بالإتيان بالمتعلّق بعدد أفراد الحكم؟

والقول بعدم التداخل إنّما يأتي فيما إذا كان المحلّ قابلاً للتكرار، إذ مع امتناعه له لا معنى لجريان نزاع التداخل في المسبّبات في الجزاء الذي لا يقبل التكرار، كالقتل، فيُعتبر في موضوع بحث التداخل أمران:

أحدهما: قابليّة الجزاء للتكرار.

وثانيهما: سببيّة كلّ واحد من الشرطين أو الشروط لترتّب الجزاء

ص: 326


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 202، وانظر - أيضاً -: مشارق الشموس في شرح الدروس: ص 61 - 62، كتاب الطهارة في تداخل الأغسال الواجبة، قال: mلأنّ تداخل الأسباب لا يوجب تعدّد المسبّباتn.
2- راجع: السرائر 1: 258، باب أحكام السهو والشكّ في الصلاة.

عليه، حتى يصحّ البحث عن أنّ تقارنالشرطين زماناً أو تقدّم أحدهما على الآخر هل يوجب التداخل في السبب، حتى يجوز الاكتفاء بمسبّب واحد، كوضوء واحد عقيب النوم والبول - مثلاً -، بعد فرض كلٍّ من النوم والبول سبباً مستقلّاً للوضوء، أم لا يوجب التداخل فيه، بل يجب عقيب كلّ منهما مسبّب، فلا يُكتفى بوضوء واحد لهما؟

فما قد يُقال: من الفرق بالقول بالتداخل إذا كانا متّحدين في السنخ، وعدم التداخل فيما إذا كانا مختلفين، فغير تامّ، كما أنّ بعضهم فرّقوا بين ما إذا أتى بالجزاء بعد الشرط الأوّل - مثلاً - فقالوا بلزوم الإتيان بعد الشرط لو وجد الشرط ثانياً، وبين ما إذا لم يأتِ بالجزاء حتى تكرّر الشرط، فيكفي الإتيان بجزاء واحد من باب تداخل المسبّبات أو الأسباب. وهذا التفريق - أيضاً - غير تامّ؛ لما ذكرناه من أنّ ظاهر كلّ شرط أنّه يكون مؤثّراً مستقلّاً في وجوب إتيان الجزاء، فمع إمكان تكرّر الجزاء وعدم ما يمنع من هذا الظهور، فلا وجه للخروج عن مقتضى هذا الظهور، والقول بالتداخل.

وبعبارة أُخرى: فبعد علمنا بتعدّد التكليف هنا، فالشكّ بعد الإتيان بأحدهما إنّما يكون في سقوط كلا التكليفين، والأصل عدم سقوطهما، إذ بعد اشتغال عهدته وذمّته - قطعاً - بأزيد من واحد، فكفاية الإتيان بالواحد منهما فقط بحاجة إلى دليل.

وأمّا التداخل في الأسباب، كما إذا علم بحدوث وجوب الوضوء عند

ص: 327

حدوث سببه، كما إذا بال أو نام، ولكن شكّ في ثبوته زائداً على هذا المتيقّن، كما إذا بال أو نام مرّةًثانية، فحينئذٍ: لا محالة يكون مقتضى الأصل هو عدم ثبوته ووجوبه.

وهذا الذي ذكرناه إنّما هو مع قطع النظر عن الروايات الواردة، وإلّا، فلو فرضنا وجود روايات تدلّ على كفاية مسبّب واحد عن أسباب متعدّدة، كما في باب الوضوء، فإنّ الوارد في لسان عامّة رواياته هو التعبير ﺑ (النقض)، كما في مثل: «لا ينقض الوضوء إلّا حدث»(1)، ونحوه.

ومن الطبيعيّ: أنّ صفة النقض لا تقبل التكرّر والتكثّر، ولذا كان من الطبيعيّ - أيضاً - أن يكون المستفاد من هذه الأخبار الواردة أنّ أسباب الوضوء مأخوذة على نحو جزء العلّة، وأنّها إنّما تؤثّر في وجود صفة واحدة، وهي التي يعبّر عنها ﺑ (الحدث)، إن اقترنت تلك الأسباب كان كلّ واحد منها جزء العلّة، على نحو يكون المؤثّر هو المجموع منها، لا واحد منها بعينه، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح كما هو واضح. وإن ترتّبت تلك الأسباب، فالأثر يكون مستنداً إلى المتقدّم منها فقط، دون المتأخّر، فإنّه يبقى بلا أثر لعدم قابليّة المحلّ، وهذا نظير من زنى ثمّ ارتدّ، فإنّ وجوب قتله يكون مستنداً إلى الزنا، ولا يؤثّر الارتداد، لعدم قابليّة المحلّ لوجوب عروض القتل ثانياً.

ص: 328


1- انظر: وسائل الشيعة 1: 253، الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء، ح4.

فاتّضح ممّا ذكرناه: أنّ التداخل في باب الوضوء إنّما هو في الأسباب دون المسبّبات.وكذا ما ورد في باب الغسل، وهو إجزاء غسل واحد عن المتعدّد، كصحيحة زرارة: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة، فإذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد - قال: ثمّ قال: - وكذلك المرأة يُجزئها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها»(1)، وغيرها من الروايات، والمستفاد من هذه الروايات هو أنّ التداخل في باب الغسل إنّما هو في المسبّبات لا في الأسباب.

وهذا الذي ذكرناه من التداخل في الأسباب دون المسبّبات، لا يُفرّق فيه بين الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة، لأنّه لو شك في تعدّد مشروطه عند تعدّد شرطه، فمقتضى الأصل: عدم تعدّده في كلا الحكمين، التكليفيّ والوضعيّ، كما أنّه لو شكّ في سقوطه بعد العلم بثبوته، فمقتضى القاعدة: عدم سقوطه، من دون أن يكون هناك فرق بين أن يكون الحكم وضعيّاً أو تكليفيّاً.

وأمّا ما نُسب إلى فخر المحقّقين(رحمة الله)(2) من القول بالتداخل إذا كانت

ص: 329


1- انظر: وسائل الشيعة 2: 261، الباب 43 من أبواب الجنابة، ح1.
2- حكاه عنه الشيخ) في مطارح الأنظار 2: 53.

الأسباب الشرعيّة معرّفات وعدم التداخل إذا كانت مؤثّرات، فقد أورد عليه صاحب الكفاية(قدس سره) بما لفظه:«أنّ الأسباب الشرعيّة حالها حال غيرها، في كونها معرّفات تارةً ومؤثّرات أُخرى، ضرورة أنّ الشرط للحكم الشرعيّ في الجملة الشرطيّة ربّما يكون ممّا له دخل في ترتّب الحكم، بحيث لولاه لما وُجدت له علّة، كما أنّه في الحكم الغير الشرعيّ قد يكون أمارة على حدوثه بسببه، وإن كان ظاهر التعليق أنّ له الدخل فيهما، كما لا يخفى»(1).

وحاصله: أنّ الأسباب الشرعيّة هي كبقيّة الأسباب، فقد تكون مؤثّرات، كالاستطاعة الموجبة للحجّ، وقد تكون معرّفات، كما في قولك: (إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفيت الجدران فقصّر)، فإنّ كلّاً من الخفاءين يعبّران عن عرف خاصّ، فلا معنى للقول بأنّ الأسباب الشرعيّة مطلقاً معرّفات، بل هي على نوعين: مؤثّرات ومعرّفات، كالأسباب غير الشرعيّة، كما مرّ، فإنّ بعض الأسباب غير الشرعيّة مؤثّرات، كطلوع الشمس المؤثّر في ضوء العالم، وبعضها معرّفات، كضوء العالم الذي هو معرّف لطلوع الشمس، فيكون أمارة عليه.

وأمّا المراد بالمعرّف فهو أن يكون شيء واحد حاكياً عن اُمور متعدّدة، فإذا كان السبب والمؤثّر واحداً، فلا معنى للقول بتداخل المسبّبات،

ص: 330


1- كفاية الاُصول: ص 205.

وأمّا بناءً على المؤثّريّة، فبما أنّ كلّ أثر يقتضي أن يكون له مؤثّر مستقلّ، فلابدّ - حينئذٍ - من الالتزام بعدم التداخل، كما هو واضح.ولكن هذا الكلام من أصله ليس بصحيح، إذ لا مدخليّة للمؤثريّة والمعرفيّة في محلّ البحث - أصلاً -؛ وذلك لأنّه:

إن اُريد بكونها معرّفات: أنّها لا تكون دخيلة وعلّة في الأحكام الشرعيّة، فهو وإن كان له وجه - كما ادّعاه أستادنا الأعظم(قدس سره)(1) في الشرط الشرعيّ من أنّه ليس له تأثير كتأثير العلّة في المعلول -، إلّا أنّها تكون اُموراً اعتباريّة، والاعتباريّات رفعها ووضعها بيد الشارع.

وإن اُريد بذلك كونها معرّفات لموضوعات التكليف في الواقع، ولا مانع من تعدّد المعرّف لموضوع واحد واجتماعه عليه، ففيه: أنّ ذلك وإن كان أمراً ممكناً في نفسه، إلّا أنّ ظواهر الأدلّة لا تساعد عليه؛ لأنّ الظاهر منها أنّ العناوين المأخوذة في ألسنتها هي - بنفسها - موضوعات للأحكام، لا أنّها معرّفات لها.

وإن اُريد بذلك كونها معرّفات لملاكاتها الواقعيّة، ففيه: أنّها لا تكون كاشفةً عنها بوجه، بل الكاشف عنها - في الجملة - هو نفس الحكم الشرعيّ، وأمّا ما جُعل سبباً له، فلا يكون كاشفاً عنها على الإطلاق.

نعم، كما ذكره المحقّق النائيني): «إذا كان المراد من المؤثّر عدم

ص: 331


1- انظر: محاضرات في اُصول الفقه 4: 257 (المجلّد 46 من موسوعة الإمام الخوئي)).

تخلّف الأثر عنه فيستقيم؛ لأنّ الحكم لا يتخلّف عن موضوعه، إلّا أنّ إطلاق المؤثّر على هذا الوجه ممّا لا يخلو عن مسامحة، وإن كان المراد من الأسباب:المصالح والمفاسد، فهي مؤثّرة باعتبارٍ (من حيث تبعيّة الأحكام لها) ومعرّفة باعتبارٍ، (من حيث إنّها لا تقتضي الاطّراد والانعكاس) كما هو شأن الحكمة إن كان المراد من المعرّف هذا المعنى، أي: عدم الاطّراد والانعكاس»(1).

ولكن لا يمكن أن تكون الأسباب هي ملاكات الحكم والكاشفة عنه؛ لأنّ الأسباب الواقعة في الجمل الشرطيّة عقيب أدوات الشرط لا تخلو دائماً من حالتين: فإمّا أن تكون هي بنفسها موضوعات للأحكام، وإمّا أن تكون دخيلة في موضوعاتها، كأجزائها وشرائطها، فهي متأخّرة عن الملاكات، فلا يعقل أن تكون هي الملاكات لها، وإلّا، لزم أن يكون ما هو متأخّر رتبة متقدّماً.

ثمّ إنّه لا وجه لما اختاره ابن ادريس الحلّيّ) من التفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الأجناس وعدمه، والقول بتداخل الأسباب إذا كانت الأجناس متّحدة، كتكرّر البول، وعدم تداخلها إذا كانت الأجناس مختلفة، قال) في السرائر في مسألة وطء الحائض ما لفظه:

«فإذا كرّر الوطء فالأظهر أنّ عليه تكرار الكفّارة؛ لأنّ عموم الأخبار

ص: 332


1- فوائد الاُصول 2: 492.

يقتضي أنّ عليه بكلّ دفعة كفّارة، والأقوى عندي والأصحّ: أن لا تكرار في الكفّارة؛ لأنّ الأصل براءة الذمّة، وشغلها بواجب أو ندب يحتاج إلى دلالة شرعيّة، فأمّا العموم، فلا يصحّ التعلّق به في مثل هذهالمواضع؛ لأنّ هذه أسماء الأجناس والمصادر، ألا ترى أنّ من أكل في نهار شهر رمضان متعمّداً، وكرّر الأكل، لا يجب عليه تكرار الكفّارة بلا خلاف»(1).

وقال في موضع آخر من السرائر، في بحث موجبات السهو: «فإن سها المصلّي صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرّاتٍ كثيرة في صلاة واحدة، أيجب عليه بكلّ مرّة سجدتا السهو، أو سجدتا السهو عن الجميع؟ قلنا: إن كانت المرّات من جنس واحد، فمرّة واحدة يجب سجدتا السهو، مثلاً: تكلّم ساهياً في الركعة الأُولى، وكذلك في باقي الركعات، فإنّه لا يجب عليه تكرار السجدات، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب؛ لأنّه لا دليل عليه...».

إلى أن قال: «فأمّا إذا اختلف الجنس، فالأولى عندي، بل الواجب، الإتيان عن كلّ جنس بسجدتي السهو؛ لأنّه لا دليل على تداخل الأجناس، بل الواجب إعطاء كلّ جنس ما تناوله اللّفظ..»، إلى آخر كلامه)(2).

وما يستفاد من ظاهر كلامه من الفرق بين اتّحاد الجنس واختلافه يمكن

ص: 333


1- السرائر 1: 144- 145.
2- السرائر 1: 258.

أن يوجّه بأنّه حينما يقول بأنّها أسماء الأجناس والمصادر، فمراده: أنّ اسم الجنس موضوع للطبيعة المهملة، وهي لا تدلّ على العموم، فإنّ لفظ (نوم) - مثلاً - الذي هو مادّة (نمت) في قوله: (إذا نمت فتوضّأ)، حينما يعلّقعليه الحكم، وهو وجوب التوضّأ، فهو لا يدلّ إلّا على نفس الطبيعة، فحينما يعلّق عليه الحكم لا يُفهم منه إلّا كون صرف الوجود من الطبيعة موضوعاً لذلك الحكم، لا كلّ وجود من وجوداتها، فموضوعيّة كلّ واحدٍ من للحكم بحاجة إلى دليل. وهذا بخلاف ما إذا كانت الشروط مختلفة من جهة الجنس، فإنّ صرف الوجود من كلّ طبيعة من طبائع الشروط المتعدّدة شرط مستقلّ للحكم، له أثر مستقلّ، فلا وجه للتداخل.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا فرق في عدم التداخل بين أن تكون الأسباب من جنس واحد أو من أجناس متعدّدة، بعد أن كان كلّ شرط وسبب مؤثّراً مستقلّاً؛ فإنّ كلّ شرط يقتضي جزاءً مستقلّاً، فلا فرق بين أن يقال: (إذا بلت فتوضّأ، وإذا نمت فتوضّأ) وبين أن يقال: (إذا نمت فتوضّأ، وإذا نمت فتوضّأ)، بل كما في صورة تعدّد الجنس يكون الجزاء متعدّداً، فكذلك في صورة اتّحاد الجنس؛ فإنّ إطلاق النوم، الذي هو الشرط يقتضي كون كلّ وجود من وجوداته جزاءً مستقلّاً، كما هو ظاهر الجملة الشرطيّة في أنّه لابدّ من حدوث الوجوب المأخوذ في رتبة الجزاء عقيب كلّ شرط، فتعدّد النوم - مثلاً - يوجوب تعدّد وجوب الوضوء، لصدق قوله: (إذا نمت فتوضّأ) على كلّ فرد من أفراد النوم، لا أنّه يتداخل.

ص: 334

وإلّا، فلو كانت الجملة الشرطيّة ظاهرة في مجرّد الثبوت عند ثبوت الشرط، فلابدّ من الالتزام بالتداخل حتى في صورة الاختلاف في الجنس - أيضاً -، لما عرفت مراراً من رجوع المتعدّد إلى الواحد إذا كان الأثر واحداً نظراً إلىامتناع صدور الواحد عن المتعدّد بما هو متعدّد، فيكون تأثير النوم والبول في الوضوء بجامع بينهما.

فمع وحدة الجامع، وعدم كون إطلاق الشرط لحدوث الجزاء عند كلّ مرّة، بل ظاهراً في الثبوت عند الثبوت، فحينئذٍ: لا مناص من الالتزام بالتداخل في المقامين، وهما: تعدّد الشروط جنساً واتّحادهما كذلك.

ولكنّ هذه القاعدة - كما تقدّم مراراً - إنّما تجري في الواحد البسيط من جميع الجهات، وهي لا تجري فيه إلّا إذا كان موجباً، بل جريانها هناك - أيضاً - غير صحيح كما ذكر في محلّه.

فالحقّ: أنّ عدم التعدّد في الوضوء إنّما هو من جهة أنّ نفس النقض لا يقبل التعدّد، فإذا حصل أوّل سبب - كالنوم -، انتقضت الطهارة، فيكون السبب الآخر بلا أثر؛ لامتناع نقض المنقوض.

وبعد أن ناقشنا سابقاً ما استدلّ به فخر المحقّقين(رحمة الله) من التفصيل بين أن تكون الأسباب مؤثّرات فلا تداخل، أو معرّفات فلابدّ من التداخل، فنقول:

يمكن القول بعدم التداخل في الأسباب والمسبّبات بمقدّمات ثلاث:

الأُولى: أنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة هو كون الشرط مؤثّراً، وأنّ كلّ

ص: 335

شرط يؤثّر أثراً غير ما يقتضيه الشرط الآخر من الأثر.وأمّا ما ربّما يقال في إثبات التداخل: من أنّ صرف الشيء لا يتكرّر، فهو لا ينافي ما تقدّم؛ لأنّ كون صرف الشيء لا يتكرّر لا يكون مستنداً إلى ظهور لفظيّ حتى يعارض ظهور الشرطيّة، بل ظهوره في عدم التكرار بالإطلاق وعدم موجب التعدّد، ويكفي ظهور الشرطيّتين في بيان موجب التعدّد.

والثانية: أنّ ظاهر كلّ شرط أن أثره يكون غير أثر الشرط الأوّل، فهنا بعد أن ظهر من الجملة ما يوجب التعدّد، وكان التعدّد ممكناً، بأن يكون السبب قابلاً للتعدّد، فلا وجه للقول بالتداخل أصلاً؛ لأنّ التداخل بحاجة إلى دليل، كما ورد في الغسل من كفاية غسل واحد، في قوله%: «فإذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد»(1).

والثالثة: أن يقع المسبّب مصداقاً لعنوانين، كما إذا ورد: (أكرم هاشميّاً وأكرم عالماً)، فهنا لو أكرم عالماً هاشميّاً، لم يكن هناك من بأس؛ لانطباق المجمع على كلا الظهورين، وتحقّق الامتثال بإتيان واحدٍ منهما، بعدما كانت النسبة بين العالم والهاشميّ هي العموم من وجه. نعم، لو ورد دليل على التداخل، كما في باب الوضوء - كما مرّ - أخذنا به، ولكنّه يكون على خلاف الأصل والقاعدة.

ص: 336


1- انظر: وسائل الشيعة 2: 261 - 261، باب 43 من أبواب الجنابة، ح1.

والذي ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) في المقام:

أنّ سبب الوضوء هو الحدث، وهو غير قابل للتعدّد، فمحقّقاته كثيرة كالبول والنوم والتغوّط، ولكنّ ذلك لايستلزمتعدّد الحدث، إذ لا معنى للحدث بعد الحدث، فيكون المؤثّر في تحقّق الحدث من أسبابه هو أوّل وجود منها، فالتداخل في باب الوضوء منشؤه وحدة الشرط، لعدم قابليّته للتعدّد، وإن تعدّدت أسبابه.

قال): «... وكما في الحدث الموجب لوجوب الوضوء، فإنّ محقّقاته، وإن كانت كثيرة، إلّا أنّه لا معنى لحدوث الحدث بعد تحقّقه، فيكون أوّل الوجود منها هو الموجب للحدث، دون غيره، ففي أمثال ذلك، لا مناص عن القول بالتداخل»(1).

وجدير بالذكر: أنّ الحكم بالتداخل هنا إنّما يكون لاُمور:

منها: أنّ وجود هذه الأسباب لعلّه هو الموجب لحصول القذارة المعنويّة والحالة الحدثيّة، وهي غير قابلة للتعدّد، فإذا وردت الأسباب في زمان واحد وعرض واحد، كان العنوان مستنداً إلى الجميع، وإن تقدّم بعضها، يكون العنوان مستنداً إليه دون غيره؛ لعدم قابليّتها للتعدّد كما عرفنا.

ومنها: كون السبب هو صرف الوجود من النواقض، لا مطلق وجوده، فأوّل سبب حصل في الخارج، فهو الناقض والمؤثّر في الوضوء، دون ما يتحقّق ثانياً وثالثاً من بقيّة الأسباب.

ص: 337


1- أجود التقريرات 1: 432.

ومنها: أن نقول بأنّ الطهارة - بالمعنى الاسم المصدريّ -، والتي هي المسبّب، تحصل بأوّل وضوء، وهي غير قابلةللتعدّد ولا التأكّد، ولا الانتساب إلى سبب من حيث وإلى سبب آخر من حيث آخر، فيخرج المورد عن محلّ النزاع.

ولكن لا يخفى: أنّ التأكّد يمكن في باب الوضوء؛ لأنّه ثبت أنّ الوضوء نور، وأنّ الوضوء على الوضوء نور على نور(1).

وأمّا باب بعض الكفّارات إنّما لم يحكم فيها بالتعدّد؛ لأنّه ورد الدليل بمثل: (من أفطر في نهار شهر رمضان فعليه الكفّارة)، والمفطر صادق بإتيان أوّل وجود من المفطرات، وهذا العنوان - أعني: عنوان المفطريّة - غير قابل للتعدّد.

وأمّا في باب الغسل، فإن قلنا بأنّ ما يحصل من الحدث من الحيض هو عين ما يحصل من الجنابة، فنقول - حينئذٍ - بالتداخل؛ لعدم تعدّد السبب حتى يتعدّد المسبّب.

وإن قلنا بالمباينة، وأنّ ما يحصل من الأوّل غير ما يحصل من الثاني، فلابدّ من القول بعدم التداخل، وعدم كفاية غسل واحد عن الأسباب المتعدّدة.

نعم، لو قام الدليل على الإجزاء، نعمل به.

وبهذا تمّ الكلام - بحمد اﷲ تعالى - في مفهوم الشرط.

ص: 338


1- انظر: وسائل الشيعة 1: 377، الباب 8 من أبواب الوضوء، ح 8.

فصل في مفهوم الوصف

اشارة

وقع الكلام بينهم في ثبوت مفهوم للوصف أو عدمه، فهل مقتضى قول الآمر: «أكرم الرجل العالم» - مثلاً - هو عدم وجوب إكرام غير العالم.

والبحث في اُمور:

الأمر الأوّل:

أنّ محلّ البحث هل هو مطلق الوصف كما ادّعاه صاحب الكفاية بقوله: «وما بحكمه مطلقاً»(1)، أي: سواء كان معتمداً على الموصوف أم لم يكن، أم أنّه خصوص الوصف المعتمد على الموصوف دون غيره؟

والحقّ - تبعاً للمحقّق النائيني) -: هو الثاني، قال(قدس سره):

«وقبل الخوض في تحقيق الحال فيه، ينبغي تقديم مقدّمتين:

ص: 339


1- كفاية الاُصول: ص 206.

الأُولى: أنّ محلّ الكلام في المقام هو الوصف المعتمد على موصوفه، وأمّا غير المعتمد عليه، فلا إشكال في عدم دلالته على المفهوم، فهو - حينئذٍ - خارج عن محلّ النزاع.... إلى أن يقول:

الثانية: أنّ الوصف إمّا أن يكون مساوياً لموصوفه أو أخصّ منه مطلقاً أو أعمّ منه كذلك أو أعمّ منه من وجه. لاإشكال في دخول القسم الثاني في محلّ الكلام، وأمّا الأوّل والثالث، فبما أنّ الوصف فيهما لا يوجب تضييقاً في ناحية الموصوف، لا يكون له دلالة على المفهوم أصلاً»(1).

وبالجملة: فإنّ الوصف غير المعتمد على موصوفه ليس إلّا كمفهوم اللقب، فكما أنّ اللّقب لا دلالة له على المفهوم، كذلك الوصف غير المعتمد.

فإن قلت: يمكن استفادة المفهوم حتى في الوصف غير المعتمد على الموصوف؛ لأنّ الذات دخيلة في مدلول الوصف، ﻛ (السائمة) في مثل قضيّة: «في الغنم السائمة زكاة»(2)، بناءً على دلالة المشتقّ على الذات، إمّا بالدلالة التضمّنيّة أو الالتزاميّة، فيكون هناك فرق بين اللّقب والوصف.

قلنا: الانحلال إنّما يكون عقليّاً في صقع النفس، وأمّا في الخارج، فلا يفهم من (السائمة) إلّا شيء واحد. ففي مقام الدلالة والإثبات،

ص: 340


1- أجود التقريرات 1: 433 - 434.
2- انظر: عوالي اللآلي 1: 399، ولكن بتفاوت يسير. وبنفس مضمونها ما أورده الحرّ العامليّ) في: وسائل الشيعة 9: 118، الباب 7 من أبواب زكاة الأنعام.

لا يُفهم منها إلّا مجرّد الصفة، لا الصفة والذات. فالوصف غير المعتمد على الذات لا دلالة له على المفهوم، بل على مجرّد الثبوت عند الثبوت.وأمّا ما قيل - وأشار إليه صاحب الكفاية)(1) - من أنّ الأصل في القيود أن تكون احترازيّة، ومقتضاه: ثبوت المفهوم، وإلّا، لم يكن القيد احترازيّاً.

ففيه: ما أشار إليه) في الكفاية، بقوله: «ولا ينافي ذلك ما قيل من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً؛ لأنّ الاحترازيّة لا توجب إلّا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضيّة، مثل ما إذا كان بهذا الضيق بلفظ واحد، فلا فرق أن يُقال: (جئني بإنسان) أو (بحيوان ناطق)»(2).

وبعبارة أُخرى: فهي احتراز عن دخالة غيره في شخص الحكم لا سنخه، وذلك لا يلازم المفهوم، وجملة القول: أنّها لم يثبت من كونها احترازيّة إلّا ذلك.

وقد يقال: بأنّه لو لم نقل بأنّ الوصف مطلقاً له مفهوم، لكان لغواً، إذ لا أثر لذكر الوصف إلّا إفادة المفهوم، وهذا المعنى أشار إليه في الكفاية بقوله: «وعدم لزوم اللّغويّة بدونه»(3).

ولكن فيه: ما أجاب به الكفاية - أيضاً -، بقوله: «لعدم انحصار الفائدة

ص: 341


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 206.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.

به»(1)، وحاصله: أنّه يكفي لرفعاللّغويّة أن يكون له أثر ما، كأن يكون ذكره لغرض الاهتمام به، أو لوقوعه مورداً للسؤال، أو نحو ذلك.

وقد يُستدلّ لثبوت المفهوم - أيضاً - بما ذكره المحقّق الأصفهاني) في حاشيته على الكفاية، حيث قال - ما لفظه -:

«يمكن أن يُقال بعدم إحراز أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً أنّ معنى قيديّة شيء لموضوع الحكم حقيقة أنّ ذات الموضوع غير قابلة لتعلّق الحكم بها إلّا بعد اتّصافها بهذا الوصف، فالوصف متمّم قابليّة القابل، وهو معنى الشرط حقيقةً، وحيث إنّ الظاهر دخله بعنوانه الخاصّ، وأنّ المنوط بهذا الوصف نفس الوجوب بما هو وجوب، لا بما هو شخص من الوجوب، فلا محالة: ينتفي سنخ الوجوب بانتفاء ما هو دخيل في موضوعيّة الموضوع لسنخ الحكم»(2).

وأمّا ما قد يقال - وأشار إليه في الكفاية أيضاً(3) - في إثبات الدلالة على المفهوم، من أنّه لو لم يكن للجملة الوصفيّة المفهوم، لما كان يصحّ حمل المطلق على المقيّد، ولا انحصار الحكم به، وهذا يدلّ على أنّ الجملة الوصفيّة لها مفهوم.

ففيه: أنّه لا يمكن أن نقيس المقام على حمل المطلق على المقيّد، فإنّه

ص: 342


1- المصدر نفسه.
2- نهاية الدراية 1: 625.
3- كفاية الاُصول: ص 206.

في باب الحمل، بعد أن عرفنا من الخارجوحدة المطلوب، وأنّ العرف حينما ينظر إليهما يرى أنّ القيد قرينة على التصرّف في المطلق وحمله عليه، فلا يبقى ربط أصلاً بين الحمل في باب المطلق والمقيّد وبين دلالة القيد في الجملة الوصفيّة على المفهوم، بل غاية ما يستفاد من القيد: أنّ الحكم وارد على موضوع خاصّ.

وقد يستدلّ على ثبوت المفهوم - أيضاً - بأنّ وجود القيد والوصف في الكلام مشعر بالعلّيّة.

ولكن فيه: أنّه مجرّد إشعار، وهو غير كافٍ لاستفادة المفهوم منه؛ لأنّ دلالة الجملة على المفهوم لابدّ أن تكون من قبيل الدلالات العرفيّة، وإثبات ظهورها في الدلالة على العلّيّة مشكل، فضلاً عن إثبات ظهورها في العلّيّة الانحصاريّة.

ومن الواضح: أنّه لا يكفي في إثبات المفهوم مجرّد العلّيّة، بل لابدّ أن يكون ما يفهمه العرف من هذه الجملة هو العلّيّة المنحصرة، وبما أنّ الوصف في القضيّة يكون راجعاً إلى الموضوع دون الحكم، فلا يمكن القول بأنّ الحكم يدور مداره وجوداً وعدماً. فلا دلالة للقضيّة على المفهوم، وإنّما تكون من باب ضيق الموضوع.

الأمر الثاني:

أنّه لابدّ أن يكون سنخ الحكم مقيّداً بقيد حتى يُعرف من ذلك القيد العلّيّة المنحصرة، وحتى ينتفي - بذلك - سنخ الحكم بانتفائه، كما أنّه

ص: 343

لابدّ أن يكون الوصف قيداً راجعاً إلى الحكم دون الموضوع أو المتعلّق، حتى يكون مشعراً بالعلّيّةالمنحصرة له، وحتى ينتفي الحكم بانتفاء ذلك الوصف، وأمّا لو كان الوصف قيداً راجعاً للموضوع أو للمتعلّق، فمن الواضح - حينئذٍ -: أنّه لا يدلّ على المفهوم، ضرورة أنّ ثبوت الحكم لشيء خاصّ لا يدلّ بوجه عن نفيه عن غيره، بل غاية ما تدلّ الجملة عليه - عندئذٍ - هو ثبوت الحكم له، وأمّا نفيه عن غيره، فلا.

الأمر الثالث:

على القول بدلالة الوصف على المفهوم، ففي مثل «في الغنم السائمة زكاة»، فيقيّد الغنم بخصوص السائمة، ومقتضاه: أنّه ليس للغنم المعلوفة زكاة، فيدلّ على انتفاء وجوب الزكاة عن الموضوع الموجود في القضيّة عند انتفاء الوصف، وأمّا انتفائه عن موضوع الآخر، فلا دلالة للجملة عليه، فلا يصحّ القول بدلالته على نفي وجوب الزكاة عن مثل الإبل المعلوفة، كما نُسب ذلك إلى بعض الشافعيّة(1)؛ لأنّ معنى دلالة الوصف على المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع الموجود في القضيّة عند انتفاء الوصف، وأمّا عن الموضوع غير المذكور في القضيّة فلا يُفهم

ص: 344


1- استظهره منهم في مطارح الأنظار 2: 80، قال): «وعلى الثالث: فهل يجري فيه النزاع بالنسبة إلى الافتراق من جانب الوصف، كما يظهر من بعض الشافعيّة، حيث قال: إنّ قولنا (في الغنم السائمة زكاة) يدلّ على عدم الزكاة في معلوفة الإبل..».

من القضيّة أنّها تكون متعرّضة لحكمه، لا نفياً ولا إثباتاً، فما نسب إلى الشافعيّة غير تامّ ولا يرجع إلى معنىً محصّل.فإذا عرفت هذه الاُمور، فاعلم أنّه قد وقع الخلاف بينهم في أنّ الوصف هل له مفهوم أم لا؟

والتحقيق أن يقال: بأنّ استفادة المفهوم من القضيّة الوصفيّة مشروطة باُمور:

منها: أن يكون المُنشأ في جانب المحمول هو سنخ الحكم لا شخصه.

ومنها: أن يكون الوصف قيداً للحكم لا الموضوع.

ومنها: أن يكون دخيلاً في الموضوع بخصوصه.

ومنها: أن يكون الموضوع باقياً في الحالين، وهما: المنطوق والمفهوم.

وفيما نحن فيه، فبما أنّ الظاهر من القضايا المشتملة على الوصف أنّ القيد فيها يكون راجعاً إلى الموضوع، لا إلى الحكم، بمعنى: أنّ تقييد الموضوع بوصفه هو في رتبة سابقة على الإسناد، فيكون الإسناد وارداً - في حقيقة الأمر - على الموضوع المقيّد.

ونتيجة ذلك ليست إلّا تضييق دائرة الموضوع، وحينئذٍ: فلا نفهم من ظاهر القضيّة الوصفيّة إلّا انتفاء شخص الحكم لدى انتفاء الوصف، دون انتفاء سنخه. فلا يكون انتفاء القيد صالحاً في القضايا الوصفيّة للدلالة على المفهوم.

ص: 345

ومن هنا ما يُقال: من أنّ «تعليق الحكم على الوصف مشعر بعلّيّة مبدأ الاشتقاق»، حيث جعلوا المشعر بالعلّيّة هو تعليق الحكم على الوصف، فالوصف قيد فلنفس الحكم، وأمّالو لم يكن راجعاً إليه، بل كان راجعاً إلى الموضوع أو إلى المحمول، فلا.

وأمّا اُستاذنا الأعظم) فإنّه فرّق بين الوصف المعتمد على موصوفه والوصف غير المعتمد عليه، فقال بجريان النزاع المذكور في خصوص الوصف المعتمد على الموصوف دون الوصف غير المعتمد، فإنّه لا يجري فيه النزاع، فقال في المقام - ما لفظه -:

«محلّ الكلام بين الأصحاب في دلالة الوصف على المفهوم وعدم دلالته عليه إنّما هو في الوصف المعتمد على موصوفه في القضيّة، بأن يكون مذكوراً فيها، كقولنا: أكرم إنساناً عالماً، أو رجلاً عادلاً، أو ما شاكل ذلك. وأمّا الوصف غير المعتمد على موصوفه، كقولنا: أكرم عالماً، أو عادلاً، أو نحو ذلك، فهو خارج عن محلّ الكلام، ولا شبهة في عدم دلالته على المفهوم، ضرورة أنّه لو كان داخلاً في محلّ الكلام لدخل اللّقب فيه - أيضاً -، لوضوح أنّه لا فرق بين اللّقب وغير المعتمد من الوصف من هذه الناحية، فكما أنّ الأوّل لا يدلّ على المفهوم من دون خلاف، فكذلك الثاني...»، انتهى موضع الحاجة(1).

ص: 346


1- راجع: محاضرات في اُصول الفقه 4: 272، (المجلّد 46) من موسوعة الإمام الخوئي).

وملخّص ما ذهب إليه(قدس سره)من التحقيق في ختام مبحث مفهوم الوصف، أنّه:تارةً: يكون المراد من مثل (أكرم رجلاً عالماً)، هو انتفاء الحكم عن غير العادل والفاسق، ولو بسبب آخر.

وأُخرى: نفهم من التقييد أنّ المتكلّم لم يرد الحكم على الموضوع، وهو الرجل، على الإطلاق، بل على خصوص الرجل العادل.

فإن كان مرجع النزاع في أنّ الجملة الوصفيّة لها مفهوم أم لا إلى المعنى الأوّل، فلا إشكال في عدم دلالتها على المفهوم بهذا المعنى؛ فإنّ قولك - مثلاً -: (أكرم رجلاً عالماً)، لا يدلّ على عدم وجوب إكرام العادل والهاشميّ والفاسق بحصّةٍ أُخرى من الإكرام؛ لوضوح أنّ إثبات شيء لشيء لا ينافي ثبوته لما عداه، ولا تنافي بين (أكرم رجلاً عالماً) وبين (أكرم رجلاً عادلاً) بحصّة أُخرى من الإكرام.

وأمّا لو كان مرجع النزاع المذكور إلى المعنى الثاني، فالظاهر ثبوت دلالة الجملة - حينئذٍ - على المفهوم بهذا المعنى؛ لأنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً، وله دخل في الموضوع أو الحكم، إلّا مع وجود قرينة على عدم دخله، فقولنا: (أكرم رجلاً عالماً) يدلّ على أنّ هذا الوجوب لم ينصبّ على طبيعيّ الرجل، ولو كان جاهلاً، بل إنّما ثبت لخصوص حصّة خاصّة منه، وهي حصّة (الرجل العالم).

ولكنّك خبير: بأنّ هذا المعنى من المفهوم يأتي بعينه في الجملة اللّقبيّة

ص: 347

أيضاً، فلابدّ وأن يكون مرادهم من عدم ثبوت المفهوم هو المعنى الأوّل، ومن هنا يشترطون في المفهوم أن يكون الوصف قيداً راجعاً إلى سنخ الحكم، لا إلىشخصه، ويشترطون فيه - أيضاً - أن يكون القيد راجعاً إلى الحكم لا الموضوع.

ونصّ ما أفاده) كالتالي:

«ولكنّ الصحيح فيها هو التفصيل، بيان ذلك: أنّ النزاع في دلالة الوصف على المفهوم، تارةً بمعنى: أنّ تقييد الموضوع أو المتعلّق به يدلّ على انتفاء الحكم عن غيره، فلو ورد في الدليل: أكرم رجلاً عالماً، يدلّ على انتفاء وجوب الإكرام عن غير مورده، يعني: عن الرجل العادل أو الفاسق أو الفقير أو ما شاكل ذلك، ولو بسببٍ آخر. وأُخرى: بمعنى: أنّ تقييده به يدلّ على عدم ثبوت الحكم له على نحو الإطلاق، أو فقل: إنّ معنى دلالته على المفهوم هو دلالته على نفي الحكم عن طبيعيّ موصوفه على نحو الإطلاق، وأنّه غير ثابت له كذلك.

فإن كان النزاع في المعنى الأوّل، فلا شبهة في عدم دلالته على المفهوم بهذا المعنى، ضرورة أنّ قولنا: أكرم رجلاً عالماً لا يدلّ على نفي وجوب الإكرام عن حصّة أُخرى منه، كالرجل العادل أو الهاشميّ أو ما شاكل ذلك، لوضوح أنّه لا تنافي بين قولنا: أكرم رجلاً عالماً، وقولنا: أكرم رجلاً عادلاً - مثلاً - بنظر العرف أصلاً، فلو دلّت الجملة الأُولى على المفهوم - أي: نفي الحكم عن حصص أُخرى منه - لكان

ص: 348

بينهما تنافٍ لا محالة، وقد تقدّم وجه عدم دلالته على المفهوم بشكل موسّع.وإن كان النزاع في المعنى الثاني، فالظاهر: أنّه يدلّ على المفهوم بهذا المعنى، ونكتة هذه الدلالة هي ظهور القيد في الاحتراز ودخله في موضوع الحكم أو متعلّقه، إلّا أن تقوم قرينة على عدم دخله فيه، ففي مثل قولنا: أكرم رجلاً عالماً، يدلّ على أنّ وجوب الإكرام لم يَثبت لطبيعيّ الرجل على الإطلاق، ولو كان جاهلاً، بل ثبت لخصوص حصّةٍ خاصّة منه، وهي: الرجل العالم، وكذا قولنا: أكرم رجلاً هاشميّاً، أو: أكرم عالماً عادلاً، وهكذا... والضابط: أنّ كلّ قيد أُتي به في الكلام فهو في نفسه ظاهر في الاحتراز ودخله في الموضوع أو المتعلّق، يعني: أنّ الحكم غير ثابت له إلّا مقيَّداً بهذا القيد، لا مطلقاً، وإلّا، لكان القيد لغواً، فالحمل على التوضيح أو غيره خلاف الظاهر، فيحتاج إلى قرينة.

إلى أن يقول: ثمّ إنّ هذه النقطة التي ذكرناها قد أُهمِلَت في كلمات الأصحاب، ولم يتعرّضوا لها في المقام، لا نفياً ولا إثباتاً، مع أنّ لها ثمرة مهمّة في الفقه...»(1).

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سره) فقد أفاد في مقام نفي مفهوم الوصف ما حاصله: أنّ القيد تارةً: يرجع إلى الحكم بالمعنى الذي تصوّره(قدس سره)، وهو

ص: 349


1- المصدر السابق 4: 278- 280.

تقييد المادّة المنتسبة، وأُخرى: يرجع إلى الموضوع، والأوّل يلازم المفهوم دون الثاني.

وبما أنّ الشرط يرجع - في نظره - إلى الحكم فقد التزم بالمفهوم. وأمّا الوصف، فظاهره أنّه راجع إلى الموضوع،فلا يلازم المفهوم، إذ ثبوت الحكم لموضوع معيّن لا ينافي ثبوته لآخر، ولا يلزم من انتفاء الوصف سوى انتفاء الموضوع، وهو لا يلازم انتفاء الحكم، لإمكان ثبوته لموضوع غيره(1).

ص: 350


1- انظر: أجود التقريرات 1: 434 - 435. وإليك نصّ كلامه): «الحقّ: هو عدم دلالة الوصف على المفهوم، وتوضيح ذلك إنّما يتمّ ببيان أمرين: الأوّل: أنّا قد ذكرنا في بحث الواجب المشروط: أنّ القيد إمّا أن يعتبر قيداً للمفهوم الأفراديّ قبل وقوع النسبة عليه، فيكون المقيّد بما هو مقيّد طرفاً للنسبة، سواء كان ذلك المفهوم الأفراديّ متعلّقاً للتكليف أم كان موضوعاً له، وإمّا أن يعتبر قيداً للجملة التركيبيّة على النحو المعقول، بأن يكون القيد قيداً للمادّة المنتسبة، فيكون التقييد وارداً على المادّة في عرض ورود النسبة عليها وفي مرتبتها، وقد ذكرنا هناك: أنّ أدوات الشرط إنّما وضعت لتقييد جملة بجملة، ولا يصحّ استعمالها في تقييد المفاهيم الإفراديّة أصلاً. الثاني: أنّ ملاك الدلالة على المفهوم، كما مرّت الإشارة إليه في الفصل السابق، هو أن يكون القيد راجعاً إلى المادّة المنتسبة، ليترتّب عليه ارتفاع الحكم عند ارتفاع قيده، والوجه في ذلك: هو أنّ التقييد إذا رجع إلى نفس الحكم على النحو المعقول، كان لازم ذلك هو ارتفاعه بارتفاعه، إذ لو كان الحكم ثابتاً عند عدم القيد أيضاً، لما كان الحكم مقيّداً به بالضرورة، ففرض تقييد الحكم بشي ء يستلزم فرض انتفائه بانتفائه، وأمّا إذا كان القيد راجعاً إلى المفهوم الأفراديّ، فغاية ما يترتّب على التقييد هو ثبوت الحكم على المقيّد، ومن الضروريّ: أنّ ثبوت شي ء لشي ء لا يستلزم نفيه عن غيره، وإلّا لكان كلّ قضيّة مشتملة على ثبوت حكم على شي ء دالّاً على المفهوم، وذلك واضح البطلان، وعلى ما ذكرناه: فدلالة الوصف على المفهوم تتوقّف على كونه قيداً لنفس الحكم، لا لموضوعه، ولا لمتعلّقه، وبما أنّ الظاهر في الأوصاف أن تكون قيوداً للمفاهيم الإفراديّة، يكون الأصل فيها عدم الدلالة على المفهوم».

ولكنّ ما ذكره(قدس سره) من الفرق لا يرجع إلى معنى محصّل؛ لأنّ قيود الموضوع - في نظره الشريف - ترجع إلى الحكم في الحقيقة، وتكون قيوداً له؛ بتقريب: أنّ الحكم بالنسبة إلى القيد، إمّا مطلق أو مهمل أو مقيّد، والأوّل ممتنع؛ لأنّه خلف، والثاني - أيضاً - ممتنع؛ لامتناع الإهمال في مقام الثبوت، فيتعيّن أن يكون مقيّداً به.

ص: 351

ص: 352

فصل في مفهوم اللّقب والعدد

هل للعدد واللّقب مفهوم أم لا ؟

ذهب صاحب الكفاية إلى أنّه «لا دلالة للّقب ولا للعدد على المفهوم وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما أصلاً»(1).

فلا دلالة لقول الآمر: (أكرم زيداً) أو (أكرم العالم) على عدم وجوب إكرام غير زيد أو غير العالم، كما لا دلالة لقوله: (أكرم عشرة رجال) أو (أطعم ستّين مسكيناً) - مثلاً - على عدم وجوب إكرام غير العشرة، أو على عدم وجوب إطعام غير الستّين، بل إنّ عدم كفاية الأقل إنّما هو لأجل عدم كونه ماُموراً به، لا من جهة ثبوت دلالة العدد على المفهوم.

كما أنّه لا مفهوم للّقب؛ لأنّ الحكم الثابت له شخصيّ وليس سنخيّاً

ص: 353


1- كفاية الاُصول: ص 212.

حتى يستفاد منه المفهوم، بل يفهم الحصر من المنطوق من باب ضيق الموضوع، وانتفائه بانتفاء اللقب عقليّ، نظير انتفاء العرض بانتفاء معروضه.

ومن هنا ظهر: بطلان ما ذهب إليه بعضهم من القول بثبوت المفهوم، قال في التقريرات: «وذهب جماعة، منهم الدقّاق والصيرفي وأصحاب أحمد إلى ثبوت المفهوم فيه».ثمّ قال: «واحتجّوا بلزوم العراء عن الفائدة لولاه، وبأنّ قول القائل: لا أنا بزانٍ ولا أُختي زانية، رمي للمخاطَب ولاُخته بالزنا، ولذلك أوجبوا عليه الحدّ».

وقد أجاب في التقريرات عن كلا هذين الدليلين، فقال:

«وفي كليهما ما لا يخفى، إذ في الأوّل: عدم انحصار الفائدة في المفهوم، وفي الثاني: أنّ دلالته تكون بقرينة المقام»(1).

وأمّا العدد: فإنّه تارةً يكون وارداً في مقام التحديد، وأُخرى لا يكون كذلك. وما كان وارداً في مقام التحديد، فإنّه تارةً: يكون ناظراً إلى طرف القلّة كالعشرة، وأُخرى يكون ناظراً إلى طرف الكثرة، كتحديد الحيض من طرف الكثرة إلى عشرة لا أزيد، فلا مانع من أن يكون أقلّ منه.

أمّا من جهة النقيصة، فلا إشكال في عدم الدلالة على المفهوم، أي:

ص: 354


1- مطارح الأنظار 2: 121 - 122.

لا إشكال في أنّ دلالة العدد على عدم جواز الاقتصار على ما دونه ليست دما هو دون ذلك العدد لم يكن هو المأمور به، وهذه الدلالة منطوقيّة لا مفهوميّة.

وكذا لو كان في مقام التحديد من جانب الزيادة، كالعشرة في الحيض، فإنّه من قبيل دلالة المنطوق، ولجهة أنّ الأكثر ليس ماُموراً به.

وأمّا إذا كان التحديد من الطرفين؛ فإنّه يوجب المفهوم، كتسبيح الزهراء، فإنّه يمكن أن يستفاد منه المفهوم.ومن هنا ظهر: بطلان ما أطلقه بعض المعاصرين من أنّه «إذا أُخذ العدد بنحو التحديد من طرف الأقلّ والأكثر، فينفي وجوب إكرام غيرهم [في مثال: أكرم عشرة رجال] بمقتضى التحديد، وهو من أقوى المفاهيم»(1).

ص: 355


1- منتقى الاُصول 3: 291.

ص: 356

فصل في مفهوم الغاية

هل للغاية مفهوم أم لا؟

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: في بيان أنّ الغاية هل هي داخلة في المغيّى أم لا؟

والأمر الثاني: في بيان مقتضى الظهور، أي: أنّ ظهور الأداة هل يقتضي دخول الغاية في المغيّى، وأنّه كابتداء الشيء وحدّه، وهل حدّ الشيء من أجزائه حتى يكون أوّل جزء من أجزائه أم لا؟وأمّا الأمثلة التي ذكروها لإثبات الدخول أو الخروج، كمثل قوله تعالى: ﴿أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾(1)، أو قوله: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَب-ُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ﴾(2)، لا يُثبت أنّ القاعدة الكلّيّة هي الدخول أو الخروج، وإنّما استفيد منها

ص: 357


1- البقرة: الآية: 187.
2- الآية نفسها.

الدخول أو الخروج من جهة القرائن الخاصّة، فدعوى ظهور الأدوات في الدخول مطلقاً، أو الخروج كذلك، أو التفصيل، هي مجرّد دعوىً بلا دليل.

الأمر الثالث: إذا كانت الغاية داخلة في المغيّى، فتحرير المسألة بالشكل التالي، وهو أن يُقال: هل تدلّ الغاية - لو كان لها مفهوم - على ارتفاع سنخ الحكم عمّا بعد المغيّى أم لا؟ وأمّا لو لم يكن لها مفهوم، ولم تكن داخلة في المغيّى، فتصوير النزاع كما يلي: هل تدلّ الغاية على انتفاء سنخ الحكم عن الغاية وما بعدها أم لا؟

الأمر الرابع: الأقوال والنزاع الواقع في باب الغاية هو أنّ الغاية هل هي داخلة في المغيّى مطلقاً، أم ليست داخلة فيه مطلقاً، أو التفصيل بين حتى وإلى، أو التفصيل بين كون الغاية من جنس المغيّى فتدخل، أو لا فلا.

الأمر الخامس: كما مرّ في بداية مباحث المفاهيم، فإنّ القضيّة إنّما تكون ذات مفهوم إذا كان التقييد المذكور فيها، من قيد وشرط أو وصف أو غاية، راجعاً إلى الحكم، أي: بعدتحقّق الإسناد؛ إذ - حينئذٍ - يكون قيداً لمفاد الجملة ونتيجتها بعد تحقّق الإسناد، فيكون في رتبة الإسناد، لا متقدّم عليه، وأمّا إذا كان راجعاً إلى عقد الوضع أو الحمل، فيكون مقدّماً على الإسناد، فيكون الإسناد وارداً على عقد الوضع المقيّد، أو عقد الحمل المقيّد، فيكون - حينئذٍ - من باب اللّقب، وقد عرفت أنّ اللّقب لا مفهوم له.

ص: 358

الأمر السادس: ذكر صاحب الكفاية(قدس سره) أنّ التحقيق هو التفصيل بين غاية الحكم وغاية الموضوع، قال):

«إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربيّة قيداً للحكم، كما في قوله: (كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام)، و(كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر)، كانت دالّةً على ارتفاعه عند حصولها، لانسباق ذلك منها كما لا يخفى، وكونه قضيّة تقييده بها، وإلّا لما كان ما جعل غاية له بغاية، وهو واضح إلى النهاية. وأمّا إذا كان بحسبها قيداً للموضوع، مثل: (سر من البصرة إلى الكوفة)، فحالها حال الوصف في عدم الدلالة»(1).

ولكنّ تقييد الموضوع بغاية يرجع - أيضاً - إلى الحكم، فالفرق الذي ذكره(قدس سره) غير فارق.

مضافاً إلى ما عرفته من أنّ

التمثيل بمثل الآية والروايات لا يجدي لإثبات قاعدة كلّيّة تكون جارية في مطلقالاستعمالات، وذلك لجهة أنّها واردة في في موارد خاصّة وقد قامت على بيان ما هو المراد منها القرائن الخاصّة.

وقد ذكر المحقّق الأصفهانيّ) في حاشيته على الكفاية: أنّ «مبدأ الشيء ومنتهاه، تارةً بمعنى: أوّله وآخره، وأُخرى بمعنى ما يُبتدأ من عنده وما ينتهي عنده الشيء، ودخول الأُوليين كخروج الأُخريين من الشيء

ص: 359


1- كفاية الاُصول: ص 208 - 209.

واضح، والكلام في أنّ مدخول (حتى) و (إلى) هو المنتهى بالمعنى الأوّل أو الثاني، وكون الحدّ المصطلح خارجاً عن حقيقة الشيء لا يقتضي أن يكون مدخولهما حدّاً اصطلاحيّاً»(1).

والذي يظهر من كلامه(قدس سره) أنّ حدّ الشيء في اصطلاح أهل المعقول خارج عن الشيء، والذي يبدو أنّ ذلك غير صحيح.

والحاصل: أنّه إن كان الظاهر من الجملة أنّ القيد يكون راجعاً إلى الحكم، لا إلى الموضوع ولا إلى المحمول، كما في مثل: (كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام)(2)، أو (كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر)(3)، أو قوله تعالى: ﴿أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾(4)، فكما قيل: بأنّ هذين الحكمين- مثلاً - منوطان بالعلم بالحرمة والقذارة، وكذا في مسألة الصيام حيث يُقال: إنّ جعل وجوب إتمام الصيام مغيّىً بغاية اللّيل، فيكون له دلالة على المفهوم، وفيه تأمّل.

ص: 360


1- نهاية الدراية 1: 627.
2- انظر - مثلاً -: وسائل الشيعة 17: 88، الباب 4 من أبواب ما يُكتسب به ح 1، بلفظ «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».
3- انظر - مثلاً -: وسائل الشيعة 3: 467، الباب 37 من أبواب النجاسات والأواني والجلود، ح 4، بلفظ «كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك».
4- البقرة: الآية: 187.

فصل في مفهوم الحصر

لا يخفى: أنّ الحصر تارةً يكون للحكم، وأُخرى يكون للموضوع، فإذا كان حصراً للحكم، كما في الاستثناء، حيث يتمّ حصر الحكم في المستثنى منه وإخراج المستثنى بعد الإسناد، فيكون له دلالة على المفهوم، كما في مثل: (أكرم العلماء إلّا زيداً)؛ فإنّ هذا يدلّ على أنّ زيداً لم يشمله هذا الحكم، وأنّ الحكم منتفٍ عنه، كما أنّه إذا كان الحصر قيداً للموضوع، فلا يفيد المفهوم، بل يدلّ على أنّ الموضوع يكون مقيّداً، فينتفي الحكم لا محالة؛ لأنّ انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقليّ.

فإذا عرفت هذا، فإنّ كلمة (إلّا) تفيد الحصر، أي: حصر الحكم في المستثنى منه وإخراج المستثنى عنه بعد الإسناد، ولذا يكون الاستثناء من الإثبات نفياً، ومن النفي إثباتاً، كما إذا قلت: (أكرم القوم إلّا زيداً)،

ص: 361

وليس هناك أيّ تناقض بين المستثنى والمستثنى منه، فما نسب إلى نجمالأئمّة)(1) من أنّ رفع التناقض المتوهّم في باب الاستثناء منحصر بأن يخرج المستثنى قبل الإسناد، غير تام؛ لأنّه ليس هناك تناقض أصلاً بين المستثنى والمستثنى منه حتى نقول: بأنّ رفع هذا التناقض يتوقّف على جعل الإخراج قبل الإسناد، وذلك لأنّ الكلام لا يؤخذ به، ولا يحمل على ما هو ظاهر فيه إلّا بعد تماميّته بجميع متمّماته، من لواحقه وتوابعه، بل لا يمكن القول بالتناقض، حتى لو جيء بالقرينة المنفصلة بعد تماميّة الكلام، فالعرف لا يرى بين هذه القرينة وذي القرينة أيّ تناقض.

بل هذا الإشكال، لو قلنا به، فهو غير مختصّ بباب الاستثناء، بل يأتي ويجري - أيضاً - في جميع قرائن المجازات والتخصيصات والتقييدات بالنسبة إلى ذي القرائن والعمومات والمطلقات.

ص: 362


1- انظر: شرح الرضيّ على الكافية 2: 78 - 79، ونصّ عبارته) كالتالي: «فزبدة الكلام: أنّ دخول المستثنى في جنس المستثنى منه، ثمّ إخراجه بإلّا وأخواتها، إنّما كان قبل إسناد الفعل أو شبهه إليه، فلا يلزم التناقض في نحو: جاءني القوم إلّا زيداً؛ لأنّه بمنزلة قولك: القوم المُخرَج منهم زيد جاؤوني، ولا في نحو: له عليّ عشرة إلّا درهماً؛ لأنّه بمنزلة قولك: العشرة المخرج منها واحد له عليَّ، وذلك لأنّ المنسوب إليه الفعل، وإن تأخّر عنه لفظاً، لكنّه لابدّ له من التقدّم وجوداً على النسبة التي يدلّ عليها الفعل، إذ المنسوب إليه والمنسوب سابقان على النسبة بينهما ضرورةً، ففي الاستثناء، لمّا كان المنسوب إليه هو المستثنى منه، فلابدّ - إذاً - من حصول الدخول والإخراج قبل النسبة، فلا تناقض».

وبعبارة أُخرى: فالنزاع إنّما يكون في إرجاع معنى (جاء القوم إلّا زيداً) إلى جعل (إلّا زيد) قيداً من قيود (القوم)، ليكون حاصل المعنى: أنّ القوم الموصوفين بأنّ غير زيد منهم قد جاؤوا، وبهذا الإرجاع، يرجع مفهوم الاستثناء إلى مفهوم الوصف، ولا نقول بالمفهوم فيها؛ لأنّه يرجع إلىإثبات الحكم لموضوع خاصّ، وهذا من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، كما أنّ العرض ينتفي بانتفاء معروضه.

ويمكن أن يكون قيداً من قيود الحكم، ويكون المعنى: أنّ الإكرام منحصر بالقوم دون زيد، فيدلّ على أنّ زيداً لم يشمله الحكم المذكور، فهذا يدلّ على المفهوم.

فالحقّ - إذاً -: أنّ الجملة الاستثنائيّة تفيد المفهوم؛ لأنّ إثبات الحكم للقوم - في المثال المتقدّم - وإخراج زيد من الحكم الذي هو ثابت لقومه، هو عين المفهوم، وهي استفادة تثبت بالتبادر.

فما عن أبي حنيفة(1) من أنّ الاستثناء لا يدلّ إلّا على أنّ المستثنى لا يكون مشمولاً للحكم المنشأ في القضيّة، وأمّا ثبوت نقيضه له في الواقع، حتى نقول بالمفهوم، فلا.

ففي غير محلّه.

وكذا لا محلّ لما حكي عنه - أيضاً -: من أنّ الاستثناء لو كان دالّاً

ص: 363


1- نقله عنه في الكفاية: ص 209، وانظر: شرح مختصر الاُصول للعضديّ: ص 264 - 265.

على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، وأنّه منتفٍ عن المستثنى، فإنّه يدلّ على أنّ الفاقد للطهور ليس بصلاةٍ مطلقاً، يعني: وإن كان واجداً لما عدا الطهور من الأجزاء والشرائط، والواجد له صلاة مطلقاً أيضاً، وإن كان فاقداً لما عداه من الأجزاء والشرائط.وهو باطل قطعاً، ضرورة انتفاء الصلاة بفقدان ركن من أركانها، ولو كان الطهور موجوداً، فيكشف هذا عن عدم دلالة الاستثناء على انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى.

فخلاصة الكلام: لو كان ﻟ (إلّا) مفهوم فهو ما يدلّ على أنّ الصلاة - مثلاً - توجد مع وجود الطهارة، سواء وجد سائر ما يعتبر فيها أم لم يوجد، مع أنّ هذا قطعاً ليس بصحيح.

ولكنّ الحقّ: أنّ المراد من هذه العبارة وأمثالها هو أنّ الصلاة الصحيحة لا يمكن أن توجد وتتحقّق إلّا مع هذا الشرط أو الجزء، ومفهوم هذا الكلام هو أنّه مع وجود هذا المستثنى يمكن أن تقع وتوجد ولو بضمّ سائر الشرائط والأجزاء، بل كلّ ما يعتبر فيها، وليس المفهوم: أنّها توجد مع هذا المستثنى مطلقاً، سواء انضمّ إليها سائر ما اعتبر فيها أو لم ينضمّ حتى يرد ذلك الإشكال.

وأمّا الإشكال: بأنّ الكلمة الطيّبة التوحيديّة، أعني: (لا إله إلّا اﷲ)، لا تدلّ على التوحيد سواء كان الخبر المقدّر لكلمة (لا) هو لفظ (ممكن) أو (موجود)؛ إذ:

ص: 364

على الأوّل: لا تدلّ كلمة الإخلاص إلّا على إمكان المستثنى، وهو اﷲ تعالى، وذلك لأنّ المستثنى منه على هذا التقدير هو نفي الإمكان، فالمستثنى هو ثبوت الإمكان، ومن المعلوم: أنّه لا يستلزم الوجود والفعليّة؛ لأنّ الإمكان أعمّ من الفعليّة.

وعلى الثاني: وإن كانت كلمة الإخلاص لا تدلّ إلّا على وجوده تعالى شأنه؛ لأنّ المستثنى منه نفي وجود طبيعةالإله، والمستثنى إثبات وجود فردٍ واحدٍ منها، وهو اﷲ تعالى، إلّا أنّها لا تدلّ على نفي إمكان إلهٍ آخر، فإنّ نفي الأخصّ لا يستلزم نفي الأعمّ، ومن المعلوم: أنّ المقصود من كلمة الإخلاص إنّما هو نفي إمكان إلهٍ آخر، لا نفي وجوده فقط.

فواضح الدفع: إذ نجيب عنه:

بأنّ المراد من الإله في المستثنى منه هو واجب الوجود، يعني: أنّه لا واجب وجود موجود إلّا اﷲ تعالى، ومن المعلوم: أنّ نفي طبيعة واجب الوجود وإثبات فرد منها، وهو اﷲ جلّ وعلا، يدلّ على عدم إمكان واجب سواه، إذ لو كان ممكناً لوجد قطعاً، ضرورة أنّ المراد بواجب الوجود ما كان واجباً بذاته، من دون أن يكون لوجوده حالة منتظرة، ففرض إمكانه مساوق لوجوده، لكون وجوده واجباً حسب الفرض، والمفروض أنّ وجوده منتفٍ إلّا في فرد واحد.

ولكن قد يرد عليه الإشكال بأن يقال: إنّ (لا) لنفي الحقيقة، كما في

ص: 365

قولك: (لا فتى إلّا عليّ) و(لا سخاء إلّا في العرب)، فكما تدلّ الجملتان على أنّ الفتوّة تكون منحصرة في علي%، والسخاوة منحصرة في العرب، فهكذا تدلّ كلمة الإخلاص على أنّ حقيقة المعبوديّة منحصرة بذاته جلّ وعلا. ولهذه الكلمة دلالات ثلاث:

الأُولى: المطابقيّة، أي أنّه ليس هناك معبود بحقّ لائق للعبادة غير اﷲ تعالى.والثانية: الالتزاميّة، أي: بما أنّ المعبود بالحقّ منحصر به تعالى، فيكون واجب الوجود منحصراً به.

والثالثة: الدلالة الاقتضائيّة، وهي الدلالة العقليّة التي تثبت وحدانيّة اﷲ، وتفصيلها في علم الكلام.

فكلمة (اﷲ) في كلمة (لا إله إلّا اﷲ) هي اسم لذات واجب الوجود الجامع لجميع صفات الكمال والمنزّه عن كلّ صفة توجب النقص، فمقتضى هذا الكلام: أنّه لا يفعل شيئاً إلّا في الموارد التي هي موافقة للحكمة والمصلحة، وهذا هو معنى العدل، بعد امتناع أن يصدر منه الأفعال القبيحة، من الظلم واللّغو وغيرها، ومن لوازم عدله: إرسال الرسل وإنزال الكتب وجعل الأحكام ونصب الإمام، أي: الحافظ المبين في جميع الأزمنة، وأنّه عيّن محلّاً للجزاء، كما في المطيع والعاصي والكافر.

وممّا قيل بدلالته على الحصر: كلمة (إنّما)، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا

ص: 366

الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء﴾(1)، وقوله: ﴿يَا أَي-ُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾(2)، فالآية الأُولى تدلّ على أنّ الصدقات مختصّة بالفقراء، وتنفي استحقاق الصدقات عن غير الفقراء، والآية الثانية تدلّ على أنّ الذي هو من عمل الشيطان ويكون رجساً إنّما هي الاُمور المصرّح بها في الآية، دون ما سواها.وقد استدلّوا على أنّ المستفاد من (إنّما) هو الحصر باُمور:

الأوّل: تصريح أهل اللّغة به، وأنّ النحاة أرسلوه إرسال المسلّمات.

ولكنّ شيئاً من ذلك لا يفيد القطع، خصوصاً مع ذكر التعليلات العليلة في كلامهم.

والثاني: التبادر، أي تبادر الحصر من كلمة (إنّما)، فقد فرّقوا بين أن تكون الكلمة مؤلّفة من (إنّ) الإثباتيّة و(ما) النافية، وبين أن تكون كلمة مركّبة بسيطة.

ولكن قد يستشكل على وجود المفهوم بعدم حصول الجزم بالتبادر، بل وإمكان منعه، بتقريب: أنّ موارد الاستعمالات كانت مختلفة في العرف السابق، فقد استعملوها في الحصر تارةً، وفي غيره أُخرى، ولا عبرة بما هو في عرفنا في استكشاف أنّه هل يفيد الحصر أم لا؟

ص: 367


1- التوبة: الآية 60.
2- المائدة: الآية 90.

وأيضاً: فحينما نراجع مواقع استعمال هذه الكلمة في كلمات الفصحاء، لم نجد موضعاً غير قابل للمناقشة في استفادة الحصر من هذه الكلمة، لأجل أنّ الاستفادة كانت بسبب القرائن،إمّا من جهة قيام القرينة المقاميّة التي تدلّ على الحصر، أو من باب تقديم ما هو حقّه التأخير، بحيث لو حذف لفظة (إنّما) لدلّت القرائن على الحصر - أيضاً -.

قال في التقريرات - ما نصّه -:

«والإنصاف: أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك؛ فإنّ موارد استعمال هذه اللّفظة مختلفة، ولا يُعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتى يُستكشف منها ما هو المتبادر منها، بخلاف ما هوبأيدينا من الألفاظ المترادفة قطعاً لبعض الكلمات العربيّة، كما في أداة الشرط ونحوها.

وأمّا النقل المذكور، فاعتباره في المقام موقوف على اعتبار قول اللّغويّ في تشخيص الأوضاع على تقدير أن لا يكون ذلك منهم اجتهاداً، ولم يثبت ذلك على تقدير اعتبار مطلق الظنّ، كما قُرّر في محلّه»(1).

وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سره) من أنّه «لا شكّ في أنّ المتبادر منها [أي: من (إنّما)] هو حصر المسند في المسند إليه، سواء قلنا بأنّ الكلمة مركّبة من (إنّ) الإثباتيّة و(ما) النافية، أو لم نقل، وقلنا بأنّها كلمة

ص: 368


1- مطارح الأنظار 2: 110.

بسيطة»(1).

فمحلّ تأمّل، فإنّ ما هو مسلّم إنّما هو استفادة التأكيد منها.

وقد أورد صاحب الكفاية على كلام التقريرات بما لفظه:

«ودعوى: أنّ الإنصاف أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك، فإنّ موارد استعمال هذه اللّفظة مختلفة، ولا يُعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتى يُستكشف منها ما هو المتبادر منها، غير مسموعة؛ فإنّ السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا، فإنّ الانسباق إلى أذهان أهل العرف - أيضاً - سبيل»(2).وقد يستشكل فيما أفاده(قدس سره): أنّه إن كان المراد العرف الحاضر، فإنّ الانسباق إلى أذهانهم فرع استعمالها فيه، وإن كان المراد العرف السابق، فقد عرفت اختلاف الاستعمال عنه.

فالحقّ: عدم إمكان إثبات استفادة المفهوم من كلمة (إنّما) دائماً وبنحو الموجبة الكلّيّة.

ثمّ إنّهم قد ذكروا ها هنا اُموراً أُخرى زعموا أنّها تفيد المفهوم، مثل: (بل)، وتعريف المسند إليه، وغير ذلك، ولكنّ إفادة هذه الاُمور له ليست بالقرائن العامّة والوضعيّة، بل بالقرائن المقاميّة والحاليّة.

ص: 369


1- منتهى الاُصول 1: 441 - 442.
2- كفاية الاُصول ص 211.

ص: 370

مباحث العامّ والخاصّ

اشارة

وقبل الدخول في صميم البحث لابدّ من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في معنى العموم:

ليس العموم إلّا كون مدلول اللّفظ شاملاً لجميع ما يصلح للانطباق عليه، وأمّا الخصوص، فهو على العكس من ذلك.ولا يخفى: أنّهما من المعاني غير المحتاجة إلى تعريف؛ وذلك لكونهما من المفاهيم العامّة البيّنة بنفسها، كما هو الشأن في أغلب المفاهيم العامّة.

وعلى هذا الأساس: فجميع ما يُذكر للعموم والخصوص من التعاريف لا يكون إلّا من باب شرح الاسم؛ فإنّ مفهوم العموم أجلى وأوضح من أن يكون بحاجةٍ إلى تعريف.

ومن هنا يتّضح: أنّ الإشكال على هذه التعاريف طرداً وعكساً ليس بذلك الأمر المهمّ.

ص: 371

قال في الكفاية: «قد عُرِّف العامّ بتعاريف، وقد وقع من الأعلام فيها النقض بعدم الاطّراد تارةً والانعكاس أُخرى بما لا يليق بالمقام، فإنّها تعاريف لفظيّة تقع في جواب السؤال عنه ﺑ (ما) الشارحة، لا واقعة في جواب السؤال عنه ﺑ (ما) الحقيقيّة»(1).

ولا يخفى: أنّ مراده من التعريف اللّفظيّ ليس إلّا ما يرادف لشرح الاسم، فإنّ مقصوده(قدس سره)هو أنّ التعاريف التي ذُكِرت للعموم والخصوص هي مجرّد تعاريف لفظيّة يُراد منها توضيح المصطلح، وليست بتعاريف حقيقيّة حتى يتأتّى وقوعها في محلّ النقض والإبرام.

وقد استشكل عليه المحقّق الأصفهانيّ(قدس سره) بما حاصله: أنّ التعريف اللّفظيّ غير شرح الإسم، قال): «قد مرّ في مبحثمقدّمة الواجب تفصيل القول في عدم مساوقة التعريف اللّفظيّ لما يقع في جواب (ما) الشارحة»(2).

وقد تكرّر من صاحب الكفاية(قدس سره)، كما عن بعض أهل المعقول(3)، أنّ

ص: 372


1- كفاية الاُصول: ص 215.
2- نهاية الدراية 1: 631.
3- مثال ذلك ما ورد في شرح المنظومة للمولى السبزواريّ) في باب أنّ الوجود لا معرّف له من حدٍّ ولا رسم، تحت عنوان (الفريدة الأُولى في الوجود والعدم؛ غرر في بداهة الوجود) حيث قال ما لفظه: «وأنّه [أي: الوجود] غنيّ عن التعريف الحقيقيّ، وأنّ ما ذكروا له من المعرّفات تعريف لفظيّ»، علماً بأنّ كلامه هذا وارد في شرح قوله في نفس المنظومة: معرّف الوجود شرح الاسم *** وليس بالحدّ ولا بالرسم وقال - أيضاً - بعد عبارته المذكورة آنفاً: mمعرّف الوجود، كالثابت العين، أو الذي يمكن أن يُخْبَر عنه أو غير ذلك، شرح الاسم، أي: مطلب ما الشارحةn. وأنت ترى أنّ كلامه هذا ظاهر بل صريح في مساوقة التعريف اللّفظيّ عنده لما يكون مطلب ما الشارحة، المعبَّر عنه في اصطلاحهم ﺑ شرح الاسم. راجع: شرح المنظومة 2: 59 - 61.

التعريف اللّفظيّ مرادف ومساوق لشرح الاسم الذي هو - كما ذكر أهل المنطق - مطلب (ما) الشارحة.

الأمر الثاني: في الفرق بين العموم والإطلاق:

الشمول والسريان كما يمكن أن يكونا مستفادين من العموم، فكذلك يمكن أن يكونا مستفادين من الإطلاق أيضاً، وذلك كما في مثل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾(1)، فلا فرق بين العموم والإطلاق من ناحية أصل دلالة كلٍّ منهما على الشمول والسعة.وإنّما يكمن الفرق بينهما في ناحيةٍ أُخرى، وهي أنّ الشمول والسريان تارةً يكون ناشئاً عن الوضع، وأُخْرى يكون ناشئاً عن جريان مقدّمات الحكمة. فإن كان ناشئاً عن الوضع سمّي ﺑ (العموم)، وإن كان ناشئاً عن إجراء مقدّمات الحكمة سمّي ﺑ (الإطلاق).

وعلى هذا الأساس، فإذا تعارض العموم والإطلاق، يقدّم الأوّل لا محالة؛ لأنّ الإطلاق كما عرفنا يستند إلى مقدّمات الحكمة، ومعلوم

ص: 373


1- البقرة: الآية: 275.

أنّ من شروط جريان المقدّمات حتى يثبت الإطلاق هو عدم ما يصلح بياناً على العدم، والعامّ له صلاحيّة القرينيّة، وهذا بخلاف ظهور العامّ، فإنّه وضعيّ غير متوقّف على شيء، فلا تكون تماميّته موقوفةً على عدم ثبوت إطلاقٍ بخلاف مضمونه ومقتضاه.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ ظهور العامّ لمّا كان ناشئاً من الوضع؛ فإنّه يكون ظهوراً تنجيزيّاً، وأمّا ظهور المطلق، فلمّا كان مستنداً إلى إجراء مقدّمات الحكمة وناشئاً من استظهار حال المتكلّم، فإنّه يكون ظهوراً تعليقيّاً، ومن الواضح، أنّ ما كان تعليقيّاً فلا يكون له المقتضي أصلاً لأن يعارض ما كان فعليّاً وتنجيزيّاً.

الأمر الثالث: في تقسيم العامّ:

ينقسم العامّ إلى أقسام ثلاثة: استغراقيّ، ومجموعيّ، وبدليّ. وهذا الانقسام إنّما هو باعتبار الحكم، لا بلحاظ نفس العامّ. وذلك أنّ:الحكم في العامّ الاستغراقيّ في مقام الإنشاء واحد، إلّا أنّه بحسب الواقع يكون متعدّداً بتعدّد أفراد العامّ، بحيث يكون لكلّ واحد من الأحكام المتعلّقة بالأفراد عصيان مستقلّ، وامتثال كذلك، فقولك - مثلاً -: (أكرم كلّ عالم)، ينحلّ إلى: أكرم زيداً العالم وعمراً العالم وبكراً العالم وهكذا...

وأمّا الحكم في العامّ المجموعيّ، فيكون واحداً في مقام الثبوت

ص: 374

والإثبات معاً؛ إذ الذي يكون موضوعاً في العامّ المجموعيّ إنّما هو المجموع من حيث المجموع، فلا يكون الحكم شاملاً للأفراد إلّا على سبيل الاجتماع، ومن هنا، فلا يتحقّق الامتثال فيه إلّا بإتيان الجميع، وأمّا العصيان فيه، فكما يمكن تحقّقه بترك الجميع، فكذلك يكون ممكناً بترك فردٍ واحدٍ فقط.

وأمّا في العامّ البدليّ فيلاحظ المولى واحداً من الأفراد على سبيل البدل، ويجعل هذا الفرد بخصوصه موضوعاً للحكم، كما في قولك - مثلاً -: (أكرم أيّ رجلٍ شئتَ)، وعلى هذا الأساس: يحصل الامتثال فيه بإكرام الواحد، كما يحصل أيضاً بإكرام الجميع.

وعليه: فالفرق بين العامّ المجموعيّ والعامّ البدليّ يكمن في أنّ الإطاعة في الأوّل لا تحصل إلّا بفعل الجميع، ويتحقّق العصيان فيه بترك الواحد، وأمّا في العامّ البدليّ، فحصول الإطاعة يكفي فيه الإتيان بواحدٍ من الأفراد، فكذلك يحصل العصيان فيه بترك الجميع.وأمّا المحقّق الأصفهاني) فقد أفاد في بيان الفرق بين العامّ الاستغراقيّ وبين العامّ المجموعيّ ما لفظه:

«أنّ مصاديق العامّ لها مفاهيم متقوّمة بالكثرة بالذات، فلها وحدة مفهوميّة وكثرة ذاتيّة، وهذا المعنى الكذائيّ محفوظ وإن ورد عليه اعتبارات مختلفة، فقد يُرتَّب الحكم عليه بلحاظ تلك الكثرة الذاتيّة، كما في الكلّ الأفراديّ، فجهة الوحدة وإن كانت محفوظة فهي مُلْغاة بحسب

ص: 375

الاعتبار في مقام الموضوعيّة للحكم، وقد يُرَتّب الحكم عليه بلحاظ تلك الوحدة، كما في الكلّيّ المجموعيّ، فالكثرة وإن كانت محفوظةً - كيف؟ والمفهوم متقوّم بها - لكنّها مُلْغاة في مرحلة موضوعيّة المعنى لحُكْمٍ واحدٍ حقيقيّ...»(1).

وخلاصة كلامه): أنّ للعموم جهتين: جهة كثرةٍ وجهة وحدة، وكلتا الجهتين محفوظتان للعامّ، ولكن إن كان الملحوظ في مقام الموضوعيّة للحكم هو جهة الكثرة دون جهة الوحدة، فالموضوع حينئذٍ استغراقيّ، وأمّا إذا رُتِّب الحكم عليه بلحاظ جهة الوحدة، كان من العامّ المجموعيّ.

الأصل المحكّم عند الشكّ:

بعد إحراز أصل العموم، فإذا شكّ في كون العامّ استغراقيّاً أو مجموعيّاً، كان الأصل المحكَّم فيه هو الاستغراقيّة بمقتضى الإطلاق؛ وذلك لأنّ الشمول والسريان إلى جميعأفراد العامّ هو المعنى المشترك بينهما، وإنّما الفرق بينهما في أنّ العامّ الاستغراقيّ لا يُحتاج فيه إلى جعل العموم مرآةً للأفراد، فإنّ الأفراد متكثّرة ذاتاً ومستقلّة في نفس ذاتها.

وأمّا في العامّ المجموعيّ، فيُحْتاج، علاوةً على ذلك، إلى أمرٍ زائد،

ص: 376


1- نهاية الدراية 1: 631- 632.

وهو لحاظ قيد الوحدة في الأفراد، نظراً لكونها - كما عرفنا - متكثّرةً بحسب الذات، فيحتاج إثبات كون الموضوع هو المجموع من حيث هو مجموع إلى بيانٍ ومؤونةٍ زائدتين.

وأمّا إذا كان الشكّ شكّاً في أنّه من العامّ الاستغراقيّ أو من العامّ البدليّ، فقد ذهب اُستاذنا المحقّق) إلى القول بعدم إمكان تعيين أحدهما بالإطلاق؛ «لأنّ كلّ واحدٍ منهما يحتاج إلى عنايةٍ ليست تلك العناية في الآخر، فالعموم البدليّ يحتاج إلى ملاحظة موضوع الحكم بنحو صرف الوجود من الطبيعة، أو كون المدخول لأداة العموم نكرة، والعموم الاستغراقيّ يحتاج إلى ملاحظة موضوع الحكم في الطبيعة السارية، وهما لحاظان مختلفان كلّ واحدٍ منهما خلاف مقتضى الإطلاق»(1)، فلا يمكن تعيين أحدهما بالإطلاق عند الشكّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ المتعيّن عند دوران الشكّ بين استغراقيّة العامّ وبين بدليّته هو البناء على الاستغراقيّة لا البدليّة، ببيان: أنّ العامّ الاستغراقيّ - كما عرفنا - لا يُحتاج فيه إلىجعل المفهوم مرآةً للموضوع، وتُلاحظ فيه الأفراد من جهة أنّها متكثّرات ذاتاً ومستقلّات في نفسها، وكلّ واحد منها مأخوذ على حدّه، وقضيّة ذلك هو الاستيعاب والاستغراق، وأمّا العامّ البدليّ، فهو يحتاج إلى قيدٍ زائد، وهو قصد التردّد، فيكون - أيضاً -

ص: 377


1- منتهى الاُصول 1: 444.

كالعامّ المجموعيّ، يحتاج إلى لحاظ أمر إضافيّ وقيد زائد، يُصار إلى رفعه بالأصل، لكون هذا اللّحاظ الزائد منفيّاً بالإطلاق.

تنبيه:

لا يخفى: أنّ القضيّة التي تنحلّ إليها الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بموضوع عامّ، تارةً تكون جاريةً على نهج القضيّة الحقيقيّة، وأُخرى على نهج القضيّة الخارجيّة، والقضيّة الحقيقيّة هي القضيّة التي يكون الحكم فيها وارداً على العنوان والطبيعة باعتبار ما لها من مرآتيّة إلى الخارج، ويكون الحكم فيها وارداً على الخارجيّات بتوسّط الجامع فيما بينها.

وبعبارةٍ أُخرى: يكون وارداً على الطبيعة بما هي قنطرة للخارج، وبهذا يُفَرَّق بين القضيّة الحقيقيّة وبين القضيّة الطبيعيّة، إذ الحكم في الطبيعيّة يكون وارداً فيها على نفس الطبيعة، لا بلحاظ حكايتها عن الخارج، بل بلحاظ تقرّرها في العقل وكونها موجوداً له ثبوت في حدّ نفسه، كما في قولك: (الإنسان نوع) أو (الإنسان كلّيّ).

والفرق بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة: أنّ الحكم وإن كان يرد في كلتيهما على الخارج، إلّا أنّه في القضايا الحقيقيّةيكون مترتّباً على الخارج لا مباشرةً، بل بواسطة العنوان المنطبق على الخارجيّات، وأمّا في القضايا الخارجيّة، فالحكم إنّما يرد على الخارج ابتداءً، وبلا توسّط عنوان يكون جامعاً بين الأفراد، بل حتى لو فُرِض وجود جامعٍ

ص: 378

بينها، فإنّما يكون ذلك على نحو الاتّفاق، ومن غير أن يكون ملحوظاً في القضيّة، وذلك كقولك: (قُتِل كلّ من في العسكر)؛ فإنّ معناه: أنّه قد قُتِل زيد وعمرو وبكر أنفسهم، وليس بينهم جامع، بل اتّفاقاً، بما أنّهم كانوا جميعاً في المعركة واتّفق مقتلهم فيها جميعاً، وأين هذا من القضايا الحقيقيّة التي يُلْحَظ فيها الجامع بين الأفراد، بحيث متى تحقّق ذلك الجامع يترتّب الحكم، بلا فرق بين الأفراد الموجودة والأفراد التي لم توجد بعد.

العموم المستفاد من الجمع المحلّى:

ثمّ إنّه قد يُتخيّل أنّ الجمع المحلّى بالألف واللام يقتضي ظاهراً العموم المجموعيّ، بدعوى: أنّ مدخول اللّام هو الجميع، كما في قولك - مثلاً - (العلماء)، فإنّه لا يصدق على كلّ فردٍ فرد كالعامّ الاستغراقيّ، وإنّما ينطبق على كلّ جماعةٍ جماعة من أفراد العالم، والجماعة هي الثلاثة فما فوق.

وغاية ما يستفاد من اللّام هو أقصى مراتب الجمع التي تنطوي فيه جميع المراتب، ولكن مع حفظ معنى الجمعيّة، فاللّام توجد معنىً في المدخول كان فاقداً له، وهذا المعنى هو أقصى المراتب، كما هو الشأن في جميع المعاني الحرفيّةالتي تُوجِد معنىً في الغير، وذلك يقتضي العموم المجموعيّ، لا الاستغراقيّ.

ص: 379

ولكن قد دفع بعض المحقّقين هذا التوهّم بما نصّه:

«أنّ أداة العموم من الألف واللّام إن كان نفس الجمع، بحيث كان ورود أداة العموم متأخّراً عن ورود أداة الجمع - من الألف والتاء، والواو والنون - على المفرد، لكان للتوهّم المذكور مجال، ولكن كيف يمكن إثبات ذلك؟ بل ورود أداة العموم وأداة الجمع على المفرد إنّما يكون في مرتبةٍ واحدة، فالألف واللّام تدلّ على استغراق أفراد مدخولها، وهو المفرد، غايته: أنّه لا مطلق المفرد، حتى يقال: إنّ المفرد المحلّى باللّام لا يدلّ على العموم، بل المفرد الذي ورد عليه أداة الجمع عند ورود أداة العموم»(1).

والحاصل: أنّ أداة العموم إنّما ترد على المفرد الذي يرد عليه أداة الجمع، فتكون - أعني: أداة العموم - دالّةً على استغراق أفراد ذلك المفرد، ويكون حال الجمع المحلّى باللّام حال لفظ (كلّ) في الدلالة على استغراق أفراد المفرد على نحو الانحلال.

هل العامّ المخصّص حجّة في الباقي أم لا؟

ذهب بعضهم إلى أنّ تخصيص العامّ موجب للمجازيّة مطلقاً.

وذهب آخرون إلى أنّه إنّما يوجبها في خصوص المنفصل، وعليه

ص: 380


1- فوائد الاُصول 2: 516.

رتّبوا القول بعدم حجّيّة العامّ في الباقي بعد التخصيص، وذلك بدعوى: أنّه بعد التخصيص يكون مجملاً، بسبب كون مراتب المجاز متعدّدة، وأنّ تعيين مرتبة خاصّة منها تعيين بلا معيّن، دونما فرق في التخصيص بين أن يكون من قبيل الاستثناء أو غيره.

فإن قيل: ما بقي بعد التخصيص هو أقرب المجازات إلى الحقيقة فيتعيّن الحمل عليه بعد قيام القرينة الصارفة على عدم إرادة المعنى الحقيقيّ.

قلنا: الكلام في أقربيّة الباقي إلى العامّ لا يكون إلّا بحسب المقدار، ولا اعتبار بها، وإنّما المدار على الأقربيّة بحسب الاُنس الذي يكون ناشئاً عن كثرة الاستعمال وعن لحاظ المناسبة الخاصّة بين المعنيين.

وقد يقال: بأنّ الأقربيّة من جهة الكنه تكون موجبة للاُنس - أيضاً -، ومن هنا نرى أنّ كثرة الإخراج قد تكون سبباً للاستهجان.

ولكنّ الأَولى مع ذلك: صرف الكلام إلى البحث عن الحجّيّة، لا البحث عن لزوم المجازيّة أو عدمه؛ لوضوح أنّ ما يناسب الاُصوليّ إنّما هو البحث عمّا هو الحجّة، لا البحث عنالحقيقة والمجاز حتى يقال: إنّه بعد تخصيص العامّ فهل الباقي بعد التخصيص مجاز أم لا؟

وإذا عرفت ذلك:

فالمحقّقين من العلماء على أنّه حجّة في الباقي، بلا فرق في ذلك بين أن يكون المخصّص متّصلاً أو منفصلاً.

ص: 381

وقد أجاب صاحب الكفاية) عن الإشكال المتقدّم - أعني: لزوم عدم حجّيّة العامّ بعد تعدّد مراتب المجازات وعدم وجود المعيّن لأحدها على وجه الخصوص - بما لفظه:

«والتحقيق في الجواب أن يقال: إنّه لا يلزم من التخصيص كون العامّ مجازاً، أمّا في التخصيص بالمتّصل، فلما عرفت من أنّه لا تخصيص أصلاً، وأنّ أدوات العموم قد استُعْمِلَت فيه، وإن كانت دائرته سعةً وضيقاً تختلف باختلاف ذوي الأدوات، فلفظة (كلّ) في مثل (كلّ رجل) و(كلّ رجل عالم) قد استُعْملت في العموم، وإن كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر، بل في نفسها في غاية القلّة.

وأمّا في المنفصل، فلأنّ إرادة الخصوص واقعاً لا تستلزم استعماله فيه وكون الخاصّ قرينةً عليه، بل من الممكن قطعاً استعماله معه في العموم قاعدة، وكون الخاصّ مانعاً عن حجّيّة ظهوره، تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر، لا مصادماً لأصل ظهوره، ومعه: لا مجال للمصير إلى أنّه قد استعمل فيه مجازاً كي يلزم الإجمال»(1).وحاصل ما أفاده(قدس سره):

أنّ التخصيص تارةً يكون بالمتّصل، كما إذا قال: (أكرم كلّ عالم إلّا النحويّين)، وأُخرى بالمنفصل، كما إذا قال: (أكرم كلّ عالم) ثمّ قال بعد

ص: 382


1- كفاية الاُصول: ص 218- 219.

حينٍ من ذلك: (لا تكرم النحويّين).

فإن كان التخصيص بالمتّصل، فقد تقدّم: أنّه ليس بتخصيص في الحقيقة، وأنّ الكلام ليس ظاهراً إلّا في الباقي؛ إذ لا تخصيص في الحقيقة، وإنّما هو تضييق للمدخول، وتضييق المدخول لا ينافي كون الأداة موضوعةً ومستعملةً في العموم؛ لأنّها موضوعة لإفادة عموم ما يراد من مدخولها، فلا فرق بين قوله: (أكرم كلّ عالم) وقوله: (أكرم كلّ عالم عادل) في كون لفظه (كلّ) مستعملة في العموم فيهما، غاية الأمر: أنّ مدخولها مختلف.

وبعبارة أُخرى: فمع كون المخصّص متّصلاً، فمن أوّل الأمر لا ينعقد ظهور للعامّ إلّا في ما عدا ما أُخرج منه، وهو ما شمله المخصّص من الأفراد، فتكون دائرة الظهور من أوّل الأمر ضيّقة، على حدّ (ضيّق فم الركيّة).

أمّا في المخصّص المنفصل، فالتخصيص لا ينافي ظهور العامّ في العموم، بل يزاحمه في حجّيّته على المراد الجدّي، ويُقدّم عليه الخاصّ لكونه أظهر منه، فحينئذٍ: يكون الظهور باقياً على حاله كما كان قبل التخصيص.

نعم، بعد ورود الخاصّ ينكشف أنّ العموم لم يكن بمراد جدّيٍّ للمتكلّم، فالتخصيص في حقيقة الأمر يكون بين الإرادة الجدّيّة والإرادة الاستعماليّة، فلا معنى للقولبالمجازيّة بعد إمكان إبقاء

ص: 383

العامّ على ظهوره الاستعماليّ في العموم، والمجازيّة إنّما تدور مدار الاستعمال لا مدار الواقع، ويكون العامّ لأجل المصلحة الملحوظة الداعية إلى تأخير الخاصّ قد جاء لصرف القاعدة، فيكون البناء عليه إلى حين أن يأتي الخاصّ ونعثر عليه، ولأجل هذا نرى أنّ المصلحة قد تقتضي في بعض الأحيان مجيء العامّ على لسان إمامٍ ومجيء الخاصّ على لسان إمامٍ آخر، وفي مثل هذه الصورة، يكون تكليف المخاطبين بالعامّ في زمان الإمام الأوّل هو العمل بعموم العامّ.

والحاصل: بعد أن عرفنا أنّ التخصيص لا يوجب المجازيّة مطلقاً، أنّه لا إشكال في أنّ العامّ حجّة في الباقي بعد التخصيص، وإنّما كان الإشكال في حجّيّته في الباقي لو كنّا نقول بالمجازيّة.

هذا ما يرتبط بما أفاده(قدس سره).

وأمّا إذا كان المخصّص مجملاً مفهوماً، فتارةً يكون الإجمال من جهة دورانه بين المتباينين، كما إذا خصّ العلماء بزيد - مثلاً -، وكان زيد مشتركاً ومردّداً بين شخصين اثنين، وأُخرى يكون من جهة دورانه بين الأقلّ والأكثر، كما إذا تردّد الفاسق - مثلاً - بين مرتكب مطلق المعصية وبين مرتكب خصوص الكبيرة.

ثمّ على كلا التقديرين: فتارةً يكون المخصّص متّصلاً، وأُخرى يكون منفصلاً.

ص: 384

فهنا صور ثلاث:

الصورة الاُولى:

أن يكون المخصّص متّصلاً، وقد دار أمره بين المتباينين، أو بين الأقلّ والأكثر، فلا إشكال - حينئذٍ - في عدم انعقاد ظهورٍ للعامّ، وأنّه يوجب إجمال العامّ حقيقةً، وذلك بسبب سراية إجمال المخصّص إليه - أي: إلى العامّ -، فلا يكون للعامّ دلالة تصديقيّة على معنىً بحيث يصحّ أن يُخْبَر بمفاده.

ومعلوم: أنّ الكلام ما لم يحصل له هذا النحو من الدلالة، فلا ينعقد له ظهور في أيّ معنىً أصلاً، ومع عدم ظهوره، فلا يكون حجّة؛ إذ الحجّيّة حكم موضوعه الظهور، وهو منتفٍ بحسب الفرض، وهذا هو معنى القول بسقوط العامّ عن الحجّيّة في المخصّص المتّصل المجمل مطلقاً، أي: سواء كان أمره يدور بين المتباينين أم بين الأقلّ والأكثر.

الصورة الثانية:

أن يكون المخصّص منفصلاً، ودار أمره بين المتباينين، ففي هذه الصورة - أيضاً - نقول بسقوط العامّ عن الحجيّة؛ فإنّ هذا المخصّص المجمل ﻛ (زيد) في قولك: (لا تكرم زيداً)، وإن كان أمره يدور بين زيد ابن بكر وزيد بن خالد، فإنّه لا يكون مانعاً من ظهور العامّ في العموم، بل ينعقد للعامّ ظهور في العموم.

ولكن مع ذلك، فلا يمكن لنا أن نتمسّك بأصالة العموم في المقام،

ص: 385

بل نقول بأنّه بعد العلم بالتخصيص يخرج العامّ عن كونه كبرىً كلّيّة، ولا تجري فيه أصالة العموم؛ لأنّجريانها إنّما يكون في صورة الشكّ، ومع العلم بورود التخصيص لا شكّ، فلا يكون هناك مجال لجريانها، فيُعْلَم أنّ الظهور المنعقد للعامّ في العموم ليس بمرادٍ للمتكلّم بالنسبة إلى بعض الأطراف المحتملة.

ولكن بما أنّ ذلك البعض غير المعيّن خارج عن العموم، ولا يمكن إخراج أحد الأطراف بعينه؛ لأنّه يكون من الترجيح بلا مرجّح، فلا محالة: يسقط العامّ عن الحجّيّة، ويكون في حكم المجمل.

الصورة الثالثة:

كما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال بعد حين: (لا تكرم الفسّاق)، وتردَّد أمر الفاسق بين مطلق مرتكب الذنب من الصغيرة والكبيرة، وبين خصوص مرتكب الكبيرة، فهنا، بالنسبة إلى الأكثر العامّ يكون باقياً على حجّيّته، وأصالة العموم جارية فيه.

وأمّا بالنسبة إلى الأقلّ المتيقّن التخصيص، فتسقط حجّيّة العامّ لا محالة؛ إذ بالنسبة إلى الأكثر يكون الشكّ من قبيل الشكّ في التخصيص، ومعه: يكون المرجع إلى أصالة العموم، وأصالة عدم التخصيص بعد أن سبق للعامّ أن انعقد له ظهور في العموم.

ففي المثال المتقدّم، فبالنسبة إلى مرتكب الكبيرة، فالعامّ قد سقط عن الحجّيّة، وأمّا بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة، فيُشَكّ في خروجه، وهذا

ص: 386

شكّ في التخصيص، فبعدما انعقدللعامّ ظهور في العموم، تكون أصالة العموم كافيةً في إثبات عدم خروجه.

فإن قلت: الخارج هو عنوان الفاسق، لا خصوص مرتكب الكبيرة، فالعامّ لا يكون شاملاً لهذا العنوان بعد خروجه عنه، وعليه: فلا مجال للتمسّك بأصالة العموم بالنسبة إلى ما يكون دخوله مشكوكاً.

قلت: الخارج ليس هو مفهوم الفاسق وعنوانه الأوّليّ، بل واقع الفاسق، وحيث لم يعلم بأنّ مرتكب الصغيرة داخل في الفاسق الواقعيّ، فيشك في تخصيص العامّ به، فيكون شكّاً في التخصيص، والمرجع فيه إلى أصالة العموم.

هذا كلّه، فيما لو كان المخصّص مجملاً مفهوماً.

وأمّا لو كان مجملاً مصداقاً، بأن كان الشكّ في التخصيص ناشئاً من جهة الشبهات الموضوعيّة، فيقع البحث - حينئذٍ - في أنّه هل يمكن أن يُتَمسّك بالعامّ بالشبهات المصداقيّة للمخصّص وفي كلا قسميه: أعني: المخصّص المتّصل والمنفصل أم لا؟

فالكلام تارةً في المخصّص المتّصل، وأُخرى في المخصّص المنفصل:

أمّا المخصّص المتّصل، بلا فرقٍ بين أن يكون بالاستثناء ﻛ (أكرم كلّ عالم إلّا الفسّاق)، أو بغير الاستثناء ﻛ (أكرم كلّ عالمٍ تقيّ)، وشككنا في أنّ زيداً العالم هل هو فاسق أم لا؟ أو هل هو تقيّ أم لا؟ فهل يمكن في

ص: 387

هذه الصورة التمسّك بأصالة العموم لإثبات أنّه ليس بفاسق أو أنّه تقيّ أم لا؟الظاهر: العدم؛ لأنّ قضيّة (لا تكرم العلماء إلّا الفسّاق) - مثلاً - هي بمنزلة قولك (لا تكرم فسّاق العلماء)، وبما أنّ عدم إحراز فرديّة ما يحتمل انطباق الخاصّ عليه مانع من التمسّك بالعامّ، فما لم يُحْرَز كون الفرد المردّد والمشكوك فرداً للعامّ، فلا يمكن التمسّك بالعامّ لإثبات حكمه لهذا المردَّد، فإذا قال: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق)، ولم نعلم بعدالة زيد أو فسقه، فلا يجوز التمسّك بالعامّ لإدخاله تحت العموم حتى نقول بوجوب إكرامه.

وبعبارة أُخرى: فإنّ القضيّة - خارجيّةً كانت أم حقيقيّة - لا تكون ناظرة إلى إثبات موضوعها وعدم إثباته للحكم، وإنّما هي تتكفّل ببيان ثبوت حكمها لموضوعها الموجود في الخارج، حقيقةً أو تقديراً، وفي المقام، لو كانت القضيّة خارجيّةً، كما في مثل (أكرم علماء البلد إلّا الفسّاق)، فهي دالّة على ثبوت الحكم لأفراد العالم التي تحقّق لها وجود في الخارج، فلو شككنا - مثلاً - في أنّ زيداً المتيقّن كونه من علماء البلد عادل أم فاسق، فهذه القضيّة لا تدلّ على أنّه ليس بفاسق لكي يجب إكرامه. وهكذا الحال بالنسبة إلى القضايا الحقيقيّة، كما في قولك: (الخمر حرام)، فإنّ مرجعه إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم، أي: (إن وُجِد خمر في الخارج فهو حرام)، فإذا كان الأمر كذلك، وكان

ص: 388

مرجع القضيّة الحقيقيّة إلى الشرطيّة، فالقضيّة الشرطيّة ليست ناظرةً إلى وجود الموضوع، الذي هو شرطها، في الخارج، بل إلى إثبات التالي، وهو الحرمة،على تقدير وجود المقدّم، فالموضوع مأخوذ فيها مفروض الوجود، فلو شككنا في كون مايعٍ ما خمراً أم لا؟ فلا يمكن لنا التمسّك بإطلاق ما دلّ على حرمة الخمر لإثبات أنّه خمر، فيكون المرجع - حينئذٍ - هو الاُصول العلميّة.

وقد يتمسّك لشمول العامّ للفرد المشكوك بقضيّة المقتضي والمانع؛ فإنّ انطباق العامّ للمشكوك فيه مقتضٍ لإثبات حكم العامّ له؛ لأنّ المقام مقتضٍ للحجّيّة في جميع ما يشمله من الأفراد، والمخصّص مانع عن حجّيّته فيما ثبتت فرديّته للخاصّ.

وأمّا الفرد المشكوك، كزيد غير المعلوم فسقه، وشكّ في خروجها عن عموم العامّ، مع عدم العلم بحالته السابقة، كان العامّ حجّة فيه؛ لأنّ المقتضي للشمول موجود مُحْرَز، وأمّا المانع فمشكوك فيه، فيؤثّر المقتضي أثره، لتلك القاعدة، فيجب العمل بالمقتضي إلى حين أن يأتي المانع.

ولكن فيه: أنّه محلّ للنقاش صغرىً وكبرى.

أمّا صغرىً:

فإنّ هذا أجنبيّ عن القاعدة المذكورة؛ فإنّ هذه القاعدة إنّما تكون حجّةً في صورة العلم بوجود المقتضي والشكّ في وجود المانع؛ لأنّ العامّ

ص: 389

مشكوك المقتضي للشبهة المصداقيّة، فإنّ الدلالة التصديقيّة لا تكون كاشفةً عن مقصود المتكلّم ومراده، إذ المتكلّم في مقام بيان تشريع الأحكام على موضوعاتها، كجعل الحرمة للخمر والوجوب للصلاة، وليس له غرض في بيان تطبيق الكلّيّات على مصاديقها.وبكلمة: فإنّ المصداق المشتبه، وإن كان فرداً للعامّ بما هو عامّ، ولكن بعد تخصيصه وانحصار الإكرام بغير الفاسق، يكون الإكرام ثابتاً للعلماء غير الفسّاق خاصّةً. فبعد التخصيص يكون العالم العادل واجب الإكرام ويكون الفاسق غير واجب الإكرام أو محرّم الإكرام. فهنا قاعدتان كلّيّتان ولا شيء منهما بمعلوم الصدق والانطباق على الفرد المشكوك:

أُولاهما: أنّ العلماء غير الفسّاق يجب إكرامهم، فهي قاعدة كلّيّة لا يُعْلَم شمولها لزيد المشكوك؛ إذ ليست واردةً في بيان انطباق الكبرى الكلّيّة على مصاديقها.

والثانية: أنّ الفاسق محرّم الإكرام، وهي - أيضاً - قاعدة كلّيّة لا يُعْلَم شمولها لزيد المشكوك أم عدم شمولها له؛ لأنّه ليست في مقام التطبيق أيضاً أم لا؟

وأمّا كبرىً:

فلأنّه لا دليل هناك على صحّة هذه القاعدة، بل الدليل على خلافها؛ فإنّ وجود الشيء متوقّف على وجود جميع أجزاء علّته، فهو متوقّف على إحراز وجود المقتضي، وعلى إحراز توفّر جميع الشرائط، وعلى

ص: 390

إحراز فقدان المانع، فاحتراق الورقة - مثلاً - متوقّف على وجود النار، وعلى ممّاسّة النار لها، وعلى عدم وجود الرطوبة المانعة، فإذا توفّر كلّ ذلك حصل الاحتراق، فلا يكاد يمكن أن يوجد الشيء بمجرّد وجود المقتضي، فمع كون المقتضي موجوداًوكون المانع محتمل الوجود فكيف مع ذلك يمكن القطع بوجود الشيء؟!

ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ فتوى المشهور بالضمان في مورد اليد المشكوكة المردَّدة بين أن تكون يد أمانة أو يداً عادية إنّما هي من باب تطبيق نفس القاعدة، أعني: قاعدة «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» بنحو التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة.

بيان ذلك: أنّ «قاعدة اليد» إن قلنا بأنّها تشمل اليد العادية فقط، دون اليد المأذونة، إذ اليد المأذونة خارجة بالتخصّص، وعلى هذا الأساس، فيكون دخول اليد المشكوكة تحت عموم القاعدة مشكوكاً من باب الشكّ في الشبهة المصداقيّة للعامّ، نظير ما إذا قلنا: (أكرم العلماء)، وشككنا في أنّ زيداً عالم أم لا.

وإن قلنا بأنّ اليد تشمل اليد المأذونة واليد العادية معاً، فيكون من باب تخصيص الشبهة المصداقيّة في المخصّص، نظير ما إذا قلنا: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق)، وشككنا في فسق زيد.

فاتّضح: أنّه على كلا التقديرين لا يمكن التمسّك بالقاعدة، مع أنّهم حكموا بالضمان في اليد المشكوكة، فقد يقال: بأنّ حُكْمهم هذا إنّما هو

ص: 391

تعويل منهم على التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة.

ولكنّ التحقيق: أنّ ذهاب المشهور إلى الضمان ليس لأجل صحّة التعويل على العامّ في الشبهات المصداقيّة، بل لأجلأنّ هناك أصلاً منقّحاً للموضوع، وببركة هذا الأصل يدخل المشكوك تحت عموم العامّ، فيتمسّك بالعامّ لإثبات حكمه، وإثبات شموله للمورد بعد إحراز موضوع الضمان.

فإنّ موضوع الضمان مركّب من جزأين، وأحد هذين الجزأين محرز بالأصل، والآخر محرز بالوجدان، فأمّا الأوّل، فهو الاستيلاء على مال الغير والتصرّف به، وهو محرز وجداناً، وأمّا الثاني، فهو عدم إذن صاحب المال في هذا التصرّف؛ فإنّ إذن المالك وعدم رضاه بالتصرّف لمّا كان من الحوادث المسبوقة بالعدم، فهو يثبت باستصحاب عدمه؛ فإنّ الأصل عدم رضا المالك.

وبذلك يتمّ كلا جزأي الموضوع، فيثبت كون اليد يداً عادية، فيُحْكَم في موردها بالضمان، وعليه: فليست الفتوى بالضمان مستندةً إلى التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة أصلاً، والفتوى في محلّها، ولا إشكال أصلاً.

ومن هنا ظهر الحال فيما أفاده السيّد البروجردي(قدس سره) على ما في تقريراته بما لفظه:

«الأمر الثامن: التمسّك بعموم (على اليد) في الشبهة المصداقيّة له: إذا

ص: 392

وقع الاختلاف في كون يد أمينة أو عادية، فالمشهور على أنّ القول قول مدّعي الضمان، وأنّ البيّنة على مدّعي الأمانة، وحيث إنّ ذلك - بحسب الظاهر - على خلاف القواعد، إذ القاعدة تقتضي تقديم قول مدّعي الأمانة من جهة أنّ الأصل عدم الضمان، تصدّى بعضهم لتصحيح فتوى المشهور، فاستدلّ لذلك بعموم (على اليد)،ونحن أيضاً تمسّكنا به في حواشينا على العروة، ولكنّه لا يخفى فساده، فإنّ عمومه مخصّص باليد الأمينة، فالتمسّك به في اليد المشكوك فيها تمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة...

إلى أن قال: والظاهر: أن مستندهم في هذه الفتوى الروايات الواردة في المسألة، وحيث لم يظفر عليها بعض المتأخّرين، ذكر وجوهاً غير مغنية»(1).

فإنّك قد عرفت: أنّ فتواهم بالضمان هنا لم تكن لأجل التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة، بل هي من باب التمسّك بالاستصحاب لإثبات ثاني جزأي موضوع الضمان، بعد أن كان أوّل الجزأين - وهو الاستيلاء - محرزاً بالوجدان، والثاني محرزاً بالأصل؛ حيث إنّ الإذن من الحوادث المسبوقة بالعدم، فيُستصحب هذا العدم، وبه يتمّ الموضوع، فالضمان - حينئذٍ - يثبت على طبق القاعدة، ومعه: فتلك الروايات التي ذكروها

ص: 393


1- راجع: نهاية الاُصول: ص 345.

تكون على طبق القاعدة أيضاً.

وقد استشكل المحقّق الشاهروديّ(قدس سره)في صحّة التمسّك بالاستصحاب هنا بما ملخّصه: أنّه غير جائزٍ، وذلك لكون الاستصحاب هنا أصلاً مثبتاً؛ لأنّ موضوع الضمان إنّما هو التصرّف المقيّد بعدم الإذن من المالك، فهو كالقرشيّة والقبلية لا يمكن إثباته بالأصل، إلّا بناءً على القول بالأصل المثبت؛ فإنّ أصالة عدم تحقّق الرضا من المالك لا يُثبت كون اليدعاديةً ولا يُثبت كون الاستيلاء بغير رضا المالك إلّا بالملازمة.

ونصّ كلامه(قدس سره) - فيما حُكي عنه في مجلس درسه الشريف -:

«إنّ اجتماع أجزاء المركّب من جوهرين، أو عرضين لمحلّين، أو جوهر وعرض لجوهرٍ آخر، إن كان له دخل في الحكم، فلازمه: اعتبار عنوان الاجتماع في الزمان فيه، كدخل عنوان السبق واللّحوق في موضوع الحكم، ومن المعلوم: عدم إمكان إحرازه بالأصل إلّا على القول بحجّيّة الاُصول المثبتة، فلو جرى استصحاب عدم إذن المالك لا يَثبت عنوان التقارن بينه وبين استيلاء الغير على ماله، كعدم إثبات استصحاب عدم ركوع الإمام إلى زمن ركوع المأموم ووقوع ركوعه قبل رفع الإمام رأسه عن الركوع، حيث إنّ إثبات هذه القبليّة بالاستصحاب مبنيّ على الأصل المثبت.

والحاصل: أنّه بناءً على دخل عنوان اجتماع أجزاء الموضوع المركّب في الزمان، يلزم عدم إمكان إحراز بعض أجزائه بالأصل، فاستصحاب

ص: 394

عدم إذن المالك لا يثبت مقارنته لاستيلاء الغير عليه، فلا يصحّ الحكم بالضمان استناداً إلى هذا الاستصحاب، بل تجري أصالة البراءة في الضمان، فيكون دعوى الضمان على خلاف الأصل.

وإن لم يكن لعنوان الاجتماع في الزمان دخل في الحكم، لزم ترتّب الحكم على وجود الجزأين في الخارج، وإن لم يتقارنا في الزمان، كما إذا فرض ترتّب وجوب التصدّق علىمجيء زيد وفقر عمرو، وزال فقره، ثمّ جاء زيد؛ فإنّ اللّازم - حينئذٍ - وجوب التصدّق، إذ المفروض عدم دخل اجتماعهما زماناً في الحكم، وهو كما ترى ممّا لا يُظَنّ التزام أحدٍ به، وبالجملة: هذا الإشكال يهدم أساس الموضوعات المركّبة»(1).

وعليه: فلو تمّ هذا الإشكال، فيصحّ ما نقلناه عن السيّد البروجردي) سابقاً من أنّ المستند في فتوى المشهور بالضمان في اليد المشكوكة إنّما هو الروايات، لكونها واردةً على طبق القاعدة.

ولكنّ الحقّ: أنّ الذي هو دخيل في الحكم إنّما هو ذات الموضوع، سواء كان بسيطاً أو مركّباً، وأمّا ما ينتزع من الأجزاء، وهو عنوان الاجتماع، فليس له مدخليّة في الحكم حتى يكون من الأصل المثبت، وبما أنّ الحكم والموضوع هما كالعلّة والمعلول، فمتى وجد الموضوع وجد الحكم، وبما أنّه يمتنع انفكاك المعلول عن علّته، فكذلك يمتنع

ص: 395


1- حكاه عنه تلميذه السيّد المروّج) في منتهى الدراية 3: 521 - 522.

صيرورة الحكم فعليّاً حتى توجد جميع الأجزاء والشرائط المأخوذة في رتبة الموضوع.

وبهذا يثبت: أنّ ما يمكن أن يكون مستنداً للمشهور في الفتوى بالضمان في المورد المذكور إنّما هو استصحاب عدم الإذن، لا قاعدة المقتضي والمانع، ولا التمسّك بالعامّ فيالشبهة المصداقيّة، ولا الروايات، وإن كانت الروايات مؤيّدة لمضمون الاستصحاب.

التعويض عن العامّ باستصحاب العدم الأزليّ:

بعد الفراغ عن عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لمخصّصه، وقع الكلام بينهم في إمكان أن يُعوّض عنه بأصلٍ موضوعيٍّ يكون منقّحاً لموضوع العامّ، وهو استصحاب عدم عنوان الخاصّ.

ذلك أنّ موضوع العامّ قد صار ببركة التخصيص مركَّباً من جزأين:

أحدهما: العنوان المأخوذ في العامّ المعلوم انطباقه على الفرد المشكوك وجداناً.

والآخر: عدم العنوان الخاصّ الخارج من حكم العامّ، فإذا كان إحرازه بالأصل ممكناً تحقّق كلا جزأي الموضوع المركّب لا محالة.

وقد ذهب صاحب الكفاية) إلى جريان مثل هذا الاستصحاب، وأنّ ثبوت حكم العامّ للمشكوك يكون بواسطة هذا

الاستصحاب، قال(قدس سره)ما لفظه:

ص: 396

«إيقاظ: لا يخفى أنّ الباقي تحت العامّ بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتّصل، لمّا كان غير معنونٍ بعنوان خاصّ، بل بكلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاصّ، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعيّ في غالبالموارد إلّا ما شذّ ممكناً، فبذلك يحكم عليه بحكم العامّ، وإن لم يجز التمسّك به بلا كلام، ضرورة أنّه قلّما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقّح به أنّه ممّا بقي تحته...» (1).

الشكّ في شمول العامّ لفردٍ من غير جهة احتمال التخصيص:

قال صاحب الكفاية(قدس سره): «ربّما يظهر عن بعضهم التمسّك بالعمومات فيما إذا شكّ في فردٍ لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهةٍ أُخرى، كما إذا شكّ في صحّة الوضوء أو الغسل بمائعٍ مضاف، فيستكشف صحّته بعموم مثل (أوفوا بالنذور) فيما إذا وقع متعلّقاً للنذر، بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم، وكلّ ما يجب الوفاء به - لا محالة - يكون صحيحاً، للقطع بأنّه لولا صحّته لما وجب الوفاء به»(2).

وقد قرّره في التقريرات بما لفظه: «فيقال: إنّ هذا الفرد من الوضوء

ص: 397


1- كفاية الاُصول: ص 223.
2- المصدر نفسه: ص 223 - 224.

يجب الوفاء به، لعموم قوله: (أوفوا بالنذر)، وكلّ ما يجب الوفاء به يجب أن يكون صحيحاً، فيجب أن يكون الوضوء صحيحاً، أمّا الصغرى: فبالعموم،وأمّا الكبرى: فللقطع بأنّ ما ليس صحيحاً لا يجب الوفاء به»(1).

ثمّ بعد تلخيصه لكلام التقريرات قال صاحب الكفاية):

«وربّما يؤيّد ذلك بما ورد من صحّة الإحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلّق بهما النذر كذلك»(2).

ومن الروايات التي يشير إليها) التي تدلّ على صحّة نذر الإحرام قبل الميقات وإن لم يكن متعلّقه فيه الرجحان: صحيح الحلبيّ، قال: «سألْتُ أبا عبد اﷲ% عن رجلٍ جَعَل ﷲ عليه شكراً أن يُحْرِم من الكوفة، قال: فليُحْرِم من الكوفة، ولْيَفِ ﷲ بما قال»(3).

وقريب منه خبر أبي بصير(4) وخبر عليّ بن حمزة(5).

وعليه: فلا يمكن القول بعدم الجواز تمسّكاً بقاعدة اعتبار الرجحان في متعلّق النذر؛ لأنّه مع وجود النصّ لا تصلالنوبة إلى التمسّك بالقاعدة،

ص: 398


1- انظر: مطارح الأنظار 2: 148 .
2- كفاية الاُصول: ص 224.
3- وسائل الشيعة 11: 326 - 327، الباب 13 من أبواب المواقيت، ح1.
4- المصدر نفسه 11: 327، الباب 13 من أبواب المواقيت، ح3.
5- المصدر نفسه 11: 327، الباب 13 من أبواب المواقيت، ح2.

خلافاً لما هو محكيّ عن الحلّيّ في السرائر والأصبهانيّ في كشفه(1).

وأمّا نذر الصوم في السفر فهو لا يصحّ مطلقاً، بل لابدّ أن يكون مقيّداً بالسفر، أو بالسفر منضمّاً إلى الحضر، ويدلّ على صحّته: صحيح عليّ بن مهزيار، قال: «كتب بندار مولى إدريس: يا سيّدي نذرْتُ أن أصوم كلّ يوم سبتٍ، فإن أنا لم أصمْه، ما يَلْزمني من الكفّارة؟ فكتب% - وقرأتُه -: لا تتركْه إلّا من علّة، وليس عليك صومه في سفرٍ ولا مرضٍ إلّا أن تكون نويتَ ذلك، وإن كُنتَ أفطرتَ فيه من غير علّةٍ، فتصدّق بعدد كلّ يومٍ على سبعة مساكين، نسأل اﷲ التوفيق لما يحبّ ويرضى»(2).

وقد استشكل في ذلك صاحب الكفاية بقوله:

«والتحقيق أن يقال: إنّه لا مجال لتوهّم الاستدلال بالعمومات المتكفّلة لأحكام العناوين الثانويّة فيما شكّ من غير جهة تخصيصها إذا أخذ في موضوعاتها أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوّليّة، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد والوفاء بالنذر وشبهه في الاُمور المباحة أو الراجحة، ضرورة أنّه معه لا يكاد يتوهّم عاقل أنّه إذا شكّفي رجحان شيءٍ أو حلّيّته جواز التمسّك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حلّيّته»(3).

ص: 399


1- انظر: منتهى الدراية: 3: 549.
2- انظر: وسائل الشيعة 10: 379، الباب 7 من أبواب بقيّة الصوم الواجب، ح4.
3- كفاية الاُصول: ص 224.

ولابدّ في فهم كلامه) من بيان أقسام الحكم الشرعيّ الثابت لموضوعه، وهي ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون الحكم ثابتاً للشيء بعنوانه الأوّليّ الذاتيّ، كالإباحة الثابتة - مثلاً - لعناوين الماء والتمر واللّحم والحنطة، وما إلى ذلك من العناوين الذاتيّة.

الثاني: أن يكون الحكم ثابتاً للشيء بعنوانه الثانويّ، أي: بأن يكون ثابتاً له لتعنونه بعنوان يكون خارجاً عن ذاته، ولكن بشرط أن يكون لهذا الشيء حكم خاصّ بعنوانه الأوّلي، كالصوم - مثلاً -؛ فإنّ الوجوب الذي ثبت له بعنوان ثانويّ، مثل النذر، يكون خارجاً عن ذاته.

ولكنّ هذا الوجوب إنّما يثبت له بعنوانه الثانويّ إذا كان بعنوانه الأوّليّ، أي: بما هو صوم، راجحاً، وكالتصدّق على الفقراء أو كصلاة الليل وما شابههما من الأفعال المحكوم فيها بالرجحان بعناوينها الأوّليّة، وكذا الوجوب الثابت للفعل بعنوان ثانويّ، كإطاعة الوالد بشرط أن يكون الفعل الذي أمر به الوالد مباحاً بعنوانه الأوّليّ.

الثالث: أن لا يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً، أي: أن يكون الحكم ثابتاً له بعنوان الثانويّ مطلقاً، من دون أن يكون ثبوت الحكم لهذا الشيء بعنوانه الثانويّ مشروطاً بثبوت أيّحكمٍ خاصٍّ له بعنوانه الأوّلي، وذلك كالحرمة الثابتة للغنم الموطوءة بعنوان كونها موطوءة؛ فإنّ ثبوتها لها بهذا العنوان غير مشروط بثبوت الإباحة - مثلاً - لها بعنوانها الأوّليّ

ص: 400

الذاتيّ، أي أنّه لم تؤخذ الإباحة للغنم بعنوانها الأوّليّ شرطاً في ترتّب الحرمة عليها بعنوانها الثانويّ، والذي هو كونها موطوءة، وإنّما تترتّب عليها الحرمة إذا صارت موطوءة، وإن فرض أنّه لم يَثبت لها أيّ حكمٍ شرعيٍّ لها قبل صيرورتها موطوءةً، أي: بعنوانها الأوّليّ.

إذا عرفت هذا، فلا يخفى: أنّ إطاعة الوالد لا تجب مطلقاً، وإنّما هو مشروط بأن يكون ما أمر به الوالد بالعنوان الأوّلي مباحاً وغير حرام، فإذا شكّ في إباحته، فلا يمكن التمسّك بعموم وجوب إطاعة الوالد لإحراز إباحته؛ لأنّ الشكّ هنا شكّ في موضوع الدليل، وليس شكّاً في حكمه.

وهذا الكلام يأتي - أيضاً - في وجوب الوفاء بالنذر، فإذا شكّ في كون المنذور ماء مباحاً - مثلاً - فلا يمكن التمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر بعد أن كان الشكّ شكّاً في الموضوع، أي: شكّ في أنّ متعلّق هذا النذر هل هو راجح أم لا؟

ولا يمكن إثبات رجحانه، وبالتالي: صحّة النذر المتعلّق به، بالعمومات الدالّة على لزوم الوفاء بالنذر؛ لما قد عرفته مراراً من أنّه لا يمكن إثبات تحقّق الموضوع بنفس الدليل المتكفّل لإثبات الحكم له.

نعم، لو كان الحكم ثابتاً للشيء بعنوانه الثانويّ مطلقاً، أو من دون اشتراطه بثبوت حكمٍ خاصٍّ له بعنوانه الأوّليّ، كماإذا لم يدلّ دليل

ص: 401

على دخل الرجحان في المنذور، أو الإباحة في موضوع وجوب إطاعة الوالد، وشككنا في اعتبارهما فيهما، فلا مانع من التمسّك بعموم دليلي وجوب الوفاء بالنذر وإطاعة الوالد لوجوبهما، لكون الشكّ هنا شكّاً في التخصيص.

قال صاحب الكفاية) بعد كلامه السابق:

«ضرورة أنّه قلّما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل يُنقَّح به أنّه ممّا بقي تحته، مثلاً: إذا شكّ أنّ امرأة تكون قرشيّة، فهي وإن كانت وجدت إمّا قرشيّة أو غيرها، فلا أصل يُحرز أنّها قرشيّة أو غيرها، إلّا أنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح أنّها ممّن لا تحيض إلّا إلى خمسين؛ لأنّ المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش انتساب - أيضاً - باقية تحت ما دلّ على أنّ المرأة إنّما ترى الحمرة إلى خمسين، والخارج عن تحته هي القرشيّة، فتأمّل تعرف»(1).

ونحن هنا نتبع في مختارنا المحقّق النائيني(قدس سره)، الذي خالف صاحب الكفاية)، فذهب إلى عدم جريان هذا الأصل المذكور.

وقد ذكر) أنّ كلام صاحب الكفاية(قدس سره) إنّما يتمّ بناءً على أخذ عدم الخاصّ في موضوع الحكم بنحو العدم المحموليّ الراجع إلى فرض موضوع الحكم مركّباً من جزأين: أحدهما: عنوان العامّ، والآخر: عدم

ص: 402


1- كفاية الاُصول: ص 223.

عنوان الخاصّ، من دون فرضاتّصاف العامّ بعدم الخاصّ، بل يؤخذ عدم الخاصّ بمفاد ليس التامّة، لا الناقصة.

وأمّا بناءً على أخذ عدم الخاصّ في الموضوع بنحو العدم النعتي الراجع إلى فرض الموضوع هو العامّ المتّصف بعدم الخاصّ، فيكون عدم الخاصّ مأخوذاً بمفاد ليس الناقصة، فلا يتمّ ما ذهب إليه، لعدم سبق اتّصاف الذات بعدم الخاصّ؛ لأنّها حينما توجد توجد إمّا متّصفةً به أو بعدمه.

وأمّا العدم المحموليّ الأزليّ فهو، وإن كان في نفسه مجرى الأصل، لكنّه لا ينفع في إثبات العدم النعتيّ إلّا بناءً على القول بالأصل المثبت.

قال(قدس سره): «ويرد عليه: أنّ الباقي تحت العامّ بعد التخصيص إذا كان هي المرأة التي لا يكون الانتساب إلى قريش موجوداً معها على نحو مفاد ليس التامّة، فالتمسّك بالأصل المذكور لإدراج الفرد المشتبه كونها من قريش في الأفراد الباقية، وإن كان صحيحاً، إلّا أنّ الواقع ليس كذلك؛ لأنّ الباقي تحت العامّ حسب ظهور دليله إنّما هي المرأة التي لا تكون قرشيّة على نحو مفاد ليس الناقصة.

وعليه: فالتمسّك بأصالة العدم لإثبات حكم العامّ للفرد المشكوك فيه غير صحيح؛ وذلك لأنّ العدم النعتيّ الذي هو موضوع الحكم لا حالة سابقة له على الفرض ليجري فيه الأصل، وأمّا العدم المحموليّ الأزليّ،

ص: 403

فهو وإن كان مجرىً للأصل في نفسه، إلّا أنّه لا يثبت به العدم النعتيّالذي هو المأخوذ في الموضوع إلّا على القول بالأصل المثبت»(1).

التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص:

لا إشكال في أنّه لا يجوز التمسّك بالعموم أو الإطلاق قبل الفحص عن المخصّص، هذا بالنسبة إلى الاُصول اللّفظيّة، وكذلك - أيضاً - بالنسبة إلى الاُصول العمليّة؛ فإنّه لا يمكن التمسّك بالبراءة - مثلاً - إلّا بعد الفحص عن أدلّة الأحكام وعدم وجدانها.

وإنّما الفرق بين البابين في أنّ عدم جواز التمسّك بالاُصول اللّفظيّة إنّما هو لمكان عدم جريان سيرة العقلاء على الأخذ والتمسّك بها ما دام العموم في معرض التخصيص، بحيث لو فحص عن المخصّص لأمكن أن يظفر به، ولا أقلّ من الشكّ، ويكفي ذلك في عدم الحجّيّة كما هو واضح؛ لأنّ الأصل عند الشكّ في الحجّيّة - كما هو معلوم - عدمها.

نعم، لو لم تكن العمومات في معرض التخصيص، كغالب العمومات المعمول بها عند أهل المحاورة، فإنّه لا إشكال في جريان السيرة على التمسّك بالعموم.

وبذلك يتّضح: أنّ الفحص في الاُصول اللّفظيّة، إنّما هو عن وجود ما يزاحم الحجّيّة، وعن وجود ما يكون معارضاًلظاهر العموم، بعد الفراغ

ص: 404


1- أجود التقريرات 1: 465.

عن أصل حجّيّتها، وعن وجود المقتضي للتمسّك بها، أي: أنّ الفحص - حينئذٍ - إنّما يكون فحصاً عن وجود المانع، لا عن وجود المقتضي.

وأمّا الاُصول العمليّة، فالفحص عنها فحص عن أصل الحجّيّة؛ لوضوح أنّه لا تصل النوبة إلى التمسّك بالاُصول العمليّة إلّا بعد الفحص واليأس عن الدليل، فإنّ العقل يحكم بلزوم أن يقوم العبد بوظيفته، وهي الفحص في أحكام المولى، حيث إنّ العقل يرى أنّ ذلك من وظائف العبد بعد تماميّة وظائف المولى، فإنّ العقل يستقلّ بأنّ لكلٍّ من المولى والعبد وظيفة، فوظيفة المولى هي إظهار مراداته وتبليغها بالطرق المتعارفة التي يمكن للعبد أن يصل إليها، إن لم يكن هناك مانع.

أو فقل: وظيفة المولى هي بيان الأحكام على النحو المتعارف، بحيث لو فحص العبد عنها لأمكنه أن يظفر بها، وبعد ذلك تصل النوبة إلى وظيفة العبد، وأنّه يجب على العبد أن يفحص عن مرادات المولى وأحكامه، وحينئذٍ يستقلّ العقل باستحقاق العبد للعقاب عند ترك وظيفته، كما يستقلّ بقبح العقاب عند ترك المولى وظيفته.

وقد أشار صاحب الكفاية(قدس سره) إلى ما ذكرناه من عدم المقتضي للحجّيّة في الاُصول العمليّة بدون الفحص بقوله: «إيقاظ: لا يذهب عليك الفرق بين الفحص ها هنا وبينه في الاُصول العمليّة، حيث إنّه ها هنا عمّا يزاحم الحجّة، بخلافه هناك، فإنّه بدونه لا حجّة، ضرورة أنّ العقل بدونه يستقلّباستحقاق المؤاخذة على المخالفة، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان،

ص: 405

والمؤاخذة عليها من غير برهان، والنقل وإن دلّ على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقاً، إلّا أنّ الإجماع بقسميه على تقييده به، فافهم»(1).

وعلّق عليه المحقّق الأصفهاني صاحب الحاشية(قدس سره)، بقوله:

«هذا مبنيّ على تماميّة المقتضي هنا، فيكون البحث عن المانع أو المعارض وامتيازه عن غيره، لكون هذا المقتضي الخاصّ في معرض المانع، فيكون حال الدلالة حال السند، فكما أنّ مجيء المعارض فيه يؤكّد الحجّيّة، ويكون من تقديم أقوى الحجّتين على أضعفهما، كذلك فيها.

والتحقيق: خلافه؛ إذ دليل الحجّيّة في السند هو العموم والإطلاق، فيكون المقتضي في مقام الإثبات تامّاً، ودليل ترجيح الأعدل - مثلاً - دليل الحجّيّة الفعلّيّة في ذي المزيّة، بخلاف الدلالة؛ فإنّ دليل اعتبارها بناء العقلاء، ولا معنى لبنائين بنحو العموم والخصوص، إذ البناء العمليّ هو عملهم على طبق الظهور، وهو إمّا على طبقه مطلقاً، أو بعد الفحص عمّا ينافيه.

نعم، المقتضي، بمعنى الباعث على بناء العقلاء بالذات هو الظهور وفعليّته تتبع عدم المانع، ولعلّ مثله ممكن الجريان في الاُصول العمليّة حيث إنّ عدم قيام الحجّة على الواقع مقتضٍ لحكم العقل بقبح العقاب،

ص: 406


1- كفاية الاُصول: ص 227.

إلّا أنّ كون الحجّةبحيث لو تفحّص عنها لظفر بها مانع عن الفعلّيّة، فالفحص إنّما هو لتحقيق عدم المانع، لا لإثبات المقتضي. وأمّا أنّ المقتضي نفس الحجّة فواضح، ولذا لو لم يكن حجّة في الواقع حقيقةً، كان مقتضى حكم العقل ثابتاً، لا أنّه يتقوّم وجود المقتضي بوجود الحجّة الواقعيّة، وكونها بحيث لم يظفر بها لو تفحّص عنها، فتأمّل، مع أنّ المراد من العبارة - كماهو الظاهر - تماميّة المقتضي في مقام الإثبات»(1).

والذي يظهر من كلامه(قدس سره) أنّ التقابل تارةً يكون بين المقتضي في مقام الإثبات في كلا الطرفين، وأُخرى بين المقتضي في مقام الثبوت هنا وهناك، لا بين المقتضي إثباتاً في طرف والمقتضي ثبوتاً في طرف آخر.

وكيف كان، فالحاصل: أنّه لو كان جريان الاُصول مستنداً إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فهو لا يجري قبل الفحص، وأمّا لو كان مستنداً إلى النقل، فإنّ الأدلّة الشرعيّة وإن كانت مطلقة وغير مقيّدة بالفحص، إلّا أنّ إطلاقها - مع ذلك - قد قُيِّد بالإجماع المنعقد على اعتبار الفحص.

مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ إطلاقها قد قُيّد باستقلال العقل بوجوب الفحص، ولا يجوز أن يعمل بإطلاقها، وإلّا لكان بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً؛ ضرورة أنّه لو لم يفحص عن المعجزة بحكم العقل، لم

ص: 407


1- نهاية الدراية 1: 649.

يمكن إثبات النبوّة، حيث إنّ إثباتها متوقّف على وجوب النظر إلى المعجزة، وبدونه لاطريق لنا إلى إثبات النبوّة. وهذا يعني: أنّ الفحص في المقام هو من صغريات الفحص عن معجزة النبيّ.

وبالجملة: فكما أنّ ترك النظر إلى المعجزة قبيح بحكم العقل؛ لأنّه يوجب نقض الغرض الداعي إلى إرسال الرسل، فكذلك ترك الفحص عن الأحكام الشرعيّة بعد أن وجّهها الشارع إلى العباد، وبنفس الملاك.

فتحصّل: أنّ وجوب الفحص في باب الاُصول العمليّة قد أخذ في الموضوع، فقبل الفحص لا شيء في البين أصلاً حتى يمكن التمسّك به، وهذا بخلاف الاُصول اللّفظيّة، فإنّ الفحص فيها - كما عرفنا - فحص عن المانع، فإن وُجِد، وإلّا، يجوز التمسّك بالإطلاق.

أضف إلى ذلك: أنّ هناك علماً إجماليّاً بوجود مقيّداتٍ ومخصّصات، وهذا العلم الإجماليّ مستفاد ممّا وصل إلى أيدينا من عمومات وإطلاقات في آيات الكتاب العزيز، وفي الأخبار المعتبرة الموجودة في الكتب الثلاثة، كما هو معلوم لكلّ من راجعها، وكذلك، فلدينا علم إجماليّ بوجود أمارات وحجج تمنع من التمسّك بالاُصول العمليّة.

ومن المعلوم: أنّ العمل بتلك العمومات يوجب طرح الحجّة، وترك العمل بالاُصول العمليّة، وليس ترك الفحص سوى عدم الاعتناء بتلك الأمارات والحجج، فلا يكون جائزاً البتّة، لكونه مخالفاً لما تقتضيه منجّزيّة العلم الإجماليّ.

ص: 408

فتلخّص: أنّه عند الشكّ لا يمكن التمسّك بأصالة العموم والإطلاق، وإنّما يمكن التمسّك بهما إذا لم يكن العامّوالمطلق في معرض التخصيص أو التقييد؛ لأنّ المتكلّم وإن لم يخصّص العامّ ولم يقيّد المطلق، ولكنّه كثيراً ما يعتمد على المخصّصات والمقيّدات المنفصلة.

وبعبارةٍ أُخرى: ففي مورد الشكّ، يحتمل أن لا يكون المتكلّم قد بيّن تمام مراده ومقصوده في كلام واحد، ومعلوم أنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يكون جائزاً إذا كان المتكلّم في مقام البيان، ونحن حينما نراجع أخبار أئمّة الهدى( نرى أنّهم كثيراً ما يلقون العامّ، ويعتمدون على الإتيان فيما بعد بالمخصّصات أو المقيّدات، بل قد يلقي الإمام السابق العامّ ويأتي المخصّص على لسان الامام الآتي بعده، والعامّ الذي يكون هذا شأنه، فمن الظاهر أنّه لا يمكن أن يُعتمد عليه إلّا بعد الفحص.

وإن شئتَ قُلتَ: إنّ العموم والإطلاق اُصول عقلائيّة، والمدرك فيها إنّما هو بناء العقلاء وسيرتهم، ولا يمكن إثبات استقرار هذه السيرة قبل الفحص، ولو فرض عدم القطع بعدم جواز العمل.

ومعه: فيكون الشكّ في ثبوت المخصّص كافياً في الخروج عن القدر المتيقّن الذي انعقدت السيرة وبناء العقلاء عليه. ولكنّ عدم جريان سيرة العقلاء، إنّما هو فيما إذا كانت العمومات أو المطلقات واردةً في معرض التخصيص والتقييد، وأمّا بعد الفحص وعدم العثور على المخصّصات أو المقيّدات يُعلم أنّ تلك الموارد خارجة عن أطراف ما هو المعلوم

ص: 409

بالإجمال، وبه يحصل الإطمئنان بالخروج، ويُعلم أنّه مراد المتكلّم هو العموم أو الإطلاق.وخلاصة البحث: أنّ العمل بالعامّ الذي هو في غير معرض التخصيص جائز حتى من دون الفحص، وأمّا العامّ الوارد في معرض التخصيص، فلا يجوز العمل به إلّا بعد الفحص.

وقد تحصّل ممّا أسلفناه: أنّ وجوب الفحص له في كلٍّ من الاُصول العمليّة واللّفظيّة مدركان، يشتركان في أحدهما، وهو العلم الإجماليّ، ويفترقان في الآخر؛ لأنّ المدرك الآخر لوجوب الفحص في الاُصول العمليّة هو حكم العقل مستقلّاً بلزوم أن يتحرّك العبد على وفق ما تقتضيه وظيفته بالبيان المتقدّم، وأمّا في الاُصول اللّفظيّة فهو أن يكون العامّ في معرض التخصيص والتقييد.

غير أنّه قد يقال:

لا يمكن أن نجعل المدرك لوجوب الفحص في كلا البابين هو العلم الإجماليّ، وذلك ببيان: أنّ للعلم الإجماليّ في باب الاُصول العمليّة مدركين:

الأوّل: أنّا نعلم إجمالاً بأنّ في الشريعة أحكاماً إلزاميّة على خلاف الاُصول النافية، فلا يمكن لنا أن نجري هذه الاُصول.

الثاني: هو العلم بثبوت أحكام إلزاميّة فيما بأيدينا من الكتب، ولا يخفى: أنّ دائرة هذا العلم الإجماليّ أضيق من دائرة العلم الإجماليّ

ص: 410

الأوّل، فإذا نحن فحصنا عن الأحكام الإلزاميّة في الكتب التي بأيدينا، فإنّ فحصنا هذا يوجب انحلال العلم الثاني، وبما أنّ دائرة العلم الإجماليّ الأوّل أوسع، فيكون العلم الأوّل باقياً على حاله، ولازم ذلكهو أنّه لا يمكن أن نجري الاُصول النافية مطلقاً حتى بعد الفحص.

وهذا نظير ما إذ علمنا بأنّ في جميع الغنم الذي بأيدينا موطوء، وعلمنا - أيضاً - أنّ في البيض منها موطوءاً، فتفحّصنا عن البيض وعثرنا على مقدار من الموطوء فيها الذي تعلّق علمنا، فهذا لا يكون سبباً لانحلال العلم الإجماليّ على الإطلاق، أي: في المجموع من البيض والسود، وإن كان قد انحلّ بالنسبة إلى البيض.

ولكنّ هذا الإشكال - كما هو واضح - لا يجري في الاُصول اللّفظيّة؛ لأنّه ليس هناك علمان يكون أحدهما أوسع من الآخر، بل العلم الإجماليّ من أوّل الأمر قد تعلّق بأنّ ما في أيدينا من الكتب بأنّ هناك مخصّصاتٍ ومقيّدات.

ولكنّ الحقّ: أنّ هذا الإشكال مندفع رأساً، فإنّه بعد الفحص وحصول العلم بوجود مقدارٍ من الموطوء في الغنم البيض ينحلّ العلم الإجماليّ الأوسع والأوّل أيضاً، ولكن لا بانحلال حقيقيّ، كانحلال العلم الإجماليّ الصغير والأضيق بل بانحلالٍ حكميّ؛ لأنّ ما عثرنا عليه بعد الفحص من الأدلّة المتكفّلة للأحكام الإلزاميّة قابل لأن ينطبق على ما علم إجمالاً من الأحكام الإلزاميّة في الشريعة؛ إذ لا علم لنا بأنّ في

ص: 411

الشريعة أحكاماً إلزاميّةً أزيد ممّا تكفّلته الأدلّة التي عثرنا عليها، فهذه الأحكام التي تضمّنتها قابلة للانطباق على ما علم إجمالاً من الأحكام الثابتة في الشريعة.ومقامنا نظير ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، ثمّ علم تفصيلاً بنجاسة أحدهما المعيّن، واحتمل أن تکون النجاسة في المعيّن هي تلك النجاسة المعلومة بالإجمال في أحد الإناءين، فإنّ العلم الإجماليّ - حينئذٍ - ينحلّ، لاحتمال انطباق ما عُلِم نجاسته تفصيلاً على المعلوم بالإجمال، غاية الأمر: أنّه ليس بانحلالٍ حقيقيّ، بل هو انحلال حكميّ.

ففي مقامنا: بعد حصول العلم بوجود مقدار من الموطوء في البيض ينحلّ العلم الإجماليّ الأوّل - أيضاً -، وتخرج السود عن كونها طرفاً للعلم الإجماليّ، فلا يجب الاحتياط تجاهها.

هذا. ويمكن تصوير الإشكال بحيث يأتي على كلا البابين، بما حاصله:

أنّ العلم الإجماليّ بوجود أحكام إلزاميّة وبأنّ هناك مخصّصات ومقيّدات قد وردت فيما بأيدينا من الكتب، وإن كان يقتضي عدم إمكان جريان الاُصول اللّفظيّة والعمليّة قبل الفحص، إلّا أنّه بعد أن تفحّصنا وعثرنا على المقدار المتيقّن من تلك الأحكام والمقيّدات والمخصّصات، فلابدّ من أن ينحلّ العلم الإجماليّ، كما هو كذلك بالنسبة إلى كلّ علم إجماليّ يكون أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر؛ فإنّه

ص: 412

بالعثور على المقدار المتيقّن الذي هو الأقلّ ينحلّ العلم الإجماليّ، ويكون الأكثر شبهة بدويّة يجري فيه الأصل، فمثلاً: إذا علم بأنّه مدين لشخصٍ، ولكن شكّ في أنّه مدين له بعشرة دنانير أو بخمسة عشر ديناراً، فإنّه بالنسبة إلى العشرة قدر متيقّن، ويجري الأصل بالنسبة إلى الخمسة الزائدة، أو كما إذا علمبأنّ في هذه القطيعة من الغنم موطوء، وتردّد بين أن يكون عشرة أو عشرين، فإنّه بعد العثور على العشرة، التي هي القدر المتيقّن، ينحلّ العلم الإجماليّ لا محالة.

وفي المقام، بعد أن عثرنا على مقدار متيقّن من الأحكام الإلزاميّة ومن المقيّدات والمخصّصات الواقعة في الكتب، بحيث يكون الزائد مشكوكاً، فلابدّ من أن ينحلّ العلم الإجماليّ، ولا يجب الفحص في سائر الشبهات، بل ينبغي أن تجري فيها الاُصول اللّفظيّة والعمليّة بلا فحص، مع أنّهم لا يقولون بذلك، بل هم يوجبون الفحص عن كلّ شبهة شبهة عند العمل، ولا يلتفتون إلى انحلال العلم الإجماليّ، ومن هنا يُعرف: أنّ المدرك لوجوب الفحص يجب أن يكون غير العلم الإجماليّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ هذا الإشكال قابل للدفع، فإنّ هناك قسمين من العلم الإجماليّ: فإنّ المعلوم بالإجمال تارةً لا يكون معلّماً بعلامة يُشار إليها بها، وأُخرى يكون معلّماً بعلامة، والعلم الإجماليّ ينحلّ بالعثور على القدر المتيقّن في القسم الأوّل، دون القسم الثاني، فإنّه لا ينحلّ بذلك، بل يكون حاله حال دوران الأمر بين المتباينين.

ص: 413

والضابط للقسمين: أنّ العلم الإجماليّ في القسمين إنّما يكون على سبيل المنفصلة المانعة الخلوّ التي تنحلّ إلى قضيّتين حمليّتين، وهاتان القضيّتان:

تارةً: تكونان من أوّل الأمر إحداهما متيقّنة والأُخرى مشكوكة، بحيث يكون العلم الإجماليّ قد نشأ من انضمامإحدى هاتين القضيّتين إلى الأُخرى، كمثال الدين، كما لو علم إجمالاً بأنّه مدين لزيد، وتردّد الدين بين أن يكون خمسة دنانير أو عشرة، أو كمثال القطيعة من الغنم يتردّد الموطوء فيها بين أن يكون خمسة أو عشرة، فإنّ هذا العلم الإجماليّ ليس إلّا عبارة عن قضيّة متيقّنة، وهي: كونه مديناً لزيد بخمسة دنانير، أو بأنّ في هذه القطيعة خمس شياة موطوءة، وقضيّة مشكوكة، وهي: كونه مديناً لزيد بخمسة دنانير زائداً على الخمسة المتيقّنة، أو أنّ في هذه القطيعة خمس شياة موطوءة زائداً على الخمسة المتيقّنة، ففي مثل هذا العلم الإجماليّ ينحلّ حتماً بعد العثور على المقدار المتيقّن، فإنّه لا علم في الواقع إلّا بذلك المقدار المتيقّن، وأمّا الزائد عليه فهو مشكوك من أوّل الأمر، ولم يتعلّق به العلم أصلاً، ولا يصحّ جعله طرفاً للعلم.

وأُخرى: لا تكون القضيّتان على هذا الوجه، أي: بأن يكون من أوّل الأمر إحداهما متيقّنة والأُخرى مشكوكة، بل تعلّق العلم بالأطراف على وجهٍ تكون جميع الأطراف ممّا تعلّق العلم بها بوجه، بحيث لو كان الأكثر

ص: 414

هو الواجب لكان ممّا تعلّق به العلم وتنجّز بسببه، وليس الأكثر مشكوكاً من أوّل الأمر، بحيث لم يصبه العلم بأيّ وجهٍ من الوجوه، بل كان الأكثر - على تقدير ثبوته في الواقع - ممّا أصابه العلم، وذلك في كلّ ما يكون المعلوم بالإجمال معلّماً بالعلامة كان قد تعلّق العلم به بتلك العلامة، فيكون كلّ ما انطبقت عليه تلك العلامة ممّا قد تعلّق به العلم.وذلك كما إذا علمت أنّي مديون لزيد بما في الدفتر، فإنّ جميع ما في الدفتر من ديون زيد قد أصبح متعلّقاً للعلم، سواء كان خمسة أو عشرة، فإنّه لو كان دين زيد عشرة فقد أصابه العلم، وذلك بسبب وجوده في الدفتر.

وإذا عرفت ذلك، فنقول: ما نحن فيه من قبيل العلم الإجماليّ الذي يكون المعلوم بالإجمال فيه معلّماً، والذي يقتضي الفحص التامّ، ولا ينحلّ بالعثور على المقدار المتيقّن؛ فإنّ العلم - في محلّ الكلام - قد تعلّق بأنّ فيما بين أيدينا في الكتب مقيّداتٍ ومخصّصات وأحكاماً إلزاميّة، فيكون نظير تعلّق العلم بأنّي مديون لزيد بما في الدفتر.

وقد عرفت أنّه في مثل هذا العلم، لابدّ من الاحتياط؛ لأنّ هذا العلم الإجماليّ لابدّ فيه من الفحص التامّ، ولا ينحلّ بالعثور على القدر المتيقّن، بخلاف العلم الإجماليّ الأوّل، أعني: غير المعلّم، فإنّه - كما صار واضحاً - ينحلّ بالعثور على القدر المتيقّن.

هذا كلّه لو جعلنا المدرك لوجوب الفحص هو العلم الإجماليّ.

ص: 415

وأمّا لو قلنا بأنّ الدليل على وجوب الفحص هو أن دأب المتكلّم وديدنه هو التعويل على المنفصلات، فحينئذٍ: لا فائدة ترجى من الفحص، ولا يمكن الأخذ بالعموم، ولا المطلقات، ولو بعد الفحص عن المقيّدات والمخصّصات؛ لأنّ هذا الفحص لا يغيّر تلك العمومات والمطلقات عن كونها في معرض التخصيص، وعن كون دأب المتكلّم هو التعويلعلى المنفصلات؛ إذ لا دخل للفحص في ذلك كما هو ظاهر، وهو لا يوجب قوّة أصالة الظهور والعموم التي ضعفت بسبب خروج المتكلّم عن طريق المحاورات العرفيّة، وهو بيان تمام مراده بكلامٍ واحد؛ إذ في كلّ عامٍّ أتى به المتكلّم مع خروجه عن هذا الطريق، يحتمل أن يكون قد عوّل فيه على مجيء المخصّص المنفصل، ولم يكن ذلك المخصّص في الكتب التي بين أيدينا، ولا يوجد ما يُدفع به هذا الاحتمال.

ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن التمسّك بالعموم والإطلاق؛ لأنّ الغرض لم يتعلّق بواقع مراد المتكلّم، حتى يقال بأنّه بعد الفحص - أيضاً - لا يمكن أن يصل إلى واقع مراده، كما مثّل لذلك بعض أعاظم المحقّقين(رحمة الله) بما:

«لو فُرض أنّ أحد التجّار كتب إلى طرفه يخبره بسعر الأجناس في بلدٍ، وكان الكاتب ممّن يعتمد على القرائن في بيان مراده، فإنّ هذا الكتاب لو وقع بيد ثالثٍ، لا يمكنه العمل على ما تضمّنه؛ لأنّه لا يمكن الحكم بأنّ

ص: 416

واقع مراد الكاتب هو ما تضمّنه ظاهر الكتاب، مع أنّ هذا الثالث ليس له غرض سوى استخراج واقع مراد الكاتب»(1).

وأمّا إذا لم يتعلّق الغرض باستخراج المراد الواقعيّ للمتكلّم، بل كان الغرض هو أن يصبح كلام المتكلّم حجّة ومعذّراً في مقام المحاجّة والمخاصمة، فلابدّ من الأخذ بما هو ظاهر كلامه، بحيث إنّ التعويل على المخصّص المنفصل لا يوجبزائداً على الفحص شيئاً آخر؛ فإنّ بناء العقلاء في محاوراتهم على ذلك.

وليس حال الأحكام الشرعيّة إلّا كحال الأحكام العرفيّة الصادرة عن الموالي العرفيّين والملقاة إلى عبيدهم؛ فإنّه لا يشكّ في أنّهم يلزمون عبيدهم بالأخذ بظاهر العموم أو الإطلاق في كلام المولى بعد الفحص عن المخصّصات والمقيّدات واليأس عن الظفر بها، إذا كان شأن المولى التعويل على المنفصل، وليس للعبيد عدم العمل بمقتضى الظهور من العموم أو الإطلاق والاعتذار عن ذلك باحتمال أنّ مراد المولى قد يكون شيئاً آخر غير ما يُفهم من ظاهر كلامه، كما أنّه ليس للمولى توبيخ العبد عند أخذه بالظاهر، إذا لم يكن الظاهر مطابقاً لمراده الواقعيّ.

وخلاصة البحث: أنّ عدم جواز الأخذ بالعموم والمطلقات بعد أن كان من ديدن المولى التعويل على المنفصلات، إنّما يكون قبل

ص: 417


1- فوائد الاُصول 2: 546.

الفحص عن المخصّصات والمقيّدات، وأمّا بعد الفحص، فالعقل والعقلاء يلزمون العبد بالأخذ بالظواهر، إذ يكون ظاهر كلام المولى حجّة على العبد، ولكلّ من المولى والعبد أن يُلزم الآخر بما هو مقتضى ذلك الظاهر.

نعم، لو قلنا بأنّ اعتبار الظهور ليس من باب بناء العقلاء، بل من باب إفادة الاطمئنان أو الظنّ الشخصيّ بالمراد الواقعيّ، لكان للإشكال المزبور وجه؛ لوضوح أنّ الفحص لايوجب الظنّ أو الاطمئنان بالمراد بالنسبة إلى المتكلّم الذي كان من شأنه التعويل على المنفصل.

ولكنّ الصحيح - كما هو مقرّر في محلّه -: أنّ حجّيّة الظهور إنّما هي من باب بناء العقلاء على الأخذ بالظهورات، ولو من أجل الكشف النوعيّ الذي للظهور عن المراد، وحينئذٍ: فبناء العقلاء على العمل بالظاهر لا يستقرّ إلّا بعد تماميّة الفحص عن المخصّص، كما هو واضح، فتأمّل جيّداً.

في مقدار الفحص اللّازم

الكلام هو في مقدار الفحص بعد الفراغ عن أصل لزومه، قال صاحب الكفاية(قدس سره):

«وقد ظهر لك بذلك أنّ مقدار الفحص اللّازم ما به يخرج عن المعرضيّة له، كما أنّ مقداره اللّازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدلّ

ص: 418

بها، من العلم الإجماليّ به، أو حصول الظنّ بما هو التكليف، أو غير ذلك، رعايتها، فيختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى»(1).

وحاصل ما أفاده): أنّ مقدار الفحص اللّازم تابع لدليل وجوبه، فإن كان دليله العلم الإجماليّ، فالواجب الفحص بمقدار ما ينحلّ به العلم الإجماليّ، وهو الظفر بمخصّصاتٍبمقدار المعلوم بالإجمال حتى يخرج العامّ عن أطراف العلم الإجماليّ الذي يكون مانعاً من صحّة التمسّك بأصالة العموم.

وإن كان دليل وجوب الفحص هو عدم حصول الظنّ بالمراد قبل الفحص عن المخصّص، فلابدّ من الفحص بمقدار يوجب الظنّ بعدم التخصيص لكي يحصل الظنّ بإرادة المتكلّم للعامّ.

وإن كان الدليل على وجوبه هو عدم الدليل على حجيّة الخطابات لغير المشافهين، فاللّازم - حينئذٍ - الفحص إلى أن يقوم الإجماع على الحجّيّة.

وأمّا المخصّص المتّصل المحتمل احتفاف العامّ به فهل يلزم الفحص عنه أم لا؟

قال في الكفاية: «ثمّ إنّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان ولم يصل، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز،

ص: 419


1- كفاية الاُصول: ص 227.

وقد اتّفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقاً، ولو قبل الفحص عنها، كما لا يخفى»(1).

الخطابات الشفاهيّة

الأقوال في المسألة:

هل تختصّ الخطابات الشفاهيّة بالمشافهين الحاضرين في مجلس التخاطب، فلا تشمل الغائبين، فضلاً عن المعدومين،أم أنّها لا تختص باُولئك، بل هي تشمل الجميع، حتى المعدومين، فضلاً عن الغائبين؟

ورد في المقام أقوال، عدّها بعض الشارحين للكفاية خمسة، قال:

«القول الأوّل: ما عن الوافية من الشمول من دون تصريح بكونه على وجه الحقيقة أو المجاز.

الثاني: الشمول حقيقة لغةً، وهو المحكيّ عن بعضهم.

الثالث: الشمول حقيقةً شرعاً، ونفى عنه البعد الفاضل النراقي.

الرابع: الشمول مجازاً، وهو المحكيّ عن التفتازاني... إلى أن يقول:

الخامس: إمكان الشمول على وجه المجاز بنحوٍ من التنزيل والادّعاء إذا كان فيه فائدة يتعلّق بها أغراض أرباب المحاورة وأصحاب المشاورة، ولعلّه المشهور كما قيل»(2).

ص: 420


1- المصدر نفسه: ص 227.
2- انظر: منتهى الدراية 3: 579.

تحرير محلّ النزاع:

قال في الكفاية:

«فاعلم أنّه يمكن أن يكون النزاع في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب، هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين، كما صحّ تعلّقه بالموجودين، أم لا؟ أو في صحّة المخاطبة معهم، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب،أو بنفس توجيه الكلام إليهم، وعدم صحّتها، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين، بل المعدومين، وعدم عمومها لهما، بقرينة تلك الأداة».

ثمّ قال): «ولا يخفى: أنّ النزاع على الوجهين الأوّلين يكون عقليّاً، وعلى الوجه الأخير يكون لغويّاً»(1).

ثمّ إنّه(قدس سره) أفاد أنّه لا شبهة في عدم صحة توجّه التكليف الفعليّ إلى المعدوم عقلاً، وذلك لمكان عدم إمكان حصول الانبعاث فعلاً من المعدوم، بل المعدوم ليس قابلاً للبعث ولا للانزجار؛ فإنّ القابليّة للبعث والانزجار منحصرة فقط في من يكون له حظّ من الوجود، والمعدوم ليس كذلك.

ثمّ استدرك قائلاً:

«نعم، هو بمعنى مجرّد إنشاء الطلب بلا بعثٍ ولا زجرٍ لا استحالة فيه أصلاً، فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة، فالحكيم تبارك وتعالى يُنشئ - على

ص: 421


1- كفاية الاُصول: ص 228.

وفق الحكمة والمصلحة - طلب شيءٍ قانوناً من الموجود والمعدوم حين الخطاب، ليصير فعليّاً بعدما وُجد الشرائط وفُقد الموانع بلا حاجةٍ إلى إنشاءٍ آخر، فتدبّر»(1).

وحاصل هذا الاستدراك: أنّ الطلب إذا كان بمعنى الإنشاء، حيث لا يكون مشتملاً على الطلب الفعليّ، وعلى البعث والزجر الفعليّين، فإنّه - حينئذٍ - لا استحالة في تعلّقهبالمعدومين، بمعنى: أنّه متى تحقّق شرطه وفُقِد المانع منه فإنّه يكون فعليّاً، وذلك كإنشاء الوقف للمعدومين تبعاً للموجودين؛ لأنّ الطلب لو كان إنشاءً محضاً، فالإنشاء - كما هو معلوم - خفيف المؤونة، ولا يتوقّف على وجود المكلّف وقدرته، بل يكفي في صحّته أن يكون له غرض عقلائيّ يترتّب عليه ولو بعد وجود المكلّف ووجدانه للشرائط.

وعليه: فإمكان تعلّق الطلب الإنشائيّ المحض بالمعدوم بمكانٍ من الإمكان، تماماً كما هو الشأن في كلّ تكليفٍ استقباليّ، فإنّه لكونه مأخوذاً بقيد الوجود كان بمكانٍ من الإمكان.

وكيف كان، فالكلام في هذه المسألة يقع في اُمور:

الأمر الأوّل:

أنّ المراد من الخطابات الشفاهيّة هو كلّ كلام كان مبدوءاً بأداة

ص: 422


1- المصدر نفسه.

الخط-اب، كق-وله سبح-انه وتع-الى: ﴿يَا أَي-ُّهَا الَّ-ذِينَ آمَنُ-واْ﴾(1)، وق-وله: ﴿يَا أَي-ُّهَا النَّاسُ﴾(2)، وهذا الخطاب لا يشمل الغائب، فضلاً عن المعدوم، وذلك لمكان اشتماله على أداة الخطاب التي تستدعي مخاطَباً حاضراً وموجوداً.وأمّا الكلام غير المصدّر بأداة الخطاب، كقوله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾(3)، فإنّه يشمل حتى المعدومين؛ وذلك لإمكان أن يكون مجعولاً على نحو القضايا الحقيقيّة، وهذه - كما هو معلوم - لا يشترط فيها وجود الموضوع في الخارج بالفعل، بل شأنها فرض وجود الموضوع؛ وحيث إنّ نسبة الكلّيّ الطبيعيّ إلى جميع أفراده، الموجودة والمعدومة، الحاضرة والغائبة، على حدٍّ سواء، فإذا ورد الحكم على الطبيعة بوجودها الساري في أفرادها، فإنّه يسري حتى إلى المعدومين من الأفراد.

وقال المحقّق النائيني(قدس سره): «الكلام يقع تارةً في القضايا الخارجيّة التي حُكم فيها على أشخاصٍ مخصوصين، وأُخرى في القضايا الحقيقيّة التي حُكم فيها على الموضوعات المقدَّر وجودها. أمّا القضايا الخارجيّة، فالحقّ فيها أن يقال باختصاص الخطاب بالمشافهين، فإنّ خطاب

ص: 423


1- انظر على سبيل المثال: البقرة: الآية 104.
2- انظر - مثلاً -: البقرة: الآية 21.
3- آل عمران: الآية 97.

الغائب، فضلاً عن المعدوم، يحتاج إلى تنزيلٍ وعنايةٍ، وظهور الخطاب في أنّه بلا عناية يَدفع احتمالها.

وأمّا القضايا الحقيقيّة - كما هو محلّ الكلام - فالصحيح فيها هو القول بعموم الخطاب للمعدوم والغائب والحاضر على نهجٍ واحد، فكما أنّ الحكم في القضايا الحقيقيّة بحسب مقام الثبوت يعمّ الغائبين والمعدومين، كذلك الخطاب في مقام الإثبات يعمّهما أيضاً، ضرورة أنّ توجيه الخطاب إلىالغائب أو المعدوم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهما منزلة الموجود، وهذا التنزيل إنّما هو مقوّم كون القضيّة حقيقيّةً، لا أنّه أمر زائد عليه ليكون مدفوعاً بالأصل»(1).

وملخّصه: أنّ الحقّ في القضايا الخارجيّة هو اختصاص الخطاب بالمشافهين؛ لأنّ خطاب الغائب، فضلاً عن المعدوم، يحتاج إلى تنزيل وعناية، وهما خلاف ظاهر الخطابات، فيكونان مدفوعين بالأصل.

وأمّا القضايا الحقيقيّة، وهي القضايا المحكوم فيها على الموضوع المقدّر الوجود، كما هو الشأن في أغلب القضايا الشرعيّة، فالحقّ فيها هو عموم الخطاب للمعدوم والحاضر والغائب على حدٍّ سواء، وذلك لتقوّم هذا النوع من القضايا بالتنزيل، أعني: تنزيل الغائب منزلة الحاضر، والمعدوم منزلة الموجود.

ص: 424


1- أجود التقريرات 1: 490 - 491.

وعليه: فلا مجال لدفع احتمال التنزيل في القضايا الحقيقيّة بأصالة الظهور، بل أصالة الظهور هي تقتضي تعيين هذا الاحتمال ولزوم الحمل والبناء عليه.

الأمر الثاني:

هل البحث في مسألة عموم الخطابات الشفاهيّة للغائبين والمعدومين عقليّ أم لفظيّ؟

الحقّ: أنّه يمكن للبحث فيها أن يكون عقليّاً ويمكن أن يكون لفظيّاً:بيان ذلك: أنّه إذا كان البحث عن إمكان مخاطبة المعدوم وعدمه فالنزاع حينئذٍ عقليّ.

وإذا كان البحث عن أنّ أداة الخطاب هل هي موضوعة لخصوص التخاطب بها مع الحاضر المشافه أم أنّها موضوعة لما يشمل الخطاب بها مع المعدوم، فضلاً عن الغائب، كان النزاع لفظيّاً.

وإذا قلنا بأنّها موضوعة لما يتناول مخاطبة المعدومين أيضاً، فهذا قابل لأن يُتصوّر على قسمين؛ فإنّه: تارةً يكون على نحو الاستقلال، وأُخرى: مع الانضمام إلى الغائبين.

الأمر الثالث:

في بيان الثمرة من هذا النزاع:

فإنّه بناءً على اختصاص الخطابات الشفاهيّة بالمشافهين، وعدم ثبوت

ص: 425

العموم لها، فلا يخفى: عدم صحّة التمسّك بها في حقّ الغائبين، فضلاً عن المعدومين؛ لوضوح أنّ هؤلاء - حينئذٍ - لا يكونون هم المخاطبين بما تضمّنته تلك الخطابات، فليس لأحدٍ التشبّث بها لإثبات التكاليف في حقّهم، بل لا يمكن إثبات التكليف في حقّهم - حينئذٍ - إلّا بالاستناد إلى مثل الإجماع أو قاعدة الاشتراك.

وأمّا لو قلنا بأنّ الخطابات الشفاهيّة متوجّهة إلى المعدومين كالموجودين، فالغائبون عندئذٍ بأنفسهم مخاطبون، فيكون ظاهر الخطابات حجّةً في حقّهم كالمشافهين بلا فرق، فيجوز لهم التمسّك بعموم الأحكام وإطلاقاتها، ولا نحتاج في إثبات شمول التكليف لهم إلى أمرٍ زائدٍ على الخطاب نفسه، فلاتصل النوبة إلى لزوم الرجوع إلى مثل الإجماع أو قاعدة الاشتراك.

وقد استشكل صاحب الكفاية على هذه الثمرة المدّعاة، بما لفظه:

«وفيه: أنّه مبنيّ على اختصاص حجّيّة الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وقد حُقِّق عدم الاختصاص بهم. ولو سُلِّم، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع، بل الظاهر أنّ الناس كلّهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك، وإن لم يعمّهم الخطاب، كما يومئ إليه غير واحدٍ من الأخبار»(1).

ص: 426


1- كفاية الاُصول: ص 231.

وحاصل ما أورده(قدس سره)على هذه الثمرة إشكالان:

أوّلهما: أنّ هذه الثمرة المذكورة إنّما تتمّ فيما لو كنّا نقول بأنّ حجّيّة الظواهر مختصّة بمن هم المقصودون بالإفهام، وأمّا لو كنّا نقول بأنّها غير مختصّة بهم، وأنّ الظواهر حجّة مطلقاً، حتى بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه، فلا تكون هذه ثمرة لشمول الخطابات للمعدومين كما هو واضح، بعد أن كانت الظواهر حجّة في حقّهم، ولو لم يكونوا مقصودين بالإفهام، ولم تشملهم الخطابات.

والإشكال الثاني: بعد تسليم الكبرى المتقدّمة، وهي اختصاص حجّيّة الظهور بالمقصودين بالإفهام، إلّا أنّنا مع ذلك لا نسلّم أنّ المقام من صغريات هذه الكبرى، أي أنّنا لانقبل بأن يكون المقصود بالإفهام هم خصوص المشافهين، وذلك لعلمنا بأنّ المعدومين من الأفراد مكلّفون بنفس تكليف الذي خوطِب به المشافهون، فهم في ذلك كالموجودين بلا فرق.

فنفس الخطاب الحقيقيّ، وإن لم يكن شاملاً للمعدومين، ولكنّهم مع ذلك مقصودون بالإفهام، ولا منافاة بين أن يقال بكون الخطاب مختصّاً بالمشافهين، وبين أن يكون بأنّه لو قصد به الإفهام يكون عامّاً يشمل حتى المعدومين.

والحاصل: أنّ جميع الناس إلى يوم القيامة مقصودون بالإفهام، كما يظهر ذلك من الأخبار، فلو لم يكن ظاهر الكتاب والسنّة حجّة في حقّ

ص: 427

الغائبين والمعدومين، لما كان التمسّك بهما مانعاً عن الضلال، كما أشير إليه في حديث الثقلين، وهو قوله6:

«إنّي تارك فيكم الثقلين، أما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اﷲ، وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(1).

وهكذا ما ورد من الأخبار الآمرة بعرض الأخبار المتعارضة على الكتاب والسنّة، والأخذ بما يوافقهما وطرح ما يخالفهما، حيث يظهر من هذه الأخبار: أنّ ظواهر الآيات والروايات تكون حجّة في حقّ المعدومين أيضاً.وقد يقال: بأنّه يمكن ردّ هذه الثمرة بشكل آخر، وهو أن يقال:

إنّا لا نرى مانعاً من التمسّك بالإطلاق لإثبات اتّحاد المعدومين مع المشافهين في الأحكام، حتى ولو قلنا بأنّ الخطاب لا يشمل المعدومين أيضاً؛ فإنّه لو كان للوصف، وهو حضور المعصوم%، دخل في ثبوت الحكم، كوجوب صلاة الجمعة مثلاً، لزم تقييد الخطاب به، ولكنّ المفروض عدمه؛ لأنّ الإطلاق محكّم، ومقتضى ذلك: عدم دخل ذلك الوصف في الحكم، فالخطابات تشمل المعدومين أيضاً.

ص: 428


1- هذا الحديث من الأحاديث المشهورة المتواترة عن النبيّ - ، ومن طرق الفريقين، أخرجه أكابر علماء الإسلام من السنّة والشيعة وأثبتوه - بألفاظٍ مختلفة ولكن متقاربة - في صحاحهم وسننهم ومسانيدهم ومصادرهم الحديثيّة المعتبرة. يُراجَع - مثلاً - : أمالي الصدوق: ص 500، ح15؛ وبصائر الدرجات: ص 433، ح3.

وربّما يتوهّم: أنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق في المقام، حيث لم يكن الخطاب عامّاً ليكون شاملاً للمعدومين من أوّل الأمر، والوصف الكذائيّ الذي يتّصف به المشافهون دون المعدومين يمكن أن يكون صالحاً لمنع التمسّك بالإطلاق، وهو يصلح للقرينيّة على التقييد، ومعه: فلا يكون التمسّك بالإطلاق ممكناً.

والجواب عن هذا التوهّم: أنّ اتّصاف المشافهين بوصفٍ يكون المعدومون فاقدين له لا يكون - بمجرّده - مانعاً من صحّة التمسّك بالإطلاق، لما بيّنّاه من أنّه لو كان الوصف - وهو حضور الإمام% - معتبراً، لكان على المتكلّم بيانه، فبتركه له لا يمكن أن يُستفاد من نفس الخطاب التقييد به، بل يكون تركه بنفسه هو الدليل على عدم اعتباره وعلى عدم لحاظ المولى له، فيكون التمسّك بالإطلاق لرفع القيد غير المعبّر عنه في الكلام، لا بقرينة المقال ولا بقرينة الحال،محكّماً، بلا فرق بين أن يكون الخطاب في نفسه شاملاً للمعدومين أو لا.

وإذا عرفت هذا، فالكلام في عموم الخطابات الشفاهيّة للغائبين والمعدومين تارةً فيما هو من قبيل القضايا الخارجيّة، وأُخرى فيما هو من قبيل القضايا الحقيقيّة.

أمّا في الصورة الأُولى، فكما عرفنا من كلام المحقّق النائيني) الذي نقلناه آنفاً، فلا يمكن توجيه الخطاب إلى الغائب غير الملتفت إلى الخطاب، فضلاً عن المعدوم.

ص: 429

نعم، يجوز مخاطبته وتوجيه الخطاب إليه بعد تنزيل المعدوم منزلة الموجود، كما ورد في لسان الشاعر:

أيا شجر الخابور مالك مورقا*** كأنّك لم تجزع على ابن طريف

وفي قول القائل:

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلِ *** بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل

ولكن لا يخفى: أنّ فرض وجود الأفراد وتنزيل المعدومين منزلة الموجودين يتنافى مع كون القضيّة خارجيّة؛ لأنّ معنى كون القضيّة خارجيّة هو أن يكون الحكم فيها وارداً على الأشخاص الموجودين فعلاً في الخارج، لا على الأشخاص مطلقاً وإن كان الخطاب لا يتوجّه إليهم إلّا بعد فرض وجودهم.

وأمّا القضايا الحقيقيّة فهي تشمل الموجودين في مجلس التخاطب والمعدومين، بعدما كان الوجوب والحكم فيها وارداًعلى الموضوع المفروض الوجود، وبعد أن كان الخطاب فيها مبنيّاً على ذلك الفرض والتنزيل، فالأفراد جميعاً، سواء كانوا موجودين في زمن الخطاب وحاضرين في مجلس التخاطب أم لم يكونوا كذلك، بل كانوا معدومين وغير حاضرين، داخلون تحت الخطاب.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ أداة الخطاب إنّما هي موضوعة لخصوص ما يكون موجوداً في زمن الخطاب.

فصرف دعوىً بلا دليل، فلو فرض أنّه أمكن توجيه الخطاب على

ص: 430

نحو القضايا الحقيقيّة في عالم الجعل، ففي عالم الإثبات - أيضاً - يكون ذلك ممكناً.

وعليه: فالقول باختصاص وضع الأداة الأفراد لخصوص الخارجيّة الفعليّة دون غيرها يكون مجرّد دعوىً بلا موجب ودليل.

اللّهمّ إلّا إذا كنّا نقول بأنّ القضايا الشرعيّة لا تنحلّ إلى قضايا حقيقيّة، بل هي من قبيل القضايا الخارجيّة، ولكن قد أبطلنا ذلك في محلّه، وبيّنّا أنّ القضايا الشرعيّة إنّما تكون من باب القضايا الحقيقيّة لا الخارجيّة، فيأتي ما ذكرناه من أنّ الخطاب الشرعيّ يكون شاملاً حتى للمعدومين من الأفراد، لمكان تقوّم القضيّة الحقيقيّة بتنزيل المعدوم منزلة الموجود.

تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده؟

لو تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده كما في الآية الشريفة: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَب-َّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ

قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾، إلى قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾(1)، فهل يكون هذا التعقّب موجباً تخصيص العامّ بهذا البعض من الأفراد أم لا؟

ففي الآية الشريفة، فإنّ ضمير (وبعولتهنّ) يرجع إلى خصوص

ص: 431


1- البقرة: الآية 228.

الرجعيّات، بقرينة (أحقّ بردّهنّ)، وأمّا (المطلّقات) الواردة في صدر الآية عامّ شامل للرجعيّات ولغيرهنّ؛ لأنّه من الجمع المحلّى باللّام، فيقع البحث حينئذٍ في أنّ رجوع الضمير إلى خصوص الرجعيّات من المطلّقات هل هو موجب لتخصيص (المطلّقات) في صدر الآية وبيان أنّ المراد منه خصوص الرجعيّات أم لا؟

وقد ذكر في الكفاية ما لفظه:

«والتحقيق أن يقال: إنّه حيث دار الأمر بين التصرّف في العامّ بإرادة خصوص ما اُريد من الضمير الراجع إليه، أو التصرّف في ناحية الضمير، إمّا بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلى تمامه مع التوسّع في الإسناد، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقةً إلى الكلّ توسّعاً وتجوّزاً...»(1).وتوضيح ما أفاده(قدس سره): أنّ الأمر في المقام يدور بين التصرّف بأحد الظاهرين العامّ والضمير:

أمّا العامّ، فظاهره العموم، فيكون التصرّف به بالتخصيص وأن يُراد منه خصوص ما اُريد من الضمير الراجع إليه، فيكون المراد من المطلّقات خصوص الرجعيّات، ويكون المراد من قوله: (المطلّقات يتربّصن)، أي: الرجعيّات يتربّصن. فيكون الموضوع لكلا الحكمين المذكورين في الآية، أعني: الحكم بوجوب الأخذ بالعدّة، وبجواز رجوع الأزواج

ص: 432


1- كفاية الاُصول: ص 233.

في العدّة، هو الرجعيّات.

وأمّا في ناحية الضمير، فالظاهر - كما هو معلوم - تطابق الضمير مع المرجع في العموم والخصوص، كما يتطابقان في التذكير والتأنيث، والتصرّف في هذا الظاهر والخروج عنه، يكون:

إمّا بإرجاع الضمير إلى بعض ما يراد من العامّ، كالرجعيّات في الآية، وهو المعبّر عنه ﺑ (الاستخدام)، وهو على خلاف الأصل، لكونه يندرج تحت ما يُسَمّى عندهم ﺑ (المجاز في الكلمة).

وإمّا بارتكاب المجاز في الإسناد، بأن يكون المراد بالعامّ - أعني: (المطلّقات) - حقيقةً هو خصوص الرجعيّات، واُسند الحكم إلى جميع المطلّقات على سبيل المجاز، فيكون إسناد الحكم إلى البعض حقيقةً وإلى الكلّ مجازاً.وقد ذكر اُستاذنا المحقّق(قدس سره) أنّه «لا شكّ في أنّ التخصيص والاستخدام كلاهما خلاف الظاهر ومخالفان للأصل العقلائيّ، أي: أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام، فيتعارض الأصلان ويتساقطان إذا لم يكن مرجّح لأحدهما في البين. ونتيجته: الشكّ في ثبوت هذه الأحكام المذكورة في الآية الشريفة لغير الرجعيّات، فلابدّ من الرجوع إلى الاُصول العمليّة في غيرها»(1).

ص: 433


1- منتهى الاُصول 1: 463.

إلّا أنّ المحقّقين صاحب الكفاية والمحقّق النائيني" قدّما جريان أصالة العموم على أصالة عدم الاستخدام، وقالا بعدم جريان أصالة عدم الاستخدام، قال في الكفاية:

«كانت أصالة الظهور في طرف العامّ سالمةً عنها في جانب الضمير، وذلك لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو اتّباع الظهور في تعيين المراد، لا في تعيين كيفيّة الاستعمال، وأنّه على نحو الحقيقة أو المجاز، في الكلمة أو الإسناد، مع القطع بما يُراد، كما هو الحال في ناحية الضمير»(1).

وقال المحقّق النائيني):

«ولكنّ الشأن في جريان أصالة عدم الاستخدام حتى يعارض أصالة العموم. الأقوى: عدم جريان أصالة عدم الاستخدام:أمّا أوّلاً: فلابتناء الاستخدام في المقام على مجازيّة العامّ المخصّص، وأمّا بناءً على الحقيقة، فلا يلزم استخدام أصلاً حتى تجري أصالة عدم الاستخدام، وذلك لأنّ رجوع الضمير إلى المطلّقات الرجعيّة لا يوجب المغايرة بين ما يراد من المرجع وما يراد من الضمير...»، لأنّ استعمال المطلّقات في الرجعيّات التي يرجع الضمير إليها لا يوجب المجازيّة حتى يقال: بأنّ المراد من المرجع هو المعنى الحقيقيّ للّفظ، وأمّا المراد من الضمير فهو المعنى المجازيّ حتى تحصل المغايرة والاستخدام،

ص: 434


1- كفاية الاُصول ص 233.

فلا مغايرة بين المعنى الحقيقيّ ﻟ (المطلّقات) المذكورة في صدر الآية، وبين المطلّقات الرجعيّة التي يرجع الضمير إليها، بعدما قلنا بأنّ استعمال المطلقات في الرجعيات لا يوجب المجازيّة؛ لأنّ المطلقات موضوعة للطبيعة، وأمّا العموم والشمول فمستفادان من دليلٍ آخر، وهو مقدّمات الحكمة، مع كون المعنى الموضوع له اللّفظ محفوظاً في المطلّقات الرجعيّات.

هذا أوّل إشكالاتٍ ثلاثة أوردها المحقّق النائيني) على دعوى معارضة أصالة العموم بأصالة عدم الاستخدام وتأدية هذه المعارضة إلى التساقط بينهما.

وأمّا الإشكال الثاني، فقد عبّر عنه بقوله:

«وأمّا ثانياً: فلأنّ استفادة (الرجعيّات) في قوله تعالى: (وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ) ليس من نفس الضمير، بل يستفاد ذلك من عقد الحمل، وهو قوله تعالى: (أحقّ بردّهنّ)؛ حيث إنّه معلوم من الخارج أنّ ما أحقّ بالردّ هو خصوصالرجعيّات، فالضمير لم يرجع إلى الرجعيّات، بل رجع إلى نفس المطلّقات، وكان استفادة الرجعيّات من عقد الحمل، فيكون من باب تعدّد الدالّ والمدلول...».

وإنّما كان من هذا الباب لما عرفناه من أنّه قد اُريد من الضمير شيء، وهو نفس ما اُريد من العامّ، أعني: المطلّقات، واُريد من عقد الحمل شيء آخر، وهو الرجعيّات، فلا مغايرة أصلاً بين ما اُريد من المرجع وما

ص: 435

اُريد من الضمير، فأين يلزم الاستخدام؟!

وأمّا الإشكال الثالث - وهو المشار إليه في كلام الكفاية المتقدّم - فقد بيّنه(قدس سره)بقوله:

«وأمّا ثالثاً: فلأنّ الاُصول العقلائيّة إنّما تجري عند الشكّ في المراد، وفي المقام، لا شكّ في المراد من الضمير، وأنّ المراد منه المطلّقات الرجعيّات، وبعد العلم بما اُريد من الضمير لا تجري أصالة عدم الاستخدام حتى يلزم التخصيص في ناحية العامّ»(1).

وحاصله: أنّ الاُصول العقلائيّة لما كانت من الأدلّة اللّبّيّة، كان لابدّ فيها من الأخذ بالقدر المتيقّن منه خاصّةً، والقدر المتيقّن في المقام هو صورة عدم العلم بالمراد؛ فإنّه إذا لم يعلم المراد من لفظ (الأسد) - مثلاً -، بأنّه قد اُريد منه في كلام المتكلّم معناه الحقيقيّ أو المجازيّ، أعني: (الرجلالشجاع)؛ فإنّ بناء العقلاء هنا مستقرّ على إجراء أصالة الحقيقة.

وأمّا لو كان مراد المتكلّم من هذا اللّفظ معلوماً، وعلم بأنّه اُريد به (الرجل الشجاع) - مثلاً -، ولكن لم يعلم بأنّه معنىً حقيقيّ للفظ (الأسد) أم لا، فلا تجري أصالة الحقيقة لإدخال (الرجل الشجاع) في المعنى الحقيقيّ.

ص: 436


1- فوائد الاُصول 2: 552 - 553.

وفي المقام، حيث كان إرادة (الرجعيّات) معلومةً من الخارج، من الضمير في بعولتهّن، وإنّما كان الشكّ هنا في كيفيّة إرادتها منه، وأنّ إرادتها منه هل كانت بنحو الحقيقة أو المجاز، فلا يمكن جريان أصالة عدم الاستخدام حتى يلزم التخصيص في ناحية العامّ، وإنّما تجري أصالة العموم، أي: ظهور العامّ في العموم، فيحكم بوجوب التربّص على جميع المطلقات، ومعه: فلابدّ من القول بوجود الاستخدام.

فالنتيجة: أنّ أصالة عدم الاستخدام غير جاريةٍ رأساً حتى تنهض لمعارضة أصالة العموم، فإنّ الأصل في طرف العموم جارٍ.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ أصالة العموم إنّما تجري إذا لم يكن هناك ما يصلح للقرينيّة على التخصيص، وفيما نحن فيه، ما يصلح للقرينيّة موجود؛ لأنّ رجوع الضمير إلى بعض أفراد المطلّقات، وهي الرجعيّات خاصّةً، يشكّل قرينةً على أنّ المراد من العامّ إنّما هو الخاصّ.

وبعبارة أُخرى: فإنّ انعقاد الظهور للعامّ لتجري فيه أصالة العموم مبنيّ على عدم احتفاف العامّ بما يمنع من ظهوره منالعموم، كما في المقام، فإنّ في الآية ضميراً راجعاً للعامّ صالحاً لأن يمنع من انعقاد العموم له، وحينئذٍ: لا تجري أصالة العموم بعدما كان العموم مكتنفاً ومحتفّاً بضميرٍ بحيث يصبح أن يكون صالحاً للقرينيّة على عدم إرادة العموم منه، ومع وجود مثل هذه القرينة فلم ينعقد للعامّ ظهور في العموم أصلاً.

ولكنّ الحقّ: أنّ ما يصلح لأن يكون قرينةً لا يصل إجماله إلى العامّ إلّا

ص: 437

إذا كان هو مجملاً، وأمّا إذا كان معلوماً من جهة ما هو المراد منه، كما فى

الضمير الموجود في ذيل الآية، فإنّه لا يُعقل أن يكون سبباً لإجمال العامّ. على أنّ ما شكّ في قرينيّته لا يكون موجباً للإجمال مطلقاً.

الاستثناء المتعقّب لجملٍ متعدّدة:

الاستثناء الذي يأتي عقيب جمل متعدّدة - كالاستثناء في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأت-ُوا بِأَرْب-َعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا ل--َهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1)، وفي مثل قولك: (أكرم العلماء وأكرم الصلحاء وأكرم الشعراء إلّا الفسّاق) - هل هو ظاهر في الرجوع إلى الكلّ أو إلى خصوص الجملة الأخيرة، أو لا ظهور له في واحد منها،بل لابدّ في تعيين رجوعه إلى أحدها بعينه من قرينةٍ رافعةٍ للإجمال؟

وجوه وأقوال عدّة.

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سره) فقد فصّل بين أن تكون الجمل السابقة على الاستثناء مذكوراً فيها الموضوع والمحمول، كقولك: (أكرم العلماء، وضيّف السادات، ووقّر الاُدباء، إلّا الفسّاق منهم)، فيكون الاستثناء راجعاً

ص: 438


1- النور: الآيتان: 4 - 5.

إلى خصوص الأخيرة، وبين أن لا يكون كذلك، بل يكون الموضوع هو المذكور، دون المحمول، كقولك: (أكرم العلماء والسادات والاُدباء إلّا الفسّاق منهم) فيكون الاستثناء راجعاً إلى الجميع.

قال): «والتحقيق هو التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتقدّمة مشتملةً على الموضوع والمحمول، وبين ما إذا حُذِف فيها الموضوع. ففي الأوّل يرجع إلى خصوص الأخيرة، وفي الثاني يرجع إلى الجميع، مثال الأوّل: ما إذا قال: (أكرم العلماء وأضف الشعراء وأهن الفسّاق إلّا النحويّ)، أو قال: (أكرم العلماء وأكرم الشعراء وأكرم السادات إلّا النحويّ)، ومثال الثاني: ما إذا قال: (أكرم العلماء والشعراء والسادات إلّا النحويّ)»(1).

وما يمكن أن يقال في توجيه هذا التفصيل:

أنّ رجوع الاستثناء في الصورة الأُولى - أعني: ما كان الموضوع والمحمول كلاهما مذكورين فيها - إلى خصوصالأخيرة، نظراً إلى أنّه إذا تكرّر الموضوع والمسند إليه وأُعيد في الجملة الأخيرة يأخذ الاستثناء محلّه؛ لأنّه القدر المتيقّن من رجوع الاستثناء إليه، ولا يكون هناك دليل على رجوعه بعد ذلك إلى بقيّة الجمل، لا من باب لزوم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد كما قد يتوهّم، بل لأنّه ليس هناك شيء يمنع ظهور سائر الجمل في العموم، إلّا ما قد يتوهّم كونه صالحاً للقرينيّة،

ص: 439


1- فوائد الاُصول 2: 555.

والصالح للقرينيّة هي جملة الاستثناء.

ولكن الاستثناء المذكور لا يصلح لذلك؛ لأنّه بعدما رجع إلى الجملة الأخيرة واستقرّ فيها وأخذ محلّها، بعدما كانت الجملة الأخيرة لها موضوع ومحمول مستقلّ، فليس هناك من شيء آخر يكون سبباً للتخصيص والتضييق لبقيّة الموضوعات في بقيّة الجمل بالنسبة إلى الحكم المذكور في القضيّة.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ هذا الاستثناء يصلح للرجوع إلى الجميع؛ بحيث لو علمنا أنّ المتكلّم أرجعها للجميع، أي: أنّه أراد الاستثناء من الجميع، فلا يلزم منه أيّ خلاف للأصل، ولا هناك ارتكاب منه للتجوّز والعناية في كلامه.

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن لنا أن نجري أصالة العموم مع وجود ما يصلح للمخصّصيّة؟ وكيف يصحّ لنا التمسّك بالعموم في مثل هذا المقام؟ وهل للعقلاء بناء على عدم المخصّص؟!نعم، لو عرفنا من الخارج أو بحسب المتفاهم العرفيّ بأنّها ترجع إلى خصوص الجملة الأخيرة أو إلى الجميع، فهو المتّبع، ولو بواسطة القرائن الحاليّة أو المقاليّة، أو لجهة أُخرى، ولكنّه - كما هو ظاهر - خارج عن محلّ الكلام.

وخلاصة الكلام: أنّه لا ظهور لنفس أداة الاستثناء في الرجوع إلى خصوص الجملة الأخيرة ولا في الرجوع إلى الجميع، بل لابدّ في إثبات

ص: 440

الرجوع إلى أحدهما من قرينةٍ، والرجوع إلى الأخيرة، وإن كان متيقّناً، إلّا أنّه لا يوجب أن تكون سائر الجمل سالمةً من التخصيص والإخراج والاستثناء وأن تبقى على عمومها؛ إذ المفروض أنّها قد احتفّت بما يصلح للقرينيّة، ولا يثبت الرجوع إلى الأخيرة فقط من جهة الظهور، وحينئذٍ: فلا أقلّ من أنّه لا دليل على صحّة هذا التفصيل الذي أفاده المحقّق المذكور«.

ولا فرق في هذا الذي ذكرناه بين أن يكون الاستثناء بواسطة حرف الاستثناء، أو بواسطة الاسم ﻛ (سوى) وأمثاله.

لا يقال: لا يمكن تعدّد الإخراج بأداة الاستثناء بعد أن كان الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً.

فإنّه يقال: أوّلاً: يمكن أن يقال بأنّ كلاً من الوضع والموضوع له فيها يكون عامّاً كالأسماء.

وثانياً: إنّ أداة الاستثناء إنّما تستعمل في النسبة الإخراجيّة، بلا فرق بين أن يكون المستثنى والمستثنى منه واحداً أومتعدّداً، فإنّ تعدّد المستثنى والمستثنى منه لا يوجب تعدّد النسبة الإخراجيّة.

فلا تنافي بين تعدّد الإخراج وبين أن تكون النسبة جزئيّة؛ لوضوح أنّه يمكن إخراج المستثنى من تحت عناوين متعدّدة بإخراجٍ واحد، كما في مثل: (أكرم العلماء والزهّاد والسادات إلّا النحويّين) إذا كان قصده إخراج النحويّين من الجميع أو من خصوص الأخيرة؛ لأنّها غالباً ما

ص: 441

تستعمل في إخراج ما بعدها عن حكم ما قبلها.

ولا يلزم أن يكون هناك استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، حتى ولو فرض بأنّ المستثنى شخص واحد وهو زيد - مثلاً -، نعم، لو كان هناك المسمّى بزيد شخصين اثنين، أحدهما: زيد عمرو، والآخر: زيد بن بكر، واُريد إخراج أحدهما من جملة وإخراج الآخر من جملة أُخرى يكون استعمال اللّفظ - حينئذٍ - من باب استعمال اللّفظ الواحد في أكثر من معنى.

اللّهمّ إلّا أن يريد (المسمّى بزيد) الذي هو عنوان جامع بين الشخصين المذكورين، ولكنّ هذا ليس من جهة مفاد أداة الاستثناء، وإنّما هو من ناحية إرادة معنيين اثنين من مدخولها، وهو (زيد) - مثلاً - إذا لم يُرَد به المسمّى بزيد.

تخصيص عمومات الكتاب والسنّة بالمفهوم

المفهوم - كما عرفنا آنفاً - على قسمين: المفهوم المخالف والمفهوم الموافق.أمّا المفهوم المخالف، فهو المفهوم الذي يكون مخالفاً لمنطوقه من ناحية السلب والإيجاب، كما في مثل: (الماء إذا بلغ قدر كرٍّ لا ينجّسه شيء)، فإنّ مفهومه: (إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجّسه شيء) أو (كلّ شيء)، فلو ورد في رواية - مثلاً - (الماء كلّه طاهر)، كان له عموم، وهذا

ص: 442

العموم في صورة المعارضة بينه وبين المفهوم المخالف يكون هذا المفهوم مخصِّصاً له.

وأمّا المفهوم الموافق، فهو المفهوم الذي يكون موافقاً للمنطوق في السلب والإيجاب، كالمفهوم المستفاد من قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ٍ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾(1)، فإنّه يدلّ بالمفهوم على عدم جواز ضربهما بطريقٍ أولى.

وقد تعرّض المحقّق النائيني(قدس سره) إلى هذا البحث، فذكر أنّ «المفهوم الموافق يكون على نحو الأولويّة تارةً، وعلى نحو المساواة أُخرى، والأوّل إنّما يتحقّق فيما إذا كانت الأولويّة من المدركات العقليّة، وأمّا إذا كانت عرفيّةً... فالمدلول خارج عن المفهوم وداخل في المداليل اللّفظيّة العرفيّة.

وأمّا الثاني: فهو يتحقّق غالباً فيما إذا كانت علّة الحكم منصوصةً، ونعني به ما إذا كانت العلّة المذكورة فيه واسطةً في العروض لثبوت الحكم للموضوع المذكور في القضيّة بأن يكون الموضوع الحقيقيّ هو العنوان المذكورفي التعليل، ويكون ثبوته للموضوع المذكور من جهة انطباق ذلك العنوان عليه، كما في قضيّة: (لا تشرب الخمر فإنّه مسكر)، فإنّها ظاهرة في أنّ موضوع الحرمة فيها إنّما هو عنوان

ص: 443


1- الإسراء: الآية 23.

المسكر، وحرمة الخمر إنّما هي من جهة انطباق ذلك العنوان عليه، فيسري الحكم - حينئذٍ - إلى كلّ مسكر، فلا تبقى للخمر خصوصيّة في الحكم المذكور في القضيّة.

وأمّا إذا كانت العلّة المذكورة في القضيّة واسطةً في الثبوت ومن قبيل دواعي جعل الحكم على موضوعه من دون أن يكون هو الموضوع في الحقيقة، كما في قضيّة: (لا تشرب الخمر لإسكاره)، فإنّها ظاهرة في أنّ موضوع الحرمة فيها إنّما هو نفس الخمر، غاية الأمر: أنّ الداعي إلى جعل الحرمة عليها إنّما هو إسكارها.

فلا يسري الحكم إلى غير الموضوع المذكور في القضيّة ممّا يشترك معه في العلّة المذكورة فيها، إذ يُحتمل - حينئذٍ - أن تكون في خصوص العلّة المذكورة في القضيّة خصوصيّة داعية إلى جعل الحكم على الموضوع المذكور فيها، وأن لا تكون هذه الخصوصيّة موجودة في غيرها ممّا يشترك معها في الحقيقة والعنوان.

فإذا احتمل أنّ في خصوص إسكار الخمر - مثلاً - خصوصيّةً داعيةً إلى جعل الحرمة عليها، لم يمكن الحكم بحرمة غيرها ممّا يشترك معها في أثر الإسكار، وهذا الذيذكرناه هو الميزان في تسرية الحكم من الموضوع المذكور في القضيّة إلى غيره وعدمها»(1).

ص: 444


1- أجود التقريرات 1: 498 - 499.

ثمّ تعرّض(قدس سره)لتحقيق البحث في مفهوم الموافقة بقسميه، وكلامه طويل، وملخّص ما أفاده:

أمّا في مفهوم الموافقة بالأولويّة، فذكر) أنّه ربّما يُدَّعى تقدّم هذا المفهوم على العموم بدعوى:

«أنّ المعارض للعامّ إن كان هو نفس المفهوم بمجرّده، فلابدّ من تقديم المفهوم عليه مطلقاً، سواء كانت النسبة بينهما بالعموم من وجه أم كانت بالعموم والخصوص على الإطلاق، فإنّ رفع اليد عن المفهوم مع عدم التصرّف في المنطوق - مع أنّ المفروض لزومه له بنحو الأولويّة - أمر غير ممكن، وأمّا رفع اليد عن المنطوق والتصرّف فيه - مع عدم كونه معارضاً للعموم - فلا وجه له، وعليه: فيتعيّن التصرّف في العموم، وتخصيصه بغير مورد المفهوم لا محالة».

ولكنّه ناقشه(قدس سره)بما حاصله:

أنّ المنطوق كما يدلّ بالأولويّة على حكمٍ آخر منافٍ للعامّ، فكذلك العامّ يدلّ بالأولويّة على ما ينافي حكم المنطوق؛ وذلك لأنّ العامّ بعمومه ينفي الحكم عن مورد المفهوم، فهو يدلّ بالأولويّة على نفي حكم المنطوق، فيقع التعارض بين المنطوقين:فإن كان المنطوق أخصّ مطلقاً من العموم، كما لو ورد (لا تكرم الفسّاق)، وورد (أكرم فسّاق خدّام العلماء)، الدالّ بالأولويّة على وجوب إكرام العلماء، كان المفهوم مقدّماً على العامّ، ولو كانت النسبة بينهما هي

ص: 445

العموم من وجه - كما في المثال -، لعدم إمكان رفع اليد عن المفهوم بنفسه، ولا يمكن رفع اليد عن المنطوق؛ لأنّه أخصّ مطلقاً من العموم، فيُقَدَّم عليه، فيكون المورد من موارد تقديم أحد العامّين من وجهٍ على الآخر لمرجّحٍ فيه.

وإن كان بين المنطوق والعامّ عموم من وجه، كما لو ورد: (لا تكرم الفسّاق)، وورد: (أكرم خدّام العلماء)، الدالّ بالأولويّة على وجوب إكرام العلماء، فإن قدّم المنطوق على العموم في مورد التعارض كان المفهوم مقدّماً على العموم في ذلك المورد أيضاً، وإن قدّم العموم على المنطوق فخرج الخادم الفاسق عن المنطوق، فلا يثبت بالأولويّة إلّا وجوب إكرام العلماء العدول، فلا تعارض بينهما حينئذٍ.

هذا بالنسبة إلى مفهوم الموافقة بالأولويّة.

وأمّا مفهوم الموافقة بالمساواة فقال فيه:

«فيظهر الحال فيه على قسميه ممّا ذُكر في المفهوم الموافق على نحو الأولويّة، فإنّه إذا كانت النسبة بين منطوق الكلام المستفاد منه المفهوم وما له العموم نسبة العموم والخصوص مطلقاً، قدّم المفهوم على العموم، ولو كانت النسبة بين أنفسهما نسبة العموم والخصوص من وجه، وأمّا إذا كانت النسبة بين المنطوق وما له العمومنسبة العموم من وجه، فيأتي فيه

ص: 446

التفصيل المتقدّم»(1).

وأمّا مفهوم المخالفة، فلا شكّ في أنّه يخصّص العامّ إذا كان بين المفهوم والعامّ عموم وخصوص مطلق، أي: أنّ العامّ المنطوقيّ يخصّص بالخاصّ المفهوميّ أيضاً؛ لأنّه لا فرق بين المفهوم والمنطوق، فالأوّل يكون مدلولاً التزاميّاً والثاني مدلول مطابقيّ أو تضمّني، هذا إذا كانت دلالة كلّ منهما بالوضع.

أمّا إذا كانت دلالة العامّ بالوضع ودلالة المفهوم بمقدّمات الحكمة، فحيث إنّ أحد الشروط المعتبرة في صحّة الأخذ بمقدّمات الحكمة هو عدم وجود بيان وظهور منجَّز على خلاف ما تقتضيه، فيكون العامّ - الذي فرضنا أنّ دلالته على العموم بنحو الدلالة الوضعيّة - بياناً، فيؤخذ به.

وأمّا إذا كانا كلاهما يدلّان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، فهل يكون المرجع - حينئذٍ - هو التساقط والإجمال، خصوصاً إذا كانا في كلام واحد؟ أم أنّ المفهوم هو الذي يقدّم على العامّ؟

الحقّ: لزوم تقديم المفهوم على العامّ؛ لأنّ المفهوم لو كانت دلالته مستفادة من الوضع فإنّه يقدّم على العامّ، حتى لو كانت دلالة العامّ على العموم مستفادة من الوضع أيضاً، فكذلك إذا كانت دلالة كلّ منهما بالإطلاق وإجراء مقدّمات الحكمة؛ إذ بعد جريان مقدّمات الحكمة في

ص: 447


1- المصدر نفسه 1: 501.

جانب المفهوم، يكون المفهوم قرينةً صالحةً لبيان أنّ مراد المتكلّم من العامّ الذيأورده في كلامه إنّما هو الخاصّ، هذا إذا كان النسبة بينهما هي العموم المطلق.

ومن هنا ظهر الحال فيما أفاده صاحب الكفاية(قدس سره) من «أنّه إذا ورد العامّ وما له المفهوم في كلامٍ أو كلامين، ولكن على نحوٍ يصلح أن يكون كلّ منهما قرينةً متّصلةً للتصرّف في الآخر، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فالدلالة على كلٍّ منهما إن كانت بالإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة، أو بالوضع فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم، لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في واحدٍ منهما لأجل المزاحمة، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك، فلابدّ من العمل بالاُصول العمليّة فيما دار فيه بين العموم والمفهوم، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر، وإلّا كان مانعاً عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر»(1).

وحاصله: أنّهما إذا كانا يُعدّان في نظر العرف في كلامٍ واحدٍ أو كلامين، فإن كان منشأ الظهور في كلّ منهما هو الوضع أو مقدّمات الحكمة، ففي كلتا هاتين الصورتين، لا مفهوم ولا عموم.

اللّهم إلّا أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، أمّا في الصورة الثانية

ص: 448


1- كفاية الاُصول: ص 233 - 234.

فلعدم تماميّة مقدّمات الحكمة؛ لأنّ تماميّتها - كماهو معلوم - في كلّ واحدٍ منهما تتوقّف على عدم تماميّتها في الآخر.

ومعه: فلا يبقى منشأ للظهور في كلّ منهما. وأمّا في الصورة الأُولى، فلتزاحم الظهورين.

نعم، يقدّم ما هو الأظهر لو كان، فيكون مانعاً إمّا عن أصل انعقاد الظهور في الآخر، وإمّا عن استقراره فيه بعد فرض انعقاده، فإن لم يكن ثمّة أظهر، كان لابدّ من العمل على وفق ما تقتضيه الاُصول العمليّة فيما دار فيه بين العموم والمفهوم.

ثمّ قال): «ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتّصال، وأنّه لابدّ أن يعامل مع كلٍّ منهما معاملة المجمل، لو لم يكن في البين أظهر، وإلّا، فهو المعوّل، والقرينة على التصرّف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل»(1).

وقد يقال:

إنّه لا يمكن تقديم المفهوم المخالف على العامّ وتخصيص الكتاب به، وذلك للأخبار المستفيضة بل المتواترة، التي دلّت على أنّ أيّ خبر يكون مخالفاً للكتاب فلابدّ من طرحه، أو أنّه يكون من الباطل أو الزخرف.

ص: 449


1- المصدر نفسه: ص 234.

ولكنّ الجواب عن ذلك:

أوّلاً: أنّه لو أخذنا بعموم هذه الأخبار، فلابدّ أن نقول بطرح المنطوق - أيضاً - في صورة مخالفة ظاهر الخبرللكتاب، وأنّه يكون باطلاً وزخرفاً، فلا معنى - حينئذٍ - لاختصاص المنع بالمفهوم.

وبالجملة: فلو سلّمنا هذا الدليل، فهو أعمّ من المدّعى؛ لأنّه كما يُثبت - على فرض تماميّته - عدم صحّة الأخذ بالمفهوم وتخصيص الكتاب به، فهو كذلك يُثبت عدم صحّة الأخذ بالمنطوق وتخصيص الكتاب به، والتفريق بينهما تحكّم وصرف دعوىً بلا دليلٍ عليها.

وثانياً: لا نسلّم أنّ الخبر المخالف بمفهومه لظاهر الكتاب بمجرّد العموم والخصوص المطلق يندرج تحت المخالفة التي توجب ردّ الخبر وعدّه باطلاً وزخرفاً، بل كون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق لا تعدّ بنظر العرف مخالفةً للكتاب.

وثالثاً: سلّمناه، ولكنّ لازمه أن تخصّص هذه الروايات بغير هذه الموارد؛ لأنّ المخالفة من هذا النوع قد وردت عنهم( كثيراً.

هل يجوز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد أم لا ؟

الحقّ: جواز ذلك، كما عليه صاحب الكفاية(قدس سره)، وهذا نظير جواز تخصيص الكتاب بالكتاب، وبالخبر المتواتر المفيد للقطع بالصدور، وبالخبر الواحد القطعيّ الصدور بسبب احتفافه بالقرائن القطعيّةالتي

ص: 450

تكون سبباً للقطع بالصدور.قال الآخوند الخراساني):

«الحقّ: جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص، كما جاز بالكتاب، أو بالخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة القطعيّة من خبر الواحد بلا ارتياب...»(1).

وقد استُدِلّ للجواز بقيام سيرة المتشرّعة على ذلك، وهي متّصلة بزمان المعصوم%، فإنّ الأصحاب كانوا على العمل بأخبار الآخاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة(.

وقد استشكل في الاستدلال بهذه السيرة بما حاصله: أنّ عملهم بتلك الأخبار غير العلميّة، لعلّه كان من جهة كونها محفوفة بالقرائن القطعيّة، وكانت هذه القرائن معلومة عندهم، ولكنّها ضاعت ولم تصل إلينا.

وفيه: أوّلاً: أنّه لو كان لبان، مع كثرة تلك الموارد، بحيث نعلم يقيناً بقيام سيرة عظيمة على العمل بخبر الواحد في قبال العمومات.

وثانياً: أنّه لو قلنا بعدم جواز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد للزم إلغاء حجّيّة أخبار الآحاد مطلقاً، وسدّ باب العمل بها بالكلّيّة، لوضوح أنّه قلّما يوجد مورد لم يكن فيه مخالفة للكتاب من هذا النحو.واستدلّ المانعون: بأنّ الكتاب قطعيّ الصدور، والخبر الواحد ظنّيّ

ص: 451


1- كفاية الاُصول: ص 235.

الصدور، ولا يصلح الظنّيّ لتخصيص القطعيّ.

وأُجيب عنه: بالنقض تارةً والحلّ أُخرى:

أمّا النقض، فحاصله: أنّه لو لم يمكن تخصيص الكتاب بالخبر الواحد لكونه قطعيّ الصدور، لم يمكن تخصيص الخبر المتواتر به لكونه قطعيّ الصدور أيضاً، مع أنّ جواز تخصيص الخبر المتواتر بأخبار الآحاد محلّ اتّفاق عندهم.

وأمّا الحلّ، فبأنّ التمسّك بأصالة العموم إنّما يكون جائزاً فيما لو لم يكن ثمّة قرينة على الخلاف، والخبر الواحد بدلالته وسنده يصلح لأن يكون قرينة على الخلاف.

وأمّا أصالة العموم فإنّها غير صالحة لرفع اليد عن أخبار الآحاد بعد نهوض أدلّة حجّيّتها، وبعد كون مورد أصالة العموم منحصراً - كما عرفنا - بصورة عدم قيام ما يصلح للقرينيّة على التخصيص.

وأمّا الأخبار الواردة بطرح ما يخالف القرآن:

فأوّلاً: لا نسلّم أنّها بإطلاقها تشمل ما إذا كان النسبة بين الكتاب والخبر نسبة العموم المطلق.

وثانياً: أنّه حتى لو أخذنا بإطلاق هذه الأخبار، ولم نحملها على خصوص ما لو كانت المخالفة بينهما بنحو التباين، فلابدّ من الالتزام بتخصيص هذه المخالفة بغير صورة المخالفة بالعموم والخصوص، وإلّا، كان لابدّ من طرح كثير منالأخبار التي عُلِم صدورها عن

ص: 452

المعصومين( مع كونها مخالفةً للكتاب بالعموم والخصوص.

وثالثاً: أنّ مثل هذه المخالفة لا تعدّ - كما عرفنا آنفاً - مخالَفةً للكتاب في نظر العرف؛ لأنّ المخالفة العرفيّة هي التي توجب تخيّرهم، والمخالفة بالإطلاق والتقييد أو العموم والخصوص ليس كذلك.

وأمّا ما استدلّ به للمنع: من أنّه لو جاز تخصيص العامّ الكتابيّ بأخبار الآحاد لجاز نسخ الكتاب بخبر الواحد أيضاً؛ لأنّهما - أعني: التخصيص والنسخ - من وادٍ واحد، إذ النسخ في الحقيقة ما هو إلّا تخصيص أزمانيّ، وحيث إنّه قد قام الإجماع على عدم جواز النسخ بخبر الواحد، فيدلّ ذلك على عدم جواز التخصيص به أيضاً.

فقد ردّه في الكفاية بقوله:

«والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعة، وإن كان مقتضى القاعدة جوازهما؛ لاختصاص النسخ بالإجماع على المنع، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده، بخلاف التخصيص»(1).

ص: 453


1- كفاية الاُصول: ص 237.

ص: 454

مبحث المطلق والمقيّد

اشارة

ولابدّ فيه من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

أنّ الإطلاق لغةً بمعنى الإرسال(1)، كما يقال: (أطلق عنان فرسه)، أي: أرخاه وأرسله، ويقابله التقييد.

وليس للاُصوليّن في الإطلاق والتقييد معنى خاصّ؛ فلا يحتاجان إلى تعريف اصطلاحيّ؛ لأنّهما من الاُمور الواضحة، فالتعاريف التي تُذكر لهما، كتعريف المطلق - مثلاً - بأنّه «ما دلّ على شائع في جنسه»، فإنّما يكون من باب التعريف اللّفظيّ الذي حقيقته استبدال لفظٍ بلفظٍ آخر أوضح منه دلالةً. كما قال صاحب الكفاية(قدس سره):

«عُرّف المطلق بأنّه ما دلّ على شائع في جنسه، وقد أشكل عليه بعض

ص: 455


1- انظر - مثلاً -: مجمع البحرين 3: 57 - 58.

الأعلام بعدم الاطّراد والانعكاس، وأطال الكلام في النقض والإبرام، وقد نبّهنا في غير مقامعلى أنّ مثله شرح الاسم، وهو ممّا يجوز أن لا يكون بمطّرد ولا بمنعكس، فالأَولى الإعراض عن ذلك...»(1).

الأمر الثاني:

عُرّف المطلق - كما ذكرنا - بأنّه: «ما دلّ على شايع في جنسه»، والمراد: أنّ اللّفظ المطلق يكون شاملاً لجميع ما يصلح أن تنطبق عليه الطبيعة، فإنّ قولك: (أكرم عالماً) - مثلاً -، يصدق على كلّ فردٍ فردٍ من أفراد طبيعة العالم، وبما أنّ صدقه على الجميع هو على نحو البدليّة، فيكون دالّاً على فردٍ غير معيّن من الطبيعة، وهذا هو معنى قابليّته للانطباق على أفرادٍ كثيرة مندرجة تحت الجنس على سبيل البدل، بعد الفراغ عن شمول الجنس لهذا الفرد ولغيره.

الأمر الثالث:

الإطلاق كالعموم، فهو تارةً: يكون شموليّاً ومأخوذاً على نحو الاستغراق، وأُخرى: يكون بدليّاً، وثالثةً: يكون مجموعيّاً.

ولا يخفى: أنّ تقسيمه إلى هذه الأقسام إنّما هو بالإطلاق وببركة جريان مقدّمات الحكمة، وأمّا العامّ، فانقسامه إليها إنّما يكون ناشئاً عن الوضع.

ص: 456


1- كفاية الاُصول: ص 243.

كما لا يخفى: أنّ الإطلاق في هذه الأقسام إنّما هو باعتبار كيفيّة تعلّق الأحكام بالطبائع والماهيّات، وإلّا، فالإطلاق في الجميع بمعنىً واحد، وهو الشمول لجميع ما تنطبق عليه الطبيعة.

الأمر الرابع:

أنّ الإطلاق والتقييد من الاُمور الإضافيّة، بمعنى: أنّه يمكن أن يكون الشيء الواحد مطلقاً من جهة، ومقيّداً من جهة أُخرى.

الأمر الخامس:

أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس هو تقابل التضادّ أو تقابل السلب والإيجاب، بل إنّما هو تقابل العدم والملكة، فالشيء يقال له: إنّه مطلق إذا كان قابلاً للتقييد.

وأمّا أنّ تقابله ليس بتقابل التضادّ؛ فلأنّ الإطلاق إنّما يثبت بمقدّمات الحكمة، وليس أمراً وجوديّاً يثبت بالوضع، وليس معنى كون الإطلاق يثبت بمقدّمات الحكمة إلّا أنّه عبارة عن عدم تقييد الماهيّة بقيد وجوديّ أو عدميّ في المورد الذي يكون قابلاً للتقييد، فإذا لم تكن الماهيّة قابلة للتقييد فهي - في فرض تجرّدها من القيد الوجوديّ أو العدميّ - لا تُسَمّى ﺑ (المطلق) اصطلاحاً.وبهذا يظهر: أنّ التقابل بينهما ليس من باب تقابل السلب والإيجاب،

ص: 457

فإنّ الإطلاق وإن كان أمراً عدميّاً إلّا أنّه مقيّد بأمرٍ وجوديٍّ وأن تكون للماهيّة القابليّة للتقييد.

وبعبارة أُخرى: فلا مجال لأن يكون التقابل بينهما من نوع تقابل السلب والإيجاب؛ لأنّ هذا النوع من التقابل إنّما يكون بين وجود الماهيّة وعدمها، بحيث لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، وأمّا الإطلاق والتقييد، فليسا كذلك؛ فإنّهما يرتفعان عن موردٍ لا يكون قابلاً للتقييد، فيكون التقابل بينهما - لا محالة - من باب التقابل بين البصر والعمى، وذلك أنّه يصدق الإطلاق على الماهيّة فيما إذا كان الحكم يسري منها ليشمل المقيّد وغيره، بحيث لو لم يكن مقسماً لهما امتنع الإطلاق؛ إذ لا معنى للقول بشمول الحكم وسريانه إلى مورد المقيّد وغيره، بعد أن لم يكن مورد الحكم واحداً من أقسامه.

وعلى هذا الأساس: فإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق، ومن هنا، فإذا شكّ في واجبٍ ما أنّه توصّليّ أو تعبّديّ، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق - أي: إطلاق متعلّق الوجوب - لإثبات أنّه توصّليّ، نظراً إلى امتناع تقييده بقصد الأمر الذي هو متأخّر عن الأمر نفسه، كما بُيّن ذلك في محلّه.

وإذا اتّضحت هذه الاُمور المتقدّمة، فالأَولى صرف البحث نحو الكلام عن بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق، وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره) من هذه الألفاظ: «اسم الجنس، ﻛ (إنسان) و(رجل) و(فرس)

ص: 458

و(حيوان) و(سواد)و(بياض)، إلى غير ذلك من أسماء الكلّيّات، من الجواهر والأعراض، بل العرضيّات...»(1).

وكأنّ مراده من الجواهر ما يكون كالإنسان والحيوان والماء وغيرها من الجواهر، ومراده من العرض ما يكون كالسواد والبياض وغيرهما من الأعراض، وأمّا مراده من العرضيّات فهي الاُمور الاعتباريّة التي يكون موطنها هو وعاء الاعتبار، كالملكيّة والزوجيّة والحريّة.

مع أنّه - كما ذكر بعض الشارحين)(2) - فإنّ المراد من الأعراض عند أهل المعقول هو المبادئ، أعمّ من أن تكون متأصّلة، كالسواد والبياض، أم اعتباريّةً، كالملكيّة والزوجيّة. والمراد بالعرضيّات عندهم إنّما هو المشتقّ من تلك المبادئ كالأبيض والمالك، وقد خالف الآخوند) هذا الاصطلاح؛ إذ نجد أنّه إنّما أراد بالأعراض خصوص ما يكون متأصّلاً منها، كالسواد، بينما أراد بالعرضيّات خصوص ما هو اعتباريّ منها، كالملكيّة.

الكلام في اعتبارات الماهيّة:

ثمّ إنّ الماهيّة تارةً تعتبر وتلاحظ «مطلقةً»، ومعنى كونها مطلقة: أي: عدم تقيّدها بقيدٍ وعدم تخصّصها بأيّة خصوصيّة. وتارةً تلاحظ

ص: 459


1- كفاية الاُصول: ص 243.
2- انظر: منتهى الدراية 3: 680.

«مخلوطةً»، ومعنى كونها مخلوطةً: أنّهالوحظت بما هي متخصّصة بخصوصيّة ما. وثالثةً تلاحظ «مجرّدة»، وذلك عندما تُلحظ مفارقةً لجميع الخصوصيّات التي يمكن أن تطرأ عليها، من العوارض والمشخصّات، أو فقل: عند ملاحظتها وقد حُذِف منها جميع العوارض وقد جُرِّدت عن كافّة الطوارئ.

ولك أن تبيّن الاعتبارات الممكنة للماهيّة ببيانٍ آخر، بأن يقال:

تارةً: تلاحظ الماهيّة تلاحظ من حيث هي، بحيث يكون الملحوظ فقط هو نفس ذاتها، كالإنسان ملحوظاً بما هو إنسان، أي: بما له من الذات والذاتيّات، فلا يكون المنظور إليه إلّا الإنسانيّة وما أُخذ فيها من الحيوانيّة الناطقيّة.

وبهذا اللّحاظ يقال: إنّ الماهيّة من حيث هي ليس إلّا هي، لا موجودة ولا معدومة، ولا كلّيّة ولا جزئيّة، ولا واحدة ولا كثيرة، والماهيّة الملحوظة بهذا اللّحاظ تسمّى ﺑ «الماهيّة المهملة»، والتي هي فوق المقسم، بمعنى: أنّها بهذا الاعتبار لا تكون قسماً ولا مقسماً بعد؛ فإنّه حتى اعتبار المقسميّة يكون - أيضاً - متأخّراً عن هذه المرتبة؛ إذ اعتبار المقسميّة في رتبة ملاحظة الماهيّة غير مقيّدة بأحد الاعتبارات، أعني: اعتبارها لا بشرط أو بشرط شيء أو بشرط لا، والماهيّة بهذا الاعتبار لا يُنظر فيها إلّا إلى نفسها وذاتها، وأسماء الأجناس موضوعة للماهيّة التي في هذه المرتبة.

ص: 460

وأُخرى: تلاحظ الماهيّة مع ما هو خارج عن ذاتها، وحينئذٍ:أ. فتارةً: تلاحظ بشرط شيء، أي: بأن تلاحظ الماهيّة بالإضافة إلى شيءٍ يكون خارجاً عن ذاتها، كلحاظ ماهيّة الإنسان - مثلاً - مقترنة بالإيمان. وهي «الماهيّة بشرط شيء».

ب. وثانيةً: تلاحظ بالإضافة إليه مشروطةً بعدمه، كلحاظ ماهيّة الرقبة بشرط عدم اقترانها الكفر، وتسمّى «الماهيّة بشرط لا».

ج. وثالثةً: تلاحظ بالإضافة إليه لا بشرط عن الاقتران به أو الاتّحاد معه، فتكون لا بشرط من ناحية هذا القيد وعدمه، وهذا هو «الماهيّة اللّابشرط القسميّ».

وأمّا اللّابشرط المقسميّ، وهو أن لا يلاحظ في الماهيّة حتى هذا الاعتبار، أي: اعتبار أن تكون لا بشرط، فهو عبارة عن لحاظ الماهيّة مع الخارج عن ذاته حال كونه غير مشروطٍ لا بوجوده ولا بعدمه، فتكون الماهيّة بهذا الاعتبار لا بشرط بالنسبة إلى ذلك الخارج، ولم يلاحظ فيها حتى لحاظ اللّابشرطيّة تجاهه.

وخلاصة الكلام: أنّ الفرق بين الماهيّة المهملة (اللّا بشرط المقسميّ)، وبين الماهيّة (اللّا بشرط القسميّ)، أنّ النظر في الأولى يكون منحصراً إلى داخل ذاتها، وليس هناك نظر أصلاً إلى ما يكون خارجاً عن ذاتها، ولا يلتفت بهذا اللّحاظ إلّا إلى ذاتها ومكوّناتها الداخليّة. وأمّا الثانية فالنظر فيها ليس إلى الماهيّة وحدها، بل إليها مع خصوصيّة تكون خارجةً عنها.

ص: 461

وبهذا يتّضح الوجه فيما ذكرناه من أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهيّات المهملة، فما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) من أنّ «الحقّ هو كون أسماء الأجناس موضوعة بإزاء اللّابشرط المقسمي، كما هو مقالة السلطان، وليست موضوعة بإزاء اللّابشرط القسميّ، كما هو مقالة المشهور..»(1)، في غير محلّه.

والسرّ في ذلك: أنّ اللّابشرط المقسميّ توخذ فيه الماهيّة ملحوظةً بالقياس إلى ما هو خارج عن الذات، فتكون حينئذٍ غير مقيّدة بهذا الأمر الخارج، ووضع الألفاظ ليس كذلك، بل هو إنّما يكون بالنظر إلى ذات المعنى؛ ضرورة أنّ الواضع حين الوضع لا نظر له إلّا إلى الذات، بمعنى: أنّ نظره مقصور عليها، وأنّه لا نظر له إلى كلّ ما يكون خارجاً عنها، وبالتالي: فلا مجال لأن يأتي فيه شيء من تلك الاعتبارات الثلاثة، فيمتنع أن يكون المعنى الموضوع له هو الماهيّة اللّابشرط المقسميّ، فضلاً عن اللّابشرط القسميّ.

وإنّما الموضوع له - كما ذكرنا - هو ذات المعنى من دون أن يُلاحظ معه أيّ شيءٍ يكون خارجاً عن مقام ذاته، وهو ليس إلّا الماهيّة المأخوذة مهملةً، من دون أن يكون هناك نظر حتى إلى لا بشرطيّتها ولا إلى بشرط لائيّتها ولا إلى بشرط شيئيّتها.

ص: 462


1- فوائد الاُصول 2: 572.

وكيف كان، فملخّص الفرق بين اللّا بشرط القسميّ واللّا بشرط المقسميّ: أنّ الأوّل يتقوّم بلحاظ الماهيّة غير مقيّدة بالخصوصيّة التي قيست بالنسبة إليها، وأمّا الثاني فليس إلّا عبارة عن الماهيّة غير مقيّدة بأحد هذه الاعتبارات، حتى اللّابشرطيّة، وبذلك فقط كانت صالحةً لأن تشمل جميع الاعتبارات الثلاثة، وأن تكون مقسماً لها، ولولا ذلك لم يجز هذا التقسيم أصلاً، لعدم كون المقسم - حينئذٍ - سارياً في جميع الأقسام.

ومعلوم: أنّ هذا هو شرط صحّة كلّ تقسيم، كما في تقسيم الكلمة - مثلاً - إلى أقسامها الثلاثة؛ فإنّه لولا سراية الكلمة إلى جميع أقسامها وكونها محفوظةً في الجميع، بأن كان كلّ واحدٍ من هذه الأقسام عبارةً عن المقسم ملحوظاً مع قيدٍ زائد، لم يكن ثمّة مجال لتصحيح هذا التقسيم أصلاً.

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم أنّ اللّابشرط القسميّ هو عبارة عن لحاظ الماهيّة بشرط الإطلاق والسريان.

ولكن لا يخفى: أنّه توهّم فاسد، إذ لو كان كذلك لكان نظير الكلّيّ العقليّ، فلا يكون له قابليّة الانطباق على الخارجيّات، بل يكون - حينئذٍ - راجعاً إلى البشرط لا، فلا يكون متّحداً في وجوده مع واجد الخصوصيّة وفاقدها، ولا يكون قابلاً لأن يُحمل على كليهما؛ إذ إنّ اللّابشرط القسميّ هو في قبال القسمين الآخرين، وحيث إنّ هذين القسمين عبارة عن كون

ص: 463

الماهيّة مقيّدةً بوجود الخصوصيّة أو بعدمها، فلابدّ وأن يكون اللّابشرط القسميّ عبارة عن الماهيّة غير مقيّدة، لابوجود تلك الخصوصيّة الخارجة عن مقام الذات، ولا بعدمها، ومن هنا، كان لابدّ من عدم كونها هي في حدّ نفسها مقيّدةً حتى بالإرسال والإطلاق والسريان.

وإلى ما ذكرناه من الأقسام أشار المحقّق الأصفهاني) بقوله:

«اعلم أنّ كلّ ماهيّة من الماهيّات إذا لوحظت وكان النظر مقصوراً عليها بذاتها وذاتيّاتها من دون نظر إلى الخارج عن ذاتها فهي الماهيّة المهملة التي ليست من حيث هي إلّا هي، وإذا نظر إلى الخارج عن ذاتها ففي هذه الملاحظة لا يخلو حال الماهيّة عن إحداث اُمور ثلاثة:

أحدها: أن تلاحظ بالإضافة إلى الخارج عن ذاتها مقترنةً به بنحوٍ من الأنحاء، وهي (الماهيّة بشرط شيء).

وثانيها: أن تلاحظ بالإضافة إليه مقترنةً بعدمه، وهي (الماهيّة بشرط لا).

وثالثها: أن تلاحظ بالإضافة إليه لا مقترنةً به، ولا مقترنةً بعدمه، وهي (الماهيّة لا بشرط).

وحيث إنّ الماهيّة يمكن اعتبار هذه الاعتبارات والقيود معها بلا تعيّنٍ لأحدها، فهي - أيضاً - لابشرط من حيث قيد البشرط بشيء وقيد البشرط لا وقيد اللّابشرط، فاللّابشرط حتى عن قيد اللّابشرطيّة هو (اللّابشرط المقسميّ)، واللّابشرط بالنسبة إلى القيود التي يمكن اعتبار اقترانها وعدم اقترانها هو (اللّابشرط القسمي).

ص: 464

ومن هذا البيان ظهر: أنّ المعنى الذي لوحظ بالنسبة إلى القيد الخارج عن ذاته لا بشرط هو اللّابشرط القسميّدون المقسمي، واللّابشرط المقسميّ هو اللّابشرط من حيث اعتبار اللّابشرطيّة واعتبار البشرط لائيّة واعتبار البشرط شيء، لا اللّابشرط من كلّ حيثية...»(1).

فإذا عرفت جميع ما قدّمناه، نقول:

إن قلنا بوضع الألفاظ وأسماء الأجناس للماهيّة المهملة أو اللّابشرط المقسميّ، فلابدّ في فهم الإطلاق من التمسّك بمقدّمات الحكمة، وأمّا لو قلنا بأنّها موضوعة للّابشرط القسميّ، فحينئذٍ يكون الإطلاق والإرسال مدلولاً للّفظ نفسه، ولا يحتاج إثباته إلى مقدّمات الحكمة.

مقدّمات الحكمة:

وحيث قد عرفنا أنّ الألفاظ وأسماء الأجناس موضوعة للماهيّات المهملة، فإذا أردنا إثبات الإطلاق فيها، فلابدّ لنا من إحراز توفّر مقدّمات الحكمة، وهي اُمور عدّة:

الأمر الأوّل: لمّا كان التقابل بين الإطلاق والتقييد - كما ذكرنا آنفاً - هو تقابل العدم والملكة، فلابدّ للمورد الذي نريد إثبات إطلاقه أن يكون قابلاً للتقييد، بحيث لا يكون من قبيل الخصوصيّات التي تطرأ على الطبيعة

ص: 465


1- نهاية الدراية 1: 664 - 665.

والماهيّة بعد فرض تعلّق الخطاب بها، وأن لا يكون من الانقسامات الثانويّة؛ وذلك لأنّه إذا قلنا بأنّ المتعلّق مقيّد بخصوصيّةٍ من هذا القبيل، هو أنّ تلك الخصوصيّة تكون متقدّمة على ذلكالخطاب؛ لأنّ المتعلّق بجميع قيوده وخصوصيّاته مقدّم قطعاً على الخطاب المتعلّق به؛ كالحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة، ولذا ترجع جميع القيود إلى الموضوع، كما في قوله تعالى: ﴿وَ لله ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(1)، أي: أيّها المستطيع حجّ.

وذلك لأنّ نسبة الخطاب إلى متعلّقه هي نسبة العرض إلى معروضه، فإذا فرض أنّ الخصوصيّة تكون متأخّرة عن الخطاب، مع كونها إنّما جاءت من قبل الخطاب نفسه، فلا يكاد يمكن أخذها في المتعلّق؛ لاستلزامه أخذ ما هو متأخّر عن الشيء فيما هو متقدّم عليه، واستحالته بيّنة؛ لوضوح استلزامه لأن يكون ما هو متأخّر عن الشيء متقدّماً عليه.

وحينئذٍ: فإذا فرض امتناع المتعلّق بها، لم يكن من الممكن جريان الإطلاق بالنسبة إليها، لما ذكرناه من أنّ الإطلاق إنّما يكون ممكناً في المورد الذي يكون قابلاً للتقييد، كالانقسامات الأوّليّة، دون ما لا يكون قابلاً للتقييد، كالانقسامات الثانويّة، من أمثال قصد القربة والأمر، والعلم

ص: 466


1- آل عمران: الآية: 97.

والجهل بالحكم، حيث تأتي هذه الاُمور من قبل الخطاب وتكون متأخّرة عن المتعلّق.

الأمر الثاني: يجب أن يكون المتكلّم في مقام البيان من الناحية التي نريد الأخذ بإطلاقها، وهذا معنى ما يقال من أنّ: أصالة الإطلاق إنّما تجري إذا كان المولى في مقام البيان، وأمّا لو لم يكن المولى في مقام البيان، بأن كان في مقام أصلالتشريع وإقرار الحكم، كما يُحمل عليه قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ الله ُ الْبَيْعَ﴾(1)؛ فإنّه من الواضح - حينئذٍ - عدم جواز الأخذ بإطلاقه لإثبات حلّيّة كلّ البيوع.

وكذا الحال فيما لو أحرزنا أنّ المولى كان في مقام البيان، ولكن لا من الجهة التي نريد أن نأخذ بإطلاقها، بل من جهةٍ أُخرى، كما في قوله تعالى: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾(2)؛ فإنّ الظاهر كونه في مقام بيان الحلّيّة، وأنّ ما أمسكه الكلب يكون كالمذكّى، وليس بميتة، وليس في مقام بيان طهارة الموضوع الذي عضّه الكلب، وأنّه يجوز أكله ولو لم يغسل ذلك المورد، وعلى هذا الأساس، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق من جهة الطهارة.

ثمّ إنّ أصالة كون المتكلّم في مقام البيان، وإن كانت من الاُصول

ص: 467


1- البقرة: الآية 275.
2- المائدة: الآية 4.

العقلائيّة، ولكنّها إنّما تجري عند العقلاء في مورد شكّ في أنّ المتكلّم هل كان بصدد البيان أم الإجمال والإهمال، وأمّا لو كان مورداً أحرزنا فيه كون المتكلّم في مقام أصل التشريع، أو في مقام بيان حكمٍ آخر، أو في مقام البيان لكن ليس من جميع الجهات، فلا يجري الأصل المذكور.

الأمر الثالث: عدم وجود قيد متّصل أو منفصل، إذ مع وجود القيد المتّصل فلا يبقى للمطلق ظهور في الإطلاق،ومع وجود القيد المنفصل، فلا تبقى حجّيّة لذلك الظهور في الإطلاق في مورد عدم القيد، فينتج ذلك: عدم إمكان الأخذ بالإطلاق.

الأمر الرابع: عدم وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب، والمقصود من مقام التخاطب: مقام التفهيم والتفهّم، بحسب مقام دلالة اللّفظ وظهوره، لا بحسب الحكم والواقع؛ فإنّ ثبوت ذلك بحسب واقع الإرادة لا يتوهّم أحد دخله؛ لأنّه ما من مطلق إلّا وله قدر متيقن بحسب الواقع، كما إذا قال: (أكرم العلماء)، فإنّه لا يشكّ أحد في أنّ القدر المعلوم منه يقيناً في الواقع هو العالم العادل الهاشميّ.

ولكنّه مع ذلك كلّه، فالقدر المتيقّن - بأيّ معنىً كان - لا يضرّ بالإطلاق، بل الظهور الإطلاقيّ حجّة، ولو مع وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب بالمعنى الذي ذكرناه، فيكون المراد بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب هو كما لو سئل المعصوم% عن حكم النجاسة في بئرٍ خاصّ فأجاب - مثلاً -: (ماء البئر واسع لا يفسده شيء)؛ فإنّ القدر

ص: 468

المتيقّن هنا هو البئر الخاصّ، وهو الداخل في الحكم؛ لأنّه هو الذي وقع في السؤال.

وكذا الحال لو فرضنا أنّ الكلام كان مكتنفاً بقرينة ما توجب انعقاد قدرٍ متيقّن له بحيث يُحمل الكلام عليه، كما إذا قال: أكرم عالماً، فإنّ المنجّم وإن كان عالماً، ولكن لفظ (العالم) نفسه، وخصوصاً بقرينة مناسبات الحكم والموضوع، ينصرف إلى الفقيه خاصّةً.وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سره) أفراداً ثلاثة للانصراف:

الأوّل: هو الانصراف البدويّ، وهو الانصراف الذي لا يزول بالتأمّل، كانصراف الماء إلى دجلة والفرات في الموضع القريب منهما، فلو قال: جئني بماء، ولكن لم يكن قريباً منهما، فلا ينصرف إليهما، ولهذا السبب، فلا يكون هذا الانصراف موجباً لتقييد إطلاق المطلق.

والثاني: الانصراف البدويّ الموجب للشكّ في أنّه هل اُريد المنصرف إليه أم لا، وهو ممّا يزول بالتأمّل. ويأتي هذا الانصراف من غلبة استعمال المطلق في المنصرف إليه الموجبة لأنس الذهن به، وهو - كسابقه - لا يوجب تقييد المطلق.

والثالث: الانصراف اللّازم لتيقّن المنصرف إليه، كانصراف لفظ الماء عن ماء الزاج والنفط، وهذا الانصراف وان لم يكن موجباً لظهور اللّفظ في المنصرف إليه كما في الفرض السابق، إلّا أنّه من قبيل اللّفظ المحفوف بما يصلح بالقرينيّة، ومع هذا: فلا يكون اللّفظ ظاهراً في الإطلاق.

ص: 469

أمّا في صورة كون الانصراف بدويّاً يزول بالتأمّل، فلا منافاة بينه وبين التمسّك بالإطلاق، كما هو واضح.

وأمّا في صورة كون علّة الانصراف هو ظهور المطلق في الفرد المنصرف إليه، كانصراف الماء إلى الماء المطلق، أو في صورة كون المنصرف متيقّناً في المطلق، كانصراف العالم إلى الفقيه، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق.

هذا حاصل ما أفاده(قدس سره)، وإليك نصّ كلامه:«ثمّ إنّه قد انقدح - بما عرفت من توقّف حمل المطلق على الإطلاق فيما لم يكن هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة على قرينة الحكمة المتوقّفة على المقدّمات المذكورة - أنّه لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو الأصناف، لظهوره فيه، أو كونه متيقّناً منه، ولو لم يكن ظاهراً فيه بخصوصه، حسب اختلاف مراتب الانصراف، كما أنّه منها ما لا يُوجب ذا ولا ذاك، بل يكون بدويّاً زائلاً بالتأمّل، كما أنّه منها ما يُوجب الاشتراك أو النقل»(1).

ثمّ إنّ المحقّق النائيني(قدس سره) - أيضاً - ذكر صوراً للانصراف:

الأوّل: الانصراف البدويّ، وهو الناشئ عن الغلبة خارجاً، أي: غلبة استعمال المطلق في المنصرف إليه.

ص: 470


1- كفاية الاُصول: ص 249.

الثاني: الانصراف الناشئ عن التشكيك في الماهيّة بحسب متفاهم العرف، بحيث يرى العرف خروج بعض الأفراد عن كونها أفراداً للطبيعة.

الثالث: الانصراف الناشئ من التشكيك في الماهيّة، بحيث يشكّك العرف في مصداقيّة بعض الأفراد.

وقد ذكر)أنّ القسم الأوّل لا يمنع من التمسّك بالإطلاق، بخلاف الثاني والثالث فإنّهما يمنعان منه؛ لأنّ المطلق في كلّ واحدٍ منهما يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة.

قال)- ما لفظه -:«توضيح ذلك: أنّ الانصراف قد ينشأ من غلبة الوجود في الخارج، كانصراف لفظ (الماء) في بغداد إلى ماء دجلة، وفي مكانٍ آخر إلى غيره، ويُسَمّى هذا الانصراف بدويّاً يزول بأدنى التفات. وهذا لم يُتَوَهَّم كونه مانعاً عن التمسّك بالإطلاق.

وقد ينشأ من التشكيك في الماهيّة في متفاهم العرف، وهذا يكون على قسمين؛ فإنّ التشكيك:

تارةً: يكون بحيث يرى العرف بعض المصاديق خارجاً عن كونه فرداً لما يُفهم من اللّفظ، فينصرف اللّفظ عنه لا محالة، كانصراف لفظ (ما لا يؤكل لحمه) عن الإنسان.

وأُخرى: يكون بحيث يشكّ العرف في كون فردٍ مصداقاً لمفهوم

ص: 471

اللّفظ عند إطلاقه، فينصرف اللّفظ إلى غيره، كانصراف لفظ (الماء) إلى غير ماء الزاج والكبريت.

أمّا القسم الأوّل: فلا ريب في أنّ اللّفظ المطلق فيه يكون من قبيل الكلام المحفوف بالقرينة المتّصلة، فلا ينعقد له ظهور إلّا في غير ما ينصرف عنه اللّفظ.

وأمّا القسم الثاني: فالانصراف فيه وإن لم يُوجب ظهور المطلق في إرادة خصوص ما ينصرف إليه، إلّا أنّ المطلق مع هذا الانصراف يكون في حكم الكلام المحفوف بما يصلح لكونه قرينةً، فلا ينعقد له ظهور في الإطلاق، فالانصراف الناشئ عن التشكيك في الماهيّة يمنع من انعقاد الظهور في الإطلاق على كلّ حال»(1).والحقّ: أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب - كما قاله المحقّق النائيني(قدس سره) أيضاً (2) - لا يضرّ بالأخذ بالإطلاق، إلّا إذا كان يرجع إلى انصراف اللّفظ إلى ذلك القدر المتيقّن، كما إذا كان العرف يرى أنّ الإنسان في قوله: (أكرم كلّ إنسان) منصرف عن الإنسان البليد؛ لأنّ البليد ليس في نظر العرف إنساناً، وذلك من جهة كون طبيعة المطلق ذات تشكيك وكونها متفاوتة بالشدّة والضعف والكمال والنقص، فربّما تنصرف الطبيعة عن مرتبتها الضعيفة في نظر العرف، مع كونها منها بالدقّة،

ص: 472


1- أجود التقريرات 1: 532.
2- راجع: فوائد الاُصول 2: 575.

كما لو قال - مثلاً -: (صبّ لي قدحاً من الشاي)، وفرضنا أنّ القدح كان ممتلئاً بالماء، فصببت فيه نقطةً واحدةً من الشاي، فإنّ هذا قد لا يسمّى بالشاي عند العرف، وإن كان كذلك بالدقّة، ولذا، يمكن التوضؤ به؛ لعدم صدق الماء المضاف عليه عرفاً.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّ مقدّمات الحكمة، وهي المقدّمات التي يتوقّف عليها جواز التمسّك بالإطلاق، مركّبة من ثلاثة اُمور، لا أربعة. هذا إذا قلنا بأنّ قابليّة المحلّ للتقييد هي من جملة المقدّمات، وأمّا لو قلنا بأنّ محلّ إجراء تلك المقدّمات إنّما هو المحلّ القابل للإطلاق والتقييد، فلا تكون قابليّة المحلّ - حينئذٍ - داخلةً في عداد المقدّمات، بل تكون هي جزءاً من موضوع مقدّمات الحكمة، ومعلومأنّ كونها إحدى المقدّمات شيء وكونها شرطاً لجريان المقدّمات شيء آخر.

وعلى هذا الأساس: فما ذكره الميرزا النائيني) هو الصحيح، حيث قال(قدس سره):

«فتحصّل: أنّ الإطلاق يتوقّف على أمرين لا ثالث لهما، الأوّل: كون المتكلّم في مقام البيان، الثاني: عدم ذكر القيد، متّصلاً كان أو منفصلاً، فإنّ من ذلك يُستكشف إنّاً عدم دخل الخصوصيّة في متعلّق حكمه النفس الأمريّ، قضيّة تطابق عالم الثبوت لعالم الإثبات»(1).

ص: 473


1- فوائد الاُصول 2: 576.

فصل: التقييد هل يوجب المجازيّة؟

ثمّ إنّه لا يخفى: بناءً على ذكرناه من أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهيّة المهملة كما هو الحقّ، فإنّ التقييد لا يوجب المجازيّة أصلاً، ضرورة أنّ اللّفظ لا يكون مستعملاً - حينئذٍ - إلّا في معناه، وأمّا الخصوصيّة فهي تستفاد من دالٍّ آخر.

وكذا الحال بناءً على ما تبنّاه المحقّق النائيني(قدس سره) من أنّها موضوعة للّابشرط المقسميّ؛ لأنّه اللّابشرط يجتمع مع البشرط شيء، فاستفادة القيد - أيضاً - تكون من دالٍّ آخر، بلا فرق بين أن يكون الدالّ على التقييد منفصلاً أو متّصلاً.

نعم، بناءً على ما هو منسوب إلى المشهور من كون الأسماء موضوعة للّابشرط القسميّ، وأنّ الإطلاق يكونجزءاً من مدلول اللّفظ، ومستفاداً منه بحسب أصل الوضع؛ فإنّ التقييد لا يكون ناشئاً إلّا عن استعمال اللّفظ في خلاف معناه، كيف لا؟! وهو مضادّ للإطلاق الذي هو المدلول الوضعيّ للّفظ بحسب الفرض.

ولا يُفرّق في ذلك بين أن يكون التقييد متّصلاً أو منفصلاً، إذ هو بجميع أنحائه يكون سبباً لإلغاء الخصوصيّة المأخوذة في المدلول وضعاً، أعني بها: قيد الإطلاق، لوضوح أنّه لا يعقل بقاء هذه الخصوصيّة مع إرادة الدلالة على الخصوصيّة المضادّة لها، والتي هي التقييد.

ص: 474

فالتقييد بناءً على مسلك المشهور - لا محالة - يوجب المجازيّة. فيكون التفصيل - بناءً على هذا المسلك - بين المقيّد المتّصل والمنفصل، بالقول بلزوم المجازيّة في الثاني دون الأوّل في غير محلّه.

والتفصيل الوحيد الذي ينبغي أن نقول به: هو أنّ التقييد يدور أمره بين أن لا يكون موجباً للمجازيّة بناءً على كلٍّ من المسلك المختار ومسلك المحقّق النائيني)، وبين أن يكون موجباً لها بناءً على مسلك المشهور.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الشيء قد يكون مقيّداً من جهة ومطلقاً من جهةٍ أُخرى، كما في مثل: (اعتق رقبة)، فإنّ الرقبة هنا مقيّدة من ناحية الإيمان، وأمّا من جهة أنّه زنجيّ أو روميّ، أبيض أو أسود، فلا تقييد، ومن هنا، كان يمكن التمسّك بالإطلاق فيها من هذه الجهة.وكذا لو كان المطلق مقيّداً بأزيد من تقييد، ولكن كان الإطلاق لا يزال موجوداً بعد بالنسبة إلى غير هذه الخصوصيّة من الحالات والخصوصيّات التي يشملها إطلاق مدلول اللّفظ، فحينئذٍ: يكون جريان مقدّمات الحكمة والتمسّك بالإطلاق بالنسبة إلى هذه الحالات والخصوصيّات أمراً ممكناً.

فصل: توافق المطلق والمقيّد في الحكم أو تنافيهما:

إذا ورد مطلق ومقيّد فإمّا أن يكونا متنافيين في السلب والإيجاب، كأن يكون المطلق ماُموراً به والمقيّد منهيّاً عنه، كما في مثل: (أعتق رقبة)

ص: 475

و(لا تعتق رقبة كافرة). وإمّا أن يكونا متوافقين فيهما، بأن يكون كلّ منهما متعلّقين إمّا للأمر أو للنهي.

ففي الصورة الأُولى، لابدّ من حمل المطلق على المقيّد، ولا يمكن الحكم حينئذٍ بالتخيير؛ لأنّه إنّما يحكم بالتخيير فيما إذا كان هناك بينهما تساوٍ؛ لأنّ هذا التساوي من مقوّمات التخيير، ولكن بما أنّ ظهور المطلق في الإطلاق تعليقيّ وظهور المقيّد تنجيزيّ، وحيث إنّ ظهور المطلق في (أعتق رقبة) يشمل الرقبة المؤمنة والكافرة معاً، وظهور المقيّد في (لا تعتق رقبة كافرة) ينهى عن عتق الكافرة، وحيث إنّ الظهورين لا يجتمعان، فلابدّ من رفع اليد عن أحدالظهورين، أي: إمّا أن نرفع اليد عن ظهور الإطلاق أو عن ظهور النهي في التحريم.

ولكن كما ذكرنا، فإنّ ظهور المطلق تعليقيّ متوقّف على عدم البيان وعدم مجيء قرينة على الخلاف وتبيين المراد، والمقيّد صالح للأمرين: أي: لأن يكون مبيّناً للمراد، وقرينة على الخلاف، وبما أنّ ظهور المقيّد في التقييد تنجيزيّ غير معلّق على شيء، فيكون - لا محالة - وارداً على ظهور المطلق ولا يبقى له محلّ أصلاً.

وهذا هو المقصود من لزوم حمل المطلق على المقيّد، أي: لزوم رفع اليد عن ظهوره في الإطلاق وحمله على إرادة المقيّد. وفي الحقيقة، فإنّ مجيء المقيّد يكشف عن أنّ المطلق لم يكن وارداً في مقام بيان الحكم الواقعيّ الجدّيّ للمولى، بل كان بيان صوريّاً لما هو المراد، غاية الأمر:

ص: 476

أنّ المصلحة اقتضت إبراز المراد الواقعيّ على نحو الإطلاق، وإخفاء القيد وتأخيره إلى وقتٍ تتوفّر المصلحة الداعية إلى إبرازه، كما هو كذلك بالنسبة إلى العمومات أيضاً، كما عرفنا في محلّه، حيث ذكرنا سابقاً:

إنّه قد يرد عامّ على لسان إمامٍ ولا يأتي الخاصّ إلّا على لسان إمام آخر، فبعد مجيء الخاصّ أو المقيّد وانعقاد ظهوره في الخصوص أو التقييد، فإنّه يكون كاشفاً قهراً عن عدم وجود إرادةٍ جدّيّةٍ للمولى متعلّقةٍ بالعامّ أو المطلق، بل إنّما كانت الإرادة المتعلّقة به صوريّة. هذا في مقام الثبوت والواقع.وأمّا في مقام الإثبات، فالجمع بينهما مع حفظ الظهورين ممتنع كما هو ظاهر، هذا في المقيّد المنفصل. وأمّا في المقيّد المتّصل، فمن أوّل الأمر لم يبقَ للمطلق ظهور في الإطلاق؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق متوقّف على جريان مقدّمات الحكمة، وإحدى مقدّماتها عدم وجود القرينة أو ما يصلح للقرينيّة، وهي موجودة ها هنا، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق.

وهذا - كما هو واضح - يجري بالنسبة إلى كلّ قرينةٍ مع ذيها، كما إذا قلت: (رأيت أسداً في الحمّام) أو (يرمي)؛ فإنّ كلمة (أسد) وإن كانت ظاهرة في الحيوان المفترس، ولكن بعد وجود القرينة، وهو قولنا: (في الحمّام) أو (يرمي)، تبيّن المراد، وأنّ الأسد الحقيقيّ، وهو الحيوان المفترس، لم يكن هو المراد الجدّيّ للمتكلّم، بل المراد الجدّي هو الأسد المجازيّ، أعني: الرجل الشجاع.

ص: 477

إذا عرفت هذا، فإذا ورد مطلق ومقيّد وكانا متنافيين، فإنّه لابدّ من حمل المطلق على المقيّد، ولا يحمل الأمر في المقيّد على الاستحباب أو كونه أفضل الأفراد، أو من قبيل الواجب في الواجب؛ لأنّ الأصل الجاري في القرينة مقدّم على ذي القرينة وحاكم عليها، لا أنّه يلاحظ أقوى الظهورين منهما.

بلا فرق في ذلك بين أن يكون ظهور الأمر في المطلق بالنسبة إلى الإطلاق أقوى من ظهور المقيّد في التقييد أم أضعف منه، فإنّ ظهور (أسد) في الحيوان المفترس، وإن كان بالوضع، وظهور (يرمي)، في إرادة رمي النبل، وإنكان بالإطلاق، إلّا أنّ الثاني يكون مقدّماً وحاكماً على الأوّل، لقاعدة تقدّم السبب على المسبّب، فإنّ الشكّ في ما هو المراد من لفظ (أسد) يكون ناشئاً من الشكّ في المراد من لفظ (يرمي)، وبعد أن فرضنا أنّ (يرمي) ظاهر في رمي النبل، لم يبقَ للأسد ظهور في الحيوان المفترس، حتى يكون حين انعقاد دلالته على الحيوان المفترس دالّاً بلازمه على أنّ المراد من (يرمي) هو رمي التراب، فإنّ الدلالة على اللاّزم - وهو رمي التراب - فرع الدلالة على الملزوم، وظهور (يرمي) في رمي يرفع دلالة الملزوم، ولا يبقي للأسد ظهوراً في الحيوان المفترس.

وقد يقال هنا: بأنّ مثبتات الاُصول اللّفظيّة إذا كانت حجّة، فهنا يقع التعارض، إذ كما أنّ أصالة الظهور في (يرمي) تقتضي أن يكون المراد من (الأسد) هو الرجل الشجاع، فكذلك أصالة الحقيقة في (الأسد)

ص: 478

تقتضي أن يكون المراد من (يرمي) هو رمي التراب.

ولكن يُجاب عنه: أنّه لا تعارض في البين، فإنّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم، ولا عكس، فإنّ (يرمي) ظاهر في رمي النبل، فهو بمقتضى مدلوله الأوّليّ ناظر إلى الأسد، وكاشف عن أنّ مراد المولى من (الأسد) هو الرجل الشجاع، فيكون سبباً لرفع اليد عن ظهور الملزوم، وهو دلالة الأسد على الحيوان المفترس، فهو بمدلوله الأوّليّ متعرّض لحال الأسد، وأمّا الأسد فلا نظر وراء مدلوله الأوّليّ إلى أيّشيءٍ آخر، ومعلوم أنّ مدلوله الأوّليّ ليس إلّا معناه الوضعيّ، وهو الحيوان المفترس.

نعم، لو فرضنا أنّ المراد من (الأسد) هو الحيوان المفترس، فيكون المراد من (يرمي) هو رمي التراب أوالثلج، ولكنّ دلالته على لازمه هي فرع وجود الدلالة على ملزومه، وبقاء ظهور لفظ (الأسد) في الحيوان المفترس، الذي هو الملزوم، غير أنّ ظهور (يرمي) يكون مصادماً لظهور (الأسد) في الحيوان المفترس، ورافعاً لهذا الظهور، فلا يبقى ظهور للملزوم أصلاً حتى يتأتّى منه الدلالة على اللّازم.

وبعبارة أُخرى: فإنّ مقتضى الإطلاق البدليّ هو تطبيق صرف الوجود على أفراد ما أراد، ويسمّى ﺑ (التخيير العقليّ)، وليس هناك أيّ مانع من هذا التطبيق بالنسبة إلى الأفراد، غاية الأمر: أنّه معلّق على عدم مجيء قرينة حتى يكون مانعاً من التطبيق، وبما أنّه لا يمكن لقوله: (أعتق رقبة)

ص: 479

أن يطبّق على جميع أفراد الرقبة، وهي المؤمنة والكافرة، مع وجود النهي النفسيّ المستفاد من قوله: (لا تعتق رقبة كافرة)، وبما أنّه لا يمكن إبقاء الظهورين على حالهما، فكان لابدّ من رفع اليد عن أحد الظهورين، إمّا ظهور المطلق في الإطلاق، أو ظهور النهي في كونه تحريميّاً نفسيّاً، وبما أنّ ظهور المطلق في الإطلاق - كما عرفنا - ظهور تعليقيّ، فلابدّ من رفع اليد عنه هو، وذلك بحمل المطلق على المقيّد، وهذا التطبيق قبل ورود المانع هو المسمّى - كما أشرنا - ﺑ(التخيير العقليّ)، وهو متوقّف على عدم مجيء قرينة على الخلاف، والنهي التحريميّ بيان على الخلاف.

وقد يكون التنافي بين الإطلاق والتقييد من قبيل النهي عن العبادة، كما لو ورد (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، أو (صم) و(لا تصم يوم العيد)، بناءً على أنّ المطلق عبادة بالمعنى الأخصّ، والمقيّد المنهيّ عنه أخصّ منه. وبعبارة أُخرى: يكون بينهما عموم وخصوص مطلق، فهنا، يحمل المطلق على المقيّد، ويقال بوجوب الصلاة في غير الحمّام، ووجوب الصوم في غير يوم العيد.

وقد يكون بينهما عموم وخصوص من وجه، وحينئذٍ: فإذا كان المجمع بينهما اتّحاديّاً كمفهومَي (العالم) و(الفاسق)، فيدخل في باب التعارض، فيتساقطان، ويكون المرجع - حينئذٍ - هو الاُصول العمليّة، وأمّا لو كان التركيب انضماميّاً، فيكون من باب اجتماع الأمر والنهي، وقد مرّ الكلام فيه مفصّلاً.

ص: 480

ولكنّ الحقّ: أنّه لو كان التركيب بينهما اتّحاديّاً فلا يكون من قبيل النهي عن العبادة، ﻛ (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، وكذا لو كان التركيب بينهما انضماميّاً أيضاً؛ لأنّ الأمر والنهي هنا واردان على طبيعةٍ واحدة، فلا يمكن إدخال المسألة في باب الاجتماع؛ لأنّ الأمر هناك ورد على طبيعة والنهي ورد على طبيعة أُخرى.

وأمّا إذا كان كلّ من المطلق والمقيّد متعلّقاً للنهي، فبما أنّ مفاد النهي غالباً يكون شموليّاً، ويشمل جميع وجوداتالأفراد، فلا تنافي بين طلب ترك المطلق والمقيّد، بل لا نحتاج إلى الثاني إلّا إذا كان هناك جهة ملحوظة ما وخصوصيّة داعية لبيانه، كشدّة الاهتمام بتركه، ممّا يدعو المولى إلى ذكره بالخصوص.

فمثلاً: لو قال الطبيب للمريض: (لا تشرب الحامض)، فهذا يشمل جميع الأفراد، ويغني عن ذكر (ترك ماء الحصرم)، فلا يحتاج إلى نهي عنه بخصوصه بأن يقول: (لا تشرب ماء الحصرم)، إلّا أن يكون في ذكره نكتة وخصوصيّة ما، كما لو فرض أنّ ضرره كان أشدّ من الضرر في شرب بقيّة الحوامض.

وأمّا إذا كان كلّ منهما متعلّقاً للأمر، كما في (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة)، فتارة لا يذكر السبب فيهما كما في المثال، وأُخرى يكون السبب مذكوراً في كليهما، وفي هذه الصورة أيضاً: تارة نفرض وحدة السبب، كما إذا قال: (إن ظاهرت فأعتق رقبة) و(إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة)،

ص: 481

وأُخرى نفرض اختلاف السبب، كما لو قال: (إن ظاهرت فأعتق رقبة) و(إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة)، وتارة يذكر السبب في أحدهما فقط، كقولك: (أعتق رقبة) و(إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة).

أمّا في صورة عدم ذكر السبب في كليهما: فقد ذكرنا سابقاً أنّ ظهور المقيّد يكون مقدّماً على ظهور المطلق؛ لأنّ ظهور الأوّل تنجيزيّ، وأمّا الثاني فهو معلّق ومتوقّف على مقدّمات الحكمة.ومن جملة تلك المقدّمات: عدم وجود بيان على خلاف المطلق، فإذا ورد بيان كذلك، ولو من دليل منفصل، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق، فبما أن الظاهر من المطلق هو صرف الوجود الذي ينطبق على أوّل وجود للأفراد، وهو يقتضي التخيير في الطبيعة، باختيار أيّ فرد شاء، من المؤمن والكافر، وأمّا مقتضى دليل المقيّد فهو كون الوجود مقيّداً بعنوان خاصّ، وهو الرقبة المقيّدة بقيد الإيمان، فيكون هناك تنافٍ بين الظهورين.

وحيث إنّ ظهور المقيّد بالنسبة إلى ظهور المطلق من باب القرينة، فيكون مقدّماً عليه، تقدّم القرينة على ذيها، وبما أنّ الحكم في كلٍّ منهما حكم إلزاميّ، وبما أنّه مأخوذ في المطلق على نحو صرف الوجود، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد؛ لظهور كون المقيّد قرينةً على أنّ المراد الجدّي للمولى كان هو وجوب عتق الرقبة المؤمنة، لا مطلق الرقبة، ولو كانت كافرة.

ص: 482

وأمّا لو كان السبب مذكوراً في كلّ منهما، مع كونه واحداً فيهما، فلا إشكال - حينئذٍ - في لزوم حمل المطلق على المقيّد؛ إذ نفس وحدة السبب فيهما يستفاد منه وحدة التكليف، فحينئذٍ: يتحقّق التنافي بينهما؛ لأنّ الحكم المذكور في المطلق لمّا كان مأخوذاً على نحو صرف الوجود، أمكن أن يؤتى به في ضمن أيّ فردٍ من أفراد الطبيعة، ويحصل الامتثال ولو في ضمن الرقبة الكافرة، وأمّا الحكم في المقيّد فيظهر منه كون القيد دخيلاً، وأنّ الامتثال لا يحصل إلّا بعتق الرقبةالواجدة لقيد الإيمان، فحينئذٍ: يقع التنافي والتناقض بين الظهورين، فلابدّ من رفعه، وذلك لا يكون إلّا بحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا لو كان السبب مختلفاً فيهما، كما في قولك: (إن ظاهرت فأعتق رقبة) و(إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة)، فلا معنى لحمل المطلق على المقيّد، بل يستكشف من تعدّد السبب تعدّد المسبّب، وأنّ الحكم المتعلّق بالمطلق هو غير الحكم المتعلّق بالمقيّد، ولذا، لا يكون هناك تنافٍ بينهما، بل يستظهر كون كلٍّ واحدٍ منهما - حينئذٍ - محكوماً بحكمٍ على حدة.

وأمّا لو كان السبب مذكوراً في أحدهما دون الآخر، فلا يمكن فيه حمل المطلق على المقيّد، إلّا إذا عرفنا وحدة المطلوب في مورده من دليل خارج، فإن استطعنا ذلك، فهو، وإلّا، كان مشكلاً من جهة أنّ هناك تقييدين، وكلّ واحدٍ منهما يتوقّف على الآخر، أحد هذين التقييدين:

ص: 483

أحدهما: تقييد الحكم في الطرف الذي لم يُذكر فيه السبب بالسبب المذكور في الطرف الآخر، وإلّا، لو كان هناك سببان يقتضيان مسبّبين، أي: حكمين أحدهما للمطلق والآخر للمقيّد، فلا يكون هناك منافاة بينهما حتى يُرفع هذا التنافي بحمل المطلق على المقيّد.

والتقييد الآخر: تقييد المتعلّق في طرف المطلق بالقيد المذكور في المقيّد، ومعلوم أنّ تقييد الحكم بذلك السبب المذكور في الطرف الآخر متوقّف على تقييد المتعلّق، وإلّا،فلو لم يقيّد الحكم، فهناك في الخارج متعلّقان، ولكلّ واحدٍ منهما حكم خاصّ غير ما هو للآخر، ولا منافاة بينهما، ولا موجب لوحدة السبب، وتقييد المتعلّق - أيضاً - يكون متوقّفاً على تقييد الحكم، وإلّا، فلو لم يقيّد الحكم، فيكون هناك حكمان، ولكلّ واحدٍ منهما متعلّق، فلا موجب لتقييد المتعلّق، وهذا دور واضح، فلا سبيل إلى حمل المطلق على المقيّد.

هذا ما ذكره المحقّق النائيني)، حيث قال - ما نصّه -:

«قد عرفت أنّ حمل المطلق على المقيّد يتوقّف على وحدة التكليف، وفي المثال: تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقّق سبب الآخر يتوقّف على وحدة المتعلّق، إذ عند اختلاف متعلّق التكليف لا موجب لحمل أحد التكليفين على الآخر، كما لو ورد تكليف مطلق متعلّق بشيء، وورد تكليف مقيّد متعلّق بشيءٍ آخر. ووحدة المتعلّق في المقام يتوقّف على حمل أحد التكليفين على الآخر، إذ لو لم يُحمل أحد التكليفين على الآخر، ولم

ص: 484

يُقيّد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار، لم يتحقّق وحدة المتعلّق؛ لأنّ أحد المتعلّقين هو عتق الرقبة المطلقة، ومتعلّق الآخر هو عتق الرقبة المؤمنة، فيتوقّف حمل أحد المتعلّقين على الآخر على حمل أحد التكليفين على الآخر، ويتوقّف حمل أحد التكليفين على الآخر على حمل أحد المتعلّقين على الآخر، فيلزم الدور من حمل المطلق على المقيّد في هذه الصورة، والظاهر أنّه لا دافع له، فتأمّل»(1).ولكن قد استشكل فيه الاُستاذ المحقّق(قدس سره) بأنّه لا دور هناك؛ لأنّ «حمل المطلق على المقيّد في المفروض، وإن كان يوجب تقييد كلّ واحد من إطلاقي الحكم والمتعلّق، ولكن لا دور في البين؛ لأنّه ليس كلّ واحد من التقييدين علّةً للآخر كي يلزم الدور، بل كلاهما معلولان لعلّةٍ واحدة، وهي وحدة المطلوب، فيكونان من قبيل المتلازمين، فلا دور»(2).

وأمّا إذا لم يذكر السبب في كليهما، فأيضاً لابدّ من حمل المطلق على المقيّد؛ لأنّ ظاهر دليل المطلق هو طلب صرف الوجود من الطبيعة، وهو يتحقّق بأوّل وجود منها، كما أنّه لا يتعدّد ولا يتكرّر، فلا محالة: يكون الإطلاق هنا من قبيل الإطلاق البدليّ، ويكون ظاهر دليله هو الإتيان

ص: 485


1- فوائد الاُصول 2: 580 - 581.
2- هذا المقطع ساقط من الطبعة التي اعتمدنا عليها لكتاب اُستاذنا المحقّق(قدس سره) منتهى الاُصول، والتي هي الطبعة الأُولى، فأخذناها من كلماته في طبعة أُخرى، فانظر: منتهى الاُصول 1: 690، ط مؤسّسة مطبعة العروج.

بالطبيعة وتطبيقها على أيّ فردٍ من الأفراد، وإن كان كافراً، وهذا ينافي ظهور المقيّد؛ لأنّ ظاهر دليل المقيّد هو لزوم الإتيان بصرف الوجود وتطبيقه على فردٍ خاصّ، وهو الرقبة المؤمنة.

فبينما ظاهر المطلق هو عدم لزوم الإتيان به في ضمن فردٍ خاصّ، فإنّ ظاهر المقيّد هو لزوم الإتيان به في ضمن فردٍ خاصّ، فيتنافيان بالضرورة، ولكن بما أنّ ظهور المطلق معلّق على عدم ورود بيان على التقييد؛ حيث كان الظهور فيه مستفاداً من جريان مقدّمات الحكمة، ومن جملة تلكالمقدّمات: عدم البيان على الخلاف والتقييد، فيكون الظهور في المقيّد وارداً على الظهور في المطلق؛ لأنّه ظهور تنجيزيّ، ويتقدّم عليه من قبيل تقدّم القرينة على ذيها، بلا فرق بين أن يكون المقيِّد متّصلاً أم منفصلاً.

غاية الفرق بينهما: أنّه في المقيّد المتصل لا يبقى ظهور للمطلق في الإطلاق أصلاً، وأمّا في المقيّد المنفصل، فإنّ الظهور وإن كان باقياً، إلّا أنّه بعد ورود المقيِّد المنفصل يسقط عن الحجّيّة، كما مرّ.

وبكلمةٍ: فإنّ حمل المطلق على المقيّد يستدعي إحراز وحدة المطلوب فيهما، وهي في المقام تستفاد من نفس الدليل، لا من الخارج؛ لأنّ المفروض أنّ المطلوب في كلٍّ من المطلق والمقيّد مأخوذ على نحو صرف الوجود، وصرف وجود الشيء - كما أسلفنا - لا يقبل التعدّد ولا التكرّر، فهنا بعد أن فرضنا كون التكليف في هذا القسم وارداً في كلا الطرفين على نحو صرف الوجود، وكان التكليف المجعول من قبيل

ص: 486

التكليف الإلزاميّ، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد بعد إحراز التنافي بين الظهورين.

هذا كلّه فيما لو كان التكليف المجعول إلزاميّاً.

وأمّا في التكليف الاستحبابيّ، فهل يتعيّن حمل المطلق على المقيّد - أيضاً - أم لا؟

الظاهر: أنّه لا موجب - حينئذٍ - لحمل المطلق على المقيّد؛ بلا فرق بين أن يكون التكليف في كلٍّ منهما مطلقاً، كما إذا قال (يستحبّ الدعاء) و(يستحبّ دعاء كميل)، وكان التقييدمن ناحية الاستحباب، فلا يوجد هناك دليل يعيّن الحمل المذكور؛ إذ لا منافاة بينهما كما لا يخفى، بعد فرض كون المقيّد جائز الترك، وليس هناك تنافٍ - أصلاً - بين استحباب الدعاء المطلق واستحباب الدعاء المقيّد.

وكذا الحال فيما إذا كان التقييد في التكليف والمكلّف به معاً، كما لو قال: (يستحبّ لك الدعاء) و(إن جاءك زيد يستحبّ لك دعاء كميل)، فإنّه لا موجب هنا - أيضاً - يحتّم حمل المطلق على المقيّد.

أمّا في صورة ما إذا كان التقييد في ناحية التكليف، كقولك: (يستحبّ الدعاء) و(يستحبّ الدعاء عند رؤية الهلال)، فلا موجب حينئذٍ للحمل المذكور - أيضاً -، بعد فرض كون الاستحباب ذا مراتب، ولا منافاة بين الاستحباب المطلق والاستحباب المقيّد.

وحتى لو قلنا في باب التكليف الإلزاميّ أنّه لابدّ من حمل المطلق

ص: 487

على المقيّد، فلا يكون له موجب هنا.

بل ذهب بعضهم إلى «عدم الحمل حتى فيما إذا كان التقييد يقتضي المفهوم، كما إذا قال: (يستحبّ الدعاء)، وقال - أيضاً -: (إن جاءك زيد يستحبّ الدعاء)، فإنّ تفاوت مراتب الاستحباب يكون قرينة على عدم ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة»(1).ولكنّ الحقّ: أنّه لو فرضنا ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة، فلابدّ تظهر المنافاة بين مفهوم الشرط في مثل قولك: (إن جاءك زيد يستحبّ الدعاء) وبين المستفاد من مثل قولك: (يستحبّ الدعاء)، وحينئذٍ: فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد؛ وذلك لعدم كون المفهوم قابلاً للتخصيص.

وأمّا ما ذكر من أنّ «الظاهر فيه - أيضاً - هو عدم الحمل؛ لأنّ كون القضيّة ذات مفهوم، وإن كان يقتضي في حدّ ذاته عدم مطلوبيّة فاقد القيد من رأس، إلّا أنّ العلم الخارجيّ بكون المستحبّات ذات مراتب باعتبار قيودها يوجب صرف القضيّة عن كونها ذات مفهوم، فلا تتحقّق المنافاة بين القضيتين لتُحمل إحداهما على الأُخرى»(2).

ففيه: أنّه بعد ثبوت المفهوم للقضيّة، فالمستحبّات وإن كانت ذات مراتب بالنسبة إلى غالب قيودها، غير أنّ هذه الغلبة لا تصبح موجباً

ص: 488


1- راجع: فوائد الاُصول 2: 585.
2- أجود التقريرات 1: 542.

لصرف ظهور القضيّة الشرطيّة عمّا هي عليه من كونها ذات مفهوم، وإلّا، فلو فرض أنّ المطلق كان مقيّداً بالقيد المتّصل، فلابدّ أن نحملها على أفضل الأفراد، ولا نقول بالتقييد، مع أنّه خلاف الواقع، إذا بعد فرض أنّ للقضيّة مفهوماً، فيقع التنافي بين المطلق والمقيّد، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد.

كما أنّه لو فرض أنّ المطلق لم يكن إلزاميّاً، وكان المقيّد إلزاميّاً، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد، بلا فرق بين أن يكون الإلزام في المقيّد إرشاديّاً مسوّقاً لبيان شرطيّة القيد،وبين ما لم يكن كذلك، بأن كان مولويّاً مسوقاً لبيان وجوب المقيّد في نفسه:

مثال الأوّل: الأمر الذي يتعلّق بالإقامة في حال الطهارة، فإنّه بعد افتراض أنّه مسوق لبيان شرطيّة الطهارة فيما هو المطلوب الاستحبابيّ، فلا يبقى مجال أصلاً لتوهّم صحّة التمسك بإطلاق ما دلّ على استحباب الإقامة من غير تقييد لها بكونها لابدّ وأن تكون حال الطهارة من الحدث، بل مقتضى الجمع بين الدليلين حينئذٍ هو انحصار استحباب الإقامة بحال الطهارة، وعدم الإتيان بها في حال الحدث.

ومثال الثاني: الأمر المتعلّق بصلاة الصبح - مثلاً -، فإنّه بعد ورود الدليل المقيّد وكونه مولويّاً دالّاً على وجوب المقيّد في حدّ نفسه، فهو - لا محالة - يوجب تقييد الأمر الاستحبابيّ المتعلّق بذات الصلاة في مثل ما روي من قوله6: «الصلاة خير موضوع، فمن شاء استقلّ، ومن شاء

ص: 489

استكثر»(1)؛ لأنّ الواجب يمتنع أن يكون مصداقاً للمستحبّ.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ الملاك في لزوم حمل المطلق على المقيّد إنّما هو كون الدليل المقيّد إلزاميّاً، بلا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل المطلق إلزاميّاً أيضاً أم لم يكن.

بقي هنا أمر:

أشار إليه اُستاذنا المحقّق(قدس سره) في آخر هذا المبحث(2)، وارتأينا أنّه لا بأس بذكره هنا مع شيءٍ من التوضيح، فنقول:

قد انقدح ممّا قدّمناه: أنّ الاحتمالات الممكنة في مورد حمل المطلق على المقيّد في المثبتين اللّذين يكون المطلوب فيهما هو صرف الوجود أربعة، وهي:

الأوّل: ما مرّ ذكره مع بيان وجهه، وهو لزوم حمل المطلق على المقيّد.

والثاني: حمل الأمر في المقيّد على أفضل الأفراد وكونه مستحبّاً.

ولكنّ هذا الاحتمال إنّما يتمّ لو لم نقل بأنّ المقيّد كالقرينة، والمطلق كذي القرينة، وأنّ ظهورها وارد على ظهوره، كما تُقَدَّم القرينة على ذيها. نعم، لو قلنا بأنّ ظهور المقيّد منافٍ لظهور المطلق في الإطلاق، فيكون

ص: 490


1- بحار الأنوار 79: 308 - 309، باب 4 من كتاب الصلاة، ح9.
2- انظر: منتهى الاُصول 1: 479- 481.

ظهور المطلق مقدّماً عليه، فحينئذٍ: لابدّ من التصرّف في ظهور المقيّد وحمله على أفضل الأفراد، وإلّا، فلا يبقى مجال لهذا الحمل أصلاً، كما في مثل: (رأيت أسداً يرمي)، فلو حملنا (الأسد) على الحيوان المفترس، فلابدّ معه من حمل (يرمي) على رمي الثلج أو التراب ونحو ذلك.والثالث: أن يكون مفاد أمر المقيّد هو الواجب في الواجب، كما إذا قلنا بأنّ القنوت واجب، فإنّ ظرفه هو الصلاة، فيكون من باب الواجب في الواجب.

ولكنّ هذا الاحتمال منافٍ لما عليه ظهور دليل المقيّد؛ لأنّ معنى الواجب في الواجب إنّما هو أن يكون أصل الطبيعة المطلقة واجباً، ويكون القيد واجباً آخر، فلو أتى بأصل الطبيعة، كالصلاة، وترك القيد، كالقنوت، فهو آتٍ بواجب وتارك لواجب آخر، مع أنّ ظاهر دليل المقيّد هو أنّ الواجب هو الطبيعة المقيّدة، فلا يكفيه في مقام الامتثال الإتيان بالطبيعة وحدها، ولا الإتيان بالقيد وحده.

ومعنى وجوب شيءٍ في واجبٍ آخر: هو أن يكون الشيء واجباً بنفسه وباستقلاله، غاية الأمر: أنّ محلّ وجوبه يكون في أثناء واجبٍ آخر، بحيث لو أتى بذلك الشيء في غير ذلك المحلّ فهو غير ممتثل للأمر به، ولذا، ففي المثال المتقدّم، لو أتى بالقنوت - على فرض وجوبه - قبل الصلاة أو بعدها، أو في حال الطواف مثلاً، لم يكن ممتثلاً قطعاً؛ لأنّ محلّه إنّما هو الصلاة الواجبة، وأمّا لو أتى بالصلاة وحدها لكفى ذلك

ص: 491

في صدق امتثال الأمر المتعلّق بها.

الرابع: تعدّد الحكم، بحيث يكون كلّ من المطلق والمقيّد واجباً مستقلّاً، فالمطلق واجب والمقيّد واجب آخر، ويكون المجعول حكمين اثنين، متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر، وبعد كونهما حكمين مستقلّين، فلا يكون هناك منافاة بينهما.ولكنّ هذا الاحتمال إنّما يتمّ، لو لم نفهم من المطلق والمقيّد صرف الوجود، وأمّا لو كان يُفهم منهما صرف الوجود، فيكون غير قابل للتكرار والتعدّد، وبالتالي: فيكون الاحتمال المذكور مخالفاً لظاهر الدليلين.

فتحصّل: أنّه إذا كان المتعلّق مأخوذاً بنحو صرف الوجود فلا معنى للقول بكون المجعول حكمين متعدّدين.

وبهذا يتمّ الكلام في مبحث المطلق والمقيّد.

ص: 492

المجمل والمبيّن

اشارة

والكلام هنا يقع في اُمور:

الأمر الأوّل:

في أنّنا هل نحتاج إلى تعريف كلٍّ من المجمل والمبيّن أم لا؟

لا يخفى: أنّه لا ثمرة فقهيّة في فهم مفهوم المجمل والمبيّن، ولذا لا فائدة في ذكر واستعراض كافّة التعريفات التي ذكرها القوم، مضافاً إلى ما تكرّر ذكره منّا من أنّ هذه التعريفات ليست بتعريفاتٍ حقيقيّة، فلا فائدة ترجى من الغوص فيالنقض والإبرام، وإنّما هي تعريفات تندرج في باب شرح الاسم، أضف إلى أنّ كلّاً من المجمل والمبيّن واضح المعنى وبديهيّ المفهوم، كالوجود تماماً، فلا يحتاجان إلى تعريفٍ أصلاً.

الأمر الثاني:

أنّ الإجمال والتبيين هل يختصّان بالكلام وبالمفاهيم التركيبيّة أم

ص: 493

يشملان المفردات - أيضاً - كلفظي (الغناء) و(الوطن)؟

الظاهر: عدم الاختصاص بالمعاني التركيبيّة، بل المجمل والمبيّن يشملان المفردات أيضاً، ولذا، نراهم يبحثون عن مفهوم مثل (الغناء) و(الوطن)، وأنّه هل يكون من المجمل أو من المبيّن.

الأمر الثالث:

المراد بكون اللّفظ مجملاً، أن يكون هذا اللّفظ غير واضح المعنى عند العارف باللّغة، وليس المدار على الجاهل بها، فلو فرض لفظ واضح المعنى عند العربيّ، فهو لا يكون معدوداً في المجملات، وإن كان غير واضح عند غير العربيّ.

ولكن مع ذلك، فنجدهم يقولون بأنّ مثل لفظ (الغناء) يُعدّ مجملاً؛ لأنّه وإن كان واضحاً عند أهل اللّغة، إلّا أنّه حيث لم يُحدَّد معناه في لسانهم قالوا بكونه مجملاً.

الأمر الرابع:

أنّ الإجمال والتبيين ليسا من الصفات الحقيقيّة، بل هما من الاُمور الإضافيّة، فقد يكون لفظ أو كلام مبيّناً عند شخص ومجملاً عند شخص آخر، فهو مبيّن عند أحدهما لكونه عالماً بالوضع، ومجملاً عند الآخر لعدم كونه كذلك، بل قد يكون مبيّناً عند أحدهما ومجملاً عند الآخر،

ص: 494

ولو فرض كونه واضحاً عند كليهما معاً، ولكن بحيث ظفر أحدهما بالقرينة التي تصلح أن تكون مانعاً من أخذه بمعناه.

فتحصّل: أنّه لا مانع من أن يكون لفظ ظاهراً عند شخص ومجملاً عند آخرين، كما قد يقال في مثل لفظ (اليد)، حيث كان مجملاً عند الفقهاء، وظاهراً عند الإمام الجواد%.

ثمّ إنّ الإجمال والتبيين هل هو بحسب الظاهر أو بحسب المراد؟

والإجمال بحسب الظاهر يأتي من جهة تعدّد الوضع، كما في مثل لفظ (العين)، أو لتساوي المعنيين الحقيقيّ والمجازي، أو غير ذلك.

ذهب صاحب الكفاية)إلى أنّ المراد من المبيّن، هو كلّ لفظ يكون له ظاهر، وإن علم بعدم إرادته، والمجمل هو ما كان بخلافه، وإن علم منه المراد.

قال): «والظاهر: أنّ المراد من المبيّن في موارد إطلاقه: الكلام الذي له ظاهر، ويكون بحسب متفاهم العرف قالباً لخصوص معنىً، والمجمل بخلافه، فما ليس له ظهورمجمل وإن علم بقرينة خارجيّة ما اُريد منه، كما أنّ ما له الظهور مبيّن، وإن علم بالقرينة الخارجيّة أنّه ما اُريد ظهوره وأنّه مؤوّل»(1).

ص: 495


1- كفاية الاُصول: ص 252.

والمستفاد من التقرير المنسوب إلى الشيخ الأنصاري)(1) أنّ المبيّن هو ما يكون واضح المراد، وإن لم يكن له ظهور، كما إذا فرض إجمال صيغة الأمر، وعدم ظهورها في الوجوب، ولكن علم من قرينة خارجيّة إرادة الندب منها، وأمّا المجمل فهو ما لم يتّضح المراد منه، وإن كان له ظهور.

وعلى هذا: فيكون مورد الاتّصاف بالمبيّن والمجمل هو المراد لا الكلام، فالاختلاف بين كلام صاحب الكفاية) وبين هذا الكلام المنسوب إلى الشيخ الأعظم) إنّما هو فيما لو كان لفظ ما ظاهراً في معنى، كالّلفظ العامّ الذي يكون ظاهراً في العموم، ولكن نعلم من الخارج بأنّ العموم ليس بمراد للمتكلّم، ونعلم إجمالاً بتخصيصه إيّاه، ولو لم نعلم المخصّص، فعلى كلام صاحب الكفاية)، فهذا العامّ - هنا - مبيّن، لكونه ممّا له ظاهر، وعلى ما في التقريرات، فهو مجمل، لعدم وضوح المراد، فتأمّل جيّداً.

تمّ الكلام - بحمد اﷲ تعالى - في المجمل والمبيّن.

ص: 496


1- راجع: مطارح الأنظار 2: 299 - 300، وإليك نصّ كلامه، قال): «ثمّ إنّ المجمل على قسمين: أحدهما: ما عرفت، والآخر: ما له ظاهر لم يُرده المتكلّم، كما في العامّ المخصّص واقعاً مع عدم العلم به على القول بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، كما هو الحقّ، والمطلق عند عدم ذكر القيد...».

الفهرس

ص: 497

ص: 498

الفهرس

مقدّمة الواجب(7-88)

مقدّمة الواجب... 7

الأمر الأوّل: في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاُصوليّة أم لا؟ 7

الأمر الثاني .... 12

الأمر الثالث :أنّ وجوب المقدّمة - كما عرفنا - وجوب عقليّ لا لفظيّ .... 13

الأمر الرابع: أنّ الوجوب ينقسم إلى أقسام.... 15

الأمر الخامس: ينقسم الوجوب باعتبارٍ آخر إلى الأصليّ والتبعيّ 15

الأمر السادس: تنقسم المقدّمة إلى خارجيّة وداخليّة..... 16

الأمر السابع: تنقسم المقدّمة إلى عقليّة وشرعيّة وعاديّة..... 31

الأمر الثامن: تنقسم المقدّمة إلى مقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجود و... 34

الأمر التاسع: تنقسم المقدّمة إلى المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة... 37

تنبيهات... 63

ثمرات القول بالمقدّمة الموصلة... 81

مبحث الضدّ(89-169)

مبحث الضدّ.... 89

الأمر الأوّل: في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاُصوليّة أم الفقهيّة أم غيرها؟.... 89

ص: 499

الأمر الثاني :هل هذه المسألة لفظيّة أو عقليّة؟..... 90

الأمر الثالث :ما هو المراد من الضدّ؟..... 91

الأمر الرابع :ما هو المراد من الاقتضاء؟... 91

الأمر الخامس: ما الفرق بين هذه المسألة ومسألة مقدّمة الواجب؟ 93

أمّا المقام الأوّل. 93

الثمرة من هذا البحث.... 105

وأمّا المقام الثاني.... 111

الفرق بين التعارض والتزاحم..... 117

منشأ التزاحم.... 126

تنبيهات... 147

مبحث النواهي(171-184)

مبحث النواهي..... 171

والكلام يقع فيه في اُمور.... 171

الأمر الأوّل: في الفرق بين صيغة الأمر وصيغة النهي.... 171

الأمر الثاني..... 173

الأمر الثالث .... 175

الأمر الرابع..... 177مسألة اجتماع الأمر والنهي(185-250)

مسألة اجتماع الأمر والنهي 185

الأمر الأوّل.... 185

الأمر الثاني..... 186

ص: 500

الأمر الثالث .... 189

الأمر الرابع..... 190

الأمر الخامس..... 197

هل تتعلّق الأحكام بالطبائع أم بالأفراد؟.... 202

ثمّ إنّه هل لابدّ من اعتبار مندوحة في محلّ البحث أم لا؟ .... 204

مسألة الاجتماع والقول بتبعيّة الأحكام للملاكات.... 213

ثمرة مسألة الاجتماع.... 215

أدلّة القائلين بالامتناع.... 218

دليل القائلين بالجواز.... 221

في العبادات المكروهة.... 232

الاضطرار إلى ارتكاب الحرام.... 234

حكم الصلاة حال الخروج.... 249

مسألة اقتضاء النهي الفساد(251-287)

مسألة اقتضاء النهي الفساد 251

الأمر الأوّل ... 251

الأمر الثاني .... 253

الأمر الثالث .... 253

الأمر الرابع..... 254

الأمر الخامس..... 255

الأمر السادس..... 256

الأمر السابع..... 257

الأمر الثامن..... 258

ص: 501

في بيان معنى العبادة والمعاملة.... 265

في تفسير المراد من الأثر... 268

المقام الأوّل: في النهي عن العبادة... 270

المقام الثاني: في النهي عن المعاملة.... 276

تذنيب..... 283

مباحث المفاهيم(289-294)

مباحث المفاهيم..... 289

مقدّمة..... 289الأمر الأوّل: في معنى كلمة المفهوم ..... 290

الأمر الثاني: المفهوم قسمان: موافقة ومخالفة..... 291

الأمر الثالث: في أنواع المفهوم... 294

فصل في مفهوم الجملة الشرطيّة(295-338)

فصل في مفهوم الجملة الشرطيّة.... 295

المبحث الأوّل..... 295

المبحث الثاني... 297

حجج المنكرين للمفهوم.... 307

الأمر الأوّل.... 310

الأمر الثاني..... 311

الأمر الثالث..... 313

البحث في تداخل الأسباب والمسبّبات.... 319

ص: 502

فصل في مفهوم الجملة الشرطيّة(339-351)

فصل في مفهوم الوصف 339

الأمر الأوّل.... 339

الأمر الثاني..... 343

الأمر الثالث..... 344فصل في مفهوم اللّقب والعدد(353-355)

فصل في مفهوم اللّقب والعدد.... 353

فصل في مفهوم الغاية(357-360)

فصل في مفهوم الغاية... 357

فصل في مفهوم الحصر(361-369)

فصل في مفهوم الحصر.. 361

مباحث العامّ والخاصّ(371-453)

مباحث العامّ والخاصّ... 371

الأمر الأوّل: في معنى العموم.... 371

الأمر الثاني: في الفرق بين العموم والإطلاق.... 373

الأمر الثالث: في تقسيم العامّ.... 374

الأصل المحكّم عند الشكّ .... 376

تنبيه .... 378

ص: 503

العموم المستفاد من الجمع المحلّى.... 379

هل العامّ المخصّص حجّة في الباقي أم لا؟.... 380

التعويض عن العامّ باستصحاب العدم الأزليّ.... 396

الشكّ في شمول العامّ لفردٍ من غير جهة احتمال التخصيص... 397

التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص. 404

في مقدار الفحص اللّازم.... 418

الخطابات الشفاهيّة.... 420

تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده؟. 431

الاستثناء المتعقّب لجملٍ متعدّدة.... 438

تخصيص عمومات الكتاب والسنّة بالمفهوم. 442

هل يجوز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد أم لا ؟.... 450

مبحث المطلق والمقيّد(455-492)

مبحث المطلق والمقيّد... 455

الأمر الأوّل.... 455

الأمر الثاني..... 456

الأمر الثالث..... 456

الأمر الرابع..... 457

الأمر الخامس..... 457

الكلام في اعتبارات الماهيّة... 459

مقدّمات الحكمة... 465

فصل: التقييد هل يوجب المجازيّة؟.... 474

فصل: توافق المطلق والمقيّد في الحكم أو تنافيهما..... 475

ص: 504

بقي هنا أمر..... 490

المجمل والمبيّن(493-496)

المجمل والمبيّن... 493

الأمر الأوّل.... 493

الأمر الثاني..... 493

الأمر الثالث..... 494

الأمر الرابع..... 494

المجمل والمبيّن(497-505)

الفهرس..... 497

ص: 505

المجلد 4

هویة الکتاب

شَمسُ الأُصُول

5 جلد

شمس الدين الواعظي

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه

وأشرف بريّته، سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين

واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

مباحث القطع

اشارة

ص: 5

ص: 6

المبحث الأول: في القطع

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل :في ذاتيّة حجّيّة القطع وعدم قبولها للجعل والمنع:

اعلم: أنّ حجّيّة القطع ذاتيّة له، وأنّ حجّيّة كلّ شيء لابدّ وأن تنتهي إلى القطع، أمّا الطريقيّة فهي من لوازم ذاتها كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة؛ فعلم أنّ جعل القطع بالجعل التشريعيّ لا يكاد يكون ممتنعاً؛ لأنّه يكون - حينئذٍ - من قبيل تحصيل ما هو الحاصل تكويناً بالتشريع؛ إذ لا معنى لأن يقال: إنّي جعلت النار حارّة تشريعاً.

وهذا خلافاً لما أفاده المحقّق الأصفهاني !من أنّ وجوب الإطاعة والمنجّزيّة للقطع قابلة للجعل؛ لأنّها من الاُمور الجعليّة (1).

ص: 7


1- نهاية الدراية 2: 35. قال): «وحيث عرفت أنّ الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة من اللّوازم الجعليّة العقلائيّة، فبناءً على أنّ جعل العقاب من الشارع، يصحّ القول بجعل المنجّزيّة للقطع شرعاً من دون لزوم محذور».

فإن قلت: إنّ القول بعدم قابليّة حجّيّة القطع للجعل وقياسه على اللّازم والملزوم في غاية البطلان؛ ضرورة أنّ اللّازم الذاتيّ لا ينفك عن ملزومه، فليس هناك أربعة ليست بزوج، فلو كانت الحجّيّة ذاتيّةً للقطع لما انفكت عنه، والتالي باطل؛ لأنّنا نرى أنّ القطع قد يصيب وقد لا يصيب، فالملزوم مثله.

قلت: نعم، لكنّه بنظر القاطع يكون مصيباً، ولذا كان قطع القطّاع حجّة للقاطع نفسه، فلا يجوز سلب الحجّيّة والطريقيّة عن القطع لامتناع سلب ما هو من لوازم الذات عنها.

وعليه: فلو قطع المكلّف بكون شيء خمراً وورد أنّ كلّ خمر حرام شربه، فيحصل من ضمّ هذه الصغرى إلى الكبرى علمه بحرمة شرب ما قطع بخمريّته، ولا يمكن نفي الحجّيّة عن مثل هذا القطع، وإلّا، لزم اجتماع الضدّين، أو النقيضين، بحسب اعتقاد القاطع؛ كما إذا تعلّق قطعه بحرمة شرب ماء الشعير - مثلاً - مع فرض حلّيّته واقعاً، فإنّ مقتضى هذا القطع هو حرمة شربه بحسب اعتقاده، فإذا ردع الشارععن حجّيّته، كان مقتضى ردعه جواز شربه، ومن المعلوم: أنّ الحرمة والجواز متضادّان، فلا يمكن صدورهما من الشارع.

ولا يخفى: أنّه ليس المراد من الحجّيّة هنا معناها المنطقيّ الذي هو عبارة عن الحدّ الأوسط الذي يكون بينه وبين الكبرى علاقة العلّيّة والمعلوليّة، كالتغيّر بالنسبة إلى حدوث العالم، ولا يكون القطع حجّة

ص: 8

بهذا المعنى، فلا يقال: هذا معلوم الخمريّة، وكلّ معلوم الخمريّة حرام، فهذا حرام؛ لأنّه حينئذٍ قياس غير منتج؛ وذلك لعدم ارتباط معلوم الخمريّة بالكبرى، لا بارتباط العلّيّة والمعلوليّة، ولا بارتباط التلازم، بداهة أنّ معلوم الخمريّة يمكن أن يكون خمراً، ويمكن أن لا يكون كذلك، فلا يكون معلوم الخمريّة حدّاً وسطاً، فلا يكون مثل هذا القطع حجّة باصطلاح المنطقيّ.

وحاصل الكلام: أنّ حجّيّة القطع لا تقبل الجعل، لأنّه إنّما يكون في المحمولات القابلة للانفكاك، أمّا المحمولات التي هي من لوازم الذات، فلا يمكن سلب الحجّيّة عنها، لا تكويناً ولا تشريعاً؛ لأنّها ثابتة لها من دون جعل، كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة، فلا معنى لجعل الحجّيّة لها.

فانقدح: أنّ مورد الجعل التأليفيّ هو إثبات شيءٍ لشيءٍ لم يكن ثابتاً قبل الجعل، كالحرمة للخمر، فجعل الحجّيّة للقطع مع كونها من لوازمه الذاتيّة يلزم منه الخلف وتحصيل للحاصل، وكذا يلزم الخلف من سلبها عنه؛ لأنّه بعد فرض كون الحجّيّة من لوازم القطع، فكما لا يمكن إثبات الحجّيّة له بالجعل، فكذلك لا يمكن نفيها عنه، وإلّا، لزم أن لا تكون من لوازم ذات القطع، وهذا خلاف الفرض.

وكذلك انقدح: أنّ حجّيّة كلّ شيء لابدّ وأن تكون بالقطع، وأمّا حجّيّة القطع فإنّما تكون بنفسه، كما ذكرنا.

ص: 9

ثمّ إنّ الحجّيّة كما لا تكون حجّة باصطلاح المنطقيّ؛ لما مرّ، فهي - كذلك - لا تكون حجّة باصطلاح الاُصوليّ؛ لأنّ الضابط في المسألة الاُصوليّة هو - كما تقدّم مراراً - أن تقع نتيجتها كبرىً لقياسٍ، يُنتج، بعد ضمّ الصغرى إليها حكماً شرعيّاً كلّيّاً.وبعبارة ثانية: فإنّ الحجّة عند الاُصوليّ عبارة عن الأدلّة الشرعيّة من الطرق والأمارات التي تقع وسطاً لإثبات متعلّقاتها بحسب الجعل الشرعيّ، من دون أن يكون بينها وبين المتعلّقات أيّة علقة ثبوتيّة بوجه من الوجوه، فإنّ متعلّقاتها: إن كانت من الموضوعات الخارجيّة، فعدم ثبوت العلقة بينهما واضح؛ إذ لا علقة بين الظنّ بالخمريّة وبين نفس الخمر.

وكذا لا ثبوت للعلقة - أيضاً - إذا كانت المتعلّقات من الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة مترتّبة على موضوعاتها الواقعيّة، لا على ما أدّى إليه الدليل، وإلّا، لزم التصويب.

فظهر: أنّ مثل قولنا: (هذا مظنون الخمريّة، وكلّ مظنون الخمريّة فيجب الاجتناب عنه، فهذا يجب الاجتناب عنه)، ليس قياساً حقيقيّاً، بل إنّما هو قياس صوريّ، لا واقع له.

وأمّا القطع، فهو لمّا لم تكن حجّيّته قابلة لأن تنالها يد الجعل التشريعيّ، علم - حينئذٍ - أنّه لا يقع وسطاً، ولا يتألّف القياس منه، حتى ولو كان صوريّاً؛ ضرورة أنّ الشارع لم يجعل القطع طريقاً إلى إثبات متعلّقه.

ص: 10

فإذا لم يكن القطع قابلاً للجعل، لم يكن مجعولاً بالجعل التشريعيّ، وإذا لم يكن مجعولاً كذلك فلا يكون حجّة، لا بالمعنى المنطقيّ، ولا بالمعنى الاُصوليّ، نعم، يكون حجّة بالمعنى اللّغويّ.

فظهر من ذلك: أنّ البحث عن القطع يكون بحثاً خارجاً عن مسائل علم الاُصول؛ لعدم وقوعه في قياس الاستنباط - كما هو الضابط والمعتبر في المسألة الاُصوليّة - بداهة أنّه لا يكون طريقاً لإثبات الحكم الشرعيّ، وإنّما هو عين معرفته.

ومن هنا يظهر الوجه في ما ذكره صاحب الكفاية! من أنّ القطع خارج عن مسائل علم الاُصول، وليس هو حجّة بمعنى الوسط في القياس (1).هذا إذا كان القطع طريقيّاً.

وأمّا إذا كان موضوعيّاً: فلا ريب في إمكان وقوعه وسطاً في للقياس، كما يقال - مثلاً -: (هذا مقطوع الخمريّة، وكلّ مقطوع الخمريّة يجب الاجتناب عنه، فهذا يجب الاجتناب عنه.

فالمتعلّق الذي هو معلوم الخمريّة، وإن لم يكن علّة حقيقيّةً للحكم الذي هو وجوب الاجتناب؛ إذ العلم لا يكون علّة للحكم، إلّا أنّه بمنزلة العلّة له لعدم انفكاك الحكم عن الموضوع.

ص: 11


1- انظر: كفاية الاُصول: 257.
الأمر الثاني:
اشارة

أنّ القطع إمّا أن يكون طريقيّاً محضاً، أو جزء الموضوع، كما إذا قطع المكلّف بحرمة الخمر أو قطع بالموضوع الخارجيّ، مثل أنّ المائع الكذائيّ خمر.

وإمّا أن يكون موضوعيّاً، وذلك فيما إذا لم يكن الموضوع الذي تعلّق به العلم ذا حكم شرعيّ، فإمّا أن يكون العلم تمام الموضوع، بحيث يكون الحكم دائراً مدار العلم وجوداً وعدماً، أو يكون العلم جزء الموضوع، بحيث يكون الموضوع مركّباً من القطع ومن شيء آخر، وهو في كلّ من القسمين: إمّا أن يؤخذ على نحو الصفتيّة، أو على نحو الطريقيّة.

والمراد من صفتيّة القطع: كونه صفة قائمة بالنفس، كالجود والبخل والشجاعة، كما أنّ المراد من طريقيّته: كونه حاكياً وكاشفاً عن متعلّقه.

ولا يذهب عليك: أنّ القطع الصفتيّ ليس من الصفات الإضافيّة المحضة، كالاُبوّة والبنوّة، ولا من الصفات الحقيقيّة كذلك، كالحياة والجود، بل هو من الصفات الحقيقيّة الإضافيّة، فيكون له واقعيّة من جهة، وإضافة إلى ما يتعلّق به من جهة اُخرى، كقولك: العلم نور بنفسه، وبإضافته إلى ما يتعلّق به منوّر لغيره.وإذا كان العلم من الصفات المتأصّلة، فلا جرم يحتاج في تحقّقه

ص: 12

إلى المعلوم، كاحتياج القدرة إلى المقدور؛ في قبال الصفات الحقيقيّة المحضة، وهي الصفات المتأصّلة القائمة بالنفس التي لا تحتاج في تحقّقها إلى إضافتها إلى شيء آخر، كالجود والحياة، وفي قبال الصفات الانتزاعيّة، كالفوقيّة، فإنّها لا وجود لها في الخارج وإنّما الوجود لمنشأ انتزاعها.

ثمّ إنّ الملحوظ حين الجعل:

تارةً: يكون هو العلم باعتبار كونه صفة قائمة بالنفس، واُخرى: هو العلم باعتبار كونه حاكياً عن متعلّقه؛ لما عرفت من أنّ القطع كالنور، له جهتان لا تنفكّان عنه.

وقد أنكر المحقّق النائيني! إمكان أخذ القطع - إذا كان تمام الموضوع - على وجه الطريقيّة؛ «من جهة أنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه، وأخذه على وجه الطريقيّة يستدعي لحاظ ذي الطريق وذي الصورة، ويكون النظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم، كما هو الشأن في كلّ طريق، حيث إنّ لحاظه طريقاً يكون في الحقيقة لحاظاً لذي الطريق، ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع» (1).

وبالجملة: فأخذه تمام الموضوع يستدعي أن يكون النظر إليه

ص: 13


1- فوائد الاُصول 3: 11.

استقلاليّاً، كما إذا حصر نظره إلى المرآة فإنّ نظره إليها بما هي، لا بما هي حاكية عن وجهه، فلا يراه. وأخذه على نحو الطريقيّة يجعل النظر إليه - في الحقيقة - نظراً إلى الواقع المنكشف بالعلم، فيكون القطع ملحوظاً باللّحاظ الآليّ، كالنظر إلى المرآة لرؤية وجهه.

فلو كان القطع تمام الموضوع مع كونه على وجه الطريقيّة للزم اجتماع اللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ في تصوّر واحد؛ واللّازم باطل؛ بداهة اقتضاء اللّحاظ الاستقلاليّ قصر النظر على القطع، وعدم لحاظمتعلّقه، واقتضاء اللّحاظ الآليّ قصر النظر على المتعلّق، وعدم لحاظ نفس القطع، فالملزوم مثله.

الأمر الثالث: في عدم قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعيّ.

حاصل الكلام: أنّه قد يؤخذ القطع في بعض الموارد على نحو القطع الموضوعيّ مع كونه طريقاً وكاشفاً، وذلك كأخذ العلم بعدالة إمام الجماعة دخيلاً في جواز الائتمام به، فإنّه أخذ موضوعاً لجوازه كاشفاً وطريقاً، لا صفةً.

أمّا أخذه على نحو الموضوعيّة: فلعدم وجوب الإعادة بعد انكشاف الخلاف.

وأمّا أخذه على نحو الطريقيّة: فلقيام الأمارات والاُصول مقامه.

لا يقال: هذا، على تقدير تماميّته، يلزمه - أيضاً - محذور اجتماع

ص: 14

اللّحاظين الآليّ والاستقلاليّ، بناءً على أخذ القطع جزءاً للموضوع مع كونه على نحو الطريقيّة.

لأنّه يقال: بل هذا الإشكال إنّما يرد فيما إذا كان القطع الطريقيّ تمام الموضوع، بخلاف ما إذا لاحظه الحاكم مع هذا الكشف التامّ موضوعاً لحكم آخر كما إذا جعله موضوعاً لجواز الشهادة، فإنّه لا مانع منه.

الأمر الرابع: أقسام القطع الموضوعيّ:

أنّ القطع المأخوذ في الموضوع على ثلاثة أقسام؛ لأنّه:

إمّا أن يكون متعلّقاً بالحكم، أو بموضوع ذي الحكم، أو بموضوعٍ بلا حكم؛ وعلى التقديرين الأوّلين: فإمّا أن يقع موضوعاً لنفس الحكم الذي تعلّق به أو بموضوعه، أو موضوعاً لمثله، أو لضدّه، أو لخلافه.

وقد عرفت فيما سبق: أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة، فكلّما استحال التقييد استحال الإطلاق، من غير عكس، ولذا لم يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات عدم وجوب قصد القربة أو عدم العلم أوالقطع به؛ بداهة أنّ تقييد الخطاب بالعلم مستلزم للدور، كما بيِّن في محلّه، وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق.

وكذا الأمر فيما نحن فيه، فإنّه لا يمكن أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم؛ لاستلزامه الدور، فلا يمكن أن يقال - مثلاً -: (إذا علمت بوجوب الجمعة فهي واجبة عليك بعين ذلك الوجوب). وكذلك يستحيل أخذ

ص: 15

القطع بالحكم موضوعاً؛ لأنّه حينئذٍ:

إمّا أن يكون موضوعاً لمثل ذلك الحكم، كأن يقال: (إذا علمت بوجوب صلاة الجمعة تجب عليك بوجوب آخر)، وهو باطل؛ للزومه اجتماع المثلين؛ أو يكون موضوعاً لحكم آخر ضدّ ذلك الحكم، كما لو قيل: (إذا علمت بوجوب صلاة الجمعة، فهي حرام عليك)، فيلزم اجتماع الضدّين.

نعم، لا مانع من أخذ القطع بالحكم في موضوع حكم آخر يخالفه، كما لو قال المولى: (إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة، فيجب عليك التصدّق).

وأمّا القطع المتعلّق بموضوعٍ ذي حكم، فلا إشكال في جواز أخذه في موضوع نفس ذلك الحكم، كأن يقال: (إذا علمت بحرمة مائع فهو حرام عليك بعين تلك الحرمة)؛ وكذا يجوز أخذه في موضوع مثله، كما إذا قيل: (إذا علمت بحرمة مائع فهو حرام بمثل تلك الحرمة)؛ وفي موضوع ضدّه كأن يقال: (إذا علمت بخمريّة مائعٍ فهو واجب)؛ وفي موضوع مخالفه، كأن يقال: (إذا علمت بخمريّة مائع فيجب عليه التصدّق).

وأمّا القطع المتعلّق بموضوع بلا حكم: فيمكن أن يكون مأخوذاً في موضوع أيِّ حكم كان، كما إذا قال المولى: (إذا علمت أنّ هذا بول وجب الاجتناب عنه)؛ إذ إنّ الحكم إنّما ورد على مقطوع البوليّة.

ص: 16

الأمر الخامس:

أنّ القطع قد يكون مطابقاً للواقع، وقد لا يكون كذلك، فيكون جهلاً مركّباً إذا لم يكن القاطع ملتفتاً إلى خطأ قطعه.

الأمر السادس:

ينقسم القطع باعتبار منشأ حصوله إلى قسمين، لأنّه:

إمّا أن يكون حاصلاً للشخص بنحوٍ غير متعارف، كما إذا حصل له القطع بشيءٍ من أمرٍ لا يوجبه، كمثل طيران الطير، كما مرّ، ويسمّى القطع - حينئذٍ - ﺑ (قطع القطّاع)؛ أو لا، بأن يكون القطع حاصلاً بالنحو المتعارف، ومن سبب متعارف، وهو القطع العاديّ.

وفي كلا الفرضين، لا يفرّق العقل في وجوب متابعته، فيكون حجّة بعد حصوله من أيّ سبب، ومن أيّ شخص كان، وفي أيّ زمان كان، خلافاً لما نسب إلى بعض الأخباريّين من عدم حجّيّة القطع الحاصل من مقدّمات عقليّة، فلا يجب العمل به عقلاً، وإن كان طريقاً محضاً.

أمّا إذا كان موضوعاً، فهو كسائر الموضوعات، يعني أنّ كلّ قطع يحصل للفقيه من خبر العادل لا للعامّيّ - الذي قد يحصل له القطع من خبر الفاسق - ويكون حصوله في زمان البلوغ دون الصغر، من الروايات والأدلّة، دون مثل الجفر والرمل، يصحّ أن يكون موضوعاً.

ص: 17

قال صاحب الكفاية!: «لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً، ولزوم الحركة على طبقه جزماً، وكونه موجباً لتنجّز التكليف الفعليّ فيما أصاب باستحقاق الذمّ والعقاب على مخالفته، وعذراً فيما أخطأ قصوراً» (1).

ففي نظره الشريف: أنّ القطع له أثران عقليّان:

الأوّل: وجوب متابعته، ولو كان من قبيل قطع القطّاع.

والثاني: منجّزيّته، بمعنى: استحقاق العقاب على مخالفته.وقد أوضحه المحقّق الأصفهاني! بما نصّه: «لا يذهب عليك: أنّ المراد بوجوب العمل عقلاً، ليس إلّا إذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة ما تعلّق به القطع [أي:المقطوع] ، لا أنّ هناك بعثاً وتحريكاً من العقل أو العقلاء نحو ما تعلّق به [أي: نحو المقطوع» (2)؛ إذ ليس شأن القوّة العاقلة إلّا إدراك الأشياء، وليس من شأنها التحريك والبعث.

ثمّ إنّ تأثير القطع في تنجّز التكليف واستحقاق العقاب ليس أمراً ذاتيّاً قهرياً، بل هو أمر جعليّ عقلائيّ؛ وذلك لأنّ استحقاق المكلّف للعقاب على المخالفة الواصلة، إنّما هو من باب خروجه عن زيّ الرقّيّة والعبوديّة،

ص: 18


1- كفاية الاُصول: 258.
2- نهاية الدراية 2: 31

حيث كان الواجب عليه هو الإطاعة، فتكون المخالفة هتكاً للمولى وظلماً له، وليس حسن العدل وقبح الظلم - بمعنى استحقاق المدح والذمّ عليه - من الأحكام العقليّة الواقعيّة، بل من الأحكام العقلائيّة، وهي ما تطابقت عليه آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظها للنظام.

ويعبّر عن ذلك ﺑ (القضايا المشهورة)، في قبال المدركات العقليّة الداخلة في القضايا البرهانيّة.

وقد علّل المحقّق المذكور) عدم دخول هذا الحكم العقليّ في القضايا البرهانيّة بما حاصله:

أنّ مواد القضايا البرهانيّة منحصرة في الضروريّات الستّ، وهي: الأوّليّات والحسّيّات والفطريّات والتجريبيّات والمتواترات والحدسيّات، وليس حسن العدل وقبح الظلم من أحدها بشيء، فيتعيّن أن يكون داخلاً في القضايا المشهورة.

قال): «أنّ حكم العقل باستحقاق العقاب ليس ممّا اقتضاه البرهان، وقضيّته غير داخلة في القضايا الضروريّة البرهانيّة، بل داخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها،ومخالفة أمر المولى هتك لحرمته، وهو ظلم عليه، والظلم قبيح، أي: ممّا يوجب الذمّ والعقاب عند العقلاء، فدخْل القطع في استحقاق العقوبة على المخالفة الداخلة تحت عنوان الظلم بنحو الشرطيّة، جعليّ عقلائيّ، لا ذاتيّ قهريّ،

ص: 19

كسائر الأسباب الواقعيّة والآثار القهريّة» (1).

ولكن فيه: أنّ الحسن والقبح ذاتيّان للعدل والظلم، ولو لم يكونا مخلّين بالنظام، فما ذكره من أنّ حسن العدل وقبح الظلم من الأحكام العقلائيّة، وممّا تطابقت عليه آراء العقلاء، حفظاً للنظام، في غير محلّه.

الأمر السابع: في الاطمئنان وأنّ حجّيّته من باب حجّيّته العلم أو من باب حجّيّته الأمارات.

أمّا أصل حجّيّة الاطمئنان: فممّا لا شكّ فيه؛ ضرورة أنّ السيرة من البشر جميعاً في أعمالهم - سواء ما يرتبط بتشخيص الأحكام أو الموضوعات - جارية على الأخذ به، ولولا ذلك، لم يكن لهم طريق إلى تحصيل اُمورهم؛ وبهذا تثبت حجّيّة الاطمئنان لدى الشارع، إذ لو كان للشارع طريق آخر غير الاطمئنان، لكان عليه نصبه وبيانه، ولكنّنا لم نرَ منه طريقاً آخر غير الاطمئنان، ولو كان لبان.

فظهر: أنّ حجّيّة الاطمئنان لو كانت جعلّيّة، بأن كانت ببناء العقلاء، لم تصلح الآيات الناهية عن العمل بغير العلم لأن تكون رادعةً عنه، بخلاف مثل خبر الواحد؛ لوجود غيره من الطرق التي يمكن من خلالها تشخيص مراد المتكلم، كما هو أوضح من أن يخفى.

ص: 20


1- نهاية الدراية 2: 35

وظهر أيضاً: أنّ حجّيّة الاطمئنان هي كحجّيّة الظهور في عدم صلوح الآيات الناهية للردع عنها.وإذا قد ثبتت حجّيّة الاطمئنان بلا كلام، فإنّ الخلاف في أنّ حجّيّته هل هي بحكم العقل، كحجّيّة القطع، أو ببناء العقلاء، كالحجّيّة في باب الأمارات؟ لا يعدو أن يكون خلافاً علميّاً، لا جدوى في البحث عنه؛ لخلوّه عن الثمرة العملية.

الأمر الثامن: انقسام القطع إلى تفصيليّ وإجماليّ:
اشارة

اعلم: أنّه لا معنى للقول بكون القطع مجملاً؛ لأنّ ذلك يستلزم اجتماع الضدّين؛ فإنّ حقيقة القطع هي الانكشاف التامّ لدى القاطع، فالقطع بخمريّة أحد الإناءين قطع لا إجمال فيه، وذلك لأنّ النسبة الملحوظة بين الحكم وموضوعه الذي هو عنوان المنكشف عند القاطع معلومة له.

نعم، الإجمال إنّما هو في تطبيق المقطوع المنكشف - وهو خمريّة أحد الإناءين - على أحد المصداقين بخصوصه، فلابدّ حينئذٍ من فرض كون العلم الإجماليّ مركّباً من علم وجهل.

فظهر: أنّ العلم الإجماليّ هو العلم المتعلّق بالعنوان - وهو أحد الإناءين - وتطبيقه على عنوان خاصّ مجهول بسبب تردّده.

وهل العلم الإجماليّ كالتفصيليّ في الرتبة أم أنّه متأخّر عنه رتبة أم متقدّم عليه؟

ص: 21

حاصله: أنّه إذا فرض تعلّق العلم الإجماليّ بأحد الفعلين، فإنّ حاله لا يخلو من أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: لزوم فعلهما معاً، ويسمّى بالموافقة القطعيّة.

الثاني: لزوم تركهما معاً، ويسمّى بالمخالفة القطعيّة.

والثالث: لزوم الإتيان بأحدهما وترك الآخر، ويسمّى بالموافقة الاحتماليّة.

فإن كان الأوّل: يكون العلم الإجماليّ مؤثّراً في الإيجاب وعلّة تامةً لتنجّز متعلّقه، فتلزم الموافقة القطعيّة؛ وحينئذٍ: يكون حاله حال العلم التفصيليّ في عدم تجويز الشارع ترك البعض، فضلاً عن ترخيصه بترك الكلّ.وإن كان الثاني: يكون العلم الإجماليّ بمنزلة المقتضي بالنسبة إلى كلا الطرفين، فيصحّ له الترخيص في ترك كلا الطرفين، فلا يكون العلم الإجماليّ - حينئذٍ - كالعلم التفصيليّ، أي: علّة تامة لتنجّز التكليف، بل يكون حاله حال الشكّ البدويّ، في عدم العلّيّة التامّة، فضلاً عن جواز الترخيص في الترك.

وإن كان الثالث: يكون له أن يرخّص في ترك البعض والإتيان بالبعض الآخر، وهو مفاد الموافقة الاحتمالية كما تقدم.

والتحقيق الذي يتقضيه النظر الدقيق: أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لتنجّز متعلّقه، فهو في رتبة العلم التفصيليّ، فلا يمكن القول بالترخيص،

ص: 22

لا بترك كلا الطرفين، ولا بترك أحدهما فقط.

فإن قلت: إنّ العلم الإجماليّ، وإن كان كشفاً تامّاً، كالعلم التفصيليّ، ولكن لا ينكشف به التكليف تمام الانكشاف كما ينكشف بالعلم التفصيليّ، بل مرتبة الحكم الظاهريّ، وهو الشكّ والجهل، محفوظة مع العلم الإجماليّ في كلّ طرف من الأطراف بالخصوص، فلا يعلم أنّ هذا واجب أو ذاك، أو أنّ هذا حرام أو ذاك، فلا مانع من الإذن في المخالفة الاحتماليّة بالترخيص في بعض الأطراف، بل في المخالفة القطعيّة، بأن يرخّص في تمام الأطراف.

قلت: إنّ مجرّد عدم انكشاف التكليف بالعلم الإجماليّ تمام الانكشاف، وبقاء الشكّ والجهل في كلّ طرف من الأطراف بالخصوص، ممّا لا يسوّغ الإذن في الأطراف، كلّاً أو بعضاً؛ وذلك لجواز دعوى لزوم التضادّ مع التكليف الواقعيّ المعلوم بالإجمال.

وإذا اتّضح ذلك، يظهر: أنّ العلم الإجماليّ بمنزلة العلم التفصيليّ في أنّه علّة تامّة لتنجّز التكليف، فلا يجوز للعقل بعد قطعه بالحكم الإذن في مخالفته.

قال صاحب الكفاية):

«لا يخفى: أنّ التفصّي عن المناقضة على ما يأتي لما كان بعدم المنافاة بين الحكم الواقعيّ ما لم يصر فعليّاً والحكم الظاهريّ الفعليّ،كان الحكم الواقعيّ في موارد الاُصول والأمارات المؤدّية إلى خلافه لا محالة

ص: 23

غير فعليّ، فحينئذٍ: فلا يجوّز العقل مع القطع بالحكم الفعلي الإذن في مخالفته، بل يستقلّ مع قطعه ببعث المولى أو زجره ولو إجمالاً بلزوم موافقته وإطاعته.

نعم، لو عرض بذلك عسر موجب لارتفاع فعليّته شرعاً أو عقلاً، كما إذا كان مخلّاً بالنظام، فلا تنجّز حينئذٍ، لكنّه لأجل عروض الخلل في المعلوم، لا لقصور العلم عن ذلك، كما كان الأمر كذلك فيما إذا أذن الشارع في الاقتحام، [يعني: به في مورد العلم التفصيليّ للعسر]، فإنّه - أيضاً - موجب للخلل في المعلوم، لا المنع عن تأثير العلم شرعاً» (1).

وحيث قد عرفت فعلّيّة العلم الإجماليّ:

فلا يقال: إنّ الحكم الواقعيّ فعليّ، بمعنى: أنّه لو تعلّق به العلم لتنجّز، والحكم الظاهريّ فعليّ منجّز، وأنّ الواقعيّ ما لم يبلغ مرتبة التنجّز لم يبلغ مرتبة البعث والزجر؛ فلا يتنافى الحكم الواقعيّ مع الحكم الظاهريّ المجعول على خلافه؛ وعليه: فحال العلم الإجماليّ كحال الشبهة البدويّة، فكما جاز للشارع الإذن والترخيص في الشبهات البدويّة وكان ذلك كاشفاً عن عدم الإرادة والكراهة على طبق الحكم الواقعيّ، فكذلك جاز للشارع الإذن والترخيص في أطراف العلم الإجماليّ.

ص: 24


1- كفاية الاُصول: 272, الهامش رقم 7.

لأنّه يقال: ما ذكر غير تامّ؛ ضرورة أنّ العلم الإجماليّ منجّز بالنسبة إلى أطرافه فعلاً، فلا يجوز جعل الحكم على خلافه على الإطلاق، ولا في بعض الأطراف، خلافاً لمن ذهب إلى أنّ العلمَ الإجماليّ لمّا كان علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة، لم يكن من الممكن الترخيص في تمام الأطراف بأجمعها، ولكنّه لمّا كانمقتضياً بالنسبة إلى الموافقة القطعيّة، فيمكن الترخيص في بعض الأطراف على البدل.

قال المحقّق النائيني!: «فالأقوى وجوبها [أي: وجوب الموافقة القطعية] أيضاً؛ لأنّه يجب عقلاً الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال، وهو لا يحصل إلّا بالاجتناب عن جميع الأطراف؛ إذ لو لم يجتنب المكلّف عن الجميع وارتكب البعض، فلا يأمن من مصادفة ما ارتكبه لمتعلّق التكليف المعلوم في البين، فيكون قد ارتكب الحرام بلا مجوّز عقليّ أو شرعيّ، فيستحقّ العقوبة، وذلك كلّه واضح بعد البناء على أنّ العلم الإجماليّ كالتفصيليّ يقتضي التنجيز.

نعم، للشارع الإذن في ارتكاب البعض والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر كما سيأتي بيانه، ولكن هذا يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص عليه غير الأدلّة العامة المتكفّلة لحكم الشبهات، من قبيل قوله(علیه السلام): (كلّ شيء لك حلال) أو: (كلّ شيء طاهر) وقوله: (لا تنقض اليقين بالشك)، وقوله-: (رفع ما لا يعلمون)، وغير ذلك من أدلّة الاُصول العمليّة؛ لأنّ نسبتها إلى كلّ واحد من الأطراف على حدٍّ سواء، ولا يمكن أن تجري

ص: 25

في الجميع لأنّه يلزم المخالفة القطعيّة، ولا في الواحد المعيّن؛ لأنّه يلزم الترجيح بلا مرجّح، ولا في الواحد لا بعينه؛ لأنّ الاُصول إنّما تجري في كلّ طرف بعينه» (1).

ثمّ إنّه يقع الكلام: في أنّه مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيليّ بالامتثال فهل يكفي العلم الإجماليّ بالامتثال أم لا؟ فإذا علم - مثلاً - بوجوب أحد الأمرين: إمّا الظهر وإمّا الجمعة في الشبهة الحكميّة، أو بوجوب الصلاة إلى إحدى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة في الشبهة الموضوعيّة، فهل يكفي العلم الإجماليّ بالامتثال بإتيان كلّ من الظهر والجمعة أو بإتيان الصلاة إلى كلّ واحدة من الجهات الأربع، مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيليّ بالامتثال باستعلام الحال، أو بالسؤال عنالموضوع، ومعرفة الواجب بعينه على التفصيل، والإتيان به بخصوصه، أم أنّ الإتيان بالواجب بنحو الإجمال لا يكون كافياً إلّا عند تعذّر العلم التفصيليّ به؟

وفي مقام الجواب نقول: الواجب: تارةً: يكون توصّلياً، واُخرى: يكون تعبّدياً، فإن كان توصّلياً: يحصل المقصود منه بمجرد حصول الواجب التوصّليّ في الخارج، كيف ما اتّفق، سواء كان يعلم حين الإتيان به بأنّه هو الواجب بخصوصه أم لم يكن يعلم، فيجوز الإتيان به ولو مع التمكّن من العلم التفصيليّ.

ص: 26


1- فوائد الاُصول 4: 24 - 25.

قال الشيخ الأعظم!: «أمّا فيما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ففي غاية الوضوح» (1).

وكذا يحصل المقصود من الواجب بمجرّد حصوله في الخارج إذا كان تعبّديّاً، ولم يكن محتاجاً إلى التكرار، كما إذا تردّد الواجب بين الأقلّ والأكثر، كتردّد الصلاة - مثلاً - بين فاقد السورة وواجدها، فإنّ الاحتياط حينئذٍ بإتيان الأكثر جائز.

وإنّما الكلام في الواجب التعبّديّ المحتاج إلى التكرار، كما إذا دار أمره بين المتباينين، كالظهر والجمعة، أو كالصلاة إلى الجهات الأربع.

والذي يظهر من الشيخ الأعظم!: هو جواز الاحتياط في العباديّات مطلقاً، حتى فيما احتاج إلى التكرار، فضلاً عمّا لا يحتاج إليه، حيث قال! - بعد عبارته المتقدّمة آنفاً - ما لفظه:

«وأمّا فيما يحتاج إلى قصد الإطاعة [يعني به العباديات] فالظاهر أيضاً تحقّق الإطاعة إذا قصد الإتيان بشيئين يقطع بكون أحدهما المأمور به.

ودعوى: أنّ العلم بكون المأتيّ به مقرّباً معتبر حين الإتيان به ولا يكفي العلم بعده بإتيانه: ممنوعة؛ إذ لا شاهد لها بعد تحقّق الإطاعة بغير ذلك أيضاً، فيجوز لمن تمكّن من تحصيل العلم التفصيليّ بأداءالعبادات العمل بالاحتياط وترك تحصيل العلم التفصيليّ، لكن الظاهر كما هو

ص: 27


1- فرائد الاُصول 1: 71.

المحكي عن بعض ثبوت الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة» - إلى أن قال -:

«وأمّا إذا لم يتوقّف الاحتياط على التكرار كما إذا أتى بالصلاة مع جميع ما يحتمل أن يكون جزءاً، فالظاهر: عدم ثبوت اتّفاق على المنع ووجوب تحصيل اليقين التفصيليّ، لكن لا يبعد ذهاب المشهور إلى ذلك» (1)، يعني به المنع.

وأمّا صاحب الكفاية! فقد اختار - هو أيضاً - جواز الاحتياط في العبادات فيما لا يحتاج إلى التكرار نظراً إلى عدم إخلاله بشيء ممّا اعتبر أو يحتمل اعتباره فيها من قصد القربة والوجه والتمييز.

نعم، يخلّ فقط بعدم إتيان ما احتمل جزئيّته كالسورة في المثال المتقدّم على تقدير جزئيّتها بقصد الجزئيّة، قال!:

«واحتمال دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية» (2).

ومراده من الإخلال بقصد الجزئيّة هو الإخلال بقصد العنوان المعتبر في كلّ جزء من أجزاء الصلاة قطعاً، وهذا ضعيف؛ فإنّ مشكوك الجزئيّة عندما يؤتى به برجاء جزئيّته، فهو - على تقدير كونه جزءاً واقعاً - فقد أتى به بقصد جزئيّته، كما أنّه إذا أتى به برجاء وجوبه، فهو على تقدير وجوبه

ص: 28


1- فرائد الاُصول 1: 71 - 72.
2- كفاية الاُصول: ص 274.

واقعاً قد أتى بقصد الوجه والقربة جميعاً.

ويمكن أن يكون مراده من الإخلال بقصد الجزئيّة هو الإخلال بالتمييز؛ فإنّه إذا لم يعلم أنّ الواجب هل هو الأقلّ أو الأكثر، لم يمكن الإتيان بالمشكوك الزائد على الأقلّ بقصد الجزئيّة.والحقّ: جواز الاحتياط في العباديّات مطلقاً سواءً حصل تكرار أم لا؟ خلافاً لما ذكره جمع من الفقهاء من أنّ الاحتياط في العبادات يستلزم الإخلال بقصد الوجه المعتبر في العبادة، وعلى هذا بنوا بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط مع التمكّن منهما.

وقد حكي عن بعضهم: عدم كفاية قصد الوجه، بل لابدّ - مع ذلك - من قصد الجهة التي اقتضت وجوب العبادة أو استحبابها.

والتحقيق: أنّه لا يعتبر في صحّة العبادة لا قصد الوجه، ولا العلم بالأجزاء الواجبة والمستحبّة، بل يكفي قصد امتثال أمرها الواقعيّ، ولا يعتبر العلم بوجوبه أو استحبابه، ولا العلم بواجبات الأجزاء ومستحبّاتها، فضلاً عن قصد ذلك؛ لأنّ صدق العبادة والطاعة لا يتوقّف على هذه الاُمور عقلاً، ولا يتوقّف الامتثال عليها عرفاً، ولا يدلّ على اعتبارها دليل بالخصوص.

قال المحقّق النائيني!: «فلأنّه لم نعثر فيما بأيدينا من الأخبار على ما يدلّ على اعتبار شيء من ذلك في العبادة، مع أنّ المسألة ممّا تعمّ به البلوى، ويتكرّر الحاجة إليها ليلاً ونهاراً، وليست من المرتكزات في

ص: 29

أذهان العامّة حتى يصحّ للشارع الاتّكال على ذلك، بل هي من المسائل المغفول عنها غالباً، وما هذا شأنه يلزم على الشارع التأكيد في بيانه، فعدم الدليل في مثل ذلك دليل العدم، ويصحّ لنا دعوى القطع بعدم اعتبار هذه الأمور في العبادة» (1).

فيكون المقام من باب (لو كان لبان) إذا بحثنا عنه ولم نجده، فيكشف ذلك عن عدم وجوده، لا من باب أنّ (عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود).

وأمّا ما ذكر من أنّه لعب بأمر المولى، ففيه:

أوّلاً:

أنّه ليس تكراراً للأمر بل للماُمور به، والتكرار إنّما يكون لعباً إذا لم يترتّب عليه غرض عقلائيّ، فلا يحكم المولى بعبثيّة كلّ تكرار؛ نعم، قد يكون قبيحاً إذا كان موجباً للوسواس.

وأمّا ما نصّ عليه المحقّق النائيني! - حيث قال: «إنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلاً عدم قصد الوجه والتمييز ونحو ذلك.

نعم: يعتبر في حسن الاحتياط عقلاً عدم التمكّن من إزالة الشبهة، فإنّ مراتب الامتثال عقلاً أربعة: الأوّل: الامتثال التفصيليّ، الثاني: الامتثال الإجماليّ، الثالث: الامتثال الظنّيّ، الرابع: الامتثال الاحتماليّ.

ص: 30


1- فوائد الاُصول 4: 268.

ولا يجوز الانتقال إلى المرتبة اللّاحقة إلّا بعد تعذّر المرتبة السابقة، فإنّه فيما عدا المرتبة الاُولى لايمكن قصد امتثال الأمر التفصيليّ حال العمل، ويعتبر في حسن الطاعة الاحتماليّة عدم القدرة على الطاعة التفصيليّة، ولا يحسن من المكلّف في مقام الطاعة قصد الأمر الاحتماليّ مع التمكن من قصد الأمر القطعيّ التفصيليّ؛ لأنّ حقيقة الطاعة هي أن تكون إرادة العبد تبعاً لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه، وتحرّكه عن تحريكه، وهذا يتوقّف على العلم بتعلّق البعث والتحريك نحو العمل، ولا يمكن الانبعاث بلا توسيط البعث الواصل إلى المكلّف، والانبعاث عن البعث المحتمل ليس في الحقيقة انبعاثاً، فلا يكاد يتحقّق حقيقة الطاعة والامتثال إلّا بعد العلم بتعلّق البعث نحو العمل ليكون الانبعاث عن البعث» (1) - من أنّ «هذا البرهان يقتضي عدم صحّة الامتثال والطاعة الاحتماليّة مطلقاً؛ لأنّ الانبعاث عن الأمر المحتمل ليس حقيقة انبعاثاً» (2).

«نعم، الانبعاث عن البعث المحتمل أيضاً مرتبة من العبوديّة ونحو من الطاعة والامتثال، إلّا أنّه يتوقّف حسن ذلك على عدم التمكّن منالانبعاث عن البعث المعلوم الذي هو حقيقة العبادة والطاعة؛ فمع التمكّن من الامتثال التفصيليّ لا يحسن من العبد الامتثال الاحتماليّ» (3).

ص: 31


1- فوائد الاُصول 4: 269.
2- فوائد الاُصول 4: 269: هامش رقم 1.
3- فوائد الاُصول 4: 269 - 270.

فالحقّ: أنّ العلم - مطلقاً - طريق إلى إتيان الواقع بعد صدق الانبعاث من قبل الآمر، تارةً جزماً واُخرى رجاءً؛ وأنّ المناط هو إتيانه على أي وجه اتّفق، فإنّ التحريك في الثاني يكون بمجرّد احتماله، وأمّا في الأوّل بواسطة أمره الجزميّ، ولذا قالوا بصحّة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والاكتفاء بالامتثال الإجماليّ مع التمكّن من التفصيليّ.

وأمّا إذا فرض الشكّ في اعتبار قصد الوجه والتميز: فمذهب المحقّق النائيني! أنّ مقتضى الأصل مع الشكّ في اعتبار الامتثال التفصيليّ مع التمكّن منه في تحقّق الامتثال هو الاحتياط وعدم الاكتفاء بالامتثال الإجماليّ، كما يستفاد ذلك من تقريرات بحثه الشريف، حيث قال:

«وبالجملة: الأمور التي اعتبرها العقل في الطاعة ويحتمل اعتبارها فيها عقلاً، وإن كانت قابلةً للتصرّف شرعاً كأن يحكم الشارع بدليل مخصوص بكون الامتثال الاحتماليّ في عرض الامتثال التفصيليّ، وليس وزان ذلك وزان ما لا يقبل للتصرّف الشرعيّ أصلاً كطريقيّة القطع وأمثالها، إلّا أنّ حديث الرفع ليس ناظراً إلّا على رفع الأحكام المجعولة شرعاً إمضاء أو تأسيساً، فيكون قاصراً عن الشمول لما يحتمل اعتباره في الطاعة عقلاً.

وبذلك يفرّق بين المقام وبين الشكّ في اعتبار نيّة الوجه ومعرفيّته في صحّة العبادة، فإنّ الشكّ هناك لرجوعه إلى الشكّ في اعتبار أمر زائد

ص: 32

على ما هو معتبر عند العقل شرعاً، يكون مورد الحديث الرفع، بخلاف المقام، فإنّ الشكّ فيه راجع إلى اعتبار أمر في الطاعةالعقليّة؛ ضرورة أنّ حسن الاحتياط من الأحكام التي يستقلّ العقل بها، ومع الشكّ في تحقّقه لا يمكن التمسّك بحديث الرفع الناظر إلى رفع الأحكام المجعولة الشرعيّة: إمضاءً أو تأسيساً، وإذا لم يمكن التمسّك بحديث الرفع، فمقتضى قاعدة الاشتغال هو عدم جواز الاكتفاء بالامتثال الاحتماليّ مع التمكّن من الامتثال التفصيليّ» (1).

وقد أورد عليه اُستاذنا الأعظم! بما حاصله:

أنّ الامتثال التفصيليّ، لو كان دخيلاً في الغرض، لكان على المولى بيانه؛ لأنّه ممّا يغفل عنه غالباً، ولكنّه لم يبيّنه، فيدلّ على عدم دخالته في الغرض؛ لأنّ استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدّم، فلا يجب الاحتياط، بل لا وجه له؛ لأنّ عدمه لا يضرّ عدمه في صحّة العمل.

وهاك نصّ كلامه!: «فالشكّ في اعتبار شيء يرجع إلى قصد القربة، وإن لم يكن مجرى للبراءة، إلّا أنّه يستكشف عدم اعتباره من عدم البيان، لكونه ممّا يغفل عنه نوع المكلّفين، فعلى تقدير الاعتبار كان على المولى البيان والتنبيه عليه، فمع عدم البيان، يستكشف عدم اعتباره لا محالة،

ص: 33


1- أجود التقريرات 2: 45.

فتحصّل أنّ الصحيح في هذه المسألة - أيضاً - كفاية الامتثال الإجماليّ والإتيان بما يحتمل وجوبه رجاء، كما هو المشهور» (1).

وخلاصة الكلام: أنّه عند الشكّ في اعتبار قصد القربة يمكن التمسّك بالإطلاق المقامي لرفعه؛ ضرورة أنّه لو سلّم استحالة التقييد بالقصد، فإنّه إنّما يكون مانعاً عن التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ دون المقاميّ.

وفيه: أنّ هذا المحذور في غير محلّه؛ لأنّ الشارع بعد ما كان بصدد بيان حقيقة أمر عباديّ كالصلاة، وشرح ماهيّته، وتوضيح كلّ ما لهدخل في تلك العبادة من الأجزاء والشرائط والموانع، ومع ذلك، لم يبيّن اعتبار قصد الوجه بوجهٍ من الوجوه، نستكشف من ذلك عدم اعتباره في العبادة.

ودعوى: أنّ اعتبار القصد إنّما هو بحكم العقل، فيحكم بأنّ حصول الغرض متوقّف عليه، فيستغني الشارع في مقام بيان حقيقة العبادة عن ذكره بسبب حكم العقل.

مدفوعة: بأنّه، وإن كان كذلك، ولكنّه ليس من المستقلّات العقليّة التي يفهمها كلّ أحد، فلا يمكن للشارع الاستغناء عن ذكره، إذ المفروض الشكّ في اعتباره فيحتاج إلى ذكره وبيان دخله فيها، ومن عدم ذكره يستكشف عدم اعتباره.

ص: 34


1- مصباح الاُصول 1: 91، (المجلّد 47 من موسوعة الإمام الخوئي!).

بل يمكن التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ أوّلاً؛ لإمكان تقييدها بنتيجة الإطلاق - كما مرّ في فصل التعبّديّ والتوصّليّ - لا بالإطلاق اللّحاظيّ، فإذا لم يقيّد الشارع العبادة باعتباريّة قصد الوجه، ولم ينبّه على كونه دخيلاً في حقيقتها، فيصحّ التمسّك - حينئذٍ - بالإطلاق لبيان عدم دخله.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي! صحّح إمكان التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ بشكلين آخرين:

الأوّل: أن يكون المنشأ في الأمر بالصلاة - مثلاً - هي الطبيعة الكلّيّة لوجوب الصلاة، لا الفرد منه، فتشمل طبيعة الوجوب جميع الأفراد العرضيّة والطوليّة لطبيعة الصلاة، فكما أنّ طبيعة وجوب الصلاة السارية إلى جميع أفراد الصلاة تسري إلى جميع الأفراد العرضيّة على البدل، فكذلك تسري إلى جميع الأفراد الطوليّة منها، ولا شكّ أنّ الصلاة مع قصد الوجه، كالصلاة مع قصد الأمر، هي من الأفراد الطوليّة لطبيعة الصلاة، فتكون مشمولة لها، وبهذا الشكل، يمكن تعلّق الوجوب الكلّيّ المنشأ بذلك الإنشاء الشخصيّ بالصلاة المقيّدة بقصد الوجه أو القربة أو ما شابه ذلك من قصد التمييز.والثاني: تعلّق الخطاب بالحصّة التوأمة من طبيعة الصلاة مع قصد الوجه، بحيث يكون المتعلّق نفس تلك الحصّة من طبيعة الصلاة، ويكون القيد وما هو التوأم خارجاً عن الطلب، فلا يلزم محذور تقدّم

ص: 35

المتأخّر وتأخّر المتقدّم، فالداخل هو واقع التوأميّة (1).

وثانياً:
اشارة

أنّ العقل لا يحكم إلّا بلزوم الإطاعة، وليس معنى الإطاعة إلّا الإتيان بالماُمور به بجميع ما اعتبر فيه شرعاً أو عقلاً، فإذا جيء بجميع ما له دخل في المصلحة والغرض، يحصل الغرض ويسقط الأمر؛ لأنّ سقوط الأمر إنّما يكون باُمور ثلاثة:

الأوّل: بالعصيان.

والثاني: بفقدان الماُمور به بعد وجوده، كما إذا أخذ السيل الميّت فيسقط وجوب تكفينه وتغسيله والصلاة عليه.

ص: 36


1- انظر: نهاية الأفكار 3: 50 - 51، ونصّ كلامه! كما يلي: «ويمكن التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ - أيضاً - بما بيّنّاه في مبحث التعبّديّ والتوصّليّ من إمكان أخذ قيد دعوة الأمر في متعلّقه بالتزام أنّ الحكم المنشأ بالإنشاء الوارد في الخطاب الشخصيّ هو سنخ الحكم الساري في ضمن أفرادٍ طوليّة بعضها محقّق لموضوع الآخر بنحوٍ قابلٍ للانحلال إلى خطابات متعدّدة بعدد الأفراد ...»، إلى أن قال: «ويمكن تقريب الإطلاق بوجه آخر، حتى على فرض كون المنشأ بالخطاب حكماً شخصيّاً، بتقريب: أنّه وإن يقطع بعدم إمكان تقييد المأمور به بمثل قصد الوجه؛ لامتناع أخذ ما هو من شؤون الأمر في متعلّقه، ولكنّه لا شبهة في أنّه في فرض اعتباره في الغرض لا يكون له إطلاق - أيضاً - يشمل حال فقده، بل هو - حينئذٍ - عبارة عن الحصّة الخاصّة التوأمة مع قصد الوجه على نحو نتيجة التقييد، كما أسلفنا، وحينئذٍ: فلو شكّ في دخله في الغرض، يكون مرجع الشكّ المزبور - لا محالة - إلى الشكّ في إطلاق المأمور به وعدم إطلاقه الراجع إلى الحصّة التوأمة..»، إلى آخر كلامه«.

والثالث: الامتثال، أي: إتيان الماُمور به بجميع أجزائه وشرائطه وترك موانعه، أو فقل: الإتيان بجميع ما له دخل في حقيقة الماُمور به.

والحقّ: عدم تمامية مثل هذا الكلام؛ ضرورة أنّه لم يعلم أنّ قصد الوجه ممّا حكم به الشرع أم لا؟ ولم يحكم به العقل وإلّا لما شكّ الإنسان دخالته.

وإذا قد عرفت هذا، يقع الكلام في أنّه هل يمكن إثبات التكليف بالعلم الإجماليّ كما يثبت بالعلم التفصيليّ أم لا؟والصحيح: أنّ العلم الإجماليّ كالعلم التفصيليّ علّة تامّة لثبوت التكليف في وجوب الموافقة وحرمة المخالفة؛ لأنّ العقل لا يفرق في تنجّز متعلّق العلم به بين كونه تفصيليّاً أو إجماليّاً، فكما أنّ العلم التفصيليّ إذا تعلّق بحكم شرعيّ أو موضوع ذي حكم شرعيّ فالعقل يحكم بلزوم إطاعته والخروج عن عهدته بالامتثال، فكذلك هو يحكم في العلم الإجماليّ بلزوم الإطاعة والخروج عن عهدة المعلوم بالإجمال بالامتثال، - بعد أن قطعنا بالوجدان بفعلّيّة التكليف الذي لا يحتمل الخلاف - غاية الأمر: أنّ المتعلّق لمّا كان معلوماً تفصيلاً في العلم التفصيليّ، فلا يكون هناك ترديد فيه، وأمّا في العلم الإجماليّ، فحيث إنّ متعلّق التكليف غير معلوم تفصيلاً، فالعقل يحكم بإتيان جميع محتملاته في الشبهة الوجوبيّة، وترك الجميع في الشبهة التحريميّة، حتى يحصل القطع بالامتثال.

ص: 37

فالعلم الإجماليّ علّة تامّة بالنسبة إلى طرفي المخالفة والموافقة، وليس للشارع الترخيص ببعض أطرافه فضلاً عن جميعها، وإلّا لزم التناقض إمّا قطعاً أو احتمالاً؛ لأنّ الترخيص إن كان في تمام الأطراف فالتناقض قطعيّ؛ إذ المفروض أنّ العقل يحكم بلزوم الإطاعة، فلا يجوز الترخيص في المخالفة القطعيّة، وإن كان في بعضها فالتناقض احتمالي؛ لأنّ فعلّيّة الترخيص مع احتمال التكليف من باب احتمال اجتماع النقيضين، وهو في الاستحالة كالتناقض، فلا يجوز الترخيص في المخالفة الاحتماليّة.

فظهر ممّا بيّنّاه: أنّ التفكيك بين حرمة المخالفة القطعيّة وبين وجوب الموافقة القطعيّة بأنّ العلم الإجماليّ علّة تامة بالنسبة إلى الأوّل، ومقتضٍ بالنسبة إلى الثاني، في غير محلّه، بل هو علّة تامّة بالنسبة إلى كليهما، وحينئذٍ: فالعقل - لا محالة - يحكم بوجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة.

ومن ذلك ظهر حال الأقوال في المسألة.

ثمّ إنّ ها هنا اُموراً لابدّ من بيانها:

الأمر الأوّل:

أنّ المراد من الحكم الذي يعلم بالتفصيل مرّةً وبالإجمال اُخرى هو الحكم المنشأ بداعي البعث والزجر، وهو إنّما يكون صالحاً للبعث والتحريك إذا كان واصلاً إلى العبد، بخلاف الحكم الذي يكون منشأ

ص: 38

بداعي الامتحان، فإنّ العلم به لا يصلح للتحريك، وكذا بخلاف الحكم المنشأ بداعي البعث ولكن لم يصل إلى المكلّف بحجّة من علم أو علمي، فلا يصلح للتحريك مثل: (اسكتوا عمّا سكت اﷲ عنه)؛ ضرورة أنّ الأحكام بوجوداتها الواقعيّة ما لم تقم عليها حجّة معتبرة لا تصل إلى مرتبة الفعليّة، ولا يجب بالتالي التحريك نحوها.

الأمر الثاني:

أنّ كلّاً من الحكم الحاصل بالعلم التفصيليّ والحاصل بالعلم الإجماليّ سواء من حيث صلوحهما للعبث والتحريك؛ ضرورة أنّ المدار في العمل بالحكم هو وصوله إلى المكلّف، وهو متحقّق حتّى في العلم المردّد بين هذا المصداق أو ذاك؛ لأنّ الترديد إنّما هو متعلّق الحكم، والبعث والتحريك يتعلّقان بنفس الحكم، ومثاله: ما لو علمت بوجوب إكرام شخصٍ، وكان مردّداً بين أن يكون عالماً أو جاهلاً، فلابدّ من التحرّك نحوه، وكونه مردّداً لا يقدح بالعلم بالحكم، فلا يمكن ادّعاء المعذّريّة بدعوى أنّ إجمال المتعلّق علّة لترك العمل بالعلم.

لا يقال: إنّ حال العلم الإجماليّ كحال الشبهة البدويّة؛ لأنّ تنجيز العلم للتكليف وتقبيح العقل مخالفته قد اعتبِر فيه تميّز المتعلّق عن غيره خارجاً ومعرفة خصوصيّاته حال الارتكاب لا بعده، وحينئذٍ لا يكون العلم الإجماليّ سبباً لتنجّز التكليف كما لا تكون الشبهة البدويّة كذلك، فيجوز المخالفة في كليهما بخلاف العلم التفصيليّ.

ص: 39

لأنّا نقول: لا وجه لقياس العلم الإجماليّ بالشبهات البدويّة؛ لأنّ هناك فرقاً بينهما، لوصول التكليف إلى المكلّف في الأوّل، ولذايصدق التمرّد على المولى بارتكاب بعض الأطراف فيه، دون الثاني، فيحكم العقل بقبح المخالفة وحسن المؤاخذة عليها، وليس هذا إلّا لتنجّز الحكم ووصوله إلى المكلّف بنفس العلم به ولو مع تردّد متعلّقه وعدم تميّزه، ولذا لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في العلم الإجماليّ، دون الشبهات البدويّة؛ فالقياس على الشبهات البدويّة قياس مع الفارق.

الأمر الثالث:

أنّ الملاك في الحرمة واستحقاق العقوبة هو التمرّد والطغيان على المولى وهتك حرمته، فيخرج بذلك عن العبوديّة، وهذا ظلم عليه وكفران بنعمته، وهذا الملاك مفقود مع الجهل بالحكم، فلو ارتكب المكلّف ما هو مبغوض عند المولى مع الجهل بمبغوضيّته لم يخرج عن زيّ العبوديّة، ولا يعدّ فعله هذا ظلماً للمولى وطغياناً عليه.

وهذا بخلاف العلم بالحكم، فإنّ عدم المبالاة به - سواء كان متعلّقه مميّزاً ومفصّلاً لدى المكلّف أو كان مردّداً مجملاً - هتك لحرمة المولى وظلم عليه، فإذا علم به اشتغلت ذمّته به، والاشتغال اليقينيّ يقتضي البراءة اليقينيّة، ولا فرق في حكم العقل بلزوم تحصيل اليقين بالبراءة عمّا اشتغلت به الذمّة قطعاً بين كون الاشتغال ثابتاً بالعلم التفصيليّ أو الإجماليّ.

ص: 40

الأمر الرابع:

أنّ هناك فرقاً بين الظلم والكذب، وهو أنّ الظلم قبيح ذاتاً؛ لأنّه بنفسه وبعنوانه محكوم بالقبح، بخلاف الكذب، فإنّه مقتضٍ للقبح لا علّة تامّة له، ولذا قد يطرأ عليه عنوان الحسن كالإصلاح بين المؤمنين وإنقاذ نفس محترمة، وليس كذلك الظلم فإنّ وصف القبح لا يكاد ينفكّ عنه.

وإذا كان العلم الإجماليّ كالعلم التفصيليّ منجّزاً للحكم وعلّة تامّة بالنسبة إلى التكليف، فلا يجوز الترخيص في جميع أطرافه - أي: تركالمعلوم بالإجمال - وكذا لا يجوز الترخيص ببعض أطرافه - وهو المحتمل بالإجمال - للزوم القطع بالتناقص على الأوّل، واحتماله على الثاني.

فإن قلت: كيف لا يجوز الترخيص في الأطراف مع أنّه إذا قامت أمارة أو أصل مثبت للتكليف في بعض الأطراف موافقة للمعلوم بالإجمال، ويكون بمقدار المعلوم بالإجمال بحيث يكون انطباق المعلوم بالإجمال عليه ممكناً محتملاً، فإنّ العلم الإجماليّ ينحل - حينئذٍ - ويجري الأصل - بنفي وجوب الطرف الآخر - بلا معارض، والحال أنّ احتمال الوجوب في الطرف المنفيّ ما زال موجوداً، فيكشف هذا عن إمكان ورود الترخيص ولو ببعض الأطراف مع وجود احتمال التناقض، ويسمّى هذا ﺑ (الانحلال الحكميّ) في قبال (الانحلال الحقيقيّ) وهو صيرورة المعلوم بالإجمال معلوماً بالتفصيل في بعض الأطراف.

ص: 41

قلت: لا فرق بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ في علّيّتهما التامّة للحكم، فكما أنّه في العلم التفصيليّ بالتكليف قد يجعل الشارع بدلاً في مقام الامتثال، كما في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة وغيرها، فكذلك في العلم الإجماليّ، فيجعل ذلك الطرف الذي قامت الحجّة على وجود التكليف فيه بدلاً عن التكليف الواقعيّ، وهذا نوع توسعة وتصرّف في مقام إسقاط التكليف كما في مثل: (الطواف بالبيت صلاة)، فتفريغ الذمّة حينئذٍ: إمّا بإتيان نفس الماُمور به الواقعيّ، أو بإتيان بدله.

ومعنى العلّيّة التامّة: أنّه لا يمكن الترخيص في طرف ما دام لم يجعل الطرف الآخر بدلاً، ولذا لايجري الأصل المرخّص إذا كان منافياً للأطراف بعدما قلنا بأنّه علّة تامّة؛ لأنّ احتمال التناقض متحقّق وإن لم لكن لهذا الأصل معارض.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ العلم الإجماليّ مقتضٍ لا علّة تامّة، فإنّه حينئذٍ يجري الأصل المرخّص.فاتّضح: أنّه مع التمكّن من الظنّ التفصيليّ يجوز الإتيان بالعلم الإجماليّ بطريق أولى؛ لأنّ مرجع حجّيّة الظن إلى ترتيب آثار العلم بحيث يصحّ إسناد المؤدّى إلى اﷲ تعالى وتحقّق الامتثال به جزماً.

فلو قلنا بعدم تقدّم العلم التفصيليّ مع التمكّن منه، لا وجه - حينئذٍ - لما هو محكيّ عن الحلّيّ) في مسألة اشتباه الثوب الطاهر بالنجس: من

ص: 42

تقديم الامتثال التفصيليّ على الشرط، حيث ذهب إلى وجوب الصلاة عارياً وعدم جواز تكرارها في الثوبين المشتبهين (1).

فحيث لم يتمكّن من العلم التفصيليّ، يسقط اعتبار امتثاله، فلا يزاحم الشرط أو الجزء المتمكّن منه، ولو بالتكرار، فإنّه متمكّن من حصول الصلاة في الثوب الطاهر، فيلزم الدور؛ لأنّ التمكّن من الامتثال التفصيليّ واعتباره يتوقّف على التمكّن منه. والتمكّن منه متوقّف على سقوط الشرط، فيلزم الدور.

ص: 43


1- حكاه عنه في فوائد الاُصول, انظر: 4: 272 - 273.

ص: 44

المبحث الثاني: في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع

اشارة

وها هنا اُمور لابدّ من بيانها:

الأمر الأول: أنّ المراد من الاُصول المبحوث عنها في المقام من حيث قيامها مقام القطع - على ما نبّه عليه جملة من المحقّقين كالمحقّقالنائيني! (1) - ليس هو مطلق الاُصول، بل خصوص الاُصول التنزيليّة، أي: الاُصول التي تكون متكفّلة لتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، وهو البناء العمليّ على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع، وإلقاء الطرف الآخر، كالاستصحاب وأصالة الصحّة، دون أصالة الطهارة والبراءة والاشتغال.

الأمر الثاني: هو ما ذكره المحقّق النائيني! حيث قال:

«قد عرفت أنّ القطع من الصفات الحقيقيّة ذات إضافة، ولأجل ذلك

ص: 45


1- فوائد الاُصول 3: 15 - 16.

يجتمع في القطع جهات ثلاث:

الجهة الاُولى: جهة كونه صفة قائمة بنفس العالم من حيث إنشاء النفس في صقعها الداخلي صورة على طبق ذي الصورة، وتلك الصورة هي المعلومة بالذات، ولمكان انطباقها على ذي الصورة يكون ذيها معلوماً بتوسط تلك الصورة، فالمعلوم أولاً وبالذات هي الصورة، وتلك الصورة هي حقيقة العلم والمعلوم، وهذا من غير فرق بين أن نقول: إنّ العلم من مقولة الكيف، أو من مقولة الفعل، أو من مقولة الانفعال، أو من مقولة الإضافة - على اختلاف الوجوه والأقوال - فإنّه على جميع التقادير تكون هناك صفة قائمة في نفس العالم، فهذه أوّل جهات العلم.

الجهة الثانية: جهة إضافة الصورة لذي الصورة، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيّته له وإراءته للواقع المنكشف، وهذه الجهة مترتّبة على الجهة الاُولى؛ لما عرفت من أنّ إحراز الواقع وكشفه إنّما يكون بتوسّط الصورة.

الجهة الثالثة: جهة البناء والجري العمليّ على وفق العلم، حيث إنّ العلم بوجود الأسد مثلاً في الطريق يقتضي الفرار عنه، وبوجود الماء يوجب التوجّه إليه إذا كان العالم عطشاناً، ولعلّه لذلك سمّيالعلم اعتقاداً، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد والبناء العمليّ عليه.

ص: 46

فهذه الجهات الثلاث كلّها مجتمعة في العلم وتكون من لوازم ذات العلم، حيث إنّ حصول الصورة عبارة عن حقيقة العلم ومحرزيّته وجداني والبناء العمليّ عليه قهري.

ثمّ إنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هي الجهة الثانية من جهات العلم، وفي باب الاُصول المحرزة هي الجهة الثالثة، وتوضيح ذلك: هو أنّ المجعول في باب الأمارات نفس الطريقيّة والمحرزيّة والكاشفيّة، بناءً على ما هو الحقّ عندنا من تعلّق الجعل بنفس الطريقيّة، لابمنشأ انتزاعها» (1).

وبعبارة أُخرى: فلمّا كان للأمارات مقدار من الكشف والطريقيّة، فقد تمّم الشارع المقدّس كشفه هذا، وجعله كشفاً محرزاً للواقع، فكأنّه جعل الظنّ علماً من حيث الكاشفيّة، بلا تصرّف - أصلاً - في الواقع والمؤدّى، بل المؤدّى باقٍ على ما هو عليه، سواء صادفت الأمارة الواقع أم خالفته؛ وذلك لترتّب عدّة محاذير فاسدة عليه، كلزوم التصويب المعتزليّ الباطل، أو التصويب الأشعريّ المحال، ولزوم اجتماع الضدّين، وكذا لزوم الإجزاء بالنسبة إلى الأوامر الظاهريّة، والحكومة الواقعيّة لأدلّة اعتبار الأمارات والاُصول على أدلّة الأحكام الواقعيّة، من قبيل: (الصلاة بالبيت طواف) أو (لا شكّ لكثير الشكّ)، حيث يوجب التوسعة أو

ص: 47


1- فوائد الاُصول 3: 16 - 17.

التضييق في موضوعات الأحكام الواقعيّة، حتى يتحقّق موضوع حكمٍ آخر مقابل لموضوع الحكم الواقعيّ، مع أنّ الحكومة هنا ظاهريّة، بل التحقيق: أنّ المجعول هو نفس المحرزيّة، وأمّا المنجزيّة والمعذّريّة هما من لوازمها العقلية، فليس هناك حكم ظاهريّ في مقابل الحكم الواقعيّ، بل هو ظاهر الحكم.

وفي هذا يقول المحقّق النائيني!:«وأمّا المجعول في باب الاُصول التنزيليّة فهي الجهة الثالثة من العلم، وهو الجري والبناء العمليّ على الواقع من دون أن يكون هناك جهة كشف وطريقيّة، إذ ليس للشكّ الذي أخذ موضوعاً في الاُصول جهة كشف عن الواقع كما كان في الظنّ فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الاُصول الطريقيّة والكاشفيّة، بل المجعول فيها هو الجري العمليّ والبناء على ثبوت الواقع عملاً الذي كان ذلك في العلم قهريّاً وفي الاُصول تعبّدياً» (1).

وخلاصة ما تقدّم: أنّ المجعول في باب الاُصول ليس إلّا البناء العمليّ وعمل الواقع المحرز للشيء المجهول، فليس فيها أيّة جهة كشف أو طريقيّة، إلّا البناء على ثبوت الواقع عملاً، ومن دون النظر إلى الواقع أصلاً.

ص: 48


1- فوائد الاُصول 3: 19.

فتحصّل: إمكان قيام الأمارات مقام القطع الطريقيّ بنفس دليل حجّيّتها، والمراد من كونها تقوم مقامه: أنّ أثره يترتّب عليها، فيثبت للأمارات بحكم العقل نفس ما ثبت للقطع من المنجزّية في صورة الإصابة والمعذّريّة في صورة الخطأ، بلا فرق بين كون حجّيّتها من باب الجعل التكليفي - أي: وجوب العمل على طبقه - أو من باب تتميم الكشف.

فكلّما قام دليل على حجّيّة الأمارات واعتبارها، قامت هي مقام القطع الطريقيّ المحض، ولأجل ذلك، فكما يكون القطع منجّزاً عند الإصابة، ومعذّراً عند الخطأ، وموضوعاً لحكم العقل بوجوب المتابعة، ولزوم المشي على وفقه، فكذلك تكون الأمارة الظنّيّة، بعد أن صارت حجّة معتبرةً عند الشارع، منجّزةً ومعذّرة، وموضوعاً لحكم العقل بوجوب المتابعة ولزوم السير.نعم، منجّزيّة القطع ومعذّريّته ثابتة له بنفسه؛ لأنّ العقل يستقلّ بوجوب متابعته، وهذا بخلاف الأمارة التي لا تكتسب حجّيّتها إلّا بعد قيام الدليل عليها.

فالقطع إن كان كان طريقيّاً: يترتّب أثره بتنجّز المؤدّى عند الإصابة وتعذّره عند الخطأ، وإن كان موضوعيّاً: يترتّب أثره بتنجّز المؤدّى على كلّ حال، طابق الواقع أم خالفه.

ولكن مع ذلك، فلا يمكن للأمارة أن تقوم مقام القطع الذي أخذ على

ص: 49

نحو الصفتيّة، وقد ذهب العلّامة الأنصاريّ! (1) إلى قيامها مقام القطع الموضوعيّ الطريقيّ دون الصفتيّ.

وقد تابعه على ذلك المحقّق النائيني! حيث قال: «فاعلم: أنّ الوجوه أو الأقوال في قيام الطرق والأمارات والاُصول التنزيليّة مقام القطع ثلاثة:

الأوّل: قيامها مقامه بجميع أقسامه حتى فيما إذا أُخذ موضوعاً على نحو الصفتيّة.

الثاني: عدم قيامها مقام ما أخذ في الموضوع مطلقاً ولو على نحو الطريقيّة والكاشفيّة.

الثالث: قيامها مقام القطع الطريقيّ مطلقاً ولو كان مأخوذاً في الموضوع، وعدم قيامها مقام القطع الصفتي، وهذا هو الأقوى» (2).

وذلك لأنّ القطع بما هو صفة يكون كسائر الموضوعات في عدم الإحراز للواقع، فإذا فرض أنّ الشارع أخذ العلم في موضوع جواز

ص: 50


1- قال! في الرسائل: «ثمّ من خواصّ القطع الذي هو طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعيّة وبعض الاُصول العمليّة مقامه في العمل, بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة؛ فإنّه تابع لدليل الحكم. فإن ظهر منه، أو من دليل خارج، اعتباره على وجه الطريقيّة للموضوع، كالأمثلة المتقدّمة، قامت الأمارات وبعض الاُصول مقامه. وإن ظهر منه اعتبار القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصّةً قائمة بالشخص، لم يقم مقامه غيره». انظر: فرائد الاُصول 1: 33 - 34.
2- فوائد الاُصول 3: 21.

الشهادة بما هو صفة خاصة كما ورد عن النبي- أنّه قال - وقد سئل عن الشهادة -: «هل ترى الشمس، على مثلها فاشهد أو دع» (1)، فلا يقوم شيء من الأمارات أو الظنون مقامه إلّا بدليل خاصّ، كرواية حفص بن غياث (2) الدالّة على جواز الشهادة استناداً إلى اليد.

وكذا لا يقوم شيء من الأمارات والظنون مقام موضوع حكم الركعتين الأُوليين فيما لو فرض أخذ العلم فيه إلّا بدليل خاصّ.

وقد ظهر من عدم قيام الأمارة - بمجرّد دليل اعتبارها - مقام القطع الموضوعيّ الصفتيّ، عدم قيامها كذلك مقام القطع الموضوعيّ الذي يكون مأخوذاً على وجه الطريقيّة.

وقد أنكر صاحب الكفاية! قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعيّ بأقسامه، فإنّه بعد أن نفى قيام الأمارة مقام القطع الصفتيّ، عطف عليه قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ الطريقيّ، ونفاه بعين ما نفي به قيامها مقام القطع الصفتيّ.

وهذا نصّ كلامه!: «لا ريب في عدم قيامها [أي: الأمارة] بمجرد ذلك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الصفتيّة من تلك الأقسام - إلى أن قال - ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما أخذ في

ص: 51


1- وسائل الشيعة 27: 342، الباب 20 من أبواب الشهادات، الحديث 3.
2- انظر: وسائل الشيعة 27: 292، باب 25 من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى، ح2.

الموضوع على نحو الكشف» (1).

وإنّما امتنع قيام الأمارات مقام القطع الموضوعيّ الطريقي؛ لأنّ أدلّة حجّيّة الأمارات لا تثبت لها أزيد من كونها كالقطع بلحاظ الكشف عن الواقع، فإذا كان للقطع حيثيّات اُخرى، فإنّ دليل اعتبار الأمارة يكون قاصراً عن إثبات هذه الحيثيّات لها أيضاً، فأدلّة الأمارات لا تثبت إلّاالطريقيّة والكشف عن الواقع، حكماً كان الواقع أو موضوعاً، فإثبات الموضوعيّة يحتاج إلى دليل آخر.

والسرّ في ذلك: أنّ قضيّة الحجّيّة والاعتبار إنّما هي ترتيب ما يكون للقطع من الآثار، بما هو حجّة، لا بما هو موضوع.

فانقدح بذلك: عدم قيام الطرق والأمارات - بمجرّد الدليل القائم على حجّيّتها واعتبارها - مقام القطع المأخوذ في الموضوع بما هو كاشف وحاكٍ.

وأمّا ما قد يقال: في تقريب قيام الأمارة مقام القطع الطريقيّ والموضوعيّ بنحو الطريقيّة: من أنّ دليل الاعتبار يتكفّل نفي احتمال الخلاف، فهو ينزّل الأمارة منزلة العلم، ومقتضى إطلاقه تنزيل الأمارة منزلة العلم من جهة كونه طريقاً ومن جهة كونه موضوعاً، فتقوم الأمارة مقام القطع الطريقيّ والموضوعيّ.

ص: 52


1- كفاية الاُصول: 263.

فقد أجاب عنه صاحب الكفاية! بما حاصله:

أنّه يؤدّي إلى لزوم اجتماع النقيضين؛ وذلك لأنّ دليل الاعتبار لا يكفي إلّا لتنزيل الواحد؛ إذ لابدّ في التنزيل من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه، ولحاظ القطع والأمارة في تنزّلهما منزلة القطع الطريقيّ لحاظ آليّ؛ لأنّ النظر في الحقيقة إنّما هو إلى نفس الواقع والمؤدّى، ولحاظهما في تنزيلها منزلة القطع الموضوعيّ استقلاليّ؛ لأنّ النظر - حينذاك - إلى نفسيهما؛ فيلزم من كون الدليل الواحد متكفّلاً لكلا التنزيلين أن يجتمع اللّحاظان: الآليّ والاستقلاليّ، على شيء واحد، وهو محال ضرورةً.

ومعه: فلابدّ أن يكون الدليل متكفّلاً لأحدهما فقط، وهو معنى: تنزيلها منزلة القطع الطريقيّ.

وفي ذلك يقول!:

«فإنّ الدليل الدالّ على إلغاء الاحتمال، لا يكاد يكفي إلّا بأحد التنزيلين، حيث لابدّ في كل تنزيل منهما من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه، ولحاظهما في أحدهما آليّ، وفي الآخر استقلاليّ.بداهة أنّ النظر في حجّيّته وتنزيله منزلة القطع في طريقيّته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدّى الطريق، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما» (1).

ص: 53


1- كفاية الاُصول: 264.

ثمّ أضاف إلى ذلك - ما لفظه -:

«ولا يخفى: أنّه لولا ذلك، لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد - دالّ على إلغاء احتمال خلافه - مقام القطع بتمام أقسامه، ولو فيما أخذ في الموضوع على نحو الصفتيّة» (1).

ولكنّ المحقّق النائيني! خالف في ذلك، حيث ذكر أنّ حكومة الأمارات على أدلّة الأحكام الواقعيّة حكومة ظاهريّة، لا واقعيّة، وأنّ المجعول في باب الأمارات هو الكاشفيّة التامّة والمحرزيّة، وأنّ الدليل الدالّ على اعتبارها يتكفّل بتنزيلها منزلة القطع من جهة كاشفيّته عن الواقع ومحرزيّته له، فعبّر! عنها:

تارةً: بالحكومة في مقام الإثبات في قبال الحكومة الواقعيّة، وهي الحكومة في مقام الثبوت، باعتبار أنّ دليل الأمارة لا يتكفّل التوسعة أو التضييق في الواقع بل في طريق إحرازه.

واُخرى: بأنّها ما كانت في طول الواقع، باعتبار أنّ حكومة دليل الأمارة بلحاظ وقوعها في طريق إحراز الواقع في رتبة الجهل به، لا بلحاظ التوسعة في رتبة الواقع نفسه.

ثمّ ذكر! أنّ إشكال صاحب الكفاية إنّما يتأتى بناء على مسلك جعل المؤدّى في باب الأمارة، وأمّا بناءً على ما اختاره من جعل المحرزيّة

ص: 54


1- المصدر نفسه: 265.

والوسطيّة في الإثبات فلا يتم ما ذكره!؛ ضرورة أنّه لم يلحظ الواقع والمؤدّى في مقام التنزيل حتى يرد عليه أنّه يستلزم اجتماع اللّحاظين، بل لم يلحظ سوى الأمارة والقطع، ودليل الاعتبار يتكفّلجعل الأمارة بمنزلة القطع في المحرزيّة، فتقوم مقام القطع الطريقيّ المحض والموضوعيّ إذا كان بنحو الطريقيّة (1).

وأمّا قيام الطرق والاُصول مقام العلم الطريقيّ فهو كما ذكر المحقّق النائيني!:

«لا يحتاج إلى كلفة جعلين ولحاظين [حتى يقال: إنّه لا يمكن بجعل واحد اجتماع لحاظي الآلي والاستقلاليّ] بل نفس أدلّة حجّيّتها تفي بذلك بعدما كانت حجّيّتها عبارة عن وسطيّتها في الإثبات ووقوعها في طريق إحراز الواقع وكونها محرزةً له - كما هو الشأن في الطرق العقلائيّة - بل الظاهر أنّه ليس للشارع طريق مخترع، بل الطرق الشرعيّة كلّها إمضاء لما

ص: 55


1- انظر: فوائد الاُصول 3: 21، قال): «الثالث: قيامها مقام القطع الطريقيّ مطلقاً، ولو كان مأخوذاً في الموضوع، وعدم قيامها مقام القطع الصفتيّ، وهذا هو الأقوى، فإنّ ما ذكر مانعاً عن قيامها مقام القطع المأخوذ موضوعاً على وجه الطريقيّة - من استلزام الجمع بين اللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ في لحاظٍ واحد - ضعيف غايته؛ فإنّ الاستلزام المذكور مبنيّ على جعل المؤدّى الذي قد تبيّن فساده. وأمّا على المختار، من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو نفس الكاشفيّة والمحرزيّة والوسطيّة في الإثبات، فيكون الواقع لدى من قامت عنده الطرق محرزاً، كما كان في صورة العلم..». إلى آخر كلامه«.

في يد العقلاء من الطرق المحرزة لمؤديّاتها، ولكونها واقعة في طريق إحراز الواقع كان حكومتها حكومة ظاهريّة؛ ويستقيم حينئذ جميع ما فرّع على ذلك ممّا يقتضيه اُصول المخطئة من عدم الإجزاء وإيجاب الإعادة والقضاء عند المخالفة.

وهذا بخلاف ما إذا كان المجعول هو المؤدّى، فإنّه يكون من الحكومة الواقعيّة، ولابدّ حينئذ من القول بالإجزاء، ويكون ذلك من التصويب المعتزليّ» (1).

وأمّا الاُصول العمليّة ممّا عدا الاستصحاب:فلا معنى لقيامها مقام القطع بدليل حجّيّتها؛ لأنّ القيام مقام القطع ليس إلّا ترتيب ما للقطع من الآثار، من المنجّزيّة عند الإصابة والمعذّريّة عند الخطأ وحكم العقل بوجوب المتابعة.

أمّا الاُصول العمليّة كمثل قاعدة الطهارة والحلّ والبراءة:

فهي ليست سوى وظائف مقرّرة للجاهل في ظرف الجهل والحيرة، بلا فرق بين أن تكون البراءة عقليّةً أو شرعيّة.

وأمّا الاستصحاب:

فإنّه لمّا كان له جهة كشف ونظر إلى الواقع، صحّ - حينئذٍ - أن يقوم مقام القطع؛ نظراً لوجود سنخيّة بينه وبين القطع من ناحية الكشف والطريقيّة، بخلاف باقي الاُصول العمليّة، حيث لا تسانخ بينها وبين الواقع أصلاً.

ص: 56


1- فوائد الاُصول 3: 30.

فظهر من ذلك: صحّة الدعوى القائلة: بأنّ كلّ أصل عمليّ تثبت له جهة كشف ما ونظر إلى الواقع، فيمكن أن يقوم مقام القطع واليقين، كأصالة الصحّة وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز، بناءً على القول بأنّها اُصول عمليّة، لا أمارات.

الكلام في الظنّ الطريقيّ والموضوعيّ:

لا شكّ في أنّ الظنّ كالقطع في كونه مثله ينقسم إلى طريقيّ تارةً، وموضوعيّ أُخرى.

فالظنّ الطريقيّ هو الظنّ الذي يكون طريقاً محضاً إلى الواقع، من دون أن يكون مأخوذاً في موضوع الحكم كالقطع الطريقيّ.

والفرق بين القطع الطريقيّ وبين الظنّ الطريقيّ يكمن في أنّ طريقيّة القطع ذاتيّة وغير قابلة للجعل الشرعيّ، كما تقدّم، بخلاف الظنّ؛ فإنّ طريقيّته مجعولة من الشارع، إمّا إحداثاً وتأسيساً، أو إمضاءً من قبل الشارع لما عند العقلاء، كحجّيّة الأمارة شرعاً بنحو الطريقيّة، بعدما لم تكن تلك الحجّيّة ذاتيّةً له كالقطع.قال في الكفاية!: «لا ريب في أنّ الأمارة الغير العلميّة ليست كالقطع في كون الحجّيّة من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلّيّة، بل مطلقاً، وأنّ ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجّيّة عقلاً، بناءً على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومةوذلك

ص: 57

لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجّيّة بدون ذلك ثبوتاً بلا خلاف، ولا سقوطاً [أي: امتثالاً] وإن كان ربّما يظهر فيه من بعض المحقّقين الخلاف والاكتفاء بالظنّ بالفراغ، ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، فتأمّل» (1).

فهو - إذاً - محتاج إلى الجعل على كلّ حال، وإلّا، لزم أن يكون حدوث الحادث بلا علّة.

ثمّ إنّ الظنّ:

تارةً: يكون طريقاً محضاً إلى موضوعٍ، أو حكم شرعيّ، وضعيّ أو تكليفيّ، تماماً كما في القطع.

واُخرى: يكون مأخوذاً في موضوع حكم، أي: يكون دخيلاً فيه، وهنا: فإمّا أن يؤخذ فيه على نحو الطريقيّة أو على نحو الصفتيّة.

والأقسام المتصوّرة في القطع الموضوعيّ بعينها، تجري هنا - أي: في الظنّ الموضوعيّ - فإنّ الحكم المأخوذ في الموضوع: إمّا أن يكون نفس الحكم الذي تعلّق به الظنّ أو حكماً آخر يماثله أو يضادّه أو يخالفه، والمأخوذ في موضوع كلّ واحد منها: إمّا أن يكون هو الظنّ المعتبر أو غير المعتبر.

أمّا أخذ الظنّ موضوعاً في حكم نفس الحكم الذي يكون ذلك

ص: 58


1- كفاية الاُصول: 275.

الحكم متعلّق - سواء كان تمام الموضوع أو جزؤه، على وجه الصفتيّة أو الطريقيّة، معتبراً كان الظنّ أو غير معتبر - فغير ممكن يقيناً كما مرّ ذلك عند الكلام على القطع؛ لأنّ الظنّ متأخّر رتبةً عن متعلّقه، فلو أنّه أخذ فيه، للزم أن يصير المتأخّر متقدّماً، وهو ظاهر الاستحالة.وأمّا أخذ الظنّ في موضوع مماثل أو مضادّ: فإن كان ظنّاً غير معتبر فهو جائز قطعاً، فيجوز للمولى أن يقول - مثلاً -: (إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة من إخبار الصبيّ، يجب أو يحرم عليك صلاة الجمعة)؛ لأنّ الظنّ في مفروض المسألة غير منجّز على المكلّف، وهو الصبيّ؛ لعدم حجّيّة ظنّه، فالحكم المرتّب على ظنّه حكم ظاهريّ، فلا يكون هناك تنافٍ بينه وبين الحكم الواقعيّ، كما في مورد الشك.

وهذا بخلاف ما إذا كان الظنّ معتبراً شرعاً، فلا يجوز أن يقال: (إذا أخبرك العدل بوجوب صلاة الجمعة يجب أو يحرم عليك صلاة الجمعة)؛ لأنّ الواقع منجّز في حقّه حينئذٍ، والحكم المرتّب على الظنّ فعليٌّ، فيلزم اجتماع المثلين أو الضدّين: إمّا في الواقع أو في نظر الظانّ.

فإن قلت: لا مانع من أخذ الظنّ في موضوع حكم مماثل بحيث يكون ذلك الجعل الثاني تأكيداً له، كما هو كذلك في الاُمور التي تكون قابلة للاشتداد، وذلك فيما إذا كان له مرتبة ضعيفة ثمّ جاءت مرتبة اُخرى من نفس العرض، فإنّها تشتدّ وتقوى تدريجيّاً، كما في الكيفيّات المحسوسة

ص: 59

التي يكون حصولها في موضوعاتها تدريجيّاً، مرتبة بعد مرتبة، وتسمّى بالحركة في الكيف، كالحلاوة التي توجد في التمر والعنب.

قلت: لا معنى للتأكيد والاشتداد في الأحكام الشرعيّة؛ بداهة أنّها من الاُمور الاعتباريّة التشريعيّة، لأجل تحريك العبد نحو الفعل أو الترك، وليست من سنخ الكيفيّات والأعراض الخارجيّة حتى تكون قابلةً للاشتداد.

وأمّا أخذ الظنّ موضوعاً لحكم آخر لا يضادّ حكم متعلّقه، ولا يماثله - سواء كان الظنّ حجّة وطريقاً معتبراً إلى متعلّقه أم لا -: فلا مانع منه بالنسبة إلى جميع أقسامه، بلا فرق بين أن يكون أخذه لموضوع الحكم الآخر على وجه الصفتيّة أو الطريقيّة، سواء كانت الصفتيّة هي تمام حكم الموضوع أو جزأه، وسواء كان الموضوع في كلٍّ من هذه الثلاثةهو الظنّ المجعول حجّة شرعيّة لمتعلّقه أم الظنّ غير المجعول كذلك.

ص: 60

التجرّي

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: في معنى التجرّي.

الظاهر: أنّ التجرّي أعمّ من العصيان بحسب اللّغة، كما أنّ الانقياد أعمّ من الإطاعة.

وأمّا بحسب الاصطلاح، فهو مباين للعصيان، كمباينة الانقياد للإطاعة؛ وذلك لأنّه يطلق عندهم على خصوص مخالفة الحجّة غير المصيبة للواقع، فيما يطلق العصيان على مخالفة الحجّة المصيبة للواقع، وأمّا موافقة الحجّة، فإن كانت - هي - مصيبةً للواقع، سمّيت إطاعةً، وإلّا، انقياداً.

ومن ثمّ وقع البحث في أنّ المتجرّي هل هو كالعاصي في استحقاق العقاب عقلاً أم لا؟

ص: 61

الأمر الثاني: هل تعدّ هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

لا يخفى: إمكان عدّ هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة تارةً، ومن المسائل الفقهية ثانيةً، وثالثةً من المسائل الكلاميّة؛ بداهة اختلاف الجهة المبحوث عنها بحيث تصبّ في الغرض التدوينيّ لكلّ فنّ.وكذا لا يخفى: عدم جواز بحثها - ها هنا - إلّا من جهة كونها اُصوليّة؛ ضرورة أنّه لا معنى لالتزام الاستطراد فيها فيما لو بحثت من جهتها الكلاميّة أو الفقهيّة مع إمكان عدّها من مسائل هذا الفن.

فأمّا صحة كونها مسألة كلاميّة: فلأنّه يقع البحث في علم الكلام عن استحقاق العقاب وعدمه، فتندرج - حينئذٍ - مسألة أنّ المتجرّي هل هو كالعاصي في استحقاق العقاب أو لا؟ تحت مسائل علم الكلام.

وليس البحث عنها من هذه الجهة بحثاً اُصوليّاً، كما قد يتوهّم؛ ضرورة أنّ المناط في اُصوليّة المسألة إنّما هو وقوعها كبرى في قياسٍ تُنتج من ضمّ الصغرى إليها حكماً شرعيّاً كلّيّاً، والبحث في كون المتجرّي مستحقّاً للعقاب كالعاصي أو لا، لا يستنتج منه هذا الحكم الكلّيّ.

وكذا ليست مسألةً فقهيّة؛ لأنّ البحث عنها في علم الفقه إنّما يكون من جهة أنّ القطع بمبغوضيّة شيء أو محبوبيّته هل يكون سبباً لاتّصافه بالحرمة أو الوجوب؛ لأنّها إذ ذاك تندرج تحت فعل المكلّف من حيث اتّصافه بأحد الأحكام التكليفيّة الخمسة، كما هو موضوع علم

ص: 62

الفقه، والبحث عن التجرّي من جهة استحقاق العقاب وعدمه أجنبيّ عن موضوع علم الفقه فيكون خارجاً عن مسائله لما هو واضح من أنّ موضوع كلّ علم هو الجامع بين موضوعات مسائله.

نعم، مسألة التجرّي إنّما تكون اُصوليّةً إذا كان البحث عنها من جهة أنّ قيام الأمارة والحجّة غير المصادفة للواقع هل توجب حدوث مصلحة أو مفسدة في الفعل بحيث تقتضي وجوبه أو حرمته، أو أنّ الفعل بعدها يكون باقياً على المحبوبيّة والمبغوضيّة الموجودة فيه واقعاً، فلا يكون لتعلّق الحجّة به أثر في تغيّر حكمه، بل هو باقٍ على حكمه الواقعيّ.

وعليه: فلا يكون نفس شرب الماء - مثلاً - مبغوضاً عند الشارع وإن تعلّق به القطع بخمريّته، وكذا لا يكون قتل ولد المولى محبوباً، وإن قطع العبد بكونه عدوّاً له.

الأمر الثالث:

وهو في أنّ التجرّي، هل هو من أفعال القلب، حيث إنّه عنوان ينطبق على إرادة الشخص المتجرّي، أو لا؟

فإن كان من أفعال القلب، فمعناه: العزم على العصيان والقصد على مخالفة المولى مع إتيان ما يعتقد بكونه معصيةً.

وإن لم يكن منها، بل كان عنواناً ينطبق على الفعل الخارجيّ، فمعنى التجرّي - حينئذٍ - هو العمل الذي يعتقد أنّه مخالفة لأمر المولى.

ص: 63

فعلى الأوّل: يكون قبحه عقليّاً؛ لأنّه من جهة سوء سريرته وخبث باطنه وسوء قصده وإرادته.

وعلى الثاني: القبح فعليّ؛ لأنّه من جهة مذموميّة عمله.

ومن ثمّ يقع البحث في أنّ كلا القبحين هل يكون موجباً للحرمة الشرعيّة أو لا؟

قد يقال: إنّ فعل المتجرّي معصية وموجب للعقاب، إمّا لأنّ الخطابات الأوّليّة تشمل صورة المصادفة وعدم المصادفة، أو باعتبار حدوث خطابٍ آخر بواسطة طروّ عنوان التجرّي على الفعل المتجرّى به.

أمّا الأوّل: فمرجعه إلى أنّ الخطابات الأوّليّة ﻛ (صلِّ) و(لا تشرب الخمر) إنّما تتعلّق بالوجود الواقعيّ للشيء، فالخمر بوجوده الواقعيّ دخيل وشرط في التكليف، ولا دخل للعلم والجهل فيه.

فعُلِم من ذلك: أنّ الأحكام تتعلّق بنفس موضوعاتها الواقعيّة سواء قامت عليها الحجّة أم لا؟ ولكن لمّا كان الغرض من الأمر والنهي هو الانبعاث إلى الماُمور به، والانزجار عن المنهيّ عنه، والانبعاث إنّما يكون دخيلاً بوجوده العلميّ لا الواقعيّ.

ففي الحقيقة: ليس الأمر إلّا عبارة عن طلب اختيار المكلّف وانبعاثه نحو فعل الشيء، كما أنّ النهي ليس إلّا طلب اختيار المكلّف ترك الشيء وانزجاره عن فعله، وقد عرفت: أنّه لا يعقل اختيار فعل الشيءبعنوان

ص: 64

انبعاثه عن الأمر أو اختيار تركه بعنوان انزجاره عنه بواسطة النهي، من دون قيام الحجّة من علمٍ أو علميّ، بلا فرقٍ بين ما إذا كانت تلك الحجّة مصادفةً للواقع أم لا.

وإذا كان متعلّق التكليف هو الاختيار والانبعاث الناشئ عن العلم بالموضوع، فهو موجود في كلتا الصورتين: الموافقة والمخالفة، وحينئذٍ: فلابدّ من القول بأنّ الأمر والنهي، وإن كانا يتعلّقان بحسب ظاهر الأدلّة بنفس الواقع، ولكن لا أثر لوجود التكليف من دون العلم وقيام الحجّة، بل يكون لغواً، فلابدّ من تقييدها بقيام الحجّة، ولا شكّ أنّ قيام الحجّة على حرمة الخمر ممّا يشمل المتجرّي أيضاً.

والحاصل: أنّه بعدما ثبت أنّ الواجب والحرام هو الذي قامت الحجّة على وجوبه وحرمته، علميّةً كانت أو ظنّيةً، وأنّ المصادفة وعدمها ليست تحت قدرة المكلّف، فلا يمكن تخصيص الموضوع بخصوص الحجّة التي تكون مصادفة للواقع؛ ضرورة أنّ هذا التخصيص ليس إلّا إحالةً إلى أمر غير مقدور؛ إذاً فلابدّ أن يكون موضوع التكاليف الأوّليّة الواقعيّة هو مطلق ما قامت الحجّة على حرمته أو على وجوبه، سواء كانت هذه الحجّة مطابقةً للواقع، كما في المعصية والإطاعة، أم مخالفة له، كما في التجرّي والانقياد.

ويمكن الجواب عن هذه المغالطة: بأنّ الأحكام الواقعيّة تابعة للمصالح والمفاسد، حيث إنّ الشارع لا ينهى عن شيء إلّا إذا رأى فيه

ص: 65

مفسدةً، وكذا لا يأمر بما ليس فيه مصلحة. وإذا كان كلٌّ من التكليف والإرادة تابعين للمفسدة والمصلحة من حيث السعة والضيق، فلا يمكن أن تكون دائرتهما أوسع ممّا فيه المصلحة والمفسدة، وإلّا، ترتّب على ذلك تالٍ فاسد، وهو أن يتخلّف المعلول عن علّته.

وحينئذٍ: فإن فرض أنّ العلم كانت له مدخليّة ما في المفسدة والمصلحة، كان لابدّ من أخذه في الموضوع، إمّا تماماً، أو جزءاً، وهذا خارج عن مفروض الكلام.وأمّا لو لم يكن كذلك، بل كان المتعلّق فيه هو نفس المصلحة أو المفسدة، من دون أن يكون للعلم دخل فيهما - أصلاً - فلا يمكن فرض تعلّق الإرادة بالمقيّد بالعلم أو العلميّ؛ ذلك أنّ تبعيّة الإرادة لما هو ذو المصلحة أو المفسدة ثابتة بحكم العقل، وإلّا، لزم تخلّف المعلول عن علّته.

فإذا فرضنا أنّ المفسدة قائمة بذات شرب الخمر - مثلاً - فكيف يمكن أن يقال - عندئذٍ - بأنّ متعلّق التكليف هو شرب الخمر المعلوم؟!

فإن قلت: إنّ الغرض من التكليف ليس إلّا الانبعاث، وهو غير ممكن إلّا إلى ما هو معلوم وواصل.

قلت: العلم يكون شرطاً في التنجّز فيما لم يصل إليه التكليف ولم يحرزه، فيكون معذوراً ولا يعاقب على مخالفته، فيكون الوصول شرطاً في تنجّز التكليف، لا في تحقّقه.

ص: 66

ثمّ لو سلّمنا أنّ الموضوعات الواقعيّة القائمة بها المصالح والمفاسد كانت مقيّدة بصورة الوصول إلى المكلّف، فالنتيجة - حينئذٍ - أنّ الخمر الحرام هو الواصل - أي: الخمر الذي قامت الحجّة على خمريّته - لا مطلق ما قامت الحجّة على خمريّته، ولو لم يكن خمراً في الواقع. فلا يمكن إثبات حرمة التجرّي بواسطة دعوى اختصاص الحكم بالعالم بالخمريّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ! أفاد في الكفاية:

«أنّ الفعل المتجرّى به أو المنقاد به - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب - لا يكون فعلاً اختياريّاً، فإنّ القاطع لا يقصده، إلّا بما قطع أنّه عليه من عنوانه الواقعيّ الاستقلاليّ، لا بعنوانه الطارئ الآليّ، بل لا يكون - غالباً - بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلاً؟ ومن مناطات الوجوب والحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبةً لذلك إلّا إذا كانت اختياريّة» (1).والذي يظهر من كلامه هذا: هو أنّه! قائل بنفي الحرمة عن الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع، وأنّ المتجرّي قد لا يصدر عنه فعل اختياريّ أصلاً؛ نظراً لأنّ ما وقع لم يُقصد وما قُصد لم يقع.

وأمّا ما قد يقال: من حدوث خطابٍ تحريميّ متعلّق بالفعل المتجرّى

ص: 67


1- كفاية الاُصول: 260.

به بواسطة عنوان التجرّي، بحيث يكون طروّ هذا العنوان جهة وحيثيّة تعليليّة لحدوث ذلك الخطاب الذي هو متعلّق بنفس الفعل المتجرّى به، فتقريبه بأن يقال:

لا شكّ في أنّ من الأفعال ما هو قبيح في نفسه ولا يقبل التغيير، كالظلم، ومنها ما هو قبيح كذلك، ولكنّه يقبل التغيير، كالكذب إذا اندرج تحت عنوان الإصلاح.

وكذا لا شكّ في أنّ من الأفعال ما لا حسن فيه في حدّ ذاته، ولا قبح فيه كذلك أيضاً، كالقيام، ولكنّه يكون بحيث إذا تعنون بعنوان الاحترام يحسن، كما أنّه إذا تعنون بعنوان الهتك يقبح.

وفيما نحن فيه، فشرب الماء - مثلاً - فعل من الأفعال التي لا قبح ولا حسن فيها في حدّ ذاتها، إلّا أنّه إذا فرض صدوره من المكلّف بعد قطعه بكونه خمراً، أو فقل: بعد أن تعنون لديه بعنوان مقطوع الخمريّة، فيمكن أن تحدث فيه مفسدة، توجب هذه المفسدة له القبح عقلاً والحرمة شرعاً.

هذا فيما يتعلّق بمقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات، فمقتضى قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع - وهي القاعدة القائلة بأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع - أنّه إذا حكم العقل بقبح الفعل المتجرّى به، فلابدّ أن يحكم الشرع بحرمته - أيضاً -.

ص: 68

ولكن فيه: أنّ إمكان ذلك ليس هو محلّ الكلام، وإنّما الكلام في أنّ قيام القطع، أو قيام سائر الحجج، هل هو من هذا القبيل أيضاً أم لا؟ فإذا قامت الحجّة على أنّ المائع الفلانيّ خمر، مع عدم كونه خمراًواقعاً، فهل يكون هذا القيام موجباً لحدوث المفسدة في المتعلّق، بحيث يستتبع حكماً شرعيّاً بالحرمة، أو لا يكون موجباً له؟

والكلام في القطع الطريقيّ المحض:

والظاهر: أنّ قيام الحجّة ليس من شأنه إلّا إظهار ذلك الموضوع أو الحكم. وأمّا تغييره عمّا هو عليه، بأن يجعل ما ليس فيه مصلحة ذا مصلحة، أو ما ليس فيه مفسدة ذا مفسدة، فلا يمكن استفادته منها.

وما قد يقال: من أنّ قيام الحجّة على وجوب شيء يوجب إحداث مفسدة أو مصلحة فيه، ولو لم يكن هو واجباً أو حراماً في الواقع.

فممّا يحتاج إلى دليل، بل هو باطل؛ لأنّه بناءً على عدم كونه رافعاً للحكم الواقعيّ، يلزم منه التصويب المعتزليّ المجمع على بطلانه، وبناءً على كونه رافعاً يلزم منه التصويب الأشعريّ الذي نقول باستحالته.

فإن قلت: إنّ محذور اجتماع المثلين أو الضدّين أو التصويب، إنّما يلزم فيما لو قلنا بأنّ قيام الحجّة من علمٍ أو علميّ هي التي توجب حدوث المصلحة أو المفسدة في المتعلّق، وليس كذلك؛ بل نقول: إنّ عنوان التجرّي هو الذي يوجب حصول المفسدة أو المصلحة في الفعل

ص: 69

الذي تتحقّق به المخالفة، ثمّ يستتبع تلك المفسدة الحرمة الشرعيّة، بناءً على ما هو الحقّ من أنّ الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد.

قلت: إنّ مخالفة الحجّة لو كانت موجبة لحدوث المفسدة فيما يتحقّق به المخالفة في الحجّة غير المصادفة للواقع، تكون موجبة في المصادفة أيضاً بطريقٍ أولى؛ لأنّ مخالفة اليقين - وهو المصادفة - أشدّ وأعظم من مخالفة الجهل المركّب - وهو المخالفة -.

فظهر ممّا بيّنّاه: أنّه لو قامت حجّة ودلّت على الحرام الواقعيّ، ثمّ خالفها المكلّف، فإنّه يكون قد ارتكب معصيتين اثنتين؛ إذ المفروض أنّ هناك مفسدتين، وأنّ كلّ واحدةٍ منهما تستتبع حرمةً شرعيّة، فيترتّب على ذلك: لزوم اجتماع المثلين.ولا يذهب عليك: أنّه لا يمكن القول بالتأكّد ها هنا؛ لمكان أنّ الرتبة في المفسدتين والحكمين ليست واحدة، بل هي مختلفة؛ لأنّ إحداهما واقعة في الرتبة السابقة على العلم، والاُخرى متأخّرة عنه وعن مخالفته.

والسرّ في ذلك: هو أنّ المقام ليس من قبيل (أكرم العالم)، و(أكرم عالماً هاشميّاً)، حيث إنّ كلّاً من هذين الحكمين لمّا كان صالحاً بذاته للباعثيّة، ولو في موارد افتراقهما، كان لابدّ من القول بلزوم التأكّد في صورة الاجتماع؛ إذ لا مانع من تشريع الحكمين. وإنّما مفروض المقام هو ترتب وجوب الاجتناب على ذات الخمر.

ص: 70

وحينئذٍ: يمتنع القول بالتأكد؛ لأنّه، وإن فرض للخمر حكم، ولمفروض الخمريّة حكم، إلّا أنّه متى ما علمنا بحرمة شيء منهما علمنا - أيضاً - بوجوب الاجتناب عنه، لمكان فرض ترتّبه على ذات الخمر، كما عرفت، فيكون هو المحرّك والباعث للاجتناب، بينما يصبح الحكم الآخر - الذي هو بحسب الفرض مترتّب على معلوم الخمريّة - لغواً؛ لأنّه لا يكون باعثاً ولا محرّكاً.

فاتّضح: أنّ العلم بالخمريّة في نظر العالم يكون ملازماً دائماً لوجوب الاجتناب المترتّب على الخمر الواقعيّ، بعد أن كانت المخالفة غير محتملة لديه، فلا يمكن توجّه خطاب آخر إلى معلوم الخمريّة؛ وذلك لامتناع القول بالتأكّد؛ ضرورة أنّ تصوير حصول التأكّد مع فرض الاختلاف في الرتبة لا يكاد يكون ممكناً البتّة.

ويبطله: أنّ القول باختلاف الرتبة لا يصلح جهة اجتماع المثلين أو الضدّين، لأنّ المفروض أنّ المخالفة جهة تعليلية لا تقييدية، وأنّ الحرمة ترد ذات الفعل ونفسه، فسواء في صورة الموافقة أو المخالفة يلزم من اجتماع مفسدتين حصول حرمتين على ذات الشيء، فيلزم اجتماع الضدين أو المثلين.

أمّا صاحب الكفاية! فقد ذهب إلى بقاء الفعل المتجرّى به على ما هو عليه من الحسن والقبح، والمبغوضيّة والمحبوبيّة، بلا تغيّرٍ فيه بواسطةالقطع؛ لوضوح أنّ القطع بالعنوان المحرّم ليس من العناوين الموجبة

ص: 71

للحسن والقبح، أو المبغوضيّة والمحبوبيّة.

مضافاً إلى أنّ القطع في مقام الجعل يلحظ طريقاً إلى الواقع لا مستقلّاً، فالإرادة والقصد إنّما يتعلّقان بشرب الخمر لا بشرب معلوم الخمريّة، بل المعلوميّة مما لا يلتفت إليها غالباً.

ومعه: فلا يمكن تعلّق الإرادة فيها لأنّها فرع الالتفات، وإذا لم يكن الفعل المتجرىّ به اختياريّاً لم يعد من موجبات الحسن والقبح؛ لأنهما من صفات الأفعال الاختياريّة.

وهذا نصّ كلامه !:

«ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرّى به على ما هو عليه من الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة واقعاً، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة، ولا يغيّر جهة حسنه أو قبحه بجهته أصلاً؛ ضرورة أنّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبيّة والمبغوضيّة شرعاً؛ ضرورة عدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه من المبغوضيّة والمحبوبيّة للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له، فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له، ولو اعتقد العبد بأنّه عدوّه، وكذا قتل عدوه مع القطع بأنّه ابنه، لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً.

هذا مع أنّ الفعل المتجرى به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريّاً، فإنّ القاطع لا يقصده إلّا بما قطع أنّه عليه من

ص: 72

عنوانه الواقعيّ الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الآليّ، بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه، فكيف يكون من جهات الحسن والقبح عقلاً؟ ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلّا إذا كانت اختياريّة» (1).والحقّ في المسألة: أنّ العقل إنّما يحكم بتساوي المتجرّي والعاصي في استحقاق المذمّة من حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته مع المولى، لا في استحقاق المذمّة على الفعل المقطوع بكونه معصية.

ومن هنا يظهر الوجه: في فساد ما قد يقال: من استحقاق المتجرّي للعقاب؛ لأنّ المناط في إيجاب المعصية الحقيقيّة لاستحقاق العقاب ليس إلّا هتك المولى ومبارزته والتمرّد عليه، ولا ريب في تحقّق ذلك كلّه في مورد التجرّي بشهادة العقلاء كافة، فيتشكّل قياس من الشكل الأوّل، حاصله: التجرّي هتك للمولى، وكلّ هتك له يوجب استحقاق العقاب، فينتج: أنّ التجرّي يوجب استحقاق العقاب.

وجه الفساد: أن المناط في الحرمة هو وجود مفسدة في الفعل، والهتك والتمرّد على المولى إنّما يشكّلان ملاكاً للحرمة فيما لو تحقّق الهتك والتمرد حقيقةً، والحال أنّ المتجرّي لم يهتك مولاه ولم يخالفه، غاية الأمر أنّه خالف ما يعتقد بأنّه أمر المولى.

ص: 73


1- كفاية الاُصول: 259 - 260.

وأمّا ما قد يستدلّ به على عدم حرمة التجرّي، من أنّ الأخبار التي دلّت على المؤاخذة على قصد المعصية إنّما تصلح دليلاً على الحرمة فيما لو فرض أنّ المتجرّي قصد المعصية حقيقة، وليس كذلك، بل إنّما قصد ما يعتقد بكونه معصية، وهذا معفوّ عنه بطريق أولى.

وقد يستشهد لما ذكر من استحقاق المتجرّي العقاب بمثل قوله تعالى: ﴿وَ إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله ُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَ يُعَذّبُ مَن يَشَاءُ﴾ (1).

وكذلك الحديث الوارد عن رسول اﷲ6: «إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّةٍ، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول اﷲ، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: لأنّه أراد قتلاً» (2).ولكنّ كلّ ذلك وارد فيما إذا قصد الحرام لا إذا قصد ما قطع بحرمته ولم يكن حراماً واقعاً.

وتحقيق الحال بأن يقال:

إنّ للفعل المتجرّى به عناوين ثلاثة:

الأوّل: عنوان الشرب، من حيث هو شرب، وبلا إضافته إلى أيّ شيء آخر.

ص: 74


1- البقرة: الآية 284.
2- راجع - مثلاً -: وسائل الشيعة 15: 148، باب 67 من أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه، ح1.

الثاني: كون هذا الشرب مضافاً إلى الخمر، بحيث يصحّ أن يحمل عليه بالحمل الشائع عنوان (شرب الخمر) الذي هو عنوان مبغوض لدى المولى.

الثالث: كونه مخالفة لما نهاه الشارع عنه، بعد فرض تنجّزه عليه.

ولا يخفى: عدم إمكان القول بأن استحقاق العقاب مترتّب على صدق عنوان الشرب من دون إضافته إلى مائع خاصّ؛ لأنّه لو كان كذلك، للزم استحقاق العقاب على شرب كلّ مائع؛ لصدق عنوان الشرب بما هو شرب على تناول كل مائع، وهو بديهيّ الفساد.

وكذلك، فليس مناط استحقاق العقاب هو العنوان الثاني، أعني: كون هذا الشرب مضافاً إلى الخمر بحيث يحمل عليه عنوان شرب الخمر بنحو الحمل الشائع؛ ضرورة استحقاق العقاب - حينئذٍ - على هذا الشرب، وإن كان المكلّف جاهلاً بخمريّته، لصدق عنوان الشرب في الجميع.

وأمّا العنوان الثالث: وهو شرب ما تعلّق به النهي، فهو - أيضاً - لا يكون موجباً لاستحقاق العقاب؛ لأنّه لم تتحقّق مخالفة المولى، إذ المفروض أنّ ما شربه لم يكن خمراً حقيقة، فليس هناك من نهيٍ من قبل المولى حتّى يصدق عليه عنوان المخالفة.

نعم، هذا لا ينافي كون المتجرّي مستحقّاً للمذمّة واللّوم على ما قد

ص: 75

انكشف من سوء سريرته وتحدّيه للمولى، وأمّا نفس الفعل فلا يترتّب عليه شيء أصلاً.ومن هنا يظهر: بطلان ما ذكره صاحب الكفاية! من أنّ المتجرّي يستحقّ العقاب إذا صار بصدد مخالفة قطعه (1).

ومذهب الشيخ الأنصاريّ! أنّه لا يوجد في مورد التجرّي سوى سوء السريرة، وهو غير ملازم للعقاب؛ لأنّ العقاب إنّما يترتّب على القبح الفعليّ لا الفاعليّ.

قال! ما لفظه: «لأنّ استحقاق المذمّة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل، ومن المعلوم أنّ الحكم العقليّ باستحقاق الذمّ إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعاً إذا تعلّق بالفعل، لا بالفاعل» (2).

وفي قباله ذهب صاحب الكفاية! إلى أنّ العقاب لا يثبت في مورد التجرّي إلّا على الجري النفسيّ على طبق الصفة الكامنة في النفس، والذي عبّر عنه بالقصد إلى العصيان.

قال):«العقاب إنّما يكون على قصد العصيان، والعزم على الطغيان،

ص: 76


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 259, وإليك نصّ كلامه«: «الحقّ: أنّه يوجبه [أي: استحقاق العقوبة]؛ لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته, وذمّه على تجريه, وهتكه لحرمة مولاه وخروجه عن رسوم عبوديته, وكونه بصدد الطغيان, وعزمه على العصيان».
2- فرائد الاُصول 1: 40.

لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار» (1).

والحقّ: صحّة ما ذهب إليه الشيخ!، من أنّ التجرّي من الصفات النفسيّة غير الاختياريّة، وأنّ نفس الفعل المتجرّى به لا يكون قبيحاً؛ وذلك لخلوّه عن المفسدة، فلا يكون معصية، ومن الواضح: أنّه لا معنى - أصلاً - للعقاب على الصفة النفسيّة.نعم، غاية ما يمكن أن يقال: إنّه يستحقّ الذم؛ لأنّ تجرّيه كاشف عن سوء سريرته وهي صفة نفسانيّة قبيحة، لا لأنّ الذم من جهة نفس الفعل المتجرّى به، فلا يكون العقاب ملازماً للفعل؛ بل لأنّه إنّما يكون ملازماً للقبح الفعليّ دون الفاعليّ.

قال الآخوند!

في حاشيته على الرسائل ما نصّه:

«وبالجملة: صفتا التجرّي والانقياد ما دامتا كامنتين في العبد ولم يصر بصدد إظهارهما وترتيب الأثر عليهما لم يستحق إلّا اللوم والمدح كسائر الصفات الذميمة والأخلاق الحسنة، وإذا صار بصدد الإظهار استحق - مضافاً إلى ذلك - العقوبة والمثوبة على أوّل مقدّمة اختياريّة من المقدّمات التي يفعلها القلب ويتوقف عليها صدور الأفعال بالاختيار ...» (2).

ثمّ إنّه يلزم ممّا ذكره الآخوند! - من استلزام القصد إلى المعصية

ص: 77


1- كفاية الاُصول 260.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 38.

للعقاب - أن يحكم العقل في مورد المعصية الحقيقية باستحقاق عقابين؛ لحصول سببين له، وهما: القصد إلى المعصية، ونفس المعصية، وهو ممّا لم يقل به أحد.

وعلى فرض القول بتعدّد العقابين، لا يعود لما ذكره صاحب الفصول من تداخل العقابين معنى محصّل (1)، بل ولا يلزم اجتماع المثلين؛ بداهة اختلاف الجهتين حينئذٍ، فإنّ جهة الطغيان التي هي مورد الاستحقاق غير جهة واقع الفعل المتجرّى به ولا ربط بينهما.

ولا يذهب عليك: فساد ما قد يدّعى من انعقاد الإجماع على حرمة التجرّي؛ ضرورة أنّ هذه الإجماعات منقولة، فتسقط عن الحجّيّة، مضافاً إلى عقليّة هذه المسألة، فلا معنى لادّعاء الاجماع فيها.وبهذا ظهر الوجه: فيما ذكره الاُستاذ المحقّق! من أنّ مسألة التجرّي يبحث فيها هنا من جهة فقهيّة وهي ثبوت الحرمة ولا ثبوتها.

قال): «وأُخرى يقع التكلّم عنه باعتبار أنّ الفعل المتجرّى به، أو نفس التجرّي، حرام أم لا؟ سواء كان دليله الإجماع أو شيئاً آخر، ولا شكّ في أنّه بهذا الاعتبار مسألة فقهيّة، وذلك واضح» (2).

فلا معنى للقول - بعد إمكان التمسّك بالإجماع - باُصوليّتها وعقليّتها،

ص: 78


1- انظر: الفصول الغرويّة: 87، قال): «فإنّ التحقيق أنّ التجرّي على المعصية معصية أيضاً، لكنّه إن صادفها تداخلا وعُدّا معصيةً واحدة».
2- منتهى الاُصول 2: 31.

بمعنى أنّ التجرّي هل يوجب القبح والعقاب في المتجرّى به أم لا؟ ولو بدليل الملازمة بين حكم العقل والشرع؛ ضرورة أنّه يتكلّم فيها عن الحرمة رأساً. وعلى فرض التنزّل، فالمسألة محلّ خلاف كما ذكرنا، فلا معنى لادّعاء الإجماع فيها.

وكيف كان، فقد ادُّعي الإجماع على كون التجرّي حراماً في موردين:

المورد الأوّل: فيمن سلك طريقاً مظنّون الضرر، فإنّهم ادعوا الإجماع على أنّ سفره سفر المعصية فيستحق العقاب، ولذا رتّبوا عليه وجوب إتمام الصلاة. ولو انكشف بعد ذلك عدم الضرر فيه فقالوا إنّ هذا لا يتم إلّا بناء على حرمة التجرّي.

والتحقيق: أنّ الظنّ هنا مأخوذ على نحو الموضوعيّة؛ لأنّ سلوك الطريق المظنّون الضرر قبيح بنفسه عقلاً، وإن فرض خلوّه عنه في الواقع، فيكون حراماً شرعاً بنفسه بقاعدة الملازمة، ولا يكون لانكشاف الخلاف معنى، وحينئذٍ يكون هذا المورد خارجاً عن مسألة التجرّي.

المورد الثاني: فيمن ظنّ ضيق الوقت وأخّر الصلاة ثمّ تبيّن سعة الوقت، فادّعوا الإجماع على استحقاق العقاب، ومعلوم أنّ هذا لا يتمّ إلّا بناءً على استحقاق المتجرّي للعقاب، وإلّا فإنّه أدرك الوقت ولم يخالف الواقع.

وجوابه: أنّ الظنّ هنا قد أخذ على نحو الموصوف، فتمام الموضوع لاستحقاق العقاب من جهة التأخير هو خوف ضيق الوقت، أو يقال: إنّ

ص: 79

تمام موضوع حرمة التأخير هو ظنّ ضيق الوقت لا عدم إدراك الوقت في الواقع. وحينئذٍ: متى ظنّ ضيق الوقت تجب المبادرة إلى الصلاة، سواء كان الوقت في الواقع ضيّقاً كذلك، أم كان واسعاً.

فانقدح: خروج هذا المورد أيضاً عن مسألة التجرّي، بل الظانّ المزبور لو تأخّر يكون عاصياً وإن انكشف سعة الوقت فيما بعد.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني! تعرّض إلى بيان تقريب استحقاق المتجرّي للعقاب بمقدّمات أربع:

الاُولى: أنّ الحكم بوجوب الإطاعة عقليّ، لا شرعيّ.

الثانية: أن الحكم العقليّ بوجوب الإطاعة معلول للحكم الشرعيّ، فهو يختلف عن مثل حكم العقل بقبح الظلم، فإنّه علّة للحكم الشرعيّ.

الثالثة: أنّ تمام موضوع الحكم بوجوب الإطاعة واستحقاق العقاب هو العلم، سواء صادف الواقع أم لم يصادفه.

الرابعة: أنّ القبح الفاعليّ هو ملاك استحقاق العقاب لا القبح الفعليّ، وهو موجود في صورة التجرّي، فيثبت العقاب في مورده - أيضاً -.

وإليك نصّ كلامه - بتلخيص منّا - قال):

«الاُولى: أنّه لا إشكال في أنّ وظيفة المولى هو جعل الأحكام وإيصالها إلى المكلّفين بالطرق المتعارفة من إنزال الكتب وإرسال الرسل، وأمرهم بتبليغها إلى أوصيائهم، وأمرهم بالتبليغ إلى الرواة، وهكذا، إلى أن تنتهي الأحكام إلى المكلّفين بها، وبالوصول إليهم تنتهي سلسلة البعث، ويحكم

ص: 80

العقل بوجوب الانبعاث. وحكم العقل بذلك - أعني: حكمه بوجوب الطاعة وحسنها وقبح المعصية وحرمتها - حكم استقلاليّ يستحيل وجود حكمٍ شرعيّ في مورده؛ إذ المفروض أنّ مرتبة حكمه هي مرتبة الانبعاث، ففرض البعث في هذه المرتبة خلف محال، فوجوب الانبعاث عن تكاليف المولى - المنحلّ إلى وجوب الطاعة وحرمة المعصية - هو الوجوب الذاتيّ الذي ينتهي إليه وجوب كلّ واجب، كما أنّ طريقيّة القطع كانت ذاتيّة، وإليها كانت تنتهي طريقيّة كلّ طريق.الثانية: أنّه قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية يغاير الأحكام العقليّة الأُخر، مثل حكمه بقبح التشريع وقبح التصرّف في مال الغير، ونحوهما، في أنّ مرتبة هذا الحكم العقليّ هي مرتبة المعلول من الحكم الشرعيّ؛ ضرورة أنّ مرتبة الانبعاث من البعث هي مرتبة المعلول من العلّة، وأمّا بقيّة الأحكام العقليّة، فمرتبتها من الأحكام الشرعيّة مرتبة العلّة من معلولها.

الثالثة: أنّ العلم المأخوذ في موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية، لابدّ وأن يكون هو تمام الموضوع، صادف الواقع أم لا.

الرابعة: أنّ الملاك لحكمه بوجوب الطاعة إذا استحال كونه هو القبح الفعليّ، وإلّا لزم استحقاق العقاب في موارد الجهل أيضاً، فلابدّ وأن يكون الملاك له هو القبح الفاعليّ؛ لانحصار الملاك في أحدهما وعدم قابليّة

ص: 81

شيءٍ آخر للملاكيّة، وإذا كان هو الملاك، فلابدّ من الالتزام باستحقاق المتجرّي للعقاب كالعاصي؛ لثبوت القبح الفاعليّ في كليهما...» (1).

انتهى كلامه« ملخّصاً.

ولكنّ الحقّ: كفاية المقدّمة الثالثة لإثبات الحرمة، وهي أنّ موضوع استحقاق العقاب هو القطع، صادف الواقع أم لم يصادفه.

فقد عرفت بما لا مزيد عليه: أنّ العقاب مترتّب على نفس الخمر الواقعيّ لا على معلوم الخمريّة، وأنّ القبح المستلزم له لابدّ أن يكون في الفعل، لا في الفاعل، من غير فرق بين كونه من جهة صدور الفعل عن خبث في الباطن، أو من جهة نفس سوء السريرة وخبث الباطن، ولذا نفى الشيخ! العقاب عليه؛ لأنّه وصف غير اختياريّ.

ثمّ إنّ بعضهم حكم باستحقاق المتجرّي للعقاب بحكم العقل من دون أن يكون هناك أيّ خطاب شرعيّ في البين، لا على عنوان التجرّي،ولا على نفس الفعل المتجرّى به، وأنّ العقل لا يفرّق في حكمه باستحقاق العقاب بين المعصية الحقيقية والتجرّي؛ لوحدة المناط فيهما؛ لأنّ مناط حكم العقل باستحقاق العقاب في المعصية الحقيقيّة ليس إلّا مخالفة العبد لما اعتقد أنّه الماُمور به أو المنهي عنه.

فبعد وصول أمر المولى أو نهيه إليه - إمّا من جهة قطعه أو قيام أمارة

ص: 82


1- أجود التقريرات 2: 28 - 29.

أو حجّة اُخرى عليهما - يتنجز كلا الحكمين من الوجوب أو الحرمة عليه، ويحكم العقل باستحقاقه العقاب لو هتك حرمة المولى وتجرأ عليه، فكلما أحرز إرادة المولى لشيء أو كراهته له حكم العقل بلزوم الامتثال وعدم جواز المخالفة، سواء كان ذلك الإحراز مطابقاً للواقع أم لا، فإحراز أمر المولى ونهيه هو تمام الموضوع عند العقل في حكمه بلزوم الامتثال وعدم جواز المخالفة.

وفيه: أنّ حكم العقل بقبح المعصية إنّما هو من جهة مخالفة المكلّف لمولاه المنعم وعدم اعتنائه بأمره أو نهيه. وأمّا إذا لم يكن من قِبَله أمر أو نهي بل كان هناك مجرد تخيل للأمر والنهي كما هو مفروض التجرّي، فليس للعبد أيّة مخالفة تسجل في حقه فلا يكون مستحقاً للعقاب؛ بداهة أنّ صرف تخيل الأمر والنهي غير كونهما موجودين في حقّه واقعاً.

نعم، في صورة وجودهما واقعاً وعدم اعتنائه بهما بعد وصولهما إليه، يكون كافراً بنعمة مولاه غير شاكر له، بعد حكم العقل بوجوب شكر المنعم، فيكشف هذا عن سوء سريرته وخبث باطنه ولكن لا يكون هناك أي مخالفة وعصيان؛ لعدم وجود أمر من قبل المولى أو نهيٍ كذلك حتى يصدق في حقّه مخالفته.

فظهر: أنّ مناط المعصية في نظر العقل إنّما هو مخالفة الحكم الواقعيّ التي لا يمكن تحقّقها في التجرّي بحال.

ولا يخفى هنا: أنّ الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد سعةً وضيقاً،

ص: 83

بلا فرق في ذلك بين الأوامر والنواهي، فإن كان في متعلّق الحكم مصلحة أو مفسدة لتعلّق أمر أو نهي من غير فرق بين كونهما ملزمتينأو لا، خلافاً للأشاعرة الذين أنكروا الحسن والقبح العقليّين، فالحسن عندهم ما حسّنه الشارع والقبح ما قبّحه كذلك، فجوّزوا الترجيح بلا مرجّح الذي هو اختيار أحد الشيئين بلا مرجّح، بل - أيضاً - جوّزوا الترجّح بلا مرجّح، وهو إيجاد الشيء بلا سبب، والأوّل عندنا ممكن، ولكنّه قبيح عقلاً، وأمّا الثاني فمحال.

ولو قلنا باستحالة الترجيح بلا مرجّح، فهل يكفي الترجيح النوعيّ أم لابدّ من الترجيح الشخصي؟

حاصل الكلام: أنّهم قد اختلفوا في إمكان الحسن والقبح العقليين، فنفاه الأشاعرة بدعوى أنّه ليس للأفعال في حدّ ذاتها حسن ولا قبح في نظر العقل قبل حكم الشارع بحسنها أو قبحها.

ولذا اشتهر بينهم أنّ الحسن ما حسّنه الشارع والقبح ما قبحه كذلك، كما عرفت، وأثبتته العدليّة، ذاهبين إلى أنّ للأفعال حسناً وقبحاً بحسب ذواتها، وقبل حكم الشارع.

وفي هذه المرتبة وقع النزاع بين الاُصوليّين والأخباريّين في أنّه لو فرض للأحكام حسن وقبح بحسب ذواتها - كما هو مختار العدليّة - فهل للعقل أن يدرك هذا الحسن أو القبح مستقلّاً ومن دون بيان الشارع لهما أم لا؟

نُسِب إلى بعض الأخباريّين أنّهم ذهبوا إلى إنكار إدراك العقل للحسن

ص: 84

والقبح العقليّين بنحو الموجبة الجزئيّة.

إلّا أنّ القبول بمثل هذا الكلام محلّ إشكال؛ ضرورة أنّه بعد فرض حكم العقل بأنّ للأحكام حسناً وقبحاً، وأنّ له أن يدرك ذلك، وبعد فرض الملازمة بين الحكمين، أي: بعد القول بأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع، إذ العقل هو رسول الباطن، كما أنّ الشرع هو الرسول الظاهر، تصبح هناك ملازمة بين ما استقلّ العقل بحسنه ووجود المصلحة الملزمة فيه وبين ما استقلّ العقل بقبحه وبين المفسدة الملزمة فيه.

وبعد ثبوت الملازمة وحصول القطع بأنّ الشارع لابدّ أن يحكم على طبق ما حكم به العقل، يقع الكلام في حجّيّة هذا القطع وعدمه.وبعبارة اُخرى: هل يمكن للشارع النهي عن حجّيّة هذا القطع أم لا؟ بل تكون حجّيّته ذاتيّة لا تقبل الجعل ولا الرفع.

فعلى تقدير إمكان النهي عن تلك الحجّيّة فهل نهى عنها فعلاً أم لا؟ كما ورد في الخبر: «إنّ دين اﷲ لا يصاب بالعقول» (1).

وعلى تقدير عدم الإمكان، فهل معنى حكم العقل بذلك هو إدراكه بأنّ الفعل مما ينبغي فعله أو تركه، أم هو أمره ونهيه.

قال الاُستاذ المحقّق!:

«الإنصاف أنّ عزل العقل بالمرّة عن درك الحسن والقبح ليس كما

ص: 85


1- مستدرك الوسائل 17: 262، باب 6 من أبواب ما صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح25.

ينبغي، بل ربّما يلزم منه إفحام الانبياء؛ إذ بناءً على هذا: يمكن صدور المعجزة على يد الكاذب، ولا قبح فيه، فلا يكون صدور المعجزة منه وعلى يده دليلاً على نبوّته، هذا مع أنّ بداهة العقل والفطرة تحكم بحسن بعض الأفعال، كإطاعة المنعم وشكره، وقبح بعضها الآخر، كعصيانه وكفرانه، فإذا عزلنا العقل بالمرّة عن الإدراك، فينسدّ باب إثبات الصانع، ويبطل جميع العلوم العقليّة، بل النقليّة أيضاً» (1).

والحاصل: أنّك عرفت أنّ الترجيح بلا مرجّح قبيح، وقد ذهب المحقّقون من الأشاعرة إلى أنّه لابدّ لترجيح أحد الشيئين على الآخر من مرجِّح، ولكنّهم اكتفوا بالترجيح النوعي، وكفاية المفسدة أو المصلحة النوعيّة القائمة بالطبيعة في تعلّق الحكم ببعض الأفراد، وإن كان هذا الترجيح بلا مرجّح شخصي.

واستدلّوا له برغيفي الجوعان وكأسي العطشان وطريقي الهارب، وإن لم يكن في نفس الرغيف والكأس والطريق المختار أيّ مرجّح شخصيّ؛ إذ المفروض أنّهما متساويان وليس لأحدهما مرجّح فيحصول الغرض، بل المرجّح فيهما نوعيّ وهو رفع العطش أو الجوع الذي هو قائم بالطبيعة، والجامع بين الكأسين كافٍ في اختيار أحدهما و ترجيحه على الآخر.

ص: 86


1- منتهى الاُصول 2: 46.

والحقّ: عدم تفريق العقل في قبح الترجيح بلا مرجح بين كون المرجّح نوعيّاً أو شخصيّاً؛ لوحدة المناط فيهما، فلا يمكن أن تتعلّق الإرادة التكوينيّة بما لا مصلحة فيه.

وبهذا يظهر: فساد ما قد يقال: من أنّه لو سلّم تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، ولكن تكفي المصلحة والمفسدة النوعيّة؛ لما عرفت من أنّ النوعية والشخصية سواء في الاستحالة والقبح.

ومثله في الفساد: ما قد يدّعى من كفاية وجود مصلحة ومفسدة للأوامر والنواهي في أنفسها من دون أن يكون هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، ومثّلوا لها بالأوامر الامتحانيّة؛ وذلك غير تامّ:

أوّلاً: لأنّ معنى كون المصلحة أو المفسدة في نفس الأمر أو النهي هو أنّ المصلحة الناشئة من الأمر معلولة له، وكذا تكون المفسدة معلولة للنهي، فكيف يمكن أن تكون المصلحة مقتضيةً للأمر والمفسدة مقتضية للنهي؟ فإنّه - حينئذٍ - يلزم تقدّم المتأخّر وتأخّر المتقدم.

وثانياً: لو كانت المصلحة موجودة في الأمر، للزم تحقّق الغرض بمجرد وجود الأمر، وبالتالي: سقوط الأمر من دون الامتثال، وهو كما ترى.

فظهر: أنّ المصلحة ليست قائمة بنفس الأمر في إظهار العبد الاطاعة وكونه بصدد امتثال الأوامر الصادرة من المولى، وهذا لا يكون إلّا بالجري على طبق ما تعلّق به الأمر.

ص: 87

فانقدح: أنّه لا إشكال في أنّ المصالح والمفاسد التي تكون الأحكام تابعة لها إنّما هي المصالح والمفاسد الموجودة في المتعلّق بحدّ ذاتها مع قطع النظر عن ورود الأمر أو النهي من الشارع، كما لا إشكال في إدراك العقل لحسن الشيء وقبحه ولو بنحو الموجبة الجزئيّة، فإنّ عزل العقل بالمرّة - كما ذكره اُستاذنا المحقّق! فيما نقلناه عنه سابقاً- موجب لورود الإشكال في أصل إثبات الصانع ونبوّة النبي كما مر، فينهدم أساس الشريعة.

تنبيهات:
التنبيه الأوّل:

لو قلنا بثبوت العقاب في التجرّي، وكان القطع مصادفاً للواقع، ففي المسألة أقوال أربعة:

الأوّل: مختار صاحب الكفاية! من وحدة العقاب لوحدة سببه وهو كون العبد في مقام الطغيان. قال! ما لفظه:

«ثمّ لا يذهب عليك: أنّه ليس في المعصية الحقيقية إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة، وهو هتك واحد، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهّم، مع ضرورة أنّ المعصية الواحدة لا توجب إلّا عقوبة واحدة» (1).

ص: 88


1- كفاية الاُصول: 262.

الثاني: ما ربما يستظهر من كلام المحقّق الأصفهاني! من وحدة العقاب لوحدة سببه، وهو الهتك المعنون به الفعل، سواء في التجرّي أو المعصية الحقيقيّة.

قال!: «ثمّ إنّ استحقاق العقوبة هل هو على الفعل، أو على مقدّماته، كالعزم والإرادة - وهذا الترديد جارٍ في المعصية الواقعيّة؛ لوحدة الملاك على الفرض -؟

والتحقيق: هو الأوّل؛ لأنّ العزم على الظلم من دون تحقّق الظلم ليس بظلم؛ إذ ليس مخلّاً بالنظام، ولا ذا مفسدة نوعيّة توجب تطابق آراء العقلاء على قبحه.

وبالجملة: العبد بفعل ما أحرز أنّه مبغوض للمولى يخرج عن رسم العبوديّة وزيّ الرقّيّة، لا بمجرّد عزمه على الفعل. ويؤيّده: أنّ الهتك أمر قصديّ؛ وإلّا، لم يستحقّ عليه العقاب، ولم يتّصف بالقبح؛ لأنّهمن صفات الأفعال الاختياريّة، فلو انطبق الهتك على مجرّد العزم والقصد، لزم: إمّا عدم كون الهتك قصديّاً، أو كون القصد قصديّاً، وإمكان كونه كذلك، وكفايته في ذلك لا يوجب الوقوع دائماً، مع أنّه يستحقّ العقاب على هتكه في جميع موارد التجرّي» (1).

الثالث: وحدة العقاب مع تعدّد السبب من باب التداخل وهو

ص: 89


1- نهاية الدراية 2: 44 - 45، مع شيءٍ من التلخيص والتصرّف.

المنسوب إلى صاحب الفصول (1)، ولعلّ الذي دعاه إلى هذا القول: أنّه رأى أنّه لا توجد إلّا معصية واحدة، وغفل عن أنّ وحدة المسبّب تكشف بدليل الإنّ عن وحدة السبب.

الرابع: تعدّد العقاب لتعدّد سببه.

التنبيه الثاني: في الثمرة العمليّة لهذا البحث:

والحاصل: أنّه بناءً على قبح التجرّي ومبعديّته وانطباقه على نفس العمل المتجرّى به، لو قامت أمارة على حرمة شيء ذاتاً، كما لو قامت على حرمة صوم هذا اليوم، كيوم العيد، فلا يمكن الإتيان بهذا العمل برجاء المطلوبيّة واقعاً؛ لعدم صلاحية القبيح لأن يكون مقرّباً، إذ الإتيان به تجرٍ فلا يصلح للمقربية ولا يقع عبادة.

وأمّا بناءً على ما ذهب إليه الشيخ! من أنّه لا قبح في الفعل المتجرّى به، وإنّما القبح في الصفة الكامنة في النفس التي يكشف عنها التجرّي وهي خبث السريرة وسوء الباطن: فلا مانع من الإتيان بالصوم برجاء المطلوبيّة.

التنبيه الثالث:

وحاصله: أنّ القبح الفاعليّ للتجرّي مسلّم لدى جميع العقلاء،

ص: 90


1- الفصول الغروية: 87, التنبيه الرابع من مقدمة الواجب، وقد نقلنا نصّ الكلام سابقاً.

ولا يزول بعروض عنوان حسن أرجح منه مع كونه ملتفتاً إليه؛ فإنّ قبح التجرّي ذاتيّ له.

ومن هنا يظهر: عدم تمامية ما ذكره صاحب الفصول! (1) من أنّه إذا «اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل - كالكافر الحربيّ مثلاً - فحسب أنّه ذلك الكافر، فتجرّأ، ولم يقدم على قتله، فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا التجرّي عقلاً عند من انكشف له الواقع» وذلك لتدارك قبح تجرّيه بحسن حفظ النفس؛ فإنّ التجرّي لا يكاد يعقل أن تعرضه الصفة المحسّنة له من الجهات الواقعيّة أبداً؛

ضرورة أنّ قبحه قد نشأ من القطع بالحرمة، وهذا الطغيان قد صدر منه عن عمد واختيار، فلا يعقل ارتفاع هذا القبح بجهة من الجهات الواقعيّة المجهولة المغفول عنها؛ فإنّ حفظ النفس المحترمة ما دام مغفولاً عنه وغير ملتفت إليه لا يوجب الحسن واستحقاق المدح، فلا يترجّح على القبيح الصادر بالعمد والاختيار، فإنّ الكذب المنجي من الهلكة إنّما يكون محسّناً فيما إذا علم صدوره منه على سبيل الإنجاء، وإلّا لم يرتفع به قبح صدوره أصلاً.

التنبيه الرابع:

للتجرّي ستّ مراتب مختلفة من حيث الشدّة والضعف:

ص: 91


1- الفصول الغروية: 431.

الاُولى: مجرّد القصد.

الثانية: القصد مع ارتكاب بعض المقدّمات.

الثالثة: الإتيان بما يعتقد كونه حراماً.

الرابعة: تحقّقه بمجرّد عدم مبالاته بالدين.

الخامسة: ارتكاب محتمل الحرمة برجاء إصابة الحرام.السادسة: ارتكاب محتمل الحرمة برجاء عدم الإصابة.

نسب إلى الشيخ الكبير! (1) القول بعدم حجّيّة قطع القطّاع، وهو القطع الذي يكون حاصلاً من أسباب وطرق لا تستلزم القطع عند متعارف الناس، وبحسب العادة، كمثل طيران الطير.

والصواب: أنّه لا فرق في حصول القطع فيما إذا كان طريقيّاً بين جميع أفراده وأسبابه، وإن كان قطّاعاً، فيحكم العقل في حجّيّته في جميعها، وإلّا لزم تخصيص حكم العقل.

وإذا كانت الحجّيّة ذاتيّة للقطع، لم يكن من الممكن وضعها ولا رفعها، وذلك لامتناع انفكاك الذاتيّ عن ذاته، فتثبت - حينئذٍ - الحجّيّة لقطع القطّاع أيضاً؛ لما عرفت من أنّ المناط في حجّيّة القطع هو انكشاف الواقع به، وهو حاصل للقطّاع، بحسب نظره، كحصوله لغيره تماماً.

ص: 92


1- انظر: كشف الغطاء: 1: 308، قال!: «وكثير الشكّ عرفاً - ويعرف بعرض الحال على عادة الناس - لا اعتبار بشكّه، وكذا من خرج عن العادة في قطعه وظنّه؛ فإنّه يلغو اعتبارهما في حقّه».

فعلم ممّا بيّنّاه: أنّ القطع حجّة من أيّ سبب حصل، وفي أيّ زمان كان، ولأيّ شخص حصل، وفي أيّ مورد من الفقه كان، ولذا حكموا بوجوب الإتيان بما قطع بوجوبه، وأنّه لا يبرّر تركه احتمال كون القطع ناشئاً من سبب غير متعارف.

وكذا حكموا بمعذّريّته، فإذا قطع بما يخالف الواقع، فإنّه يكون معذوراً في تلك المخالفة، وليس للمولى الاحتجاج على القاطع الذي عمل بقطعه الذي كان قد حصل له من الأسباب غير المتعارفة.

فإن قلت: إنّ القطع الطريقيّ المحض لا يحصل من الاُمور العقليّة، إذ لم تكن محاطة بالواقعيّات.

قلت: أوّلاً: هذا على خلاف الوجدان، فلا يمكن القول بسلبه بنحو كلّيّ.

وثانياً: لا نسلّم كون الخطأ فيه أكثر من غيره.وأمّا ما قد يقال: في الاستدلال على عدم اعتباره، ولو حصل منها، بأنّه لم يقرّره الشارع.

ففيه: أنّه - كما لا يخفى - ينافي ما تقدّم من كون الحجّيّة ذاتيّة للقطع، فلا معنى لمثل هذا الكلام، بل هو مخالف للطريقة العقلائيّة التي تقضي بوجوب اتّباع القطع من أيّ طريق اتّفق حصوله له.

نعم، ذكر الشيخ! أنّه لو كان القطع مأخوذاً على نحو الموضوع؛ فإنّه «يُتّبع في اعتباره - مطلقاً، أو على وجه خاصّ - دليل ذلك الحكم الثابت،

ص: 93

الذي اُخذ العلم في موضوعه، فقد يدلّ على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به، بمعنى: انكشافه للمكلّف من غير خصوصيّة للانكشاف، كما في حكم العقل بحسن إتيان ما قطع العبد بكونه مطلوباً لمولاه، وقبح ما يقطع بكونه مبغوضاً؛ فإنّ مدخليّة القطع بالمطلوبيّة أو المبغوضيّة في صيرورة الفعل حسناً أو قبيحاً عند العقل لا يختصّ ببعض أفراده، وكما في حكم الشرع بحرمة ما علم أنّه خمر أو نجاسته - بناءً على أن الحرمة والنجاسة الواقعيّين إنّما تعرضان مواردهما بشرط العلم لا في نفس الأمر كما هو قول بعض -.

وقد يدلّ دليل ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاصّ، أو شخص خاصّ، مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريّين من عدم جواز العمل في الشرعيّات بالعلم غير الحاصل من الكتاب والسنّة، وما ذهب إليه البعض من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق اللّه تعالى». انتهى كلامه« (1).

وتوضيحه: أنّ القطع المأخوذ على نحو الموضوع لا يكون حجّة إلّا إذا كان حاصلاً من الأسباب المتعارفة؛ لأنّ المدار في حجّيّة القطع الموضوع - تعميماً أو تخصيصاً - إنّما هو دليل اعتباره، وهو غير ظاهر فيما كان حاصلاً من الأسباب غير المتعارفة.

ص: 94


1- فرائد الاُصول 1: 31 - 32.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشكّ أو الظنّ، فإنّ الدليل الدالّ على اعتبارهما وأخذهما في الموضوع منصرف عن شكّ كثير الشكّ وظنّ كثير الظنّ.

قد يقال: بما أنّ القطّاع غير ملتفت حين قطعه إلى أنّه كذلك، فمن الجائز - حينئذٍ - توجيه خطاب إليه مفاده: أنّ قطعك الحاصل من مثل هذا السبب، والذي لا يحصل قطع متعارف الناس عادةً منه، ليس مأخوذاً في الموضوع. وكذلك، فيمكن أن يخاطب كثير الشكّ بما مضمونه: أنّ شكّك هذا غير معتبر.

وجوابه: أنّ القطّاع - غالباً - يكون ملتفتاً إلى كون قطعه حاصلاً من الأسباب غير المتعارفة، غاية الأمر: أنّ قطعه هذا يتضمّن اعتراضاً على غيره، من جهة أنّه لِمَ لا يحصل لهم القطع من هذه الأسباب أيضاً؟

فظهر من مطاوي ما ذكرنا: فساد ما قد حكي عن كاشف الغطاء) من عدم اعتبار قطع القطّاع مطلقاً، وأنّ القطع الطريقيّ المحض حجّة مطلقاً.

وهل القطع الحاصل من الأحكام العقليّة حجّة في الأحكام الشرعيّة؟

المنسوب إلى غير واحد من الأخباريّين هو القول بعدم حجّيّة القطع في باب الأحكام الشرعيّة إذا كان هذا القطع حاصلاً من مقدّمات عقليّة، وأنّ المدرك في الشرعيّات منحصر في السماع عن أهل بيت العصمة والطهارة(.

ص: 95

ولعلّ وجه المنع عندهم يعود إلى أنّهم منعوا من ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وأنّ العقل قاصر عن إدراك العلّة التامّة للحكم، غاية الأمر: أنّه قادر على أن يدرك بعض الجهات المقتضية للحكم، ومن المعلوم: عدم كفاية ذلك في العلم بالحكم، بل هو يتوقّف - مضافاً إلى ذلك - على العلم بعدم المانع من جعله، كما هو واضح.

وأيضاً: إنّ الأحكام الشرعيّة مقيّدة، وأنت خبير بأنّ للعقل القدرة على إدراك بعض العلل، ولو على نحو الموجبة الجزئيّة، فلا يمكن - لذلك -أن يُصار إلى عزله بالكلّيّة، وإلّا، لزم إفحام الأنبياء(، وغير ذلك من المفاسد.

وقد يعلّل المنع - أي: منع حجّيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقلية في الأحكام الشرعيّة - عندهم بتوجيه ثانٍ، وهو عدم جواز الاستناد في الأحكام الشرعيّة إلى المقدّمات العقلية؛ لعدم إفادتها العلم، فتكون شرعيّة أخذ الحكم - حينئذٍ - منحصرةً بطريقٍ واحد، وهو السماع عنهم(.

قال المحقّق النائيني! في المقام ما هذا لفظه:

«وكما يصحّ أخذ العلم بالحكم شرطاً في ثبوت الحكم، كذلك يصحّ أخذ العلم بالحكم من وجه خاصّ وسبب خاصّ مانعاً عن ثبوت الحكم واقعاً بحيث لا حكم مع العلم به من ذلك السبب، كما في باب القياس، حيث إنّه قام الدليل على أنّه لا عبرة بالعلم بالحكم الحاصل من طريق

ص: 96

القياس، كما في رواية أبان في مسألة دية أصابع المرأة؛ حيث نهى(علیه السلام) عن العمل بالقياس، مع أنّ أبان كان عالماً بأن في قطع أربعة من أصابع المرأة يثبت أربعين من الإبل من طريق القياس.

ومن هنا، تعجّب من حكم الإمام(علیه السلام) بأنّه يثبت ثلاثين من الإبل، ومع ذلك، نهى الإمام(علیه السلام) عن العمل بعلمه، فقد أخذ العلم بالحكم من طريق القياس مانعاً.

وليس هذا في الحقيقة نهياً عن العمل بالعلم حتى يقال: إنّ ذلك لا يعقل؛ من جهة أنّ طريقيّة العلم وكاشفيّته ذاتيّة لا يمكن نفيها في عالم التشريع، ولا يعقل التصرّف في ناحية العلم بوجه من الوجوه، بل مرجع ذلك إلى التصرّف في المعلوم والواقع الذي أمره بيد الشارع. فالتصرّف يرجع إلى ناحية المتعلّق، لا إلى ناحية العلم، وبعد الالتفات إلى هذا التصرّف، لا يمكن أن يحصل للمكلّف علم بالحكم من طريق القياس؛ إذ الحكم الواقعيّ قيّد بغير ما أدّى إليه القياس، فكيف يمكن أن يحصل له العلم بالواقع من ذلك الطريق.نعم، لو لم يلتفت إلى هذا التصرّف يحصل له العلم، كما حصل لأبان العلم بالحكم قبل نهي الامام(علیه السلام)» (1).

وحاصل ما أرادوه: أنّ العقل، وإن كان يمكنه أن يدرك بمقدّماته

ص: 97


1- فوائد الاُصول 3: 13.

جميع الجهات المقتضية للحكم الشرعيّ، إلّا أنّها لا تفيد إلّا الظنّ به دون القطع، والظنّ ممّا لا يجوز الاعتماد عليه سواء كان حصوله من المقدّمات العقليّة، أم من غيرها.

وأمّا ما قد يذكر: من عدم جواز الاعتماد على الأدلّة الظنّية في إثبات الاحكام الشرعيّة، وأنّ عدم جواز الخوض في المقدّمات العقليّة إنّما هو لأجل إفادتها الظنّ الذي لا يغني عن الحقّ شيئاً.

ففيه: أنّه لا يتمّ إن اُريد به التفصيل بين الحكم الصادر من المقدّمات العقليّة وبين الحكم الصادر من غيرها، بالقول بحجّيّة الثاني، دون الأوّل، بل إنّما يتمّ لو اُريد منه بيان عدم حجّيّة غير القطع.

ومّما يُنسب إلى الأخباريّين - أيضاً - قولهم بعدم حجّيّة الحكم الذي يصل إلى المكلّف من غير طريق تبليغ أولياء اﷲ(، وعلى هذا الأساس، فقد أنكروا حجّيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقلية، وادّعوا وجود الأخبار الكثيرة الدّالّة على أنّ أحداً لو قام ليله، وصام دهره، ولم يكن ذلك بدلالة وليّ اﷲ، وبولايته، فلن يقبل منه صوم ولا صلاة (1).

وتلك الروايات التي استدلّ بها الأخباريّون إنّما هي في بيان أنّ الإيمان شرط في صحة العبادات، وسواء فرض عدم اعتقادهم بالملازمة أو لانحصار حجّيّة الأحكام بالوصول عن طريق السماع عن الأئمة(، فلا دليل عليه، ويمكن القول بوجوده على خلاف مدّعاهم.

ص: 98


1- انظر - مثلاً -: وسائل الشيعة 1: 118 - 125، باب 29 من أبواب مقدّمة العبادات.

مباحث الأمارات غير العلميّة

اشارة

والكلام يقع فيها في اُمور:

الأمر الأوّل: في عدم كون الحجّيّة من لوازم الأمارات:

أنّ الحجّيّة في باب الأمارات غير العلميّة، كخبر الثقة وظواهر الكلام والإجماع المنقول، وغير ذلك، ليست من لوازم الأمارات، كما هو الحال في باب القطع، لا بنحو العلّيّة، ولا بنحو الاقتضاء؛ إذ لو كان في الأمارة غير العلميّة اقتضاء الحجّيّة لكان يكفي في اعتبارها وجواز الأخذ بها مجرّد عدم ثبوت المنع عنها، بأن لا يرد من الشارع المقدّس ما يدلّ على منعه عن العمل بها، وذلك لوجود المقتضي - حينئذٍ - وفقد المانع من تأثيره.

مع أنّ مجرّد عدم ثبوت المنع عن العمل والأخذ بها لا يكفي قطعاً، كما لا يخفى، بل يحتاج جواز ذلك إلى جعلٍ من الشارع، أو إلى طروء بعض الحالات التي تكون مستلزمةً لحجّيّتها عقلاً، بناءً على القول

ص: 99

بالحكومة في نتيجة دليل الانسداد؛ لأنّ الظنّ - بناء على القول بالكشف - يكون طريقاً مجعولاً من قبل الشارع.

هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الامتثال وسقوط الحكم:

فقد يقال: بإمكان الاكتفاء بالظنّ بالفراغ، نظراً إلى عدم لزوم دفع الضرر المحتمل.

وفي هذا يقول صاحب الكفاية!:

«أحدها: أنّه لا ريب في أنّ الأمارة الغير العلميّة ليست كالقطع في كون الحجّيّة من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلية، بلمطلقاً، وأنّ ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجّيّة عقلاً، بناء على تقرير مقدّمات الانسداد بنحو الحكومة، وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجّيّة بدون ذلك ثبوتاً، بلا خلاف، ولا سقوطاً، وإن كان ربّما يظهر فيه من بعض المحقّقين الخلاف والاكتفاء بالظنّ بالفراغ، ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، فتأمّل» (1).

ولعلّ الوجه في ما أمر به! من التأمّل، هو أنّ الاكتفاء بالظنّ بالفراغ بدعوى عدم لزوم دفع الضرر المحتمل لا ربط له - أصلاً - بحجّيّة الظنّ في مقام السقوط، فإنّ شأن الحجّة أن يقطع معها بعدم الضرر، لا أنّه يحتمل معها الضرر، ولا يجب دفعه بحكم العقل.

ص: 100


1- كفاية الاُصول: 275.
الأمر الثاني: في إمكان التعبّد بالأمارات.
اشارة

اعلم أنّ الإمكان على أقسام:

الأوّل: الإمكان الذاتيّ: وهو الذي لا ينافي الوجود والعدم بحسب ذاته، ويقابله الامتناع الذاتيّ، كاجتماع الضدّين وارتفاع النقيضين.

الثاني: الإمكان الوقوعيّ: والمراد منه ما لا يلزم من فرض وجوده محذور عقليّ، كما يقال: المعراج الجسمانيّ أو المعاد الجسمانيّ ممكنان، فإنّ وقوعه في الخارج يكون أقوى دليل على إمكانه. ويقابل الإمكان الوقوعيّ: الامتناع الوقوعيّ، وهو الذي يلزم من وقوعه محذور عقليّ، إمّا بسبب كونه ممتنعاً ذاتاً: كاجتماع الضدّين أو ارتفاع النقيضين، أو عرضاً: كامتناع الظلم، بالنسبة إلى الحكيم جلّ وعلا.الثالث: الإمكان الاحتماليّ، والمراد منه ما يحتمل وقوعه، ومن هنا ما يقال: «كلّ ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يقم عليه ساطع البرهان» (1).

ولا يخفى: أنّ الإمكان بالمعنى الأوّل خارج عن حيّز البحث

ص: 101


1- هذه العبارة بحسب الأصل للشيخ الرئيس ابن سينا، وهي مشهورة على ألسنة المحصّلين باللّفظ الذي أثبتناه في المتن، ولكنّ نصّها الصحيح، على ما في كتاب الإشارات، كالتالي: «وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك ما لم تتبرهن استحالته لك، فالصواب أن تسرّح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان، ما لم يذدك عنه قائم البرهان». انظر: الإشارات والتنبيهات: 161.

الاُصوليّ؛ إذ لم يحتمل أحد كون التعبّد بغير العلم عين اجتماع الضدّين أو المثلين حتى يكون ممتنعاً ذاتاً، فيبقى النزاع فيه من شأن أهل الفلسفة والمعقول.

وكذلك، فليس المراد من الإمكان ها هنا الإمكان الاحتماليّ، وهو أن يكون الترديد والشكّ حاصلاً لشخصٍ وغير حاصل لآخر؛ لأنّ احتمال الإمكان جارٍ في الكلّ، وهذا غير مفيد.

وإنّما الكلام في مقتضي الشكّ في الإمكان فيما إذا لم يقع دليل على الإمكان ولا على الاستحالة، فإنّ الشيخ! بعد ما نقل كلام ابن قبة على عدم جواز التعبّد بخبر الواحد، قال - ما لفظه -:

«واستدلّ المشهور على الإمكان بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به محال» (1).

ومراده بذلك: أنّ الإمكان أصل عند العقلاء - في حدّ ذاته - مع احتمال الامتناع وعدم قيام الدليل عليه، فيرتّب العقلاء آثار الممكن على مشكوك الامتناع.

واعترض عليه صاحب الكفاية باعتراضين:

الأوّل: منع سيرة العقلاء على الحكم بالإمكان وترتيب آثاره عند الشك، ومنع حجّيّة سيرتهم لو سلّم ثبوتها كذلك.

ص: 102


1- فرائد الاُصول 1: 106.

الثاني: عدم قيام دليل قطعيّ على اعتبارها، وأمّا الدليل الظنّيّ كذلك: فهو لو قام، فإنّما يكون دليلاً على إمكانه، وعلى أنّه لا يستلزم أيّ محذور؛ إذ لو كان ممتنعاً لما وقع، والوقوع من طرق إثبات الإمكان، وحينئذٍ: فيكون من الممكن في مقام الاستدلال على الإمكان أن يستدلّ بالوقوع - أي: بوقوع التعبّد بالأمارات غير العلميّة - وإذا لم يكن هناك دليل على الوقوع، فلا ثمرة في البحث عن إمكانه.

ونصّ كلامه! كالتالي:

«وليس الإمكان بهذا المعنى، بل مطلقاً، أصلاً متّبعاً عند العقلاء في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع؛ لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشكّ فيه، ومنع حجّيّتها - لو سلّم ثبوتها - لعدم قيام دليل قطعيّ على اعتبارها، والظنّ به، لو كان، فالكلام الآن في إمكان التعبّد بها وامتناعه، فما ظنّك به؟» (1).

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني! في مناقشة أصالة الإمكان: من أنّ «المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعيّ، بمعنى: أنّ التعبّد بالأمارة هل يلزم منه محذور في عالم التشريع أم لا؟ وليس المراد منه الإمكان التكوينيّ المختصّ بالاُمور الخارجيّة حتى يبحث في أنّ الأصل العقلائيّ هل هو الحكم بالإمكان حتى يثبت الامتناع

ص: 103


1- كفاية الاُصول: 276.

أم لا؟ كما هو واضح» (1).

فقد ردّ عليه بعض المحقّقين المعاصرين بما لفظه:

«فهو مما لا نكاد نفهمه بأكثر من صورته اللّفظيّة، وذلك فإنّ التشريع وجعل الحكم فعل تكوينيّ للمولى كسائر الأفعال التكوينيّة لهوإن اختصّ باسم التشريع، فيقع البحث في أنّه يستلزم المحال أو لا ومع الشكّ ما هو الأصل والقاعدة؟» (2).

وفيه: فإنّ الاُمور التشريعيّة والجعليّة وعاؤها الاعتبار، وعلى هذا الأساس: فهي إنّما تكون واقعيّةً بعد الجعل والاعتبار، وليست هي اُموراً تكوينيّة؛ لأنّ الاُمور التكوينيّة إنّما تحتاج إلى جعلٍ تكوينيّ، لا اعتباريّ.

وكيف كان، فقد استدلّ المانع بوجهين:

الأوّل: أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ-، لجاز التعبّد به في الإخبار عن اﷲ تعالى، والتالي باطل بالإجماع، فيكون المقدّم مثله في البطلان.

وفيه: أنّه قياس مع الفارق جدّاً؛ ضرورة أنّ الإخبار عن النبيّ- ممكن لكلّ أحد، وأمّا الإخبار عن اﷲ تعالى فهو مختصّ بأصحاب الأنفس القدسيّة.

الثاني: أنّ العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم

ص: 104


1- انظر: أجود التقريرات 2: 62.
2- منتقى الاُصول 4: 142.

الحلال، والتعبّد بغير العلم لا يكون دائم الإصابة؛ إذ لا يأمن أن يكون ما أخبر بحلّيّته حراماً واقعاً، وبالعكس، فيلزم منه نقض الغرض.

وفيه: أنّ القطع أيضاً ليس دائم الإصابة، فما يرد هنا يراد هناك.

وقد ذكر صاحب الكفاية! في بيان تصوير استحالة التعبّد بالظنّ وجوهاً ثلاثة بقوله:

«فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبّد بغير العلم من المحال أو الباطل ولو لم يكن بمحال أمور:

أحدها: اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين - مثلاً - فيما أصاب، أو ضدّين من إيجاب وتحريم، ومن إرادة وكراهة، ومصلحة ومفسدة ملزمتين، بلا كسر وانكسار في البين، فيما أخطأ، أو التصويب، وأن لا يكون هناك غير مؤدّيات الأمارات أحكام.ثانيها: طلب الضدّين فيما إذا أخطأ وأدّى إلى وجوب ضدّ واجب.

ثالثها: تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام، وكونه محكوماً بسائر الأحكام» (1).

والمراد من قوله!: «ما قيل» هو إشكال ابن قبة، ومن قوله: «من المحال» لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين، ومن «الباطل» الإلقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة.

ص: 105


1- كفاية الاُصول: 276 - 277.

وتوضيح هذه الوجوه مجملةً بأن يقال:

إنّه لما كانت الأحكام التكليفية الخمسة متضادّة فيما بينها ولا يمكن اجتماعها في مورد واحد، فحينئذٍ نقول: لو فرض جواز التعبّد بخبر الواحد ووجوب العمل به، وقامت الأمارة - مثلاً - على وجوب صلاة الجمعة: فلا يخلو:

فإمّا أن يكون مفادها مخالفاً للواقع، بأن كانت صلاة الجمعة محرّمة.

وإمّا أن يكون موافقاً له.

فعلى الأوّل: يلزم اجتماع الوجوب والحرمة على موضوع واحد، وهو صلاة الجمعة، أو فقل: يلزم اجتماع الحبّ والبغض، أو المصلحة والمفسدة، في مورد واحد، وهو من اجتماع الضدّين.

وعلى الثاني: يجتمع عليها وجوبان - وجوب ظاهريّ، وآخر واقعيّ - فيلزم اجتماع المثلين، فيكون المحال لازماً على كلا الشقّين.

بل وحتى لو فرض عدم الاستحالة، كما في صورة اجتماع المصلحة والمفسدة، فلا أقلّ من لزوم البطلان؛ وذلك لأنّ الأمارة إن كانت تؤدّي إلى إباحة ما هو المحرّم واقعاً، كان ذلك من الإلقاء في المفسدة، وإن كانت تؤدّي إلى جواز ترك ما هو الواجب واقعاً، لزم منه تفويت المصلحة، وكلاهما باطل، كما هو واضح.

وقد أجاب صاحب الكفاية! عن هذه الوجوه بما لفظه:«إنّ ما ادّعي لزومه: إمّا غير لازم، أو غير باطل؛ وذلك لأنّ التعبّد

ص: 106

بطريقٍ غير علميّ إنّما هو بجعل حجّيّته، والحجّيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكامٍ تكليفيّة بحسب ما أدّى إلى الطريق، بل إنّما تكون موجبة لتنجّز التكليف به إذا أصاب، وصحّة الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته تجرّياً وانقياداً مع عدم إصابته، كما هو شأن الحجّة الغير المجعولة.

فلا يلزم اجتماع حكمين، مثلين أو ضدّين، ولا طلب الضدّين، ولا اجتماع المفسدة والمصلحة، ولا الكراهة والإرادة، كما لا يخفى.

وأمّا تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته، فلا محذور فيه أصلاً، إذا كانت في التعبّد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء» (1).

وحاصله: أنّ الأماريّة هنا بمعنى الطريقيّة، وليس المجعول في موارد الأمارة حكماً شرعيّاً، فهي - لذلك - تكون كاشفةً عن الواقع، ولا تكون سبباً لحدوث مصالح ومفاسد في متعلّقاتها وراء المصالح والمفاسد الواقعيّة.

وإذا اتّضح أنّه ليس هناك أيّ حكم ظاهريّ مجعول في مورد الأمارات، وأنّها ليس لها إلّا أن تنجّز أو تعذّر، فلا يعود هناك حكمان مجتمعان، من وجوبين، أو من وجوب وحرمة، حتى يلزم من اجتماعهما محذور.

ص: 107


1- كفاية الاُصول: 277.

فإن قلت: هذا لا يدفع محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة، كما إذا دلّت الأمارة على الإباحة وكان الحكم في الواقع هو الوجوب، أو دلّت على عدم حرمة صلاة الجمعة وكانت حراماً واقعاً.

قلت: هذان المحذوران يرتفعان بوجود المصلحة الموجودة في التعبّد بالظنّ، وهي غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.هذا كلّه، فيما إذا كانت الأمارات بمعنى الطريقيّة، وأمّا لو كانت بمعنى السببيّة، فلا محيص عن ورود الإشكال وتأتّيه؛ بداهة أنّ معنى السببيّة ليس إلّا أنّ قيام الأمارة يكون سبباً لحدوث مصالح ومفاسد في متعلّقات الأحكام غير المصالح والمفاسد الواقعيّة.

ثمّ إنّ القائلين بالسببيّة فريقان:

فبين فريقٍ يذهب إلى أنّ المصالح والمفاسد تستتبعها أحكام شرعيّة من دون أن يكون للجاهل أحكام واقعيّة ما وراء المؤدّيات. وعلى هذا: تكون الأحكام الواقعيّة مختصة بالعالمين بها دون الجاهلين.

وبين فريق آخر يقول بأنّ قيام الأمارة يكون سبباً وموضوعاً لحدوث مفاسد أو مصالح في متعلّقات الأحكام، تكون هذه المصالح والمفاسد مستتبعة لجعل أحكام شرعيّة على طبقها، مع الاعتراف بأنّ هناك تكاليف وأحكاماً واقعيّةً يشترك فيها العالم والجاهل، إلّا أنّ هذه التكاليف الواقعيّة تكون فاقدةً لفعليّتها لدى قيام الأمارة على خلافها.

ص: 108

وقد يورد على الأوّل بجملة من الإشكالات:

الأوّل: شمول الأحكام الواقعيّة للعالم والجاهل، وهما فيها سواء.

الثاني: لزوم الدور؛ لأنّ الأحكام الواقعيّة لو كانت مختصّة بالعالمين، للزم أن يتوقّف وجودها على العلم بها، توقّف كلّ حكم على موضوعه، مع أنّ العلم بها متوقّف عليها.

الثالث: أنّه من التصويب الباطل عند الإماميّة.

الرابع: لو فرض أنّه لا حكم واقعيّ للجاهل، فعن ماذا يبحث المجتهد حال اجتهاده؟ وفي أيّ شيء يجتهد؟

ويورد على الثاني:

بأنّ حجّيّة الأمارات - كما ذكرنا - لا تكون إلّا بمعنى الطريقيّة، فلا يرد شيء من تلك الإشكالات، ولا يكون هناك حكم في مورد الأمارات أصلاً، بل هو منحصر بالواقع، فالحكم، سواء في صورة الإصابة أم في صورة عدمها، يكون واحداً، ولا موضوع للمثلين أو الضدّين، فلا يكون من التصويب في شيء.فانقدح: أنّ الأحكام الواقعيّة الإنشائيّة البالغة مرتبة الإبلاغ والإعلام موجودة في الواقع ومشتركة بين الجاهل والعالم، وورود أمارات على خلافها غير مزاحمة لها بما هو أهمّ منها وأقوى كذلك غاية ما يوجبه هو سقوط تلك الأحكام عن التنجّز لا سقوطها من أوّل.

وكذا لو قلنا بوجود حكمٍ ظاهريّ تكليفيّ في مورد الأمارات، إمّا

ص: 109

بادّعاء أنّ جعل الحجّيّة مستتبع لذلك، أو بمعنى أنّ جعل الحجّيّة ليس إلّا جعل الحكم التكليفيّ؛ فلا يرد شيء من المحذور المزبور، أعني: لزوم اجتماع الضدّين أو النقيضين من الإرادة والكراهة والوجوب والحرمة.

وقد حاول الشيخ الأعظم! رفع هذا المحذور بما حاصله:

أنّ الموضوع في الحكم الظاهريّ مغاير لموضوع الحكم الواقعيّ؛ لأنّ موضوع الحكم الظاهريّ هو الشكّ في الحكم الواقعيّ، والحكم الواقعيّ لم يؤخذ في موضوعه الشكّ، واختلاف الموضوع يوجب رفع التضادّ والتناقض من البين.

قال) في الفرائد في أوّل مباحث التعادل والتراجيح - على ما في بعض النسخ -:

«ومنه يعلم: أنّه لا تعارض بين الاُصول وما يحصّله المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة؛ لأنّ موضوع الحكم في الاُصول: الشيء بوصف أنّه مجهول الحكم، وفي الدليل: نفس ذلك الشيء من دون ملاحظة ثبوت حكمٍ له، فضلاً عن الجهل بحكمه، فلا منافاة بين كون العصير المتّصف بجهالةٍ حكمه حلالاً على ما هو مقتضى الأصل، وبين كون نفس العصير حراماً، كما هو مقتضى الدليل الدالّ على حرمته» (1).

ص: 110


1- فرائد الاُصول 4: 11 - 12.

وردّه المحقّق النائيني! بما نصّه:

«وفيه: أنّ الحكم الواقعيّ وإن لم يؤخذ في موضوعه الشكّ، إلّا أنّه محفوظ في حالة الشكّ، ولو بنتيجة الإطلاق، كانحفاظه في حالة العلم،فإنّ الحكم الواقعيّ إذا كان مقيّداً بغير صورة الشكّ فيه - ولو بنتيجة التقييد - رجع ذلك إلى التصويب الباطل، ولم يكن وجه لتسمية مؤدّيات الأمارات والاُصول ﺑ (الأحكام الظاهريّة)، بل كانت من الأحكام الواقعيّة، إذ المفروض أنّه لا حكم في الواقع إلّا المؤدّيات.

والحاصل: أنّ الإشكال إنّما هو بعد فرض انحفاظ الحكم الواقعيّ في حالة الشكّ، فيلزم اجتماع الضدّين في تلك الحالة» (1).

ولكن يمكن أن يقال: بعدم وجود التضادّ في المقام؛ وذلك لاختلاف الموضوع؛ فإنّ الحكم إنّما هو الواقع بما هو واقع، والموضوع إنّما هو ملاحظة المصالح الظاهريّة، وإذا كان الموضوعان متغايرين، فلا تضادّ؛ لأنّه إنّما يكون في موضوع واحد، بل بناءً على قول بعض المصوّبة من سقوط الحكم الواقعيّ أو تبدّله، لا يكون هناك اثنينيّة في البين، فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدّين.

وبعبارة اُخرى: الحكم الظاهريّ حكم طريقيّ ناشئ عن مصلحة في نفسه، والحكم الواقعيّ حكم فعليّ ناشئ عن مصلحة في متعلّقه، والأوّل

ص: 111


1- فوائد الاُصول 3: 100 - 101.

يكون منجّزاً، والثاني فعليّ غير منجّز، وحينئذٍ: ترتفع غائلة اجتماع الضدّين؛ لاختلاف مورد الإرادة والكراهة الناشئتين عن المصلحة والمفسدة؛ لأنّ ما فيه المصلحة في الحكم الظاهريّ هو نفس الحكم، وما فيه المفسدة في الحكم الواقعيّ هو متعلّق الحكم.

نعم، يرد عليه أنّه لو كانت المصلحة أو المفسدة في متعلّق الفعل، لا في نفسه، للزم تحقّقها بمجرّد إنشائها وجعلها من دون لزوم الإتيان بمتعلّقاتها، علماً بأنّ المقصود من جعلها في مورد الأمارات ليس إلّا الوصول بسببها إلى الواقعيّات، ولذا سمّيت بالطريقيّة.

فظهر: أنّ المصلحة في الأحكام الظاهريّة الطريقيّة لو كانت في متعلّق الفعل، كالمصلحة النفسيّة التي أوجبت إنشاء الأحكام الواقعيّة،فيلزم على فرض إصابتها للواقع اجتماع المثلين، وعلى فرض المخالفة اجتماع الضدّين، واللّازم باطل، فكذا الملزوم.

وأمّا ما قد يدّعى من حمل الأحكام الواقعيّة على الشأنيّة أو الإنشائيّة، وحمل الأحكام الظاهريّة على الفعليّة، فقد ردّه المحقّق النائيني! بما لفظه:

«أمّا الشأنية: فإن كان المراد منها أنّه في مورد قيام الأمارة على الخلاف ليس في الواقع إلّا شأنيّة الحكم ومجرّد ثبوت المقتضي فتكون الأحكام الواقعيّة اقتضائيّة محضة، فهو بمكان من الضعف، فإنّه إن رجع إلى أنّ في مورد الأمارة ليس في الواقع أحكام حقيقيّة بل

ص: 112

مجرّد الملاكات وقيام الأمارة على خلافها مانع عن تأثيرها وتشريع الأحكام على طبقها، فهذا يرجع إلى التصويب الباطل؛ لأنّه يلزم خلو الواقع عن الحكم.

وإن رجع إلى أن في مورد قيام الأمارة على الخلاف يكون في الواقع أحكام اقتضائيّة، فنحن لا نتعقل للأحكام الاقتضائية معنى؛ لأنّ الإهمال الثبوتي لا يعقل في الأحكام بالنسبة إلى الانقسامات السابقة ولا بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة، بل الحكم بالنسبة إلى جميع الانقسامات إمّا مطلق، أو مقيّد بالإطلاق والتقييد اللّحاظيّ، أو بنتيجة الإطلاق والتقييد، ومن جملة الانقسامات اللّاحقة قيام الأمارة على الخلاف.

والحكم الواقعيّ المترتّب على موضوعه الواقعيّ، إمّا أن يكون مطلقاً بالنسبة إلى قيام الأمارة على الخلاف، وإمّا أن يكون مقيّداً بعدم قيام الأمارة على ذلك. فعلى الأوّل: يلزم التضادّ بين الحكم الواقعيّ والحكم الجائي من قبل الأمارة. وعلى الثاني: يلزم التصويب» (1).

فانقدح بذلك: أنّه ليس في الأمارات حكم حتى ينافي الحكم الواقعيّ، فلا يرد إشكال التضادّ أو التماثل أو التصويب، بل ليس حال الأمارةالمخالفة للواقع إلّا كحال العلم المخالف كذلك، فلا وجود إلّا للحكم الواقعيّ فقط، بلا فرقٍ بين صورتي إصابة الطريق للواقع وخطئها، فإنّه

ص: 113


1- فوائد الاُصول 3: 101, 102.

عند الإصابة يكون المؤدّى هو الحكم الواقعيّ فقط، كالعلم المصيب للواقع، فيوجب تنجيز الواقع وصحّة المؤاخذة عليه. وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذّرية، وعدم صحّة المؤاخذة عليه، كالعلم المخالف، من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول.

هذا كلّه في الأمارات.

وأمّا الاُصول:

فهي على قسمين: تنزيليّة وغير تنزيليّة.

أمّا الاُصول التنزيليّة: فهي - أيضاً - خالية عن حكمٍ آخر في قبال الحكم الواقعيّ، هذا إذا قلنا بأن المجعول فيها هو البناء العمليّ على أنّ المؤدّى هو الواقع، وإلّا، كان إشكال التضادّ وارداً.

أمّا في باب الاُصول المحرزة فإنّ الهوهويّة المجعولة فيه هي الهوهويّة العمليّة، أي: البناء العمليّ على كون المؤدّى هو الواقع، وهي لا تستلزم جعل حكم في المؤدّى، حتى يأتي إشكال التضادّ أو التماثل أو التصويب.

وبهذا يظهر الوجه في ارتفاع الإشكال عن الاُصول غير المحرزة، كأصالة الاحتياط والحلّ والبراءة؛ ضرورة أنّ المجعول فيها هو مجرّد البناء على أحد طرفي الشكّ من دون إلقاء الطرف الآخر والبناء على عدمه، حيث يحكم على أحد طرفي الشكّ بالرفع، كأصالة البراءة، أو الوضع، كأصالة الاحتياط.

ص: 114

فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط، والحلّيّة المجعولة في أصالة الحلّ، تكون مناقضة مع الحلّيّة والحرمة الواقعيّة على تقدير مخالفة الأصل للواقع.

وأمّا دعوى: ارتفاع إشكال التضادّ بين الحكمين؛ بسبب اختلافهما في الرتبة، وأنّ رتبة الحكم الظاهريّ هي رتبة الشكّ في الحكم الواقعيّ،والشكّ في الحكم الواقعيّ متأخّر رتبةً عن نفس وجوده. فيكون الحكم الظاهريّ في طول الحكم الواقعيّ لا في عرضه.

ففي غير محلّها: لأنّ الحكم الظاهريّ وإن لم يكن في رتبة الحكم الواقعيّ، إلّا أنّ الحكم الواقعيّ يكون في رتبة الحكم الظاهريّ؛ لانحفاظ الحكم الواقعيّ في مرتبة الشكّ فيه، فإنّ تأخر رتبة الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ لا يرفع غائلة التضادّ مع شمول الحكم الواقعيّ لجميع حالات العلم و الظنّ والشكّ.

ولكنّ الصحيح: هو أنّ البراءة - أيضاً - ليست بمعنى جعل الحكم في عرض الحكم الواقعيّ المجعول، حتى يلزم التضادّ، بل هي بمعنى سقوط العقاب على ترك الواجب المجهول، وهو مستلزمٌ للترخيص والإباحة الظاهريّة.

قال المحقّق النائيني!: «هذا كلّه إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي جعل المتمّم من إيجاب الاحتياط. وإن لم تكن المصلحة الواقعيّة تقتضي ذلك ولم تكن بتلك المثابة من الأهمّيّة بحيث يلزم

ص: 115

للشارع رعايتها كيفما اتّفق، فللشارع جعل المؤمّن: كان بلسان الرفع كقوله-: (رفع ما لا يعلمون)، أو بلسان الوضع كقوله-: (كلّ شيء لك حلال).

فإنّ المراد من الرفع في قوله-: (رفع ما لا يعلمون)، ليس رفع التكليف عن موطنه حتى يلزم التناقض، بل رفع التكليف عمّا يستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط، فالرخصة المستفادة من قوله-: (رفع ما لا يعلمون) نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فكما أنّ الرخصة التي تستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا تنافي الحكم الواقعيّ ولا تضادّه، كذلك الرخصة التي تستفاد من قوله(علیه السلام): (رفع ما لا يعلمون)؛ والسرّ في ذلك: هو أنّ هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعيّ ومتأخّر رتبتها عنه» (1).ولكنّ هذا الجواب منه! غير تامّ؛ والسرّ في ذلك:

أنّ الحكم الظاهريّ وإن كان في رتبة الحكم الواقعيّ، إلّا أنّ هذه الرتبة لا تفيد في رفع غائلة التضادّ؛ لأنّ الحكم الواقعيّ يشمل بنتيجة الإطلاق مرتبة الحكم الظاهريّ، فلا تكون الطوليّة في طرفٍ واحد كافية لرفع التضادّ.

ص: 116


1- فوائد الاُصول 3: 118.

وقد أجاب عنه المحقّق العراقي! بأنّ تصوّر الطوليّة في الحكمين على نحوين:

«أحدهما: طوليّة الحكمين في ذات واحدة محفوظة في مرتبة نفسه، كما هو الشأن في عنوان الخمر ومشكوك الخمريّة.

وثانيهما: طوليّة الحكمين الثابتين للذّاتين في رتبتين، كما هو الشأن في فرض الجهل بالحكم من الجهات التعليليّة؛ لطروّ الحكم الظاهريّ على الذات، فإنّه - حينئذٍ - تُرى الذات في رتبتين، بخلاف ما إذا كان الجهل من الجهات التقييدية؛ لأنّ الذات في هذه الصورة لا تُرى إلّا في رتبة واحدة موضوعاً لحكمين طوليّين، وحينئذٍ: فالذي يثمر لرفع التضادّ هو الطوليّة بالمعنى الثاني، دون الأوّل.

والسرّ فيه: أنّ الذات في هذه الصورة لمّا كان واحداً لا يتحمّل حكمين ولو طوليّين، متماثلين أو متضادّين.

وأمّا في فرض أخذ الذات في رتبتين، فلا يُرى - حينئذ - إلّا ذاتان، وحيث إنّ معروض الحكم في كلّيّة المقامات هو نفس العنوان لا المعنون، فوحدة المعنون لا يضرّ في تعدّد الحكم لكلٍّ منهما بعنوانٍ غير الآخر...» (1).

ص: 117


1- انظر: فوائد الاُصول 3: 118 - 119، الهامش رقم 1، بتصرّفٍ يسير.

ص: 118

تأسيس الأصل عند الشكّ في التعبّد بالأمارة

اشارة

والكلام يقع في اُمور:

الأمر الأوّل:

أنّ المراد من الإمكان هو الإمكان الوقوعيّ كما مر، أي: الذي لا يلزم من إمكان تعبدّه محال، في مقابل الامتناع الوقوعي الذي يستلزمه، وليس المراد منه الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي.

الأمر الثاني:

أن المراد به هو انتسابه إلى الشارع، لا بالنسبة إلى مرحلة الاقتضاء، ضرورة أنّه لا معنى في هذه المرحلة للقول بجريان الأصل فيما فيه الاقتضاء.

ص: 119

الأمر الثالث:

قد استُدلّ لحرمة التعبد بالأمارة التي لم يعلم التعبّد بها بوجوه أربعة:

الأوّل: الكتاب، قال تعالى: ﴿قُلْ ءآللهُ أَذنَ لَ-كُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (1).وليس المراد من الافتراء: إسناد الشيء إلى الشارع مع العلم بعدم كونه منه كما ربّما ينسبق إلى بعض الأوهام، بل يعمّ صورة عدم العلم بكونه منه كما يظهر من الآية: ﴿ءآللهُ أَذنَ لَ-كُمْ﴾، فتدل على أنّه ما لم يأذن اﷲ فهو افتراء، مضافاً إلى أنّ العرف يعتبر الكلام المنسوب إلى شخص لم يقله افتراءً وإن لم يكن الناسب عالماً بكذبه.

الثاني: السنّة: كقوله(علیه السلام): «رجل قضى بالحق وهو لا يعلم» (2).

وفي هذه الرواية إشكالان:

الأوّل: قصور السند؛ لأنّها مرفوعة، والانجبار بالعمل غير مفيد.

والثاني: أنّ هذه الرواية إنّما تصلح للاستدلال إذا ثبت أنّ المراد من القضاء فيها: القضاء بما لا يعلم، ولكنّها ظاهرة بمعنى آخر، هو: التصدّي للقضاء مع عدم كونه أهلاً لذلك.

وما ذكر في مقام بيان التفصيل بين قضاة الجور والعدل من أنّ المراد من قوله(علیه السلام): «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم»: من لا يعتقد الحقّ، ومن

ص: 120


1- يونس: الآية 59.
2- الوسائل 27: 22, الباب 4 من أبواب صفات القاضي, ح 6.

قوله(علیه السلام): «رجل قضى بالحقّ وهو يعلم»: من يعتقده؛ مخالف لظاهر الرواية، والمعنى حينئذٍ: إذا قضى الرجل بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، سواء كان من قضاة الجور أو العدل؛ لأنّه افتراء على اﷲ.

الثالث: الإجماع، وقد نسب إلى المحقق البهبهاني! أنّ حرمة العمل بما لا يعلم من البديهات عند العوام فضلاً عن العلماء.

وقد عرفت مراراً حال هذه الإجماعات من النقل واحتمال المدركيّة، فليس إجماعاً تعبدياً.

الرابع: العقل، وحاصله: أنّ الاستناد إلى شيء ونسبته إلى شخص أمر قبيح بين العقلاء ما دام لم يعلم أنّه منه، فيكون الشك في الحجيّة والاعتذار كافياً في عدمها، تماماً كما أنّ الشك في صحة الانتساب كافٍ في عدمها عند العقلاء.ومذهب الآخوند! أصالة عدم الحجيّة، ببيان: أنّ آثار الحجيّة إنّما تترتّب على الاعتبار بوجوده العلمي، فمع الشك في الاعتبار يقطع بعدم ترتب الآثار على المشكوك للقطع بعدم الموضوع.

أمّا انحصار ترتّب آثار الحجّة في نظره! على الحجّة المعلومة: فلأنّه بدون العلم باعتبار الأمارة لا يتنجّز بها التكليف عقلاً، فلا يصح للمولى العقاب استناداً إليها، كما لا تكون معذّرة للعبد (1).

ص: 121


1- راجع: كفاية الاُصول: 279.

وقد استدلّ كلّ من الشيخ! والمحقق النائيني! على نفي حجّية المشكوك بما دلّ على عدم جواز الاستناد والإسناد مع عدم العلم (1).

قال المحقّق النائيني!: «ومن العقل: إطباق العقلاء على تقبيح العبد وتوبيخه على تشريعه وإسناده إلى المولى ما لا يعلم أنّه منه، فإنّ ذلك تصرّف في سلطنة المولى، وخروجٌ عما يقتضيه وظائف العبوديّة.

وبالجملة: لا إشكال ولا كلام في قبح التشريع واستتباعه استحقاق العقوبة» (2).

ثمّ إنّ صاحب الكفاية! ناقش الشيخ! بأنّ جواز الاستناد والإسناد ليس من آثار الحجيّة، بل بينهما عموم من وجه، فقد تثبت الحجّيّة ولا يجوز الاستناد، كموارد الظنّ الانسداديّ، بناء على حجّيّته عقلاً على تقرير الحكومة، كما أنّه لو فرض صحة الاستناد مع الشكّ شرعاً لم يثبت به حجّيّة الظن، وإليك نصّ كلامه!:

«وأمّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام، وصحّة نسبته إليه تعالى، فليسا من آثارها، ضرورة أنّ حجّيّة الظنّ عقلاً - على تقريرالحكومة في حال الانسداد - لا توجب صحّتهما، فلو فرض صحّتهما شرعاً مع الشكّ في التعبّد به لما كان يجدي في الحجيّة شيئاً ما لم يترتّب عليه ما ذكر من

ص: 122


1- فرائد الاُصول 1: 131.
2- فوائد الاُصول 3: 120.

آثارها، ومعه لما كان يضر عدم صحّتهما أصلاً» (1).

وبعبارة أُخرى: إنّ صحّة الالتزام بما أدّى إليه الظنّ من الأحكام، وصحّة نسبته إليه تعالى، ليسا من آثار الحجّيّة حتى إذا لم يصح الاستناد كشف بطريق الإنّ عن عدم الحجّيّة، كما هو كذلك بالنسبة إلى الظنّ الانسداديّ بناءً على الحكومة؛ فإنّه حجّة عقلاً لنفس العلم في حال الانفتاح مع عدم صحّة نسبته إليه جلّ وعلا؛ وذلك لأنّ المفروض عدم القول بالكشف، فإنّه ليس الظنّ طريقاً منسوباً إلى الشرع حتى يصح الالتزام بمؤدّاه، بل هو حجّة عقلاً.

ولو فرض صحّة الالتزام والنسبة فيما شكّ في اعتباره، لم يُفد ذلك في إثبات حجيّته، ما لم يترتّب عليه آثار الحجيّة من المنجّزيّة والمعذريّة، ومع الترتّب المزبور لم يضرّ عدم صحّتهما، كما في الانسداد على تقرير الحكومة؛ إذ المدار - فيما هو الحجيّة وعدمها - إنّما هو على ترتّب الآثار وعدم ترتّبها، لا على صحّة الاستناد وعدمها.

وعليه: فمناقشة صاحب الكفاية! للشيخ! تكمن في بيان أمرين:

أحدهما: كلّيّة أنّ عدم الاستناد لا يلازم عدم الحجّيّة.

والثاني: تطبيق هذه الكلّيّة على موارد الظنّ الانسداديّ، بناءً على الحكومة.

ص: 123


1- راجع: كفاية الاُصول: 280.

وناقشه المحقق النائيني! في كلتا الجهتين:

أمّا في الأُولى: فبما محصّله (1): إنّ عدم الاستناد يلازم عدم الحجيّة، واستناده يلازم الحجيّة؛ لأنّ معنى الحجيّة في الأمارة هوكونها وسطاً في إثبات متعلّقها، فتكون كالعلم، فيترتّب عليها جواز الاستناد كما يترتّب على العلم. وإذا ثبت أنّ جواز الاستناد من لوازم الحجيّة فانتفاؤه يكون كاشفاً عن انتفاء الحجيّة.

وأمّا الثانية: فببيان أنّ مرجع حجّيّة الظن على الحكومة ليس جعل الظنّ حجّة من قبل العقل، بل حقيقته: هي حكمه بجواز الاكتفاء في امتثال التكاليف المعلومة بالظنّ، فيقع الظنّ بناءً على هذاالالتزام في طريق إسقاطه.

وتوضيحه كما عن المحقّق النائيني!:

«ليس من وظيفة العقل جعل الظنّ حجّة مثبتاً لمتعلّقه، بل شأن العقل هو الإدراك وليس من وظيفته التشريع، وحكمه باعتبار الظنّ في حال الانسداد ليس معناه كون الظنّ حجّة مثبتاً لمتعلّقه، بل معناه الاكتفاء بالإطاعة الظنّيّة للأحكام المعلومة بالإجمال عند تعذّر الإطاعة العلميّة، وهذا المعنى أجنبيّ عن معنى الحجّيّة؛ فإنّ الحجّة تقع في طريق إثبات

ص: 124


1- انظر: فوائد الاُصول 3: 122.

التكاليف، والظن بناءً على الحكومة يقع في طريق إسقاط التكاليف» (1).

وهل يمكن استصحاب عدم الحجّيّة فيما إذا شُكَّ في حجيّته؟ قد يقال بإمكانه؛ لأنّ حجيّة الأمارة من الحوادث، فهي مسبوقة بالعدم.

ومنعه الشيخ الأنصاري! بما ملخّصه:

أنّه لا ثمرة لجريان هذا الاستصحاب؛ لأنّ عدم المنجّزية لما كان مترتباً على نفس الشكّ في الحجيّة، فيكون إجراء الاستصحاب فيه من باب تحصيل الحاصل، والاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان الأثر مترتّباً على الواقع المشكوك فيه، لا على نفس الشك (2).واعتبره المحقق النائيني! أسوأ حالاً من تحصيل الحاصل؛ «فإنّ تحصيل الحاصل إنّما هو فيما إذا كان المحصّل والحاصل من سنخ واحد: كلاهما وجدانيّان، أو كلاهما تعبّديّان، وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد» (3)؛ فإن عدم المنجّزية أمر وجدانيّ، فلا حاجة ولا معنى لإحرازه بالتعبد.

والحقّ هو ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:

«الحقّ: صحّة جريان استصحاب عدم الحجّيّة، وليس هو من تحصيل الحاصل.

ص: 125


1- فوائد الاُصول 3: 123.
2- فرائد الاُصول 1: 130, 131.
3- فوائد الاُصول 3: 129.

وبيان ذلك: أنّ تحصيل الحاصل إنّما يلزم لو كان المترتّب على الاستصحاب نفس الأثر المترتّب على الشكّ، أمّا إذا كان غيره وإنْ كانا من سنخ واحد، فلا يلزم تحصيل الحاصل، وما نحن فيه كذلك؛ فإنّ عدم المنجّزيّة المترتّب على الشكّ في الحجّيّة غير عدم المنجّزيّة المترتّب على عدم الحجّة؛ فإنّ الأوّل بملاك الشكّ وعدم قابليّة الموجود للمنجّزيّة، والآخر بملاك عدم الموضوع وعدم المنجّز، ولذا يعبّر بأنّه من باب السالبة بانتفاء الموضوع» (1)... إلى آخر كلامه!.

وإذا كان الاستصحاب في أحدهما غير الاستصحاب في الآخر، فلا يكون مستلزماً لتحصيل الحاصل، كما في نظير المقام بين قبح العقاب المترتّب على الشكّ في التكليف في البراءة الشرعيّة دون قبح العقاب المترتّب على البراءة العقليّة؛ فإنّ الأوّل بملاك عدم المخالفة لعدم التكليف، والثاني بملاك قبح العقاب بلا بيان.

وهنا أمور لابدّ من التنبيه عليها:

الأوّل: أنّ المراد من التشريع ما مرّ من انتساب ما لم يصدر منه إليه، بلا فرق بين ما إذا كان قد صدر منه في الواقع أم لا، بين إذا كان المنسوب إليه قولاً أو عملاً، بعنوان أنّه من الدين بقصد جزميّ.

ولذا لم يكن ما يؤتى به برجاء المطلوبيّة لدى الشارع من التشريع،

ص: 126


1- منتقى الاُصول 4: 200.

وكذا ما يترك رجاء المبغوضيّة لديه ليس منه.

وإنّما كان التشريع حراماً لأنّه ظلم وتقوّل على المولى، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ (1).

الثاني: هل حكم العقل بقبح التشريع نظير حكمه بقبح المعصية مما لا تناله يد الجعل الشرعيّ، ولا يستتبع خطاباً مولوياً بحرمته؟ أو أنّ حكمه بقبح التشريع يستتبع بالحكم الشرعيّ بحرمته ولو بقاعدة الملازمة؟

اختار المحقق الخراساني! الأوّل، وحمل ما ورد في الكتاب والسنّة في هذا البحث على الإرشاد، نظير قوله سبحانه: ﴿أَطِيعُوا الله َ وَرَسُولَهُ﴾ (2).

وظاهر كلام الشيخ! هو الثاني حيث استدلّ على حرمة التشريع بالأدلّة الأربعة (3).

وبعبارة أُخرى: إذا كان العقل حاكماً بقبح التشريع فهل يحكم بحرمته أيضاً أم لا؟

فالمحقّق النائيني! على العدم تبعاً للشيخ! حيث قال:«وهو الأقوى - أي: ما ذهب إليه الشيخ! - لأنّ الأحكام العقليّة التي لا تستتبع الخطابات الشرعيّة إنّما هي فيما إذا كانت واقعة في سلسلة

ص: 127


1- الحاقّة: الآيات: 44، 45، 46.
2- الأنفال: الآية 20.
3- انظر: فرائد الاُصول 1: 346، ونصّ عبارته! كالتالي: «أنّ العمل بالظنّ والتعبّد به من دون توقيف من الشارع تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة».

معلولات الأحكام كقبح المعصية وحسن الطاعة، لا فيما إذا كانت واقعة في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح العقليّ الناشئ عن إدراك المصالح والمفاسد؛ فإنّ الأحكام العقليّة الراجعة إلى هذا الباب كلّها تكون مورداً لقاعدة الملازمة، ويستتبعها الخطابات الشرعيّة، ومسألة قبح التشريع من هذا الباب؛ لأنّ حكم العقل بقبحه ليس واقعاً في سلسلة معلولات الأحكام، بل هو حكم ابتدائيّ من العقل لما فيه من المفسدة من تصرف العبد فيما ليس له. وإن شئت قلت: إنّ التشريع من أفراد الكذب الذي يستقل العقل بقبحه والشرع بحرمته» (1).

وخالف في ذلك المحقق العراقي! فاختار الأوّل، قال ما نصّه:

«لا غرو في دعوى أنّ التشريع المتجرّي نحوُ طغيان على المولى وجسارة موجبة بنفسه للعقوبة بلا احتياج إلى حكم مولوي، كيف، ولا أظن من ينكر الملازمة كلّيّة إنكار عدم استحقاق المشرّع للعقاب نظير الافتراء على المولى، فتأمّل» (2).

وقد عرفت: أنّه ليس في باب التجرّي إلّا القبح الفاعليّ دون الفعليّ، فلا يكون حراماً، وهنا أيضاً كذلك؛ فإنّ التشريع من أفراد الكذب الذي يستقلّ العقل بقبحه فقط، نعم يحكم الشرع بحرمته.

ص: 128


1- فوائد الاُصول 3: 120, 121.
2- فوائد الاُصول 3: 121، الهامش رقم 1.

الثالث: أنّ التشريع هل يغيّر الفعل المتشرّع به ولو لم يكن الفعل بنفسه قبيحاً، لكن يسري إليه قبح التشريع فيجعله قبيحاً عقلاً حراماً شرعاً؟ أو أنّه لا يسري كذلك بل يكون من المقبحات العقلية والآثام القلبية مع بقاء الفعل المتشرّع به على حاله؟مختار المحقّق الخراساني! هو الثاني، وظاهر كلام الشيخ! هو الأوّل، بتقريب: أنّه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيّرة لجهة حسن العمل وقبحه، فيكون الالتزام والتعبّد والتديّن بعمل لا يعلم التعبّد به من الشارع موجباً لانقلاب العمل عما هو عليه.

وهذا التقريب منه! غير تامّ؛ لأنّه مجرّد إمكان.

نعم، يمكن استفادة حرمة القضاء واستحقاق العقوبة من ظاهر قوله(علیه السلام): «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم».

ص: 129

ص: 130

في حجّيّة الظواهر

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل:

لا يخفى: أنّ المراد من الظهور هو انكشاف المعنى من اللّفظ وانسباقه إلى الذهن بحيث إذا أُلقي اللّفظ إلى العرف حملوه عليه، وإن لم يكن هناك ظنّ بالمراد؛ لأنّ تحقّق الظهور لا يدور مدار الظنّ بالمراد، كما أنّ الظنّ بالمراد ممّا لا يدور مدار الظهور.

فبينهما نسبة العموم وخصوص من وجه؛ إذ يمكن أن يتحقّق الظهور من دون أن يكون هناك ظنّ بالمراد، كما لو كان للّفظ ظهور بحسب الانفهام العرفيّ، كما أنّه قد يحصل الظنّ بالمراد، ولو من الخارج، مندون أن يكون للّفظ ظهور فيه أصلاً، وقد يجتمعان، فصدقت ضابطة العموم والخصوص الوجهيّ.

ص: 131

وقد عبّر الشيخ! عن الظهورات ﺑ «الاُصول المعمولة لتشخيص مراد المتكلّم»، قال! ما لفظه:

«منها: - أي: من الاُمور الخارجة عن تحت أصالة حرمة العمل بما سوى العلم - الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة، وهي على قسمين:

القسم الأوّل: ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادة خلاف ذلك، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز، وأصالة العموم والإطلاق.

ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة، وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشايع بناءً على عدم وصوله إلى حدّ الوضع، وكالقرائن المقاميّة التي يعتمدها أهل اللّسان في محاوراتهم كوقوع الأمر عقيب توهّم الحظر» (1).

والذي يظهر من كلامه):

أنّه أرجع هذه الاُصول اللّفظيّة إلى أصالة عدم القرينة، وأنّه ليس للعقلاء إلّا بناء واحد، هو اتّباع الظهور، فلا يكون عندنا سوى أصالة الظهور، لا أنّهم يبنون على أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي

ص: 132


1- فرائد الاُصول 1: 135.

يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة.

الأمر الثاني:

اعلم أنّ البحث عن الظواهر:

تارةً: يكون صغرويّاً، كحصول الظهور من الوضع، أو من القرائن: الشخصيّة أو النوعيّة، كوقوع الأمر عقيب الحظر الموجب لظهوره فيالإباحة، والاستثناء عقيب الجمل المتعدّدة ممّا يوجب انعقاد ظهور لمفردات الكلام، أو غلبة وجوده في الخارج الموجب لانصراف اللّفظ إليه.

وأُخرى: يكون كبرويّاً كالبحث عن حجّيّة أصل الظهور بعد فرض انعقاده في الكلام.

الأمر الثالث: هل الظهور من مسائل علم الاُصول؟

الظاهر: كونه كذلك؛ بداهة ما عرفت من أنّ المناط في اُصوليّة المسألة إنّما هو وقوعها كبرىً لقياس يستنتج منه حكم فرعيّ كلّيّ.

ثمّ إنّه قد تقدّم في باب الأوامر والنواهي الحديث عن الظواهر صغرويّاً. فالكلام عنها هنا ينعقد كبرويّاً ليس غير، فيقع البحث في أنّ الظهور بعد انعقاده هل يكون حجّة أو لا؟

بمعنى: أنّ ما يظهر من الكلام، هل يكون هو المراد النفس الأمريّ

ص: 133

للمتكلّم - بدعوى: أنّ الكلام بظاهره موضوع لأجل إفادة المعنى، وعليه بناء العقلاء وأهل العرف مطلقاً، حيث يدور عليه رحى معاشهم ونظامهم - أم أنّه لا يكون كذلك؟

قال المحقّق الخراساني! في المقام ما لفظه:

«لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة؛ لاستقرار طريقة العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع عنها، لوضوح عدم اختراع طريقة اُخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه، كما هو واضح» (1).

وحاصله: أنّ الشارع لم يردع عن اتّباع الظهور والأخذ به؛ لأنّه لو ردع عن ذلك، لكان عليه أن يخترع طريقة اُخرى لنفسه، فعدم اختراعه هذا يكون كاشفاً - لا محالة - عن عدم ردعه.

واستدلّ الشيخ الأعظم! على حجّيّة الظواهر بما نصّه:«أمّا القسم الأوّل: وهو ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم - عند احتمال إرادة خلاف ذلك - فاعتباره في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف؛ لأنّ المفروض كون تلك الأمور معتبرة عند أهل اللّسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيم.

ومن المعلوم بديهةً أنّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده

ص: 134


1- كفاية الاُصول: 281.

للمخاطبين لم يكن طريقاً مخترعاً مغايراً لطريق محاورات أهل اللّسان في تفهيم مقاصدهم» (1).

الأمر الرابع: في أنّ للظهور مراتب متفاوتة في المحاورات العرفيّة.
اشارة

بمعنى: أنّ كلّ ما لا يكون مجملاً فهو ظاهر، حتى يصل إلى مرتبة النصوصيّة، وحينئذٍ: فإن قلنا بحجّيّة الظهور لدى العقلاء، فيكون هذا الظاهر حجّة عندهم بجميع مراتبه.

وكيف كان، فبعد ما عرفت من أنّ الشارع قد جرى على طريقة العقلاء دون أن يختار لنفسه طريقاً خاصّاً مغايراً لطريقتهم، نقول:

ينبغي أن يُعلم: أنّ الطريقة المعمول بها عند العقلاء تتمثّل في أنّ الكلام لو كان ظاهراً في معنى، أخذوا بهذا الظاهر، بحيث لو احتملوا عدم إرادة المتكلّم لما هو الظاهر من كلامه، فلا يعتنون بهذا الاحتمال، ولا يبالون به؛ ضرورة أنّ احتمال خلاف الظاهر منشؤه:

إمّا احتمال غفلة المتكلّم عن نصب قرينةٍ على الخلاف، أو احتمال عدم إرادته استيفاء مراده من الكلام، أو نحو ذلك ممّا يوجب احتمال عدم إرادة المتكلّم لظاهر الكلام.

ولكنّ جميع هذه الاحتمالات مدفوعة بالاُصول العقلائيّة التي جرت عليها طريقتهم، وهي اُصول لم يردع عنها الشارع المقدّس، بل إنّه أقرّهم

ص: 135


1- فرائد الاُصول 1: 137.

عليها، بل وقد اتّخذها طريقةً له - هو أيضاً - لمكان أنّه أحدالعقلاء، بل هو سيّدهم ورئيسهم، فليس له طريق خاصّ في بيان مراداته، بل إنّما يتكلّم على وفق طريقتهم المعمول بها عندهم، ولا يعتني بالاحتمالات التي توجب الشكّ في أنّه قد أراد ظاهر كلامه.

وممّا ذكرنا يتّضح: أنّه لا فرق بين ظاهر الكتاب وغيره، بل ولا فرق - أيضاً - بين مطلق كلام الشارع ومطلق كلام غيره، في كونه معتبراً في تعيين المراد، وكذا لا فرق بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد كذلك؛ وذلك خلافاً لما ذهب إليه الأخباريّون من التفصيل بين ظواهر الكتاب وغيره، حيث منعوا من حجّيّة ظواهر الكتاب، دون ظواهر غيره.

وقد ذكر صاحب الكفاية! لهذا المنع وجوهاً خمسة، إذ قال):

«وإن ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجّيّة ظاهر الكتاب:

إمّا بدعوى: اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، كما يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به.

أو بدعوى: أنّه لأجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أُولي الأنظار الغير الراسخين العالمين بتأويله، كيف؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلّا الأوحديّ من الأفاضل، فما ظنّك بكلامه تعالى، مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شيء؟!

أو بدعوى: شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر، لا أقلّ من

ص: 136

احتمال شموله؛ لتشابه المتشابه وإجماله.

أو بدعوى: أنّه وإن لم يكن منه ذاتاً، إلّا أنّه صار منه عرضاً؛ للعلم الإجماليّ بطروء التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحدٍ من ظواهره، كما هو الظاهر.

أو بدعوى: شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام الظاهر في معنىً على إرادة ذلك المعنى» (1).

وحاصل هذه الوجوه كالتالي:

الأوّل:

الإخبار باختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، وهم النبيّ- والأئمّة ( (2).

الثاني:

دعوى احتواء القرآن على مستوى عالٍ من المطالب العالية والمضامين الشامخة التي لا يصل إليها فهم كلّ أحد؛ لاشتماله على علم ما كان وما هو كائن وما سيكون.

الثالث:
اشارة

دعوى كون المتشابه، والذي دلّ الدليل على المنع عن اتّباعه، شاملاً للظاهر؛ ولا أقلّ من احتمال شموله له، وهو كافٍ في المنع عن العمل به.

ص: 137


1- كفاية الاُصول: 281 - 282.
2- انظر - مثلاً -: روضة الكافي: 361, الحديث: 485.

ولا بأس هنا بنقل كلام السيّد الصدر) شارح الوافية على ما لخّصه الشيخ الأعظم! في فرائده، قال):

«إن المتشابه كما يكون في أصل اللّغة، كذلك يكون في الاصطلاح، مثل أن يقول أحد: (أنا أستعمل العمومات وكثيراً ما أريد الخصوص من غير قرينة، وربّما اُخاطب أحداً وأريد غيره)، ونحو ذلك. والقرآن من هذا القبيل؛ لأنّه نزل على اصطلاح خاصّ».

إلى أن قال: «قال سبحانه: ﴿مِنْهُ آي-َاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ الآية (1).. ذمّ على اتّباع المتشابه ولم يبيّن لهم المتشابهات ما هي وكم هي، بل لم يبين لهم المراد من هذا اللّفظ، وجعل البيان موكولاً إلى خلفائه».

ثمّ قال):

«لا يقال: إنّ الظاهر من المحكم، ووجوب العمل بالمحكم إجماعيّ.لأنّا نمنع الصغرى؛ إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ، وأمّا شموله للظاهر، فلا».

إلى أن قال:

«لا يقال: إنّ ما ذكرتم، لو تمّ، لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضاً؛ لما فيها من الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه،

ص: 138


1- آل عمران: الآية 7.

والعامّ المخصَّص، والمطلق المقيَّد.

لأنّا نقول: إنّا لو خُلّينا وأنفسنا، لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة، مع عدم نصب القرينة على خلافها، ولكن مُنعنا من ذلك في القرآن؛ للمنع من اتّباع المتشابه، وعدم بيان حقيقته، ومنعنا رسول اﷲ6 عن تفسير القرآن، ولا ريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى التفسير.

وأيضاً: ذمّ اﷲ تعالى على اتّباع الظنّ، وكذا الرسول6 وأوصياؤه(، ولم يستثنوا ظواهر القرآن».

إلى قوله:

«وأمّا الأخبار، فقد سبق أنّ أصحاب الأئمة( كانوا عاملين بأخبار الآحاد من غير فحصٍ عن مخصّصٍ أو معارضٍ ناسخٍ أو مقيّد، ولولا هذا لكنّا في العمل بظواهر الأخبار - أيضاً - من المتوقّفين» (1).

والذي يظهر من كلامه:

أوّلاً: أنّه لم يدّعِ شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر، وإنّما احتمل شموله لتشابه المتشابه.

وثانياً: أنّه لم يرَ جواز العمل بظواهر الكتاب والسنّة مطلقاً، وإنّما جواز العمل بظاهر الأخبار اتّباعاً للأئمّة( حيث عملوا بأخبار الآحاد من دون فحصٍ عن مخصّص أو معارض أو ناسخ أو مقيّد.

ص: 139


1- فرائد الاُصول 1: 150 - 153.

الرابع: من وجوه منع الأخباريّين الأخذ بظواهر الكتاب:

دعوى العلم الإجماليّ بطروء التقييد والتخصيص والتجوّز في غير واحدٍ من ظواهر الكتاب، وهو كافٍ لعدم إمكان العمل به، وإجراءأصالة الظهور في كلّ ظاهر لا يمكن، كما هو ظاهر؛ لمكان حصول المعارضة.

قال الشيخ!: «الثاني من وجهي المنع: أنّا نعلم بطروّ التقييد والتخصيص والتجوّز في أكثر ظواهر الكتاب، وذلك ممّا يسقطها عن الظهور» (1).

الخامس:

دعوى شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام الظاهر في معنىً على إرادة هذا المعنى.

قال! في الفرائد: «وعن مجمع البيان: أنّه قد صحّ عن النبي- وعن الأئمّة( القائمين مقامه أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصحيح والنصّ الصريح.

وقوله(علیه السلام): (ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إنّ الآية يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متّصل ينصرف إلى وجوه)» (2).

ص: 140


1- فرائد الاُصول 1: 149.
2- فرائد الاُصول 1: 140 - 141. والرواية في تفسير العياشيّ «يتصرّف على وجوه»، انظر: تفسير العيّاشي 1: 11، في تفسير الناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه، ح2، وقريب منه ما في وسائل الشيعة 27: 192- 193، باب 13 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح 41.

وهذه الوجوه كلّها مردودة:

أمّا الأوّل:

فلبداهة أنّ في القرآن ما لا يختصّ علمه بهم(، كيف؟! وقد وقع في غير واحدٍ من الروايات الإرجاع إلى الكتاب، كما في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) في حكم من عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة، أنّه قال: «يُعرف هذا وأشباهه من كتاب اﷲ عزّ وجلّ،قال اﷲ تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (1)، امسح عليه» (2).

وأمّا الثاني:

فلأنّ اشتمال القرآن على مطالب عالية ومضامين شامخة إنّما هو ببعض آياته، لا بتمامها، ولا ينافي غموض بعض الآيات حجّيّة ظهور غيرها.

وأمّا الثالث:

فلأنّ هناك فرقاً شاسعاً بين المتشابه والظاهر؛ إذ الأوّل هو المجمل الخفيّ معناه، بخلاف الظاهر، فإنّه قسيمه، وإذا كان كذلك، فلا يمكن أن يكون الظاهر بمعنى المتشابه، كما هو أوضح من أن يخفى.

وأمّا الرابع:

فلأنّه وإن سلّمنا بطروء ما يخالف الظاهر، من مخصّص وغيره، إلّا أنّه ممّا لا يوجب إجمال الظواهر وعدم الأخذ بها والعمل على طبقها؛

ص: 141


1- الحجّ: الآية 78.
2- وسائل الشيعة 1: 464، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح5.

ضرورة أنّه مع الفحص عمّا يخالف الروايات، ينحلّ العلم الإجماليّ من أصله إلى العلم التفصيليّ، فلا يعود هناك مانع من الأخذ به.

وأمّا الخامس:
اشارة

فلأنّ الممنوع عنه إنّما هو التفسير بالرأي، وحمل الكلام على ظاهره ليس تفسيراً؛ لأنّ التفسير هو كشف القناع، ولا قناع على الظاهر.

على أنّه لو سلّم كونه تفسيراً، فليس تفسيراً بالرأي؛ إذ المراد بالرأي ليس إلّا هو الاعتبارات والاستحسانات الظنّيّة.

هذا كلّه فيما يتعلّق بظواهر الكتاب.

وأمّا بالنسبة إلى من قصد إفهامه بالكلام، ومن لم يقصد كذلك، فيظهر من كلمات بعضهم اختصاص الأوّل بحجّيّة الظهور دون من لم يقصدإفهامه (1)؛ وذلك لأنّ حجّيّة الظاهر هي من باب إفادة الظنّ النوعيّ بالمراد، بحيث لو خلّي وطبعه لكان مفيداً للظنّ، فإذا كان مقصود المتكلم إفهام المخاطب شيئاً ما، فلابدّ له أن يلقي الكلام إليه بنحوٍ لا يوجب أن يفهم المخاطب من الكلام خلاف مراده، فلو فرض أنّ المخاطب فهم

ص: 142


1- انظر: قوانين الاُصول 1: 398، قال): «ومن جميع ذلك ظهر: أنّ حجّيّة ظواهر القرآن على وجوه، فبالنسبة إلى بعض الأحوال معلوم الحجّيّة، مثل حال المخاطبين بها، وبالنسبة إلى غير المشافهين مظنون الحجّيّة..»، وانظر أيضاً 1: 403، من الكتاب نفسه، قال): «ولمّا كان الأخبار أيضاً من باب الخطابات الشفاهيّة، فكون دلالتها على حجّيّة الكتاب إنّما هو للمشافهين بتلك الأخبار، وطروء حكمها بالنسبة إلينا - أيضاً - لمّا لم يعلم دليل عليه بالخصوص، فيدخل - حينئذٍ أيضاً - في القسم الآخر...».

خلاف ما أراده المتكلم، فيكون ذلك لأجل أحد احتمالين:

إمّا لأنّ المخاطب غفل عن القرائن المكتنفة بالكلام، والتي قد نصبها المتكلّم فعلاً على تبيين ما أراده.

وإمّا لأنّ المتكلّم - نفسه - قد غفل عن نصب القرينة التي تعيّن مقصوده ومراده.

ولكنّ كلا الاحتمالين - كما مرّت إليه الإشارة - يكون منفيّاً بالأصل.

هذا بالنسبة إلى المخاطب ومن قصد إفهامه.

وأمّا بالنسبة إلى غيره، فلا يشمله هذا البيان؛ لعدم انحصار الأمر في الاحتمالين المتقدمين، بل ثمّة احتمال ثالث، وهو احتمال وجود قرائن حاليّة أو مقاليّة، كانت موجودة، ولكنّها خفيت عليه، إمّا اختياراً: لداعٍ من دواعي الإخفاء، أو قهراً.

ومع هذا الاحتمال، فلا يمكن البناء على حجّيّة ظاهر الكلام بالنسبة إليه؛ إذ لا دافع لمثل هذا الاحتمال عند العقلاء.

وعليه: فنقول: إنّ أغلب الروايات التي بأيدينا هي من هذا القبيل؛ لأنّها لمّا كانت مختصّة بالمشافهين، حيث كانت واردةً في مقام الجواب عن أسئلة خاصّة، فلا يكون ظاهرها حجّة بالنسبة إلينا.فليست تلك الخطابات كالتأليف والتصنيف اللّذين يقصد بهما إفهام كلّ من يطّلع عليهما، لا خصوص المخاطبين بهما.

ولمّا لم نكن نحن من المقصودين بالإفهام، فلا يكون الظاهر حجّة

ص: 143

بالنسبة إلينا، إلّا من باب الظنّ المطلق الثابت بدليل الانسداد.

قال الشيخ الأعظم) في بيان هذا التفصيل:

«كأمثالنا بالنسبة إلى أخبار الأئمّة( الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين، وبالنسبة إلى الكتاب العزيز، بناءً على عدم كونه خطاباته موجّهةً إلينا، وعدم كونه من باب تأليف المصنّفين، فالظهور اللّفظيّ ليس حجّةً - حينئذٍ - لنا إلّا من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيّته عند انسداد باب العلم» (1).

والصحيح في مقام الجواب:

أنّ هذا الاحتمال الثالث، هو كالاحتمالين السابقين في انتفائه واندفاعه بالاُصول العقلائيّة؛ فإنّ جميع المحتملات التي تقتضي عدم إرادة المتكلّم ظاهر كلامه تكون منفيّة بالأصل، والاُصول العقلائيّة جارية بالنسبة إلى جميع هذه الاحتمالات، فلا يمكن استفادة كونه مختصّةً بغفلة المتكلّم عن نصب قرينة على المراد.

وأمّا احتمال القرائن المنفصلة، الناشئ من قبيل اعتياد المتكلّم أن ينصب قرينة على مراده: فهو، وإن كان احتمالاً راجحاً، إلّا أنّه لا يكون سبباً لنفي حجّيّة الظواهر، بل هو سبب لوجوب الفحص، وبعد الفحص وعدم تبيّن أيّة قرينةٍ خلافيّة، فلا محيص عن اندفاعه، وإمكان الأخذ بالظواهر.

ص: 144


1- فرائد الاُصول 1: 160.

قال المحقّق الأنصاريّ!:

«ولكنّ الإنصاف: أنّه لا فرق في العمل بالظهور اللّفظي وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد، فإنّ جميع ما دل من إجماع العلماء وأهل اللّسان على حجّيّة الظاهربالنسبة إلى من قصد إفهامه جارٍ فيمن لم يقصد؛ لأنّ أهل اللّسان إذا نظروا إلى كلام صادر من متكلّم إلى مخاطب، يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص في مظانّ وجودها، ولا يفرّقون في استخراج مرادات المتكلمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه.

فإذا وقع المكتوب الموجّه من شخص إلى شخص بيد ثالثٍ، فلا يتأمل في استخراج مرادات المتكلم من الخطاب المتوجه إلى المكتوب إليه، فإذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منهم، فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى، وهذا واضح لمن راجع الأمثلة العرفية.

هذا حال أهل اللّسان في الكلمات الواردة إليهم.

وأمّا العلماء فلا خلاف بينهم في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الألفاظ المجرّدة عن القرائن، الموجّهة من متكلّم إلى مخاطب، سواء كان ذلك في الأحكام الجزئيّة كالوصايا الصادرة عن الموصي المعين إلى شخص معين، ثمّ مسّت الحاجة إلى العمل بها مع فقد الموصى إليه.

فإنّ العلماء لا يتأمّلون في الإفتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام

ص: 145

الموجّه إلى الموصى إليه المفقود، وكذا في الأقارير؛ أم كان في الأحكام الكلّيّة كالأخبار الصادرة عن الأئمّة( مع كون المقصود منها تفهيم مخاطبهم لا غير، فإنّه لم يتأمّل أحد من العلماء في استفادة الأحكام من ظواهرها معتذراً بعدم الدليل على حجّيّة أصالة عدم القرينة بالنسبة إلى غير المخاطب ومن قصد إفهامه» (1).

هذا.

وقد استدلّوا للمنع من الأخذ بالظواهر بدعوى:أنّ علمنا الإجماليّ بوقوع التحريف في القرآن يكون مانعاً عن العمل بظواهر الكتاب وعن الأخذ والتمسّك به.

ولكنّ صاحب الكفاية! أجاب عن هذه الدعوى بما حاصله:

أنّ مجرّد العلم الإجماليّ بالتحريف سواء كان بالإسقاط أو بالتصحيف لا يستوجب خللاً في الأخذ بالظواهر لاحتمال عدم كون تلك الظواهر المستوجبة للخلل متعلقة بالأحكام الشرعيّة التي أمرنا بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب.

ثمّ إنّ وقوعها طرفاً للعلم الإجماليّ منحلّ؛ لأنّ ما وقع عليه العلم الإجماليّ مستوجبٌ للخلل، وهو غير الأحكام فيكون خارجاً عن محل الابتلاء، وبهذا يثبت أنّ أصالة الظهور حجّة بالنسبة إلى ظواهر الأحكام وبلا معارض.

ص: 146


1- المصدر نفسه 1: 163 - 165.

هذا فيما إذا كان الخلل المنحلّ من القرائن المنفصلة.

وأمّا إذا كان من القرائن المتّصلة: فإنّه يخلّ بالحجّيّة؛ لعدم انعقاد الظهور مع احتمال القرينة المتّصلة؛ لأنّ احتمال وجود القرينة وإن لم يكن مخلاً بالظهور، ولكن احتمال قرينية الموجود ممّا يخلّ به لعدم انعقاد الظهور معه (1).

وأمّا الاختلاف في القراءة:

فقد ذكر الشيخ الأعظم!:«أنّه إذا اختلفت القراءة في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدّى كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّىَ يَطْهُرْنَ﴾ (2)، حيث قُرئ بالتشديد: من التطهّر الظاهر في الاغتسال، وبالتخفيف: من الطهارة الظاهرة في النقاء عن الحيض، فلا يخلو: إمّا أن نقول بتواتر القراءات كلّها، كما هو المشهور، خصوصاً فيما كان الاختلاف في المادة، وإما أن لا نقول، كما هو مذهب جماعة.

ص: 147


1- انظر: كفاية الاُصول: 284 - 285، وإليك نصّ ما أفاده في المقام: «ودعوى العلم الإجماليّ بوقوع التحريف فيه بنحو: إمّا بإسقاط, أو تصحيف, وإن كانت غير بعيدة, كما يشهد به بعض الأخبار ويساعده الاعتبار, إلّا أنّه لا يمنع عن حجية ظواهره, لعدم العلم بوقوع خلل فيها بذلك أصلاً. ولو سلّم, فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام, والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات غير ضائر بحجية آياتها, لعدم حجّيّة ظاهر سائر الآيات, والعلم الإجماليّ بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجّيّتها إذا كانت كلها حجة, وإلّا لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك, كما لا يخفى, فافهم. نعم، لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتّصل به, لأخلّ بحجّيته؛ لعدم انعقاد ظهور له حينئذٍ, وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله».
2- البقرة: الآية 222.

فعلى الأوّل: فهما بمنزلة آيتين تعارضتا، لابدّ من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ، أو على الأظهر، ومع التكافؤ، لابدّ من الحكم بالتوقّف والرجوع إلى غيرهما.

وعلى الثاني: فإن ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة كما ثبت بالإجماع جواز القراءة بكل قراءة، كان الحكم كما تقدّم وإلّا فلابدّ من التوقّف في محل التعارض والرجوع إلى القواعد مع عدم المرجّح، أو مطلقاً بناء على عدم ثبوت الترجيح» (1).

ولكنّ الآخوند الخراساني! اعترض:

على الشقّ الأوّل من كلام الشيخ! بما يرجع إلى إنكار صحّة القول بتواتر القراءات.

وعلى الشقّ الثاني : بعدم جواز الاستدلال بها، بدعوى: أنّه لا يوجد ملازمة بين جواز القراءة وبين جواز الرجوع إليها والاستدلال بها.

وإليك نصّ كلامه):

«ولم يثبت تواتر القراءات، ولا جواز الاستدلال بها، وإن نسب إلى المشهور تواترها، لكنّه ممّا لا أصل له، وإنّما الثابت جواز القراءة بها، ولا ملازمة بينهما، كما لا يخفى» (2).

ص: 148


1- فرائد الاُصول 1: 157 - 158.
2- كفاية الاُصول: ص 285.

حجّيّة قول اللّغويّ

اشارة

قد عرفت ثبوت الحجّيّة للظواهر، فإن كانت هذه الحجّيّة قد أحرزت بالقطع، فلا كلام.

وأمّا إذا لم يحرز المفهوم العرفيّ للكلام، ولم يحصل العلم بما هو الموضوع لغة، فهل يكفي الظنّ بذلك أم لا؟

لا يخفى: عدم حجّيّة الظنّ في تعيين الموضوع له؛ لعدم وجود دليل على اعتباره.

إلّا أنّه نسب إلى المشهور القول بحجّيّة قول اللّغويّ بالخصوص في تعيين الأوضاع (1).

وهو غير تامّ؛ لأنّ ما هو حجّة هو الظاهر، لا الظنّ به.

وكيف كان، فقد يستدلّ على حجّيّته بوجوه:

ص: 149


1- نسبه إليهم الشيخ الأعظم) في الفرائد 1: 173، قال): «فإنّ المشهور كونه من الظنون الخاصّة التي ثبتت حجّيّتها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة».

منها:

اتّفاق العلماء، بل العقلاء، على الرجوع إلى قول اللّغويّ في تشخيص وضع اللّفظ، واستشهادهم بأقوالهم في مقام المحاجّة، الأمر الذي يدلّ على أنّ فصل النزاع إنّما هو قول اللّغويّ.

وفيه:

أوّلاً: منع حصول مثل هذا الاتّفاق.وثانياً: ما أورده صاحب الكفاية! من أنّه لو سلّم لا يفيد؛ إذ لم يعلم رجوعهم إلى قول اللّغويّ فيما يترتّب عليه الحكم الشرعيّ، ككلمة (الصعيد) الدائر أمرها بين مطلق وجه الأرض والتراب الخالص، بل الثابت هو الرجوع إليهم في الموارد التي لا يترتّب عليها أثر عمليّ شرعيّ، كفهم الأشعار والخطب ونحوها.

قال!: «وفيه: أنّ الاتّفاق، لو سلّم اتّفاقه، فغير مفيد، مع أنّ المتيقّن منه هو الرجوع إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة» (1).

ومنها:

دعوى الإجماع، ونسبه الشيخ! إلى السيّد! (2).

والفرق بين إجماع العلماء واتّفاقهم هو أنّ الأوّل إجماع قوليّ، بمعنى:

ص: 150


1- كفاية الاُصول: 286.
2- انظر: فرائد الاُصول 1: 174.

تصريحهم في كتبهم بحجّيّة قول اللّغويّ، والثاني إجماع عملي، بمعنى: جريان سيرتهم على الرجوع إلى قول اللّغويّ واستعلام والاستشهاد بقولهم في مقام المخاصمة والاحتجاج.

واعترضه صاحب الكفاية! بما حاصله:

أنّ الإجماع المحصّل غير حاصل في المقام؛ لأنّه لم تذكر هذه المسألة في كتب الأعلام فلا يمكن نسبة القول بالحجّيّة إليهم، وأنّ الإجماع المنقول غير مقبول، خاصّة في مثل المسألة ممّا يحتمل كونه مدركاً للإجماع:

وهو أن يكون مستند المجمعين اعتقادهم بأنّ المورد من مصاديق ما اتّفقت عليه السيرة العقلائيّة من الرجوع إلى أهل الخبرة في كلّ صنعة، فلا يكون مثل هذا الإجماع إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم، فلا يستقلّ الإجماع في الدليليّة، بل لابدّ من ملاحظة هذا المستند.وإليك نصّ ما أفاده):

«والإجماع المحصّل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصاً في مثل المسألة ممّا احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجلّ لولا الكلّ، هو اعتقاد أنّه ممّا اتّفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كلّ صنعةٍ فيما اختصّ بها» (1).

ص: 151


1- كفاية الاُصول: 286 - 287.

ومنها:

دعوى: أنّ صحّة الرجوع إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم هي ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان، واللّغويّ من أهل الخبرة في تشخيص الأوضاع، فيصحّ الرجوع إليه للسيرة.

واعترض عليه صاحب الكفاية! بما يرجع إلى اعتراضين، فقال:

«والمتيقّن من ذلك إنّما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق والاطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللّغويّ وثوق بالأوضاع، بل لا يكون اللّغويّ من أهل خبرة ذلك، بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال» (1).

وحاصل الاعتراضين:

الأوّل: أنّ المتيقّن من سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة فيما اختصّوا به إنّما هو فيما إذا كان الرجوع ممّا يوجب الوثوق والاطمئنان، وهما غير متحقّقين بقول اللّغويّ.

والثاني: أنّ اللّغويّ ليس من أهل الخبرة في تشخيص الأوضاع، بل إنّما هو من أهل الخبرة في موارد الاستعمال، بلا نظر إلى تعيين الحقيقة من المجاز؛ إذ ليس هذا همّه، وهذا كلّه على فرض التسليم بأنّ قوله

ص: 152


1- المصدر نفسه.

موجب للوثوق والاطمئنان كما تقدّم في الاعتراض الأول.ومنع المحقق النائيني! - بعدما ذكر أنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو حجّيّة أهل الخبرة فيما إذا حصل الوثوق من قولهم - من وقوع الصغرى بما هذا لفظه:

«وأمّا الصغرى: وهي كون اللّغويّ من أهل الخبرة بمعاني الألفاظ وتعيين حقائقها ومجازاتها، فللمنع عنه مجال؛ لأنّ أهل اللّغة شأنهم بيان موارد الاستعمالات، وتشخيص مواردها لا يحتاج إلى إعمال الحدس والرأي بل هو من الأمور الحسيّة.

نعم، في استخراج المعنى الموضوع له من بين المعاني المستعمل فيها اللّفظ قد يحتاج إلى إعمال نحو من الرأي والاجتهاد، وبهذا الاعتبار يمكن اندارج قول اللّغويّ في ضابط أهل الخبرة، إلّا أنّ الغالب في اللّغة هو بيان موارد الاستعمالات، مع أنّه لو فرض أنّه عين معنى الموضوع له ففي حصول الوثوق من قول لغوي واحد محل منع.

فالإنصاف أنّ كون اللّغويّ من أهل الخبرة واعتبار قوله لذلك دون إثباته خرط القتاد» (1).

ومنها:

دعوى أنّ طرح قول اللّغويّ غير المفيد للعلم في الكتاب والسنّة

ص: 153


1- فوائد الاُصول 3: 143.

مستلزم لانسداد باب العلم في غالب الأحكام، فلابدّ من جريان مقدّمات الانسداد في الأحكام لكي تثبت حجّيّة مطلق الظنّ الذي من جملته قول اللّغويّ.

والتحقيق: عدم إمكان إثبات قول اللّغويّ بجريان مقدّمات الانسداد؛ ضرورة أنّ انسداد باب العلم في بعض ما يتوقّف العلم بالحكم عليه لا يوجب انسداده في جميع الأحكام، فانسداد باب العلم بتفاصيل اللّغات لا يوجب انسداده في جميعها. كيف؟! وموارد الحاجة إلى قول اللّغويّ قليلة جدّاً، فإنّ الغالب هو انفتاح باب العلم بمعاني الألفاظ.فلا يكون الاحتياط وعدم العمل بالظنّ فيما لا يعلم مستوجباً للمحذور المزبور.

لا يقال: بناءً على عدم حجّيّة قول اللّغويّ لا يعود هناك فائدة في الرجوع إلى اللّغة.

لأنّا نقول: هو مع ذلك لا يخلو من فائدة، إذ قد يحصل العلم بالمعنى اللّغويّ بسبب الرجوع إليها، كما إذا اتّفق اللّغويّون جميعاً على أنّ وضع لفظ ما للمعنى الكذائيّ.

بل قد يحصل بسبب الرجوع إلى اللّغة العلم بالظهور أيضاً، كما إذا شككنا في معنى لفظ في آية أو رواية، فراجعنا اللّغة ولكن ظفرنا فيها بمعنيين أو أكثر، وكان بعض تلك المعاني متناسباً مع المورد؛ فإنّ هذا الرجوع يوجب انعقاد ظهور للّفظ فيه، وإن لم يوجب ذلك الظهور القطع

ص: 154

بالمراد، لعدم تصريحهم بذلك وتنصيصهم عليه.

وهنا لابدّ من البحث في اُمور ترتبط بالإجماع:

الأمر الأوّل: في معنى الإجماع وتحديده.

اعلم أنّ الإجماع أصل للعامّة، وهم أصل له، لأنّهم من خلاله يثبتون صحّة ما يزعمونه أحقّيّة أبي بكر بالخلافة.

وهو - عندهم - دليل برأسه وباستقلاله، في مقابل الكتاب والسنّة، وقد نقلوا عن النبيّ-: «لا تجتمع اُمّتي على خطأ» أو «على ضلالة»، واشترطوا فيه اتّفاق الكلّ. وعرّفه الغزاليّ بأنّه «اتّفاق اُمّة محمّد- خاصّةً على أمر من الأمور الدينيّة» (1).

وما ذكره غير تامّ، وذلك:

أوّلاً: لعدم حصول هذا الإجماع في أيّ زمان حتى في صدر الإسلام؛ بداهة عدم اجتماع الاُمّة كلّها على خلافة أبي بكر؛ لمخالفة كثير من الأصحاب، كما أثبتته كتب التاريخ.وثانياً: لعدم اختصاص الإجماع بعصر دون عصر، ولا باُمّة دون اُمّة، وملّة دون ملّة، بل هو حاصل بالنسبة إلى كلّ عصر، وبالنسبة إلى كلّ اُمّةٍ صنعت اتّفاقاً على أمر.

وأمّا عند الخاصّة: فليس له حجّيّة بنفسه، وإنّما يكون حجّة عندنا

ص: 155


1- راجع: المستصفى من علم الاُصول 1: 171.

لدخول المعصوم(علیه السلام) فيه؛ لأنّه حينئذٍ يكون كاشفاً عن قوله(علیه السلام).

فظهر من ذلك: أنّه ليس للإجماع عندنا موضوعيّة في الفقه في مقابل الكتاب والسنّة، وأنّ الحجّيّة إنّما هي لقول المعصوم(علیه السلام) الذي يكشف الإجماع عنه.

الأمر الثاني: في مفاد الإجماع:

وحاصله: أنّ نقل الإجماع: تارةً يكون نقلاً للسبب، واُخرى يكون نقلاً للمسبّب.

والمراد من الأوّل: نقل أقوال العلماء وفتاواهم الكاشفة عن رأي المعصوم(علیه السلام)، فيكون إخباراً عن الحسّ؛ ومن الثاني: رأيه، فيكون راجعاً إلى الحدس.

فإن كان الإجماع من قبيل الأوّل دخل في عموم أدلّة حجّيّة خبر الواحد.

وإن كان من الثاني كان مجرّد حدس، ولا دليل على حجّيّة هكذا إجماع.

الأمر الثالث: في مدركه:

اختلف العلماء في طريق استكشاف مدرك الإجماع على خمسة أقوال:

القول الأوّل: الإجماع الدخوليّ، وهو دخول الإمام(علیه السلام) بنفسه،

ص: 156

وبشخصه المبارك في المجمعين، وهو ما اختاره السيّد المرتضى!.قال): «والصحيح الذي نذهب إليه: أنّ قولنا (إجماع)، إمّا أن يكون واقعاً على جميع الاُمّة، أو على المؤمنين منهم، أو على العلماء فيما يراعى فيه إجماعهم. وعلى كلّ الأقسام: لابدّ من أن يكون قول الإمام المعصوم داخلاً فيه...».

إلى أن يقول: «لأنّنا نعلّل كون الإجماع حجّةً بأنّ العلّة فيه اشتماله على قول معصومٍ قد علم اﷲ سبحانه أنّه لا يفعل القبيح منفرداً ولا مجتمعاً...» (1).

إلّا أنّ مثل هذا الإجماع إنّما يكون ممكناً في عصر الحضور، حيث يفرض أنّ الإمام(علیه السلام) يجالس الناس ويجتمع بهم، ولا سبيل له في عصر الغيبة، كما هو واضح.

القول الثاني: قاعدة اللّطف، والمراد منها أنّ اﷲ بما له من العناية الخاصّة واللّطف بخلقه في إيصال الممكنات إلى الغايات التي أعدّها لهم، أرسل الرسل ونزّل الكتب لتبيّن شريعته التي إذا التزم بها العبد وصل إلى الكمال المطلق، وقد تمّم تلك الحجّة وكمّلها على لسان نبيّه الأكرم- «اليوم أكملت لكم دينكم»، وحينئذٍ: كيف يمكن أن تجتمع الاُمّة على خطأ مع فرض كمال الدين وعدم خلوّ الأرض من حجّة؟

ص: 157


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 2: 604 - 605.

فيكون إجماع الاُمّة دائماً كاشفاً عن الواقع.

قال شيخ الطائفة) في العدّة:

«والذي نذهب إليه أنّ الاُمّة لا يجوز أن تجتمع على خطأ، وأنّ ما يجمع عليه لا يكون إلّا حجّة؛ لأنّ عندنا أنّه لا يخلو عصر من الأعصار من إمام معصوم حافظ للشرع، يكون قوله حجّة يجب الرجوع إليه، كما يجب الرجوع إلى قول الرسول-، وقد دللنا على ذلك في كتابنا (تلخيص الشافي) واستوفينا كلّ ما يسأل عن ذلك من الأسئلة.وإذا ثبت ذلك، فمتى اجتمعت الاُمّة على قول فلابدّ من كونها حجّة لدخول الإمام المعصوم في جملتها» (1).

وقال صاحب المعالم):

«ونحن لمّا ثبت عندنا بالأدلّة العقليّة والنقليّة - كما حُقّق مستقصىً في كتب أصحابنا الكلاميّة أنّ زمان التكليف لا يخلو من إمام معصوم حافظ للشرع يجب الرجوع إلى قوله فيه - فمتى اجتمعت الاُمّة على قول كان داخلاً في جملتها؛ لأنّه سيّدها، والخطأ مأمون على قوله، فيكون ذلك الاجماع حجّة» (2).

وقال صاحب الفصول! في مقام ذكر طرق الأصحاب في حجّيّة الإجماع ما لفظه:

ص: 158


1- العدّة 2: 602.
2- معالم الدين: 173.

«الأوّل: ما ذكره العلاّمة وجماعة، وهو أن الاُمّة إذا قالت بقول، فقد قال المعصوم به أيضاً؛ لأنّه من الاُمّة بل سيّدها ورئيسها، والخطأ مأمون عليه» (1).

فحاصل هذا القول: أنّه كلّما انعقد إجماع من الاُمّة، فالمعصوم(علیه السلام) داخل في أشخاصهم، وقوله داخل في أقوالهم. ولو كان ما أجمعت عليه الاُمّة خالياً عن حكم اﷲ ومخالفاً لما أراده، لكان على الإمام(علیه السلام) إلقاء الخلاف بين الاُمّة.

وفيه: أنّ وظيفة الإمام(علیه السلام) هي إيصال الأحكام بالطرق المتعارفة، وقد أدّاها، والاختفاء لبعض المصالح ليس من قبله حتى يقال بوجوب إلقاء الخلاف.القول الثالث: قاعدة الحدس، وهي الملازمة بين آراء المرؤوسين ورأي رئيسهم، وأنّ رأي الرئيس داخل في ضمن آرائهم.

وفيه: أنّه إنّما يتمّ إذا كان عن تواطئهم على ذلك، وأمّا إذا حصل بنحو الاتّفاق فلا تصحّ الملازمة.

القول الرابع: أنّ تراكم الظنون من آراء الأعلام ممّا يوجب القطع بموافقة الإمام(علیه السلام).

ولكنّ هذا ممّا لا يمكن المساعدة عليه أيضاً؛ لأنّ للظنون مراتب،

ص: 159


1- الفصول الغرويّة: 243.

فالإرجاع إلىه إرجاع إلى المجهول؛ لاختلافه باختلاف الموارد والأشخاص، فقد يحصل من الظنّون القطع بالنسبة إلى شخص دونه بالنسبة إلى آخر.

القول الخامس: أنّ اتّفاق العلماء كاشف عن وجود دليل معتبر عند المجمعين.

وفيه: أنّه إنّما يتمّ إذا كان الإجماع تعبّديّاً، كما إذا فرض أنّ الإمام(علیه السلام) قد أودع جملة من الأحكام عند الخواصّ من أصحابه، ثمّ قاموا هم بدورهم بإيداعها عند طبقة منهم، حتى وصلت إلى عصرنا، وأصبحت مجمعاً عليها، من دون أن يكون لها مدرك بالخصوص.

وأمّا إذا كان مدركيّاً، كما إذا كان مورد الإجماع أصلاً أو قاعدة أو دليلاً يحتمل أن يكون مدركاً للمجمعين ومستنداً لاتّفاقهم؛ فإنّه لا يكشف اتّفاقهم عن دليل آخر وراء ذلك، فلا يكون حجّة لذلك.

ص: 160

في حجّيّة الشهرة

اشارة

وهي على ثلاثة أقسام:الأوّل: الشهرة الفتوائيّة، وهي اشتهار الفتوى بحكم بين الفقهاء.

الثاني: الشهرة الروائيّة، وهي أن تكون الرواية مشهورة بين الرواة وأصحاب الحديث وقد نقلوها بكثرة. وهذه الشهرة معتبرة ومرجّحة عند التعارض، وهي المقصودة بقوله(علیه السلام): «خذ ما اشتهر بين أصحابك ودع ما ندر» (1).

الثالث: الشهرة العمليّة، وهي اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الإفتاء.

وهل هذه الشهرة جابرة وكاسرة لضعف الرواية على الإطلاق؟ أو ليست كذلك على الإطلاق؟ أو أنّ هناك تفصيلاً بين الشهرة العمليّة عند قدماء الأصحاب، وبينها عند المتأخّرين؟

ص: 161


1- انظر: عوالي اللآلي 3: 129، باب الخمس، ح12، والرواية عن الإمام الصادق(علیه السلام).

قال المحقّق النائيني!: «وهذه الشهرة هي التي تكون جابرة لضعف الرواية وكاسرة لصحّتها إذا كانت الشهرة من قدماء الأصحاب القريبين من عهد الحضور، لمعرفتهم بصحّة الرواية وضعفها. ولا عبرة بالشهرة العمليّة إذا كانت من المتأخّرين، خصوصاً إذا خالفت شهرة القدماء» (1).

ثمّ إنّ الشهرة التي هي محلّ بحثنا هي الشهرة بالمعنى الأوّل، أعني: الشهرة الفتوائيّة.

ولا يخفى: أنّ البحث عن حجّيّة الشهرة تعبّداً مختصّ بصورة عدم حصول اليقين أو الوثوق الشخصيّ بالحكم من الشهرة، وإلّا فلا إشكال في حجّيّة الوثوق واليقين.

وكيف كان، فقد استدلّ لحجّيّة الشهرة بوجوه:

الوجه الأوّل:
اشارة

مقبولة عمر بن حنظلة التي جاء فيها: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» (2).

ووجه الاستدلال: أنّ المراد من المجمع عليه هو المشهور بين

ص: 162


1- فوائد الاُصول 3: 153.
2- وسائل الشيعة 27: 107، باب 9 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح1.

الأصحاب، لا إجماع الكلّ بقرينة قوله(علیه السلام): «ويترك الشاذّ»، فيرجع مفاد التعليل إلى أنّ المشهور ممّا لا ريب فيه.

وعموم التعليل يشمل الشهرة الفتوائيّة، وإن كان المورد هو الشهرة الروائيّة.

وكذا مرفوعة زرارة: «خذ بما اشتهر بين أصحابك» (1)؛ فإنّ عموم الموصول وهو (ما) مما يشمل الشهرة الفتوائيّة أيضاً.

وقد أجاب صاحب الكفاية! عن الرواية الثانية بأنّ المراد من الموصول هو الرواية، لا المطلق، فلا يعمّ الفتوى (2).

وأيضاً تعرّض الشيخ! في فرائده إلى فساد الاستدلال بكلا الروايتين بما هذا لفظه:

«أمّا الاُولى: - يعني بها المرفوعة - فيرد عليها مضافاً إلى ضعفها، حتى أنّه ردّها من ليس دأبه الخدشة في سند الروايات كالمحدّث البحرانيّ، أنّ المراد بالموصول هو خصوص الرواية المشهورة من الروايتين دون مطلق الحكم المشهور.

ص: 163


1- مستدرك الوسائل 17: 303، باب 9 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به, ح2.
2- انظر: كفاية الاُصول: 292، ونصّ كلامه) كالتالي: «وفي الثانية - (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به)، هو الرواية، لا ما يعمّ الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى».

ألا ترى أنّك لو سُئِلت عن أيِّ المسجدين أحب إليك، فقلت: ما كان الاجتماع فيه أكثر، لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّمكان يكون الاجتماع فيه أكثر، بيتاً كان أو خاناً أو سوقاً. وكذا لو أجبت عن سؤال المرجّح لأحد الرمّانين، فقلت: ما كان أكبر.

والحاصل: أنّ دعوى العموم في المقام لغير الرواية ممّا لا يظنّ بأدنى التفات» (1).

وقال المحقّق النائيني!:

«وأمّا الموصول: فلا يعم الشهرة الفتوائيّة، بل هو خاصّ بالشهرة الروايتيّة، وليس ذلك من جهة تخصيص العام بالمورد حتى يقال: إنّ المورد لا يخصص العامّ، بل من جهة عدم العموم» (2).

وقد أجاب الشيخ الأعظم! عن التمسّك بالمقبولة بما حاصله:

أنّ لفظ (المشهور) في المقبولة ليس بمعناه المصطلح الحادث بين الاُصوليّين، وهو في قبال (المتّفق عليه) كي يكون إطلاقه على المُجمع عليه في قوله(علیه السلام): «ويترك الشاذّ» الذي ليس بمشهور، أو في قول الراوي: «فإن كان الخبران عنكم مشهورين» قرينة على صرف المجمع عليه عن معناه الحقيقيّ؛ بل هو بمعناه اللّغوي العرفيّ، وهو: المعروف الواضح.

ص: 164


1- فرائد الاُصول 1: 234.
2- فرائد الاُصول 1: 234.

ومنه: (شهر فلان سيفه) فلا يصرف المجمع عليه عن معناه الحقيقيّ، وهو ما اتّفق عليه الكلّ، فلا يتمّ الاستدلال حينئذٍ.

ونصّ كلامه):

«ومن هنا يُعلم الجواب عن التمسّك بالمقبولة، وأنّه لا تنافي بين إطلاق (المجمع عليه) على المشهور وبالعكس حتى تصرف أحدهما عن ظاهره بقرينة الآخر؛ فإنّ إطلاق (المشهور) في مقام (الإجماع) إنّما هو إطلاق حادث مختصّ بالاُصوليّين، وإلّا، فالمشهور هو الواضح المعروف.ومنه: (شهر فلان سيفه) و(سيف شاهر)، فالمراد أنّه يُؤخذ بالرواية التي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها أحد منهم، ويُترك ما لا يعرفه إلّا الشاذّ، ولا يعرفه الباقي..» إلى آخر ما جاء في كلامه« (1).

وكذا قال المحقق النائيني! في مقام الجواب:

«أمّا التعليل: فلأنّه ليس من العلّة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلّيّة التي يتعدّى عن موردها، فإنّ المراد من قوله: (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه):

إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعمّ الشهرة الفتوائيّة.

وإن كان المراد منه المشهور فلا يصحّ حمل قوله(علیه السلام): (ممّا لاريب فيه)

ص: 165


1- فرائد الاُصول 1: 235.

عليه بقول مطلق، بل لابدّ من أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله.

وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرىً كلّيّة؛ لأنّه يعتبر في الكبرى الكليّة صحّة التكليف بها ابتداءً بلا ضمّ المورد إليها، كما في قوله: (الخمر حرام لأنّه مسكر)، فإنّه يصحّ أن يقال: (لا تشرب المسكر) بلا ضمّ الخمر إليه.

والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك؛ لأنّه لا يصحّ أن يقال: (يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله)، وإلّا لزم الأخذ بكلّ راجحٍ بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظنّ المطلق، وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها.

فالتعليل أجنبيّ عن أن يكون من الكبرى الكلّيّة التي لا يصحّ التعدّي عن مورده» (1).

فانقدح ممّا تقدّم:

عدم إمكان التمسّك بالخبرين المزبورين للاستدلال على حجّيّة الشهرة، وذلك لأمرين:

الأوّل: أنّ الموصول عبارة عن خصوص الخبر، فلا يشمل الشهرة.

والثاني: أنّه لو سلّمنا عموميّته، فالاشتهار ليس إلّا عبارة عن الوضوح،

ص: 166


1- فوائد الاُصول 3: 154, 155.

لا الشهرة بحسب الاصطلاح.

فعُلم بذلك: أنّ الشهرة إنّما تكون مرجّحة وليست حجّةً مستقلّة.

الوجه الثاني:

التمسّك بقوله تعالى في آية النبأ: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (1)؛ فإنّها تدلّ على أنّ الاعتماد على الشهرة ممّا لا سفه فيه.

وفيه: أنّه ليس لهذه الآية أيّ مفهوم، فلا تكون نظير قوله: (الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء)، حيث استفيد منه المفهوم، وهو أنّه إذا لم يكن الماء قدر كرّ فينجّسه كلّ شيء، بل هي من قبيل: (لا تأكل الرمّان؛ لأنّه حامض)؛ فإنّه لا يمكن استفادة المفهوم منه، وهو جواز أكل كلّ ما ليس بحامض.

بل غاية ما تدلّ عليه الآية هو عدم جواز الأخذ بكلّ ما يقتضي الجهالة والسفاهة، خبراً كان أم غيره، وهذا لا يقتضي وجوب الأخذ بكلّ ما خلا عنهما.

الوجه الثالث:

الاستدلال بأنّ الظنّ الحاصل من الشهرة الفتوائيّة أقوى من الظنّ الحاصل من خبر الواحد.

ص: 167


1- الحجرات: الآية 6.

وفيه: أنّ الملاك في حجّيّة خبر الواحد ليس هو إفادته للظنّ، وإنّما دلّ الدليل على ذلك؛ بداهة أنّه في كثير من الأحيان يكون الخبر حجّة مع كونه لا يفيد الظنّ.

ص: 168

في حجّيّة خبر الواحد

اشارة

والكلام يقع فيها في اُمور:

الأمر الأوّل: في موضوع البحث:

وحاصله: أنّ من جملة ما يتوقف عليه إثبات الحكم الشرعيّ بالخبر والواحد هو الوثوق بالصدور، والمراد به: الأدلّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد، وهو محلّ بحثنا.

أمّا إحراز جهة الظهور، فقد تقدّم البحث عنها في مبحث حجّيّة الظواهر.

وأمّا جهة الصدور، فيبحث فيها عن أنّ الخبر إنّما صدر لأجل بيان الحكم الواقعيّ، وليس لأجل التقيّة ونحوها، وهذا هو ما عليه بناء العقلاء؛ إذ هم يحملون الكلام الصادر من المتكلّم على مراده الجدّيّ الواقعيّ، ويبنون على أنّ مؤدّى كلام المتكلّم هو ما مقصوداً له، ما لم يثبت خلاف ذلك.

ص: 169

الأمر الثاني: هل تعدّ هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

لا ينبغي النزاع في اُصوليّة البحث عن حجّيّة خبر الواحد؛ ضرورة ما عرفته مراراً من أنّ الملاك في اُصوليّة المسألة إنّما هو وقوعها كبرىً في قياس استنباط الحكم الشرعيّ، وهذه المسألة - بلا ريب - كذلك.

الأمر الثالث:
اشارة

نسب الشيخ الأعظم! إلى كلٍّ السيّد والقاضي وابن زهرة والطبرسيّ وابن ادريس) القول بعدم حجّيّة خبر الواحد (1).

وقد استدلّوا لقولهم هذا باُمور:

الأوّل: الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم.

قال الشيخ!: «أمّا حجّة المانعين: فالأدلّة الثلاثة:

أمّا الكتاب: فالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم، والتعليل المذكور في آية النبأ على ما ذكره أمين الإسلام من أنّ فيها دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد» (2).

وتلك الآيات هي:

قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُول-ئِكَ

ص: 170


1- فرائد الاُصول 1: 240.
2- فرائد الاُصول 1: 242.

كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (1).

وقوله: ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (2).وقوله: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (3).

وكذلك قوله: ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (4).

وفيه: أنّ الظاهر كون هذه الآيات واردةً في باب الاُصول الاعتقاديّة، فيكون ظاهرها إفادة النهي عن اتّباع الظنّ في اُصول الدين.

ويمكن أن يكون المراد بالعلم ما تطمئنّ به النفس ويسكن إليه العقلاء، والخبر الواحد كذلك.

ولو سلّم شموله لفروع الدين؛ فإنّه يخصّص بما دلّ على حجّيّة خبر الواحد.

ولكنّ الآخوند الخراسانيّ! ناقش في دلالة الآيات المذكورة على مدّعاهم بوجوه:

منها: أنّها ظاهرة في النهي عن اتّباع غير العلم في اُصول الدين، كما يظهر من ملاحظة سياقها.

ومنها: أنّه لو سلّم عدم ظهورها في خصوص الاُصول، فإنّ القدر

ص: 171


1- الإسراء: الآية 36.
2- يونس: الآية 36.
3- النجم: الآية 28.
4- الحجرات: الآية 6.

المتيقّن منها هو ذلك، ومعه: فتكون مجملةً، ولا ظهور لها في العموم للفروع.

ومنها: أنّه حتى لو سلّم عمومها لفروع الدين، فإنّ ما دلّ على حجّيّة خبر الواحد يكون مخصّصاً لعمومها (1).فيما ذهب المحقّق النائيني) إلى أنّ دليل الحجّيّة حاكم على الآيات، حيث قال ما نصّه:

«نسبة تلك الأدلّة إلى الآيات ليست نسبة التخصيص، بل نسبة الحكومة؛ فإنّ تلك الأدلّة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزاً للواقع، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع فلا يمكن أن تعمّه الأدلّة الناهية عن العمل بالظن لنحتاج إلى التخصيص، لكي يقال: إنّ مفاد الآيات الناهية آبية عن التخصيص» (2).

الثاني: الأخبار الناهية عن العمل بما ليس عليه شاهد من كتاب اﷲ، كما عبّروا بأنّ ما خالف قول ربّنا لم نقله، وما لم يكن موافقاً للقرآن لا نقبله.

ص: 172


1- انظر: كفاية الاُصول: 295. قال): «والجواب: أمّا عن الآيات، فبأنّ الظاهر منها أو المتيقّن من إطلاقاتها هو اتّباع غير العلم في الاُصول الاعتقاديّة، لا ما يعمّ الفروع الشرعيّة، ولو سلّم عمومها لها، فهي مخصّصة بالأدلّة الآتية على اعتبار الأخبار».
2- فوائد الاُصول 3: 161.

واعترض عليه صاحب الكفاية! بما حاصله:

أنّه لا مجال للاستدلال بأيٍّ منها؛ لأنّها أخبار آحاد، فيلزم من الاستدلال بها على عدم حجّيّة خبر الواحد الخلف. وليست تلك الأخبار متواترة لفظاً ولا معنى.

نعم، هي متواترة إجمالاً، للعلم الإجمالي بصدور إحداها، ولكن مقتضى ذلك هو الالتزام بأخصّها من حيث المضمون للقطع بصدوره عن المعصوم(علیه السلام)، ولازمه: عدم حجّيّة الخبر المخالف للكتاب والسنّة لأنّه مما توافقت عليه الروايات، وهو لا ينفع في نفي حجّيّة خبر الواحد بنحو السلب الكلّي؛ ضرورة أنّ الالتزام به في مقام التعارض ممّا لا محيص عنه (1).والتحقيق: أنّ الكلام إنّما هو في أصل حجّيّة الخبر الواحد، لا في حجّيّة مقام التعارض؛ ضرورة أنّ الخبرين في مورد التعارض هما في ذاتهما حجّة لولا تعارضهما، فلا يضرّ التعارض بكون كلٍّ منهما حجّة في نفسه.

ص: 173


1- انظر: كفاية الاُصول: 295, وإليك نصّ كلامه!: «وأمّا عن الروايات: فبأنّ الاستدلال بها خال عن السداد, فإنّها أخبار آحاد. لا يقال: إنّها وإن لم تكن متواترة لفظاً ولا معنى, إلّا أنّها متواترة إجمالاً, للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة. فإنّه يقال: إنّها وإن كانت كذلك, إلّا أنّها لا تفيد إلّا فيما توافقت عليه, وهو غير مفيد في إثبات السلب كلياً, كما هو محل الكلام ومورد النقض والإبرام, وإنّما تفيد عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة, والالتزام به ليس بضائر, بل لا محيص عنه في مقام المعارضة».

وقد ذكر الشيخ الأعظم! أنّ المراد بالمخالفة غير المخالفة بالعموم والخصوص، أو الإطلاق والتقييد، بل المراد منها هو المخالفة بنحو التباين، أو بضميمة المخالفة بنحو العموم من وجه.

واستند) في ذلك إلى عدم صدق المخالفة عرفاً على التخصيص أو التقييد، وإلى القطع بصدور التخصيص والتقييد لعمومات الكتاب ومطلقاته بضميمة إباء عمومات النهي عن العمل بالمخالف للكتاب عن التخصيص (1).

قال المحقّق النائيني!:

«ولا يبعد أن يكون صدور هذه الأخبار في مقام الردّ على الملاحدة الذين كانوا يضعون الأخبار ويدسّونها في كتب الأصحاب هدماً للشريعة المطهّرة، حتى نقل عن بعضهم أنّه قال بعدما استبصر ورجع إلى الحقّ: (إنّي قد وضعت اثني عشر ألف حديثاً).

فأقرب المحامل لهذه الأخبار حملها على الخبر المخالف للكتاب بالتباين أو بالعموم من وجه، وإن كان يبعد حملها على المخالفة بالتباين؛

ص: 174


1- راجع: فرائد الاُصول 1: 247- 248, حيث قال! ما لفظه: «إنّه لا يعدّ مخالفة ظاهر العموم - خصوصاً مثل هذه العمومات - مخالفة؛ وإلّا لعدّت الأخبار الصادرة يقيناً عن الأئمة( المخالفة لعمومات الكتاب والسنة النبوية, مخالفة للكتاب والسنة, غاية الأمر ثبوت الأخذ بها مع مخالفتها لكتاب الله وسنة نبيّه-, فتخرج عن عموم أخبار العرض, مع أنّ الناظر في أخبار العرض على الكتاب والسنة يقطع بأنّها تأبى عن التخصيص».

لأنّه ليس في الأخبار ما يخالف الكتاب بالتباين الكلّيّ، حتى أنّ من يريد الوضع والدسّ في الأخبار لا يضع ما يخالف الكتاب بالتباين الكلّي؛ لأنّه يُعلَم أنّه من الموضوع.

ولا يبعد - أيضاً - حمل الأخبار الناهية على الأخبار الواردة في باب الجبر والتفويض والقدر، ونحو ذلك. ويمكن أيضاً حمل بعضها علىصورة التعارض بين الروايات، فيؤخذ بالموافق للكتاب ويطرح المخالف له.

وكيف كان، لابدّ من حمل هذه الأخبار على أحد هذه المحامل، لما عرفت من أنّه لو بنينا على شمولها للمخالفة بالعموم والخصوص يلزم تعطيل كثير من الأحكام» (1).

وعلى هذا الأساس: فتكون الأخبار المتقدّمة مطلقة، ومن مصاديقها الردّ على الملاحدة، وحملها على الجبر والتفويض، وكذا يصحّ حمل بعضها على صورة التعارض.

ولكن لا يخفى: عدم إمكان التمسّك بها للاستدلال على عدم حجّيّة الخبر الواحد؛ وإلّا، لزم تعطيل كثير من الأحكام كما مرّ.

هذا بالإضافة إلى أنّ هذه الأخبار - هي بنفسها - من أخبار الآحاد، فيلزم من الاستدلال بها الخلف.

ص: 175


1- فوائد الاُصول 3: 163.

الثالث: الإجماع المحكيّ عن السيّد المرتضى) (1).

وفيه: أنّ هذا الإجماع غير متحقّق، والاعتماد على نقله تعويل على خبر الواحد.

مضافاً إلى أنّه معارض بما عن الشيخ - المعتضدة بدعوى جماعة اُخرى - من الإجماع على حجّيّة خبر الواحد في الجملة، وتحقّق الشهرة على خلافها بين القدماء والمتأخرين.

الرابع: حكم العقل بلزوم التعبّد به تحليل الحرام وتحريم الحلال، وقد مرّ جوابه عند الكلام على الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ.

وأمّا المثبتون لحجّيّة خبر الواحد:

فهم - كذلك - استدلّوا بالأدلة الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل.

أمّا الكتاب:

فبآيات عدّة:

ص: 176


1- انظر: رسائل السيّد المرتضى (أجوبة المسائل التبانيات) 1: 24، قال!: «ولا شكّ أنّ علماء الشيعة الإماميّة يذهبون إلى أنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة، ولا التعويل عليها، وأنّها ليست بحجّة ولا دلالة، وقد ملأوا الطوامير وسطّروا الأساطير في الاحتجاج على ذلك والنقض على مخالفيهم. ومنهم من يزيد على هذه الجملة ويذهب إلى أنّه مستحيل من طريق العقول أن يتعبّد الله تعالى بالعمل بأخبار الآحاد، ويجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد مجرى ظهوره في إبطال القياس...».
الاستدلال بآية النبأ:

منها: آية النبأ، قال تعالى: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتبيّنوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (1).

والاستدلال بهذه الآية تارةً يكون بمفهوم الشرط، واُخرى بالوجوب النفسيّ للتبيّن:

أمّا الاستدلال بمفهوم الشرط:

فقد ذهب المحقّق الخراساني! إلى أنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ المجيء به على كون الجائي به فاسقاً، يقتضي انتفاءه عند انتفائه، وعليه: فلا يكون الشرط مسوقاً لبيان تحقّق الموضوع.

وهذا نصّ كلامه«:

«نعم، لو كان الشرط هو نفس تحقّق النبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.

مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ القضية ولو كانت مسوقة لذلك، إلّا أنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبّر» (2).وقد صوّر المحقّق النائيني! الاستدلال «بمفهوم الشرط ببيان: أنّه

ص: 177


1- الحجرات: الآية 6.
2- كفاية الاُصول: 296.

تعالى علّق وجوب التبيّن عن الخبر بمجيء الفاسق به، فإذا انتفى الشرط وكان المخبر عدلاً، ينتفي وجوب التبيّن عن خبره، وإذا لم يجب التبيّن عن خبر العادل، فإمّا أنْ يردّ، وإمّا أن يقبل، ولا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّه يلزم أن يكون العادل أسوأ حالاً من الفاسق، فيتعيّن الثاني، وهو المطلوب؛ لأنّه لا نعني بحجّيّة الخبر الواحد إلّا قبوله.

ولعلّ أخذ هذه المقدّمة الأخيرة وهي: أنّه (لو لم يجب قبول قوله يلزم أنّه يكون أسوأ حالاً من الفاسق) مبنيّ على كون التبيّن واجباً نفسيّاً، ولو كان وجوبه شرطاً للعمل بخبر الفاسق فلا نحتاج إلى هذه المقدّمة» (1).

وإذا كان احتمال الوجوب النفسيّ ساقطاً، فلا محيص عن كونه الوجوب في الآية شرطيّاً كما هو ظاهر التعليل؛ فإنّ إصابة القوم بجهالة إنّما تكون عند العمل بخبر الفاسق لا مطلقاً، ولو كان عادلاً.

وكيف كان، فحاصل الاستدلال بهذه الآية بناءً على مفهوم الشرط هو أنّ وجوب التبيّن عند العمل معلّق على مجيء خبر الفاسق، فإذا انتفى الشرط ينتفي المشروط، فلا يجب التبيّن عند العمل بخبر العادل.

ثمّ إنّه هل لهذه الآية مفهوم أو لا؟

ذهب الشيخ الأعظم! إلى أنّ المفهوم في الآية من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ لأنّ الآية قد سيقت لبيان الموضوع، فيكون الشرط هو مجيء الفاسق بنبأ.

ص: 178


1- فوائد الاُصول 3: 164- 165.

وظاهر: أنّ عدم التبيّن عند عدم مجيئه لهو من باب عدم وجود ما يتبيّن. وحينئذٍ: فيكون انتفاء الحكم بانتفائه أمراً تكوينيّاً، على حدّ قولك: (إن رزقت ولداً فاختنه)، فالشرط هنا شرط لتحقّق الموضوع به عقلاً بحيث لا يتصوّر بقاء الموضوع بانتفائه.وقد تقرّر في محلّه: أنّ مثل هذه الشروط لا يثبت لها مفهوم، إذ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم بانتفاء الشرط عن الموضوع الذي ثبت له الحكم عند وجود الشرط.

ومن الواضح: أنّ هذا يستدعي أن يكون الموضوع موجوداً عند انتفاء الشرط، كما كان موجوداً في حال وجوده، فإذا فرض أنّ الشرط كان مقوماً للموضوع عقلاً كان انتفاؤه ملازماً لانتفاء الموضوع فلا مفهوم (1).

ص: 179


1- فرائد الاُصول 1: 257- 258. قال!: mففيه: أنّ مفهوم الشرط عدم مجيء الفاسق بالنبأ, وعدم التبيّن هنا لأجل عدم ما يتبين, فالجملة الشرطية هنا مسوقة لبيان تحقق الموضوع, كما في قول القائل: (إن رزقت ولداً فاختنه)- إلى أن قال - إنّ الحكم إذا ثبت لخبر الفاسق بشرط مجيء الفاسق به, كان المفهوم - بحسب الدلالة العرفيّة أو العقليّة - انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور فيه عند انتفاء الشرط المذكور فيه, ففرض مجيء العادل بنبأ عند عدم الشرط - وهو مجيء الفاسق بالنبأ - لا يوجب انتفاء التبيّن عن خبر العادل الذي جاء به؛ لأنّه لم يكن مثبتاً في المنطوق حتى ينتفي في المفهوم, فالمفهوم في الآية وأمثالها ليس قابلاً لغير السالبة بانتفاء الموضوع, وليس هنا قضيّة لفظيّة سالبة دار الأمر بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود أو لانتفاء الموضوع».

هذا. ويمكن أن يقال:

إنّ القضيّة الشرطيّة في الآية الشريفة وإن فرض المجيء بها لبيان تحقّق الموضوع، إلّا أنّها ظاهرة في انحصار موضوع التبيّن بخصوص نبأ الفاسق.

ومقتضى هذا الانحصار: أنّه إذا انتفى نبأ الفاسق وتحقّق موضوع آخر مكانه كنبأ العادل لم يجب التبيّن عنه، فتأمّل.

وقد خالف الشيخَ! فيما ذهب إليه صاحبُ الكفاية! ذاهباً إلى ثبوت مفهوم للآية في حدّ نفسه، وذلك بافتراض أنّ موضوع الحكم هوالنبأ، وهو جهة إضافيّة للفاسق؛ فإنّ الشرط - حينئذٍ - لا يكون مقوّماً للموضوع؛ لأنّ النبأ كما يضاف إلى الفاسق فهو - أيضاً - يضاف إلى غيره.ثمّ ذكر! أنّ الموضوع لو كان هو طبيعيّ النبأ، وكان الشرط مجيء الفاسق بنحو يكون المجيء دخيلاً فيه، لم يكن للقضيّة مفهوم، أو أنّه يكون لها مفهوم، ولكن بنحو السالبة بانتفاء الموضوع (1).

ص: 180


1- كفاية الاُصول: 296، قال!: «ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه: أظهرها: أنّه من جهة مفهوم الشرط، وأنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق يقتضي انتفاءه عند انتفائه، ولا يخفى: أنّه على هذا التقرير لا يرد: أنّ الشرط في القضيّة لبيان تحقّق الموضوع، فلا مفهوم له، أو مفهوم السالبة بانتفاء الموضوع، فافهم. نعم، لو كان الشرط هو نفس تحقّق النبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضيّة الشرطيّة مسوقة لبيان تحقّق الموضوع».

وأمّا الإشكالات التي أوردوها على حجّيّة خبر العادل:

فعمدتها: أنّ صدر الآية وإن كان دالاً بمفهومه على حجّيّة خبر العادل، إلّا أنّ التعليل يدلّ على وجوب التبيّن في كلّ خبر غير مفيد للعلم.

فالمراد من الجهالة في قوله: ﴿أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين﴾ هو عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع، فالتعليل - إذاً - بمنزلة أن يقال: إن جاءكم خبر لا يُعلم صدقه وكذبه فتبيّنوا فيه، وهو - كما لا يخفى - مشترك بين خبر العادل والفاسق على حدٍّ سواء.

وإذا كان عموم التعليل بوجوب الفحص شاملاً لخبر العادل، فإذا تعارض المفهوم وعموم التعليل يرجّح عموم التعليل؛ لأنّه أقوى ظهوراً من القضيّة الشرطيّة في المفهوم، بعد ما عرفت من إباء هذا التعليل عن التخصيص.

على أنّه لو سلّم عموم مقتضى التعليل وقبوله للتخصيص بالمفهوم كما هو حال سائر العمومات.

ففيه: أنّ تقديم الخاصّ على العامّ إنّما يكون فيما إذا كان الأمر دائراً بين طرح دليل الخاصّ بالمرّة وبين طرح عموم العامّ، فلا إشكال - حينئذٍ - في حمل العامّ على الخاصّ؛ لأنّه جمع بين الدليلين وطرح لعموم العام.

ولكنّ بحثنا ليس من هذا القبيل؛ ضرورة أنّ الأخذ بالعموم طرح للمفهوم، وهو بعض مدلول القضيّة، هذا من جهة.ومن جهة ثانية، فإنّ طرح العموم مترتّب على المفهوم. فحينئذٍ:

ص: 181

يقع التعارض بين ظهورين، وهما: ظهور القضيّة الشرطيّة في المفهوم، وظهور التعليل في العموم.

ولا يخفى: أنّ ظهور التعليل في العموم أقوى وآكد من دلالة القضيّة على المفهوم، فيقدّم عموم التعليل؛ لمكان أظهريّته، بل إنّه يصلح لأن يكون قرينة صارفة عن أصل انعقاد ظهورٍ للقضيّة الشرطيّة في المفهوم.

فانقدح مما تقدّم: أنّ المفهوم مخصّص لعموم العلّة، وعموم العلّة مستلزم لإلقاء المفهوم، لكون العلّة متّصلةً بالكلام؛ أو فقل: إنّه لا يبقى للكلام مفهوم أصلاً حتى يكون موجباً لتخصيص العامّ.

ويمكن الإجابة عن ذلك: بأنّ الجهالة في الآية ليست بمعنى عدم العلم ليقال حينئذٍ: بأنّه كما يجب التبيّن في خبر الفاسق فيجب التبيّن في خبر العادل أيضاً.

بل الجهالة هنا إنّما هي بمعنى السفاهة، وليس العمل بخبر العادل - كما هو واضح - سفهاً أو عملاً غير عقلائيّ، فيجوز لا محالة الركون والاعتماد عليه.

ولكن، قال المحقّق العراقيّ في تعليقته على الفوائد:

«أمكن أن يقال: إنّ السفاهة يوجب الملامة لا الندامة، بل ما يوجب الندامة جارٍ في كل أمارة مخالفة للواقع، فضلاً عن مجرّد عدم العلم به إذا كان المقصود به حفظ الواقع، خصوصاً في الأمور المهمة، كما هو مورد الآية الشريفة؛ وحينئذ فلا غرو في دعوى كون الجهالة مطلق عدم العلم.

ص: 182

ومن هذا البيان ظهر أيضاً: أنّ العلّة جارية حتى في صورة العمل بما هو حجّة لديهم من خبر الثقة والعدل؛ لأنّ العمل بمثله في مثل حفظ النفوس والأعراض يوجب الندامة وإن لم يوجب الملامة، فإذا شمل العلّة بهذه القرينة ما هو حجّة لديهم أيضاً، كان لازمه بمقتضى عموم العلّة ردعهم عن مثل هذا العمل مطلقاً، ومع هذاالتعميم لايبقى مجال لحكومة المفهوم على عموم العلّة، بل عموم العلّة موجب لمنع المفهوم» (1).

والتحقيق: أنّه ليس معنى الجهالة في الآية هو السفاهة، بل ما يلازمها، وهو العمل الصادر من الإنسان بنحو التسرّع ومن دون رويّة وبصيرة، فإنّه - حينئذٍ - يكون عملاً سفهيّاً.

ويؤيّده: ما ذكره الطبرسيّ« في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله ِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَ-ئِكَ يَتُوبُ الله ُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله ُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ (2)، في المرويّ عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام):

«كلّ ذنب عمله العبد، وإن كان عالماً، فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، فقد حكى اﷲ تعالى قول يوسف لإخوته: ﴿هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ (3)، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم

ص: 183


1- فوائد الاُصول 3: 171 - 172 الهامش رقم 1.
2- النساء: الآية 17.
3- فوائد الاُصول 3: 171 - 172 الهامش رقم 1.

بأنفسهم في معصية اﷲ» (1).

وكيف كان، فقد تحصّل: أنّ المراد من الجهالة، بقرينة قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبونَ مِنْ قَرِيب﴾، ليس ما يقابل العلم؛ لأنّ العمل الصادر عن عدم العلم ليس محرّماً ولا مفتقراً إلى التوبة، بل المراد بها: صدور ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتأمّل في عواقب الاُمور، والمعنى: إنّ الذي عمل بسفاهة ثمّ ندم وتاب يتوب اﷲ عليه.

وبعبارة ثانية: فليس الظاهر من التعليل هو عدم جواز مطلق الإقدام بغير علم: فاسقاً كان أو عادلاً، بل خصوص الإقدام الذييحصل منه ندامة. وليس في الإقدام الذي يكون عن حجّة واطمئنان ندامة، كما لا يخفى، فلا منافاة بين المفهوم والعلّة.

قال بعض المحقّقين المعاصرين:

«وممّا يشهد لإرادة هذا المعنى من الجهالة في الآية الكريمة دون مطلق عدم العلم، هو أنّ إقدام المسلمين على محاربة من أخبر الوليد (لعنه اﷲ) بكفرهم، لم يكن مع الترديد والتشكيك في ردّتهم وإلّا لتوقفوا في حربهم، بل كانوا واثقين من ذلك بسبب إخبار الوليد (لعنه اﷲ) بسبب غفلتهم وبساطتهم بحيث كانوا يصدقون كلّ أحد بمجرّد كونه مسلماً أو نحو ذلك. ففي الآية تنبيه على هذا المعنى وأنّه ينبغي التروي والتبصر في

ص: 184


1- انظر: مجمع البيان 3: 43.

الأمور وعدم الإقدام على ما لا ينبغي أن يقدم عليه العقلاء في اُمورهم، وهو الاعتماد على خبر الفاسق المتهم بالكذب في اخباره» (1).

ولكن في كلام المحقّق النائيني! ما يصلح لأن يكون جواباً عنه، بما لفظه:

«إنّه على فرض أن يكون معنى الجهالة عدمَ العلم بمطابقة الخبر للواقع لا يعارض عموم التعليل للمفهوم، بل المفهوم يكون حاكماً على العموم» (2).

وبعبارة اُخرى: فإنّ غاية ما يدل عليه التعليل هو لزوم التبيّن عمّا ليس بعلم، دون أن يتعرّض لبيان ما هو علم وما هو ليس كذلك؛ ضرورة أنّ الحكم لا يتعرّض إلى إثبات موضوعه بنحو من الأنحاء، بل يكون ثابتاً بعد ثبوت موضوعه فالمفهوم يقضي أن يكون خبر العادل علماً بعد إلغاء احتمال خلافه للواقع.وحينئذٍ: يكون المفهوم حاكماً على عموم التعليل، ولكن لا لأجل تخصيصه لكي يقال: إنّ عموم العلّة آبٍ عن التخصيص، بل لأجل حكومته، والمحكوم لا يعارض الحاكم، فلا يقع التعارض بينهما، وإن فرض أنّ ظهور المحكوم كان أقوى من ظهور الحاكم، فإنّه مع ذلك يجب تقديم الحاكم.

ص: 185


1- منتقى الاُصول 4: 267.
2- فوائد الاُصول 3: 172.

ثمّ إنّ هناك إشكالات أُخرى لا تختصّ بالاستدلال على الحجّيّة بمفهوم آية النبأ:

منها: إشكال شمول أدلّة الحجّيّة للأخبار الحاكية لقول الإمام(علیه السلام) بواسطة أو بوسائط، كإخبار الشيخ عن المفيد عن الصدوق عن الصفّار عن العسكري(علیه السلام)، بقول الصفّار - مثلاً -: (كتبت إلى العسكري(علیه السلام))، فهي منصرفة عن الإخبار مع الواسطة.

وجوابه:

أوّلاً: بمنع هذا الانصراف.

وثانياً: بأنّ الحكم المستفاد من أدلّة الاعتبار هو تصديق العادل، ونسبته إلى الموضوع نسبة العرض إلى المعروض، فلا يمكن إثبات الموضوع بالحكم، بل لابدّ من وجود الموضوع أولاً ثم يعرض عليه الحكم؛ لأنّ العرض لا يوجد معروضه.

فإذا قال الشيخ - مثلاً -: (حدّثني المفيد، قال: حدّثني الصدوق) فحجّيّة خبر المفيد تابعة لدليل حجّيّة قول الشيخ: (صدّق خبر العادل)، فكيف يجعل خبر المفيد الذي تحقّق تعبّداً بواسطة قول الشارع

موضوعاً لهذا الحكم؟ فهو نظير ما يقال: (كلّ خبري صادق) حيث يشمل نفس هذا الخبر.

ومنها: أنّ الخبر لا بد له من حكم شرعيّ، ولا أثر لخبر الشيخ والمفيد والصدوق إلّا نفس وجوب تصديق العادل حتى يصح اعتبار التعبّد بإخباره، فعلم: أنّه لا أثر للمخبريّة غير وجوب التصديق والحجّيّة، فيلزم

ص: 186

اتّحاد الحكم والموضوع.وبتعبير آخر: فإنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية الشريفة هو وجوب تصديق كلّ مخبر، وليس معنى تصديقه إلّا ترتيب الآثار الشرعيّة عليه. فإذا قال المخبر: (إنّ زيداً عادل)، فليس معنى وجوب تصديقه إلّا ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على عدالة زيد، من قبول شهادته وجواز الاقتداء به ونحو ذلك من الآثار، على أنّ الآثار المترتّبة ليست مختصّة بالآثار الثابتة في نفس الآية.

أمّا الجواب عن الأوّل:

فبأنّ هذا الإشكال إنّما يتأتّى فيما لو فرض أنّ الحكم مثبت لموضوع نفسه وشخصه، وأمّا إثباته لموضوع حكم آخر فلا مانع منه.

ومقامنا من قبيل الثاني، فإن خبر المفيد إنّما يثبت بوجوب تصديق الشيخ! في إخباره عنه الذي فرض أنّه محرز بالوجدان، وإذا ثبت خبر المفيد بوجوب تصديق الشيخ يعرض عليه وجوب التصديق، ومن وجوب تصديق المفيد) يثبت خبر الصدوق! فيعرض عليه وجوب التصديق، وهكذا إلى أن ينتهي إلى أوّل سلسلة الوسائط.

فكلّ حكم لموضوع مثبت لموضوع آخر يترتّب عليه حكم آخر، فيكون هناك موضوعات متعددة لأحكام متعدّدة، غايته: أنّ الأحكام تكون من سنخ واحد.

وأجاب عنه صاحب الكفاية) بما حاصله:

إنّ الملحوظ في الموضوع هو طبيعيّ الأثر، لا شخصه، أعني: وجوب

ص: 187

تصديق العادل، وعليه: فيختلف الحكم عن الموضوع (1).

واستشكل عليه بعضهم بما لفظه:«إنّ القضيّة الطبيعيّة ما كان الحكم فيها وارداً على نفس الطبيعة بما هي بملاحظة تجرّدها عن الوجود الخارجي بحيث لا يسري المحمول إلى الخارج، كالنوعيّة في مثل: (الإنسان نوع).

وقضايا الأحكام ليست كذلك؛ إذ هي ترتبط بالماهيّة بلحاظ وجودها الخارجي، والحكم يعرض على الموضوع الموجود في الخارج» (2).

وفيه: أنّ الحكم قد ورد على الطبيعة باعتبارها قنطرة إلى الخارج لا بما هي في الذهن، فيتعدّد الموضوع والحكم ولا يكون الحكم مأخوذاً في موضوع نفسه.

وأمّا الجواب عن الثاني:

فبأنّ الآثار الشرعيّة للقضايا لا يجب أن تكون في نفس مؤدّاها، بل يكفي انتهاء تلك القضايا إلى أثر ولو بألف واسطة، كما في محلّ الكلام، فجعل الحجّيّة والطريقيّة في أقوال السلسلة صحيح؛ لانتهائه قول المعصوم.

ص: 188


1- كفاية الاُصول: 297, قال!: «ويمكن ذبّ الإشكال بأنّه إنّما يلزم إذا لم يكن القضيّة طبيعيّة, والحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر, بل بلحاظ أفراده, وإلّا فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية حكم الطبيعة إلى أفراده, بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع».
2- منتقى الاُصول 4: 271.

ويمكن أن يقال أيضاً: إنّما يكون تحقّق الجعل متوقّفاً على الأثر العمليّ فيما لو كان الأثر العمليّ من مقوّماته، وليس كذلك، بل يكفي في تحقّق الجعل أن يكون على صورةٍ تُخرجه عن اللّغْوية، وذلك فيما إذا كانت أخبار الوسائط متّصلة بالإمام؛ فإنّه - حينئذٍ - يصبح كل خبر من تلك الوسائط ذا فائدة وأثر عملي؛ لاتّصاله بما له أثر عملي وهو خبر الإمام(علیه السلام)، فلا يكون جعلها لغواً.

وممّا يدلّ عليه: أنّه لولا حجّيّة تلك الأخبار لم يمكن إثبات حجّيّة الخبر المتّصل بالإمام؛ لعدم وصوله إلينا وجداناً، فلا تترتّب عليه الحجّيّة مع قطع النظر عن حجّيّة الوسائط.

فانقدح: أنّ إثبات الحجّيّة للخبر المتّصل بالإمام(علیه السلام) من دون حجّيّة الوسائط، لا يكاد يكون ممكناً.

الاستدلال بآية النفر:

ومن جملة الآيات التي استدلّ بها على حجّيّة خبر الواحد: آية النفر، وهي قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (1)، حيث تدلّ على وجوب الحذر، وهو ترتّب الأثر على قول المنذرين، وليس معنى حجّيّة الأثر إلّا ذلك.

ص: 189


1- التوبة: الآية 122.

ويمكن تقريب الاستدلال بهذه الآية على حجّيّة خبر الواحد من وجوه:

الوجه الأوّل: ظهور كلمة (لعلّ) في الترجّي الحقيقيّ، وهو مستحيل في حقّه تعالى بالدليل، فلابدّ أن يكون المراد منه في مقام الاستعمال معنى المحبوبيّة، فتكون الآية دالّةً على محبوبيّة الحذر، وإذا ثبتت محبوبيّته فقد وجب عقلاً؛ لأنّ مقتضي الحذر إن كان موجوداً فقد وجب الحذر؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته، وإلّا، فلا يحسن من أصله، بل يكون مستحيلاً؛ لأنّ المعلول عدم عند عدم علّته.

الوجه الثاني: أن الإنذار واجب بظاهر الآية الشريفة؛ لأنّه غاية للنفر الواجب بدلالة الآية، بمقتضى (لولا) التحضيضيّة، فإذا وجب النفر وجب الإنذار فيه، وإذا وجب الإنذار وجب التحذّر كذلك، وإلّا كان وجوب الإنذار لغواً.

الوجه الثالث: أنّ التحذّر قد جعل غاية للإنذار في الآية الكريمة، وهو واجب، وغاية الواجب واجبة، فيكون التحذّر واجباً.

وقد استشكل صاحب الكفاية!:

على الأوّل: بأنّ حسن التحذّر غير منحصر بالعقاب، إذ قد يكون للخوف من فوت المصلحة والوقوع في المفسدة، كما هو كذلك بالنسبة إلى الشبهات البدويّة التي لا حجّة فيها على التكليف من علم أو علميّ،فإنّ التحذّر فيها لأجل إدراك الواقع وعدم الوقوع في فوت المصلحة أو درك المفسدة وإن كان حسناً إلّا أنّه ليس واجباً.

ص: 190

وعلى الثاني: بعدم انحصار فائدة الإنذار بوجوب التحذّر تعبّداً؛ إذ من الممكن أن يكون لأجل زيادة المنذرين فيحصل العلم من قولهم.

وأيضاً: بمنع الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر على نحو الإطلاق، نعم إنّما تتحقّق فيما لو حصل العلم بقول المنذر.

وعلى الثالث: بأنّه لا يوجد في المقام إطلاق يقتضي وجوب الحذر على الإطلاق عند الإنذار؛ إذ ليست الآية في مقام بيان غاية التحذّر حتى يتمسّك بإطلاق الكلام، بل هي مسوقة لبيان وجوب النفر (1).

ص: 191


1- انظر: كفاية الاُصول: 298 - 299, حيث قال! ما لفظه: «ويشكل الوجه الأوّل, بأنّ التحذّر لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته, من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة, حسن, وليس بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف, ولم يثبت هاهنا عدم الفصل, غايته عدم القول بالفصل. والوجه الثاني والثالث بعدم انحصار فائدة الإنذار بإيجاب التحذر تعبداً, لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق؛ ضرورة أنّ الآية مسوقة لبيان وجوب النفر, لا لبيان غايتية التحذر, ولعل وجوبه كان مشروطاً بما إذا أفاد العلم لو لم نقل بكونه مشروطاً به, فإنّ النفر إنّما يكون لأجل التفقه وتعلّم معالم الدين, ومعرفة ما جاء به سيد المرسلين-, كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين, على الوجهين في تفسير الآية, لكي يحذروا إذا أنذروا بها, وقضيته إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أنّ الإنذار بها, كما لا يخفى. ثمّ إنّه أشكل أيضاً, بأنّ الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر, حيث إنّه ليس شأن الراوي إلّا الإخبار بما تحمّله, لا التخويف والإنذار, وإنّما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد».

وهل وجوبه مشروط بما إذا حصل العلم من قول المنذر؟

قال المحقّق النائيني! - بعدما ذهب إلى أنّ المراد من الجمع في قوله تعالى: (ليتفقّهوا) و(لينذروا) و(يحذرون) هو الجمع الاستغراقيّ - ما هذا لفظه:

«ليس المراد من الحذر: مجرّد الخوف والتحذّر القلبي، بل المراد منه هو التحذّر الخارجي، وهو يحصل بالعمل بقول المنذر وتصديق قوله والجري على ما يقتضيه من الحركة والسكون.

وليس المراد أيضاً: الحذر عند حصول العلم من قول المنذر، بل مقتضى الإطلاق والعموم الاستغراقي في قوله تعالى: (لينذروا) هو وجوب الحذر مطلقاً، حصل العلم من قول المنذر أو لم يحصل؛ غايته:أنّه يجب تقييد إطلاقه بما إذا كان المنذر عدلاً، لقيام الدليل على عدم وجوب العمل بقول الفاسق، كما هو مفاد منطوق آية النبأ.

وبعد العلم بهذه الأمور لا أظن يشكّك أحد في دلالة الآية الشريفة على حجّيّة خبر العدل» (1).

وإن شئت فقل: ليست الآية في مقام بيان وجوب الحذر عند الإنذار بحيث إذا شُكّ في اشتراط وجوبه بشيء أمكن التمسّك بالإطلاق لنفي اشتراطه به، بل هي في مقام بيان وجوب نفر طائفة من كلّ فرقة.

ص: 192


1- فوائد الاُصول 3: 186, 187.

ويحتمل - قويّاً - أن تكون الغاية هي الحذر عند حصول العلم، فيثبت - حينئذٍ - بمعونة القرينة الخارجيّة: أنّ الحذر إنّما يكون واجباً عند حصول العلم؛ ضرورة أنّ التفقّه الواجب ليست سوى معرفة الاُمور الواقعيّة من الدين التي تفقّه فيها وتعلّمها بواسطة النفر والحذر، فلا يكون الحذر واجباً إلّا عقيب الإنذار، أمّا لو شك في أنّه صادق في خبره أو لا، فإنّ شكّه هذا شكّ في كون إخباره عن اُمور الدين أو لا، فلا يجب.

فظهر بهذا التقريب: انحصار وجوب الحذر بما إذا علم صدق المنذر في إنذاره.

ولم يرتضه المحقّق النائيني!، بل أجاب عنه بقوله:

«وهذا الإشكال يتلو السابق في الفساد، فإنّ نفس الآية تدل على ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام؛ لأنّ قول المنذر إذا جعل طريقاً إليها ومحرزاً لها فيجب اتباع قوله والبناء على أنّه هو الواقع، كما هو الشأن في سائر الأدلّة الدالّة على اعتبار الطرق والأمارات، فانّ نتيجة دليل الاعتبار كون مؤدى الطريق هو الواقع، لا يجعل المؤدّى حتى يرجع إلى التصويب بل جعل الطريقيّة يقتضي ذلك؛ ومن هنا، كانت أدلّتها حاكمة على الأدلّة المتكفّلة للأحكام الواقعيّة؛ فالآية بنفسها تدلّ على أنّ ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام الواقعيّة».ثمّ قال!: «ومنها: - أي: ومن الإشكالات على التمسّك بآية النفر - أنّ

الحذر إنّما يجب عقيب الإنذار، والإنذار ليس مطلق الإخبار عن الحكم،

ص: 193

بل هو الإخبار المشتمل على التخويف، والتخويف ليس من شأن الراوي، بل هو من شأن المفتي والواعظ - كأن يقال: أيّها الناس اتّقوا اﷲ في أكل الربا فإنّي سمعت المعصوم(علیه السلام) يقول: (من أكل الربا فكأنّما زنى في الكعبة)، أو (فهو مجرم يوجب استحقاق العقاب)، فالأوّل إفتاء بلفظ الخبر، وأمّا الثاني فإفتاء محض - فالآية تدلّ على حجّيّة قول المفتي، لا قول الراوي» (1).

وأمّا ما يمكن أن يقال في دفع هذا الإشكال:

من أنّ الإنذار وإن كان بمعنى الإخبار المشتمل على التخويف، لكنّه أعمّ من الصراحة والضمنيّة؛ إذ يصدق على الإخبار المتضمّن للتخويف وإن لم يصرّح به المنذر، ولولا ذلك لما صدق الإنذار على فتوى المفتي؛ لأنّه ليس في فتواه تصريح بالتخويف، هذا مع اعتراف المستشكل بصدق الإنذار على الفتوى.

فقد أجاب المحقّق العراقي! عنه بقوله:

«عمدة نظر المستشكل إلى احتياج الإنذار والتخويف من شخص إلى الالتفات بلازم تخويفه وبعنوانه، ومثل هذا المعنى لا يصدق على العامي البحت الحاكي لمسموعاته من الإمام(علیه السلام)، فتعميم التخويف إلى

ص: 194


1- فوائد الاُصول 3: 188.

الصراحة والضمنيّة أجنبي عن جهة الإشكال» (1).

والحقّ أن يقال:

إنّ الإنذار في الآية الشريفة ليس من قبيل وعظ الواعظين، بل هو فيها من المتفقّه في الدين إلى الجاهل بالأحكام، فيكون من قبيل إرشاد المرشدين.وإذا كان الإبلاغ مع التخويف حجّة - بمقتضى الآية الشريفة - بحيث يجب التحذّر والتخوف عقيبه شرعاً، كان الإبلاغ بلا تخويف حجّة أيضاً؛ ضرورة القطع بأنّ التخويف ممّا لا دخل له في حجّيّة كلام المبلغ، وإن كان يحصل له مع التخويف من العزم على الامتثال ما لا يحصل له من مجرّد الإبلاغ بلا تخويف.

الاستدلال بآية الكتمان:

وممّا استدلّ به على حجّيّة خبر الواحد - أيضاً -: آية الكتمان، وهي قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَ-ئِكَ يَلعَنُهُمُ الله ُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (2).

وحاصل الاستدلال بها: أنّ حرمة الكتمان لو لم تستلزم وجوب القبول لكانت لغواً.

ص: 195


1- فوائد الاُصول 3: 188, هامش رقم 3.
2- البقرة: الآية 159.

وأورد عليه صاحب الكفاية! منع لزوم اللّغويّة؛ «لعدم انحصار الفائدة - أي: فائدة حرمة الكتمان - بالقبول تعبّداً، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحق بسبب كثرة من أفشاه وبيّنه، لئلّا يكون للناس على اﷲ حجّة، بل كان له عليهم الحجّة البالغة» (1).

وإن شئت فقل:

إنّ حرمة الكتمان لمّا كانت لأجل أن يكثر المظهرون فيتّضح الحقّ ويحصل العلم من قولهم، علم - حينئذٍ - أنّ ترتّب وجوب القبول عليها إنّما هو لأجل حصول العلم بالواقع.

وأورد عليه الشيخ الأعظم! بعين ما أورده على الاستدلال بآية النفر من دعوى: إهمال الآية وعدم تعرّضها لوجوب القبول مطلقاً، ولو مع عدم حصول العلم؛ وكذا دعوى: اختصاص وجوب القبول في الأمر الذي يجب إظهاره ويحرم كتمانه وهو الحقّ والواقع، بتقريب:أنّ ظاهر الأمر ههنا وأمثاله هو أنّ المقصود فيه هو عمل الناس بالحقّ، وليس المقصود منه جعل قول المظهر حجّة تعبّداً، وإذا لم يحرز الواقع لا يحرز موضوع وجوب العمل ولا يثبت وجوب القبول (2).

ص: 196


1- كفاية الاُصول: 300.
2- فرائد الاُصول 1: 287, وهذا نصّ كلامه!: «ويرد عليها: ما ذكرنا من الإيرادين الأوّلين في آية النفر, من سكوتها وعدم التعرض فيها لوجوب القبول وإن لم يحصل العلم عقيب الإظهار, أو اختصاص وجوب القبول المستفاد منها بالأمر الذي يحرم كتمانه ويجب إظهاره؛ فإنّ من أمر غيره بإظهار الحق للناس ليس مقصوده إلّا عمل الناس بالحق, ولا يريد بمثل هذا الخطاب تأسيس حجيّة قول المظهر تعبداً ووجوب العمل بقوله وإن لم يطابق الحق».

واسشكل الآخوند الخراسانيّ! على كلا الإيرادين بما هذا لفظه:

«ولا يخفى: أنّه لو سلّمت هذه الملازمة - بين حرمة الكتمان ووجوب القبول - لا مجال للإيراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر، من دعوى الإهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم» (1).

فظهر: أنّه لا يمكن الإشكال على الاستدلال بالآية إلّا بمنع أصل الملازمة، بنفس البيان المتقدّم في آية النفر من عدم انحصار فائدة الإظهار بإيجاب القبول تعبّداً، ووجوب الإظهار إنّما هو لأجل أن يكثر المظهرون فيحصل العلم من قولهم، فلولا إفادة قول المظهرين العلم لم يعمل به.

وذهب المحقّق الأصفهاني! إلى أنّ الآية ظاهرة في حرمة كتمان وستر ما فيه مقتضى للظهور لولا الستر، بقرينة قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ (2)، فلا نظر فيها إلى وجوب الإعلام، بل غاية ما تدل عليه هو لزوم الكشف عمّا بيّنه اﷲ تعالى وأظهره.وعلى هذا: تكون آية الكتمان أجنبيّة بالكلّيّة عن حجّيّة خبر الواحد بالمرّة (3).

ص: 197


1- كفاية الاُصول: 300.
2- البقرة: الآية 159.
3- راجع: نهاية الدراية 2: 226, قال!: «لا يخفى عليك أنّ الآية أجنبية عمّا نحن فيه؛ لأنّ موردها ما كان فيه مقتضى القبول لولا الكتمان لقوله تعالى: (مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ), فالكتمان حرام في قبال إبقاء الواضح والظاهر على حاله لا في مقابلة الإيضاح والإظهار».
الاستدلال بآية السؤال:

وممّا استدلّ به على حجّيّة الخبر الواحد أيضاً آيةُ السؤال، وهي قوله تعالى: ﴿فَاسْأَل--ُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (1).

وحاصل الاستدلال بها: أنّ وجوب السؤال لو لم يكن مستلزماً لوجوب القبول لكان لغواً.

وقال العلّامة الأنصاريّ! في تقريب الاستدلال بها:

«بناءً على أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب، وإلّا لغا وجوب السؤال، وإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّ ما يصحّ أن يسأل عنه ويقع جواباً له؛ لأنّ خصوصيّة المسبوقيّة بالسؤال لا دخل فيه قطعاً» (2).

وإذا حصل القطع بأنّ خصوصيّة السؤال ممّا لا دخالة لها في وجوب القبول، ظهر - حينئذٍ - أنّ الموضوع هو نفس الجواب في حدّ ذاته، وليس هو جواب سؤال يجب قبوله.

وهنا، لابدّ من التعرّض إلى ما ذكره الثقة الطبرسيّ) في تفسير هذه الآية من أنّ في معنى (أهل الذكر) أقوالاً ثلاثة:

ص: 198


1- النحل: الآية 43, الأنبياء: الآية 7.
2- فرائد الاُصول 1: 288.

الأوّل: أنّ المعنيّ بذلك هم أهل العلم بأخبار من مضى من الاُمم، سواء كانوا مؤمنين أو كفّاراً.الثاني: أنّ المراد بأهل الذكر أهل الكتاب، أي: فاسألوا أهل التوراة والإنجيل إن كنتم لا تعلمون.

الثالث: أنّ المراد بهم أهل القرآن؛ لأنّ الذكر هو القرآن، قال ابن زيد: ويقرّب منه ما رواه جابر ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام) أنّه قال: نحن أهل الذكر، وقد سمّى اﷲ رسوله ذِكراً. وقال في موضع ثانٍ: روي عن علي(علیه السلام) أنّه قال: (نحن أهل الذكر) (1).

وأيّاً كان، فإنّ الآية أجنبيّة عن حجّيّة خبر الواحد؛ لأنّ المراد منها هو حصول العلم لا القبول تعبّداً؛ ولأنّها وردت في معرفة النبيّ- وعلاماته، وأنّ معرفته من اُصول الدين فلا ينفع فيها التقليد.

فظهر: أنّ الآية لا تتكفّل حجّيّة قول المخبر على الإطلاق.

وكذا لو كان المراد من أهل الذكر أهل العلم؛ لأنّ وجوب قبول قولهم إنّما هو لأجل أنّهم أهل العلم بمناسبة الحكم والموضوع، فلا تشمل أخبار المخبر الذي ليس ديدنه إلّا نقل الرواية التي صدرت عن المعصوم(علیه السلام) دون أن يكون له معرفة بكلامهم(.

وممّا ذكرنا ظهر: الوجه في ما ذكره صاحب الكفاية! في مقام

ص: 199


1- انظر: مجمع البيان 6: 159.

الجواب عن هذا الإيراد من:

«أنّ كثيراً من الرواة - أي: رواة الصدر الأوّل - يصدق عليهم أنّهم أهل الذكر والاطلاع على رأي الإمام(علیه السلام) كزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السؤال عنهم أنّه السؤال عن أهل الذكر والعلم، ولو كان السائل من أضرابهم، فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية، وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقاً؛ لعدم الفصل جزماً» (1).وذهب المحقّق الأصفهاني! إلى أنّ العلم بالحكم لا يحتاج في بعض الموارد إلى إعمال نظر أو رأي، فقبول قوله في مثل ذلك متمحّض في جهة خبريّته. وبضميمة عدم الفصل بينه وبين غيره يثبت المطلوب (2).

فإن قلت: إنّا نفرض الراوي من أهل العلم، وإذا وجب قبول روايته وجب قبول رواية من ليس من أهل العلم بالإجماع المركّب.

قلت: سؤال أهل العلم من الألفاظ التي سمعها من الإمام(علیه السلام) وليس سؤالاً عن أهل العلم.

أو فقل: ليس السؤال عن أهل العلم بما هم كذلك أهل علم، بل بما هم رواة، فلا تكون الآية شاملة له. فظهر: عدم نفع آية السؤال في

ص: 200


1- كفاية الاُصول: 300.
2- نهاية الدراية 2: 225, و 228.

الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد.

الاستدلال بآية الاُذن:

ومن الآيات التي استدلّ بها - كذلك - على حجّيّة الخبر:

آية الاُذن، قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَي-ُؤْمِنُ لِلْمُؤْم-ِنِينَ﴾ (1).

فإنّ الآية ظاهرة في أنّه تعالى مدح نبيّه- لتصديقه المؤمنين، وقرنه بتصديقه تعالى، ولولا حسنه لما مدحه، وإذا كان حسناً فقد وجب.

قال الشيخ الأعظم! في البحث عن الاستدلال بآية النفر:

«إنّه لا معنى لندب الحذر، إذ مع قيام المقتضي يجب ومع عدمه لا يحسن» (2).وفيه: أنّه إنّما مدحه لأنّه- سريع القطع - كما هو معنى الاُذن والاعتقاد -، وليس له أيّ تأمّل يورثه التشكيك، لا لأنّه- يعمل تعبّداً بما يسمع من دون حصول الاعتقاد بصدق القائل.

فمدحه - إذاً - إنّما هو لحُسْن ظنّه بالمؤمنين وعدم اتّهامهم فوراً، وهذا أجنبيّ عن الأخذ بقول الغير.

والتحقيق: أنّه ليس المراد من الاُذن في الآية سريع الاعتقاد، بل

ص: 201


1- التوبة: الآية 61.
2- فرائد الاُصول 1: 277.

المراد أنّه- يسمع كلام كلّ أحد ويقبله منه، وهو لا يستلزم الاعتقاد؛ فإنّ تسريع الاعتقاد مذموم؛ لأنّه من الصفات البلهاء والسفهاء، فالمراد بتصديقهم إنّما هو تصديقهم فيما ينفعهم ولا يضرّ غيرهم، لا جعل المخبريّة واقعاً، وترتّب جميع آثاره عليه، وإلّا لما كان أُذن خيرٍ لجميع الناس، كما لو أخبره أحد بزنا رجل أو شربه أو ارتداده، فقتله النبي-؛ فإنّه - حينئذٍ - لا يكون اُذن خيرٍ على الإطلاق، حتى بالنسبة إلى المخبر عنه، بل هو شرّ محض بالنسبة إليه، خصوصاً فيما لو كان خبره كاذباً، وإن كان خيراً للمخبر نفسه من حيث متابعته.

فظهر: أنّ مدح النبي- على التصديق في الآية لأجل تأليفه القلوب، لا لترتيبه الأثر، فالتصديق هنا بمعنى التصديق الوارد في الخبر:

«يا محمّد، كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسّامة وقال لك قولاً فصدّقه وكذبهم، لا تذيعنّ عليه شيئاً تشينه» (1).

وأمّا الاستدلال بالسنّة:

فلا يذهب عليك أنّ الأخبار التي يمكن أن يستدلّ بها على حجّيّة خبر الواحد متواترة تواتراً معنويّاً وإن لم تأتي على لفظ واحد.قال! في الكفاية: «إلّا انّه يشكل الاستدلال بها على حجّيّة أخبار

ص: 202


1- الكافي 8: 147, الحديث رقم 125.

الآحاد بأنّها أخبار آحاد؛ فإنّها غير متّفقة على لفظ ولا على معنى، فتكون متواترة لفظاً أو معنى» (1).

وقد أطال الشيخ الأعظم! البحث فيها، فصنّف الروايات إلى أصناف متعدّدة.

فمنها: ما دلّ على إرجاع بعض الرواة إلى بعض أصحابهم ( كإرجاعه إلى زرارة ومحمّد بن مسلم وأبان بن تغلب وأبي بصير وزكريّا بن آدم (2).

ومنها: ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالأعدل والأصدق والمشهور، والتخيير عند التساوي (3).

ومنها: ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء، كرواية الاحتجاج وغيرها (4).

ومنها: ما دلّ على الأمر بحفظ الحديث وكتابته وتداوله (5).

ولا يخفى: أنّ استفادة حجّيّة خبر الواحد من هذه الأخبار محل تأمّل؛ أما ما دلّ على حسن حفظ الحديث وكتابته: فلأنّه من المحتمل قويّاً أن

ص: 203


1- كفاية الاُصول: 302.
2- انظر: وسائل الشيعة 27: 138، 143، 144، 146، 147، الباب 11 من أبواب صفات القاضي, الأحاديث: 4, 19, 23, 27, 33.
3- وسائل الشيعة 27: 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضي, ح 1.
4- وسائل الشيعة 27: 140 الباب 11 من أبواب صفات القاضي, ح 9.
5- وسائل الشيعة 27: 77 - 78، الباب 8 من أبواب صفات القاضي.

يكون الأمر بذلك لأجل ما في الحفظ والكتابة من إبقاء الحقّ وحفظ الأحكام عن الزوال.وأمّا ما ورد في الخبرين: فلأنّها لا تدل على حجّيّة خبر الواحد مطلقا، بل في خصوص صورة المعارضة.

قال المحقّق النائيني!:

«والقدر المتيقّن دلالتها على حجّيّة الخبر الموثوق به صدوراً أو مضموناً كما يدل على الأوّل الترجيح باشتهار الرواية بين الرواة أو وثاقة الراوي وعدالته، فإنّ هذه المرجّحات كلها ترجع إلى اعتبار الخبر الموثوق صدوره، وعلى الثاني الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة» (1).

ولكن يمكن أن يقال: ليس القدر المتيقن هو مطلق الوثوق، بل عدالة الراوي بجميع طبقاته وهو المعبّر عنه عند أرباب الحديث بالصحيح الأعلائي.

فإن قلت: ما ورد في تعابير الإمام(علیه السلام): (خذ بأوثقها)، يدل على كفاية وثاقة الخبر.

قلت: قد يكون المراد منها في تلك التعابير العدالة، لا مطلق من يخبر عن الكذب وإن كان فاسقاً، فإثبات حجّيّة الثقة من هذه الروايات مشكل لولا السيرة والإجماع العمليّ على ذلك في مقام استنباط الأحكام، مع

ص: 204


1- فوائد الاُصول 3: 189, 190.

العلم بعدم كفاية أخبار العدل بجميع طبقاته في استنباط معظم الأحكام.

والحقّ: أنّ المناط في الحجّيّة هي الوثاقة، كما يظهر من بعض الروايات من إرجاع الإمام(علیه السلام) إلى كتب بني فضّال. فتثبت بذلك حجّيّة خبر الواحد، لكن لا مطلقاً، بل في خصوص صورة التعارض.

والعمدة من هذه الأخبار: إرجاعهم( إلى أشخاص معيّنين؛ فإنّه يكشف عن حجّيّة خبر الثقة.ويؤيّده: ما ورد عنهم(: «فإنّه لا عذر لأحدٍ من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقات شيعتنا» (1).

وفيما رواه عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن عليّ بن يقطين جميعاً عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام):

قال: «قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني فقال(علیه السلام): نعم» (2).

ودعوى: أنّ هذه الأخبار أخبار آحاد، فلا يمكن الاستدلال بها على حجّيّة الخبر.

مدفوعة بأنّها متواترة تواتراً إجماليّاً، فإنّها ما إن يُتأمّل فيها حتى يحصل القطع بحجّيّة الخبر الواحد.

ص: 205


1- وسائل الشيعة 27: 149 - 150، الباب 11 من أبواب صفات القاضي, ح 40.
2- وسائل الشيعة 27: 147، الباب 11 من أبواب صفات القاضي, ح 33.
الاستدلال بالإجماع:

وأمّا الإجماع: فعلى قسمين: قوليّ وعمليّ.

أمّا الإجماع القوليّ: فهو عبارة عن اتّفاق أرباب الفتوى على الفتوى بحكم فرعيّ أو اُصوليّ، فيحصل بموجب هذا الاتّفاق القطع برضا الإمام(علیه السلام).

قال الشيخ الطوسي! في العدّة:

«فأمّا ما اخترته من المذهب فهو: أن خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مروياً عن النبي- أو عن واحد من الأئمة(، وكان ممّن لا يطعن في روايته، ويكون سديداً في نقله، ولم تكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر؛ لأنّه إنكانت هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك، كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجباً للعلم - كما تقدّمت القرائن -، جاز العمل به.

والذي يدلّ على ذلك: إجماع الفرقة المحقة، فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في اُصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه» (1).

وقال الشيخ الأعظم!:

«وممّن نقل الإجماع على حجّيّة أخبار الآحاد: السيّد الجليل رضيّ

ص: 206


1- انظر: العدّة 1: 126.

الدين بن طاووس، حيث قال في جملة كلام له يطعن فيه على السيّد!: ولا يكاد تعجّبي ينقضي كيف اشتبه عليه أنّ الشيعة لا تعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعيّة؟

ومن اطّلع على التواريخ والأخبار وشاهد عمل ذوي الاعتبار، وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين، كما ذكر محمّد ابن الحسن الطوسي في كتاب العدة، وغيره من المشغولين بتصفّح أخبار الشيعة وغيرهم من المصنفين» - إلى أن قال: - «وممّن نقل الإجماع أيضاً: العلاّمة في النهاية حيث قال: (إنّ الإخباريّين منهم لم يعوّلوا في اُصول الدين وفروعه إلّا على أخبار الآحاد، والاُصوليّين منهم - كأبي جعفر الطوسيّ وغيره - وافقوا على قبول خبر الواحد، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم). انتهى.

وممّن ادّعاه أيضاً: المحدّث المجلسي! في بعض رسائله، حيث ادّعى (1) تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد» (2).واعترض عليه صاحب الكفاية!: بأنّ فتاوى العلماء في حجّيّة الخبر

ص: 207


1- انظر: بحار الأنوار 86: 232.
2- فرائد الاُصول 1: 332 - 333.

مختلفة من حيث الخصوصيّات المعتبرة في الحجّيّة، ومعه: فلا يمكن استكشاف رضا الإمام(علیه السلام)؛ لعدم اتّفاقهم على أمر واحد.

نعم، لو علم اجتماعهم على حجّيّة الخبر الواحد في الجملة، وأنّ الاختلاف إنّما هو في الخصوصيّات المعتبرة فيها، بحيث يكون القول بحجّيّة الخبر الخاصّ بنحو تعدّد المطلوب، لا وحدته، لتمّ ذلك، ولكن أنّى لهم إثبات ذلك (1)؟!

وأمّا الإجماع العملي: فهو إجماع العلماء بل كافّة المسلمين واتّفاقهم على العمل بخبر الواحد.

والفرق بين الإجماع القوليّ والعمليّ:

أنّ الثاني لا يكون إلّا في المسائل الاُصوليّة، والأوّل يكون فيها وفي الفرعيّة.

واستشكل صاحب الكفاية! على هذا الإجماع - أيضاً - بما حاصله:

إنّه لم يعلم أنّ اتّفاقهم كان من جهة تديّنهم، بل قد يكون من جهة عقلانيّتهم وإن لم يلتزموا بدين؛ فإنّ العلماء يعملون بخبر الثقة مطلقاً ولو لم يكن من أمر دينيّاً.

ص: 208


1- كفاية الاُصول: ص 302, وإليك نصّ كلامه!: «ولا يخفى: مجازفة هذه الدعوى؛ لاختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات, ومعه: لا مجال لتحصيل القطع برضاه(علیه السلام) من تتبّعها, وهكذا حال تتبع الإجماعات المنقولة, اللّهمّ إلّا أن يدعى تواطؤها على الحجّيّة في الجملة, وإنّما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها, ولكن دون إثباته خرط القتاد».
الاستدلال بسيرة العقلاء:

وكيف كان، فمن جملة ما استدلّوا به على حجّيّة خبر الواحد سيرة العقلاء، وهو عمدة الوجوه بل عمدة الأدلّة التي أقيمت على حجّيّة خبر الواحد بعد الأخبار بطوائفها الأربع.

بل الظاهر من شدّة اهتمام صاحب الكفاية! بهذا الوجه أنّه يعتبره عمدة الأدلّة وأهمّها، حتى بالنسبة إلى الأخبار.

قال الشيخ الأعظم! ما هذا لفظه:«الرابع: استقرار طريقة العقلاء طرّاً على الرجوع إلى خبر الثقة في أمورهم العاديّة، ومنها: الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد. فنقول: إنّ الشارع إن اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشرعيّة فهو، وإلّا وجب عليه ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشرعيّة، كما ردع في مواضع خاصة، وحيث لم يردع علم منه رضاه بذلك؛ لأنّ اللّازم في باب الإطاعة والمعصية الأخذ بما يعدّ طاعة في العرف وترك ما يعد معصية كذلك» (1).

وإن شئت فقل: هو عبارة عن استمرار عمل العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم ممّن لا يلتزمون بالدين - سواء كان هذا الاستمرار ممّا عليه طريقتهم في المسائل الاُصوليّة أو الفرعيّة أو لا - إلى زمان الشارع

ص: 209


1- فرائد الاُصول 1: 345, 346.

بحيث يكون هذا الاستمرار على مرأى منه ومسمع، فإذا لم يردع عنها مع تمكّنه منه صحّ - حينئذٍ - الاعتماد عليه والأخذ به.

ومن الواضح: أنّه لم يردع عن مثل هذا الاستمرار، وإلّا، لاشتهر وبان، فيكشف كشفاً قطعيّاً عن رضاهم(.

وبعبارة أُخرى: فلا حاجة في اعتبار طريقة العقلاء إلى إمضاء من الشارع، بل يكفي عدم ردعه عنه، وحيث لم يردع مع تمكّنه منه يكشف عن اعتباره لطريقتهم، وإلّا، لردع عنه، كما ثبت أنّه فعل ذلك تجاه الكثير من بناءات الجاهليّة.

وأمّا ما يمكن أن يقال: من كفاية الآيات الناهية عن العمل بغير علم في الردع، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (1)، وقوله: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلّا ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (2)،فشمول الآيات للسيرة يكشف عن عدم دليليّة السيرة على حجّيّة الخبر الواحد؛

فقد أجاب عنه صاحب الكفاية! بوجوه:

الأوّل: أنّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظنّ في اُصول الدين.

الثاني: أنّ المتيقّن من الآيات الناهية والمنصرف من إطلاقها هو الظنّ الذي لم يقم على اعتباره حجّة.

ص: 210


1- الإسراء: الآية 36.
2- يونس: الآية 36.

الثالث: أنّ رادعيّة الآيات الناهية عن سيرة العقلاء دوريّ؛ ضرورة أنّ الردع عن السيرة بها يتوقّف على عدم تخصيص عمومها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وعدم التخصيص يتوقّف على رادعية الآيات عنها، وإلّا كانت مخصّصة.

ثمّ أورد! على نفسه بما حاصله:

إنّ عدم رادعيّة الآيات عن السيرة أيضاً دوريّ؛ لأنّ عدم رادعيّتها يتوقّف على مخصصيّة السيرة لها، وإلّا كانت الآيات رادعة عنها، ومخصّصيّة السيرة لها تتوقّف على عدم رادعيّتها عنها، وإلّا، لم تكن مخصّصة لها، وهو دور محال.

ثمّ أجاب عنه: بأنّه يكفي في اعتبار خبر الواحد بالسيرة عدم ثبوت الردع عنها، لا عدم الردع واقعاً عنها، وتخصيص السيرة وإن كان دوريّاً، كالردع بالآيات، ولكن يكفي في عدم ثبوت الردع إحراز عدم الردع بالفحص (1).

وأيّاً ما كان، فإنّ من تأمّل في طريقة العقلاء حصل له القطع بخروج خبر الثقة عن عموم العمل بالظنّ، وإن كان في الحقيقة من أفراده، فيكون من العمل بالعلم بالسيرة، وإن كان بلحاظ نفسه عملاً بغير العلم، فلا يكون العمل به عملاً بالظن.

ص: 211


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 303.

ومن هنا نجد: أنّ المحقّق العراقي) قد نفى رادعية الآيات عن السيرة، ببيان أنّ عمل العقلاء بخبر الواحد يرجع إلى إلغاء احتمالالخلاف بنظرهم ورؤيته علماً، فلا تشمله آيات الردع عن غير العلم لخروجه موضوعاً عنها وانصرافها عنه بعد عدم التفات العقلاء إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع.

وكذا اعترف! بعدم صحّة دعوى دوريّة مانعيّة الآيات عن السيرة فيما لو أغمض عن دعوى الانصراف وخروج السيرة موضوعاً عن الآيات الناهية (1).

وقد ادّعى المحقّق النائيني! حكومة السيرة على الآيات، لاعتبار الخبر علماً لدى العقلاء فتترتّب عليه آثاره.

قال): «ومنه يظهر: أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا تشمل خبر الثقة حتى يتوهّم أنّها تكفي للردع عن الطريقة العقلائيّة؛ لأنّ العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم، بل هو من

ص: 212


1- نهاية الأفكار 3: 138, قال! ما لفظه: «والآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم غير صالحة للردع عن بنائهم بعد كون عملهم به من باب تتميم الكشف وكونه من أفراد العلم الموجب لعدم التفاتهم إلى احتمال الخلاف إذ لا يكاد يرون العمل به - حينئذٍ - من باب العمل بغير العلم كي يصلح الآيات للردع عن ذلك, فلابدّ حينئذٍ في فرض عدم رضائه بذلك من ردعهم ببيان آخر. نعم: إنّما تصلح الآيات الناهية للردع إذا لم يكن بناؤهم من باب تتميم الكشف, وأمّا إشكال الدور فقد عرفت الجواب عنه في طيّ أدلة النافين».

أفراد العمل بالعلم؛ لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع، لما قد جرت على ذلك طباعهم واستقرّت عليه عادتهم، فهو خارج عن العمل بالظنّ موضوعاً، فلا تصلح لأن تكون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم رادعةً عن العمل بخبر الثقة، بل الردع عنه يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص، بل لابدّ من تشديد النكير على العمل به، كما شدّد النكير على العمل بالقياس؛ لاشتراك العمل بالقياس مع العمل بخبر الثقة في كونه ممّا استقرّت عليه طريقة العقلاء وطبعت عليه جبلّتهم» (1).

الاستدلال بالعقل:
وأمّا العقل:

فالاستدلال به بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّنا نعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار المشتملة على أحكام شرعيّة، وهذا العلم الإجماليّ منّجز، ونحن مكلّفون بالعمل بما تضمّنته تلك الأخبار، فمقتضى هذا العلم الإجماليّ: لزوم الاحتياط في جميع الأحكام، وهو إمّا غير ممكن أو متعسّر، ولا يمكن العمل بالاُصول العمليّة؛ لمنافاتها للعلم الإجماليّ، فينتج وجوب العمل بمظنون الصدور.

ص: 213


1- فوائد الاُصول 3: 195.

وقد اعترض العلّامة الأنصاري! على هذا الوجه باعتراضات ثلاثة:

الاعتراض الأوّل:

أنّ وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنّما هو لأجل وجوب امتثال أحكام اﷲ الواقعيّة المدلول عليها بتلك الأخبار، فالعمل بالخبر الصادر عن الإمام(علیه السلام) إنّما يجب من حيث كشفه عن حكم اﷲ الواقعيّ لا من حيث هو خبر.

فالعلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار يرجع في الواقع إلى وجود تكاليف واقعيّة، ولا تنحصر أطرافه بما بين أيدينا من الأخبار، بل تشمل الأمارات الظنيّة كالشهرة والإجماع المنقول والأولويّة الظنيّة. وحينئذٍ: مقتضى هذا العلم الإجمالي: إمّا الاحتياط إن أمكن، أو العمل بكل ما حصل من التعبّد بالظنّ بالحكم الشرعيّ - خبراً كان أم غير خبر -، فلا اختصاص له في إثبات حجّيّة الخبر.

ثمّ تعرّض! إلى نفي دعوى انحلال العلم الإجماليّ الكبير - الذي تكون أطرافه مطلق الأمارات الظنّيّة - بالعلم الإجماليّ الصغير الذي تكون أطرافه خصوص الأخبار فقط؛ وذلك لأنّ هذا الانحلال إنّما يتصوّر فيما إذا لم يبق العلم الإجماليّ الكبير لو فرض عزل المقدار المعلوم بالإجمال عن أطراف العلم الإجماليّ الصغير.أمّا إذا فرض بقاء العلم الإجماليّ بين الباقي من أطراف العلم

ص: 214

الإجماليّ الصغير وبين سائر أطراف العلم الإجماليّ الكبير: فلا يكون العلم الإجماليّ الصغير موثّراً في انحلال العلم الإجماليّ الكبير، فيكون الكبير منجّزاً.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّه لو عزلنا من الأخبار طائفة بمقدار معلوم صدوره من الأخبار، وكان هناك علم إجماليّ بوجود أحكام واقعيّة بين باقي الأخبار وسائر الأمارات الظنيّة كما يشهد به الوجدان؛ إذ لا يمكن لأحد إنكار عدم مطابقة جميع هذه الأطراف للواقع، فلا ينحلّ العلم الإجماليّ الكبير بالصغير، فيكون منجّزاً، وحينئذٍ: يجب العمل بكلّ مظنونٍ من الأخبار، فلو كان العلم الإجماليّ مختصّاً بالأخبار فقط، لانحلّ العلم الإجماليّ بمجرّد عزل مقدارٍ منه بمقدار المعلوم بالإجمال فيه، وإن انضمّ إلى الباقي.

الاعتراض الثاني:

أنّ اللّازم من هذا العلم الإجماليّ هو العمل بالخبر الذي يظنّ بمضمونه، لا العمل بالظنّ في صدور تلك الأخبار؛ وذلك لما عرفت من أنّ العمل بالخبر الصادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم اﷲ الذي يجب العمل به، فحينئذٍ: كلّما ظنّ بمضمون الخبر ولو من جهة الشهرة على طبقه أُخِذ به ولو لم يكن مظنون الصدور. وكلّ خبر لم يحصل الظنّ بكون مضمونه حكم اﷲ تعالى لا يؤخذ به وإن كان مظنون الصدور، فالمناط فيه هو الظنّ، لا الصدور.

ص: 215

الاعتراض الثالث:

أنّ هذا الدليل يقتضي وجوب العمل بالخبر المثبت للتكليف دون الخبر النافي له، ومقتضى العمل به يكون من باب الاحتياط، فلا تثبت به حجّيّة الأخبار بنحو تصلح لصرف ظواهر الكتاب والسنّة القطعيّة، مع أنّ المقصود في حجّيّة الخبر هو إثبات كونه دليلاً متّبعاً في قبالالاُصول اللفظيّة والعمليّة، من غير فرق بين أن يكون مثبتاً للتكليف أو نافياً له كذلك (1).

أمّا صاحب الكفاية! فقد نقل هذا الوجه بنحوٍ لا يرد عليه الاعتراضان الأوّلان من اعتراضات الشيخ!.

فظهر بذلك: أنّ ورود الاعتراض الثالث عنده ممّا لا محيص عنه؛ فإنّه لما كان هناك علمان إجماليّان: علم إجماليّ صغير في خصوص الأخبار، وآخر إجماليّ كبير موجود في مجموع ما في أيدينا من الأخبار وسائر الأمارات؛ كان لابدّ من مراعاة العلم الإجماليّ الكبير، والنتيجة حينئذٍ: حجّيّة كلّ أمارة وإن لم تكن خبراً؛ وقد قرّبه! بما لفظه:

«إنّه يعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار من الأئمة الأطهار( بمقدار وافٍ بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لانحل علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة

ص: 216


1- انظر: فرائد الاُصول 1: 358 - 360.

تفصيلاً، والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات الغير المعتبرة» (1).

وذلك بعد التتبّع في أحوال الرواة المذكورة في تراجمهم والتأمّل في كيفيّة اهتمام أرباب الكتب من المشايخ الثلاثة ومن تقدمهم في تنقيح ما أودعوه في كتبهم، إلى غير ذلك ممّا ذكر عند الاستدلال بهذا الوجه.

فظهر: أنّه بعد انحلال العلم الإجماليّ الكبير قهراً إلى العلم الإجماليّ الصغير في خصوص الأخبار، يجب: إمّا الاحتياط، أو التنزّل إلى الظن في خصوص الأخبار المثبتة، وأمّا النافي منها: فإن كان على خلافهأصل يثبت التكليف لم يجز العمل به، بل يلزم الرجوع إلى الأصل، وإن لم يكن على خلافه أصل مثبت للتكليف جاز العمل به.

الوجه الثاني: ما نسب إلى صاحب الوافية! مستدلاً به على حجّيّة الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة، كالكتب الأربعة، مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر، وهو:

«أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيّما بالاُصول الضروريّة، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر الغير القطعي،

ص: 217


1- كفاية الاُصول: ص 304, 305.

بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد، ومن أنكر فإنّما ينكره باللّسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان» (1).

وأورد عليه الشيخ! ما نصّه:

«إنّ العلم الإجماليّ حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، ومجرّد وجود العلم الإجماليّ في تلك الطائفة الخاصّة لا يوجب خروج غيرها عن أطراف العلم الإجماليّ، كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل؛ وإلّا لما أمكن إخراج بعض هذه الطائفة الخاصّة ودعوى العلم الإجماليّ في الباقي، كأخبار العدول مثلاً، فاللّازم حينئذٍ: إمّا الاحتياط والعمل بكل خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته، وإمّا العمل بكل خبر ظُنّ بصدوره ممّا دلّ على الجزئيّة أو الشرطيّة» (2).

وأجاب عنه صاحب الكفاية!:

بأنّ العلم الإجماليّ وإن كان حاصلاً في بادئ الأمر بين جميع الأخبار، ولكن لمّا كان العلم الإجماليّ الصادر هو بقدر الكفاية بين تلكالأخبار المشروطة بما ذكره صاحب الوافية)، كان انحلال العلم الإجمالي الكبير الموجود في جميع الأخبار منحصراً بالعلم الإجمالي

ص: 218


1- الوافية: ص 159.
2- فرائد الاُصول 1: 361, 362.

الصغير المختص بالأخبار المشروطة التي ذكرها صاحب الوافية!، فيجب حينئذ الاحتياط في المجموع، إلّا أن يمنع عن ذلك، ويدّعى عدم الكفاية فيما علم بصدوره في تلك الكتب (1).

الوجه الثالث: ما ذكره صاحب الحاشية)، وحاصله:

أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة ثابت بالإجماع، وهذه التكاليف باقية إلى يوم القيامة بالأدلّة المذكورة، وحينئذٍ: فإن أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بالحكم الواقعيّ تعيّن ذلك، وإلّا، فالمتّبع من الرجوع إلى الظنّ بالصدور أو الاعتبار هو قول المعصوم(علیه السلام) وفعله وتقريره، فلزوم الرجوع إليه غير مختصّ بما إذا ثبت بالخبر، بل يجب بكلّ ما ثبت: خبراً كان أو غيره.

وإليك نصّ كلامه):

«السادس: إنّه قد دلّت الأخبار القطعيّة والإجماع المعلوم من الشيعة على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة، بل ذلك ممّا اتّفقت عليه الاُمّة،

ص: 219


1- كفاية الاُصول: ص 306، ونصّ كلامه) كالتالي: «قلت: يمكن أن يقال: إنّ العلم الإجماليّ، وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار، إلّا أنّ العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم( بقدر الكفاية بين تلك الطائفة، أو العلم باعتبار طائفة كذلك بينها، يوجب انحلال ذلك العلم الإجماليّ، وصيرورة غيرها خارجةً عن طرف العلم، كما مرّت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأوّل، اللّهمّ إلّا أن يمنع عن ذلك، وادّعي عدم الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره، أو ادّعي العلم بصدور أخبارٍ أُخر بين غيرها، فتأمّل».

وإن وقع الخلاف بين الخاصّة والعامّة في موضوع السنّة، وذلك ممّا لا ربط له بالمقام، وحينئذٍ نقول: إن أمكن حصول العلم بالحكم الواقعيّ من الرجوع إليهما في الغالب، تعيّن الرجوع إليهما على الوجه المذكور، حملاً لما دلّ على الرجوع إليهما على ذلك، وإن لم يحصل ذلك بحسب الغالب وكان هناك طريق في كيفيّة الرجوع إليهما تعيّن الأخذ به، وكان بمنزلة الوجه الأوّل.

وإن انسدّ سبيل العلم به - أيضاً - وكان هناك طريق ظنّيّ في كيفيّة الرجوع إليهما لزم الانتقال إليه والأخذ بمقتضاه، وإن لم يفد الظنّبالواقع، تنزّلاً من العلم إلى الظنّ مع عدم المناص عن العمل، وإلّا، لزم الأخذ بهما والرجوع إليهما على وجهٍ يظنّ منهما بالحكم على أيّ وجهٍ كان، لما عرفت من وجوب الرجوع إليهما - حينئذٍ - فيتنزّل إلى الظنّ.

وحيث لا يظهر ترجيح لبعض الظنون المتعلّقة بذلك على بعض، يكون مطلق الظنّ المتعلّق بهما حجّةً، فيكون المتّبع - حينئذٍ - هو الرجوع إليهما على وجهٍ يحصل الظنّ منهما» (1).

وحينئذٍ: إذا لم يحصل به العلم تعيّن الرجوع إلى كلّما يحصل به الظن من خبر وغيره، وإن كان المراد به الأخبار الحاكية عن

ص: 220


1- هداية المسترشدين 3: 374.

قول المعصوم (علیه السلام) أو فعله أو تقريره فهو - مضافاً إلى كونه خلاف الاصطلاح - راجع إلى القول الأوّل بلزوم الرجوع إلى الأخبار، وإن لم يحصل الظنّ منها برأي المعصوم، فإذا كان منشؤه العلم الإجماليّ بمطابقة بعضها للأحكام الواقعيّة رجع هذا الوجه إلى دليل الانسداد (1).

وخلاصة تلك المناقشة: أنّ هذا الوجه ليس دليلاً برأسه؛ لأنّه على تقديرٍ يرجع إلى القول الأول، وعلى آخر يرجع إلى دليل الانسداد.

وأجاب عنه صاحب الكفاية بما هذا نصّه:

«إنّ ملاكه إنّما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه» (2).

فلا يكون هذا الوجه من القول الأوّل، ولا من دليل الانسداد بشيء.

ص: 221


1- انظر: فرائد الاُصول 1: 363 - 364.
2- كفاية الاُصول: ص 307.

ص: 222

في حجّيّة مطلق الظنّ

اشارة

وأدلّته أربعة:

الدليل الأوّل:

وحاصله: أنّ الظنّ بالحكم يلازم الظنّ بالضرر على مخالفته، ودفع الضرر المظنون لازم عقلاً، يعني: أنّ العقل ممّا يستقلّ بلزوم دفع الضرر المظنون، بل الضرر المشكوك والموهوم كذلك إذا كان الضرر المحتمل من سنخ العقاب الأخرويّ.

فها هنا صغرى وكبرى:

أمّا الصغرى: فلأنّ مخالفة التكليف تستلزم العقوبة، كما تستلزم الوقوع في المفسدة بناءً على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، فالظنّ بالتكليف ملازم للظنّ بالعقوبة والمفسدة في مخالفته.

وأمّا الكبرى: فلحكم العقل بدفع الضرر المظنون، وحكمه

ص: 223

بذلك لا يستند إلى حكمه بالحسن والقبح، بل مع إنكار التحسين والتقبيح العقليّين يلتزم بثبوت لزوم دفع الضرر المظنون؛ إذ لا ينكر الأشعريّ المنكر لهما عدم إقدام العاقل على مظنون الضرر، خلافاً للحاجبيّ ومن تبعه، على ما نسب إليه من منع الكبرى، وأنّ دفع الضرر المظنون بناءً على القول بالتحسين والتقبيح العقليّين مستحسن وليس واجباً.

واعترض عليه صاحب الكفاية) بما حاصله:أنّ ملاك حكم العقل غير منحصر بالتحسين والتقبيح كي يبتني استقلاله بدفع الضرر المظنون على القول بهما، واستشهد لذلك بأنّ كافّة العقلاء مع اختلافهم في التحسين والتقبيح سواء في إيجابهم دفع الضرر المظنون (1).

الدليل الثاني:

وحاصله: أنّه لو لم يؤخذ بالظنّ للزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح.

ص: 224


1- كفاية الاُصول: 308, قال! ما هذا لفظه: «وأمّا الكبرى: فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون, ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح, لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما, بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح, مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه إذا قيل باستقلاله, ولذا أطبق العقلاء عليه, مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح, فتدبر جيداً».

فإن قلت: العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان.

قلت: حكمه كذلك ليس على نحو الإطلاق، بل إنّما هو في خصوص ما إذا فحص المكلّف عن مراد المولى ولم يعثر عليه، فيقبح - حينئذٍ - عقابه، من غير فرق بين ما إذا كان للمولى مراد في الواقع أو لم يكن؛ ضرورة أنّ المراد من البيان في قاعدة قبح العقاب إنّما هو البيان الواصل إلى العبد، لا البيان الواقعيّ، فليس للبيان الواقعيّ أثر، ولا يكون سبباً لتحرّك العضلات ما لم يصل إلى العبد.

ثمّ إنّ كون المراد من البيان ما هو أعمّ من الحكم الواقعيّ والبيان الواصل إنّما يصحّ فيما لو كانت قاعدة قبح العقاب بلا بيان مستفادة من دليل لفظيّ؛ فإنّه - إذ ذاك - يمكن أن يحكم بإطلاقها؛ لإطلاق دليلها، ولكنّها ليست كذلك، بل هي حكم عقليّ.

نعم، إذا عمل العبد بوظيفته من الفحص والسؤال ولم يعثر على مراد المولى، يقبح عقابه، من غير فرق بين ما إذا كان القصور من جانب المولى لكونه قد أخلّ بوظيفته ولم يبيّن مراده بأيّ طريق يمكن أن يصلإلى العبد، أو كان المولى قد بيّن مراده ولكن لم يصل إلى العبد لأجل تقصير الوسائط في إيصال مراده إليه.

وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل إنّما يكون في موردين:

الأوّل: مورد العلم الإجماليّ.

والثاني: في الشبهات البدويّة قبل الفحص، أي: إذا لم يعمل العبد

ص: 225

بوظيفته من الفحص والسؤال.

ومنع صاحب الكفاية! من وقوع الصغرى ببيان أنّ الظنّ بالتكليف لا يستلزم الظنّ بالضرر (1).

وأجاب عنه الشيخ! بما لفظه: «وربما يجاب عنه: بمنع قبح ترجيح المرجوح على الراجح، إذ المرجوح قد يوافق الاحتياط، فالأخذ به حسن عقلاً» (2).

ثمّ أورد! على الجواب المذكور بما حاصله:

أنّ العمل بالمرجوح المطابق للاحتياط يكون جمعاً بين الراجح والمرجوح، لا ترجيحاً للمرجوح على الراجح، فإذا ظنّ بعدم وجوب شيء، فإنّ الإتيان به احتياطاً لا يكون أخذاً بالوهم وطرحاً للظنّ حتى يكون من باب ترجيح المرجوح على الراجح، بل هو جمع بينهما.

الدليل الثالث:

ما عن الطباطبائي!، من أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك هو وجوب الاحتياط التامّ بالإتيان

ص: 226


1- نفس المصدر السابق, وهاك نص كلامه!: «والصواب في الجواب هو منع الصغرى, أمّا العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته؛ لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته, وإنّما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها, لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها».
2- فرائد الاُصول 1: 380.

بكلّ ما يحتمل الوجوب، ولو موهوماً، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك، ولكنّ مقتضى قاعدة نفي العسر والحرج عدم وجوبالاحتياط، فيقتصر على الاحتياط في المظنونات فقط دون المشكوكات والموهومات؛ لئلّا يلزم الإتيان بالعسر الأكيد والحرج الشديد، على أنّ الجمع بين القاعدتين على غير هذا الوجه يكون باطلاً بالإجماع (1).

ولكن فيه: أنّه انسداد ناقص، فلابدّ من ضم مقدّمات اُخرى إليه، كانسداد باب العلم والعلميّ، وعدم جواز الرجوع إلى الاُصول العمليّة والتقليد؛ وإلّا لم يكن منتجاً.

ولكن مع ضمّها لا يكون دليلاً برأسه، بل يرجع إلى دليل الانسداد التالي، كما قال صاحب الكفاية:

«ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد، فإنّه بعض مقدّمات دليل الانسداد، ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدّماته، ومعه لا يكون دليل آخر، بل ذاك الدليل» (2).

الدليل الرابع: دليل الانسداد.

وهنا اُمور لابدّ من بيانها:

الأوّل: أنّ الإطاعة العمليّة هي التمكّن من الإتيان بكلّ واجب واقعيّ

ص: 227


1- انظر: فرائد الاُصول 1: 382، مع اختلاف بينها وبين عبارة الفرائد.
2- كفاية الاُصول: ص 311.

وترك كلّ حرام واقعيّ.

الثاني: أنّ الإطاعة العلميّة الإجماليّة هي الاحتياط التامّ في المشتبهات بإتيان كلّ ما ظنّ أو شك أو وهم وجوبه، وترك كلّ ما ظنّ أو شكّ أو وهم حرمته.

الثالث: أنّ الإطاعة الظنّيّة هي الإتيان بكل ما ظنّ وجوبه وترك كلّ ما ظنّ حرمته من بين المشتبهات، في قبال الإطاعة الشكّيّة والوهميّة.هذا. ولا يخفى: أنّه مع العلم بوجوب الواجبات أو ترك المحرّمات أو العلميّ كذلك، لا تصل النوبة إلى العمل بالظنّ، كما لا يخفى: أنّ الاحتياط التامّ - وهو العمل بكلٍّ من المظنونات والمشكوكات - يوجب الإخلال بالنظام أو العسر والحرج.

وكذا العمل بالمشكوكات والموهومات وترك المظنونات، فإنّه من باب ترجيح المرجوح على الراجح، وهو كما ترى.

الرابع: أنّ الانسداد تارةً يكون بمعنى الكشف، وأُخرى بمعنى الحكومة.

فعلى الأوّل: مقتضى مقدّمات الانسداد هو استكشاف كون الظنّ طريقاً منصوباً من قبل الشارع، فحاله حال الظنون الخاصّة الوافية بمعظم الأحكام عند الانفتاحيّ.

وعلى الثاني: يحكم العقل بعد تماميّة مقدّماته بحجّيّة الظنّ في حال

ص: 228

الانسداد كاستقلاله بحجّيّة العقل في حال الانفتاح.

وقد ذهب في الكفاية إلى أنّ دليل الانسداد مؤلّف من مقدّمات خمس، إذا تمّت يستقلّ العقل بكفاية الإطاعة الظنّيّة حكومة أو كشفاً، وإلّا، فلا. وهذه المقدّمات هي:

الاُولى: أنّا نعلم بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في مجموع المشتبهات، وهذه التكاليف فعليّة في الشريعة.

الثانية: أنّه قد انسدّ باب العلم والعلمي، أي: الظنّ الذي قام الدليل القطعيّ على اعتباره وثبتت حجيّته بالعلم واليقين، ويعبّر عنه بالظنّ الخاص.

الثالثة: أنّه لا يجوز إهمال تلك الأحكام وعدم التعرّض لامتثالها أصلاً، والاكتفاء في الإطاعة بالتكاليف المعلومة بالتفصيل، و بالظنّ الخاصّ القائم مقام العلم.

الرابعة: أنّه لا يجب الاحتياط في أطراف هذا العلم، بل لا يجوز في الجملة؛ ضرورة أنّه موجب للعسر أو الإخلال بالنظام، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة، ولا إلى مجتهد آخر انفتاحيّ.الخامسة: أنّ ترجيح المرجوح على الراجح قبيح، فإذا دار الأمر في مقام امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال بين الأنحاء الثلاثة من الظنّ والشكّ والوهم، تعيّن الامتثال الظنّيّ؛ لرجحانه على الشكّيّ والوهمي.

ص: 229

هذا هو مختار صاحب الكفاية« (1).

وأمّا المحقّق النائيني! فهو قد أسقط مقدّميّة وجود العلم الإجماليّ بثبوت التكاليف الفعلية في الشريعة، فجعل المقدّمات أربعاً تبعاً للشيخ الأعظم!، فقال:

«وعلى كلّ حال: دليل الانسداد يتألّف من مقدّمات أربع. وقيل: إنّها خمس، بجعل العلم بالتكاليف من جملة المقدّمات، والشيخ! أسقط هذه المقدّمة نظراً إلى أنّ المراد من العلم بثبوت التكاليف، إن كان هو العلم بثبوت الشريعة وعدم نسخ أحكامها فهذا من البديهيات التي لا ينبغي عدّها من المقدّمات، فإنّ العلم بذلك كالعلم بأصل وجود الشارع.

وإن كان المراد من العلم بثبوت التكاليف العلم الإجماليّ بثبوتها في الوقايع المشتبهة التي لا يجوز إهمالها، فهو أيضاً ليس من مقدّمات دليل الانسداد، بل هو من أحد الوجوه الثلاثة التي تبتني عليها المقدّمة الثانية،

ص: 230


1- كفاية الاُصول: ص 311, قال!: «وهي: خمس: أولها: أنّه يعلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة. ثانيها: أنّه قد انسدّ علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها. ثالثها: أنّه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلاً. رابعها: أنّه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا, بل لا يجوز في الجملة, كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة, من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط, ولا إلى فتوى العالم بحكمها. خامسها: أنّه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحاً».

فالاُولى الاقتصار على ما ذكره الشيخ! من المقدّمات الأربع» (1).

واستشكل المحقّق الأصفهاني! في حذف هذه المقدّمة من قبل الشيخ! بأنّ إسقاط هذه المقدّمة «إن كان لأجل عدم المقدّميّة، فمن الواضح أنّهلولاها لم يكن مجال للمقدّمات الأخر إلّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وإن كان لوضوح هذه المقدّمة لدلالة سائر المقدّمات عليها، فمن الواضح أنّ وضوحها لا يوجب عدم مقدّميتها ولا الاستغناء بذكر الباقي عن ذكرها، وإلّا كان بعضها الآخر كذلك، بل بعضها أوضح» (2).

ولا يخفى: أنّ هذا النزاع بينهم لفظيّ؛ فإنّ دخالة العلم الإجماليّ بوجود الأحكام وتأثيره في تماميّة الدليل ممّا لا ينكره أحد، وإنما وقع الخلاف في أنّه هل هو مقدّمة برأسه، أم هو يستفاد من طيّ الكلام؟

وذهب المحقّق العراقي! إلى أنّ أخذ العلم الإجماليّ في جملة المقدّمات ينتج ما لا ينتجه الغضّ عنه وإهماله من المقدّمات، حيث ذهب إلى أنّه إذا فرض أخذ العلم الإجماليّ كانت النتيجة هي التبعيض

ص: 231


1- فوائد الاُصول 3: 226.
2- نهاية الدراية 2: 256.

في الاحتياط، لا حجّيّة الظنّ - حكومةً أو كشفاً -، وهذا بخلاف ما إذا لم يؤخذ العلم الإجماليّ في المقدّمات، فإنّ النتيجة - حينئذٍ - هي حجّيّة الظنّ، لا التبعيض في الاحتياط.

وملخّص ما ذكره! في بيان عدم إمكان الانتهاء إلى حجّيّة الظنّ لو أخذ العلم الإجماليّ بالتكليف في جملة المقدّمات، هو أنّه لو كانت النتيجة هي حجّيّة الظنّ لزم الوقوع في محذورين:

الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ منجّز لأطرافه، فقيام الحجّة على بعض أطرافه محال؛ وذلك لاستلزامه تنجّز المنجّز، مع أنّ المتنجّز لا يتنجّز ثانياً، فلا يمكن أن يكون الظنّ حجّة في أطراف العلم الإجماليّ.

الثاني: أنّ الظنّ إذا كان حجّةً كان مستلزماً لانحلال العلم الإجماليّ وارتفاعه، وهو منافٍ لفرض كونه مقدّمة لحجّيّة الظنّ، كما لا يخفى (1).وأمّا الاستدلال على تلك المقدّمات:

فأمّا المقدّمة الاُولى: فهي بالنسبة إلى باب العلم الوجدانيّ مسلّمة لا كلام فيها؛ وذلك لأنّ ما يوجب العلم الوجدانيّ التفصيليّ بالحكم من الخبر النصّ المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعيّة من جهة الظهور والصدور مع سائر ما يتوقّف عليه الاستنباط، لا يفي إلّا بقليل قليلٍ من الأحكام.

ص: 232


1- نهاية الأفكار 3: 146.

وأمّا بالنسبة إلى باب العلميّ فالمحقّق النائيني! على أنّه:

«للمنع عنه مجال واسع، فإنّ ما تقدّم من الأدلّة الدالة على حجّيّة الخبر الموثوق به ظهوراً وصدوراً - سواء حصل الوثوق به من وثاقة الراوي أو من سائر الأمارات الأخر - ممّا لا سبيل إلى الخدشة فيه، بل ينبغي عدّها من الأدلّة القطعيّة؛ ومعها لا يبقى مجال لدعوى انسداد باب العلميّ في معظم الفقه؛ لأنّ الخبر الموثوق به (بحمد اﷲ) وافٍ بمعظم الأحكام، بحيث لم يلزم من الرجوع إلى الاُصول العمليّة في الشبهات التي لم يكن على طبقها خبر موثوق به محذورُ الخروج من الدين أو مخالفة العلم الإجماليّ وغير ذلك» (1).

وقال صاحب الكفاية ما هذا لفظه:

«أمّا المقدّمة الاُولى: فهي وإن كانت بديهيّة إلّا أنّه قد عرفت انحلال العلم الإجماليّ بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين( التي تكون فيما بأيدينا، من الروايات في الكتب المعتبرة، ومعه لا موجب للاحتياط إلّا في خصوص ما في الروايات» (2).

ومن الواضح: أنّ الاحتياط في موردها بمعنى الأخذ بكلّ خبر منها دلّ على التكليف من الوجوب أو الحرمة ممّا لا يستلزم العسر والحرج، فضلاً عن الاختلال.

ص: 233


1- فوائد الاُصول 3: 228, 229.
2- كفاية الاُصول: ص 312.

وأمّا المقدّمة الثانية: فهي من أهمّ مقدّمات الانسداد، حتى ادّعى البعض أنّها كافية لوحدها لإثبات حجّيّة الظنّ المطلق بلا حاجة إلى سائر المقدّمات، كما ادّعى أيضاً أنّها ضروريّة.

واستدلّوا عليها بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: دعوى الإجماع القطعيّ على عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة، وكذا عدم جواز الرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في جميع الموارد المشتبهة، وهذا الإجماع يصلح لأن يكون مدركاً مستقلّاً في مقام الدليل على الخروج من الدين.

ودعوى: أنّ هذا الإجماع ليس محصلاً؛ لأنّ المسألة لم تكن تكون مدوّنة عند العلماء أجمع.

مدفوعة بما أفاده المحقّق النائيني! من «أنّه يكفي الإجماع التقديري، فإنّه ربّ مسألة لم يقع البحث عنها فى كلمات الأصحاب، إلّا أنّه ممّا يعلم إجماعهم واتفاقهم عليها، فإنّه لا يكاد يمكن إسناد جواز الاعتماد على أصالة العدم وطرح جميع الأحكام في الوقائع المشتبهة إلى أحد من أصاغر الطلبة فضلاً عن أرباب الفتوى» (1).

الوجه الثاني: أنّه يلزم من الرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في الوقائع المشتبهة الخروج عن الدين؛ لقلّة الأحكام المعلومة بالتفصيل،

ص: 234


1- فوائد الاُصول 3: 231.

فالاقتصار عليها وترك التعرض للوقائع المشتبهة غير تامّ؛ لاستلزامها المخالفة الكثيرة القطعيّة.

الوجه الثالث: العلم الإجماليّ بثبوت التكاليف الوجوبيّة والتحريميّة في الوقائع المشتبهة، والعلم الإجماليّ - كالعلم التفصيليّ - يقتضي وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة، فهذه الصورة غير مشمولة لأدلّة البراءة.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه هو: أنّ الثاني مبنيّ على لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة، وهو المعبّر عنه ﺑ (الخروج من الدين)، وأمّا هذاالوجه، فهو يستند إلى منجّزيّة العلم الإجماليّ وعدم جواز جريان الاُصول النافية في أطرافه.

وهل تختلف النتيجة من حيث الكشف والحكومة بالنسبة إلى الوجوه الثلاثة أم لا؟ الظاهر ذلك.

فإن كان المدرك والمستند بالنسبة إلى عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة وعدم جواز الرجوع إلى الاُصول العمليّة هو الوجه الأوّل والثاني، فالنتيجة هي الكشف؛ وذلك لأنّه لمّا كان مآل الإجماع إلى لزوم الخروج من الدين، وأراد الشارع المقدّس من العباد التعرّض للوقائع المشتبهة ولم يرخّصهم بإهمالها: يحكم العقل حينئذٍ - بالضرورة - بأنّ للشارع أن ينصب طريقاً للمكلّفين يمكّنهم من امتثال تلك التكاليف في دائرة الوقائع المشتبهة، ولابدّ أن يكون ذلك الطريق واصلاً إليه: إمّا

ص: 235

بنفسه، أو بطريقه، والطريق الذي يصحّ جعله في حال انسداد باب العلم والعلميّ إنّما هو الاحتياط ليس غير.

وحال هذا المورد - هو بعينه - حال الدماء والفروج، فكما أنّ الاحتياط يكون مجعولاً فيها من قبل الشارع فهنا كذلك.

فظهر: أنّ هذا الاحتياط شرعيّ لا عقليّ؛ ضرورة أنّ الاحتياط العقليّ هو ما يحكم به العقل، فيكون في أطراف العلم الإجماليّ.

وعُلم ممّا ذكرناه: أنّه إذا كان المدرك هو الإجماع أو الخروج من الدين، كان الاحتياط طريقاً مجعولاً من قبل الشارع؛ لأنّه لا طريق واصل إلى العباد غيره.

نعم، إذا فرض استلزام الاحتياط للعسر والحرج، وأنّ الشارع لم ينصب الاحتياط طريقاً، تكون النتيجة هي حجّيّة الظنّ طريقاً شرعيّاً.

وأمّا إذا كان المدرك هوالعلم الإجماليّ فالنتيجة هي العقل.

وأمّا المقدّمة الثالثة: فقد عرفت فيها أنّ الرجوع إلى الطرق المقرّرة للجاهل من التقليد - أي: الرجوع إلى فتوى غير العالم بالحكم - غير جائز.وكذا لا يجوز الرجوع في كلّ شبهة إلى الأصل الجاري فيها، من البراءة والاشتغال والاستصحاب والتخيير.

كما لا يمكن - أيضاً - الاحتياط في الوقائع كلّها بالجمع بين المحتملات، فإنّهما من الطرق المقرّرة للجاهل كالتقليد.

ص: 236

وها هنا لابدّ من بيان بطلان هذه الطرق الثلاثة، فنقول:

أمّا بطلان التقليد: فلا يخفى: أنّ التقليد إنّما يكون جائزاً فيما لو لم يكن الشخص معتقداً ببطلان المدرك الذي استند إليه العالم، ومن هنا لم يجز للمجتهد أن يقلّد مجتهداً آخر، وإلّا، كان من باب رجوع العالم إلى الجاهل. وفي محلّ بحثنا، فمن يرى انسداد باب العلم والعلميّ فلا يجوز له الرجوع إلى من يرى انفتاح بابيهما؛ فإنّ القول بحجّيّة ظواهر الكتاب من جهة الصدور والظهور عند من يرى ذلك لا يفيد من يرى انسداد البابين المذكورين شيئاً، ومعه: فكيف يجوز له الرجوع إلى غير القائل بالانفتاح؟

وأمّا بطلان الرجوع إلى الاُصول: فله صورتان؛ لأنّ هذه الاُصول تارة تكون من قبيل الاُصول العدميّة النافية، واُخرى من قبيل الاُصول المثبتة.

أمّا الصورة الاُولى: فيلزم من إعمالها المخالفة القطعيّة للعلم الإجماليّ بثبوت التكليف في موردها، وقد قلنا: إنّ العلم الإجماليّ هو كالعلم التفصيليّ بلحاظ تنجّز التكليف.

وأمّا بالنسبة إلى الاُصول الوجوديّة المثبتة للتكليف، كما في الاحتياط والاستصحاب - إذا كانت المسألة من أطراف العلم الإجماليّ في الأوّل، ولم تكن كذلك في الثاني -: فالرجوع إليها إنّما كان باطلاً لما يلزم من إعمالها من العسر والحرج المنفيّين لكثرة المشتبهات.

ص: 237

وقد منعه صاحب الكفاية! بما حاصله:

أنّ الاحتياط التامّ في أطراف العلم الإجماليّ إذا كان عسره بمقدار يصل إلى الإخلال بالنظام، فهذا غير واجب بلا كلام، بل هو ممنوع. وأمّا إذا كان دون ذلك، بأن كان الاحتياط ممّا يوجب العسر فقط بلاإخلال بالنظام، فعدم وجوبه محلّ نظر، بل منع؛ نظراً إلى أنّ أدلّة الحرج، وهكذا أدلّة الضرر، وإن كانت حاكمةً على أدلّة التكليف والوضع، ورافعةً لهما إذا كانا حرجيّين أو ضرريّين، وموجبة لحصرهما بما إذا لم يلزم منهما حرج أو ضرر، ولكنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان نفس متعلّق التكليف حرجيّاً أوضرريّاً، كالوضوء والغسل بالماء في البرد الشديد.

وأمّا إذا لم يكن متعلّق التكليف بنفسه حرجيّاً، بل كان في كمال السهولة، وإنّما الحرج والعسر يأتيان من جهة الجمع بين محتملات التكليف والاحتياط، كما إذا تردّد الماء المطلق للوضوء بين ألف إناء.

فمذهب الآخوند! أنّ أدلّة الحرج ليست حاكمةً على أدلّة الاحتياط؛ ضرورة أنّ العسر هنا مسبّب عن حكم العقل، من جهة الجمع بين المحتملات بعد العلم الإجماليّ بالتكليف، وليس لازماً من جهة التكليف الشرعيّ لكي يُصار إلى رفعه بالحرج والضرر.

نعم، لو كان الاحتياط من جهة الحكم الشرعيّ ولكثرة الأطراف، أمكن - حينئذٍ - أن يقال بسقوطه؛ لأدلّة العسر؛ لأنّ العسر ينشأ حينئذٍ من التكاليف المجهولة، فيرفعها دليل نفي الحرج، ومعه: فلا يبقى مجال

ص: 238

أصلاً لقاعدة الاحتياط (1).

وأمّا ما ذكره! من دعوى انحلال العلم الإجماليّ بالأحكام الثابتة في الشريعة ببركة جريان الاُصول المثبتة، ثمّ أورد عليه بأنّ العلمالإجماليّ إذا انحلّ ولم يكن منجّزاً، لم تصحّ المؤاخذة على مخالفته؛ لأنّ العقاب حينئذ يكون عقاباً بلا بيان، والمؤاخذة عليه بلا برهان (2).

فقد ردّه المحقّق النائيني! بما لفظه:

«والإنصاف: أنّ دعوى انحلال العلم الإجماليّ المتعلّق بأحكام الشريعة بهذا المقدار من الاُصول المثبتة والمعلومات التفصيليّة بمكانٍ من الغرابة، عهدتها على مدّعيها» (3).

ص: 239


1- راجع: كفاية الاُصول: ص 313, وإليك نصّ كلامه!: «وأمّا المقدمة الرابعة: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام, فيما يوجب عسره اختلال النظام, وأمّا فيما لا يوجب, فمحل نظر بل منع, لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط, وذلك لما حققناه في معنى ما دلّ على نفي الضرر والعسر, من أنّ التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلقين بما يعمهما, هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما, فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل, لعدم العسر في متعلق التكليف, وإنّما هو في الجمع بين محتملاته احتياطاً. نعم, لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر - كما قيل - لكانت قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط؛ لأنّ العسر حينئذٍ يكون من قبل التكاليف المجهولة, فتكون منفية بنفيه».
2- انظر: كفاية الاُصول: ص 312, 313.
3- فوائد الاُصول 3: 236.

والتحقيق: أنّ الحرج والضرر مرفوعان مطلقاً، من غير فرق بين كونهما ناشئين من نفس متعلّق التكليف، أو من الجمع بين محتملاته بحكم العقل؛ لأنّهما على كلّ حال متوجّهان من ناحية التكليف الشرعيّ، وإلّا لم يحكم العقل بوجوب الجمع بين محتملاته كي يلزم منه الحرج والضرر.

ثمّ إنّه بعد صحة جميع مقدّمات الانسداد، واقتضائها لحجّيّة الظنّ، فهل نتيجتها هي حجّيّة الظنّ بالواقع أو الطريق أو كلاهما؟

والمراد من حجّيّة الظنّ بالواقع هو حجّيّة الظنّ بالحكم الشرعيّ الفرعيّ، مثل أن يحصل الظنّ بوجوب غسل الجمعة أو وجوب الاستعاذة في الصلاة. كما أنّ المراد من حجّيّة الظنّ بالطريق الظنّ بالمسألة الاُصوليّة، كأن يحصل الظنّ بحجّيّة خبر الثقة أو حجّيّة الظواهر.

قال المحقّق النائيني!:

«إنّ نتيجة مقدّمات الانسداد وإن كانت أعم من الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق، إلّا أنّ ذلك فرع سلامة المقدّمات ووصول النوبة إلى أخذ النتيجة، والكلام بعد في سلامة المقدّمة الثالثة، فإنّه لم يثبت بطلانالاحتياط رأساً في جميع الوقائع لينتقل إلى المقدّمة الرابعة، لتكون النتيجة اعتبار الظنّ مطلقاً سواءً تعلّق بالواقع أو بالطريق» (1).

وهذا هو مختار صاحب الكفاية والشيخ"؛

ص: 240


1- فوائد الاُصول 3: 269.

أمّا صاحب الكفاية! فخلاصة ما أفاده:

هو أنّه لا فرق بين القطع والظنّ في نظر العقل، فكلّما كان القطع به مؤمّناً في حال الانفتاح، كان الظنّ به مؤمّناً في حال الانسداد، وأنّ المؤمّن في حال الانفتاح كان كلاً من القطع بإتيان المكلّف به الواقعيّ والقطع بإتيان بالمكلّف به الظاهريّ الجعليّ - بمعنى: مؤدّى الطريق المجعول من قبل الشارع -، وكذلك يحكم العقل بأنّ المؤمن في حال الانسداد هو كلّ من الظنّ بإتيان المكلّف به الواقعيّ والظنّ بإتيان المكلّف به الظاهريّ الجعليّ، ومقتضى ذلك هو حجّيّة الظنّ في كلّ من الواقع والطريق معاً (1).

وأمّا الشيخ! فملخّص كلامه:

أنّه لا فرق في الامتثال الظنّيّ بين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعي الواقعيّ، كأن يحصل من شهرة القدماء الظنّ بنجاسة العصير العنبيّ، وبين تحصيل

ص: 241


1- كفاية الاُصول: ص 315, 316, قال! ما لفظه: «والتحقيق أن يقال: إنّه لا شبهة في أنّ همّ العقل في كلّ حال إنّما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة, من العقوبة على مخالفتها, كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمّن منها, وفي أنّ كلّ ما كان القطع به مؤمناً في حال الانفتاح كان الظن به مؤمناً حال الانسداد جزماً, وإنّ المؤمن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلّف به الواقعي بما هو كذلك, لا بما هو معلوم ومؤدى الطريق ومتعلق العلم, وهو طريق شرعاً وعقلاً, أو بإتيانه الجعلي؛ وذلك لأنّ العقل قد استقل بأنّ الإتيان بالمكلف به الحقيقي بما هو هو, لا بما هو مؤدى الطريق مبرئ للذمة قطعاً, كيف؟ وقد عرفت أنّ القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثاً وإمضاء, إثباتاً ونفياً. ولا يخفى أنّ قضية ذلك هو التنزل إلى الظن بكل واحد من الواقع والطريق».

الظنّ بالحكم الفرعيّ الظاهريّ، كأن يحصل من الأمارة الظنّ بحجّيّة أمر يكون سبباً لحصول الظنّ كالقرعة، فإذا ظنّبحجّيّة القرعة حصل الامتثال الظنّيّ في مورد القرعة وإن لم يحصل ظنّ بالحكم الواقعيّ (1).

واختار صاحب الفصول! القول الأوّل - أعني: حجّيّة الظنّ في المسائل الاُصوليّة - تبعاً لأخيه المحقّق! فقال: «إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفاً فعليّاً بأحكام فرعيّة كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع أو بطريق معيّن يقطع من السمع بحكم الشارع على قيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقاً مخصوصة وكلّفنا تكليفاً فعليّاً بالرجوع إليها في معرفتها.

ص: 242


1- فرائد الاُصول 1: 437, وهذا نص كلامه!: «إنّك قد عرفت أنّ قضية المقدمات المذكورة وجوب الامتثال الظني للأحكام المجهولة, فاعلم: أنّه لا فرق في الامتثال الظني بين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الواقعي - كأن يحصل من شهرة القدماء الظن بنجاسة العصير العنبي - وبين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الظاهري, كأن يحصل من أمارة الظن بحجية أمر لا يفيد الظن كالقرعة مثلاً, فإذا ظنّ حجيّة القرعة حصل الامتثال الظني في مورد القرعة وإن لم يحصل ظن بالحكم الواقعي, إلّا أنّه حصل ظنٌ ببراءة ذمة المكلّف في الواقعة الخاصة, وليس الواقع بما هو واقع مقصوداً للمكلّف إلّا من حيث كون تحققه مبرئً للذمة. فكما أنّه لا فرق في مقام التمكن من العلم بين تحصيل العلم بنفس الواقع وبين تحصيل العلم بموافقة طريق عُلم كون سلوكه مبرئً للذمة في نظر الشارع, فكذا لا فرق عند تعذّر العلم بين الظن بتحقق الواقع وبين الظن ببراءة الذمة في نظر الشارع.

ومرجع هذين القطعين - عند التحقيق - إلى أمر واحد، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، وحيث إنّه لا سبيل لنا غالباً إلى تحصيلها بالقطع، ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام طرقه كذلك مقام القطع، ولو بعد تعذّره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين الطرق إلى الظنّ الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيّته؛ لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه» (1).

ثمّ قال المحقّق النائيني! - تعليقاً على كلام صاحب الفصول! -:«ولعلّ الذي دعاه إلى اختيار اعتبار خصوص الظنّ بالطريق، هو ما زعمه: من أنّ الوجوه التي استدل بها على حجّيّة الخبر الواحد لو لم تفد القطع بحجيّته بالخصوص فلا أقل من كونها تفيد الظنّ بها، فيكون الخبر الواحد ممّا ظنّ اعتباره طريقاً، ومع تعذّر العلم بكون الشيء طريقاً يتنزّل إلى الظنّ بكونه طريقاً؛ لانّه أقرب إلى العلم» (2).

هذا. ويمكن أن يقال: إنّ الذي دعا صاحب الفصول! إلى القول باعتبار خصوص الظنّ بالطريق هو أنّه قد جعل دليل الانسداد من جملة الأدلّة الدالة على حجّيّة الخبر الواحد.

ص: 243


1- الفصول الغروية: 277.
2- فوائد الاُصول 3: 281.

كما ورد في ذيل كلامه!: «ولا ريب أنّ الخبر الواحد إن لم يكن من الطرق القطعيّة فهو من الطرق الظنّيّة؛ للوجوه التي ذكرناها، فيجب العمل به، وهو المطلوب» (1).

واعترض عليه الشيخ! بجملة إشكالات:

منها: أنّه لو سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنّيّة من أقسام الخبر والإجماع المنقول والشهرة وظهور الإجماع والاستقراء والأولويّة الظنّيّة، إلّا أنّ لزوم الرجوع إليها لا يختصّ بما إذا ثبت بالخبر، بل إمّا بكلّ طريق من الطرق، أو بالأخذ بالقدر المتيقّن، فإن وفى معظم الأحكام اقتصر عليه، وإلّا، فالمتيقّن من الباقي مثلاً: الخبر الصحيح والإجماع المنقول متيقّن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات؛ إذ لم يقل أحد بحجّيّة الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول، فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ بعد وجود القدر المتيقّن (2).

ثمّ قال! في تقريب الإشكال الخامس ما هذا لفظه:«سلّمنا العلم الإجماليّ بوجود الطريق المجعول وعدم المتيقّن وعدم وجوب الاحتياط، لكن نقول: إنّ ذلك لا يوجب تعيين العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطريق فقط بل هو مجوّز له، كما يجوز العمل بالظنّ في

ص: 244


1- الفصول الغروية: 278.
2- انظر: فرائد الاُصول 1: 444.

المسألة الفرعيّة» (1).

ويقرب منه ما ذكره صاحب الكفاية! من أنّه لو سلّمنا أنّ مقتضى الدليل المذكور هو لزوم التنزّل إلى الظنّ في تعيين الطرق المعلومة بالإجمال، إلّا أنّه لا وجه لحصر الحجّيّة بالظنّ بالطريق فقط، فإنّه ليس أقرب من الظنّ بكونه مؤدى طريق معتبر إجمالاً من دون ظنّ في الخارج بحجّيّة طريق على التفصيل أصلاً، ولا هو أقرب من الظنّ بالواقع (2).

ثمّ إنّ مقدّمات الانسداد بعد سلامة الجميع وصحة الكل هل اقتضاؤها لحجّيّة الظنّ على نحو القضيّة المهملة أو على نحو القضيّة الكلّيّة؟

والمراد من إهمال النتيجة: أن تكون القضيّة مهملة من حيث السبب والمورد والمرتبة على نحو تحتاج النتيجة إلى معمّم يعمّمها إلى جميع الأسباب والأمارات وإلى جميع مراتب الظنّ: الضعيف والقوي والأقوى، أو إلى مخصّص يخصّصها ببعض الأسباب والموارد والمراتب.

كما أنّ المراد من كلّيّة النتيجة أن تكون القضيّة بحيث لا تحتاج في التعميم إلى شيء أصلاً.

ص: 245


1- نفس المصدر السابق: 446.
2- كفاية الاُصول: 318, حيث قال!: «وثانياً: لو سلّم أنّ قضيته لزوم التنزل إلى الظن, فتوهّم أنّ الوظيفة حينئذٍ هو خصوص الظن بالطريق فاسد قطعاً, وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع, من الظن بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجيّة طريق أصلاً, ومن الظن بالواقع, كما لا يخفى».

فها هنا وجوه ثلاثة:

الأوّل: أن تكون النتيجة كلّيّة مطلقاً.

الثاني: أن تكون مهملة مطلقاً.الثالث: التفصيل، بأن تكون النتيجة مهملة بالنسبة إلى المرتبة، وكلّيّة بالنسبة إلى السبب والمورد. أو تكون كلّيّة بالنسبة إلى السبب، ومهملة بالنسبة إلى المورد.

ولا يخفى: أنّ معنى إهمال النتيجة هو أنّ القدر المتيقّن الذي تقتضيه المقدّمات هو الجزئيّة، فلا ينافيه كونها قابلة للكلّيّة.

وبعبارة ثانية: إنّ احتمال كون القضيّة مهملة إلى الآخر بلا معمّم يعمّمها أو مخصّص يخصّصها، أو فقل: من دون أن يكون هناك قدر متيقّن على الإطلاق: ممّا لم يقل به أحد؛ لأنّه يستلزم لغوية دليل الانسداد من أوّل.

وقد ذهب المحقّق القمّي! إلى كلّيّة النتيجة من الجهات الثلاث؛ لأنّ بناءه على بطلان الاحتياط في كلّ مسألة مسألة، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة كذلك.

ومذهب صاحب الكفاية قدس سره:
اشارة

أنّه إذا كانت نتيجة المقدّمات هي الحكومة، فلا إهمال في النتيجة أصلاً، لا من حيث السبب ولا المورد ولا المرتبة؛ لأنّه لا إهمال في حكم العقل لكي يشتبه في سعة الحكم و ضيقه:

ص: 246

أمّا بالنسبة للأسباب: فالنتيجة كلّيّة في جميعها؛ لعدم تفاوتها في نظر العقل.

وأمّا بحسب الموارد: فالنتيجة جزئيّة فيها؛ لأنّ العقل يحكم بحجّيّته في خصوص الموارد التي لا يهتمّ به، بخلاف الموارد التي له فيها مزيد الاهتمام، كما يقال بالنسبة إلى الدماء والفروج، فيستقلّ العقل بوجوب الاحتياط فيها.

وأمّا بحسب المراتب: فجزئيّة أيضاً؛ لأنّ العقل لا يستقلّ إلّا بلزوم التنزّل إلى مرتبة الاطمئنان من الظنّ بعدم التكليف، والخروج عن عهدة التكليف ظنّاً بعد عدم إمكان الخروج عنها علماً، ولا دخلللأسباب المفيدة للظنّ عند العقل كما لا دخل للمراتب كذلك، فمن أيّ سبب حصل الظنّ بالامتثال كان مجزياً عند العقل (1).

نعم، إذا حصل الظنّ الاطمئنانيّ بالنسبة إلى بعض المراتب وكان

ص: 247


1- كفاية الاُصول: 322, قال! ما لفظه: «فانقدح بذلك عدم صحة تقرير المقدمات إلّا على نحو الحكومة دون الكشف, وعليها فلا إهمال في النتيجة أصلاً, سبباً ومورداً ومرتبة, لعدم تطرّق الإهمال والإجمال في حكم العقل, كما لا يخفى. أمّا بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فيها. وأمّا بحسب الموارد, فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظنية, إلّا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام, واستقلاله بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام, كما في الفروج والدماء بل وسائر حقوق الناس ممّا لا يلزم من الاحتياط فيها العسر. وأما بحسب المرتبة, فكذلك لا يستقل إلّا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التكليف, إلّا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر».

وافياً بالمعلوم بالإجمال، كان حينئذٍ مقدّماً عند العقل على غيره؛ بداهة أنّ الظنّ الاطمئنانيّ أقرب إلى العلم.

وهذا بخلاف الموارد، فإنّه لما علم أنّ للشارع مزيدَ اهتمام بها كالفروج والدماء، كان لابدّ من رعايته والحفاظ عليه بأيّ نحو كان، ولذا لابدّ من الاحتياط لحصول الامتثال العلميّ.

فإن قلت: قد تقدّم أنّ الاحتياط باطل، وأنّ حصول نتيجة الانسداد مبنيّة على القول ببطلانه كذلك: إمّا من جهة العسر والحرج، أو غير ذلك.

قلت: بطلان الاحتياط هناك في كلّ مورد مورد إنّما هو من حيث كون المورد محتمل الوجوب أو الحرمة.

وأمّا إذا كان المورد بنفسه ممّا تجري فيه أصالة الحرمة فلا محيص عن الاحتياط فيه، ولا يكفي - حينئذ - الامتثال الظنّيّ، وإن قلنا بالكشف - كما سيأتي - أيضاً، فإنّ الظنّ في هذه الموارد لا يكون حجّة؛ ضرورة أنّ العقل بعد العلم باهتمام الشارع بتلك الموارد يمنع من اعتبار الظنّ في المقدّمات شرعاً.

أمّا بناءً على الكشف: فإنّ حال الظنّ المطلق بعد حجّيّته هي حال الظنّ الخاصّ الذي قام الدليل بالخصوص على حجّيّته، فيتبع في العموم والخصوص دليل اعتباره، وحيث إنّ دليل حجّيّة الظنّ المطلق ليس إلّامقدّمات الانسداد، فإنّ العقل يستكشف من هذه المقدّمات جعل الشارع الحجّيّة للظنّ، وهي لا تقتضي جعله حجّة في الجملة وفي بعض الموارد

ص: 248

أو من بعض الأسباب أو بعض المراتب، بل في جميع الموارد والأسباب؛ لأنّ بطلان الاحتياط والبراءة في كلّ مسألة مسألة يقتضي التعميم بالنسبة إلى المسائل، والتعميم فيها مستلزم للتعميم بالنسبة إلى الأسباب والمراتب.

وأمّا بالنسبة إلى الموارد: فحكمه حكم حجّيّة الظنّ بناء على الحكومة؛ لما تقدّم من عدم حجّيّة الظنّ فيما إذا كان للشارع مزيد اهتمام بالنسبة إلى الأعراض والنفوس والأموال، فيمنع العقل من استكشاف حجّيّة الظنّ فيها ولو بنظر الشرع.

وبعبارة ثانية: فإنّ عموميّة الأسباب إنّما هي لأجل عدم رجحان بعض الظنون على بعض، فلابدّ من التعميم، وإلّا، لزم الترجيح بلا مرجّح، ولكن هذا إنّما ينفع فيما يصلح للترجيح من الوجوه الثلاثة، من كون بعض الظنون متيقّناً بالنسبة إلى غيره، وكون بعضها أقوى من بعض، وكون بعضها مظنون الحجّيّة.

أمّا الوجه الأوّل:

فقد ذكر صاحب الكفاية! أنّ النتيجة لو لم يكن فيها ما هو المتيقّن «فلابدّ من الاقتصار على متيقّن الاعتبار منها أو مظنونه» (1)، وهذا البعض ممّا يقطع باعتباره في حال الانسداد، فيكون هو الحجة ويجب الأخذ به دون غيره.

وفيه: أنّه إنّما يتمّ ويكون حجّة في حال الانسداد إذا كان وافياً بمعظم

ص: 249


1- كفاية الاُصول: 323.

الفقه، على وجهٍ لا يكون الرجوع إلى الاُصول العمليّة في بقيّة الموارد التي لم تقم عليها المحاذير التي مرّت، ونحن نرى: أنّه ليس في أقسام الظنون ما يكون بهذه المثابة؛ لأنّ المتيقّن الاعتبار هو الصحيح الأعلائيّ، أو فقل: لأنّ القدر المتيقّن من هذه الأمارات هوالخبر الذي زكّي جميع رواته الموجودين في السلسلة بعدلين، ولم يكن في سلسلة السند من هو مشترك بين الضعيف والثقة، ولم يعمل في تصحيح رجاله ولا في تمييز مشتركاته بظنّ أضعف نوعاً من سائر الأمارات الاُخر، ولم يوهن لمعارضة شيء منها، وكان ممّا اعتمد عليه الأصحاب كلّهم أو جلّهم، وكان مع ذلك مفيداً للظنّ الاطمئنانيّ.

فانقدح: أنّ الحجّة إنّما تكون في الخبر الواحد بهذا الاعتبار، وهو الخبر الذي يكون متيقّن الاعتبار بالإضافة إلى غيره من الأمارات في حال الانسداد، وأنت خبير: بأنّه ليس بأيدينا من تلك الأخبار ما يكون بهذه المثابة إلّا أقلّ القليل، وهو غير وافٍ بمعظم الفقه.

وأمّا الوجه الثاني:

وهو كون بعض الظنون أقوى من البعض، فلا بد من الأخذ بما هو أقوى.

وفيه: أنّ القوّة والضعف من الاُمور الإضافيّة، فلا يكاد يمكن ضبط مرتبة خاصّة منها حتى يمكن الإرجاع إليه.

ثمّ إن كانت النتيجة هي الكشف فلا يمكن جعل الظنّ القويّ هو

ص: 250

الحجّة، إذ لعلّ الشارع جعل الضعيف حجّة من دونه، فالنتيجة جزئيّة لا كلّيّة. نعم، توجد مرتبة خاصّة، وهي الظنّ الاطمئنانيّ الملحق بالعلم حكماً، لكنّه نادر التحقّق.

وأمّا الوجه الثالث:

فالنتيجة هي حجّيّة الظنّ المظنون الحجّيّة؛ لأنّه اُولى من غيره، وتكون النتيجة جزئيّة مع أنّه قد تقدّم أنّ نتيجة الانسداد كلّيّة. وأمّا أولويّة مظنون الحجّيّة والاعتبار: فإمّا لأنّه أقرب إلى الحجّيّة، فيجب صرف القضيّة المهملة إلى ما هو الأقرب؛ أو: لأنّه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع؛ لأنّ الظنّ بحجّيّة ظنّ، من الأمارات التي تفيد الظنّ بالواقع، فيكون ما ظنّ بحجيته للواقع أقرب إلى الواقع.

قال المحقّق النائيني!:«لأنّ الظنّ بحجّيّة ظنّ يلازم الظنّ بحصول المصلحة السلوكيّة على تقدير مخالفته للواقع، فيكون احتمال فوات الواقع وبدله موهوماً في موهوم؛ وهذا بخلاف الظنّ الحاصل من أمارة لم يظنّ بحجيّتها، فإنّه ليس فيه إلّا الظنّ بمطابقة الواقع فقط؛ ولا إشكال أنّه لو دار الأمر بين العمل بما يظنّ معه إدراك الواقع أو بدله وبين العمل بما يظنّ معه إدراك الواقع فقط، يتعيّن العمل بما يظنّ معه إدراك الواقع أو بدله، فتكون النتيجة خصوص مظنون الحجّيّة لا كلّ ظنّ» (1).

ص: 251


1- فوائد الاُصول 3: 313.

وقد اعترض الشيخ الأعظم! على هذا الوجه بما حاصله: أنّ ما ذكر من اعتبار مظنون الحجّيّة لا يقتضي تعيين العمل بخصوص مظنون الحجّيّة، بل أقصى ما يفيده هو أنّ العمل بما يظنّ حجيّته اُولى من العمل بما لا يظنّ حجيّته، لا أنّه يتعيّن ذلك (1).

فظهر ممّا تقدّم: أنّ كلاً من الوجوه الثلاثة لا تخلو من خدشة، فالأقوى كون النتيجة هي التعميم.

الإشكال في خروج القياس عن عموم النتيجة:

والكلام فيه مبنيّ على الكشف تارةً، واُخرى على الحكومة.

فأمّا تعميم النتيجة بناء على الكشف: فالقياس حينئذٍ يكون خارجاً عن الحجّيّة؛ لأنّ الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالقياس توجب كون أدلّة الانسداد بمعنى نصب الطريق غير الشامل للقياس المحرّم.

وأمّا تعميمه بناءً على الحكومة: فقد قال في الكفاية:

«قد اشتهر الإشكال بالقطع بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة» (2).وذلك أنّ العقل يستقلّ في الحكم بحجّيّة الظنّ، فحاله كحال حجّيّة

ص: 252


1- فرائد الاُصول 1: 476, قال!: «وأمّا المرجّح الثالث, وهو الظن باعتبار بعض فيؤخذ به لأحد الوجهين المتقدّمين, ففيه - مع أنّ الوجه الثاني لا يفيد لزوم التقديم, بل أولويته - : أنّ الترجيح على هذا الوجه يشبه الترجيح بالقوة والضعف...»
2- كفاية الاُصول: 325.

العلم في حال الانفتاح، وحينئذٍ: يقع الإشكال في خروج القياس عن عموم حكم العقل بحجّيّة الظنّ، والحال أنّ حكم العقل لا يقبل التخصيص، فلا يمكن رفع حكمه عن موضوعه وإن كان ينتفي الحكم بانتفاء الموضوع.

والعلّة في عدم قبول حكم العقل للتخصيص هي التناقض، فإنّه لو كان حكم العقل على نحو العموم بحيث يشمل الفرد القياسي بعينه، فلو خصّصنا حكمه ورفعناه عن هذا الفرد، يقع التناقض بين حكمه وبين التخصيص.

وأمّا بالنسبة إلى العمومات اللّفظيّة، فالتخصيص فيها لا يستلزم التناقض؛ لأنّ العموم فيها صوريّ، فكذلك التناقض يكون صوريّاً.

ثم أجاب ! عن هذا الإشكال بما لفظه:

«وأنت خبير بأنّه لا وقع لهذا الإشكال، بعد وضوح كون حكم العقل بذلك معلّقاً على عدم نصب الشارع طريقاً وأصلاً» (1).

والحاصل: أنّه لا إشكال في أنّ نصب الشارع طريقاً خاصاً - وإن لم يكن مقيّداً للظنّ - لا ينافي الانسداد، فتجب متابعة هذا الطريق لكونه منصوباً من قبل الشارع، ولا يعتنى بالظنّ بالخلاف الحاصل في مورده من أمارة اُخرى؛ لما عرفت من تعليق حكم العقل بحجّيّة الظنّ على عدم

ص: 253


1- المصدر نفسه.

النصب، فإذا نهى الشارع عن الظنّ الحاصل من سبب خاصّ، كالظنّ القياسيّ، يرتفع - حينئذٍ - موضوع حكم العقل، فلا يبقى له حكومة ولا استقلال بالحجّيّة أصلاً، كما هو مقتضى التعليق.

وربّما أشكل بأنّه كيف يجوز النهي عن الظنّ القياسيّ، ويُخرَج عن عموم نتيجة دليل الانسداد مع احتمال إصابته للواقع؟

وجوابه بما عن المحقّق النائيني! حيث قال:«وحل الإشكال إنّما يكون بأحد أمرين: إمّا الالتزام بأن الأحكام الواقعيّة مقيّدة بما إذا لم يؤد إليها القياس، فلا يكون الحكم الواقعيّ في مورد القياس على طبق ما أدّى إليه القياس فيكون النهي عن العمل به من باب الموضوعيّة.

وإمّا الالتزام بالمفسدة السلوكيّة على عكس المصلحة السلوكيّة التي كانت في باب الطرق والأمارات، فيكون النهي عنه لمكان أنّ في العمل بالقياس وسلوكه وأخذه طريقاً مفسدة غالبة على مصلحة الواقع فتأمّل» (1).

هذا. ولا يخفى: أنّ الروايات الواردة في المنع عن القياس موهن قويّ له، فهي موجبة لارتفاع الظنّ.

نعم، قد يحصل من العمل بالقياس القطع، وهو المسمّى عندهم بتنقيح المناط القطعيّ، كما أنّ العمل بالقياس لا يكون دائماً موقعاً في المفسدة، ولكنّ إثباته - كما لا يخفى - يحتاج إلى دليل.

ص: 254


1- فوائد الاُصول 3: 321.

في الظنّ المانع والممنوع

اعلم أنّ الظنّ الممنوع تارة يكون ممّا احتمل المنع عنه، واُخرى مما ظنّ كذلك.

قال الشيخ!: «وفي وجوب العمل بالظنّ الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو التساقط وجوه، بل أقوال» (1).والحاصل: أنّ الظنّ الممنوع لمّا كان حاله حال الظنّ القياسي مما قام الدليل القطعيّ على المنع عنه وعدم اعتباره، وهو الظنّ المانع؛ فإنّه مما تعمّه نتيجة دليل الانسداد، فيقتصر عليه - دون الظنّ الممنوع - بعد القطع بعدم المنع عنه بالخصوص.

قال المحقّق النائيني!:

«فيكون حال الظنّ المانع والممنوع حال الأصل السببيّ والمسبّبيّ، وسيأتي في محلّه: أنّ الأصل السببيّ يمنع عن جريان الأصل المسبّبيّ، ولا

ص: 255


1- فرائد الاُصول 1: 532.

يمكن العكس؛ لأنّ اندراج الأصل السببيّ في عموم قوله(علیه السلام): (لا تنقض اليقين بالشك) لا يحتاج إلى مؤونة، بخلاف اندراج الأصل السببيّ، فإنّ شمول خطاب (لا تنقض اليقين) له يتوقّف على خروج الأصل السببيّ عن العموم.

ومن المقرّر في محلّه: أنّه إذا توقّف شمول العام لفرد على خروج فرد آخر عنه فالعامّ لا يشمل ذلك الفرد، لا أنّه يشمله ويخرج ما يكون داخلاً فيه بلا مؤونة؛ فإنّ العام إنّما يشمل الأفراد التي تكون متساوية الأقدام بالنسبة إلى اندراجها تحت عنوان العام» (1).

ثمّ علّق عليه المحقّق العراقي! بما هذا لفظه:

«أقول: الاُولى بناءً على تعليقيّة حكم العقل في باب الانسداد أن يقال: إنّ المقتضي في الظنّ الممنوع تعليقيّ وفي المانع تنجيزيّ، إذ لا مانع عنه غير الظنّ الممنوع الذي لا يشمله الدليل باقتضائه إلّا في ظرف عدم تأثير المقتضي في المانع، وكلّ مورد كان من هذا القبيل يستحيل مانعيّته؛ لأنّه دوريّ، فمقتضي التنجيزيّ يؤثّر أثره» (2).

فانقدح من مطاوي ما ذكرنا: أنّ وجوب العمل إنّما هو بالظنّ المانع دون الظنّ الممنوع، ولا تساقط في المقام؛ لأنّ مفاد دليل الانسداد

ص: 256


1- فوائد الاُصول 3: 322.
2- المصدر نفسه, هامش رقم 1.

ونتيجته هي اعتبار كلّ ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل معتبر، والظنّ الممنوع ممّا قام على عدم اعتباره دليل معتبر، وهو الظنّ المانع، لما عرفت من ثبوت اعتباره بدليل الانسداد.

وحينئذٍ: فإن أخذنا بالظنّ المانع كان الظنّ الممنوع خارجاً تخصّصاً؛ ضرورة عدم شمول العموم له؛ لقيام الدليل على المنع عنه، فلا يشمله عموم دليل الانسداد.

وإن أخذنا بالظنّ الممنوع مع طرح المانع، لزم التخصيص بلا مخصّص؛ بداهة أنّه لا مخصّص لخروج الظنّ المانع عن عموم النتيجة.

هذا. ولا يخفى: أنّه إذا دار الأمر بين التخصّص وبين التخصيص بلا مخصّص، فالمتيقّن هو الأوّل.

ص: 257

ص: 258

مباحث الاُصول العمليّة

اشارة

ص: 259

ص: 260

الكلام في الاُصول العمليّةوهنا اُمور لابدّ من بيانها:

الأوّل: في الفرق بين الاُصول والأمارات:

للأمارات جهة كاشفيّة وحكاية ما عن الواقع، وأمّا الاُصول العمليّة: فهي مجرّد وظيفة للجاهل في ظرف الشكّ، وهي على قسمين؛ لأنّه: إمّا أن لا يكون لها جهة كشف وحكاية، كما في قاعدة الطهارة والحلّيّة والبراءة ونحوها، أو يكون لها، ولكن لم يعتبرها الشارع، كما في الاستصحاب.

وبعبارة ثانية: فإنّ كلاً من الأمارات والاُصول وإن كان يصدق عليه أنّه وظيفة مقرّرة للجاهل في ظرف الشكّ، إلّا أنّ الجهل والشكّ قد أخذ في لسان دليل الاُصول، ولم يؤخذ في لسان دليل الأمارات.

ولا يخفى: أنّ الحكم الظاهريّ واقع في طول الحكم الواقعيّ الثابت

ص: 261

بالدليل، علميّاً كان هذا الدليل أو ظنيّاً؛ بداهة أنّ موضوع الحكم الظاهريّ هو الشكّ بالواقع، فهو متأخّر عن الواقع، تأخّر كلّ متعلِّقٍ عن متعلَّقه.

الأمر الثاني:

أنّ الشكّ في موارد الاُصول قد أخذ قيداً في اعتبارها، فلو قامت حجّة على الواقع فلا يعود للأصل أثر؛ لانتفاء الشكّ وليس الأمر كذلك في الأمارات؛ لأنّ الشكّ علّة للجعل، وليس علّة للمجعول حدوثاً وبقاءً، فظهر: أنّ الأمارات حجّة حتى في صورة إمكان تحصيل العلم بالواقع.

الأمر الثالث:

أنّ المراد بالحكم الظاهريّ - في حقيقة الأمر - هو ظاهر الحكم، أي: الحكم الثابت في فرض الشكّ في الواقع، ويكون بعنوان تعيين الوظيفة بالنسبة إلى الواقع المشكوك.

الأمر الرابع:

أنّ موارد الاُصول العمليّة هو ما إذا كان الشكّ ثابتاً ومستقرّاً، ولا يحصل ذلك إلّا بعد الفحص عن الحجّة واليأس منها، من غير فرق بين ما إذا كان منشأ حصول الجهل بالواقع هو فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه، فالمرجع في الجميع بعد الفحص وعدم وجود الحجّة هو البراءة؛ فإنّه لما كانت الأمارات حاكمةً على الاُصول، فلا يكون العمل

ص: 262

بالأصل في مورد الشكّ ممكناً ما دام وجود الأمارة محتملاً.

نعم، يمكن ذلك في صورة الفحص واليأس من وجود الأمارة، من غير فرق بين أن تكون الشبهة حكميّة أو لا، وجوبيّة أو تحريميّة، نفسيّة أو غيريّة.

الأمر الخامس:

اعلم أنّ متعلّق الشكّ قد يكون حكماً وقد يكون موضوعاً، والحكم قد يكون كلّيّاً وقد يكون جزئيّاً. وما هو مدار البحث إنّما هو الحكم الكلّيّ، وليس البحث عن الحكم الجزئيّ والموضوع الخارجيّ إلّا استطراداً خارجاً عن حقيقة علم الاُصول؛ لأنّ الاُصول إنّما تتكفّل الكلّيّات.

الأمر السادس:

قد نسب المحقّق النائيني! إلى الشيخ! بأنّ ظاهر كلامه في المقام وفي مبحث التعادل والتراجيح هو أنّ الوجه في التنافي بين الأمارات والاُصول العمليّة هو نفسه الوجه في التنافي بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وأنّ ما هو المناط في الجمع بين الأمارات والاُصول هو المناط في الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ.

ثمّ استشكل! عليه بما هذا لفظه:

«والتحقيق: أنّ التنافي بين الأمارات والاُصول غير التنافي بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وطريق الجمع بينهما غير طريق الجمعبين هذين، فإنّ

ص: 263

التنافي بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ إنّما كان لأجل اجتماع المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة و الوجوب والحرمة وغير ذلك من المحاذير الملاكيّة والخطابيّة المتقدّمة، وقد تقدّم طريق الجمع بينهما، وأين هذا من التنافي بين الأمارات والاُصول؟ فإنّه ليس في باب الأمارات حكم مجعول من الوجوب والحرمة حتى يضاد الوظيفة المجعولة لحال الشكّ، بل ليس المجعول في باب الأمارات إلّا الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات وكونها محرزة للمؤدى» (1).

ولم يرتضه المحقّق العراقي! فقال:

«أقول: ما هو صريح كلمات شيخنا العلّامة! في المقام وفي باب التعادل والتراجيح هو أنّ مفاد الاُصول حكم ثابت في ظرف الشكّ بالحكم الواقعيّ ومفاد الأمارة نفس الحكم الواقعي، فقهراً يكون مفاد الاُصول بحسب الرتبة متأخّرة عن مفاد الأمارة، ولازم هذا التأخر: أنّه لو فرض قيام دليل على الأمارة كان رافعاً لموضوع الأصل إن كان علميّاً وجدانياً، وإلّا كان حاكماً عليه.

ومن هذا البيان ظهر: أنّه! ما التزم بالتنافي بين مفاد الأصل ومفاد نفس الأمارة وبين حكم الواقعيّ والظاهريّ من جهة اختلاف الرتبة، وأنّ هذا الاختلاف يوجب الحكومة أو الورود بين دليليهما، فجعل وجه

ص: 264


1- فوائد الاُصول 3: 326.

الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ نفس اختلاف الرتبة، ووجه الجمع بين دليليهما حكومة أحدهما على الآخر بلا اشتراك بين المقامين في وجه الجمع وتناف بين المدلولين بنفسهما مع قطع النظر عن دليليهما» (1).والحقّ: أنّ نظر الشيخ الأعظم! إنّما هو إلى عدم التنافي بين الدليلين، لا إلى التنافي بينهما وبين الحكم الظاهريّ والواقعيّ حتى يقال: إنّ الحكم في باب الأمارة مجعول فيضادّ الوظيفة المجعولة لحال الشكّ.

الأمر السابع:

أنّ المراد بالجهل والشكّ اللّذين هما مورد لجريان الاُصول العمليّة: هو أنْ لا تكون هناك حجّة معتبرة، فيكونان شاملين لمورد وجود الظنّ غير المعتبر، فإنّه مماّ تجري فيه الاُصول أيضاً.

الأمر الثامن:

أنّ الاُصول العمليّة منحصرة عندهم في أربعة؛ لأنّها هي المهمّة عندهم، وإلّا، كانت قاعدة الطهارة الجارية عند الشكّ في طهارة الأرنب - مثلاً - مندرجةً في باب الاُصول العمليّة؛ لأنّها ممّا يستنبط منها حكم شرعيّ، ولكنّهم - كما يبدو لمن لاحظ - لم يتعرّضوا لها في هذا الباب، وذلك لأمرين ذكرهما صاحب الكفاية!:

ص: 265


1- فوائد الاُصول 3: 326, 327, هامش رقم 1.

الأوّل: أنّ محلّ الخلاف بين الأصحاب منحصر في تلك الأربعة، ولذا احتاجوا إلى تنقيح مجاريها، وأطالوا الكلام في النقض والإبرام فيها؛ وهذا بخلاف قاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة فإنّه لا خلاف في جريانها، فلا تحتاج إلى مزيد بحث.

والثاني: أنّ الاُصول الأربعة - أعني: البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب - اُصول عامّة جاءت في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات، وأمّا قاعدة الطهارة فمختصّة ببعض أبوابها (1).

ص: 266


1- انظر: كفاية الاُصول: 337, وإليك نصّ كلامه!: «والمهم منها أربعة, فإنّ مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية, وإن كان مما ينتهى إليها فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته, إلّا أنّ البحث عنها ليس بمهم, حيث إنّها ثابتة بلا كلام, من دون حاجة إلى نقض وإبرام, بخلاف الأربعة, وهي: البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب, فإنّها محل الخلاف بين الأصحاب, ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجة وبرهان, هذا مع جريانها في كل الأبواب, واختصاص تلك القاعدة ببعضها, فافهم».

في البراءة

ولا يخفى: انحصار البحث فيها في الشبهة الوجوبيّة والتحريمية، دون الاستحبابيّة والكراهيّة.

قال الشيخ!: «وهذا مبنيّ على اختصاص التكليف بالإلزام، أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به، ولو فرض شموله للمستحبّ والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام، فلا حاجة إلى تعميم العنوان» (1).

والحاصل: أنّه إذا شكّ في كون التكليف واجباً أو حراماً ولم يقم دليل على خصوص أحدهما لأجل فقدان النصّ، وقع النزاع - حينئذٍ - بين الاُصوليّين والأخباريّين - كما سيأتي في البحث عن الشبهة التحريميّة - فاختار الاُصوليّون البراءة، فيما ذهب الأخباريّون إلى القول بالاحتياط.

ص: 267


1- فوائد الاُصول 3: 326.

هذا، ولا يذهب عليك أنّ النزاع بين الاُصوليّين والأخباريّين في الشبهات التحريميّة الحكميّة نزاع صغرويّ، وليس كبرويّاً؛ لاتّفاقهما جميعاً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ هي من الفطريّات العقلائيّة، غاية ما في الأمر: أنّ الأخباريّين يدّعون صلاحيّة أخبار الاحتياط للبيانيّة، فيما يثبت الاُصوليّون عدم الصلاحيّة، فيعود النزاع صغرويّاً.ثمّ إنّ للشبهة الوجوبيّة والتحريميّة أقساماً ثمانية، أشار إليها الشيخ ! بما هذا لفظه:

«ثمّ إنّ متعلّق التكليف المشكوك: إمّا أن يكون فعلاً كليّاً متعلّقاً للحكم الشرعيّ الكلّي، كشرب التتن المشكوك في حرمته، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه. وإمّا أن يكون فعلاً جزئيّاً متعلّقاً للحكم الجزئيّ، كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمراً.

ومنشأ الشكّ في القسم الثاني: اشتباه الأمور الخارجيّة. ومنشؤه في الأوّل: إمّا أن يكون عدم النصّ في المسألة، كمسألة شرب التتن، وإمّا أن يكون إجمال النصّ، كدوران الأمر في قوله تعالى: (حتى يطهرْنَ) (1) بين التشديد والتخفيف مثلاً. وإمّا أن يكون تعارض النصّين، ومنه الآية المذكورة بناءً على تواتر القراءات.

ص: 268


1- البقرة: الآية 222.

إلى أن قال: فالمطلب الأول فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب - يعني به الشبهة التحريميّة - وقد عرفت أنّ متعلّق الشكّ تارة: الواقعة الكلّيّة كشرب التتن، ومنشأ الشك فيه عدم النصّ أو إجماله أو تعارضه، واُخرى: الواقعة الجزئيّة. فهنا أربع مسائل» (1).

ولم يعقد صاحب الكفاية! للبراءة سوى مسألة واحدة جمع فيها بين الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة، ولم يشر إلى الشبهة الموضوعيّة أصلاً، فقال!:«وأمّا الشبهة الموضوعيّة فلا مساس لها بالمسائل الاُصوليّة، بل فقهيّة، فلا وجه لبيان حكمها في الاُصول إلّا استطراداً، فلا تغفل» (2).

وإذا قد عرفت هذا، فاعلم أنّه قد استدلّ للبراءة بالأدلّة الأربعة:

فأمّا الكتاب: فبآيات:

منها:

قوله تعالى: ﴿وَمَا كُ-نَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَ-بْعَثَ رَسُولاً﴾ (3)؛ فإنّ المراد من بعث الرسول إمّا قيام الحجّة، فلا عذاب قبلها، أو بيان التكاليف وانجلاؤها للمكلّف.

ص: 269


1- فرائد الاُصول 2: 18 - 19.
2- كفاية الاُصول: ص 338, هامش رقم 1.
3- الإسراء: الآية 15.

وإنّما اُريد البيان من بعث الرسول لكونه يحصل بسببه غالباً، كما يكون دخول الوقت بأذان الموذّن.

وهذا البيان: قد يكون بالعقل؛ لأنّه الرسول الباطن، وقد يكون بالنقل، والمراد به البيان النقليّ الذي يأتي به الرسول الظاهر.

ولا يخفى: عدم كفاية إرسال الرسول وبعثه في استحقاق العقاب، بل لابدّ أن يكون له طريقيّة في إيصال الأحكام وتبليغها، فلو لم يبلّغها أو بلّغ بعضها دون بعض، أو بلّغ بعض الناس دون بعض، لم يحسن العقاب بالنسبة إلى البعض الذي لم يبلغ، وكذا لو بلّغ جميع الأحكام في عصره إلى جميع الناس فانقطع الوصول في الأعصار المتأخرة، فلا يجوز عقابهم؛ لأنّ العقاب والعذاب إنّما يكون بالنسبة إلى التكليف الواصل والفرض عدمه.فظهر: أنّه إنّما يجوز تعذيب الجميع إذا كانت الحجّة تامّة بالنسبة إليهم على السواء، وأنّ التعذيب مع عدم البيان وإتمام الحجّة منافٍ لمقامه الشامخ. وهو أجلّ من أن يرتكب مثل هذا الأمر، وليس معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا ك---ُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾ إلّا هذا، أي: ليس من ديدننا ذلك؛ لأنّه خلاف العدل ومناف للرأفة والعطف.

وكيف كان، فقد استشكل على دلالة الآية على البراءة من وجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره الشيخ الأعظم!، وهذا نصّه:

«وفيه: أنّ ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث، فيختص

ص: 270

بالعذاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقة» (1).

وإذا لم تكن الآية في مقام بيان نفي العذاب الاُخرويّ، فلا تصلح دليلاً على البراءة.

الوجه الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية!، وحاصله:

أنّه قد استدلّ الأخباريّون بالآية الشريفة لنفي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، بدعوى: أنّ ما حكم به العقل قبل بعث الرسول مثل وجوب قضاء الدين وردّ الوديعة وحرمة الظلم ونحو ذلك، لو كان الشرع يحكم به - أيضاً - لكان عذاب قبل بعث الرسول، وحيث لا عذاب قبل البعث فلا حكم للشارع قبله، فيثبت - حينئذٍ - التفكيك بين حكم العقل وحكم الشارع في الخارج (2).

وردّه الاُصوليّون: بأنّ الاستدلال المزبور إنّما يتمّ فيما إذا كانت الآية مسوقة لنفي استحقاق العقاب قبل البعث؛ فإنّه - حينئذٍ - يستكشف به عدم حكم الشرع قبله؛ وليس كذلك، بل هي مسوقة لنفي فعليّة التعذيب، وهو أعمّ من نفي الاستحقاق، ولعلّهم كانوا مستحقّين له فلم يعذّبهم

ص: 271


1- فرائد الاُصول 2: 23.
2- انظر: كفاية الاُصول: 339, وإليك نصّ كلامه!: «ولو سلّم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية, لما صحّ الاستدلال بها إلّا جدلاً, مع وضوح منعه؛ ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه, وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلّا كالوعيد به فيه, فافهم».

تعالى منّةً منه عليهم، فإذا كانوا مستحقّين له كفى ذلك في ثبوت حكم الشرع على طبق ما حكم به العقل.

والتحقيق: أنّ من أمعن النظر في الآية الكريمة لم يَرْتب في أنّ المراد منها نفي الاستحقاق، وأنّها جارية على طبق السنّة للقطع بعدم الفرق بين الاُمم السابقة واللّاحقة بحكم العقل، ومناسبة الحكم والموضوع قاضية بأنّ التعذيب قبل البيان ممّا لم ولن يقع.

وذهب المحقّق العراقي!: إلى أنّه لا ظهور للآية في إرادة الزمان الماضي عن وقت التكلّم، بل هي ظاهرة في إرادة الماضي منه بالنسبة إلى زمان بعثة الرسول- وقيام الحجّة، فلا عذاب قبلها، فتكون الآية ظاهرة في بيان ما هو شأن اﷲ تعالى وسنّته في باب العذاب، وأنّه ليس من شأنه العذاب قبل قيام الحجّة (1).

وذهب المحقّق النائيني! إلى أنّ الاستدلال بالبراءة متوقّف على نفي الاستحقاق في ارتكاب الشبهة لا على في فعليّة العذاب، أو فقل: الاستدلال بالبراءة متوقّف على أن يكون المراد من نفي العذاب هو نفي الاستحقاق، وهو منافٍ لما ذكره الأخباريّون من عدم الملازمة بين حكم

ص: 272


1- نهاية الأفكار 3: 205, قال! ما لفظه: «وفيه: أنّه مبني على جعل المضي في (وما كنّا معذبين) بلحاظ حال الخطاب, وهو خلاف ظاهر الآية؛ بداهة ظهورها في كونه بلحاظ زمان البعث وإتمام الحجة لا بلحاظ زمان الحال والخطاب كما كان في الاستقبال في بعث الرسول أيضاً بلحاظ العذاب المنفي لا بلحاظ زمان الخطاب».

الشرع وحكم العقل، حيث ذهبوا: إلى أنّ المراد من نفي العذاب هو نفي الفعليّة لا الاستحقاق.

فظهر: أنّ «الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأنّ مفادها نفي فعليّة التعذيب لا استحقاقه» (1).

ثمّ قال!: «وإلى ذلك ينظر كلام المحقّق القمّي! حيث قال: (إنّ من جمع في الآية بين الاستدلال بها على البراءة وبين رد الأخباريّين لإثبات الملازمة يكون قد جمع بين النقيضين)» (2).ولكن يمكن أن يقال: إنّ النزاع بين الأخباريّين والاُصوليين ليس من جهة استحقاق العقاب وعدمه، بل من جهة المؤمّن في ارتكاب الشبهات وعدمه.

وبعبارة ثانية: لابدّ للقائل بالبراءة وجواز شرب التتن المشتبه حكمه من الاعتماد في تجويزه على مؤمّن شرعيّ أو عقليّ؛ وإلّا لكان في شربه محذور، من غير فرق بين عدم العقوبة الفعليّة أو نفي الاستحقاق.

وعليه: فالاستدلال بالآية على جواز الشرب إنّما كان لرفع العقوبة، كما يستدلّ بحديث الرفع على البراءة، أعني: رفع المؤاخذة لا نفي الاستحقاق. وحينئذٍ: تكون الآية أجنبيّة عن المقام؛ لأنّ البحث عن

ص: 273


1- فوائد الاُصول 3: 334.
2- المصدر نفسه: 335.

الاستحقاق وعدمه خارج عن دائرة نزاع الفريقين، فلا تضادّ.

وأمّا ما يمكن أن يقال: من أنّ لفظة (كنّا) في الآية ظاهرة في الزمان الماضي عن وقت التكلّم، فيكون نظر الآية إلى خصوص العذاب الدنيويّ، ولا ربط لها بالعذاب الاُخرويّ.

فجوابه: ما قد عرفته من عدم اختصاص العذاب الدنيويّ بمن تقوم عليه الحجّة، بل يشمل المؤمن والفاسق والصغير والكبير، فإنّه إذا نزل البلاء عمّ.

نعم، إنّما يكون المراد من العذاب العذاب الاُخرويّ فيما إذا كان معلقاً على قيام الحجّة؛ لأنّ العذاب منوط بها، وأمّا العذاب الدنيويّ فقد يكون لمصالح شخصيّة أو نوعيّة.

ولو فرض أنّ العذاب الحقير الذي لا دوام لمدّته متوقّف على قيام الحجّة، فتوقّف العذاب الجليل عليها حاصل بطريق أولى.

فظهر: أنّ الآية تدل مطلقاً على نفي استحقاق العقاب ومن قيام الحجّة.

ثمّ إن كان المراد من نفي الاستحقاق نفي فعليّة العذاب، فهل تدل على البراءة أم لا؟وجوابه: أنّه - بعد ثبوت الملازمة بين نفي الفعليّة ونفي الاستحقاق - فالآية - حينئذٍ - تكون دليلاً على رد الأخباريّين القائلين باستحقاق العقاب في ارتكاب الشبهة.

ص: 274

ولكن ناقش فيه صاحب الكفاية! بما حاصله:

أنّه لو سلّم، فيكون اعترافاً بأنّه كلّما انتفت الفعليّة انتفى الاستحقاق، فإنّه مع ذلك، لا يصحّ الاستدلال بالآية إلّا جدلاً، ومن باب الإلزام لا من باب الإقناع، فلا يقتنع بها إلّا المستدلّ نفسه بعد وضوح عدم الملازمة عندة بين نفي الفعليّة ونفي الاستحقاق عقلاً (1).

بل يمكن أن يقال: بمنع الملازمة بين نفي استحقاق العقاب ونفي الفعليّة؛ ضرورة أنّه لو كان هناك ملازمة بين النفيين لحصل الملازمة بين الاستحقاق والفعليّة، مع وضوح عدمها بينهما، فإنّ مشتبه الحرام، كشرب التتن الذي يحتاط فيه ليس بأعظم من الحرام القطعيّ؛ لإمكان المغفرة، ولأنّ الوعيد بالعقاب فيه قد لا يصبح فعليّاً؛ لإمكان التوبة أو شفاعة الشفعاء،

وإذا لم يكن هناك ملازمة بين الاستحقاق والفعليّة، فلا ملازمة بين منفيّيهما.

وبملاحظة ما ورد من عددٍ من النصوص والأخبار من الأمر بالتوقّف والاحتياط، كما رُوي من قوله(علیه السلام): «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام

ص: 275


1- كفاية الاُصول: 339, قال!: «ولو سلّم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية, لما صحّ الاستدلال بها إلّا جدلاً, مع وضوح منعه».

في الهلكة» (1)، مع كون تلك الأخبار في مقام بيان الحكم الواقعي وإقامة الحجّة، يُعلم:

أنّه لا يمكن الاستدلال بالآية الشريفة على البراءة؛ لأنّها إنّما تدلّ على انتفاء العذاب والعقاب إذا لم يكن هناك حجّة، وقد عرفت حجّيّة تلك النصوص والروايات، فتكون واردة على الآية.ولعلّه إلى ذلك أشار الشيخ الأعظم! فيما ذكره من أنّ هذه الآيات تكون مورداً لدليل الاحتياط لو تمّ، وتكون نسبتها له نسبة الأصل إلى الدليل (2).

ومن الآيات:

قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا مَا آت-َاهَا﴾ (3).

والحاصل: أنّه لا يخلو:

إمّا أن يكون المراد من كلمة (ما): إمّا خصوص المال بقرينة قوله

ص: 276


1- وسائل الشيعة 27: 119, الباب 9 من أبواب صفات القاضي, ح 35.
2- فرائد الاُصول 2: 25, وهذا نصّ كلامه!: «ويرد على الكلّ: أنّ غاية مدلولها عدم المؤاخذة على مخالفة النهي المجهول عند المكلّف لو فرض وجوده واقعاً, فلا ينافي ورود الدليل العامّ على وجوب اجتناب ما يحتمل التحريم, ومعلومٌ أنّ القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول به إلّا عن دليل علميّ, وهذه الآيات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل, بل هي من قبيل الأصل بالنسبة إليه, كما لا يخفى».
3- الطلاق: الآية 7.

تعالى في صدر الآية: ﴿ل--ِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ﴾، فتكون الآية خارجة عن محلّ الاستدلال؛ لأنّ معناها - حينئذٍ - أنّه لا يكلّف نفساً إلّا إنفاق ما أعطاه من المال.

أو: مطلق الفعل، فيكون المعنى: إنّ اﷲ لا يكلّف اﷲ نفساً إلّا بالفعل الذي قدّرها عليه وكان ممّا تطيقه، إذ الإنفاق مع التقتير في الرزق من مصاديق ما لم يقدّر اﷲ عبده عليه.

فإذا كان المراد هو مطلق الفعل كما تقدّم، وكان الإيتاء بمعنى إعطاء القدرة، فأيضاً لا تكون الآية شاملة لمورد البراءة؛ لأنّها على هذا التقدير من مصاديق نفي التكليف بغير المقدور.

أو يكون المراد منها: خصوص الحكم الشرعيّ، فيكون الإيتاء حينئذٍ بمعنى الإعلام.

أو أنّ المراد: ما هو أعمّ من الفعل والحكم، فيكون المراد بالإيتاء الإعلام بالنسبة إلى الحكم والإقدار بالنسبة إلى الفعل، فإنّ إيتاء كلّ شيء بحسبه. فتلك احتمالات أربعة.ولا يخفى: أنّ الآية - على هذين التقديرين الأخيرين - ممّا تقع مورداً للاستدلال بها على ثبوت أصالة البراءة.

وقد يُستشكل على الاحتمال الثالث:

بأنّه يتنافى مع مورد الآية الكريمة؛ لأنّ موردها الإنفاق بما يملك من المال، فلا يمكن الالتزام به.

ص: 277

واستشكل الشيخ! على التقدير الرابع بما حاصله:

أنّ تعلّق الفعل في الآية وهو (يكلّف) بالحكم يختلف عن نحو تعلّقه بالفعل، فإنّ تعلّقه بالحكم والنسبة بينهما نسبة المفعول المطلق، ونسبته إلى الفعل نسبة المفعول به، ولا جامع بين النسبتين، فإرادتهما معاً تستلزم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، وهو كما ترى (1).

وصححّ المحقّق العراقي! إرادة الجامع للفعل والحكم من الموصول بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ إشكال استعمال اللّفظ في أكثر من معنى إنّما يرد إذا فرض إرادة الخصوصيّات المذكورة من نفس الموصول. وأمّا إذا استعمل الموصول في معناه الكلّيّ العامّ، واُريدت تلك الخصوصيّات من دوال اُخر خارجيّة، فلا يكون هناك محذور؛ لأنّ تعلّق الفعل بالموصول يكون بنحو واحد، والتعدّد إلى نحوين إنّما حصل بالتحليل، وتعدّده كذلك لا يقتضي تعدده بالنسبة إلى الجامع الذي هو مفاد الموصول، وعليه: يمكن التمسّك بإطلاق الآية على البراءة؛ لإمكان إرادة الأعم من الموصول.

الوجه الثاني: أنّه ليس المراد من التكليف في الآية الشريفة هو المعنى الاصطلاحيّ، وهو الحكم لكي يلزم منه كون نسبته إلى الحكم نسبة

ص: 278


1- فرائد الاُصول 2: 22. قال!: «وإرادةُ الأعم منه ومن المورد تستلزم استعمال الموصول في معنيين, إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم وبالفعل المحكوم عليه, فافهم».

المفعول المطلق؛ لأنّه لو كان كذلك للزم اختصاص الأحكام الواقعيّة بالعالمين بها؛ لتكفّل الآية نفي التكليف واقعاً في حقّ الجاهل،وهو مما لا يمكن الالتزام به؛ بل المراد بالتكليف معناه اللغوي، وهو الكلفة والمشقّة، وحينئذٍ: يكون تعلّقه بالموصول بمعناه الجامع بنسبة المفعول به أو المفعول منه.

والمعنى على الأوّل: أنّه تعالى لا يوقع عباده في كلفة حكم أو فعل إلّا الحكم والفعل الذي آتاه المكلّف.

وعلى الثاني: أنّه تعالى لا يوقع عباده في كلفة إلّا من قبل حكم أو فعل آتاه إياهم.

وإذا كانت نسبة الفعل والحكم إلى الموصول نسبة واحدة مع التحفظ على إرادة المعنى العامّ منه واستفادة الخصوصيّات من دوالّ خارجيّة اُخرى، لم يكن مانع من التمسّك بإطلاق الآية لاستفادة البراءة منها.

وهذا الاستدلال - مع ذلك - لا يخلو عن إشكالات ثلاثة:

الأوّل: أنّ القدر المتيقّن بقرينة السياق هو المال، وهو مانع من التمسّك بإطلاق الموصول.

الثاني: أنّ مفاد الآية مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ أدلّة الاحتياط بيان، فتنفي الكلفة من قبل التكليف مع عدم وصوله، فأدلّة الاحتياط على تقدير تماميّتها واردة عليها؛ لأنّها تفيد إيجاب الاحتياط فيكون واصلاً.

ص: 279

وإن شئت فقل: الاحتياط حجّة على الواقع بمقتضى دليله، فيرتفع به موضوع الآية، ولا يضر الأخباريّ التمسّك بالآية.

الثالث: أنّ الإيتاء لمّا كان منسوباً إليه عزّ وجل، فهو عن عبارة عن إعلامه بالتكليف بالسبب العادي المتعارف، أي: إعلامه بطريق الوحي إلى الأنبياء وأمرهم بتبليغ الحكم، فما لم يعلمه يكون عبارة عمّا لم يبلّغه لأنبيائه، أو هو عبارة عمّا أمرهم عدم تبليغهم. فمفاد الآية هو مفاد قوله(علیه السلام):

«إنّ اﷲ سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً، فلا تتكلفوها رحمةً من اﷲ لكم» (1).فلو فرض تماميّة تلك الإشكالات لم يكن للآية ربط بما نحن فيه ممّا لم يصل الينا من جهة خفائه من قبل الظالمين أو بسببهم (2)، لولا أنّ في كلامه موارد للإشكال.

والعمدة في عدم إمكان التمسّك بالآية في المقام إنّما هو نفس سياقها؛ لظهور قوله تعالى في صدر الآية: ﴿فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله﴾، في أنّ المراد من الموصول هو خصوص المال.

وأمّا إرادة الحكم من الموصول فمتوقّفة على أن يكون الإيتاء بمعنى الإعلام، وهو خلاف الظاهر؛ لبداهة ظهور الإيتاء في معنى الإعطاء،

ص: 280


1- نهج البلاغة: قصار الحكم: 105.
2- انظر: نهاية الأفكار 3: 202.

فالآية أجنبيّة عن مورد البراءة.

وقد استدلّ للبراءة بآيات اُخرى، لا تخلو كلّها عن قصور في الدلالة، وقد ذكرها الشيخ الأعظم! الواحدة تلو الاُخرى.

وأمّا الاستدلال على البراءة بالسنّة:

فبأخبار:

منها :حديث الرفع:

وهو رواية حريز بن عبد اﷲ عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:

«قال رسول اﷲ-: رفع عن اُمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما اُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة» (1).

والكلام فيه في اُمور:الأوّل: في سنده، قال المحقّق النائيني!:

«واشتهار الحديث المبارك بين الأصحاب واعتمادهم عليه يغني عن التكلّم في سنده، مع أنّه من الصحاح» (2).

فالمهمّ - إذاً - هو بيان دلالته وما يستفاد منه.

ص: 281


1- وسائل الشيعة 15: 369, الباب 56 من أبواب جهاد النفس, ح 1.
2- فوائد الاُصول 3: 336.

الثاني: في بيان معنى الرفع والدفع، والقول بتغايرهما أو اتحادهما في المعنى.

والحاصل: أنّ الرفع خلاف الوضع؛ فإنّ الرفع هو ما يمنع من المقتضي في مرحلة البقاء كقوله(علیه السلام): «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم» (1)، وذلك لعدم وجود المقتضي. والدفع ما يمنع من المقتضي في مرحلة الوجود.

واختار المحقّق النائيني! اتّحادهما في الحقيقة، وأنّ الرفع دفع؛ لأنّه يمنع من تأثير المقتضي في الزمان اللّاحق؛ فإنّ بقاء الشيء - كحدوثه - محتاج إلى علّة.

إلى أن قال!: «وممّا ذكرنا من معنى الرفع والدفع يظهر: أنّه لا مانع من جعل الرفع في الحديث المبارك بمعنى الدفع في جميع الأشياء التسعة المرفوعة؛ ولا يلزم من ذلك مجاز في الكلمة، ولا في الإسناد.

أمّا عدم المجازيّة في الإسناد: فلما سيأتي من أنّ إسناد الرفع إلى المذكورات يكون على وجه الحقيقة بلا تقدير وإضمار.

وأمّا في الكلمة: فلمّا عرفت من أنّ حقيقة الرفع هي الدفع، فيكون من رفع التسعة دفع المقتضي عن تأثيره في جعل الحكم وتشريعه في الموارد التسعة» (2).

ص: 282


1- وسائل الشيعة 1: 45.
2- فوائد الاُصول 3: 337.

والتحقيق الذي يقتضيه النظر الدقيق:أنّ مفهوم الرفع مغاير لمفهوم الدفع؛ لما ذكرنا من عدم استعمال أحدهما مكان الآخر.

نعم، هو بمعناه في الحدث؛ إذ من المعلوم عدم وضع الأحكام في هذه الموارد، لا أنّها وضعت ثمّ ارتفعت.

الثالث: لا يخفى: أنّ الحديث لمّا كان في مقام الامتنان على الاُمّة، فهو كلّيّ، ومقتضى كلّيّته وعمومه: شموله لكلّ ما أمكن رفعه في الشريعة؛ لأنّ الشريعة سهلة سمحاء، والباري عزّ وجل في مقام التسهيل على الاُمّة.

من غير فرق في ذلك بين أن يكون الحكم تكليفيّاً أو وضعيّاً، نفسيّاً أو غيريّاً، تأسيسيّاً أو إمضائيّاً، وسواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة. وغير ذلك من الموارد، فيرفع كلّ أثر شرعيّ من الإلزام والصحّة والجزئيّة والشرطيّة والسببيّة والقضاء والإعادة، إلّا ما خرج بالدليل.

وعليه: فما ذكر من أنّ المراد من الموصول بقرينة الأخوات وسائر الفقرات هو خصوص فعل المكلّف غير المعلوم، كالفعل الذي لا يعلم أنّه شرب خمر: في غير محلّه، بل المراد منه ما يشمل كلا الموردين.

ومن هنا يظهر الوجه في ما اختاره صاحب الكفاية! من كون المراد من الموصول خصوص الحكم المجهول، سواءً كان من الشبهات الحكميّة أو الموضوعيّة، كما يفهم ذلك من قوله!:

ص: 283

«ثمّ لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعيّة في (ما لا يعلمون)، فإنّ ما لا يعلم من التكليف مطلقاً كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً...» (1).

وليس المراد من الرفع هو الرفع التكويني حتى يكون منافياً للتحقّق الخارجي في بعض الفقرات، بل المراد: الرفع التشريعيّ التنزيلي، وهو لا ينافي بقاء الرفع التكويني، كما أنّ وجود الضرر خارجاً لا ينافيانتفاءه تشريعاً، كما في قوله: «لا شك في النافلة»، «ولا شكّ لكثير الشكّ»؛ فإنّ نفيه بلحاظ الآثار الشرعيّة أو العقاب.

فما قد يُستشكل من أنّ ظاهر الأخبار نفي وجود ما هو موجود في الخارج بالضرورة.

مدفوع بأنّ ضرورة صون كلام الحكيم عن اللّغوية تقتضي أن يكون في الحديث تقدير، وأنّ هذا التقدير هو المؤاخذة.

ولكنّ تقدير المؤاخذة إنّما يصح في (ما لا يطاق) و(ما اضطرّوا إليه) و(ما أُكرِهوا عليه).

وأمّا (ما لا يعلم): فإن اُريد منه الشبهة الموضوعيّة والمجهول من ناحية المصداق، صحّ تقديرها فيه كذلك، وأمّا إن أريد منه الأعمّ أو نفس الحكم المجهول، فتقدير المؤاخذة فيه يحتاج إلى عناية.

ص: 284


1- كفاية الاُصول: 340.

فانقدح: أنّه إنّما كانت دلالة الاقتضاء مقتضية للتقدير؛ لأنّ المرفوع في تلك الأخبار كالخطأ والنسيان وغيرهما لمّا كان موجوداً في الخارج بشهادة الحسّ والوجدان، اقتضت ضرورة صون الكلام الحكيم عن اللغوية أن يكون المرفوع غيرها، وهو المقدّر.

الرابع: في بيان ما هو المقدّر.

قيل: هو المؤاخذة والعقاب، وقيل: عموم الآثار، وقيل: ظهور الآثار.

وذهب المحقّق النائيني! إلى عدم الحاجة إلى التقدير، وأنّ «التقدير إنّما يحتاج إليه إذا توقّف تصحيح الكلام عليه، كما إذا كان الكلام إخباراً عن أمر خارجي أو كان الرفع رفعاً تكوينيّاً، فلابدّ في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عن الكذب.

وأمّا إذا كان الرفع رفعاً تشريعيّاً: فالكلام صحيح بلا تقدير، فإنّ الرفع التشريعيّ كالنفي التشريعي ليس إخباراً عن أمر واقع بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعيّ بنفس الرفع والنفي، كقوله-:(لا ضرر ولا ضرار)، وكقوله: (لا شكّ لكثير الشكّ) ونحو ذلك ممّا يكون متلواً لنفي أمر ثابت في الخارج» (1).

وفيه: أنّ المراد من الرفع التشريعيّ إن كان هو رفع هذه الاُمور

ص: 285


1- فوائد الاُصول 3: 342 - 343.

حقيقةً، فهو غير معقول. وإن كان هو عدم جعلها في موارد أحكامه، فهو رفع حقيقي، لكن لا مطلقاً، بل في دائرة أحكامه، فهو يناسب مع الأخباريّة.

وحيث إنّا نعلم عدم رفع الشارع هذه الاُمور حقيقة في عالم التشريع، فلا يكون هناك فرق بين الرفع التكوينيّ والتشريعيّ في عدم معقوليّة كليهما.

فظهر: أنّ دعوى: كون الغرض هو إنشاء الحكم وتشريعه لا الإخبار عن الواقع - كما ذكره! - حتى لا يلزم الكذب؛ فاسدة؛ ضرورة أنّ الإخبار بداعي الإنشاء لا يجعله إنشاءً، ولا يسلخه عن الأخباريّة بل هو باقٍ علىها وإن كان الداعي هو البعث والإنشاء.

فما ذكره المحقّق المذكور! من أنّ دلالة الاقتضاء لا تقتضي تقديراً في الكلام، فلا حاجة حينئذٍ للبحث عمّا هو المقدّر؛ غير تام.

ثمّ إنّه قد يقال: إنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) هو الموضوع المشتبه لا الحكم المشتبه المجهول؛ لأنّ المراد من الموصول في (ما أُكرهوا) (وما اضطرّوا إليه) (وما لا يطيقون) هو الفعل الذي أُكرهوا عليه واضطرّوا إليه ولم يطيقوه؛ لأنّ هذه العناوين الثلاثة إنّما تعرض للموضوع الخارجي، ولا تعرض للحكم الشرعيّ، فيكون الحديث فيها مختصاً بالشبهات الموضوعية.

هذا، مضافاً إلى عدم إمكان فرض جامع بين الشبهات الموضوعيّة

ص: 286

والحكميّة، يكون هو المراد من الموصول فيشمل كلتا الشبهتين؛ وذلك لأنّ المرفوع في الشبهة الحكمية هو الحكمالشرعيّ الذي هو متعلّق الجهل في (ما لا يعلمون)، فالموصول الذي تعلّق الجهل به قابل للوضع والرفع الشرعيّين.

أمّا في الشبهات الموضوعيّة: فالذي تعلّق الجهل به أوّلاً وبالذات هو الموضوع الخارجي، وهو غير قابل للرفع والوضع الشرعيّين. ولولا وحدة السياق لقلنا: إنّ الحديث مختص بالشبهات الحكميّة؛ لأنّها هي التي تكون قابلة للرفع شرعاً، غيرأنّها تقتضي اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة.

وأجاب عنه المحقّق النائيني! بما هذا لفظه:

«فإنّ المرفوع في جميع الأشياء التسعة إنّما هو الحكم الشرعيّ، وإضافة الرفع في غير (ما لا يعلمون) إلى الأفعال الخارجيّة إنّما هو لأجل أنّ الإكراه والاضطرار ونحو ذلك إنّما يعرض الأفعال، لا الأحكام، وإلّا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعيّ، كما أنّ المرفوع في (ما لا يعلمون) أيضاً هو الحكم الشرعيّ، وهو المراد من الموصول والجامع بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

ومجرّد اختلاف منشأ الجهل - وأنّه في الشبهات الحكميّة إنّما يكون إجمال النص أو فقده أو تعارض النصّين، وفي الشبهات الموضوعيّة يكون المنشأ اختلاطَ الأمور الخارجيّة - لا يقتضي الاختلاف فيما اُسند الرفع إليه،

ص: 287

فإنّ الرفع قد اُسند إلى عنوان (ما لا يعلم)، ولمكان أنّ الرفع التشريعي لابدّ وأن يرد على ما يكون قابلا للوضع والرفع الشرعيّ، فالمرفوع إنّما يكون هو الحكم الشرعيّ، سواء في ذلك الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، فكما أنّ قوله (علیه السلام): (لا تنقض اليقين بالشك) يعمّ كلا الشبهتين بجامع واحد، كذلك قوله-: (رفع عن اُمتي تسعة أشياء)» (1).

وأمّا ما استشكل في المقام من أنّ إسناد الرفع إلى الحكم إسناد حقيقي؛ لأنّه إسناد إلى ما هو له، وإسناده إلى الموضوع مجازيّ؛ لأنّهإسناد إلى غير ما هو له؛ لأنّ المرفوع حقيقة هو الحكم لا الموضوع، فإرادة الأعم منهما من الموصول تستلزم استعمال النسبة الكلاميّة الواحدة في نسبتين مختلفتين، وهو ممنوع؛ لاستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنى مع عدم إمكان فرض جامع بينهما؛

فجوابه: أنّ الإسناد حقيقيّ في كليهما؛ لأنّ كون الرفع إنّما هو بملاحظة ما يمكن رفعه، وهو الحكم الشرعيّ، أي: الرفع التشريعيّ لا التكوينيّ، فإرادة الجامع لا تستلزم تعدّد النسبة بل في الواقع لا يكون هناك إلّا نسبة واحدة.

وإذ قد عرفت أنّ المراد من المرفوع هو الحكم، من غير فرق بين كونه كلّياً أو جزئيّاً، ومن غير فرق بين كون الجهل ناشئاً من جهة إجمال النص

ص: 288


1- فوائد الاُصول 3: 345.

أو عدمه أو تعارض النصّين أو من الاُمور الخارجيّة؛ فهو حينئذٍ: لا شكّ يشمل كلا الشبهتين: الحكمية والموضوعية، كما هو مختار صاحب الكفاية!.

فإن قلت: حمل الموصول على خصوص الحكم في (ما لا يعلمون ينافي وحدة السياق).

قلت: وحدة السياق إنّما تلزم إذا أمكنت، فإن لم تكن ممكنة كما في (ما لا يعلمون) حيث لا يمكن حمل الموصول على الموضوع؛ لأنّه لا يعرض عليه الجهل بنفسه، كان لابدّ من حمله على الحكم خاصة.

وكذلك الاضطرار، فإنّه لمّا لم يكن يعرض إلّا للموضوع، كان لابدّ من حمل الموصول فيه على الموضوع خاصة.

الخامس: لا يخفى: أنّ الأحكام الواقعيّة مقتضيات محضة، ووصولها إلى مرتبة الفعليّة يحتاج إلى اجتماع الشرائط وفقد الموانع، وحديث الرفع كسائر القواعد في طول الأحكام الواقعيّة ومتقدّم عليها، فإن كان بمنزلة فقد الشرط بالنسبة إلى الأدلّة الواقعيّة أو فقد المانع من فعليّة الأحكام الواقعيّة، كان تقدّمه عليها تقدّم حكومة أو ورود من غير أن يلزم النسخ أو التصويب.أمّا النسخ؛ فلأنّه عبارة عن زوال مدّة التشريع، وحديث الرفع يبيّن قيد الحكم المشروع في مرتبته الفعليّة، لا أنّه تزول مدّته، فلا ربط له بالنسخ.

ص: 289

وأمّا التصويب؛ فلأنّه عبارة عن حدوث الحكم والمصلحة بتمام مراتبه، وليس مقامنا من هذا القبيل؛ ضرورة أنّ الواقع متحقّق اقتضاءً ومصلحةً، نعم الجهل بالحكم يمنع الفعليّة وسقوط الآثار عن المؤاخذة وغيرها.

السادس: أنّ حديث الرفع يرفع الحكم ظاهراً في مورد يكون وضعه بيده، ففي المقام: الحكم موضوع برفع وجوب الاحتياط؛ بداهة أنّ وضعه في مرحلة الحكم الظاهريّ إنّما يكون بجعل الاحتياط. أمّا الحديث: فلا يشمل موارد العلم الإجماليّ؛ لأنّ ثبوته ليس بيد الشارع، والحديث إنّما يرفع ما يكون ثبوته بيد الشارع، فهو منصرف إلى موارد يكون وضعه ومنعه بيد الشارع.

وأمّا في موارد العلم الإجماليّ حيث يكون الحكم الواقعي فيها منجّزاً بالفعل أو غير منحصر بالشارع، فعلى فرض شموله لمورد العلم الإجماليّ لم يفد في نفي وجوب الاحتياط؛ لأنّ غاية مدلول الحديث هو أنّ الشارع لم يجعل الاحتياط في مورد العلم الإجمالي، ولكنّه لا ينافي تنجيز الواقع بطريق آخر وهو العقل.

ولذا: لو قلنا بعدم انحلال العلم الإجمالي بالنسبة إلى الأقل والأكثر، يشكل حينئذٍ جريان البراءة الشرعيّة فيه كما ذهب إليه صاحب الكفاية!؛ لأنّ حديث الرفع: إمّا قاصر، فلا يشمل المورد، أو يشمله، فلا ينافي شمول

ص: 290

المورد الاحتياط العقليّ الذي هو ثابت في مورد العلم الاجمالي (1).

السابع: قد عرفت أنّ الحديث يرفع ما في رفعه منّة على العباد، ولا يرفع ما يكون رفعه مستوجباً للصدق. وكذا عرفت أنّ الحديثيوقع الأثر الذي يكون ووضعه ورفعه بيد الشارع، فلا يكون الأثر العقليّ مشمولاً له.

فاعلم أنّ الأثر الذي يرفعه الحديث إنّما هو الأثر المترتّب على الموضوع من دون طرو العناوين المذكورة والموجودة فيه، بأن لا يعتبر في موضوع الأثر عنوان الخطأ أو النسيان مثلاً، وإلّا لم يكن مرفوعاً بحديث الرفع، فإذا أخذ في موضوع بعض الآثار عنوان خصوص الإكراه أو خصوص الاضطرار أو غير ذلك من العناوين الخمسة، فلا يشمل ذلك الأثر مشمولاً لحديث الرفع.

الثامن: قال المحقّق النائيني!:

«الأحكام المترتبة على أفعال العباد، إمّا أن تكون وضعية - كما في باب العقود والإيقاعات والطهارة والنجاسة وأمثال ذلك - وإمّا أن تكون تكليفية؛ وهي إمّا أن تكون مترتّبة على الفعل بلحاظ صرف الوجود بحيث لا يكون لوجوده الثاني ذلك الأثر. وإمّا أن تكون مترتّبة عليه بلحاظ مطلق

ص: 291


1- كفاية الاُصول: 363, قال!: «والحق أنّ العلم الإجمالي بثبوت التكليف بينهما أيضاً يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر, لتنجّزه به حيث تعلّق بثبوته فعلا».

الوجود بحيث كلّما وجد الفعل كان الأثر مترتّباً عليه.

ثمّ إنّ معروض الحكم والأثر، إمّا أن يكون هو الفعل الصادر عن الفاعل بمعنى أنّ الفاعل يكون هو المخاطب بالحكم كحرمة شرب الخمر حيث إنّ خطاب (لا تشرب) متوجّه إلى شخص الشارب، وإمّا أن يكون الفعل الصادر عن الفاعل علّة لتوجّه حكم إلى غير الفاعل، كوجوب إقامة الحد على من شرب الخمر، حيث إنّ شرب الخمر من شخص يكون علّة لتوجّه خطاب (إقامة الحد) إلى الحاكم المقيم للحدّ» (1).

فتارةً: يكون المجهول هو الحكم التكليفيّ الاستقلاليّ كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال وحرمة شرب التتن.وأُخرى: يكون الجهل متعلّقاً بالحكم الضمنيّ كالشك في وجوب السورة في الصلاة. ويصطلح على مثل هذه الموارد بموارد الأقل والأكثر.

أمّا إذا كان الجهل جهلاً بالحكم الاستقلاليّ، فهو المتيقّن من حديث الرفع، ولا شبهة في شموله له، وإنّما الكلام في شمول الحديث للشكّ الضمنيّ، وهو الأقل، وسيأتي الكلام فيه في محلّه.

أمّا الأحكام الوضعيّة: فتارة تكون في غير المعاملات كالنجاسات والطهارات، واُخرى تكون في المعاملات.

ص: 292


1- فوائد الاُصول: 3: 351 - 352.

أمّا الطهارة والنجاسة: فليستا من الاُمور الموضوعيّة بل هي اُمور واقعيّة تكوينيّة، وإذا لم يكن وضعهما بيد الشارع لم يمكن رفعهما من قبله، فليسا قابلين للوضع والرفع التشريعي؛ لأنّ الرفع فيهما لابدّ أن يكون من قبيل الوضع فيهما، فكل ما يمكن وضعه يمكن رفعه، وبما أنّهما من الاُمور التكوينيّة فتدور مدار وجودها التكويني فمتى تحقّقت وجدت، فلا تقبل الرفع التشريعيّ، لأنّ رفعها لابدّ أن يكون من سنخ وضعها.

ولا يخفى: أنّ لازم كونهما من الاُمور التكوينيّة عدم وجوب الجنابة وعدم وجوب التطهير منها فيما لو أكره عليها.

ولكنّ الجنابة المكره عليها وإن لم تكن قابلةً للرفع التشريعيّ، إلّا أنّها باعتبار ما لها من الأثر - وهو الغسل - قابلة للرفع؛ فإنّ الجنابة والنجاسة حيث كانا أمرين وجوديّين قد أمر الشارع بهما، فلا فرق بين حصولهما باختيار أو بغير اختيار.

وأمّا الأحكام الوضعيّة التي تكون في باب المعاملات، وهي الاُمور الاعتباريّة التي لها حقيقة في وعائها، ولكن ليس لها ما بحذائها في وعاء الخارج شيء، فهل هي قابلة للرفع أم لا؟

فالحاصل: أنّ الأحكام الوضعيّة على قسمين: عقود وإيقاعات.

أمّا العقود: كالبيع، فلا يشملها رفع الإكراه والاضطرار؛ لما عرفت من أنّ الرفع يقع في مكان قابل للوضع، وهو إنّما يكون في محلّ فيهنقل، ولا نقل في الحكم الوضعيّ، مثل صحّة البيع إذا لوحظ بذاته؛ لأنّ

ص: 293

المكلّف قد يرغب في تحقيقه بطرق شتّى.

ثمّ إنّ هذا الحديث قد ورد في مقام الامتنان على المكلّفين، فهو متوجّه إلى عامّة المكلّفين، مع أنّ الخطاب يكون لمكلّف خاص، فإنّما يجوز ارتفاع العقود بالاضطرار والإكراه مثلاً فيما لو كانت مجعولة على مضطرّ أو مكره خاصّين، وليس الجعل فيها كذلك.

أضف إلى ذلك: أنّ رفع الصحّة للبيع بالنسبة إلى المضطرّ خلاف الامتنان، مع أنّ الحديث - كما عرفت - وارد في مقام الامتنان.

وكذلك، فإنّ شمول الإكراه للمعاملات الماليّة كالبيع ونحوه مستلزم لتحصيل الحاصل؛ ضرورة أنّ الصحّة فيها مقيّدة بصورة عدم الإكراه، بأن يكون حصول المعاملة عن رضا وطيب نفس، فتكون الصحّة منتفية حتى ترفع بحديث الرفع.

وهذا الحكم جارٍ - أيضاً - بالنسبة إلى المعاملات الإيقاعيّة، فلا يشملها حديث الرفع.

وهل يشمل الحديث الترك أيضاً؟

ذهب المحقّق النائيني! إلى عدم شموله لمورد الترك، حيث قال!:

«وإن أكره المكلّف على الترك أو اضطر إليه أو نسي الفعل: ففي شمول حديث الرفع لذلك إشكال. مثلاً: لو نذر أن يشرب من ماء دجلة، فأكره على العدم أو اضطر إليه أو نسي أن يشرب، فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة عليه لو لم تكن أدلّة وجوب الكفارة مختصّة

ص: 294

بصورة تعمّد الحنث ومخالفة النذر عن إرادة والتفات؛ فإنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود؛ لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً، والمفروض أنّ المكلّف قد ترك الفعل عن إكراه أو نسيان فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع، ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعاً وجعله كالشرب، حتّى يقال: إنّه لم يتحقّق مخالفة النذر فلا حنث ولا كفارة.والحاصل: أنّه فرق بين الوضع والرفع، فإنّ الوضع يتوجّه على المعدوم فيجعله موجوداً ويلزمه ترتيب آثار الوجود على الموضوع، والرفع يتوجّه على الموجود فيجعله معدوماً ويلزمه ترتيب آثار العدم على المرفوع» (1).

وخلاصة ما أفاده!: أنّ الحديث في مقام التنزيل؛ لأنّ الرفع هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم، فلو كان شاملاً للترك، لكان معناه: تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وهذا في الحقيقة وضع وليس رفعاً.

وعليه: فلو كان هناك عبادة فاقدة لبعض الأجزاء والشرائط لإكراهٍ أو نسيان، فلا يمكن تصحيح تلك العبادة وجعلها منزلة الكاملة، وكذا بالنسبة إلى الجزء المنسيّ؛ لخلوّها من صفحة الوجود.

ص: 295


1- فوائد الاُصول 3: 352, 353.

ولكنّ هذا الإشكال منه! إنّما يتم فيما لو كان حديث الرفع في مقام التنزيل، وليس كذلك، بل نظره في رفع ما يعرض على هذه العناوين حقيقة من غير فرق بين أن يكون فعلاً أو تركاً.

ولو سلّم كونه في مقام التنزيل، فليس معناه أنّه ينزل المعدوم منزلة الموجود، حتى يرد أنّه وضع وليس رفعاً؛ بل المعنى أنّه ينزّله منزلته في عدم ترتّب أثر المعدوم عليه، لا في ترتّب أثر الموجود.

والكلام نفسه يجري في النسيان، فيتعلّق بالترك كما يتعلّق بالفعل.

وأمّا ما قد يُقال: في تقريب عدم شمول الحديث للجزء من جهة النسيان والاكراه من أنّ شموله له خلاف الامتنان؛ لأنّ جريانه يقتضي الكلفة؛ إذ مقتضى اضطراره إلى ترك الجزء هو سقوط الوجوب عن الكلّ؛ لانتفاء المركّب بانتفاء جزئه، فينتفي الكلّ بارتفاع الأمر الضمنيّ المتعلّق بالجزء، ومقتضى رفع جزئيّته في حال الاضطرار بالحديث هو لزوم الإتيان بالباقي؛ لأنّه هو المركب التام في الاضطرار، فيكون حديث الرفع مقتضياً للوضع وهو خلاف الامتنان.ففيه: أنّه غير تامّ بالنسبة إلى الناسي؛ ضرورة أنّه إذا أتى ونسي الجزء فأتى بالمركّب الناقص غير ملتفت إلى نسيانه، فعمله صحيح.

نعم، لو أتى به كذلك، ولكن التفت إليه بعد زوال النسيان، فعدم رفع جزئيّته للجزء المنسي تقتضي الإعادة؛ للإخلال بما أتى به، فلا شبهة في كون شمول الحديث موافقاً للامتنان.

ص: 296

ولكن يمكن أن يقال: إنّ الجزئيّة غير قابلة للرفع؛ لأنّها ليست مجعولة، نعم، هي باعتبار كونها جزءاً من المركّب، والأمر بالمركّب يترشّح إلى أجزائه، فتكون منتزعة من تعلّق الأمر بالمركّب، فهي - بهذا المعنى - قابلة للوضع والرفع شرعاً، ولكنّ قبولها للرفع إنّما هو بلحاظ رفع منشأ انتزاعها، وهو الأمر المتعلّق بالجزء الذي يكون ضمنيّاً.

ولمّا لم يكن للأمر الضمنيّ استقلال وانفراد عن سائر الأوامر الضمنيّة المتعلّقة بسائر الأجزاء، فلا يمكن رفعه وحده، بل هو لا يرتفع إلّا بارتفاع الأمر بالكلّ، فلا يكون رفع الجزئيّة ممكناً إلّا برفع الأمر بالكلّ؛ إذ لا دليل على ثبوت الأمر بالباقي.

ويمكن أن يُجاب عنه: بأنّ الامر بالجزء وإن كان أمراً ضمنيّاً، ولكنّه استقلاليّ، فلا يكون ارتفاعه مربوطاً بارتفاع بقيّة الأجزاء.

وعليه: فما قد يُذكر من مخالفة الامتنان غير تامّ؛ لأنّ مقتضى الاضطرار إلى ترك الجزء ليس معناه: سقوط الوجوب عن الكلّ بارتفاع الأمر الضمني المتعلّق بالجزء، ومقتضى رفع الجزئيّة هو: كفاية الإتيان بالباقي، ولا حاجة - حينئذٍ - إلى الإعادة بعد رفع الاضطرار أو النسيان؛ لأنّه امتنان.

أمّا صاحب الكفاية! فقد أجاب عن هذا الإشكال بما حاصله:

أنّ هناك دليلاً على الأمر بالكلّ، ودليلاً يرشد إلى جزئيّة أمرٍ كقوله-:

ص: 297

«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (1)، وهذا يشمل بمقتضى إطلاقه جزئيّة الفاتحة في مطلق الأحوال.وأمّا حديث الرفع فهو يتكفّل عدم جزئيّة الفاتحة في حال الاضطرار أو الجهل، فيخصص دليل الجزئيّة، فحاله حال المستثنى المتّصل الدالّ على عدم الجزئيّة في مورد الجهل، فكأنّه ورد الأمر هكذا: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب في حال عدم الجهل، ومعناه: أنّه في مورد الجهل لا أمر هناك، فظهر أنّ الأمر بالباقي ثابت بعد تخصيص دليل الجزئيّة بحديث الرفع (2).

ومنها: حديث الحجب:

عن زكريا بن يحي عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام): «ما حجب اﷲ علمه عن العباد، فهو موضوع عنهم» (3).

وفيه اُمور لابدّ من بيانها:

الأوّل: أنّ المراد بالحجب هل هو ما حجب عن مجموع المكلّفين،

ص: 298


1- عوالي اللّآلي 1: 196، الفصل التاسع، ح2.
2- كفاية الاُصول: ص 367, وإليك نصّ كلامه!: «لا يقال: إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه, وهو الأمر الأول, ولا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه. لأنّه يقال: نعم, وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه, إلّا أنّ نسبة حديث الرفع - الناظر إلى الأدلة الدالة على بيان الأجزاء - إليها نسبة الاستثناء, وهو معها يكون دالة على جزئيتها إلّا مع الجهل بها, كما لا يخفى, فتدبّر جيداً».
3- وسائل الشيعة 27: 163, الباب 12 من أبواب صفات القاضي, الحديث: 33.

أو عن كلّ فرد فرد، أو المراد: كلّ علم حجبه اﷲ عن شخص فهو مرفوع عن ذلك الشخص، سواء كان معلوماً لغيره أم لا.

والظاهر من الحديث هو الأخير.

الثاني: أنّ المراد: هو المرفوع ظاهراً، وإن كان ثابتاً في الواقع.

الثالث: اختلفوا في إمكان التمسّك بعموم حديث الحجب وشموله للشبهات الحكميّة والموضوعيّة - فيكون كحديث الرفع - وعدمه.

والحقّ: عدم إمكان الاستدلال بهذا الحديث على جريان الرفع في الشبهات الموضوعية؛ ضرورة أنّ بيان الأفعال غير المعلومة - كالفعلالذي لا يعلم أنّه شرب خمر أو خلّ ليس من شأن المولى -، فلا يصدق عليها أنّها ممّا حجب اﷲ علمه عن العباد وإن لم تكن معلومة.

فالمراد من الموصول - إذاً -: هو خصوص الحكم المجهول الذي من شأن المولى بيانه، كحرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وعلى هذا: فالحديث مختصّ بالشبهات الحكميّة، دون الموضوعيّة.

وقد استشكل العلّامة الأنصاريّ! على الاستدلال بالحديث بما لفظه:

«وفيه: أنّ الظاهر ممّا حجب اﷲ علمه ما لم يبيّنه للعباد، لا ما بيّنه واختفى عليهم بمعصية مَن عصى اﷲ في كتمان الحق أو ستره؛ فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (علیه السلام): (إنّ اﷲ تعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائضَ فلا تعصوها وسكت عن أشياء لم يسكت

ص: 299

عنها نسياناً فلا تتكلّفوها، رحمةً من اﷲ لكم)» (1).

ولكن الحقّ: أنّ معنى الرفع المستفاد من قوله (موضوع عنهم) هو رفع ما هو مجعول بحسب الواقع، لا ما لم يجعل وسكت عنه تعالى من أوّل الأمر.

فليس المراد به: ما لم تعلّقت عنايته بمنع اطّلاع العباد عليه؛ إذ لم يبيّنه لرسله، أو بلّغها إليهم ولكن لم يأمرهم بتبليغها، ولو كان الحجب مساوقاً لقوله(علیه السلام): (وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً)، لما كانت تلك الاُمور المحجوبة موضوعة أصلاً، فلا حاجة إلى البيان.

فظهر: أنّ المراد من الحجب: الحجب الخارج عن اختيار المكلّف، لا المستند إلى تقصيره وعدم فحصه، بل المراد: كلّ حجب لم يكن مستنداً إلى تقصيره، فيشمل ضياع الكتب وطول الزمان وقصور البيان وغير ذلك.فإن قلت: الجهل بالحكم بالنحو الثاني - وهو فيما إذا كان الحكم مبيّناً للناس من قبل اﷲ تعالى ولكنّه خفي عليهم - لم يكن سببه اﷲ تعالى؛ إذ هو أمر بتبليغه وبلّغ، وإنّما نشأ عن إخفاء الظالمين للأحكام ومنعهم من انتشارها وتدليس المدلّسين وغير ذلك من الأسباب الخارجيّة، بخلاف الجهل بالمعنى الأوّل - وهو فيما لو لم يبيّنه المولى للناس لبعض

ص: 300


1- فرائد الاُصول 2: 41.

المصالح -؛ فإنّه ناشئ من عدم أمر اﷲ تعالى بتبليغه وبيانه.

وعليه: فلا يصح نسبة الحجب إلى اﷲ سبحانه بلحاظ الجهل بالنحو الثاني، ويصح نسبته إليه بلحاظ النحو الأوّل، فلابدّ من حمل الحديث على إرادة النحو الأوّل من الأحكام.

قلت: إنّ الأسباب الخارجيّة التي تكون سبباً لخفاء النحو الثاني من الأحكام:

تارةً: لا تكون من الأفعال الاختيارية للعباد، بل من الأسباب التكوينيّة، كضياع كتب الحديث بواسطة غرق أو عارض سماويّ أو نحو ذلك.

وتارةً أُخرى: تكون من الأفعال الاختياريّة، كوضع الوضّاعين وإتلاف الظالمين لكتب الحقّ.

ولا يخفى: أنّه يصحّ نسبة الحجب إلى اﷲ تعالى إذا كان سبب الخفاء هو العوارض السماويّة ونحوها ممّا لا تتدخل فيها إرادة العباد.

وأمّا إذا كان سبب الخفاء هو الفعل الاختياريّ للعبد، فتصحّ نسبته إلى اﷲ تعالى - بناءً على ما هو المذهب الحقّ من الالتزام بالأمر بين الأمرين -؛ فإنّ الفعل الصادر من العبد كما تكون له نسبة إلى العبد، فكذلك تكون له نسبة إلى اﷲ سبحانه، فتصحّ - حينئذٍ - نسبة الحجب إلى اﷲ بالمعنى الثاني.

ثمّ ها هنا وجه آخر لعدم شمول حديث الحجب لمحلّ البحث، وحاصله:

ص: 301

أنّه وإن فرض صحّة نسبة الحجب إلىه تعالى، لكنّ الظاهر العرفيّ من إسناد الحجب إليه تعالى هو إرادة ما إذا كان الإخفاءبأمره؛ إذ لا يسند الحجب إليه عرفاً إذا كان الإخفاء على خلاف أمره، بل إذا كان بواسطة الظلم؛ لأنّه يكون محرّماً ومبغوضاً بالنسبة إليه، فيختصّ الحديث - حينئذٍ - بالوجه الأوّل فقط.

ولكن قد عرفت جوابه: وهو أنّ معنى الموضوع في الحديث هو المرفوع، وهو غير ممكن قبل ثبوت الحكم في نفسه في الواقع؛ فإنّ ظاهر الحديث هو أنّه للحكم الذي له تقرّر وثبوت في الواقع، فهو موضوع ومرفوع عنهم، رفقاً بهم، وتسهيلاً عليهم.

فالحكم القابل للرفع - في الحقيقة - هو الحكم الفعليّ المبيّن للعباد وإن خفي عنهم بعد ذلك؛ فإنّ هذا هو الذي يكون قابلاً للرفع الظاهريّ في حال الجهل بجعل الاحتياط.

وأمّا الحكم المختصّ به تعالى، أو غير المختصّ المبيّن من قبله للرسل والأنبياء والأئمة( ولكن من غير أن يأمرهم بتبيينه للناس، لمصلحة اقتضت ذلك، فهذا لمّا لم يكن قابلاً للوضع، فهو أَولى بأن لا يقبل الرفع كذلك. بل لو فرض علم العباد به، فهم لا يكونون مكلّفين بإتيانها، وهذا لا يسمّى حكماً عند العرف.

فانقدح بهذا البيان: أنّه لا مجال للقول بعدم دلالة الحديث على البراءة، بل الظاهر: شموله للشبهة الموضوعيّة أيضاً؛ لإطلاق الحكم.

ص: 302

ومنها: حديث الحلّ:

وهو قوله(علیه السلام): «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خُدِع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة» (1).وقد استدلّ صاحب الكفاية! بهذه الرواية على حليّة ما لم تعلم حرمته مطلقاً: موضوعيّة كانت، وهي التي قد ينشأ الشكّ فيها من اشتباه الاُمور الخارجيّة، أو حكميّة، وهي التي قد ينشأ الشكّ فيها من عدم الدليل أو غيره (2).

واستشكل المحقّق النائيني! في شموله للشبهة الحكميّة، وذلك بملاحظة:

«ظهور كلمة (فيه) و(منه) و(بعينه) في الانقسام والتبعيض الفعلي - أي كون الشيء بالفعل منقسماً إلى الحلال والحرام - بمعنى أن يكون قسم منه حلالاً، وقسم منه حراماً، واشتبه الحلال

ص: 303


1- وسائل الشيعة 17: 89, الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.
2- كفاية الاُصول: ص 341, قال!: «حيث دلّ على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقاً, ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته».

منه بالحرام ولم يعلم أنّ المشكوك من القسم الحلال أو الحرام، كاللحم المطروح المشكوك كونه من الميتة أو المذكّى، أو المايع المشكوك كونه من الخل أو الخمر، فإنّ اللحم أو المايع بالفعل منقسم إلى ما يكون حلالاً وإلى ما يكون حراماً، وذلك لا يتصوّر إلّا في الشبهات الموضوعيّة.

وأمّا الشبهات الحكميّة: فليس القسمة فيها فعليّة، وإنّما تكون القسمة فيها فرضية - أي: ليس فيها إلّا احتمال الحل والحرمة - فإنّ شرب التتن الذي فرض الشك في كونه حلالاً أو حراماً ليس له قسمان: قسم حلال وقسم حرام، بل هو إمّا أن يكون حراماً وإمّا أن يكون حلالاً، فلا يصح أن يقال: إنّ شرب التتن فيه حلال وحرام، إلّا بضرب من التأويل والعناية» (1).

فكلّ من كلمتي (فيه) و(بعينه) ظاهرتان في اختصاص الحديث في الشبهات الموضوعيّة.ولكن يمكن أن يقال: إنّ معنى معرفة الحرام بعينه أو بنفسه هو تشخيص الحرام من الحلال، لا تشخيصه خارجاً، فلا يكون الحديث - حينئذٍ - مختصّاً بالموضوعيّة، إلّا أنّ العمدة في الإشكال هي شمول الرواية للحكميّة، كما يظهر ذلك من الأمثلة المذكورة في ذيلها.

ص: 304


1- فوائد الاُصول 3: 41.

قال في الوسائل بعد ذكر الحديث الشريف ما هذا لفظه:

«هذا مخصوص بما يشتبه فيه موضوع الحكم ومتعلّقه كما مثّل به في هذا الحديث وغيره بقرينة الأمثلة وذكر البيّنة والتصريحات الآتية، لا نفس الحكم الشرعيّ كالتحريم» (1).

وذهب صاحب الكفاية! إلى شمول الرواية للشبهة الوجوبية، وإن كانت بحسب ظهورها الأوّلي مختصة بالشبهة التحريميّة، على أنّ هذا الشمول مستفاد من عدم بالفصل بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة وعدم وجوبه في الشبهة الوجوبيّة؛ ضرورة أنّه إمّا أن بالاحتياط في الشبهات التحريميّة فقط كما عليه الأخباريّون، أو نقول بالبراءة فيها وفي الشبهات الوجوبيّة جميعاً كما هو مختار المجتهدين، فظهر: أنّ القول بالبراءة في الشبهة التحريميّة فقط دون الوجوبيّة قول ثالث ينفيه عدم القول بالفصل بالإجماع المركّب (2).

بل يمكن تقريب شمول الحديث للوجوبيّة من دون التمسّك بعدم القول بالفصل؛ وذلك لأنّ ترك الواجب حرامٌ، فلو شكّ مثلاً في وجوب

ص: 305


1- وسائل الشيعة 17: 90.
2- كفاية الاُصول: 341. وإليك نصّ كلامه!: «حيث دلّ على على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقاً, ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته, وبعدم الفصل قطعاً بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية, يتم المطلوب».

الدعاء عند رؤية الهلال، فقد شكّ في حرمة تركه، والترك على تقدير الوجوب محرّم، فيصير حلالاً ببركة الحديث الشريف.

ويمكن أن يُجاب عن كلا التقريبين:

أمّا عن الأول: فبأنّ الاستدلال بعدم القول بالفصل إنّما يتمّ فيما إذا كان منشؤه الكشف عن رأي المعصوم(علیه السلام)، وليس مقامنا من هذا القبيل،فتكون حجّيّة الإجماع المركّب محتاجة إلى الدليل، وحيث لا دليل عليها لا يمكن العمل بها.

وأمّا عن الثاني: فلأنّه لا يصدق على الترك في مورد الوجوب أنّه حرام عرفاً، كما لا يصدق على الشك فيه أنّه شك في الحرام.

ومنها: حديث السعة:

وهو قوله-: «إنّ الناس في سعةٍ ما لم يعلموا» (1).

والحاصل: أنّ لفظة (ما) إمّا موصولة، فالمعنى: الناس في سعةِ الذي لا يعلمون، أو مصدريّة ظرفيّة، ومعناها حينئذٍ: الناس في سعةٍ ما داموا لا يعلمون.

ص: 306


1- عوالي اللّآلي 1: 424، المسلك الثالث من الباب الأوّل في الفصل العاشر، ح 109. وانظر - أيضاً - : وسائل الشيعة 3: 493، باب 50 من أبواب النجاسات، ح 11، والحديث هنا عن أمير المؤمنين(علیه السلام)، وبلفظ: «هم في سعة حتى يعلموا»، وفي الكفاية: «ومنها قوله(علیه السلام): الناس في سعة ما لا يعلمون». انظر: كفاية الاُصول: 342.

ولذا قال صاحب الكفاية!: «فهم في سعة ما لم يعلم، أو ما دام لم يعلم» (1).

وهل لهذين التقديرين مدخليّة في دلالة الحديث على البراءة، فتستفاد

البراءة على أحدهما دون الآخر أو لا؟ فالخبر دالّ على البراءة بأيٍّ أخذنا؟

الظاهر: ممّا تقدّم من كلمات صاحب الكفاية! هو القول بعدم الفرق، فسواء كانت (ما) موصولة وأضيف إلى السعة، ولم تكن السعة منويّة، أو كانت مصدرية ظرفيّة بمعنى (ما دام)، فإنّ الحديث يدلّ على البراءة، أي: الناس في سعة من جهة التكليف الذي لا يعلمونه، أو ما داموا لا يعلمونه، فالحديث معارض لأدلّة الاحتياط.هذا وقد ذكر بعضهم الحديث بشكل تتعيّن فيه (ما) للموصولية، حيث قال: «الناس في سعة مما لم يعلموا».

وأمّا ما قد يقال: من أنّ أدلّة الاحتياط توجب العلم بوجوب الاحتياط، فتكون واردة على هذا الحديث.

فقد أجاب عنه صاحب الكفاية! بأنّه يقع التعارض بين الدليلين؛ ضرورة أنّ دليل الاحتياط طريقيٌّ فيستوجب ضيق ما لم يعلم من الوجوب والحرمة بالنسبة إلى الواقع، وهذا الحديث يثبت سعة ما لم

ص: 307


1- كفاية الاُصول: ص 342.

يعلم كذلك، فيتعارضان (1).

فليس معنى أدلّة الاحتياط هو العلم حتى يكون وارداً على الحديث؛ بداهة أنّ العلم بوجوب الاحتياط ليس علماً بالواقع، إذ هو عبارة عن الطرق العقلائيّة والشرعيّة إلى الواقع الكاشف عنه، وليس الاحتياط من تلك الطرق. ويشهد لذلك أنّه لو أفتى المفتي من جهة قيام الأمارة عليه، فإنّه يقال: (أفتى بالعلم) لا بغير علم، بخلاف ما إذا أفتى بالوجوب من جهة الاحتياط فإنّه يقال: أفتى بغير علم.

ويبقى: أنّ تعارض الحديث مع أدلّة الاحتياط لا يكفي لوحده للاستدلال على البراءة، فتبقى مفتقرة إلى دليل يثبتها.

ومنها: مرسلة الصدوق:

«كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (2).

ص: 308


1- كفاية الاُصول: 342, وإليك نصّ كلامه!: «لا يقال: قد علم به وجوب الاحتياط. فإنّه يقال: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد, فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله؟ نعم لو كان الاحتياط واجباً نفسياً كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه, لكنّه عرفت أن وجوبه كان طريقيّاً, لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام, فافهم».
2- انظر: وسائل الشيعة 27: 173 - 174, الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح 67.

وواضح: أنّ كون الرواية مرسلة، يشكّل مانعاً من قبول حجّيّتها من جهة الصدور.وقد حاول بعض المحقّقين المعاصرين! الاستدلال على حجّيّة الرواية بقوله:

«وإسناد الصدوق متن الحديث إليه بصورة الجزم والقطع شهادة منه على صحّة الرواية وصدورها عنهم( في نظره الشريف، وهذا الإرسال بهذه الصورة - من دون أن يقول: وعن الصادق - حاكٍ عن وجود قرائن كاشفة عن صحّة الحديث ومعلوميّة صدوره عنده كما لا يخفى» (1).

ومحاولته غير تامّة؛ لعدم كفاية صحّة الحديث في نظره، نعم لو حصل لنا العلم بتلك القرائن وحصل منها الاطمئنان لكنّا قلنا بصحّته كما هو المبنى المختار.

ومثله في الفساد ما ذكره بعضهم من أنّ المناقشة فيه بالإرسال مع اعتماد الفقهاء عليه واعتضاده بروايات مختلفة في أبواب متفرّقة وسهولة الشريعة المقدّسة ممّا لا وجه لها؛

لأنّا نقول: أمّا ما ذكره من اعتماد الفقهاء واعتضاده فإن حصل منهما الاطمئنان بالصدور تثبت حينئذٍ له الحجّة من جهة السند، لأنّه أمر عقلائي. وأمّا ما ذكره من سهولة الشريعة: فلا معنى له؛ لأنّها إنّما كانت من جهة الحكم لا من جهة السند.

ص: 309


1- تهذيب الاُصول 2: 243.

وأمّا فقه الحديث: ففيه احتمالات:

فإمّا أن يكون المراد من الشيء عنوانه الأوّلي ومن حيث هو، فيرجع البحث حينئذٍ إلى مسألة الحظر والإباحة، ويكون أجنبيّاً عن مسألة إثبات البراءة لمجهول الحكم.

وإمّا أن يكون المراد به مجهول الحكم، وبالورود: مطلق التشريع، فتكون أدلّة الاحتياط في الشبهة التحريميّة الحكميّة متقدّمة عليه؛ لأنّها تكفي لتشريع الحكم، فتكون المرسلة حينئذٍ مؤيّدة لما قالهالأخباريّون من الاحتياط في الشبهات التحريمية فقط، وتصلح دليلاً على مدّعاهم.

ويحتمل أن يكون المراد به مطلق مجهول الحكم حتى يرد الحكم الثابت غير القابل للمناقشة، فإنّها حينئذٍ تكون دليلاً على البراءة.

وكيف كان، فقد ذهب الشيخ! إلى أنّ دلالة هذا الحديث على المطلب أوضح من الكلّ (1).

وتوقّف صاحب الكفاية! في دلالته على المدّعى بما حاصله أنّه ليس معنى الورود هو الوصول المساوق للعلم بالنهي، بل هو الصدور من الشارع وإن خفي علينا لبعض الأسباب والدواعي، ومن المعلوم: أنّا نحتمل الصدور في كل شبهة حكميّة.

ص: 310


1- فرائد الاُصول 2: 43, قال!: «ودلالته على المطلب أوضح من الكل, وظاهره عدم وجوب الاحتياط».

وعليه: فلا يمكن التمسّك بالحديث؛ لأنّه من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقيّة، ومفاد الحديث حينئذٍ: إنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة الى أن يرد فيه النهي لا الحظر والتوقّف (1).

وحاول المحقّق الأصفهاني! إثبات دلالة الحديث على المدّعى - وهو الإباحة الظاهريّة في مورد الشك في صدور الحرمة وعدم وصولها للمكلّف - بما هذا لفظه:

«تحقيق المقام: أنّ المراد بقوله (علیه السلام): (حتى يرد فيه نهي) تارةً هوالورود في نفسه المساوق للصدور واقعاً، وأُخرى هو الورود على المكلّف المساوق للوصول إليه. والنافع في المقام هي إباحة ما لم يصل حرمته إلى المكلّف، لا إباحة ما لم يصدر فيه نهي واقعاً،فإنّه دليل إباحة الأشياء قبل الشرع لا الإباحة في ما لم يصل وإن صدر فيه نهي واقعاً» (2).

وتوضيحه: أنّ الإباحة على قسمين:

الأول: الإباحة المالكيّة، ومعناها: اللاحرج من قبل المولى في قبال

ص: 311


1- كفاية الاُصول: ص 342, قال!: «ودلالته تتوقف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم أو ما بحكمه, بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد, مع أنّه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سيّما بعد بلوغه إلى غير واحد, وقد خفي على من لم يعلم بصدوره».
2- نهاية الدراية 2: 453.

الحظر العقليّ، لكونه عبداً مملوكاً فيكون فعله تصرّفاً في سلطان المولى، فينبغي أن يكون وروده وصدوره عن رأي مالكه.

والثاني: الإباحة الشرعيّة، وهي الترخيص المجعول من قبل الشارع، في قبال الحرمة الشرعيّة الناشئة عن المفسدة الباعثة للمولى على زجره عمّا فيه المفسدة.

ثمّ الإباحة الشرعيّة على قسمين؛ لأنّها تارة تكون إباحة واقعيّة ثابتة لذات الموضوع ناشئة عن لا اقتضائيّة الموضوع لخلوه عن المصحلة والمفسدة.

وتارةً اُخرى تكون إباحة ظاهريّة ثابتة للموضوع بما هو محتمل الحرمة والحليّة ناشئة عمّا يقتضي التسهيل على المكلّف بجعله مرخّصاً فيه.

وعليه: فالمراد من الإطلاق إمّا الإباحة الشرعيّة الواقعيّة أو الظاهريّة أو الإباحة المالكيّة.

فإن كان الأوّل، بأن كان المراد منه: أنّ كل شيء لم يتعلّق به نهي فهو مباح واقعاً، وكلّ ما ورد فيه نهي فليس بمباح واقعاً؛ فإن كان بنحو المعرّفيّة، فلا محالة: يكون حمل الخبر عليه حملاً على ما هو كالبديهيّ، وهو لا يناسب شأن الإمام(علیه السلام)، لأنّه لوضوحه لا يحتاج إلى بيان.

وإن كان بمعنى: تقييد موضوع أحد الضدّين بعدم الضدّ الآخر، أو فقل: أخذ عدم الحرمة في موضوع الإباحة، فهو غير معقول؛ بداهة عدم شرطيّة أحد الضدّين في وجود ضدّه، بل هما متلازمان، وليس

ص: 312

معنى تقييد موضوع الإباحة بعدم ورود النهي حقيقة إلّا كونه شرطاً في تحقّقه.

وأمّا الإباحة الظاهريّة: فجعلها مغياة أو محدّدة ومقيّدة بعدم صدور النهي في موضوعها واقعاً فاسد من وجوه:

الأوّل: استلزامها تخلّف الحكم عن موضوعه؛ لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الجهل، فلو كان مقيّداً بعدم صدور النهي، للزم انتفاء الحكم الظاهري مع تحقّق موضوعه وهو الشك؛ ضرورة أنّه يكون النهي صادراً ومشكوكاً.

الثاني: أن موضوع الاباحة حيث إنّه مغيّىً بصدور النهي واقعاً أو محدد بعدم صدروه فهو مشكوك، فلا يمكن إثبات الإباحة الظاهريّة في مورد الشك؛ لأنّه من التمسّك بالدليل مع الشك في موضوعه، فلا محالة: يحتاج إلى أصالة عدم صدوره؛ لفعليّة الإباحة.

على أنّ التمسّك باستصحاب عدم الصدور لا يجدي في المقام؛ إمّا لكفايته بنفسه وإن لم يكن هذا الخبر فلا استدلال به، أو لا يكون كافياً إن أردنا ترتيب مضمون الخبر عليه تعبّداً فلا يصحّ كذلك.

الثالث: أنّ جعل ورود النهي في الخبر غاية رافعة للإباحة الظاهرية يرجع إلى عدم الحرمة حدوثاً، ومقتضاه: عدم الشك في الحليّة والحرمة من أوّل الامر، وحينئذٍ: لا معنى لجعل الإباحة الظاهرية.

وأمّا الإباحة المالكيّة بمعنى: اللّاحرج العقليّ، مع كون المراد من

ص: 313

الصدور هو الورود، فلا مناص من حمل الإباحة على إباحة الأشياء قبل الشرع بمعنى اللّاحرج الفعليّ، فإنّها محدودة ومغياة بعدم صدور الحرمة الشرعيّة، فيكون الخبر دليلاً على هذه الإباحة، لا الإباحة الشرعيّة الظاهريّة التي هي محلّ البحث.

ثمّ قال!: «إلّا أنّ حمل الإباحة على الإباحة المالكية قبل الشرع التي يحكم بها عقل كل عاقل بعيدٌ غير مناسب للإمام(علیه السلام) المعد لتبليغ الأحكام، خصوصاً بملاحظة أنّ الخبر مروي عن الصادق(علیه السلام) بعد ثبوت الشرع وإكمال الشريعة خصوصاً في المسائل العامة البلوى التييقطع بصدور حكمها عن الشارع، فلا فائدة في الإباحة مع قطع النظر عن الشرع.

وعليه: فالمراد من الورود، هو الورود على المكلف المساوق لوصوله إليه، والمراد بالإطلاق هو الترخيص الشرعيّ الظاهري وعدم تقيّد المكلّف ظاهراً بطرف الترك أو بطرف الفعل فيكون دليلاً على المسألة، والتعبير عن الوصول بالورود تعبير شائع لا ينسبق إلى أذهان أهل وغيره» (1).

وأمّا ما أفاده المحقّق العراقي! في تقريب دلالتها من أنّها تشمل الجاهل الملتفت غير القادر على الفحص، وبضميمة عدم الفصل تثبت

ص: 314


1- نهاية الدراية 2: 456.

المعذوريّة بالنسبة للجاهل الذي لا يعرف شيئاً خاصاً الذي هو محل الكلام فيما نحن فيه (1).

ففيه - مضافاً إلى عدم تسليمه في نفسه -: أنّه حمل للكلام على خلاف ما هو ظاهر فيه، ولا يخفى: أنّ الكلام إنّما هو في ظهور الحديث، لا فيما يمكن حمله عليه.

ومنها:

قوله(علیه السلام) «أيّ رجلٍ ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه» (2).

وتقريب الاستدلال به واضح.واستشكل الشيخ! في دلالته، وذلك بدعوى: ظهوره في كون المراد هو الجاهل بالجهل المركّب، والغافل عن الواقع رأساً، لا الجاهل بالجهل البسيط المتردّد الذي هو محلّ الكلام في أصالة البراءة (3).

ص: 315


1- نهاية الأفكار 3: 229, قال!: «اللّهم إلّا أن يمنع اختصاصه بالغافل بدعوى شموله - أيضاً - للجاهل بمجموع الأحكام الملتفت إليها مع كونه غير قادر على الفحص عنها لكونه ممّن يصدق عليه أنّه لا يعرف, فإذا استفيد من قوله(علیه السلام) في الجواب لا نفي العقوبة بنفي منشئها الذي هو وجوب الاحتياط يتعدّى إلى الجاهل ببعض الأحكام بعد الفحص لعدم الفصل بينهما».
2- وسائل الشيعة 8: 248, الباب 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 1.
3- فرائد الاُصول 2: 42, وهذا نصّ كلامه!: «وفيه: أنّ الظاهر من الرواية ونظائرها من قولك: (فلان عمل بكذا بجهالة) هو اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع, فلا يعمّ صورة التردد في كون فعله صواباً أو خطأً).

ويؤيّده: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَ-ئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ﴾ (1).

وقوله تعالى: ﴿ كَتَبَ رَب-ُّ-كُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَن--َّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَن--َّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (2).

وما عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) أنّه قال: «كلّ ذنب عمله العبد وإن كان عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، فقد حكى اﷲ تعالى قول يوسف(علیه السلام) لإخوته: ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ (3) فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اﷲ» (4).

ثمّ أيّد الشيخ! كلامه بقوله:

«إنّ تعميم الجهالة لصورة التردّد يُحوِج الكلام إلى التخصيص بالشاكّ الغير المقصّر، وسياقه يأبى عن التخصيص، فتأمّل» (5).

وردّ عليه المحقّق العراقي! بما حاصله:أنّ السبب في الارتكاب في مورد الجهل البسيط هو الجهل أيضاً،

ص: 316


1- النساء: الآية 17.
2- الأنعام: الآية 54.
3- يوسف: الآية 89.
4- بحار الأنوار 6: 32.
5- فرائد الاُصول 2: 42.

كما هو مقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا ضير بها كون الباء للسببيّة (1).

ويؤيّد شموله لموارد الجهل البسيط: ما ورد عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) أنّه قال لرجل أعجميّ أحرم في قميصه: «فأخرجه من رأسك، فإنّه ليس عليك بدنة، وليس عليك الحجّ من قابل، أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه» (2).

فظهر من هذا الحديث: أنّ المراد بالجهالة ما يقابل العلم، لا السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل.

ومنها:

رواية عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اﷲ (علیه السلام) قال:

«سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة، أهي ممّن لا تحلّ له أبداً، فقال(علیه السلام): لا، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعدما تنقضي عدّتها،

ص: 317


1- نهاية الدراية 3: 229, قال! ما لفظه: «وأمّا ما أفاده في وجه التخصيص بالجاهل المركب والغافل بكونه مقتضى ظهور الباء في السببية, ففيه: أنّه كذلك في الجهل البسيط أيضاً لكونه هو السبب في الارتكاب بمقتضى حكم عقله بقبح العقاب بلا بيان. ودعوى أنّ الباء ظاهر في السببية بلا واسطة فلا يشمل الجهل البسيط؛ لأنّ سببيته للارتكاب إنّما هو بتوسيط حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان كما ترى».
2- وسائل الشيعة 12: 489, الباب 45 من أبواب الإحرام، ح 3.

وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك، فقلت: بأيّ الجهالتين يعذر بجهالته: أنّ ذلك محرم عليه؟ أم بجهالته أنّها في عدة؟ فقال(علیه السلام): إحدى الجهالتين أهون من الأُخرى: الجهالة بأنّ اﷲ حرّم ذلك عليه، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها، فقلت: وهو في الأُخرى معذور؟ قال(علیه السلام): نعم، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها..» (1).فإنّه يفهم من إطلاق هذه الرواية أنّ الجاهل معذور، سواء كان جهله جهلاً بالحكم أم جهلاً بالموضوع، فلا شكّ - حينئذٍ - في أنّها تكون دالّة على ثبوت البراءة، وهو المطلوب.

وقد ناقش فيه الشيخ الأعظم! بما محصّله: أنّ موضوع السؤال: إن كان هو الجاهل بالجهل المركّب، أو الغافل، فهو خارج عمّا نحن فيه.

وإن كان هو الملتفت: فإن كان الشكّ في أصل انقضاء العدّة مع العلم تشريعها ومقدارها، كانت الشبهة موضوعيّة، فتخرج كذلك.

وإن كان الشكّ في مقدار العدّة، فالشبهة - حينئذٍ - من الشبهة المفهومية.

أو كان في أصل تشريعها، فالشبهة حكميّة.

وهذه الأخيرة هي - فقط - محلّ بحثنا، مع أنّه يمكن أن يقال بعدم جريان البراءة فيها؛ لأنّ مقتضى الاستصحاب المرتكز في الأذهان هو

ص: 318


1- وسائل الشيعة 20: 450 - 451, الباب 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ح 4.

بقاء العدّة، وهو متقدّم على البراءة، فلا يكون معذوراً.

وكذا لا يكون معذوراً في الشبهة المفهوميّة؛ ضرورة أنّه يلزمه السؤال وتحصيل العلم، وبتركه يكون مقصّراً، فمقتضى الأصل بقاء العدّة وترتّب أحكامها.

وإنّما لا يكون معذوراً في الشبهة الحكمية؛ لأجل تقصيره في السؤال خصوصاً مع وضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل لا قصوره، مضافاً: إلى اقتضاء أصالة عدم ترتّب الأثر على العقد للحكم بفساده (1).

فظهر: عدم إمكان الالتزام بالمعذوريّة من حيث الحكم التكليفيّ في جميع الصور، فلابدّ من الالتزام بها من حيث الحكم الوضعيّ، وهو الحرمة الأبديّة، كما وقع التصريح به، من غير نظر إلى المؤاخذة وعدمها.والحاصل: أنّ الشيخ! يرى أنّ لزوم التفكيك بين الجهالتين إشكال مستحكم على الرواية؛ ضرورة أنّ المكلّف إن كان جاهلاً بالحكم، فالاحتياط غير مقدور له، وإن كان ملتفتاً، كان ممّا يقدر عليه، كما لو كان جاهلاً بالموضوع، ومعه: فلا وجه للتفكيك بين الجهالتين.

ويمكن أن يُجاب عنه: بأنّ الغالب في الجهل بحرمة النكاح هو الغفلة واعتقاد الخلاف حين التزويج، بخلاف ما إذا علم حرمته وجهل العدّة فيكون على العكس؛ لأنّ الغالب - حينئذٍ - هو الالتفات إليه وعدم الغفلة

ص: 319


1- انظر: فرائد الاُصول 2: 44 - 45.

عنه عند الزواج بسؤاله عن خصوصيّات الزوجة عادة، فإذا تحقّق الجهل بها كان من الجهل البسيط.

ومنها:

قوله(علیه السلام): «إنّ اﷲ يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم» (1).

وناقشه الشيخ! بما هذا لفظه: «وفيه: أنّ مدلوله - كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار - ممّا لا ينكره الأخباريّون» (2).

يعني: أنّها لا تنافي دعوى الأخباريّين حيث ذهبوا إلى أخبار الاحتياط، وهو احتجاج بما آتهم، فدليل الاحتياط كالأصل بالنسبة إلى الدليل الاجتهاديّ، يرتفع به موضوعه، وهو: اللّابيان، فعلى مدّعي البراءة ردّ ذلك الدليل أو معارضته بما دلّ على الرخصة.

وبهذا تمّ الاستدلال على البراءة بالأخبار.

وأمّا الاستدلال عليها بالإجماع:

فهو إنّما يفيد فيما لو انعقد إجماع العلماء كافّةً على البراءة، وليس كذلك؛ فإنّ أكثر الأخباريّين على القول بوجوب الاحتياط؛ مضافاً إلى أنّ هذا الإجماع ليس تعبّديّاً؛ لأنّه محتمل المدركيّة، بل متيقّنها؛ فإنّه قد تظافرت الأدلة النقليّة به، وكذا حكم العقل.

ص: 320


1- الكافي 1: 164, باب حجج الله على خلقه, ح 4.
2- فرائد الاُصول 2: 43.

وأمّا الاستدلال عليها بالدليل العقليّ:

قال المحقّق الأصفهاني!: «توضيح المقام: أنّ هذا الحكم العقليّ حكم عقليّ عمليّ بملاك التحسين والتقبيح العقليّين، وقد بيّنّا في مباحث القطع والظنّ مراراً: أنّ مثله مأخوذ من الأحكام العقلائيّة التي حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظاً للنظام وإبقاءً للنوع، وهي المسمّاة ﺑ-(القضايا المشهورة) المعدودة في الصناعات الخمس من علم الميزان» (1).

وهل حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حكم عقليّ منفرد عن سائر الأحكام العقليّة العملية؟ أو هو داخل في حكم العقل بقبح الظلم؟

قال!: «ومن الواضح: أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس حكماً عقليّاً عمليّاً منفرداً عن سائر الأحكام العقليّة العمليّة، بل هو من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، نظراً إلى أنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن زيّ الرقّية ورسم العبوديّة وهو ظلم من العبد إلى مولاه فيستحقّ منه الذمّ والعقاب» (2).ولكنّ هذا إنّما يكون تمرّداً وهتكاً لحرمة المولى وخروجاً عن العبوديّة في فرض العلم بالحكم، وأمّا مع الجهل به فتكون كلّها مفقودة،

ص: 321


1- نهاية الدراية 2: 461.
2- المصدر نفسه.

فلو ارتكب ما هو المبغوض عند المولى مع الجهل بمبغوضيّته له لم يخرج بذلك عن زيّ العبوديّة.

كما أنّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم؛ إذ ليس من زيّ الرقّية أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع ونفس الأمر، فليس مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة خروجاً عن زيّ الرقّية حتى يكون ظلماً، وحينئذ: فالعقوبة عليه ظلم من المولى تجاه عبده؛ بداهة أنّ الذمّ على ما لا يذمّ عليه، والعقوبة على ما لا يوجب العقوبة عدوان محض، وإيذاء بحت، بلا موجب عقلائيّ، فهو ظلم، والظلم بنوعه يؤدي إلى فساد النوع واختلال النظام، وهو قبيح من كلّ أحد، ولو من المولى إلى عبده.

ولكن الحقّ: أن يقال: إنّ العقل ينفرد ويستقل بوجوب إطاعة المنعم وقبح مخالفته ويحكم باستحقاق المخالف للعقوبة، من غير مدخليّة لعنوان الظلم فيه، بل يحكم به العقل مع الغفلة عن الظلم.

فالحكم بالبراءة إنّما يكون لاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان، أعني: بلا بيان واصل إلى المكلّف، بعد فرض اشتغاله بوظيفته، من الفحص عن الحكم المشتبه واليأس عن الظفر به في مظانّ وجوده.

ولا يكفي في صحّة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرّد البيان الواقعيّ، وإن لم يصل إلى المكلّف؛ لأنّ وجود البيان الواقعيّ حاله حال عدمه بالنسبة إلى فاقده، فلا يقبل المحرّكيّة والباعثيّة.

فإن قلت: البيان الوارد في موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان

ص: 322

إنّما هو البيان الواقعي بلا فرق بين ما وصل إلى العبد وما لم يصل.

قلت: إن فرض عدم استقلال العقل بذلك؛ لمكان عدم تماميّة مبادئ الأمر، إذاً: فلا إرادة في الواقع، فلا مقتضي لاستحقاق العقاب؛ إذ لم يحصل تفويت لمراد المولى في الواقع.وهذا بخلاف البيان الذي لم يصل؛ فإنّه - حينئذٍ - لا يحصل مراد المولى ولا يتحقّق مطلوبه.

ولكنّ فواته هذا لم يستند إلى المكلّف؛ إذ المفروض: أنّه قد فحص وعمل بوظيفته، بل فواته إمّا يكون من قبل المولى نفسه؛ لأنّه لم يستوفِ مراده بإيصاله إلى العبد، أو لسببٍ موجب لاختفاء مراده عن المكلّف. وعلى كلّ حال: فالفوت لا يكون مستنداً إلى العبد، فلا يستحقّ العقوبة.

فانقدح مما تقدّم: أنّ المناط في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، إنّما هو عدم البيان الواصل إلى المكلّف، لا مطلقاً.

وبعبارة ثانية: لا ملازمة بين مخالفة التكليف الواقعيّ واستحقاق الذمّ والعقاب، وإنّما الملازمة بين التكليف الذي قامت عليه الحجّة وبين استحقاق الذمّ والعقاب.

لا يقال: حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل وارد على حكمه بقبح العقاب بلا بيان؛ بداهة أنّ الأوّل بيان، فيصير العقاب عقاباً مع البيان.

لأنّا نقول: هذا لا يتّم فيما لو كان المراد به الضرر الأخرويّ.

ص: 323

قال المحقّق النائيني!:

«وإن كان المراد منه الضرر الأخرويّ، فحكمه بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل، بل الموهوم، إنّما يكون إرشاداً محضاً ليس فيه شائبة المولويّة، ولا يمكن أن يستتبع حكماً شرعيّاً؛ لأنّ حكم العقل في ذلك إنّما يكون واقعاً في سلسلة معلولات الأحكام، فلا يكون مورداً لقاعدة الملازمة - كما أوضحناه في محلّه -، ولكنّ ذلك فرع احتمال العقاب، ومع عدم وصول التكليف بوجه: لا تفصيلاً ولا إجمالاً، لا يحتمل العقاب؛ لقبح العقاب بلا بيان، فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حاكم ووارد على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل» (1).فظهر: أنّ قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل تختصّ بأطراف العلم الإجماليّ أو الشبهة البدويّة قبل الفحص.

وأمّا الشبهة البدويّة بعد الفحص فلا يحتمل فيها العقاب، فلا تشملها قاعدة دفع الضرر المحتمل؛ فحكم العقلاء بقبح مؤاخذة المولى عبده إنّما هو على فعلٍ لم يُطلِعه على تحريمه.

وخلاصة البحث أمران:

الأوّل: أنّ المراد من عدم البيان الذي هو موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس هو عدم البيان الواصل بنفسه، بل عدم البيان الذي

ص: 324


1- فوائد الاُصول 3: 367.

يمكن أن يصل إليه ولو بالفحص عنه؛ فإنّ مجرّد عدم الوصول مع احتمال إيجاده لو فحص عنه لا يكفي لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

الثاني: أنّ المراد من عدم البيان الذي هو موضوع حكم العقل هو عدم البيان الواقعيّ المجهول، فلا يشمل عدم الاحتياط؛ لما عرفت من وروده على دليل الاحتياط.

وأمّا إذا كان الضرر دنيويّاً، فلا يجب دفعه على الإطلاق، إلّا أن يحتمل العقاب.

لا يقال: الارتكاب مع احتمال الضرر ممّا يحكم العقل بقبحه، فتثبت حرمته بحكم الملازمة.

لأنّا نقول: ارتكاب الضرر إنّما يكون قبيحاً إذا لم يكن هناك داعٍ عقلائيّ إليه، فإن فُرض أنّ لوجوده الواقعيّ تأثيراً في القبح فلابدّ من العلم به، والعلم به يشكل موضوعاً للقبح، وهذا لا يُخرج احتمال الضرر عن كونه قبيحاً في نفسه.

ص: 325

ص: 326

في أدلة الأخباريّين على وجوب الاحتياط

واستدلّوا له بالكتاب والسنّة والعقل.

أمّا الكتاب: فبآيات:

منها:

ما دلّ على حرمة الإلقاء في التهلكة، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَي-ْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُ-كَةِ﴾ (1).

وفيه: أنّه إن كان المراد من التهلكة هو العقاب الأخروي فهو منفيّ بدليل البراءة، وهو وارد على الآية كوروده على قاعدة دفع الضرر المحتمل. وحينئذٍ: يقبح العقاب مع عدم البيان، ولا يمكن إثبات البيان بنفس النهي؛ لأنّ موضوعه التهلكة، ولا يمكن إثبات الموضوع بواسطة بالحكم.

ص: 327


1- البقرة: الآية 195.

وبعبارة ثانية: لابدّ من إثبات التهلكة قبل النهي عن الإلقاء فيها، وإثباتها بنفس النهي دور باطل.

وإن كان المراد من التهلكة المفاسد المترتّبة على فعل الحرام وترك الواجب، فهذا لم يقل به أحد إلّا الأوحدي، بل البعض لا يلتزم بتعلّق الأحكام بالمصالح والمفاسد، ويكتفي بوجود مصلحة في السلوك، وعليه: لا يمكن حمل هذه الخطابات على المعنى الدقيق الذي لا يعرفه إلّا الأوحدي بمقتضى البرهان العقليّ.

فلا تحمل التهلكة في الاُخرى على الضرر الدنيوي؛ ضرورة أنّه ليس كلّ ضرر دنيوي يعد تهلكة، ولا على الأخروي؛ لنهوض الدليل على جواز الارتكاب.ومنها:

ما دلّ على النهي عن القول بغير علم، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (1)، حيث إنّ الحكم بالترخيص وجواز الاقتحام فيها قول بغير علم.

ولكنّ الحقّ: أنّ القول بالبراءة إذا استند إلى دليل فإنّه لا يكون قولاً بغير علم، بل قول بالدليل والحجّة.

ومنها:

ما دلّ على لزوم التقوى وجهاد النفس في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ

ص: 328


1- الإسراء: الآية 36.

اتَّقُواْ الله َ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ (1)، ومعلوم: أنّ الاقتحام في الشبهات منافٍ للتقوى الماُمور بها.

وفيه: أنّ العمل على طبق البراءة إنّما يكون منافياً للتقوى إذا لم يكن دليلها تاماً، والمفروض تماميّته كما عرفناه في المباحث السابقة.

فتحصّل: أنّ القول بالبراءة إن كان مستنداً إلى الحجّة المعتبرة وهي قبح العقاب بلا بيان، لم يكن من القول بغير علم، ولا من الإلقاء في الهلكة، ولا من المخالفة للتقوى بشيء؛ فإنّ معنى التقوى إنّما هو الإتيان بما أمر به من الواجباب والمحرمات، ولا يمكن إثبات أصل الحكم بأدلة التقوى؛ لاستلزامه الدور، كما مرّ في آية التهلكة.

وأمّا السنّة: فبطوائف:

الطائفة الاُولى: الأخبار الآمرة بالتوقف:

وادّعى المحقّق النائيني! تواترها حيث قال: «وهي كثيرة مستفيضة، بل تبلغ حدّ التواتر» (2).وهذا عجيب منه !؛ فإنّ الظاهر أنّها لم تبلغ حدّ الاستفاضة فضلاً عن التواتر.

ص: 329


1- آل عمران: الآية 102.
2- فوائد الاُصول 3: 372.

منها: ما رُوي من قول أبي عبد اﷲ (علیه السلام): «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (1).

ومنها: رواية مسعدة بن زياد عن الصادق(علیه السلام) عن آبائه( عن النبي - أنّه قال: «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة - إلى أن قال: - فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (2).

ومنها: خبر أبي سعيد الزهري عن أبي جعفر(علیه السلام) أنّه قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (3)، وغيرها من الروايات.

الطائفة الثانية: الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط:

وهي - أيضاً - كثيرة:

فمنها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينهما؟ أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال: لا، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد، قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدرِ ما عليه، فقال:إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا» (4).

ص: 330


1- وسائل الشيعة 27: 119, الباب 9 من أبواب صفات القاضي ح 35.
2- وسائل الشيعة 27: 159, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 15.
3- وسائل الشيعة 27: 154 - 155, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 2.
4- وسائل الشيعة 27: 154, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 1.

ومنها: موثّقة عبد اﷲ بن وضّاح أنّه كتب إلى العبد الصالح (علیه السلام) يسأله عن وقت المغرب والإفطار، فكتب إليه: «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك» (1).

ومنها: ما عن أبي هاشم داوود بن القاسم الجعفري عن الرضا (علیه السلام) أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قال لكميل بن زياد: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (2).

ومنها: قوله(علیه السلام): «ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط» (3).

الطائفة الثالثة: أخبار التثليث:

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد اﷲ (علیه السلام) في حديث قال: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» (4).

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة أيضاً عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) في حديث

ص: 331


1- وسائل الشيعة 27: 166 - 167, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 42.
2- وسائل الشيعة 27: 167, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 46.
3- فرائد الاُصول 2: 78, قال!: أرسلها الشهيد الثاني!.
4- وسائل الشيعة 27: 106, الباب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1.

قال: «وإنّما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وأمربيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اﷲ ورسوله-، قال رسول اﷲ-: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» (1).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في المقام.

ولا يذهب عليك: أنّ احتمالات وجوب الاحتياط أربعة:

1- الوجوب النفسيّ المولويّ، كوجوب الصلاة وأمثالها.

2- الوجوب الغيريّ المقدّمي.

3 - الوجوب الطريقيّ المحض.

4 - الإرشاد إلى حسن الاحتياط.

ولا ينبغي الشكّ في أنّه ليس المراد من الوجوب هنا هو الوجوب النفسيّ المولويّ الذي يستتبع الثواب والعقاب؛ ضرورة أنّ المتبادر عندهم هو الطريقيّة المحضة كما هو حال جميع الطرق والأمارات.

قال المحقق الأصفهاني! ما هذا لفظه:

«لا مجال للنفسيّة وإلّا لترتب العقاب على مخالفته من حيث هو زيادة على العقاب على مخالفة التكليف الواقعيّ المفروض ثبوته من

ص: 332


1- وسائل الشيعة 27: 157, الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 9.

حيث ظهور الهلكة في العقوبة، فيلزم أن يكون ارتكاب الشبهة أسوأ من ارتكاب الحرام المعلوم» (1).

وأمّا الوجوب الغيريّ المقدّميّ: فمتوقّف على وجوب ذي المقدّمة، وهو منحصر بأطراف العلم الإجمالي أو الشبهة البدويّة قبل الفحص، وليس مقامنا هكذا، كما لا يخفى.

وأمّا الوجوب النفسيّ الطريقيّ المحض: فقد عرفت عدم وجود ملاك النفسيّة فيه بوجه.والتحقيق: أنّ وجوبه إرشاد محض إلى حسن الاحتياط، وهذا الحسن قد يصل إلى حدّ الوجوب، كما في الشبهات البدويّة قبل الفحص، أو أطراف العلم الإجمالي، وقد لا يصل، فيبقى على حسنه، كما في المقام.

فظهر: أنّ طريقيّة الاحتياط لا تزيد عن طريقيّة الأمارات.

فإن قلت: كيف لا يبيّن(علیه السلام) الواقع ويأمر بالاحتياط مع كونه عالماً به؟ فكتمان الواقع ليس من شأنه؛ لاستلزامه الجهل بالواقع.

قلت: لعلّ عدم بيانه في الخبر لمصلحةٍ أقوى من مصلحة البيان، أو لأجل عدم إمكان البيان؛ لقصور في فهم المخاطب أو غير ذلك.

أمّا الجواب عن الطائفة الاُولى من الروايات:

فعن شيخنا الأنصاري! أنّ المراد من «التوقّف المطلق السكون

ص: 333


1- نهاية الدراية 2: 474.

وعدم المضيّ، فيكون كناية عن عدم الحركة» (1) وعدم الإقدام على الفعل، فهو بمعنى: وجوب الاحتياط في موارد الشبهة، وعدم التحرّك نحو الفعل المحتمل حرمته؛ فإنّه موجب للاقتحام في الهلكة والعقاب الأخرويّ. فالإقدام على الفعل المحتمل حرمته موجب لثبوت العقاب وإن لم يكن حراماً في الواقع؛ لأنّه تجرٍّ حينئذٍ.

وفيه: أنّه لا عموميّة لهذا الخبر وأمثاله، فلا تكون تلك الأوامر المتعلّقة بالتوقف موجبة لثبوت العقاب؛ لمجيئها من قبل الهلكة كما هو مقتضى التعليل في الأخبار، فلو كان الحكم الجائي من قبلها منشأً لثبوتها للزم الدور.

ومن هنا يظهر: اختصاص هذه الطائفة من الأخبار بموارد قيام الحجّة على الواقع على تقدير ثبوتها، كالشبهة المقرونة بالعلم الإجماليّ، والشبهة البدويّة قبل الفحص. وأمّا الشبهات البدويّة بعد الفحص وعدم وجدان الدليل فلا يعدّ ارتكابها اقتحاماً في الهلكة، فلا يجب التوقّف.

وأمّا الطائفة الثانية:

فالجواب عن الرواية الاُولى منها هو أنّ قوله(علیه السلام) «إذا أصبتم مثل هذا» فهو أنّه لابدّ من تحقيق أنّ الإشارة فيه هل هي إشارة إلى نفس الواقعة أو إلى حكمها؟ وأنّ المراد من المثل هل هو كون الشبهة وجوبيّة

ص: 334


1- فرائد الاُصول 2: 64

على الإطلاق؟ أو أنّها وجوبيّة دائرة بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين أو الارتباطيّين؟ فالأوّل: بناءّ على لزوم القيمة في جزاء الصيد، والثاني: بناء على وجوب البدنة. وحينئذٍ: لا يمكن شمول الاستدلال بها للشبهة التحريميّة.

قال بعض المحقّقين المعاصرين! في المقام:

«ثمّ لو قلنا بكون المشار إليه هو حكم الواقعة، إمّا أن يراد من قوله(علیه السلام): (فعليكم الاحتياط)، الاحتياط في الفتوى، أو الفتوى بالاحتياط، أو الفتوى بالطرف الذي هو موافق للاحتياط. ومع ذلك فبما أنّه(علیه السلام) ذيّل قوله: (فعليكم بالاحتياط) بقوله(علیه السلام): (فلم تدروا)، وقوله(علیه السلام) (حتى تسألوا عنه فتعلموا)، فالمتبادر من الأمر بالاحتياط هو الاحتياط في الفتوى وعدم التقوّل على اﷲ تعالى، ولأجل ذلك يترجّح حمل الرواية على الفتوى قبل الفحص، مع إمكان التفحص عن مورده، كما هو مفروضها، ودلالتها على مقالة الأخباري يتوقف على مطلق الشبهات: تحريمية أو وجوبية، ثمّ إخراج الوجوبية منها لقيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها، مع أنّه من قبيل إخراج المورد المستهجن، كما لا يخفى» (1).

وأفاد الشيخ! ما حاصله:

أنّ المشار إليه في قوله(علیه السلام): (بمثل هذا)، هو إمّا الموضوع المشتبه

ص: 335


1- تهذيب الاُصول 2: 265

حكمه، أي: نفس واقعة الصيد ، أو السؤال عن حكم ما لا يعلم حكمه، نظراً إلى أنّ فرض الخبر هو أنّ الراوي يجهل حكم الصيد المذكور.فعلى الأوّل: إمّا أن يكون المورد من قبيل الشكّ في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين، أو الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

فإن كان هو الأوّل، نظير الدين الذي يكون مردّداً بين الأقلّ والأكثر، ففيه:

أوّلاً: أنّه ممّا اتفق الفريقان: الأخباريّون والاُصوليّون، على عدم وجوب الاحتياط فيه؛ لأنّ هذا المورد من الشبهات الوجوبية، فلا يجب الاحتياط فيها بالاتّفاق.

وثانياً: لو سلّم الاحتياط في موارد الدوران بين المتباينين، يصبح وجوب الاحتياط - حينئذٍ - أجنبيّاً عن محلّ البحث؛ ضرورة انتفاء التكليف رأساً، فلا يكون مورد الرواية ممّا ثبت التكليف فيه في الجملة.

وإن كان من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيّين: فهو بالإضافة إلى كونه محلّ خلاف بين الاُصوليّين - حيث ذهب بعضهم إلى الاشتغال فيه - خارج عن محلّ البحث؛ لأنّ الكلام إنّما هو في مورد الشكّ في التكليف، لا في المكلّف به مع إحراز أصل التكليف.

وأمّا إذا كان المشار إليه هو السؤال عما لم يعلم حكمه: فإمّا أن يراد بالاحتياط: الفتوى بالاحتياط، أو الاحتياط بالفتوى بأنْ لا يفتي بشيء

ص: 336

احتياطاً.

والرواية - على كلا التقديرين - أجنبيّة عن محلّ البحث؛ إذ ظاهر الرواية هو التمكّن من استعلام حكم الواقعة فيما بعد بالسؤال والتعلّم، ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط في هذه الواقعة الشخصيّة.

وأين هذا من محلّ البحث؟! حيث لا مجال للتعلّم فيما بعد، بعد تحقّق الفحص بالمقدار اللّازم على المكلّف وعدم الوصول إلى نتيجة معلومة.

ثمّ لو سلّم كون المورد من الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين، وأنّ الوظيفة هي الاحتياط، فهي - أيضاً - خارجة عن محلّ البحث؛ بداهة أنّ التكليف بالأكثر - حينئذٍ - يكون معلوماً في الجملة، ووجوب الاحتياط فيه إنّماهو بمقتضى الرواية، فلا يمكن تعديته إلى الشبهة البدويّة التي يكون التكليف فيها مجهولاً.

فانقدح: أنّ ما ذكره الشيخ! من الاحتياط بالأكثر هو التام الذي يقتضيه نظر الأعلام، وإلّا كان موارد انحلال التكليف، فيكون الأكثر مشكوكاً فيه والأقل متيقناً، فلا يمكن تعديته من محل الرواية إلى الشبهة البدوية التي لا يعلم بها ولو إجمالاً (1).

ص: 337


1- انظر: رجال النجاشي: 184، تحت عنوان: سليمان بن داود المنقريّ.

وأمّا الرواية الثانية - وهي موثقة عبد اﷲ بن وضاح - ففيها:

أنّها وإن وصفها الشيخ! بالموثّقة (1) إلّا أنّ في سندها سليمان بن داوود، وهو مردّد بين الخفّاف والمروزي المجهولين. وأمّا المنقري فقد وثّقه النجاشي (2).

ثمّ إنّ هذه الرواية إنّما تدلّ على الاحتياط بقول مطلق فيما إذا كان قوله(علیه السلام): «وتأخذ بالحائطة لدينك» تعليلاً لقوله(علیه السلام): «أرى لك أن تنتظر»؛ فإنّها - حينئذٍ - تدلّ على الاحتياط في عامّة الشبهات، وسجّل عليها الشيخ اعتراضات ثلاثة:

الأوّل: ظهور الرواية في استحباب الاحتياط دون وجوبه، كما هو مفاد كلمة (أولى).

الثاني: ظهورها في الاحتياط في خصوص الشبهة الموضوعيّة؛ فإنّ ارتفاع الحمرة فوق الجبل مشكوك في أنّها هل هي علامة على عدم استتار القرص حقيقة؟ فلا يتحقّق الغروب ما زالت الحمرة موجودة، أو لا؟ فيتحقّق.

ولا يمكن أن يكون مورد الرواية هي الشبهة الحكمية؛ وذلك لأنّه لو كان المشكوك هو أن الغروب شرعاً هل هو عبارة عن استتار القرصالمفروض تحقّقه؟ أو هو الحمرة المشرقيّة؟ لكان على الإمام(علیه السلام) رفعه،

ص: 338


1- فرائد الاُصول 2: 76, قال!: «ومنها: موثّقة عبد الله بن وضّاح على الأقوى».
2- نظر: فرائد الاُصول 2: 78, 79.

وليس من شأنه أن يأمر بالاحتياط في مثل هذا المورد.

فحيث لم يظهر منه(علیه السلام) بيان حقيقة الغروب شرعاً نستكشف منه عدم كون الشكّ في مورد الرواية شكاً في الشبهة الحكميّة؛ لأنّ استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدّم، فلابدّ - حينئذٍ - من حمل الرواية على الشبهة الموضوعيّة؛ على أنّ الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة غير واجب باتّفاق الفريقين، فاستفادة وجوبه تفتقر إلى خصوصيّة تقتضيه وهي: أنّ المورد هو استصحاب بقاء الوقت، أو أنّ الاشتغال اليقينيّ هو بمعنى: اشتغال الذمة بالتكليف مع الشكّ في الخروج منه، فإنّ الإفطار عند استتار القرص يوجب - لا محالة - الشكّ في فراغ الذمّة من الصوم المعلوم اشتغال الذمّة به قطعاً، فالتعدّي عن مورد الرواية إلى ما لا يشترك معه في الخصوصيّة المزبورة ممّا لا وجه له (1).

ص: 339


1- فرائد الاُصول 2: 79 - 80, وإليك نصّ كلامه!: «وأمّا عن الموثّقة: فبأنّ ظاهرها الاستحباب, والظاهر: أنّ مراده الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعية؛ لاحتمال عدم استتار القرص وكون الحمرة المرتفعة أمارة عليها؛ لأنّ إرادة الاحتياط في الشبهة الحكمية بعيدة عن منصب الإمام(علیه السلام)؛ لأنّه لا يقرر الجاهل بالحكم على جهله, ولا ريب أنّ الانتظار مع الشك في الاستتار واجب؛ لأنّه مقتضى استصحاب عدم الليل, والاشتغال بالصوم, وقاعدة الاشتغال بالصلاة. فالمخاطب بالأخذ بالحائطة هو الشاكّ في براءة ذمّته عن الصوم والصلاة, ويتعدّى منه إلى كلّ شاكّ في براءة ذمّته عمّا يجب عليه يقيناً, لا مطلق الشاكّ؛ لأنّ الشاكّ في الموضوع الخارجيّ مع عدم تيقّن التكليف لا يجب عليه الاحتياط باتّفاق من الأخباريّين أيضاً».

الثالث: لو سلمّ أن الشكّ فيها شكّ في مورد الشبهة الحكمية، وأن وظيفته(علیه السلام) رفع هذه الشبهة، وفرض أنّ الغروب شرعاً هو زوال الحمرة المشرقية، ولكن لم يتصدّ(علیه السلام) لبيان هذا الحكم لأجل التقيّة من المخالفين حيث كان الغروب عندهم هو استتار القرص، فأراد(علیه السلام) أن يوصل الحكم الواقعي ولو بصورة غير مستقيمة، فأوجب الاحتياط لكي يتوهّم المخالفون أنّ الانتظار إنّما هو لأجل العلم باستتار القرص في حين أنّه بحسب الواقع لأجل زوال الحمرة المشرقية المحققة للغروب شرعاً.ففيه مع بعده: أنّه لا يدلّ - حينئذٍ - إلّا على رجحان الاحتياط، لا على وجوبه، لمكان قوله(علیه السلام): «أرى لك» الدالّة على الاستحباب، مضافاً إلى أنّ الرواية حينئذٍ تكون مختصة في موردها فلا تدلّ على وجوب الاحتياط في جميع التقادير (1).

ص: 340


1- المصدر السابق: ص 80, قال!: «هذا كلّه على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب, وكون الحمرة غير الحمرة المشرقية, ويحتمل بعيداً أن يراد من الحمرة الحمرة المشرقيّة التي لابدّ من زوالها في تحقق المغرب. وتعليله حينئذٍ بالاحتياط وإن كان بعيداً عن منصب الإمام(علیه السلام) كما لا يخفى, إلّا أنّه يمكن أن يكون هذا النحو من التعبير لأجل التقيّة؛ لإيهام أنّ الوجه في التأخير هو حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه, لا أنّ المغرب لا يدخل مع تحقق الاستتار, كما أنّ قوله(علیه السلام): (أرى لك) يستشم منه رائحة الاستحباب, فلعلّ التعبير به مع وجوب التأخير من جهة التقية, وحينئذٍ: فتوجيه الحكم بالاحتياط لا يدلّ إلّا على رجحانه».

وأمّا الرواية المنقولة عن أمير المؤمنين(علیه السلام):

فالجواب عنها - مضافاً إلى ضعفها سنداً - بما أفاده الشيخ الأعظم! وذلك:

أوّلاً: أنّ الأمر بالاحتياط في الرواية يدور أمره بين الحمل على الإرشاديّة أو المولويّة الجامع بين الوجوب والاستحباب؛ ضرورة أنّ حمله على الوجوب نحو كلّي مستلزم للتخصيص بالأكثر، وهو مستهجن.

بيان الملازمة: أنّ الشبهات الموضوعيّة مطلقاً والشبهة الحكمية والوجوبية خارجة، فكذا تخرج الشبهات الوجوبية؛ للاتفاق على عدم وجوب الاحتياط في هذه الموارد، ولا يمكن الحمل على الاستحباب؛ لوجوب الاحتياط في بعض الفروض كما في موارد العلم الإجمالي، فلابدّ - حينئذٍ - من حمله على الإرشاد، فيكون اللّزوم وعدمه تابعين للمرشد إليه كما مرّت الإشارة إليه سابقاً؛ أو يحمل على الجامع بين الوجوب والاستحباب، والنتيجة: أنّه لا دلالة لها على العموم والوجوب بالكلّيّة.

وثانياً: ظهور كون الأمر بالاحتياط في الرواية أمراً استحبابياً مولويّاً، بقرينة قوله(علیه السلام) فيها: «بما شئت»، فإنّها تستعمل في موردين:المورد الأوّل: التخيير في مراتب الشيء، والتخيير في مقامنا في مراتب الاحتياط، كما يقال: (قل ما شئت)، أي: أنت في الخيار في ما تقول قليلاً كان أو كثيراً.

ص: 341

المورد الثاني: بيان المرتبة العالية من الشيء، كما تقول (هذا الكلام كان حسناً)، أي: كان في مرتبة الحسن، والمرتبة في مقامنا هي المرتبة العالية من الاحتياط.

فإن اُريد بقوله(علیه السلام): «ما شئت» التخيير: كان اللّازم هو حمل الأمر بالاحتياط إمّا على الإرشاد أو على الجامع بين الوجوب والاستحباب - أي: مطلق الرجحان -؛ لأنّ بعض مراتب الاحتياط يكون واجباً دون البعض، فلا يمكن حمله على الوجوب التخييريّ في جميع المراتب.

وإن كان الثاني: لم يكن من حمله على الاستحباب مانع؛ ضرورة عدم تماميّة حمله على الوجوب حينئذٍ؛ لأنّ المرتبة العالية من الاحتياط لم تكن واجبةً قطعاً، وتشبيهه الدين بالأخ في قوله(علیه السلام): «أخوك دينك» يقتضي الحمل على الثاني، إذ الإخوة هم أعلى مراتب الاحتياط بين أفراد البشر، لقوّة الصلة بينهما، فجعل الدين بمنزلة الأخ معناه رجحان المراتب العالية من الاحتياط بشأن الدين (1).

وأمّا الرواية الرابعة:

فمضافاً إلى ضعف سندها أيضاً، لا يمكن الحكم عليها بالعموم، وإلّا لجرت في الشبهة الوجوبيّة مع اتّفاقهم على عدم الوجوب فيها.

ص: 342


1- أنظر: فرائد الاُصول: 2: 80 - 81.

وأمّا الطائفة الثالثة:

وهي ما دلّ على التثليث من استشهاد الإمام(علیه السلام) بكلام رسول اﷲ-: «حلالٌ بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك..».

فأمّا البيّن من الحلال والحرام، فمتّفق على حلّيّته وحرمته.

وأمّا الشبهات التي بين ذلك فتفيد فيها رجحان الاحتياط بالاجتناب.ويشهد لذلك: تعليله(علیه السلام) في ذيل الحديث: «فمن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات»، حيث جعل الأخذ بالشبهات أخذاً بالمحرّمات؛ وذلك لأنّ ارتكاب الشبهة مظنة للوقوع في الحرام والهلاك من حيث لا يعلم، فهو سبب للجرأة على ارتكاب للمحرمات.

هذا، ولا يخفى أن ارتكاب الشبهات ليس محرماً بنفسه، بل بما هو سببٌ لارتكاب المحرّم، ولذا كان الاحتياط فيه أولى، وهذا نظير تشبيهه(علیه السلام) في بعض الروايات مرتكب الشبهات بالراعي حول الحمى، فإنّه لا يؤمَن من هجوم القطيع على الحمى، وإلّا، فالرعي حول الحمى من دون دخوله ممّا ليس فيه شبهة الحرام.

قال المحقّق النائيني!: «إن الأمر فيها لا يصلح إلّا للإرشاد، فإنّ الظاهر من قوله(علیه السلام): (ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات) هو الملازمة بين التعرض للشبهات والوقوع في المحرمات، فالأخذ بالشبهات بنفسه ليس من المحرمات، بل يستلزم ذلك الوقوع فيها، فيكون النهي عن الأخذ بالشبهات للإرشاد إلى عدم الوقوع في المحرمات؛ لأنّ

ص: 343

التجنب عن الشبهات يوجب حصول ملكة الردع عن المحرمات، كما أنّ الاقتحام فيها يوجب التجرّي على فعل المحرمات.

وذلك هو الظاهر من قوله-: (فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم)، فمفاد أخبار التثليث أجنبيّ عن مقالة الأخباريّين» (1).

وأمّا العقل:

اشارة

فبوجهين:

الوجه الأوّل:

أنّا نعلم إجمالاً بوجود محرّمات كثيرة في الشريعة المقدّسة، وعلمنا هذا حاصل لكلّ أحد قبل مراجعة الأحكام، ولا طريق لإنكاره إلّا المكابرة.

ومقتضاه: الاحتياط في كلّ شبهة سواء كانت وجوبية أو تحريمية، ومقتضى الاشتغال اليقيني البراءة اليقينية بحكم العقل، وهو لا يحصل إلّا بترك كلّ ما عُلِم أو شكّ في حرمته حتى يحصل له العلم القطعيّ بالامتثال. وإنّما خرج عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية لأجل الدليل، وأمّا الشبهة التحريمية فتبقى على ما يقتضىه العلم الإجمالي.

ص: 344


1- فوائد الاُصول 3: 377 - 378.

إذاً فعندنا علمان وقطعان:

أحدهما: العلم الإجمالي بوجود محرّمات كثيرة في الشريعة.

والثاني: القطع بأنّ الشارع لا يرضى بارتكابها.

وتحصيل اليقين بالبراءة لا يحصل إلّا بترك معلوم ومشكوك الحرمة.

قال الشيخ الأنصاري!:

«وأمّا العقل فتقريره بوجهين:

أحدهما: أنّا نعلم إجمالاً قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة بمحرمات كثيرة يجب بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَان-تَ-هُوا﴾ (1) ونحوه الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب أو اليقين بعدم العقاب؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة باتفاق المجتهدين والأخباريين، وبعد مراجعة الأدلّة والعمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات الواقعيّة، فلابدّ من اجتناب كلّ ما احتمل أن يكون منها إذا لم يكن هناك دليل شرعيّ يدلّ على حلّيّته، إذ مع هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل على تقدير حرمته واقعاً» (2).وقال صاحب الكفاية!: «ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلّا من بعض الأصحاب» (3).

ص: 345


1- الحشر: الآية 7.
2- فرائد الاُصول 2: 87.
3- كفاية الاُصول: ص 346.

ونسبه الشيخ! إلى المشهور حيث قال: «فالحق فيه: وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقاً للمشهور، وفي المدارك (1): أنّه مقطوع به في كلام الأصحاب، ونسبه إلى المحقق البهبهاني في فوائده إلى الأصحاب (2)، وعن المحقق المقدّس الكاظمي في شرح الوافية: دعوى الإجماع صريحاً (3)، وذهب جماعة إلى عدم وجوبه (4)، وحكي عن بعض القرعة» (5).

وأجاب صاحب الكفاية! عنه بما هذا لفظه:

«إنّ العقل وإن استقلّ بذلك، إلّا أنّه إذا لم ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، وقد انحلّ ها هنا، فإنّه كما علم بوجود تكاليف إجمالاً، كذلك علم إجمالاً بثبوت طرق واُصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد، وحينئذٍ: لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والاُصول العمليّة» (6).وبعبارة ثانية: بعد قيام الأدلّة على الواجبات والمحرّمات بالمقدار

ص: 346


1- مدارك الأحكام 1: 107.
2- الفوائد الحائرية: ص 348.
3- الوافي في شرح الوافية: 210.
4- الذخيرة: ص 138, والقوانين 2: 25.
5- فرائد الاُصول 2: 210.
6- كفاية الاُصول: ص 346.

المعلوم بالإجمال، ينحلّ العلم الإجماليّ إلى العلم التفصيليّ والشكّ البدويّ؛ لأنّه بعد الإتيان بما دلّت الأدلّة على وجوبه وترك ما دلّت على تركه، لم يبقَ بعد العلم بالتكليف إلّا ما علم تفصيلاً، ويحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل.

لا يقال: هو إنّما يتم فيما لو اطلّع على الأدلة قبل العلم الإجمالي، أو مقارناً له.

وعليه: فتارة يكون العلم الإجمالي مقدماً؛ لقيام الطرق، واُخرى مؤخرّاً، وثالثة: يكون مقارناً، وما هو سبب للانحلال هو الصورتان الأخيرتان، دون الاُولى؛ ضرورة أنّه ليس هناك إلّا ما علم تفصيلاً لاحتمال الانطباق.

وأمّا إذا حصل العلم الإجمالي بعد الاطلاع على الأدلة، فلا يكون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على مداليل الأدلة كافياً؛ بداهة أنّ العلم الإجمالي حينئذٍ يكون منجّزاً، فيجب الامتثال القطعي بحكم العقل.

لأنّه يقال: يشترط لتأثير العلم الإجمالي بقاؤه في الزمان الثاني أيضاً، فلو لم يوجد فيه، بأن انعدمت بعض أطرافه، أو خرج عن محلّ الابتلاء وغير ذلك، لم يكن له أثر، كما إذا شكّ في الزمان الثاني في ثبوت التكليف في الزمان الأوّل، فلم يبق أثر للعلم الأوّل؛ فإنّه - حينئذٍ - إن تقدّم العلم الإجمالي على أدلّة ورود الأحكام وكان ثابتاً في الزمان الأوّل

ص: 347

مع كون دلالة تلك الأدلّة على ثبوت الأحكام من أوّل الأمر، فحينئذٍ: لابدّ في الزمان الحاضر من البناء على مضمون الأدلّة؛ ضرورة انتفاء العلم الإجمالي في الزمان لما تقدّم من ثبوت التكليف في مورد الأدلّة من أوّل الأمر، فيشكّ في الزائد من أوّل الأمر.

فظهر: أنّه لا فرق في انحلال العلم الإجماليّ بين أن يكون مقدّماً على الأمارات، أو مؤخّراً، أو مقارناً كذلك، فحال الأمارات حال ما إذا علم بالتكاليف الواقعيّة من أوّل الأمر، فإنّها توجب الانحلال وإن كان الإتيان بالأمارات الشرعيّة متأخّراً عنها.ثمّ اعلم أنّ للعلم الإجماليّ صوراً ثلاث:

الاُولى: العلم الإجمالي الحقيقي التكويني، وانحلاله بواسطة العلم التفصيلي، كما إذا كان هناك إناءان، ووقع في أحدهما قطرة دم، ثمّ علم تفصيلاً بوقوع القطرة في هذا الإناء المعيّن، فينحل العلم الإجمالي ويزول قهراً؛ لانتفاء التردّد بعد العلم التفصيلي.

الثانية: الانحلال الحكمي، وهو أن يبقى العلم الإجمالي بنفسه ولكن يزول أثره من جهة التنجيز، كما إذا قامت الأمارة وعيّنت المعلوم بالإجمال بالنسبة إلى أحد الطرفين، فإنّه لا يكون حينئذٍ منجزاً بالنسبة إلى الطرف الآخر.

الثالثة: الانحلال الحقيقيّ، كما إذا تعلّق العلم الإجمالي بكأسين أحدهما محلٌ للابتلاء دون الآخر، فيزول هذا العلم الإجمالي بمجرّد

ص: 348

زوال أثره وهو التنجّز.

وبعبارة اُخرى: العلم الإجمالي بدوي لحدوثه كذلك، فإذا كان أحد طرفيه أو أطرافه خارجاً عن محل الابتلاء لم يكن مقدوراً، فلا يتعلّق التكليف الفعلي به، فيزول وينكشف أنّه لا علم إجمالي من أول الأمر، فليس في هذه الصورة انحلال وإن سميّت انحلالاً ، بل يزول العلم الإجمالي فيها بعد انكشاف الخلاف. وكلّ هذه الموارد للعلم الإجمالي غير منجّزة.

وأشار صاحب الكفاية! إلى الانحلال التكويني الحقيقي بقوله:

«هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلّا، فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال» (1).

وتوضيحه: أنّ العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في ضمن المشتبهات ينحل بالعلم الإجمالي بثبوت تكاليف واقعية في موارد الطرق الشرعية بمقدار المعلوم بالإجمال، فينحلّ العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجماليالصغير، ولا يتنجّز سوى موارد الطرق الشرعية دون المشتبهات التي لم يقم طريق شرعي عليها.

كما أنّه! التزم بالانحلال الحقيقيّ، وبيانه:

أنّ قيام الأمارة والطريق الشرعيّ على الحكم يمنع من فعليّة الواقع في

ص: 349


1- كفاية الاُصول: ص 347.

موردها؛ لامتناع اجتماع حكمين فعليين كما بيّن ذلك في محله.

فمع قيام المنجّز في أحد طرفي العلم الإجمالي - سواء كانت أمارة أو أصلاً - يخرج العلم الإجمالي عن تمام المؤثّرية بالنسبة إلى جميع الأطراف، حتى في الطرف الذي خرج عن قابليّة التأثير.

وأورد عليه الآخوند!:

أنّ الانحلال الحكمي إنّما يكون موجباً للانحلال إذا قلنا بجعل الأحكام الظاهرية في الطرق، وأنّ قيامها سبب في حدوث تكاليف ظاهرية طريقية على طبق مؤدياتها، ويقابله القول أنّ قيامها بسبب حدوث مصلحة نفسية أو مفسدة كذلك موجبة لجعل حكم واقعي نفسي على طبقها، وهو التسبيب.

وأمّا بناءً على أن المجعول هو المنجّزية عند الإصابة والمعذّرية عند الخطأ كما هو رأيه! كما هو كذلك في العلم - والفرق بين المنجّزيّة في العلم والأمارات أنّها في العلم ذاتيّة، وفي الأمارات بجعل من الشارع - فلا يكاد ينحلّ العلم الإجمالي بها؛ لعدم زوال فعليّة الواقع بقيام الأمارة؛ إذ لا حكم مجعول في موردها على طبق مؤدّاها كي توجب انحلاله.

ثمّ أجاب! عنه بما حاصله:

أنّ هذا الانحلال حكمي، فقيام الحجة على التكاليف على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف مما يوجب انحلال العلم

ص: 350

الإجمالي ولو تعبّداً، ويستلزم صرف تنجز المعلوم بالإجمال إلىما قامت عليه الحجة إن طابقت العلم الإجمالي، وهي ناقلة لاستحقاق العقاب عليه إلى ما قامت عليه الحجة وخالفها (1).

وأمّا إذا اخطأت وكان ما قامت عليه الحجّة غير المعلوم بالإجمال فهو معذور وإن فات المعلوم بالإجمال، فهو نظير ما إذا علم إجمالاً بوجود غنم موطوء في القطيع، ثمّ قامت الحجّة على أنّ هذا الغنم موطوء، فإنّها تكون سبباً لصرف تنجّز المعلوم بالإجمال إليه، فتنقل استحقاق العقاب من المعلوم بالإجمال إلى هذا الغنم، وأما إذا تكن مصيبة للواقع فتكون معذّرة حيث لم يجتنب عن المعلوم بالإجمال.

ص: 351


1- كفاية الاُصول: ص 347, وإليك نصّ كلامه!: «إن قلت: إنّما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالإجمال ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجباً لثبوته فعلاً, وأمّا بناء على أنّ قضية حجيّته واعتباره شرعاً ليس إلّا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلاً, وهو تنجّز ما أصابه والعذر عمّا أخطأ عنه, فلا انحلال لما علم بالإجمال أولاً, كما لا يخفى. قلت: قضية الاعتبار شرعاً - على اختلاف ألسنة أدلته - وإن كان ذلك على ما قوينا في البحث, إلّا أنّ نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف يكون عقلاً بحكم الانحلال, وصرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف, والعذر عما إذا كان في سائر الأطراف, مثلاً إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زيد بين الإناءين, وقامت البينة على أنّ هذا إناؤه, فلا ينبغي الشك في أنّه كما إذا علم أنّه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلّا عن خصوصه دون الآخر, ولولا ذلك لما كان يجدي القول بأنّ قضيّة اعتبار الأمارات هو كون المؤديات أحكاماً شرعية فعلية, ضرورة أنّها تكون كذلك بسبب حادث, وهو كونها مؤديات الأمارات الشرعية».
الوجه الثاني:

أنّ الأصل في الأفعال غير الضرورية والتي لا يتوقف عليها حفظ النظام هو الحظر، فلا يجوز الاقتحام فيه ما لم يرد ترخيص من الشارع فيه؛ بداهة أنّه تصرف في سلطان المولى، وهو ممّا يحكم العقل بقبحه؛ لأنّه خروج عن زيّ الرقية ومقتضى العبدوية.

قال الشيخ!: «الوجه الثاني: أنّ الأصل في الأفعال الغير الضرورية الحظر، كما نسب إلى طائفة من الإمامية، فيعمل به حتى يثبت من الشرع الإباحة، ولم يرد الإباحة في ما لا نص فيه. وما ورد - على تقدير تسليم دلالته - معارض بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط، فالمرجع إلى الأصل.ولو تنزّلنا عن ذلك فالوقف، كما عليه الشيخان" - المفيد والطوسي (1) -. واحتجّ عليه في العدّة: بأنّ الإقدام على ما لا يومن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة» (2).

وأجاب صاحب الكفاية! عنه:

أوّلاً: بأنّ المسألة خلافية، بل قد ادّعي الإجماع على خلافها، وإلّا لأمكن التمسك بالبراءة بناءً على أنّ الأصل هو الإباحة الحظر، فكما لا يمكن التمسك بالبراءة بناء على أصالة الإباحة في الأشياء على ما هو

ص: 352


1- التذكرة باُصول الفقه 9: 43؛ والعدة 2: 742.
2- فرائد الاُصول 2: 90.

المنسوب إلى الصدوق!، فكذلك لا يمكن التمسك بالاحتياط بناءً على القول بأصالة الحظر.

وثانياً: لو سلّم أصالة الحظر والوقف في الأفعال غير الضرورية، إلّا أنّه قد ورد الترخيص فيها، كما في الأدلّة المتقدمة الدالة على البراءة كحديث الرفع وأمثاله، فإنّها قد دلّت على الإباحة ولم تدل على الاحتياط، فلا تُعارض ما دلّ على الإباحة.

وثالثاً: أنّه لا ربط لهذه المسألة فيما نحن فيه؛ لأنّه البحث فيها هو عن حكمها قبل الشرع، والكلام في البراءة والاحتياط إنّما هو عن حكمها بعد تكميل الشريعة وانتفاء الدليل على الحكم، والقول بالوقف في تلك المسألة لا يلازم القول به في هذه المسألة، فيحكم العقل بالبراءة مستنداً إلى قبح العقاب بلا بيان (1).فاتّضح مما تقدّم: قصور ما استدلّوا به على وجوب الاحتياط، فلا يمكن الاستدلال بها على نفي البراءة، لا في موارد الشبهات الوجوبية ولا التحريميّة.

ص: 353


1- كفاية الاُصول: 348, قال! ما لفظه: «وفيه أولاً: أنّه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والإشكال, وإلّا لصحّ الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة. وثانياً: أنّه ثبتت الإباحة شرعاً, لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط, للمعارضة لما دل عليها. وثالثاً: أنّه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة, للقول بالاحتياط في هذه المسألة, لاحتمال أن يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان».

ص: 354

في تنبيهات البراءة

اشارة

وهي سبعة:

التنبيه الأوّل:

أنّ الاُصول الموضوعيّة مقدّمة على الاُصول الحكمية: إمّا حكومة أو وروداً، فلا يجري الأصل الحكميّ مع وجود الأصل الموضوعيّ لوروده عليه وارتفاع موضوعه - الذي هو الشكّ - بسببه، فلو شكّ في حلية حيوان بسبب الشكّ في قبوله للتذكية، حُكِم عليه بالحرمة؛ لأصالة عدم التذكية؛ لأنّها مشروطة بقابليّة المحلّ، والفرض أنّها مشكوكة، فيحكم بعدمها، فيكون الحيوان ميتة بناء على المشهور.

التنبيه الثاني:

أنّه لا فرق في تقدّم الأصل الموضوعي على الحكمي بين كونه مخالفاً له - كما مثّلنا - أو موافقاً كذلك، فإذا كان هناك حيوان جلّال وشككنا في

ص: 355

الجلل كان هذا الشكّ موجباً لارتفاع قابليته للتذكية فيحرم، فاستصحاب قابليته للتذكية من قبل زمان الجلل يوجب حليته، فلا يبقى مجال لجريان أصالة البراءة وإن كان الأصلان متوافقين في النتيجة.وكذا الحال بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة؛ فإنّه بعد الفراغ عن كون الجلل في الحيوان ممّا يرفع قابليّته للتذكية فيحرم، فإذا شككنا في حصول الجلل ووطئه استصحب العدم، ولم يبقَ مجال لجريان أصالة الحلّ والإباحة، وإن توافقتا معه في النتيجة.

التنبيه الثالث:

أنّ المراد من الميتة هل هو الميّت حتف أنفه؟ أو الأعمّ منه فتشمل مطلق غير المذكّى على الوجه الشرعي؟

الظاهر من الآية الشريفة هو الأوّل، دون مطلق غير المذكى، قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله ِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلّا مَا ذكَّ-يْتُمْ﴾ (1)، فإنّ إفراد التذكية بالذكر يدلّ على أنّ غير المذكّى ليس بميتة.

التنبيه الرابع:

أنّ لمعنى التذكية ثلاثة احتمالات:

ص: 356


1- المائدة: 3.

الأوّل: أن تكون أمراً بسيطاً متحصلاً من فري الأوداج بالحديد إلى القبلة والتسمية مع كون الذابح مسلماً والحيوان قابلاً للذبح.

الثاني: أن تكون مركّبة من مجموع تلك الاُمور.

الثالث: أنّها عبارة عن مجرّد الأفعال الخاصّة، ولكن بقيد ورودها على المحل القابل، فالقابلية مأخوذة بنحو الشرطيّة وخارجة عن مفهوم التذكية.

التنبيه الخامس:

أن الشبهة على قسمين: موضوعية وحكمية، والحكمية تنشأ تارةً عن قابليّة الحيوان للتذكية، فلذلك يشكّ في حلّيته، كالحيوان المتولّد من الغنم والكلب ولم يشبه أحدهما، فلا يلحق أيّاً منهما بالاسم.

وتارةً أُخرى تكون قابلية الحيوان للتذكية معلومة كما في الأرنب، ولكن يقع الشكّ في حلّيّة أكل لحمه ذاتاً أو لا.

وكذلك الشبهة الموضوعيّة؛ فإنّه تارة يُشكّ في حلّيّة لحم الحيوان لأجل الشكّ في تحقّق التذكية، وأُخرى يُشكّ في أنّ اللّحم هل هو من الحيوان المحلّل أكله كالغنم، أو لا، مع علمنا بقبولهما التذكية.

التنبيه السادس:

أنّ جريان هذا الأصل يكون في موردين:

الأوّل: إذا كان هناك عموم أو إطلاق دالّ على قبول كل حيوان للتذكية،

ص: 357

وإلّا لكفى التمسّك بهذا العموم لإثبات قابليّة ما شكّ في قابليّته.

الثاني: إذا فرض أنّ موضوع حرمة اللّحم أمر عدميّ، وهو غير المذكّى، ولا يجري فيما لو كان الموضوع وجوديّاً، كالميتة، بناء على القول بأنّها أمر وجوديّ.

والحاصل: أنّ في المسألة ثلاثة أقوال:

الأوّل: أنّ موضوع النجاسة والحرمة أمر وجوديّ وهو الميتة.

الثاني: أنّ موضوعهما أمر عدميّ.

الثالث: التفصيل بين حرمة الأكل وبين النجاسة، فموضوع الحرمة عدمي، وموضوع النجاسة وجودي، ولذا ذهب اُستاذنا الأعظم! في مثل اللّحوم المستوردة المشكوك في تذكيتها، إلى أنّه يجوز شرب مائها إذا طبخها، ولكن لا يجوز أكلها؛ لأصالة عدم التذكية، فإنّها لا تثبت الميتة؛ لأنّها أمر وجوديّ، اللّهمّ إلّا إذا قلنا بالأصل المثبت، ولا نقول به (1).وأمّا إذا كان موضوع الحرمة أمراً وجوديّاً، فلا تثبت الحرمة ولا النجاسة؛ لأصالة عدمهما.

فإن قلت: إنّ في الماء دسومة وأجزاء صغيرة من اللّحم، فكيف لا يحرم شربه؟

قلت: تشخيص الموضوع تابع لما يراه العرف، وهو يراه ماءً وإن

ص: 358


1- انظر: مصباح الاُصول 2: 362.

لم يكن كذلك بالدقّة العقليّة، ولذا نسب إلى بعضهم القول بحرمة أكل الحيوان المتولّد من حيوانين: أحدهما محلّل الأكل كالغنم، والآخر: محرّمه كالكلب، ما لم يلحق ذلك المتولد أحدهما في الاسم، مع القول بطهارته أيضاً.

أمّا إذا فرض أنّ موضوع الحرمة أمر وجودي، فلا تنفع أصالة عدم التذكية - على تقدير جريانها - لإثبات الحرمة إلّا بناءً على الأصل المثبت. فلابدّ لترتّب الحرمة من فرض أنّ الموضوع هو عدم التذكية.

التنبيه السابع:

أنّ من الحيوانات ما ليس لتذكيته أثر، لا في الحلّيّة ولا في الطهارة، بل يكون حراماً ونجساً وإن ذكّي كالكلب.

ومنها: ما لتذكيته أثر في الطهارة دون الحليّة، كالسباع.

ومنها: ما لتذكيته أثر في الطهارة والحليّة، كالأنعام الثلاثة وغيرها، فإنّها تنجس بالموت ويحرم أكلها إلّا أن تذكّى فيجوز وتطهر.

وعليه: فلو كان معنى التذكية بسيطاً، وشكّ في حصول التذكية من جهة الشكّ في اعتبار كونها بالحديد أو إسلام الذابح وبلوغه أو لا، ولم يكن في المقام إطلاق، فإنّه - حينئذٍ - تجري أصالة عدم التذكية؛ للشكّ في حصول ذلك المعنى البسيط. ويظهر من الآية الشريفة ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ...﴾ أنّ الشارع لم يُبح إلّا ما ذكي.

ص: 359

ولا تجري أصالة عدم التذكية فيما لو أريد من التذكية نفس الاُمور التي تقدّم ذكرها؛ لعدم وجود حالة سابقة.وأمّا لو قيل بجريان استصحاب العدم الأزلي؛ لعدم الملازمة بين حكم الشرعيّ وملاكه، فلا يترتّب الحكم بإثبات الملاك، بل إنّما يترتب بين الموضوع والحكم، فمتى وجد وجد.

وكذا لا تجري أصالة عدم التذكية فيما ليس قابلاً لها؛ لعدم الحالة السابقة كذلك، بل تجري أصالة استصحاب الحرمة؛ ضرورة أنّ حرمة أكل اللحم قبل التذكية مسلّمة.

وممّا يدلّ على ذلك: موثّقة عمار بن موسى عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) في حديث: «أنّه سأله عن الشاة تذبح فيموت ولدها في بطنها؟ قال: كلْه فإنّه حلال لأنّ ذكاته ذكاة أمه، فإن هو خرج وهو حيّ فاذبحه وكل، فإن مات قبل أن تذبحه فلا تأكله وكذلك البقر والإبل» (1).

فإنّ أمر الإمام(علیه السلام) بذبح الولد الخارج حيّاً ظاهر في حرمة أكل الحيوان حيّاً. هذا، ولا يقاس الحديث على جواز أكل السمك الصغير حيّاً؛ لأنّ ذكاته هي إخراجه من الماء حياً.

فإن قلت: الاستصحاب متعذّر هنا؛ لعدم كون الموضوع موجوداً في كلا الحالتين؛ ضرورة أنّ حرمة أكله حياً ثابتة للحيوان المتقوم بالحياة،

ص: 360


1- وسائل الشيعة 24: 35, الباب 18 من أبواب الذبائح ح 8.

وما شك في حليته هو اللحم، وهو غير الحيوان.

قلت: الموضوع هنا هو اللّحم، وأما الموت والحياة فهما من الحالات المتبادلة، فيجري الاستصحاب.

فانقدح: أنّ ما ذكره اُستاذنا المحقق! من أنّه لا وجه للتفكيك بين النجاسة وحرمة الأكل بل «إذا جرت أصالة عدم التذكية، فيُحكم بالنجاسة وحرمة أكل لحمه، وإن لم تجرِ فالمرجع قاعدة الحلّ والطهارة، ولا وجه للتفكيك بينهما، فما ذهب إليه بعض الأساطين من التفكيك بينهما والقول بالطهارة وحرمة الأكل لا يستقيم، لا مع جريان أصالة عدم التذكية، ولا مع عدم جريانها»؛ في غير محله.هذا إذا كان الكلام في الشبهة الحكمية مع فقدان النصّ، أمّا في إجمال النص:

فالكلام هو الكلام؛ لعمومية الأدلّة. وأمّا في صورة تعارض النصّين: فإن كان هناك مرجّح في أحد الطرفين أخذ به وترك الآخر، كما إذا كان هناك خبران دلّ أحدهما على حرمة لحم الأرنب، والثاني على حليته، فحينئذٍ: لابدّ من الرجوع إلى المرجّحات، ولمّا كان الخبر الدال على الحرمة موافقاً للمشهور مخالفاً للعامة، وكان كلاهما من المرجحات المنصوصة، لا جرم وجب الأخذ به وطرح الخبر الآخر.

فإن لم يكن هناك ترجيح، فمقتضى القاعدة هو التخيير، كما في باب الأمارات بناءً على الطريقيّة.

ص: 361

وإن قيل بالتساقط، كان مجراه الأصل؛ لفقدان النصّ حينئذٍ.

هذا، وقد يقال: إنّ تعارض النصّين في الشبهة التحريمية يكون مجرىً للاحتياط، كما ورد في الحديث: «أخوك دينك فاحتط لدينك»، ولكن لمّا كانت الرواية مرفوعة ولم يكن الكتاب معتبراً، لم يمكن الأخذ به.

أمّا إذا كانت الشبهة موضوعية - وهي التي يكون الشكّ فيها في الاُمور الخارجيّة - فالمآل هو الأصل أيضاً باتّفاق كلا الفريقين: من الأخباريّ والاُصوليّ.

ثمّ إنّ وجوب الفحص مختصّ بالشبهات الحكمية، وأمّا الشبهات الموضوعية: فلا يجب الفحص في الشبهة التحريمية إجماعاً، إلّا في بعض فروع النكاح، كما إذا لم يعلم أنّ هذه زوجته أو زوجة غيره.

وأمّا الشبهات الوجوبيّة: فالظاهر عدم وجوب الفحص فيها أيضاً، إلّا إذا توقّف امتثال التكليف غالباً على الفحص، كما إذا كان موضوع التكليف من الموضوعات التي لا يحصل العلم بها إلّا بالفحص عنه. كالاستطاعة في الحجّ والنصاب في الزكاة؛ فإنّ العلم بحصول أوّل مرتبة الاستطاعة لمن كان فاقداً لها يتوقّف دائماً على الفحص، وفيمثل هذا يبعد القول بعدم وجوب الفحص؛ لأنّه لو لم يفحص لوقع في مخالفة التكليف كثيراً.

وعلى هذا: يمكن دعوى الملازمة بين تشريع مثل هذه الحكم وبين

ص: 362

إيجاب الفحص عن موضوعه، فإطلاق القول بعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية في غير محلّه، بل الأقوى: وجوب الفحص عن الموضوعات التي يتوقف العلم بها غالباً على الفحص.

ثم إنّ عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إنّما هو فيما إذا لم تكن مقدمات العلم حاصلة بحيث لا يحتاج حصول العلم بالموضوع - كطلوع الفجر - إلى أزيد من النظر إلى تلك المقدمات. فإنّه حينئذ: يجب النظر ولا يجوز الاقتحام، بل لا يجوز الأكل والشرب اعتماداً على الاستصحاب، ولذا لو شككنا في المائع الموجود في الإناء بين كونه خلّاً أو خمراً، فإنّ حصول العلم به متوقف على النظر فلا يجوز - حينئذٍ - الاقتحام أيضاً، بل لابدّ من النظر والسؤال.

نعم، يمكن القول بعدم وجوب الفحص في خصوص باب النجاسة والطهارة؛ وذلك لما علم من التوسعة فيها التي لا تكون في غيرها.

وأمّا مقدار الفحص، فليس عليه من الشارع دليل، والظاهر: أنّ الواجب منه هو حصول اليأس عن الظفر بالدليل، فإنّ العطشان يفحص عن الماء حتّى يحصل له اليأس عنه، وهكذا سائر الموضوعات.

ولا يذهب عليك: أنّ أصالة الطهارة في الحيوان، وأصالة استصحاب الحرمة، إنّما تجريان فيما إذا لم يكن هناك أمارة تدل على التذكية من يد مسلم أو سوق المسلمين. فإن وجدت كانت حاكمة على الأصلين.

ص: 363

والفرق بين الأمارة والأصل في المقام: هو أنّ في الأمارة جهتين ليستا في الأصل:

الاُولى: الكاشفيّة الذاتية الموجودة فيها، فإن ما لا يكون كاشفاً بذاته، ليس للشارع إعطاؤه صفة الكاشفية، لأنّها صفة تكوينية.والثانية: أنّ اعتبارها إنّما هو لأجل كاشفيّتها، فتكون متمّمة للكشف. وأمّا الأصل فليس له كاشفية أصلاً، كأصالة البراءة والحل، أو له، ولكن اعتباره ليس من جهتها، بل تكون كاشفيّته ملغاةً في نظر الشارع، ولذا لو شُكّ في كونه أمارة أو أصلاً مع العلم بجهة الاعتبار يحمل حينئذٍ على أنّه أصل وإن لم يعلم ذلك من الدليل.

وتشارك الأمارة الأصل في إثبات المؤدّى.

نعم، لما كانت الأمارات مثبتات وكانت لوازمها حجة دون الأصل، فالشك في الزائد شك في إثبات اللوازم والملزومات، فتجري أصالة البراءة دون الأمارة.

وكيف كان فقد استدلوا على حجيّة الأمارة بوجوه:

الأوّل: الإجماع.

وفيه: أنّه محتمل المدركية، وليس إجماعاً تعبدياً.

الثاني: السيرة العقلائية.

الثالث: السيرة المتشرعية.

الرابع: الأخبار المستفيضة، الدالّة عليه عموماً أو خصوصاً، من غير

ص: 364

فرق بين يد المسلم والكافر، إلّا في اللحوم وما يتعلّق بها؛ فإنّه لا عبرة بيد الكافر فيها، ولا يحكم له بالملكيّة.

فمن تلك الأخبار: صحيحة البزنطي قال: «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء، لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكية، أيصلي فيها؟ فقال(علیه السلام): نعم ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر(علیه السلام) كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدين أوسع من ذلك» (1).ومنها: ما عن الحلبي قال: «سألت أبا عبد اﷲ(علیه السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال: اشتر وصل فيها حتى تعلم أنّه ميت بعينه» (2).

ومنها: ما عن إسحاق بن عمار عن العبد الصالح (علیه السلام) أنّه قال: «لا بأس بالصلاة في الفرا اليماني، وفيما صنع في أرض الإسلام، قلت: فإن كان غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» (3).

فظهر: أنّ بناء العقلاء وعمل الناس كان على اعتبار اليد وترتيب آثار الملكيّة على ما في اليد لصاحبها، وليس في طريقتهم هذه ما يقتضي التعبد بالملكيّة، بل عملهم على ذلك إنّما هو لكشف اليد في نوعها على الملكية؛ ضرورة أنّ الغالب في موردها هو الكشف عن ملكيّة صاحب اليد، حيث يتصرف في ما يستولي عليه تصرف المالك، ويكون احتمال

ص: 365


1- وسائل الشيعة: 3: 491, الباب 50 من أبواب التيمّم ح 3.
2- وسائل الشيعة: 3: 490 - 491 الباب 50 من أبواب التيمّم ح 2.
3- وسائل الشيعة: 3: 491 - 492 الباب 50 من أبواب التيمّم ح 5.

غصبيّة ذي اليد لما في يده احتمالاً ملغىً في نظرهم، فيتعاملون معه معاملة سائرالطرق العرفيّة والكواشف العقلائية.

فانقدح: أنّ ما ورد من الدليل على حجّيّة اليد عند الشارع إنّما هو إمضاء لما عليه عمل الناس طريقتهم، وليس مفاد تلك الأدلّة تأسيس أصل عملي بحيث يلاحظ فيه الشارع جهة الكاشفية، فإنّه بعيد غاية البعد.

فقوله(علیه السلام): «لولا هذا ما قام للمسلمين سوق» ليس إلّا إمضاءً لما عليه العقلاء، وليس مسوقاً لبيان التعبّد، ومن أمعن النظر في طريقة العقلاء في باب اليد قطع - لا محالة - بأنّها من الأمارات لا من الاُصول.وحينئذٍ: تكون اليد حاكمة على الاستصحاب، ولو سلّم فإنّها تكون مقدّمة عليه لورودها مورد الاستصحاب غالباً، والموارد التي لا يكون الاستصحاب فيها مخالفاً لليد قليلة جداً، فلو قدّم الاستصحاب لم يبق مورد لليد، فنقع في مخالفة التعليل الوارد في الآية من أنّه: لولاها لما قام للمسلمين سوق.

ثمّ إنّ اليد التي لا يعلم حالها تكون موجبة لنقل ما في اليد من الأملاك القابلة للنقل في حدّ نفسها، من غير حاجة إلى أمر يكون هو الموجب للنقل والانتقال، كما لو لم يكن ما في اليد من الأراضي الموقوفة ولا من الأراضي المأخوذة عنوة العامرة حال الفتح، فإنّها لا يجوز نقلها، إلّا إذا رأى ولي المسلمين المصلحة في نقلها.

ص: 366

فتحصّل: أنّ اليد إن كانت مجهولة الحال من أوّل حدوثها بحيث لم يعلم أنّها يد مالكة أو عادية أو يد أمانة شرعيّة، كاللقطة، أو أمانة مالكيّة، كالإجارة والعارية والوديعة، ولم يقرّ ذو اليد بخروجها عن ملكيّته، كانت حجّيّة اليد - حينئذٍ - من المسلّمات؛ لاحتمال انتقالها إلى ملكه.

وهذا القسم هو المتيقّن من موارد اعتبار اليد وحكومتها على استصحاب بقاء الملك لصاحبه؛ لأنّه استصحاب مثبت، ولا يثبت استصحاب بقاء الملك دليليّة اليد على ملك الغير.

هذا فيما كانت اليد من الاُصول.

وأمّا إذا كانت من الأمارات، فلا إشكال في عدم وصول النوبة إلى الاستصحاب؛ لأنّ حالها - حينئذٍ - يكون كحال سائر الأمارات في حاكميّتها على الاستصحاب.

وأمّا إذا كان حالها معلوماً من الأوّل، أنّها يد عارية أو أمانة أو إجارة ونحو ذلك، ثمّ احتمل انتقال المال إليه من أول حدوث يده عليه، فحينئذٍ قد يقال: لا إشكال في سقوط اليد والعمل على ما يقتضيه الاستصحاب؛ بداهة أنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملك فيما إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بأحد العنوين المزبورة من الإجارة ونحوها، واستصحابحال اليد يوجب تعنونها بأحدها فلا تكون كاشفة عن الملكية، ولا يبقى مجال لحكومتها باعتبار أماريّتها.

ولكن يمكن أن يقال: هذا إنّما يتم إذا كانت اليد من الاُصول، وكان

ص: 367

دليلها شاملاً لمجهول العنوان، فإنّه يصبح معلوم الغصبية أو الأمانية ببركة الاستصحاب.

وأما على القول بأماريّتها، بأن كانت اليد من الأول يد أمانة أو غصب، ولكن احتمل انتقاله إليه، فإنّ لازم أماريتها إذ ذاك هو رفع دليل اعتبارها، ومقتضى رفع الجهل عن ملكية ما في يده هو تطبيق الملكية وبيان عدم غصبيتها ولا أمانتها كذلك، فيرتفع الاستصحاب لارتفاع موضوعه وهو الشك.

ثمّ إنّه قد تقدّم أنّ الملك تارة يكون من قبيل المفتوح عنوة، واُخرى يكون وقفاً.

أمّا في الصورة الأُولى: فإذا حصل الشك في الملكية لصاحب اليد بواسطة انتقالها إلى ذي اليد بنقل شرعي كان لذي اليد حينئذٍ أمارة شرعية ظاهراً.

وهذا بخلاف الصورة الثانية حيث يكون الملك من الأوّل وقفاً، فلا تكون اليد أمارة على الملكية؛ لما عرفته من أنّها إنّما تكون كذلك فيما إذا كان المال بطبعه قابلاً للنقل والانتقال فعلاً، فلابدّ لثبوت الملكيّة حينئذٍ من طرو أحد الاُمور التي يجوز معها النقل والانتقال. فظهر أنّ استصحاب عدم طرو ما يجوز معه النقل يقتضي بقاء الملك على مالكه الأوّل وسقوط اعتبار اليد.

فإن قلت: قد يكون الوقف قابلاً للبيع في بعض الموارد، فيتحقق

ص: 368

الشك.

قلت: لا يخفى ضعفه لندرة مثل تلك الموارد.

فإن قلت: إنّ اليد وإن كانت أمارة على ذيها، إلّا أنّ لازم ذلك طروّ ما يسوّغ النقل إليه، وشأن الأمارة إثبات اللوازم والملزومات، فاليد كما تثبت النقل تثبت طروّ المجوّز للنقل أيضاً.قلت: إنّما يتمّ إذا كانت قابلية النقل والانتقال من اللوازم، والحق أنها بمنزلة الموضوع، والأمارة لا تثبت الموضوع. ولذا لو كان في اليد مائع ولم نعلم أنّه خل أو خمر، مع علمنا أنّه كان خمراً سابقاً، فلا تثبت الأمارة الخلية؛ لأنّ اليد أمارة على الملك، وليس الخمر ممّا يملك، فيكون خلّاً؛ لأنّها الأمارة تثبت اللوازم.

وهذا يدلّ على أنّ المالية ليست من اللّوازم، بل هي موضوع، فاستصحاب بقاء الخمرية في المقام حاكم على اليد، وكذا استصحاب بقاء الوقفية.

فإن قلت: فأيّ فرق بين الوقف والأراضي المفتوحة عنوة؟ مع أنّه لو كان ما في اليد من الأراضي المفتوحة عنوة وادّعى الملكية تقرّ يده عليه، ولا يجري استصحاب بقائها على الحالة السابقة.

قلت: الفرق أنّ الأراضي المفتوحة عنوة وإن كانت ملكاً للمسلمين إلّا أنّها قابلة للنقل والانتقال بالفعل، غاية الأمر أنّ المصلحة العامة اقتضت أن يكون المتصدي للنقل هو ولي أمر المسلمين .

ص: 369

أما الوقف فلا يقبل النقل والانتقال وإن فرض بأنّه ملك للموقوف عليه، إلّا بعد طروّ مسوّغ كما عرفت.

ثمّ إذا لم يدّعِ أحد الملكية في مقابل ذي اليد، ترتبت آثار الملكية وجاز الشراء منه قطعاً. فإن ادّعى في مقابله: فإن أتى ببينة على طبق ما يدّعي أو لم يأت ولكن اعترف صاحب اليد بأنّها للمدعي: اُخذ المال من ذي اليد واُعطي للمدّعي.

وأمّا مع فقد البينة واعتراف صاحب اليد بأنّها كانت للمدّعي أوّلاً ثمّ انتقلت إليه بناقل شرعي، فهل ينتزع المال من ذي اليد ويسلم إلى المدعي أم لا؟ بل هناك تفصيل فتارة ان المال تثبت ملكيته باقرار ذي اليد واعترافه واُخرى تثبت بالبينة وثالثاً بحكم الحاكم.

ذهب المحقق النائيني! إلى الأوّل حيث قال ما هذا لفظه:

«فالأقوى - وفاقاً للمحكيّ عن المشهور - انتزاع المال عن ذي اليد وتسليمه إلى المدعي؛ لأنّه بإقراره تنقلب الدعوى ويصير المدعيمنكراً والمنكر مدعياً، فإنّه عند إقراره بأنّ المال كان للمدعي إمّا أن يضم إلى إقراره دعوى الانتقال إليه، وإمّا أن لا يضم إلى إقراره ذلك، بل يدعي الملكية الفعلية مع إقراره بأنّ المال كان للمدعي.

فإن لم يضمّ إلى إقراره دعوى الانتقال، يكون إقراره مكذباً لدعواه الملكية الفعلية، فإنّه لا يمكن خروج المال عن ملك من كان المال ملكاً له ودخوله في ملك ذي اليد بلا سبب، فدعواه الملكية الفعلية

ص: 370

تكون مناقضة لإقراره، ومقتضى الأخذ بإقراره بطلان يده وعدم سماع دعواه» (1).

ولكن يمكن أن يقال: عدم ضمّ دعوى الانتقال لا يقتضي مكذبية إقراره ليده، وإنّما المكذب له هو دعوى عدم الانتقال، لا عدم دعوى الانتقال، إذ يكفي لصحة هذه مجرد احتمال الانتقال إليه واقعاً، وهو غير دعوى الانتقال. فلا يمكن في هذه الصورة دعوى عدم انتزاع المال من يده لعدم منافاة إقراره مع اليد الكاشفة عن الملكية الفعلية.

ثم قال!: «وإن ضمّ إلى إقراره دعوى الانتقال إليه تنقلب الدعوى ويصير ذو اليد مدعياً للانتقال إليه، فإنّه يخالف قولُه الأصلَ المعوّل عليه في المسألة - وهو أصالة عدم الانتقال إليه - فينطبق على ما ذكرناه في محله في تشخيص المدّعي والمنكر من أنّ المدّعي هو الذي إذا ترك دعواه وأعرض عنها ترك وارتفعت الخصومة من بينهما، فإنّ ارتفاع الخصومة من البين إنّما هو لأجل كون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة الموافق لقول أحدهما» (2).

ولكن يمكن أن يقال: إنّ مجرد عدم أماريّة اليد على الانتقال لا تسقط اليد عن الأمارية على نحو الإطلاق، أو فقل: لا يسقطها عن الأمارةعلى

ص: 371


1- فوائد الاُصول 4: 611 - 612.
2- فوائد الاُصول 4: 612 - 613.

الملكية الصرفة، فتبقى اليد على حجيتها ولا يمكن انتزاع المال من يد ذي اليد.

فإن قلت: إنّ أصالة عدم الانتقال لا تكفي للمدعى.

قلت: لكن يكفي لذي اليد استمساك المال أيضاً، فيكون دليلاً على الملكية، ولا تكون إحدى الحجّتين رافعة للاُخرى، كما لا تفيد دعوى الانقلاب في رفع هذه الشبهة، غايته: أنّ أصالة عدم الانتقال تجعل مدّعيه مدّعياً على خلاف الحجّة في دعواه، ولكن هذا المقدار لا يقتضي انتزاع المال من يد من بيده المال؛ لعدم قصور اليد عن الحجيّة على صرف الملكيّة وإن لم يثبت الانتقال. وحينئذٍ: لا يمكن انتزاع المال بأصالة عدم الانتقال ما لم تنضمّ إليها مقدّمة اُخرى.

نعم، بناءً على الإجماع والشهرة على الانقلاب، يكونان سبباً لحجّية أصالة عدم الانتقال؛ ضرورة أنّ جريان هذا الأصل يجعل المدعي منكراً، فحجيّته بلحاظ ترتب أثر عدم الانتقال من بقاء الملكية عليه. فإذا قامت الأمارة على ملكية الغير لم يترتب الأثر المزبور، ومع عدم ترتبه لا معنى لحجية أصالة عدم الانتقال.

فيستكشف من الشهرة والإجماع عدم حجية اليد، فينتزع المال من ذي اليد، ومع عدم اقتران الأصل بدعوى الانقلاب تبقى اليد على حجيتها، ولازمه عدم حجية الأصل.

ثم إنّ المحقق النائيني! بعد أن ذكر أنّه لا إشكال في أنّ ذا اليد لو ترك

ص: 372

دعواه الانتقال إليه بعد إقراره بأن المال كان للمدعي ترتفع الخصومة من البين، وكان المرجع بعد الإقرار أصالة عدم الانتقال ولا يجوز التعويل على اليد؛ لسقوطها بالاقرار...

قال! ما إليك نصّه:

«ربما يتوهم المنافاة بين ما ذكرنا: من انقلاب الدعوى في صورة إقرار ذي اليد بأنّ المال كان للمدعي، وبين ما ورد في محاجّة أمير المؤمنين(علیه السلام) مع أبي بكر في قصة فدك على ما رواه فيالاحتجاج (1) مرسلاً عن مولانا الصادق(علیه السلام) في حديث فدك: (إنّ أمير المؤمنين(علیه السلام): قال لأبي بكر تحكم فينا بخلاف حكم اﷲ في المسلمين؟ قال لا، قال(علیه السلام): فإن كان في يد المسلمين شيءٌ يملكونه ادّعيت أنا فيه، مَنْ تسأل البينة؟ قال: إيّاك كنت أسأل على ما تدعيه، قال(علیه السلام): فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي! وقد ملكته في حياة رسول اﷲ- وبعده! ولم تسأل المؤمنين على ما ادّعوا عليّ! كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم!) الخبر» (2).

فإنّ مقتضى تلك القاعدة: أنّ على الزهراء الإتيان بالبيّنة؛ لأنّها انقلبت من منكرة إلى مدّعية، مع أن أمير المؤمنين(علیه السلام) نفى في الخبر كون

ص: 373


1- الاحتجاج 1: 122.
2- فوائد الاُصول 4: 613 - 614.

البينة عليها، بعد البناء على أنّ ما تركه النبي- لم ينتقل إلى وارثه بل يكون صدقة للمسلمين لما رووه عنه- من قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث درهماً ولا ديناراً» (1).

فيكون المسلمون بمنزلة الوارث له-، وحيث إنّ أبا بكر ولي المسلمين كان له حق مطالبة البيّنة من الصدّيقة على ما ادّعته من أنّ رسول اﷲ- قد ملّكها فدكاً في أيّام حياته.

وحينئذٍ: تكون البيّنة على الطرف الآخر وهو أبو بكر، فبما أنّه يدعي ولاية المسلمين لابدّ له من الإتيان بالبيّنة، فاحتج الأمير(علیه السلام) على هذه الدعوى.

ولكنّ المحقّق النائيني! بعد ادّعائه الانقلاب، أفاد: أنّ الحكم لا ينقلب هنا، بل يكون أبو بكر هو المدّعي، فإقرارها أنّ فدك كان ملكاًللنبي- لا يوجب انقلاب الدعوى بعد أن بين أنّ انتقال المال إلى المسلمين ليس كانتقال المال من المورث إلى الوارث؛ ضرورة أن انتقال الملك إلى الوارث يكون بتبدلّ الملك الذي هو أحد طرفي الإضافة، وانتقاله إلى المسلمين إنّما هو بتبدّل أصل الإضافة؛ فإنّ الملكيّة عبارة عن الإضافة الخاصة القائمة بين المالك والمملوك.

فللملكيّة طرفان: طرف المالك وطرف المملوك، ففي البيع تبدل

ص: 374


1- نقلاً عن: مسند أحمد بن حنبل 1: 4.

الإضافة يكون من طرف المملوك أما الملك فيبقى على ما حاله من الملكية، غايته: أنّ طرف الإضافة قبل البيع هو المثمن، وبعده هو الثمن، فيقوم مقامه ويصبح هو طرف الإضافة (1).

وأمّا في الإرث، فالتبدّل يكون من طرف المالك مع بقاء المملوك على حاله، غايته: أنّ طرف الإضافة قبل موت المورث هو نفس المورّث، وبعد موته يقوم الوارث مقامه ويصبح هو طرف الإضافة.

وقد يكون بتبدّل أصل الإضافة بمعنى انعدام الإضافة القائمة بين المالك والمملوك، وتحدث إضافة اُخرى لمالك آخر كما في الهبة، فإن انتقال المال إلى المتّهب بالهبة ليس كانتقال المال إلى الوارث ولا من قبيل انتقاله بالبيع، بل انتقاله إليه يكون بإعدام الإضافة بين الواهب والموهوب وحدوث إضافة اُخرى بين المتهب والموهوب.

فظهر: أنّه بناء على ثبوت الخبر المجعول، فلا يكون انتقال المال إلى الوارث كانتقاله إلى المسلمين، بل يكون كانتقال المال من الواهب إلى المتهب والموصى له والموصى به؛ لأنّ المسلمين لم يرثوا المال من النبي حتى يكون سبيلهم سبيل الوارث.

وبعد قيام الوارث منزلة المورث، لا يكون إقرار فاطمة بأن الملك كان لرسول اﷲ- إقراراً بأنه ملك للمسلمين؛ لوضوح عدم قيام

ص: 375


1- انظر: فوائد الاُصول 4: 615.

المسلمين مقام النبي-، بل غايته أنّه يصرف في شؤونهم، فلا ينتزع عن يده، فتبقى أصالة عدم الانتقال وهذا محكوم باليد.ثمّ هل تعدّ هذه المسألة من المسائل الاُصولية، أم هي من القواعد الفقهية.

لا يخفى: عدم اُصوليّة هذه المسألة؛ لعدم وقوعها كبرى في قياس الاستنباط - على ما هي الضابطة في القاعدة الاُصولية - بل تستنتج منها الملكيات الشخصية وغيرها من الاُمور الجزئية التي تثبت لذي اليد كالسلطة على الطفل الصغير، فحالها حال سائر القواعد المستعملة في الأحكام الجزئية كالبيّنة وأصالة الصحّة وقاعدة الفراغ والتجاوز وبقيّة الموضوعات الخارجية التي يستنبطها الفقيه ويفتي بها ثمّ يطبّقها المقلّد ويعمل بمضمونها.

وأنت خبير: بأنّه لا حظّ للمقلّد في تطبيق المسألة الاُصوليّة، بل إنّما تطبيقها بيد المجتهد؛ مضافاً إلى تعلّق المسألة الاُصوليّة بكيفية العمل مع الواسطة، بخلاف المسألة الفقهيّة حيث تتعلّق بها بلا واسطة.

ص: 376

الكلام في قاعدة اليد

في معاني اليد:

الحاصل: أنّ لليد معان:

فمنها: العضو المعروف. ومنها: القوة. ومنها: السلطنة. ومنها: القدرة. ومنها: النعمة. ومنها: الاستيلاء. ومنها: الملك. ومنها: السلطان. ومنها: الطاعة. ومنها: الجماعة.

وقد استدلّوا على الحجية والحقيقة في جميعها، والحقّ: أنّها حقيقة في العضو المعروف.ويرد على ما استدلّوا به: أنّه ليس من ديدن اللّغويين إلّا بيان موارد الاستعمالات، من غير أن يتعرّضوا إلى بيان الحقيقيّ منها وتمييزه عن المعاني المجازيّة.

واستدلّ على وضعها للعضو المعروف بالتبادر، وعدم صحّة السلب.

وكيف كان، فإنّ المراد من اليد في محلّ البحث إنّما هو الاستيلاء

ص: 377

والسلطنة على شيء، بلا فرقٍ بين تحقّقه بالملك أو الأمانة أو الإجارة أو العارية، أو كان تحقّقه بالتربية كسلطة الأب والأم على الطفل بإخبارهم بنجاستهم وطهارتهم، وكذا الفراش وأثاث البيت بالنسبة الى من في يده كالزوجة أو الخادمة. و كذا سلطة الإمام والفقيه لما يقع تحت سيطرتهم وحكومتهم.

فما ورد في رواية عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعاً عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام):

«فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون، تسألني البينة على ما في يدي؟ وقد ملكته في حياة رسول اﷲ- وبعده، ولم تسأل المؤمنين البينة على ما ادعوا عليّ» (1): ليس مراد باليد فيها إلّا الاستيلاء.

وكذا رواية حفص بن غياث عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:

«قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل، يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنه له فلعلّه لغيره، فقال أبو عبد اﷲ(علیه السلام): أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد اﷲ(علیه السلام): فلعلّه لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك؟ ثمّ تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟

ص: 378


1- وسائل الشيعة 27: 293, الباب 25 من أبواب كيفيّة الحكم، ح 3.

ثمّ قال أبو عبد اﷲ(علیه السلام) لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» (1).ومنها: ما روي عن الصادق(علیه السلام) في حديث فدك أنّ أمير المؤمنين(علیه السلام) قال لأبي بكر:

«أتحكم فينا بخلاف حكم اﷲ في المسلمين؟ قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادّعيت أنا فيه، من تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين، قال(علیه السلام): فإذا كان في يدي شيء فادّعى فيه المسلمون، تسألني البيّنة على ما في يدي؟ وقد ملكته في حياة رسول اﷲ - وبعده، ولم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا علي كما سألتني البيّنة على ما ادعيت عليهم - إلى أن قال - وقد قال رسول اﷲ-: البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر» (2).

ومنها: رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:

«سمعته يقول: كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك لعلّه حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة» (3).

ص: 379


1- وسائل الشيعة 27: 292, الباب 25 من أبواب كيفيّة الحكم، ح 2.
2- وسائل الشيعة 27: 293, الباب 25 من أبواب كيفيّة الحكم ح 3.
3- وسائل الشيعة 17: 89, الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ح 4.

ومنها: رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي قال:

«سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فرا، لا يعلم أذكيّة هي أم غير ذكيّة، أيصلّي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة» (1).

ومنها: رواية عبد الرحمن بن حجاج قال:«قلت لأبي عبد اﷲ(علیه السلام): إنّي أدخل سوق المسلمين - أعني: هذا الخلق الذين يدعون الإسلام - فأشتري منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها: أليس هي ذكية؟ فيقول: بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية؟ فقال: لا، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنّها ذكية، قلت: وما أفسد ذلك؟ قال: استحلال أهل العراق للميتة، وزعموا أن دباغ جلد الميتة ذكاته» (2).

فإنّه يظهر من إطلاق هذه الرواية أنّ عدم التذكية يصدق عليه الميتة، خلافاً لما تقدّم من رأي اُستاذنا الأعظم! من أنّ أصالة عدم التذكية لا تثبت الميتة؛ لأنّها أمر عدمي، والميتة أمر وجودي.

ومنها: رواية حمزة بن حمران، قال:

«قلت لأبي عبد اﷲ(علیه السلام): أدخل السوق وأريد اشتري جارية فتقول: إنّي حرّة، فقال: اشترها إلّا أن يكون لها البينة» (3).

ص: 380


1- وسائل الشيعة 3: 491, الباب 50 من أبواب النجاسات ح 3.
2- وسائل الشيعة 3: 503, الباب 61 من أبواب النجاسات ح 4.
3- وسائل الشيعة 18: 250, الباب 5 من أبواب بيع الحيوان ح 2.

ثمّ هل يعتبر في قول ذي اليد العدالة والوثاقة؟

لا يخفى: عدم اشتراط الإسلام والإيمان في قبول قول ذي اليد، فأولى بذلك عدم اشتراط العدالة والوثاقة.

في تعارض اليد مع الأمارات والاُصول:

اعلم أنّه إذا تعارضت البينة مع ذي اليد، تقدّمت عليه؛ لأقوائيتها، كما ذكر في باب القضاء والدعاوى، وإلّا لم يبق لمدّعي الملكية دليل حتى في مقابل الغاصب.

وإذا تعارضت اليد مع أمارة اُخرى، فلا تكون اليد حجّة؛ لأنّها وإن كانت أمارة، إلّا أنّ أماريّتها مشروطة بأن لا توجد أمارة على خلافها،كما لو كانت الأرض في يد شخص وادّعى ملكيّتها، وشاع أنّها وقف، سقطت اليد بذلك عن الحجّيّة، ودخلت في باب التعارض؛ لتعارضها مع أمارة أُخرى، وحينئذٍ: يؤخذ بأقواهما إن وجد وإلّا تساقطا.

هذا إذا كانت البيّنة مستندة إلى العلم، وأمّا إذا استندت إلى الأصل، فتكون اليد مقدّمة عليها مطلقاً، فتأمّل.

وأما إذا كان الملك تحت يده فأقرّ بأنّه ليس له، أو بأنّه لفلان، فيقدّم الإقرار على ذي اليد؛ بداهة أنّ إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ، فتسقط يده عن الملكيّة؛ لحكومة الأمارة ولو ضعيفة على الأصل.

ص: 381

هذا، ولا يخفى: عدم تساوي الأمارات في الإقدام، فربّ أمارة أقوى من أمارة اُخرى، فتتقدّم عليها.

ولا شكّ في أنّ البيّنة العادلة أقوى دلالةً على الملكيّة من اليد؛ لأنّ اليد وإن كانت بطبعها الأوّليّ مقتضية للملكية، إلّا أنّه إذا وجد دليل أقوى منها يدلّ على انحرافها عن طبعها واستعمالها في غير محلّها، كان لابدّ من الركون إليه، وهذا نظير تقديم الأظهر على الظاهر.

وأمّا في صورة تعارض اليدين، كما إذا وجد شخصان مسلّطان على شيء واحد، فأخبر أحدهما بنجاسته والآخر بطهارته، فحينئذٍ: يتعارضان، فيتساقطان، ويحكم بالطهارة للأصل.

وإذا كان هناك يدان على شيء واحد، إحداهما قديمة والثانية جديدة، قدّمت اليد الثانية؛ لأنّه ذو اليد فعلاً، ولأنّ فعل المسلم يحمل على الصحّة، خصوصاً إذا كان يتصرّف فيه تصرّف الطهارة، كما إذا اخبر بأنّه طاهر؛ هذا مع علم صاحب اليد الثانية بالنجاسة سابقاً.

وأمّا إذا قال بالطهارة مع عدم علمه بالنجاسة فيقدّم قول الأوّل؛ لاستصحاب النجاسة.

وإذا تعارض قول المالك وذو اليد كالزوجة في طهارة ما هو تحت يدها من الأثاث الظاهر، قُدّم قولها؛ لأنّها هي ذو اليد بالنسبة إلى هذه الاُمور.وإذا تعدّدت الأيدي على مال، فهل تتعارض فتتساقط؟ أم أنّ تعدّدها

ص: 382

يكون أمارةً على أنّ كلّ يدٍ مالكة لجزء من المال، فإن كانت يدين فلكل واحد منهما النصف، أو ثلاثة: فالثلث، كما هو المشهور بين الفقهاء، والعرف يرى ذلك.

واعترض عليه: بأنّ مقتضى حجية اليد هو أماريتها على ملكية تمام ما في يده، فالنتيجة هي التعارض والتساقط حيث لا مرجّح، فيرجع إلى الأصل؛ مع أنّا نرى استحالة كون كلّ واحدة من الأيدي مستقلّة في جميع المال، خاصّة بعد تفسيرها بالاستيلاء؛ لأنّ الاستيلاء التامّ هو أن يكون للشخص سلطنة باستقلاله بالنسبة إلى التصرّف ومنع الغير من ذلك، ومثله لا يكاد يتحقّق على فرض تعدّد الأيدي.

وقد يقال: إنّ لكلّ واحدة من تلك الأيدي استيلاءً تامّاً بالنسبة لما في يده، ولكن على نحو المشاع، فلو كانت اثنتين فالمشاع هو النصف؛ أو أنّ لكلّ واحدٍ منهم في الواقع يداً ناقصة، ولكن يحسبها العقلاء كاليد التامّة المستقلّة، فتكون كالشركة القهريّة، كما إذا اختلط الدهن الذي لأحد الشخصين بالدهن الذي للآخر قهراً أو مع الاختيار.

ولذا نرى أنّه لو باع أحدهم النصف المشاع أو وهبه لم يكن متعدّياً ولم يحتج إلى إجازة من الآخر، وهو معدود عند العرف أنّه تصرّف في ماله، كما أنّه لا يجوز له أن يبيع أكثر من النصف إلّا مع إقرار الشريك أو قيام البينة على دخولها كلّها تحت ملكه؛ وإلّا عدّ تعدّياً في نظر العرف.

ص: 383

فهذا التصرّف وجواز النقل والانتقال منه دليل على أنّه ليس من حقّه الاستيلاء على جزء معيّن، فضلاً عن استيلائه على المجموع إذا كانت الأيدي متعدّدة، بل على الجزء المشاع خاصّةً.

في أماريّة يد الكافر على عدم التذكية

اشارة

ويلحق بهما سوق الكفّار وأرض الكفر.هل يد الكافر بنفسها أمارة على عدم التذكية كما أنّ يد المسلم أمارة كذلك على التذكية؟ أم لا، بل الحكم بعدم التذكية إنّما هو من جهة التمسّك بأصالة عدم التذكية؟ وكذا الحال في سوق الكفّار وأرض الكفر، فهل هما - أيضاً - بأنفسهما أمارتان على عدم التذكية أم لا؟

ويمكن أن يفرض ثمرة لهذا البحث في العديد من الموارد:

منها: ما إذا تعارضت الأمارتان، أعني: سوق المسلمين ويد الكافر، بأن كان اللّحم في يد الكافر بائع في سوق المسلمين؛ فإنّه إذا حكمنا بعدم تذكية ما في يد الكافر تمسّكاً بأماريّة يده السوق ويد الكافر يحصل التعارض بين الأمارتين؛ فإنّ المفروض ثبوت الأماريّة على التذكية لسوق المسلمين.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الحكم المذكور - أعني: عدم التذكية - كان مستفاداً من أصالة عدم التذكية، ولا أماريّة ليد الكافر، فيكون من التعارض بين الأمارة والأصل، فإنّ السوق له أمارية بحسب الفرض، ولا أماريّة لليد،

ص: 384

وفي مثله: تكون الأمارة مقدّمة على الأصل بلا كلام.

ومنها: ما إذا كانت يد المسلم على جزء من الحيوان ويد الكافر على جزء آخر منه؛ فإنّه إذا أردنا أن نحكم بالتذكية وعدمها فلابدّ أن يكون ذلك بالنسبة إلى تمام الحيوان ومجموعه، لا بالنسبة إلى خصوص الجزء الذي هو كائن بيد المسلم؛ فإنّ المتصوّر من أماريّة التذكية أو من عدمها إنّما هي التذكية أو عدمها بالنسبة إلى الحيوان كلّه، لا تذكية جزء خاصّ منه، هو الجزء الذي بيد المسلم خاصّةً.

وهنا: إن قلنا بأن يد الكافر أمارة على عدم التذكية فتتعارضان، وأمّا إذا قلنا بعدم أماريّته، وإنّما استفيد الحكم من جهة أصالة عدم التذكية فتقدّم يد المسلم لا محالة؛ لأنّها أمارة، والأمارات مقدّمة على الاُصول، ومن بينها: أصالة التذكية.

ومنها: ما إذا كانت الذبيحة بيد المسلم قبلاً، ولكنّها فعلاً بيد الكافر، فلو قلنا بأنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية فتتعارض الأمارتان؛ لأنّ يد المسلم من حين حدوثها كانت أمارةً على التذكية حدوثاً وبقاءً.وأمّا على القول بعدم أماريّتها، فيد المسلم بما أنّها أمارة على التذكية تكون مقدّمة على أصالة عدم التذكية، فيحكم بكون هذه الذبيحة مذكّاة حينئذٍ.

ثمّ إنّه قد استدلّ لأماريّة يد الكافر وأرض الكفر وسوق الكفار بأدلّة:

ص: 385

الدليل الأوّل:

مصحّح إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح(علیه السلام) أنّه قال: «لا بأس بالصلاة في الفراء اليمانيّ وفيما صُنع في أرض الاسلام. قُلْتُ: فإن كان فيها غير أهل الاسلام، قال(علیه السلام): إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» (1).

وتقريب الاستدلال به: هو أنّه يدلّ - بمفهوم الشرط - حيث إنّه علّق عدم البأس على غلبة المسلمين. فيدلّ بالمفهوم على ثبوت البأس إذا لم تكن الغلبة للمسلمين في تلك الأرض، أو في ذلك البلد.

ولكنّك خبير: بأنّ ثبوت البأس عند عدم غلبة المسلمين أجنبيّ عن إثبات الأماريّة لسوق الكفر، بل هي في مقام بيان المراد من سوق المسلمين وأرض الإسلام وتحديد أن يكون جميع من فيها أو غالبهم من المسلمين، ومعه: فالبأس عند عدم غلبة المسلمين إنّما يثبت بحكم أصالة الحرمة في اللّحوم؛ لأنّ استصحاب عدم التذكية جارٍ، وكذلك، فالرواية ليست في مقام إثبات الأماريّة لسوق الكافرين، ولا لأراضيهم على عدم التذكية.

وقد يُقرّب الاستدلال بهذه الرواية - أيضاً - بمفهوم الوصف، بأن يُقال: إنّه(علیه السلام) علّق الحكم بنفي البأس على الغلبة الموصوفة بغلبة

ص: 386


1- وسائل الشيعة 3: 491 - 492, الباب 50 من أبواب النجاسات ح 5.

المسلمين، ومقتضاه: ثبوت البأس عند ثبوت الغلبة الموصوفة بأنّها غلبة غير المسلمين، فيكون المراد - حينئذٍ -: أنّه إذا كان الغالب عليهاغير المسلمين، ففيه بأس، وهذا معنى ثبوت الأماريّة لها على عدم التذكية، وهو المطلوب.

ولكن أجاب عنه بعض المحقّقين! - وهو نعم الجواب - بقوله: «وهذا الوجه غير سديد؛ لما حُقّق في محلّه: من عدم حجّيّة مفهوم الوصف، وعدم اعتباره شرعاً» (1).

الدليل الثاني:

رواية إسماعيل بن عيسى قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن الجلود الفرا يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال(علیه السلام): عليكم أنتم إن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا بأس» (2).

وتقريب الاستدلال به كما أفاده اُستاذنا المحقّق!: «أنّه (علیه السلام) أمر بالسؤال إذا كان البائع مسلماً غير عارف بأنّ ما باعه ميتة أم لا، وكان هناك في البلد والسوق مشركون يبيعون ذلك، ومن المحتمل: أن يكون هذا المسلم اشترى منهم، ونتيجة السؤال: هو أنّه لو تبيّن أن البائع الأوّل

ص: 387


1- منتقى الاُصول 7: 77.
2- وسائل الشيعة 3: 492, الباب 50 من أبواب النجاسات ح 7.

مشرك، وهذا البائع الثاني المسلم اشترى من ذلك المشرك، يجب الاجتناب عنه، وإلّا يلزم أن يكون الأمر بالسؤال لغواً، ومعلوم: أن معنى هذا: أن يد الكافر أمارة عدم التذكية، وتعارض يد المسلم التي هي أمارة التذكية وتكون مقدّمةً عليها، فيدلّ على اختصاص أماريّة يد المسلم على التذكية بما لا يعلم تقدم يد الكافر عليها» (1).

نعم، إذا كان تقدم يد الكافر معلوماً، يتعارضان، فنرجع إلى أصالة عدم التذكية بعد تساقطهما.ولكنّ الحقّ - كما يظهر من الرواية - أنّ الحكمة من إلقاء هذا السؤال إنّما هي طلب فهم أمارة على التذكية؛ ومع سبق يد الكافر، فلا محالة: لا ينعقد للجواب دلالة - أصلاً - على أماريّة يد الكافر على عدم التذكية. فتأمّل جيّداً.

قبول قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة

هل يقبل قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة أم لا؟

قال في الحدائق: «ظاهر الأصحاب الاتّفاق على قبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه ونحوهما ونجاستهما» (2).

ومن هنا قد يُجعل الإجماع من أدلّة المسألة.

ص: 388


1- القواعد الفقهيّة 1: 158.
2- الحدائق الناضرة 5: 252.

ولكن لا يخفى: وجه الإشكال في حجّية أمثال هذه الإجماعات؛ فإنّها:

أوّلاً: من الإجماعات المنقولة التي سبيل إلى تحصيلها.

وثانياً: هي محتملة المدركيّة؛ إذ من المحتمل قويّاً، بل من المظنون، أنّ المفتين بذلك استندوا في فتواهم هذه إلى دعوى قيام السيرة المستمرّة على قبول قوله في ذلك، أو إلى الأخبار التي ذكروها في هذا الباب.

ومن هذه الأخبار والروايات:

صحيح معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبد اﷲ(علیه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج ويقول: قد طبخ على الثلث، وأنا أعرف أنّه يشربه على النصف، أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال(علیه السلام): لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحلّه على النصف يُخبرنا أن عندهبختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال(علیه السلام): نعم» (1).

حيث يظهر من هذه الرواية: حجّيّة قول ذي اليد ولو لم يكن من أهل المعرفة بالحقّ. نعم، لا يكون قوله حجّة إذا كان هناك ما يوهن صحّة إخباره؛ لأنّ شربه على النصف - كما في صدر الصحيحة - قد أسقط حجّيّة إخباره، وهذا لا يدلّ على أنّ إخبار ذي اليد من حيث هو ليس بحجّة.

ص: 389


1- وسائل الشيعة 25: 293, الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 4.

وصحيحة معاوية بن وهب قال: «سألت أبا عبد اﷲ(علیه السلام) عن البختج فقال: إذا كان حلواً يخضب الإناء وقال: صاحبه قد ذهب ثلثاه وبقي الثلث فاشربه» (1).

قد يقال: لا تدلّ هذه الرواية على قبول قول ذي اليد بما هو حجّة، حيث قيّد فيها القبول بأنّه يخضب الإناء، فنحتاج في حجّيّتها إلى أمارة أُخرى تنضمّ إليها.

قلنا: الظاهر أنّ هذا القيد إنّما هو لأجل رفع الوهن في الدلالة؛ لأنّ عدم خضبه للإناء يكون موهناً لإخباره بذهاب الثلثين، بعدما كان هناك ملازمة عاديّة بين ذهاب الثلثين وبين خضبه للإناء.

ومنها: ما ورد في بيع الدهن المتنجّس من لزوم إعلام المشتري (2)؛ فإنّها صريحة في حجّيّة قول ذي اليد ولزوم قبوله والأخذ به، وإلّا، لو لم يكن حجّة، فما الفائدة في إخباره وإعلامه؟

هذا. ولكن هناك خبران يمكن التمسّك بهما لتقييد حجّيّة قول ذي اليد واعتباره بما إذا كان ذو اليد من أهل الإيمان:أوّلهما: موثّق عمّار عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) في حديث أنّه سُئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث، قال(علیه السلام): «إن كان مسلماً

ص: 390


1- وسائل الشيعة 25: 293, الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 3.
2- وسائل الشيعة 17: 98, الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 3 و4.

ورعاً مؤمناً فلا بأس أن يشرب» (1).

والثاني: صحيح ابن جعفر: «لا يصدّق إلّا أن يكون مسلماً عارفاً» (2).

حيث دلّا على تقييد حجّيّة قول ذي اليد على أن يكون من أهل الإيمان، بل وعلى أن يكون ورعاً أيضاً.

ولكن الحقّ: أنّه لابدّ من حمل هذين الخبرين على كراهية تصديق ذي اليد، وكراهية العمل بأخباره إذا لم يكن مؤمناً ورعاً؛ فإنّ الصحيحة نصّت صراحةً على اعتبار قول ذي اليد في حدّ نفسه؛ لأنّ فيها تصريحاً باعتبار قول من ليس من أهل المعرفة، ولو لم يكن مؤمناً ورعاً.

قال اُستاذنا المحقّق!: «ولا يخفى: أنّ دلالة هذه الأخبار على حجّيّة إخبار ذي اليد في الطهارة والنجاسة مبنيّ على نجاسة العصير بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين، وإلّا، فلا يدلّ إلّا على حجّيّة إخباره بالنسبة إلى الحلّيّة، لا بالنسبة إلى الطهارة التي هي محلّ الكلام» (3).

ولكن الحقّ: أنّها تدلّ على حجّيّة قول ذي اليد بالنسبة إلى الطهارة؛ إذ لا تكون لإخباراته بالنسبة إلى الحلّيّة خصوصيّة.

ومع ذلك، فيمكن الاستدلال على حجّيّة قول ذي اليد بالنسبة إلى

ص: 391


1- وسائل الشيعة 25: 294, الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 6.
2- وسائل الشيعة 25: 294, الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 7.
3- القواعد الفقهيّة 1: 161 - 162.

الطهارة بما تقدّم من رواية إسماعيل بن عيسى: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن الجلود الفرا يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسألعن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال(علیه السلام): عليكم أنتم إن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا بأس» (1).

فإنّه صريح في حجّيّة قول المسلم، دون المشرك.

إلى غير ذلك من الأخبار والروايات.

وقد يُستدلّ - أيضاً - لحجّيّة قول ذي اليد بالسيرة العمليّة للمسلمين، من المتديّنين الذين يُعهد منهم الالتزام بالشريعة - دون العوامّ الذين لا يكترثون بمخالفة أحكام الشريعة - فإنّهم إذا أخبر ذو اليد بطهارة طعام يأكلونه، ولو كان مستصحب النجاسة، وإذا أخبرهم بالنجاسة اجتنبوا عن أكله.

وهل تجري قاعدة اليد في النسب والأعراض - أيضاً - أم لا؟

بحيث يقال: بما أنّ المرأة كانت تحت يده، بمعنى: أنّها في بيته، أو كان الصبي كذلك، فهل لهذا الاستيلاء دلالة على أنّها زوجة له، وأنّ الولد ولده، بحيث لو نازعه شخص فيها أو في الصبيّ يقبل قوله أم لا؟

الحقّ: أنّ الكلام ينبغي أن يقع أوّلاً في الصغرى، بالنسبة إلى مثل

ص: 392


1- وسائل الشيعة 3: 492, الباب 50 من أبواب النجاسات ح 7.

الزوجة والابن؛ فإنّه لا يخفى: أنّ صدق الاستيلاء على الزوجة والابن محلّ إشكال، بل منع.

وقال اُستاذنا المحقّق!: «والأقوال في المسألة مضطربة ولكنّ الأقوى - بناءً على ما ذكرنا من أنّ مدرك هذه القاعدة هو بناء العقلاء -: استقرار بنائهم على أماريّة اليد في هذه المواضع؛ لأنّ الظنّ الحاصل من الغلبة ها هنا أقوى بمراتب من الظنّ الحاصل في باب الأملاك؛ لأنّ الغصب في باب الأملاك كثير، بخلافه ها هنا؛ فإنّ غصب أحدهم زوجةالآخر أو ولده في غاية القلّة، بل الندرة. نعم، لو كان مدرك القاعدة هو الأخبار أو الإجماع فشمولها لمثل المقام في غاية الإشكال» (1).

ولكنّ ما ذكره! بالنسبة إلى الأوّل مشكل؛ لما عرفت من الإشكال في صدق الاستيلاء في مورد الإنسان، بل إنّما هو مختصّ بالملك.

وأمّا بالنسبة إلى الأخير فما أفاده! تامّ.

ص: 393


1- القواعد الفقهيّة 1: 153.

ص: 394

قاعدة التسامح في أدلّة السنن

اشارة

الظاهر: أنّه لا حاجة في جريان الاحتياط في العبادات إلى أن يتعلّق أمر بها حتى يُقصد، بل يكفي في جريان الاحتياط فيها نفس الأمر المحتمل؛ إذ إنّ قوام الاحتياط هو أن يؤتى بالفعل برجاء مطلوبيّته وموافقته للأمر الواقعيّ المحتمل، قال صاحب الكفاية!:

«وقد انقدح بذلك أنّه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلّق أمرٍ بها، بل لو فُرض تعلّقه بها، لما كان من الاحتياط بشيءٍ، بل كسائر ما عُلِم وجوبه أو استحبابه منها، كما لا يخفى» (1).

وهو) بذلك يشير إلى ما يظهر من كلام الشيخ الأعظم)، حيث قال« ما لفظه:«ثمّ إنّ منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبراً ضعيفاً، فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط وكلفة إثبات أنّ الأمر فيها للاستحباب الشرعيّ دون

ص: 395


1- كفاية الاُصول: ص 351- 352.

الإرشاد العقليّ، لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كلّ ما يحتمل فيه الثواب» (1).

والأخبار التي يشير إليها الشيخ! عديدة:

منها: صحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام)قال:

«من بلغه عن النبيّ - صلّى اﷲ عليه وآله وسلّم - شيء من الثواب، فعمله، كان أجر ذلك له، وإن كان رسول اﷲ - صلّى اﷲ عليه وآله وسلّم - لم يقله» (2).

ومنها: ما رواه محمّد بن مروان عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) أنّه قال:

«من بلغه عن النبيّ- شيء من الثواب، ففعل ذلك طلب قول النبيّ-، كان له ذلك الثواب وإن كان النبيّ- لم يقله» (3).

ومنها: المرويّ عن صفوان، عن الصادق(علیه السلام) قال:

«من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك وإن كان رسول اﷲ- لم يقله» (4).

ومنها: خبر محمّد بن مروان، قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) يقول:

ص: 396


1- فرائد الاُصول 1: 383.
2- وسائل الشيعة 1: 81، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، باب 18، ح3.
3- وسائل الشيعة 1: 81، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، باب 18، ح4.
4- وسائل الشيعة 1: 80، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، باب 18، ح1.

«من بلغه ثواب من اﷲ تعالى على عملٍ، ففعله التماس ذلك الثواب أُوتيه، وإن لم يكن الحديث كما بلغه» (1).إلى غير ذلك من الأخبار المستفيضة والمتقاربة مضموناً...

وقد استفاد المشهور من هذه الأخبار ونحوها القول بحجّيّة خبر الضعيف، وأنّها تثبت الاستحباب للفعل.

فلابدّ من إيقاع الكلام - أوّلاً - فيما هو مفاد هذه الأخبار، لنرى أنّها هل تدلّ على ما اختاره المشهور، أم أنّها مسوقة لبيان معنىً آخر:

فهل يستفاد منها أنّ الثواب يترتّب على ذات العمل، بتقريب: أنّ هذه الروايات دلّت على أنّ اﷲ تعالى تفضّل على العباد بجعل بلوغ الثواب - بمجرّده - كافياً في ترتّب الثواب على العمل المأتيّ به، ليكون المناط على الإتيان بنفس العمل الذي وعد عليه الثواب، فلا يكون متوقّفاً على الإتيان به بقصد الأمر؟

أم أنّه يستفاد منها مجرّد الدلالة على حسن الانقياد شرعاً، وأنّه لو أتى المكلّف بالفعل بداعي احتمال الأمر به، فإنّه يترتّب عليه الثواب؟

وبناءً على الأوّل: فهذه الأخبار تدلّ على استحباب ذات العمل؛ لأنّه لا يكون هناك وجه لترتّب الثواب على العمل المأتيّ به سوى تعلّق الأمر المحتمل به.

ص: 397


1- وسائل الشيعة 1: 82، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، باب 18، ح7.

وأمّا بناءً على الثاني: فلا تكون دالّةً على استحباب العمل وحده بدون إضافته إلى اﷲ عزّ وجلّ، ونحتاج في إثبات ترتّب الثواب عليه إلى أكثر من ذلك. أو فقل: الثواب لا يكون - بناءً على هذا الاحتمال - مترتّباً على ذات العمل، بل على العمل المقيّد بداعي احتمال الأمر.

وما يمكن أن يُستدلّ به لإثبات دلالة هذه الأخبار على أنّ الثواب مترتّب على العمل مقيّداً بداعي احتمال الأمر، لا على ذات العمل وحده، هو ظهور حرف (الفاء) في قوله: «فعمله»، في كون العمل متفرّعاً على البلوغ، فيكون ظاهراً في ترتّب الثواب على العمل المأتيّ به بداعي الأمر المحتمل الذي بلغه بالخبر الضعيف، أو فقل: إنّمقتضى هذا التفريع هو داعويّة تحصيل الثواب الذي بلغه لتحقّق العمل، وهو المطلوب.

ولكنّ المحقّق الأصفهانيّ) ناقشه بما لفظه:

«أمّا التفريع، فهو على قسمين:

أحدهما: تفريع المعلول على علّته الغائيّة، ومعناه هنا: انبعاث العمل عن الثواب البالغ المحتمل.

ثانيهما: مجرّد الترتيب الناشئ من ترتّب الثواب على فعل ما بلغ فيه الثواب، فالعمل المترتّب عليه الثواب، حيث كان متقوّماً ببلوغ الثواب عليه، فلذا رتّبه على بلوغ الثواب، فيكون نظير من سمع الأذان فبادر إلى المسجد، فإنّ الداعي إلى المبادرة فضيلة المبادرة لاستماع الأذان، وإن كان لا يدعوه فضيلة المبادرة إلّا في موقع

ص: 398

دخول الوقت المكشوف بالأذان، فلا يتعيّن التفريع في الأوّل حتى ينافي الظهور المدّعى سابقاً» (1).

وملخّص هذه المناقشة: أنّه بعد ثبوت القسمين المذكورين للتفريع، فمجرّد كون الفاء ظاهرة في أنّها للتفريع لا يعيّن حمل التفريع المستفاد منها على القسم الأوّل، ومعه: فلا وجه لأن يُستظهر أخذ داعويّة الثواب في موضوع ترتّب الثواب.

ثمّ إنّه )رأى أنّ هذه المناقشة أولى ممّا ناقش به الشيخ الأنصاريّ) بما يرجع إلى إنكار أصل أن تكون الفاء المشار إليها ظاهرةً في إرادة التفريع والسببيّة، بل إنّما هي الفاء العاطفة.

قال الشيخ الأعظم) في رسالة التسامح:

«اللّهمّ إلّا أن يُمنع من دلالة الفاء على ما ذُكر من السببيّة والتأثير، بل هي عاطفة، على نحو قوله: (من سمع الأذان فبادر إلى المسجد كان له كذا)، فالأخبار الخالية عن تعليل الفعل برجاء الثواب غير ظاهرة في مضمون الأخبار المشتملة على التعليل، بلهي ظاهرة في ترتّب الثواب على نفس الفعل، واللّازم من ذلك كونها مسوقة لبيان استحبابه..» (2).

ص: 399


1- نهاية الدراية 2: 534.
2- انظر: رسائل فقهيّة، رسالة في التسامح في أدلّة السنن: ص 153، وهو المجلّد 23 من موسوعة تراث الشيخ الأعظم الأنصاري).

وقد ردّه المحقّق الأصفهانيّ!بقوله:

«وأمّا ما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاريّ) في رسالة التسامح من منع دلالة الفاء على السببيّة والتأثير، بل هي عاطفة، فخلاف الاصطلاح؛ لعدم التقابل بين السببيّة والعطف، بل العاطفة تارةً للسببيّة، وأُخرى للترتيب، وثالثةً للتعقيب، والأمر سهل» (1).

وخلاصة البحث: أنّ الظاهر من الأخبار التي ذكرناها - بقرينة التفريع - هو: كون الأجر والثواب مترتّبين على العمل المأتيّ به بداعي البلوغ، وإذا كان الإتيان بها برجاء الثواب، لا على نفس العمل بما هو هو، بل الثواب - كما ورد في بعضها - يترتّب عليها مقيّدةً بداعي طلب قول النبيّ- أو التماساً للثواب.

وعلى هذا الأساس: فكون نفس العمل الذي قد بلغ الثواب عليه يصبح بما هو هو مستحبّاً شرعاً بمجرّد بلوغ الثواب، بعيد عن مقتضى ظهور تلك الأخبار، فيبعد لذلك أن يقال: بأنّ بلوغ الثواب على العمل بخبر ضعيف له مدخليّة في التسبّب إلى انقلاب الفعل عمّا هو عليه، وصيرورته مستحبّاً شرعيّاً.

ومقتضى ما قدّمناه: أنّه لابدّ من الالتزام بدلالة هذه النصوص على كون الثواب مترتّباً على العمل المقيّد، وعدم دلالتها على الاستحباب النفسيّ المتعلّق بذات العمل.

ص: 400


1- نهاية الدراية 2: 534.

ولكنّ المحقّق صاحب الكفاية! ذهب إلى أنّ الظاهر من هذه النصوص هو ترتّب الثواب على نفس العمل، ولو فرض بأنّ الفاءكانت للتفريع وظاهرةً في داعويّة الثواب إليه، ولا منافاة بينهما. ومن هنا التزم) بدلالة النصّ على استحباب ذات العمل.

وإليك نصّ ما أفاده!:

«وإتيان العمل بداعي طلب قول النبيّ-، كما قُيّد به في بعض الأخبار، وإن كان انقياداً، إلّا أنّ الثواب في الصحيحة إنّما رتّب على نفس العمل، ولا موجب لتقييدها به؛ لعدم المنافاة بينهما، بل لو أتى به كذلك أو التماساً للثواب الموعود، كما قيّد به في بعضها الآخر، لاُوتي الأجر والثواب على نفس العمل، لا بما هو احتياط وانقياد، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعة، فيكون وزانه وزان (من سرّح لحيته أو من صلّى أو صام فله كذا)، ولعلّه لذلك أفتى المشهور بالاستحباب» (1).

وأمّا المحقّق الأصفهانيّ) فقد قرّب ما قاله صاحب الكفاية! بقوله:

«فحاصل الأخبار: أنّ ترتّب الثواب على نفس العمل، وإن كان على الفرض منبعثاً عن الثواب المحتمل، إلّا أنّ انبعاثه عنه غير دخيل في ترتّب الثواب المجعول بهذه الأخبار عليه» (2).

ص: 401


1- كفاية الاُصول: 353.
2- نهاية الدراية 2: 535، بتصرّف يسير.

وحاصله: أنّ الثواب المترتّب في هذه الأخبار إنّما رُتّب على ما يدعو إليه احتمال، وهو ذات العمل، لا العمل بوصف كونه مقيّداً بالاحتمال، ولا العمل الذي يكون متعنوناً بعنوان الانقياد، فالالتزام بظهور الفاء في إتيان العمل بداعي احتمال الثواب لا ينافي كون هذه النصوص ظاهرة في ترتّب الثواب على ذات العمل المدعوّ إليه، بعد أن لم تكن هذه الدعوة موجبة لتغيّر عنوان المدعوّ إليه من قبل نفس دعوة احتمال الأمر.ولكنّ الحقّ: بعد فرض وحدة السياق في الروايات، فإنّ هذه الوحدة تكون كاشفة عن أنّ جميع هذه الروايات هي بصدد بيان ترتّب سنخٍ واحدٍ من الثواب على سنخٍ واحدٍ من الموضوع، وحينئذٍ: فلمّا كان بعضها مطلقاً، وكان بعضا الآخر مقيّداً، كخبر محمّد بن مروان، الذي اشتمل على قوله(علیه السلام): «ففعل ذلك طلب قول النبيّ-»، وخبره الآخر المشتمل على قوله(علیه السلام): «ففعله التماس ذلك الثواب»، حيث رُتّب الثواب على العمل، لكن لا مطلقاً، بل مقيّداً بالإتيان به بداعي الثواب المحتمل، وكان لابدّ من الحفاظ على وحدة السياق.

فيكون اللّازم في هذه الروايات هو حمل مطلقها على مقيّدها، لمكان التنافي بينهما، حيث إنّ الروايات المطلقة قد رتّبت الثواب المخصوص على العمل مطلقاً، والروايات التي اشتملت على تقييد رتّبته على خصوص العمل المقيّد بالإتيان به بالداعي المذكور.

ص: 402

وهنا ينبغي التنبيه على اُمور:

الأوّل:

أنّه لو فرضنا إمكان استفادة الاستحباب من هذه الأخبار، إمّا مطلقاً، أو - كما ذكرنا - فيما إذا كان الإتيان بالعمل لأجل درك الثواب المحتمل، فهل يمكن - حينئذٍ - أن نرتّب عليه جميع آثار المطلوب الشرعيّ مطلقاً أم لا يمكن ذلك؟

وجهان، بل قولان، أحوطهما الثاني؛ لأنّ شمول الأدلّة لمطلق الآثار، إنّما يكون ممكناً إذا أحرزنا كونها في مقام البيان من هذه الجهة، ولكنّ أخبار من بلغ لم ترد في مقام البيان من جميع هذه الجهات.

وعليه: فلو دلّ خبر ضعيف على ترتّب ثواب على غسل مسترسل اللّحية، وقلنا باقتضائه لثبوت الاستحباب، فغاية ما يستفاد منه - حينئذٍ - هو ترتّب الثواب عليه، وأمّا بقية الآثار، كجواز أخذ الماء من مسترسل اللّحية لو جفّت بلّة يده، ولم يتمكّن من إكمال المسح الواجب في الوضوء بها، فاستفادتها من مثل هذه الخبر الضعيف بمجرّد كونه محقّقاً لعنوان بلوغ الثواب مشكل.

الثاني:

هل تشمل قاعدة التسامح - على القول بثبوتها - ما لو احتمل الاستحباب أو ظنّ بثبوته من مثل فتوى فقيه، أو انعقاد شهرة، أو نقل مجتهد ما للإجماع؟

ص: 403

قال اُستاذنا المحقّق«:

«وأمّا إذا احتمل الاستحباب أو ظنّ به من فتوى فقيه، بل من شهرة أو إجماعٍ منقول، أو من غير ذلك ممّا ليس بحجّةٍ شرعاً، فليس له أن يفتي بالاستحباب من ناحية أخبار من بلغ؛ لعدم صدق البلوغ وعدم دلالة هذه الأخبار على حجّيّة هذه الأمور على الفرض، بل دلالتها مختصّة بحجّيّة الخبر الضعيف» (1).

وحاصله: أنّه لا شكّ في عدم صدق عنوان بلوغ الثواب والأجر عن المعصومين( بالنسبة إلى مثل فتوى المجتهد والشهرة والإجماع المنقول ونحو ذلك.

والسرّ فيه: أنّ فتوى الفقيه إنّما تكون إخباراً عن رأي ذلك الفقيه، لا عن رأي المعصوم(علیه السلام)، والشهرة أيضاً كذلك، فإنّها عبارة عن إخبار جمع كثيرٍ من الفقهاء عن آرائهم، لا عن قول النبيّ -، فعلى القول بدلالة هذه الأخبار على قاعدة التسامح بمعنى ثبوت الاستحباب للعمل الذي بلغ عليه الثواب، فلا يتحقّق بهما - أعني: الشهرة وفتوى الفقيه - ما قد أُخذ موضوعاً لهذا الاستحباب في أخبار من بلغ.

وأمّا الإجماع المنقول، فعلى القول بأنه حجّة وكاشف عن رأي

ص: 404


1- منتهى الاُصول: 2: 214.

الإمام(علیه السلام)فيكون خارجاً عن محلّ البحث، كما لا يخفى، وأمّا لو قلنا بعدم حجّيّته، كما هو الصحيح، فيكون حاله حال الشهرة، فلا يثبت به الاستحباب؛ لعدم تأديته إلى صدق عنوان البلوغ.اللّهمّ إلّا أن نحرز استناد معقد الشهرة، أو الإجماع المنقول إلى الأخبار، وأنّ فتوى المجمعين أو المشهور تنتهي إلى الأخبار، فحينئذٍ: تشملهما قاعدة التسامح في المندوبات، على القول بثبوتها، خصوصاً إذا قلنا بأنّ أخبار من بلغ دالّة على حجّيّة الخبر الضعيف المشتمل للاستحباب، وثبت ذلك عند المجتهد، فبقيام الخبر الضعيف عنده على الاستحباب يكون قد حصل على حجّة شرعيّة؛ إذ يكون حال الخبر الضعيف في المندوبات بالنسبة إليه كحال الخبر الصحيح في التكاليف الإلزاميّة، فسواء قام عنده خبر صحيح على استحباب العمل، أم خبر ضعيف، أمكن للفقيه أن يفتي باستحباب ذلك العمل، ويكون مستحبّاً في حقّه وفي حقّ مقلّديه أيضاً.

وفي هذا الذي ذكرناه يقول اُستاذنا المحقّق) أيضاً:

«الظاهر: عدم الشمول؛ لأنّ الفقيه يُخبر عن رأيه بالوجوب أو الاستحباب، وربّما يكون منشأ رأيه وحدسه شيئاً آخر غير الأخبار المرويّة عنهم( من الاستحسانات وتنقيح المناطات بنظره، فلا ربط - حينئذٍ - بين الإخبار عن رأيه وفتواه وبين البلوغ عن النبيّ-.

مع أنّه لو كان منشأ رأيه وفتواه هي الأخبار - أيضاً - لا يفيد؛ لأنّه فرق

ص: 405

بين رأيه المستنبط عن الأخبار، وبين نقل ما قاله النبيّ، فالأوّل ليس إخباراً عن النبيّ-، ولا يصدق عليه البلوغ عن النبيّ، بخلاف الثاني، كما هو واضح» (1).

الثالث:

على القول بقاعدة التسامح، فهل تدلّ هذه الأخبار على كراهة ما دلّ الخبر الضعيف على حرمته أو كراهته أم لا؟

الظاهر: العدم؛ لأنّ غاية ما يثبت بإجراء قاعدة التسامح بالمعنى المذكور في مورد الخبر الدالّ على الحرمة أو الكراهة هو استفادة استحباب الترك.وأنت خبير: بأنّه لا ملازمة بين هذا الاستحباب وبين كراهة الفعل، بل يمكن أن يكون الفعل أو الترك مستحبّاً، مع عدم كراهة الطرف الآخر، كما يمكن أن يكون الفعل أو الترك مكروهاً مع عدم استحباب الطرف المقابل. هذا.

مضافاً إلى أنّ الداعي إلى الترك في باب المحرّمات هو الفرار من العقاب، فلا تشملها أخبار من بلغ، لظهورها في كون موردها هو خصوص العمل الذي يكون الإتيان به بداعي الثواب.

هذا بالنسبة إلى الحرمة.

ص: 406


1- منتهى الاُصول 2: 218.

وأمّا الكراهة، فلابدّ فيها من التفصيل:

فإن قلنا: إنّها بمعنى أقلّيّة الثواب، فتشملها أخبار من بلغ؛ لإمكان أن يُقال: بأنّه يترتّب على الإتيان بالعمل في موردها الثواب، غاية الأمر: أنّه الثواب الأقلّ.

وإن قلنا: إنّها بمعنى الحزازة، فيكون حكمها حكم الحرمة؛ لأنّ موافقتها - حينئذٍ - تكون بالفرار عن الشيء الذي فيه حزارة، فلا يكون الداعي هو الثواب، فلا تشمل موردها الأخبار؛ لأنّ الغالب فيها ترتّب المفاسد الوضعيّة على الفعل، ولم تكن مورداً للنهي التنزيهيّ، بحيث يتحقّق معه عنوان ترتّب الثواب على الترك.

ثمّ بناءً على ثبوت قاعدة التسامح، فلو كان الخبر الضعيف دالاً على وجوب العمل لا استحبابه؟ فهل يثبت به - أيضاً - استحباب ذلك العمل، حيث إنّ الإخبار عن وجوب العمل يتضمّن الإخبار عن ترتّب الثواب عليه، فلا يفرّق بينه وبين الإخبار عن استحبابه، وحيث يصدق في مورده عنوان بلوغ الثواب على العمل، فيصبح العمل - بمقتضى أخبار من بلغ - مستحبّاً بذلك الخبر، ولا يثبت وجوبه بذلك الخبر الضعيف؛ لأنّ الخبر الضعيف إنّما يكون حجّةً في موارد الاستحباب، دون الوجوب.

ولاسيّما بعد أن كان الداعي للإتيان بالعمل في باب الواجبات عادةً هو الفرار عن المفسدة اللّازمة لتركه، لا طلب الوقوع في المصلحةالمترتّبة على فعله، والتي هي الثواب، وعليه: فالخبر الضعيف الدالّ

ص: 407

على الوجوب لا يثبت به - بناءً على قاعدة التسامح - ما هو أزيد من الاستحباب وأصل الرجحان، دون الرجحان الوجوبيّ والإلزاميّ.

الرابع:

أنّ أخبار من بلغ وقاعدة التسامح - على القول بها - تكون شاملةً للأدعية الواردة التي اشتملت على ذكر الثواب.

وأمّا أخبار الفضائل والمعاجز والأخلاقيّات، وكذا ما ورد لدفع الأوجاع والأمراض، وكذا ما ورد بقضاء الحوائج من الصلوات والأدعية الدنيويّة، فشمول القاعدة لها مشكل.

وما قد يستدلّ على شموله لها من الإجماع.

ففيه: أوّلاً: أنّه إجماع منقول غير محصّل، فليس بحجّة.

وثانياً: أنّه على فرض تحصيله محتمل المدركيّة، إذ لعلّ مدركهم فيه كان هذه الأخبار الروايات.

نعم، بالنسبة إلى أخبار الفضائل، قد يقال بشمول القاعدة لها؛ لأنّ الإخبار عنها إخبار بالملازمة عن استحباب العمل، فتشمله أخبار من بلغ.

الخامس:

ذكر المحقّق العراقيّ) أنّه يعتبر في صدق البلوغ ظهور اللّفظ في المعنى، فمع كونه مجملاً، فلا يصدق البلوغ.

وعليه: فلابدّ أن لا يكون اللّفظ متّصلاً بقرينة تستوجب سلب الظهور

ص: 408

عنه، وأمّا قيام القرينة المنفصلة على الخلاف فغير ضائر في صدق البلوغ، كما لو قام خبر ضعيف على استحباب إكرام كلّ عالم، وقام خبر آخر على عدم استحباب إكرام النحويّين منهم؛ فإنّه بمقتضى أخبار من بلغ يُحكم باستحباب إكرام الجميع، لما عرفنا في محلّه: من أنّ ورود المخصّص المنفصل لا يوجب زوال العامّ عن العموم، وانثلام ظهوره فيه.نعم، هو يستلزم عدم حجّيّته في العموم، مع بقاء أصل ظهوره فيه على حاله، فيصدق أنّه قد بلغ استحباب إكرام الجميع، ولو مع وجود وقيام المخصّص المنفصل.

هذا كلّه فيما لو فرضنا كون الخبر القائم على خلاف الاستحباب غير معتبر في حدّ نفسه.

وأمّا إذا كان حجّة في نفسه، فقد يتوهّم عدم شمول قاعدة التسامح وأخبار من بلغ حينئذٍ للخبر الدالّ على الاستحباب، وذلك بدعوى: أنّ دليل الحجّيّة يتكفّل تتميم الكشف الذي يرجع إلى إلغاء احتمال الخلاف، فيحصل القطع تعبّداً بعدم استحبابه.

ومعه: فلا يصدق عنوان البلوغ الذي هو الموضوع بالنسبة إلى الحكم بالاستحباب، فيكون دليل الحجّيّة حاكماً على أخبار من بلغ.

ولكنّه توهّم فاسد؛ لعدم التنافي بينهما، بعدما لم يكن النفي والإثبات واردين على موضوعٍ واحد؛ فإنّ ما يستفاد من أخبار من بلغ هو استحباب العمل، لا بالعنوان الأوّليّ، بل بالعنوان الثانويّ، وهو عنوان

ص: 409

بلوغ الثواب، وأمّا الخبر المعتبر، فمفاده عدم استحباب العمل بعنوانه الأوّليّ، فلا يكون هناك منافاة بينهما - أصلاً - كما هو ظاهر (1).

السادس:

على القول بالاستحباب، فهل تشمل قاعدة التسامح الأخبار الضعيفة التي تدلّ على مصائب أهل البيت علیهم السلام؟

قد يقال: لا شكّ في أنّ البكاء والتباكي على مصابهم يستتبع أجراً وثواباً، وبما أنّ مفاد هذه الأخبار الضعيفة هو الانتهاء إلى ما فيه الأجر والثواب، فتشملها القاعدة.

ص: 410


1- انظر: نهاية الأفكار 3: 283- 284، ونصّ كلامه) كالتالي: «لا إشكال في أنّه يعتبر في صدق البلوغ ظهور اللّفظ في المعنى المراد، وإلّا، فلا يصدق عنوان البلوغ، وعليه: فيعتبر في صدق البلوغ عدم اتّصال الكلام بما يوجب سلب ظهوره من القرائن الحافّة. نعم، على الانقياد لا بأس بذلك نظراً إلى عدم توقّفه على صدق البلوغ وكفاية مجرّد احتمال المطلوبيّة فيه، ولو مع إجمال اللّفظ وعدم ظهوره في المعنى المراد، إمّا في نفسه أو من جهة اتّصاله بما يوجب إجماله أو صرفه عمّا له من الظهور إلى غيره. نعم، لا اعتبار بقيام القرائن المنفصلة على الخلاف؛ لأنّها - على ما حقّق في محلّه - لا توجب انثلاماً لظهور الكلام كالقرائن المتّصلة، وإنّما غاية اقتضائها هو المنع عن حجّيّته خاصّةً، مع بقاء أصل ظهوره على حاله، فلو قام خبر ضعيف على وجوب إكرام العلماء أو استحبابه وقام خبر آخر على عدم استحباب إكرام النحويّين منهم أو كراهته، فعلى الاستحباب: يجري فيه التسامح، ويُحكم باستحباب إكرام الجميع نظراً إلى تحقّق موضوعه وهو البلوغ، بعد عدم انثلام ظهوره في العموم بواسطة ذاك الخاصّ المنفصل...»، إلى آخر ما أفاده! ممّا قد أوضحناه في المتن أعلاه.

ولكنّ الحقّ: أنّ ترتّب الأجر والثواب على البكاء على مصائبهم أمر مقطوع به، وإنّما الشأن في إثبات تحقّق هذه المصائب في الخارج، ومعلوم: أنّ إثبات وقوعها في الخارج بالخبر الصحيح الواحد مشكل؛ لكونها من الموضوعات الخارجيّة، فضلاً عن الخبر الضعيف.

ومن هنا، فلو نسب إليهم( شيء بمجرّد الاستناد إلى خبر ضعيف؛ فإنّه يُحكم بكونه موجباً لبطلان الصوم؛ لصدق نسبة الكذب إليهم( على مثل هذه النسبة.

ص: 411

ص: 412

دوران الأمر بين المحذورين

اعلم أنّ دوران حكم الواقعة بين الوجوب والحرمة على نحو الشبهة الحكميّة على أنحاء، فهو:

تارةً: لفقدان النصّ وعدم الدليل على تعيين أحدهما بعدم قيام الدليل على أصل الإلزام الدائر بينهما، كما لو اختلفت الاُمّة على قولين، الوجوب والحرمة، مع العلم بعد الثالث.

وثانيةً: لإجمال النصّ، كما إذا ورد أمر بالتحرّز عن أمرٍ مردّد بين فعل الشيء وتركه.وثالثةً: لتعارض النصّين، كما إذا ورد خبران: أحدهما يأمر بالشيء، والثاني ينهى عنه.

وقد يقع دوران الأمر بين المحذورين في الشبهة الموضوعيّة، كما لو وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفسّاق واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة، ولم يكن هناك أصل موضوعيّ يدرجه تحت أحد العنوانين.

ص: 413

والحكم المشتبه قد يكون توصّليّاً في كلا الطرفين، أو توصّليّاً في أحدهما تعبّدياً في الآخر، وقد يكون في كليهما تعبّديّاً.

والأوّل: إمّا أن يكون في واقعة واحدة أو في وقائع متعدّدة.

أمّا الصورة الاُولى:

أي: فيما إذا كان الحكمان توصّليّين، أي: يسقطان بمجرّد الموافقة بلا احتياج إلى قصد القربة، وكان الدوران بين المحذورين في واقعة واحدة، كما لو علم بأنّه قد حلف، ولكن لم يدرِ أنّ حلفه كان قد تعلّق بالإتيان بفعل أو بتركه. فالعلم الإجماليّ فيها لا يكون قابلاً لتنجيز معلومه؛ لعدم قدرة المكلّف على الاحتياط في مقام الامتثال والجمع بين المحتملين، فيكون وجوده كعدمه في مقام التنجيز والتأثير بالنسبة إلى كلٍّ من الموافقة القطعيّة والمخالفة القطعيّة؛ إذ كلاهما لا يكون ممكناً ومقدوراً للمكلّف.

وحينئذٍ: يحكم العقل بكون المكلّف مخيّراً بين الفعل والترك، وليس هذا التخيير حكماً واقعيّاً أو ظاهريّاً صادراً ومجعولاً من قبل الشارع، بل إنّما هو تخيير قهريّ وتكوينيّ؛ لأنّ المكلّف في الخارج إمّا أن يصدر عنه الفعل أو الترك، وظاهر: أنّه ما دام التخيير قهريّاً كذلك، فجعله وتشريعه من قبل الشارع يكون لغواً لا ثمرة فيه؛ ضرورة أنّه - حينئذٍ - لا يعدو أن يكون تحصيلاً لما هو حاصل تكويناً.

ص: 414

وإنّما الكلام في أنّه هل يمكن في مثل المقام جعل الإباحة الظاهريّة أم لا؟قد يقال: بإمكان ذلك؛ لأنّ البراءة العقليّة والنقليّة لا مانع من جريانهما؛ وذلك لأنّ موضوعهما، وهو عدم البيان، متحقّق؛ حيث لم يرد بيان على خصوص الوجوب أو الحرمة، والمكلّف وإن كان عالماً بأصل الإلزام، إلّا أنّ علمه هذا لم يكن باعثاً ولا زاجراً، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وكذا تجري البراءة النقليّة المستفادة من قوله(علیه السلام): «رفع ما يعلمون»، بلا مانعٍ في كليهما؛ فإنّ هاتين القاعدتين لا اختصاص لهما بصورة دوران الأمر بين الحرمة والإباحة، بل هما تشملان المورد أيضاً.

وعلى هذا الأساس: فإمّا أن يقال بارتفاع كلٍّ من الوجوب والحرمة المشكوكين، أو بلزوم تقديم جانب الحرمة؛ لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وقد ذهب الشيخ) إلى لزوم الإتيان بأحدهما وترك الآخر بنحو التخيير؛ لأنّ الموافقة القطعيّة لأحد العلمين - أعني: العلم الإجماليّ بوجوب أحد الفعلين، والعلم الإجماليّ الآخر بحرمة أحد الفعلين - تستلزم المخالفة القطعيّة للآخر، فيتعيّن الموافقة الاحتماليّة لكلٍّ منهما؛ لأنّها أولى من الموافقة القطعيّة لأحدهما، والمخالفة القطعيّة للآخر.

ص: 415

قال« في المقام ما لفظه:

«والحكم فيما نحن فيه: وجوب الإتيان بأحدهما وترك الآخر مخيّراً في ذلك؛ لأنّ الموافقة الاحتماليّة في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعيّة في أحدهما مع المخالفة القطعيّة في الآخر. ومنشأ ذلك: أنّ الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع، واﷲ أعلم» (1).

وقد يقال في هذه الصورة: بلزوم تقديم جانب الحرمة وتغليبها على جانب الوجوب، وقد يستدلّ لهذا التقديم بوجوه:الوجه الأوّل: أنّ الحرمة المحتملة فيها احتمال للمفسدة، والوجوب المحتمل فيه احتمال النفع، ولا يخفى: أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب النفع المحتمل، كما أنّ دفع المفسدة المتيقّنة أولى من جلب المنفعة المتيقّنة.

وفيه: أوّلاً: أنّه غير تامّ؛ لأنّ ترك الواجب المحتمل - أيضاً - مظنّة لترتّب المفسدة المحتملة.

وثانياً: أنّه لم يظهر من طريقة العقلاء استقرار بنائهم على ذلك على نحو الإطلاق، أي: حتى ولو كانت المفسدة قليلة والمنفعة كثيرة، بل لم يظهر استقرار بنائهم على ذلك في صورة التساوي بينهما من ناحيّة القلّة

ص: 416


1- فرائد الاُصول 2: 403.

والكثرة أيضاً.

الوجه الثاني: أنّ تقديم جانب الحرمة هو الأصل. وقرّره المحقّق الآشتياني) في شرحه على الرسائل، فقال: «أي: قاعدة الاحتياط عند دوران الأمر بين التخيير والتعيين؛ فإنّ مقتضاها تقديم احتمال التحريم والبناء عليه في مرحلة الظاهر»، انتهى ما أفاده) في تقرير هذا الوجه (1).

أقول: ومراده: أنّ مقامنا هو من موارد الدوران المذكور، فيكون اللّازم هنا - أيضاً - تقديم احتمال التحريم.

الوجه الثالث: دعوى استقراء حال الشريعة في حالات دوران الأمر بين الحرمة وغيرها؛ فإنّه يستكشف منه: أنّ مذاق الشارع هو تقديم وتغليب جانب الحرمة على ما سواها، ففيما إذا اشتبه الواجب بالحرام - أيضاً - يكون اللّازم هو تقديم جانب الحرمة.

الوجه الرابع: أنّ إفضاء الحرمة إلى المقصود منها يكون أتمّ من إفضاء الوجوب إلى المقصود منه؛ لأنّ المقصود من الحرمة هو ترك الحرام، والترك يجتمع مع كلّ فعل، بخلاف الوجوب؛ فإنّه ليس كذلك؛إذ المقصود منه، وهو فعل الواجب، لا يتأتّى غالباً مع كلّ فعل، فيكون تقديم جانب الحرمة - لذلك - أرجح.

ولكنّ الحقّ: أنّ دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ينبغي أن يندرج تحت قواعد باب الأهمّ والمهمّ؛ فالموجب لتقديم أحد الجانبين على

ص: 417


1- بحر الفوائد 2: 83.

الآخر هو أن يكون ملاكه أهمّ.

والمراد بالملاك الأهمّ: ما يكون سبباً لتأكّد الطلب وأشدّيّته بالنسبة إلى الطلب المأخوذ في الجانب الآخر، بحيث لو كان المحتملان معلومين لكان أحدهما المعيّن - لأهمّيّته - مقدّماً على صاحبه عند المزاحمة، كما في مثال إنقاذ الغريق المتوقّف على التصرّف في مال الغير بدون رضاه، فإنّ كلاً من الحكمين - أعني: وجوب الإنقاذ وحرمة - الغصب معلوم للمكلّف، ولابدّ له من امتثاله، وقد اتّفق ابتلاء المكلّف بهما في زمان واحد، فكان لابدّ من تقديم الأهمّ منهما.

وبما أنّ وجوب إنقاذ المؤمن أهمّ من حرمة الغصب، لما يترتّب عليه من حفظ النفس المحترمة، كان اللّازم التصرّف في مال الغير بدون رضاه لأجل إنقاذ الغريق المؤمن. هذا في باب التزاحم.

وكذلك في مقامنا - وهو مقام وجود احتمال حكمين، لا نفس الحكمين الواقعيّين - فإذا كان الوجوب المحتمل أولى وأهمّ من الحرمة المحتملة كان لابدّ من تقديمه على الترك، وإن كان احتمال الحرمة أقوى؛ وذلك لأنّ المدار في الترجيح على أهمّيّة المحتمل، لا على أقوائيّة الاحتمال.

فإذا فرض أنّ احتمال الحرمة كان أقوى من احتمال الوجوب، ولكنّ الوجوب المحتمل كان - على تقدير ثبوته في الواقع - أهمّ وأشدّ من الحرمة، سواء كانت محتملة أم مظنونة؛ فإنّه يجب تقديم احتمال

ص: 418

الوجوب الأهمّ على احتمال الحرمة الأقوى، كالصلاة في أيّام الاستظهار مثلاً، فإنّها يحتمل وجوبها ويحتمل حرمتها؛ لأنّها إن كانت طاهرة تجب عليها الصلاة، وإن كانت حائضاً تحرم عليها الصلاة، فهنا لابدّ لها من تقديم جانب الوجوب على الحرمة؛ لأهمّيّته؛ لأنّ وجوبها -على تقدير ثبوته واقعاً - يكون ذاتيّاً، بخلاف حرمتها، فإنّها - على فرض ثبوتها - تكون حرمة تشريعيّة، فيرجّح الوجوب على الحرمة.

ومن هنا، يحكم بوجوبها عليها في تلك الأيّام، حتى ولو فرض أنّ احتمال حرمتها وكونها حائضاً كان أقوى من احتمال وجوبها؛ لأنّ الملاك الداعي إليه من قبل المولى أقوى وأهمّ بحسب الفرض.

فكما أنّ العلم بشدّة الطلب وأقوائيّة الملاك أو احتمالهما يكون مرجّحاً في باب التكليفين المعلومين المتزاحمين، فكذلك يكون مرجّحاً - أيضاً - في مثل المقام حيث يدور الأمر بين المحذورين المحتملين.

فتحصّل: أنّ محتمل الحرمة ليس دائماً مقدّماً على محتمل الوجوب، بل لابدّ من ملاحظة المصالح والملاكات، وتقديم ما هو الأهمّ ملاكاً، وإلّا، كان اللّازم - بناءً على التمسّك بالقاعدة المذكورة مطلقاً - هو لزوم تقديم صغائر المحرّمات عند دوران الأمر بينها وبين ترك أهمّ الفرائض، مع أنّ المفسدة المترتّبة على ترك ذلك الواجب المحتمل أقوى وأهمّ، ولا يمكن الالتزام به، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في الصورة الاُولى.

ص: 419

وأمّا الصورة الثانية:

وهي ما إذا كان الدوران بين وجوب فعل شيء وبين حرمة ذلك الفعل بعينه في وقائع متعدّدة، فهل يكون التخيير بدويّاً، بمعنى: أنّه ليس له أن يختار في الواقعة اللّاحقة إلّا نفس ما اختاره في الواقعة السابقة، أم أنّه يكون استمراريّاً، بحيث يتخيّر في كلّ واقعةٍ كما لو أنّها الواقعة الأُولى بالنسبة إليه؟

ذهب المحقّق النائيني! إلى أنّه لابدّ في صورة تعدّد الواقعة من القول بالتخيير الاستمراريّ؛ وذلك لعدم منجّزيّة العلم الإجماليّ، فلا مانع من المخالفة القطعيّة، فلو علم - مثلاً - بأنّه حلف بالنسبة إلى امرأته المعيّنة، إمّا على وطئها وإمّا على ترك وطئها في كلّ ليلة جمعة، فإنّه:«لا يكون التكليف منجّزاً في كلّ ليلةٍ من ليالي الجمعة؛ لأنّه في كلّ ليلةٍ منها الأمر دائر بين المحذورين، وكون الواقعة ممّا تتكرّر لا يوجب تبدّل المعلوم بالإجمال، ولا خروج المورد عن كونه من دوران الأمر بين المحذورين؛ فإنّ متعلّق التكليف إنّما هو الوطء أو الترك في كلّ ليلةٍ من ليالي الجمعة.

ففي كلّ ليلة يدور الأمر بين المحذورين، ولا يُلاحظ انضمام اللّيالي بعضها مع بعض حتى يقال: إنّ الأمر فيها لا يدور بين المحذورين؛ لأنّ المكلّف يتمكّن من الفعل في جميع اللّيالي المنضمّة، ومن الترك في

ص: 420

جميعها - أيضاً -، ومن التبعيض، ففي بعض اللّيالي يفعل وفي بعضها الآخر يترك، ومع اختيار التبعيض، تتحقّق المخالفة القطعيّة؛ لأنّ الواجب عليه إمّا الفعل في الجميع، وإمّا الترك في الجميع؛ وذلك لأنّ اللّيالي بقيد الانضمام لم يتعلّق الحلف والتكليف بها، بل متعلّق الحلف والتكليف كلّ ليلة من ليالي الجمعة مستقلّةً بحيال ذاتها، فلابدّ من ملاحظة اللّيالي مستقلّةً، ففي كلّ ليلةٍ يدور الأمر فيها بين المحذورين، ويلزمه التخيير الاستمراريّ» (1).

ولكنّ الحقّ: عدم جواز التخيير الاستمراريّ هنا أيضاً؛ لأنّ عدم تنجيز التكليف بالعلم الإجماليّ بلحاظ كلّ واقعة بحيالها، لا ينافي حدوث علم إجماليّ حقيقيّ آخر يستلزم تنجيز التكليف بلحاظ تعدّد الواقعة.

وأمّا الصورة الثالثة:

وهي أن يكون الحكم المحتمل في كلا الطرفين تعبّديّاً، فلا شكّ - حينئذٍ - في إمكان المخالفة القطعيّة، بأن يأتي بالفعل أو يتركه بغير قصد القربة. وعندئذٍ: فلا يجوز المخالفة القطعيّة، بل لابدّ له أن يأتي أو يتركبنحوٍ يحقّق الموافقة الاحتماليّة، فالحكم هنا هو التخيير - أيضاً - ولكن يشترط فيه أن يكون بنحوٍ لا يلزم منها حصول المخالفة القطعيّة.

ص: 421


1- فوائد الاُصول 3: 452 - 455.

وهذا هو السرّ في أنّ بعضهم اشترط في مسألة دوران الأمر بين المحذورين أن لا يكون أحدهما المعيّن أو كلاهما تعبّديّين.

ومنه يُعلم: حكم ما لو كان أحدهما المعيّن فقط تعبّديّاً.

وبهذا تمّ الكلام في مسألة دوران الأمر بين المحذورين.

ص: 422

أصالة الاشتغال

اشارة

الكلام في قاعدة الاحتياط، ويعبّر عنها ﺑ «قاعدة الاشتغال».

ولابدّ قبل الدخول في البحث فيها من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ مجرى هذه القاعدة هو الشكّ في المكلّف به بعد العلم بأصل التكليف، ولو بجنسه، مع إمكان الاحتياط، بأن لا يكون الأمر دائراً بين المحذورين.

الأمر الثاني: لا فرق - كما أشرنا - في العلم بأصل التكليف، بين أن يكون علماً بنوع التكليف أو بجنسه.

كما أنّ الشكّ في المكلّف به مع العلم بأصل التكليف قد يكون من جهة المتعلّق، كما إذا علم بأصل الإلزام، مع الشكّ في أنّ متعلّق هذا الإلزام هل هو الدعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - أو غسل الجمعة؟ وقد يكون من جهة خصوصيّات المتعلّق، كالشكّ في أنّ متعلّق الوجوب ظهر الجمعة هل هو صلاة الظهر أو صلاة الجمعة؟ كما أنّه قد يكون من جهة الموضوع الخارجيّ، أعني: متعلّق المتعلّق.

ص: 423

الأمر الثالث: أنّ الشبهة قد تكون حكميّة، سواء كان منشؤها فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين، وقد تكون موضوعيّة، ومنشؤها - حينئذٍ - هي الاُمور الخارجيّة.

وفي الجميع، فهي إمّا وجوبيّة وإمّا تحريميّة، وعلى التقادير: فإمّا أن يكون التردّد بين اُمور محصورة، وإمّا أن يكون بين اُمور غير محصورة، وعلى التقادير - أيضاً - فالشبهة قد تكون بين المتباينين وقد تكون بين الأقلّ والأكثر، فأقسام المسألة وصورها في غاية الكثرة.

فهنا مباحث:

المبحث الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين:
اشارة

قال صاحب الكفاية):

«لا يخفى: أنّ التكليف المعلوم بينهما مطلقاً - ولو كان كانا فعل أمر وترك آخر -:

إن كان فعليّاً من جميع الجهات، بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعليّ، مع ما هو عليه من الإجمال والتردّد والاحتمال، فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته. وحينئذٍ: لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة ممّا يعمّ أطراف العلم مخصَّصاً عقلاً، لأجل مناقضتها معه.

وإن لم يكن فعليّاً كذلك - ولو كان بحيث لو علم تفصيلاً لوجب

ص: 424

امتثاله وصحّ العقاب على مخالفته - لم يكن هناك مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعيّة للأطراف.

ومن هنا انقدح: أنّه لا فرق بين العلم التفصيليّ والإجماليّ، إلّا أنّه لا مجال للحكم الظاهريّ مع التفصيليّ، فإذا كان الحكم الواقعيّ فعليّاً من سائر الجهات، لا محالة، يصير فعليّاً معه من جميع الجهات، ولهمجال مع الإجماليّ، فيمكن أن لا يصير فعليّاً معه؛ لإمكان جعل الظاهريّ في أطرافه، وإن كان فعليّاً من غير هذه الجهة» (1).

وملخّص ما أفاده!: أنّ التكليف المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين أمرين متباينين:

إن كان فعليّاً من جميع الجهات فيكون التكليف منجّزاً، وتصحّ العقوبة على مخالفته، ومعه: فلابدّ عقلاً من رفع اليد عن عموم دليل أصالة البراءة والإباحة؛ لمناقضته لفعليّة التكليف من جميع الجهات.

وإن لم يكن فعليّاً من جميع الجهات، حتى وإن كان فعليّاً من سائر الجهات غير جهة العلم، لم يكن ثمّة مانع، لا عقلاً، ولا شرعاً، من شمول أدلّة البراءة للأطراف جميعاً.

ولا يخفى: أنّ التكاليف التي تكون ناشئة عن مصلحة ملزمة، أو مفسدة

ص: 425


1- كفاية الاُصول: ص 358 - 359.

كذلك، بحيث لا يرضى المولى بمخالفتها، بل تتعلّق إرادته باستيفائها على نحو الحتم، فعلى المولى أن يعمد إلى إيصال هذا التكليف الملزم إلى المكلّف، ورفع جميع موانع تنجيزه.

وهذا الإيصال: تارةً يكون برفع جهل المكلّف رأساً، بحيث يصير عالماً بالحكم تفصيلاً، وأُخرى: يكون بتعيين له الطريق له إلى ذلك، وثالثةً: بإيجاب الاحتياط تجاهه.

فلو تنجّز التكليف، بأيّ سببٍ من أسباب التنجّز، كانت مخالفته - لا محالة - موجبةً للعقاب، ضرورة أنّ التكليف كما يتنجّز بعد العلم به تفصيلاً، يتنجّز كذلك بعد العلم به إجمالاً، بل في حقيقة الأمر: لا علم هناك إجمالاً، فإنّ العلم ينافي الإجمال والترديد، وإنّما المعلوم هو الذي يكون مجملاً ومردّداً.

وكيف كان، فإذا علم بالتكليف، ولو بنحو العلم الإجماليّ، يصبح التكليف منجّزاً، ويرتفع عذر جهله، فيكون العلم الإجماليّ - بذلك - علّةتامّةً لحرمة المخالفة القطعيّة، ومع تحقّقه: فلا يمكن جعل الحكم الظاهريّ في الأطراف؛ لأنّه موجب للتناقض.

وهذا هو معنى ما أفاده صاحب الكفاية) - كما نقلناه عنه آنفاً - من أنّه لا فرق بين العلمين، فكما أنّ متعلّق العلم التفصيليّ معلوم، فكذلك متعلّق العلم الإجماليّ؛ لأنّ متعلّقه إنّما هو الجامع، وهو معلوم بالتفصيل، والشكّ والترديد إنّما هو في خصوصيّات الأطراف.

ص: 426

وهذا ما جعل المحقّق الأصفهانيّ) يذهب إلى امتناع تعلّق العلم بالمردّد لوجهين:

الأوّل: أنّ الفرد المردّد ليس له ثبوت في أيّ وعاءٍ من الأوعية، ذهناً كان أو خارجاً، ماهيّةً أو هويّة؛ لأنّ كلّ شيء يُفرض فلا يُعقل إلّا يكون معيّناً، وهو هو، لا مردّداً بينه وبين غيره، ولا هو أو غيره.

الثاني: أنّ حضور متعلّق العلم بنفس العلم؛ فإنّ العلم من الصفات التعلّقيّة فلا يمكن دعوى حضور الخصوصيّة؛ لأنّها مجهولة على الفرض، ولا المردّد؛ إذ لا يمكن أن يكون حاضراً في النفس؛ لأنّه خلف تردّده.

قال) في مبحث الواجب التخييريّ - ما لفظه -:

«المردّد بما هو مردّد لا وجود له خارجاً، وذلك لأنّ كلّ موجود له ماهيّة ممتازة عن سائر الماهيّات بامتيازٍ ماهويّ، وله وجود ممتاز بنفس هويّة الوجود عن سائر الهويّات، فلا مجال للتردّد في الموجود بما هو موجود، وإنّما يوصف بالتردّد بلحاظ علم الشخص وجهله، فهو وصف له بحال ما يضاف إليه، لا بحال نفسه...» (1).

وقال - أيضاً - في مبحث أصالة الاشتغال:

«أنّ العلم الإجماليّ المصطلح عليه في هذا الفنّ لا يفارق العلم التفصيليّ في حدّ العلميّة، وليسا سنخين من العلم نظراً إلى تعلّقالعلم

ص: 427


1- نهاية الدراية 1: 494 - 495.

الإجماليّ بالمردّد؛ لما مرّ مراراً أنّ المردّد بما هو مردّد لا ثبوت له ذاتاً ووجوداً، ماهيّةً وهويّةً، فلا يعقل تقوّم العلم الإجماليّ به.

مع بداهة أنّ العلم المطلق لا يوجد، كما أنّ وجوده في اُفق النفس وتعلّق بالخارج عن اُفق النفس غير معقول، بل المقوّم لهذه الصفة الجزئيّة لابدّ من أن يكون في اُفقها، فهو المعلوم بالذات، وما في الخارج معلوم بالعرض.

وعليه: فمتعلّق العلم حاضر بنفس هذا الحضور في النفس، غاية الأمر: أنّ طرف متعلّقه مجهول، أي: غير معلوم بخصوصيّته، فلم يلزم تعلّق صفةٍ حقيقيّةٍ بالمردّد حتى يكون أصلاً يبتني عليه إمكان إمكان تعلّق سائر الصفات الحقيقيّة وجملة الصفات الاعتباريّة بالمردّد.

وحيث عرفت أنّ تعلّق العلم الإجماليّ بالمردّد غير معقول، وبالواقع بخصوصه غير معقول؛ إذ لا معنى لتعلّقه به إلّا كونه معلوماً به، وهو خلف، فلا محالة، ليس المعلوم إلّا الجامع بين الخاصّين المحتملين، فهو مركّب من علمٍ واحتمالين، بل من علم تفصيليّ بالوجوب، ومن علمٍ آخر بأنّ طرفه ما لا يخرج عن الطرفين...» (1).

وكيفما كان، فإذا لم يكن ثمّة فرق جوهريّ بين العلم الإجماليّ والعلم التفصيليّ، وكان العلم الإجماليّ - أيضاً - علّة تامّة لحرمة المخالفة

ص: 428


1- المصدر نفسه 2: 579 - 580.

القطعيّة، فلا محالة: ينسدّ باب جعل الحكم الظاهريّ بحيث يكون موجباً للوقوع في المخالفة القطعيّة؛ لكونه موجباً للتناقض.

بيان ذلك: أنّ الحكم الواقعيّ محفوظ، ولا يمكن رفع اليد عنه، لمكان أنّ تأثير العلم الإجماليّ في تنجيز متعلّقه المعلوم - وإن كان الترديد في انطباق الحكم على متعلّقه - لا يكون قابلاً لمنع المانع من تنجيزه، لا عقلاً، أي: بإجراء البراءة العقليّة وقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّه معوجود العلم الإجماليّ فالبيان موجود، فلا يكون العقاب عقاباً بلا بيان، فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته.

فإذا عرفت ذلك، فلا يُعبأ بقول من شذّ من الفقهاء ممّن قال بعدم تأثير العلم الإجماليّ للتنجيز على نحو الإطلاق، وأنّه ليس مقتضياً للمنجّزيّة وليس ببيان حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعيّة، بل حال العلم الإجماليّ من هذه الناحية هو حال الشكّ، كما ربّما ينسب هذا القول إلى المحقّقين القمّي والخونساريّ" (1)، وإن ناقش الاُستاذ المحقّق) في صحّة هذه النسبة قائلاً: «وإن كانت هذه النسبة لا تخلو عن إشكال؛ لأنّ الظاهر من كلامهما إجراء البراءة الشرعيّة وانفتاح باب الترخيص الظاهريّ في جميع الأطراف على خلاف المعلوم بالإجمال» (2).

ص: 429


1- راجع: مشارق الشموس: 77؛ وقوانين الاُصول 2: 37.
2- منتهى الاُصول 2: 243.

وقد يقال في توجيه هذا الذي ذهبا إليه: بأنّه عين ما يقتضيه الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، فكما أنّه قد ثبت هناك إمكان إجراء أصالة البراءة أو أصالة الحلّ، بالرغم من انحفاظ الحكم الواقعيّ، ولم يلزم التناقض، للأجوبة التي تُذكر في مقام الجمع بين هذين السنخين من الحكم الشرعيّ، فكذلك فيما نحن فيه، بلا فرقٍ بين المقامين أصلاً.

ولكنّ الحقّ: أنّ قياس المقام على موارد الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ قياس مع الفارق؛ إذ في تلك الموارد ليس هناك بيان أصلاً، ولذا لم يتنجّز الحكم الواقعيّ، لا ببركة منجّز واقعيّ وجدانيّ كالقطع، ولا ببركة منجّز تعبّديّ كالاُصول والأمارات، وبالتالي: فلا يحكم العقل هناك بلزوم الإطاعة واستحقاق العقوبة على المخالفة، فلو أنّ الشارع أراد أن يعاقب على المخالفة لكان عليه أن يوجب عليه الاحتياط، وإلّا، لزم أن يكون عقاباً بلا بيان، وهو قبيح.وهنا يجب التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل :في أنّ وجوب الاحتياط حكم عقليّ:

لا إشكال في أنّ وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ حكم عقليّ إرشاديّ، فلو خالف المكلّف، بأن أتى بأحد الأطراف في مورد الشبهة التحريميّة، أو ترك بعض الأطراف في مورد الشبهة الوجوبيّة، ولم يصادف الواقع، فلا يعاقب على ذلك، وليس هناك إلّا التجرّي.

ص: 430

نعم، لو صادف الواقع، بأن كان ما أتى به حراماً واقعاً في الأوّل، أو كان ما تركه واجباً واقعاً في الثاني، فإنّه يعاقب على العصيان، بعد أن كان الواقع منجّزاً عليه وكان عالماً به بالعلم الإجماليّ.

الأمر الثاني: خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء:

لا يخفى: أنّ من شرائط فعليّة الحكم أن يكون المكلّف به مقدوراً للمكلّف؛ فالعلم - مطلقاً - تفصيليّاً كان أم إجماليّاً، إنّما يؤثّر في تنجيز ما يتعلّق به فيما إذا كان متعلّقه هو التكليف الفعليّ على جميع التقادير، وفي أيّ طرفٍ كان.

وعلى هذا الأساس، فالعقل يحكم باعتبار القدرة العقليّة في جميع أطراف العلم الإجماليّ، وإلّا، لم يكن منجّزاً له بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته، فإذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء، ولم يكن للمكلّف قدرة على ارتكابه في طرف من الأطراف، كان التكليف بالنسبة إليه ساقطاً في هذا الطرف؛ لقبح التكليف بغير المقدور، وحينئذٍ: ففي سائر الأطراف، يصبح الحكم مشكوك الحدوث، فيجري فيها الأصل النافي للتكليف بلا معارض.

فمثلاً: لو كان هناك كأسان، وعلم بأنّ أحدهما كان نجساً، ولكنّ أحد الكأسين كان خارجاً عن محلّ ابتلائه، بحيث لم يكن له قدرة على الوصول إليه عادةً - وإن كان له قدرة عقليّة بالنسبة إليه - فلا يمكنتعلّق

ص: 431

النهي بالشرب منه - مثلاً - لعدم القدرة عليه - وعدم كونه تحت اختياره، وحينئذٍ: فينحلّ العلم الإجماليّ، ويكون الشكّ بالنسبة إلى الكأس الثاني شكّاً بدويّاً.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ القدرة التي هي شرط في التنجّز والفعليّة إنّما هي القدرة العاديّة، أي: يأن يكون له قدرة على ارتكابه عادةً، وليس المدار على القدرة العقليّة، بأن يكون قادراً على ارتكابه ولو بمقدّمات غير عاديّة وبتحمّل الصعوبات والمشاقّ.

ولذا، فلو علم - مثلاً - بأنّ إحدى هاتين المرأتين - المرأة التي يريد تزويجها أو المرأة التي في أقصى بلاد الشرق - محرّمة عليه، فحيث إنّ الغرض من النهي المولويّ إنّما هو زجر العبد عن ارتكاب المنهيّ عنه، فلابدّ أن يكون هذا الارتكاب ممكناً ومقدوراً له بحسب العادة، وإلّا، كان النهي عنه بلا ثمرة ولا فائدة، فيكون لغواً، والمولى حكيم، فلا يعقل أن يصدر عنه مثل هذا النهي عنه، بل يكون مستهجناً.

ولكنّ الحقّ: أنّ ذلك على إطلاقه غير مسلّم، بل إذا كان الفعل يشتمل على مصلحة مهمّة بحيث يلزم تحصيلها، ولو ببذل الغالي والنفيس وتحمّل المشاقّ وتهيئة المقدّمات غير العاديّة في سبيل تحصيله، فهو وإن كان غير مقدور عادةً - بشرط أن يكون مقدوراً عقلاً - فلا يمكن أن يقال - حينئذٍ - بأنّه لا يجوز طلب مثل هذا الفعل، بزعم أنّه غير مقدور، وأنّ الأمر به مستهجن وقبيح؛ إذ مع كون المصلحة على تلك الدرجة

ص: 432

العالية من الأهمّيّة، فلا يكون هناك استهجان من قبل النفس في صدور الخطاب والأمر به من قبل المولى، ولا محذور - حينئذٍ - عقلاً في توجيه التكليف إليه، وإن لم يكن تحت قدرته عادةً.

لا يقال: إنّ هناك اُموراً يتركها العبد من تلقاء نفسه من جهة انزجاره عنها، كنكاح الاُمّهات، أو كشف العورة لذوي المروءة، أو أكل الخبائث والقذارات، ونحو ذلك ممّا تشمئزّ منه النفوس الكاملة وتأبى عن ارتكابها، ومع ذلك، فقد توجّه الخطاب والنهي المولويّ إليهم عنارتكاب مثل هذه الاُمور، مع أنّ مقتضى ما تقدّم، أنّه لا يجوز أن يتوجّه إلى هؤلاء أمثال هذه النواهي والخطابات.

لأنّا نقول: فرق بين أن يكون الشيء غير مقدور عادةً، بحيث يحتاج في تحصيله إلى إيجاد المقدّمات البعيدة والخارجة عن العادة مع تحمل المشاقّ والصعوبات، وبين أن يكون مقدوراً للمكلّف، غاية الأمر: أنّه منفور ومشمئزّ عنه.

ففي القسم الأوّل، يكون الخطاب بالترك مستهجناً بنظر العرف والعقلاء، لعدم قدرة المكلّف عليه.

وأمّا في القسم الثاني، فالعرف والعقلاء لا يرون قبحاً في توجيه خطاب النهي عن الترك إلى المكلّف القادر على الفعل؛ لأنّه وإن كان يشمئزّ منه ولا يرتكبه لمكان هذا النفور والاشمئزاز، إلّا أنّه حيث كان في الفعل مفسدة، وكان ارتكابه مقدوراً له، لم يكن في نهيه عنه قبح

ص: 433

ولا استهجان أصلاً؛ وذلك لأنّ النهي - بنظر العرف والعقلاء - لابدّ أنّ يتوجّه إلى أحد طرفي المقدور، فإذا كان ارتكاب الفعل بنظر غير مقدور، فهو مجبور على الترك، فلا يكون مقدوراً له هو أيضاً، ومعه: فلا مجال للخطاب بالنهي عنه، بل هو مستهجن عندهم.

هذا. ولكن يمكن أن يقال:

بأنّه في الصورة الأخيرة - أيضاً - يقبح النهي، إذ لمّا كان المكلّف مشمئزّاً من ارتكاب الفعل، وتاركاً له قهراً، فيكون النهي عن ارتكابه مندرجاً في باب تحصيل الحاصل، فلا يكون للنهي مجال، لقبحه.

وكيف كان، فحاصل ما تقدّم: أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجماليّ أن يكون كلا الطرفين محلاً للابتلاء، وأمّا إذا خرج أحد الأطراف عن محلّ ابتلائه، فلا يكون له علم بثبوت التكليف على كلّ حال؛ لأنّ المعلوم بالإجمال ليس ممّا يصحّ النهي عنه في أيّ طرف كان؛ إذ لا يصحّ النهي عن طرفٍ يكون خارجاً عن محلّ الابتلاء، لعدم القدرة عليه بالبيان المتقدّم، وحينئذٍ: فلا يكون الأصل النافي للتكليف قابلاً للجريان في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء، بعد عدم ترتّب الأثرالعمليّ لهذا الأصل في مورده، فيبقى الطرف الآخر، أي: الطرف الذي هو محلّ الابتلاء، مجرىً لذلك الأصل، وهذا هو معنى: سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ بخروج أحد أطرافه عن محلّ ابتلاء المكلّف.

هذا كلّه، في صورة العلم بأنّ بعض أطراف العلم الإجماليّ خارج عن

ص: 434

محلّ الابتلاء.

وأمّا في صورة الشكّ في كونه خارجاً محلّ الابتلاء أم لا، فهل تجري فيه أصالة البراءة أم أصالة الاحتياط؟

فإنّ الخمر - مثلاً - تارةً: يكون موجوداً في أقصى بلاد الهند (لمن كان بعيداً عنها - فهذا الفرد ممّا يعلم خروجه عن محلّ الابتلاء، فيدخل في صورة العلم، وقد عرفنا أنّه لا يصحّ توجّه الخطاب بالنسبة إليه.

وأُخرى: يكون موجوداً في نفس البلد الذي هو فيه، فيقطع - حينئذٍ - بإمكان الابتلاء به، فلا يكون توجّه الخطاب إليه ونهيه عنه مستهجناً، فيكون العلم الإجماليّ منجّزاً بالنسبة إليه بلا مانع.

وثالثةً: يكون في بلاد متوسّطة، فيشكّ في خروجه عن محلّ الابتلاء وعدم قدرته عليه عادةً أو عقلاً أم لا، فهذا هو محلّ الكلام.

والأقوى في هذه الصورة هو القول بجريان أصالة الاحتياط، لا أصالة البراءة، فيجب الاجتناب عن الطرف الذي هو محلّ الابتلاء؛ والسرّ في ذلك: أنّ الشكّ في القدرة بعد إحراز الملاك التامّ - كما هو المفروض فيما نحن فيه، لعلمنا بعدم مدخليّة القدرة، عاديّةً كانت أم عقليّةً، في الملاك - فيكون المقام من قبيل الشكّ في السقوط، لا الثبوت، وهذا الشكّ - كما هو معلوم - ليس مجرىً لأصالة البراءة وقبح العقاب بلا بيان؛ فإنّ البراءة إنّما تجري فيما إذا كان هناك قصور في البيان من ناحية المولى، ولا تجري فيما لو كان عدم التكليف مستنداً إلى عجز

ص: 435

العبد عن الامتثال عقلاً أو عادةً؛ إذ في هذه الحالة، فلو علم العبد بعجزه وانتفاء قدرته، فلا تكليف قطعاً، لقبح تكليف العاجز، ولأنّ القدرة شرط في حسن التكليف.وأمّا إذا شكّ في انتفاء القدرة، فالعقل - حينئذٍ - يستقلّ بلزوم الاحتياط والامتثال ورعاية الاحتمال، حتى يتبيّن العجز، تخلّصاً عن احتمال الوقوع في مخالفة الواقع، وعند انكشاف العجز، يكون - عندئذٍ - مورداً لقاعدة دفع الضرر المحتمل، لا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبعبارة أُخرى: فكما أنّه عند الشكّ في القدرة العقليّة لا يمكن أن تجري أصالة البراءة، فكذلك إذا شكّ في القدرة العاديّة، فلا يكون له - أيضاً - الرجوع إلى البراءة لدفع الضرر المحتمل، فلو شكّ في مقدوريّة طرفٍ من الأطراف، فليس له أن يجري البراءة عن التكليف إذا كان تحريميّاً، وارتكاب سائر الأطراف، بل يجب الاجتناب حتى عن الطرف الداخل تحت ابتلائه وتحت قدرته.

ولا يمكن قياس حالة الشكّ على ما إذا علم بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء؛ إذ مع علمنا بخروج أحد الأطراف عن محلّ الابتلاء نعلم بعدم التكليف بالنسبة إلى ذلك الطرف؛ لأنّه - كما تقدّم - غير مقدور، فنجري بالنسبة إلى ما هو محلّ الابتلاء نجري البراءة، ولا يبقى مجال للقول بلزوم الاحتياط بعد انحلال العلم الإجماليّ، بعدما كان وجود المعلوم بالإجمال في هذا الطرف

ص: 436

مشكوكاً، فالعلم الإجماليّ - حينئذٍ - لم يتعلّق بخطاب فعليٍّ في أيّ طرفٍ كان، بل المعلوم بالإجمال تكليف مشكوك، فلا يؤثّر التنجيز، كما أنّ الملاك - أيضاً - لا يؤثّر؛ لأنّ الملاك على تقدير كونه في ذلك الطرف المعلوم الخروج عن محلّ الابتلاء لا يؤثّر قطعاً؛ لأنّه يقطع بعدم التكليف - حينئذٍ -، أعني: التكليف المطلق.

ومعه: فلا يبقى مجال لحكم العقل بلزوم الاحتياط، وتكون الشبهة - حينئذٍ - كالشبهة البدويّة.

وهذا بخلاف ما إذا شكّ في الخروج، فلا يقطع بعدم التكليف المطلق كالصورة السابقة، بل يحتمل وجوده، فيبقى مجال لأن يحكم العقل بالاحتياط لأجل وجود الملاك.وقد ذهب المحقّق النائيني) (1) تبعاً للشيخ الأعظم! إلى التمسّك بالإطلاقات الواردة في باب الأحكام، وحاصله: أنّ النواهي الواردة في الآيات مطلقة تشمل جميع الموارد بحسب الظهور العرفيّ، سواء كانت خارجة عن محلّ الابتلاء أو داخلة فيه، والقدر المتيقّن من تقييد هذه الإطلاقات وتخصيص العمومات هو ما علم بخروجه عن محلّ الابتلاء،

ص: 437


1- فوائد الاُصول 4: 57 - 59. قال) - بعد بيان كلام الشيخ! - ما لفظه: «وبالجملة: لا ينبغي التأمّل في جواز التمسّك بإطلاق أدلّة المحرّمات الواردة في الكتاب والسنّة في كلّ ما شكّ في حصول القدرة العاديّة وعدمها؛ وعليه: يكون حال ما شكّ في خروجه عن مورد الابتلاء حال ما علم دخوله في مورد الابتلاء في وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر».

وأمّا ما شكّ فيه، فيبقى داخلاً تحت الإطلاقات والعمومات بمقتضى أصالة الإطلاق والعموم (1).

كما أنّ هناك فرقاً بين حصول العلم الإجماليّ وتنجّزه وخروج أحد الكأسين - مثلاً - عن محلّ الابتلاء، وبين ما إذا كان خروج أحد الكأسين عن محلّ الابتلاء قبل ورود العلم الإجماليّ.

ففي الصورة الأخيرة، فالشكّ بالنسبة إلى ما هو محلّ ابتلائه يرجع - لا محالة - إلى الشكّ البدويّ؛ إذ بعد أن لم يكن العلم الإجماليّ مؤثّراً التنجيز بالنسبة إليه، فينحلّ هذا العلم، والذي يبقى بالنسبة إلى ما هو محلّ ابتلائه إنّما هو الشكّ البدويّ.

وأمّا في الصورة الأُولى، أي: فيما لو فرض أنّ حصول العلم الإجماليّ كان قبل فرض خروج أحد الكأسين عن محلّ الابتلاء، فإنّ هذا الخروج لا يؤثّر في إسقاط العلم الإجماليّ عن أثره في التنجيز، بل يجب - حينئذٍ - رعاية الاحتياط بموافقة الواقع في الباقي من الأطراف

ص: 438


1- انظر: فرائد الاُصول 2: 237 - 238. ونصّ كلامه« كالتالي: «إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلّق بالابتلاء، كما لو قال: (اجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قدّام أمير البلد) مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلّف به، أو (لا تصرّف في اللّباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك أو الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواصّ نسوانه)، مع عدم استحالة ابتلاء المكلّف بذلك كلّه عقلاً ولا عادةً، إلّا أنّه بعيد الاتّفاق، وأمّا إذا شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات».

في مورد الابتلاء، وإلّا، يلزم ارتكاب بعضالأطراف، أي: أطراف ما علم تحريمه بالإجمال، وهو كما ترى؛ لأنّ فقدان المكلّف به ليس من قيود التكليف، بل وجوده في الخارج أيضاً كذلك، وإن كان مشروطاً بعدمه عقلاً، وإن لم يكن شرطاً شرعيّاً للتكليف.

وبالجملة: فلمّا كان حصول العلم الإجماليّ سابقاً على خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء، فيعلم أنّه ممن اشتغلت ذمّته بالتكليف المعلوم بالإجمال يقيناً، فيكون مورداً لجريان أصالة الاشتغال في الأطراف الباقية مورداً للابتلاء.

الأمر الثالث :الاضطرار إلى بعض الأطراف:
اشارة

وتوضيح الحال فيه يقتضي رسم نقاط:

الاُولى: أنّ المراد من الاضطرار هو المشقّة العرفيّة التي توجب ارتكاب بعض الأطراف، وليس بمعنى الإلجاء؛ إذ لو كان المراد منه الإلجاء، لكان رافعاً للتكليف الشرعيّ عقلاً، والتكليف - حينئذٍ - لا يكون قابلاً للوضع حتى يصحّ رفعه بمثل قوله- في حديث الرفع المتقدّم: «رفع ما اضطرّوا إليه».

الثانية: أنّ الاضطرار - مطلقاً - مانع عن فعليّة التكليف والحكم؛ لأنّه من حدوده وقيوده شرعاً كما هو مقتضى الجمع بين أدلّة الأحكام الأوّليّة وأدلّة الأحكام الثانويّة كالضرر والعسر والحرج ونحو ذلك، فإنّ مقتضى

ص: 439

هذا الجمع هو تقييد إطلاق الأحكام الواقعيّة الأوّليّة بعدم طروّ العناوين الثانويّة، فإطلاق حرمة شرب الخمر أو شرب المتنجّس - مثلاً - يقيّد بعدم الضرورة إلى شربه حدوثاً وبقاءً، وهذا هو معنى: أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف يكون مانعاً عن فعليّة الحكم المعلوم، لكونه العناوين الثانويّة.

الثالثة: إذا اضطرّ إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال، فتارةً يكون إلى أحدهما بعينه، وأُخرى يكون إلى أحدهما لا بعينه، وكلّ واحدمنهما، إمّا أن يكون حصول الاضطرار قبل حصول العلم بالتكليف أو بعده أو مقارناً لحصوله.

أمّا صورة الاضطرار إلى أحدهما بعينه، كما إذا كان هناك إناءان، في أحدهما ماء مطلق وفي الآخر ماء الرمّان، وعلم إجمالاً بإصابة قطرة من الدم لأحدهما، واضطرّ إلى شرب الماء لرفع عطشه المضرّ بحاله، أو اضطرّ إلى شرب ماء الرمّان للاستشفاء من مرضٍ يتوقّف الشفاء منه عليه، فإنّ حصول الاضطرار إذا كان قبل العلم الإجماليّ بوقوع النجس في أحدهما، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن المحتمل الآخر أو المحتملات الأُخرى؛ لأنّ العلم الإجماليّ - حينئذٍ - لا يكون مؤثّراً مطلقاً وعلى كلّ حال، وذلك لعدم توجّه التكليف إلى الكأس الذي اضطرّ إليه، حتى ولو كان في الواقع هو النجس المعلوم بالإجمال، لأنّه ممّا يعلم بحلّيّته وارتفاع حرمته بمقتضى قوله-: «رفع ما اضطرّوا

ص: 440

إليه»، وحاله في ذلك - أي: في عدم ترتّب أثرٍ شرعيّ عليه - حال الكأس التالف قبل ورود العلم الإجماليّ.

ومعه: فيكون الطرف الآخر ممّا يشكّ في كونه موضوعاً لخطاب (اجتنب النجس)، فيكون حكمه حكم الشبهة البدويّة، فيرجع فيه إلى أصالة البراءة.

وإذا حدث العلم الإجماليّ بعد الاضطرار، أو مقارناً لحدوث الاضطرار، فلا يكون منجّزاً؛ لعدم كونه متعلّقاً بحكم فعليّ على كلّ تقدير، أي: سواء انطبق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف أو الأطراف الأُخر؛ لأنّه بالنسبة إلى الطرف المضطرّ إليه، فليس هناك حكم أصلاً؛ لأنّ الحكم - كما عرفنا - قد ارتفع بطروّ الاضطرار.

وقد عرفنا أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجماليّ لمتعلّقه، وفي تأثيره لوجوب الموافقة القطعيّة أو حرمة المخالفة القطعيّة، أن يكون متعلّقه حكماً فعليّاً على كلّ تقدير، أو ذو حكم فعليّ، فيجري الأصل النافي في الطرف الآخر أو الأطراف الاُخرى بلا معارض.وأمّا إذا حصل الاضطرار بعد حصول العلم الإجماليّ، فبما أنّ العلم قد تنجّز، والتكليف قد حصل، فكلّ واحدٍ من الطرفين يصير محتمل التكليف المنجّز والاضطرار، ولو فرض أنّ الاضطرار يرفع التكليف عن ذلك الطرف الذي اضطرّ إليه، ولكن لا تجري البراءة في الطرف الآخر؛

ص: 441

لأنّه محتمل التكليف، وقد أصبح هذا التكليف منجّزاً في كلّ من الطرفين في رتبة سابقة على طروّ الاضطرار.

والتكليف وإن ارتفع عن الطرف الذي اضطرّ إليه، ولكن لا يجري الأصل بالنسبة إلى الطرف الآخر، فيكون حال الاضطرار إلى أحد الأطراف بعد حصول العلم الإجماليّ حال ما إذا تعرّض بعض الأطراف للتلف بعد حصول العلم الإجماليّ، فكما أنّه إذا تلف بعض الأطراف بعد حصول العلم الإجماليّ لا تجري الاُصول النافية للتكليف في الطرف أو الأطراف الباقية، فكذلك الحال في مورد الاضطرار.

وأمّا إذا كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فهل يمكن قياسه على صورة الاضطرار إلى أحد الأطراف بعينه حتى يجري ما ذكرنا هناك أم لا؟

الظاهر: العدم؛ لأنّه هناك طرأ الاضطرار على نفس ما هو الحرام الواقعيّ في البين، على تقدير كونه ذلك الفرد الذي اضطرّ إليه بعينه، بخلاف المقام.

وقد حكم الشيخ الأنصاري) هنا بلزوم الاجتناب عن الطرف الآخر في جميع هذه الصور، أي: سواء كان حصول الاضطرار قبل العلم الإجماليّ، أو بعده، أو مقارناً له.

قال): «ولو كان المضطرّ إليه بعضاً غير معيّن، وجب الاجتناب عن الباقي، وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجماليّ؛ لأنّ العلم حاصل بحرمة

ص: 442

واحدٍ من أمورٍ لو علم حرمته تفصيلاً وجب الاجتناب عنه، وترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي» (1).

وحاصل ما أفاده رحمة الله:

أنّ الاضطرار تعلّق بالجامع بين الحرام والحلال، لا بخصوص الحرام كي ترتفع حرمته بطروّ الاضطرار، فما هو المضطرّ إليه، وهو الجامع، فليس بحرام، وما هو حرام واقعاً، فليس بمضطرّ إليه، فلا وجه لرفع اليد عن حرمة الحرام الواقعيّ المنجّزة بالعلم الإجماليّ بمجرّد الاضطرار إلى الجامع.

فيكون المقام نظير ما لو اضطرّ إلى الشرب من أحد كأسين مع العلم تفصيلاً بحرمة أحدهما بالخصوص، فإنّه لا شكّ في عدم ارتفاع الحرمة عن الكأس المحرّم الشرب منه المعلوم بالتفصيل بمجرّد الاضطرار إلى الشرب منه أو من الكأس الآخر.

وخلاصة البحث:

أنّ الاضطرار الذي هو عنوان ثانويّ لم يطرأ على ما هو المحرّم واقعاً كي ترتفع حرمته، بل الاضطرار إنّما تعلّق بالجامع، فلابدّ من الاحتياط في الطرف الآخر بعد فرض تنجّزه بالعلم الإجماليّ، بلا فرق في ذلك بين حصول الاضطرار قبل حصول التكليف أم بعده، قبل حصول العلم به أم بعده.

ص: 443


1- فرائد الاُصول 2: 245.

فإذا عرفت هذا، وقلنا بأنّ العلم الإجماليّ بالنسبة إلى تنجيز التكليف المحتمل في كلّ واحدٍ من أطرافه يكون علّة تامّة، فيجب فيه الموافقة القطعيّة، ولا تجري في شيءٍ من أطرافه الاُصول النافية، ولو لم يكن معارض في البين.

نعم، يجوز جريان هذه الاُصول في حالةٍ واحدة، وهي حالة الانحلال وجعل البدل.

فلا يجوز الترخيص الظاهريّ إلّا بالتصرّف في ناحية التكليف بالمعلوم بالإجمال، بأن يقيّده بما إذا لم ينطبق الاضطرار عليه، فلو طبّق المكلّف اضطراره عليه - ولو بتوسّط كونه جاهلاً بالاضطرار -فلا تكليف في البين أصلاً، لا أنّ التكليف يكون موجوداً، غاية الأمر: أنّه غير منجّز.

وذلك لأنّه لا انحلال ولا جعل بدل في البين، فيكون الترخيص - حينئذٍ - من باب التوسّط في التكليف، وهو أن لا يكون التكليف مطلقاً على كلّ حال، بل على تقديرٍ دون تقدير آخر، فالاضطرار إلى أحدهما المعيّن يكون من هذا القبيل؛ لأنّه:

لو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان في ذلك الطرف المعيّن الذي اضطرّ إليه، فلا تكليف في البين أصلاً؛ إذ هو يرتفع بطروّ الاضطرار.

ولو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان في الطرف الآخر، فيكون موجوداً، فلا يكون موجوداً مطلقاً، ولا معدوماً مطلقاً، بل معنىً متوسّط، أي: موجود على تقدير غير موجود على تقدير آخر.

ص: 444

نعم، بناءً على القول بالاقتضاء، حيث لا يتنافى بقاء التكليف على إطلاقه في مقام الواقع مع الترخيص الظاهريّ للاضطرار، فلا مناص عن القول بالتوسّط في التنجّز، أي: أنّ التكليف يكون موجوداً مطلقاً، وعلى كلّ حال، ولكنّ تنجّزه إنّما يكون في حالٍ دون حال.

الأمر الرابع :في الشبهة غير المحصورة:
اشارة

وقد اختلفت كلمات الأصحاب(رحمهم الله)كثيراً في تحديدها وتعيين الضابط لها، وورد عنهم في ذلك تحديدات مختلفة:

قال الميرزا النائيني):

«فعن بعضٍ: تحديدها ببلوغ الأطراف إلى حدّ تعسير عدّها (1)، وزاد بعضهم: قيد (في زمانٍ قليل) (2)، وعن بعضٍ آخر: إرجاعهاإلى العرف،

ص: 445


1- هذا قول صاحب المدارك)، قال: «فالمراد بغير المحصور ما كان كذلك في العادة، بمعنى: تعسّر حصره وعدّه، لا ما امتنع حصره...». انظر: مدارك الأحكام 2: 253. والذي يظهر من عبارة شيخنا الأنصاريّ«: أنّه لا فرق بين هذا الرأي وبين الرأي القائل بإرجاع الضابطة فيها إلى العرف، قال) في الرسائل: «اختلف عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور وغيره، فعن الشهيد والمحقّق الثانيين، والميسيّ، وصاحب المدارك: أنّ المرجع فيه إلى العرف، فهو: ما كان غير محصورٍ في العادة، بمعنى: أنّه يعسر عدّه، لا ما امتنع عدّه؛ لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعدّ والحصر»، راجع: فرائد الاُصول: 2: 268.
2- نقله الشيخ الأعظم) في الفرائد المحقّق الثاني! في فوائد الشرائع، انظر: فرائد الاُصول 2: 268- 269.

وقد قيل في تحديدها أمور أُخر لا تخفى على المتتبّع، مع ما فيها من عدم الانعكاس والاطّراد» (1).

وأمّا ما اختاره هو!، فحاصله:

أنّ الضابط في الشبهة غير المحصورة عبارة عن اجتماع أمرين:

أوّلهما: عدم إمكان الجمع بين أطرافها عادةً في مقام ارتكاب الأطراف.

والثاني: أن يكون عدم إمكان الجمع هذا مستنداً إلى كثرة أطرافها.

وبهذا الأمر الثاني تختلف الشبهة غير المحصورة عن حالات خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء، بسبب بعد المكان - مثلاً - أو أيّة جهةٍ أُخرى غير كثرة العدد.

قال): «والاُولى أن يقال: إنّ ضابط الشبهة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدّاً لا يمكن عادةً جمعها في الاستعمال: من أكلٍ أو شربٍ أو لبسٍ أو نحو ذلك، وهذا يختلف حسب اختلاف المعلوم بالإجمال.

فتارةً: يعلم بنجاسة حبّةٍ من الحنطة في ضمن حُقّةٍ منها، فهذا لا يكون من الشبهة الغير المحصورة؛ لإمكان استعمال الحقّة من الحنطة بطحنٍ وخبزٍ وأكل، مع أنّ نسبة الحنطة إلى الحقّة تزيد عن نسبة الواحد إلى الالف.

ص: 446


1- فوائد الاُصول 4: 116 - 117.

وأُخرى: يعلم بنجاسة إناءٍ من لبن البلد، فهذا يكون من الشبهة الغير المحصورة، ولو كانت أواني البلد لا تبلغ الألف، لعدم التمكّن العاديّ من جمع الأواني في الاستعمال، وإن كان المكلّف متمكّناً من آحادها، فليس العبرة بقلّة العدد وكثرته فقط، إذ ربّ عددٍ كثير تكون الشبهة فيه محصورة، كالحقّة من الحنطة، كما أنّه لا عبرةبعدم التمكّن العاديّ من جمع الأطراف في الاستعمال فقط، إذ ربّما لا يتمكّن عادةً من ذلك مع كون الشبهة فيه - أيضاً - محصورةً، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب...» (1).

ولكن استشكل عليه المحقّق العراقي! - على ما في تعليقته على الفوائد - بما لفظه:

بأنّ هذه الضابطة - أيضاً - لا تخلو عن شبهة؛ «لأنّه ربّما يتمكّن عادةً من الابتلاء بالجميع بطول الزمان وتدريج المضيّ من اللّيالي والأيّام، فلابدّ من أنّ يُحدد مقدار أيضاً، بحيث يصدق عليه كون كلّ واحدٍ محلّ ابتلائه، على وجهٍ لا يصير طول الزمان منشأً لخروجه عنه، كما لا يخفى» (2).

وقد حدّد الشيخ الأعظم) ضابط الشبهة غير المحصورة بشكلٍ آخر، وهو أن تكون كثرة الأطراف بالغةً إلى حدٍّ يكون معه احتمال التكليف

ص: 447


1- فوائد الاُصول 4: 117.
2- المصدر نفسه، الهامش رقم 1.

في كلّ واحدٍ من الأطراف احتمالاً موهوماً لا يعتني به العقلاء، بل يرون الاعتناء به نوعاً من الوسوسة، ولازم ذلك عدم وجوب الموافقة القطعيّة.

وفي ذلك يقول!:

«ويمكن أن يقال - بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس -: إنّ غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجماليّ الحاصل فيها، ألا ترى أنّه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد، فعامل العبد مع واحدٍ من أهل قريةٍ كبيرةٍ يعلم بوجود زيدٍ فيها، لم يكن ملوماً وإن صادف زيداً؟» (1).

ثمّ إنّه - أي المحقّق النائيني! - قال:«وممّا ذكرنا من الضابط: يظهر حكم الشبهة غير المحصورة، وهو عدم حرمة المخالفة القطعيّة، وعدم وجوب الموافقة القطعيّة» (2).

وهذا على خلاف ما يظهر من الشيخ! من التفصيل بين المخالفة القطعيّة والموافقة القطعيّة، بالقول بالحرمة في الاُولى، وبعدم الوجوب في الثانية.

قال!: «والتحقيق: عدم جواز ارتكاب الكلّ [يعني: جميع المشتبهات

ص: 448


1- فرائد الاُصول 2: 271.
2- فوائد الاُصول 4: 118.

في الشبهة غير المحصورة]؛ لاستلزامه طرح الدليل الواقعيّ الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحرّم الواقعيّ، كالخمر في قوله: (اجتنب عن الخمر)؛ لأنّ هذا التكليف لا يسقط عن المكلّف مع علمه بوجود الخمر بين المشتبهات. غاية ما ثبت في غير المحصور: الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات...»، انتهى موضع الحاجة (1).

ولكن هذا غير تامّ؛ والوجه في ذلك: أنّ حرمة المخالفة القطعيّة إنّما تتصوّر في ما إذا تمكّن المكلّف منها تمكّناً عاديّاً، ولكنّه مع التمكّن، لا تكون الشبهة من قبيل الشبهة غير المحصورة.

وعلى أيّ حال، فالظاهر: أنّ أحسن التعريفات لضابطة الشبهة غير المحصورة هي ما أفاده الشيخ الأنصاري! من بلوغ كثرة الأطراف حدّاً تكون معه سبباً لضعف احتمال كون الحرام - مثلاً - في طرف يريد المكلّف ارتكابه.

وقد استدلّ على أنّ الحكم في الشبهة غير المحصورة هو عدم لزوم الاجتناب بوجوه:

الأوّل: الإجماع.ولكن قد عرفت سابقاً حال هذه الإجماعات، وأنّها من الإجماعات المنقولة وغير التعبّديّة.

ص: 449


1- فرائد الاُصول 2: 266- 267.

والثاني: دعوى أنّ الاجتناب مستلزم للمشقّة والعسر والحرج، فيمتنع الإلزام به.

وفيه: أنّه مختصّ بالموارد التي يلزم منها ذلك، فلا يمكن الحكم به على سبيل الإطلاق.

الثالث: ما دلّ من الروايات على حلّيّة كلّ ما لم يعلم حرمته، كصحيحة عبد اﷲ بن سنان قال: قال أبو عبد اﷲ(علیه السلام): «كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبداً، حتى تعرف الحرام منه بعينه، فتدعه» (1)، فقد يقال: بأنّها ظاهرة في أنّ موردها خصوص العلم الإجماليّ، خرج منها الشبهة المحصورة، إمّا بالإجماع أو بالعقل، فتبقى الشبهة غير المحصورة، فلا يلزم فيها الاجتناب، وهو المطلوب.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّها مختصّة بالشبهة البدويّة، فلا تشمل المورد أصلاً.

ثمّ هل يجوز ارتكاب جميع الأطراف في الشبهة غير المحصورة أم أنّه لابدّ من الإبقاء على مقدارٍ منها؟

فصّل في ذلك الشيخ الأنصاري! فقال بعدم العقاب إذا لم يقصد ارتكاب الجميع من أوّل الأمر، ولكن انجرّ الأمر إليه، وبالعقاب فيما إذا قصد الجميع من أوّله، أو توصّل به إلى ارتكاب الحرام.

ص: 450


1- تهذيب الأحكام 9: 79، باب 2 من كتاب الصيد والذبائح، ح72، ووسائل الشيعة 24: 236، باب 64 من أبواب الأطعمة المحرّمة، ح2.

قال!: «فالأقوى في المسألة: عدم جواز الارتكاب إذا قصد ذلك من أوّل الأمر؛ فإنّ قصده قصدٌ للمخالفة والمعصية، فيستحقّ العقاب بمصادفة الحرام» (1).والحقّ: هو التفصيل، فلو شرع المكلّف في الأطراف قاصداً ارتكاب جميعها، ولو في طول سنين متطاولة، لم يكن معذوراً؛ لأنّ التكليف بعد باقٍ على فعليّته، وكذا لو قسّم أطراف الشبهة غير المحصورة إلى أقسامٍ معدودة ومحصورة، وأراد ارتكاب بعض الأقسام الذي تكون نسبته إلى سائر الأقسام نسبةً محصورة، كما لو كانت الأطراف عشرة آلاف - مثلاً - فقسّمها إلى عشرة أقسام، فإنّه يكون حكمها حكم الشبهة المحصورة، ولا يكون معذوراً فيه، فلا يجوز له ارتكاب بعض أطرافه، فضلاً عن جميعه.

الأمر الخامس: في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة:
اشارة

وتحقيق الحال فيه في بيان نقاط:

النقطة الأُولى:

أنّ البحث هنا هل هو مختصّ بملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة، أم يأتي - أيضاً - في ملاقي بعض أطراف الشبهة غير المحصورة؟

ص: 451


1- فرائد الاُصول 2: 266.

قد يتصوّر: أنّه بملاحظة ما اشتهر على الألسنة، وما اشتهر في كتب الأعلام من عنونة هذه المسألة بأنّ «ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة»، فالبحث لابدّ وأن يكون مختصّاً بها وغير شامل للشبهة غير المحصورة، قال السيّد اليزديّ) في العروة: «ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة، لكنّ الأحوط الاجتناب» (1).

ولكنّ صاحب الكفاية! جعل البحث أعمّ، بحيث يشمل ملاقي بعض أطراف الشبهة، سواء كانت محصورة أم غيرها؛ فإنّ من خصّ البحثبالشبهة المحصورة كان ناظراً إلى أنّ تنجيز العلم الإجماليّ يدور مدار حصر الأطراف.

وأمّا من كان يرى المدار في تنجيزه على فعليّة التكليف، كما هو مختار الآخوند) (2)، فقد عمّم البحث، وجعله متناولاً لملاقي أطراف الشبهة التي تنجّز فيها التكليف، محصورةً كانت أم لا.

والنقطة الثانية:

هل تعدّ الملاقاة سبباً وعلّة لحدوث النجاسة في الملاقي، ليكون حالها حال سائر الأسباب والعلل التكوينيّة التي تترتّب عليها مسبّباتها

ص: 452


1- العروة الوثقى 1: 114- 115، فصل في الماء المشكوك النجاسة، المسألة رقم 6.
2- انظر: كفاية الاُصول: 362، ونصّ كلامه«: «الثالث: أنّه قد عرفت أنّه مع فعليّة التكليف المعلوم، لا تفاوت بين أن تكون أطرافه محصورةً وأن تكون غير محصورة...».

ومعلولاتها تكويناً، وبلا حاجةٍ إلى جعل من الشارع؟

من الواضح: أنّه إذا قلنا بذلك، فإنّ الملاقي يكون نجساً بسبب الملاقاة، لا أنّ نجاسة الملاقي تكون حكماً مجعولاً من الشارع مستقلّاً وفي عرض الحكم بنجاسة ما لاقاه.

غير أنّه لا يخفى: أنّ هذا غاية في الضعف والسقوط؛ إذ إنّ نجاسة الملاقي هي، كنجاسة الملاقاة، من الاُمور والمجعولات الشرعيّة، وليست من الأسباب التكوينيّة.

قال الشيخ الأعظم! في رابع تنبيهات الشبهة المحصورة:

«الرابع: أنّ الثابت من كلٍّ من المشتبهين - لأجل العلم الإجماليّ بوجود الحرام الواقعيّ فيهما - هو وجوب الاجتناب؛ لأنّه اللّازم من باب المقدّمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعيّ، أمّا سائر الآثار الشرعيّة المترتّبة على ذلك الحرام فلا تترتّب عليهما».

إلى أن قال: «وهل يحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان، بل قولان، مبنيّان على أنّ تنجيس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس».إلى قوله: «أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين» (1)، أي: فعلى الأوّل يجب الاجتناب، وعلى الثاني لا يجب.

والصحيح: هو الثاني؛ فإنّ ظهور مثل: (اجتنب عن النجس)، هو نفس

ص: 453


1- انظر: فرائد الاُصول 2: 239 - 240.

العنوان، أعني: عنوان الاجتناب عن العين، ولا يستفاد منه المعنى الأعمّ، أي: ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه أيضاً.

ومن هنا ما يقال: من أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) إنّما جاء من قبل وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح)، أي: أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) هو من شؤون وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح)، لا أنّه لا يحصل امتثال الخطاب بالاجتناب عن النجس إلّا بالاجتناب عن ملاقيه، كما يستفاد من استدلال السيّد أبو المكارم ابن زهرة) في الغنية (1) على أنّ الماء القليل يتنجّس بملاقاة النجاسة، بما دلّ على وجوب هجر النجاسة، كمثل قوله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ (2).

فإنّ استدلاله على ذلك لا يتمّ إلّا بناءً على أنّ وجوب الاجتناب يقتضي وجوب نجاسة ملاقيه؛ لما نقلناه من الوجه، وحاصله: أنّ الاجتناب عن النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه، ولو بوسائط.

ولكنّك عرفت، أنّ الذي يظهر من مثل الآية الكريمة إنّما هو وجوب

ص: 454


1- غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع: 46، قال): «فإن تغيّر أحد أوصاف هذا الماء، فهو نجس بلا خلاف، فإن كان الماء راكداً قليلاً، أو من مياه الآبار، قليلاً كان أو كثيراً، تغيّر بالنجاسة أحد أوصافه، أو لم يتغيّر، فهو نجس، بدليل إجماع الطائفة، وظاهر قوله تعالى...»، ثمّ ساق الآية الشريفة وغيرها من الأدلّة.
2- المدّثر: الآية 5.

الاجتناب عن نفس النجس، أمّا الملاقي له فلا؛ لأنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية هو وجوب الاجتناب عن الرجز، ولا تدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز.ثمّ إنّه لا يمكن أن نجعل عنوان الملاقي للنجس موضوعاً آخر يحكم الشارع عليه بالنجاسة في عرض سائر ما حكم عليه بالنجاسة، كالبول والغائط من حيوانٍ غير مأكول اللّحم، عدا الطيور.

والسرّ في ذلك: أوّلاً: أنّ الفقهاء حينما عدّوا النجاسات لم يعدّوا الملاقي للنجس من جملتها.

وثانياً: أنّ المستفاد من الأدلّة هو أنّ هذه النجاسة آتية من قبل ما لاقاه من النجس، وهذا هو المرتكز في أذهان المتشرّعة.

فإن قيل: إنّ النجاسة تسري من الملاقي إلى ملاقيه، فكأنّ موضوع النجاسة كان قبل الملاقاة ضيّقاً، وبعد الملاقاة صار أوسع، فشمل الملاقي - أيضاً -.

قلت: هذا الكلام إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأعراض الخارجيّة، فإنّه - حينئذٍ - يكون ممكناً، بل وواقع كثيراً، فما يكون موجوداً في الشيء من اللّون أو الطعم أو الرائحة أو غير ذلك ربّما يسري من الملاقي إلى الملاقي، فتتّسع دائرة موضوع هذا العرض.

وأمّا في محلّ البحث، فالنجاسة لمّا كانت من المجعولات الشرعيّة، وإن كان جعلها لوجود مفسدة في عدم الاجتناب عنها، إلّا أنّ هذا الجعل

ص: 455

المتعلّق بها هو كسائر الأحكام والمجعولات الشرعيّة يكون ناشئاً عن مفسدةٍ وملاكٍ أوجبه.

نعم، لو قلنا بأنّ النجاسة هي من الموضوعات الخارجيّة التي كشف عنها الشارع، لكان الكلام المذكور صحيحاً بلا إشكال.

ثمّ لو تنزّلنا وقلنا بالسراية، فالنجاسة في الملاقي ليست إلّا حكماً مجعولاً على عنوان الملاقي للنجس، ولكنّ ملاك الجعل إنّما هو جهة تأثير النجس الذي جاء من قبل الملاقي، ومعنى ذلك: أنّه بسبب الملاقاة مع النجس أو المتنجّس - على القول بأنّ ملاقي المتنجّس متنجّس أيضاً - فإنّ أمراً أو مفسدةً ما قد حصلا تكويناً في الملاقي بحيث أوجب حكم الشارع بنجاسته.وأمّا القول بأنّ الملاقاة علّة تكوينيّة لحدوث ملاك جعل النجاسة في الملاقي، أو بانبساط النجاسة في الملاقي على ملاقيه أيضاً، فهو بظاهره غير معقول، إلّا إن كان العرف يرى أنّهما بالملاقاة يصبحان موضوعاً واحداً، ولكنّ هذا معلوم العدم؛ فإنّ الاصبع المتنجّس - مثلاً - إذا لاقاه الماء القليل، فإنّه يتنجّس الماء، مع وضوح عدم وحدة الملاقي - بالكسر - مع الملاقى - بالفتح - فهذا القول واضح الفساد.

وأمّا الأخبار التي يظهر منها السراية، فالمراد منها: أنّ نجاسة الملاقى - بالفتح - تكون منشأ لحصول الملاك والمفسدة التي على أساسها قام الشارع بجعل النجاسة في الملاقي - بالكسر -. ومن هذه

ص: 456

الجهة يطلق عليها اسم السبب والمؤثّر، فإذا كان المقصود من استناد نجاسة الملاقي إلى الملاقى - بالفتح - هو هذا المعنى، فيصحّ.

ولكن مع ذلك، فهذا الكلام لا يأتي في صورة ملاقاة بعض أطراف الشبهة المحصورة، فيما لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، وقلنا بأنّ العلم الإجماليّ يكون علّة تامّة لتنجّز التكليف المحتمل في جميع الأطراف، فوجوب الاجتناب عن كلٍّ من الطرفين أو الأطراف بخصوصه، إنّما هو لتحصيل العلم بالاجتناب عن النجس الواقعيّ بينهما، ولا يحكم في شيء من الطرفين أو الأطراف بخصوصه بالنجاسة، لا ظاهراً ولا واقعاً.

أمّا واقعاً؛ فلعدم إحراز نجاسته بالخصوص، للجهل بكون النجس الواقعيّ في هذا الكأس أو في ذاك.

وأمّا ظاهراً؛ فلعدم ثبوت النجاسة فيه بخصوصه بأمارة أو أصل. وإنّما يجب الاجتناب عن كلٍّ من الطرفين عقلاً.

وعليه: فمقتضى العلم الإجماليّ بالنجس بين الأطراف هو ترتيب خصوص وجوب الاجتناب عن كلٍّ من الطرفين أو الأطراف بحكم العقل، حتى يحصل العلم بالامتثال، وليس هناك مجعول شرعيّ، ولا حكم بالنجاسة شرعاً، فلا سبيل لترتيب سائر الآثار الشرعيّة المتعلّقةبالحرام أو النجس عليه؛ لعدم إحراز أنّ التنجّس أو المتنجّس هو هذا أو ذاك بالخصوص.

ولذا، فإنّ ارتكاب أحد أطراف الخمر المعلوم إجمالاً لا يوجب

ص: 457

الحدّ، وإن استحقّ العقوبة، إمّا لأجل أنّه قد شرب ما هو خمر واقعاً، أو لأنّه قد أصبح متجرّياً لو لم يكن ما شربه خمراً في الواقع، وإنّما لا يحدّ مع استحقاقه للعقوبة؛ لأنّ موضوع حكم الحاكم الشرعيّ بإقامة الحدّ هو شرب الخمر، ولمّا يُحرز ذلك.

إن قلت: بعد الملاقاة يحصل علم إجماليّ آخر؛ لأنّه يعلم إجمالاً: إمّا بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو بنجاسة طرف الملاقى - بالفتح -. ولك أن تقول: إنّه بعلم إجمالاً: إمّا بنجاسة المتلاقيين، أو بنجاسة الطرف الآخر، فيجب الاجتناب عن الجميع.

قلت: ثمّة فرق بين حصول هذا العلم الإجماليّ الآخر بعد العلم الإجماليّ الأوّل، وبين حصوله قبله، فإنّه:

إن حصل بعده، فلا أثر له؛ لفرض انحلاله بالعلم الإجماليّ الأوّل.

وإن حصل قبله، فيجب الاجتناب عن الجميع، الملاقي والملاقى وطرف الملاقى - بالفتح - لأنّه بعد انحلال العلم الإجماليّ المتأخّر بالعلم الإجماليّ المتقدّم، فلا تأثير لهذا العلم، لما عرفنا من أنّه لو تنجّز أحد أطراف العلم الإجماليّ بمنجّز شرعيّ، من أمارة أو أصلٍ شرعيّ، فينحلّ العلم الإجماليّ انحلالاً حكميّاً، وتجري الاُصول المؤمّنة في الطرف أو الأطراف الأُخرى.

النقطة الثالثة:

ينبغي أن يعلم: أنّ هذا البحث مختصّ بما لو كانت الملاقاة مختصّةً

ص: 458

ببعض الأطراف دون بعض، كأحد أطراف العلم الإجماليّ، أو كطرفين إذا كان يدور بين أطراف ثلاثة، ضرورة أنّه لو فرضنا أنّ شيئاً واحداً قد لاقى جميع الأطراف، فإنّه لا إشكال في نجاسته حينئذٍ؛ إذ يكون حكمه، وهو النجاسة، معلوماً تفصيلاً.كما أنّه لا يتمّ إلّا فيما لو لم يكن عدد الملاقي بمقدار عدد الأطراف، وإلّا، يجب اجتناب عن الجميع؛ لأنّه يحصل بهذه الملاقاة علم إجماليّ آخر في عدد الملاقيات أيضاً، فكما يجب الاجتناب عن جميع الأطراف، لتنجّز التكليف فيها بالعلم الإجماليّ، فحيث إنّ الملاقيات صارت أطرافاً لعلم إجماليٍّ آخر، فيجب الاجتناب عن جميعها أيضاً.

النقطة الرابعة:

يشترط في تأتّي هذا البحث أن لا يكون الملاقي - بالكسر - ظرفاً لعلم إجماليّ آخر، فلو كان كذلك، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عنه.

النقطة الخامسة:

أنّ هذا البحث يتوقّف على أن لا يكون للملاقي جهة أُخرى تكون سبباً لوجوب الاجتناب عنه. وأمّا لو كانت كذلك، بأن كانت نجاسته ثابتةً بعلم تفصيليّ أو بأصل شرعيّ، كاستصحاب النجاسة أو أمارة، فلا إشكال - حينئذٍ - في نجاسة الملاقي ولزوم ترتيب آثار النجس الواقعيّ عليه.

ص: 459

النقطة السادسة:
اشارة

أنّ محلّ البحث إنّما هو في أنّ الملاقاة مع أحد أطراف ما علم نجاسته إجمالاً، الذي يجب الاجتناب عنه من باب المقدّمة العلميّة، هل يحكم بوجوب الاجتناب عن هذا الملاقي، أم لا؟

والجواب: أنّه بناءً على نجاسة الملاقي، فيما لو علمنا بنجاسة الملاقى - بالفتح - تفصيلاً، بالوجدان أو التعبّد بالسراية، بمعنى: الانبساط واتّساع دائرة موضوع النجس، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عنه، أي: عن الملاقي، فإنّه كما يجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - يجب الاجتناب عنه هو أيضاً، ويكون المقام بمثابة ما إذا جعل الكأس الذي هو أحد أطراف العلم الإجماليّ كأسين، فإنّه بعد جعله كأسين، لا يخرج عن كونه طرفاً، بل كلا الطرفين طرف واحد من أطرافه.نعم، لو بنينا على أنّ نجاسة الملاقي من المجعولات الاستقلاليّة، وإن كان منشأ هذا الجعل وملاك المجعول قد حدث فيه بواسطة الملاقاة وتأثيره فيه، فتكون نجاسة الملاقي مشكوكة، ومن هنا ذهب الاُستاذ المحقّق) إلى أنّه تجري فيه - حينئذٍ - قاعدة الطهارة بلا إشكال (1)؛ لعدم تبيّن الملاك.

لا يقال: ففيما لو كشفنا الملاك فيكون الاجتناب واجباً، وإن لم نعلم بورود الأمر.

ص: 460


1- انظر: منتهى الاُصول 2: 271.

فإنّه يقال: قد ذكرنا مراراً أنّه لا سبيل إلى العلم بالملاك إلّا مع وجود الأمر.

في صور الملاقاة:

تارةً: يكون الواجب هو الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى، وثانيةً: بالعكس، وثالثةً: يجب الاجتناب عن كليهما، فالصور ثلاث:

وملخّص البحث في هذه الصور:

أنّ العلم بنجاسة بالملاقي، إن حصل قبل العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقي وصاحبه، فإنّه يدخل في أطراف العلم الإجماليّ، فتقع المعارضة بين الأصل الجاري في الملاقي وبين الأصل الجاري في الطرف الآخر، أي: طرف الملاقى.

وإذا حصلت الملاقاة بعد العلم الإجماليّ، فإنّ الأصلين اللّذين يجريان في الملاقى والطرف الآخر يتساقطان، وبما أنّ الأصل الجاري في الملاقى سببيّ، والأصل الجاري في الملاقي مسبّبيّ، فيكون بينهما تقدّم وتأخّر في الرتبة، ففي الرتبة السابقة على جريان أصالة الطهارة في الملاقي، يتعارض أصل الطهارة في الملاقى مع أصل الطهارة في طرفه، فيتساقطان؛ لكونهما في رتبة واحدة، ومع تعارضهما وتساقطهما، يبقى الأصل الجاري في ا لملاقي بلا معارض.وبعبارة أُخرى: فإنّ العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقى - بالفتح - أو طرفه، لمّا كان متقدّماً على العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقي أو طرف

ص: 461

الملاقى - بالفتح - فلا محالة: لا يكون هذا العلم الثاني منجّزاً، وذلك لتنجّز طرف الملاقى - بالفتح - من قبل العلم الإجماليّ الأوّل، فلا يكون العلم الإجماليّ الثاني مؤثّراً التنجيز في هذه الصور بالنسبة إليه، كما لا يكون مؤثّراً بالنسبة إلى الملاقي أيضاً.

فإذا عرفت ذلك، فلابدّ من معرفة الاحتمالات في كيفيّة تنجّس الملاقي، وفي المقام احتمالات عدّة:

الأوّل: أن تكون الملاقاة سبباً لحدوث النجاسة في الملاقي، على حدّ الاُمور التكوينيّة، ومن أسبابها وعللها.

ويردّه - كما أسلفنا -: أنّا نعلم بأنّ نجاسة الملاقي بسبب الملاقاة، هي كأصل نجاسة الملاقى - بالفتح - من الاُمور الجعليّة والأحكام الشرعيّة، وليست من الاُمور والأسباب التكوينيّة.

الثاني: أن يقال بأنّ عنوان ملاقي النجس موضوع آخر حكم الشارع فيه بالنجاسة في عرض سائر النجاسات.

وفيه - كما ذكرنا سابقاً -: أنّ الفقهاء لم يذكروا عنوان ملاقي النجس في عداد النجاسات، كما مرّ. كما أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة ومعاقد الإجماعات إنّما هو أنّ النجاسة الواردة على الملاقي إنّما حصلت له من قبل ملاقاته للنجس.

الثالث: أن يقال بتوسيع دائرة النجس، بمعنى: النجاسة الموجودة في النجس قد انبسطت وسرت إلى ملاقيه، فبعد أن كان موضوع هذه

ص: 462

النجاسة قبل ذلك ضيّقاً ومختصّاً بالملاقى، فهو - الآن - قد أصبح واسعاً بحيث يشمل الملاقي أيضاً.

ويردّه - كما عرفنا آنفاً -: أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بالنسبة إلى الاُمور التكوينيّة، كاللّون أو الطعم أو الرائحة، فإنّ هذه الاُمور الواردة على موضوعاتها يمكن أن تتعدّى من الملاقى إلى ملاقيه بعد حصول الملاقاة، بل وحتى ولو لم تحصل ملاقاة فعليّة - أيضاً - كما إذا كانتالميتة - مثلاً - بجنب الحوض، فإنّ ماءه يكتسب رائحة الميتة ولو لم تحصل الملاقاة، فتتّسع دائرة موضوع هذا العرض، وهكذا، حتى ينعدم كلّيّاً بحسب النظر العرفيّ.

وأمّا لو قلنا بأنّ النجاسة - كما هو الحقّ - هي من المجعولات الشرعيّة، وإن كان جعلها لأجل وجود مفسدة في ترك الاجتناب عنها، كسائر الأحكام الشرعيّة التي تكون في جعلها تابعة للمصالح والمفاسد، ومجعولة عن ملاك لاحظه المولى في متعلّقاتها، فلا يكون لها - حينئذٍ - القابليّة للانبساط والسراية.

اللّهمّ إلّا بأن يصير الملاقي والملاقى أمراً واحداً عرفاً، كالماء النجس الذي يطهر بملاقاته للكرّ؛ لأنّ العرف يراهما بعد الملاقاة ماءً واحداً، أو لأنّ الشارع جعلهما شيئاً واحداً بالتنزيل والتعبّد، على حدّ (الطواف بالبيت صلاة)، بأن جعل الطواف وجوداً تنزيليّاً للصلاة، فصار - لذلك - يترتّب عليه من الحكم ما يترتّب على الصلاة.

ص: 463

ولكن يمكن أن يستدلّ بما رواه عمرو بن شمر عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: «أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر(علیه السلام): لا تأكله، فقال الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها، قال: فقال له أبو جعفر(علیه السلام): انّك لم تستخفّ بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك، إنّ اﷲ حرّم الميتة من كلّ شيء» (1).

فإنّ ما يظهر من هذه الرواية هو السراية، أعني: سراية النجاسة من الملاقي - بالفتح - للملاقي، وأنّ الملاقاة تكون منشأً لحصول ملاك جعل النجس في الملاقي، والرواية، وإن كانت ضعيفة، ولكنّها تكون مؤيّدة لما هو المرتكز في الأذهان من أنّ منشأ النجاسة في الملاقي نجاسة الملاقى، حيث جعلت الرواية ترك الاجتناب عن هذا الطعام الذي وقعت فيه الفأرة استخفافاً بالدين، معلّلاً ذلك بأنّ اﷲ حرّم الميتة من كلّشيء، ولولا أنّ نجاسة الميتة ووجوب الاجتناب عنها يقتضي وجوب الاجتناب عن الطعام الملاقي لها، لم يكن معنى لجواب الإمام(علیه السلام) بذلك.

ولو فرض أنّ نجاسة الملاقي للميتة ليست لأجل السراية، وإنّما لكونها فرداً آخر للنجاسة مستقلاً، تثبت بتعبّد آخر صادر من الشارع وراء التعبّد بالميتة، ما كان الإمام(علیه السلام) ليعلل بأنّه استخفاف بتحريم الميتة، إذ بناءً على

ص: 464


1- وسائل الشيعة 1: 206، الباب 5 من أبواب الماء المضاف والمستعمل، ح 2.

هذا الفرض المذكور، فإنّ نجاسة الملاقي لا يكون لها ربط أصلاً بنجاسة الملاقى، حتى يكون ترك الاجتناب استخفافاً بحرمة الميتة.

وعليه: فالرواية ظاهرة في أنّ نجاسة الملاقى بنفسها تكون سبباً ومؤثّراً لنجاسة الملاقي.

وأمّا ما قيل: من أنّه «يمكن أن يكون وجه السؤال عن الطعام الذي وقعت فيه الفأرة هو الجهل بنجاسة الفأرة، لا تنجيسها، فأراد السائل أن يستعلم نجاسة الفأرة، غايته: أنّه لما كان مغروساً في ذهنه نجاسة الملاقي للنجس، استعلم نجاسة الفأرة بالسؤال عن الطعام الذي وقعت فيه، فأعلمه الإمام(علیه السلام) بنجاسة الفأرة على طبق ما كان مغروساً في ذهنه، فقال(علیه السلام): (لا تأكله)، ثمّ إنّ السائل استخفّ بنجاسة الفأرة بقوله: (الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها)، فأجابه الإمام(علیه السلام) بأنّ الاستخفاف بنجاسة الفأرة استخفاف بالدين؛ لأنّ اﷲ تعالى حرّم الميتة من كلّ شيء...» (1).

ففيه: أنّ الظاهر أنّ نجاسة الفأرة كانت مركوزة في ذهن السائل.

ولذا قال الاُستاذ المحقّق!: «وأمّا الأخبار الظاهرة في السراية، فالمراد منها: أنّ نجاسة الملاقى - بالفتح - منشأ لحصول ملاك جعل النجاسة في الملاقي - بالكسر -، ومن هذه الجهة أُطلق عليهاالسبب

ص: 465


1- فوائد الاُصول 4: 80.

والمؤثّر، وبهذه العناية يصحّ استناد نجاسة الملاقي إلى الملاقى - بالفتح - » (1).

ويؤيّد ذلك: أنّ السائل في الرواية قال: «الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها»، أي: من أجل الميتة، وقال له الإمام بما حاصله: أنّك لو أكلت ذلك الطعام لكنت مستخفّاً بشيءٍ ممّا حرّمه اﷲ، وهو استخفاف بأحكام اﷲ تعالى.

ويؤيّد ما ذكرناه من الارتكاز - أيضاً -: ما يقولونه من أنّ الماء العالي الوارد على النجس، لا يتنجّس، وإن كان قليلاً؛ لأنّ العرف لا يرى السراية من الداني إلى العالي.

وقد تحصّل بما ذكرناه: أنّ التصرّف في بعض الأطراف لا يكون حراماً شرعاً، وإنّما هو حرام عقلاً، فلا يكون في صورة عدم الموافقة والمصادفة للواقع موجباً للفسق، إلّا بناءً على حرمة التجرّي.

نعم، لو قلنا بحرمة التجرّي، فهذا الحكم العقليّ بوجوب الاجتناب عن جميع الأطراف هل يوجب بطلان البيع وفساده فيما لو باع بعض الأطراف أم لا؟

الحقّ: أنّه لو كان هناك أصل سببيّ، كأصالة عدم الملكيّة أو أصالة عدم السلطنة، ولم يكن لهذا الأصل معارض في الطرف الآخر، فإنّه يقدّم

ص: 466


1- منتهى الاُصول 2: 365.

على أصالة الصحّة، ويحكم معه بفساد البيع.

وأمّا لو لم يكن مثل هذا الأصل موجوداً، فالكلام تارةً في مقام الثبوت وأُخرى في مقام الإثبات.

أمّا في مقام الثبوت: فإن صادف وقوع البيع على ما هو المغصوب في الواقع، كان البيع فاسداً، وإلّا، فلا.

وأمّا في مقام الإثبات، فإن قلنا بأنّ العلم الإجماليّ بالنسبة إلى تنجّز التكليف المحتمل في الأطراف علّة تامّة، فلا معنى لجريان أصالةالصحّة، ولو في طرف واحد، وبلا معارض، فتجري - حينئذٍ - أصالة الفساد.

وإن قلنا بالاقتضاء، لا العلّيّة التامّة، فلا مانع من جريان أصالة الصحّة؛ لعدم معارضتها بجريان مثلها في الطرف الآخر، لعدم وقوعها، أي: المعاملة، على سائر الأطراف، كما هو المفروض.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّه بعد الالتزام بعدم جواز التصرّف في نفس الأطراف من باب المقدّمة العلميّة، فالمنع يأتي بالنسبة إلى المنافع أيضاً، لو علم بغصبيّة أحدها، سواء كان لها وجود استقلاليّ، كالثمرة بالنسبة إلى الشجرة، أو اللّبن بالنسبة إلى الغنم ومطلق ذي اللّبن، أم لم يكن لها وجود استقلاليّ، كسكنى الدار أو ركوب الدابّة أو السفينة أو السيارة أو أمثالها، فيجب الاجتناب عن جميعها بحكم العقل - أيضاً - من باب المقدّمة العلميّة؛ للاجتناب عن الحرام المعلوم في البين.

ص: 467

وينبغي أن يُعلم هنا: بأنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ منوطة بتعلّقه بأحد أمرين: إمّا بتكليف فعليّ على كلّ تقدير، بمعنى: تنجّز التكليف المعلوم بالإجمال وفعليّته في أيّ طرف من الأطراف كان، كالعلم بوجوب الظهر أو الجمعة، وإمّا بما هو تمام الموضوع للحكم الفعليّ، كالعلم بخمريّة أحد الإناءين. فيجب - حينئذٍ - ترتيب آثار المعلوم بالإجمال في كلّ ما يكون مقدّمة لتحقّق العلم بالامتثال.

وأمّا إذا لم يتعلّق بما هو تمام الموضوع، بل تعلّق بما هو جزء الموضوع للحكم الشرعيّ، لم يكن العلم الإجماليّ منجّزاً، كما إذا علم إجمالاً بأنّ أحد الجسدين ميّت إنسانٍ والآخر جسد حيوان؛ فإنّ هذا العلم الإجماليّ لا يكون منجّزاً، ولا يوجب حكم الشارع بوجوب غسل مسّ الميت؛ لأنّ حكمه مترتّب على مسّ ميت الإنسان، وهذا العلم الإجماليّ بحسب الفرض لم يثبت إلّا جزءاً من موضوع هذا الحكم، وهو أنّ الممسوس ميت. وأمّا جزؤه الآخر، وهو كونه إنساناً، فهو لم يُعلم حتى يتنجّز حكمه؛ لاحتمال أن يكون الممسوس جسد الحيوان، ومعه:فيجري الأصل النافي - من قبيل أصالة عدم تحقّق موجب الغسل أو أصالة البراءة عن وجوبه - بلا معارض.

وهذا مسلّم كبرويّاً، وإنّما وقع الكلام بينهم في تطبيق هذه الكبرى على بعض الموارد، ومنها: أنّه هل يحكم بنجاسة ملاقي بعض الأطراف، ويعطى حكم الملاقي لعين النجس في وجوب الاجتناب عنه أم لا؟

ص: 468

فيقال: إنّه لمّا كان حكم الشارع بالتنجّس منوطاً بما إذا كانت الملاقاة لعين النجس على وجه خاصّ، والمفروض عدم إحراز هذا الموضوع في ملاقي بعض الأطراف، فلا وجه للحكم بالنجاسة.

وكيف كان، فبعد أن ظهر الفرق بين القول بالسراية وبين القول بالتعبّد، فقد ذكر الشيخ الأعظم) أنّ الحكم بتنجّس ملاقي أحد المشتبهين يبتني على هذين القولين، قال):

«وهل يُحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان، بل قولان مبنيّان على أنّ تنجّس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس، بناءً على أنّ الاجتناب عن النجس يُراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه، ولو بوسائط...».

إلى أن قال: «أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين، وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعيّ سببيّ يترتّب على العنوان الواقعيّ من النجاسات، نظير وجوب الحدّ للخمر، فإذا شكّ في ثبوته للملاقي، جرى فيه أصل الطهارة وأصل الإباحة» (1).

وأورد عليه صاحب الكفاية! في حاشيته على الرسائل بمنع ابتناء القولين على المبنيين المذكورين، بقوله:

«لا يخفى: أنّ تنجّس الملاقي للنجس، ولو جاء من قبل وجوب

ص: 469


1- فرائد الاُصول 2: 239 - 240.

الاجتناب عنه، بأن كان الخطاب الدالّ على وجوب الاجتناب عنه دالّاً على وجوب الاجتناب عن ملاقيه عرفاً، غير مستلزم للحكم بنجاسة ملاقي أحد الطرفين؛ لأنّ العقل الحاكم في الباببوجوب الاجتناب إنّما يحكم به من باب المقدّمة العلميّة، وهذا الباب منسدّ في طرف الملاقي، فكيف يتعدّى حكمه إلى ما ليس فيه ملاكه ومناطه؟! فتأمّل جيّداً» (1).

ومحصّل كلامه): أنّ نجاسة الملاقي تتوقّف على سراية النجاسة من الملاقى المعلوم النجاسة إليه، حتى يكون الملاقي محكوماً بحكم الملاقى، والمفروض أنّ الملاقاة كانت لما هو محتمل النجاسة بالاحتمال المنجّز؛ لوقوعه طرفاً من أطراف العلم الإجماليّ، ولم تكن ملاقاة لمعلوم النجاسة حتى يحكم بنجاسته، فلا وجه - حينئذٍ - لتسرية الحكم إلى الملاقي؛ لما عرفت من أنّ تمام الموضوع لحكم الشارع بالنجاسة بوجوب الاجتناب عن الملاقي إنّما هو ملاقي النجس أو المتنجّس - بناءً على أنّ المتنجّس ينجّس - وهو ما لم يحرز بعد حتى يكون مشمولاً للدليل.

ولكن فيه: أنّ السراية سبب لاتّحاد المتلاقيين في الحكم، وليس المراد إثبات الحكم الشرعيّ بنجاسة الملاقي حتى يقال: إنّه هنا لم يُلاقِ معلوم النجاسة أو التنجّس، وإنّما لاقى محتمل النجاسة، فلا يحكم بنجاسته.

ص: 470


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 244.

وإنّما المراد إثبات كونه متنجّزاً كتنجّز ملاقيه، وإثبات دخوله تحت عموم منجّزيّة العلم الإجماليّ؛ فإنّ مناط وجوب الاجتناب عن الأطراف عقلاً هو المقدّميّة، وهذا المناط موجود كلٍّ من الملاقي والملاقى على وزانٍ واحد.

وبالجملة: فإنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ لا تقتضي أزيد من لزوم رعاية المعلوم الذي يكون منجّزاً في كلّ طرفٍ من أطرافه، وكلّ ما يكون مقدّمة علميّة لإحراز امتثاله، كما هو كذلك بناءً على السراية بمعنى الانبساط، وأمّا ما لا يكون مقدّمة علميّة له، كما هو كذلك بناءً على التعبّد، فلا يؤثّر فيه العلم الإجماليّ.ومن هنا يتّضح ما ذكرناه سابقاً: من أنّه لو شرب أحد الكأسين المعلوم بخمريّة السائل في أحدهما، فلا يحدّ، وإن صادف ما شربه الخمر الواقعيّ، ولو كان أصل الشرب منهما غير جائز، سواء قلنا بالعلّيّة التامّة للتنجّز أو بالاقتضاء، كما أنّه لو قلنا بعدم الاقتضاء أيضاً؛ لأنّ موضوع الحدّ ليس هو الخمر الواقعيّ، وإنّما موضوعه ما ثبتت خمريّته عند الشارب بطريق معتبر من علمٍ أو علميّ.

نعم، لو شرب من جميع الأطراف، مع الالتفات، يحدّ.

ثمّ إنّه لا فرق في عدم جواز الاستفادة من المنافع، متّصلةً كانت أم منفصلة، لا فرق بين فرض وجود العين الأصليّة، التي هي طرف العلم الإجماليّ، وبين فرض تلفها، أو خروجها عن محلّ الابتلاء؛ لأنّ العلم

ص: 471

الإجماليّ بعدما نجّز التكليف المعلوم بالإجمال، وسقطت الاُصول بالمعارضة بناءً على القول بالاقتضاء، أو لم تجرِ أصلاً بناءً على القول بالعلّيّة التامّة.

ولكن أورد عليه اُستاذنا المحقّق! بما حاصله - بتوضيحٍ منّا -:

بأنّه بناءً على القول بالعلّيّة: فوجود العلم الإجماليّ المنجّز في زمان ما، لا يكفي للتنجّز إلى الأبد، بل لابدّ من وجوده في كلّ زمان يحتاج إلى وجود المنجّز في ذلك الزمان.

ولا يمكن - بحسب الفرض - أن نثبت ذلك إلّا من خلال العلم الإجماليّ المؤرّب، كما في باب التدريجيّات، بأن يكون هذا الطرف يجب الاجتناب عنه الآن، أو ذلك الآخر في الزمان المتأخّر، كما لو وقع منه معاملتان، إحداهما في أوّل الشهر، والأُخرى في آخره، ويعلم إجمالاً ببطلان إحدى المعاملتين. بل وكذلك على القول بالاقتضاء (1).

وقد يقال هنا: إنّ الاُصول قد سقطت بالمعارضة قبل تلف بعض الأطراف، أو قبل خروجها عن محلّ الابتلاء، ومع سقوطها بالمعارضة، فلا مجال لعودها بعد التلف أو بعد خروجه.ولكنّ هذا - كما أفاد اُستاذنا المحقّق) - كلام ظاهريّ لا أساس له من الصحّة (2).

ص: 472


1- انظر: منتهى الاُصول 2: 279.
2- المصدر نفسه.

ثمّ قال):

«كلّ ما ذكرنا كان مبنيّاً على العلم بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي للنجس هل هو من جهة سراية النجاسة من الملاقى - بالفتح - إليه، أو من جهة حكم الشارع بنجاسته مستقلّاً من دون سراية النجاسة من الملاقى - بالفتح - إليه» (1).

الأمر السادس :العلم الإجماليّ في التدريجيّات:
اشارة

قد ظهر ممّا ذكرنا: أنّه لا فرق في منجّزيّة العلم الإجماليّ للتكليف في جميع الأطراف بين أن تكون أطرافه دفعيّة الوجود، كما في نجاسة أحد الكأسين الموجودين، أو تدريجيّة الوجود، وكذلك لا يُفرّق في تدريجيّ الوجود بين أن يكون الزمان دخيلاً في الملاك، كالحيض في أوّل الشهر أو في آخره في مستدام الدم، أو لم يكن كذلك، كما لو علم إجمالاً بفساد إحدى المعاملتين؛ لأنّها ربويّة، إمّا معاملته التي أنجزها في أوّل الشهر، أو في آخر الشهر؛ فإنّه على جميع هذه التقادير، تثبت منجّزيّة العلم الإجماليّ لجميع الأطراف.

أمّا إذا لم يكن الزمان المتأخّر دخيلاً في الملاك، فإنّه يعلم الآن بوجود ملاك النهي والمفسدة، ومع القطع بوجود الملاك تتنجّز كافّة الأطراف ببركة العلم الإجماليّ.

ص: 473


1- المصدر نفسه 2: 280.

وأمّا في هذه المعاملة التي تقع في أوّل الشهر أو في آخره، فإنّه، وإن لم يكن له علم بوجود النهي المتوجّه إليه الآن - بناءً على عدمتعيّنه وإنكاره الواجب المعلّق - فلأنّه يعلم الآن بفساد هذه المعاملة التي تصدر في آخر الشهر تدريجاً.

ومعه: يحكم العقل بوجوب الاجتناب عن تلك المعاملة التي لها مفسدة لازمة الترك، بلا فرق بين أن تنطبق على المعاملة الاُولى أو الثانية، فيجب الاجتناب عن جميع المحتملات حتى يحصل له اليقين بالاجتناب عن المعاملة المشتملة على تلك المفسدة اللّازمة الترك.

وأمّا ما يكون الزمان فيه دخيلاً في الملاك، فقد يقال:

بأنّه تجري في جميع أطرافه أصالة الحلّ أو البراءة؛ لأنّه لا تعارض بين الأصلين؛ إذ ليس هناك خطاب فعليّ معلوم، ولو إجمالاً، في البين في زمان جريان كلّ واحدٍ منهما؛ إذ في ظرف فعليّة كلّ طرف، فالطرف الآخر يكون خارجاً عن محلّ الابتلاء، ولكن بما أنّه يعلم أنّه بإجراء الأصل في جميع الأطراف يكون سبباً لوقوعه في المفسدة التي هي لازمة الترك، فالعقل يحكم بلزوم الاجتناب عن جميع الأطراف.

فلا فرق في نظر العقل بين أن يعلم - مثلاً - بأنّ وطء إحدى زوجاته الآن حرام ومبغوض للمولى للعلم إجمالاً بأنّ إحداهما الآن في زمان حيضها، وبين أن يعلم إجمالاً بأنّ وطء هذه الزوجة المعيّنة، إمّا مبغوض في أوّل الشهر - مثلاً - أو في آخره، مع أنّ الزمان المتأخّر دخيل في

ص: 474

خطاب المتأخّر وملاكه قطعاً.

ومن الواضح: أنّه لا يمكن قياس المقام على الشبهة البدويّة التحريميّة التي يحصل فيها العلم بالمخالفة بعد الارتكاب؛ إذ هناك لا حكم للعقل بوجوب الاجتناب؛ لمكان الجهل وعدم وجود منجّزٍ في البين.

وأمّا فيما نحن فيه، فإنّ علم المكلّف بوجود المبغوضيّة في إحدى المعاملتين وترتّب المفسدة معلومة على الارتكاب، إمّا بهذا الفعل أو بالفعل في الزمان المتأخّر، يكون كافياً في البيان والتنجّز، ومعه: فلابدّ من ترك جميع الأطراف؛ لمنجّزيّة العلم الإجماليّ.

وأمّا الشيخ الأعظم) فيظهر منه أنّه يجري البراءة أو الإباحة في هذا القسم، أعني: ما إذا كان الزمان المتأخّر دخيلاً في الخطاب المتأخّر،وبناءً على ذلك، فلا يكون هناك فرق بين جريان الأصل في بعض الأطراف، أعني: المخالفة الاحتماليّة، وبين إجرائه في جميع الأطراف، أعني: المخالفة القطعيّة، وذلك لوحدة المناط في كليهما.

فعلى هذا المبنى، وهو البناء على عدم منجّزيّة العلم الإجماليّ هنا وإمكان جريان الأصل النافي، فإذا علم إجمالاً بأنّ إحدى معاملاته التي ستصدر منه في هذا الشهر تكون ربويّةً، أمكن جريان أصالة الحلّ في الجميع، وكذلك، تجري أصالة البراءة عن المحرّمات على الحائض في جميع الأطراف أيضاً.

قال الشيخ الأعظم): «وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة

ص: 475

التدريجيّة، فالظاهر جواز المخالفة القطعيّة؛ لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعيّ بالنسبة إليه، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبهٍ إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحةً وتحريماً» (1).

هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ.

وأمّا من ناحية الحكم الوضعيّ، فالمعاملة تكون باطلة لجريان أصالة الفساد، وعدم حصول النقل والانتقال. ولا ملازمة بين الحلّيّة الظاهريّة وبين النقل والانتقال؛ لأنّ الأوّل ناتج عن جريان أصالة الحلّ، والثاني ناتج عن جريان أصلٍ آخر، وهو أصالة الفساد.

قال الشيخ الأعظم):

«فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض، فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة؛ لعدم جريان استصحاب الطهر، وفي المثال الثاني إلى أصالة الإباحة والفساد، فيحكم في كلّ معاملةٍ يشكّ في كونها ربويّةً بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها وعدم ترتّب الأثر عليها؛ لأنّ فساد الربا ليس دائراً مدار الحكمالتكليفيّ، ولذا يفسد في حقّ القاصر بالجهل والنسيان والصغر على وجهٍ» (2).

وقد استشكل المحقّق النائيني! في جريان أصالة الصحّة الحاكمة على أصالة الفساد بما حاصله: أنّ جريان أصالة الصحّة منوط بوقوع

ص: 476


1- فرائد الاُصول 2: 249.
2- المصدر نفسه.

المعاملة خارجاً، فلا تجري قبل وقوعها كما هو الشأن في المقام.

وإليك نصّ كلامه):

«وكذا لا يجوز الرجوع إلى أصالة الصحّة الجارية في العقود إجماعاً، الحاكمة على أصالة عدم النقل والانتقال؛ لأنّ مورد أصالة الصحّة هو العقد الواقع المشكوك في صحّته وفساده، لا العقد الذي لم يقع بعد كما في المقام؛ لأنّه قبل صدور المعاملة في أوّل النهار وآخره يُشكّ في صحّتها وفسادها، والمرجع في مثل ذلك ليس إلّا أصالة عدم النقل والانتقال» (1).

ولكن يجاب عنه: بأنّ هذا الإشكال في غير محلّه؛ لأنّ كلّ معاملة بعد أن أوقعها فيشكّ في ترتيب الأثر عليها، وما تقتضيه أصالة عدم النقل والانتقال هو عدم ترتيب الأثر عليها، غير أنّ مقتضى أصالة الصحّة - بعد كونها حاكمة على أصالة عدم النقل والانتقال - هو لزوم ترتيب الأثر عليها.

ولكنّ الحقّ: أنّه بعد العلم الإجماليّ بكون إحدى المعاملتين مخالفةً للواقع، فلا محالة: لا يجري شيء من الأصلين؛ إلّا لو قلنا بعدم جريان العلم الإجماليّ في التدريجيّات؛ فإنّه - حينئذٍ - تكون كافّة المعاملات الواقعة في تمام الشهر صحيحةً وحلالاً، ويكون اللّازم ترتيب الأثر على جميعها.

ص: 477


1- فوائد الاُصول 4: 113.
تنبيهان:
الأوّل:

الكلام في الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة في الشرائط والموانع:

لا يخفى: أنّه بعدما قلنا بفعليّة العلم الإجماليّ ومنجّزيّته، فلا يفرّق بين أن يكون الاشتباه والترديد في نفس الماُمور به، كما إذا علم إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة، أو في قيوده الوجوديّة، التي تسمّى ﺑ (الشرائط)، كالقبلة والساتر، أو العدميّة، المسمّاة ﺑ (الموانع)، كغير مأكول اللّحم. فمثلاً: لو تردّدت القبلة بين أطراف، أو تردّد السائر بين النجس والطاهر، أو مأكول اللّحم وغير المأكول، فيجب تكرار الصلاة إلى حين حصول الموافقة القطعيّة، بأن يكرّر الصلاة إلى الجوانب التي يحتمل أن تكون فيها القبلة، حتى يحصل له اليقين بوقوع صلاته إلى القبلة، أو يجب عليه التكرار إلى أن يحصل له اليقين بوقوع الصلاة في غير النجس، حيث إنّه لا فرق في لزوم الإتيان بما هو الواجب بين أن يكون وجوبه نفسيّاً أو غيريّاً، استقلاليّاً أو ضمنيّاً، فبعد وصول التكليف إليه، فلابدّ من الخروج عن عهدته، والإتيان بما أراده المولى، بجميع قيوده الوجوديّة والعدميّة، كلّ ذلك بحكم العقل.

ففي جميع الصور، يجب عليه الاحتياط والإتيان بالعمل مكرّراً حتى يحصل له الخروج عن عهدة التكليف، وحتى يقطع بحصول الامتثال،

ص: 478

إلّا أن يكون عاجزاً عن ذلك، فيسقط عنه - حينئذٍ - نظراً إلى كونه مشروطاً بالقدرة.

فما نُسب إلى ابن إدريس) من الصلاة عارياً عند اشتباه الساتر بالنجس، في غير محلّه.

وكذا ما نسب إلى المحقّق القمّيّ! من الفرق بين ما إذا كان دليل القيد الوجوديّ أو العدميّ مثل الأوامر والنواهي الغيريّة، نحو: (لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه)، أو (صلّ مستقبلاً القبلة)، فكلّ من المانعيّة والشرطيّة تسقط عند الاشتباه، وبين أن يكون من قبيل نفي الطبيعةبوجوده أو بعدمه، مثل (لا صلاة إلّا بطهور)، ونحو ذلك، فقال بعدم السقوط عند الاشتباه.

فغير صحيح، كما عرفت وجهه.

نعم، لو فرض أنّ شرطيّة الشرط أو مانعيّة المانع كانت مشروطةً بالعلم التفصيليّ بهما، فيسقطان عند عدمه، وإن حصل العلم الإجماليّ بهما.

وإلّا، ففيما عدا ذلك، فالحقّ - كما بيّنّاه - أنّه بعد القول بمنجّزيّة العلم الإجماليّ على حدّ العلم التفصيليّ، فلا فرق بين جميع أقسام الواجب في وجوب الاحتياط.

الثاني:

في كيفيّة النيّة في العبادات في الشبهات البدويّة والمقرونة بالعلم الإجماليّ:

ص: 479

فرّق الشيخ الأنصاريّ! بينهما، فقال:

«الثاني: أنّ النيّة في كلٍّ من الصلوات المتعدّدة، على الوجه المتقدّم في مسألة الظهر والجمعة، وحاصله:

أنّه ينوي في كلٍّ منهما فعلها احتياطاً؛ لإحراز الواجب الواقعيّ المردّد بينها وبين صاحبها تقرّباً إلى اﷲ، على أن يكون القرب علّةً للإحراز الذي جُعِل غايةً للفعل.

ويترتّب على هذا: أنّه لابدّ من أن يكون حين فعل أحدهما عازماً على فعل الآخر؛ إذ النيّة المذكورة لا تتحقّق بدون ذلك؛ فإنّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصداً لامتثال الواجب الواقعيّ على كلّ تقدير.

نعم، هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له، لا مطلقاً، وهذا غير كافٍ في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها» (1).وحاصل ما أفاده): أنّ الشبهة إن كانت مقرونةً بالعلم الإجماليّ، فالإتيان بالعمل باحتمال الأمر به لا يكفي لوقوعه عبادة، بخلاف الشبهة البدويّة، فإنّه فيها يكفي الإتيان به بداعي احتمال أن يكون ماُموراً به.

وبناءً على ذلك، ففيما نحن فيه، وهو الشبهة المقرونة بالعلم الإجماليّ، فلو نوى الإتيان بأحد الأطراف المعلوم وجوبه إجمالاً، فلابدّ وأن يكون ناوياً الإتيان بالطرف الآخر أيضاً.

ص: 480


1- فرائد الاُصول 2: 302 - 303.

فلو أتى بأحد هذه الأطراف من دون أن يكون قاصداً للإتيان ببقيّة الأطراف، فضلاً عمّا لو قصد عدم الإتيان بها أصلاً، فلا يكون عمله صحيحاً، ولا يقع عبادة، حتى وإن فرض أنّه اكتشف بعد إتيانه بأحدها بأنّ ما أتى به كان هو الواجب واقعاً؛

إذ لابدّ له من قصد ذلك الأمر المعلوم في البين، والذي من المحتمل أن يكون متعلّقاً بهذا المحتمل الذي جاء به، ويحتمل أن يكون متعلّقاً بالطرف أو الأطراف الأُخرى.

ولازم هذا القصد - كما أشرنا -: أن يكون عازماً حال الإتيان بأحد الأطراف للإتيان بالبقية، وإلّا لم يصدق عليه أنّه كان قاصداً لذلك الأمر المعلوم في البين، بل إنّما أتى به باحتمال الأمر، وهو لا يفيد؛ إذ لابدّ أن يكون العمل منبعثاً عن ذلك الأمر المعلوم، لا عن احتمال أمرٍ غير معلوم، كما في الشبهات البدويّة.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا يمكن له الانبعاث عن ذلك المعلوم بالنسبة إلى هذا المحتمل؛ لأنّه لم يعلم أنّه تعلّق بهذا المحتمل، بل ما هو المعلوم احتمال أن يكون هذا متعلّق ذلك الأمر، فلا يمكن أن يكون الداعي أمراً لم يتعلّق به. فيكون حاله من هذه الناحية حال الشبهة البدويّة.

نعم، بعد أن قلنا بمنجّزيّة العلم الإجماليّ على نحو العلّة التامّة، فتجب الموافقة القطعيّة، فلو لم يأتِ ببقيّة الأطراف، واتّفق أنّ الواجب كان فيها، كان في تركه للبقيّة عاصياً، وإلّا، كان متجرّياً، كما هو كذلك

ص: 481

بالنسبة إلى مخالفة سائر الحجج غير المصادفة للواقع.وبعبارة أُخرى: فإنّ الحكم الشرعيّ المستكشف من الحكم العقليّ وإن فرض تبعيّته للحكم العقليّ إثباتاً، ولكنّه ليس تابعاً له في مقام الثبوت.

نعم، يمكن أن يكون تابعاً لمناطه في عالم الثبوت، كما يمكن أن لا يكون تابعاً لذلك أيضاً، فحتى لو فرض انتفاء مناط الحكم العقليّ، فإنّ مناط الحكم الشرعيّ يمكن أن يكون موجوداً.

ولو فرض فقد قيد من القيود المأخوذة فيما هو الموضوع لحكم العقل، وحكمنا - لذلك - بانتفاء مناطه، فمجرّد مجيء الاحتمال يكون كافياً في جواز جريان الاستصحاب، بعد تماميّة موضوعه، وهو القطع بالحدوث في الزمان السابق، فيستصحب.

المبحث الثاني: الكلام في الأقلّ والأكثر:
اشارة

وهما تارةً استقلاليّان، وأُخرى ارتباطيّان.

والشكّ في كلٍّ منهما تارةً يكون في الأسباب والمحصّلات، وأُخرى في الأجزاء، وثالثةً في الشرائط والموانع.

وفي الصورة الاُولى، تارةً تكون الأسباب عقليّة أو عاديّة وأُخرى تكون شرعيّة.

إذا عرفت ذلك، فلا شكّ في جريان البراءة مطلقاً في الأقلّ والأكثر

ص: 482

الاستقلاليّين، بلا فرق بين أن تكون الشبهة وجوبيّة أو تحريميّة، غاية الأمر: أنّه في الشبهة الوجوبيّة تجري البراءة عن الأكثر؛ لأنّ الشبهة بالنسبة إليه تكون بدويّةً، وأمّا في الشبهة التحريميّة فتجري البراءة عن الأقلّ؛ وذلك بسبب انحلال العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ وشكٍّ بدويّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ تسمية مثل هذا العلم بالعلم الإجماليّ لا تخلو من مسامحة؛ بل هو من أوّل الأمر، في الشبهة الوجوبيّة، عبارة عن علم تفصيليّ متعلّق بوجوب الأقلّ، وشكّ بدويٍّ في وجوب الأكثر. وأمّا في الشبهة التحريميّة فبالعكس من ذلك، أي: أنّه علم تفصيليّ بحرمة الأكثروشكّ بدويّ في حرمة الأقلّ. ففي الشبهة الوجوبيّة، يكون الأقلّ هو القدر المتيقّن، فالشكّ في وجوب الأكثر يرجع إلى الشكّ البدويّ، وأمّا في الشبهة التحريميّة، فالأكثر هو القدر المتيقّن، والشكّ في الأقلّ بدويّ، وذلك كالغناء - مثلاً - فإنّ الأكثر، وهو ترجيع الصوت مع الطرب، قدر متيقّن؛ لكونه مقطوع الحرمة، وأمّا الأقلّ، وهو ترجيع الصوت بلا طرب، يكون مشكوكاً.

الفرق بين الاستقلاليّ والارتباطيّ:

والعمدة في الفرق بين الاستقلاليّ والارتباطيّ، هو أنّه في الارتباطيّ ليس هناك إلّا تكليف واحد يكون متعلّقاً بالأكثر، وأمّا الاستقلاليّ،

ص: 483

ففيه تكاليف متعدّدة على تقدير وجوب الأكثر، إذ يوجد تكليف مستقلّ بوجوب مقدار الأقلّ من الدين، وتكليف مستقلّ آخر بأداء الزائد على فرض أنّ الأكثر هو الذي كان واجباً.

وإن شئت قلت: في الاستقلاليّ، لو كان الأكثر واجباً، فإنّ هذا التكليف ينحلّ إلى تكليفين اثنين: أحدهما متعلّق بالأقلّ، والآخر بالأكثر، وهو الزائد، ومن هنا يثبت لكلّ واحدٍ من هذين التكليفين امتثال يخصّه.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الأقلّ في الاستقلاليّ مخالف للأكثر من ناحيتين: الأُولى: الغرض والملاك، والثانية: الأمر والتكليف؛ فإنّ الأغراض والملاكات فيه متعدّدة، كما أنّ الأوامر والخطابات كذلك أيضاً. وذلك كالدين المردّد بين الدرهم والدرهمين، فهنا أغراض وملاكات وموضوعات وأوامر وأحكام متعدّدة.

ومن هنا نرى: أنّ إطلاق الأقلّ والأكثر عليهما إنّما يكون من باب المسامحة والعناية، أي: باعتبار أنّ الدرهم الواحد أقلّ من الدرهمين، وأنّ الدرهمين كثير الدرهم، وإلّا، فقد عرفنا أنّ لكلّ واحدٍ من الدراهم تكليفاً على حدة، وبعثاً بحياله.

وأمّا الارتباطيّ، فالغرض فيه يكون قائماً بالأجزاء الواقعيّة، فإنّ الواجب لو كان هو الأكثر، كان الأقلّ خالياً من الملاك والغرضوالبعث من رأس، فيكون وزانه من عالم التكوين وزان المعاجين، فكما أنّ الأثر المطلوب لا يترتّب على المركّب إلّا بجميع أجزائه، ولا تحصل الغاية

ص: 484

إلّا باجتماع كافّة تلك الأجزاء، بلا زيادةٍ فيها ولا نقيصة، فكذلك في الاُمور العرفيّة والمركّبات الاعتباريّة أيضاً، كما لو أراد الملك تخويف الأعداء وإرعابهم، فقام باستعراض جنوده؛ فإنّ الإرعاب والتخويف إنّما يحصلان باستعراضه لصفوف من الجند، لا باستعراض واحدٍ منهم أو بعضٍ قليل.

وممّا ذكرناه تعرف: أنّ الملاك في الاستقلاليّة والارتباطيّة إنّما هو كثرة التكليف ووحدته، باعتبار وحدة الغرض.

ومن هنا ظهر: ضعف ما قد يقال من أنّ الملاك في الارتباطيّة والاستقلاليّة إنّما هو وحدة التكليف وكثرته، لا وحدة الغرض والملاك.

وجه الضعف: أنّ الغرض والملاك حيث إنّه متقدّم على التكليف، فوحدة التكليف وكثرته إنّما هي باعتبار الغرض الذي كان داعياً إلى التكليف، فلا معنى لجعل المتأخّر عن الملاك الواقعيّ ملاكاً لتمييزها.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّه لا سبيل لفهم وحدة الملاك والغرض إلّا بوحدة التكليف، فمن هنا يصحّ ما قالوه من أنّ الملاك لهما هو وحدة التكليف وكثرته.

والتحقيق أن يقال: إنّ الفرق بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين وغير الارتباطيّين، يكمن في أنّ المركّب الارتباطيّ يتألّف من أشياء يكون بين

ص: 485

الأوامر المتعلّقة ملازمة من حيث الثبوت والسقوط، كتلازم الملاكات والأغراض الداعية إلى تلك الأوامر، التي هي في حقيقة الأمر أمر واحد يكون بما له من الوحدة منبسطاً على تلك الأشياء التي فرضنا المركّب مؤلّفاً منها.

وأمّا المركّب الاستقلاليّ فهو مركّب من أشياء يتعلّق بها عدد من الأوامر التي لا ملازمة بينهما من ناحيتي الثبوت والسقوط، بل يُفرض لكلٍّ منها إطاعة مستقلّة.وعلى هذا الأساس: فالحكم والأمر في المركّب الارتباطيّ واحد، وأمّا في الاستقلاليّ فمتعدّد، فمثلاً: الأمر بالتكبيرة في الصلاة - التي هي من المركّبات الارتباطيّة - لا يسقط إلّا مع سقوط الأوامر المتعلّقة ببقيّة أجزائها، من الركوع والسجود والتسليم وغيرها، ولأجل هذا كان الشكّ فيه من صور الشكّ في المكلّف به، فلو تردّد أمر الصلاة - مثلاً - بين تسعة أجزاء أو عشرة؛ فإنّ مقتضى كونها مركبّاً ارتباطيّاً هو عدم سقوط أمر الصلاة فيما لو أتى بالتسعة فقط دون العاشر المشكوك في جزئيّته، وأمّا في الاستقلاليّين، فإنّ وجوب الأكثر غير مرتبط بوجوب الأقلّ، فلا يكون وجوده دخيلاً أصلاً في صحّة الأقلّ وسقوط أمره؛ إذ الأمر المتعلّق بالأقلّ، هو كالأمر المتعلّق بالأكثر، نفسيّ استقلاليّ، وبالتالي: فإنّ الغرض يترتّب عليه مطلقاً، سواء أتيت معه بالأكثر أم لا.

ص: 486

وذلك نظير الدين وقضاء الفوائت إذا تردّد الأمر فيهما بين الأقلّ والأكثر، فإنّ الإتيان بالأقلّ فيهما، يوجب سقوط الأمر بالأقلّ، ولو كان الأكثر واجباً في الواقع، حيث إنّ وجوبه كان استقلاليّاً.

فيتحصّل بذلك: أنّ الفرق بين الوجوب الاستقلاليّ والارتباطيّ هو تعدّد التكليف في الاستقلاليّين، المستلزم لتعدّد الإطاعة والعصيان فيه، ووحدة التكليف في الارتباطيّ، وعدم تعدّد الإطاعة والعصيان فيه.

وقد ظهر ممّا بيّنّاه: أنّه بناءً على انحلال العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ بوجوب الأقلّ وشكّ بدويّ في وجوب الزائد عليه تكون المسألة مندرجة في باب الشكّ في التكليف.

وأمّا بناءً على عدم الانحلال، فهي تدخل في باب الشكّ في المكلّف به، الذي يجب معه الإتيان بالأكثر عقلاً، تماماً كما يحكم العقل بوجوب الاحتياط عند دوران الأمر بين المتباينين.

وينبغي أن يُعلم هنا: أنّ البحث في الأقلّ والأكثر لا يتأتّى إلّا بعد الفراغ عن جهتين:الاُولى: الالتزام بالبراءة في الشبهة البدويّة.

والثانية: الالتزام بمنجّزيّة العلم الإجماليّ عند دوران الأمر بين المتباينين.

والسبب في ذلك: أنّ من يقول بالاحتياط في مورد الدوران بين الأقلّ

ص: 487

والأكثر يدّعي عدم انحلال العلم الإجماليّ، وإلحاق الأقلّ والأكثر بالمتباينين، فإذا لم يثبت الاحتياط في المتباينين، فلا يثبت أيضاً فيما نحن فيه.

كما أنّ من يقول بالبراءة يدّعي انحلال العلم الإجماليّ، وأنّ الشبهة في وجوب الأكثر شبهة بدويّة، فإذا لم نكن في مرحلة مسبقة قد أثبتنا البراءة في الشبهات البدويّة، فلا مجال لتوهّمها في محلّ الكلام.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الجزء المشكوك دخله:

تارةً: يكون جزءاً خارجيّاً، أي: تكون زيادته في الأقلّ بحسب الوجود الخارجيّ، كالجزء الزائد في المعجون المحتمل دخله فيه، وهو ما له وجود على حدة محتمل أخذه في الماُمور به.

وأُخرى: يكون جزءاً تحليليّاً عقليّاً، وهو ما لا وجود له في الخارج على حدة، بل هو وسائر الأجزاء التي تكون كذلك موجودة بوجود واحد، وهذا كالفصول والأنواع.

وثالثةً: يكون جزءاً ذهنيّاً، وهو ما لا وجود له في الخارج أصلاً، وإنّما يكون وجوده باعتبار أنّ لمنشأ انتزاعه وجوداً، وذلك كالتقيّد للمقيّد، فإنّ الموجود في الخارج إنّما هو ذلك المقيّد.

ومنشأ انتزاعه تارةً يكون مبايناً في الوجود مع المقيّد، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، وأُخرى يكون من عوارضه وأحواله، كالسواد والبياض، والكفر والإيمان، فالمعتبر في الوجود الذهنيّ إنّما هو تقييده، لا نفسه،

ص: 488

فالشكّ فيه شكّ في الشرطيّة نفسها، وقد يتصوّر بالنسبة إلى الماُمور به والمقيّد بتقيّده بعدم ذلك الشيء، كالتقييد بعدم المانع؛ لأنّ وجوده مخلّ بالماُمور به.ولا يخفى: أنّ البحث في مسألة الأقلّ والأكثر إنّما يتصوّر فيما لو فرض الأقلّ مأخوذاً لا بشرط، حتى يكون محفوظاً في ضمن الأكثر، وأمّا لو كان مأخوذاً بشرط لا، فإنّ الأقلّ - حينئذٍ - لا يكون أقلّ الأكثر، بل يكونان متباينين، فتكون المسألة - حينئذٍ - من صغريات دوران الأمر بين المتباينين، لا بين الأقلّ والأكثر.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّه في الاستقلاليّين يكون هناك تكليفان: تكليف بوجوب الأكثر، وتكليف آخر بوجوب الأقلّ يَثبت له على حدة وباستقلاله، أي: من دون أن يكون له علاقة بالتكليف الأوّل، لا ثبوتاً ولا سقوطاً. وأمّا في الارتباطيّ، فليس إلّا تكليف واحد؛ لأنّ الغرض، والحالة هذه، واحد.

ولكن بناءً على هذا، ففي المركّب الارتباطيّ، في الشبهة التحريميّة، لابدّ أن يكون القدر المتيقّن هو الأقلّ، وذلك لدوران الأمر بين أن يكون الأقلّ حراماً مستقلّاً لو كان هو الحرام واقعاً، وبين أن يكون حراماً ضمنيّاً لو كان الأكثر هو الحرام كذلك، فيكون وجوب الأكثر مشكوكاً على كلّ حال، فتجري البراءة فيه.

غير أنّهم لم يلتزموا بذلك في الشبهة التحريميّة، وإنّما قالوا به في

ص: 489

الوجوبيّة، فإنّ المتيقّن في الواجبات هو الأقلّ، إذ هو الواجب، وتجري البراءة فيما سواه، الذي هو الأكثر، وأمّا في التحريميّة، فقد قالوا بعكس ذلك، وأنّ القدر المتيقّن هو الأكثر، ويمكن التمثيل له بمثالين: حرمة تصوير تمام الجسم من ذوات الأرواح، وحرمة حلق تمام اللّحية؛ فإنّه - مع كونه الأكثر - هو المتيقّن من حرمة التصوير وحرمة الحلق، وأمّا تصوير البعض من الجسم، وحلق البعض من اللّحية، فهو ليس إلّا مشكوكاً بالشكّ البدويّ، فتجري فيه البراءة بلا مانع.

الشكّ بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات:

وأمّا لو كان الشكّ شكّاً بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات، فلا إشكال في عدم جريان فيه عن الأكثر مطلقاً، بلا فرق بين أن تكون هذه الأسباب عاديّة أو شرعيّة.

أمّا في الأسباب العقليّة والعاديّة:

فعدم جريانها ممّا لا إشكال فيه؛ لأنّ شمول مثل حديث الرفع الشكّ منوط بأمرين: أوّلهما: أن يكون المرفوع من المجعولات الشرعيّة، أو كان موضوعاً لأثر شرعيّ. والثاني: أن يكون في رفعه امتنان.

وفيما نحن فيه، فالسببيّة - أوّلاً - ليست من المجعولات الشرعيّة.

وثانياً: فهي، حتى على تقدير كونها من المجعولات المذكورة، لا امتنان في رفعها؛ وذلك لأنّ رفعها عن الأكثر لا يثبت سببيّة الأقلّ، فلا يكون

ص: 490

لرفع السببيّة عن الأكثر معنى إلّا أنّ الحكم الشرعيّ باقٍ بلا سبب، وأين الامتنان في هذا؟!

وكذلك كان التكليف قطعيّاً، فمثلاً: يجب قطعاً عليه أن يذكّي هذا الحيوان، فإذا شكّ في سببيّة الأقلّ، واحتمل أن يكون الأكثر هو السبب - بعد فرض أنّ التذكية معنى بسيط وأمّا فري الأوداج وحصول بقيّة المقدّمات فهي أسباب عاديّة لها - فيشكّ في امتثال التكليف لو أتى بالأقلّ من الأسباب، فيكون مجرى لقاعدة الاشتغال؛ لأنّ الشكّ - حينئذٍ - يكون شكّاً في المحصّل، وليس شكّاً في أصل التكليف، فيكون الاكتفاء بالأقلّ موجباً للشكّ في الامتثال، والشكّ في الامتثال - كما هو معلوم - مجرىً لقاعدة الاشتغال، لا للبراءة، إلّا إذا ثبتت سببيّة الأقلّ، ولكن قد فرضنا بأنّه ليس من الموارد التي تنالها يد الجعل والتشريع، إذ هي إمّا عقليّة وإمّا عاديّة.

وأمّا الأسباب والمحصّلات الشرعيّة:

فهي على قسمين:الأوّل: الاختراعيّة، كغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين على الكيفيّة التي شرّعها الشارع وأقرّها بالنسبة إلى الطهارة الحدثيّة.

والثاني: الإمضائيّة، وذلك ﻛ (بعت) و(اشتريت) في العقود، أو (زوجتي طالق) في الإيقاعات.

وفي القسمين جميعاً، ليست السببيّة هي المجعول الشرعيّ، بل

ص: 491

المجعول إنّما هو ثبوت التكليف أو الوضع عند وجود وتحقّق ما نسمّيه ﺑ (السبب)، فتكون السببيّة ممّا ينتزع بعد الجعل، وهكذا المسبّبيّة أيضاً، وأين هذا من كون أحدهما أو كليهما هو المجعول الشرعيّ؟

ومعه: فيكون حالهما - أعني: السببيّة والمسبّبيّة - حال الأسباب والمسبّبات العاديّة والعقليّة، فلا يمكن جريان البراءة.

قد يقال: يمكن أن تكون الجزئيّة مجعولة للسبب المجعول، فإذا شككنا حينئذٍ في جزئيّة شيءٍ أو شرطيّته أو مانعيّته لما هو السبب الشرعيّ، فلنا أن نتمسّك بحديث الرفع.

ولكن فيه:

أوّلاً: ما عرفته أنّ المجعول إنّما هو المنشأ الذي منه تنتزع السببيّة، لا نفسها.

ثانياً: على تقدير أن تكون هي المجعولة، فبعد جعلها لا يبقى مجال لجعل الجزئيّة؛ والسرّ في ذلك: أنّه بعد فرض تعلّق الجعل بالمركّب من عدّة أشياء مقيّداً بوجود شيءٍ قبله، أو بعده، أو معه، أو بعدم شيءٍ كذلك، فحينئذٍ: ينتزع منه - قهراً - الشرطيّة أو الجزئيّة أو المانعيّة، فلا نحتاج إلى جعل شيءٍ من هذه العناوين الثلاثة، بل لا يمكن ذلك إلّا بعد أن يتمّ رفع منشأ انتزاعها، وهذا كما أنّه في باب الأقلّ والأكثر في نفس متعلّقات التكاليف، يصار إلى رفع الجزئيّة المشكوكة هناك بنفس رفع التكليف عن الأكثر.

ص: 492

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء:

أمّا دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء في متعلّق التكليف، وليس المقصود من الأقلّ والأكثر ها هنا إلّا الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، ومثال المقام: ما إذا شكّ في جزئيّة السورة - مثلاً - للصلاة، فهل تجري البراءة في الزائد على الأقلّ، وهي الأجزاء المشكوكة، أم لا، فيه خلاف.

والأقوال هنا ثلاثة:

الأوّل: ما اختاره الشيخ الأعظم)، وهو القول بجريان البراءة مطلقاً، عقليّةً ونقليّة، قال!: «فالمختار جريان أصل البراءة. لنا على ذلك: حكم العقل وما ورد من النقل» (1).

الثاني: ما هو منسوب إلى المحقّق السبزواري)، وهو القول بعدم جريان شيء من البراءتين، وأنّ الحكم هو وجوب الاحتياط، وذلك لا يكون إلّا بالإتيان بالأكثر.

قال الشيخ الأعظم): «بل الإنصاف أنّه لم أعثر في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواري! على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط» (2).

ص: 493


1- فرائد الاُصول 2: 317 - 318.
2- المصدر نفسه 2: 317.

الثالث: التفصيل بين البراءة الشرعيّة والعقليّة، والقول بجريان الأُولى دون الثانية، وهو مختار صاحب الكفاية! (1).

وقد استدلّ! على ذلك بوجهين:

الأوّل: منجّزيّة العلم الإجماليّ للتكليف.والثاني: العلم بعدم تحقّق الغرض إلّا بالإتيان بالأكثر.

قال): «والحقّ أنّ العلم الإجماليّ بثبوت التكليف بينهما - أيضاً - يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر؛ لتنجّزه به حيث تعلّق بثبوته فعلاً ... إلى أن قال: مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يُحرز إلّا بالأكثر...» (2).

وأمّا القول الأوّل، فيبتني على انحلال العلم الإجماليّ المذكور، بجريان البراءة عقلاً ونقلاً، وللشيخ! طريقان إلى الانحلال:

الأوّل: أنّ يقال بوجوب الأقلّ تفصيلاً، إمّا نفسيّاً، لو كان واجباً بنفسه، أو غيريّاً، لو كان الواجب هو الأكثر.

والثاني: أنّ الأقلّ واجب بالوجوب النفسيّ، ولكنّ وجوبه النفسيّ هذا مردّد بين كونه استقلاليّاً أو ضمنيّاً.

وحاصل مراده!: أنّ العلم الإجماليّ بالوجوب النفسيّ المردّد بين الأقلّ والأكثر لا يستلزم وجوب الاحتياط، بعدما كان هذا العلم منحلّاً

ص: 494


1- كفاية الاُصول: 363.
2- المصدر نفسه: 363 و 364.

بما عُلِم وجوبه تفصيلاً، وهو الأقلّ، ووجوبه التفصيليّ هذا إمّا بنحو الوجوب النفسيّ لو كان هو الماُمور به، أو الوجوب الغيريّ، لو كان الماُمور به هو الأكثر.

وبما أنّ العلم التفصيليّ بإلزام المولى به حاصل وموجود، فلا يضرّ كون وجهه معلوماً بالعلم الإجماليّ، وهو تردّده بين النفسيّ والغيريّ؛ لأنّ الذي هو معتبر في الانحلال إنّما هو العلم التفصيليّ بالإلزام، ولو كان مع إجمال وترديد من ناحية وجهه؛ فإنّ موضوع حكم العقل باشتغال الذمّة ليس إلّا العلم بذات الوجوب، وأمّا العلم بخصوصيّة هذا الوجوب، فليس شرطاً.

وعلى هذا الأساس: يكون التكليف بالنسبة إلى الأقلّ منجّزاً ويترتّب على تركه ومخالفته العقاب؛ إذ هو واجب على كلّ تقدير، أي: بلا فرقٍ بين كون الوجوب ثابتاً في الواقع للأكثر وبين عدم كونه كذلك، فيكونالأقلّ هو القدر المتيقّن، فبتركه يثبت استحقاق العقاب، حيث كان تركاً لما هو الواجب على كلّ تقدير.

وهذا بخلاف ما لو كان تركه من ناحية الأكثر، فإنّه لمّا لم يكن وجوب الأكثر منجّزاً، فلا يكون تركه له موجباً لاستحقاق العقاب والمؤاخذة، فيكون التكليف بالنسبة إليه من التكليف بلا بيان، فيندرج تحت موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهو معنى جريان البراءة العقليّة.

وأمّا نقلاً: فإنّ الأخبار الدالّة على البراءة، التامّة سنداً ودلالةً، كحديثي

ص: 495

الرفع والحجب ونحوهما؛ إذ يصدق على وجوب الأكثر، وهو وجوب الجزء المشكوك، أنّه ممّا حجب علمه عن العباد، فيكون موضوعاً عنهم، ولا يعارضه أصالة البراءة عن وجوب الأقلّ؛ لأنّ الأقلّ متيقّن الوجوب، كما أسلفنا، غاية الأمر: أنّ وجوبه يكون مردّداً بين النفسيّ والغيريّ، فبعد أن كان المرفوع مجعولاً شرعيّاً وفي رفعه منّة، فيكون العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر مرتفعاً ببركة هذه الأخبار، بعد أن كانت حاكمةً عليه وموجبةً لانحلاله.

فإن قلت: بل لا تجري البراءة؛ لأنّ أدلّتها مختصّة بالوجوب النفسيّ المشكوك، دون الغيريّ، لأنّ منشأ حكم العقل باستحقاق العقاب إنّما هو مخالفة الأوّل، دون الثاني.

قلت: بل مخالفة الغيريّ - أيضاً - موجبة لاستحقاق العقاب، على الأقلّ، لجهة كونه منشأً لترك الواجب النفسيّ.

فتحصّل بذلك: أنّ مقتضي جريان البراءة الشرعيّة موجود، وهو شمول الأدلّة، وأنّ المرفوع مجعول شرعاً، وفي رفعه منّة، والمانع منه، وهو العلم الإجماليّ، مفقود؛ لفرض انحلاله، بالبيان المتقدّم.

وردّه صاحب الكفاية) بقوله:

«وتوهّم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقلّ تفصيلاً والشكّ في وجوب الأكثر بدواً - ضرورة لزوم الإتيان بالأقلّ لنفسه شرعاً، أو لغيره كذلك أو عقلاً، ومعه: لا يوجب تنجّزه لو كان متعلّقاً بالأكثر - فاسدقطعاً؛

ص: 496

لاستلزام الانحلال المحال، بداهة توقّف لزوم الأقلّ فعلاً، إمّا لنفسه أو لغيره، على تنجّز التكليف مطلقاً، ولو كان متعلّقاً بالأكثر، فلو كان لزومه كذلك مستلزماً لعدم تنجّزه إلّا إذا كان متعلّقاً بالأقلّ، كان خلفاً» (1).

وحاصل ما أفاده«: أنّه خلف، فكما أنّه إذا قيل: يجب تقليد الأعلم، ثمّ قيل: تقليد غير الأعلم أيضاً جائز، كان على خلاف ما فُرِض أوّلاً، فكذلك ما نحن فيه؛ فإنّ ما يدّعى من انحلال العلم الإجماليّ هنا في غير محلّه؛ لأنّ هذا الانحلال إنّما يتصوّر لو قلنا بأنّ المقدّمة، وهو الأقلّ، كان واجباً على كلّ تقدير، أي: وإن كان الأكثر واجباً.

مع أنّه لو كان الأكثر واجباً، لم يكن وجوب الأقلّ منجّزاً قطعاً؛ لأنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها في التنجّز، والمفروض عدم تنجّز وجوب ذيها، وهو الأكثر؛ إذ التنجّز في الأقلّ إنّما يكون فيما إذا تعلّق الوجوب به، لا بالأكثر، مع أنّ المعتبر في الانحلال إنّما هو تنجّز الأقلّ على كلّ تقدير.

وبعبارة أُخرى: فإنّ تنجّز الأكثر لابدّ وأن يكون له دخل في الانحلال، وإلّا، لم يكن وجوب الأقلّ منجّزاً على كلٍّ من تقديري وجوبه: النفسيّ والغيريّ، مع أنّه لا يمكن أن يكون له دخل؛ لأنّ دخله مانع من الانحلال، وهذا من الخلف المحال.

ص: 497


1- كفاية الاُصول: 364.

ولكنّ الحقّ: أنّ التنجّز بالنسبة إلى الأقلّ لا توقّف له على التنجّز بالنسبة إلى الأكثر؛ إذ الانحلال وتنجّز التكليف بالنسبة إلى الأكثر متنافيان ولا يمكن اجتماعهما، ويكون خلفاً.

نعم، الانحلال مبنيّ على العلم بوجوب ذات الأقلّ على كلّ تقدير، أي: على تقدير وجوب الأقلّ في الواقع، بنحو الإطلاق، وعلى تقدير وجوبه في الواقع، فبنحو التقييد. فيكون ذات الأقلّ معلوم الوجوب، وإنّما كان الشكّ شكّاً في الإطلاق والتقييد.وليس أخذ التنجيز على كلّ تقدير شرطاً للانحلال، حتى يقال: إنّ الوجوب المتعلّق بالأقلّ لا يصبح منجّزاً إلّا بتنجّز الأكثر، ومع تنجّزه، فلا يقع الانحلال.

وأمّا القول الثاني، وهو ما ذكره صاحب الحاشية! بقوله:

«إذا تعلّق الأمر بطبيعة العبادة المفروضة فقد ارتفعت به البراءة السابقة وثبت اشتغال الذمّة بها قطعاً، إلّا أنّه يدور الأمر بين الاشتغال بالطبيعة المشتملة على الأقلّ أو المشتملة على الأكثر، وليست المشتملة على الأقلّ مندرجةً في الحاصلة بالأكثر، كما في مسألة الدين، فإنّ اشتغال الذمّة هناك بالأكثر قاضٍ باشتغالها بالأقلّ، لعدم ارتباطٍ هناك بين الأجزاء، بخلاف المقام؛ إذ المفروض ارتباط بعض الأجزاء بالبعض، وقضاء زوال كلّ جزءٍ منها بزوال الكلّ، وكونها في حكم العدم الصرف.

والقول بأنّ التكليف بالكلّ قاضٍ بالتكليف بالجزء قطعاً بخلاف

ص: 498

العكس لا يُثمر في المقام؛ إذ القدر المعلوم من ذلك تعلّق التكليف التبعيّ بالجزء في ضمن الكلّ، إلّا أن يتعلّق به تكليف على الإطلاق، ولو انفصل عن بقيّة الأجزاء» (1).

وحاصله: أنّه بناءً على دوران الأمر بين الوجوب الاستقلاليّ أو الضمنيّ، فمآل الشكّ إلى الدوران بين المتباينين، وذلك لأنّ الأقلّ، على تقدير وجوبه الضمنيّ، يكون قد أُخذ بشرط شيء، وعلى تقدير وجوبه الاستقلاليّ، يكون مأخوذاً بشرط لا عن الزيادة، فيكون علمه الإجماليّ المردّد بين وجوب الأقلّ ووجوب الأكثر راجعاً إلى المتباينين، فلا يكون هناك علم تفصيليّ في البين حتى يتسبّب في الانحلال.

وقد أجاب عن هذا اُستاذنا المحقّق) بأنّ الوجوب قد ورد على ذات المقدّمة، وإنّ «هذه الاعتبارات لا تغيّر الواقع عمّا هو عليه، والوجوب من الاعتبارات الشرعيّة التي تعرض على ما هو الموجودفي الخارج، وإن كان بواسطة الصورة الذهنيّة، لكن لا بما هي هي، بل بما أنّها مرآة وحاكية عن الخارج وفانية فيه، فظرف العروض وإن كان هو الذهن، ولكنّ ظرف الاتّصاف هو الخارج»، أي: والأحكام سواء كانت وضعيّة أم تكليفيّة، فإنّها إنّما ترد على أفعال المكلّفين في الخارج؛ إذ هي التي تقع على صفة الوجوب أو الحرمة أو غيرهما من الأحكام

ص: 499


1- هداية المسترشدين 3: 563.

الخمسة التكليفيّة، وكذا الحال في الأحكام الوضعيّة، فإنّ الذي يتّصف بالنجاسة إنّما هو الدم الخارجيّ، والذي يتّصف بالزوجيّة ليس إلّا الزوجة الخارجيّة، فالوجوب العارض للأقلّ في المفروض، وكذا الجزئيّة العارضة لأجزاء الأقلّ، إنّما يعرضان هذه الأجزاء الخارجيّة، التي نسمّيها بالأقلّ.

و«معلوم أنّ هذه الأجزاء لا تتفاوت بواسطة لحاظ هذه الاعتبارات، فلحاظ هذه الأجزاء: تارةً بنحو لا بشرط، باعتبار كونها واجباً نفسيّاً استقلاليّاً، وأُخرى بشرط شيء باعتبار كونها واجباً نفسيّاً ضمنيّاً» (1) لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه، ولا يؤدّي إلى حدوث فرق فيما هو معروض الوجوب، أعني: الأجزاء الخارجيّة.

بل بما أنّ هذه اللّحاظين والاعتبارين يكونان في رتبة متأخّرة عن وجوب الأقلّ؛ إذ هما ليسا حاصلين إلّا من قِبَل الوجوب نفسه، فلا يمكن أخذهما في موضوعه؛ ضرورة أنّ كلّ ما كان حاصلاً من قبل الحكم ومتأخّراً عنه امتنع أخذه في متعلّق الحكم؛ لاستلزامه تقدّمهما على ذلك الحكم، وحيث كان المفروض تقدّمه عليهما، لزم تقدّم الشيء على نفسه، وهو محال.

وبالجملة: فما هو متّصف بالوجوب، استقلاليّاً كان أم ضمنيّاً، إنّما هو

ص: 500


1- منتهى الاُصول 2: 306 - 207.

ذات الأقلّ، لا الأقلّ بوصف كونه مأخوذاً لا بشرط على أحد التقديرين، وبشرط شيء على التقدير الآخر.وتحصّل بذلك: صحّة الانحلال للعلم الإجماليّ المذكور، ومعه: فتجري كلتا البراءتين العقليّة والشرعيّة.

وقد أورد المحقّق النائيني!على هذا الانحلال بما لفظه:

«لا إشكال في أنّ العقل يستقلّ بعدم كفاية الامتثال الاحتماليّ للتكليف القطعيّ؛ ضرورة أنّ الامتثال الاحتماليّ إنّما يقتضيه التكليف الاحتماليّ، وأمّا التكليف القطعيّ، فهو يقتضي الامتثال القطعيّ؛ لأنّ العلم باشتغال الذمّة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً، ولا يكفي احتمال الفراغ؛ فإنّه يتنجّز التكليف بالعلم به ولو إجمالاً، ويتمّ البيان الذي يستقلّ العقل بتوقّف صحّة العقاب عليه؛ فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتيّ به، لا يكون العقاب على تركه بلا بيان، بل العقل يستقلّ في استحقاق التارك للامتثال القطعيّ للعقاب على تقدير مخالفة التكليف.

ففيما نحن فيه، لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلاً؛ لأنّه يشكّ في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين، ولا يحصل العلم بالامتثال إلّا بعد ضمّ الخصوصيّة الزائدة المشكوكة» (1).

ص: 501


1- فوائد الاُصول 4: 159 - 160.

وتوضيح ما رامه«:

أنّ الانحلال لا يتحقّق إلّا في المورد الذي يكون الإتيان بالأقلّ فيه موجباً للفراغ اليقينيّ عن عهدته، بمعنى: أنّ الإتيان بالقدر المتيقّن وامتثاله يوجب امتثالاً قطعيّاً له مطلقاً، أي: سواء فرضنا الوجوب الثابت له وجوباً نفسيّاً أم ضمنيّاً.

وفيما نحن فيه، ليس الأمر كذلك؛ بل الإتيان بالأقلّ هنا لا يوجب الفراغ عن عهدته مطلقاً وعلى جميع التقادير، وبالتالي: فلا يتحقّق الامتثال قطعاً؛ وذلك لأنّه لو فرض كون الأقلّ واجباً نفسيّاً ضمنيّاً، فلا يحصل الفراغ من عهدته بمجرّد الإتيان به - أي: الأقلّ - من دون ضميمة سائر الأجزاء إليه في مقام الامتثال؛ إذ هو على هذا الفرضمن الواجب الارتباطيّ، والواجب الارتباطيّ لا يحصل إلّا مع اقترانه بامتثال سائر الأجزاء مع كونه جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع.

وحيث إنّه من المحتمل في المقام أن يكون الأكثر هو الواجب الواقعيّ الارتباطيّ، فلا يكون الإتيان بالأقلّ - على هذا التقدير - موجباً للفراغ حتى بالنسبة إلى الأقلّ؛ إذ كان من اللّازم - كما عرفنا - أن يكون امتثال كلّ جزء من الواجب الارتباطيّ في ضمن امتثال الكلّ، وأنّ إتيان بعض الأجزاء لا يصحّ إلّا أن يكون بنحو مرتبط بإتيانه ببقيّة الأجزاء.

وقد أوضحنا: أنّ من شروط الانحلال أن يكون الإتيان بما هو معلوم بالتفصيل موجباً للقطع بالفراغ من قبله، حتى يبقى الشكّ بالفراغ من

ص: 502

ناحية الطرف الآخر، فبعد أن كان ثبوت ذلك الطرف الآخر مشكوكاً، وبعد فرض قيام العلم التفصيليّ في بعض الأطراف، وهو الأقلّ - مثلاً - وانحلال العلم الإجماليّ، يكون حال الطرف الآخر حال الشكّ البدويّ، بل هو هو، ليس غير، فيكون مجرى البراءة.

ومعه: فلا يبقى مجال أصلاً لورود قاعدة الاشتغال حتى يكون العقل حاكماً بلزوم الخروج عن العهدة؛ إذ لا عهدة بحكم الشارع بعد فرض جريان البراءة.

وبالجملة: فإنّ الواجب عقلاً هو الإتيان بالأكثر، وإلّا، لم يحصل قطع بالفراغ عن عهدة الأقلّ، والذي عُلم الاشتغال به بنحو العلم التفصيليّ، لا الإجماليّ، حتى يتسنّى لنا أن نقول بأنّه لا تأثير للعلم الإجماليّ بعد فرض الانحلال.

ولكن قد أجاب عنه اُستاذنا المحقّق!، وإليك نصّ كلامه:

«وفيه: أنّ التكليف بوجوده الواقعيّ لا يوجب مخالفته استحقاق العقاب، بل مخالفته يوجب ذلك بعد تنجّزه بعلم أو علميّ، ووصوله إلى المكلّف، وحكم العقل بلزوم الفراغ اليقينيّ من باب الفرار من العقاب.

وفيما نحن فيه - أي: في كلّ مورد شككنا في جزئية شيء للواجب، ولم يكن بيان على جزئيّة ذلك المشكوك الجزئيّة - فإذا أتىبما قام عليه البيان وفي الواجب الارتباطيّ لا يعاقب من ناحية ترك ذلك

ص: 503

المشكوك الجزئيّة؛ لعدم قيام البيان عن جزئيّته، فيكون العقاب بلا بيان، وهو قبيح، وهذه هي البراءة العقليّة. فالإتيان بالأقلّ موجب لرفع العقاب، ولو على تقدير كون الوجوب الواقعيّ هو الأكثر؛ لعدم تنجّز سائر الأجزاء. بل على هذا التقدير، المقدار المنجّز عليه هو مقدار الأقلّ، لا الزائد عليه.

نعم، لا يعلم بسقوط التكليف بإتيان بالأقلّ؛ لاحتمال أن يكون الواجب الواقعيّ هو الأكثر ولم يأتِ به، ولكنّ بقاءه لا أثر له؛ لعدم تنجّزه إلّا بمقدار الأقلّ».

ثمّ قال في ذيل كلامه المتقدّم:

«والعجب من شيخنا الاُستاذ! أنّه أجاب عن صاحب الكفاية بمثل هذا الجواب، ثمّ وقع هو فيه!» (1).

وهنا تقريب آخر للمحقّق النائيني! في عدم الانحلال وعدم صحّة جريان البراءة العقليّة، وقد عبّر عنه! بقوله:

«والعلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ المردّد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر، ومثل هذا العلم التفصيليّ لا يعقل أن يوجب الانحلال؛ لأنّه يلزم أن يكون العلم الإجماليّ موجباً لانحلال نفسه» (2).

ص: 504


1- منتهى الاُصول 2: 310 - 311.
2- فوائد الاُصول 4: 160.

وتفصيله بأن يقال: إنّ معنى وجوب الأقلّ هو أنّ معروض الوجوب هو هذه الأجزاء التي تسمّى بالأقلّ والمأخوذة لا بشرط عن الزيادة، ومعنى كون معروض الوجوب هو الأكثر، هو أنّ هذه الأجزاء التي تسمّى بالأقلّ، هي بعينها تكون معروضاً للوجوب الضمنيّ، ولكنّها - حينئذٍ - تكون مأخوذةً بشرط الزيادة.وهذا يعني: أنّ الأمر - حينئذٍ - يدور بين أن يكون الأقلّ واجباً نفسيّاً استقلاليّاً لا بشرط عن الزيادة، أعني: الطبيعة المطلقة، وبين أن يكون واجباً ضمنيّاً، وهو الطبيعة المقيّدة بالزيادة، وهذا هو العلم الإجماليّ بأنّ الواجب إمّا هو الأقلّ لا بشرط عن الزيادة، أو بشرط شيء، ومعناه: أنّ ثمّة علماً إجماليّاً بوجوب الأقلّ، وهو مردّد بين كونه مطلقاً أو مقيّداً.

فإذا علم تفصيلاً بوجوب الأقلّ مطلقاً، فينحلّ ذلك العلم الإجماليّ؛ لأنّ القضيّة المنفصلة المانعة الخلوّ تنحلّ إلى قضيّة حمليّة بتّيّة وأُخرى مشكوكة، وهذا هو مناط الانحلال دائماً، وأمّا لو بقيت القضيّة المنفصلة على حالها، فلا يكون هناك انحلال في البين.

وليس المعلوم بالتفصيل فيما نحن فيه هو الأقلّ بما هو مأخوذ لا بشرط، - أعني: الماهيّة المهملة المطلقة - حتى تنحلّ القضيّة المنفصلة المانعة الخلوّ إلى قضيّةٍ حمليّةٍ بتّيّة، وهي العلم بوجوب الأقلّ بما هو مأخوذ لا بشرط، وإلى قضيّةٍ أُخرى مشكوكة، وهي وجوب الأكثر.

ص: 505

بل المعلوم بالتفصيل قضيّة موضوعها الماهيّة المهملة، أي: الجامع بين الماهيّة المطلقة، وهي الأقلّ لا بشرط، وبين الماهيّة المقيّدة، وهي الأقلّ بشرط شيء، أي: بشرط الانضمام إلى بقيّة الأجزاء. وهذا هو عين العلم الإجماليّ بوجوب الجامع، أي: الماهيّة المهملة؛ فإنّ مفاده هو العلم بوجوب الأقلّ لا بشرط، أي: الأقلّ، أو بشرط شيء، أي: الأكثر، فيكون الترديد - حينئذٍ - في أنّ المعلوم هل ينطبق على الأقلّ الذي هو مقابل للأكثر، أو على الأكثر نفسه؟

فمرجع العلم التفصيليّ في المقام إلى العلم الإجماليّ، بل هو عينه، فلو قلنا بكونه موجباً للانحلال، كان موجباً لانحلال نفسه، وهو محال؛ بداهة استحالة أن يكون الشيء علّةً لعدم نفسه.

ثمّ إنّه قد يستدلّ على عدم الانحلال وعدم جريان البراءة بالنسبة إلى الأكثر، بأنّا نقطع بوجود الملاك والمصلحة الملزمة القائمة بالأقلّ أو بالأكثر، فإذا لم يأتِ بالأكثر، يشكّ في حصول ذلك الملاك والمصلحةالتي يجب استيفاؤها بحكم العقل، والعقل في مثل هذه الموارد يحكم بلزوم إتيان كلّ ما يعلم بأنّ إتيانه موجب لحصول الملاك والمصلحة وتحقّق غرض المولى، وإذا كان كذلك، كان الواجب على المكلّف أن يأتي بالماُمور به مع جميع ما يحتمل أن يكون دخيلاً فيه حتى يتأتّى له القطع بحصول الغرض والمصلحة بعد علمه تفصيلاً بوجوده.

وبناءً عليه: فلا يمكن قياس المقام بالشبهة البدويّة؛ إذ هناك، لم

ص: 506

يتحقّق القطع بالملاك، بل إنّما المتحقّق صرف احتمال وجود الملاك من جهة احتمال الوجوب، بناءً على ما هو الحقّ من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ وجود الملاك بعد البناء على التبعيّة يكون قطعيّاً لا محالة؛ وذلك لفرض حصول القطع بالحكم.

وبعبارة أُخرى: فإنّ علة الأمر حدوثاً وبقاءً هو الغرض، فسقوط الأمر متوقّف على سقوط الغرض، ومن المعلوم عدم حصول العلم بتحقّق الغرض إلّا بالإتيان بالأكثر.

وفي ذلك يقول صاحب الكفاية): «مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يُحرز إلّا بالأكثر، بناءً على ما ذهب إليه المشهور من العدليّة من تبعيّة الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهيّ عنه، وكون الواجبات الشرعيّة ألطافاً في الواجبات العقليّة، وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً في إطاعة الأمر وسقوطه، فلابدّ من إحرازه في إحرازها، كما لا يخفى» (1).

والتحقيق عدم ورود هذا الإشكال، إذ:

أوّلاً: من أين لنا الحصول على الملاك، والحال أنّنا لا نملك سبيلاً إلى العلم بوجوده إلّا بعد ورود الأمر نفسه؟

وثانياً: أنّ الملاك وإن كان في الواقع مردّداً بين الأقلّ والأكثر، ولكنّ

ص: 507


1- كفاية الاُصول: 364.

العبد لا يكون مكلّفاً بإتيان شيءٍ إلّا ما قام على إتيانه البيان،وأمّا إذا لم يكن هناك دليل وبيان، فحتى لو كان دخيلاً في غرضه، فلا يجب على المكلّف الإتيان به؛ إذ يكون هو - أعني: المولى - هو الذي فوّت الغرض على نفسه، بتركه إيصال التكليف إليه.

نعم، لو حصل للمكلّف العلم بدخوله في غرض المولى، فذلك العلم، هو نفسه، يكون كافياً حينئذٍ، لصدق البيان عليه، وأمّا مجرّد احتمال دخوله في الغرض، كما هو الحال في محلّ الكلام، فلا يكون كافياً، فتبقى قاعدة قبح العقاب بلا بيان جاريةً، ويكون العقاب عليه قبيحاً، وإن كان في الواقع دخيلاً في غرض المولى.

كما أنّ احتمال الجزئيّة يكون مرفوعاً بالأصل، فمن أين - إذاً - يتّجه إليه الحكم بوجوب تحصيل الملاك بالإتيان بالأكثر، ولو كان الأكثر في الواقع واجباً؟!

وقد أجاب عن هذا المحقّق النائيني! - في مبحث الصحيح والأعمّ (1) - بما حاصله: أنّنا نقول بالفرق بين أن يكون إتيان الماُمور

ص: 508


1- انظر: فوائد الاُصول 1: 86 - 71، وكلامه) طويل نكتفي في المقام بنقل شطرٍ منه، وهو التالي، يقول): «هذا كلّه فيما إذا كان الأثر من المسبّبات التوليديّة لفعل المكلّف، وأمّا إذا كان الأثر من الدواعي، وكان الفعل من المقدّمات الإعداديّة، فحيث لا يصحّ تعلّق إرادة الفاعل به فلا يصحّ تعلّق الأمر بإيجاده؛ لما عرفت من الملازمة، فمتعلّق التكليف إنّما يكون هو الفعل الاختياريّ لا غير، ولو شكّ في اعتبار جزء أو شرط فيه تجري فيه البراءة، إذ ليس وراء الفعل شيء تعلّق التكليف به، والمفروض أنّ الفعل المتعلّق به التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر، فالبراءة العقليّة والشرعيّة أو خصوص الشرعيّة تجري بلا مانع. فتحصّل من جميع ما ذكرنا: ضابط جريان البراءة في الأقلّ والأكثر وعدم جريانها، وأنّه لو كان الأثر المترتّب على الفعل الاختياريّ من المسبّبات التوليديّة فلا تجري فيه البراءة؛ لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في المحصّل، وإن كان الأثر من الدواعي فالبراءة تجري فيه؛ لأنّ نفس متعلّق التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر».

به علّة تامّة لحصول الملاك أو يكون من قبيل المعدّ له، كغرس الشجر مثلاً لحصول الثمر، والزرع وحرث الأرض وإلقاء البذر فيها لصيرورته سنبلاً، ونحو ذلك. فإنّه:

إن كان من قبيل الثاني، لم يجب الإتيان بكلّ ما يحتمله؛ لأنّ فعل المكلّف من حيث هو لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض والملاك، بلولا الجزء الأخير لحصوله، فيكون حصول الغرض والملاك خارجاً عن تحت قدرته واختياره، وأمّا فعله فليس إلّا معدّاً لحصوله، ومع عدم تعلّق قدرته بحصول الغرض، فلا يمكن للتكليف أن يتعلّق به، ويقبح إلزام المكلّف بإيجاده، فلا يجب عليه أن يأتي إلّا بما قام عليه البيان من نفس الماُمور به.

وأمّا لو كان من قبيل القسم الأوّل، فإنّ الأمر كما يمكن تعلّقه بالعلّة، فكذلك يمكن تعلّقه بإيجاد الملاك وما هو الغرض؛ لأنّه مقدور له، ولو بالواسطة، بل لا فرق بينهما أصلاً، والأمر بأحدهما أمر بالآخر، ففي هذا القسم يجب تحصيل الغرض والملاك؛ لأنّه الواجب في الحقيقة.

ص: 509

وبما أنّ متعلّقات الأوامر الشرعيّة غالباً، بل جميعها، تكون من قبيل القسم الثاني، لا الأوّل، فلا يبقى مجال لأن يُتمسّك بلزوم الإتيان بالأكثر بحكم العقل بلزوم تحصيل الملاك.

ولكنّ الحقّ: أنّ كون متعلّقات الأوامر الشرعيّة من قبيل القسم الثاني (وهي المعدّات) أوّل الكلام؛ لأنّ معرفة كونها من قبيل العلل التامّة أو المعدّات لترتّب ملاكاتها الداعية لتشريع أحكامها إنّما هو من جهة الأدلّة المتكفّلة لبيان ترتّبها على تلك الأفعال، بل تكون من قبيل الغرض، فإنّ ظاهر تعلّق أمر المولى بشيء كونه وافياً بغرضه.

وقد أجاب الشيخ الأنصاريّ! عن هذا الإشكال المتقدّم، بما لفظه:

«قلت: أوّلاً: مسألة البراءة والاحتياط غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة وهو لطف في غيره، فنحن نتكلّم فيها على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح، أو مذهب بعض العدليّة المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به.

وثانياً: إنّ نفس الفعل من حيث هو ليس لطفاً، ولذا لو أتى به لا على وجه الامتثال لم يصحّ، ولم يترتّب عليه لطف ولا أثر آخر من آثار العبادة الصحيحة، بل اللّطف إنّما هو في الإتيان به على وجه الامتثال، وحينئذٍ: فيحتمل أن يكون اللّطف منحصراً في امتثاله التفصيليّ مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه ... إلى أنيقول: وهذا متعذّر فيما نحن فيه؛ لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّه الواجب أو الأقلّ المتحقّق في ضمنه...»

ص: 510

انتهى موضع الحاجة من كلامه« (1).

وحاصله: أنّه يرد على الإشكال المتقدّم اعتراضان:

أوّلهما: أنّ النزاع أعمّ من أن تكون الأوامر والنواهي تابعةً للمصالح والمفاسد أم لم تكن، كما هو المذهب المنسوب إلى الأشعريّ، وهو القول بعدم التبعيّة أصلاً، لا في الماُمور به والمنهيّ عنه ولا في كلٍّ من الأمر والنهي نفسه، أم كانت تابعةً لمصالح ومفاسد في الأمر والنهي أنفسهما، كما هو المذهب المنسوب إلى بعض العدليّة.

والثاني: عدم إمكان القطع بحصول الغرض، والغرض بعد تسليم كونه في فعل العبد، ففيما لا يمكن إحرازه، لا يكون مورداً لقاعدة الاشتغال، وفي مقامنا، هو من قبيل ما لا يمكن إحرازه؛ لأنّ حصول المصلحة في العبادات، ولو كان منوطاً بقصد الإطاعة، ولكنّه يحتمل عدم حصولها بمجرّد ذلك؛ لاحتمال دخل قصد وجه أجزاء العبادة في تحقّقها أيضاً.

ومن الواضح، أنّ هذا القصد متوقّف على معرفة وجه الأجزاء من الوجوب والندب، ومع الجهل به، لا يتمشّى قصد الوجه، فلا يحصل العلم بالغرض.

وإذا لم يعلم به، لم يجب عليه إحرازه، فمن ناحية الغرض ليس هناك دليل على الإتيان بالأكثر، يبقى إلّا الإتيان بالأقلّ؛ لأنّ البيان منحصر فيه،

ص: 511


1- فرائد الاُصول 2: 319 - 321.

لأجل التخلّص عن تبعيّة التكليف المنجّز بالعلم الإجماليّ، فلو كان الأكثر في الواقع هو الواجب، فالمؤاخذة عليه بلا بيان ولا حجّة، فتكون قبيحةً بالوجدان.

ولكن يرد عليه:أمّا على جوابه الأوّل: فبأنّ عدم ورود الإشكال المزبور بناءً على مذهب الأشعريّ لا يدفعه بناءً على ما هو الحقّ عندنا من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأمّا على جوابه الثاني: فبأنّ قصد الوجه والتمييز ليس معتبراً في مقام الامتثال أصلاً، ولو كان قصد الوجه ومعرفته معتبراً في مقام الامتثال، لكان لزاماً على الشارع المقدّس، ونظراً إلى كثرة ابتلاء عامّة المكلّفين به، التنبيه على لزومه، وحيث لم يرد منه ما يدلّ على ذلك، ولا أثر منه في الأخبار، ولم يكن ممّا يحكم العقل بلزومه - حتى يقال بأنّ الشارع قد أوكل مهمّة بيانه إلى العقل، ولأجل ذلك لم يتصدَّ هو لبيانه ولم يُشر إليه - يقطع المكلّف بأنّه لم يكن دخيلاً في غرض المولى، وإلّا، لبيّنه.

التمسّك بالاستصحاب لنفي وجوب الإتيان بالأكثر:

قد يتمسّك لإثبات عدم وجوب الإتيان بالأكثر وجواز الرجوع إلى البراءة باستصحاب العدم الأزليّ، بأن يقال: هذا الجزء المشكوك لم يكن - قطعاً - جزءاً من المركّب منذ أوّل الأمر، ولم تكن الجزئيّة ثابتة له

ص: 512

في الأزل، فنشكّ في بقاء هذا العدم بعد الجعل، أي: بعد عدم وجوب الأكثر، أو عدم الجزئيّة، فيستصحب هذان العدمان في ظرف الشكّ في بقائهما، أو يستصحب العدم السابق على البلوغ، أو بلحاظ العدم في الموقّتات قبل دخول الوقت، أو بلحاظ العدم السابق على لحاظ الماُمور به قبل جعل الأحكام.

ولكن يضعّفه: أنّ صحّة جريان استصحاب العدم الأزليّ محلّ تأمّل.

وقد استشكل المحقّق النائيني! في جريان الاستصحاب في جميع هذه الصور؛ قال):«المستصحب تارةً يكون هو عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه، وأُخرى يكون هو عدم وجوب الأكثر المشتمل على المشكوك فيه، وعلى كلا التقديرين: المراد من العدم إمّا أن يكون هو العدم الأزليّ السابق على تشريع الأحكام، وإمّا أن يكون هو العدم السابق على حضور وقت العمل في الموقّتات، كقبل الزوال والمغرب والفجر بالنسبة إلى الصلوات اليوميّة، وإمّا أن يكون هو العدم السابق على البلوغ؛ وفي جميع هذه التقادير، لا يجري استصحاب العدم...» إلى آخر ما ذكره! (1).

ص: 513


1- راجع: فوائد الاُصول 4: 182.

هذا مجمل كلامه« وإليك التفصيل:

وحاصله: أنّنا نمنع من جريان الاستصحاب في جميع الصور المشار إليها، وذلك لأنّه:

في صورة كون المعلوم والمتيقّن هو العدم الأزليّ الذي يكون سابقاً على تشريع الأحكام، وكان المستصحب هو عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه، فحينئذٍ:

إن كان المراد من العدم هو العدم النعتيّ، أي: العدم الذي هو مفاد ليس الناقصة؛ أي: عدم جزئيّته أو شرطيّتة لما هو المجعول فيما بعد، بمعنى: أنّه في الأزل لم يكن هذا المشكوك جزءاً أو شرطاً للمجعول، فهو لم يكن مشكوك الجزئيّة أو الشرطيّة بعد الجعل جزءاً أو شرطاً للمركّب غير المجعول في الأزل.

وأنت خبير، بأنّ عدم الجزئيّة هذا، أعني: العدم النعتيّ قبل جعل المركّب، ليس له حالة سابقة، ولا معنى له؛ لأنّه مثل الوجوب المقابل له إنّما يكون نعتاً ووصفاً المركّب، فلا يعقل كونه قبل وجود موضوعه وتحقّقه، فلا يكون للعدم بهذا المعنى - كما ذكرنا - حالة سابقة؛ إذ هو لم يكن متيقّناً في السابق لكي يستصحب؛ فإنّه في ظرف تعلّق الجعل والتشريع واللّحاظ بأجزاء المركّب إمّا أن يكون قد شملته عناية الجعلأو لا، وليس تعلّق الجعل به متأخّراً رتبةً أو زماناً عن تعلّق الجعل بالمركّب ليحكم ببقائه وعدم انتقاضه.

ص: 514

وإن شئت فقل: إن كان المراد بهذا العدم العدم الذي هو ثابت قبل جعل المركّب، فهذا ليس له من حالةٍ سابقة لكي تستصحب، وإن كان المراد به ما هو ثابت بعد الجعل، فهذا مشكوك بحسب الفرض، ولا يقين به أصلاً.

وبعبارة أُخرى: فإنّه لو اُريد من العدم النعتيّ المذكور عدم تعلّق الجعل واللّحاظ بالمشكوك فيه في ظرف تشريع المركّب ولحاظ أجزائه، بحيث كان هذا العدم من الأوصاف والنعوت التي تلحق بلحاظ المركّب وأجزائه، فإنّه قبل هذا الظرف، لا معنى لكونه متيقّناً، كما لا يخفى، وأمّا في هذا الظرف فلحاظ جزئيّته إنّما يكون مشكوكاً، كما هو المفروض.

وإن كان المراد من العدم الذي يكون سابقاً على الجعل العدم المحموليّ، أي: عدم وجود الجعل واللّحاظ المتعلّق بهذا المشكوك فيه، فهو على الرغم من كونه متيقّناً؛ لأنّ أصل الجعل واللّحاظ من الاُمور المسبوقة بالعدم، ولكنّ هذا الاستصحاب بهذه الصورة لا ينهض لإثبات عدم جزئيّة المشكوك، ولا عدم شرطيّته، للمركّب المجعول، لكونه بالنسبة إليه من الأصل المثبت، فلا يجري إلّا على القول بجريان الأصل المثبت.

هذا كلّه إذا اُريد من العدم العدم الأزليّ.

وأمّا لو كان المراد منه العدم الذي يسبق دخول الوقت في الموقّتات،

ص: 515

فلمّا كان الوجوب مشروطاً بدخول الوقت، فقبل دخوله، لا ثبوت للوجوب، إذا كان هذا الوجوب من قبيل الوجوب المشروط، فيستصحب ذلك العدم الذي كان متيقّناً قبل دخول الوقت.

وهنا - أيضاً -:

فتارةً يراد استصحاب عدمه النعتيّ، أي عدم وجوب الجزء المشكوك فيه، أو الشرط كذلك، فيأتي فيه - حينئذٍ - نفس الإشكال المتقدّم فياستصحاب العدم الأزليّ للجزء، وهو أنّه ليس ثمّة من حالةٍ سابقة متيقّنة له؛ إذ النعت لا يمكن بدون وجود المنعوت، فلا يمكن فرضه قبل الوقت؛ لأنّه يلزم منه وجود الوصف قبل وجود الموصوف.

وأُخرى يراد استصحاب عدمه المحموليّ، أي: عدم وجود الجزء الذي يشكّ فيه قبل الوقت بما أنّه جزء أو بما أنّه واجب، ولا شكّ في تيقّن هذا العدم قبل الوقت، لعدم وجود المركّب وسائر الأجزاء المتيقّنة - أيضاً - قبل الوقت، فضلاً عن الجزء المشكوك فيه، وعليه: فأركان الاستصحاب فيه، من اليقين السابق والشكّ اللّاحق، فيه تامّة ومحرزة.

ولكن قد أورد على هذا المحقّق النائيني! بأنّه لا أثر لهذا الاستصحاب إلّا كون معروض الوجوب هو خصوص أجزاء الأقلّ - أي: الأقلّ لا بشرط - فيكون من قبيل الأصل المثبت.

قال): «... إلّا أنّ بقاء العدم المحموليّ إلى حين الزوال لا ينفع إلّا إذا

ص: 516

اُريد من ذلك انبساط الوجوب على خصوص أجزاء الأقلّ، وذلك يكون من الأصل المثبت» (1).

وأجاب عنه اُستاذنا المحقّق) بأنّ «أثر هذا الاستصحاب ليس إثبات الوجوب لأجزاء الأقلّ؛ لأنّ وجوبها متيقّن، فلا معنى لإثبات ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد واعتبار كونها لا بشرط. قلنا: إنّه خارج عن معروض الوجوب، بل أثره، أي: هذا الاستصحاب، هو رفع الوجوب أو الجزئيّة، مثل حديث الرفع.

والفرق بينهما في المقام ليس إلّا انّه أصل تنزيليّ، ومفاد حديث الرفع - أي: البراءة - أصل غير تنزيليّ، فبضميمة هذا الاستصحاب إلى الوجدان يثبت أنّه يجب عليه إتيان أجزاء الأقلّ دون الجزء المشكوك، وهو المطلوب في المقام» (2).ثمّ إنّه قد يكون المستصحب عبارة عن عدم وجوب الأكثر المشتمل على الجزء المشكوك فيه قبل الوقت، ولا شكّ في أنّ أركان الاستصحاب، من اليقين السابق والشكّ اللّاحق، تكون تامّةً في هذه الصورة.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا يجري؛ لكونه مثبتاً؛ إذ لا أثر له؛ لأنّ الواجب إنّما هو الأقلّ باستقلاله، لا في ضمن الأكثر، ومعلوم أنّ إثبات ذلك

ص: 517


1- فوائد الاُصول 4: 185.
2- انظر: منتهى الاُصول 2: 320، بتصرّف يسير.

بالاستصحاب المذكور لا يكون إلّا على القول بجريان الأصل المثبت.

إثبات الاشتغال باستصحاب القدر المشترك من الوجوب:

قد يقال بإمكان التمسّك لإثبات جريان أصالة الاشتغال في المقام باستصحاب القدر المشترك من الوجوب؛ بدعوى: أنّ الواجب - بعد فعل الأقلّ - يكون مردّداً بين ما هو مقطوع بارتفاعه وبين ما هو مقطوع ببقائه، فيستصحب ذلك المجعول الشرعيّ، وهو من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّيّ، نظير استصحاب الحيوان المردّد بين البقّ والفيل؛ لأنّ أركان الاستصحاب جميعها تامّة فيه، فبعد إتيانه بالأقلّ يشكّ في إتيان التكليف المقطوع سابقاً المردّد بين الأقلّ والأكثر، والأصل يقتضي بقاء التكليف.

وقد يورد علىه: بأنّ هذا الاستصحاب لا ينهض لإثبات الوجوب للأكثر إلّا على القول بالأصل المثبت؛ لأنّ لازم بقاء أصل التكليف المردّد بعد الإتيان بالأقلّ هو تعلّق الوجوب بإتيان الأكثر.

ويمكن الجواب عن هذا الإيراد: بأنّ الثابت بالاستصحاب هو نفس الحكم الذي هو مجعول الشارع، وهو الوجوب المعلوم بالإجمال، فيحكم ببقائه تعبّداً ببركة الاستصحاب.

وأمّا إثبات الحكم وجوب الإتيان بالأكثر فهو لم يكن بواسطة الاستصحاب حتى يقال بأنّه بالنسبة إليه أصل مثبت، بل إنّما هوبحكم

ص: 518

العقل، من باب حكمه بوجوب الإطاعة لكلّ حكم إلزاميّ، واقعيّاً كان أو ظاهريّاً.

وعليه: فالذي يترتّب على الاستصحاب هو نفس الحكم الظاهريّ ببقاء الوجوب المعلوم بالإجمال، من دون أن يثبت كون الواجب هو الأكثر خاصّةً، بل وجوب الإتيان بالأكثر إنّما يحصل بحكم العقل، ومن باب لزوم تحصيل العلم بالفراغ عما اشتغلت به الذمّة قطعاً، فنفس الشكّ في الامتثال بعد الإتيان بالأقلّ يكون كافياً في وجوب الإتيان بالأكثر، ولا نحتاج معه إلى التمسّك بالاستصحاب.

وقد ذهب المحقّق العراقي! إلى الانحلال في حكم الشرع أيضاً، بل ادّعى أنّه ليس لدينا علم إجماليّ في الحقيقة، إلّا وهماً، وإنّما الموجود ليس إلّا العلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ، والشكّ بدويّاً في وجوب الأكثر.

قال) - بعد بيانٍ مطوّل -:

«ومن ذلك، لا مجال لتشكيل العلم الإجماليّ في المقام بالنسبة إلى نفس الواجب وذات التكليف مع قطع النظر عن حدّ الأقلّيّة والأكثريّة؛ إذ لا يكون الأمر المردّد في المقام من باب مجمع الوجودين، كما في المتباينين، حتى يجيء فيه المناط المقرّر في العلم الإجماليّ من صحّة تشكيل قضيّتين منفصلتين حقيقيّتين في الطرفين، وإنّما يكون ذلك من باب مجمع الحدّين، حيث كان العلم الإجماليّ بين حدّي الوجوب

ص: 519

الطارئ بالعرض على معروضه، وإلّا، فبالنسبة إلى ذات الوجوب وحيث وجوده الذي هو مصبّ حكم العقل بوجوب الإطاعة، لا يكون إلّا علم تفصيليّ بمرتبةٍ من التكليف بالنسبة إلى الأقلّ، وشكٍّ بدويٍّ بمرتبةٍ أُخرى منه متعلّقةٍ بالزائد، كما هو ظاهر» (1).

ومحصّل كلامه: أنّ الاختلاف بين الأقلّ والأكثر لم يكن ناشئاً من اختلاف الوجوب المتعلّق بالأقلّ مع الوجوب المتعلّق بالأكثر، بلالوجوب المتعلّق بالأقلّ لم يختلف سنخاً ووجوداً، سواء سرى الوجوب إلى الأكثر أم لم يَسْرِ، بل الاختلاف - في الحقيقة - إنّما يكون من جهة اختلاف حدّ التكليف من حيث وقوفه على الأقلّ أو سرايته إلى الجزء الزائد، ومرجع الضمنيّة والاستقلاليّة إلى ذلك.

وهذا له نظير، وهو الخطّ القصير والطويل، فإنّه لو رسم شخص الخطّ القصير، ثمّ أضاف إليه ما يوجب طوله؛ فإنّ واقع الخطّ القصير لم يختلف في كلتا الحالتين، وإنّما كان الاختلاف ناشئاً من جهة الحدّ الخاصّ وثبوت الزيادة، وهي لا توجب أيّ تغيّر في واقع الخط القصير عمّا كان عليه قبل الزيادة.

وإذا اتّضح ذلك، فعند الشكّ بين الأقلّ والأكثر يكون مرجع الشكّ إلى الشكّ في ثبوت الزيادة على المقدار الأقلّ وعدمه ليس غير، وأمّا

ص: 520


1- نهاية الأفكار 3: 382.

وجوب الأقلّ فهو معلوم بالتفصيل، سواء أكانت الزيادة أم لم تكن، إذ المفروض أنّ حقيقته ووجوده واحد، وأنّه لم يطرأ عليه أيّ اختلاف على كلا التقديرين، ومعه: فلا يكون لدينا شكّ أصلاً في وجوب الأقلّ، وإنّما الشكّ شكّ في ثبوت الوجوب للجزء الزائد المشكوك، وعليه: فليس لدينا إلّا علم تفصيليّ وشكّ بدويّ، وهو معنى الانحلال.

وقد استشكل فيه بعض المحقّقين بأنّه يستفاد من كلامه دعوى عدم اختلاف سنخ الوجوب الضمنيّ والاستقلاليّ، وهو ما لا يمكن المساعدة عليه (1).

ولكن فيه: أنّ هذه الدعوى تامّة ولا غبار عليها، فإنّ الوجوب الضمنيّ - أيضاً - وجوب استقلاليّ، إذ هو كقطعة من خيمة واقعة على رأس شخص، فإنّها في عين أنّها تكون في ضمن الكلّ تكون قطعةً مستقلّة ومغايرة للقطعة التي وقعت على رأس شخصٍ آخر.وناقش الشيخ الأعظم) دعوى جريان استصحاب الاشتغال بوجه آخر، قال!:

«وممّا ذكرنا يظهر حكومة هذه الأخبار - يعني: أخبار البراءة - على استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المثبت - أيضاً - كما أشرنا إليه سابقاً - لأنّه إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر

ص: 521


1- انظر: منتقى الاُصول 5: 205.

الذي حجب العلم بوجوبه، كان المستصحب، وهو الاشتغال المعلوم سابقاً، غير متيقّن بالنسبة إلى الأقلّ، وقد ارتفع بإتيانه، واحتمال بقاء الاشتغال - حينئذٍ - من جهة الأكثر منفيّ بحكم هذه الأخبار» (1).

وأورد عليه صاحب الكفاية! في حاشيته على الرسائل بما لفظه:

«لا يخفى: أنّ استصحاب الاشتغال على تقدير صحّته حسب ما عرفت، كما هو وارد على حكم العقل بالبراءة، لو سُلّم على ما بيّنّاه، فكذلك هو وارد على هذه الأخبار، فإنّ الأكثر - حيث يتعيّن به الخروج عن عهدة التكليف الثابت بالاستصحاب على تقدير الإتيان بالأقلّ، فوجوب الإتيان به عقلاً تفريغاً للذمّة وخروجاً عن العهدة - معلوم، فكيف يكون داخلاً فيما حجب؟!

هذا لو لم نقل بالأصل المثبت. وأمّا على القول به، فالأكثر معلوم الوجوب شرعاً، فليس ممّا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على تركه، لأجل حجب العلم بوجوبه، وهذا أوضح من أنّ يحتاج إلى مزيد بيان» (2).

والتحقيق أن يقال: إنّه ليس بأصل مثبت في المقام؛ لأنّ الأصل يثبت عدم فراغ الذمّة، والعقل يحكم بوجوب الإتيان بالأكثر.ثمّ لو قلنا بأنّ مثبتات الاُصول حجّة كمثبتات الأمارات، فإنّ

ص: 522


1- فرائد الاُصول 2: 332.
2- الحاشية على الفرائد: 256.

الاستصحاب - حينئذٍ - يكون وارداً على البراءة النقليّة والعقليّة، وبخاصّةٍ بعدما بنينا على أنّه ليس من الاُصول ولا من الأمارات، بل هو بتعبيرنا: بمثابة عرشٍ للاُصول وفرش للأمارات، وما هو مسلّم إنّما هو أنّ مثبتات الاُصول ليست بحجّة، وحيث إنّ الاستصحاب -- عندنا - لا يعدّ من الاُصول، فلنا أن نثبت وجوب الأكثر بالتعبّد الاستصحابيّ.

وبالجملة: فإنّه لو كان مفاد مثل حديثي الرفع والحجب هو نفي المؤاخذة عن الشيء المجهول، وقلنا بأنّ مثبتات الاُصول حجّة، أو قلنا بأنّه هنا ليس بأصل مثبت، فمن يدّعي ورود الاستصحاب على البراءة، نقليّة كانت أو عقليّة، أو يدّعي أنّه حاكم عليهما، فدعواه هذه تامّة وفي محلّها؛ إذ - حينئذٍ - يحرز وجوب الأكثر بواسطة التعبّد الاستصحابيّ؛ وذلك لأنّ ما فرض من البيان الذي أُخذ عدمه موضوعاً لقاعدة القبح، إنّما يراد به ما هو أعمّ من البيان الظاهريّ والواقعيّ، ولمّا كان الاستصحاب محرزاً للواقع عملاً، فيكون لازمه حكم العقل بأنّ ذمّته مشغولة بالأكثر؛ لقيام الحجّة والبيان العمليّ عليه.

ومعه: فلا يبقى مجال للقول بنفي المؤاخذة عنه بمثل حديث الرفع؛ لأنّ الشكّ - كما عرفنا - قد زال تعبّداً ببركة الاستصحاب؛ فإنّ حديث الرفع، بناءً على اقتضائه لنفي المؤاخذة، يكون مساوقاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولكن بعد جريان الاستصحاب أو غيره من الأدلّة الشرعيّة التي تنهض لأن تكون بياناً، يكون الحديث بما له من المفاد المساوق للقاعدة

ص: 523

بحسب الفرض، موروداً للاستصحاب أو لتلك الأدلّة، ومعه: فإذا أتيت بالأقلّ - حينئذٍ - لا يحصل التأمين، ولا يتيقّن بفراغ الذمّة، لفرض قيام أصلٍ يثبت التكليف في طرف الأكثر، وهذا معنى أنّ الاستصحاب يكون مقدّماً.

وأمّا لو فرضنا أنّ المرفوع كان هو الحكم الواقعيّ ظاهراً، فالظاهر - حينئذٍ - حكومة الاستصحاب أو وروده - أيضاً - على حديث الرفع؛لأنّ الأكثر قد أُحرز الوجوب له ببركة الأصل، فلم يبقَ فيه شكّ حتى يتحقّق موضوع البراءة العقليّة.

وقد يقال: لا مجال هنا لجريان استصحاب بقاء الجامع؛ لأنّ الشكّ في بقائه مسبّب عن الشكّ في وجوب الأكثر واقعاً، فيكون استصحاب عدم وجوب الأكثر حاكماً عليه؛ لفرض تقدّمه عليه، من باب حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ.

إلّا أنّ هذا غير صحيح؛ لوضوح أنّ من شروط تقدّم الأصل السببيّ على المسبّبيّ، أن يكون التسبّب شرعيّاً، كما يفرض - مثلاً - بالنسبة إلى طهارة الثوب الذي جرى غسله بماء مشكوك في طهارته، ولكن كان محكوماً بالطهارة، إمّا لاستصحاب الطهارة أو قاعدتها، فإنّه مع ذلك، لا يبقى مجال لاستصحاب بقاء النجاسة في ذلك الثوب؛ ومن الواضح أنّ هذا الشرط مفقود هنا؛ حيث كان تسبّب بقاء الكلّيّ عن بقاء الفرد عقليّاً، وليس من آثاره التعبّديّة. وعليه: فضابط باب الحكومة

ص: 524

ليس بموجود هنا.

ومن هنا، كان عجيباً في المقام، أن يُدّعى اعتبار هذا الشرط في صدق الحكومة، ومع ذلك، أن يُصار إلى القول بإجراء استصحاب عدم الأكثر والقول بحكومته على استصحاب بقاء الجامع، تعميماً لقاعدة حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ.

وأمّا لو قلنا بأنّ المرفوع هو الحكم الواقعيّ، وقلنا بعدم اعتبار مثبتات الاُصول، فيكون حديث الرفع حاكماً على الاستصحاب؛ لأنّ المنفيّ - حينئذٍ- هو وجوب الأكثر المشكوك فيه، والاستصحاب قاصر عن أن يُثبت هذه الخصوصيّة.

ولكنّه مخدوش بما ذكرناه آنفاً من أنّ الاستصحاب يُثبت بقاء الجامع، والعقل يحكم بوجوب إتيان الأكثر.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ التعبير بالورود - هنا - لا يصحّ إلّا إذا كان بنحو المسامحة؛ لأنّ الشكّ لم يزل، بل هو باقٍ فعلاً، حتى بعد فرض جريان الاستصحاب، وإنّما عمد الشارع إلى إلغائه عن الاعتبار تعبّداً، ببركةجريان حديث الرفع، وإلّا، فإنّ الشكّ الذي هو موضوع للأصل العمليّ لا يزال باقياً وجداناً ولم يرتفع.

وقد ظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ الأدلّة التي ذكروها على الانحلال غير تامّة، فإثباته بها مشكل.

نعم، لا مانع من القول بما ذهب إليه الشيخ! وهو الالتزام بالتبعّض

ص: 525

في التنجيز، فإنّ الأقلّ يكون معلوم التنجّز، والأكثر من جهة الزائد مشكوك، فتجري أصالة البراءة عقلاً؛ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وشرعاً؛ تحكيماً لأدلّة البراءة الشرعيّة.

ولنا أن نتمّم ذلك بإنكار العلم الإجماليّ رأساً، وأنّه ليس في البين سوى العلم التفصيليّ والشكّ البدويّ، كما نقلناه آنفاً عن المحقّق العراقي!، وحينئذٍ: فلا يتمّ ما ادّعي من لزوم الاحتياط لأجل العلم الإجماليّ، إذ قد قلنا بعدمه أصلاً.

في الأجزاء التحليليّة والذهنيّة:

لو دار الواجب بين الأقلّ والأكثر في المركّبات التحليليّة فهل ينحلّ العلم الإجماليّ بجريان البراءة أم لا؟

قد يقال: بجريان البراءة العقليّة والنقليّة فيه بنفس البيان المتقدّم في الأجزاء الخارجيّة، بتقريب: أنّ المشروط - كما في مثل الصلاة عن طهارة - يكون متقوّماً بأمرين:

أحدهما: الذات المؤلّفة من أجزاء، أوّلها التكبير، وآخرها التسليم.

والثاني: التقيّد بالطهارة، وهو - أي: هذا التقيّد - جزء ذهنيّ.

وهذا كالمركّب من الأجزاء الخارجيّة، غاية ما هنالك: أنّ أجزاء المشروط والمقيّد بعضها ذهنيّ، وبعضها الآخر خارجيّ، ولكنّ أجزاء المركّب كلّها تكون موجودة في الخارج.

ص: 526

وبناءً عليه: فإنّ الأقلّ هنا، وهو الذات، معلوم الوجوب تفصيلاً، إمّا بنحو الوجوب النفسيّ، إذا كان هو بنفسه متعلّق الأمر، وإمّا بنحو الوجوب الغيريّ، لو كان متعلّقه هو المشروط، وإنّ ذاتالصلاة - حينئذٍ - تكون مقدّمة لتحقّق الصلاة المشروطة، وبهذا فقط تتّجه دعوى كون وجوبها غيريّاً ومقدّميّاً، فإذا قيل: (صلِّ متطهراً)، كان هذا منحلّاً إلى وجوب ذات الصلاة، ووجوبها مع التقيّد بالطهارة، وأمّا الصلاة نفسها، فهي تكون مقدّمة لتحقّق العنوان المطلوب، والذي هو: الصلاة عن طهارة. وهذا يعني: أنّ نفس الصلاة تتّصف - هي أيضاً - بالوجوب الغيريّ، كما يتّصف به الجزء التحليليّ منها، والذي هو التقيّد.

ففيما نحن فيه، يكون وجوب نفس الصلاة وذاتها معلوماً بنحو التفصيل، إمّا بالوجوب النفسيّ أو بالوجوب الغيريّ، وأمّا مع التقيّد فمشكوك، فيجري فيه البراءة العقليّة حيث لم يقم بيان عليه، وكذا يجري مفاد (رفع ما لا يعلمون)، وذلك لما في اعتباره من الكلفة الزائدة.

هذا حاصل كلام الشيخ الأعظم)، حيث قال - ما نصّه -:

«وأمّا القسم الثاني، وهو الشكّ في كون الشيء قيداً للمأمور به، فقد عرفت أنّه على قسمين؛ لأنّ القيد قد يكون منشؤه فعلاً خارجيّاً مغايراً للمقيّد في الوجود الخارجيّ، كالطهارة الناشئة من الوضوء، وقد يكون

ص: 527

قيداً متّحداً معه في الوجود الخارجيّ. أمّا الأوّل: فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم، فلا نطيل بالإعادة»، ومراده! من (فيما تقدّم): الشكّ في الجزء الخارجيّ (1).

ولكن قد استشكل عليه المحقّق الخراساني! في حاشيته على الرسائل بقوله:

«لكن يمكن أن يقال ههنا - مضافاً إلى ما عرفت فيما علّقناه هناك -: إنّ الخروج عن عهدة التكليف بالأقلّ على نحو اليقين ههنا يتوقّف على إتيان الأكثر، حيث لا يحصل القطع بالخروج عن عهدته إلّا بإتيان ما يسقط معه وجوبه على كلّ تقدير، وليس هذا إلّا شأن الأكثر؛ فإنّوجوب الأقلّ وإن كان يسقط بإتيانه إذا كان نفسيّاً، لكنّه لا يسقط به إذا كان غيريّاً؛ فإنّ المأمور به على ذلك ليس هو مطلق وجوده، بل هو وجود خاصّ منه، وهذا بخلاف التكليف بالأقلّ هناك، وإنّ وجوبه يسقط بإتيانه، نفسيّاً كان أو غيريّاً، فإنّ المأمور به بالأمر الغيريّ في الجزء هو مطلق الوجود منه، لا خصوص ما يُؤتى به في ضمن تمام الأجزاء» (2).

وقال« في الكفاية - أيضاً -:

«ظهر ممّا مرّ: حال دوران الأمر بين المشروط بشيءٍ ومطلقه، وبين

ص: 528


1- لاحظ: فرائد الاُصول 2: 354.
2- الحاشية على الفرائد: 259.

الخاصّ كالإنسان وعامّه كالحيوان، وأنّه لا مجال ها هنا للبراءة عقلاً، بل كان الأمر فيهما أظهر، فإنّ الانحلال المتوهّم في الأقلّ والأكثر لا يكاد يُتَوَهَّم ها هنا؛ بداهة أنّ الأجزاء التحليليّة لا يكاد يتّصف باللّزوم من باب المقدّمة عقلاً، فالصلاة - مثلاً - في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصّة موجودة بعين وجودها، وفي ضمن صلاةٍ أُخرى فاقدةٍ لشرطها وخصوصيّتها تكون مباينة للمأمور بها، كما لا يخفى» (1).

وحاصله: أنّ الصحيح هو المنع من الانحلال وعدم إمكان قياس ما نحن فيه على الأجزاء الخارجيّة، فإنّ الأجزاء الخارجيّة لمّا كان لأجزائها في الخارج وجودات مستقلّة كان من الممكن أن تتّصف بالوجوب مطلقاً، نفسيّاً وغيريّاً، فيكون هذا العلم التفصيليّ بوجوبها كذلك، هو بعينه، موجباً لانحلال العلم الإجماليّ بوجوب الأقلّ أو الأكثر، لفرض أنّه حصل له العلم تفصيلاً بوجوب الأقلّ، والشكّ بدواً في وجوب الأكثر، وهذا على خلاف الأجزاء التحليليّة التي لا سبيل إلى تمييزها إلّا بالعقل، حيث لم يكن لها ميز بحسب الخارج أصلاً.وعلى هذا الأساس، يكون الواجد للأجزاء التحليليّة والفاقد لها من قبيل المتباينين، لا من قبيل الأقلّ والأكثر.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الأجزاء الخارجيّة حيث كان لذواتها وجودات

ص: 529


1- كفاية الاُصول: 367.

مستقلّة في الخارج، فهي تكون قابلةً للاتّصاف بالوجوب مطلقاً، نفسيّاً أو غيريّاً، فحينئذٍ: يحصل علم تفصيليّ بوجوب الأقلّ، وهذا العلم التفصيليّ موجب لانحلال العلم الإجماليّ، كأن يقال - بعد فرض استقلالها -: إنّ هذه واجبة قطعاً، فيكون الزائد مشكوكاً فيه، فتجري البراءة في موردها بلا إشكال.

وهذا بخلاف الأجزاء التحليليّة، وهي ما لا يتسنّى تمييزها إلّا بواسطة العقل، فدعوى الانحلال فيها، بزعم أنّ ذات المقيّد، كالرقبة، أو العامّ، كالصلاة، لا يتّصف شيء منهما بالوجوب حتى يقال: إنّ وجوب ذاتهما معلوم تفصيلاً إمّا نفسيّاً أو غيريّاً؛ لأنّ المقدّمة المتّصفة بالوجوب الغيريّ إنّما هي المقدّمة التي تقع في سلسلة العلل لوجود ذي المقدّمة، ولذا كانت تتّصف بالوجوب الغيريّ.

ولكنّ هذا المعنى لا يأتي هنا؛ لأنّ ذات المقيّد ليس مقدّمة للمقيّد ولا يقع في سلسلة علله، بل هي مباينة للذات بدون القيد، وهكذا الحال في ذات العامّ المتخصّص بالخصوصيّة الكذائيّة؛ لأنّ الرقبة - مثلاً - بدون الإيمان مباينة للرقبة مع قيد الإيمان، وليست ذات الرقبة مقدّمة لوجود الرقبة المؤمنة ولا واقعة في سلسلة علله حتى يقال بأنّ المتيقّن هو وجوب ذات الرقبة، وأمّا وجوب تقيّدها بالإيمان فمشكوك فيه، فيُصار إلى نفيه بالبراءة، بل الرقبة المتخصّصة بالإيمان مغايرة في الوجود للرقبة الكافرة.

ص: 530

وأيضاً: فإنّ متعلّق الوجوب هو الوجود الخارجيّ الذي يمكن أن يشار إليه بالبنان، كما في المركّب الخارجيّ، فإنّه حيث كان في الخارج ذا أجزاء متعدّدة، فيتعلّق به الوجوب.

وأمّا الجزء التحليليّ، فإنّه ليس له وجود مستقلّ في الخارج حتى يصحّ أن يتعلّق به الوجوب، فإنّ ذات الرقبة، أو ذات الصلاة، لاوجود لهما في الخارج حتى يصحّ أن يتعلّق بهما الوجوب ويقال بوجوبهما وجوباً تفصيلاً، إمّا نفسيّاً أو غيريّاً، وبالتالي: حتى ينحلّ العلم الإجماليّ.

وهكذا يقال - أيضاً - بالنسبة إلى المركّب من الجنس والفصل؛ فإنّ الحيوان الواقع جنساً ليس مقدّمة للإنسان، ولا هو واقع في سلسلة علله؛ لعدم إمكان وجود الجنس بدون فصل من الفصول؛ إذ إنّ ما لا فصل له لا جنس له، كما قرّروه.

ومعه: فلا يصحّ أن يقال: بأنّه حينما يرد أمر بالإطعام، فوجوب إطعام الحيوان معلوم تفصيلاً، ويشكّ في اعتبار خصوصيّة الإنسانيّة فيه، فيجري الأصل، بل إنّ وجود الجنس مع كلّ فصلٍ يكون مغايراً لوجوده مع فصلٍ آخر، فيكون الجنس مع كلّ فصلٍ من فصوله في الخارج من المتباينين، ويخرج عن باب الأقلّ والأكثر، والمرجع فيهما - أعني: المتباينين - إلى قاعدة الاشتغال.

ولكنّ اُستاذنا المحقّق! فصّل في المقام بين أن تكون الخصوصيّة

ص: 531

من مقوّمات المعنى المتخصّص بها عقلاً، كالفصل بالنسبة إلى الجنس، وبين أن تكون من مقوّماته في نظر العرف، كقيد «الروميّة» بالنسبة إلى الجارية في مثل قولك: (اشترِ لي جارية روميّة)، فإنّها بنظر العرف مقوّمة لها، ولذا يجعلون منها نوعاً آخر في قبال الجارية الحبشيّة - مثلاً - وإن لم تكن من مقوّماتها ومنوّعاتها عقلاً، كما هو أوضح من أن يخفى.

ففي الصورة الاُولى: بما «أنّ المعنى الجنسيّ لا يمكن أن يوجد في الخارج بدون الفصل، بل وجوده دائماً لابدّ وأن يكون في ضمن أحد الفصول، ففي مثل ذلك: لو وقع متعلّقاً أو موضوعاً للتكليف، لابدّ وأن يكون في ضمن أحد أنواعه.

فلو قال: (جئني بحيوان) أو (أطعم حيواناً)، حيث إنّ التكليف بلحاظ الوجود الخارجيّ، وليس للجنس وحده وجود خارجيّ، ولا يمكن أن يكون، فلابدّ وأن يكون متعلّقاً للتكليف مقروناً بأحد الفصول.والنتيجة: أنّه إذا قال (أطعم حيواناً) يكون واجباً تخييريّاً بالنسبة إلى الفصول. والمقصود أنّ الجنس وحده ليس متعلّقاً للتكليف، ولا يمكن أن يكون حتى يكون هو القدر المتيقّن، بل في المطلق مثل (أطعم حيواناً) يكون معروض الوجوب هو الحيوان مع أحد الفصول تخييريّاً، وفي المركّب الأكثر، أي: الخاصّ، كالإنسان - مثلاً -، يكون معروض الوجوب المعنى الجنسيّ مع فصل معيّن، فيكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، لا بين الأقلّ أو الأكثر.

ص: 532

وقد تقدّم أنّ في باب دوران الأمر بين هذا القسم من التعيين والتخيير، مقتضى القاعدة هو التعيين، لا البراءة عن الخصوصيّة».

وأمّا في الصورة الثانية، وهو ما إذا كانت من مقوّمات المعنى بنظر العرف، وإن لم يكن مقوّماته عقلاً، كما مثّلنا لنا ﺑ (الروميّة) بالنسبة إلى الجارية، أو كما لو أراد الحنطة الكرديّة فباعه العراقيّة، ﻓ «الضابط فيه: أنّه إذا باع العبد الحبشيّ بعنوان الروميّ، تكون المعاملة من قبيل تخلّف العنوان وباطلاً، لا من قبيل تخلّف الوصف وموجباً للخيار فقط، كما إذا قال: (بعتك هذا العبد الكاتب) ولم يكن كاتباً» (1).

وقد ألحق المحقّق النائيني! (2) هذا القسم بالقسم الأوّل، ذاهباً إلى أنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وذلك لجهة أنّ العناوين كانت أنواعاً وحقائق مختلفة بنظر العرف، وإن لم تكن كذلك بنظر العقل، فقوله: (اشترِ جاريةً روميّة) تعيين لهذا النوع، فإذا قال: (اشترِ جاريةً) وتردّد أمره بين خصوص الروميّة أو غيرها، فبما أنّ الجارية لا توجد إلّا في ضمن الروميّة أو الحبشيّة أو غيرهما، فلا محالة: يكون الأمر دائراً بين التعيين والتخيير، وليس هناك من معلوم تفصيليٍّ في البين حتى يتأتّى جريان البراءة في الخصوصيّة الزائدة.

ص: 533


1- منتهى الاُصول 2: 324 - 325.
2- انظر: فوائد الاُصول 4: 205 - 207.

وردّه اُستاذنا المحقّق! بما حاصله: أنّ العبرة إنّما هي بنظر العقل، ولا عبرة بنظر العرف، والمعلوم تفصيلاً موجود بنظر العقل، وهو القدر المتيقّن، فيكون الانحلال عقليّاً (1).

ولكنّ الحقّ: عدم إمكان القول بالانحلال ها هنا؛ لأنّ طبيعة الجارية وذاتها ليست مقدّمة للجارية الروميّة حتى يقال: هي إمّا واجبة لنفسها أو لغيرها، فلا وجود لما هو معلوم بالتفصيل، فلا انحلال. فتأمّل جيّداً.

حكم الجزء أو الشرط المتروك نسياناً:

والبحث في هذه المسألة عن أنّ الأصل في الأجزاء هل هو الركنيّة، بمعنى: أنّ الأصل بطلان العمل بزيادتها أو نقيصتها سهواً أو نسياناً، أم لا؟

وهذا التفسير لمعنى الركنيّة هو على خلاف ما نُمِي إلى بعضهم من تخصيص الركنيّة ببطلان ما يكون مركّباً من تلك الأجزاء ومن غيرها بنقيصتها سهواً وعمداً، دون زيادتها كذلك.

وأمّا النقصان العمديّ، فلا يخفى: أنّه موجب للبطلان على الإطلاق، أي: بلا فرقٍ بين أن يكون ركناً وبين أن لا يكون كذلك، وإلّا، لزم الخلف

ص: 534


1- راجع: منتهى الاُصول 2: 325.

المحال؛ إذ ما فرضناه جزءاً - حينئذٍ - لا يكون جزءاً، وهو خلف، إلّا أن يكون من أوّل الأمر، قد فُرض مستحبّاً، وليس من أجزاء الواجب نفسه، وأنت خبير بأنّه فرض آخر لا علاقة له بمحلّ البحث.

ولا يخفى: أنّه بناءً على القول الأوّل، فالفرق بين الجزء الركنيّ وغير الركنيّ يكون في كلتا الناحيتين: الزيادة والنقيصة.

وأمّا بناءً على القول الثاني فالفرق بينهما، إنّما هو من جهة النقيصة فحسب، وذلك لأنّه على هذا القول يكون بين الجزء الركنيّ والجزء غير الركنيّ أمر مشترك وهو عدم البطلان بالزيادة.وأمّا الزيادة العمديّة في غير الركن، فهي لا تكون مقتضيةً للبطلان إلّا إذا كان هذا الجزء مأخوذاً في الواجب على سبيل البشرط لا، وإلّا، لم يكن هناك من وجهٍ للبطلان بها، وإن كان الجزء على فرض أخذه كذلك، أي: بشرط لا عن الزيادة، تؤدّي زيادته إلى البطلان، لا لكونها زيادةً، بل لصدق عنوان النقيصة عليها، كما يتّضح بأدنى تأمّل، وقد عرفنا أنّ النقصان العمديّ موجب للبطلان مطلقاً، ركناً كان الجزء أم غير ركن.

وقبل الدخول في البحث يجدر الالتفات إلى أنّ عنوان «الركن» وإطلاقه على الجزء الذي يوجب تركه عمداً أو سهواً للبطلان إنّما هو اصطلاح فقهيّ أتى به الفقهاء، وليس من المعاني التي اخترع الشارع المقدّس لها لفظاً.

ص: 535

وقد ذكر الشيخ الأعظم) (1) أنّ عنوان الركن لم يرد في النصوص لكي يقع البحث في تشخيص مفهومه العرفيّ، وإنّما هو اصطلاح فقهيّ يعبّر به عن بعض الأجزاء التي يختلّ العمل بتركها سهواً - كما هو تعريف بعض الفقهاء للركن - أو التي يختلّ العمل بتركها سهواً وزيادتها عمداً وسهواً - كما عليه آخرون -.

وما هو مهمّ فيما نحن فيه هو أنّ مجرّد ترك جزء من المركّب الواجب سهواً، هل يوجب بطلان العمل، كائناً ما كان هذا الجزء، بمعنى: أنّ الأصل ركنيّته؟ أم لا؟ بل يحتاج الحكم ببطلان العمل إلى دليلٍ خاصّ على ذلك، بمعنى: أنّ كلّ جزءٍ ورد الدليل على أنّ تركه سهواً - أو زيادته كذلك بالإضافة إلى نقيصته - ممّا يوجب البطلان، نسمّيه بالركن، أو فقل: أنّ النسيان هل يوجب ارتفاع الجزئيّة أو الشرطيّة أم لا، فيما لا يكون لدليليهما إطلاق يشمل حال النسيان أيضاً؟

والكلام يقع في مقامين:الأوّل: هل ترك الجزء سهواً مبطل للعمل مطلقاً، أيّ جزءٍ كان، ركنيّاً أم غيره، أو لا، بل يحتاج إثبات البطلان إلى دليل خاصّ؟

والثاني: أنّ زيادة الجزء مطلقاً، أيّ جزءٍ كان، هل هي موجبة للبطلان،

ص: 536


1- انظر: فرائد الاُصول 2: 361، قال): «إنّ الركن في اللّغة والعرف معروف، وليس له في الأخبار ذكر حتى يُتَعرّض لمعناه في زمن صدور تلك الأخبار، بل هو اصطلاح خاصّ للفقهاء».

سواء كانت عن عمد أو سهو، أم لا؟

المقام الأوّل: في ترك الجزء سهواً:
اشارة

ولابدّ من توزيع البحث على جهات:

الجهة الأُولى: أنّ توجيه خطاب إلى الناسي بما عدا الجزء المنسيّ، هل هو ممكن في مقام الثبوت أم لا؟ كأن يقال له - مثلاً -: أيّها الناسي للسورة، يجب عليك إتيان الصلاة بجميع أجزائها ما عدا السورة، أو ما عدا الجزء الذي أنت ناسٍ له.

والجهة الثانية: لو كان توجيه الخطاب إلى الناسي بالنحو المتقدّم ممكناً، ففي مقام الإثبات، هل هناك دليل من أمارة أو أصل يثبت به ذلك أم لا؟

والجهة الثالثة: أنّه لو فرضنا عدم إمكان توجيه الخطاب إليه ثبوتاً، أو قلنا بإمكانه في عالم الثبوت، ولكن لم نعثر على دليل عليه في عالم الإثبات، فهل هناك دليل، من أصل أو أمارة، يثبت كفاية الإتيان بما عدا الجزء المنسيّ عن الماُمور به الواقعيّ أم لا؟

فهذه جهات ثلاث يجب تنقيحها.

أمّا الجهة الأُولى:

فقد استشكل في إمكان ذلك ثبوتاً؛ بدعوى أنّ الخطاب لابدّ وأن يكون قابلاً للتحريك والداعويّة نحو العمل بمضمونه، وفيما نحن

ص: 537

فيه، ليس ذلك ممكناً؛ لأنّ الخطاب إلى النّاسي أو الغافل أو الساهي وأمثال هؤلاء، أعني: العناوين التي تنطبق على غير الملتفت إلى جزئيّة هذا الجزء، لا يخلو: فإمّا أن يكون ملتفتاً إلى هذا العنوان وإمّا أن لا يكون كذلك. وعلى الثاني: لا يمكن للخطاب المفروض أن يكون داعياً ومحرّكاً، فيكون لغواً، وهو محال. وأمّا على الأوّل، وهو تقديرالالتفات، فيخرج بالالتفات عن عنوان أنّه ناسٍ، ولا يكون مصداقاً لذلك العنوان، ولك أن تقول: إنّه يلزم من كونه داخلاً في عنوان الناسي عدم دخوله فيه.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ معنى خطاب الناسي بما عدا الجزء المنسيّ أنّ الواجب بتمام أجزائه وشرائطه يكون واجباً على الذاكر فقط، وأمّا الناسي فالواجب عليه - حينئذٍ - ما عدا الجزء أو الشرط المنسيّ منه، وتوجيه الخطاب إليه مخرج له عن عنوان الناسي.

وهذا الإشكال للشيخ الأعظم!، فإنّه) ذهب إلى استحالة تعلّق التكليف بالناسي بعنوانه، والوجه فيه:

أنّ التكليف لا يمكن أن يكون باعثاً ومحرّكاً للعبد نحو العمل إلّا مع الالتفات إليه وإلى موضوعه، فالتكليف بالحجّ المأخوذ في موضوعه الاستطاعة لا يصلح أن يكون محرّكاً إلّا مع الالتفات إلى الاستطاعة، ومن الواضح: أنّ الناسي لا يمكن أن يلتفت إلى موضوع التكليف، وهو كونه ناسياً، مع فرض بقاء النسيان له، بل إنّه بمجرّد الالتفات إليه

ص: 538

يزول النسيان عنه، فالتكليف المأخوذ في موضوعه الناسي غير صالح للمحرّكيّة في أيّ حالٍ من الأحوال، أمّا في صورة الغفلة عن النسيان، فواضح؛ لعدم التمكّن من توجيه الخطاب إليه، وأمّا في صورة التفاته، فلفرض زوال النسيان وما يستتبعه ذلك من تغيّر الموضوع.

قال! في الفرائد:

«قُلْتُ: إن اُريد بعدم جزئيّة ما ثبت جزئيّته في الجملة في حقّ الناسي إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه، فهو غير قابلٍ لتوجيه الخطاب إليه بالنسبة إلى المغفول عنه إيجاباً وإسقاطاً» (1).

وقد أُجيب عن هذا الإشكال بأجوبةٍ عدّة:

منها:ما أفاده صاحب الكفاية! بقوله: «كما إذا وجّه الخطاب على نحوٍ يعمّ الذاكر والناسي بالخالي عمّا شكّ في دخله مطلقاً، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حقّ الذاكر» (2).

وحاصله: أنّه يمكن للمولى توجيه الخطاب إليه على نحو يعمّ الذاكر والناسي، كعنوان المكلّف - مثلاً - مع بقائه على ما هو عليه من عدم الالتفات إلى كونه ناسياً، ويكلّفه بما عدا الجزء المنسيّ، ثمّ يكلّف الملتفت بالمنسيّ، فكما أنّ الذاكر الآتي بجميع الأجزاء آتٍ بوظيفته،

ص: 539


1- فرائد الاُصول 2: 364.
2- كفاية الاُصول: 368.

فكذلك الناسي الآتي بالناقص يكون - أيضاً - آتياً بما هي وظيفته، من دون أن يتوجّه الخطاب إليه بعنوان الناسي حتى يلزم محذور الانقلاب المشار إليه.

وردّه اُستاذنا المحقّق!: بأنّه «صرف فرض لا واقع له، مع اختلاف النسيان بحسب اختلاف الأشخاص من حيث أسباب النسيان، وأيضاً: من ناحية كثرة الأجزاء وقلّتها، التي صارت منسيّة، واختلاف الأجزاء التي يتعلّق بها النسيان بحسب اختلاف الأشخاص واختلافهم بحسب الحالات، ففرض عنوانٍ ملازم للنسيان لجميع الأشخاص، بحيث يكون جامعاً لجميع هذه التشتّتات، وإن لم يكن ممتنعاً عقلاً، ولكن ممتنع عادةً» (1).

ومنها:

ما أفاده صاحب الكفاية) - أيضاً - وهو إمكان توجيه الخطاب إلى عامّة المكلّفين، الناسي منهم والذاكر، ولكن بالنسبة إلى الأجزاء التي تكون جزئيّتها مطلقة، وليست بمخصوصة بحال الذكر، وما يُنتجه مثل هذا الخطاب هو أنّ المكلّف لو ترك شيئاً من هذه الأجزاء كان عمله باطلاً، ويتوجّب عليه الإعادة، ولو كان تركه من ناحية النسيان.وأمّا بالنسبة إلى سائر الأجزاء، وهي الأجزاء المخصوصة التي ليست

ص: 540


1- منتهى الاُصول 2: 330.

جزئيّتها مطلقة، يوجّه المولى خطابه إلى خصوص الذاكرين، وتكون النتيجة: أنّ الناسي لجزء أو لأجزاء لا يكون مكلّفاً بما نسيه من الأجزاء، حيث لم تكن جزئيّتها مطلقة بحسب الفرض.

نعم، لو كانت جزئيّتها مطلقة، لكان مكلّفاً بها، ولكن لا بعنوانه كونه ناسياً حتى يلزم المحال، بل بالعنوان العامّ الذي يكون شاملاً لجميع المكلّفين، فيحصل المقصود بدون لزوم أيّ محالٍ في البين.

وإن شئتَ فقل: لا مانع من أن يكون الملتفت مكلّفاً بتمام الماُمور به، والناسي مكلّفاً بما عدا المنسيّ، لكن لا بعنوان الناسي حتى يلزم انقلابه إلى الذاكر بمجرّد توجيه الخطاب إليه، بل بعنوانٍ آخر يكون عامّاً وملازماً لجميع أفراده، كالبلغميّ أو قليل الحافظة أو كثير النوم وما إلى ذلك، أو بعنوانٍ آخر يكون خاصّاً، كالعناوين التي تختصّ بأفراد الناسي، كقولك: يا زيد، أو يا بكر، أو يا بشر.

وعبارة صاحب الكفاية) كالتالي: «أو وجّه إلى الناسي خطاب يخصّه بوجوب الخالي بعنوانٍ آخر عامٍّ أو خاصّ، لا بعنوان الناسي كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه بهذا العنوان؛ لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة» (1).

وقد علّق الاُستاذ المحقّق! على هذا الوجه بأنّه: «لا يرد عليه إشكال،

ص: 541


1- كفاية الاُصول: 368.

ولا شكّ في إمكانه في عالم الثبوت، ولكن يحتاج في عالم الإثبات إلى دليل يدلّ على مثل هذا الجعل والخطاب» (1).

ومنها:

وجه آخر ذكره صاحب الكفاية) نفسه، ولكن في حاشيته على الرسائل، وإليك نصّ كلامه:«هذا، مع أنّه لا يلزم خطاب في هذا الحال أصلاً، ويكفي مجرّد محبوبيّة الخالي عن المغفول عنه في الحال، كمحبوبيّة المشتمل عليه في حال الالتفات إليه؛ فإنّ فائدة الخطاب ليس إلّا البعث والتحريك، وهو حاصل من نفس الخطاب بالمركّب، حيث إنّ الغافل يعتقد شموله، فافهم» (2).

وحاصله: أن يكلّف الملتفت بالتمام، ولا يُكلَّف الناسي بشيء، ولكن يصحّ فعله الناقص؛ لاشتماله على المصلحة، ويكفي في بعثه إلى الإتيان بالناقص هو اعتقاده بأنّ أمر الملتفت إليه متوجّهاً إليه، فيأتي بالناقص بداعي موافقة أمر الملتفت بالتمام.

ومنها:

ما اختاره اُستاذنا المحقّق!، وهو «أنّ الخطاب المتوجّه إلى عامّة

ص: 542


1- منتهى الاُصول 2: 331.
2- الحاشية على الفرائد: 260 - 261.

المكلّفين هو الأمر بالجامع بين الأفراد الصحيحة التي تختلف من حيث الأجزاء والشرائط، قلّةً وكثرةً وكيفيّةً بحسب حالات المكلّفين، علماً وجهلاً، ذكراً ونسياناً، وكذلك بحسب سائر الحالات والطوارئ.

فالصلاة - مثلاً - في حقّ الناسي لبعض الأجزاء والذاكر لها، وإن كانت تختلف بالنسبة إلى المصداق، ولكن لا اختلاف بينهما من حيث ذلك الجامع؛ لأنّه كما أنّ ما أتى به الذاكر من الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط مصداق للصحيح، كذلك الذي يأتي به الناسي لبعض الأجزاء الفاقد لذلك البعض المنسيّ، مصداق للصلاة الصحيحة.

فالجامع في كليهما موجود بدون أيّ اختلاف بينهما، وإلّا ، ليس بجامع، فكلّ واحد منهما - أي: الذاكر والناسي - أتى بما هو المأمور به - أي: الجامع - وهو الصلاة الصحيحة.

نعم، كلّ واحد منهما يرى نفسه ذاكراً، ويرى صلاته جامعة لجميع الأجزاء والشرائط، غاية الأمر: أنّ الناسي يكون مخطئاً في هذهالعقيدة، أي: في كونه ذاكراً، ولديه جهل مركّب؛ إذ يتصوّر أنّه ذاكر، وأنّه قد أتى بما هو وظيفة الذاكر، وهذا الخطأ منه لا يضرّ بصحّة عمله وامتثاله للأمر المتوجّه إليه؛ لأنّه أتى بما هو وظيفته واقعاً بقصد القربة، وإنّما حصل له الخطأ والاشتباه في أمر آخر، وهو أنّه ذاكر، وأنّ ما أتى به هو وظيفة الذاكر.

نعم، لابدّ أنّ يثبت من الخارج أنّ وظيفة الناسي ليست هي الإتيان

ص: 543

بتمام الأجزاء في غير الأركان، بل خصوص ما يتذكره منها» (1).

ولكنّ هذا الوجه - كما اعترف به الاُستاذ) نفسه - لا يتمّ إلّا إذا قلنا بأنّ هناك بين أفراد الصحيحة جامعاً عنوانيّاً يكون هو المراد في الخطابات العامّة، وإنّما وقع الاختلاف من ناحيتي الكمّ والكيف في الأفراد، بما يرجع إلى الخصوصيّات الفرديّة التي تنشأ عن اختلافٍ في حالات المكلّفين أو سائر الجهات الزمانيّة والمكانيّة، أو غير ذلك.

وبهذا يتمّ الكلام في الجهة الأُولى.

وأمّا الجهة الثانية:

وهو بعد فرض إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي بما عدا الجزء المنسيّ بأحد الوجوه التي ذكرناها، أو غيرها، في مرحلة الثبوت، فهل هناك دليل يمكن الحصول عليه في عالم الإثبات من أصلٍ أو أمارةٍ على وقوع ذلك، أم لا يوجد مثل هذا الدليل؟!

وهنا: تارةً نتكلّم في وجود الدليل الاجتهاديّ والطرق والأمارات. وأُخرى: في قيام الأصل العمليّ والدليل الفقاهتيّ.

وإحراز وجود الأوّل يتوقّف على النظر في مفاد كلّ من دليلي المركّب والجزء، فإنّه إمّا أن يكون هناك إطلاق في أحدهما، أو في كليهما، وأمّا أن لا يكون هناك إطلاق في شيء منهما.

ص: 544


1- منتهى الاُصول 2: 331، بتصرّفٍ في كلامه)وتوضيح منّا.

أمّا إذا كان هناك إطلاق في دليل المركّب كما في دليل الجزء، فإنّه يظهر من إطلاق دليل المركّب أنّ المصلحة موجودة فيه في جميع الحالات، وأنّها لا تسقط بنسيان جزء أو شرط من المركّب.

وأمّا الإطلاق الذي في دليل الجزء أو الشرط، فهو يقتضي كونهما دخيلين في الماُمور به، ولازمه: سقوط التكليف عن المركّب بسقوط التكليف عن الجزء؛ لنسيانه، أو لأيّة جهةٍ أُخرى من موجبات سقوط التكليف عنه؛ لأنّه ليس هناك إلّا تكليف واحد يكون متعلّقاً بالمجموع، وحيث سقط عن الجزء، فلم يبقَ شيء لكي يتعلّق بما عدا الجزء الذي سقط التكليف عنه بأحد موجبات السقوط، والمركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، وحينئذٍ: فلابدّ في إيجاب الإتيان بالباقي من فرض ثبوت تكليفٍ جديد آخر.

وبالجملة: فإطلاق دليل الجزء يوجب سقوط الأمر عن المركّب، وإن كان للأمر بالمركّب إطلاق، وذلك لحكومة إطلاق دليل الجزء على الإطلاق في دليل المركّب، فلا تكليف هنا بما عدا الجزء المنسيّ؛ لأنّ الأصل اللّفظيّ بإطلاقه يقتضي الركنيّة، وأنّه بعد النسيان يختلّ الماُمور به.

وأمّا إذا لم يكن لدليل الجزء إطلاق فهذا له صورتان: أُولاهما: أن يكون لدليل المركّب إطلاق، والثانية: أن لا يكون لدليله إطلاق.

فإذا كان لدليله إطلاق، فقد يقال: بأنّه يؤخذ بإطلاقه، ويقال بأنّ

ص: 545

الناسي وإن سقط بالنسبة إليه التكليف بالجزء المنسيّ، ولكنّه يكون مكلّفاً بما عداه؛ لأنّ دليل المركّب مطلق بحسب الفرض.

ولكن قد يستشكل فيه: بأنّ معنى إطلاق المركّب الماُمور به يقتضي أنّ كلّ واحدٍ من الأجزاء يكون جزءاً مطلقاً، حتى في حال نسيانه، إذ ليس المركّب إلّا الأجزاء بشرط الانضمام، فمعنى إطلاقه: هو إطلاق كلّ واحدٍ من الوجوبات الضمنيّة للأجزاء المستفادة من الأمر النفسيّ بالكلّ، وهذا يستلزم انتفاء المركّب بانتفاء جزئه المنسيّ، فكيف يصحّ أن يدّعى أنّ إطلاق المركّب يقتضي الإتيان به بلا فرق بين نسيانجزئه وعدمه، مع أنّه مع نسيانه ينتفي الكلّ المؤلّف من أجزاء يفترض بها أن تكون مرتبطة، وهذا كلّه إنّما هو لأجل انبساط الأمر بالمركّب على كلّ واحد من أجزائه.

ولكنّ الحقّ: أنّ إطلاق دليل الماُمور به ناظر إلى الأجزاء بشرط الانضمام، وهو ليس أمراً آخر سوى الكلّ، فالإطلاق يتعلّق به، لا بكلّ واحد من الأجزاء بخصوصه حتى يرد الإشكال وتثبت المعارضة.

وأمّا لو لم ينعقد إطلاق في شيءٍ من الدليلين، فحينئذٍ: تصل النوبة إلى الأدلّة الثانويّة، وسيأتي الكلام فيها.

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الإثبات بالنسبة إلى الإطلاق في دليل أصل المركّب، فالظاهر أنّه لا إطلاق لأدلّته؛ لأنّه وارد - غالباً - في مقام

ص: 546

التشريع، وليست في مقام بيان ماهيّة العبادة أو المعاملة من حيث ما لها من الأجزاء والشرائط.

وأمّا أدلّة الأجزاء والشرائط، فهي إن كانت من قبيل الأدلّة اللبّيّة، لم يكن له - هي أيضاً - إطلاق، بل لها قدر متيقّن لابدّ من الأخذ به، اللّهمّ إلّا أن يرد الإجماع على كونها دخيلةً مطلقاً في الماُمور به، وقلنا بحجّيّة مثل هذا الإجماع وأنّه ناهض لإثبات الإطلاق.

وأمّا لو كان دليلاً لفظيّاً، فالظاهر هو ثبوت الإطلاق بالنسبة إلى كلتا حالتي الذكر والنسيان؛ لأنّ الظاهر من دليل الجزئيّة هو أنّ المركّب متقوّم بذلك الجزء، وبخاصّة إذا كان لسان دليلها نفي المركّب بنفيه، كقوله(علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور» (1)، و«لا ذكاة إلّا بالحديدة» (2).وهل دليل الجزء ينعقد له إطلاق مطلقاً، سواء كان بلسان التكليف، مثل (اركع في الصلاة) أم الوضع، كما في (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب)، أو لا يكون لها إطلاق على الإطلاق، أم لابدّ من التفصيل بين أن يكون دليل الجزء من قبيل انعدام المركّب ونفيه بانعدام الجزء، فيقال بإطلاقه وشموله لحالة النسيان، وبين أن يكون بلسان الأمر به في المركّب أو معه أو قبله، فقال بعدم الإطلاق من جهة أنّ منشأ انتزاع الجزئيّة أو الشرطيّة

ص: 547


1- وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 1.
2- انظر: الاستبصار 4: 80، باب أنّه لا يجوز الذبح إلّا بالحديد.

ذلك الأمر، فتابع سعةً وضيقاً لمنشأ انتزاعه.

ولا إشكال في سقوط الأمر بالنسبة إلى نفس ذلك الجزء المنسيّ حال نسيانه؛ لأنّه تكليف بالمحال، وإنّما الكلام في إمكانه بالنسبة إلى وجوب الإتيان ببقيّة الأجزاء.

أمّا بالنسبة إلى نفس الجزء - حال نسيانه - فعدم إمكانه في غاية الوضوح؛ لأنّه بسقوط الأمر من جهة النسيان عن الجزء المنسيّ لا يبقى منشأ لانتزاع جزئيّته، فتكون جزئيّته، والحال هذه، مختصّة بحال الذكر.

ويحكى عن المحقّق البهبهاني! أنّه فصّل فقال بانعقاد الإطلاق في الوضع دون ما إذا كان بلسان الأمر، وذلك لأنّه لو كان بلسان الوضع فظهوره في انتفاء المركّب والماهيّة بانتفائه، بلا فرق بين أن يكون جزءاً أو شرطاً؛ لأنّه يدلّ على دخل الجزء أو الشرط في الماُمور به وحقيقة المركّب مطلقاً، فيشمل جميع حالات المكلّف، من حال الذكر والنسيان وغيرهما.

وأمّا إذا كان بلسان التكليف فيمكن أن يقال باختصاص الجزئيّة والشرطيّة المنتزعتين منه بحال الالتفات؛ لأنّ منشأ انتزاعهما، وهو الطلب، مقيّد بالقدرة، وهي مفقودة حال النسيان، فلا يكون هناك بعث بالنسبة إلى الناسي؛ لأنّ الأوامر الانتزاعيّة تكون تابعة لمناشئ انتزاعها سعةً وضيقاً. بخلاف ما إذا كان الدليل بلسان الوضع؛ إذ ليس هناك طلب في البين - حينئذٍ - حتى يتقيّد عقلاً بمن له القدرة، وهوالملتفت، بل إنّما

ص: 548

هو بيان لأمرٍ واقعيّ، وهو كونه دخيلاً في ماهيّة المركّب وحقيقته.

وقد يستشكل فيه: بأنّ الفرق المزبور يتوقّف على إفادة دليل الجزئيّة - فيما إذا كان بلسان الأمر - هو ما إذا كان الجزء واجباً نفسيّاً، حتى يتقيّد بحال الالتفات، حيث يمتنع انبعاث غير الملتفت، ولأنّ مطالبة الناسي، كالعاجز، قبيحة. لوضوح أنّ الأوامر والنواهي المتعلّقة بأجزاء المركّبات أو الشرائط أو الموانع ليس فيها طلب مولوي؛ لظهورها في الإرشاد إلى دخل المتعلّق في ماهيّة المركّب الماُمور به، جزءاً كان أو شرطاً أو مانعاً، والأمر والنهي وإن كانا ظاهرين بدواً في المولويّة، ولكنّ ظهورهما الأوّليّ هذا ينقلب إلى ظهور ثانويّ، وهو الإرشاد إلى الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة، فلو كان الأمر بالركوع ونحوه من الأجزاء والشرائط والموانع نفسيّاً للزم تعدّد العقاب، ولا يلتزم أحد به.

ولكن بناءً على هذا يلزم أن تكون الجزئيّة مختصّة بحال الالتفات؛ لأنّ الناسي والغافل يستحيل توجيه الخطاب إليهما، فالأمر الوارد على الجزء بعد انبساط أمر المركّب، بما أنّه مقيّد بالقدرة، فما ينتزع منه - أيضاً - لابدّ وأن يكون كذلك، فلا يمكن التمسّك بإطلاق الجزء.

ولكنّ الحقّ: هو لزوم التفصيل بين ما يدلّ على جزئيّة شيء للماُمور به بما هو ماُمور به، فبما أنّه مدلول الجزئيّة المنتزعة من الأمر النفسيّ الضمنيّ، وهو المأخوذ من الأمر بالمركّب، فلا محالة يتقيّد بالالتفات.

ص: 549

وأمّا ما يدلّ على الجزئيّة للمركّب، كمثل (اركع في الصلاة)، فهو إرشاد محض إلى ما هو الجزء للمركّب والوافي بغرضه وملاكه، فهذا إنّما يدلّ على الجزئيّة المطلقة بعد عدم تفاوت الأحوال فيما يكون جزءاً لما تقوم به المصلحة الداعية إلى الأمر، وبناءً عليه: فيمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات الجزئيّة في حالة النسيان وغيرها، والإطلاق يقتضي عدم الاجتزاء بما عدا المنسيّ.وقد ذهب المحقّق العراقي) في المقام إلى دعوى أنّه يمكن التمسّك بالإطلاق بعدما فرض أنّ الأوامر المتعلّقة بهذه الأجزاء من الأوامر النفسيّة، فإنّ كلّ أمرٍ من هذه الأوامر يشكّل قطعةً من ذلك الأمر الواحد الذي ينبسط على جميع أجزاء المركّب.

ومع ذلك، فلا مانع - أيضاً - من التمسّك بإطلاق دليل الجزء؛ لأنّ الأمر له ظهور إطلاقيّ من حيث الحكم التكليفيّ؛ لشموله لحال النسيان، وله أيضاً ظهور من حيث الحكم الوضعيّ، أي: جزئيّة ما تعلّق به الأمر للمركّب في حال النسيان.

وبما أنّ المقيّد ليس إلّا حكم العقل بقبح توجيه الخطاب إلى الناسي، وتكليفه بالنسبة إلى الجزء المنسيّ، وهذا الحكم العقليّ بقبح مطالبة الناسي ليس في الارتكاز والوضوح كقبح مطالبة العاجز ومؤاخذته حتى يكون كالقرينة المحتفّة بالكلام المتّصلة به، وحتى يدّعى كونه مانعاً من انعقاد الظهور الإطلاقيّ، بل هو كالقرينة المنفصلة المانعة عن حجّيّة

ص: 550

الظهور بعد انعقاده، لا عن أصله، فغايته: أنّ هذا الحكم العقليّ يمنع عن حجّيّة الظهور الإطلاقيّ بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ، أي: وجوب التشهّد أو الركوع - مثلاً - على الناسي لجزئيّتهما.

وأمّا بالنسبة إلى الحكم الوضعيّ، أي: جزئيّتهما في حالة النسيان، فلا، فحينئذٍ: يؤخذ بالظهور الإطلاقيّ بالنسبة إلى الحكم الوضعيّ، ويقال بالجزئيّة حتى في صورة النسيان.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الساقط عن الاعتبار إنّما هو حجّيّة ظهور دليل الجزء في ناحية التكليف، لا حجّيّة ظهوره في الحكم الوضعيّ مطلقاً الشامل لحال النسيان، فلا مقيّد لها، ولا قرينة على خلافها، فيؤخذ بظهورها.

هذا كلامه! موضَّحاً ومبيّناً. ونكتفي بنقل ما يلي من نصّ كلامه:

«نقول: إنّ المنع المزبور عن عموم الجزئيّة لحال النسيان إنّما يتّجه إذا كان الحكم العقليّ بقبح تكليف الناسي والغافل في الارتكاز بمثابةٍ يكون كالقرينة المحتفّة بالكلام، بحيث يمنع عن انعقاد ظهوره فيالإطلاق، وهو في محلّ المنع، فإنّ الظاهر هو عدم كونه من العقليّات الضروريّة المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء، وأنّه من العقليّات غير الارتكازيّة التي لا ينتقل الذهن إليها إلّا بعد الالتفات والتأمّل في المبادئ التي أوجبت حكم العقل، فيدخل - حينئذٍ - في القرائن المنفصلة المانعة عن مجرّد حجّيّة ظهور الكلام، لا عن أصل ظهوره. وعليه: يمكن أن يقال: إنّ غاية ما يقتضيه الحكم العقليّ

ص: 551

المزبور إنّما هو المنع عن حجّيّة ظهور تلك الأوامر في الإطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ، وأمّا بالنسبة إلى ظهورها في الحكم الوضعيّ، وهو الجزئيّة، وإطلاقها لحال النسيان، فحيث لا قرينة على الخلاف من هذه الجهة، يؤخذ بظهورها في ذلك...» (1).

هذا من ناحية الأدلّة والأمارات، وأمّا من ناحية الاُصول العمليّة:

ثمّ إنّه لو فرض أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط، وإن كان هو ثبوت الجزئيّة أو الشرطيّة مطلقاً، ولو في حال النسيان، إلّا أنّ مقتضى الدليل الثانويّ، وهو مثل قوله- في حديث الرفع (رفع النسيان) هو رفع الجزئيّة في حالة النسيان، لحكومتها على الأدلّة الأوّليّة للأجزاء والشرائط بالنسبة إلى الفقرات الخمس - والتي هي الخطأ، والنسيان، وما أُكرهوا عليه، وما اضطرّوا إليه، وما لا يطيقون - فمعنى رفع النسيان هو رفع الجزئيّة في حال النسيان.

فحديث الرفع - إذاً - بعد حكومته على الأدلّة الأوّليّة يشير الى تخصّص الجزئيّة بحال الذكر، فيوجب تقييد إطلاق الجزئيّة.

وبالجملة: فمقتضى مثل حديث (لا تعاد) وحديث الرفع هو صحّة الصلاة الناقصة، وأنّها تكون مجزئةً للناسي عن الإتيان بالتامّ، ومعه: فلا تصل النوبة أصلاً إلى جريان البراءة الشرعيّة؛ وذلك لوجود الدليل الحاكم.

ص: 552


1- نهاية الأفكار 3: 424.

وقد استشكل فيه الاُستاذ المحقّق! ﺑ «أنّ الرفع وإن تعلّق ظاهراً بنفس النسيان، ولكنّه لا يمكن الأخذ به؛ لأنّه خلاف الامتنان؛ لأنّ معنى رفع النسيان كون الفعل الصادر نسياناً كالفعل الصادر عمداً، فيكون الإفطار الصادر نسياناً - مثلاً - كالصادر عمداً، موجباً للقضاء والكفّارة، أو شرب الخمر نسياناً - مثلاً - موجباً للحدّ - مثلاً -» (1).

أي: وهذا على خلاف الامتنان الذي استظهرنا أنّ الحديث وارد في مقامه، وهو ممّا لا شكّ فيه ولا شبهة تعتريه، ومعه: فلابدّ من أن يكون المقصود من رفع النسيان هو رفع المنسيّ، وذلك بأن يجعل المصدر (النسيان) بمعنى الفعل المبني للمفعول (نُسي).

فيكون المرفوع هو الفعل الذي قد صدر عن نسيان، مثلاً: لو شرب الخمر نسياناً، يجعل هذا الشرب كالعدم من ناحية من له من الأثر الشرعيّ، فيسقط عنه الحدّ وغيره من الآثار الشرعيّة التي تترتّب شرعاً على الشرب العمديّ.

وبناءً على هذا: فيكون مقتضى إجراء حديث الرفع في هذا المقام أنّ الصلاة التي صدرت منه نسياناً لنسيان جزءٍ من أجزائها أو شرط تُجعل كالعدم، فيجب عليه أن يصلّي ثانياً، ولكنّ هذا - كما هو واضح - على خلاف الامتنان جدّاً.

ص: 553


1- منتهى الاُصول 2: 335 - 336.

ثمّ قال):

«إن قلت: إنّ المنسيّ ليس هو المركّب الفاقد للجزء المنسيّ؛ لأنّه صدر عن عمد والتفاتٍ إليه، غاية الأمر: باعتقاد أنّه تمام المركّب، واشتبه في ذلك، بل المنسيّ هو الجزء الذي نسيه ولم يأتِ به، فعدم إتيانه به لنسيان جزئيّته، وإلّا، لو كان ذاكراً لجزئيّته لكان يأتي به، فلابدّ وأن يكون المرفوع هي الجزئيّة في ذلك الحال، لا الفعل الفاقد للجزء كي يكون خلاف الامتنان».وأجاب عنه: بأنّه حتى لو سلّمنا بأنّ المنسيّ كان هو الجزئيّ، وليس ذات الجزء، فنسيان الجزئيّة في بعض الوقت في الواجبات الموقّتة، وفي زمنٍ من الأزمنة في غير الموقّتات، وكونها تسقط بواسطة النسيان في ذلك الوقت أو الزمان، كلّ ذلك، لا يوجب سقوطها في تمام الوقت، أو في تمام العمر، بعد ارتفاع الغفلة وحصول الذكر (1).

وأمّا الجهة الثالثة:

في أنّه هل هناك دليل على أنّ المأتي به الفاقد للجزء نسياناً الواجد لبقيّة الأجزاء، يكون مجزياً عن الماُمور به واقعاً أم لا، بعد أن كان مقتضى القاعدة الأوّليّة هو الحكم بعدم الإجزاء؛ لأنّ ما هو الواجب إنّما هو إتيان الماُمور به، وهو المركّب من عشرة أجزاء - مثلاً - وأمّا المركّب

ص: 554


1- المصدر نفسه 2: 336.

من التسعة، فبما أنّه غير الماُمور به، فلا يكون ماُموراً به، لا ظاهراً ولا واقعاً، فتكون كفايته عن الماُمور به الواقعيّ بحاجةٍ إلى دليل يدلّ عليه، ومن دون الدليل المذكور، فلابدّ من الإعادة في الوقت لو حصل الذكر فيه، والقضاء خارجه. وبالنسبة إلى غير الصلاة، فليس فيها ظاهراً ما يدلّ على الإجزاء.

نعم، بالنسبة إلى خصوص الصلاة ورد ما يدلّ على ذلك، وهو القاعدة المعروفة ﺑ (قاعدة لا تعاد) المستفادة من قوله(علیه السلام): «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود» (1).

ص: 555


1- انظر - مثلاً -: وسائل الشيعة 5: 471، كتاب الصلاة، أبواب أفعال الصلاة، الباب 1، الحديث 14.

ص: 556

قاعدة لا تعاد

اشارة

ولابدّ من الكلام فيها في أمرين:

الأوّل: هل هي من القواعد الاُصوليّة أم لا؟

لا يخفى: أنّ القواعد الاُصوليّة هي التي لا تكون مختصّةً بباب خاصّ، وبناءً على هذا، فلابدّ من خروج هذه القاعدة عن القواعد الاُصوليّة؛ لوضوح كونها مختصّة بباب الصلاة، غاية الأمر: أنّها لمّا كانت تنطبق على فروع كثيرة، أدخلوها في سلك القواعد الفقهيّة، وجعلوها من تلك القواعد. هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى، فهي لا تقع في طريق الاستنباط حتى تكون من المسائل الاُصوليّة، بل إنّما هي حكم شرعيّ كلّيّ يُطَبَّق على مصاديقه تطبيقاً.

الثاني: هل هذه القاعدة مختصّة بالسهو والنسيان أم أنّها - أيضاً - تشمل الجهل بقسميه، أعني: الجهل بالموضوع والجهل بالحكم؟ وكذلك فهل

ص: 557

هي شاملة لقسمي الجهل الآخرين، وهما: الجهل عن القصور والجهل عن تقصير، أم أنّها على فرض شمولها للجهل تكون مختصّة بالأوّل منهما فقط؟ كلّ هذا بعد قطعنا بعدم شمول القاعدة للخلل العمديّ، بل إنّ احتمال شمولها لإخلال العامد العالم بالحكم، لا ينبغي - كما أفاده الاُستاذ المحقّق! (1) - صدوره من أحد؛ لأنّه مخالف لأدلّة الأجزاء والشرائط والموانع، إذ إنّ معنى جعل شيءٍ ما جزءاً أو شرطاً للصلاة هو أنّ المركّب الماُمور به، وهو الصلاة، لا يتحقّق بدونها، فلو كانت الصلاة صحيحة مع الإخلال بشيءٍ من أجزائها أو شرائطها عمداً من قبل العالم به، للزم الخلف لا محالة؛ لأنّ معناه أنّ ما هو جزء أوشرط أو مانع بمقتضى أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع لم يكن جزءاً ولا شرطاً ولا مانعاً، وهذا عين الخلف والتهافت.

بلا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل المثبت للجزئيّة أو الشرطيّة وارداً بمثل لسان (يعيد)، أو بلسان نفي الصلاة وإثبات عدمها نحو (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب) أو بلسان الأمر كما في مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَي-ُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَي-ْدِيَكُمْ﴾ الآية (2).

والمنسوب إلى المحقّق الميرزا الشيرازي! (3) إمكان ذلك، وذلك

ص: 558


1- راجع: القواعد الفقهيّة 1: 80.
2- المائدة: الآية 6.
3- انظر: القواعد الفقهيّة 1: 80.

عن طريق الالتزام بأمرين:

أحدهما: متعلّق بالخمسة المستثناة وغيرها ممّا ثبتت له الركنيّة.

والآخر: متعلّق بإتيان باقي الأجزاء والشرائط معها.

فلو أتى بالخمسة وغيرها ممّا ثبتت ركنيّته وترك الباقي عمداً مع العلم بوجوب إتيانها، كان الأمر المتعلّق بإتيان نفس تلك الخمسة وغيرها ساقطاً ببركة الامتثال، وكذلك، كان الأمر المتعلّق بإتيان باقي الأجزاء والشرائط أيضاً ساقطاً بواسطة عدم بقاء المحلّ والموضوع؛ إذ محلّه وموضوعه كان عبارةً عن إتيان باقي الأجزاء والشرائط مضافاً إلى الخمسة، والمفروض أنّه قد أتى بتلك الخمسة، وأنّ الأمر بها قد سقط.

وهكذا الحال فيما لو نذر أن يأتي بصلاته الواجبة بخصوصيّةٍ ما مستحبّة، كما لو نذر أن يأتي بصلاة الظهر - مثلاً - جماعةً، أو في المسجد، فأتى بها منفرداً، أو في الدار، فإنّ الأمر الأوّل العباديّ يسقط بمجرّد إتيان الفريضة، ولو من دون تلك الخصوصيّة؛ لصدق أنّه قد أتى بما بما هو متعلّق ذلك الأمر العباديّ، وإلّا يلزم طلب الحاصل.ويسقط - أيضاً - الأمر الثاني، أعني: الأمر النذريّ، لعدم بقاء المحلّ والموضوع له؛ لأنّ متعلّقه كان عبارة خصوصيّة محلّ وجودها هو متعلّق الأمر الأوّل، ومع فرض تحقّق الإتيان به، فلا يبقى محلّ لتلك الخصوصيّة حتى يأتي بها.

ص: 559

نعم، إنّ لازم الالتزام بالأمرين بالبيان المتقدّم هو استحقاق العقاب فيما إذا كان عالماً بالحكم أو جاهلاً مقصّراً، وذلك لأنّه فوّت الواجب بإتيانه للماُمور به بذلك الأمر العباديّ بدون مراعاة الخصوصيّة التي أخذها في مورد النذر، وبدون أنّ يقصّر فيما إذا كان مسافراً، وبدون الجهر في مورد الجهر، والإخفات في مورد الإخفات.

ولكن لا بأس بالالتزام بذلك، وذلك بأن يقال:

تصحّ صلاته ولا يجب عليه الإعادة إذا أتى بالخمسة المستثناة، ونحوها ممّا ثبتت ركنيّته، وإن كان يستحقّ العقاب من ناحية تفويته الواجب الآخر.

وردّه اُستاذنا المحقّق! «بأنّ هذا صرف فرض، وإلّا، فهو أمر مخالف للواقع، والمسلّم المقطوع أنّه ليس للصلاة إلّا أمر واحد متعلّق بمجموع تلك الأجزاء والشرائط وإعدام تلك الموانع» (1).

وقد نسب إلى المحقّق البروجردي) في هذا المقام القول بأنّ «القاعدة إنّما هي بصدد بيان حكم المريد للامتثال، المخلّ ببعض الجوانب، ومن الواضح: أنّ من كان بهذا الصدد لا يُتصوّر في حقّه الإخلال العمديّ، وأمّا من ليس صدد الامتثال من أوّل أمره فهو خارج عن نطاق بحثها قطعاً» (2).

ص: 560


1- المصدر السابق 1: 81 - 82.
2- المصدر نفسه 1: 515.

والحاصل: أنّه حينما يحكم المولى بالوجوب ويأمر به فإنّ أمره الوجوبيّ يكون تابعاً للمصلحة الملزمة ووجوب الإتيان به، ومعه: فلايمكن للمولى أن يرخّص في الترك؛ لأنّ حكمه بالترك ليس إلّا نقضاً للغرض وتفويتاً للمصلحة، فشمول القاعدة للإخلال العمديّ ومآله إلى أمر محال، وهو الخلف، كما بيّنّا.

وقد يقال: بأنّه لا مانع من أنّ يرد الأمر على المركّب من ذات الأجزاء والشرائط، ولكن مع ذلك يحكم بصحّة ما أتى به من بقيّة الأجزاء، كما أنّ الأمر بالقصر والإتمام يكون كذلك، وكذا الأمر بالجهر والإخفات، مع كونهما واجبين، كلّ في محلّه، فإنّ الجاهل المقصّر لو أتى في مقام القصر بالتمام، أو بالعكس، تكون صلاته صحيحة، وإن أثم.

هذا. ولكنّ هذا الكلام إنّما كان تامّاً هناك، أي: في بابي الجهر والإخفات والقصر والتمام؛ لأنّ الأمر هناك كان ذا مراتب، ويكون متعدّداً، وأمّا هنا، فلا دليل على مثل هذا التعدّد.

وقد يقال: يمكن قياس المقام بباب الحجّ، فإنّهم حكموا بصحّته ولو ترك بعض أفعاله عمداً، ولا يجب إعادته مع ترك ذلك الفعل.

ولكن فيه: أنّه هناك أيضاً يحكم ببطلان الحجّ لنقص بعض أفعاله الواجبة بسبب إخلال العالم بالحكم به عمداً.

نعم، لو أحرزنا هناك ورود دليل فيحمل - بناءً على القول بالصحّة - بأنّه من قبيل الواجب في الواجب أو من قبيل تعدّد المطلوب.

ص: 561

في زيادة الجزء:

أمّا الزيادة العمديّة فهل يبطل العمل بزيادة الجزء عمداً أو سهواً، أم لا؟ يمكن أن لا تكون موجبةً للبطلان. وأمّا بالنسبة إلى النقيصة العمديّة، فمن المسلّم أنّها توجب البطلان، وإلّا، يلزم لغويّة دليل الأجزاء والشرائط، كما يلزم الخلف، وأنّ ما فرضته جزءاً أو شرطاً للواجب لا يكون كذلك.

والكلام في هذا المقام يقع في اُمور:الأوّل: أنّه هل يمكن تصوير الزيادة في الأجزاء أو الشرائط حقيقةً وأنّها ممكنة أم لا؟

الثاني: أنّ القاعدة الأوّليّة في كلّ من الزيادة والنقيصة هل تقتضي الصحّة أم البطلان؟

الثالث: هل تقتضي الأدلّة الثانويّة خلاف الأدلّة الأوّليّة أم لا؟

أمّا الأمر الأوّل:

فإنّ اتّصاف زيادة الجزء بكونها زيادة الجزء إنّما هو في مورد لم يؤخذ في جزئيّة الجزء قيد الوحدة وكونه بشرط لا؛ إذ لو أُخذ ذلك في جزئيّته، لم يصدق عليه زيادة الجزء حينئذٍ، بل يندرج في نقص الجزء، كما في جزئيّة الركوع - مثلاً - فإذا اعتبر فيه قيد الوحدة وأتى به مرّتين صدق عليه نقص الجزء؛ إذ لا فرق في عدم تحقّق الركوع الذي هو جزء للصلاة الماُمور بها بين تركه رأساً، أو الإتيان به بدون شرطه، والذي هو عدم تكرّره.

ص: 562

وأما إن أُخذ لا بشرط، وهو يجتمع مع ألف شرط، فبما أنّه لا يكون مقيّداً لا بإتيان وجود آخر معه، ولا باعتبار عدمه، فلا بأس - حينئذٍ - بإتيان أكثر من فرد واحد، ولا يصدق عليه الزيادة. هذا إذا لم يكن مأخوذاً بنحو صرف الوجود؛ لأنّ صرف الوجود ينطبق على أوّل وجود للطبيعة، فلا مجال لأن يصدق هنا الامتثال عقيب الامتثال.

نعم، لو أوجد أفراداً متعدّدة دفعة واحدة، فإنّها كلّها تكون - حينئذٍ - مصداقاً للماُمور به. أمّا لو أتى بأحد الأفراد أوّلاً، حصلت الطبيعة وصرف الوجود، فيتحقّق الامتثال، ولا يبقى مجال لصدق الامتثال ثانياً، وحينئذٍ: فيصدق على الوجود الثاني أنّه من الزيادة. وهذه الزيادة، وإن لم تكن من الزيادة التي وردت في الأخبار، إلّا أنّها بلا شكٍّ من مصاديق الزيادة عرفاً.

ولكنّ الحقّ: أنّه يصدق الزيادة الحقيقيّة؛ لأنّه قد يكون الزائد من سنخ المزيد فيه، خصوصاً إذا أتى به بقصد الجزئيّة للمركّب، وإلّا، كان شيئاً أجنبيّاً عن المركّب، لا زيادةً فيه، وكذا لو افترضنا أنّه أتى بشيءٍ منسنخ أجزاء المركّب لا بقصد الجزئيّة، كما لو تحقّق منه الركوع لغرضٍ آخر، فإنّه لا يصدق عليه أنّه زاد في صلاته حينئذٍ.

وأمّا الأمر الثاني:

فهل أنّ القاعدة الأوّليّة تقتضي البطلان بزيادة الجزء عمداً أو سهواً أم لا؟

ص: 563

الصحيح: أنّ بطلان العمل لا يمكن إلّا بالإخلال به، بأن ترك ما اعتبر فيه وجوده، سواء كان من الأجزاء أم الشرائط، أو بأن أتى به مع ما اعتبر فيه عدمه، أي: ما اعتبر من الموانع والقواطع، سواء كان اعتبارها فيه شرعيّاً أم عقليّاً.

أمّا إذا أتى بالمركّب تامّ الأجزاء والشرائط وفاقداً لجميع الموانع فلا وجه لبطلانه عندئذٍ، ولذا كان هناك فرق بين الزيادة والنقيصة؛ إذ مع النقيصة العمديّة تكون صحّة العدم مؤدّية للوقوع في الخلف.

وهذا بخلاف الزيادة، فإنّه يمكن الحكم بصحّة العمل معها من دون أن يكون هناك أيّ محذورٍ.

وعليه: فالزيادة، سهويّةً كانت أم عمديّة، إذا قلنا بأنّها توجب البطلان، فلابدّ أن نقول بأنّ الجزء كان مأخوذاً بنحو البشرط لا، أو بأنّ هناك دليلاً تعبّديّاً ما يدلّ على البطلان، كما لو قلنا بأنّ المركّب مقيّد بعدم الزيادة.

والنتيجة: أنّ مقتضى الأصل هو عدم البطلان بالزيادة العمديّة، فضلاً عن السهويّة.

وقد يستدلّ لعدم البطلان بالاستصحاب، ويقرّب هذا الاستصحاب بتقريبين:

أوّلهما: استصحاب الصحّة التأهليّة للأجزاء التي أتى بها قبل أنّ يأتي بهذه الزيادة، والمقصود بالصحّة التأهليّة في المقام صلاحيّته لانضمام سائر الأجزاء بها، وحصول الامتثال بالمجموع.

ص: 564

والثاني: استصحاب الهيئة الاتّصالية التي كانت في المركّب القائم بذوات المادّة، أي بذوات الأجزاء، فكما أنّ المركّبات الخارجيّةالحقيقيّة مشتملة على مادّة، وهي أجزاء المركّب في الخارج، وعلى صورة، وهي مدار وحدته، وعليه يدور تسميته، بل تلك الصورة مبدأ أثره، فكذلك - أيضاً - في بعض المركّبات الاعتباريّة، هناك صورة ما إذا انعدمت فلا يكون للأجزاء من أثر أصلاً.

ودليل إثبات هذه الصورة للمركّب - بعد الفراغ عن إمكانها في عالم الثبوت - أدلّة القواطع؛ لأنّ معنى القاطع هو قطع تلك الهيئة الاتّصاليّة. وهذا بعينه هو الفرق بين القاطع والمانع؛ فإنّ المانع هو الذي اعتبر عدمه في المركّب، كما في لبس الذهب أو غير المأكول في الصلاة - مثلاً - وأمّا القاطع فهو ما يقطع تلك الهيئة الاتّصاليّة. ولذا لو أوجد مانعاً في حال السكونات المتخلّلة بين الصلاة ورفع حال الاشتغال، فلا يكون موجباً للبطلان البتّة، وهذا بخلاف القاطع، فإنّه أينما وُجد - كما في الاستدبار والحدث - يكون موجباً البطلان؛ وذلك لمضادته مع حالة كونه في المركّب.

وهل صدق الزيادة يحتاج إلى القصد أم لا؟

ذكر المحقّق العراقي! أنّ صدق الزيادة بحاجة إلى القصد؛ لأنّ «حقيقتها - يعني: الصلاة - عبارة عن الأفعال والأذكار الخاصّة الناشئة عن قصد الصلاتيّة، لا أنّها عبارة عن مجرّد الأفعال والأذكار والهيئات

ص: 565

الخاصّة، ولو مجرّدة عن قصد الصلاتيّة، بشهادة عدم حرمتها كذلك على الحائض إذا أتت بها على الكيفيّة الخاصّة لا بعنوان الصلاتية فعليه: يحتاج في صدق عنوان الزيادة فيها إلى قصد عنوان الصلاتية بالجزء المأتيّ به أيضاً، وإلّا، فمع فرض خلوّه عن قصد الصلاتيّة وعنوان الجزئيّة لها، لا يكون المأتيّ به حقيقةً من سنخ الصلاة، فلا يرتبط - حينئذٍ - بالصلاة حتى يصدق عليه عنوان الزيادة في الصلاة، إلّا على نحوٍ من العناية للمشاكلة الصوريّة» (1).وبناءً على هذا، فلو قصد الجزئيّة، لأتى البطلان إلى عبادته من جهة التشريع أيضاً.

ويمكن الخدشة فيه: بأنّ الصلاة وإن كانت هي مجموعة من المقولات المتباينة التي يجمعها عنوان واحد قصديّ يوجب أن يكون اتّصاف كلّ واحد من المقولات بالجزئيّة متوقّفاً على القصد، غير أنّ ذلك لا يستلزم أن يكون صدق الزيادة متوقّفاً - هو بدوره - على القصد أيضاً؛ لأنّ الزيادة من المفاهيم العرفيّة التي لا توقّف لها على القصد، كما هو ظاهر.

ومن المعلوم، أنّ الأدلّة الدالّة على مانعيّة الزيادة ملقاة إلى العرف، ومعنى الزيادة عرفاً خالٍ من اعتبار القصد فيه، بل لو كان يحتاج إلى القصد، فلم يكن معنى للزيادة السهويّة.

ص: 566


1- نهاية الأفكار 3: 436 - 437.

وبالجملة: فحيث كان معنى الزيادة عرفاً خالياً من اعتبار القصد فيه، فلابدّ في اعتباره فيه من دليل شرعيٍّ يدلّ عليه، وهو مفقود في المقام.

وعليه: فلو كان الزائد من سنخه فيصدق عليه الزيادة مطلقاً، سواء قصده أم لا، أتى به عمداً أو سهواً، بل حتى لو قصد به الخلاف، أي: أنّه ليس جزءاً.

وأمّا غير المسانخ، كحركة اليد وضمّ الطفل، فلا يصدق عليه الجزئيّة للصلاة، وإن قصد به الجزئيّة، ولو فرض أنّ الإتيان به أوجب خللاً في الصلاة، كالتكتّف المنهيّ عنه مثلاً، فليس ذلك لصدق الزيادة، بل إنّما هو لاقترانها بالمانع، وهو النهي الوارد عنه.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي) أيّد كلامه المتقدّم بجواز سجدة التلاوة في النافلة مع وضوح اشتراك الفريضة والمندوبة في الشرائط والموانع، ولذا لا يجوز تكرار الركوع فيها بقصد الجزئيّة (1).ويمكن أن يردّ عليه: بأنّ بين الصلاة المندوبة والصلاة الواجبة فروقاتٍ عدّة، منها: جواز الإتيان بالنافلة ماشياً وراكباً بخلاف الفريضة. ومنها: عدم وجوب سجدة السهو فيها، ومنها: جواز البناء على كلٍّ من الأقلّ

ص: 567


1- المصدر السابق 3: 439، قال): «وربّما يؤيّد ما ذكرنا - أيضاً - النصوص المرخّصة لقراءة العزائم في غير المكتوبة من الصلوات المندوبة، مع وضوح اشتراك الصلوات المندوبة مع المكتوبة في الشرائط والموانع، ولذا لا يجوز فيها - أيضاً - تكرار الركوع أو السجود بقصد الجزئيّة للصلاة كما لا يخفى».

والأكثر في الأوّليين، ومنها: جواز البناء على الأقلّ فيها فيما إذا شكّ بين الاثنتين أو الثلاث، ومنها: جواز ترك السورة فيها عمداً، وغير ذلك. فليكن من هذه الفروقات أيضاً اغتفار الزيادة المتحقّقة بمجرّد انضمام ما يسانخ بعض الأجزاء فيها، بلا فرق بين قصد الزيادة وعدمه.

وأمّا الأمر الثالث:

وعن حكم الزيادة، فهل هي موجبة للبطلان أم لا؟ بعدما عرفنا أنّه لا يحكم بمبطليّتها على حسب القاعدة الأوّليّة؛ لأنّ بطلان العمل لابدّ وأن يكون مستنداً إلى الإخلال به، إمّا بفقد شرطٍ أو جزءٍ منه، أو بوجود ما اعتبر عدمه فيه من الموانع والقواطع، والشكّ في بطلان العمل بعد الإتيان به مشتملاً على أمر زائد يرجع إلى الشكّ في أنّ المركّب هل كان مقيّداً بعدم ذلك أمر أم لا؟

فيرجع - حينئذٍ - إلى الشكّ في الأقلّ والأكثر في باب الأجزاء التحليليّة، فإذا كان للمركّب إطلاق ينفي قدح الزيادة في العمل وإخلالها به، لم يكن العمل باطلاً، وأمّا لو لم يكن له إطلاق، بأن لم يكن لفظيّاً، كالإجماع، أو كان كذلك، ولكن لم تتمّ فيه مقدّمات الحكمة، فتصل النوبة - حينئذٍ - إلى الأصل العمليّ، من استصحاب الصحّة ونحوه، وإلّا ، فالمرجع إلى البراءة عن مانعيّة الزيادة.

هذا كلّه فيما تقتضيه القاعدة.

وأمّا ما يقتضيه الدليل، فقد وردت روايات تدلّ على بطلان الصلاة

ص: 568

والطواف والسعي بالزيادة مطلقاً، أو خصوص العمديّة، فلابدّ من ملاحظة تلك الروايات والتعرّض للجمع فيما بينها. فنقول:

لا يخفى: أنّ روايات الصلاة على طوائف:الاُولى: ما دلّ على البطلان بالزيادة مطلقاً، سواء كانت عن عمد أم سهواً، وهي نصوص عدّة:

منها: ما ورد عن أبي بصير، قال: «قال أبو عبد اﷲ(علیه السلام) من زاد في صلاته فعليه الإعادة» (1).

ولكنّ الذي يظهر من هذه الرواية: أنّه لو أتى بالزيادة سهواً - أيضاً - يكون مبطلاً، مع أنّ الزيادة السهويّة ليست بمبطلة يقيناً، والزيادة العمديّة خارجة عن موضوع الكلام، فلابدّ من حملها على زيادة الأركان أو على الزيادة في عدد الركعات.

ومنها: معتبرة عليّ بن جعفر عن أخيه(علیه السلام) قال: «سألته عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة النجم، أيركع بها أو يسجد ثمّ يقوم فيقرأ بغيرها. قال: يسجد ثمّ يقوم، فيقرأ بفاتحة الكتاب ويركع، وذلك زيادة في الفريضة» الخبر (2).

ص: 569


1- وسائل الشيعة 8: 231، كتاب الصلاة، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 6: 106، كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

ولكن فيها تعارض بين الصدر والذيل، فيحمل الصدر على التقية؛ لأنّ الظاهر كون الذيل وارداً في مقام بيان الحكم الواقعيّ.

والدليل على ذلك ما ورد عن زرارة عن أحدهما' قال: «لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم؛ فإنّ السجود زيادة في المكتوبة» (1).

الطائفة الثانية: ما جاء مختصّاً بحال السهو، ولكنّه كان مطلقاً من ناحية الأركان، كخبر زرارة وبكير بن أعين: «إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها، واستقبل صلاته استقبالاً إذا كان استيقن يقيناً» (2).الطائفة الثالثة: ما دلّ على الصحّة وعدم البطلان مطلقاً في صورة السهو، سواء كان بالزيادة أم نقيصة، وسواء كان في الأركان أم في غيرها، مثل مرسلة سفيان بن السمط عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «تسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة تدخل عليك أو نقصان» (3).

والطائفة الرابعة: ما دلّ على البطلان في خصوص الأركان مطلقاً، زيادة كان أو نقيصة، وعدم البطلان كذلك في غيره، كحديث «لا تعاد» المتقدّم.

ص: 570


1- وسائل الشيعة 6: 105، كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.
2- راجع: الكافي 3: 354، الحديث 2؛ تهذيب الأحكام 2: 194، الحديث 763.
3- وسائل الشيعة 8: 251، كتاب الصلاة، الباب 33 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.

وتقع المعارضة بين حديث (لا تعاد) وبين خبر أبي بصير الذي مرّ في الطائفة الأُولى، فحديث (لا تعاد) يعارضها في غير الأركان في صورة السهو في عقد المستثنى منه بالظهور، بل بنحو النصوصيّة، ويكون مقدّماً عليها، وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه.

فإن قيل: حديث (لا تعاد) ليس شاملاً للزيادة؛ لأنّه لا يمكن تصوّر الزيادة في الطهور والوقت والقبلة، فلا تعارض هنا أصلاً.

قلنا: أوّلاً: يكفي أن يكون التعارض بين إحدى فقرتي الرواية وبين المستثنى منه، ولو لم يكن تعارض في المستثنى.

وثانياً: لو فرض عدم إمكان تصوّر الزيادة في بعض الاُمور، ولكن يكفي لإثبات عموم الحكم إمكان تصوّر مصداق لها في بعض التقادير، ولو لم يكن تصوّره ممكناً في بعض آخر.

هذا بالنسبة إلى الزيادة السهويّة.

وأمّا الزيادة العمديّة، فحيث إنّ حديث (لا تعاد) لا يشملها فهي باقية تحت عموم الحكم العامّ، وهو وجوب الإعادة وبطلان الصلاة، إذ بعد كون النسبة بين الرواية الاُولى وبين الحديث المذكور عموم من وجه، يكون حديث (لا تعاد) حاكماً عليها، فلا معارضة بينهما؛ ضرورة تقدّم الحاكم على المحكوم.وأمّا الرواية الثانية، التي كانت مختصّة بحال السهو ومطلقة من حيث الأركان، فهي - أيضاً - بينها وبين حديث (لا تعاد) عموم من وجه؛ لأنّ

ص: 571

الحديث مختصّ في مورد المعارضة بغير الأركان، فيكون مقدّماً على الرواية من باب الحكومة.

نعم، يبقى الكلام في قوله(علیه السلام): «تسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة تدخل عليك أو نقصان»، فبما أنّها عامّة من حيث الأركان أيضاً، فتكون معارضة لحديث (لا تعاد) الذي يثبت به الصحّة بالنسبة إلى غير الركن، فيكون مقدّماً عليها أيضاً، وبالتالي: فيحكم بالصحّة ولزوم الإتيان بالسجدة في غير الركن، وأمّا في الركن فيكون باطلاً.

مسألة: في مقتضى القواعد الأوّليّة عند التعذّر:

إذا تعذّر وجود جزء أو شرط أو عدم مانع بواسطة الاضطرار أو شيءٍ من الأعذار الأُخَر، بمعنى: أنّه اضطرّ إلى ترك جزء أو شرط في الماُمور به، أو اضطرّ إلى وجود مانع أو أُكره على ذلك، بعدما كان لوجود الجزء أو الشرط أو عدم المانع دخل في الماُمور به، فهل يسقط الوجوب - بمقتضى القواعد الأوّليّة - عن بقيّة الأجزاء؛ لعدم تمكّنه من الإتيان بجميع أجزاء المركّب أم لا، بل الذي يسقط عندئذٍ هو وجوب الجزء أو الشرط أو المانع دون بقيّة الأجزاء؟

فنقول: إن كان لدليل الجزء أو الشرط إطلاق بحيث يجب الإتيان به في جميع الحالات، فلا كلام في سقوط المركّب حينئذٍ؛ لوضوح انتفاء الكلّ والمشروط بانتفاء الجزء أو الشرط، فلا يفيد الإتيان بالباقي إلّا إذا

ص: 572

دلّ دليل خارجيّ على وجوب الإتيان بالباقي، كقاعدة الميسور، كما إذا كان لدليل المركّب إطلاق فيقتضي مطلوبيّته مطلقاً، ولو تعذّر بعضه من دون حاجة إلى دليل ثانويّ آخر، كقاعدة الميسور، فإنّ إطلاق دليل المركّب يقتضي وجوب بقيّة الأجزاء، ولو تعذّر الإتيان ببعضها.وبعبارة أُخرى: فإنّه لو كان لدليل الجزء أو الشرط إطلاق يشمل جميع الحالات، كان مقتضى الإطلاق هو ركنيّتهما؛ فإنّ عدم الإمكان بهما يوجب سقوط الأمر عن بقيّة الأجزاء، حيث إنّ انتفاء الكلّ يكون بسبب انتفاء جزئه أو شرطه، إلّا إذا وُجد دليل ثانويّ، كقاعدة الميسور، ودلّ على وجوب الإتيان بالباقي.

وأمّا لو كان لدليل الواجب والماُمور به إطلاق، ولم يكن لدليل الجزء والشرط إطلاق، فإنّ مقتضى هذا الإطلاق هو وجوب الإتيان بما عدا المتعذّر من سائر الأجزاء، فإنّ معنى إطلاق دليل المركّب أنّه مطلوب على الإطلاق، وأنّه يجب الإتيان به وإن تعذّر بعض أجزائه أو شروطه، ولا يحتاج - حينئذٍ - في إثبات الوجوب بالنسبة إلى بقيّة الأجزاء إلى أيّ دليل ثانويّ، بل يثبت وجوب الباقي بنفس دليل المركّب.

وأمّا لو كان دليل المركّب أو الشرط لبّيّاً، أو كان لفظيّاً، ولكنّه كان مجملاً، ولم يعلم من دليليهما أنّ وجوبهما ثابت على نحو الإطلاق، أي: حتى في حال العجز، أو أنّه يكون جزءاً وشرطاً فقط في حال التمكّن.

فبناءً على الأوّل: يسقط الأمر عن البقيّة؛ لأنّه قد عجز عن الإتيان

ص: 573

بالمركّب من الجزء أو الشرط، وكان وجوبهما ثابتاً على الإطلاق، فهما من أركان المركّب، والمركّب ينتفي بانتفاء شيءٍ من أركانه.

وأمّا بناءً على الثاني، وهو أن تكون الجزئيّة أو الشرطيّة مقيّدة بحال التمكّن، فيبقى الأمر عند العجز، ويجب معه الإتيان ببقيّة الأجزاء.

وأمّا إذا لم يكن لشيء من دليلي الماُمور به والأجزاء إطلاق؛ لفرض إجمالهما، أو إهمالهما، بأن لم يكن مجال لاستفادة الإطلاق من خطابيهما، وكان كلّ منهما قاصراً عن ذلك في مقام الإثبات، إمّا لكونه مجملاً من ناحية اشتراك اللّفظ، أو لكونه مهملاً، أي: أنّ المولى لم يكن في مقام البيان، فحيث لم يكن شيء منهما مطلقاً، ليثبت دخل الجزء أو الشرط مطلقاً، أو مبيّناً، ليثبت أنّهما دخيلان في حال التمكّن، فيجريالشكّ - حينئذٍ - في كونهما دخيلين على الإطلاق، أم أنّهما دخيلان فقط في حالة التمكّن.

وهو - أعني: هذا الشكّ - مجرى للبراءة العقليّة؛ لأنّ العقاب - حينئذٍ، أي: لو تركنا بقيّة الأجزاء - يكون عقاباً بلا بيان.

وخلاصة البحث: أنّه مع الشكّ في كون الجزء أو الشرط دخيلاً في حالتي التمكّن والعجز معاً، أو في خصوص حال التمكّن، وانعدام الدليل الاجتهاديّ المعيّن لأحدهما، فلا محالة: تجري البراءة العقليّة عن وجوب الباقي إذا تعذّر بعض أجزاء الواجب أو شرائطه؛ لأنّ العقاب على ترك الباقي - كما أشرنا - عقاب بلا بيان.

ص: 574

هذا كلّه إذا كان لكلّ واحدٍ من الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة أمر على حدة.

وأمّا لو كان هناك أمر واحد فقط، وقد ورد هذا الأمر على الماُمور به، بجميع قيوده وشروطه وموانعه، فلا إشكال - حينئذٍ - في سقوط المقيّد عند تعذّر القيد، ولا يجب الإتيان بالباقي، بل يكون وجوب الباقي بحاجةٍ إلى أمر جديد.

وقد يقال: إنّ البراءة العقليّة وإن كانت جارية لإثبات عدم وجوب الباقي ورافعة للعقاب على تركه، إلّا أنّ حديث الرفع يجري، وتجري البراءة الشرعيّة لنفي الجزئيّة والشرطيّة في حال التعذّر، والبناء على وجوب الباقي بها، حيث إنّ حديث الرفع يضيّق دائرة الجزئيّة أو الشرطيّة ويخصّصها بحال التمكّن فحينئذٍ: لا يكون للجزء أو الشرط المتعذّر دخل في الواجب حتى يقيّد الباقي به ويلتزم بسقوطه، بل يكون الباقي مطلقاً بالنسبة إلى المتعذّر، فيجب الإتيان به، فيكون وزانه - والحال هذه - وزان النسيان، فكما يثبت هناك بحديث الرفع وجوب ما عدا الجزء أو الشرط المنسيّ، فكذلك يثبت به هنا وجوب ما عدا المتعذّر من الجزء أو الشرط.

وبكلمةٍ: فإنّ الشكّ في بقاء الباقي يكون ناشئاً عن الشكّ في اعتبار المتعذّر على الإطلاق، أي: حتى في حال التعذّر، وحديث الرفع يرفعاعتباره كذلك، ومقتضاه بقاء وجوب الباقي وعدم تقييده بالمتعذّر.

ص: 575

ص: 576

قاعدة الميسور

اشارة

وقد يستدلّ لوجوب ما عدا الجزء أو الشرط المتعذّر بالاستصحاب، وسيأتي الكلام فيه في محلّه. وبقاعدة الميسور، والكلام الآن فيها.

والكلام في هذه القاعدة:

أوّلاً: في مدركها:

قد يستدلّ لها بقوله تعالى: ﴿وَ للهِ عَلَى ال-نَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ (1)، لو فرض أنّ للآية إطلاقاً تشمل به - في محلّ الكلام - كلتا الحالتين، أعني: التمكّن وعدم التمكّن من الجزء (كرمي الجمرة مثلاً)، بحيث لو لم يتمكّن منه سقط وجوبه بسبب عدم القدرة وكان عليه أن يأتي بالباقي تمسّكاً بإطلاق دليل وجوب الحج.

ولكنّ التمسّك بإطلاق دليل المركّب يتوقّف على اُمورٍ ثلاثة:

أوّلها: عدم ثبوت إطلاق لدليل ذلك الجزء أو الشرط المتعذّر، وإلّا،

ص: 577


1- آل عمران: الآية 97.

فلا يبقى مجال للتمسّك بإطلاق دليل المركّب، وذلك بعد أن كان إطلاق دليل الجزء حاكماً على إطلاق دليل المركّب.

والثاني: أن تكون مقدّمات الإطلاق في دليل المركّب موجودة، كأن يكون المولى في مقام البيان - مثلاً -.والثالث: أن لا يكون اللّفظ الموضوع لذلك المركّب موضوعاً للصحيح على فرض كونه من العبادات، فإنّه لو كان كذلك، لم يكن من الممكن التمسّك بإطلاقه في رفع جزئيّة مشكوك الجزئيّة أو شرطيّته كذلك.

وقد يستدلّ للقاعدة - أيضاً - بالروايات:

ومنها: النبويّ الشريف، وهو أنّه خطب رسول اﷲ- فقال: «إنّ اﷲ كتب عليكم الحجّ، فقام عكاشة، أو سراقة بن مالك، فقال: في كلّ عامٍ يا رسول اﷲ؟ فأعرض عنه، حتى أعاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال-: ويحك، وما يؤمنك أن أقول نعم، واﷲ لو قلت نعم لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (1).

ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنّه قال: «الميسور لا يسقط بالمعسور» (2).

ص: 578


1- عوالي اللآلي 4: 58.
2- المصدر نفسه.

ومنها: ما روي عنه(علیه السلام) - أيضاً -: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (1).

ويظهر من كلام الشيخ! دلالتها على المدعى، وقد بنى ذلك على ظهور لفظ «من» في التبعيض (2).

وقد أوضحه المحقّق الأصفهانيّ! بقوله:«لا يخفى عليك أنّ كلمة (من) إمّا تبعيضيّة أو بمعنى الباء، ولفظ (بشيء) إمّا أنّ يراد به المركّب أو العامّ أو الكلّيّ، وكلمة (ما) في قوله-: (ما استطعتم) إمّا أن يراد منها الموصولة أو المصدريّة الزمانيّة» (3).

ومن الواضح: أنّها إنّما تفيد المدعى لو اُريد من الشيء المركّب، وكانت (من) تبعيضيّة، فإنّها تكون ظاهرة في أنّه إذا تعلّق الأمر بمركّب ذي أجزاء فأتوا بعضه الذي تستطيعونه.

وأمّا لو اُريد من (من) معنى الباء، فتكون - حينئذٍ - ظاهرةً في إرادة أنّه إذا تعلّق الأمر بشيء فأتوا به مدّة استطاعتكم، ومن الواضح أنّه - على هذا الاحتمال - يكون أجنبيّاً عمّا نحن فيه. كما أنّه إذا كان المراد من (من) معنى البيان، كانت ظاهرةً في أنّه إذا تعلّق الأمر بكلّيٍّ فأتوا من أفراده ما استطعتم، وذلك - أيضاً - أجنبيّ عن المدّعى.

ص: 579


1- المصدر نفسه.
2- فرائد الاُصول 2: 390 - 392، قال): «والحاصل: أنّ المناقشة في ظهور الرواية من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفيّة».
3- نهاية الدراية 2: 702.

وقد أفاد! في تقريب كلام الشيخ: «أنّه لا معنى لكون (من) بيانيّةً؛ لأنّ مدخولها الضمير، ولا يمكن أن يكون بياناً ﻟ (شيء)، كيف؟ وهو مبهم».

وأمّا كونها بمعنى الباء، فالذي يوهمه إنّما هو عدم تعدّي لفظ (الإتيان) بنفسه، وإنّما هو يتعدّى بالباء؛ إذ يقال: أتيت به، بمعنى: أوجدته، ولكنّ الأمر ليس كذلك، بل الإتيان يتعدّى بنفسه تارةً، كما في قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ (1)، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأت--ُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (2)، ويتعدّى بالباء أُخرى، كما في قوله تعالى:﴿يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّ-نَةٍ﴾ (3)، وعليه: فلا يتعيّن أن تكون في الرواية بمعنى الباء.

وأمّا لفظ (الشيء) فلا يراد به العامّ الاستغراقيّ؛ لأنّه يعبّر به عن الواحد ولا يعبّر عن المتعدّد، وإنّما يعبّر عنه ﺑ (أشياء)، فلو أراد العامّ لناسب أنّ يعبّر ﺑ (أشياء).

كما أنّ إرادة الطبيعة والكلّيّ في (منه) ممكنة في حدّ نفسه، إلّا أنّ إرادة الكلّيّ في المقام ممتنعة، إلّا أنّه لا يناسب التبعيض، إذ الفرد مصداق للكلّيّ لا بعضه، فيتعيّن أن يراد به المركّب ذو الأجزاء، فتكون دالّةً على المدّعى.

ص: 580


1- النساء: الآية 15.
2- الأحزاب: الآية 18.
3- النساء: الآية 19.

وقد استشكل في الاستدلال بهذه الرواية صاحب الكفاية!، وتبعه عليه جماعة، منهم اُستاذنا المحقّق).

قال في الكفاية: «إلّا أنّ كونه بحسب الأجزاء غير واضح؛ لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد» (1).

وحاصله: أنّه إنّما يمكن أنّ يستدلّ بالرواية لو كان المراد من الشيء هو الكلّ والمركّب ذو الأجزاء، وأمّا لو كان المراد منه الكلّيّ والطبيعة المنطبقة على الأفراد والمصاديق المتعدّدة من دون ملاحظة الخصوصيّات المشخّصة لها فيكون المعنى هكذا: إذا أمرتكم بطبيعة كلّيّة ذات أفراد ومصاديق متعدّدة فأتوا بعض تلك الأفراد والمصاديق التي تحت استطاعتكم وقدرتكم، فيكون الحديث الشريف أجنبيّاً عمّا نحن بصدده؛ لأنّ سؤال ذلك الصحابيّ كان عن لزوم تكرار الطبيعة وإيجادها في كلّ عام أو الاكتفاء بصرف الوجود منها، والمتعيّن هو هذا الاحتمال، وإلّا، يلزم عدم انطباقه على المورد، وهو في غاية الركاكة.إن قلت: يمكن أن يكون المراد من الشيء كلا الأمرين، أي: الكلّ والكلّيّ، ومعناه - حينئذٍ - هكذا: إذا أمرتكم بشيء ذي أجزاء أو ذي أفراد فأتوا من تلك الأجزاء أو الأفراد بقدر استطاعتكم.

قلت: قد أجاب عن هذا الإشكال المحقّق النائيني) بقوله:

ص: 581


1- كفاية الاُصول: 370.

«فاسد؛ إذ لا جامع بينهما؛ فإنّ لحاظ الأفراد يباين لحاظ الأجزاء، ولا يصحّ استعمال كلمة (من) في الأعمّ من الأجزاء والأفراد، وإن صحّ استعمال (الشيء) في الأعمّ في الكلّ والكلّيّ» (1).

وقد يقال أيضاً: بأنّ تصوّر الجامع بلحاظ تبعّض حصص الطبيعيّ في أفراده، فإذا اُريد من الشيء الأعمّ من الكلّ والكلّيّ، فلا بأس بإرادة التبعيض من الكلّيّ بلحاظ حصصه الموجود في ضمن أفراده، والتبعيض من الكلّ من الأجزاء المندرجة في ضمنه؛ وتطبيق العامّ على مورد خاصّ - أيضاً - لا يوجب تخصيص العامّ به.

وقد ذهب الاُستاذ المحقّق! إلى إمكان تصوير الجامع ولحاظه، إذ الشيء من المفاهيم العامّة، وهو مصدر مبنيّ للمفعول، وبمعنى المشيء وجوده، ويكون مساوقاً للوجود، ولمفهوم الموجود في الممكنات.

ثمّ قال): «فبناءً على هذا: المركّب من الأجزاء الذي شُيِّئ وجوده شيء، وكذلك الكلّيّ والطبيعة التي شُيِّئ وجودها شيء، فوجود الجامع بين الكلّ والكلّيّ من أوضح الواضحات» (2).

ولكنّك خبير: بأنّ هذا هو عين ما ذكره المحقّق النائيني! من أنّ استعمال الشيء في الأعمّ من المركّب والكلّيّ ممكن. وإنّما كان إشكال

ص: 582


1- فوائد الاُصول 4: 254 - 255.
2- القواعد الفقهيّة 4: 138.

المحقّق النائيني في استعمال كلمة (من) في الأعمّ من الأجزاء والأفراد، وهو استعمال في المتباينين.وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقّق!فهو إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ (من) ليس له معنى مستقلّ، بل هو بمعنى الربط، ولذا قال الاُستاذ نفسه:

«فكلمة (من) استعملت في الربط الكذائيّ بين الإتيان والشيء، وإذا كان المراد من (الشيء) باعتبار كونه مصداقاً للجامع بين الكلّ والكلّيّ هو الكلّ، فيكون مصداق تلك النسبة هي الربط التبعيضيّة في الأجزاء، وإذا كان المراد بذلك الاعتبار هو الكلّيّ، فيكون المصداق هو الربط المذكور في المصاديق والأفراد، وإن كان المراد هو الجامع، فيشمل كلا الأمرين كما فيما نحن فيه» (1).

ولكنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ (من) بما أنّها من الحروف إنّما يكون بمعنى الربط. وأمّا إذا قلنا بأنّ الحروف لها معنى، فتكون بمعنى البعض، واستعمال (من) وإرادة البعض من الأجزاء، والبعض من الأفراد، يكون من الاستعمال في معنيين مع تباين اللّحاظين، أعني: لحاظ الأفراد، ولحاظ الأجزاء، وهو غير ممكن.

وقال اُستاذنا المحقّق): «هذا مع أنّه لو قلنا بمقالة صاحب الكفاية! في المعاني الحرفيّة - من أنّ الموضوع له في الحروف والأسماء واحد

ص: 583


1- المصدر نفسه 4: 138 - 139.

كلّ لمرادفه فيكون في المقام كلمة (من) بمعنى البعض، الذي هو مفهوم اسميّ أيضاً - لا يرد شيء على ما استظهرنا من الحديث من أنّ مفاده اعتبار هذه القاعدة. وذلك من جهة أنّ لفظ (البعض) - أيضاً - مفهومه مشترك بين بعض الأجزاء، وبعض الأفراد، فلو كانت ألفاظ الحديث هكذا: إذا أمرتكم بمركّب ذي أجزاء، أو بطبيعةٍ ذات أفراد، فأتوا بعضهما الذي تحت استطاعتكم وقدرتكم، والمفروض أنّ ذلك المركّب المأمور به ليس تمام أجزائه تحت قدرة المكلّف واستطاعته ولا تمامها خارج عن تحت قدرته، بل يقدر على إتيان البعض دون البعض الآخر، وكذلك في الطبيعة المأمور بها قادر على إتيان بعض الأفراد دون بعضها، فهل يشكّ أحد في أنّ المراد بهإتيان الأجزاء المقدورة من ذلك المركّب والأفراد المقدورة من تلك الطبيعة؟» (1).

ولكنّ ما ذكره - أيضاً - غير تامّ؛ لأنّه وإن فرض أنّ لفظ (البعض) كان مشتركاً بين الأجزاء والأفراد، غير أنّ هذا لا يرفع غائلة المحذور؛ لأنّ الكلام إنّما هو فيما إذا كان لفظ (الشيء) بمعنى الجامع ولفظ (من) للتبعيض، فكيف تستعمل كلمة (من) باستعمالٍ واحد في شيئين متباينين ومتنافيين من حيث اللّحاظ؟ فالفهم العرفيّ يقتضي أنّ المراد من (الشيء) إنّما هو الكلّ خاصّةً، بقرينة لفظ (من) الظاهر في التبعيض.

ص: 584


1- المصدر نفسه 4: 139 - 140.

وأمّا قوله(علیه السلام): «الميسور لا يسقط بالمعسور»، فدلالته على المطلوب واضحة، وهو أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، أي: أنّ الميسور من كلّ ما أمر به الشارع لا يسقط بمعسوره، فإذا فرض أن كان بعض أجزاء ذلك الشيء معسوراً، فحينئذٍ: يسقط التكليف عنه لأجل تعسّره أو تعذّره، ولكنّ هذا لا يستوجب سقوط الباقي الميسور من ذلك العمل، وبما أنّ الرواية مطلقة، فهي تشمل المستحبّات أيضاً، فإذا كان هناك عمل مستحبّ بعض أجزائه غير ميسورة، كان مطلوباً - أيضاً - الإتيان بالباقي ما دام ميسوراً.

وقد ذكر الاُستاذ المحقّق) أنّه «يمكن أن يكون المراد من قوله(علیه السلام): (الميسور لا يسقط بالمعسور) أعمّ من الأجزاء والأفراد، فباعتبار كونه الميسور من المركّب يكون الأجزاء غير المتعذّرة أو غير المتعسّرة ميسورة، وباعتبار إضافته إلى الطبيعة الكلّيّة، يكون ميسورها هو الأفراد غير المتعذّرة، فيشمل كلا الأمرين، ولا وجه لتخصيصه بأحدهما» (1).ولكنّه غير تامّ؛ بل الحقّ ما ذكره المحقّق النائيني! بقوله: «فظهوره فيما نحن فيه ممّا لا يكاد يخفى؛ إذ ليس فيه ما يوجب حمله على الميسور من الأفراد، بل الظاهر أنّ ميسور كلّ شيء لا يسقط بمعسوره» (2).

ص: 585


1- المصدر نفسه 4: 140.
2- فوائد الاُصول 4: 255.

وذلك لأنّه لو قلنا بأنّ المراد منه هو - كما ذكره الاُستاذ المحقّق! - الأعمّ من الأجزاء والأفراد، لاستلزم أن يكون لفظ واحد مستعملاً باستعمال واحد في معنيين متباينين، وهو محال.

ثمّ إنّه لو بنينا على أنّه شامل للوجوب والاستحباب، فلا يرد عليه ما قد يقال: من أنّ المنفيّ إن كان هو اللّزوم فلا تشمل الرواية المستحبّات؛ لأنّ الأجزاء الميسورة من المستحبّات لا لزوم فيها، وإن كان المنفيّ هو مطلق الرجحان والمطلوبيّة، فحينئذٍ: لا يثبت بها سوى أنّ الإتيان بالميسور، حتى في الواجبات يكون راجحاً ومطلوباً فحسب، ولا مجال للالتزام به، كما لا يخفى.

وجه عدم الورود: أنّه يمكن أن يقال: بأنّ المنفي هو سقوط موضوعيّة الميسور لما كان له من الحكم أوّلاً، أعني: قبل حدوث التعذّر، وظاهر: أنّه لا فرق في هذا بين أن يكون الحكم وجوبياً أو استحبابيّاً.

ولكن لا يخفى: بأنّ هذا الكلام إنّما يتمّ فيما لو قلنا بأنّ الموضوعيّة للحكم الشرعيّ بما أنّها من الأحكام الوضعيّة فتكون قابلة للجعل التشريعيّ.

وقد يستشكل في المقام: بأنّ هذه الرواية أجنبيّة عن حكم المركّب الذي يتعذّر بعض أجزائه؛ لأنّ الحكم الثابت للأجزاء إنّما هو الحكم الضمنيّ، وهو قد ارتفع قطعاً، والوجوب يرتفع عن الكلّ بعد تعذّر بعض أجزائه، ومعه: فلا يبقى - حينئذٍ - للباقي وجوب ضمنيّ قهراً، فإن

ص: 586

فرضنا بأنّ هناك وجوباً، فإنّما يكون وجوباً استقلاليّاً نفسيّاًجديداً، وهو - كما لا يخفى - لا يعدّ بقاءً للأمر الأوّل بل إنّما يكون حكماً ووجوباً جديداً.

ولكن قد أجاب عنه اُستاذنا المحقّق!بأنّه «على تقدير وجوب الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء، فليس هذا وجوباً آخر، بل هو عين وجوب السابق. وأمّا كونه ضمنيّاً في السابق، واستقلاليّاً بعد حدوث تعذّر بعض الأجزاء، لا يوجب تغيّراً في وجوب الباقي. والضمنيّة والاستقلاليّة مفهومان ينتزعان عن وجوب ما عدا الباقي وعدم وجوبه» (1).

وبعبارة أُخرى: فهما ليسا بمتباينين، والوجوب والأمر السابق حينما ورد على الأجزاء يتقطع إلى قطع، وكلّ قطعة منه تكون واردة على جزءٍ من الأجزاء، فالوجوب السابق على كلّ جزء يكون ضمنيّاً واستقلاليّاً، أمّا ضمنيّته، فلأنّه في ضمن الكلّ، وأمّا استقلاليّته، فلأنّ القطعة من هذا الأمر الذي ورد على هذا الجزء ليست هي القطعة الواردة على بقيّة الأجزاء، بل كلّ جزء له قطعة خاصّة، وهذا نظير خيمة تظلّل رؤوس جماعة، فإنّها في عين أنّها خيمة واحدة، إلّا أنّ كلّ قطعة منها تظلّل رأس شخص، ليس القطعة نفسها التي تظلّل رؤوس الآخرين.

وأمّا الأمر الاستقلاليّ، فوجوبه عين الأمر الأوّل، وهو نفس القطعة

ص: 587


1- القواعد الفقهيّة 4: 142.

التي كانت مجموعها في ضمن الأمر الأوّل، وقد أصبح هذا استقلاليّاً بعد تعذّر الجزء، وليس بأمر جديد.

وهل تدلّ الرواية على صدق الميسور على الباقي من الأجزاء بعد تعذّر الجزء، أم أنّها مختصّة بالميسور من العامّ بعد عدم التمكّن من بعض أفراده؟

قال صاحب الكفاية! «ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضاً، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها؛لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العامّ بالمعسور منها» (1).

وأمّا اُستاذنا المحقّق! فرأى أنّ «الإنصاف أنّ لفظ (الميسور) وإن كان مطلقاً من هذه الجهة؛ لأنّ كلّ واحد منهما يصدق عليه الميسور، ولكنّ إرادة الميسور من الأجزاء منه بعيد جدّاً؛ لأنّ الميسور من الأجزاء يصدق على جزء واحد من المركّب الذي يكون أجزاؤه عشرين - مثلاً - وتعذّر تسعة عشر منها، وبقي واحد منها تحت التمكن، فيقال: وجوب هذا الواحد لا يسقط بتعذّر باقي الأجزاء، فهذا في غاية البعد من ظاهر هذا الكلام» (2).

ولكنّ الحقّ: أنّنا إذا قلنا بأنّ القاعدة تشمل الأجزاء، فلا فرق بين أن

ص: 588


1- كفاية الاُصول: ص 371.
2- القواعد الفقهيّة 4: 145.

يكون الميسور قليلاً أو كثيراً، فإنّه ولو لم يكن ميسوراً بالفعل، ولكن يكفي في صدقه عليه أن يتوفّر فيه المقتضي التقديريّ.

وأمّا قوله(علیه السلام): «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» فدلالته على القاعدة واضحة، إذ هو بمعنى: أنّ الشيء الذي لا يمكن الإتيان بجميعه، فلا يجوز أن يترك جميعه، بل يجب الإتيان بالمقدار الممكن منه، بعدما أمكنه الإتيان بالباقي بعد تعذّر البعض حيث كانت تحت قدرته.

وهل المراد من لفظ (ما) فيها هو الكلّ أو الكلّيّ أو كلاهما؟

قد يقال: بأنّ المراد به خصوص الكلّيّ باعتبار أفراده المتعدّدة، ويكون المعنى: أنّ من لا يمكنه تدارك جميع أفراده التي أُمر بها، فلا يجوز له أن يترك الجميع، بل لابدّ له من الإتيان بالمقدار المقدور له.

ولكنّه غير تامّ؛ بل لها إطلاق تشمل به الكلّ والكلّيّ معاً.

وهل الحكم فيها يشمل الجاهل على الإطلاق أم ثمّة تفصيل؟لا يخفى: أنّ الجهل تارةً يكون جهلاً بالحكم وأُخرى هو جهل بالموضوع. والجهل بالحكم: تارةً يكون عن قصور، وأُخرى عن تقصير. وكلّ منهما: تارةً يكون مسبوقاً بالعلم ثمّ نسي وجهل الحكم، وأُخرى يُفرض من أوّل الأمر جاهلاً بالحكم. ثمّ الجهل: تارةً يكون بسيطاً، وأُخرى يكون مركّباً.

ومعنى الجهل البسيط ظاهر، وهو أن يكون جاهلاً ولكنّه ملتفت إلى جهله، والمركّب خلافه.

ص: 589

قد يقال: إنّ الجاهل بالجهل البسيط بحكم العامد، بلا فرق بين أن يكون جهله جهلاً بالحكم أو بالموضوع، لأنّه نوع عمد، فكيف يتصوّر أن يكون الإنسان بصدد امتثال أمر المولى وهو شاكّ في حصول أجزاء الماُمور به مع كونه لا يعتني بشكّه، ولا يأتي بما يحتمل كونه من الأجزاء والشرائط، بل يُشكل تمشّي قصد القربة منه في كثيرٍ من الأحيان، فلو قلنا بشمول القاعدة له، فمعناه: أنّه يجوز ترك الفحص عن تحصيل العلم بالأجزاء والشرائط للماُمور به، من دون أن يتأتّى منه قصد القربة - حينئذٍ - وهو واضح البطلان.

وأمّا إذا كان جاهلاً بالجهل المركّب، بأن اعتقد عدم الجزئيّة، وكان في الواقع جزءاً، فإنّه يتمشّى منه قصد القربة، فلا يبعد أن يشمله إطلاق الدليل؛ لعدم المانع، وعدم وجود ما يصرفه - أعني: الدليل - عن هذا المورد.

وفي المسألة أقوال:

فالمحكيّ عن المشهور عدم شمول الصحيحة للعامد الجاهل مطلقاً، سواء كان عن قصور أم عن تقصير، كان مسبوقاً بالعلم أم لم يكن، والمراد بكونه مسبوقاً بالعلم أن يكون المنشأ في جهله هو النسيان، وفي قباله أن لا يكون مسبوقاً بالعلم، وذلك بأن يكون من أوّل الأمر جاهلاً، أو فقل: بأن يكون جهله بدويّاً.وأمّا الشيخ الأعظم الأنصاريّ) فقد فرّق بين أن يكون الجهل جهلاً

ص: 590

عن قصور، فقال بالشمول، أو عن تقصير فقال بعدم الشمول (1).

ويمكن الاستدلال لما عليه المشهور من أنّ الصحيحة لا تشمل الجاهل بالحكم مطلقاً، سواء كان قصور أو تقصير - والفرق بينهما، كما هو معلوم، أنّ الجهل عن قصور لا يستحقّ عليه العقاب، دون الجهل عن تقصير، فإنّه يستحقّ عليه العقاب - وسواء كان الجهل بالحكم مسبوقاً بالعلم به أم لم يكن؛ بما حاصله:

أنّ ظاهر الحديث هو نفي الإعادة في مورد لولا هذا الحديث لكان المكلّف ماُموراً بالإعادة، فيكون عقد المستثنى منه في هذا الحديث مفاده: أنّ عدم الإعادة يكون مختصّاً بمورد السهو والنسيان والاضطرار للموضوع، حيث إنّ الأمر يسقط بواسطة هذه الاُمور، والعامد بإخلاله بالحكم، لجهله به، قصوراً أو تقصيراً أو نسياناً، فالأمر الأوّل لم يسقط عنه؛ إذ بعد القول باشتراك التكاليف بين العالم الجاهل، كما عليه الإجماع، فالأمر الأوّل باقٍ بحاله، فلا معنى لمجيء خطاب جديد يأتي من المولى بقوله: (أعد)، بل المحرّك له نحو الإتيان بالماُمور به هو الأمر الباقي الى زمان ارتفاع الجهل بكلا قسميه، فإذا كان معنى الحديث - كما ذكرنا - هو نفي الإعادة عن مورد لولا هذا الحديث لكان مخاطباً بالإعادة، فلا يشمل مورد العمد إلى الإخلال مطلقاً، سواء كان عالماً به،

ص: 591


1- انظر: فرائد الاُصول 2: 385.

أو جاهلاً قصوراً أو تقصيراً، أو ناسياً له؛ لعدم الأمر بالإعادة في شيءٍ من هذه الموارد لولا هذا الحديث، بل كان وجوب الإتيان بالتامّ بعد رفع الجهل بنفس الأمر الأوّل؛ لبقائه وعدم سقوطه بواسطة الجهل، ولو كان عن قصور.

ولذا قال المحقّق النائيني! في كتاب الصلاة بعدم شمول هذا الحديث للعامد الجاهل مطلقاً (1).ولكن من الواضح: أنّ مفهوم الإعادة هو عبارة عن إيجاد الشيء بعد إيجاده ثانياً أو ثالثاً، في مقابل إيجادة أوّلاً من غير سبق إيجادٍ له، غاية ما هنالك: أنّه يراد من الإعادة إيجاد الثاني مثل الأوّل بالدقّة، وأمّا إيجاد نفسه وعين الوجود الأوّل بالدقّة، فهو محال، كما قُ-رِّر في المعقول؛ لأنّه من إعادة المعدوم بعينه، أي: بأن يكون المأتيّ به الثاني على طبق الأوّل تامّ الأجزاء والشرائط.

وقد يكون المراد هو الإعادة العرفيّة التي قد يكون الوجود الأوّل فيها مشتملاً على زيادات، وقد يكون العكس. وقد يكون المراد بها هو الإعادة الادّعائيّة، بحيث كلّ ما يترتّب على الأوّل من الآثار يترتّب

ص: 592


1- انظر: كتاب الصلاة 2: 190، قال): «إلّا ما ربّما يتوهّم من شمول حديث (لا تعاد) للجاهل، وسيأتي فساده». وقال في 2: 194، من الكتاب نفسه: «أمّا أوّلاً فلما عرفت من أنّ شموله للعامد والجاهل لا يمكن إلّا بذلك المعنى الذي يكون الحديث معارضاً لكثير من الأدلّة، وقد عرفت أنّ صدر الحديث يأبى عن ذلك».

على الثاني أيضاً، إذا كان الإخلال من جهة الجهل بالحكم ونسيانه، فبمقتضى الأدلّة الأوّليّة، لو لم يكن هذا الحديث، وبعد الالتفات إلى أنّ أخلّ بإتيانها كما هي، بترك جزء أو شرط أو ارتكاب مانعٍ، يَثبت لزوم إعادة الصلاة والإتيان بها تامّة الأجزاء والشرائط مجدّداً، وتصدق الإعادة على هذا الوجود التامّ لفرض الإتيان به بعد الوجود الأوّل الذي كان قد أتى به.

ولكنّ هذا الحديث ينفي إعادته ثانياً تامّاً، ويقول بكفاية ذلك الناقص الذي كان قد أتى به أوّلاً.

وعليه: فلا قصور في شمول الحديث لموارد الجهل والنسيان للحكم، من جهة صدق الإعادة على الإتيان به ثانياً تامّ الأجزاء والشرائط.

وخلاصة البحث: أنّه لولا هذا الحديث الذي مفاده ينفي وجوب الإعادة والحكم بكفاية هذا الناقص المأتيّ به - لو لم يكن الجزء المنسيّ أو المجهول من الأركان - لكان لابدّ من الإعادة.

والشاهد على صحّة ما ذكرناه ورود لفظ (يعيد) في جملةٍ من الأخبار مع عدم سقوط الأمر الأوّل:منها: ما ورد فيمن أجهر في موضع الإخفات متعمّداً، أو بالعكس، أنّه «نقض صلاته وعليه الإعادة» (1).

ص: 593


1- انظر - مثلاً -: من لا يحضره الفقيه 1: 344، باب أحكام السهو في الصلاة، ح1003.

ومنها: قوله(علیه السلام) فيمن صلّى أربعاً في السفر: «إن كانت قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له، فصلّى أربعاً، أعاد ...» الخبر (1).

والحاصل: أنّ الإشكال إنّما يأتي بالنسبة إلى شمول الحديث للجاهل بالحكم، قصوراً أو تقصيراً أو نسياناً، لا من جهة صدق الإعادة.

وقد تحصّل بما قدّمناه: أنّه لا مانع من أن يكون الجزء جزءاً في حال العمد، دون الجهل والنسيان، سواء كان قاصراً أم مقصّراً، غاية الأمر: أنّ المقصّر يكون آثماً، ولا تقبل الصلاة منه؛ لأنّه بحكم العامد، ولما أشرنا إليه آنفاً من أنّه كيف يتصوّر كون العبد بصدد امتثال أمر مولاه وهو شاكّ حصول الماُمور به بأجزاء وشرائط خاصّة، وهو لا يعتني بهذا الشكّ وبما لا يعلمه من الأجزاء والشرائط؟ بل قد عرفنا أنّ يشكل تأتّي قصد القربة منه في كثيرٍ من الأحيان.

هذا من جهة الدلالة.

وأمّا من جهة السند، فالحديث صحيح، فقد رواه الصدوق) في الخصال عن أبيه، عن سعد بن عبد اﷲ القمّي عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد اﷲ السجستاني، عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام) (2).

ص: 594


1- راجع على سبيل المثال: وسائل الشيعة 8: 506 - 507، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
2- الخصال: 284 - 285، وفي بعض النسخ: عن أبي عبد الله(علیه السلام).

ورواه أيضاً في الفقيه بإسناده إلى زرارة عنه(علیه السلام) (1).ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ القاعدة تشمل الأجزاء والشرائط جميعاً، بعد وضوح أنّ بعض الشروط تكون أركاناً للمركّب، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، بل هو جزء إن أخذنا المركّب بمعناه الاسم المصدريّ، وإن كان بعض الشروط لا يمكن عدّه ركناً له، كما قد يقال في الاستقبال بالنسبة إلى الصلاة، وعليه: فالتفصيل والقول بدخول الأجزاء في القاعدة مطلقاً، دون الشروط، ممّا لا وجه له أصلاً.

هذا، ونكتفي بهذا المقدار من الحديث حول هذه القاعدة، ومن شاء التفصيل أكثر فليراجع كتاب القواعد الفقهيّة لاُستاذنا المحقّق!، فإنّه) قد استوفى هناك ذكر مواردها وتطبيقاتها.

وأمّا الاستدلال بالاستصحاب:

فقد ذكر في تقريبه في المقام وجوه:

الوجه الأوّل: أن يقال باستصحاب كلّيّ الوجوب الثابت سابقاً للأجزاء المقدورة، فإنّ الباقي كان معلوم الوجوب، حيث تعلّق الوجوب الغيريّ به، وهو وإن كان قد زال بزوال الكلّ، ولكن يحتمل تعلّق الوجوب النفسيّ به، فيكون سبباً للشكّ في بقاء الوجوب الجامع، فيستصحب.

ص: 595


1- راجع: من لا يحضره الفقيه 1: 279.

وإن شئتَ قُلْتَ: يدور الأمر بين الوجوب الغيريّ الذي كان يتعلّق بما عدا القيد المتعذّر، قبل تعذّر القيد، وبين الوجوب النفسيّ الذي المحتمل المتعلّق بما عدا القيد بعد تعذّره، وحيث إنّه من المحتمل الوجوب النفسيّ المستقلّ لما عدا ذلك القيد المتعذّر بعد تعذّره، فيكون بقاء ذلك الجامع مشكوكاً بعد تيقّن وجوده، فنستصحبه، ونحكم بوجوب الإتيان بالباقي بعد تعذّر القيد.

وقد يورد على هذا التقريب للاستصحاب بإشكالات:

الأوّل: أنّ لازمه: إثبات الوجوب الغيريّ للمقدّمات الداخلية، إلّا أنّ وجوبها من قبيل الوجوب الاستقلاليّ الضمنيّ، لا الغيريّ، ولا الاستقلاليّ المحض.والثاني: أنّ هذا الاستصحاب لا يجري إلّا فيما لو قلنا بجريان استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث، أي فيما إذا شكّ في حدوث فرد آخر بعد العلم بزوال الفرد الأوّل، فهنا، وجود الجامع في ضمن الوجوب الغيريّ - لو سلّمنا أنّ المقدّمات الداخلية لها وجوب غيريّ - مقطوع الارتفاع، وفي ضمن الوجوب النفسيّ المحتمل مشكوك الحدوث، فليس هناك وجود واحد متيقّن الحدوث ويكون هو مشكوك البقاء حتى يمكن الاستصحاب.

والثالث: أنّه - على فرض جريان هذا الاستصحاب - فلا يمكن أن نثبت به الوجوب النفسيّ المستقلّ لما عدا القيد؛ لأنّه بالنسبة إليه من

ص: 596

الأصل المثبت.

الوجه الثاني: ما أفاده الشيخ الأعظم) بقوله:

«استصحاب وجوب الباقي إذا كان المكلّف مسبوقاً بالقدرة، بناءً على أنّ المستصحب هو مطلق الوجوب، بمعنى: لزوم الفعل من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره، أو الوجوب النفسيّ المتعلّق بالموضوع الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها، بدعوى: صدق الموضوع عرفاً على هذا المعنى الأعمّ الموجود في اللّاحق، ولو مسامحةً؛ فإنّ أهل العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها: أنّ الصلاة كانت واجبةً عليه حال القدرة على السورة، ولا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها» (1).

وحاصله: أن يقال باستصحاب نفس الوجوب النفسيّ الثابت سابقاً، والذي كان متعلّقاً بالمركّب قبل حدوث تعذّر القيد، بدعوى: المسامحة عرفاً في موضوعه؛ إذ العرف يرى أنّ الباقي والمركّب التامّ شيء واحد، ولذلك فهو يرى أنّ عدم ثبوت الحكم للباقي ارتفاع للحكم السابق، كما أنّ ثبوته بقاء له، فيقال - حينئذٍ -: هذا - ويشار إلى الباقي - كانواجباً، والآن هو كذلك، ونظيره: استصحاب كرّيّة الماء الذي كان كرّاً وأُريق منه بعضه فشكّ في كرّيّته.

ص: 597


1- فرائد الاُصول 2: 389.

ولكن أورد عليه المحقّق الأصفهانيّ! بقوله:

«والجواب أنّه إنّما يصحّ إذا كان المتعذّر بحيث لا يمنع عن دعوى الاتّحاد بين المركّب والباقي، فلا مجال للاستصحاب على الإطلاق، بل في مثله، كما أنّ استصحاب كرّيّة الماء كذلك، فإنّه يصحّ إذا كان الموجود من الماء متّحداً مع الماء السابق عرفاً بلحاظ كون المأخوذ منه قليلاً يتسامح فيه عرفاً» (1).

وحاصله: أنّه مبنيّ على المسامحة في الموضوع مع كون الباقي ممّا يتسامح فيه عرفاً، كما إذا كان المتعذّر جزءاً واحداً - مثلاً - لا ما إذا تعذّرت كمّيّة من الأجزاء معتدّ بها؛ لعدم صدق الوحدة عرفاً بين الباقي والمركّب حينئذٍ.

وقال اُستاذنا المحقّق!:

«هذا الوجه من تقرير الاستصحاب لا يفي إلّا بالموارد التي يكون موضوع القضيّتين - المتيقّنة والمشكوكة - واحداً بنظر العرف، وأمّا فيما لا يكون كذلك، كما هو الأكثر في أبواب العبادات، فإنّ حكم العرف بوحدة الحجّ المتعذّر فيه الوقوف في الموقفين - العرفات والمشعر - الوقوف الاضطراريّ والاختياريّ - مع الحجّ المتمكّن فيه الوقوفان، أو حكمه بوحدة صلاة فاقد الطهورين مع واجدهما، أو أحدهما، لا أثر له

ص: 598


1- نهاية الدراية 2: 698.

بعد العلم بأنّ الشارع يراهما متباينين حقيقةً, بل الوحدة العرفيّة ليست إلّا بحسب الشكل فقط» (1).

وملخّص ما أفاده!: أنّ العرف ليس له طريق إلى تميّز الأركان من غيرها، فليس له أن يحكم بوحدة المركّب التامّ الأجزاء والشرائط معالمركّب الناقص، بعدما كان الركن لا يعرف إلّا بتصريح من الشارع، ففي باب الاستصحاب، وإن كان المدار في وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة على نظر العرف، ولكن هذا إنّما هو فيما إذا كان للعرف طريق إلى تشخيصه، ولم يكن المركّب من الاُمور الشرعيّة، بل إذا كان من الاُمور العرفيّة.

بل يمكن أن يقال: بأنّ العرف إنّما يتسامح فيما إذا كان الاختلاف في موضوعات الأحكام، حيث يرى الربط بين الحكم والموضوع بحسب مرتكزاته، فقد يرى في بعض الموارد، كالعالم، بالنسبة إلى قوله - مثلاً -: أكرم العالم، أنّ الموضوع إنّما هو ذات العالم، وأنّ العلم حيثيّة تعليليّة، فإذا زال العلم، فالموضوع لا يزال باقياً في نظره، فإذا شكّ في وجوب إكرام العالم الذي زال علمه، فيجري الاستصحاب. ولكنّ العرف في مثل وجوب تقليد العالم يرى أنّ الحكم لم يرد على الذات، بل الموضوع إنّما هو العالم بما هو عالم؛ لأنّ وجوب تقليده إنّما كان

ص: 599


1- القواعد الفقهيّة 4: 131.

من جهة علمه، وليس لنفس ذاته، فمع زوال علمه، يزول الموضوع، فحينئذٍ: لا يجوز إجراء الاستصحاب بدعوى الشكّ في بقاء وجوب تقليده بعد زوال علمه.

وأمّا إذا كان الشكّ في متعلّقات الأحكام، فلا يتأتّى إعمال مثل هذه المسامحة العرفيّة، حيث إنّ العرف لا يتمكّن من التشخيص، فلا يتّبع نظره، فإذا جعل الشارع الوجوب لمركّبٍ ذي أجزاء عشرة، فإنّ المركّب ذا الأجزاء التسعة فقط يكون مبايناً له لا محالة، حتى بالنظرة العرفيّة، وليس متّحداً معه. فالتسامح العرفيّ إنّما يأتي إذا كان الشكّ متعلّقاً بالربط الحاصل بين الموضوع والحكم، لا فيما إذا كان بين الحكم ومتعلّقه.

الوجه الثالث: أنّ الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء كان واجباً نفسيّاً في ضمن المجموع المركّب منه وممّا تعذّر، والجامع بين هذا الوجوب النفسيّ الضمنيّ والوجوب النفسيّ المستقلّ المتعلّق بالمجموع كان موجوداً قطعاً، فبعد انتفاء أحد فرديه، وهو الوجوب النفسيّ الذيفرضنا تعلّقه بالمجموع، يحتمل بقاؤه في ضمن الفرد الآخر، وهو الوجوب المتعلّق بما عدا المتعذّر، والوجوب الباقي وإن كان ضمنيّاً، ولكنّه يصبح استقلاليّاً، ولا محذور فيه؛ إذ الاستقلاليّة من المفاهيم الانتزاعيّة التي تنتزع من أمر وجوديّ، هو وجوب الباقي، وآخر عدميّ، وهو عدم وجوب الجزء المتعذّر.

ص: 600

قال المحقّق الأصفهاني):

«استصحاب الوجوب النفسيّ الشخصيّ مع قطع النظر عن متعلّقه، نظير استصحاب وجود الكرّ» (1)، أي: نظير استصحاب وجود الكرّ في إثبات كرّيّة الموجود، فيقال: إنّ الوجوب النفسيّ للصلاة كان ثابتاً، والآن يشكّ في بقائه فيحكم به بمقتضى الاستصحاب.

وبعبارة أُخرى: فإنّ المستصحب هو وجوب الصلاة بنحو مفاد كان التامّة، لا الناقصة.

وفيه: أوّلاً: أنّه من الأصل المثبت.

وثانياً: أنّه - أيضاً - يكون من استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث، مثلاً - في استصحاب وجوب الصلاة -: إن كان المستصحب هو الوجوب المتعلّق بالكلّ، فهو قد ارتفع يقيناً، ولا معنى لاستصحابه، واحتمال بقائه من جهة حدوث فرد آخر، وهو الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ في الباقي، ويكون من مصاديق ذلك الجامع، فهو عين القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ، نظير استصحاب وجود الحيوان المردّد بين البقّ والفيل، وهو لا يجري، كما ذكر في محلّه.

الوجه الرابع: أنّ الأجزاء الباقية حيث كانت متعلّقة للوجوب النفسيّ المنبسط على الكلّ، فتكون متيقّنة الوجوب سابقاً، لكنّ وجوبها وجوب

ص: 601


1- نهاية الدراية 2: 700.

ضمنيّ، لا استقلاليّ؛ لأنّ الوجوب الاستقلاليّ إنّما يكون متعلّقاً بالكلّ، وبملاحظة المسامحة في الوجوب الضمنيّ والاستقلاليّ، فإنّ العرف يرى وحدتهما؛ لأنّه يرى الاستقلاليّة والضمنيّة من الحالاتالطارئة، فيمكن أن يستصحب الوجوب النفسيّ الذي تعلّق بالأجزاء بعدما كان متيقّن الحدوث وقد حصل الشكّ في بقائه.

وأمّا الجزم بارتفاع صفة الضمنيّة من جهة ارتفاع الأمر بالكلّ، فهو لا يضرّ إطلاقاً بعد دعوى المسامحة المتقدّمة.

وبعبارة أُخرى: فبعد أن تعلّق الأمر بالمركّب، فكلّ جزء من أجزاء ذلك المركّب يكون واقعاً تحت قطعة من الأمر.

وحيث إنّ المقدّمات الداخليّة - كما عرفنا - ليست واجبةً بالوجوب الغيريّ، بل وجوبها نفسيّ ضمنيّ، قلنا بالانحلال في باب العلم الإجماليّ بالنسبة إلى الأقلّ والأكثر، فإنّ الأقلّ معلوم يقيناً، ويبقى الزائد مشكوكاً، فتجري البراءة بالنسبة إليه.

وأمّا كون وجوب الأقلّ مردّداً بين الضمنيّة والاستقلاليّة فهو لا يضرّ في المقام؛ لأنّ هاتين الصفتين، كما أشرنا أيضاً، من الحالات الطارئة؛ لأنّ الاستقلاليّة مفهوم ينتزع عن وجوبه وعدم وجوب غيره، وأمّا الضمنيّة فعلى العكس منها.

ولا فرق في كونه واجباً ومتعلّقاً للإرادة بين أن يكون معه غيره، حتى يصبح وجوبه ضمنيّاً،

وبين أن لا يكون معه غيره، حتى يكون استقلاليّاً.

ص: 602

فما عدا الجزء المتعذّر كان واجباً يقيناً قبل التعذّر، ويشكّ في بقائه بعده؛ لأنّه يحتمل ارتفاع خصوص تلك القطعة التي كانت متعلّقة بالجزء المتعذّر فقط، ويشكّ في بقاء سائر القطع بالنسبة إلى بقيّة الأجزاء، فيستصحب؛ لتماميّة أركان الاستصحاب.

والذي نراه: أنّ هذا الوجه تامّ وغير قابل للمناقشة.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ التمسّك بالاستصحاب هنا إنّما يصحّ إذا لم يكن هناك دليل لفظيّ كقاعدة الميسور المتقدّمة، أو الإجماع الذي سنأتي على ذكره.

وأمّا إذا كان هناك دليل معتبر أو إجماع، فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب؛ لأنّ رتبته متأخّرة عن الأمارات، فهو - كما أسلفنا - فرش الأمارات وعرش الاُصول.وهذا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال فيما إذا كان لدليل الجزئيّة إطلاق يقتضي ثبوت الجزئيّة في حالتي التعذّر وعدمه، نظير قوله: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب».

ومنشأ الإشكال هنا:

أنّ دليل الجزئيّة مطلق، فيقتضي سقوط الأمر عند التعذّر، وأنّ المركّب يسقط بسقوط جزئه، وأمّا مقتضى مثل قاعدة الميسور هو ثبوت الأمر بالباقي عند التعذّر، فدليل الجزئيّة ينافي مدلول القاعدة. فيقع التعارض بينهما، وعندئذٍ: فلا يمكن جريان القاعدة.

ص: 603

التمسّك بالإجماع:

ثمّ إنّه قد يستدلّ في المقام بالإجماع على أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب لا يسقط بمجرّد تعذّر أو تعسّر بعض أجزائه، بل يكون ما عدا ذلك الجزء المتعذّر أو المتعسّر باقياً على وجوبه ومطلوبيّته.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّه إجماع منقول.

وثانياً: أنّ الإجماع وإن أمكن تحصيله في بعض الموارد، كمثل الصلاة والحجّ في غير الأجزاء الركنيّة لهما، إلّا أنّه لم يرد كقاعدة عامّة حتى يمكن التمسّك به في جميع الموارد، بل حتى في الموارد التي يمكن إحرازه فيها، لا مجال - أيضاً - للتمسّك به؛ لأنّ إجماعهم هذا يمكن أن يكون مستنداً إلى الروايات الواردة والأدلّة التي تمّ التمسّك بها في المقام، فيكون إجماعاً مدركيّاً، أو على الأقلّ: محتمل المدركيّة أو مظنونها.

مسألة:

إذا دار الأمر بين كون شيء شرطاً أو مانعاً فهل يدخل في مسألة الأقلّ والأكثر أم لا؟الحقّ: أنّه لا يندرج في مسألة الأقلّ والأكثر، بل يرجع الشكّ هنا إلى الشكّ في أنّ الماُمور به هو هو (بشرط شيء) أو (بشرط لا)، والشكّ في باب الأقلّ والأكثر يرجع إلى كونه (لا بشرط) أو (بشرط شيء)، فتوهّم

ص: 604

اندراج المسألة في الأقلّ والأكثر ضعيف.

وأضعف منه: إدخال المسألة في باب دوران الأمر بين المحذورين، بدعوى: أنّه لا يمكن هنا الموافقة القطعيّة؛ لأنّها تستلزم المخالفة القطعيّة، فلابدّ من التخيير، كما هو الشأن في دوران الأمر بين المحذورين.

وجه الضعف: أنّ التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين إنّما هو لأجل عدم التمكّن من الموافقة القطعيّة، وأمّا فيما نحن فيه، فيمكن الموافقة القطعيّة ولو بالاحتياط وتكرار العبادة.

ص: 605

ص: 606

الفهرس

ص: 607

ص: 608

الفهرس

مباحث القطع

المبحث الأول(7-43)

المبحث الأول في القطع....... 7

الأمر الأوّل :في ذاتيّة حجّيّة القطع وعدم قبولها للجعل والمنع...... 7

الأمر الثاني... 12

الأمر الثالث: في عدم قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعيّ..... 14

الأمر الرابع: أقسام القطع الموضوعيّ....... 15

الأمر الخامس... 17

الأمر السادس... 17

الأمر السابع: في الاطمئنان وأنّ حجّيّته من باب حجّيّته العلم أو ....... 20

الأمر الثامن: انقسام القطع إلى تفصيليّ وإجماليّ..... 21

المبحث الثاني(45-60)

المبحث الثاني في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع... 45

الكلام في الظنّ الطريقيّ والموضوعيّ..... 57

ص: 609

التجرّي(61-98)

التجرّي...... 61

الأمر الأوّل: في معنى التجرّي. 61

الأمر الثاني: هل تعدّ هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟....... 62

الأمر الثالث... 63

تنبيهات....... 88

التنبيه الأوّل....... 88

التنبيه الثاني: في الثمرة العمليّة لهذا البحث... 90

التنبيه الثالث..... 90

التنبيه الرابع .... 91

المباحث الأمارات غير العلميّة(99-117)

مباحث الأمارات غير العلميّة.. 99

الأمر الأوّل: في عدم كون الحجّيّة من لوازم الأمارات ....... 99

الأمر الثاني: في إمكان التعبّد بالأمارات..... 101

تأسيس الأصل عند الشكّ في التعبّد بالأمارة (119-129)

تأسيس الأصل عند الشكّ في التعبّد بالأمارة..... 119

الأمر الأوّل .... 119الأمر الثاني ....... 119

الأمر الثالث ....... 120

وهنا أمور لابدّ من التنبيه عليها.... 126

ص: 610

في حجّيّة الظواهر(131-148)

في حجّيّة الظواهر... 131

الأمر الأوّل..... 131

الأمر الثاني ....... 133

الأمر الثالث: هل الظهور من مسائل علم الاُصول؟..... 133

الأمر الرابع: في أنّ للظهور مراتب متفاوتة في المحاورات العرفيّة... 135

حجّيّة قول اللّغويّ(149-160)

حجّيّة قول اللّغويّ.... 149

في حجّيّة الشهرة(161-168)

في حجّيّة الشهرة.... 161

فانقدح ممّا تقدّم.... 166

في حجّيّة خبر الواحد(169-221)

في حجّيّة خبر الواحد.... 169

الأمر الأوّل: في موضوع البحث 169

الأمر الثاني: هل تعدّ هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟....... 170

الأمر الثالث ....... 170

وأمّا المثبتون لحجّيّة خبر الواحد... 176أمّا الكتاب ... 176

الاستدلال بآية النبأ. 177

أمّا الاستدلال بمفهوم الشرط.... 177

ص: 611

الاستدلال بآية النفر. 189

الاستدلال بآية الكتمان 195

الاستدلال بآية السؤال 198

الاستدلال بآية الاُذن.. 201

وأمّا الاستدلال بالسنّة 202

الاستدلال بالإجماع.... 206

الاستدلال بالعقل..... 213

في حجّيّة مطلق الظنّ(223-254)

في حجّيّة مطلق الظنّ...... 223

الدليل الأوّل ....... 223

الدليل الثاني ..... 224

الدليل الثالث ..... 226

الدليل الرابع: دليل الانسداد. 227

ومذهب صاحب الكفاية! 246

في الظنّ المانع والممنوع(255-257)

في الظنّ المانع والممنوع..... 255

مباحث الاُصول العمليّة

الكلام في الاُصول العمليّة(261-266)

الكلام في الاُصول العمليّة..... 261

ص: 612

الأوّل: في الفرق بين الاُصول والأمارات....... 261

الأمر الثاني... 262

الأمر الثالث... 262

الأمر الرابع... 262

الأمر الخامس... 263

الأمر السادس... 263

الأمر السابع... 265

الأمر الثامن... 265

في البراءة(267-325)

في البراءة..... 267

فأمّا الكتاب: فبآيات 269

وأمّا الاستدلال على البراءة بالسنّة ....... 281

منها :حديث الرفع... 281

ومنها: حديث الحجب.. 298

ومنها: حديث الحلّ... 303

ومنها: حديث السعة.. 306

ومنها: مرسلة الصدوق 308

ومنها ... 315

ومنها ... 317

ومنها.... 320

وأمّا الاستدلال عليها بالإجماع....... 320

وأمّا الاستدلال عليها بالدليل العقليّ..... 321

ص: 613

في أدلة الأخباريّين على وجوب الاحتياط(327-353)

في أدلة الأخباريّين على وجوب الاحتياط... 327

أمّا الكتاب: فبآيات. 327

وأمّا السنّة: فبطوائف 329

وأمّا العقل ... 344

في تنبيهات البراءة(355-376)

في تنبيهات البراءة....... 355

التنبيه الأوّل....... 355

التنبيه الثاني..... 355

التنبيه الثالث..... 356

التنبيه الرابع..... 356

التنبيه الخامس..... 357

التنبيه السادس..... 357

التنبيه السابع..... 359

الكلام في قاعدة اليد(377-393)

الكلام في قاعدة اليد... 377

في معاني اليد...... 377

في أماريّة يد الكافر على عدم التذكية... 384

ص: 614

قبول قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة... 388

قاعدة التسامح في أدلّة السنن(395-411)

قاعدة التسامح في أدلّة السنن 395

دوران الأمر بين المحذورين(413-422)

دوران الأمر بين المحذورين.... 413

أمّا الصورة الاُولى... 414

وأمّا الصورة الثانية 420

وأمّا الصورة الثالثة 421

أصالة الاشتغال(423-555)

أصالة الاشتغال....... 423

المبحث الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين 424

الأمر الأوّل: في أنّ وجوب الاحتياط حكم عقليّ... 430

الأمر الثاني: خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء 431

الأمر الثالث: الاضطرار إلى بعض الأطراف.... 439

الأمر الرابع: في الشبهة غير المحصورة....... 445

الأمر الخامس: في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة 451

الأمر السادس: العلم الإجماليّ في التدريجيّات 473

تنبيهان....... 478

المبحث الثاني: الكلام في الأقلّ والأكثر... 482

الفرق بين الاستقلاليّ والارتباطيّ..... 483

ص: 615

الشكّ بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات.... 490

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء... 493

التمسّك بالاستصحاب لنفي وجوب الإتيان بالأكثر. 512

في الأجزاء التحليليّة والذهنيّة...... 526

حكم الجزء أو الشرط المتروك نسياناً..... 534

قاعدة لا تعاد(557-575)

قاعدة لا تعاد..... 557

قاعدة الميسور(577-605)

قاعدة الميسور... 577

وأمّا الاستدلال بالاستصحاب 595

الفهرس(607-616)

الفهرس.... 607

ص: 616

المجلد 5

هویة الکتاب

شَمسُ الأُصُول

5 جلد

شمس الدين الواعظي

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته، سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ص: 5

ص: 6

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

اشارة

ولابدّ في بيان هذه القاعدة من ذكر اُمور:

الأمر الأوّل :في مدرك هذه القاعدة:

قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «هو عبارة عن روايات كثيرة في كتب الفريقين يروي هذه الجملة عن رسول اﷲ(صلی الله علیه و آله)، وهي بمنزلة كبرىً كلّيّة يطبّقها(صلی الله علیه و آله) في موارد عديدة»(1).

منها: ما عن أبي بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام) قال:

«إنّ سمرة بن جندب كان له عذق(2) في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاريّ بباب البستان، وكان يمرّ إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاريّ أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى، جاء الأنصاريّ إلى

ص: 7


1- القواعد الفقهيّة 1: 211.
2- العذق: كلّ غصنٍ له شعب، والعذق أيضاً: النخلة عند أهل الحجاز. والظاهر: أنّ المراد هنا هو الثاني. انظر: لسان العرب 10: 238، مادّة (عذق).

رسول اﷲ(صلی الله علیه و آله) فشكا إليه، وخبّره الخبر. فأرسل إليه رسول اﷲ(صلی الله علیه و آله) وخبّره بقول الأنصاريّ وما شكا، وقال: إذا أردت الدخولفاستاذِن، فأبى، فلمّا أبى ساومه، حتى بلغ به من الثمَن ما شاء اﷲ، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يُمدّ لك في الجنّة، فأبى أن يقبل، فقال رسول اﷲ(صلی الله علیه و آله) للأنصاريّ: اذهب فاقلعْها وارمِ بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار»(1).

ومنها: رواية عبد اﷲ بن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام) نحو ما مرّ، إلّا أنّه قال: «فقال له رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله) إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر و لا ضرار على مؤمن، ثمّ أمر بها رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله) فقُلِعت، ثمّ رُمي بها إليه، وقال له رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله): انطلق فاغرسها حيث شئت»(2).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة بنفس المضمون.

ولا يخفى: أنّا هنا لسنا بحاجة إلى الحديث حول سند هذه الروايات بعد ذكرها في المصادر المعتبرة لدى العامّة والخاصّة على السواء، بحيث يمكن الاطمئنان بصدورها عن النبيّ(صلی الله علیه و آله)، مضافاً إلى إمكان القطع بصحّة سند بعض هذه الروايات.

هذا فيما يتعلّق بفقرة (لا ضرر ولا ضرار)، وأمّا كلمة (في الاسلام) فقد نقلها ابن الأثير الجزريّ في نهايته(3).

ص: 8


1- الكافي 5: 292 - 293.
2- المصدر نفسه 5: 294.
3- النهاية في غريب الحديث 3: 81.

ولكنّها رواية عامّيّة مرسلة، فلا يكاد يمكن الاستناد إليها، وقد أرسلها الصدوق في الفقيه(1)، ولكن حيث قد تلقّاها الأصحاب بالقبول فلا يكاد يضرّ إرسالها، وإن كان إسناد هذه الكلمة إلى النبيّ(صلی الله علیه و آله) لا يخلو من إشكال.

وعلّق اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) في قواعده على ذلك بقوله:

«ولكن يمكن أن يقال: بعدم اعتبار عدم ذكرها في بعض الطرق بعد بناء الأصحاب على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة؛ لبناء العقلاء على ذلك»(2).

ولكن لا يخفى: أنّ هذه القاعدة إنّما تتمّ لبناء العقلاء إن كان احتمال الغفلة في النقص أقوى من احتمال الغفلة في الزيادة، ولكنّ هذا إنّما يتمّ لو تعارضتا بأنفسهما، ولم يكن هناك دليل على الخلاف، وإلّا، فمع وجود القرائن على الخلاف، لا يمكن لنا أن نتمسّك بالقاعدة، فيبعد جريان أصالة عدم الزيادة. إذ:

أوّلاً: النقص قد ورد في روايات كثيرة.

وثانياً: يحتمل أن تكون الزيادة من كلام الصدوق(قدس سرّه) لا من كلام النبيّ(صلی الله علیه و آله)؛ فإنّ كثرة الموارد التي تكون من النظائر قد تؤدّي إلى وقوع الإنسان في الغفلة، كما في مثل: لا رهبانيّة في الإسلام، ولا إخصاء في

ص: 9


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334، باب ميراث أهل الملل.
2- القواعد الفقهيّة 1: 213.

الإسلام؛ فإنّ وجود هذهاللّفظة في نظائر هذه الجمل قد يوقع الإنسان في الغفلة مع أنّ كلمة (في الاسلام) لم ترد في شيءٍ من مسانيد أصحابنا.

ويمكن أن يكون الاشتباه قد حصل من الناسخ لا من الصدوق(قدس سرّه)، وأن يكون هو) قد نقل هذا الحديث عارياً من هذه الكلمة، والذي أدّى إلى اشتباه الناسخ هو كلمة (فالاسلام) في قوله: يزيد المسلم خيراً، وهو متّصل بقوله: (لا ضرر ولا ضرار)، فوقع الناسخ في الاشتباه، فكتب تلك الكلمة (في الإسلام).

ومثله يقال في رواية مجمع البحرين الذي نقل حديث الشفعة بلفظ «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(1)، مع أنّه إنّما أخذ هذا الحديث من الكافي، وهو هناك بهذا اللّفظ:

«قضى رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله) بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار»(2).

إلى غير ذلك من القرائن التي تؤكّد عدم وجود هذه الكلمة في كلام النبيّ(صلی الله علیه و آله).

وأمّا كلمة (على المؤمن) الواردة في رواية ابن مسكان، فإنّها ضعيفة السند، حيث ورد في هذا السند النقل عن (بعض أصحابنا)، ما يدلّ على مجهوليّة الراوي.

ص: 10


1- مجمع البحرين 3: 16، مادّة (ضرر).
2- الكافي 5: 281، باب الشفعة، ح4.

اللّهمّ إلّا أن يقال - كما هو غير بعيد -:بأنّ التعبير بكلمة (بعض أصحابنا) يدلّ على الوثاقة. بخلاف مثل ما لو أتى بكلمة (عن رجل) فإنّه من مضعّفات الرواية.

ولعلّه لأجل ذلك، تعرّض الشيخ الأعظم(رحمة الله) لهذه الرواية جاعلاً إيّاها من «أصحّ ما في الباب سنداً وأوضحه دلالةً»(1).

الأمر الثاني: في بيان مفردات هذه الفقرة:

ذكر بعضهم - على ما نقله الاُستاذ المحقّق(رحمة الله)(2) - أنّ الضرر أمر وجوديّ، وهو ضدّ النفع. وقال آخرون: هو بمعنى النقص.

ولكن لا ينبغي أن يخفى: أنّ الضرر لا يطلق على عدم النفع مطلقاً، بل إنّما يطلق عليه - عرفاً - في بعض الموارد دون بعض، فمثلاً: إذا كان في بلد حانوت واحد، فجاء شخص وفتح حانوتاً ثانياً في نفس البلاد، فقد يقال بصدق الضرر عليه - حينئذٍ - عرفاً، مع أنّ قاعدة لا ضرر لا تشمل هذا المورد؛ لأنّ فتح الثاني حانوته ليس بحرام حتى تشمله القاعدة.وأمّا (الضرار) فهو مصدر بمعنى المفاعلة، على ما قيل، والمفاعلة فعل الاثنين، ولابدّ فيها من طرفين، فيكون معناه: الضرر على الغير مقابل الضرر عليه.

ص: 11


1- فرائد الاُصول 2: 457.
2- القواعد الفقهيّة 1: 214.

ولكنّ هذا غير تامّ، كما أفاده المحقّق الأصفهانيّ(قدس سرّه) بقوله:

«الضرار وإن كان مصدراً لباب المفاعلة، والأصل فيه أن يكون فعل الاثنين، كما هو المشهور، إلّا أنّه لا أصل له، كما تشهد له الاستعمالات الصحيحة الفصيحة القرآنيّة وغيرها؛

فإنّ فيها ما لا يصحّ ذلك، وفيها ما لا يراد منه ذلك، كقوله تع-الى: ﴿ي-ُخَادِعُونَ الله َ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾(1)، فإنّ الغرض نسبة الخديعة منهم إلى اﷲ وإلى المؤمنين، لا منهما إليهم أيضاً، وقوله تعالى:﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله ِ﴾(2)، و﴿ي-ُرَآؤُونَ﴾(3)، و﴿وَنَادَي-ْنَاهُ﴾(4)، و﴿نَافَقُواْ﴾(5)، و﴿شَآق--ُّواْ﴾(6)، و﴿مَسْجِداً ضِرَاراً﴾(7)، و﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّضِرَاراً﴾(8)، و﴿لَا ت--ُؤَاخِذْنِي﴾(9)، إلى غير ذلك. ومن الاستعمالات: عاجله بالعقوبة، وبارزه بالحرب، وباشر الحرب، وساعده التوفيق، وخالع المرأة، وواراه في الأرض، فإنّ جميع

ص: 12


1- البقرة: 9.
2- النساء: 100.
3- النساء: 142.
4- الصافّات: 104.
5- آل عمران: 167.
6- الأنفال: 13.
7- التوبة: 107.
8- البقرة: الآية 231.
9- الكهف: الآية 73.

ذلك بين ما لا يصحّ فيه إرادة الانتساب إلى الاثنين، وما لا يراد منه ذلك»، إلى آخر كلامه«(1).

فالضرار - إذاً - بمعنى تكرار الضرر من شخص واحد.

هذا بالنسبة إلى المفردات.

وأمّا شرح الجملة ككلّ، أعني: (لا ضرر ولا ضرار)، فالأقوال المعروفة في المسألة عند الفقهاء أربعة:

القول الأوّل: أن يكون مفادها النهي عن إيجاد ضرر الغير، أو مطلقاً، حتى على النفس، فيكون مساقها مساق قوله تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾(2)، حيث إنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة هذه الاُمور في الحجّ، ونظائرها كثيرة في الأخبار، ونريد من نظائرها: ما كان ظاهر الكلام فيها هو النفي، ولكن لم يُرَد من هذا النفي سوىالنهي، كما روي من قوله(علیه السلام): «لا سبق إلّا في خفٍّ أو حافر أو نصل»(3)، وما إلى ذلك من الروايات الكثيرة.

وهذا هو القول الذي أصرّ عليه شيخ الشريعة الأصفهاني(قدس سرّه) ذاهباً إلى تعيين هذا الاحتمال من بين الاحتمالات الأربعة(4).

ص: 13


1- نهاية الدراية 2: 746، بتصرّف يسير.
2- البقرة: الآية: 197.
3- وسائل الشيعة 11: 493، باب 17 من أبواب أحكام الدوابّ، ح2.
4- راجع: قاعدة لا ضرر: ص 24 - 27.

القول الثاني: أن يكون مفادها هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. أي: بمعنى نفي حقيقة الضرر وماهيّته ادّعاءً، كنايةً عن نفي الحكم الضرريّ، ونظائرها كثيرة في الأخبار والمأثورات التي تصيّدوها من الروايات، نحو: «لا شكّ لكثير الشكّ»(1)، وقوله(علیه السلام): «لا سهو في سهو»(2)، وقوله(علیه السلام): «لا سهو للإمام مع حفظ المأموم»(3).

إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

فيكون المراد من الجملة محلّ الكلام، بناءً على هذا القول: أنّ الموضوعات التي لها أحكام بعناوينها الأوّليّة إذا صارتضرريّة وتعنونت بعنوان الضرر فإنّ ذلك الحكم يرتفع عن ذلك الموضوع، وعليه: فتكون هذه القاعدة حاكمةً على الأدلّة الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة تضييقاً في جانب الموضوع. وهذا القول هو ما ذهب إليه صاحب الكفاية(قدس سرّه)(4).

القول الثالث: أن يكون مفادها عبارة عن نفي الحكم الضرريّ، بمعنى: أنّ كلّ حكم صدر من الشارع، فإن كان مستلزماً لضرر، أو حصل من قِبل جعله ضرر على العباد، - سواء كان الضرر على المكلّف نفسه أم

ص: 14


1- انظر: وسائل الشيعة 8: 227 - 230، باب 17 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- المصدر نفسه 8: 243، باب 25 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.
3- المصدر نفسه 8: 239 - 242، باب 24 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
4- انظر: كفاية الاُصول: ص 381، قال): «كما أنّ الظاهر أن يكون (لا) لنفي الحقيقة، كما هو الأصل في هذا التركيب، حقيقةً أو ادّعاءً كنايةً عن نفي الآثار...»، انتهى موضع الحاجة.

على غيره، كوجوب الوضوء الذي حصل من قبل وجوبه ضرر ماليّ أو بدنيّ على المكلّف، وكلزوم المعاملة في المعاملة الغبنيّة حيث نشأ من قبله الضرر على المغبون -.

القول الرابع: أنّ مفادها هو نفي الضرر غير المتدارك، بمعنى: أنّ الشارع ينهى عن الضرر غير المتدارك.

وتقريبه: بأن يكون الضرر المتدارك في حكم العدم، ولا يراه الشارع ضرراً، كما هو كذلك عند العرف والعقلاء، وبناءً على هذا الفرض: فإنّ نفي الضرر المطلق يكون عائداً إلى نفي الضرر غير المتدارك.

والظاهر - حينئذٍ - من نفي الضرر غير المتدارك في عالم التشريع:

هو لزوم التدارك؛ لأنّ المفروض أنّ الضرر المتدارك منزّل في كلام الشارع المقدّس منزلة العدم. فإذا كان النفيبمنزلة النهي، فيكون الضرر غير المتدارك منهيّاً عن إيجاده، وهذا كناية عن وجوب تداركه، وهذا كما أنّه إذا قال: (لا تَقْبل هديّة بلا عوض) - مثلاً - فإنّه يكون كناية عن أنّه إذا أهدى إليك شخص هديّةً ما، فلا تجعله بلا عوض ولا تدارك، بل يجب عليك أن تتداركها، وذلك بإهداء شيء إلى المُهدي في مقابلها.

وقد اختار الاُستاذ المحقّق القول الثالث(1)، وهو مختار كلٍّ من الشيخ الأعظم والميرزا النائيني".

قال في الفرائد: «إذا عرفت ما ذكرناه، فاعلم أنّ المعنى بعد تعذّر إرادة

ص: 15


1- القواعد الفقهيّة 1: 218 - 219.

الحقيقة: عدم تشريع الضرر، بمعنى: أنّ الشارع لم يشرّع حكماً يلزم منه ضرر على أحد، تكليفيّاً كان أو وضعيّاً، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون، فيُنفى بالخبر...»(1).

وقال المحقّق النائيني): «وكيف كان، فأحسن الوجوه وأصحّها هو ما اختاره شيخنا الأنصاريّ - وهو ثالث الوجوه في كلامه -؛ لأنّ هذا الوجه يصلح لأن يكون مدركاً للقاعدة الفقهيّة المتداولة بين الفقهاء، دون الثاني والرابع»(2).وقال الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) في تبرير ذهابه إلى اختيار هذا القول:

«وذلك من جهة أنّه لا شكّ في أنّه(صلی الله علیه و آله) في مقام التشريع، وفي مقام أنّ الحكم المشروع في المقام حكم امتنانيّ على الاُمّة، فالحديث ظاهر سياقاً في أمرين: أحدهما: أنّ الرفع تشريعيّ؛ إذ لا معنى لأن يكون إنشاء الرفع لرفع تكوينيّ»؛ وذلك:

أوّلاً: لأنّ الشارع إنّما يرفع شيء يكون قابلاً للرفع والوضع تشريعاً؛ لأنّ الرفع التكوينيّ خارج عن دائرة وظيفته كشارع.

وثانياً: لأنّ الرفع التكوينيّ إنّما يكون من جهة رفع أسبابه، ولا مجال لرفعه بالانشاء، بل لابدّ من أسبابه التكوينيّة.

وأمّا احتمال أنّه يكون إخباراً عن الرفع التكوينيّ، فباطل؛ لوقوع كثير

ص: 16


1- فرائد الاُصول 2: 460.
2- منية الطالب 3: 382.

من الضرر، والشارع إنّما يبيّن ما يكون راجعاً اليه، ومناسباً لمقامه بوصفه شارعاً، والرفع التكوينيّ ليس كذلك.

والدليل على كونه في مقام الامتنان - مضافاً إلى تسالم الأصحاب على ذلك في فتاواهم - هو ما يدلّ عليه سياق الكلام من أنّه6 وبّخ سمرة قائلاً له: (أنت رجل مضارّ)، أي: مصرّ على الضرر.

ثمّ قال الاُستاذ(قدس سرّه): «فإذا ظهر ظهور الحديث في هذين الأمرين من دون الاحتياج إلى كلمة (على مؤمن) أو كلمة (في الاسلام)، فنقول: لا شكّ في أنّ الرفع التشريعيّ ظاهرهأنّ المرفوع من الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ رفعها يكون رفعاً حقيقيّاً، لا ادّعائيّاً؛ لأنّه لا وجود للأحكام الشرعيّة إلّا في عالم التشريع، فإذا رفعه في عالم التشريع يرتفع من عالم الوجود حقيقةً، وبقول مطلق. وقد بيّنّا في شرح مفردات وألفاظ الحديث أنّ كلمة (لا) ظاهرة في نفي جنس مدخولها حقيقةً إذا كان المدخول نكرة.

وأمّا إذا كان المرفوع أمراً تكوينيّاً، فلا بدّ أن يكون الرفع ادّعائيّاً لا حقيقيّاً، فتكون النتيجة: رفع الحكم حقيقةً برفع الموضوع ادّعاءً، كقولهم - المتصيّد من الروايات - (لا شكّ لكثير الشكّ)»(1).

وأمّا كلمة (لا)، فهي لنفي الجنس إذا كان ما وقع بعدها هو النكرة، وحينئذٍ: فيكون مدلولها هو النفي الحقيقيّ، إلّا إذا ثبت بأنّ النفي ادّعائيّ.

ص: 17


1- القواعد الفقهيّة 1: 219.

وفي النفي الحقيقيّ، وهو فيما إذا كان حاله حال النفي التكوينيّ، وهو إنّما يصحّ إذا كانت القضيّة من قبيل القضيّة الخبريّة المحضة، وكان المنفيّ هو الحكم؛ وذلك لأنّ تشريعه وجعله يكون عين تكوينه حقيقةً.

وأمّا إذا كان المنفيّ هو الموضوع الخارجيّ لا الحكم، فيكون نفيه حقيقةً على خلاف الواقع؛ لأنّ رفع الموضوع الخارجيّ ووضعه ليس بيد الشارع، كما لا يخفى، فلا محالة: يجب حمله على نفيه ادّعاءً، ولكنّ حال النفي الادّعائيّ هو عينه حال الإثبات ادّعاءً، بمعنى: أنّه لا يصحّ إلّا بلحاظ عدمترتّب الأثر الذي من المترقب أن يترتّب على الشيء، فيصحّ - حينئذٍ - نفيه ادّعاءً؛ حيث كان بمنزلة العدم؛ لعدم ترتّب الأثر عليه.

الأمر الثالث :هل تشمل القاعدة الأحكام العدميّة أم لا؟

قبل الخوض في تفصيلات في هذه القاعدة، لابدّ من معرفة أنّها هل تشمل الأحكام العدميّة كما تشمل الوجوديّة أم لا؟ فإذا حبس حرّاً غير أجير، ففات عمله، فالظاهر: عدم شمول قواعد الضمان لمثل ذلك؛ لعدم كونه إتلاف مال.

نعم، لو كان المحبوس عبداً أو حرّاً أجيراً، يكون الحبس إتلافاً لمال المالك والمستأجر، فيكون الحابس ضامناً. فيقال - مثلاً -: إنّ عدم الضمان حكم ضرريّ؛ لاستلزامه الضرر على الحرّ؛ لفوات عمله، فهل يشمله حديث نفي الضرر أم لا؟

ص: 18

قال الشيخ(أعلی الله مقامه) في رسالته المستقلّة المعمولة في قاعدة لا ضرر، في التنبيه الثاني، ما لفظه:

«لا إشكال - كما عرفت - في أنّ القاعدة المذكورة تنفي الأحكام الوجوديّة الضرريّة، تكليفيّةً كانت أو وضعيّة، وأمّا الأحكام العدميّة الضرريّة، مثل عدم ضمان ما يفوت على الحرّ من عمله بسبب حبسه، ففي نفيها بهذه القاعدة، فيجب أن يحكم بالضمان، إشكال:من أنّ القاعدة ناظرة إلى نفي ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعيّة، فمعنى نفي الضرر في الإسلام: أنّ الأحكام المجعولة في الإسلام ليس فيها حكم ضرريّ. ومن المعلوم، أنّ حكم الشرع في نظائر المسألة المذكورة ليس من الأحكام المجعولة في الإسلام، وحكمه بالعدم ليس من قبيل الحكم المجعول، بل هو إخبار بعدم حكمه بالضمان؛ إذ لا يحتاج العدم إلى حكم به، نظير حكمه بعدم الوجوب أو الحرمة أو غيرهما، فإنّه ليس إنشاء منه، بل هو إخبار حقيقة.

ومن أنّ المنفيّ ليس خصوص المجعولات، بل مطلق ما يتديّن به ويعامل عليه في شريعة الإسلام، وجوديّاً كان أو عدميّاً، فكما أنّه يجب في حكمة الشارع نفي الأحكام الضرريّة، كذلك يجب جعل الأحكام التي يلزم من عدمها الضرر»(1).

ص: 19


1- الرسائل الفقهيّة: 118 - 119. (المجلّد 23 من تراث الشيخ الأعظم(رحمة الله)).

وقد ذهب المحقّق النائيني(قدس سرّه) إلى عدم شمول حديث نفي الضرر للاُمور العدميّة، وأطال في الاستدلال على ذلك، ولكن يمكن أن يتلخّص كلامه في وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ هذا الحديث ناظر إلى رفع الأحكام المجعولة شرعاً، فبما أنّ عدم الضمان ليس حكماً شرعيّاً مجعولاً من قبل الشارع، فلا يرتفع بالقاعدة.الثاني: أنّه لو التزمنا بشمول الحديث للحكم العدميّ، فلازمه: هو ثبوت وجوب الضمان في مسألة حبس الحرّ، ومعناه: تكفّل الحديث لنفي الضرر غير المتدارك، وقد ذكرنا سابقاً أنّ هذه هو أحد المعاني الأربعة المحتملة من الحديث بدواً، وأنّ مقتضى التحقيق عدم إمكان حمل الحديث عليه.

الثالث: أنّ لازم الالتزام بعموميّة هذا الحديث وشموله للأحكام العدميّة تأسيس فقه جديد؛ وذلك لاستلزامه في مثال الزوجة - أي: التي كان بقاؤها على الزوجيّة مضرّاً بها - ثبوت حقّ الطلاق للحاكم الشرعيّ وهو ممّا لا يمكن الالتزام به(1).

ولكن يمكن أن يقال: الظاهر أنّ الأحكام العدميّة على قسمين:

الأوّل: المقصود منها حكم الشارع بعدم التكليف أو الوضع، وفي

ص: 20


1- انظر: منية الطالب 3: 418 - 423.

هذا القسم لا يبعد جريان القاعدة؛ لكونها ناظرة إلى مطلق ما للشارع من الحكم، بلا فرق بين أن يكون وجوديّاً أو عدميّاً، فإنّ الحكم بالعدم حكم أيضاً، فكما أنّ حكمه بالتكليف أو الوضع إذا صار ضرريّاً يصار إلى نفيه بالقاعدة، فكذلك حكمه بعدم التكليف أو الوضع في مورد خاصّ ينفى بالقاعدة عندما يصبح ضرريّاً.

والثاني: المقصود منها مجرّد عدم حكم الشارع بالتكليف أو الوضع. وفي هذا القسم لا تجري القاعدة؛ لأنّ معنى نفي عدم الحكم بالقاعدة هو إثبات الحكم بها، وهو ضعيف كما ترى،فإنّ القاعدة ليست موضوعةً إلّا لنفي الأحكام الضرريّة، ولو كانت عدميّة، لا لإثبات الأحكام التي لولاها للزم الضرر.

الأمر الرابع: هل المراد من الضرر المنفيّ في القاعدة هو الضرر الشخصيّ أو النوعيّ؟

المراد من الضرر الشخصيّ هو الضرر الفعليّ الوارد على كلّ شخص، ففي كلّ مورد ينشأ فيه ضرر خارجيّ على شخص من قِبل الحكم الشرعيّ، فيكون ذاك الحكم مرتفعاً في حقّه، دون من لا يرد عليه من قبله ضرر؛ فإنّ الحكم لا يرتفع الحكم عنه، فمن الممكن أن يكون الحكم ضرريّاً في حقّ شخص دون آخر، بل بالنسبة إلى الشخص نفسه، هو قد يكون ضرريّاً في مورد دون آخر.

ص: 21

والمراد من الضرر النوعيّ هو: ما يترتّب من الضرر بالنسبة إلى غالب المكلّفين، أو ما يكون منه مترتّباً على نوع الفعل وغالبيّة أفراد الفعل.

ولا يخفى: أنّ الظاهر من هذا الحديث - كما عليه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) أيضاً(1) - هو الضرر الشخصيّ لا النوعيّ.

والسرّ في ذلك: هو حكومة أدلّة الضرر على الحكم الواقعيّ، ومعنى الحكومة إنّما هو رفع الحكم في كلّ مورد نشأ منه الضرر، وأمّا في الموارد التي ليس فيها ضرر، فلا يكون الحكم فيها مرفوعاً، فيكون مشمولاً للإطلاق.وبعبارة أُخرى: فبما أنّ الحديث وارد في مقام الامتنان فلابدّ أن يكون الرفع بلحاظ حال كلّ شخص بحسب نفسه، لوضوح عدم صدق الامتنان على رفع الحكم عن شخص بلحاظ شخصٍ آخر.

وهذا هو ما اختاره الميرزا النائيني) أيضاً، حيث قال - ما نصّه -:

«وبالجملة: مقتضى الحكومة، بل مقتضى كون الحديث وارداً في مقام الامتنان، أن يكون كلّ شخصٍ ملحوظاً بحال نفسه»(2).

ويمكن المناقشة فيه: بأنّ كون الحديث وارداً - كما ذكرنا - في مورد الامتنان، لا يحتّم أن يكون المراد منه هو الضرر الشخصيّ خاصّةً، بل

ص: 22


1- القواعد الفقهيّة 1: 237.
2- منية الطالب 3: 423.

كما يمكن أن يكون الامتنان بحسب حال الشخص نفسه، فكذلك يمكن أن يكون امتناناً وارداً على النوع، فيكون الحديث - بناءً عليه - حاكماً على أدلّة الأحكام الأوّليّة إذا كان يترتّب عليها ضرر نوعيّ أيضاً، فليس هناك من منافاة - أصلاً - بين الحكومة والضرر النوعيّ.

الأمر الخامس: في دعوى عدم شمول الحديث لمورد نفسه:

حاص-ل ه-ذا الإشكال: هو أنّ القاعدة المق-رّرة في رواية سمرة لا تنطبق على مورد الحديث نفسه، فإنّ أمره(صلی الله علیه و آله) بقلع العذق لا يستوجب نفي الضرر؛ لأنّ إبقاء عذق سمرة في بستان الأنصاريّ ليس هو الذي يستوجب الضرر على الأنصاريّ، بل الذي استوجب الضرر هو دخول سمرة في بستانه من دون استئذان منه.

وعليه: فيلزم أن لا تكون القاعدة شاملةً للمورد، وهو مستهجن.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ حكمه(صلی الله علیه و آله) بالقلع لم يكن من جهة تطبيق القاعدة عليه، بل إنّما كان من باب أنّه(صلی الله علیه و آله) له الولاية على النفوس والأموال، فأمره(صلی الله علیه و آله) بقلع العذق من باب الولاية حسماً لمادّة الفساد.

ولكنّه جواب غير تامّ؛ لأنّه مخالف للتعليل المذكور في نفس الموثّقة، فقد ورد فيها أنّه(صلی الله علیه و آله) بعد أن قال: «اقلعها وارمِ بها إليه» علّله بقوله: «فإنّه لا ضرر ولا ضرار»، فلا يمكن القول بأنّ القلع كان من باب إعمال حكومته(صلی الله علیه و آله) وولايته.

ص: 23

وقد أجاب المحقّق النائيني(قدس سرّه) عن هذا الإشكال:

بأنّ قوله(صلی الله علیه و آله) (لا ضرر) ليس علّةً لقطع العذق، بل إنّما هو علّة لوجوب الاستئذان عند دخوله، وضرر الأنصاريّ، وإن كان مستنداً إلى جواز الدخول بغير إذنه، وهو الجزء الأخير لعلّة الضرر، ولكنّ جواز الدخول من غير استئذان ينتهيبالأخير إلى حقّه لإبقاء عذقه في ذلك البستان، وذلك الحقّ، حكم شرعيّ وضعيّ نشأ من قبله الضرر، فيكون الضرر عنواناً ثانويّاً لذلك الحقّ، فيرتفع بارتفاع الضرر، بالمطابقة أو بالالتزام، فلا يرد إشكال حتى بناءً على تطبيقه على مسألة العذق.

قال) - بعد كلامٍ طويل -:

«وتوضيح ذلك: بعد ظهور القضيّة في أنّ سمرة لم يكن مالكاً إلّا للعذق، وأنّ البستان المغروس فيها النخيل كان للأنصاريّ، غاية الأمر: أنّه كان مستحقّاً لإبقائها فيها مجّاناً، إمّا لاستئجاره الأرض للغرس، وإمّا لكون مالكها واحداً ابتداءً، ثمّ انتقل الأرض إلى أحد والنخلة إلى آخر، فعلى أيّ حالٍ، كان سمرة مستحقّاً لإبقائها، فإذا كان كذلك، وكان هذا علّةً لجواز الدخول على الأنصاريّ بلا استئذان، فلو كان المعلول والفرع مستلزماً للضرر، فنفي الضرر رافع لأصل العلّة والأصل ...»، انتهى موضع الحاجة من كلامه«(1).

ص: 24


1- منية الطالب 3: 398 - 399.

وقد أدخل الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) المسألة في باب تقديم الأهمّ على المهمّ، فقال:

«أنّ سوق (لا ضرر) في مقام الامتنان، فلا يجري فيما إذا كان موجباً لضرر الغير؛ لأنّه كما أنّ بقاء حقّ سمرة في إبقاء عذقه في بستان الأنصاريّ - لو سلمنا أنّه منشأ للضرر- كذلك منعه عن حقّه وقلع عذقه ضرر عليه، فيدخل في باب تعارض الضررين، بل تزاحم الحقّين.

فالصواب في الجواب أن يقال: إنّ تقديم حقّ الأنصاريّ لحفظ عرضه من جهة أهمّيّته في نظر الشارع، كما هو الشأن في باب التزاحم، من تقديم الأهمّ على المهمّ، وهو أحد المرجّحات الخمسة في باب التزاحم، بل أهمّها»(1).

هذا، ولكنّك خبير بأنّ ما أفاده(قدس سرّه) وإن كان تامّاً، ولكن يبقى معه ورود إشكال عدم شمول الحديث لمورد نفسه على حاله.

الأمر السادس: في بيان تقديم هذه القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّليّة الواقعيّة:

حيث إنّ الأدلّة الأوّليّة شاملة بعمومها وإطلاقها حتى لموارد الضرر، وبعد أن كانت النسبة بين هذه القاعدة وبين تلك الأدلّة عموم من وجه - فمثلاً -: دليل وجوب الغسل عامّ يثبت هذا الحكم حتى في مورد

ص: 25


1- القواعد الفقهيّة 1: 226 - 227.

الضرر، وقاعدة لا ضرر تنفي الحكم الضرريّ، سواء كان واجباً أم لم يكن، فيتعارضان في مورد الاجتماع وتصادم العنوانين، ومقتضى القاعدة - حينئذٍ - الحكم بتساقطهما، ولكنّهم مع ذلك قدّموا قاعدة (لا ضرر).

وقد ذكروا لذلك وجوهاً:الأوّل: هو حكومة القاعدة على تلك الأدلّة، ولذا تقدّم عليها، وهي حكومة بالتضييق في جانب المحمول؛ فإنّ دليل (لا ضرر) يضيّق ما هو المحمول في تلك الأدلّة، وهو الحكم، ويرفعه بنحو الرفع التشريعيّ في حالة كونه ضرريّاً، بلا فرق بين أن يكون هذا المحمول من قبيل الحكم التكليفيّ أو الوضعيّ.

وبالتالي: فلا يكون هناك تعارض بينهما حتى يحكم بتساقطهما؛ لأنّ التساقط - كما هو معلوم - إنّما هو فرع التعارض، ولا تعارض بين الحاكم والمحكوم.

ولا يخفى: أنّ القاعدة - حينئذٍ - لا تكون شاملةً لما إذا كان رفع الضرر عن شخص سبباً لورود ضرر على الآخر، فلا يجوز قسمة طاحونة - مثلاً - إذا كان في الشركة ضرر على أحد الشركاء، وكان في القسمة ضرر على الآخر.

الثاني: ما اختاره صاحب الكفاية(قدس سرّه)، وحاصله:

أنّنا نلتزم بتقديم قاعدة (لا ضرر) بالجمع العرفيّ؛ فإنّ أحدهما بيان للحكم الثابت للأشياء، ولكن بعناوينها الأوّليّة، وأمّا الآخر - وهو قاعدة

ص: 26

(لا ضرر) - فهو متكفّل لبيان الحكم الثابت للأشياء، ولكن بعناوينها الثانويّة، فيجمع العرف بينهما بحمل دليل نفي الضرر على بيان الحكم الفعليّ، وأدلّة الأحكام الأوّليّة على بيان الحكم الاقتضائيّ.

قال(قدس سرّه):

«ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلّة نفيه وأدلّة الأحكام، وتقدّم أدلّته على أدلّتها - مع أنّها عموم من وجه - حيثإنّه يوفّق بينهما عرفاً بأنّ الثابت للعناوين الأوّليّة اقتضائيّ، يمنع عنه فعلاً ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلّته، كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلّة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانويّة، والأدلّة المتكفّلة لحكمها بعناوينها الاوليّة»(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ الجمع العرفيّ - كما أفاده الاُستاذ المحقّق(رحمة الله)(2) - لابدّ له من سبب، كما لو كان أحدهما خاصّاً والآخر عامّاً، فيقدّم الخاصّ في نظر العرف على العامّ، ولا يمكن أن يكون جزافاً، وفيما نحن فيه، ثمّة وجه للتقديم والجمع العرفيّ، وهو كون أحد الدليلين، وهو دليل (لا ضرر) حاكماً - كما عرفنا - على أدلّة الأحكام الواقعيّة الأوّليّة.

ولكنّ صاحب الكفاية(قدس سرّه) استشكل في الحكومة في المقام، بما لفظه:

ص: 27


1- كفاية الاُصول: 382.
2- القواعد الفقهيّة 1: 233.

«هذا لو لم نقل بحكومة دليله على دليله؛ لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله، كما قيل»(1).

وحاصله: أنّ المقام ليس من باب الحكومة في شيء؛ لأنّ الحكومة تتوقّف على كون الدليل الحاكم بصدد التعرّض لحال الدليل المحكوم، ودليل (لا ضرر) - هنا - ليس له نظر إلىأدلّة الأحكام، ولا له تعرّض إلى حالها، بل إنّما يتكفّل ببيان ما هو الواقع من نفي الضرر، وهذا المقدار لا يصحّح الحكومة بل هو كسائر أدلّة الأحكام.

وقد ردّه المحقّق النائيني(قدس سرّه) - بما يبدو منه أنّه قد فهم من كلامه) تخصيص الدليل الحاكم بما يكون متعرّضاً للدليل المحكوم بالمدلول اللّفظيّ المطابقيّ -.

ثمّ تعرّض(قدس سرّه) للفرق بين قرينة المجاز وقرينة التخصيص والتقييد، وحاصل هذا الفرق:

أنّ قرينة المجاز تكون بياناً للمراد الاستعماليّ من اللّفظ وأنّها تأتي لبيان المدلول التصديقيّ له، نظير لفظ (يرمي) في قول القائل: (جاء أسد يرمي)، فإنّه بيان لكون المراد من (أسد) هو الرجل الشجاع، لا الحيوان المفترس.

وأمّا قرينة التخصيص، فهي ليست بياناً للمراد الاستعماليّ، بل للمراد

ص: 28


1- كفاية الاُصول: 382 - 383.

الواقعيّ الجدّيّ، فتكون بصدد بيان ما هو موضوع الحكم واقعاً، وأنّ عنوان العامّ ليس تمام الموضوع، بل جزؤه.

ثمّ أفاد(قدس سرّه) في الفرق بين التخصيص والحكومة أنّ:

«ضابط التخصيص أن لا يكون في اللّفظ إشعار أصلاً بالحكم الثابت في العامّ، فإنّ قوله: (لا تكرم زيداً)، لا تعرّض له بحسب المدلول بالحكم الثابت في جميع أفراد العلماء الشامل لزيد. فكونه بياناً للعامّ إنّما هو بحكم العقل بعد العلم بصدور الخاصّ والعامّ من العاقل الملتفت، فإنّ العقل يحكم بأنّ الملتفت لا يحكم واقعاً بوجوب إكرام جميع الأفراد معحكمه في فردٍ منها بخلاف حكمه في سائر الأفراد، وبعد نصوصيّة الخاصّ أو أظهريّته من العموم في شموله له، يحكم بأنّ المتكلّم لم يقصد من العموم هذا الفرد.

وضابط الحكومة أن يكون هذا الوجه من الجمع مدلولاً لفظيّاً، ولا تختصّ الدلالة اللّفظيّة، بأن يكون مدلول الحاكم هو (أردتُ من المحكوم هذا) حتى يكون شارحاً بلفظ (أي) و(أعني) ونحوهما، فيكون كقرينة المجاز. بل تشمل ما كان كالمقيّد والمخصّص بياناً للمراد من الحكم الواقعيّ كأغلب الحكومات..

إلى أن قال: فالفرق بين التخصيص والحكومة هو أنّ بيانيّة الخاصّ للعامّ إنّما هو بحكم العقل، وبيانيّة الحاكم للمحكوم إنّما هو بنفس مدلوله».

ص: 29

ثمّ بيّن) أقسام الحكومة بقوله:

«منها: ما يتعرّض لموضوع الحكم، كما لو قيل: بأنّ زيداً ليس بعالم، بعد قوله: أكرم العلماء.

ومنها: ما يتعرّض لمتعلّق الحكم الثابت في المحكوم، كما لو قيل بأنّ الإكرام ليس بالضيافة.

ومنها: ما يتعرّض لنفس الحكم، كما لو قيل بأنّ وجوب الإكرام ليس في مورد زيد.

ثمّ إنّ الحكومة كما توجب التضييق، فقد توجب التوسعة أيضاً».

ثمّ ذكر أنّ الوجه في تقدّم الحاكم على المحكوم هو أنّه لا تعارض بين دليليهما أصلاً؛ فإنّ الدليل المحكوم يتكفّل الحكمعلى تقدير تحقّق الموضوع، وليس له تعرّض - أصلاً - لثبوت ذلك التقدير أو عدمه. وأمّا الدليل الحاكم، فهو يتكفّل هدم تقدير ثبوت الموضوع وبيان عدم تحقّقه، وفي مثله فلا تنافي أصلاً بين الدليلين.

وعلى هذا الأساس، فقد بنى) صحّة الترتّب بين الأمر بالضدّين، حيث لا منافاة بين تعلّق الأمر بالأهمّ مطلقاً، وتعلّق الأمر بالمهمّ على تقدير عصيان الأهمّ؛ فإنّ امتثال الأمر بالأهمّ يدعو إلى هدم موضوع الأمر بالمهمّ، فلا يصادمه ولا ينافيه، بل هو كالحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم.

وبعد هذا البيان ذكر) أنّه «لا فرق بين أن يكون المراد من (لا ضرر)

ص: 30

ما اختاره شيخنا الأنصاريّ، وأن يكون المراد منه ما اختاره المحقّق الخراسانيّ)، أي: سواء قيل بأنّ الحكم الضرريّ غير مجعول، أو قيل: بأنّ الموضوع الضرريّ لا حكم له؛ إذ كلاهما حاكمان على أدلّة الأحكام، غاية الفرق: أنّ أدلّة (لا ضرر) على مختار الشيخ) شارحة لأصل الحكم، وعلى مختاره فشارحة لموضوعات الأحكام»(1).

وما ذكره) من تقدّم دليل الحاكم على دليل المحكوم بالمدلول اللّفظيّ تامّ؛ وأمّا ما أفاده من أنّ تقدّم الخاصّ على العامّ من جهة دليل العقل، فغير تامّ، بل لا دخل للعقل في تقدّم أحدهما على الآخر، وليس هذا من مختصّاته.وإنّما تقدّمه - أعني: الخاصّ - على العامّ، فإنّما هو - كما قرّر في محلّه - من باب القرينيّة، حتى لو كان ظهور الخاصّ أضعف من ظهور العامّ، فإنّه مع ذلك يقدّم - أيضاً - عليه.

الأمر السابع: شمول القاعدة للحكم الضرريّ، تكليفيّاً كان أم وضعيّاً

وفي ذلك يقول اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):

«بل الحكم الوضعيّ أولى بشمول (لا ضرر) له؛ لأنّ الحكم التكليفيّ بمحض جعله وتشريعه لا يكون موجباً لوقوع الضرر في الخارج، بل

ص: 31


1- انظر في جميع ما نقلناه عنه): منية الطالب 3: 407 - 409.

الضرر يقع في مرحلة الامتثال، فيتوسّط بينه وبين وقوع الضرر إرادة المكلّف واختياره»(1).

وبذلك يتحصّل: أنّ قاعدة (لا ضرر) غير مختصّة بالنهي التكليفيّ عن الإضرار بالغير، بل تعمّه والأحكام الوضعيّة، فكما أنّ دخول سمرة بن جندب على الأنصاريّ بغير استئذان منه إضرار بالغير ومنهيّ عنه تكليفاً، فكذلك البيع الغبنيّ إذا وقع على وجه اللّزوم بنفسه، مصداقاً للإضرار بالغير، فلا يكون ممضىً من قبل الشارع، فلا يكون نافذاً ومؤثّراً لأثره المطلوب منه.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الضرر بالنفس، فمثلاً: الوضوء واجب للصلاة، ولكنّه إذا كان يستلزم ضرراً على الشخص،لمرض أو غيره، من جهة استعمال الماء، فيكون مرفوعاً بالقاعدة.

الأمر الثامن :في تعارض الضررين:

وهذا تارةً يتصوّر في حقّ شخصٍ واحد وأُخرى في حقّ شخصين.

والكلام يقع أوّلاً في أنّ الإضرار بالنفس هل هو حرام مطلقاً أم لا، بل يحرم فقط إذا تسبّب في هلاك النفس؟

لا يخفى: أنّ حرمة الضرر على النفس مطلقاً محلّ كلام؛ لعدم الدليل،

ص: 32


1- القواعد الفقهيّة 1: 235.

بل إذا كان الإضرار لأجل أمر عقلائيّ، كالحجامة مثلاً، فلا يمكن أن يحكم بحرمته، أو كضرب السيوف على الهامة إذا كان سبباً للمزيد من الحزن على سيّد الشهداء(علیه السلام) بحيث لم يستوجب هلاك النفس فحرمته بحاجة إلى الدليل.

وأمّا القول بأنّه - أي: ضرب السيوف حزناً على مصابه(علیه السلام) - حرام بعنوان الثانويّ. ففيه: أنّه أهون من ضرب بعض أبناء الجماعة الخناجر في أبدانهم، أو جعل النيران على رؤسهم، بغير غرض عقلائيٍّ يدعو إلى ذلك، وهو في نظر الأجانب - وإن لم يكن لنظرهم قيمة أصلاً في المقام - ليس بأهون وأقبح من هرولة ما يقارب المليونين من الحجّاج كلّ عامٍ ما بين الصفا والمروة.

وكيف كان، فلو فرض توجّه ضررين بالنسبة إلى شخص واحد، فإمّا أن يكونا مباحين أو محرّمين أو مختلفين.فإذا كانا مباحين، فله أن يختار أيّاً منهما أراد.

وأمّا إذا كانا مختلفين، فعليه أن يختار ما ليس بحرام.

وأمّا لو كانا محرّمين، فيختار ما هو أضعف ملاكاً، ويترك ما هو أقوى بحسب الملاك، هذا إن كان أحدهما أقوى ملاكاً، وأمّا لو كانا متساويين ملاكاً، فهو مخيّر بينهما.

وأمّا توجّه الضررين بالنسبة إلى شخصين، فقد مثّل له الفقهاء بما إذا دخل رأس دابّةٍ يملكها شخص في قدرٍ يملكه شخص آخر، ولم يمكن

ص: 33

إخراج رأسها منه إلّا بكسر القدر أو ذبح الدابّة. أو كما لو كان تصرّفه في ملكه يستوجب ضرراً يلحق بجاره، كما إذا أجّج ناراً وكانت هذه النار سبباً لإحراق مزرعة الجار.

ولا يخفى: أنّ قاعدة (لا ضرر) لا تتناول حالة التعارض بين الضررين؛ لأنّها واردة في مقام الامتنان كما أسلفنا، وفي حالة التعارض المذكور لا يُتصوّر الامتنان، وإنّما هي شاملة فقط لما إذا كان الضرر في أحد الطرفين بالنسبة إلى الفعل والترك، لا في كليهما، كما في المثال المتقدّم: فإنّ كلّاً من العملين، أعني: ذبح الدابّة وكسر القدر يصدق عليه أنّه بالنسبة إلى مالكه ضرر، فلو حكمنا بأحدهما لاستوجب ضرراً - لا محالة -.

ومعه: فيكون خلاف الامتنان المسوق له دليل (لا ضرر)، فلابدّ من الالتزام بكون القاعدة منصرفة عن المورد الذي يتعارض فيه الضرران. ومع انصرافها عن مورده، فلابدّ فيه من الأخذ بدليل آخر، كما في الجمع بين الحقوق؛ مراعاةللسيرة العقلائيّة القائمة، فإنّ العقلاء في أمثال هذه الموارد يلتزمون جانب الضرر الأقوى والأشدّ، ففي المثال: حيث إنّ الضرر المترتّب على قتل الحيوان أقوى من الضرر في كسر القدر، فهم يحكمون بلزوم كسر القدر لا الذبح.

وهل الخسارة الواردة - حينئذٍ - على صاحب الدابّة أم على كليهما؟

يمكن أن يقال: بوقوع الخسارة على كليهما بعد أن لم يكن بتفريط من صاحب الدابّة لكي يكون هو وحده الضامن.

ص: 34

ولكنّ الحقّ: أنّ صاحب الدابّة هو الضامن لأنّ ما أدّى إلى كسر القدر هو الدابة، فيكون صاحبها هو الضامن.

ولو قلنا بورود الخسارة على كلٍّ منهما، فلابدّ من تقسيمها عليهما بالتساوي؛ لعدم جواز الترجيح بلا مرجّح.

نعم، إذا فرض حصول التفريط من جانب، كانت الخسارة عليه خاصّةً.

وممّا ذكرنا من أنّه لابدّ من الأخذ بأقوى الضررين تمسّكاً ببناء العقلاء، ظهر فساد ما ذكره الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) بقوله:

«ولا يعتنى بما قيل من تقديم أعظم الضررين وينفى بلا ضرر ذلك الحكم الذي يكون ضرره أكثر وأعظم»(1).

الأمر التاسع :في تعارض القاعدة مع قاعدة «الناس مسلّطون على أموالهم»:

لا يخفى: أنّ قاعدة (لا ضرر) - كما مرّ - حيث كانت شاملةً لكلٍّ من الحكم التكليفيّ والوضعيّ إذا كان ضرريّاً، فهي بإطلاقها من هذه الناحية تشمل حتى الدائرة التي جعل فيها الشارع المقدّس السلطنة للملّاك على أموالهم، فإنّ هذه السلطنة إن كانت ضرريّةً بالنسبة إلى الغير، فهي - أيضاً - تكون منفيّةً ببركة قاعدة (لا ضرر)، وهذا يعني: أنّ هذه القاعدة تكون

ص: 35


1- القواعد الفقهيّة 1: 241.

حاكمةً على القاعدة القائلة بأنّ (الناس مسلّطون على أموالهم).

ولابدّ هنا من إيقاع الكلام في بيان الموارد التي تقع فيها المعارضة بين هاتين القاعدتين، فنقول:

إنّ تصرّف المالك في ماله إذا كان سبباً لتضرّر الغير على أنحاء:

الأوّل: أن فعله لم يكن إلّا بقصد الإضرار بالغير، من دون أن يكون له نفع في هذا التصرّف، أو يكون في تركه ضرر عليه.

والثاني: أن لا يكون من قصده الإضرار بالغير، ولكن لا يكون في تصرّفه هذا نفع له، ولا في تركه ضرر عليه، بل يكون عابثاً في فعله.

والثالث: أن يكون نفع فيه، ولكن ليس في تركه ضرر عليه.

والرابع: أن يتوجّه بسبب تركه ضرر عليه.ولا إشكال في أنّ قاعدة (لا ضرر) تكون حاكمةً على قاعدة السلطنة في النحوين الأوّل والثاني، بناءً على عدم شمول قاعدة السلطنة لمورد الإضرار بالغير، سواء كان قاصداً للإضرار أم لم يكن. وأمّا لو لم نقل بعموميّة قاعدة السلطنة للتصرّفات التي توجب الإضرار بالغير حيث لا يكون للمالك نفع فيه، ولا في تركه ضرر عليه، فلا يبقى مجال للحكومة حينئذٍ؛ لأنّ النحوين - حينئذٍ - خارجان عن عموم قاعدة السلطنة بنحو الخروج التخصّصيّ.

ولكنّ اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) رأى في المقام: أنّ «الإنصاف أنّه لا وجه لاحتمال عدم شمول قاعدة السلطنة للصورتين؛ لأنّ ظاهر الحديث

ص: 36

أنّ لكلّ مالكٍ السلطنة على أنحاء التصرّفات في ماله، ولو كان بقصد الإضرار، وسواء كان مستلزماً للضرر على الغير أم لا، غاية الأمر: يكون ضامناً للضرر الوارد على الغير؛ لأنّه بفعله وإتلافه»(1).

ولكنّ الحقّ: أنّه ليس للمالك التصرّف في ماله مطلقاً بأن يلقي ماله في البحر؛ فإنّ قاعدة السلطنة - مع قطع النظر عن دليل (لا ضرر) - ليس لها عموم على الإطلاق، بل غاية ما يثبت بها أنّه له التصرّف في ماله شريطة أن يكون تصرّفه فيها عقلائيّاً وممّا جرت عليه أو على مثله سيرة العقلاء.

ففي النحوين الأوّلين لا دليل على جواز هذه التصرّفات أصلاً، بل يمكن القول بأنّ قاعدة عموم السلطنة لا تشملهما؛لما بيّناه من أنّه حتى تصرّف المالك في ماله له حدّ معيّن لا يجوز له أن يتخطّاه، فمن الواضحات أنّه لا يجوز له أن يتصرّف في ماله - مثلاً - بإلقائه في البحر، أو أن يتصرّف في معوله بهدم دار الغير، أو بمديةٍ له بشقّ بطن الغير، ففي مثل هذه الموارد، وما أكثرها، لا يمكن أن يقال بالجواز، مضافاً إلى أنّه يثبت عليه الضمان.

وأمّا في النحو الثالث، فقد قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):

«مقتضى ما ذكرنا في الصورتين المقدّمتين حكومة قاعدة (لا ضرر) على قاعدة السلطنة؛ لأنّ سلطنة الملّاك على أموالهم حكم شرعيّ وضعيّ

ص: 37


1- القواعد الفقهيّة 1: 243.

على الأموال بعناوينها الأوّليّة، وقد تقدّم حكومة قاعدة (لا ضرر) على الأدلّة الأوّليّة المثبتة للأحكام على موضوعاتها بعناوينها الأوّليّة»(1).

ولكنّ الشيخ الأعظم الأنصاريّ(قدس سرّه) أفاد في المقام أنّ عدم جواز تصرّف المالك في ماله وحرمته فيما إذا كان التصرّف ضرريّاً بالنسبة إلى الغير، ولم يكن تركه ضرريّاً على نفسه، ولكن كان فيه نفع للمالك، فترك مثل هذا التصرّف وحرمته حرجيّ للمالك؛ لأنّه لا شكّ في أنّ عدم قدرة المالك على التصرّفات النافعة حرج عليه، فيقع التعارض بين قاعدة الضرر وقاعدة الحرج، والثانية حاكمة على الاُولى، وعلىفرض عدم الحكومة تكون قاعدة السلطنة هو المرجع بعد تساقط (لا حرج) و(لا ضرر) بالمعارضة(2).

ولكنّ ما ذكره(قدس سرّه) محلّ تأمل؛ لأنّه ليس هناك دليل يدلّ على تقديم قاعدة (لا حرج) على (لا ضرر) بالحكومة.

وقد أورد عليه المحقّق النائيني(قدس سرّه) أنّ المقام ليس من مصاديق الحرج، وإنّ القاعدتين لا تجتمعان في مورد واحد حتى يتعارضا؛ فإنّ مفاد قاعدة (لا ضرر) نفي السلطنة فيما إذا كانت ضرريّة، ونفي السلطنة على تقدير كونه حرجياً أمر عدميّ، ولا يرتفع ﺑ (لا حرج)، فليس المقام من مصاديق

ص: 38


1- المصدر نفسه 1: 243 - 244.
2- انظر: رسائل فقهيّة: 130 - 131.

(لا حرج) أصلاً حتى يقال بأنّ نفي النفي إثبات ويرجع إلى بقاء السلطنة، فيقع التعارض، وذلك من جهة أنّ مفاد لا حرج إنّما هو نفي الحكم الموجود الذي يكون حرجيّاً، لا إثبات حكم لرفع الحرج(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ أدلّة نفي الضرر تشمل كلا الجانبين، أعني: الضرر اللّاحق بالمالك نفسه والضرر اللّاحق بالغير، فيتعارضان ويتساقطان، ومعه: فلابدّ من الرجوع إلى قاعدة السلطنة.

هذا إذا قلنا بأنّ عدم النفع ضرر، فحينئذٍ: تكون قاعدة (لا ضرر) شاملةً لكلا الضررين، فيتساقطان، والمآل - حينئذٍ - إلى قاعدة السلطنة.وأمّا لو لم نقل بذلك، فقاعدة (لا ضرر) بما أنّها حاكمة على أدلّة السلطنة، فتتقدّم.

والكلام بعينه يأتي بالنسبة إلى النحو الرابع، فقاعدة (لا ضرر) حيث تشمل الضرر اللّاحق بالمالك والضرر اللّاحق بالغير فيتعارضان، وبعد تساقطهما، فيكون المرجع إلى قاعدة السلطنة.

وكيف كان، فإنّه يترتّب على ما قلناه من عموم القاعدة، أن يكون الحكم الضرريّ مرفوعاً مطلقاً، بلا فرق بين ما إذا كان من قبيل أن يفعل المكلّف شيئاً يتسبّب من خلاله بالضرر إلى نفسه، أو إلى غيره، فإذا كانت المرضعة قليلة اللّبن - مثلاً - بحيث لو صامت لأضرّ صومها بولدها،

ص: 39


1- راجع: منية الطالب 3: 427 - 430.

فالظاهر عدم صحّة الصوم منها، وأنّه مشمول للقاعدة، فإنّ المنفيّ بها هو الحكم الضرريّ، والحكم بالصوم بالنسبة إليها ضرريّ، ولولا باعتبار نفسها، بل باعتبار رضيعها.

نعم، لو كانت المرضعة أجنبيّةً وآجرت نفسها للرضاع، فالظاهر: أنّه لا يجوز لها ترك الصوم، وإن كان ضرريّاً، بمعنى: أنّه يضرّ بولد الغير، بجفاف لبنها وعجزها عن إرضاعه.

وبهذا تمّ الكلام في قاعدة لا ضرر.

ص: 40

الاستصحاب

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل :في بيان الأقوال التي وردت في جريانه وحجّيّته:

لا يخفى: أنّ الأقوال في ذلك كثيرة. وعمدة ما تتركّز عليه هذه الأقوال أنّه بعد الفراغ عن جريان الاستصحاب، فلابدّ من البحث في أنّه هل يجري في الأحكام أم هو مختصّ بالموضوعات؟ ثمّ هل يجري في حالات الشكّ في المقتضي أيضاً أم أنّ جريانه مختصّ بالشكّ في الرافع؟

وبقيّة الأقوال لا فائدة في ذكرها.

ثمّ وقع الكلام في أنّه هل يكون من الاُصول العمليّة أو ليس من الاُصول والأمارات، بل عرش الاُصول وفرش الأمارات؟ وإذا كان من الاُصول، فهل هو أصل شرعيّ أم عقليّ، تنزيليّ أم غير تنزيليّ؟

ص: 41

وجوه بل أقوال.

وینبغي أن يعلم: أنّ مجرى الاستصحاب هو الشكّ في بقاء المتيقّن السابق، سواء كان حكماً شرعيّاً أو موضوعاً ذا حكم، فهو من الاُصول العلميّة المحرزة، ولذا كان يقوم مقام القطع دون سائر الاُصول العمليّة.

الأمر الثاني :في بيان المعنى الاصطلاحيّ للاستصحاب:

قال صاحب الكفاية(قدس سرّه) في تعريفه: «ولا يخفى: أنّ عباراتهم في تعريفه، وإن كانت شتّى، إلّا أنّها تشير إلى مفهوم واحد، ومعنى فارد، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه»(1).

وقال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه): «فهو عبارة عن حكم الشارع ببقاء المتيقّن السابق، حكماً كان أو موضوعاً ذا حكم، من حيث ترتيب الآثار الشرعيّة على أنّه متيقّن عند الشكّ في بقائه»(2).

ولا شكّ في أنّ المراد هو الإبقاء الواقعيّ، بل هو إبقاء ظاهريّ، وإنّما عدل صاحب الكفاية) عن تعريفه بأنّه (إبقاء ما كان) وأخذ فيه بدلاً من ذلك (الحكم بالبقاء)؛ لأنّ مورد الاستصحاب حكم أو موضوع ذو حكم، ولو لم يكن هذا الحكم موجوداً وثابتاً واقعاً.

ص: 42


1- كفاية الاُصول: 384.
2- منتهى الاُصول 2: 375.

الأمر الثالث: هل الاستصحاب من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

لا يخفى: أنّه من المسائل الاُصوليّة، لا من القواعد الفقهيّة، وإن كان يظهر من الشيخ الأعظم(رحمة الله) التوقّف في كونه مسألة اُصوليّة على تقدير استفادته من الأخبار.

قال): «وأمّا على القول بكونه من الاُصول العمليّة، ففي كونه من المسائل الاُصوليّة غموض؛ من حيث إنّ الاستصحاب - حينئذٍ - قاعدة مستفادة من السنّة...»(1).

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سرّه) فقد قال في المقام ما لفظه:

«والحقّ هو التفصيل بين الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكميّة، والاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعيّة، ففي الأوّل: يكون الاستصحاب من المسائل الاُصوليّة، وفي الثاني: يكون من القواعد الفقهيّة»(2).

وحاصل ما أفاده(قدس سرّه) في وجه هذا التفصيل:

أنّنا عرفنا في تعريف المسألة الاُصوليّة أنّها ما تقع كبرى في قياسات يستنتج منها الحكم الكلّيّ الشرعيّ، فالمسألة الاُصوليّة نتيجتها كلّيّة، ولا تتعلّق بعمل آحاد المكلّفين إلّا بعد التطبيق الخارجيّ.

ص: 43


1- فرائد الاُصول 3: 18.
2- فوائد الاُصول 4: 307 - 308.

وهذا بخلاف القاعدة الفقهيّة، فإنّها وإن كانت تقع كبرى لقياس الاستنباط، ولكنّ نتيجتها إنّما تكون حكماً جزئياً يتعلّق بعمل آحاد المكلّفين بلا واسطة، إذن، فإدخالها في المسألة الاُصوليّة إذا كانت الشبهة حكميّة دون أن يكون موضوعيّة يكون بلا مورد. ثمّ قال):

«إذا عرفت ذلك، فقد ظهر لك: أنّ البحث عن حجّيّة الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكميّة يكون بحثاً عن مسألة اُصوليّة؛ فإنّ النتيجة فيه حكم كلّيّ لا يتعلّق بعمل آحاد المكلّفين إلّا بعد تطبيقها على الأفعال أو الموضوعات الخارجيّة الجزئيّة، ولا عبرة بيقين المقلّد وشكّه في ذلك... إلى أن قال: وأمّا البحث عن حجّيّة الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة، فهو إنّما يكون بحثاً عن قاعدة فقهيّة؛ لأنّ النتيجة فيه حكم عمليّ له تعلّق بعمل الآحاد ابتداءً...»(1).

الأمر الرابع: يتقوّم الاستصحاب باليقين والشكّ:

الاستصحاب، سواء كان حكماً ببقاء الحكم الشرعيّ أم حكماً ببقاء موضوعٍ ذي حكم، يجب أن يكون مشتملاً على أمرين اثنين:

أوّلهما: اليقين مسبقاً بحدوث الشيء، وهو ما يمكن استفادته من نفس الشكّ في البقاء؛ لأنّ معنى كون الشكّ شكّاًفي بقاء الحكم أو الموضوع يدلّ على مفروغيّة حدوثه في مرحلة مسبقة.

ص: 44


1- المصدر نفسه 4: 310 - 311.

والثاني: الشكّ في البقاء، وهو مترتّب على اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع المشكوكة من ناحيتي الموضوع والمحمول؛ إذ مع عدم اتّحادهما، لا يكون من الشكّ في البقاء في شيء، بل إنّما يكون شكّاً في الحدوث؛ إذ لا معنى لبقاء الشيء إلّا استمرار وجوده السابق، ومن المعلوم أنّ هذا الاستمرار منوط باتّحاد اللّاحق في وجوده مع وجود السابق، وأن يكون عينه.

ولا يخفى: أنّ موضوع القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة، تارةً يكون أمراً وجوديّاً، وأُخرى أمراً عدميّاً.

ثمّ إنّ محمول القضيّة قد يكون من المحمولات الأوّليّة، وأُخرى من المحمولات المترتّبة، فالأوّل: كالوجود والعدم المحمولين على الماهيّات، والثاني: كالعدالة والشجاعة والفسق والجبن وغير ذلك.

وفي جميع هذه الصور، لا مانع من جريان الاستصحاب.

غاية الأمر: أنّه يعتبر في جريانه وحدة القضيّتين المشكوكة والمتيقّنة في الموضوع والمحمول، سواء كان المستصحب من الموضوعات الخارجيّة، كحياة زيد ورطوبة الثوب، أم كان من الأحكام الشرعيّة، كوجوب صلاة الجمعة ونجاسة الماء المتغيّر بأوصاف النجاسة.

ثمّ إنّ الموضوعات، تارةً تكون من الاُمور القارّة - وهي التي تكون أجزاؤها مجتمعةً في سلسلة الزمان -، سواء كانتمن الجواهر، كالحيوان والنبات، أم من الأعراض، كالسواد والبياض والعلم والعدالة والفسق وغير

ص: 45

ذلك من الاُمور الخارجيّة، فإذا أحرز حياة زيد أو عدالته - مثلاً - أمكن له إجراء استصحاب حياته أو عدالته لو حصل له الشكّ فيهما بعد ذلك.

وقد تكون من الاُمور غير القارّة، وهي الاُمور التدريجيّة، كالزمان نفسه، أو الزمانيّات، كالماء النابع من العين، أو الدم الخارج من عرق خاصّ.

وفي هذا القسم من الموضوعات قد يقال:

بعدم إمكان جريان الاستصحاب، لعدم إحراز بقاء الموضوع؛ لفرض تقوّم الاُمور التدريجيّة بالتصرّم والتجدّد، كما هو واضح.

ولكنّ الحقّ: جريان الاستصحاب فيها؛ لأنّها وإن لم تكن مجتمعة الأجزاء بحسب الوجود؛ لتصرّم أجزائها، وكون مجيء الجزء اللّاحق مترتّباً على تصرّم السابق.

إلّا أنّ وحدتها حقيقيّة لا تنثلم بذلك ما دامت الأجزاء متّصلة ولم يتخلّل العدم بينها، فلذا كان يجوز استصحاب اللّيل والنهار وجريان الماء من منبعه وما إلى ذلك.

الأمر الخامس :اشتراط الفعليّة في الشكّ واليقين:

يجب في الشكّ واليقين اللّذين هما مدار الاستصحاب - كما عرفنا - أن يكونا فعليّين لا تقديريّين؛ ذلك لأنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان المكلّف فعلاً متيقّناً بحكم أو موضوعذي حكم في الزمان السابق، وأيضاً: إذا كان شاكّاً فعلاً في بقائهما، لا أن يكون شاكّاً ومتيقّناً تقديراً،

ص: 46

بحيث يكون غافلاً بالفعل، وليس له فعلاً: لا يقين بوجود شيءٍ سابقاً، ولا شكّ في بقاء ذلك الشيء لاحقاً، ولكن كان بحيث لو التفت وخرج عن حالة الغفلة هذه يحصل له الشكّ واليقين.

والدليل على لزوم اعتبار ذلك: أنّ كلّ عنوان يؤخذ موضوعاً لأيّ حكمٍ من الأحكام، ففعليّة ذلك الحكم تتوقّف على فعليّة ذلك الموضوع - أعني به: متعلّق المتعلّق -.

والاستصحاب، الذي هو عبارة عن فعليّة وجوب الإبقاء وحرمة النقض، بدوره يكون متوقّفاً على فعليّة الشكّ واليقين، فحيث لا يكونان فعليّين، فلا استصحاب يمكن جريانه في البين.

وتظهر الثمرة لذلك فيمن كان متيقّناً بالحدث ثمّ غفل عن ذلك وصلّى، ثمّ شكّ بعد الفراغ، بأنّه هل تطهّر للصلاة أم لا؟

فهنا تجري قاعدة الفراغ ليُحكم بصحّة صلاته؛ لأنّ الشكّ في الطهارة إنّما حصل بعد العمل، لا قبله، فهو ليس فعليّاً قبل العمل، كي يجري استصحاب الحدث فيؤمر بالطهارة ويُنهى عن الدخول في الصلاة.

وأمّا المتيقّن بالحدث إذا التفت إلى حاله في اللّاحق، وشكّ في بقاء الحدث وعدمه، جرى الاستصحاب في حقّه، ولكن في هذه الحالة، فلو غفل عن ذلك وصلّى، تكون صلاته باطلةً لا محالة لسبق الأمر بالطهارة، ولا تجري قاعدة الفراغ في حقّه؛لأنّ مجرها هو الشكّ الحادث بعد الفراغ لا الشكّ الموجود من قبل العمل؛ لقصور دليلها لذلك، كما ذكر في محلّه.

ص: 47

الأمر السادس :في انقسامات الاستصحاب:

اشارة

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه):

«انقسامات الاستصحاب باعتبار المستصحب، وباعتبار الدليل الذي يدلّ عليه، وباعتبار الشكّ المأخوذ فيه»(1).

أمّا انقسامه باعتبار المستصحب: فإنّ المستصحب قد يكون أمراً وجوديّاً، وقد يكون أمراً عدميّاً، وكلّ واحدٍ منهما: فهو إمّا حكم شرعيّ أو موضوع ذو حكم شرعيّ، وأيضاً: فما فيه المستصحب من الحكم الشرعيّ الوجوديّ والعدميّ، قد يكون حكماً كلّيّاً، وقد يكون حكماً جزئيّاً، وكل واحد من هذين: قد يكون حكماً تكليفيّاً، وقد يكون حكماً وضعيّاً.

وأمّا انقسامه بحسب دليله: فإنّ دليله - أعني: دليل المستصحب - قد يكون عقليّاً، وقد يكون شرعيّاً، والشرعيّ قد يكون لفظيّاً، كالكتاب والسنّة، وقد يكون لبّيّاً كالإجماع.

وأمّا انقسامه باعتبار الشكّ المأخوذ فيه: فإنّ الشكّ قد يكون شكّاً في المقتضي، بحيث يشكّ في أنّ المستصحب هل هو قابل للبقاء في حدّ نفسه من دون أن يكون هناك رافع في البين. وقد يكون شكّاً في الرافع، وذلك عندما يكونالمستصحب قابلاً للبقاء في حدّ نفسه، لو لم يكن رافع في البين.

ص: 48


1- منتهى الاُصول 2: 382.

ثمّ إنّ الشكّ في الرافع قد يكون شكّاً في أصل وجود الرافع، كما أسلفنا، وقد يكون شكّاً في رافعيّة الموجود.

ثمّ إنّ الاستصحاب قد يكون تعليقيّاً وقد يكون تنجيزيّاً، وهو تارةً يتصوّر في الفروع، وأُخرى في الاُمور الاعتقاديّة، كما إذا فرض الشكّ في أنّ الاعتقاد بنبوّة الأنبياء السابقين(علیهم السلام)هل هو واجب علينا أم لا؟ لاحتمال أن يكون مختصّاً بالمسلمين في صدر الإسلام.

التفصيل بين الأحكام الكلّيّة والأحكام الجزئيّة:

ثمّ إنّه قد يقال: بلزوم التفصيل بين الأحكام، والقول بجريان الاستصحاب في الأحكام الجزئيّة دون الكلّيّة؛ إذ لابدّ في جريان الاستصحاب - كما هو معلوم - من أن يكون الموضوع في القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة واحداً؛ ضرورة أنّ لولا هذا الاتّحاد بين موضوعي القضيّتين، فلا يكون عدم الجري العمليّ على طبق القضيّة المشكوكة نقضاً لليقين بالشكّ، بل هو - حينئذٍ - عبارة عن عدم الاعتناء بثبوت محمول لموضوع آخر للشكّ في ثبوته له، وليس من باب عدم الاعتناء ببقاء المحمول لموضوع القضيّة المتيقّنة بواسطة عروض الشكّ في بقائه كي يصدق عليه نقض اليقين بالشكّ.وقد عرفت أنّ حقيقة الاستصحاب ليست إلّا عبارة عن حرمة نقض اليقين باعتبار الجري العمليّ، ووجوب إبقاء اليقين من حيث آثار المتيقّن، ولزوم الجري العمليّ على طبقه.

ص: 49

وهذا الشرط غير متوفّر في استصحاب الأحكام الكلّيّة، وذلك لأنّ الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ لا يأتي ولا يتصوّر إلّا من جهة الشكّ في النسخ، إلّا أن يُفرض تغيّر في موضوعه، بوجود وصف لم يكن، أو بفقد قيد كان مأخوذاً في القضيّة المتيقّنة، أو غير ذلك.

فمثلاً: الماء المتغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة نجس يقيناً، ولا يحصل الشكّ في بقاء نجاسته إلّا بتغيّر في موضوع الحكم المجعول له، كما إذا زال التغيّر من قبل نفسه، لا بوصول المطهّر إليه، ومن المعلوم أنّ الماء الذي تغيّر بهذه النجاسة غير الماء غير المتغيّر بنجاسة أُخرى، فموضوع القضيّة المتيقّنة مغاير لموضوع القضيّة المشكوكة، وليس متّحداً معه، وفي هذا المثال، كان تغيّر الموضوع - كما رأينا - من جهة فقد القيد.

أمّا تغيّر الموضوع لفرض وجود وصف لم يكن في القضيّة المتيقّنة، ففي مثل العصير التمريّ أو الزبيبيّ إذا لم يَغْلِ يقيناً، فإنّه يكون طاهراً وشربه حلالاً، ولكن بعد وجود وصف الغليان قبل ذهاب الثلثين، إذا فُرض حصول الشكّ، فليس إلّا من جهة تغيّر الموضوع، فالحكم بعد نجاسة الماء بعد زوال تغيّره من قبل نفسه لا يكون نقضاً لنجاسة الماء الذي تغيّرشيء من أوصافه الثلاثة بالنجس؛ لاختلاف الموضوعين في القضيّتين.

وكذا الحال بالنسبة إلى الحكم بعدم الحليّة أو بعدم الطهارة للعصير

ص: 50

التمريّ أو الزبيبيّ بعد الغليان، فإنّه - أيضاً - ليس نقضاً للحلّيّة أو الطهارة التي كانت لهما قبل الغليان، لعين تلك الجهة المشار إليها.

وكأنّ من أنكر صحّة جريان الاستصحاب في باب الأحكام الكلّيّة - كالاُستاذ الأعظم(رحمة الله) - لم ينكره إلّا لأجل ارتكاز هذه الشبهة في الأذهان.

قال(قدس سرّه): «التفصيل الثالث في حجّيّة الاستصحاب هو التفصيل بين الأحكام الكلّيّة الإلهيّة وغيرها من الأحكام الجزئيّة والموضوعات الخارجيّة ... إلى أن يقول: فيكون الاستصحاب قاعدة فقهيّة مجعولة في الشبهات الموضوعيّة، نظير قاعدتي الفراغ والتجاوز وغيرهما من القواعد الفقهيّة، وهذا هو الصحيح»(1).

ولكن قد أجاب عنها اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):

«بأنّ هذه الشبهة لا يمكن الجواب عنها لو قلنا بلزوم كون وحدة القضيّتين، التي هي ركن الاستصحاب بنظر العقل وبالدقّة؛ لما ذكر. وأمّا لو كانت الوحدة بنظر العرف، فيرجع - حينئذٍ - إلى العرف، وأنّ ما حصل به التغيّر في جانب موضوع القضيّة المتيقّنة هل هو من مقوّماتالموضوع عندهم أم لا، بل أمر خارج عن الموضوع، بحيث إنّ فقده لا يضرّ بصدق النقض عند عدم الاعتناء بحكمه بالشكّ فيه؟»(2).

ص: 51


1- مصباح الاُصول 2: 42، المجلّد 48 من موسوعة الإمام الخوئي(قدس سرّه).
2- منتهى الاُصول 2: 385، بتصرّف يسير.

ولك أن تقول: إنّه من الجائز أن يكون هذا القيد الذي صار سبباً للشكّ في بقاء الحكم بنظر العرف من قبيل الواسطة في الثبوت، لا الواسطة في العروض حتى يكون فقده سبباً لعدم بقاء الموضوع، فلا يصدق النقض على عدم الالتزام بحكمه في ظرف الشكّ.

ومنشأ الفهم العرفيّ أنّه من أيّ واحد من القسمين هو مناسبة الحكم والموضوع، فمثلاً: ما يفهمه العرف في نحو قولهم: (الماء الذي تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بأوصاف النجاسة نجس) بمناسبة الحكم والموضوع، هو أنّ معروض النجاسة إنّما هو جسم الماء، وأنّ التغيّر بأحد الأوصاف يكون علّة للحكم بالنجاسة وواسطة في ثبوتها للماء، لا أنّه من قبيل الواسطة في العروض لكي يكون الماء بوصف كونه متغيّراً موضوعاً، حتى لا يبقى الموضوع بعد زوال التغيّر محفوظاً.

ولا فرق فيما ذكرنا في فهم العرف ونظره بمناسبة الحكم والموضوع بين أن يكون القيد المأخوذ في جانب الموضوع بصورة التوصيف، كقولك: (الماء المتغيّر) أو بصورة القضيّة الشرطيّة، والسرّ في ذلك: أنّ اختلاف العبارة لا يؤثّر في فهم العرف بمناسبات الحكم والموضوع.اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ العرف يفهم من القيد إذا كان مأخوذاً بنحو التوصيف أنّه واسطة في العروض، وإذا كان بنحو الشرط والقضيّة الشرطيّة أنّه واسطة في الثبوت.

ص: 52

التفصيل بين ما كان دليله العقل وما دليله النقل:

وفي المقام تفصيل آخر يرتبط بحجّيّة الاستصحاب، حاصله: أنّ الاستصحاب لا يجري إن كان مدركه دليل العقل، ويجري إن كان دليله الشرع والنقل، بدعوى: أنّ الحكم الشرعيّ الذي يستكشف من الحكم العقليّ وبقاعدة الملازمة، يكون تابعاً له في مقام الإثبات لا محالة، بمعنى: أنّه إذا كان حكم العقل معلوماً كان حكم الشرع معلوماً - أيضاً -، وإذا كان عدمه معلوماً كان عدم حكم الشرع كذلك؛ وذلك لأنّ العلم بوجود أحد المتلازمين هو بعينه علم بوجود الآخر.

وكذلك الحال في طرف العدم، أي: أنّ العلم بعدم أحد المتلازمين يكون بعينه علماً بعدم الآخر، بل وكذلك بالنسبة إلى الشكّ، فإنّ الشكّ في أحدهما - هو بدوره - يكون شكّاً في الآخر.

وحيث إنّه لا معنى للإجمال ولا الإهمال في حكم العقل؛ لأنّ العقل لا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلّا بعد الالتفات إلى موضوع حكمه مع وجود جميع قيوده وخصوصيّاته التي لها دخل في حكمه، فكلّ قيد اعتبره العقل في موضوع حكمه يجب أن يكون دخيلاً في الموضوع.وعلى هذا الأساس: فمع بقاء موضوع الحكم العقليّ بجميع قيوده وخصوصيّاته المأخوذة فيه، والتي اعتبرها العقل في ذلك الموضوع، فالحكم العقليّ باقٍ، بل ومقطوع البقاء، وكذلك يكون الحكم الشرعيّ،

ص: 53

لما ذكرناه من الاستكشاف والتبعيّة. وأمّا إن فقد منه قيد أو خصوصيّة، فيكون الحكم العقليّ مقطوع الارتفاع، فكذلك يكون الحكم الشرعيّ؛ لمكان الملازمة.

وبالجملة: فالحكمان العقليّ والشرعيّ هما دائماً: إمّا مقطوعا البقاء، وإمّا مقطوعا الارتفاع، فلا شكّ في المقام - أصلاً - لكي يتأتّى فيه جريان الاستصحاب.

أقول: ويمكن الجواب عنه بمنع الملازمة بين أن يكون القيد مأخوذاً في موضوع حكم العقل، وبين أن يكون ممّا له دخالة في مناط الحكم، بحيث يؤدّي إلى أن ينتفي مناط ذلك الحكم العقليّ بانتفائه، بل إنّما يصبّ العقل حكمه بالحسن أو بالقبح على الموضوع الذي اجتمعت وتوفّرت فيه كافّة القيود، فيكون حكمه على هذا المجمع بالحسن أو بالقبح حكماً قطعيّاً، ولكن من دون أن يعني ذلك أنّ مدخليّة كلّ واحدٍ من هذه القيود في مناط ذلك الحكم.

وبالجملة: فلا سبيل للعقل إلّا أن يقطع بأنّ ما حكم به من حسن الشيء أو قبحه عند وجود جميع القيود ثابت، وأمّا لو فقد قيد من تلك القيود، فإنّه ولو لم يكن للعقل حكم بالحسن أو بالقبح حينئذٍ، ولكن عدم حكمه - والحال هذه - ليس من جهة أنّه قد قطع وحصل له العلم بعدم وجود المناط للحسن أوللقبح في فاقد القيد، بل من جهة عدم علمه بحصول المناط لهما، فيحتمل وجود هذا المناط، وإن لم يكن له حكم في مورد

ص: 54

فاقد القيد فعلاً؛ لعدم إحرازه لتوفّر المناط وعلمه به.

والحكم الشرعيّ تابع لمناط حكم العقل وجوداً وعدماً، لا لنفس حكم العقل، فمع احتمال وجود المناط في ما هو فاقد للقيد، فيحتمل بقاء الحكم الشرعيّ ولو مع انتفاء حكم العقل، فيتمّ إثباته - أعني: الحكم الشرعيّ الذي لا يزال محتملاً - ببركة التمسّك بالاستصحاب.

الأمر السابع: في أدلّة حجّيّة الاستصحاب:

الدليل الأوّل: بناء العقلاء وسيرتهم:

والمراد ببناء العقلاء أحد معنيين:

الأوّل: عملهم بما هم متديّنون ومتشبّثون بالشريعة، كما في استقرار طريقتهم على بيع المعاطاة، ونحو ذلك، ولكنّ السيرة بهذا المعنى لا تكون حجّةً بمجرّدها كما لا يخفى، بل يحتاج اعتبارها إلى صدور الإمضاء من الشارع.

والثاني: استقرار العقلاء بما هم عقلاء على أمر شرعيّ، كبنائهم على اعتبار الخبر الموثوق الصدور.

وفي محلّ البحث، فلا شكّ في أنّ سيرة العقلاء، بلا فرق بين أن يكونوا من ذوي الأديان أو غيرهم، قائمة على العمل على طبق الحالة السابقة، فإنّ العقلاء في جميع أعمالهموتحرّكاتهم، من التجارة أو زيارة الأصدقاء

ص: 55

أو عيادة المرضى أو غير ذلك، بل هم في جميع حركاتهم الارتكازيّة، يرون أنّ عملهم دائماً يكون على طبق الحالة السابقة، ولا يعتنون بشكّهم في ارتفاعه، وشكّهم هذا لا يمنعهم عن العمل والجري على طبق الحالة السابقة، وبما أنّ الشارع لم يصدر منه ردع ونهي عن هذه السيرة، فيكون عدم ردّه له وردعه عنها كاشفاً عن إمضائه لها.

فإن قلت: لعلّ عملهم على طبق الحالة السابقة كان من جهة غفلتهم عن ارتفاعها، أو لأجل اطمئنانهم ببقائها، أو من جهة رجاء البقاء.

قلت: إنّ إنكار استقرار عملهم على ذلك في ظرف الشكّ الفعليّ، ولو في غير الحالات المشار إليه ليس إلّا ضرباً من المكابرة.

ويدفع الثاني: أنّ فرض اطمئنانهم ببقاء الحالة السابقة منافٍ لأصل الفرض، وهو استقرار عملهم على طبق الحالة السابقة في ظرف الشكّ ببقائها شكّاً فعليّاً، ومعلوم أنّ الشكّ الفعليّ والاطمئنان لا يجتمعان بحال.

ويدفع الثالث: أنّ الاستمرار على طبق الحالة السابقة في الاُمور المهمّة، وخصوصاً في الأعمال التي يكون فيها على تقدير عدم بقاء الحالة السابقة ضرر كثير لا يمكن أن يكون برجاء إصابة الواقع؛ لأنّ العمل برجاء الواقع إنّما يكون في الغالب في مورد لو صادف الواقع لكان فيه نفع، ولا يكونفيه ضرر، أو فقل: يكون فيه احتمال النفع دون احتمال الضرر المهمّ.

ص: 56

وقد أورد صاحب الكفاية(قدس سرّه) على هذا الوجه بإيرادين، إذ قال:

«وفيه: أوّلاً: منع استقرار بنائهم على ذلك تعبّداً، بل إمّا رجاءً واحتياطاً، أو اطمئناناً بالبقاء، أو ظنّاً، ولو نوعاً، أو غفلةً كما هو الحال في سائر الحيوانات دائماً، وفي الإنسان أحياناً.

وثانياً: سلّمنا ذلك، لكنّه لم يُعلم انّ الشارع به راضٍ وهو عنده ماضٍ، ويكفي في الردع عن مثله ما دلّ من الكتاب والسنّة على النهي عن اتّباع غير العلم، وما دلّ على البراءة أو الاحتياط في الشبهات، فلا وجه لاتّباع هذا البناء فيما لا بدّ في اتّباعه من الدلالة على إمضائه»(1).

وحاصل إيراده الأوّل: أنّ المقصود من هذا الاستدلال هو إثبات بقائهم على الحالة السابقة على نحو التعبّد وكفاية نفس الوجود السابق بما هو متيقّن في ترتيب آثاره عليه في ظرف الشكّ، ولكنّه ممنوع؛ إذ لا معنى للتعبّد المحض في عمل العقلاء به ارتكازاً، بل لابدّ وأن يكون هناك منشأ عقلائيّ لذلك، وهو:

إمّا الاحتياط، كما لو فرض أنّ ابنه سافر إلى بلد، وكان والده هو المتكفّل بالإنفاق عليه، فإنّ الوالد ولو شكّ في حياةابنه، يرسل الأموال إليه من باب الاحتياط، حذراً من وقوع ابنه في ضيق المعيشة على تقدير بقاء حياته.

ص: 57


1- كفاية الاُصول: 387.

وإمّا الاطمئنان بالبقاء أو الظنّ به، وذلك كالتاجر الذي يرسل البضائع إلى تاجر آخر ساكن في بلد آخر، فإنّه ولو لم يتفحّص عن بقائه في كلّ مرّة، ولكنّه مطمئنّ بحياته، ولذا يرسل إليه البضائع، ولكن لو حدث في تلك البلدة ما يوجب العلم بموت جماعة من زلزال أو وباء، واحتمل أنّ ذلك التاجر كان واحداً منهم، لم يرسل إليه الأموال الخطيرة قطعاً؛ لزوال اطمئنانه - بل ظنّه - بالبقاء.

وإمّا هو الغفلة عن شكّه الفعليّ في بقاء ما كان، كما إذا غيّر مسكنه وغفل عنه، فإنّه قد يسلك الطريق الذي يوصله إلى داره الاُولى، وهذا في الحيوانات أظهر؛ لأجل عادتها التي حصلت له من جهة تكرار الفعل السابق، ومع تبدّل عادتها لا ترجع إلى محلّها الأوّل، إلّا لأجل الغفلة.

وعليه: فليس الارتكازات لدى العقلاء العمل بالمتيقّن السابق تعبّداً في طرف الشكّ في بقائه كي يتّجه الاستدلال به على اعتبار الاستصحاب.

وحاصل الثاني: أنّ حجّيّة هذا البناء العقلائيّ تتوقّف - كبقية الموارد - على إمضاء الشارع، ولو بعدم الردع. ولكنّه محلّ منع؛ إذ لا دليل على الإمضاء، وإنّما الدليل قائم على الردع. وهذا الدليل هو:

أوّلاً: الآيات والروايات المانعة عن العمل بالظنّ وغير العلم، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِعِلْمٌ﴾(1)، فإنّها شاملة للمقام يقيناً؛ إذ المفروض زوال اليقين بالحالة السابقة، وغاية ما يمكن دعواه: هو

ص: 58


1- الإسراء: الآية 36.

وجود الظنّ باستمرارها، وكلّ ما ليس بعلم فإنّه يكون موضوعاً للنهي عن اتّباعه، كما هو ظاهر.

ولكن قد أورد عليه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) بأنّ «هذا الكلام مناقض لما ذكره في باب الاستدلال على حجّيّة خبر الثقة بالسيرة في ردّ من قال بأنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة، من أنّ رادعيّة الآيات دوريّ»(1).

وحاصله: أنّ رادعيّة الآيات عن السيرة القائمة على العمل بالاستصحاب متوقّفة على عمومها لها، وعمومها لها متوقّف على عدم تخصيصها ببناء العقلاء، وعدم التخصيص متوقّف على عدم حجّيّة بناء العقلاء؛ إذ لو كان حجّة لخصّص العموم، فإثبات عدم حجّيّة بنائهم على الاستصحاب بأصالة عموم الآيات متوقّف على عدم حجّيّة بنائهم، وهو الدور المحال.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سرّه) هناك: أنّ الالتزام بتخصيص العموم بالسيرة - أيضاً - دوريٌّ؛ لأنّه يتوقّف على عدم الردع عنها، وهو يتوقّف على تخصيص السيرة للعموم. ولكنّه(قدس سرّه) ذكرأنّ الدور وإن تحقّق من كلا الطرفين، ولكنّه يكفي في الإمضاء عدم ثبوت الردع، ولا يعتبر ثبوت عدمه(2).

ص: 59


1- منتهى الاُصول 2: 410.
2- انظر: كفاية الاُصول: 303. حيث قال): «إنّما يكفي في حجّيّته بها عدم ثبوت الردع عنها؛ لعدم نهوض ما يصلح لردعها، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك، كما لا يخفى...».
الدليل الثاني: الإجماع:

ممّا ادّعي دلالته في المقام على حجّيّة الاستصحاب: الإجماع من الأصحاب، فإنّهم متّفقون قديماً وحديثاً على اعتباره.

قال العلّامة الحلّيّ) في المبادئ:

«ولإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم، ثمّ وقع الشكّ في أنّه هل طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب البقاء على ما كان أوّلاً، ولولا القول بالاستصحاب، لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح»(1).

وقال) - أيضاً - في النهاية: «وأيضاً فالفقهاء بأسرهم، على كثرة اختلافهم، اتّفقوا على أنّا متى تيقّنّا حصول شيء وشككنا في حدوث المزيل، أخذنا بالمتيقّن، وهو عين الاستصحاب؛ لأنّهم رجّحوا بقاء الباقي على حدوث الحادث»(2).ولكنّ الحقّ: أنّ أمثال هذه الإجماعات إنّما تكون حجّة فيما لو أدّت إلى حدس رأي الإمام(علیه السلام) ودخوله في المجمعين، ولكنّ حدس رأيه(علیه السلام) من اتّفاق الكلّ لا سبيل له في المقام، فإنّ الاتّفاق من الكلّ إنّما يكون موجباً له فيما إذا لم يكن مستند المتّفقين معلوماً، أي: فيما لم يكن هناك مستند يحتمل اعتمادهم عليه، فحينئذٍ: يحدس الإنسان أنّ اتّفاقهم،

ص: 60


1- مبادئ الوصول إلى علم الاُصول: 251.
2- نهاية الوصول إلى علم الاُصول 4: 380.

مع اختلاف سلائقهم وبلدانهم وأعصارهم وأمصارهم لابدّ وأن يكون لسبب متّفق معلوم عند الكلّ، وأنّه ليس إلّا رأي الإمام(علیه السلام).

وأمّا لو كان لهم مستند معلوم، كما هو الحال في المقام، حيث تمسّك البعض لإثبات حجّيّة الاستصحاب ببناء العقلاء، وبعضهم بالظنون الاستحسانيّة، وبعضهم بالأخبار، وبواسطة اختلاف المدارك، أو اختلاف أفهامهم واستظهاراتهم، وقع الخلاف في اعتباره مطلقاً أو عدم اعتباره كذلك أو التفصيل في الحجّيّة بين بعض الاستصحابات وبعض آخر. هذا أوّلاً.

وثانياً: حصول الاتّفاق في الكلّ ممنوع، كيف لا؟(قدس سرّه) وشطر من الشيعة، وهم الأخباريّون، على القول بعدم حجّيّته.

نعم، لا بأس بادّعاء الشهرة المحصّلة.

الدليل الثالث: الأخبار:
اشارة

وهي العمدة في الاستدلال.

من هذه الأخبار:صحيحة زرارة، قال: «قُلْتُ له: الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال(علیه السلام): يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والأذن والقلب، وجب الوضوء، قلت: فإن حرّك إلى جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال(علیه السلام): لا، حتى يستيقن أنّه

ص: 61

قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلّا، فإنّه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ، وإنّما تنقضه بيقين آخر»(1).

والكلام في هذا الحديث تارةً من ناحية السند، وأُخرى من ناحية الدلالة:

أمّا سنداً، فهي مضمرة، ولكن في الحقيقة، فإنّ إضمارها لا يضرّ بصحّتها، فإنّها وإن نقلت مضمرةً في التهذيب(2)، إلّا أنّها مسندة إلى مولانا أبي جعفر الباقر(علیه السلام) في جملة من كتب الفطاحل والأعلام من أصحابنا، كما نجد ذلك في القوانين(3) والفصول(4) والحدائق(5) والفوائدالمدنيّة(6) للأمين الأسترابادي ومفاتيح الاُصول(7) والوافية(8)، إلى غير ذلك من كتب الأصحاب.

ولا يخفى: أنّ إسنادهم) إلى الإمام(علیه السلام) يكشف عن ظفرهم بالأصل المشتمل على الرواية المسندة.

ص: 62


1- وسائل الشيعة 1: 245، باب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 1: 8، الحديث 11.
3- انظر: قوانين الاُصول 2: 278.
4- الفصول الغرويّة: 370.
5- الحدائق الناضرة 1: 143.
6- الفوائد المدنيّة: 290.
7- مفاتيح الاُصول: 645.
8- الوافية: 203.

ولكنّ الحقّ: أنّ نسبتهم الرواية المذكورة إلى الإمام(علیه السلام) لعلّها ناشئة ممّا يمكن أن يقال: من أنّ زرارة أجلّ شأناً عن أن يروي بعنوان الإضمار عن غير الإمام(علیه السلام)؛ لكونه) من كبار أجلّاء أصحابه(علیه السلام) ومن عظماء الطائفة ووجوهها، فمن كان في مثل مقامه هذا، فلا يعقل أن يستفتي عن غير المعصوم(علیه السلام). فإضماره هذا يكون - لا محالة - بمنزلة التصريح والإظهار.

وقد يقال: بأنّ ذكرها في كتب الحديث وإثبات الحسين بن سعيد وحمّاد وحريز لها في اُصولهم وكتبهم يكون شاهداً على أنّه حديث مرويّ عن المعصوم(علیه السلام) دون سواه.

ولكن فيه: أنّ مجرّد ذكر الرواية في كتب الحديث واُصوله لا يدلّ على صحّتها.

وقد يقال: بأنّ هذا الإضمار هو كغالب الإضمارات، إنّما نشأ من تقطيع المصنّفين للروايات، وذكرهم كلّ قطعة منهافي الباب المناسب لها، وإلّا، فهي غير مضمرة بحسب الأصل.

لكنّ الحقّ: أنّ ما قيل من الغالبيّة لا ينكر، ولكن لا يعلم أنّ هذه الرواية منها.

وبالجملة: فالعمدة في تصحيح هذه الرواية والبناء عليها هو ما أشرنا إليه من أنّ زرارة أجلّ شأناً من أنّ يستفتي من غير المعصوم(علیه السلام).

هذا تمام الكلام في الناحية السنديّة.

ص: 63

وأمّا دلالةً:

فلا يخفى: أنّ النوم في الحديث لا يمكن حمله على النوم الحقيقيّ؛ لأنّ النوم الحقيقيّ ناقض للطهارة قطعاً، ولكنّ الإمام(علیه السلام) في الرواية جعل الطهارة باقية، فلابدّ من حمله على أنّه شارف على النوم، لا على أنّه حصل له النوم فعلاً. والسائل حينما يسأل الإمام(علیه السلام) عن إيجاب الخفقة والخفقتين للوضوء، فهو سؤال عن شبهة حكميّة حاصلة لديه، وذلك لأحد احتمالين:

فإمّا لأنّه قد اشتبه عنده مفهوم النوم وتردّد بين الأقلّ والأكثر فلم يعرف أهو شامل للخفقة والخفقتين أم لا.

وإمّا لأنّه شكّ في أنّ الخفقة والخفقتين من النواقض المستقلّة، بمعنى: أنّه شكّ في أنّ الخفقة والخفقتين هل هما من مصاديق النوم، ومن جملة مراتبه التي يحصل بها عنوان النوم الناقض - هذا إن قبلنا بأنّ النوم حقيقة مشكّكة، وأنّ لهمراتب متفاوتة - ولو لم يكن أعلى المراتب، وهو الغالب على القلب، الذي تكشف عنه غلبة النوم على حاسّة السمع.

فيكون المراد من سؤاله للإمام(قدس سرّه): أنّ النوم الناقض هل أحد مصاديقه الخفقة والخفقتان؟ أم أنّه منحصر بنوم القلب؟ فتكون الشبهة مفهوميّة وحكميّة.

وأمّا سؤاله الثاني، وهو قوله: «فإن حرّك إلى جنبه شيء»، فهو سؤال عن شبهة موضوعيّة، وهو أنّه قد يحصل الفتور للإنسان في الحاسّتين:

ص: 64

السمع والبصر، فهل يكون هذا أمارةً على حصول النوم الناقض منه أم لا؟ فأجابه الإمام(علیه السلام) بالنفي؛ لأنّ عدم إحساسه بحركة شيء إلى جنبه ليس لازماً مساوياً للنوم، بل اليقظان أيضاً قد لا يلتفت ولا يشعر بشيءٍ حُرّك إلى جنبه بسبب انشغال باله، وكان الجواب منه(علیه السلام): «لا حتى يستيقن أنّه قد نام».

وقوله(علیه السلام): «ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ، وإنّما ينقضه بيقين آخر». يمثّل كبرىً كليّة تنحلّ إلى قضايا متعدّدة بحسب تعدّد أفراد اليقين، فتدلّ على حرمة نقض كلّ فرد من أفراد اليقين بالشكّ فيه.

وقوله: «فإنّه على يقين من وضوئه»، بمنزلة الصغرى، والجملة ظاهرة في أنّ اليقين يكون بالفعل، أي: في نفس زمان تحقّق الشكّ، غايته: أنّ اليقين تعلّق بالحدوث، والشكّ بالبقاء، فهو كان عند عروض الخفقة والخفقتين متيقّناً بتحقّق الوضوء في السابق، وبعروض الخفقة والخفقتين حصل له شكّ في انتقاضه.نعم، لو كان المراد من قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» أنّه كان على يقين من وضوئه ولكن زال ذلك اليقين بالشكّ بطروء الشكّ الساري الموجب لانعدام اليقين بالحدوث، لأمكن أن تكون هذه العبارة المتقدّمة ناظرةً إلى الشكّ الساري وقاعدة اليقين.

ولكن قد عرفت أنّها ظاهرة في فعليّة اليقين بالحدوث، وظهورها هذا آبٍ عن إرادة قاعدة اليقين.

ص: 65

قد يقال: إنّ الحديث لكي يدلّ على حجّيّة الاستصحاب على نحو كلّيّ، فلابدّ أن يثبت به كبرى القياس على نحو العموم الاستغراقيّ، بحيث لو انضمّ إليها الصغرى لأنتج حكماً كلّيّاً إلهيّاً، ولكان قياساً بطريق الشكل الأوّل من القياس الاقتراني الحمليّ كبراه من المسلّمات المفروغ عنها، كقولك: (هذا ما أفتى به المفتي، وكلّ ما أفتى به المفتي يجب اتّباعه، فهذا يجب اتّباعه)، ولكنّ الحديث ليس كذلك، بل هو مخصوص بباب الوضوء، بل وارد في خصوص حدث النوم من بين نواقض الوضوء، ولو ألغينا خصوصيّة النوم - كما عليه الأخباريّون - بقرينة قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» لكان دليلاً على اعتبار الاستصحاب بالنسبة إلى الشكّ في أيّ ناقضٍ من النواقض، ولو لم يكن النوم، ولكنّه يبقى محصوراً في دائرة الوضوء ونواقضه، إذ يكون المراد - حينئذٍ - من «لا تنقض اليقين» هو اليقين بالوضوء خاصّةً.

وإنّما يدلّ الحديث على حجّيّة الاستصحاب مطلقاً بشرط، وهو أن لا يكون المراد من تلك الجملة هو خصوص اليقينبالوضوء، بل مطلق اليقين، وأن لا تكون (اللّام) في قوله: «اليقين» للعهد. أو فقل: إنّ دلالته على الكبرى الكلّيّة وشموله لكلّ حكمٍ أو موضوع ذي حكم لا يمكن إلّا بتجريد اليقين عن إضافته إلى الوضوء، حتى تكون اللّام - حينئذٍ - للجنس، ليكون المراد مطلق اليقين على نحو العموم الاستغراقيّ، غاية الأمر: أنّ أحد مصاديقه هو اليقين بالوضوء، وقد علّل الإمام(علیه السلام) حرمة

ص: 66

نقض اليقين بالوضوء باندراجه تحت تلك الكبرى الكلّيّة المسلّمة.

والتحقيق: أنّ إضافة اليقين إلى الوضوء في الرواية إنّما كان لأجل أنّه مورد السؤال، ومعلوم أنّ المورد لا يخصّص الوارد، فما دام قوله: «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» مطلقاً، فيكون ظاهراً في أنّ الإمام(علیه السلام) كان بصدد بيان وإعطاء القاعدة الكلّيّة لليقين، وهي أنّه لا يجوز نقض اليقين بالشكّ، كائناً ما كان مورد هذا اليقين، في باب الوضوء كما في غيره، وإنّما ذكر اليقين الوضوء من باب أنّه مصداق لهذه الكبرى.

فالصحيح: أنّه لو كنّا نحن والفهم العرفيّ لهذه العبارة، لم يكن دخل لخصوص متعلّق اليقين المذكور في الرواية، وهو الوضوء، بل إضافته إلى الوضوء - كما عرفنا - ليس إلّا لكونه المسؤول عنه ومورد سؤال السائل، وإلّا، فظاهر الرواية يقتضي أنّ كلّ يقين مهما كان الشيء الذي يتعلّق به، فإنّه لا ينقض بالشكّ به.والحاصل: أنّ قوله: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» يكون من باب الكبرى، وأنّه لا دخل لجملة «فإنّه على يقين من وضوئه» في هذا القياس أصلاً، إلّا من باب ذكر أحد مصاديق تلك الكبرى وإحدى صغرياتها. فهو(علیه السلام) بصدد إعطاء قاعدة كلّيّة تكون الصغرى إحدى مصاديقها.

وممّا يدلّ على عدم اختصاص الرواية بباب الوضوء، وأنّ الإمام(علیه السلام) كان بصدد إعطاء القاعدة الكلّيّة التي تجري في جميع الموارد، سواء كان من المورد المذكور في الرواية أم لم يكن، هو: وقوع هذه الجملة

ص: 67

في أبواب مختلفة من الفقه كبرىً لصغريات متعدّدة غير اليقين والشكّ المتعلّقين بالوضوء أيضاً، كما ورد في الطهارة والنجاسة وفي عدد الركعات، وفي موارد أُخرى ممّا يطول ذكره.

وبالجملة: فما أسهل وأوضح أن يقطع الإنسان بأنّ هذه الرواية غير مختصّة بباب الوضوء، وأنّها ناظرة إلى إعطاء قاعدة كلّيّة مرتكزة في أذهان العقلاء، غير مختصّة بباب الوضوء، وهي عدم نقض اليقين أبداً بالشكّ، أي: أنّه لا تُرفع اليد عن العمل على طبق الحالة السابقة ما لم يعلم بالخلاف أصلاً.

وإذا تمّ أنّ قوله(علیه السلام) «فإنّه على يقين من وضوئه» بمنزلة الصغرى، وأنّ قوله: «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» بمنزلة الكبرى، فتكون الرواية - حينئذٍ - دليلاً تامّاً على إمضاء الشارع لما استقرّ عليه بناء العقلاء، وتصحيحاً لما جرى عليه ديدنهم.ولكن هناك فرق بين الصحيحة وبين بناء العقلاء؛ فإن العقلاء لا يعملون على طبق الحالة السابقة إلّا إذا أفادت الوثوق والاطمئنان ببقاء الحالة السابقة، وأمّا الصحيحة فهي بإطلاقها تنهى عن نقض اليقين بالشكّ مطلقاً، ولو لم يكن هناك وثوق واطمئنان بالبقاء، ما لم يكن هناك يقين آخر ينقضه.

فتكون الرواية - والحال هذه - إمضاءً لما عليه العقلاء، ويكون الغرض من التعليل إنّما هو التنبيه على صغريات المعلّل، كما لو قيل: (لا تشرب

ص: 68

الخمر لأنّه مسكر)، فإنّ ثبوت الحرمة - حينئذٍ - إنّما هو لأجل انطباق عنوان المسكر المفروغ عن حرمته على السائل المسمّى خمراً.

وعليه: فإنّ جملة «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» إنّما هي اشارة إلى شيء مغروس في الذهن، ومرتكز عند العقلاء؛ لأنّ اليقين بما أنّه كاشف ذاتيّ عن الواقع، فلابدّ من سلوكه، وأمّا الشكّ، فبما أنّه محض التحيّر والتردّد لا ينبغي البناء عليه؛ لكونه محتمل الضرر، فيكون الإمام(علیه السلام) قد طبّق في هذا الحديث قاعدة عقلائيّة مسلّمة على الاستصحاب، وإن زال اليقين وتبدّل بالشكّ، فأمر بالأخذ باليقين وعدم الاعتناء بالشكّ.

أو فقل: بما أنّ اليقين والشكّ بمنزلة طريقين يكون أحدهما مأموناً من الضرر دون الآخر، فإذا دار الأمر بينهما فلا إشكال في أنّ المرتكز هو اختيار الطريق المأمون دون محتمل الضرر.ثمّ بما أنّ اليقين قد تعلّق بالحدوث والشكّ بالبقاء، فلم يتعلّق اليقين بنفس ما تعلّق به الشكّ، حتى لا يجوز نقض اليقين بالشكّ، فلا يصدق نقض اليقين بالشكّ عرفاً، فتطبيق هذه الكبرى الكلّيّة المرتكزة في أذهان العقلاء على الاستصحاب في الرواية إنّما هو من باب التعبّد الشرعيّ.

وعلى كلّ حال: فإنّ استظهار العموم لجميع أفراد اليقين يبتني إمّا على أن تكون اللّام في قوله «لا ينقض اليقين بالشكّ» لاستغراق الجنس، كما هو ظاهر اللّام، أو بتجريد اليقين عن إضافته إلى الوضوء لو كانت للعهد.

ص: 69

ثمّ لا فرق فيما استظهرنا من هذه الجملة بين القول بأنّ جواب الشرط الذي يستفاد من قوله: «وإلّا»، وهو: وإن لم يستيقن أنّه قد نام، محذوف، وهو (لا يجب عليه شيء)، وقد قامت العلّة - وهي قوله: «وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه» - مقامه، أو كانت هذه العلّة نفسها هي الجواب.

ثمّ إنّ قوله: «لا ينقض اليقين» لو كان المراد منه هو خصوص اليقين بالوضوء، لكان تكراراً لقوله: «فإنّه على يقين من وضوئه»، وهو خلاف الظاهر.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سرّه) أنّ قوله «فإنّه على يقين من وضوئه» لا ظهور له في تقيّد اليقين بالوضوء بحيث يكون الأوسط هو اليقين بالوضوء؛ لقوّة احتمال أن يكون قوله «من وضوئه» متعلّقاً بالظرف المقدّر، لا بلفظ اليقين، فكأنهقال: فإنّه من طرف وضوئه على يقين، فيكون الأوسط هو ذات اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء(1).

غاية الأمر: أنّه بناءً على الاحتمال الأوّل فيكون المجموع من الصغرى والكبرى مذكوراً. وأمّا إذا قلنا بأنّ جواب الشرط هو قوله(علیه السلام) «فإنّه على يقين من وضوئه»، فتكون الجملة الخبريّة واردة في مقام الإنشاء، ولكنّ

ص: 70


1- انظر: كفاية الاُصول ص 390، ونصّ كلامه) كالتالي: «مع أنّه غير ظاهر في اليقين بالوضوء؛ لقوّة احتمال أن يكون (من وضوئه) متعلّقاً بالظرف، لا ﺑ (يقين)، وكان المعنى: فإنّه كان من طرف وضوئه على يقين، وعليه: لا يكون الأوسط إلّا اليقين، لا اليقين بالوضوء، كما لا يخفى على المتأمّل».

النتيجة في كليهما واحدة - كما أشرنا - وهي استفادة القاعدة الكليّة.

ولكنّهم مع ذلك قالوا: بأنّ حذف الجواب وإقامة العلّة مقامه كثير، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾(1)، فإنّ الجواب محذوف، أي - واﷲ العالم -: فاعلم أنّه غنيّ عن جهرك.

فإن قيل: ولكنّ الالتزام بحذف الجواب وقيام العلة مقامه خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلّا لدليل، فلابدّ من أن تكون جملة «فإنّه على يقين من وضوئه» هي جملة الجزاء، فمعناه أنّه يجب ترتّب آثار اليقين على الوضوء، ولازمه اختصاص حجّيّة الاستصحاب بباب الوضوء.

قلنا: حذف الجواب وإن كان على خلاف الأصل، ولكنّه أظهر في المقام لأمرين:أوّلهما: ما عرفته من شيوع هذا النوع من الاستعمال في القضايا العرفيّة، كما في الآية المتقدّمة، ومثلها قوله تعالى: ﴿إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ﴾(2)، وقوله: ﴿وَإِن يُكَذّب-ُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ﴾(3).

والثاني: أنّ جملة «فإنّه على يقين من وضوئه» جملة خبريّة، وحملها على الإنشائيّة خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلّا بقرينة، وهي مفقودة في المقام.

ص: 71


1- طه: الآية 7.
2- يوسف: الآية 77.
3- الحجّ: الآية 42.

ومن جملة الأخبار أيضاً:

مضمرة أُخرى لزرارة - والإضمار من مثله لا يضرّ كما ذكرنا -:

قال: «قلْتُ له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شيء من منيّ، فعلّمْتُ أثره إلى أن أُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة، ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيْتُ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنّه قد أصابه، فطلبته، فلم أقدر عليه، فلما صلّيْت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد. قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه، ولم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً، ثمّ صلّيت فيه، فرأيت فيه؟ قال: تغسله، ولا تعيد الصلاة. قلت: لِمَ ذلك؟ قال: لأنّك كُنْتَ على يقين من طهارتك، ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً. قلت: فإنّيعلمْت أنّه قد أصابه، ولم أدرِ أين هو، فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت: فهل عليّ إن شككْتُ في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تُذهب الشكّ الذي وقع في نفسك. قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككْتَ في موضعٍ منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعْتَ الصلاة وغسلْتَه، ثمّ بنيت على الصلاة؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أُوقع عليك، فليس ينبغي

ص: 72

أن تنقض اليقين بالشكّ»(1).

فقد ورد في هذه الرواية في موضعين منها دلالة على حجّيّة الاستصحاب، الجملة الاُولى: «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»، والثانية عينها، ولكن من دون كلمة «أبداً».

فإنّ المفروض في السؤال هو الظنّ بالإصابة وعدم اليقين بها، فاليقين السابق على هذا الظنّ - وهو الظنّ بالإصابة - لا يجوز نقضه بهذا الظنّ، ولو فرض أنّ جريان الاستصحاب في شبهات الموضوعيّة في أمثال هذا المقام مستوجب للفحص، فقد حصل الفحص كما هو مذكور في الصحيحة.

كما أنّ الظاهر منها أنّ الإمام(علیه السلام) بصدد إفادة الكبرى الكليّة، وأنّه(علیه السلام) في الجواب عن السؤال الثالث، حيث قال: «لأنّككنت على يقين...»، أتى في مقام تعليل الحكم بعدم وجوب إعادة الصلاة، بأمر ارتكازيّ، لا بأمر تعبّديّ حتى يختصّ اعتبار الاستصحاب بمورد الرواية.

وبما أنّ اللّام هنا وفي الجملة الثانية، هي كالنصّ في التعليل، يصير كالنصّ في تعليل الحكم بكبرى ارتكازيّة.

قد يقال: إنّ هذا ليس من نقض اليقين بالشكّ، بل هو من نقض اليقين باليقين؛ لقوله: «ثمّ صلّيت فيه فرأيت فيه»، فبعد رؤيته للنجاسة وتيقّنه بها،

ص: 73


1- تهذيب الأحكام 1: 421، باب 22، الحديث 8.

فيكون من نقض اليقين باليقين، فلا تنطبق الكبرى الكلّيّة التي ادّعينا أنّها ارتكازيّة على المورد، ومعه: فلا يكون المورد مشمولاً للاستصحاب، ولا لقاعدة اليقين.

ولكنّ الحقّ: دلالة الحديث على الاستصحاب؛ لأنّ من الممكن أنّ الذي رآه دم جديد ونجاسة حادثة، ولا تكون تلك المظنونة.

والشاهد على ذلك: أنّ السائل لم يقل «فرأيتها فيه» حتى يكون الضمير عائداً إلى تلك النجاسة المظنونة، بل لعلّه شيء أوقع عليه، كما احتمله الإمام(علیه السلام) في بعض الجمل الآتية.

ولا إشكال بعد ذلك فيما ورد من تعليل الإمام(علیه السلام) لعدم الإعادة بهذه الكبرى، فتكون هذه الكبرى دليلاً على اعتبار الاستصحاب؛ لظهورها في أنّ (اللّام) للجنس، وليست للعهد، كما ذكرناه تماماً في الصحيحة الأُولى، ويأتي هنا - أيضاً - أنّ المورد غير مخصّص للوارد، بل إنّما هو من باب ذكر بعض مصاديق هذه الكبرى.وأمّا الجملة الثانية، وهي قوله(علیه السلام): «فليس ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ»، بعد قوله(علیه السلام) «لعلّه شيء أُوقع عليك»، فدلالتها على الاستصحاب أظهر؛ فإنّه(علیه السلام) قد علّل الحكم بعدم الإعادة بإبراز احتمال حدوث النجاسة بعد الصلاة، ولتقوية هذا الاحتمال قيّد الحكم بعدم الإعادة.

ولكن قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «كون المراد من قوله: (ثمّ صلّيت فيه

ص: 74

فرأيت فيه أنّ النجاسة التي رآها بعد الصلاة) يمكن أن تكون نجاسة حادثة بعدها لا تلك النجاسة المظنونة قبل الصلاة، لا يخلو عن بعد، فالإشكال باقٍ على حاله، أي: تكون الإعادة من نقض اليقين باليقين»(1).

وقد أجيب عن هذا الإشكال بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب، وأنّ الإعادة تكون من نقض اليقين بالشكّ، إنّما هو من باب أنّ الأمر الظاهريّ يقتضي الأجزاء، فإذا قيل بوجوب الإعادة كان معناه عدم إجزاء الأمر الظاهريّ، وعدم الاعتناء بما هو وظيفته ظاهريّة، أعني بها: الاستصحاب، مع أنّه مجزٍ عن الإتيان بالأمر الواقعيّ ثانياً، فتكون الإعادة نقضاً لليقين بالشكّ، وهو نفس ما قد نهى الشارع عنه.

قال صاحب الكفاية(قدس سرّه): «ثمّ إنّه لا يكاد يصحّ التعليل لو قيل باقتضاء الأمر الظاهريّ للإجزاء، كما قيل؛ ضرورة أنّ العلّة عليه إنّما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهريّ حال الصلاةللإجزاء وعدم إعادتها، لا لزوم النقض من الإعادة، كما لا يخفى»(2).

وفيه:

أوّلاً: أنّ كون الأمر الظاهريّ مقتضياً للأجزاء غير تامّ، كما ذكر في محلّه، ولا يمكن أن يكون استدلال الإمام(علیه السلام) مبتنياً على أمر غير تامّ.

ص: 75


1- منتهى الاُصول 2: 421.
2- كفاية الاُصول: 395.

وثانياً: لو كان المناط هو عنوان إجزاء الأمر الظاهريّ، لكان لابدّ للإمام(علیه السلام) أن يعلّل عدم وجوب الإعادة بنفس هذه العنوان، وهو الإجزاء.

وثالثاً: أنّ التعليل ظاهر في أنّ المناط كلّ المناط في عدم وجوب الإعادة إنّما هو الاستصحاب، حيث لوحظ إجراء الاستصحاب بلحاظ مرحلة ما بعد العمل. نعم، لو كان إجراؤه ملحوظاً حال العمل، لكان محلّ لورود الإشكال.

ورابعاً: ما أفاده صاحب الكفاية(قدس سرّه) من الفرق بين الطهارة الحدثيّة والخبثيّة، فيكفي في الخبثيّة الإحراز حال الالتفات، وبما أنّ الاستصحاب من الاُصول المحرزة، فالشرط حاصل؛ فلا تجب الإعادة.

قال): «ولا يكاد يمكن التفصّي عن هذا الإشكال إلّا بأن يقال: إنّ الشرط في الصلاة فعلاً حين الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها، ولو بأصلٍ أو قاعدة، لا نفسها، فيكون قضيّة استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها ولو انكشفوقوعها في النجاسة بعدها، كما أنّ إعادتها بعد الكشف تكشف عن جواز النقض وعدم حجّيّة الاستصحاب حالها، كما لا يخفى»(1).

وحاصله: أو نقول بأنّ هناك فرقاً بين الطهارة الحدثيّة والطهارة الخبثيّة، فإنّ الطهارة الحدثيّة شرط واقعيّ للصلاة، ولذا لو علم بعد

ص: 76


1- المصدر نفسه: ص 393 - 394.

الصلاة أنّه قد صلّاها بدون الوضوء، تكون صلاته باطلة. وأمّا الطهارة الخبثيّة، فهي شرط علميّ للصلاة، فيكفي إحرازها - ولو بأصل معتبر - في صحّة الصلاة، وليست بشرط واقعيّ، كالطهارة الحدثيّة التي تدور صحّة الصلاة وفسادها مدارها وجوداً وعدماً.

وعليه: فالمكلّف حينما يأتي بالصلاة، إمّا أن يكون ملتفتاً إلى الطهارة الخبثيّة، وإمّا أن يكون غافلاً عنها، فإن كان غافلاً وصلّى، مع وجود النجاسة المغفول عنها في ثوبه، فصلاته صحيحة؛ لعدم كون هذه الطهارة معتبرة في حقّه حال الغفلة. وإن كان ملتفتاً إلى الطهارة الخبثيّة، فالشرط - حينئذٍ - هو إحراز الطهارة، وليس وجودها الواقعيّ.

فلو أحرز الملتفت الطهارة بعلمٍ أو علميٍّ أو بأصل عمليّ، ولو أصالة الطهارة، وصلّى، صحّت صلاته، وإن علم بعد ذلك وقوعها في النجس؛ إذ الشرط في الملتفت هو إحراز الطهارة، لا نفسها، والمفروض أن ذلك قد تحقّق له بالاستصحاب.وبعد أن كان الشرط هو إحراز الطهارة، لا نفس الطهارة الواقعيّة، يحسن تعليل عدم وجوب الإعادة بكون الإعادة نقضاً لليقين بالشكّ؛ لأنّه حال الصلاة كان شاكّاً في بقاء الطهارة بعدما كان قبل الدخول متيقّناً بها، ثمّ ظنّ إصابة النجاسة، والظنّ ملحق بالشكّ حكماً؛ لعدم الدليل على حجّيّته واعتباره، بل جاء الدليل على عدم جواز العمل به، فهو شاكّ في بقاء الطهارة، والاستصحاب قد أوجب إحراز الطهارة في حال

ص: 77

الصلاة، فتكون الإعادة منافيةً للاستصحاب المحرز للطهارة، وموجبةً لجعل هذا الإحراز الاستصحابيّ كالعدم، فبعد جريان الاستصحاب وإحراز الطهارة، تكون الصلاة واجدة للشرط، فتقع صحيحة.

ومن هذه الأخبار أيضاً:

موثّقة إسحاق بن عمّار قال: قال لي أبو الحسن الأوّل(علیه السلام): «إذا شككت فابنِ على يقين، قال: قلت: هذا أصل؟ قال: نعم»(1).

قالوا: الظاهر أنّ هذه الرواية ليست واردة إلّا في مورد الشكّ في الركعات، حيث إنّ صاحب الوسائل ذكرها في ذلك الباب، فيكون مفادها أنّه: إذا شككت في عدد الركعات فابنِ على اليقين، أي: على الأقلّ من عدد الركعات؛ لأنّه المتيقّن، ومعه: فلا يمكن استفادة القاعدة الكلّيّة من هذه الموثّقة، ولا يكون لها دلالة على القاعدة الكلّيّة.ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن استفادة القاعدة الكلّيّة وجريان الاستصحاب في جميع الموارد منها؛ إذ بعد أن كانت الموثّقة مطلقة، فاختصاصها بمورد الشكّ في الركعات غير معلوم، ثمّ على تقدير التنزّل والتسليم بأنّ موردها خاصّ، فقد ذكرنا مراراً أنّه مع عدم كون الوارد في حدّ ذاته خاصّاً، فالمورد لا يصلح لتخصيصه، فيكون حال هذه الجملة حال قوله(علیه السلام) «لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ»، ولا سيّما بعد أن كان كلامه هنا

ص: 78


1- وسائل الشيعة 8: 212، كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.

عقيب سؤال السائل: «هذا أصل؟».

وقد يقال: يمكن أن يكون المراد باليقين فيها خصوص اليقين بالبراءة، أي: الإتيان بصلاة الاحتياط.

وفيه: أنّه على خلاف الظاهر جدّاً.

وأمّا احتمال أن يكون المراد باليقين فيها هو قاعدة اليقين، فهو - أيضاً - في غاية البعد؛ لأنّ الظاهر من قوله(علیه السلام) «فابنِ على اليقين»، أي: ابنِ على اليقين الموجود في ظرف البناء، لا اليقين الموجود سابقاً والذي كان ثمّ انعدم وتبدّل بالشكّ، المسمّى عندهم ﺑ «الشكّ الساري»، وبالتالي: فدلالة الموثّقة على الاستصحاب هو الأظهر، بعدما أقرّ الإمام(علیه السلام) نفسه هذا البناء على اليقين على أنّه أصل، بما يعني: أنّها قاعدة كلّيّة غير مربوطة ولا مختصّة بباب دون باب.

ومن هذه الأخبار أيضاً:

صحيحة أُخرى لزرارة، عن أحدهما' في حديث قال: «إذا لم يَدْرِ في ثلاثٍ هو أو في أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أُخرى، ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقينبالشكّ، ولا يدخل الشكّ في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين، ويتمّ على اليقين فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشكّ في حالٍ من الحالات»(1).

ص: 79


1- وسائل الشيعة 8: 216 - 217، كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.

وهذا الخبر صحيح سنداً ولا غبار عليه ولذا عبّرنا عنه ﺑ (الصحيحة).

وأمّا من ناحية الدلالة، فالمصلّي كان متيقّناً بأنّه قد أتى بالثلاث، وإنّما شكّ في الرابعة، وقد كان قبل الشكّ متيقّناً بعدم إتيانه بالرابعة؛ لأنّه قبل الشروع في الصلاة، وبعد افتتاحها، لم يكن يقيناً آتياً بشيء من الركعات، ثمّ قطع بأنّ هذا العدم قد انتقض بإتيانه بالركعات الثلاث التي هي مُحرَزة بالنسبة إليه، ولم يحصل له شكّ إلّا في الإتيان بالركعة الرابعة، فيستصحب عدمه، فيكون قوله(علیه السلام): «ولا ينقض اليقين بالشكّ» بمنزلة العلّة لهذا الحكم المذكور.

وأمّا جملة «قام فأضاف إليها أخرى»، فمفادها هو الالتزام بالاستصحاب، ولو لم يكن معناه أنّه عمل بالشكّ، ونقض اليقين بالشكّ.

ولكن قد يستشكل في دلالة هذه الرواية بما حاصله:

أنّ قوله: «قام فأضاف إليها أخرى»، يدلّ على أنّ يأتي بركعةٍ بعد الفراغ من دون أن يفصل بتشهد وتسليم، وهذا وإن كان يثبت الاستصحاب، ولكنّه - حينئذٍ - يكون على خلاف المذهب، إذ الالتزام بهذا المضمون يسبّب إيجادقصور في مقتضي الاستصحاب، وعلى فرض ظهورها في ذلك، فيجب حملها على التقيّة.

وأمّا إذا حملنا هذه الجملة على أنّها تكون دالّة على الركعة المنفصلة، كما هو المذهب الحقّ، فلا يعود للخبر - حينئذٍ - دلالة على الاستصحاب،

ص: 80

بل يكون معناه: إذا شككت بين الثلاث والأربع فابنِ على ما يحصل به اليقين ببراءة الذمّة، وليس إلّا البناء على الأكثر، فيكون معناها على خلاف مؤدّى الاستصحاب، وأمّا الإتيان بركعة منفصلة - عند ذاك - فإنّما هو لأجل تتميم الفريضة على فرض نقصانها واقعاً، أو تحسب نافلة على فرض تماميّتها كذلك.

والحاصل: أنّ هناك احتمالين، لابدّ من ترجيح أحدهما على الآخر، أمّا الأوّل، فحاصله: البناء على تماميّة دلالة الصحيحة على الاستصحاب، ولكنّ المانع موجود؛ وهو أنّه على خلاف المذهب. وأمّا الثاني: البناء على دلالة الرواية على لزوم الإتيان بركعتين منفصلتين، فتسلم الرواية - حينئذٍ - من مخالفة المذهب، ولكنّها تكون أجنبيّةً أصلاً عن إثبات اعتبار الاستصحاب؛ لأنّ معناها - على هذا الاحتمال - أنّه إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على ما يحصل به اليقين ببراءة الذمّة، والذي يتحقّق به اليقين عن فراغ الذمّة إنّما هو - كما عرفنا - أن يبني على الأكثر.

وإلى ذلك ذهب الشيخ الأنصاريّ) حيث اعتبر أنّه لا معنى لأن يراد من قوله(علیه السلام) «ولا ينقض اليقين بالشكّ» كبرى الاستصحاب، بل لابدّ أن يراد به لزوم تحصيل اليقينبالبراءة بالكيفيّة المعهودة، كما تدلّ عليه بعض النصوص الأُخرى.

قال): «فالمراد ﺑ (اليقين) .... هو اليقين بالبراءة، فيكون المراد

ص: 81

وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر وفعل صلاةٍ مستقلّة قابلةٍ لتدارك ما يُحتمل نقصه»(1).

وبالجملة: فإذا دار الأمر بين الاحتمالين، كان الترجيح لصالح الاحتمال الثاني، لوجوه:

الأوّل: ظهور «قام فأضاف» في إرادة الركعة المنفصلة؛ لوجود القرينة، وهي قوله(علیه السلام) في صدر الرواية: «يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب...».

بل حينما يأمر بالإتيان بالركعة، فليس مراده إلّا الركعة المنفصلة، فقد يقال: بأنّ ذكر الفاتحة قرينة على إرادة ركعتين مفصولتين؛ إذ لو أُريد بيان أحد فردي التخيير من الفاتحة والتسبيحات الأربعة المخيّر بينهما المكلّف في الثالثة والرابعة من الرباعيّات، لكان من المناسب - حينئذٍ - ذكر عِدل الفاتحة أيضاً، وهو التسبيحات، فحيث لم يُذكر العدل، فلا يمكن إثبات التخيير في مورد البحث، فيكون إطلاق الأمر بقراءة الفاتحة منحصراً في الركعتين المفصولتين.

والثاني: أنّ الإتيان بركعة الاحتياط موصولة موافق لمذهب العامّة ومخالف لما عليه مذهب الإماميّة، وهو لزومالبناء على الأكثر، فيتعين - حينئذٍ - إرادة اليقين بالبراءة من البناء على اليقين وعدم نقضه بالشكّ؛

ص: 82


1- فرائد الاُصول 3: 63.

تحفّظاً على أصالة عدم التقيّة.

الثالث: أنّ حمل الرواية على اليقين ببراءة الذمّة موافق لمدلول كثير من الروايات الواردة في كيفيّة صلاة الاحتياط، كقوله(علیه السلام): «إذا سهوْتَ فابنِ على الأكثر»(1)، أو «إذا شككت فابنِ على اليقين»(2)، أو «تأخذ بالجزم»(3) ونحوها؛ إذ كان المراد بالبناء على اليقين هو البناء على الأكثر.

الرابع: فهم الفقهاء اليقين بالبراءة، لا اليقين بعدم الإتيان بالرابعة.

الخامس: أنّه يلزم التفكيك بين المورد والقاعدة؛ لأنّ القاعدة تقتضي الإتيان بها موصولة، فلابدّ من الالتزام بأنّ أصل البناء على اليقين، الذي هو مقتضى الاستصحاب، حكم واقعيّ، لكنّ تطبيقها على المورد بالإتيان بالركعة موصولةً إنّما هو من باب التقيّة.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ لا يراد منه النهي عن نقض اليقين بعدم الإتيان بالرابعة، حتى يكون مؤدّاه هو الاستصحاب، بل المراد من النهي عن رفعاليد عن تحصيل اليقين بالفراغ، بأن يكتفي بعملٍ يشكّ معه في براءة الذمّة، وهذا منحصر في البناء على الأكثر والإتيان بركعة الاحتياط مفصولة؛ لأنّه في الواقع لو كان المأتيّ ثالثاً، لكانت هذه الركعة متمّماً له، ولا يضرّ زيادة التكبير

ص: 83


1- وسائل الشيعة 8: 213، باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.
2- المصدر نفسه 8 : 212، الحديث 2.
3- المصدر نفسه 8 : 213، الحديث 5.

والتشهد والتسليم في صحّة العمل، ولو كانت صلاته تامّة في الواقع، فتكون هذه الركعة نافلة.

وأمّا لو بنى على الأقلّ وأتى بركعة الاحتياط موصولةً، فلعلّه في الواقع قد صلّى أربعاً، فيكون - حينئذٍ - مجموع الركعات التي أتى بها خمساً، فلا يحصل اليقين بالفراغ، ضرورة أنّ الركعة المضافة تكون مانعاً من الصحّة، وإذا لم يأتِ بالركعة الأُخرى، مع بنائه على الأكثر، احتمل نقصان العبادة.

وعليه: فطريق اليقين بالفراغ منحصر في الطريق الذي علّمه الإمام(علیه السلام) في الروايات الأُخرى من البناء على الأكثر والإتيان بركعة الاحتياط مفصولةً.

وقد أُجيب عن هذا الإشكال بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده صاحب الكفاية(قدس سرّه) وحاصله:

أنّ لزوم الإتيان بركعة منفصلة لا يتنافى مع تطبيق الاستصحاب في المقام، وإنّما يتنافى مع إطلاق دليله، فإنّ لزوم الوصل إنّما هو مقتضى إطلاق النقض، فلا مانع من الالتزام بجريان الاستصحاب وتقييد إطلاق دليله بما دلّ على لزوم فصل الركعة، وتقييد الأدلّة ليس بعزيز.

وإليك نصّ كلامه(قدس سرّه):«ويمكن ذبّه بأنّ الاحتياط كذلك لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الركعة المشكوكة، بل كان أصل الإتيان بها باقتضائه، غاية الأمر: إتيانها مفصولةً

ص: 84

ينافي إطلاق النقض، وقد قام الدليل على التقييد في الشكّ في الرابعة وغيره، وأنّ المشكوكة لا بدّ أن يُؤتى بها مفصولةً، فافهم»(1).

والوجه الثاني: القول بالتفكيك بين الكبرى والمورد، بأن يقال: إنّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ هو من باب بيان الحكم الواقعيّ، وهو حجّيّة الاستصحاب، وأمّا تطبيقه على خصوص الشكّ في الركعات بالبناء على الأقلّ، فيكون من قبيل التقيّة.

وهذا ما قرّبه المحقّقان النائينيّ والعراقيّ"، حيث قال الأوّل منهما: «فلأنّ حمل الرواية على التقيّة من حيث تطبيق المورد على الاستصحاب ليس بأبعد من حملها على الوظيفة في الشكّ في عدد الركعات، بل حملها على التقيّة أقرب؛ فإنّه ليس فيه تصرّف فيما يقتضيه ظاهر قوله(علیه السلام): (لا تنقض اليقين بالشكّ)، بل التصرّف إنّما يكون من جهة التطبيق، فإنّ الإمام(علیه السلام) استشهد لحكم المورد بالاستصحاب حيث كان مذهب العامّة على الإتيان بالركعة المشكوكة متّصلةً ببقيّة الركعات عملاً بالاستصحاب، فالتقيّة إنّما تكون في الاستشهاد، لا في الاستصحاب»(2).وقال الثاني: «لا ظهور في صدر الرواية في خلاف التقيّة بنحوٍ يمنع من حمل هذه الفقرة عليها، وإعمال التقيّة في إجراء القاعدة وتطبيقها

ص: 85


1- كفاية الاُصول: 396.
2- فوائد الاُصول 4: 361.

على المورد، لا في نفسها، لا بعد فيه ..»(1).

وقد ورد هذا التفكيك في بعض الأخبار، كما عن مولانا الصادق(علیه السلام) في قوله لأبي العبّاس، بعدما سأله اللّعين عن الإفطار في اليوم الذي شهد بعض بأنّه يوم العيد: «ذلك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا معه، وإن أفطر أفطرنا معه»(2)، فإنّه(علیه السلام) طبّق كبرى «ما للإمام..» على إمام الضلالة العبّاسيّ، وإنّما قال ذلك مخافة ضرب عنقه، كما بيّنه(علیه السلام) بعد خروجه من مجلس اللّعين، ولكنّ نفس حجّيّة حكم الحاكم في الهلال لا تقيّة فيه، وإنّما تطبيقه على العبّاسيّ هو الذي كان فيه تقيّة.

ولذا استدلّ بهذه الرواية على نفوذ حكمه فيه. كما أنّه ورد تطبيق كبرى (رفع ما استكرهوا عليه)، الذي هو حكم واقعيّ، على الحلف بالطلاق والعتاق إكراهاً، مع أنّهما عندنا باطلان، ولو اختياراً، فإسناد بطلانهما حال الإكراه إلى حديث الرفع لم يكن إلّا تقيّةً.

ومن هذه الأخبار أيضاً:ما في خصال الشيخ الصدوق) عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «من كان على يقين، فشكّ، فليمضِ على يقينه؛ فإنّ الشكّ

ص: 86


1- نهاية الأفكار 4: 57.
2- وسائل الشيعة 10: 132، كتاب الصوم، الباب 57 من أبواب ما يمسك عند الصائم ووقت الإمساك، الحديث 5، مع تفاوت يسير.

لا ينقض اليقين»(1).

وفي رواية أُخرى عنه(علیه السلام): «من كان على يقين، فأصابه شكّ، فليمضِ على يقينه؛ فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ»(2).

وهاتان الروايتان ضعيفتان سنداً؛ لأنّ سند المفيد) إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) غير معلوم الصحّة، وكذا سند الصدوق) إليه؛ لأنّ في الطريق قاسم بن يحيى، ومجرّد وجوده في كامل الزيارات لا يثبت وثاقته.

وأمّا من ناحية الدلالة، فهل تدلّ على الاستصحاب أو قاعدة اليقين أو تصلح للدلالة على كليهما؟

الظاهر منها - بدواً - أنّها تدلّ على قاعدة اليقين، ولكن مع ذلك، فهناك قرينة داخليّة في ذيل الرواية يمكن أن يفهم منها القاعدة الكلّيّة الارتكازيّة المسمّاة بالاستصحاب. فإنّ قوله(علیه السلام) «من كان على يقين فشكّ» أو «فأصابه شكّ» ظاهر في اختلاف حصول وصفي اليقين والشكّ؛ لأنّ الفاء عاطفة، فتكون ظاهرة في التعقيب، ومعلوم أنّ اختلاف زمان الوصفين مع كون المتعلّق فيهما واحداً يكون في قاعدة اليقين، دون الاستصحاب، ولذا يكون الشكّ في موردها سارياً إلى اليقين ومزيلاً له وموجباً لتبدّله بالشكّ، ولازم هذا:أنّ زمان المتيقّن والمشكوك واحد،

ص: 87


1- الخصال: 619.
2- الإرشاد 1: 302.

وإنّما يكون الاختلاف في زمان حصول الوصفين، والشكّ في القاعدة يتعلّق بالحدوث، ولذلك سمّي بالشكّ الساري؛ لسرايته إلى حدوث اليقين.

وهذا بخلاف الاستصحاب؛ فإنّ الشكّ يرد فيه على شيء لم يرد فيه اليقين، فإنّ اليقين فيه يرد على الحدوث والشكّ على البقاء، فمتعلّق اليقين والشكّ مختلفان.

وبعبارة أُخرى: فإنّ موضوع الاستصحاب أن يتعلّق اليقين بحدوث شيء، ويتعلّق الشكّ ببقائه، والحدوث شيء والبقاء شيء آخر. وأمّا قاعدة اليقين فموضوعها أن يتعلّق اليقين بوجود شيءٍ في زمان، ويتعلّق الشكّ بوجود ذلك الشيء نفسه في نفس الزمان، كما إذا حصل اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة، ثمّ شكّ يوم الاثنين أنّه كان عادلاً يوم الجمعة أم لم يكن، وقد عرفنا أنّه يسمى ﺑ «الشكّ الساري»؛ لأنّ الشكّ يسري إلى نفس اليقين بحدوثه.

ولكن قد عرفنا فيما سبق: أنّ في ذيل الرواية قرينة على أنّ الاستصحاب كان هو المراد من صدر الرواية، دون قاعدة اليقين، وذلك قوله(علیه السلام) «فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين»، فإنّه يدلّ على تلك القضيّة الارتكازيّة التي أُريد بها الاستصحاب في غير واحدٍ من أخبار الباب، ومعه: فظاهر الصدر وإن كان يدلّ على قاعدة اليقين، ولكن لابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور، مراعاةً لجانب هذه القرينة.

ص: 88

ومن هذه الأخبار:خبر الصفّار عن علي بن محمّد القاساني: قال: «كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من شهر رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب(علیه السلام): اليقين لا يدخل فيه الشكّ، صم للرؤية وأفطر للرؤية»(1).

والكلام فيه - أيضاً - من جهتين، سنداً ودلالةً:

أمّا من جهة السند، فلأنّ القاساني لا توثيق له، بل حكي تضعيف الشيخ له، ولم يُعلم اتّحاده مع علي بن محمّد بن شيرة القاشاني الموثّق. ودعوى: أنّ ضعف السند منجبر بعمل المشهور غير ثابتة، إذ:

أوّلاً: لا نقول بجابريّة الشهرة.

وثانياً: على تسليم جابريّتها، فثمّة روايات كثيرة صحيحة أُخرى تدلّ على اعتبار الاستصحاب وحجّيّته، فلعلّ المشهور استندوا إلى تلكم الروايات.

وأمّا من جهة الدلالة، فإنّ قوله(علیه السلام): «صم للرؤية» ناظر إلى حكم يوم الشكّ في أوّل شهر رمضان، وقوله(علیه السلام): «أفطر للرؤية» ناظر إلى حكم الشكّ في أنّه يوم الثلاثين من رمضان أم عيد الفطر، وقوله(علیه السلام): «اليقين لا يدخل فيه الشكّ»، أي: أنّ اليقين بشعبان الذي لا يجب فيه الصوم لا يدخله حكماً الشكّ بدخول رمضان حتى يخرج عن حكم شعبان الذي

ص: 89


1- تهذيب الأحكام 4: 159، الحديث 17.

هو عدم الوجوب بصرف الشكّ في دخولرمضان، بل لابدّ من اليقين بدخول رمضان، وقد عبّر(علیه السلام) عن اليقين بدخول شهر رمضان بقوله: «صم للرؤية».

ثمّ بيّن أنّ هذا الحكم غير مختصّ بأول شهر رمضان وباليقين بشعبان والشكّ بدخول رمضان، بل يشمل - أيضاً - الحكم الذي لآخر الشهر عند اليقين برمضان والشكّ في دخول شوّال، فكذلك لا يجوز الخروج عن حكم رمضان بمجرّد الشكّ في دخول شوّال، بل إنّما يرفع اليد عن حكم شهر رمضان والبناء على خروجه بالرؤية فقط، كما كان كذلك بالنسبة إلى شعبان، فإنّ رفع اليد عن حكمه لا يكون - أيضاً - إلّا برؤية الهلال.

قال الشيخ الأنصاريّ) - معلّقاً على الاستدلال بهذه المكاتبة -: «والإنصاف أنّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب، إلّا أنّ سندها غير سليم».

بتقريب: «أنّ تفريع تحديد كلٍّ من الصوم والإفطار - برؤية هلالَي رمضان وشوّال - على قوله(علیه السلام) (اليقين لا يدخله الشكّ)، لا يستقيم إلّا بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولاً بالشكّ، أي: مزاحماً به»(1).

وفي المقابل ذهب صاحب الكفاية) إلى إنكار ظهورها في ذلك، فضلاً عن أن تكون أظهر الروايات دلالةً عليه، ببيان: أنّ جوابه(علیه السلام) عن

ص: 90


1- فرائد الاُصول 3: 71.

يوم الشكّ الذي سُئل فيه عن وجوبالصوم، وكذلك جواز الإفطار أو وجوبه، حكم اليقين برمضان في الأوّل وحكم اليقين بشوّال في الثاني.

قال في الكفاية: «وربّما يقال: إنّ مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشكّ يشرف القطع بأنّ المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان، وأنّه لابدّ في وجوب الصوم ووجوب الإفطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه، وأين هذا من الاستصحاب»(1).

وكيف كان، فلابدّ من تحقيق حال هذه الرواية وأنّها تدلّ على الاستصحاب أم لا؟

ولا يخفى: أنّه لا ينبغي أن يتوهّم أحد أنّ اليقين هنا هو إمّا تمام الموضوع أو جزؤه، ولو على نحو الطريقيّة والمرآتيّة، بل اليقين مأخوذ بما هو مرآة وطريق إلى متعلّق الحكم وموضوعه، وحينئذٍ: فقوله(علیه السلام): «اليقين لا يدخله الشكّ» مع ملاحظة اقترانه بذيل الرواية، وهو قوله(علیه السلام): «صم للرؤية وأفطر للرؤية» يدلّ - في الجملة - على الاستصحاب، فإنّ اليقين بعدم دخول رمضان أو عدم دخول شوّال لا يدخله الشكّ في دخول رمضان في الأوّل أو الشكّ في دخول شوّأل في الثاني، بمعنى: أنّه يجب إبقاء اليقين بما هو مرآة حتى يعلم خلافه، فيكون ظاهراً في الاستصحاب.

ص: 91


1- كفاية الاُصول: ص 397.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ المراد من اليقين ليس هو اليقين بشعبان حتى يكون دالّاً على الاستصحاب ويكونالمعنى: عدم جواز نقض اليقين بالشكّ، بل يمكن أن يكون المراد من «اليقين لا يدخله الشكّ» هو أنّه يعتبر اليقين في صوم شهر رمضان دخولاً وخروجاً، وبدواً وختاماً، ولا دلالة له على الاستصحاب أصلاً، فتذييل هذه الجملة بقوله: «صم للرؤية وأفطر للرؤية» قرينة على إرادة معنى: أنّ اليقين لا ينقض إلّا باليقين.

فتكون الجملة المذكورة أجنبيّةً عن الدلالة على حجّيّة الاستصحاب، بل الرواية دالّة على الحكم الواقعيّ لصوم شهر رمضان، ولا علاقة لها بالدلالة على الحكم الظاهريّ حتى يقال: بأنّها متكفّلة للدلالة على الاستصحاب.

ويدلّ على هذا المعنى روايات كثيرة:

منها: رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «إذا رأيتموا الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي، ولكن بالرؤية»(1).

ومنها: رواية محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام) في حديث قال: «صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية»(2).

إلى غير ذلك من الأخبار.

ص: 92


1- وسائل الشيعة 10: 252، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح2.
2- المصدر نفسه 10: 253، ح5.

وللمحقّق العراقي(قدس سرّه) إشكال في جريان الاستصحاب هنا، وحاصله: عدم إمكان تطبيق الاستصحاب على المورد؛ لأنّ وجوب الصوم إذا كان مترتّباً على بقاء الشهر بمفاد كانالتامّة، فلاستصحابه مجال، وإن كان مترتّباً كون هذا اليوم المعيّن من شهر رمضان بمفاد كان الناقصة، فلا مجال لاستصحاب بقاء الشهر؛ لأنّ إثبات الوجود النعتيّ باستصحاب الوجود المحمولي لا يتمّ إلّا على القول بالأصل المثبت.

والظاهر من قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(1)، هو الثاني؛ لظهوره في اعتبار وقوع الصوم في الشهر. وإحراز رمضانيّة اليوم الذي يقع فيه الصوم لا يمكن أن يتمّ باستصحاب بقاء الشهر؛ لقصوره عن إثبات رمضانيّة هذا اليوم حتى يقع الصوم في شهر رمضان(2).

وقد وافقه عليه السيّد الحكيم(قدس سرّه) في حقائق الاُصول. قال: «هذا مضافاً إلى أنّ جريان الاستصحاب في المقام موقوف على كون وجوب الصوم من آثار بقاء شهر رمضان وكون عدمه من آثار عدم دخوله، فإنّه - حينئذٍ - يترتّب وجوبه على استصحاب بقاء الشهر، وعدم وجوبه على أصالة عدم دخوله، أمّا لو كان وجوب الصوم من آثار كون الزمان المعيّن من رمضان بنحو مفاد كان الناقصة، فاستصحاب بقائه أو عدم دخوله لا يترتّب عليه تعيين حال زمان الشكّ من حيث كونه من رمضان أو من غيره؛ إذ لا يترتّب مفادكان الناقصة على استصحاب

ص: 93


1- البقرة: الآية 185.
2- انظر: نهاية الأفكار 4: 65.

مفاد كان التامّة إلّا على القول بالأصل المثبت ...»(1).

وردّه الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) بأنّه «كلام عجيب؛ لأنّ عدم دخول رمضان أو بقاء شعبان يكفي لرفع وجوب الصوم»(2).

ولكن فيه: أنّه بالنسبة إلى ما ورد في آخر الرواية لا يفيد؛ لأنّ أصالة عدم دخول شوّال لا يثبت بقاء وجوب الصوم في ذلك اليوم المعيّن، إلّا بعد إثبات أنّه من رمضان، وكذلك أصالة بقاء شعبان لا يثبت عدم حدوث وجوب الصوم إلّا بعد إثبات أنّ ذلك اليوم من شهر رمضان، فيكون إشكال المحقّق العراقي(قدس سرّه) وارداً إلى حدٍّ ما.

وممّا استدلّ به على الاستصحاب أيضاً:

روايات أُخرى، منها: «كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر»(3)، وقوله(علیه السلام): «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك»(4).

وفي هذه الروايات احتمالات عدّة:الأوّل: الحكم الظاهريّ فقط، أي: قاعدة الحلّ وقاعدة الطهارة.

ص: 94


1- حقائق الاُصول 2: 426.
2- منتهى الاُصول 2: 434.
3- وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، ح 4.
4- وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

الثاني: الطهارة الواقعيّة، كما هو مسلك صاحب الحدائق(قدس سرّه) من أنّ النجاسة حقيقة متقوّمة بالعلم(1).

الثالث: حملها على إفادة الاستصحاب، كما استظهره الشيخ) من بعضها، حيث قال(قدس سرّه): «فالأولى حملها على إرادة الاستصحاب، والمعنى: أنّ الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم، أي: تستمرّ طهارته المفروضة إلى حين العلم بعروض القذارة له»(2).

الرابع: دلالته المغيّى على الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وهو طهارة كلّ شيء وحلّيّته واقعاً وظاهراً، ودلالة الغاية على الاستصحاب.

الخامس: دلالتها على الحكم الظاهريّ مع الاستصحاب.

السادس: دلالتها على الحكم الواقعيّ والاستصحاب.

السابع: الحكم الواقعيّ والظاهريّ فقط دون الاستصحاب.

ولا يخفى: أنّه لا يمكن الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ؛ لأنّ الحكم الظاهريّ واقع في طول الحكم الواقعيّ، وموضوعه في طول موضوع الحكم الواقعيّ، فإنّ الحكم الظاهريّ لا يكون إلّا في ظرف الشكّ واستتار الحكم الواقعيّ والجهل به، فموضوعه هو المقيّد بكونه مجهول الحكم.

ص: 95


1- انظر: الحدائق الناضرة 1: 136.
2- فرائد الاُصول 3: 77.

وعليه: فلا الحكم الواقعيّ ينزل إلى مرتبة الحكم الظاهريّ، ولا العكس، فالحكم الواقعيّ يشمل بإطلاقه لمرتبة الشكّ، كما أنّه لا إطلاق للحكم الظاهريّ يشمل به المرتبة السابقة على موضوعه، أي: الفعل والذات.

وبهذا يتّضح: أنّ ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سرّه) في حاشيته على الرسائل(1) من إمكان استفادة الثلاث - أعني: الحكم الواقعيّ والظاهريّ والاستصحاب - من هذه الأخبار، في غير محلّه؛ وذلك لما عرفت من عدم إمكان الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ بإنشاءٍ واحد.

ولعلّه لأجل هذا السبب عدل عن هذا الرأي في الكفاية فقال: «إنّ الغاية فيها إنّما هو لبيان استمرار ما حكم على الموضوع واقعاً من الطهارة والحلّيّة ظاهراً، ما لم يعلم بطروّ ضدّه أو نقيضه، لا لتحديد الموضوع كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة للشكّ في طهارته أو حلّيّته»(2).

فيكون قد اعترف بذلك بأنّها لا تشمل إلّا الحكم الواقعيّ مع الاستصحاب، ببيان: أنّ مفادها في الصدر هو الحكم الواقعيّ، والغاية تدلّ على الاستصحاب واستمرار هذا الحكم استمراراً ظاهريّاً إلى زمان العلم بالخلاف، لا استمراراً واقعيّاً؛ لأنّ الحكم الواقعيّ لا يمكن أن

ص: 96


1- راجع: درر الفوائد: 312 - 314.
2- كفاية الاُصول: 398.

يكون مغيّاً بالعلم بضدّه تابع لملاكه، والعلم بالخلاف لا يؤثّر فيها.وقد يقال: بأنّه لا يمكن أن تدلّ الجملة على الحكم الواقعيّ والاستصحاب معاً، بعدما عرفته من أنّ جعل الحكم الاستصحابيّ مرتبته متأخّرة عن مرتبة جعل الحكم الواقعيّ، فلابدّ أوّلاً من جعل الحكم الواقعيّ، ثمّ بعد ذلك يصار إلى جعل الحكم باستمرار هذا الحكم الواقعيّ ظاهراً إلى زمان العلم بالخلاف أو بالضدّ.

والجواب: أنّ ذلك ممكن بطريقة تعدّد الدالّ والمدلول؛ لأنّ إثبات الطهارة واقعاً يستفاد من المغيّى، وهو «كلّ شيء طاهر»، فإنّه متكفل لحكم الأشياء واقعاً، وأمّا الغاية، وهي: «حتى تعلم»، فإنّها ظاهرة في الاستصحاب، فهما مستفادان من الرواية بتعدّد الدالّ والمدلول، فلا تكون الجملة دالّة بدلالة واحدة على الحكم الواقعيّ والاستصحاب حتى يقال بعدم الإمكان.

وعليه: فيمكن للرواية - إذاً - أن تكون دالّةً على الحكم الواقعيّ والاستصحاب معاً.

وبعد أن ذكرنا أنّه لا يمكن أن يكون الحكم الواقعيّ مغيّى بالعلم بخلافه، فيكون الإبقاء والاستمرار ظاهريّاً، فيكون النتيجة هو قاعدة الطهارة أو الحلّ.

وبهذا تمّ الكلام في الأخبار العامّة التي ذكروها في مقام الاستدلال على اعتبار الاستصحاب.

ص: 97

وهناك روايات أُخر تدلّ على اعتباره في موارد خاصّة:كقوله(علیه السلام) في موثّقة ابن بكير: «إذا استيقنت أنّك أحدثت فتوضّأ، وإيّاك أن تحدث وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنّك قد أحدثت»(1).

ودلالتها على الاستصحاب في المورد ظاهرة، ويفهم من قوله «إيّاك» عقيب الاستيقان بالوضوء لزوم الجري على طبق اليقين السابق بالطهارة، وعدم الاعتناء بالشكّ في انتقاضها ما لم يستيقن بالحدث.

ولكن لا يخفى: أنّها واردة في باب الوضوء، وغايته: إمكان تسريتها والتمسّك بها لإثبات الاستصحاب في الطهارات الثلاث. وأمّا إثبات قاعدةٍ كلّيّة بها، فلا. نعم، يمكن التعدّي بها إلى سائر الأبواب بضميمة عدم القول بالفصل.

وكذلك رواية عبد اﷲ بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبد اﷲ(علیه السلام) وأنا حاضر: إنّي أعير الذمّيّ ثوبي، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ، فأغسله قبل أن اُصلّي فيه، فقال أبو عبد اﷲ(علیه السلام): صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرْته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنّه نجّسه»(2).

ولا شكّ في ظهور هذه الرواية في الاستصحاب في نفس المورد،

ص: 98


1- الكافي 3: 33، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 3: 521، كتاب الطهارة، الباب 74 من أبواب النجاسات، ح 1.

ولكن لا يمكن - أيضاً - استفادة الكبرى الكلّيّةمنها؛ لأنّ ظاهرها أنّ الحكم بالطهارة مترتّب على كلٍّ من اليقين السابق والشكّ اللّاحق الفعليّ الحاصل بعد ردّ الثوب، ولو كان المقصود بيان قاعدة الطهارة لاقتصر(علیه السلام) في مقام الجواب بأن يقول - مثلاً - لأنّك شاكّ في نجاسته.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ جريان الاستصحاب يكفي فيه وجود اليقين السابق والشكّ اللّاحق، بلا فرق بين أن يكون المستصحب محرزاً باليقين الوجدانيّ أو التعبّديّ، كالأمارات، أو بالاُصول المحرزة، كالاستصحاب.

توضيحه: أنّ قوله(علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشكّ» الذي ورد في الأخبار بهذا المضمون أو بما يقرب منه من المضامين اُخذ فيه اليقين بالشيء في الزمان السابق موضوعاً للحكم ببقائه في ظرف الشكّ بما هو طريق محرز لمتعلّقه، وقد ثبت في محلّه قيام الأمارات والاُصول العمليّة المحرزة مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة.

فمعنى: «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو حرمة نقض ما أُحرز ثبوته بالشكّ في بقائه، فلا فرق بين أن يحرز ثبوته بمحرز وجدانيٍّ، كالقطع، أو تعبّديٍّ، كالأمارات والاُصول المحرزة.

هذا كلّه لو لم نقل: بأنّ اليقين الذي اُخذ في موضوع الاستصحاب لم يؤخذ فيه من حيث إنّه صفة خاصّة كذائيّة، ولا من حيث كونه طريقاً ومرآةً لمتعلّقه، بل من حيث تنجيز متعلّقه. فحينئذٍ: فلا يكون هناك

ص: 99

فرق بين الاُصول المحرزة وغيرها في قيامها مقام القطع الذي اُخذ فيموضوع الاستصحاب لاشتراك الجميع في كونها تنجّز متعلّقاتها.

ولا يذهب عليك: أنّ أخذ اليقين في موضوع الحكم تارةً يكون على نحو الصفتيّة، وأُخرى على نحو الطريقيّة والكاشفيّة، كما هو كذلك في باب الاستصحاب، وحينئذٍ: فتكون أدلّة الأمارات حاكمة على الاستصحاب، ومعلوم أنّ الحكومة تارةً توجب الضييق وأُخرى توجب التوسعة، ولكنّها في المقام حكومة موسّعة.

ص: 100

تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأوّل: في استصحاب الكلّيّ:

اشارة

المستصحب تارةً يكون جزئيّاً وأُخرى يكون كلّيّاً، والجزئيّ لا يفرّق في حجّيّته بين أن يكون حكماً تكليفيّاً كوجوب صلاة الجمعة إذا شكّ في بقائه في حال الحضور، أو وضعيّاً، كملكيّة مالٍ لزيد إذا شكّ في خروجه عن ملكه، أو موضوعاً، كحياة زيد إذا شكّ في بقائها.

وكذا الحال فيما لو كان المستصحب كلّيّاً، فإنّه لا يفرّق في حجّيّة استصحابه بين أن يكون حكماً كلّيّاً، كالطلب الراجحالمشترك بين الوجوب والندب، أو موضوعاً كلّيّاً، كالحدث الجامع بين الأكبر والأصغر، فمثلاً: في قوله تعالى: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾(1)، دلّت الآية الشريفة على أنّ ثبوت الحكم، وهو حرمة مسّ كتابة القرآن للمحدث مطلقاً، سواء كان محدثاً بالأكبر أم الأصغر، فلو علم بالحدث وشكّ في

ص: 101


1- الواقعة: الآية 79.

ارتفاعه، كما لو توضّأ فقط، جرى استصحاب الكلّيّ.

ثمّ إنّ المستصحب قد يكون شخصاً معيّناً، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه، كما لو كان زيد موجوداً، ثمّ غاب، وشككنا في وجوده، فلنا أن نستصحب بقاء وجوده.

وقد يكون المستصحب فرداً مردّداً، كما لو كان مردّداً بين الحدث الأكبر والأصغر، ولابدّ أن يكون المعلوم فيه عنواناً إجماليّاً، حيث كان مردّداً، فلا يكون معلوماً تفصيليّاً.

وقد يستشكل في جريان الاستصحاب في هذه الصورة، بأن يقال: إمّا هذا الكأس نجس أو ذلك، فلو غسل أحد الكأسين، أو انكبّ ماؤه، أو خرج عن محلّ الابتلاء، يقطع بعدم بقاء ذلك العنوان الإجماليّ، فما هو محتمل البقاء هو ذلك الفرض الواقعيّ المعلوم عند اﷲ عزّ وجلّ، وهو لم يكن معلوماً قبلاً، وما كان معلوماً كذلك فهو ذلك العنوان الإجماليّ، فهو غير محتمل البقاء، فلا يجري فيه الاستصحاب؛ لعدم تماميّة أركانه، أي: اليقين السابق والشكّ اللّاحق؛ فإنّ أمثال هذهالعناوين لم تؤخذ موضوعاً للأثر في لسان الأدلّة، وما هو موضوع للأثر، وهو الفرد المعيّن، فليس ممّا علم سابقاً.

وأمّا إذا كان المستصحب كلّيّاً، فله أقسام:

القسم الأوّل: أن يكون الشكّ في بقاء الكلّيّ ناشئاً من الشكّ في بقاء الفرد الذي تحقّق الكلّيّ في ضمنه، كما إذا علم بوجوب صلاة

ص: 102

الجمعة - مثلاً - وشكّ في ارتفاعه زمان الغيبة.

ولا ينبغي الشكّ في أنّه في هذا القسم يصحّ استصحاب الكلّيّ، كما يصحّ استصحاب الفرد، بعدما كان الشكّ في بقاء الكلّيّ وهو الطلب الجامع بين وجوب الجمعة وغيرها ناشئاً من الشكّ في بقاء فرده المعلوم حدوثه.

ولكن قد يستشكل في جريان الاستصحاب في هذا القسم بأنّ الكلّيّ عين الفرد وجوداً، إذ الوجود غير متعدّد، وكذا موضوع الأثر، حتى يقال: بأنّ الاستصحاب يجري في الفرد تارةً وفي الكلّيّ أُخرى، بل يمكن أن يقال: إنّ الاستصحاب الجاري في الفرد سببيّ، وفي الكلّيّ مسبّبيّ، والأصل السببيّ حاكم على الأصل المسبّبيّ.

ولكن سيأتي الجواب عن هذا الإشكال في القسم الثاني.

القسم الثاني: أن يكون الشكّ في بقائه ناشئاً من تردّد الفرد الذي وجد الكلّيّ في ضمنه بين معلوم البقاء وبين ما هو مرتفع قطعاً، كما إذا علمنا بدخول حيوان وبعد ساعات شككنا في أنّه هل كان فيلاً أو بقّاً، فإن كان هو الفيل، فهو باقٍ، وإن كان بقّاً، فلا.فصدور الحدث منه معلوم، غاية الأمر: أنّه مردّد بين الأصغر والأكبر، فإن كان هو الأصغر فقد ارتفع يقيناً، وإن كان هو الأكبر فهو باقٍ يقيناً، فيجوز - حينئذٍ - استصحاب بقاء الكلّيّ، كما بالنسبة إلى الآية المتقدّمة، أعني: قوله تعالى: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾، فإنّ أركان الاستصحاب، من اليقين

ص: 103

السابق والشكّ اللّاحق تامّة فيه؛ إذ الكلّيّ يوجد بوجود الفرد، فالحدث الجامع بين الأصغر والأكبر يوجد بوجود أيّ واحدٍ من الأكبر أو الأصغر، وحيث فرضنا أحدهما باقياً قطعاً، فالكلّيّ - لا محالة - يكون باقياً قطعاً.

وحيث إنّ من المحتمل أن يكون وجوده في ضمن الفرد الزائل، فيزول بزواله يقيناً، ومن المحتمل أن يكون في ضمن الفرد الباقي، فهو باقٍ يقيناً، فتكون النتيجة هي وجود الشكّ في بقائه، فتتمّ أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللّاحق، فيجري الاستصحاب بلا محذور.

وقد اعترض على هذا الاستصحاب بإشكالاتٍ:

الإشكال الأوّل: بعد أن عرفنا أنّ نسبة الكلّيّ الطبيعيّ إلى أفراده إمّا هي نسبة الآباء إلى الأبناء، وإمّا هي نسبة أبٍ واحد إلى أبنائه المتعدّدين، وعلى الاحتمال الثاني، وإن أُورد عليه بأنّه كيف يمكن أن يكون شيء واحد موجوداً بكلّه في فرد وهو عين ذلك الفرد، ثمّ في الوقت عينه يكون موجوداً في فردٍ آخر بمعنى: أنّه عين ذلك الفرد الآخر، إلّا أنّ هذا الإيراد غير متّجه؛ لأنّ وحدة الكلّيّ ليست من قبيل الوحدة بالشخص، بل هي إمّا وحدة بالنوع أو بالجنس.وحيث كان الحقّ هو الأوّل، أعني: كون النسبة هي نسبة الآباء إلى الأبناء؛ لأنّ للكلّيّ وجوداتٍ متعدّدة بعدد وجودات أفراده، فيكون وجود طبيعيّ الحدث - مثلاً - في ضمن الحدث الأصغر غير وجوده في ضمن الأكبر، فلا يكون جريان الاستصحاب ممكناً؛ إذ لا علم بحدوث

ص: 104

الجامع، بعد أن كان الترديد بين وجودين متباينين، وبعد أن كان كلّ واحدٍ من هذين الوجودين في حدّ نفسه مشكوك الحدوث.

ولكن فيه: ما أشرنا إليه قريباً، من أنّ الكلّيّ الطبيعيّ بالنسبة إلى أفراده واحد بالنوع أو بالجنس، فكلّ واحد من أنواعه أو أفراده أو أصنافه المختلفة، وإن كان له وجود يباين وجودات سائر الأنواع أو الأفراد أو الأصناف، إلّا أنّ بين تلك الوجودات المتعدّدة وحدةً سنخيّةً واقعيّة نوعيّة أو جنسيّة لا يضرّ معها التعدّد.

والإشكال الثاني: ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ الشكّ في بقاء الكلّيّ مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الباقي، فيكون الأصل الجاري فيه سببيّاً وفي الفرد الباقي مسبّبيّاً، والأصل السببيّ حاكم على المسبّبيّ، فكما أنّه لو كان هناك ماءٌ مشكوك الكرّيّة مثلاً، وكانت يده مشكوكة الطهارة، مع كون حالتها السابقة هي النجاسة، فباستصحاب الكريّة نحكم بطهارة اليد، ولا تصل النوبة إلى استصحاب نجاسة اليد، فكذلك هنا، إذا ارتفع الشكّ في حدوث الفرد الباقي، فباستصحاب عدم حدوثه يعلم بعدم بقاء الكلّيّ تعبّداً، لما عرفناه من الحكومة.ولكن فيه: أوّلاً: أنّ كون المقام من صغريات جريان أصلين أحدهما سببيّ والآخر مسبّبيّ غير تامّ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الكلّيّ ليس مسبّباً عن حدوث الفرد الباقي، بل الشكّ في بقاء الكلّيّ وارتفاعه مسبّب عن أنّ الفرد الحادث المعلوم حدوثه هل هو الفرد الزائل حتى يكون الكلّيّ

ص: 105

معلوم الارتفاع، أو الفرد الباقي حتى يكون معلوم البقاء؟ فبما أنّ كلا الأمرين غير معلوم، فالبقاء والارتفاع في جانب الكلّيّ - أيضاً - غير معلومين، فيكون محتمل البقاء والارتفاع معاً، ولا أصل لتعيين أنّ الحادث المعلوم هو أيّ واحد منهما.

وثانياً: على الفرض التسليم، فالسببيّة والمسبّبيّة في المقام لا ضير فيهما؛ لأنّهما هنا عقليّان، وفي باب حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ، يجب أن يكون المسبّب من الآثار الشرعيّة لنفس السبب.

وثالثاً: ثمّ إنّه لو فرض للفرد الزائل - أيضاً - أثر شرعيّ، ولو بعد تلفه وزواله كما هو المفروض، فمع ذلك، لا يرد عليه أنّه لا مجال لاستصحاب الفرد الزائل بعد زواله وخروجه عن محلّ الابتلاء.

وقد أجاب المحقّق النائيني) عن هذا الإشكال أيضاً بما يرجع إلى دعوى تساقط الاُصول بالمعارضة قبل الخروج عن محلّ الابتلاء.

قال(قدس سرّه): «... فإنّه بمجرّد العلم بحدوث أحد الفردين، والشكّ فيما هو الحادث، تجري أصالة عدم حدوث كلٍّ منهما، وتسقط بالمعارضة؛ وخروج أحد الفردين عن موردالابتلاء بعد ذلك لا يوجب رجوع الأصل في الفرد الباقي»(1).

وفيه: أوّلاً: أنّه إنّما يتمّ على القول بإمكان جريان الاُصول في أطراف العلم الإجماليّ.

ص: 106


1- فوائد الاُصول 4: 418.

وثانياً: إنّما يتمّ - أيضاً - لو كان حصول العلم الإجماليّ قبل الخروج عن محلّ الابتلاء، وأمّا لو حصل بعد الخروج، فلا علم إجماليّ في البين أصلاً حتى تتعارض الاُصول في أطرافه ونحكم بتساقطها.

والإشكال الثالث - على جريان الاستصحاب -: أنّ استصحاب بقاء الكلّيّ معارض باستصحاب عدمه في ضمن الفرد الكبير، فهذا الاستصحاب التعبّديّ لو ضمّ إلى إحراز عدمه الوجدانيّ في ضمن الفرد الصغير، يحصل إحراز عدمه مطلقاً؛ لأنّه لو كان في ضمنه، فهو يقيناً قد ارتفع، فيقطع معه بعدم بقاء الكلّيّ، فلا مجال لاستصحابه.

ويدفعه: أنّ أصالة عدمه في ضمن الفرد الكبير معارض بأصالة عدمه في ضمن الفرد الصغير في حال حدوث أحدهما والعلم به، فيتساقطان، فيبقى المجال لاستصحاب بقاء الكلّيّ.الشبهة العبائيّة:

ثمّ إنّ ها هنا شبهة منقولة عن السيّد الصدر(قدس سرّه)(1) تسمّى بالشبهة العبائيّة،

ص: 107


1- هو المرحوم السيّد إسماعيل الصدر«؛ إذ ينقل عنه أنّه(قدس سرّه) كان قد زار النجف الأشرف أيّام الشيخ المحقّق الآخوند، فأثار في أوساطها العلميّة مسألةً تناقلوها، وصارت عندهم موضعاً للأخذ والردّ، وعرفت باسم (الشبهة العبائيّة)، قال المحقّق العراقي): «وهذه الشبهة ممّا أورده السيّد المحقّق السيّد إسماعيل الصدر(قدس سرّه) في بعض مجالسه في النجف الأشرف، وقد اشتهرت بالشبهة العبائيّة». انظر: نهاية الأفكار 4: 130.

وهي شبهة تستهدف جريان استصحاب الكلّيّ، وحاصل الشبهة: أنّه لو علم إجمالاً بنجاسة أحد جانبي عبائته من الأعلى أو الأسفل، فطهّر جانباً معيّناً، كجانب الأسفل - مثلاً -، فيصير بقاء النجاسة في العباءة مشكوكاً؛ لاحتمال أن تكون تلك النجاسة المعلومة بالعلم الإجماليّ في ذلك الطرف الذي طهّره، فأزالها وما بقيت.

فلو لاقى البدن الجانب الأعلى، فلا يمكن الحكم بنجاسته، لما هو معروف عندهم من أنّ ملاقاة أحد أطراف الشبهة المحصورة فقط لا يحكم بنجاسته. وبناءً على صحّة جريان الاستصحاب في هذا القسم من استصحاب الكلّيّ، يجري استصحاب نجاسة العباءة، ولازمه نجاسة ملاقي الجانبين المطهَّر ومشكوك النجاسة، دون ملاقي مشكوك النجاسة فقط.

ولازم ذلك: أنّ انضمام الظاهر إلى الجانب المشكوك طهارته، والذي لم يطهّره، يكون موجباً لنجاسة الملاقي، وهذا غريب، ومنشأ الغرابة فيه هو جريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلّيّ.

وبعبارة أُخرى: فإنّ بدن المصلّي لو لاقى كلا الطرفين، لابدّ أن نقول بنجاسته، وأمّا لو لاقى أحد طرفي الشبهة فقط،فيكون محكوماً بالطهارة، وفيما نحن فيه، حيث فرضنا بدن المصلّي لم يلاقِ إلّا أحد الطرفين فقط، فلابدّ أن نقول بطهارته؛ لأنّ أحد الطرفين صار طاهراً بعد غسله، فملاقاته له لا تؤثّر، فملاقاته للطرف الآخر لا يمكن أن توجب

ص: 108

الحكم بنجاسة الملاقي، وبطلان اللّازم يكشف عن بطلان الملزوم، وهو جريان استصحاب الكلّيّ من هذا القسم، فلابدّ من منع جريان هذا الاستصحاب.

وقد نسب إلى المحقّق النائيني(قدس سرّه) في دفع هذه الشبهة وجهان، أحدهما في أجود التقريرات، والآخر في الفوائد:

أمّا الأوّل: فحاصله: أنّ إثبات النجاسة الملاقي تترتّب على أمرين: «أحدهما: إحراز الملاقاة، وثانيهما: إحراز نجاسة الملاقى (بالفتح)، ومن المعلوم، أنّ استصحاب النجاسة الكلّيّة المردّدة بين الطرف الأعلى والأسفل لا يثبت تحقّق ملاقاة النجاسة، الذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي، والمفروض أنّ أحد طرفي العباء مقطوع الطهارة، والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة، فلا يحكم بنجاسة ملاقيهما»(1).

وأمّا الثاني: فحاصله: أيضاً أنّ المثال أجنبيّ بالمرّة عن استصحاب الكلّيّ، فإنّ «محلّ الكلام في استصحاب الكلّيّ إنّما هو فيما إذا كان نفس المتيقّن السابق بهويّته وحقيقته مردّداً بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء،كالأمثلة المتقدّمة [من دوران أمر الحيوان - مثلاً - بين الفيل والبق]، وأمّا إذا كان الإجمال والترديد في محلّ المتيقّن وموضوعه، لا في نفسه وهويّته، فهذا لا يكون من استصحاب الكلّيّ، بل يكون كاستصحاب

ص: 109


1- أجود التقريرات 2: 395.

الفرد المردّد الذي قد تقدّم المنع عن جريان الاستصحاب فيه عند ارتفاع أحد فردي الترديد، فلو علم بوجود الحيوان الخاصّ في الدار، وتردّد بين أن يكون في الجانب الشرقيّ أو في الجانب الغربيّ، ثمّ انهدم الجانب الغربي، واحتمل أن يكون الحيوان تلف بانهدامه... فإنّ استصحاب بقاء المتيقّن لا يجري»(1)، بل هذا ليس من دوران الكلّيّ بين فردين، وإنّما هو من الترديد في مكان فرد معيّن بين مكانين، وهذا الترديد في محلّه ومكانه هو الذي يوجب الشكّ في بقائه؛ لأنّ هذا الترديد بين مكانين أشبه باستصحاب الفرد المردّد عند ارتفاع أحد فردي الترديد، وقد ثبت في محلّه عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردّد.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّه ليس من قبيل الفرد المردّد أيضاً؛ لأنّه يكون من قبيل دوران وجود الكلّيّ بين فردين من أفراده، كدوران وجود الإنسان بين زيد وعمرو، فالمقام نظير دوران فرد معيّن من الكلّيّ بين حالتين، كالصحّة والمرض، أو بين مكانين، ككونه في الطرف الشرقيّ من الدار أو الطرف الغربيّ منها.القسم الثالث: من أقسام الاستصحاب الكلّيّ، أن يكون منشأ الشكّ في بقاء الكلّيّ احتمال قيام فرد آخر من مصاديق الكلّيّ مقام الفرد الزائل، وهو على ثلاثة أقسام:

ص: 110


1- فوائد الاُصول 4: 421 - 422، بتصرّف وتلخيص يسيرين.

الأوّل: أن يكون وجود الفرد المشكوك الحدوث والذي يحتمل أن يقوم مقامه مقارناً له وموجوداً معه من أوّل الأمر.

الثاني: أن يكون حدوثه مقارناً لارتفاع وجود معلوم الحدوث وزمان انعدامه، كما إذا فرضنا وجود عمرو في حين ارتفاع وجود زيد، لا قبله.

الثالث: أن يكون مرتبة من مراتب الزائل، لا فرداً مبايناً معه، كاللّون القابض للبصر إذا وجد في ضمن السواد الشديد وزال قطعاً، وشكّ في أنّه هل زال بجميع مراتبه ولم يبقَ منها شيء، أم بقيت منها مرتبة ضعيفة، وهذا - أيضاً - يتصوّر على وجهين:

أوّلهما: أن يكون مرتبة مباينة لما ارتفع قطعاً عند العرف، وإن كانت - بالدقّة العقليّة - من مراتب الحقيقة الواحدة، كما إذا زال الاحمرار وبقي الاصفرار، فإنّهما يعدّان عند العرف متباينين.

والثاني: أن يعدّ عند العرف من مراتب وجود القسم الأوّل.

وفي الصورتين الأُوليين لا يجري الاستصحاب؛ لأنّه لابدّ في جريان الاستصحاب من وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، وهنا ليس كذلك، بل المتيقّن غير المشكوك؛ لأنّ المتيقّن عبارة عن وجود الكلّيّ في ضمن فرد، والمشكوك عبارة عن وجوده في ضمن فرد آخر، بلا فرق بين أن يوجدمقارناً لوجود الفرد الذي وجد الكلّيّ في ضمنه، أو وجد في نفس زمان ارتفاعه؛ لاشتراكهما في أنّ المشكوك وجود الكلّيّ في ضمن فردٍ آخر غير الوجود المتيقّن في ضمنه الكلّيّ.

ص: 111

إن قلت: ما الفرق بين هاتين الصورتين من القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ وبين القسم الثاني؟ حيث قلنا هناك إنّ الوحدة السنخيّة محفوظة، سواء كان الحادث هو الفرد الطويل أم كان هو الفرد القصير في القضيّة المتيقّنة، بمعنى: أنّ الحادث أيّ واحد منهما كان يكون الكلّيّ موجوداً فيه.

قلت: وحيث يحتمل أن يكون الحادث هو الفرد الطويل الباقي، فيحتمل أن يكون الكلّيّ، وهو عين ما تيقّنت به، موجوداً. نعم، يحتمل وجوداً آخر حدث للكلّيّ، ولكن مع ذلك، فاليقين بوجود الكلّيّ حاصل بالضرورة.

وأمّا في هاتين الصورتين، فإنّ المتيقّن هو الوجود المحدود بحدّ الزيديّة - مثلاً -، والمشكوك إنّما هو الوجود المحدود بحدّ العَمريّة - مثلاً -، وهما متباينان؛ لأنّ الكلّيّ إذا كان في ضمن فرد ثمّ ارتفع ذلك الفرد، وكان هناك فرد آخر من أفراد الكلّيّ وقد وجد معه أو مقارناً لارتفاعه، فإنّ وجود الكلّيّ في ضمن ذلك الفرد الأوّل المقارن معه وجوداً، أو حين ارتفاعه، لا يكون عين وجود الكلّيّ بوجوده الأوّليّ.

وأمّا القسم الثالث، ففي صورته الاُولى، وهي ما إذا كان محتمل البقاء مبايناً مع الزائل، فلا يجري الاستصحاب؛ لأنّالقضيّة المتيقّنة ليست عين المشكوكة؛ فإنّ العرف يراهما متباينين، وإن كانت الوحدة محرزة بحسب الدقّة العقليّة؛ لأنّ المناط في تشخيص الوحدة على العرف، لا

ص: 112

العقل.

وفي صورته الثانية، أي: فيما لو كان العرف يعدّ تلك المرتبة واحدةً من مراتب وجود المستصحب، فلا مانع من جريان الاستصحاب - حينئذٍ -؛ لكفاية الوحدة العرفيّة.

تذييل وتعقيب:

لا يخفى: أنّ الحيوان تارةً يكون الشكّ فيه من جهة قابليّته للتذكية، وأُخرى لا يكون من جهة قابليّته لها.

وقد أورد الفاضل التوني(قدس سرّه)(1) على المشهور في حكمهم بالحرمة والنجاسة في الحيوان المشكوك وقوع التذكية فيه من غير جهة الشكّ في قابليّته لها بأصالة عدم التذكية، بأنّه يمتنع جريان أصالة عدم التذكية، وذلك لوجهين:

ص: 113


1- الوافية: 210، وإليك نصّ كلامه): «والسرّ فيه أنّ عدم المذبوحيّة لازم لأمرين: الحياة، والموت حتف أنفه، والموجب للنجاسة ليس هذا اللّازم من حيث هو هو، بل ملزومه الثاني، أعني: الموت، فعدم المذبوحيّة لازم أعمّ لموجب النجاسة، فعدم المذبوحيّة العارض للحياة مغاير لعدم المذبوحيّة العارض للموت حتف أنفه، والمعلوم ثبوته في الزمان الأوّل هو الأوّل، لا الثاني، وظاهرٌ: أنّه غير باقٍ في الوقت الثاني. ففي الحقيقة: تخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب؛ إذ شرطه بقاء الموضوع، وعدمه هنا معلوم. وليس مَثَل المتمسّك بهذا الاستصحاب إلّا مَثَل من تمسّك على وجود عمروٍ في الدار في الوقت الثاني باستصحاب بقاء الضاحك المتحقّق بوجود زيد في الدار في الوقت الأوّل، وفساده غنيّ عن البيان».

الوجه الأوّل: أنّ موضوع هذين الحكمين، أعني: الحرمة والنجاسة، في لسان الأدلّة هي الميتة، وهي عبارة عن الموت حتف الأنف، فهي ضدّ التذكية. وإثبات أحد الضدّين باستصحاب عدم الضدّ الآخر يكون من الأصل المثبت.وفيه: أنّ الميتة ليست عبارة عن الموت حتف الأنف، بل عبارة عن غير المذكّى، وإن أبيت إلّا عن كونها الموت حتف الأنف، فهي تشمل مطلق غير المذكّى حكماً، أي: ولو فرض أنّه لم يمت حتف أنفه، بل ذُبح على غير الوجه الشرعيّ، أي: فيكون حراماً ونجساً هو أيضاً، فاستصحاب عدم كونه من المذكّى يكفي لإثبات هذين الحكمين له، ولا نحتاج في ذلك إلى إثبات صدق عنوان الميتة عليه.

فقوله تبارك وتعالى: ﴿إِلاَّ مَا ذكَّ--يْتُمْ﴾(1)، يدلّ دلالة واضحة على أنّه لا حلّيّة إلّا في مورد المذكّى، فالحرمة ليست مرتّبة على أمر وجوديّ، وهو عنوان الميتة فقط، بل موضوعه مطلق غير المذكّى شرعاً، فلو حصل له العلم بأنّه قد ذبح على الوجه غير الشرعيّ، يحصل له العلم بالنجاسة والحرمة، مع أنّه لم يعلم بموته حتف أنفه.

ولكنّ الحقّ: أنّه لو حصل له العلم بكونه مذبوحاً على غير الوجه الشرعيّ، فغاية ما يحصل له العلم به - حينئذٍ - هو الحرمة فقط، لا الحرمة والنجاسة.

ص: 114


1- المائدة: الآية: 3.

والوجه الثاني: أنّ موضوع الحكمين المذكورين، وإن كان عبارة عن عدم التذكية، لكنّ المراد منه هو عدم التذكية في حال زهوق الروح، وإلّا، يلزم أن يكون الحيوان المأكول في حال حياته نجساً لعدم كونه مذكّىً في تلك الحال قطعاً.فإذا كان الأمر كذلك، فليس لما هو الموضوع للحكم حالة سابقة؛ لأنّ عدم التذكية المقيّد بكونه في حال زهوق الروح يستحيل أن يتحقّق حال حياته.

فإن قلت: يكفي عدم التذكية الجامع بين كونه حال الحياة وبين كونه حال زهوق الروح، فإنّ له فردين، فاستصحاب ذلك الجامع بواسطة احتمال وجود الفرد الآخر منه بعد انعدام الفرد الأوّل.

قلنا: في هذا الاستصحاب إشكال من وجهين، إذ:

أوّلاً: أنّ الأثر إنّما يكون للفرد المحتمل الوجود بعد انعدام الفرد الأوّل، وإلّا، فالجامع نفس لا أثر له، واستصحاب الجامع والكلّيّ لترتيب ما للفرد من أثر يكون من الاُصول المثبتة، فلو سلّمنا بصحّة جريانه، لو كان له أثر، ولكن يمتنع جريانه لما ذكرناه هنا.

وثانياً: هذا الاستصحاب من القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ والذي قلنا بعدم صحّته وعدم جريانه.

وقد أجاب اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) عن ذلك بأنّ «موضوع الحرمة والنجاسة، وإن كان هو عدم التذكية في حال زهوق الروح، فيكون الموضوع مركّباً

ص: 115

من جزأين: أحدهما: عدم التذكية، والآخر: زهوق الروح، ولكن لا بنحوٍ يكون الأخير - أي: زهوق الروح - من نعوت الأوّل - أي: عدم التذكية - ومن حالاته ومشخّصاته حتى يكون لعدم التذكية فردان، ويكون أحدهما موضوعاً للأثر دون الفرد الآخر، كما قُرّر في الإشكال، بل هما مجتمعان موضوعان للأثر، بدون أنيكون لوصف الاجتماع - أيضاً - تأثير في الموضوعيّة، ومن البديهيّ: أنّ الموضوع المركّب يمكن إحراز أحد جزأيه بالأصل، والآخر بالوجدان، كما في محلّ الكلام»(1).

وقد ادّعى المحقّق النائيني(قدس سرّه) في المقام أنّ الموضوع المركّب إذا كان من قبيل العرض والمحلّ، فالعرض بما هو نعت لمحلّه وبنحو مفاد كان الناقصة يكون دخيلاً في الموضوع، فاستصحاب الوجود المحموليّ لذلك العرض، أو عدمه المحموليّ، لا يثبت ما هو دخيل في الموضوع، إلّا على القول بصحّة الأصل المثبت، فكما أنّ استصحاب عدم القرشيّة - مثلاً - لا يُثبت الموضوع، فكذلك استصحاب عدم التذكية لا يُثبت صدق عنوان الميتة.

وفي ذلك يقول(قدس سرّه):

«أنّ الموضوع المركّب من عرضين لمحلٍّ واحد، أو من جوهرين، أو من جوهر وعرض لمحلٍّ آخر، كوجود زيد وقيام عمرو، لا يعتبر فيه

ص: 116


1- منتهى الاُصول 2: 451 - 452.

أزيد من الاجتماع في الزمان، إلّا إذا استفيد من الدليل كون الإضافة الحاصلة من اجتماعهما لها دخل في الحكم، كعنوان الحاليّة والتقارن والسبق واللّحوق ونحو ذلك من الإضافات الحاصلة من وجود الشيئين في الزمان.

ولكنّ هذا يحتاج إلى قيام الدليل عليه، وإلّا، فالموضوع المركّب من جزأين لا رابط بينهما إلّا الوجود في الزمان لايقتضي أزيد من اجتماعهما في الزمان، بخلاف ما إذا كان التركيب من العرض ومحلّه، كقيام زيد وقرشيّة المرأة ونحو ذلك من الموضوعات المركّبة من العرض ومحلّه، فإنّه لا يكفي فيه مجرّد اجتماع العرض والمحلّ في الزمان ما لم يَثبت قيام الوصف بالمحلّ»(1).

التنبيه الثاني: استصحاب الاُمور التدريجيّة غير القارّة:

اشارة

هل يجوز جريان الاستصحاب في التدريجيّات مع أنّها غير قارّة بالذات؟ وقبل الخوض في تفاصيل المطلب، لابدّ أوّلاً من تعريف الاُمور التدريجيّة وبيان ما هو المقصود منها.

لا يخفى: أنّ الاُمور التدريجيّة هي ما لا تجتمع أجزاؤها بعضها مع البعض في الوجود زماناً، بل لا يكاد يوجد جزء منها إلّا بعد انعدام

ص: 117


1- فوائد الاُصول 4: 434.

الجزء الذي قبله، كنفس الزمان، فإنّه إذا كان حصول ساعات الزمان على نحو التدريج، بحيث كان وجود كلّ ساعة من الزمان - وكذا كلّ مقطعٍ من مقاطع الزمان، سواء كان ساعةً أو يوماً أو شهراً أو عاماً أو غير ذلك - متوقّفاً على انعدام سابقتها، فكذلك - لا محالة - يكون الزمانيّ، كجريان الماء والتكلّم وأمثال ذلك، وتسمّى ﺑ (التدريجيّات) أو (الاُمور التدريجيّة)، وفي قبالها: ما يعرف ﺑ(الاُمور القارّة)، وهي التي تجتمع أجزاؤها بعضها مع بعض في الوجود زماناً.

وإن شئت قلت: إنّ التدريجيّات هي التي لا يكون لأجزائها تحقّق دفعيّ في آنٍ واحد، بل وجودها تدريجيّ الحصول، بحيث لا يوجد جزء منها إلّا بعد انعدام الجزء السابق عليه، من غير فرق بين أن تكون جوهراً، كزيد وعمرو وغيرهما من أفراد نوع الإنسان، أو عرضاً، كالعلم والعدالة والسواد والبياض ونحوها.

وحيث قد عرفنا أنّ التدريجيّات تشمل الزمان والزمانيّ، فلابدّ من البحث في جريان الاستصحاب في كلٍّ منهما أو عدم جريانه.

أمّا استصحاب نفس الزمان:

فقد يقال: بعدم جريانه؛ لأنّ الموضوع لا يكون واحداً في الحالتين، أعني: حالة اليقين وحالة الشكّ، بل هناك موضوعات متعدّدة بتعدّد أجزاء الزمان ومقاطعه، فلا يكون الشكّ شكّاً بالبقاء؛ لأنّ الجزء الأوّل قد انعدم قطعاً، ولا شكّ في بقائه حتى يجري فيه الاستصحاب، والجزء

ص: 118

الثاني مشكوك الحدوث، والأصل عدمه، لما عرفناه من أنّ وجود كلّ جزء من أجزاء التدريجيّات يكون وجوداً مستقلّ.

ومعه: فلا سبيل إلى اتّحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة؛ إذ لا حقيقة للموجود التدريجيّ إلّا أنّه عبارة عن وجودات وانعدامات متعدّدة ومتتالية، ويجب فيه أن يفرض عدم اجتماع أجزائه في الوجود، فذاته متقوّمة بالأخذ والترك، أي:بوجود جزء وانعدامه ثمّ وجود جزء آخر، وهكذا.. فاليقين قد تعلّق بجزء خاصّ، ولكنّه انعدم، والشكّ قد تعلّق بجزء آخر، فلا مجال لجريان الاستصحاب.

ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن جريان الاستصحاب فيه؛ لأنّ الزمان عبارة عن العناوين التي هي أسماء لقطعات من الزمان، كاليوم واللّيل والاُسبوع والشهر والسنة، وأركان الاستصحاب، من اليقين بوجودها والشكّ في بقائها موجود عرفاً وحقيقةً.

وذلك لانطباق هذه العناوين على قطعة من الزمان توجد بوجود الجزء الأوّل منه حقيقةً وتنعدم بوجود جزء آخر؛ لأنّ معنى التدريجيّة في الوجود كما عرفنا، هي أن يكون الشيء ممّا يوجد شيئاً فشيئاً، ولا يمكن أن يوجد دفعةً واحدة، وإلّا ، لزم الخلف، بل التسلسل، وأن يكون قارّاً، لا غير قارّ، وبما أنّ العدم مقوّم له - حيث إنّه مركّب من الوجود والعدم - فلا يمكن أن يكون رافعاً له، فحينما يتحرّك شخص من داره إلى المسجد - مثلاً -، فإنّ نفس حركته متقوّمة بالوجود والعدم

ص: 119

- وعدم الحركة كالتوقّف في الطريق مثلاً -، فيكون العدم دخيلاً في صميم الحركة، فلا يعقل أن يكون رافعاً لها.

والحاصل: أنّ الموضوع موجود حتى في الحقيقة وبحسب الدقّة العقليّة، فإذا كان هذا الموضوع ممّا يترتّب عليه الحكم الشرعيّ، وشككنا في بقائه، كاليوم من شهر رمضان، فيمكن استصحابه، لتكون النتيجة هي وجوب الإمساك.وإلى هذا ذهب اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه)، ثمّ قال:

«وإن أبيتَ إلّا عن عدم صدق البقاء في الموجودات غير القارّة بالدقّة العقليّة، فمن الواضح المعلوم أنّ في نظر العرف وجود هذه القطعات بوجود أوّل جزء منها، وبعد ذلك يحكمون ببقائها إلى وجود آخر جزءٍ منها وانتهائها، وسيأتي أنّ وحدة القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة، التي لا بدّ منها في جريان الاستصحاب وفي صدق نقض اليقين بالشك، تكون بنظر العرف، لا بالدقّة العقليّة»(1)، أي: فيكون جريان الاستصحاب في الاُمور غير القارّة كجريانه في الاُمور القارّة؛ وذلك لتماميّة أركانه.

وقد يستشكل فيه: بأنّ استصحاب النهار - مثلاً - لا يُثبت أكثر من وجود النهار، كما إذا فرضنا أنّ متعلّق الحكم قد أُخذ فيه الوقوع في

ص: 120


1- منتهى الاُصول 2: 453 - 454.

النهار، كالإمساك في باب الصوم، فإنّه يعتبر فيه أن يكون في النهار، فمع الشكّ في بقاء النهار، لا يجدي استصحاب النهار في إثبات وقوع الإمساك في النهار، فلو فرض أنّ وجود النهار كان موضوعاً للحكم من دون أن يتقيّد به متعلّقه، كان استصحاب النهار - حينئذٍ - مجدياً في إثبات الحكم.

ولكنّ الحقّ: أنّه بعد إثبات وجود النهار بالاستصحاب يثبت عليه الحكم بوجوب الصوم، فيجب عليه الإمساك رجاءً، وإن لم يحرز كون الزمان نهاراً، فإن كان الزمان نهاراً، فهو قدامتثل، وإلّا، فلا يضرّه شيء، فلا يكون الاستصحاب عديم الفائدة.

وبعبارة أُخرى: فإنّه يكفي استصحاب وجود النهار في شغل الذمّة والعقاب المحتمل؛ لاحتمال وجود الحكم بعد احتمال وجود النهار.

أو يمكن أن يقال: بأنّ استصحاب نهاريّة النهار كما يمكن استصحاب بقاء النهار بفرض الوحدة العرفيّة بين الأجزاء المتدرّجة في الوجود، فكذلك يمكن استصحاب نهاريّة الموجود، فإنّها من الأوصاف التدريجيّة كذات الموصوف بها، وتكون حادثة بحدوث الآنات وباقيةً ببقائها، فإذا اتّصف بعض هذه الآنات بالنهاريّة - مثلاً -، وشكّ في اتّصاف الزمان الحاضر بها، يجري الاستصحاب لإثبات بقاء النهاريّة الثابتة في الزمان السابق لغرض وحدة الموصوف، فيكون الشكّ شكّاً في بقاء النهاريّة.

ص: 121

وهذا الوجه هو من إفادات المحقّق العراقيّ(قدس سرّه)، حيث قال:

«إنّ ذوات الآنات المتعاقبة كما تكون تدريجيّةً، كذلك وصف الليليّة والنهاريّة الثابتة لها - أيضاً - تدريجيّة، تكون حادثة بحدوث الآنات وباقيةً ببقائها، فإذا اتّصف بعض هذه الآنات باللّيليّة أو النهاريّة، وشكّ في اتّصاف الزمان الحاضر باللّيليّة أو النهاريّة، فكما يجري الاستصحاب في نفس الزمان، ويدفع شبهة الحدوث فيما كان اسماً لمجموعما بين الحدّين، كذلك يجري الاستصحاب في وصف اللّيليّة أو النهاريّة الثابتة للزمان...»، إلى آخر ما أفاده«(1).

ولكن فيه: أنّ ما ذكره(قدس سرّه) إنّما يتمّ لو كان وصف النهاريّة أمراً آخر وراء ذوات الآنات، وأمّا لو لم يكن كذلك، فلا معنى لجريان الاستصحاب.

هذا كلّه في استصحاب نفس الزمان.

والكلام الآن في الزمانيّات غير القارّة، كالحركة والتكلّم (إلّا أن يقال بأنّ التكلّم من الاُمور القارّة كما كشف عنه العلم الحديث من ثبوت الأصوات) ممّا كان من الحوادث التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود، وفي الزمانيّات القارّة المقيّدة بالزمان، كالوقوف بالمشعر أو عرفات مقيّداً بكونه في زمان كذا، أي: من زوال يوم عرفة إلى الغروب

ص: 122


1- انظر: نهاية الأفكار 4: 148 - 149.

في عرفات، وبين طلوع الفجر وطلوع الشمس من يوم العيد في المشعر - مثلاً -.

أمّا الزمانيّات غير القارّة، فحالها حال الزمان نفسه، والإشكال الذي كان وارداً هناك، من عدم إحراز الشكّ بالبقاء جارٍ هنا بعينه، والجواب هو الجواب. فيقال - مثلاً -: الحيض الذي أقلّه ثلاثة وأكثره عشرة أيّام، يوجد بوجود الجزء الأوّل، ويبقى بقاءً حقيقيّاً إلى آخر جزء منه، فيمكن فيه جريان الاستصحاب.لا يقال: لا يمكن تصوّر البقاء الحقيقيّ هنا؛ لأنّه ما لم ينعدم جزء لا يوجد الجزء الآخر، وليس معنى بقاء الشيء إلّا وجود الشيء بتمامه وكماله في الآن الذي قبل ذلك الآن، ومثل هذا غير معقول في الاُمور غير القارّة.

فإنّه يقال: يكفي في ذلك البقاء العرفيّ، فإنّه هو المدار كما أسلفنا.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الشكّ في بقاء الاُمور التدريجيّة:

قد يكون من جهة الشكّ في وجود الرافع، كما إذا احتمل حدوث مانع ما من استمرار إلقاء خطابته بعدما أحرز قابليّة زمان الخطابة للاستمرار إلى زمان كذا، وشكّ قبل انتهاء الساعة في انقطاعها لمانع خارجيّ منعه من التكلّم والمقتضي عن دوام تأثيره فإنّه لا ينبغي الشكّ في جريان الاستصحاب في هذا القسم؛ لتماميّة أركانه.

وقد يكون من جهة الشكّ في استعداده للبقاء، وهو على قسمين: إذ

ص: 123

قد يكون منشأ الشكّ الجهل بالكميّة والمقدار، وقد يكون منشؤه احتمال أن يكون مقدار زائد على المقدار المعلوم:

فالأوّل: كما إذا كان الشكّ في جريان الماء أو سيلان الدم من جهة الشكّ في بقاء شيء من الماء في المنبع أو الدم في الرحم غير ما قد سال وجرى من كلٍّ منهما، وكذا في مثال الخطابة إذا كان الشكّ من جهة الشكّ في أنّ الخطيب هل كان له استعداد التكلّم والقراءة ساعةً أو أقلّ، وكذا في سائر أمثلة الاُمور التدريجيّة.والثاني: كما إذا كان شكّه في جريان الماء في المنبع من جهة احتمال أن يكون المقدار زائداً على المقدار المعلوم أوّلاً، واحتمل ورود مقدار آخر مقارناً لجريان هذا المقدار من المطر أو غيره فيه، وهذا ملحق بالشكّ في المقتضي؛ لأنّه ليس من قبيل الشكّ في المقتضي الاصطلاحيّ، وهو العلم بمقدار استعداد الماء للجريان في مدّة معيّنة، وكذلك فهو خارج عن الشكّ في الرافع.

وفي القسم الأوّل، لا يجري الاستصحاب؛ لأنّ الذي يجري فيه الاستصحاب إنّما هو الشكّ في البقاء، دون الشكّ في الحدوث، كما في المقام؛ لأنّ الشكّ هنا إنّما هو في جريان جزء آخر من الماء والدم والتكلّم غير ما وجد قبل ذلك وانعدم قطعاً، فالشكّ - حينئذٍ - تعلّق بالحدوث، لا بالبقاء، ومعلوم أنّ الشكّ المعتبر في الاستصحاب هو الشكّ في البقاء، دون الحدوث، فيشكل فيه جريان الاستصحاب.

ص: 124

وأمّا الثاني، فالاستصحاب فيه جارٍ، بعدما كان الجريان أمراً واحداً شخصيّاً، سواء كان عن المادّة المعلومة أوّلاً أم عن المادّة التي يحتمل زيادتها.

وبعبارة أُخرى: فإن قلنا بأنّ التكلّم أو السيلان يتبدّل من فرد إلى فرد، أو من شخص إلى شخص آخر، باختلاف الدواعي والأغراض، فهو يكون من القسم الأوّل من القسم الثالث من الاستصحاب، وأمّا لو فرض أنّ اختلاف الدواعي لا يضرّ أصلاً بالوحدة الشخصيّة، بمعنى: أنّ حدوث هذا الشخص بسبب داعٍ، وبقاءه بسببٍ آخر، فالعرف يرى بقاء ذلكالشخص، لا انعدامه وحدوث شخص آخر، وإن كان بالدقّة العقليّة كذلك، وحينئذٍ: فلا مانع من جريانه.

بل يمكن أن يقال - أيضاً -: هو من قبيل استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث، وذلك بأن يكون ما هو مقطوع بارتفاعه مرتبة منه، مع احتمال بقاء مرتبة ضعيفة أو قويّة مقامه، ومع كون العرف يساعد على ذلك، حيث إنّه - كما تقدّم - يرى وحدة القضيّة المشكوكة والمتيقّنة، فلا يكون هناك مانع من جريان الاستصحاب.

وأمّا الاُمور القارّة المقيّدة بالزمان، كوجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال، فنقول: تارةً: يكون الزمان ظرفاً للحكم، وأُخرى: يكون قيداً له.

أمّا في الصورة الاُولى، فلا يكون مانعاً من جريان استصحاب

ص: 125

الوجوب فيما بعد الزوال؛ لأنّ الجلوس - الذي هو الموضوع - لم يكن مقيّداً بشيء، بل كان مرسلاً، وكان مقطوع الوجوب، وإذا شكّ بعد الزوال في بقاء الوجوب يجري الاستصحاب.

وأمّا لو كان الزمان قيداً للحكم أو الموضوع، فلا يجري؛ لأنّ الجلوس بعد الزوال موضوع آخر غير الجلوس قبل الزوال، فيما إذا كان الجلوس مقيّداً بالزمان، كما هو مفروض.

ثمّ إنّه قد حكى الشيخ الأعظم(قدس سرّه)(1) عن الشيخ النراقي)، القول بتعارض استصحاب الوجود مع استصحاب العدمالأزليّ في محلّ الكلام، أي: فيما إذا كان الحكم الشرعيّ مقيّداً بالزمان، كما إذا ورد الدليل على وجوب الجلوس من يوم الجمعة من شهر كذا - مثلاً - إلى الزوال، ثمّ حصل الشكّ في بقاء ذلك الوجوب بعد الزوال.

فقال: إنّ استصحاب وجوب الجلوس فيما بعد الزوال معارض باستصحاب عدم وجوبه أزلاً في تحقّق تلك القطعة، فيكون واجباً باعتبار استصحاب الوجوديّ، ولكنّه غير واجب باعتبار استصحاب العدميّ، وقد ذكر لذلك أمثلة:

منها: إذا حصل الشكّ في بقاء وجوب الإمساك في اليوم الذي وجب فيه الصيام؛ لعروض مرض.

ص: 126


1- راجع: فرائد الاُصول 3: 208 - 210.

ومنها: ما إذا شكّ بعد خروج المذيّ في بقاء الطهارة الحدثيّة.

ومنها: إذا شكّ في بقاء النجاسة الخبثيّة بعد الغسل مرّة واحدة.

فهو) يقول في جميع هذه الموارد وأمثالها بتعارض استصحاب الوجوديّ مع استصحاب العدم الأزليّ.

ولكن قد تنظّر فيه المحقّق النائيني(قدس سرّه) بأنّ «الظاهر عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ مطلقاً، وإن أُخذ الزمان قيداً للحكم أو الموضوع؛ لأنّ العدم الأزليّ هو العدم المطلق الذي يكون كلّ حادث مسبوقاً به، وانتقاض هذا العدم بالنسبة إلى كلّ حادث إنّما يكون بحدوث الحادث وشاغليّته لصفحة الوجود، فلو ارتفع الحادث بعد حدوثه وانعدم بعد وجوده،فهذا العدم غير العدم الأزليّ، بل هو عدم آخر بعد وجود الشيء...»(1).

وبعبارة أُخرى: فإنّ العدم الأزليّ والمطلق والذي هو نقيض وجود كلّ شيء ينقض بوجود ذلك الشيء؛ لأنّ وجود كلّ شيء رفعه، فبوجود كلّ شيء، الذي هو نقيض العدم المطلق، يرتفع ذلك العدم المطلق، الذي هو عبارة أُخرى عن العدم الأزليّ، وإلّا، يلزم اجتماع النقيضين، فإذا كان العدم الأزليّ مقطوع الارتفاع فكيف يستصحب؟(قدس سرّه)

ص: 127


1- فوائد الاُصول 4: 445.

التنبيه الثالث: في الاستصحاب التعليقيّ والتنجيزيّ:

اشارة

ولابدّ قبل الشروع في بيان حكم هذا الاستصحاب صحّة أو عدماً من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

في أنّه ما هو الفرق بين الاستصحابين: التنجيزيّ والتعليقيّ.

أمّا الاستصحاب التنجيزيّ، فالمراد به الاستصحاب في مورد ما لو كان للأمر المشكوك بقاءً وجود فعليّ تنجيزيّ في السابق يشكّ في أنّه باقٍ أم أنّه قد زال، كالماء - مثلاً - إذا تغيّر بالنجاسة، وزال تغيّره من قبل نفسه، وشكّ في بقاء نجاسته بعد الزوال.وأمّا الاستصحاب التعليقيّ، فهو ما لو كان للأمر المشكوك في بقائه وجود تقديريّ، وليس له وجوب فعليّ، كحرمة العنب على تقدير غليانه إذا شكّ فيها - أي: الحرمة - بعد تبدّله إلى زبيب.

وبعبارة أُخرى: فالاستصحاب التعليقيّ هو أن يتبدّل جزء من الموضوع بجزء آخر، فإنّ الحرمة في العصير العنبيّ موضوعها مركّب من العنب والغليان، المعبّر عنه بمثل قولك: العصير العنبيّ إذا غلى يحرم.

وأمّا لو فرض تغيّر جزء الموضوع، كما لو يبس العنب وأصبح زبيباً قبل الغليان، فهذا هو مورد الاستصحاب التعليقيّ، فهل يجري استصحاب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان، ويترتّب

ص: 128

عليه نجاسة الزبيب عند غليانه، إذا فُرض أنّ وصف الزبيبيّة والعنبيّة من حالات الموضوع لا أركانه.

والحاصل: أنّ الاستصحاب التعليقيّ هو استصحاب الحكم الثابت على الموضوع بشرط بعض ما يلحقه من التقادير، وبعد وجود المشروط وتبدّل بعض حالاته قبل وجود الشرط، كما مثّلنا باستصحاب بقاء الحرمة للعنب عند صيرورته زبيباً قبل فرض غليانه.

الأمر الثاني:

أنّه يشترط في الاستصحاب الوجوديّ أن يكون المستصحب شاغلاً لصفحة الوجود في أيّ وعاء كان، سواء كان وعاء العين والخارج أم وعاء الاعتبار، وأمّا التعبّد ببقاء شيء لاوجود له فغير معقول كما هو ظاهر. كما أنّه يعتبر في الاستصحاب - أيضاً - أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً ذا حكم شرعيّ؛ ضرورة أنّه لا معنى للتعبّد بالموضوعات التي لا يترتّب على بقائها أثر وحكم شرعيّ.

الأمر الثالث:

الأسماء والعناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام يُفهم من نفس الدليل أو من الخارج أنّها لها دخل في موضوع الحكم، وأنّها تمام الموضوع، بحيث يدور الحكم مدار بقائها، كما إذا ترتّب الحكم بالإباحة والطهارة على العلم بعنوان الحنطة، فإنّ هذا الحكم لا يبقى بتحوّل الحنطة إلى دقيق، ولو كانت حقيقتهما شيء واحد.

ص: 129

وبعبارة ثانية: فإنّ الحكم تارةً: يدور مدار الأسماء والعناوين، كما إذا استفدنا من نفس الدليل، أو من خارج، أنّ لها دخلاً في موضوع الحكم بحيث يكون الحكم دائراً مدار بقاء هذا العنوان، فحينئذٍ: يرتفع الحكم بارتفاعه، ولو مع بقاء الحقيقة، كما إذا فرضنا أنّ لبقاء عنوان الحنطة دخلاً في الحكم بالإباحة والطهارة، فيرتفع الحكم بهما إذا أصبحت الحنطة دقيقاً أو خبزاً.

وأُخرى: يستفاد من دليل الحكم أو من خارج عدم دخل الوصف العنوانيّ في موضوع الحكم، بل يكون الحكم مترتّباً على نفس الحقيقة والذات المحفوظة في جميع التغيّرات والتقلّبات والواردة على الحقيقة، والتي توجب تبدّل ما كانلها من العنوان والاسم إلى عنوان واسمٍ آخر مع انحفاظ الحقيقة وبقائها.

ففي هذه الصورة، يقال: بأنّ الحكم لا يدور مدار الاسم، بخلاف الصورة الاُولى، حيث كان الحكم فيها مترتّباً على العنوان فقط، فإذا زال العنوان، فلا يجوز ترتّب بقاء الحكم مع زوال الوصف العنوانيّ.

وأمّا في صورة كون الحكم وارداً ومترتّباً على الذات نفسها، فالموضوع باقٍ، ولو بعد زوال الوصف العنوانيّ، فيجب ترتّب بقاء الحكم، مهما كان الذي جرى من التغيّرات والتبدّلات.

هذا في صورة ما إذا علم بدخول الوصف العنوانيّ في الحكم أو بعدم دخوله.

ص: 130

وأمّا اذا جهل ذلك ولم يعلم من نفس الدليل أو من خارج بمدخليّة الوصف والعنوان في ترتّب الحكم عليه ولا بعدمه، بل يشكّ في ذلك، فهذا يتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن تكون الحالات الواردة على الحقيقة متباينة بنظر العرف، بحيث تكون الذات الواجدة لعنوان خاصّ مباينةً للذات الفاقدة له، وكان الوصف العنوانيّ بنظر العرف مقوّماً للحقيقة والذات، فإذا ارتفع العنوان عن الذات فيكون موجباً - عندهم - لانعدام حقيقة هذه الذات، وحينئذٍ: فلابدّ من الاقتصار على نفس العنوان الذي أُخذ عنواناً للموضوع والذي جُعل الحكم دائراً مداره، ولا يجوز التعدّي عنه؛ لأنّ الذات الفاقدة للعنوان تكون مباينةًللواجدة، ولا تكون محلّاً للاستصحاب؛ لأنّه يلزم تسرية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

وأمّا إذا لم تكن المراتب المتبادلة في نظر العرف موجبة لتبدّل الحقيقة والذات عرفاً، بل كانت المراتب من الحالات التي لا يضرّ تبادلها في صدق بقاء الحقيقة، وكانت الذات باقيةً عرفاً، ففي مثل ذلك يجري استصحاب بقاء الحكم، ويثبت له البقاء في الحالات المتبادلة، ولا يضرّ في جريان الاستصحاب عدم وجود العنوان والاسم بعد بقاء الحقيقة، ولو كان قد أُخذ في ظاهر الدليل عنواناً للموضوع.

ص: 131

فإن قلت: إنّه مع صدق اسم المتيقّن لا نحتاج إلى الدليل وإلى الاستصحاب، بل يكفي في ثبوت الحكم للمشكوك نفس الدليل الذي رتّب الحكم فيه على المسمّى بالاسم.

قلنا: بل لا يكفي ذلك، بل نحتاج معه إلى التمسّك بالاستصحاب؛ إذ يمكن أن لا يكون لدليل الحكم إطلاق يعمّ صورة تبدّل الحالة التي لا تضرّ ببقاء الاسم والعنوان، فنحتاج لذلك في إثبات الحكم مع تبدّل بعض حالات الموضوع إلى الاستصحاب.

وبالجملة: فإنّ الثابت لدينا في المقام بناءً على ما ذكرناه أمران:

أوّلهما: ما يرتبط بمقام الجعل، وهو الحكم المنشأ على الموضوع الكلّيّ، فهذا لا يرتبط بوجود الموضوع في الخارج، بل هو ممّا لا شكّ في بقائه، فإنّه متحقّق ولو لم يكن هناك موضوع، وسواء وجد العنوان أم لم يوجد.والثاني: ما هو راجع إلى مقام الفعليّة، وهو الحكم الفعليّ الذي يثبت عند وجود موضوعه بشرائطه. ومعلوم أنّ هذا الحكم لا يقين بحدوثه قبل أن يتعلّق بمتعلّقه فعلاً، فلا يكون قابلاً للاستصحاب قبل ذلك.

الأمر الرابع:

لا يخفى: أنّ المستصحب تارةً يكون حكماً شرعيّاً، وأُخرى يكون موضوعاً لحكم شرعيّ، فإن كان حكماً شرعيّاً، فهو تارةً يكون كلّيّاً وأُخرى جزئيّاً.

ص: 132

والفرق بين الحكم الكلّيّ والجزئيّ، هو أنّ الأوّل هو الحكم المنشأ الوارد على الموضوع المقدّر وجوده على نحو القضايا الحقيقيّة، كقضيّة «الخمر حرام» فإنّها بحيث إنّه حتى لو لم يوجد فرد للخمر في الخارج، فمع ذلك، يكون الخمر حراماً، وكوجوب الحجّ الذي تمّ إنشاؤه منذ الأزل على المستطيع.

وأمّا الثاني، وهو الحكم الجزئيّ، فهو الحكم الثابت على موضوعه عند تحقّق الموضوع خارجاً، والذي يوجب فعليّة الحكم، كما في وجوب الحجّ الذي لا يكون فعليّاً إلّا بوجود زيد المستطيع.

ثمّ إنّ الشكّ في بقاء الحكم الجزئيّ لا يتصوّر إلّا إذا عرض لموضوعه الخارجيّ ما يشكّ معه في بقاء الحكم، كما إذا زال التغيّر بنفسه فلا إشكال في صحّة استصحابه.

وأمّا الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ، فهو يتصوّر على وجوه:الوجه الأوّل: الشكّ في بقائه من جهة احتمال النسخ، أي: إزالة ما كان ثابتاً من الحكم بنصٍّ شرعيّ، كما إذا شكّ في نسخ الحكم الكلّيّ المجعول على موضوعه المقدّر وجوده، فيستصحب بقاء الحكم الكلّيّ المترتّب على موضوعه.

ونظير استصحاب بقاء الحكم عند النسخ: استصحاب الملكيّة في العقود العهديّة التعليقة، كعقد الجعالة والسبق والرماية؛ فإنّ المالك ينشأ ملكيّة العوض في هذه العقود على تقدير خاصّ، كردّ الضالّة في

ص: 133

عقد الجعالة، وتحقّق السبق في عقد السبق، وإصابة الهدف في عقد الرماية، فإنّ الملكيّة المنشأة في هذه العقود تشبه الأحكام المجعولة على الموضوعات المقدّرة، كالوجوب للمستطيع.

فلو شككنا في أنّ عقد السبق والرماية هل هو من العقود اللّازمة التي لا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين - والمراد من العقود اللّازمة ما هو من قبيل البيع، فإنّ المنشأ فيه الملكيّة المنجّزة دون التعليقيّة - أو من العقود الجائزة التي تنفسخ بذلك، فحيث إنّ الحكم هناك ينشأ من قبل العاقد على تقدير خاصّ، كما عرفنا، فيجري استصحاب بقاء الملكيّة المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدين في الأثناء قبل تحقّق السبق أو إصابة الرمي، تماماً كما يجري الاستصحاب لإثبات بقاء الملكيّة المنشأة في العقود التنجيزيّة عند الشكّ في لزومها وجوازها.وقد ذهب الشيخ الأعظم(رحمة الله)(1) إلى المنع من جريان الاستصحاب في باب العقود التعليقيّة، مع أنّه قائل بجريان الاستصحاب التعليقيّ في مثل العنب والزبيب.

ص: 134


1- انظر: المكاسب 5: 23 - 24، قال): «ولم يُعلم وجه صحيح لتقرير هذا الأصل، نعم، هو حسن في خصوص عقد المسابقة وشبهه ممّا لا يتضمّن تمليكاً أو تسليطاً، ليكون الأصل بقاء ذلك الأثر وعدم زواله بدون رضا الطرفين». ثمّ قال): «لكنّ الاستصحاب المذكور إنّما ينفع في إثبات صفة اللّزوم، وأمّا تعيين العقد اللّازم حتى يترتّب عليه سائر آثار العقد اللّازم، كما إذا أُريد تعيين البيع عند الشكّ فيه وفي الهبة، فلا».

ولكنّ الحقّ: جريانه؛ لأنّ حال الملكيّة المنشأة فيها حال الأحكام المنشأة على موضوعاتها، فكما يصحّ استصحاب بقاء الحكم عند الشكّ في نسخه، ولو قبل فعليّته بوجود الموضوع خارجاً، فكذلك يصحّ استصحاب بقاء الملكيّة المعلّقة عند الشكّ في بقائها، ولو قبل فعليّتها، بفعليّة السبق وإصابة الرمي وتحقّقهما خارجاً.

والوجه الثاني: الشكّ في بقاء الحكم على موضوعه المقدّر وجوده عند فرض بعض حالات الموضوع، كما لو شكّ في بقاء النجاسة في الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من قبل نفسه، ولا شكّ في جريان استصحاب بقاء الحكم في هذا الوجه أيضاً، بل هذا القسم من استصحاب الحكم الكلّيّ هو الذي تعمّ به البلوى.

والفرق بين هذا الوجه من استصحاب الكلّيّ وبين الوجه الأوّل معلوم، وهو أنّ الشكّ في الوجه الأوّل إنّما كان من جهة الشكّ في النسخ وعدمه، ولا يتوقّف حصول الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ على فرض وجود الموضوع خارجاً وتبدّل بعض حالاته.وأمّا في الوجه الثاني، فالشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ لا يمكن إلّا بعد فرض وجود الموضوع خارجاً وتبدّل بعض حالاته؛ لوضوح أنّه لولا فرض وجود الماء المتغيّر بالنجاسة والزائل عنه التغيير، فلا يعقل الشكّ في بقاء النجاسة، فلابدّ حينئذٍ - من فرض وجود الموضوع ليمكن حصول الشكّ في بقاء حكمه عند فرض تبدّل بعض حالاته.

ص: 135

ولكن الشكّ هنا لا يتوقّف على فعليّة وجود الموضوع خارجاً، فإنّ حصول الشكّ في بقاء الحكم الجزئيّ هو ما يتوقّف على فعليّة وجود الموضوع، وأمّا الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ، فيكفي فيه فرض وجود الموضوع، فالوجهان الأوّل والثاني يشتركان من جهة أنّ المستصحب فيهما يكون حكماً كلياً. ويفارق الثاني الأوّل في أنّه متوقّف على حصول الشكّ فيه على فرض وجود الموضوع، بخلاف الأوّل.

والوجه الثالث - من الوجوه التي يمكن تصوّرها في الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ -: هو الشكّ في بقاء الحكم المترتّب على موضوع مركّب من جزأين عند فرض أحد جزأيه، وتبدّل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر، كما إذا شكّ في بقاء الحرمة والنجاسة المترتّبة على العنب على تقدير الغليان عند فرض وجود العنب وتبدّله إلى الزبيب قبل غليانه. فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان، ويترتّب عليه نجاسة الزبيب عند غليانه إذا فرض أنّ وصفالعنبيّة والزبيبيّة كان من جملة حالات الموضوع، لا من أركانه.

وهذا القسم من الاستصحاب هو الاستصحاب التعليقيّ المصطلح عليه، والمراد به أن يستصحب الحكم بعد وجود المشروط وتبدّل بعض حالاته قبل وجود الشرط، كاستصحاب بقاء الحرمة للعنب عند صيرورته زبيباً قبل فرض غليانه.

ص: 136

وقد وقع الكلام بينهم في جريان هذا الاستصحاب أو عدم جريانه، فهنا قولان:

وأقواهما: عدم الجريان؛ لأنّ الموضوع إذا أصبح مركّباً من جزأين، فالحكم لا يترتّب عليه إلّا بعد وجوده بكلا جزأيه، بل بجميع ما له من الأجزاء والشرائط؛ لأنّ نسبة الحكم إلى الموضوع هي بمثابة نسبة العلّة إلى المعلول، فكما أنّه لا معنى لتقدّم المعلول على علّته، فلا معنى - أيضاً - لتقدّم الحكم على موضوعه.

والموضوع للنجاسة أو الحرمة في مثال العصير العنبيّ إنّما كان مركّباً من جزأين، هما: العنب والغليان، بلا فرقٍ بين ما إذا أخذ الغليان وصفاً للعنب، كما إذا قلت: (العنب المغليّ يحرم)، أو شرطاً، كما لو قيل: (العنب إذا غلى يحرم)؛ لأنّ مردّ الشرط ومرجعه إلى الموضوع، وهذا كما أنّ الشرط في وجوب الحجّ، وهو الاستطاعة، يرجع - كما تقدّمت إليه الإشارة - إلى الموضوع، ليكون مفاد قولك: (حجّ إذا استطعت) - مثلاً -، أي: (أيّها المستطيع حجّ).بل لنا أن نزيد على ذلك بالقول: بأنّ المنع عن جريان الاستصحاب التعليقيّ لا يتوقّف على رجوع الشرط إلى الموضوع، بل يكفي في هذا المنع أن يكون الشرط علّة لحدوث النجاسة والحرمة للعنب، فإنّه مع عدم الغليان لا نجاسة ولا الحرمة؛ لانتفاء المعلول بانتفاء علّته، كانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، غاية الأمر: أنّه في الموضوع يدور بقاء

ص: 137

الحكم - أيضاً - مدار بقائه، وفي العلّة يمكن أن يكون لها دخل في الحدوث فقط، دون البقاء. فلا يجري الاستصحاب التعليقيّ.

نعم، الأثر المترتّب على أحد جزأي المركّب هو أنّه لو انضمّ إليه الجزء الآخر لترتّب عليه الأثر، وهذا المعنى عقليّ، كما أنّه مقطوع البقاء في كلّ مركّب وجد أحد جزأيه، فلا معنى لاستصحابه.

وبالجملة: فإذا شكّ في بقاء الحرمة والنجاسة الواردين على العنب المغليّ، فيمكن إجراء هذا الاستصحاب بوجهين:

الأوّل: فيما إذا شكّ في رفع الحرمة والنجاسة من جهة الشكّ في النسخ.

والثاني: الشكّ في بقائها عند تبدّل بعض حالات الموضوع بعد وجود العنب المغلي بكلا جزأيه، كما ذا شكّ في بقائهما عند ذهاب ثلثيه.

وفي هذين الوجهين، لا إشكال في جريان استصحاب بقائهما، ولكنّ هذا الاستصحاب ليس داخلاً في الاستصحاب التعليقيّ في نظر من يقول به، بمعنى: أنّه ليس هو مرادالقائل بالاستصحاب التعليقيّ. ولكنّنا لا نتصوّر صحّة جريان الاستصحاب عند الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة في غير هاتين الصورتين، فالقائل بالاستصحاب التعليقيّ إن كان قائلاً به بمعنىً لا يرجع إلى استصحاب عدم النسخ، ولا إلى استصحاب الحكم على تقدير وجود الموضوع بجميع ما له من الأجزاء والقيود وتبدّل بعض حالاته ممّا لا يرجع إلى معنىً محصّل.

ص: 138

وقد يقال: يمكن جريان الاستصحاب بوجه آخر لا يرجع إلى الوجهين الأوّلين، بتقريب: أنّنا نستصحب بقاء الحرمة والنجاسة التقديريّين؛ فإنّ العنب قبل غليانه، وإن لم يكن معروضاً للحرمة أو النجاسة الفعليّة حيث لم يتحقّق شرط موضوعها، إلّا أنّه كان معروضاً للحرمة والنجاسة التقديريّة؛ إذ يصدق على العنب متى ما وُجد أنّه حرام أو نجس عند الغليان.

وعلى تقديره، فتكون الحرمة والنجاسة التقديريّة ثابتتين عند صيرورة العنب زبيباً، ووجوده في الخارج على هذه الصفة، فيشكّ في بقاء النجاسة والحرمة التقديريّة بعدما كان عنوان العنبيّة والزبيبيّة من حالات الموضوع، لا من مقوّماته وأركانه، فعدم الغليان إنّما يمنع عن حصول الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة الفعليّة واستصحابهما، لا عن الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة التقديريّة واستصحابهما.

ولكنّ الحقّ: أنّ هذا الاستصحاب غير جارٍ في المقام، إذ لا معنى لاستصحاب الحرمة والنجاسة الفرضيّتين التقديريّتين؛إذ ليست الحرمة والنجاسة الفرضيّة في العنب غير المغليّ إلّا عبارة عن أنّ العنب لو انضمّ إليه الغليان لترتّبت عليه النجاسة والحرمة، وهذه القضيّة التعليقيّة لا يمكن استصحابها؛ وذلك لأنّها، مضافاً إلى كونها من القضايا العقليّة؛ لأنّها ليست سوى لازمٍ يترتّب على جعل الحكم على موضوعه المركّب الذي وجد أحد جزأيه، فهي مقطوعة البقاء لا مشكوكته.

ص: 139

وقد ذهب صاحب الكفاية(قدس سرّه) إلى القول بإمكان جريان هذا الأصل؛ حيث قال:

«وتوهّم أنّه لا وجود للمعلّق قبل وجود ما عُلِّق عليه، فاختلّ أحد ركنيه، فاسد؛ فإنّ المعلّق قبله إنّما لا يكون موجوداً فعلاً، لا أنّه لا يكون موجوداً أصلاً، ولو بنحو التعليق، كيف؟(قدس سرّه) والمفروض أنّه مورد فعلاً للخطاب بالتحريم - مثلاً - أو الإيجاب، فكان على يقينٍ منه قبل طروء الحالة، فيشكّ فيه بعده، ولا يعتبر في الاستصحاب إلّا الشكّ في بقاء شيءٍ كان على يقين من ثبوته، واختلاف نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتاً في ذلك.

وبالجملة: يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم فيما أُهمل أو أُجمل، كان الحكم مطلقاً أو معلّقاً، فببركته يعمّ الحكم للحالة الطارئة اللّاحقة كالحالة السابقة، فيحكم - مثلاً - بأنّ العصير الزبيبيّ يكون على ما كان عليه سابقاً في حال عنبيّته، من أحكامه المطلقةوالمعلّقة لو شكّ فيها، فكما يحكم ببقاء ملكيّته، يحكم بحرمته على تقدير غليانه»(1).

وحاصله: أنّ للحكم المعلّق نحو وجود في مقابل العدم المطلق، ولا دليل على اعتبار أزيد من هذا الوجود للمستصحب في الاستصحاب

ص: 140


1- كفاية الاُصول: 411.

الوجوديّ، فلو شكّ - مثلاً - في سقوط حدّ شرب الخمر بالتوبة قبل قيام البيّنة عليه، فلا مانع من استصحاب وجوب الحدّ المعلّق على عدم التوبة، فأيّ مانع من استصحاب هذا الحكم المعلّق إذا شكّ في بقائه ولم يكن الشكّ فيه لأجل الشكّ في النسخ، بل كان شكّاً ناشئاً من عروض حالة طارئة هي أوجبت الشكّ، كالتوبة في المثال، فالكلام كلّ الكلام، في أنّ التعليق في الأحكام لأجل منعه عن فعليّة وجود الحكم المعلّق، فهل يكون مانعاً من جريان الاستصحاب أم لا؟

ولكن قد عرفت أنّ للحكم المعلّق قبل حصول المعلّق عليه نحو وجود، ونحو وجوده هذا يوجب صحّة جريان الاستصحاب فيه لو شكّ في بقائه.

وخالفه المحقّق النائيني(قدس سرّه)، فذهب إلى نفي جريان الاستصحاب في الحكم التعليقيّ، ومحصّل ما أفاده:

أنّ للحكم مقامين: مقام الجعل، وهو جعل الحكم الكلّيّ على الموضوع الكلّيّ، ومقام المجعول، وهو الحكم الفعليّ الحاصل بحصول موضوعه بأجزائه وقيوده. والشكّ في بقاءالحكم بلحاظ مقام الجعل والفعليّة في الحكم التعليقيّ غير متصوّر؛ لأنّ المفروض عدم كون الحكم فعليّاً؛ لعدم تحقّق كلا جزأي الموضوع، فليس ثمّة يقين بالحدوث، وليس للحكم التعليقيّ مقام آخر يتصوّر جريان الاستصحاب بلحاظه.

ص: 141

وبالجملة: فإنّ ما له ثبوت فعليّ، وهو الجعل، لا شكّ فيه، وما هو مورد الشكّ، وهو المجعول، فلا يقين بحدوثه(1).

والحقّ ما ذكره(قدس سرّه)؛ لأنّ الكلام تارةً في مقام الجعل، وهو الحكم المنشأ على الموضوع الكلّيّ، فهذا لا يرتبط بفرض وجود الموضوع أصلاً، وهو ممّا لا شكّ في بقائه، وجد العنب أم لا، وأُخرى في مقام الفعليّة، وهو الحكم الفعليّ الذي ثبت عند وجود موضوعه بشرائطه، وهو ممّا لا يقين هناك بحدوثه قبل تعليق المعلّق، فلا يكون قابلاً للاستصحاب.

وقد وافق المحقّق العراقي(قدس سرّه) - أيضاً - على إنكار جريان الاستصحاب المذكور، ولكنّه قرّبه بشكل آخر، ملخّصه:

ص: 142


1- فوائد الاُصول 4: 466 - 467. وإليك نصّ كلامه): «وفي جريان استصحاب الحكم في هذا الوجه وعدم جريانه قولان: أقواهما: عدم الجريان؛ لأنّ الحكم المترتّب على الموضوع المركّب إنّما يكون وجوده وتقرّره بوجود الموضوع بما له من الأجزاء والشرائط؛ لأنّ نسبة الحكم إلى الموضوع نسبة العلّة إلى المعلول، ولا يعقل أن يتقدّم الحكم على موضوعه، والموضوع للنجاسة أو الحرمة في مثال العنب إنّما يكون مركّباً من جزأين: العنب والغليان، من غير فرقٍ بين أخذ الغليان وصفاً للعنب، كقوله: (العنب المغليّ يحرم وينجس)، أو أخذه شرطاً له، كقوله: (العنب إذا غلى يحرم وينجس)؛ لأنّ الشرط يرجع إلى الموضوع، ويكون من قيوده لا محالة؛ فقبل فرض غليان العنب لا يمكن فرض وجود الحكم، ومع عدم فرض وجود الحكم لا معنى لاستصحاب بقائه؛ لما تقدّم من أنّه يعتبر في الاستصحاب الوجوديّ أن يكون للمستصحب نحو وجود وتقرّر في الوعاء المناسب له؛ فوجود أحد جزأي الموضوع المركّب، كعدمه، لا يترتّب عليه الحكم الشرعيّ ما لم ينضمّ إليه الجزء الآخر».

أنّ حقيقة الحكم التكليفيّ ليست إلّا الإرادة والكراهة المبرزة والمظهرة، فهو ليس بأمر مجعول، كالأحكامالوضعيّة، وإنّما هو أمر واقعيّ تكوينيّ يترتّب عليه الأثر العقليّ والعقلائيّ عند إبرازه.

وهذا نصّ كلامه(قدس سرّه):

«حقيقة الأحكام التكليفيّة المستفادة من الخطابات الشرعيّة ليست إلّا الإرادة التشريعيّة المبرزة بأحد مظهراتها، من القول أو الفعل، وأنّ عنوان مثل البعث والتحريك والإيجاب والوجوب ونحوها من العناوين، اعتباريّات محضة منتزعة من مقام إبراز الإرادة، حيث إنّه بإبراز المولى إرادة شيء واشتياقه إليه بإخبارٍ أو إنشاء من قولٍ أو فعل، ينتزع العقل من إرادته المبرزة منه عنوان البعث والوجوب واللّزوم، كلّ باعتبارٍ خاصّ، لا أنّها هي الأحكام التكليفيّة المستفادة من الخطابات، ولذا ترى صحّة انتزاع تلك العناوين بمحض وصول إرادة المولى إلى مقام البروز بإنشائه أو إخباره، ولم يخطر ببال المولى التسبّب بإنشائه إلى تحقّق تلك العناوين.

وبذلك قلنا: إنّ الأحكام التكليفيّة بحقيقتها، التي هي الإرادة التشريعيّة المظهرة بأحد مظهراتها، أجنبيّة بجميع مباديها عن الجعليّات المتصوّرة في باب الأوضاع؛ لأنّ الحقائق الجعليّة عبارة عن اُمور اعتباريّة قوام تحقّقها في الوعاء المناسب لها بالإنشاء والقصد، بحيث كان الإنشاء والقصد من قبيل الجزء الأخير من العلّة التامّة لتحقّقها، نظير الملكيّة

ص: 143

والزوجيّة ونحوهما؛ فإنّ روح الجعل فيها عبارة عن تكوين حقائقها بالإنشاء والقصد بحيث لولا قصدالتسبّب بإنشائها إلى تحقّقها في الوعاء المناسب لها لما كان لها تحقّق أصلاً، فكان الجعل والإنشاء فيها واسطة بينها وبين إرادتها.

وهذا المعنى غير متصوّر في الأحكام التكليفيّة، لا بالنسبة إلى نفس الإرادة؛ لأنّها أمر واقعيّ تدور في تحقّقها مدار تحقّق مباديها، من العلم بالمصلحة والعزم والجزم، ولا بالنسبة إلى حيث إبرازها بإنشاء أو إخبار؛ لكونها من الاُمور المتأصّلة الخارجيّة، ومن مقولة الفعل، فلم يبق إلّا مرحلة البعث والتحريك والوجوب، وقد عرفت أنّ هذه اُمور اعتباريّة انتزاعيّة ينتزعها العقل من مجرّد إبراز الإرادة من المولى، فلا ترتبط بالحقائق الجعليّة»(1).

ولكنّ ما ذكره(قدس سرّه) غير تامّ؛ لأنّ الحكم ليس هو مجرّد حصول الإرادة للمولى، بل المولى يقوم بجعل الحكم واعتباره، وبعد الجعل يصبح له وجود واقعيّ في ظرفه.

وأمّا المحقّق الأصفهانيّ(قدس سرّه)، فقد اختار القول التفصيل في إجراء الاستصحاب في الحكم الإنشائيّ بين ما إذا كان الشرط، كالغليان، قيداً للموضوع، بحيث كان الموضوع هو العنب المغليّ، فلم يُلحظ

ص: 144


1- نهاية الأفكار 4: 163 - 164.

في الموضوع إلّا تقدير واحد، وهو تقدير العنب المغليّ، وبين ما إذا كان شرطاً للحكم، لا من قيود الموضوع، بحيث كان الموضوع هو العنب.فهنا تقديران: أحدهما: تقدير العنب، والثاني: تقدير الغليان. فعلى الأوّل: لا يجري الاستصحاب؛ لعدم ثبوت الحكم لذات العنب قبل الغليان؛ لأنّه مضاف إلى العنب المغليّ، والعنب ليس محكوماً بالحرمة الإنشائيّة ولا الفعليّة. وأمّا على التقدير الثاني، فيجري؛ لأنّ الحكم ثابت لذات العنب ومضاف إليه، وإن اُخذ الغليان شرطاً له، لكنّه مضاف إلى ذات العنب، لا إلى العنب المغليّ، فيقال - مثلاً -: يحرم العنب إذا وجد وإذا غلا، فقد جُعلت الحرمة مضافةً إلى ذاته، فمع وجوده تثبت له الحرمة، فيمكن استصحابها عند تبدّل الوصف - مثلاً - إلى الزبيبيّة.

قال(قدس سرّه):

«إن كان الوجوب الشرطيّ التعليقيّ - أو الحرمة كذلك - مرتّباً على الموضوع المتقيّد بما يسمّى شرطاً، كما إذا قلنا بأنّ مرجع قوله: (يحرم العصير العنبيّ إذا غلا) إلى حرمة العصير المغليّ، وأنّ تعليقها باعتبار ترتّبها على موضوع مقدّر الوجود، وأنّ فعليّتها بفعليّة موضوعها، فحينئذٍ: لا مجال لاستصحاب الحرمة المعلّقة، حيث لا شكّ في عدم ارتفاع الحرمة الكلّيّة عن موضوعها؛ إذ ليس الكلام في نسخها، بل الكلام في ارتفاع الحرمة الفعليّة بفعليّة موضوعها.

ص: 145

ومن الواضح: أنّه قبل تبدّل العنبيّة إلى الزبيبيّة، لم يكن الموضوع وهو العصير المغليّ فعليّاً لتكون له حرمةفعليّة فيستصحب، وبعد التبدّل وحصول الغليان، يشكّ في حرمته فعلاً...»

إلى أن قال:

«وإن كان الحكم التعليقيّ حكماً معلّقاً على الشرط حقيقةً، زيادةً على تعليقه على موضوعه المقدّر وجوده، فموضوع الحرمة هو العصير في حالة العنبيّة، والغليان شرط للحكم، لا جزء الموضوع، والحكم المشروط، وإن لم يكن فعليّاً قبل حصول شرطه، كما هو التحقيق، إلّا أنّ الشكّ ليس في بقاء الحكم الإنشائيّ الكلّيّ لموضوعه الكلّيّ، بل الحكم الإنشائيّ المنطبق على هذا الموضوع الجزئيّ، وإن كانت فعليّته منوطةً شرعاً بوجود شرط فعليّته». انتهى موضع الحاجة(1).

وما أفاده) - أيضاً - غير تامّ؛ لأنّ الحكم الإنشائيّ لم يرد على الفرد الخارجيّ، بل إنّما ورد على الطبيعة والكلّيّ، وهو لا يضاف إلى الفرد الخارجيّ إلّا باعتبار كونه مصداقاً من مصاديق الكلّيّ.

ولا يخفى: أنّ القضايا الخارجيّة لابدّ فيها من وجود موضوعها خارجاً، ولا فعليّة للحكم إذا كان مجعولاً على نهج القضايا الخارجيّة

ص: 146


1- نهاية الدراية 3: 203 - 204.

قبل وجود موضوعه خارجاً، وأمّا القضايا الحقيقيّة، فحيث إنّ الحكم فيها لا يرد إلّا على الموضوع المفروض الوجود، سواء كان موجوداً ومتحقّقاًبالفعل، أم كان سيوجد، وسواء قُدِّر له أن يوجد في الخارج أم لم يقدّر له ذلك أصلاً، وبما أنّ تمام الموضوع في هذه القضايا إنّما هو تقدير وجود الموضوع، بلا دخل في ذلك - أصلاً - لوجوده خارجاً وتحقّقه فعلاً، بل ما يتقوّم به فعليّة الحكم في القضايا الحقيقيّة ليس إلّا أن يفرض الوجود له، ولمّا كانت القضايا الشرعيّة - كما هو معروف - من سنخ القضايا الحقيقيّة، لا الخارجيّة، فتكون الحرمة للعصير العنبيّ - مثلاً - فعليّةً بمجرّد فرض الوجود له، ولا تتوقّف على وجوده خارجاً، فيكون المستصحب هو هذه الحرمة نفسها بعد فرض تبدّل حالةٍ من حالات الموضوع.

بل يمكن أن يقال: بأنّ الحكم الشرعيّ تابع للحكم العقليّ في مقام الإثبات، وأمّا في مقام الثبوت، فلا، وإنّما يحتمل أن يكون تابعاً لمناطه فقط.

بل يمكن أن يقال: إنه لا يكون تابعاً لمناطه - أيضاً -، بل حتى لو فرضا انتفاء مناط الحكم العقليّ عند انتفاء قيد من قيوده، ممّا هو دخيل في موضوع حكم العقل، فإنّ ما هو مناط حكم الشرع يحتمل أن يكون موجوداً، وليس من الضروريّ أن يكون مفقوداً بالتبع. ولا يخفى: أنّ هذا الاحتمال يكون ملازماً لاحتمال بقاء الحكم الشرعيّ، بعدما كان

ص: 147

قاطعاً بحدوثه في الزمان المتقدّم، أي: قبل انتفاء هذا القيد، فيجري الاستصحاب حينئذٍ؛ لتماميّة أركانه.اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّه بعد فقدان القيد يشكّ في أصل بقاء الموضوع، فلا يجري الاستصحاب؛ لأنّ الموضوع لابدّ أن يكون معلوماً في كلتا الحالتين.

التنبيه الرابع :في استصحاب أحكام الشرائع السابقة:

اشارة

وأنّه هل يجري أم لا؟

وقد أُورد على جريانه - بعد الاعتراف بجريان استصحاب عدم النسخ في أحكام شريعتنا المقدّسة - باعتراضين:

الاعتراض الأوّل: دعوى اختلاف الموضوع، فإنّ من لا يُجري استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى أحكام الشرائع السابقة قد تصوّر أنّ الموضوع لم يكن موجوداً في كلتا الحالتين، نتيجةً لتخيّله بأنّ الأحكام الشرعيّة قد وردت على نحو القضايا الخارجيّة، فإنّ المكلّفين بأحكام كلّ شريعة إنّما هم من أدركوا تلك الشريعة.

ونحن نرى أنّ المدركين للشرائع السابقة قد انقرضوا وماتوا، فلا يعقل - والحال هذه - جريان الاستصحاب في حقّ من أدرك هذه الشريعة ولم يدرك الشرائع السابقة.

وقد أجاب الشيخ الأعظم(قدس سرّه) عن هذا الاعتراض بأنّا نفرض كون

ص: 148

الشخص مدركاً للشريعتين، فيجري في حقّه استصحاب عدم النسخ.

قال): «أنّا نفرض الشخص الواحد مُدركاً للشريعتين، فإذا حرم في حقّه شيء سابقاً، وشكّ في بقاء الحرمة فيالشريعة اللّاحقة، فلا مانع عن الاستصحاب أصلاً؛ فإنّ الشريعة اللّاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الأُولى»(1).

ولكنّ هذا الجواب، كما لا يخفى، غير تامّ؛ لأنّه لا أثر له بالنسبة إلى من لم يدرك الشريعة السابقة.

فالصحيح في ردّ هذا الاعتراض أن يقال:

إنّه إنّما يتوجّه على تقدير جعل الأحكام على نهج القضايا الخارجيّة، بحيث يكون الحكم منصبّاً على الأفراد الموجودة في الخارج، فحينئذٍ: يرد الإشكال بالنسبة إلى أهل هذه الشريعة، حيث إنّهم لم يكونوا موجودين في ذلك الزمان. وأمّا لو كانت الأحكام مجعولةً على نهج القضايا الحقيقيّة، بحيث يكون الحكم وارداً على الطبيعة المقدّرة وجوداتها في الخارج على نحو السريان، فإنّه لا فرق - حينئذٍ - بين الموجودين في ذلك الزمان وبين الموجودين في شيءٍ من الأزمنة المتأخّرة.

الاعتراض الثاني: هو العلم بنسخ الشرائع السابقة، ومع هذا كيف يمكن جريان استصحاب بقاء الشرائع السابقة؟

ولكن يُجاب عن هذا: أنّه إن كان المستشكل يدّعي نسخ جميع

ص: 149


1- فرائد الاُصول 3 : 225 - 226.

الأحكام السابقة، فالعلم به ممنوع، وإن كان مراده العلم الإجماليّ بنسخ جملة من الأحكام دون جميع ما كان من الشرائع السابقة، فنقول: بانحلال هذا العلم الإجماليّ بواسطة الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال من الأحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها.وردّه المحقّق النائيني(قدس سرّه) بقوله:

«فيه: أنّ العلم الإجماليّ بنسخ جملة من الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة ينحلّ بالظفر بمقدار من الأحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها، فتكون الشبهة فيما عدا ذلك بدويّةً، ويجري فيها الأصل بلا مزاحم»(1).

وحاصله: أنّ صرف بقاء أحكام تلك الشرائع السابقة بواسطة الاستصحاب غير مفيد، بل تحتاج حجّيّتها إلى إمضاء من قبل الشارع. كما يرشد إلى ذلك قول النبيّ الأعظم(صلی الله علیه و آله) في خطبة حجّة الوداع:

«ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه، حتى الخدش بالأظفار»(2).

ص: 150


1- فوائد الاُصول 4: 480.
2- وسائل الشيعة 17: 45، كتاب التجارة، الباب 12 من أبواب مقدّماتها، الحديث 2. ولكن لا وجود هناك لهذه الزيادة التي في آخره، أعني: حتى الخدش بالأظفار.

فإنّه يظهر من هذه الخطبة الشريفة أنّه(صلی الله علیه و آله) لم يهمل بيان شيءٍ من الأحكام الشرعيّة، بل بيّن حكم كلّ فعل، وحكم كلّ موضوع، وحينئذٍ: فبعد الفحص والتفتيش عن الأدلّة في مظانّها، يجد دليلاً على كلّ حكمٍ لأيّ فعل من الأفعال أو لكلّموضوع ذي حكم، ويثبت بكلّ دليلٍ يجده على ذلك واحد من الأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة.

ومعه: فلا حاجة له إلى الاستصحاب إن استطاع أن يجد دليلاً موافقاً له في مفاده ومضمونه، وإن لم يستطع أن يجد دليلاً، فلا يجب العمل به؛ لعدم إمضائه من قبل الشارع.

ولكنّ الحقّ: أنّه بعد أن عرفنا أنّ الأحكام واردة ومجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة، بمعنى: أنّ كلّ ما كان له دخل وجوداً أو عدماً في صيرورة الشيء ذا مصلحة، أو كان دخيلاً في وجود المصلحة بعد كونه ذا مصلحة، فإنّه يؤخذ في موضوع التكليف، بكلا معنييه، أعني: المكلّف ومتعلّق المتعلّق للتكليف، بل وكذلك في نفس متعلّق التكليف، والذي هو عبارة عن فعل المكلّف.

فالحكم الشرعيّ إنّما يرد على ما هو مجمع للقيود، وما توفّرت فيه كافّة العناوين التي ثبت لها دخل في الملاك والمصلحة، حتى لو فُرض أنّه كان لوجود المكلّف في زمان كذا، أو من اُمّة كذا، مدخليّة في الملاك والمصلحة، فإنّه يؤخذ قيداً للموضوع، فيكون من المستحيل - حينئذٍ - أن يوجد مثل مجمع القيود هذا ثمّ يتخلّف عنه الحكم الشرعيّ، ولا يكون

ص: 151

ممضىً من قبل الشارع. وأمّا احتمال وجود النسخ، فيصار إلى دفعه ببركة الاستصحاب.

هذا من جهة.

ومن جهةٍ أُخرى، فإنّ دليل الاستصحاب الوارد في هذه الشريعة - هو نفسه - يكون دليلاً على الإمضاء بالنسبة إلىالأحكام السابقة الثابتة به؛ وذلك لأنّ الاستصحاب، سواء كان في الأحكام أم في الموضوعات، ما هو إلّا حكم ظاهريّ مجعول من قبل الشارع، شأنه في ذلك شأن سائر الأحكام الظاهريّة، فإبقاء الأحكام الموجودة في الشرائع السابقة عند احتمال نسخها ببركة الاستصحاب من مجعولات هذه الشريعة وأحكامها، فتكون - لا محالة - ممضاة من قبل الشارع.

الاستصحاب في نفس النبوّة:
اشارة

وأمّا استصحاب النبوّة نفسها، فهل يجري أم لا؟

لا يخفى: أنّ الاستصحاب في الموضوع لابدّ أن يكون ذا أثر شرعيّ، فيتوقّف القول بجريان الاستصحاب في النبوّة على إحراز الأثر الشرعيّ. فنقول:

اعلم أنّ للنبوّة المستصحبة وجوهاً واحتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل:
اشارة

أنّ يراد بالنبوّة تلك الصفة الكماليّة التكوينيّة التي محلّها النفس،

ص: 152

وتكون موجبة للتمكّن من الاستيلاء على التصرّف في الأنفس والآفاق، والفوز بمنصب الرئاسة العامّة الإلهيّة، وهو منصب شامخ يكون موجباً لتلقّي المعارف الإلهيّة من المبدأ الأعلى بلا توسّط بشر.

ولا يخفى: أنّه إن أُريد هذا الاحتمال، فيجب القول بعدم جريان الاستصحاب، وذلك من ناحيتين:

الناحية الاُولى:

أنّ الاستصحاب إنّما يمكن جريانه - كما تقدّم - على تقدير وجود الشكّ في البقاء، وهو هنا مختلّ؛ فإنّ الشكّ في بقاء النبوّة بمعنى: تلك المرتبة القدسيّة لا يكون إلّا لواحدةٍ من جهات ثلاث: إمّا انحطاط نفسه القدسيّة، وإمّا لأجل الموت، وإمّا لأجل مجيء نبيّ آخر، والكلّ لا يكون مجوّزاً لجريان الاستصحاب.

أمّا الأوّل: وهو الانحطاط، فهو إنّما يتصوّر في الملكات الحاصلة للنفس بالكسب، بأن تتحلّى النفس وتتخلّق بفضائل الأخلاق بفعل المجاهدة والترويض لها، كملكة العدالة والجود والإيثار، فيحصل الضعف فيها، بل قد تزول بسبب تسويلات النفس الأمّارة بالسوء. ولكن بما أنّ لملكة النبوّة درجة التحقّق ووصولها من مرتبة القوّة والاستعداد إلى مرتبة الفعليّة المستلزمة لمقام الوحي، فلا محالة: لا يكون لانحطاطها معنى إلّا الانقلاب من الفعل إلى القوّة، وهو مستحيل عادة.

وأمّا الثاني: وهو أن تزول النبوّة بواسطة الموت، فلأنّ الموت

ص: 153

لا يوجب زوال الملكات الراسخة المكتسبة، فضلاً عن هذه الملكة الشامخة، كيف؟(قدس سرّه) والدنيا دار ممرّ، والآخرة دار المقرّ، وهي مزرعة الآخرة، والانتقال من هذا العالم إنّما يكون انتقالاً من عالم أدنى إلى عالم أعلى، فكيف - والحال هذه - يعقل زوالها بالموت؟ وكيف يعقل أن تنقلب النفوس العالية وأن تتحوّل بالموت إلى نفوس سافلة، مع أنّ الموت لو لم يكن موجباً لقوّة المشاهدة، فهو على الأقلّ لا يكون سبباً لإضعافها.وأمّا الثالث: وهو الشكّ في البقاء لمجيء نبيٍّ آخر لاحق للسابق، ولو فرض أنّه كان أكمل من سابقه، فإنّ زيادة كمال شخص لماذا يجب أن تكون سبباً لرفع وزوال كمال شخص آخر أو نقصه؟

والناحية الثانية:

أنّه على فرض التنزّل والقول بإمكان انحطاط النفس عن تلك المرتبة، فمع ذلك لا يمكن جريان الاستصحاب فيها، وذلك لعدم كونها من المجعولات الشرعيّة، كما هو واضح، كما أنّها ليست موضوعاً لأيّ حكم شرعيّ، ومعلوم أنّ الاستصحاب لا يجري حتى يكون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعيّ.

نعم، يمكن أن يكون هذا الاستصحاب مفيداً في مثل مسألة النذر، فيما لو نذر ﷲ تعالى شيئاً على تقدير بقاء هذه الصفة الكماليّة للنبيّ وعدم انحطاطها.

ص: 154

الاحتمال الثاني:

أن تكون النبوّة من المناصب المجعولة، كولاية الفقيه على الغُيَّب والقصَّر، وولاية الجدّ والأب على الصغير، وكالقضاوة والملكيّة ونحو ذلك من الأحكام الوضعيّة المجعولة.

والنبوّة بهذا المعنى ليست بمعنى كون نفسه المقدّسة محلّاً للمعارف، بل بمعنى أنّه مخبر ومبلّغ من قبله تعالى وسفير مبعوث منه إلى خلقه. فمنصب المخبريّة والسفارة ثابت لهحقيقةً؛ لأنّ النبيّ هو الذي ينبئه اﷲ تعالى بمعارفه، وليس مجرّد أمر اعتباريّ.

ولو أبيت، بدعوى أنّ النبوّة - بهذا المعنى - تكون هي بنفسها مجعولاً شرعيّاً، وليست من الصفات التكوينيّة غير القابلة للاستصحاب، بل هي في حدّ ذاتها تكون قابلة للاستصحاب.

فنقول: مع ذلك، يشكل جريان الاستصحاب فيها - حينئذٍ - من جهة أُخرى، فإنّ لازم جريان استصحاب النبوّة - بعد فرض إمكانه - هو ترتّب آثار النبوّة، كوجوب الإطاعة على النبوّة الثابتة بالاستصحاب، كما كانت تترتّب على النبوّة الثابتة بالقطع.

ولكنّ إجراء هذا الاستصحاب يبقى بحاجة إلى دليل، وهو مفقود في المقام، بل هناك مانع من جريانه؛ وذلك لأنّ هذا الاستصحاب:

لو كان دليل حجّيّته هو الشريعة السابقة يلزم الدور؛ لأنّ جريانه فيها متوقّف على ثبوت حجّيّته من غير ناحية بقاء النبوّة؛ إذ لو كان منوطاً ببقائها

ص: 155

لزم الدور؛ لأنّ بقاءها متوقّف على الاستصحاب، بحسب الفرض، فلو كان اعتبار الاستصحاب متوقّفاً على بقاء النبوّة، لزم الدور، وهو باطل ممتنع، فكذا يمتنع التمسّك بالاستصحاب لإثبات بقاء النبوّة.

وإن كان دليل حجيّته هو الشريعة اللّاحقة، لم يكن مجدياً في بقاء الشريعة السابقة؛ لأنّ اعتبار الاستصحاب من الشريعةاللّاحقة مستلزم لنسخ الشريعة السابقة، وعدم الشكّ في بقائها أصلاً حتى يجري فيه الاستصحاب.

وإن كان الدليل على حجّيّته هو بناء العقلاء، قلنا: لا يفيد الرجوع إليه إلّا بعد إمضاء الشارع له، فيعود الكلام - حينئذٍ - فإنّ الذي أمضاه هل هو الشرع السابق أم اللّاحق؟ فإن كان هو السابق لزم الدور، بنفس البيان المتقدّم، وإن كان هو اللّاحق، فذلك مساوق للنسخ وعدم الشكّ في البقاء، وهو خلف وموجب لعدم جريان الاستصحاب.

الاحتمال الثالث:

أن يراد بالنبوّة المستصحبة أحكام شريعةٍ ما يشكّ في كونها منسوخة بواسطة شريعة أُخرى.

وبناءً على هذا الاحتمال فإنّ الاستصحاب يمكن جريانه فيها بلا مانع، وهو راجع - حينئذٍ - إلى استصحاب عدم النسخ.

ثمّ هل يمكن - في المقام - إلزام الخصم بواسطة الاستصحاب أم لا؟

فإنّ استصحاب الشرائع السابقة قد يكون لأجل إثبات الدعوى وإقناع

ص: 156

النفس وإثبات المعذوريّة في البقاء على الشريعة السابقة، وقد يكون لإلزام الخصم، ودعوة المسلم إلى اليهوديّة - مثلاً -.

وفي كلا القسمين، فلابدّ أن يتوفّر في الاستصحاب أركان ثلاثة، هي:

أ. اليقين السابق بالثبوت والشكّ اللّاحق بالبقاء.ب. أن يكون المستصحب أثراً شرعيّ أو موضوعاً له أثر كذلك.

ج. الاعتقاد بحجّيّة الاستصحاب، وقيام الدليل على هذه الحجّيّة.

ومع فقدان هذه الاُمور، أو واحد منها فقط، لا يكون الاستصحاب حجّة، كما لا يخفى.

فلو أُريد بالنبوّة تلك الصفة الكماليّة القائمة بنفس النبيّ المقدّسة، التي من شؤونها تلقّي المعارف الإلهيّة والفيوضات الربانيّة، فإنّ اليقين ببقاء النبوّة موجود قطعاً، فلا يكون هناك شكّ في بقائه أيضاً؛ والشرط الثاني، وهو كون المستصحب أثراً شرعيّاً أو ذا أثر شرعيّ غير متحقّق أيضاً.

وأمّا لو اُريد من النبوّة الشريعة، فإنّه وإن كان وجودها متيقّناً، وبقاؤها مشكوكاً، إلّا إنّه - مع ذلك - فلا يمكن جريان الاستصحاب؛ لأنّ حجّيّة الاستصحاب في الشريعة السابقة دور، وفي الشريعة اللّاحقة موجبة لنسخ تلك الأحكام. ثمّ بما أنّ الكتابيّ شاكّ في بقاء شريعته، فهو - إذاً - شاكّ في حجّيّة الاستصحاب، فينتفي الشرط الثالث أيضاً.

ص: 157

ثمّ إنّ هذا الاستصحاب لا يفيد بالنسبة إلى المسلم أيضاً؛ لأنّ له يقيناً بحصول النسخ، فليس شاكّاً في البقاء، فانتفى أحد الأركان الثلاثة.وبعبارة أُخرى: فإنّ جريان الاستصحاب متوقّف على الشكّ في البقاء، وهو ليس بحاصل عند المسلمين؛ إذ المفروض أنّهم يعتقدون بالارتفاع، حيث كانوا مسلمين.

وكذلك، فإنّ ثبوت نبوّة عيسى(علیه السلام) - مثلاً - إنّما ثبتت عندنا وعلمناها من إخبار نبيّنا(صلی الله علیه و آله)، فلو استصحبنا النبوّة السابقة يلزم نفي نبوّة نبيّنا(صلی الله علیه و آله)، ومعه: ينتفي اليقين بالنبوّة السابقة، فيلزم من وجود الاستصحاب عدمه، وهو محال.

وأيضاً، فحيث قد عرفنا النبوّة السابقة من طريق نبيّنا(صلی الله علیه و آله)، بما أنّه نبيّ، فلم يبقَ لدينا شكّ في البقاء أصلاً لكي نستصحب.

وأيضاً، فإنّه لا معنى لاستصحاب النبوّة إلّا وجوب التديّن بما قد جاء به النبيّ السابق؛ إذ لا معنى ولا أثر للاستصحاب إلّا ذلك، وممّا جاء به النبيّ السابق هو التبشير بنبوّة نبيّنا(صلی الله علیه و آله)، فنحن - إذاً - نعلم بثبوت أحكام شرعيّة في الشرائع السابقة، إلّا أنّها مغيّاة بمجيء نبيّنا محمّد(صلی الله علیه و آله) ونبوّته الخاتمة.

ويمكن الجواب - أيضاً - بمضمون ما أجاب به الإمام الرضا(علیه السلام) للجاثليق، وحاصل الجواب: أنّا نؤمن بكلّ عيسى وموسى' بشّرا بنبوّة

ص: 158

محمّد(صلی الله علیه و آله)، ولا نؤمن بكلّ عيسى وموسى لم يخبرا عن نبوّة نبيّنا(صلی الله علیه و آله)(1).وقد يورد على هذا الجواب في المقام: بأنّ موسى وعيسى' ليس كلّيّاً يُعترف ببعض أفراده وتنكر أفراده الأُخرى، بل هو جزئيّ حقيقيّ وشخص معلوم نعترف بنبوّته.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ الإيمان بموسى وعيسى' الشخصين إنّما كان من جهة تبشيرهما بنبيّنا(صلی الله علیه و آله)، ولا طريق إلى الاعتراف بنبوّتهما إلّا من جهة وجود هذه الخصوصيّة.

وبالجملة: فإنّه لم يحصل لأيٍّ من النصراني والمسلم شكّ في بقاء النبوّة لنبيّه حتى تصل النوبة إلى الاستصحاب. وعلى فرض حصول الشكّ لهما، أو لأحدهما، فلابدّ أن يصار إلى رفع هذا الشكّ عن طريق المجاهدة وتحصيل العلم والمعرفة، ولا يفيد إجراء الاستصحاب؛ لأنّه إنّما يوجب الظنّ، فإنّ معرفة الرسول أو الإمام بما أنّها من اُصول الدين، فلا يكتفى فيها بالظنّ، ولو كان من الظنون المعتبرة، بل يجب فيها تحصيل اليقين.

ص: 159


1- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 141، باب ذكر مجلس الرضا(علیه السلام) مع أهل الأديان وأصحاب المقالات في التوحيد، عند المأمون، ح1. وهو حديث طويل جاء فيه: «فقال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه، هل تنكر منهما شيئاً؟ قال الرضا(علیه السلام): أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به اُمّته وأقرّت به الحواريّون، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد(صلی الله علیه و آله) وبكتابه ولم يبشّر به اُمّته...»، الخبر.

فإن قلت: فقد لا يحصل له اليقين ويعجز عن تحصيله، فماذا يصنع حينئذٍ؟

قلنا: الطريق إلى ذلك واضح، فمن أراد أن يسعى ويجاهد مجاهدة حقيقيّة، وألقى العصبيّة وتقليد الآباء جانباً، فإنّ اﷲ تعالى يهديه، كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾(1).

التنبيه الخامس :في عدم اعتبار الاُصول المثبتة:

اشارة

لا يخفى: أنّ هناك فرقاً بين القطع والأمارات من جهة، وبين الأمارات والاُصول من جهة أُخرى، كما أنّ الاُصول - أيضاً - فيها ما هو تنزيليّ، وفيها ما ليس كذلك.

أمّا القطع فطريقيّته ذاتيّة، ولا يحتاج في حجّيّته إلى جعل من الشارع، بل لا يكون وضعها له ولا رفعها عنه بيد الشارع - بما هو شارع - أصلاً.

وأمّا الأمارات، فهي وإن كان تمتلك كاشفيّة وطريقيّة، غير أنّ حجّيّتها إنّما تكون بالجعل، ومعنى ثبوت الحجّيّة لها إنّما هو تتميم كاشفيّتها وطريقيّتها في عالم الاعتبار التشريعيّ، أي: أنّ الشارع يجعل ما لها من الكشف الناقص تكويناً كشفاً تاماً تشريعاً.

وقد يقال: كيف يمكن تصوّر ذلك؟ والحال أنّ وضع كشفها التكوينيّ

ص: 160


1- العنكبوت: الآية 69.

ورفعها لا يكون بيد الشارع بما هو شارع، ولا يمكن للشارع أن يكمل النقص الذي في كاشفيّة الأمارة بجعل كشفاً تامّاً تكويناً؛ فإنّ هذا باطل يقيناً، كما لا يمكن القول بأنّ تتميمه لكاشفيّة الأمارة يكون تتميماً تشريعيّاً؛ إذ حينئذٍ يكون نصف كاشفيّتها تكوينيّاً ونصفها الآخر تشريعيّاً، وهو - مضافاً إلى عدم إمكانه - على خلاف الوجدان.

ولكن فيه: أنّ المراد من تتميم الكشف تشريعاً هو أنّ هذا الكشف الناقص التكوينيّ يصبح كشفاً تاماً في عالم الاعتبار التشريعيّ.وأمّا الاُصول العمليّة، فالفرق بين الاُصول التنزيليّة وغيرها - بعد أن لم يكن لشيء من الاُصول العمليّة كاشفيّة مطلقاً - إنّما يكمن في أنّ معنى الإحراز في الاُصول التنزيليّة هو البناء العمليّ على أحد طرفي الشكّ على أساس أنّه هو الواقع، من دون أن يكون مثبتاً للواقع وكاشفاً عنه.

وأمّا الاُصول غير المحرزة، فهي حكم الشارع بالبناء العمليّ على أحد طرفي الشكّ، ولكن من دون اعتبار أنّ هذا العمل هو عمل الواقع، أو اعتبار اليقين والجري على طبقه، كي يكون العمل على طبق ذلك المحتمل من جهة بلوغه إلى مرتبة الإثبات؛ وذلك لأنّ جعل الحجّيّة والكاشفيّة لا معنى معقولاً له - كما عرفنا - سوى أنّ الشارع يعتبر هذا الكشف الناقص التكوينيّ كشفاً تامّاً تشريعيّاً، ولا كاشفيّة في الأصل أصلاً، لكي يتأتّى تتميمها من قبل الشارع.

ص: 161

فإذا اتّضح ما بيّنّاه من الفرق بين الأمارات والاُصول، فنقول:

الحقّ في المقام: هو القول بحجّيّة مثبتات الأمارات، دون الاُصول، ولو كانت من الاُصول التنزيليّة.

وقد أفاد صاحب الكفاية(قدس سرّه) في وجه ذلك ما حاصله:

أنّ الأمارات كما تحكي عن مؤدّياتها، فهي كذلك تحكي عن لوازم هذه المؤدّيات، سواء كانت شرعيّة أم عقليّة، وأيضاً: فهي تحكي عن ملزومات المؤدّيات وملازماتها كذلك، شرعيّة كانت أم عقليّة؛ فإنّ مقتضى إطلاق دليل اعتبارها هوأنّها تكون حجّة في جميع هذه الحكايات. وأمّا الاُصول العمليّة، فحتى لو فرضنا أنّها تنزيليّة، إلّا أنّ مفادها ليس إلّا التعبّد بمؤدّياتها، من دون أن يكون فيها حكاية عن شيء أصلاً.

وفي بيان هذا المطلب يقول):

«ثمّ لا يخفى: وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الاُصول التعبّديّة وبين الطرق والأمارات؛ فإنّ الطريق أو الأمارة حيث إنّه كما يحكي عن المؤدّى ويشير إليه، كذا يحكي عن أطرافه، من ملزومه ولوازمه وملازماته ويشير إليها، كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها، وقضيّته: حجّيّة المثبت منها، كما لا يخفى.

بخلاف مثل دليل الاستصحاب، فإنّه لا بدّ من الاقتصار ممّا فيه من الدلالة على التعبّد بثبوته، ولا دلالة له إلّا على التعبّد بثبوت المشكوك

ص: 162

بلحاظ أثره، حسبما عرفت، فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه، كسائر الاُصول التعبّديّة...»(1).

وخلاصة ما أفاده(قدس سرّه) من الفرق بين الاُصول والأمارات: هو أنّه في باب الأمارات والحجج الشرعيّة، فبعد أن أصبحت الأمارة بمنزلة العلم، يكون هناك ملازمة بين إثباتها للشيء وبين إثباتها للوازمه وملزوماته وملازماته، بلا فرق بين أن تكون عقليّة أو عاديّة أو شرعيّة، وسواء كانت طرقاً إلىالأحكام الإلهيّة، كأخبار الآحاد، أم أمارات على الموضوعات، كما إذا قامت البيّنة على موضوع خارجيّ، كغروب الشمس. فللأمارات - إذاً - جهتان:

الأُولى: كشفها عن مدلولها؛ لأنّ شأن كلّ أمارة أن تكشف عن مؤدّاها، وهذا الكشف، وإن كان ناقصاً، ولكنّه قد أصبح تامّاً ببركة الجعل الشرعيّ، والكشف عن الشيء كشف عمّا يلازمه من الاُمور التي لا تنفكّ عنه، كالملزومات واللّوازم والملازمات، تبعاً لدلالته على معناه المطابقيّ.

والثانية: إطلاق دليل الحجّيّة الثابت بمقدّمات الحكمة، فيكون دالّاً على حجّيّة الطرق والأمارات في جميع ما لها من الدلالة المطابقيّة والتضمّنيّة والالتزاميّة، من دون تفاوت بينها.

ص: 163


1- كفاية الاُصول: 416.

وهذا بخلاف أدلّة الاستصحاب وغيره من الاُصول العمليّة؛ فإنّها لا دلالة لها بوجه على الملزوم، فضلاً عن اللّازم، حتى يدلّ دليل الاعتبار على حجّيّته، كدلالته على حجّيّة الملزوم؛ فدليل اعتبار الأصل لا يقتضي إلّا التعبّد بنفس المشكوك بترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على نفسه، دون تلك التي تترتّب على لوازمه وملزومه وملازماته.

فمثلاً: استصحاب بقاء حياة زيد لا يقتضي إلّا التعبّد بالآثار الشرعيّة الثابتة لحياته الواقعيّة، دون الآثار الشرعيّة التي تترتّب على لوازمها، كنبات اللّحية؛ إذ لم يدلّ على لوازم الحياة شيء حتى يتأتّى أن نقول بأنّ لدلالته هذه حجّيّة فيجب الأخذ بها.وبالجملة: فالجهة الاُولى من الجهتين المذكورتين، وهي الكشف عن اللّوازم، موجودة في الطرق والأمارات، ولكنّها مفقودة في الاُصول، وهو ما أوجب القول بحجّيّة مثبتات الأمارات دون الاُصول. فما يترتّب على الأصل - إذاً - إنّما هو الأثر المترتّب على نفس المشكوك بلا واسطة.

واعترض عليه المحقّق النائيني(قدس سرّه) بأنّ ما ذكره من حكاية الأمارات عن مؤدّياتها ولوازم مؤدّياتها وملزوماتها وملازماتها ممّا لا أساس له من الصحّة؛ لأنّ الحكاية عن شيء إنّما هي فرع الالتفات إلى ذلك الشيء وقصده، ولا شكّ في أنّ المخبر - غالباً - غافل عن لوازم ما أخبر به وعن ملزوماته وملازماته، ومع الغفلة عن ذلك، فكيف يمكن أن يدّعى

ص: 164

أنّ البيّنة أو الخبر الموثوق الصدور - مثلاً - تحكي عن لوازم مؤدّياتها وملازماتها وملزوماتها؟(قدس سرّه)

ونصّ كلامه) كالآتي:

«بيان ذلك: هو أنّ الأمارة إنّما تحكي عن نفس المؤدّى، ولا تحكي عن لوازم المؤدّى وملزوماته الشرعيّة بما لها من الوسائط العقليّة أو العاديّة؛ فإنّ البيّنة أو الخبر الواحد إنّما يقوم على حياة زيد أو موت عمرو، فهو إنّما يحكي عن نفس الحياة والموت، ولا يحكي عن نبات اللّحية وما يستتبعه من الآثار الشرعيّة أو العقليّة والعاديّة، بداهة أنّ المخبر بالحياة ربّما لا يلتفت إلى نبات اللّحية، فضلاً عمّا يستتبعه، والحكاية عن الشيء فرع الالتفات إليه، فليسالوجه في اعتبار مثبتات الأمارة كونها حاكيةً عن لوازم المؤدّى وملزوماته...»، انتهى موضع الحاجة(1).

ولكن فيه: أنّ الخبر له دلالات ثلاث: مطابقيّة والتزاميّة وتضمّنيّة، والخبر الثقة يحكي بالدلالة المطابقيّة عن نفس المؤدّى، وبالدلالة الالتزاميّة عن لوازمه العاديّة والعقليّة والشرعيّة، بل الأمر كذلك - أيضاً - بالنسبة إلى ملزوماته وملازماته، فإنّ الأخبار عن وجود العلّة إخبار عن وجود المعلول، وكذلك العكس، فالإخبار عن طلوع الشمس - مثلاً - إخبار عن وجود النهار، وكذلك العكس، كما أنّ الإخبار عن الشيء إخبار

ص: 165


1- فوائد الاُصول 4: 487.

عن ملازماته، فلو أخبر عن طلوع الشمس - مثلاً - فقد أخبر عن إضاءتها للعالَم، الذي هو لازم طلوع الشمس.

وكذلك لو أخبر بوجود النهار، فإنّه إخبار بطلوع الشمس أيضاً، الذي هو ملزومه.

ولو أخبر باستقبال زيد - مثلاً - للقبلة في أواسط العراق، فهو إخبار عن أنّه قد استدبر الجدي هناك.

فلا ينبغي أن ينكر: بأنّ خبر الثقة كما أنّه يحكي عن مدلوله المطابقي، فكذلك هو يحكي ويخبر عن مدلوله الالتزاميّ، وهي لوازمه العقليّة والشرعيّة والعاديّة، وكما أنّ أدلّة حجّيّة الظواهر تكون شاملةً للمدلول المطابقيّ فكذلك هي تكون شاملة للمدلول الالتزاميّ أيضاً.وخلاصة البحث: أنّ الفرق الصحيح بين الأمارات والاُصول هو ما ذكرناه من أنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقيّة بنحو الواسطة في الإثبات، ولو كان من جهة إمضاء ما عند العقلاء، حيث كانوا يبنون على طريقيّة الأمارة، فحكم الأمارات التي تثبت حجّيّتها من الشارع بتتميم الكشف هو حكم الأمارات العقلائيّة، فكما أنّ الأمارات العقلائيّة تثبت مؤدّياتها ولوازمها العقليّة والعاديّة لتلك المؤدّيات وملزوماتها وملازماتها، فكذلك الأمارات الشرعيّة، تثبت جميع ذلك؛ لأنّ إثبات العلّة - كما أشرنا - إثبات للمعلول، وإثبات اللّازم إثبات للملزوم، وكذا العكس.

ص: 166

وبالجملة: فإنّ حال الأمارات هو حال العلم الوجدانيّ، فكما أنّه إذا تعلّق بشيء فإنّه يُثبت ذلك الشيء نفسه، مع جميع لوازمه العقليّة والعاديّة والشرعيّة، فكذلك الطريق المجعول، فإنّه علم - أيضاً -، غاية الأمر: أنّه علم تعبّديّ.

ويتفرّع على ذلك: أنّ مثبتيّة العلم الوجداني ذاتيّة وليست قابلة للجعل، وأمّا مثبتيّة الأمارات الشرعيّة فليست كذلك، بل هي مجعولة شرعاً، إمّا إمضاءً، كما هو الغالب، وإمّا إحداثاً، كما ربما يتّفق.

ولا يخفى: أنّ هذا الفرق المذكور بين العلم الوجدانيّ وبين الأمارات، لا يشكّل مائزاً بينهما فيما هو محلّ البحث، وما نحن بصدده؛ لأنّه بعد الفراغ عن حجّيّة الأمارة وكونها كاشفاً وطريقاً ومثبتاً، وبعد أن أثبتت مؤدّاها وكشفته، فقهراً هيتكشف عن لوازمه وملزوماته وملازماته؛ لمكان الملازمة القائمة بين ثبوت الشيء وانكشافه وبين انكشاف لوازمه وملزوماته وملازماته.

وإن شئت فقل: إنّ حال الأمارات من هذه الجهة هو عينه حال العلم، ولو كان هناك من فرق بينهما، فإنّما هو من جهة أنّ الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات ذاتيّة في الأوّل، دون الثاني، بل هي فيه بجعل من الجاعل، ولكنّه بعد تحقّق هذا الجعل وتماميّته، يصبح كالعلم والقطع تماماً وبلا فرق.

ولك أن تقول: للحجّيّة قسمان:

أ. قسم تكوينيّ، لا يحتاج في إثباته إلى الجعل والاعتبار، بل يكون

ص: 167

ثبوته ذاتيّاً، بل لا يمكن إثباته بالجعل والاعتبار؛ لأنّه بعد كونه ذاتيّاً، كان ثابتاً، فإرادة إثباته ببركة الجعل ما هو إلّا من باب تحصيل الحاصل.

ب. وقسم اعتباريّ، فيحتاج إلى الجعل والاعتبار، ممّن بيده الجعل والاعتبار، ولكنّه بعد الجعل يصبح مصداقاً حقيقيّاً واقعيّاً لما هو الحجّة في عالم الجعل والاعتبار، ويكون وعاؤه الواقع.

ولا يقال: أنّ الحجّيّة والكاشفيّة عن اللّوازم والملزومات والملازمات إنّما يكون في الانكشاف التكوينيّ، بمعنى: أنّ عدم احتمال الخلاف ملازم لانكشاف هذه الاُمور، وأمّا الكشف التعبّديّ، فالأمر فيه ليس على هذه الشاكلة؛ لأنّ باب احتمال الخلاف لا ينسدّ وجداناً، غاية الأمر: أنّه يجب عليه إلقاء احتمال الخلاف تعبّداً؛ لأنّ معنى الحجّيّة المجعولةوالوسطيّة في الإثبات هو ادّعاء أنّه كذلك، وادّعاء ثبوت مؤدّياتها.

وإلّا، فإنّ إيجاد صفة تكوينيّة بالجعل الاعتباريّ غير معقول، فيكون حالها حال سائر التنزيلات، فلابدّ وأن يكون بلحاظ ترتيب آثار المنزّل عليه، وأن يكون له آثار شرعيّة حتى يكون أمر وضعها ورفعها بيد الشارع، حتى يصحّ أن يكون التنزيل بذلك اللّحاظ، فإذا كان لمؤدّى الأمارة شيء من الآثار شرعيّة، التي رفعها ووضعها بيد الشارع، فإذا كان لمؤدّى الأمارة أثر شرعيّ يترتّب على مؤدّاها، وإن كان غير محرز بصرف قيام الأمارة عليه، وهذا هو معنى التنزيل، فيكون حال الأمارة من هذه الجهة حال الاُصول؛ فإنّ دليل اعتبارها يدلّ على العمل على طبق مؤدّياتها،

ص: 168

ولا تعرّض لها أصلاً إلى لوازمها وملازماتها وملزوماتها.

ومعنى التعبّد بالعمل على طبق مؤدّياتها: ترتيب الآثار العقليّة والعاديّة التي لها، أو الشرعيّة التي لا تكون بواسطة أثر عقليّ عليها، وأمّا الآثار العقليّة والعاديّة التي تكون لها بواسطة أحد هذين الأمرين، فلا، لأنّها خارجة عن دائرة التعبّد بها.

فإنّه يقال: ليس معنى حجّيّة الأمارة ثبوت مؤدّياتها حتى يرجع إلى تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع، بل المقصود - ما عرفناه -: من أنّ لهذا المفهوم، أعني: مفهوم الحجّة، قسمين من المصداق:قسم تكوينيّ لا يحتاج إلى اعتبار الحجّيّة، كالقطع، بل لا يمكن فيه جعل الحجّيّة واعتبارها، لمنع تحصيل الحاصل.

وقسم اعتباريّ، يحتاج إلى الجعل، واعتبار من بيده الاعتبار، فبعد جعل الحجّيّة يكون حاله حال التكوينيّ، ويصبح مصداقاً حقيقيّاً واقعيّاً للحجّة والطريق والمثبت.

وهذا له نظير، وهو مفهوم المال، فإنّ له مصداقين - أيضاً -: قسم يقال له: المال، بدون جعل الماليّة له. وقسم آخر لا يصدق عليه المال إلّا بعد صدور الاعتبار بماليّته، كالأوراق النقديّة، أي: بعد اعتبار الماليّة من قبل من بيده الاعتبار، يصبح مالاً.

وحجّيّة الأمارات من هذا القبيل، فبعد اعتبار الحجّيّة لها، يكون حالها في إثبات المتعلّق حال الحجّة التكوينيّة، وكذلك الحجّة عند العقلاء إذا

ص: 169

اعتبروا حجّيّة شيء، يقولون بعد ورود الاعتبار على ذلك الشيء: قد ثبت ذلك الشيء، لا أنّهم يرتّبون آثار ذلك الأمر عليه تعبّداً وبادّعاء وجوده، بل يرون وجوده ثابتاً، كما إذا علموا أو قطعوا بوجوده أيضاً، تكون جميع آثاره وملازماته ولوازمه وملزوماته حجّة، كنفس المؤدّى.

وأمّا الشيخ الأنصاريّ(قدس سرّه) فالظاهر من كلامه) هو التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة خفيّة أو جليّة، فحكم بحجّيّة مثبتات الأوّل دون الثاني، قال):

«نعم، هنا شيء، وهو أنّ بعض الموضوعات الخارجيّة المتوسّطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعيّ، منالوسائط الخفيّة، بحيث يُعَدّ في العرف الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليها أحكاماً لنفس المستصحب، وهذا المعنى يختلف وضوحاً وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف»(1).

ومحصّل ما أفاده): أنّ هناك فرقاً بين الواسطة الخفيّة والجليّة، فإنّ الواسطة إذا كانت في غاية الخفاء، بحيث يعدّ أثرها أثراً لنفس المستصحب عرفاً بلا واسطة، كاستصحاب رطوبة الثوب الذي ألقته الريح أو غيرها على أرض متنجّسة جافّة، فإنّ نجاسة الثوب ليست أثراً بلا واسطة لرطوبة الثوب الملاقي للأرض، بل هي أثر لسراية النجاسة

ص: 170


1- فرائد الاُصول 3: 244.

من المتنجّس إلى ملاقيه بواسطة الرطوبة، والسراية واسطة عقليّة بين المستصحب، وهي الرطوبة، وبين النجاسة، التي هي أثر السراية، ولكنّه مع ذلك يترتّب نجاسته باستصحاب بقاء رطوبة الثوب الملاقي للأرض المتنجّسة، بدعوى خفاء الواسطة، وهي السراية، بحيث يرى العرف نجاسة الثوب من آثار ملاقاته مع الرطوبة للأرض، لا من آثار السراية، فإذا كانت النجاسة من آثار المستصحب عرفاً، فلا محالة يشملها دليل الاستصحاب؛ لأنّ نظر العرف هو المتّبع في مقام الاستظهار.

وردّه المحقّق النائيني(قدس سرّه) بقوله:«لا أثر لخفاء الواسطة، فضلاً عن جلائها، فإنّه: إن كان الأثر أثراً لذي الواسطة حقيقةً بحسب ما ارتكز عند العرف من مناسبة الحكم أو الموضوع - وإن احتمل ثبوتاً أن يكون للواسطة دخل في ترتّب الأثر على مؤدّى الأصل - فهذا لا يرجع إلى التفصيل في عدم اعتبار الأصل المثبت، فإنّه لم يتخلّل حقيقةً بين مؤدّى الأصل والأثر الشرعيّ واسطة عقليّة أو عاديّة، فلا وجه لاستثناء الواسطة الخفيّة من بين الوسائط والقول باعتبار الأصل المثبت فيها.

وإن كان الأثر أثراً للواسطة حقيقةً، والعرف يتسامح ويعدّه من آثار ذي الواسطة، فلا عبرة بالمسامحات العرفيّة في شيء من الموارد؛ فإنّ نظر العرف إنّما يكون متّبعاً في المفاهيم، لا في تطبيقها على المصاديق، فقد يتسامح العرف في تطبيق المفهوم على ما لا يكون له مصداقاً واقعاً،

ص: 171

كما يشاهد أنّ العرف يتسامح ويطلق أسماء المقادير على ما ينقص عن المقدار أو يزيد يسيراً؛ فالمسامحات العرفيّة لا أثر، وتُضرب على الجدار بعد تبيّن المفهوم»(1).

وبالجملة: فإنّ الحكم الشرعيّ فيما نحن فيه:

إن كان مترتّباً على نفس الواسطة حقيقةً، وكانت هي الموضوع له واقعاً، فلا يمكن إثباته بالأصل الجاري في ذي الواسطة، وإن فرض أنّ العرف يتسامح ويرى الموضوعللحكم هو نفس مؤدّى الأصل نتيجةً لخفاء الواسطة وعدم الالتفات إليها.

وإن كان الحكم الشرعيّ مترتّباً في الواقع على ذي الواسطة، وكانت الواسطة العقليّة أو العاديّة علّة لثبوت الحكم لمؤدّى الأصل، فهذا لا يرجع إلى الأصل المثبت.

الموارد الّتي تمسّكوا فيها بالأصل المثبت:

ولا بأس في المقام بالإشارة إلى بعض الموارد التي تمسّكوا فيها بالأصل المثبت.

منها:

أنّه لو اتّفق الوارثان على إسلام أحدهما المعيّن في أوّل شعبان،

ص: 172


1- فوائد الاُصول 4: 494 - 495.

والآخر في غرّة رمضان، واختلفا في زمان موت المورّث، فادّعى أحدهما موته في أثناء شعبان، وادّعى الآخر كونه في أثناء شهر رمضان، كان المال بينهما نصفين إذا كانا متساويين في الطبقة؛ لأصالة بقاء حياة المورّث إلى زمان إسلام الوارث الآخر.

ولا شكّ في أنّ هذا الاستصحاب من الأصل المثبت؛ لأنّ إسلام الوارث في حال حياة المورّث، والذي هو الموضوع لكونه وارثاً، من اللّوازم العقليّة لبقاء حياة المورّث إلى ذلك الزمان.

وأجاب عنه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):

بأنّه «يمكن أن يقال: إنّ موضوع الإرث ليس كون إسلام الوارث في حال حياة المورّث، بحيث تكون الحياة ظرفاًللإسلام، بل موضوع كونه وارثاً: اجتماع إسلامه مع حياة المورّث في زمان واحد، بلا لحاظ إضافة الظرفيّة بينهما، فالموضوع مركّب، أُحرز أحد جزأيه بالوجدان، وهو إسلام الوارث، والآخر بالأصل، وهو حياته في ذلك الزمان»(1).

وهذا نظير ما قيل من كفاية اجتماع المرأة مع القرشيّة، وأحد جزأي هذا الموضوع محرز بالوجدان، والآخر بالأصل.

ولكن قد عرفت، أنّه لا يجري هذا الاستصحاب، بل لابدّ أنّ يثبت

ص: 173


1- منتهى الاُصول 2: 490.

بالاستصحاب أنّ هذه المرأة قرشيّة، ولم تكن له حالة سابقة. وفيما نحن فيه، لابدّ من النظر إلى الأدلّة، فهل هي ناظرة إلى كون الوارث مسلماً في حال حياة المورّث بلحاظ عنوان الظرفيّة بينهما حتى يكون أصلاً مثبتاً، أم لا، بل يكفي اجتماعهما في زمان، ولو لم يكن على نحو الظرفيّة؟

والظاهر من الأدلّة هو الأوّل دون الثاني، فجوابه(قدس سرّه) في غير محلّه، بل هذا الأصل من الأصل المثبت.

ومنها:

حكمهم بضمان من كان يده على مال الغير، وكان مسلّطاً عليه، مع الشكّ في كونه مأذوناً من قبله؛ لأصالة عدم كونهمأذوناً، مع أنّ كون اليد عاديةً، والذي هو موضوع الضمان، من اللّوازم العقليّة لعدم كونه مأذوناً من قبله.

وأجاب عنه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) - أيضاً -:

بأنّ «موضوع الضمان ليس هو عنوان كون اليد عادية، بل موضوعه كون اليد غير مأذونة، فالموضوع مركّب من جزأين: أحدهما أُحرز بالوجدان، وهو اليد على مال الغير، والثاني: عدم كونها مأذونةً، وهو أُحرز بالأصل»(1).

ص: 174


1- منتهى الاُصول 2: 491.

ومنها:

ما ذكره العلّامة في التحرير(1) فيما إذا اختلف الجاني ووليّ الميّت في سراية الجناية، فقال الوليّ: مات بالسراية، وقال الجاني: مات بسبب آخر، أو حصل الاختلاف بينهما، فقال الجاني: إنّ الجناية وقعت على الميّت بعد الموت، وقال الوليّ: بل وقعت قبل الموت، وإنّما كان الموت بسبب الجناية.

فقال العلّامة): في الضمان وعدمه وجهان: من أصالة عدم الضمان، ومن أصالة بقاء حياة المجنيّ عليه إلى زمان وقوع الجناية، فأجاز جريان الاستصحاب، مع أنّ وقوع الجناية على الحيّ، الذي هو موضوع الأثر، من اللّوازم العقليّة لبقاء الحياة.ولكنّ الحقّ: عدم جريان هذا الأصل، حتى لو قلنا بمقالة شيخنا الأنصاريّ(قدس سرّه) من جريان الاستصحاب مع كون الواسطة خفيّة؛ وذلك لعدم خفاء الواسطة هنا.

ومنها:

جريان استصحاب عدم وجود الحاجب عند الشكّ في وجوده في البشرة في محلّ الغسل أو الوضوء؛ لإثبات صحّة الوضوء أو الغسل، ولا شكّ في أنّ صحّتهما منوطة بوصول الماء إلى البشرة، وهذا من اللّوازم العاديّة للمستصحب؛ أي: عدم وجود الحاجب.

ص: 175


1- انظر: تحرير الأحكام 2: 261.

وهو من الأصل المثبت كما لا يخفى، فلا يجري، كما أنّ الواسطة غير خفيّة، فلا مجال لجريانه حتى على القول بمقالة الشيخ الأعظم(رحمة الله) المتقدّم من التفصيل بين الواسطة الخفيّة وغيرها.

نعم، يمكن أن يقال: بصحّة الوضوء أو الغسل بالبناء على عدم وجود الحاجب عند الشكّ في وجوده، لا من باب جريان الاستصحاب والأصل العمليّ، بل من جهة سيرة العقلاء وبنائهم على العدم، وعدم الفحص عن الحاجب عند الغسل أو الوضوء، فإنّ أصالة وجود عدم الحاجب هي كأصالة عدم القرينة وأصالة الظهور وغير ذلك من الأمارات العقلائيّة، وهي - أعني: الأمارات - حجّة، كما مرّ في محلّه.

ومنها:استصحاب بقاء شهر رمضان أو عدم دخول شوّال يوم الشكّ لأجل ترتيب آثار أوّل يوم من شوّال على اليوم الذي بعده، مع أنّه من الأصل المثبت؛ لأنّ معنى كون الغد هو يوم الشكّ ويوم أوّل شوّال ويوم العيد من اللّوازم العقليّة لبقاء شهر رمضان يوم الشكّ، أو لعدم دخول شوّال في ذلك اليوم.

مع أنّ بناءهم على ترتيب آثار يوم العيد على غد يوم الشكّ، من صلاة العيد، وإعطاء الفطرة وغسل يوم العيد، وسائر أحكامه. بل هم يرتّبون آثار اليوم الثاني والثالث وهكذا... إلى آخر الشهر.

ص: 176

مع أنّ كلّ هذه العناوين مشكوكة؛ لأنّ الشكّ في أوّل الشهر مستلزم للشكّ في جميع هذه العناوين.

التنبيه السادس :الشكّ في التقدّم والتأخّر مع العلم بحصوله في زمان خاصّ:

لا يخفى: أنّ الشكّ تارةً يكون في أصل حدوث الحادث سواء كان موضوعاً أو حكماً، وأُخرى في تقدّمه وتأخّره مع العلم بحصوله في زمان خاصّ.

والأوّل لا إشكال في جريان استصحاب العدم فيه؛ لأنّ أركان الاستصحاب موجودة، وهي اليقين السابق والشكّ اللّاحق، وهكذا الحال فيما لو شكّ في أصل تحقّق حكم أو موضوع ذي الحكم، فإنّه بعد العلم بتحقّقه، فيكون وجوده محرزاً في السابق، فيستصحب وجوده إلى زمان العلم بارتفاعه.وهو كما إذا شكّ في طهارة شيء بعد العلم بنجاسته، كما إذا كان الثوب نجساً في السابق، وشكّ في طهارته بدون العصر - مثلاً -، أو كما إذا شكّ في حصول الحلّيّة للذبيحة بتذكية الكتابيّ، فإنّ استصحاب عدم طهارة الثوب وعدم حلّيّة الذبيحة جارٍ بلا مانع.

وأمّا الشكّ في موضوع ذي حكم، كالشكّ في موت غائب - مثلاً - ، فإنّه لا إشكال في جريان استصحاب عدم تحقّقه، وترتيب آثار حياته من

ص: 177

وجوب الإنفاق على زوجته وحرمة تقسيم أمواله، وغيرهما من أحكام الحياة.

وأمّا إذا كان الشكّ في كيفيّة حدوثه من التقدّم والتأخّر بعد العلم بأصل تحقّق، فهو يتصوّر بوجهين:

الأوّل: أن يلاحظ التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى أجزاء الزمان، كما إذا قطع بوجود زيد يوم الجمعة - مثلاً -، وشكّ في أنّ مبدأ وجوده كان يوم الخميس أو الجمعة.

الثاني: أن يلاحظ بالإضافة إلى حادث زمانيّ آخر، كما إذا تعاقب حادثان، كالطهارة والحدث، وهذا - بدوره - له صورتان:

الأُولى: أن يكون الاستصحاب بلحاظ نفس أجزاء الزمان، كما مثّلنا.

والثانية: كما إذا علم بولادة زيد يوم الجمعة وشكّ في تقدّمها على وفاة عمرو أو تأخّرها عنها.

أمّا الأولى، فلا إشكال في جريان الاستصحاب في عدم تحقّق الحادث في الزمان الأوّل، كما إذا علم بموت زيد يومالجمعة ولم يعلم بأنّ حدوث موته كان فيه أو في الخميس، فلا مانع من استصحاب عدم موته يوم الخميس وترتيب آثاره، كوجوب الإنفاق على زوجته، وحرمة تقسيم ماله بين ورّاثه وغير ذلك، عليه.

وأمّا آثار تأخّره عن يوم الخميس، فبما أنّها من الآثار العقليّة لعدم حدوثه في يوم الخميس، فلا يجري الاستصحاب لإثباتها؛ لأنّه بالنسبة

ص: 178

إليها أصل مثبت، والاستصحاب - كما عرفنا - لا يثبت لوازمه العقليّة، فكذا لا يثبت الأثر الشرعيّ المترتّب على لوازمه العقليّة.

وكذا إذا علم بعدم إسلامه يوم الأربعاء، وشكّ في حدوثه يوم الخميس أو يوم الجمعة، فلا إشكال في استصحاب عدم إسلامه إلى زمان اليقين بوجوده، وهو يوم الجمعة، وترتيب آثار عدم حدوثه يوم الخميس؛ لاجتماع أركان الاستصحاب فيه.

وأمّا آثار لازم عدم حدوث الإسلام يوم الخميس، وهو حدوثه يوم الجمعة، أو تأخّر حدوثه عن يوم الخميس، فلا تترتّب على استصحاب عدم إسلامه إلى يوم الجمعة؛ لأنّ الحدوث أمر بسيط منتزع من الوجود المسبوق بالعدم، وهو لازم عقليّ للتعبّد بعدم إسلامه يوم الخميس. وقد عرفنا أنّ أدلّة الاستصحاب قاصرة عن إثبات لوازم المستصحب العاديّة والعقليّة وآثارها الشرعيّة.

وأمّا الثانية، وهي أن يكون استصحاب كلّ منهما بلحاظ زمان حدوث الآخر أو تأخّره عنه أو مقارنته له. فتارةًيكون الحادثان من المتضادّين اللّذين لا يمكن اجتماعهما في مورد واحد كالطهارة والحدث، وأُخرى لا يكونان كذلك، كإسلام الوارث مع موت المورّث، أو إسلام المتوارثين.

وهذا في صورة كون كليهما معلومي التاريخ يكون خارجاً عن مورد البحث؛ لأنّه لا معنى - حينئذٍ - لجريان الاستصحاب كما هو أوضح

ص: 179

من أن يخفى. وإنّما الكلام فيما لو كان كلّ منهما بالنسبة إلى الآخر من مجهولي التاريخ، أو كان أحدهما فقط معلوم التاريخ.

والحاصل: أنّ مورد البحث فيما نحن فيه، إنّما هو فيما لو كان الشكّ في تقدّم الحادث وتأخّره، لا في أصل حدوثه، أي: أنّ التقدّم والتأخّر ملحوظان بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه، ولكن شكّ في تقدّمه على الحادث الأوّل، أو مقارنته له أو تأخّره عنه. فهذان الحادثان، تارةً يكون تاريخ كليهما مجهولاً، وأُخرى يكون تاريخ أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً.

وقد ذهب بعضهم هنا إلى القول بجريان الاستصحاب في كلتا الصورتين، كما قيل بالعدم مطلقاً.

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سرّه)، فقد ذهب إلى التفصيل بين ما إذا كان كلاهما مجهولي التاريخ، فقال بجريانه فيهما، أو كان أحدهما معلوم التاريخ، فلا يجري فيه، وأمّا الآخر المجهول فيجري فيه.

قال(قدس سرّه) في المقام ما لفظه:«ففي جريان استصحاب عدم حدوث كلٍّ منهما بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر مطلقاً، أو عدم جريانه مطلقاً، أو التفصيل بين ما إذا لم يعلم تاريخ حدوث أحدهما بالخصوص، وبين ما إذا علم ذلك، ففي الأوّل يجري استصحاب عدم حدوث كلٍّ منهما بالإضافة إلى زمان الآخر، وفي الثاني يجري الاستصحاب في خصوص مجهول التاريخ، ولا يجري في

ص: 180

معلوم التاريخ، وجوه، أقواها التفصيل الأخير»(1).

وقبل الدخول في صميم البحث، لابدّ من بيان المحمولات الأربعة من الموجودات والأعدام، فنقول:

إنّ الأثر تارةً يترتّب على الوجود المحموليّ، وأُخرى على الوجود النعتيّ، وثالثة على العدم المحموليّ، ورابعة على العدم النعتيّ.

فالوجود المحموليّ هو نفس الوجود المحمول الأوّلي على الماهيّة، وهو مفاد كان التامّة، كقولك: كان زيد، أي: وجد.

وأمّا الوجود الربطيّ، أو النعتيّ، فهو مفاد كان الناقصة التي تدخل على المبتدأ والخبر فتكون موجبة للربط بينهما، كقولك: كان زيد قائماً، حيث إنّ القيام المحمول على زيد إنّما يكون بعد فرض وجوده، فيكون - لا محالة - أمراً زائداً على نفس وجوده، والذي حقّق هذا الربط ودلّ عليه إنّما هو (كان) الناقصة هذه.وأمّا العدم المحموليّ، فهو ما يقابل الوجود المحموليّ، وهو مفاد ليس التامّة، كما في مثل قولك: زيد معدوم.

وكذلك العدم النعتيّ، فهو مقابل للوجود النعتيّ، وهو مفاد ليس الناقصة، كقولك: زيد ليس بقائم.

ولا يخفى: أنّ التعبير عن الوجود الربطيّ بأنّه وجود نعتيّ، وعن العدم

ص: 181


1- فوائد الاُصول 4: 504.

الذي هو مفاد ليس الناقصة بأنّه عدم نعتيّ، لا يخلو من مسامحة؛ لأنّ الوجود النعتيّ إنّما هو وجود العرض الذي هو من قسم الموجود لنفسه في غيره بغيره(1)، ولكنّ وجوده المحموليّ نعت للغير، وبما أنّ النسب والارتباطات تكون من المعاني الحرفيّة، ولا استقلال لها في الوجود، وبعد أن كانت الأفعال الناقصة تدلّ إمّا على إيجاد الربط وإمّا على سلبه، فالأحسن أن يعبّر عن مفاد كان الناقصة بالوجود الربطيّ، وعن مفاد ليس الناقصة بالعدم الربطيّ.

فإذا اتّضح ذلك نقول:

إذا كان الأثر الشرعيّ مترتّباً على وجود أحد الحادثين، بنحوٍ خاصّ من التقدّم أو التأخّر أو التقارن، دون الحادث الآخر، وذلك كتقدّم رجوع المرتهن عن الإذن على البيع، وتقدّم العيب على العقد، فإنّ رجوع المرتهن عن إذنه قبل البيع يوجب بطلان البيع، كما أنّ تقدّم العيب على العقديوجب الخيار، ونحو ذلك من الأشباه والنظائر، فإنّ احد الحادثين، وهو رجوع المرتهن، وعيب المبيع، في هذين المثالين، لايترتّب عليه

ص: 182


1- لا يذهب عليك: أنّ الوجود تارةً يكون وجوداً في نفسه لنفسه بنفسه، كوجود الباري جلّ وعلا، وأُخرى يكون وجوداً في نفسه لنفسه بغيره، كالجواهر الجسمانيّة، وثالثة يكون وجوداً في نفسه لغيره بغيره، وهو وجودات الأعراض، ورابعةً يكون وجوداً في غيره، وهو وجودات النسب والارتباطات المصطلح عليه - اُصوليّاً - بالمعنى الحرفيّ.

الأثر، إلّا على وجوده بنحو خاصّ، وهو تقدّمه على حادث آخر، وهو البيع؛ إذ لا أثر لرجوع المرتهن عن الإذن بعد البيع، وكذا لا أثر لحدوث العيب في المبيع بعد البيع.

وأمّا الثاني، وهو التأخّر، كما إذا لاقى الثوب المتنجّس الماء؛ فإنّ أثر هذه الملاقاة، وهو الطهارة، مترتّب على الملاقاة بنحو خاصّ، وهو تأخّرها عن كرّيّة الماء، فلا أثر للملاقاة قبل الكرّيّة، ولا مع التقارن، فإنّ المستفاد من مثل (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء)، مع ظهور رجوع الضمير فيه إلى الكرّ، أنّ الماء الذي فرضنا كونه كرّاً لا ينفعل بالملاقاة، فيعتبر في عدم تنجّسه بالملاقاة سبق الكرّيّة، فصورة التقارن - أيضاً - تكون داخلة في مفهوم الانفعال.

وأمّا الثالث: وهو التقارن، كمحاذاة الرجل والمرأة في الصلاة مع وحدة زمان شروعهما في الصلاة، فإنّ المانعيّة - على القول بها - مترتّبة على الحادثين، وهما: صلاتا الرجل والمرأة مع تقارنهما شروعاً وعدم وجود الحائل وعدم الفصل بينهما بعشرة أذرع.

وكتقارن عقدي الاُختين في زمان واحد لرجل، فإنّ البطلان مترتّب على تقارنهما؛ إذ مع اختلافهما زماناً نحكم بصحّة المتقدّم منهما وبطلان المتأخّر.وكتقارن عقدي الاُم وبنتها لرجل، أو تقارن عقدي الفاطميّتين له - بناءً على حرمة الجمع بينهما وبطلان عقديهما -، فإنّ الأثر في هذه

ص: 183

المسائل ونحوها مع تقارن الحادثين، وهما العقدان، هو البطلان، ففيما إذا كان الأثر مترتّباً على أحد الحادثين بنحو خاصّ، من التقدّم أو التأخّر أو التقارن، كتقدّم رجوع المرتهن عن الإذن في البيع أو تقدّم العيب على البيع، فإنّ له الأثر، وأمّا تأخّرهما، فلا أثر لهما كما ذكرنا، فيجري أصل عدم تقدّم الرجوع والعيب، ويكون الأثر هو صحّة البيع، ولا يجري الأصل في الحادث الآخر، أعني: أصل عدم تقدّم البيع على الرجوع أو العيب؛ لأنّه لا أثر له حتى يجري وينهض لمعارضة ذلك الاستصحاب الجاري في الموضوع ذي الأثر الشرعيّ، كما لو فرض أنّ أحد المتوارثين كان كافراً، فإنّ استصحاب عدم موت المسلم منهما إلى زمان موت الآخر الكافر جارٍ ويترتّب عليه الأثر، وهو ارث المسلم منه.

وأمّا استصحاب عدم موت الكافر إلى زمان موت المسلم، فلا يمكن جريانه؛ وذلك لعدم أثر له شرعاً، حتى في صورة العلم بتأخّر موته عن موت المسلم؛ لأنّ الكافر لا يرث من المسلم.

أمّا إذا كان هناك أثر لكلٍّ منهما، كما في مثال عقد الاُختين أو الفاطميّتين، مع كون الشكّ في تقدّمه أو تأخّره، أي: في تقدّم كلّ عقد أو تأخّره بالنسبة إلى العقد الآخر، فإنّ الاستصحاب في كليهما لا يجري - حينئذٍ - للعلم بكذبأحدهما فيتعارضان؛ لأنّ أركان الاستصحاب تكون متحقّقة في كلّ منهما، وبعد التعارض

ص: 184

يتساقطان.

وكذا لو كان الأثر مترتّباً على وجود أحد الحادثين مع التأخّر، كما في مثل ملاقاة النجس للماء، فإنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة جارٍ لإثبات الأثر، وهو طهارة الثوب المغسول. وأمّا استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة، فلا أثر له، وكذلك في صورة التقارن بين الكرّيّة والملاقاة، بأن وقعا في زمان واحد، فهو - أيضاً - بلا أثر، فلا يجري فيه الاستصحاب.

وقد يفرض إمكان جريان الاستصحاب فيه في حدّ نفسه، ولكنّه مع ذلك لا يجري من جهة أُخرى، فمثلاً: في صورة ما إذا كان الأثر ثابتاً لكلّ واحد من الحادثين، المتقدّم والمتأخّر، كما في مثال عقد الفاطميّتين، وإنّما لا يجري الاستصحاب هنا، لا من جهة تعارض الأصلين، بل من جهة عدم ثبوت حالة سابقة للمستصحب؛ لأنّ اتّصاف موت زيد بكونه مقدّماً على موت عمرو لم يكن له حالة سابقة، ولم يكن متيقّناً في السابق حتى يتعبّد ببقائه في ظرف الشكّ، حيث إنّه في حال حياة زيد لم يكن موت حتى يتّصف بالتقدّم على موت عمرو أو بالتأخّر عنه، وعدم اتّصاف الموت بالتقدّم حال الحياة إنّما هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وقد يقال: لنا أن نتمسّك هنا باستصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ موت زيد حال الحياة كما لم يكن بنفسه، فكذلك هو لم يكنوصفه، أعني:

ص: 185

تقدّمه على موت عمرو، وبعد حصول اليقين بموت زيد يشكّ في انتقاض عدم تقدّمه فيستصحب، كاستصحاب عدم قرشيّة المرأة بعد العلم بوجودها.

ولكن فيه: أنّ هناك فرقاً بين الاستصحابين، فإنّ الحكم في استصحاب عدم القرشيّة إنّما ورد على العدم، وأمّا في المقام، فالحكم إنّما ورد على اتّصاف موت زيد بعدم تقدّمه على موت عمرو، لا على عدم اتّصافه بالتقدّم، فاستصحاب عدم الأزليّ، على فرض حجّيّته، إنّما يثبت عدم الاتّصاف بالتقدّم، لا اتّصاف موت زيد بعدم تقدّمه على موت عمرو، إلّا بناءً على الأصل المثبت.

وأمّا الإشكال بأنّه لا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ؛ لأنّ زمانه يكون معلوماً، فموت المورث - مثلاً - كان معلوماً أنّه في غرّة شهر رمضان، فعدم الموت إلى ذلك الزمان معلوم، ومن ذلك الوقت يكون الوقت معلوماً، فمتى يكون الشكّ - أصلاً - حتى يستصحب.

فيمكن الجواب عنه: بأنّ ذلك إنّما يكون بالنسبة إلى نفس أجزاء الزمان، وأمّا بالنسبة إلى زمان حدوث الحادث الآخر، حيث إنّ ذلك الزمان يكون مجهولاً، فقهراً يحصل الشكّ والترديد في بقاء عدم معلوم التاريخ إلى زمان حدوث مجهول التاريخ وفي عدم بقاء عدمه إلى ذلك الزمان.

ص: 186

التنبيه السابع :في جريان استصحاب الصحّة:

فإذا احتمل وجود مانع، كالزيادة، أو قاطع للعمل المركّب بالنسبة إلى الأجزاء السابقة، فهل يجري - حينئذٍ - استصحاب الصحّة أم لا؟

وقد تقدّم الكلام في جريان هذا الاستصحاب عند الحديث عن أصالة الاشتغال، وذلك في باب الاستدلال على عدم بطلان العمل بواسطة الزيادة السهويّة بالاستصحاب.

وقد عرفنا فيما محلّه، أنّ هذا الاستصحاب إنّما يتصوّر بوجهين:

الأوّل: أنّ يكون المراد به استصحاب الصحّة التأهليّة التي كانت لهذه الأجزاء التي عمل بها قبل أن يأتي بهذه الزيادة، أي: أنّها تكون باقية على صلاحيّتها، بحيث لو انضمّ إليها سائر الأجزاء التي لم يأتِ بها، لكان العمل صحيحاً.

والثاني: أن يكون المراد به استصحاب الهيئة الاتّصاليّة التي كانت للعمل المركّب قبل وجود هذه الزيادة، أعني: الجزء الصوريّ للمركّب القائم بمادّته، أي: ذوات الأجزاء، وهذا الجزء الصوريّ، وهو الهيئة الاتّصاليّة، يستكشف من أدلّة القواطع.

وقد يراد بالصحّة - أيضاً -: الصحّة الفعليّة التي تكون قائمة بمجموع العمل، والتي هي عبارة عن تماميّة العمل بما له من الأجزاء والشرائط، وإعدام الموانع المعتبرة فيه عقلاً وشرعاً.

ص: 187

ولكنّ هذا المعنى لا يمكن أن نقول به؛ لأنّه لا يتحقّق إلّا بعد وجود المركّب على النحو الذي أمر به الشارع أو العقل بجميع أجزائه وشرائطه وإعدام موانعه.

التنبيه الثامن: الاستصحاب في الاُمور العقائديّة

فهل هو يجري فيها أم لا؟

وقبل الدخول في محلّ البحث، لابدّ من القول بأنّ الاستصحاب، كما استفدناه من أخبار الباب، هو عبارة عن حكم الشارع بالجري العمليّ على طبق الحالة السابقة عند الشكّ في بقائها مع اليقين بوجودها سابقاً، ولكنّه يحتاج إلى أثر عمليّ حتى يكون الحكم بالجري العمليّ بلحاظ ذلك الأثر، ولا يكفي فيه صرف مجعوليّة المستصحب شرعاً ما لم ينته إلى أثر عمليّ.

وهذا الأثر العمليّ لا يفرّق فيه بين أن يكون من أعمال الجوارح أو من أفعال الجوانح، أعني: الالتزامات والاعتقادات القلبيّة، فلو كان للمستصحب أثر عمليّ، وكان متيقّناً، ثمّ شكّ في بقائه، فيجري الاستصحاب؛ وذلك لتماميّة أركانه، ولا يضرّ كونه من الاُمور الاعتقاديّة والأفعال القلبيّة.

فمثلاً: إذا لم يكن لبقاء النبوّة والإمامة أثر عمليّ، لا يجري الاستصحاب فيهما، وإن كانا من جملة المجعولات الشرعيّة والمناصب

ص: 188

الإلهيّة.وأمّا إن كان لبقائهما أثر عمليّ شرعيّ، فيجري الاستصحاب فيهما، وإن كانا من الاُمور التكوينيّة، لا الشرعيّة.

وقد ذكر المحقّق الخراساني(قدس سرّه) في الكفاية: أنّ الاُمور الاعتقاديّة:

تارةً: يكون المطلوب والمهمّ فيها شرعاً هو الانقياد وعقد القلب، وأمثال ذلك من الأعمال القلبيّة الاختياريّة.

وأُخرى: يكون المطلوب فيها هو تحصيل اليقين والعلم بها.

أمّا الأوّل: فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه، إلّا ما قد يتصوّر من أنّ الاستصحاب هو من الاُصول العمليّة، ولكنّ ذلك لا يصلح للمانعيّة منه؛ لأنّ التعبير بالأصل العمليّ ليس له في دليل الاستصحاب أو غيره عين ولا أثر كي يدّعى انصرافه إلى عمل الجوارح دون عمل الجوانح، وإنّما هو تعبير اصطلاحيّ عبّر به الاُصوليّون عمّا كان وظيفةً للشاكّ تعبّداً، لغرض جعل فرق بينه وبين الأمارات الحاكية عن الواقع، وبالتالي: فهو يعمّ عمل الجوانح والجوارح معاً.

وأمّا الثاني: فالاستصحاب في الحكم جارٍ فيه، فلو شكّ في بقاء وجوب اليقين بشيء بعد اليقين بالوجوب، يستصحب البقاء، ولا مانع منه، ويترتّب عليه لزوم تحصيل اليقين بذلك الشيء والعلم به، دون الموضوع؛ لأنّ المفروض كونالمطلوب تحصيل اليقين به، والاستصحاب لا يجدي في ذلك؛ لعدم رفعه الشكّ إلّا تعبّداً، كما

ص: 189

لا يخفى(1).

وملخّص ما أفاده): أنّ الاُمور الاعتقاديّة على قسمين:

الأوّل: أن يكون المطلوب فيها شرعاً مجرّد الالتزام بها وعقد القلب عليها، ولو لم يحصل اليقين بما لها من الخصوصيّات، كتفاصيل عالم البرزخ والبعث والجنّة والنار والميزان، فإنّ الواجب علينا إنّما هو الاعتقاد بها والتسليم والانقياد لها على ما هي عليه، بأن نعتقد بما هو الواقع، فيجري - حينئذٍ - الاستصحاب.

فمثلاً: إذا شككنا في بقاء سؤال منكر ونكير في بعض بقاع الأرض؛ لكرامتها بكرامة من دفن فيها، من نبيٍّ أو وصيّ، فإنّه يجري الاستصحاب في جميع ذلك ويترتّب عليه وجوب الاعتقاد بذلك كلّه، حيث لم يكن هنا فرق في الحكم الشرعيّ بين تعلّقه بعمل جارحيّ وعمل جانحيّ،

ص: 190


1- انظر: كفاية الاُصول: 422، وهاك نصّ كلامه، قال): «وأمّا الاُمور الاعتقاديّة التي كان المهمّ فيها شرعاً هو الانقياد والتسليم والاعتقاد، بمعنى: عقد القلب عليها من الأعمال القلبيّة الاختياريّة، فكذا لا إشكال في الاستصحاب فيها حكماً، وكذا موضوعاً، فيما كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق؛ لصحّة التنزيل وعموم الدليل، وكونه أصلاً عمليّاً إنّما هو بمعنى أنّه وظيفة الشاكّ تعبّداً، قبالاً للأمارات الحاكية عن الواقعيّات، فيعمّ العمل بالجوانح كالجوارح، وأمّا التي كان المهمّ فيها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها، فلا مجال له موضوعاً، ويجري حكماً، فلو كان متيقّناً بوجوب تحصيل القطع بشيء - كتفاصيل القيامة - في زمان، وشكّ في بقاء وجوبه، يستصحب».

بعد شمول دليل الاستصحاب لكليهما. هذا إذا كان الاستصحاب في الموضوع.

وأمّا إذا كان في الحكم، فكما إذا فرضنا أنّه حصل الشكّ في وجوب اعتقادنا بنبوّة الأنبياء السابقين، لاحتمال وجوبهعلى خصوص المسلمين في صدر الإسلام، مع القطع بوجوده سابقاً، فيجري الاستصحاب قطعاً.

والثاني: أن يكون موضوع وجوب الاعتقاد والتسليم الاُمور الاعتقاديّة بشرط اليقين بها، لا مطلقاً، كوجود الصانع وتوحيده والنبوّة والمعاد؛ فإنّ موضوع وجوب الالتزام والاعتقاد بها إنّما هو معرفتها واليقين بها، لا نفس وجودها واقعاً، وإن لم تتعلّق بها المعرفة، فلا يجري فيها الاستصحاب الموضوعيّ؛ لأنّها لم تكن بوجودها الواقعيّ موضوعاً لوجوب الاعتقاد والتسليم حتى تثبت بالاستصحاب، بل موضوعه هو المعرفة بها، وهي لا تثبت بالاستصحاب. وأمّا الاستصحاب الحكميّ، فلا مانع من جريانه.

وأمّا الشيخ الأنصاريّ(قدس سرّه) فقد قسّم الاُمور الاعتقاديّة المطلوب فيها عمل الجوانح من الاعتقاد والانقياد والتسليم له وعقد القلب عليه إلى قسمين(1):

ص: 191


1- انظر: فرائد الاُصول 3: 259، فما بعدها.

الأوّل: ما يجب فيه أوّلاً بحكم العقل تحصيل العلم واليقين به، ثمّ يجب بحكم العقل بعد العلم واليقين به الاعتقاد به والانقياد والتسليم له وعقد القلب عليه، كالتوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد.

وهذا القسم لا مجال لجريان الاستصحاب فيه موضوعاً، وذلك لأنّه ممّا يجب فيه من تحصيل القطع والمعرفة به، ومعلوم أنّ الاستصحاب ممّا لا يجدي في حصولهما.والثاني: ما لا يجب فيه بحكم العقل ولا الشرع تحصيل اليقين به، ولكن إذا حصل العلم واليقين به بطبعه وجب فيه بحكم العقل والشرع جميعاً الاعتقاد به والانقياد والتسليم له، وذلك كما في تفاصيل البرزخ والقيامة وسؤال النكيرين والصراط والحساب والكتاب والميزان والحوض والجنّة والنار.

وهذا القسم ممّا يجري فيه الاستصحاب حكماً وموضوعاً.

وبناءً على ما تقدّم، يتّضح: أنّه لا يفيد تمسّك الكتابيّ بالاستصحاب لإثبات نبوّة عيسى(علیه السلام)، كما مرّ الكلام فيه مفصّلاً.

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ) وجّه استصحاب متعلّق الاعتقاد مع الشكّ فيه، بقوله:

«وإن أمكن دفعه بأنّ ما لا يتمشّى مع الشكّ إنّما هو التسليم والانقياد الجزميّ، وأمّا التسليم والانقياد له بعنوان كونه نبيّاً أو إماماً ظاهراً بمقتضى

ص: 192

الأمارة أو الأصل المنقّح، فلا بأس به»(1).

وحاصله: أنّ الانقياد والتسليم ههنا بالإمامة - مثلاً - الظاهريّة، أو النبوّة الظاهريّة؛ لأنّه بعد التعبّد بها، تَثبت ظاهراً، فيسلّم بها بهذا النحو، لا على طريق الجزم واليقين كي يورد عليه بتنافيه مع الشكّ في أصل الإمامة والنبوّة.ولكنّه غير تامّ، لما مرّ من أنّ الرسالة والإمامة من الاُمور التكوينيّة، وليستا من الاُمور المجعولة، حتى يمكن جريان الاستصحاب.

التنبيه التاسع :الرجوع إلى عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص:

إذا ورد عامّ أفراديّ، وكان يتضمّن - أيضاً - العموم الأزمانيّ، وخصّص بعض الأفراد، وشكّ في خروج ذلك البعض في جميع الأزمنة أو في بعض تلك الأزمنة، فهل يرجع في زمان الشكّ في الخروج إلى عموم العامّ، أم إلى استصحاب حكم المخصّص؟

فإنّ ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾(2) - مثلاً - له عموم أفراديّ؛ حيث كان (العقود) معرّفاً بالألف واللّام، وهو من صيغ العموم. كما له - أيضاً - عموم أزمانيّ، وإلّا، يلزم لغويّة هذا الحكم؛ لأنّ لزوم الوفاء بالعقد في زمان لا أثر له، فمعنى ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾: وجوب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان.

ص: 193


1- نهاية الأفكار 4: 220.
2- المائدة: الآية 1.

فإذا جاء دليل خيار الغبن وأخرج المعاملة الغبنيّة - مثلاً - عن هذا العموم، وعلمنا بخروجها عن تحت هذا العامّ في آن أوّل الالتفات إلى الغبن، فهل المرجع هو عموم العامّ والحكم باللّزوم في سائر الأزمنة حتى يكون الخيار فوريّاً، أمهو استصحاب حكم المخصّص، حتى يكون الخيار على التراخي؟

وثمرة هذا البحث: هو مسألة فوريّة خيار الغبن، تمسّكاً بعموم ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، فإنّه يدلّ على وجوب الوفاء بالعقد الذي هو كناية عن اللّزوم في كلّ آنٍ وكلّ فرد، وقد خرج عن هذا العموم آن الالتفات إلى الغبن والتمكّن من الفسخ، فإذا لم يفسخ المغبون في آن الالتفات، وشكّ في بقاء الخيار فيما بعده من الآنات، يحكم بسقوطه؛ لعموم ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، كما أنّ من يقول بعدم فوريّة الخيار يتمسّك باستصحاب الحكم المخصّص، وجواز العقد الموجب لكون الخيار على التراخي.

والبحث في هذه المسألة: أنّه مع ورود المخصّص فإنّ التخصيص هل يسقط العامّ عن الحجّيّة رأساً بحيث يمنع عن أصالة العموم مطلقاً؟ أم لا يسقطه كذلك؟ أم يسقطه في الجملة؟

فيه أقوال:

منها: ما عن المحقّق الثاني(قدس سرّه) من التمسّك بالعموم مطلقاً(1).

ص: 194


1- راجع: جامع المقاصد 4: 38.

ومنها: ما عن السيّد بحر العلوم(قدس سرّه) من استصحاب حكم المخصّص مطلقاً(1).ومنها: التفصيل بين المخصّص اللّبّيّ واللّفظيّ بالتمسّك بالعامّ في الأوّل، وبالاستصحاب في الثاني، كما عن صاحب الرياض)(2).

ومنها: القول بالتفصيل بين أن يكون الزمان مفرّداً للعامّ، وبين أن يكون ظرفاً لاستمرار حكمه، بالتشبّث بالعامّ في الأوّل، وبالاستصحاب في الثاني، كما اختاره الشيخ الأعظم(قدس سرّه).

قال): «الحقّ هو التفصيل في المقام، بأن يقال:

إن أُخذ فيه عموم الأزمان أفراديّاً، بأن أُخذ كلّ زمانٍ موضوعاً مستقلّاً لحكم مستقلّ، لينحلّ العموم إلى أحكامٍ متعدّدة بتعدّد الأزمان ... فحينئذٍ: يُعمل عند الشكّ بالعموم، ولا يجري الاستصحاب، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الاُصول، لعدم قابليّة المورد للاستصحاب.

وإن أُخذ لبيان الاستمرار، كقوله: أكرم العلماء دائماً، ثمّ خرج فرد في زمان، وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان، فالظاهر جريان الاستصحاب؛ إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم؛ لأنّ مورد التخصيص الأفراد

ص: 195


1- حكاه عنه الشيخ الأعظم(رحمة الله) في الرسائل، انظر: فرائد الاُصول 3: 276، وعنه: فوائد السيّد بحر العلوم: 116 - 117.
2- انظر: رياض المسائل 8: 281.

دون الأزمنة، بخلاف القسم الأوّل، بل لو لم يكن هنا استصحاب لم يرجع إلى العموم، بل إلى الاُصول الأُخَر»(1).وملخّصه: أنّه لابدّ من التفريق بين ما لوحظ الزمان في أفراد وحصص متعدّدة، بحيث يكون كلّ فرد من أفراد العامّ محكوماً بأحكام متعدّدة بتعدّد آنات الزمان وقطعه، وبين ما إذا لوحظ الزمان قطعة واحدة؛ لاستمرار الحكم، ولا عموم إلّا بلحاظ الأفراد دون الأزمان، فقال بجريان الاستصحاب في نفسه في الثاني، وعدم كونه مورداً لأصالة العموم، بخلاف الأوّل، فإنّه مورد لهذه الأصالة، ولا يجري فيه الاستصحاب.

وأقول:

لا يخفى: أنّه في عالم الثبوت إذا قلنا بكون العامّ بحسب عمومه الأزمانيّ - أيضاً - انحلاليّاً، مثل عمومه الأفراديّ، بمعنى: كون كلّ قطعة من الزمان القابل لوقوع متعلّق التكليف أو الوضع موضوعاً مستقلاً لحكم العامّ، بحيث لا يكون امتثال الحكم أو عصيانه في تلك القطعة بعينها مربوطاً بالامتثال والعصيان في سائر القطعات الأُخرى، بل يكون لكلّ قطعة امتثالها وعصيانها الخاصّ بها.

ففي هذه الصورة: خروج قطعة من الزمان عن تحت العموم الأزمانيّ غير مضرّ أبداً بوجود أصالة العموم بالنسبة إلى القطعات الأُخرى؛ إذ إنّ

ص: 196


1- فرائد الاُصول 3: 274 - 275.

حال أصالة العموم - بناءً على هذا - بالنسبة إلى الأزمان هو حال أصالة العموم بالنسبة إلى الأفراد، فكما أنّ خروج فرد عن تحت العموم باعتبارحكمه لا يكون مضرّاً بشمول العامّ لسائر الأفراد المشكوكة، فكذلك الأمر - أيضاً - في العموم الأزمانيّ.

فخروج المعاملة الغبنيّة في آن الالتفات إلى الغبن عن عموم مثل ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، لا يضرّ بشمول العموم فيه لسائر الآنات والقطعات.

وأنت تعلم: بأنّه مع وجود أصالة العموم فلا يبقى مجال للاستصحاب، بل حتى لو فرض عدم جريان أصالة العموم - التي هي من الأمارات - ففي صورة ما لو كانت كلّ قطعة من الزمن وجوداً مستقلّاً، مع خروج قطعة من الزمن عن تحت العموم يقيناً، فأيضاً لا مجال لجريان استصحاب الحكم المخصّص بالنسبة إلى الأفراد المشكوكة من قطعات الزمان؛ لأنّه يكون من باب إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، وليس من إبقاء ما كان، الذي هو مورد الاستصحاب.

وأمّا إذا لم يكن كذلك، بل كان مجموع القطعات موضوعاً واحد، فلا يبقى مجال للتمسّك بعموم العامّ؛ لأنّ الفرد الخارج يقيناً في بعض قطعات الزمان عن تحت العامّ قد خرج عن تحت حكم العامّ رأساً، وليس للعامّ بحسب الزمان أحكام متعدّدة حسب الفرض، بل هو حكم واحد فقط، وقد سقط عن هذا الفرد بواسطة التخصّص، وليس في البين من حكم آخر حتى يثبت بأصالة العموم لهذا الفرد، فإذا شككنا في حكم هذا

ص: 197

الفرد بقاءً بعد خروجه عن تحت العامّ، فلا مجال - حينئذٍ - إلّا للرجوع إلى الاستصحاب.

هذا في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات، فلا فرق بين أن يكون العموم الأزمانيّ مأخوذاً على نحو العموم الأفراديّ عامّاً اُصوليّاً انحلاليّاً، بأن تكون كلّ قطعة من الزمان قد أُخذت موضوعاً مستقلّاً، وبين كونه من قبيل العامّ المجموعيّ.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون شمول العامّ لجميع الأفراد بأحد ألفاظ العموم، أو بنحو العامّ الاُصوليّ بالإطلاق، فلا فرق في شمول العامّ بين أن يقول - مثلاً - (يجب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان)، بأن يدلّ على انحلال هذا الحكم إلى أحكام متعدّدة حسب تعدّد أزمنة لفظ (كلّ) وأمثاله من ألفاظ العموم، أو يكون الدالّ على الانحلال هو الإطلاق، مثل إطلاق: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، حيث إنّه يدلّ على وجوب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان.

فالمناط - إذاً - هو انحلال الحكم باعتبار الأزمنة أيضاً إلى أحكام متعدّدة، مثل انحلاله باعتبار الأفراد، فكما أنّ مورد الانحلال بحسب الأفراد لو علم بخروج فرد عن تحت عموم الحكم، لا مجال لتوهّم جريان استصحاب حكم الفرد الخارج يقيناً بالنسبة إلى الفرد المشكوك، فكذلك في مورد الانحلال بحسب الزمان.

ومن هنا ظهر: أنّ هناك فرقاً بين كون العامّ نهياً، وبين كونه أمراً، ففي

ص: 198

النهي بما أنّه بنفسه يكون ظاهراً في الانحلال بحسب الأفراد والأزمان، أي: الأفراد العرضيّة والطوليّة، فلو علمنا بخروج فرد في زمان عن تحت عموم النهي.مثلاً: لو علمنا بجواز شرب الخمر لأجل كونه دواءً منحصراً، ثمّ شككنا في زمانٍ بعد ذلك الزمان، لا مجال لاستصحاب الجواز، بل لابدّ من الرجوع إلى عموم النهي؛ لأنّ خروج الفرد عن تحت العموم لا يوجب خروج سائر الأفراد.

وأمّا إذا كان أمراً، فلابدّ فيه من استفادة العموم من ألفاظ العموم أو أدواته أو من الإطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة. فإذا استفدنا العموم الاستغراقيّ بالنسبة إلى الأفراد والأزمان، سواء كان ذلك من ألفاظ العموم وصيغه، أو من أدواته، أو من الإطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة، فإذا علمنا بخروج قطعة من الأزمنة عن تحت العموم، وشككنا بالنسبة إلى الأزمنة المتأخّرة، فلا يمكن التشبّث بالاستصحاب، لما ذكرناه، بل المرجع - حينئذٍ - أصالة العموم؛ إذ كما يمكن التمسّك بأصالة العموم بالنسبة إلى الأفراد المشكوكة في العموم الأفراديّ، فكذلك في الأزمانيّ أيضاً.

ثمّ هذا الذي ذكرناه في العامّ، من تقسيم العامّ إلى قسمين بالنسبة إلى العموم الأزمانيّ، يأتي بالنسبة إلى المخصّص أيضاً، فإنّ المخصّص بدوره:

ص: 199

تارةً: يكون الزمان المأخوذ فيه موضوعاً مستقلّاً، بحيث يكون الفرد الخارج في زمان عن تحت عموم العامّ يكون نفس ذلك الزمان موضوعاً مستقلّاً لحكم المخصّص، بمعنى: أنّه لو فرضنا ثبوت حكم المخصّص له في الزمانالمتأخّر عن ذلك الزمان المتّصل به، فإنّه يكون حكماً آخر لموضوع آخر، وليس من قبيل إبقاء ما كان.

وأُخرى: لا يكون ذلك الزمان موضوعاً مستقلّاً، بل يكون حكم المخصّص من ناحية الزمان مهملاً، وله من هذه الجهة قدر متيقّن، وهو الزمان الذي نقطع بخروجه عن تحت العموم الأزمانيّ.

وحينئذٍ نقول: إن كان من قبيل الأوّل، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه، ولو فرض عدم جريان العموم، كما إذا لم يكن العامّ انحلاليّاً؛ لأنّه يكون - حينئذٍ - من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، لا إبقاء لما كان.

وإن كان من قبيل الثاني، فإن كان العامّ انحلاليّاً، يجب الرجوع إلى العامّ، ويكون من قبيل الشكّ في أصل التخصيص، ومع وجود أصالة العموم، فلا يبقى مجال للاستصحاب.

والحاصل: أنّ صور المسألة أربع:

الصورة الأُولى: أن يكون العامّ انحلاليّاً، وكذلك الخاصّ، ويكون الزمان المأخوذ فيه موضوعاً مستقلّاً لحكم المخصّص. وفي هذه الصورة، لابدّ من الرجوع إلى العامّ في مورد الشكّ، وحينئذٍ: فليس له

ص: 200

أن يطالب بالخيار في الزمان المتأخّر.

ولو فرض عدم إمكان الرجوع إلى العامّ لسبب من الأسباب، فلا مجال للرجوع إلى الاستصحاب، بل لابدّ من الرجوع إلى أصل آخر غيره، لما بيّنّاه.الصورة الثانية: أن يكون العامّ انحلاليّاً - أيضاً -، ولكنّ الخاصّ لا يكون انحلاليّاً، ولا يكون الزمان المأخوذ فيه مستقلّاً، بل يكون مهملاً من هذه الناحية.

وفي هذه الصورة، لابدّ من الرجوع إلى العموم، ولا يمكن الرجوع إلى الخاصّ، بل لو فرض عدم التمكّن من الرجوع إلى العموم، فأيضاً لا يمكن استصحاب الخاصّ، لما عرفنا من أنّه من مصاديق إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

الصورة الثالثة: أن لا يكون العامّ انحلاليّاً، والخاصّ يكون الزمان المأخوذ فيه مستقلّاً. ففي مورد الشكّ، لا يجوز الرجوع إلى العامّ، ولا إلى استصحاب حكم الخاصّ.

أمّا عدم جواز الرجوع إلى العامّ؛ فلعدم أصالة العموم، بل كان حكماً واحداً بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراد العامّ في مجموع الأزمنة، وذهب ذلك الحكم عن هذا الفرد الذي خصّص، وليس هناك حكم آخر حتى يتمسّك بعمومه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون التخصيص من أوّل الأزمنة أو أوسطها.

ص: 201

وأمّا عدم جواز الرجوع إلى الاستصحاب؛ فلما تقدّم من أنّه إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر، وليس من إبقاء ما كان.

الصورة الرابعة: أن لا يكون العامّ انحلاليّاً، والخاصّ - أيضاً - لا يكون الزمان المأخوذ فيه موضوعاً مستقلاً، فالمرجع فيهذه الصورة هو الاستصحاب، لما ذكرناه من أنّه لا مجال للرجوع إلى العموم، فتصل النوبة إلى الاستصحاب.

التنبيه العاشر: تعذّر بعض قيود المركّب:

إذا تعذّر إتيان بعض أجزاء المركّب أو شرائطه أو تعذّر ترك بعض موانعه، فتارةً يكون هناك دليل اجتهاديّ، من إطلاق دليل أو عموم قاعدة الميسور أو غير ذلك، وأُخرى لا يكون، وحينئذٍ: فهل يمكن التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب الباقي غير المتعذّر أم لا؟

فمثلاً: في الآية الشريفة: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(1)، لو فرض أنّ لها إطلاقاً يشمل كلتا حالتي التمكّن من رمي الجمرة وعدم التمكّن منه، فإذا لم يتمكّن منه، وسقط الأمر عنه بواسطة عدم القدرة، فحينئذٍ: يتمسّك بإطلاق دليل وجوب الحجّ لإثبات وجوب الباقي، وعدم سقوطه بسقوط وجوب ذلك الجزء، أو ذلك الشرط المتعذّر.

ص: 202


1- آل عمران: الآية 97.

وقد تقدّم نظائر لهذه الآية الشريفة المتقدّمة عند الكلام عن أدلّة قاعدة الميسور. فلا نعيد.

وإنّما الكلام هنا في أنّه لو لم يكن هناك دليل اجتهاديّ من إطلاق دليل أو عموم قاعدة أو غير ذلك، فهل يمكن جريان الاستصحاب - بتقريب أنّ الاستصحاب أصل عمليّ، فلاتصل النوبة إليه إلّا بعد فقدان العموم أو الإطلاق، وفقدان إطلاق دليل القيد؛ إذ مع وجود إطلاق في دليل المركّب، وكون دليل القيد مجملاً، فيكون بقاء الوجوب للبقيّة معلوماً بواسطة الإطلاق.

فلا يبقى مجال للاستصحاب؛ وذلك لحكومة إطلاق دليل المركّب، وكذا لو كان لدليل الجزء إطلاق فيسقط الوجوب سواء كان لدليل المركّب إطلاق - أم لا يمكن جريانه؟

وتقرير جريان الاستصحاب في المقام بأن يقال:

إنّ شخص الوجوب كان موجوداً، وشموله لتلك القطعة الباقية غير المتعذّرة، وهو الوجوب النفسيّ الضمنيّ المتعلّق بتلك القطعة الباقية في ضمن تعلّقه المجموع.

فإنّ منشأ اعتبار الوجوب هو الإرادة المنبسطة على جميع الأجزاء والشرائط وإعدام الموانع قبل طروّ التعذّر، وبعد طروّه يشكّ في أنّه هل ارتفعت جميع قطعات تلك الإرادة المنبسطة على مجموع أجزاء المركّب وشرائطها أم أنّ الذي ارتفع هو خصوص القطعة التي كانت

ص: 203

متعلّقة بغير المتعذّر؟ فيجري استصحابه.

وقد يقال: بأنّ لازم ذلك أنّ المستصحب في ظرف اليقين به كان وجوبه من قبيل الوجوب النفسيّ الضمنيّ، ثمّ في ظرف الشكّ صار وجوبه نفسيّاً استقلاليّاً، وهذا المقدار من الاختلاف لايوجب اختلافاً في ذات المستصحب، بل إنّما يوجب التبدّل في حدّه، من الضمنيّة إلى الاستقلاليّة.ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ الاستقلاليّة والضمنيّة متغايران؛ لرجوعهما إلى البشرط شيء والبشرط لا، كما الركعتين في صلاة الحاضر والمسافر. فيكون إجراء الاستصحاب - والحال هذه - من إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر، وليس إبقاء لما كان كما كان.

التنبيه الحادي عشر :المراد من الشكّ في البقاء:

المراد من الشكّ في البقاء الذي أُخذ موضوعاً للاستصحاب هو عدم قيام علم أو علميّ على ارتفاع الحالة السابقة أو على بقائها.

والظاهر: أنّ الشكّ قد استعمل بمعناه المتبادر عند العرف، وهو الترديد واحتمال الخلاف، وحيث إنّ احتمال الخلاف تارةً يكون مساوياً لاحتمال الوفاق، وهو الشكّ بمعناه الأخصّ، وأُخرى يكون راجحاً أو مرجوحاً، ويسمّى الأوّل - عادةً - ظنّاً، والثاني وهماً، حيث كان كذلك، فيكون الشكّ بمعناه هنا شاملاً للظنّ - أيضاً -، إذ لم يكن له معنىً في

ص: 204

المقام سوى عدم الجزم بالنسبة الحكميّة.

وعلى هذا الأساس: فالذي يضرّ بتحقّق الشكّ إنّما هو حصول العلم بالبقاء، أو بالارتفاع.

فكلّ من الصور الثلاث - أعني: الشكّ بمعناه الأخصّ، والظنّ، والوهم - لا يوجب خروج القضيّة التي تعلّق بها عنكونها مشكوكة، فتشملها أدلّة الاستصحاب، وتكون بذلك مجرىً له.

وأمّا الظنّ المعتبر، فإنّه بعد تتميم كشفه، يقوم مقام العلم، بل هو علم تعبّداً، كما تقدّم، ولذا سمّي ﺑ (العلميّ)، فإذا قام على البقاء أو على الارتفاع، فلا يبقى مجال للاستصحاب؛ لفرض ارتفاع موضوعه تعبّداً، وهذا هو المقصود من حكومة الأمارات على الاستصحاب.

وأمّا احتمال أن يكون المراد بالشكّ هو خصوص الشكّ المتساوي الطرفين - والذي هو الشكّ بالمعنى الأخصّ - حتى يكون إجراء الاستصحاب في مورد الظنّ بالخلاف، بل وحتى في مورد الظنّ بالوفاق، بحاجة إلى دليل.

فبعيد؛ لأنّ المتفاهم العرفيّ من مثل خطاب (لا تنقض اليقين بالشكّ)، هو عدم جواز نقض اليقين بشيء بصرف احتمال عدم بقائه، سواء كان احتمال العدم مساوياً لاحتمال البقاء، أم كان راجحاً أم مرجوحاً.

ويشهد لذلك قوله(علیه السلام): «ولكن انقضه بيقين آخر»، فلابدّ أن يكون

ص: 205

ما عدا العلم بارتفاع الحالة السابقة مشمولاً للشكّ، وإلّا ، يلزم إهمال حكم الظنّ بالخلاف.

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) في المقام:

«وظنّي: أنّ هذا المعنى الذي ذكروه للشكّ - وهو خصوص كون الاحتمالين متساويين - ليس معنىً لغويّاً أو عرفيّاً للشكّ، وإنّما هو اصطلاح علميّ لبيان استيفاءالحالات الأربع التي تحصل للنفس بالنسبة إلى كلّ قضيّة التفت الإنسان إليها، ولا يخلو من أحدها»(1).

ص: 206


1- منتهى الاُصول 2: 523 - 524.

خاتمة

اشارة

فيها اُمور:

الأمر الأوّل :الكلام في وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة:

اشارة

لا يخفى: أنّه بناءً على ما عرفناه من أنّ حقيقة الاستصحاب هي الحكم ببقاء ما كان تعبّداً في ظرف الشكّ في بقائه وجداناً، وهذا يعني: أنّه لابدّ في تحقّق موضوع الاستصحاب، وفي ثبوت المجرى له، من أن يكون هناك قضيّتان: إحداهما: قضيّة متيقّنة، والأُخرى: مشكوكة.

كما أنّه لابدّ من اتّحاد القضيّتين موضوعاً ومحمولاً، وإلّا، فمع اختلافهما من ناحية الموضوع أو المحمول أو كليهما، فلا يجري الاستصحاب.وقد ذهب صاحب الكفاية) إلى أنّ المعتبر في بقاء الموضوع هو بقاء الموضوع بمعنى اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة، بمعنى: أنّ

ص: 207

ما كان متعلّق اليقين سابقاً، فلابدّ وأن يكون هو متعلّق الشكّ أيضاً، فإذا كان المتيقّن هو قيام زيد، فلابدّ أن يكون هو المشكوك، لا قيام عمرو. وأمّا بقاؤه في الخارج فغير معتبر في الاستصحاب، وإنّما هو معتبر في مقام ترتّب الأثر إذا كان الوجود الخارجيّ دخيلاً فيه.

وهاك نصّ كلامه«:

«لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع، بمعنى: اتّحاد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة موضوعاً، كاتّحادهما حكماً؛ ضرورة أنّه بدونه لا يكون الشكّ في البقاء، بل في الحدوث، ولا رفع اليد عن اليقين في محلّ الشكّ نقض اليقين بالشكّ، فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان».

إلى أن يقول:

«وأمّا بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجاً، فلا يعتبر قطعاً في جريانه؛ لتحقّق أركانه بدونه. نعم، ربّما يكون ممّا لا بدّ منه في ترتيب بعض الآثار، ففي استصحاب عدالة زيد، لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده، وإن كان محتاجاً إليه في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الإنفاق عليه»(1).وبالجملة: فيجب أن تتّحد القضيّتان المتيقّنة والمشكوكة موضوعاً،

ص: 208


1- كفاية الاُصول: 427.

كاتّحادهما حكماً، أي: محمولاً، فإذا فُرض أنّ موضوع القضيّة المتيقّنة - مثلاً - هو زيد، ومحمولها هو القيام، فيجب أن يكون الموضوع في القضيّة المشكوكة هو - أيضاً - زيد، ويجب أن يكون محمولها هو القيام، بأن يستصحب عند الشكّ قيام زيد نفسه، لا قيام عمرو، ليختلف الموضوع، ولا عدالة زيد، ليختلف المحمول، فلو لم يكن موضوع القضيّتين متحداً كاتّحادهما محمولاً، فالشكّ - حينئذٍ - لم يكن في شكّاً في بقاء الأمر الأوّل، بل يصبح شكّاً في حدوث أمر آخر.

وأيضاً: فلو لم يكن موضوع القضيّتين واحداً، كما كان محمولاً واحداً - أيضاً -، لم يكن رفع اليد عن اليقين في محلّ الشكّ نقضاً لليقين بالشكّ، بل هو لا يكون نقضاً أصلاً، فلو تيقّن في السابق بعدالة زيد، ثمّ شكّ فعلاً بعدالة عمرو، لم يكن هذا الشكّ - كما هو واضح - شكّاً في بقاء ما كان، ولا رفعاً لليد عن اليقين بعدالة زيد، ولا نقضاً لليقين بالشكّ، وهذا واضح.

وقد ذكر الشيخ الأعظم(قدس سرّه) دليلاً على اعتبار بقاء الموضوع، وهو: أنّه لو لم يعلم تحقّق الموضوع فعلاً في ظرف الشكّ، «فإذا أُريد بقاء المستصحب العارض له المتقوّم به، فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع، وهو محال، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق، ومن المعلوم: أنّ هذا ليسإبقاءً لنفس ذلك العارض، وإنّما هو حكم بحدوث عارضٍ مثله في موضوع جديد، فيخرج عن الاستصحاب، بل حدوثه للموضوع

ص: 209

الجديد كان مسبوقاً بالعدم، فهو المستصحب دون وجوده»(1).

وحاصله: أنّه لو لم يعلم تحقّق الموضوع فعلاً في ظرف الشكّ، وأُريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوّم به، فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع، وهو محال، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق، وهو كذلك، إمّا لاستحالة انتقال من موضوع إلى موضوع آخر؛ للزوم الطفرة، وهي المستلزمة لكون العرض بلا معروض، ولو آناً ما، في حال الانتقال والتحوّل. وإمّا لأنّ المتيقّن سابقاً هو وجوده في الموضوع السابق والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضاً لليقين السابق.

واعترض عليه صاحب الكفاية(قدس سرّه) بما حاصله: أنّ انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر، بل وهكذا بقاؤه في غير محلّ وموضوع، وإن كان محالاً حقيقةً، ولكنّه ممّا لا يستحيل التعبّد به والالتزام بآثاره شرعاً.

قال(قدس سرّه):

«والاستدلال عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر؛ لتقوّمه بالموضوع وتشخّصه به، غريب؛ بداهة أنّاستحالته حقيقةً غير مستلزم لاستحالته تعبّداً والالتزام بآثاره شرعاً»(2).

ص: 210


1- فرائد الاُصول 3: 290 - 291.
2- كفاية الاُصول: ص 427.

ثمّ بعد الفراغ عن أنّه يعتبر بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب لا محالة، فهل اللّازم هو بقاء الموضوع العقليّ الدقّيّ، أم الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، أم الموضوع الذي يحدّده النظر العرفيّ؟

فنقول: بعد أن عرفنا لزوم بقاء الموضوع في جميع حالات جريان الاستصحاب، فليس المراد به بقاء الموضوع الدقّيّ العقليّ؛ لأنّه بعد رجوع القيود إلى الموضوع - كما ذكرنا آنفاً في مثل آية وجوب الحجّ، من أنّ مردّها بعد ملاحظة القيود فيها إلى معنى قولك: أيّها المستطيع حجّ - فلا مجال للاستصحاب في الأحكام الشرعيّة، في كلّ مقام شكّ في بقاء الحكم فيه؛ لأنّ الشكّ فيه لا يكون إلّا من جهة أنّ القيد الذي زال هل هو دخيل في ترتّب الحكم أم ليس بدخيل؟ فلو علم بعدم دخله فيه، فلا يحصل له الشكّ، كما هو واضح، بل يكون لديه علم ببقاء الحكم، ولو علم بدخله فيه، فكذلك، فإنّه يكون لديه علم بارتفاع الحكم.

وعليه: فبناءً على اعتبار بقاء الموضوع الدقّيّ العقليّ، لا يجري الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة، بل يختصّ جريانه بالموضوعات، دون الأحكام.وأمّا إذا كان اللّازم هو بقاء الموضوع الذي يفهم من لسان الدليل، فقد فرّق الشيخ الأعظم(قدس سرّه) بين ما كان الوصف مأخوذاً فيه بنحو الشرط، كقوله: (الماء يتنجّس إذا تغيّر)، والموضوع فيه هو نفس الماء، فإذا زال التغيّر استصحب النجاسة، وبين ما كان مأخوذاً فيه بنحو الوصف

ص: 211

للموضوع، كقوله: (الماء المتغيّر نجس)، فحينئذٍ: إذا زال التغيّر، لم تستصحب النجاسة(1).

وأمّا إذا كان لزوم بقاء ما هو الموضوع بنظر العرف، فإنّ المعيار - حينئذٍ - في جريان الاستصحاب إنّما هو ما يفهمه العرف موضوعاً ومعروضاً للمستصحب، بحسب ما هو مرتكز في أذهانهم وبحسب ما يشخّصونه من مناسبات الحكم والموضوع، ولو في بعض الأمثلة، بعد فرض زوال العناوين المحتمل كونها مأخوذة في لسان الدليل؛ لكون العرف بحسب مرتكزاته يرى عدم تبدّل الموضوع بعد زوال بعض صفاته.

فمثلاً: في الدليل الدالّ على حلّيّة الحنطة، يرى العرف أنّ الحنطة - بحسب هذا الدليل - هي معروض الحلّيّة، ولكنّه في الوقت عينه، يرى بحسب مرتكزاته أنّ عروض الحليّة ليس من مختصّات الحنطة، بل يعمّها ويعمّ الدقيق أيضاً.وبعبارة أُخرى: فإنّه - حينئذٍ - إذا شكّ في بقاء الحكم من جهة بقاء ما

ص: 212


1- فرائد الاُصول 3: 295. قال«: «أن يُرجع في معرفة الموضوع للأحكام إلى الأدلّة، ويُفَرَّق بين قوله: الماء المتغيّر نجس، وبين قوله: الماء ينجس إذا تغيّر، فيجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبّس بالتغيّر، فيزول الحكم بزواله، وفي الثاني، نفس الماء، فيستصحب النجاسة لو شكّ في مدخليّته التغيّر في بقائها».

هو الموضوع عرفاً، كعنوان القائم وأمثاله من العناوين المشيرة إلى ما هو الموضوع واقعاً، وأنّه من الحالات المتبادلة له، لا الاُمور المقوّمة للموضوع حقيقةً، فإذا ورد الدليل - مثلاً - بأنّ العصير العنبيّ إذا غلى يحرم، فلو جفّ العنب وأصبح زبيباً، فيجري الاستصحاب عندئذٍ، بعدما كان المدار على ما هو الموضوع في نظر العرف.

ولا شكّ في أنّ ما هو مرتكز في أذهانهم في مثل المثال، هو ما يعمّ الزبيب - أيضاً -، وهم يشخّصون أنّ عنوان العنب المأخوذ في لسان الدليل هو من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة، نظير عنوان القائم أو القاعد أو غير ذلك.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ العرف - أيضاً - قد يرون العنوان من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة، ولكنّهم في بعض الأحيان قد يرون العنوان من القيود المقوّمة للموضوع.

فالأوّل: كما مثّلنا. والعنوان المشير عند زواله، فإنّ الحكم لا يزال على حاله، وهو لم يزل، وإذا شكّ في بقائه - أعني: الحكم - استصحب.

وأمّا الثاني، فكما إذا قيل: لا ترفع صوتك عند النائم، وبما أنّ هذا العنوان يكون من العناوين المقوّمة، فإذا زال، فقد زال الحكم من أصله، وإذا شكّ فلا يكون هناك مجال لاستصحابه.

فإذا عرفت هذا، فاعلم:

أنّ النقض وعدمه يختلفان بحسب الموارد، فإذا لم تتّحد القضيّتان

ص: 213

المتيقّنة والمشكوكة موضوعاً كاتّحادهمامحمولاً، فلم يكن رفع اليد عن اليقين في ظرف الشكّ نقضاً لليقين بالشكّ، فإنّ النقض إنّما يصدق فيما إذا كان الموضوع باقياً، فإذا زال عنوان من العناوين المأخوذة في لسان الدليل، وكان العرف يراه من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة وليس من القيود المقوّمة، فرفع اليد - حينئذٍ - عن اليقين في ظرف الشكّ، لا يكون نقضاً، لا بحسب الموضوع العقليّ، ولا بحسب ما هو الموضوع في لسان الدليل؛ لعدم بقائهما، وإن كان يعدّ نقضاً بحسب الموضوع العرفيّ؛ لبقائه وعدم ارتفاعه.

فإذا زالت خصوصيّة من خصوصيّات الموضوع، ممّا يحتمل دخلها في الحكم، ولم تكن مأخوذة في لسان الدليل، ولا من القيود المقوّمة للموضوع في نظر العرف، فرفع اليد - حينئذٍ - عن اليقين في ظرف الشكّ، لا يكون نقضاً بحسب الموضوع العقليّ الدقّيّ؛ لعدم بقائه، ولكنّه يكون نقضاً بحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل والموضوع العرفيّ؛ لبقائهما وعدم ارتفاعهما.

وأمّا إذا زال عنوان من العناوين المأخوذة في لسان الدليل، ممّا يراه العرف - أيضاً - موضوعاً، لا ممّا يراه من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة، فرفع اليد - حينئذٍ - عن اليقين في ظرف الشكّ نقض بحسب الموضوع العقليّ الدقّي، وبحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، وأيضاً بحسب الموضوع العرفيّ.

ص: 214

وقد يقال - بل قد قيل -: بأنّه ما المراد من جعل النظر العرفيّ في مقابل النظر بحسب الدليل؟ فإنّه إن أُريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في مقام تعيّن مفهوم اللّفظ، فهذا يرجع إلى تحكيم الدليل، وليس قسماً آخر. وإن أُريد منه الرجوع إليه في مقام التطبيق وصدق المفهوم على مصاديقه، فلا عبرة بالعرف في هذا المقام كي يحتمل أنّه المحكم والمرجع في تعيّن الموضوع؟

وفي تقريب هذا الإشكال يقول المحقّق العراقي(قدس سرّه):

«إن أُريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في معرفة معنى موضوع الدليل وتشخيص مفهومه، فهو صحيح، إلّا أنّه لا يختصّ بباب الاستصحاب؛ لعموم مرجعيّة نظر العرف في تشخيص مفاهيم الألفاظ وتحديد مداليلها في القضايا الشرعيّة وغيرها، فلا معنى لجعل الموضوع العرفيّ مقابلاً لموضوع الدليليّ في خصوص باب الاستصحاب، لرجوع موضوع الدليليّ - حينئذٍ - إلى الموضوع العرفيّ.

وإن أُريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه فيما يتسامح فيه العرف ويراه من مصاديق موضوع الدليل في مقام التطبيق مع عدم كونه بالنظر الدقّيّ من مصاديقه ... فقد عرفت أنّه لا عبرة بالمسامحات العرفيّة في باب التطبيقات بعد تشخيص المفاهيم»(1).

ص: 215


1- نهاية الأفكار 4: 10، (القسم الثاني).

ولكن لا يخفى: أنّ للعرف نظرين:نظراً من جهة أنّه من أهل المحاورة في مقام التفاهم.

ونظراً آخر من جهة ما يرتكز في ذهنه من مناسبات الأحكام وموضوعاتها، وإنّما يتّحد الموضوع بالنظر العرفيّ مع الموضوع بحسب الدليل، إذا كان المراد بنظر العرف هو النظر الأوّل، وأمّا إذا كان المراد به الثاني، فحينئذٍ: يكون الموضوع في نظر العرف مغايراً له بحسب الدليل.

ثمّ إنّه قد يبيّن إشكال آخر على المقابلة المذكورة، ذكره المحقّق الأصفهانيّ(قدس سرّه) في حاشيته على الكفاية، وحاصله:

أنّ لموضوع الحكم مرحلتين: مرحلة الواقع واللّبّ، ومرحلة الإنشاء والدلالة، فهو باعتبار الأُولى عقليّ دقّيّ، وباعتبار الثانية موضوع دليلي، ولا يكون الطلب متعلّقاً بشيء في غير هاتين المرحلتين.

ونظر العرف في الموضوع إنّما هو طريق محض إلى ما هو الموضوع عند الشارع - لعدم كون الموضوعيّة من الاُمور الاعتباريّة المتقوّمة بالاعتبار كي يصحّ للعرف اعتبارها حقيقةً -، وبعد فرض كون الموضوع لا ثبوت له إلّا في مرحلة اللّبّ واللّفظ، فنظر العرف في كون هذا الشيء موضوعاً للحكم مرجعه إلى المسامحة في الموضوع في قبال العقل والنقل، ولا يصحّ أخذه مقابلاً؛ لأنّ المسامحة في الموضوع تقتضي المسامحة في الحكم - بمقتضى التضايف - فلا يقين بثبوت الحكم لهذا الموضوع شرعاً كي يحرم نقضه ورفع اليد عنه.

ص: 216

وإليك نصّ ما أفاده):«وعليه: فيشكل الأمر في الموضوع العرفيّ المسامحيّ، بتقريب: أن موضوعيّة شيءٍ لحكم لها مرحلتان: الأُولى: مرحلة اللّبّ والواقع وفي مقام الثبوت. الثانية: مرحلة الإنشاء والدلالة ومقام الإثبات. فالموضوع باعتبار الأُولى موضوع حقيقيّ عقليّ، وباعتبار الثانية موضوع دليليّ، ولا يكون الشيء معروضاً للطلب في غير هاتين المرحلتين يوصف بالموضوعيّة، فكون الشيء موضوعاً لحكم الشارع ليس إلّا باعتبار تعلّق طلبه به لبّاً أو لفظاً.

وليست الموضوعيّة متقوّمة باعتبار المعتبر حتى يتصوّر اعتبارها من العرف حقيقةً، بل لا بدّ من كون نظر العرف طريقاً محضاً إلى ما هو الموضوع عند الشارع، والمفروض أنّ ذا الطريق لا ثبوت له على التحقيق، إلّا في مرحلة اللّبّ أو اللّفظ، فلا يعقل أن يشكّل نظر العرف المسامحيّ موضوعاً له حكم، بل مرجعه إلى المسامحة في الموضوع مع فرض كون العقل والنقل على خلافه. وحيث إنّ الموضوع مسامحيّ، فمقتضى التضايف كون الحكم كذلك، فثبوت الحكم له - أيضاً - مسامحيّ، فلا يقين بثبوت الحكم من الشارع لهذا الموضوع حتى يكون إبقاؤه واجباً ونقضه محرّماً»(1).

ص: 217


1- نهاية الدراية 3: 276 - 277، بتلخيص منّا.

ويجاب عنه: بأنّ الحكم عبارة عن أمر اعتباريّ، فهو متقوّم بالاعتبار، ولكنّه في عالم الاعتبار وبعد اعتبار المعتبر يكون واقعيّاً.وللموضوع في مقام ترتّب الحكم واقع متحقّق، فالبحث في حقيقة الأمر في أنّ تعيين الموضوع في واقعه هل يكون بنظر العرف وفهمه من الدليل، أو بنظر العقل، أو بنظر العرف بحسب مرتكزاته.

وكيف كان، فإنّ المشهور بين المحقّقين هو الرجوع إلى العرف في مقام تعيين الموضوع.

وقد أثبت المحقّق الأصفهانيّ(قدس سرّه) ذلك بما توضيحه:

أنّه كما أنّ حجّيّة الظواهر عند الشارع تستفاد من كونه كأحد أهل العرف في مقام المحاورة والتفهيم، فكذلك إن كان للظاهر مصاديق حقيقيّة، وكان بعضها مصداقاً له بنظر العرف، وكانت بنظر العرف - أيضاً - متعلّقة لإرادته الجدّيّة، كما لو كان مُلقي الكلام أحد أهل العرف، ما لم ينصب قرينة على تعيين مراده الجدّيّ من المصاديق؛ لأنّه إذا لم يكن له اصطلاح خاصّ به، فلابدّ أن يكون قد أراد ما هو عند العرف مصداق حقيقيّ، مع عدم نصب قرينة على العدم.

وعليه: ففيما نحن فيه، يكون مراد الشارع الجدّيّ - حيث لم ينصب قرينة على تعيينه - من مصاديق النقض: مصاديقه العرفيّة الحقيقيّة، ومرجع صدق النقض حقيقة عرفاً إلى تعيينه الموضوع، فإنّه بعدما يرى أنّ الموضوع هو كذا يرى أنّ رفع اليد عن الحالة السابقة نقض حقيقة،

ص: 218

فإذا اعتبرنظره في صدق النقض يكشف عن ذلك عن اعتبار نظره في التعيين(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ تعيين موضوع الحكم بنظر العرف إنّما يكون إذا وصل إلى مرتبة القطع بأنّه مراد الشارع، فحينئذٍ: يكون موجباً للتصرّف في حجّيّة لسان الدليل.

ومن المعلوم، أنّ الظاهر إنّما يكون حجّة إذا لم يكن هناك قطع بخلافه، أو كان نظره بمنزلة القرينة الحاليّة، فهو يكون سبباً للتصرّف في ظهور الدليل. وكلامنا هنا إنّما هو في تقديم نظر العرف، ولو لم يصل إلى مرتبة القطع، أو كان لسان الدليل باقياً على حجّيّته وظهوره، فإذا كان ظنّيّاً، فلا دليل على حجّيّة هذا الظنّ، لا شرعاً ولا عقلاً.

ومعه: فلا يمكن التمسّك بالإطلاق والرجوع إلى العرف في مصداق النقض؛ إذ لا دليل على اعتبار العقلاء للنظر العرفيّ في المصداق المبتني

ص: 219


1- انظر نهاية الدراية 3: 283، قال): «كما أنّ حجّيّة الظاهر عند الشارع تستفاد من كونه في مقام محاوراته وإفهامه لمراداته كأحد أهل العرف، فكذلك إذا كان للظاهر مصاديق ومطابقات كلّها من أفراده حقيقة، وكان بعض مصاديقه مصداقاً له بنظر العرف، فإنّ الشارع من حيث مخاطبته مع العرف كأحدهم، فكما يكون المراد الجدّيّ من مصاديق النقض لما هو مصداق عندهم، إذا ألقى هذا الكلام من بعضهم إلى بعض، كذلك إذا ألقى من الشارع إليهم، فإنّ إرادة غيره منهم تحتاج إلى نصب ما يدلّ على تعيينه، دون ما هو متعيّن عندهم، وقد مرّ سابقاً أنّه لا مسامحة هنا، لا في تحديد مفهوم النقض، ولا في تطبيقه على مصاديقه، بل في أمر آخر، وهو تحديد موضوع الحكم الواقعيّ».

على الظنّ في تعيين الموضوع.

ولكنّ المحقّق العراقي(قدس سرّه) أفاد في المقام ما حاصله:

أنّه لا إشكال في احتياج إعمال الاستصحاب إلى نحو من المسامحة في إرجاع القضيّة المشكوكة إلى القضيّة المتيقّنة، لأنّ الإرجاع الحقيقيّ مستلزم لتعلّق الشكّ بما تعلّق به اليقين، وهو مفاد قاعدة اليقين لا الاستصحاب.ثمّ إنّ استفادة البقاء والاتّحاد:

تارةً: تكون من جهة انتزاعهما عن اعتبار وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، وكون متعلّق الشكّ هو اليقين بالشيء، فإنّه يقتضي نحواً من الاتّحاد بين القضيّتين.

وأُخرى: يكون من جهة إطلاق النقض في المقام المقابل للبقاء الصادق حقيقةً على مجرّد اتّحادهما بأحد الأنظار.

فعلى الأوّل: يكون الخلاف في أنّ المسامحة المحتاج إليها هل هي بمقدار إلغاء خصوصيّة الزمان مع التحفّظ على باقي الخصوصيّات بالدقّة، أو أنّها ملحوظة من سائر الجهات؟

فعلى الوجه الأوّل، لابدّ من جعل مركز البحث في اختلاف الانظار هو موضوع الحكم الذي به قوام البقاء والاتّحاد؛ لأنّ كبرى (لا تنقض اليقين) - المستفاد منها اعتبار الاتّحاد والبقاء - هي من المفاهيم المحرزة، ولا خلاف فيها، ولابدّ من تطبيق عنوانهما على المورد بالدقّة العقليّة،

ص: 220

لا بالمسامحة العرفيّة، والتطبيق الحقيقيّ يختلف باختلاف الأنظار في الموضوع للحكم، فلابدّ من تعيين النظر المحكّم لإحراز تحقّق الاتّحاد والبقاء.

وعلى الوجه الثاني: - وهو ما لوحظت المسامحة من سائر الجهات - فيكون محلّ الخلاف ومركزه هو نفس البقاء والإبقاء التعبّديّ، لا في كبرى المستصحب.

وقد اختار(قدس سرّه) الوجه الثاني، وأنّ المسامحة ملحوظة في الجهات الأُخرى غير خصوصيّة الزمان.وعلى الثاني: - أعني إذا كانت استفادة البقاء على حرمة النقض - فإن قيل: بأنّ النقض حقيقةً يصدق بمجرّد وحدة القضيّتين بأحد الأنظار، فلا شبهة في شموله لجميع الأنظار، وأمّا إن قيل: بأنّ النقض الحقيقيّ لا يصدق إلّا مع وحدة القضيّتين دقّةً، فلا يشمل النقض الادّعائيّ المسامحيّ، بل شموله له يحتاج إلى دليل خاصّ؛ لعدم جامع بين النقض الحقيقيّ والادّعائيّ، إلّا أن يتمسّك بالإطلاق المقاميّ الذي مقتضاه شمول النقض لما كان نقضاً بنظر العرف؛ لأنّ القضيّة مسوقة على طبق الأنظار العرفيّة ويكون مقدّماً على الإطلاق اللّفظيّ الدالّ على اعتبار النقض الحقيقيّ.

هذا ما ذكره المحقّق العراقي) بتلخيص وتصرّف منّا(1).

ص: 221


1- راجع: نهاية الأفكار 4: 11 - 12، (القسم الثاني).

ولكن لا يخفى: أنّ النقض هنا غير قابل لحمله على المعنى الحقيقيّ؛ لأنّه معناه الحقيقيّ يقتضي أن يكون الشكّ قد تعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين، وهذا هو مفاد قاعدة اليقين، لا الاستصحاب؛ لأنّ الشكّ في الاستصحاب إنّما يتعلّق ببقاء ما تيقّن به، وأمّا في قاعدة اليقين فهو يتعلّق بأصل ما تيقّن به، فإذا شكّ بعدالة زيد في يوم الجمعة - مثلاً -، ثمّ شكّ في بقاء عدالته يوم السبت، كان هذا هو مجرى الاستصحاب، وأمّا إذا شكّ بعدالة زيد يوم الجمعة، ثمّ حصل له الشكّ في يوم السبت في أصل ثبوت عدالته في يوم الجمعة، بأن زال ما كانمدركاً لاعتقاده ومنشأً لعلمه، فهذا هو مجرى قاعدة اليقين المعروف بالشكّ الساري.

وبعبارة أُخرى: فإنّ هناك اختلافاً بين الشكّ واليقين؛ لأنّ أحدهما متعلّق بالحدوث، والآخر بالبقاء، فلابدّ أن يحمل على المعنى المسامحيّ للنقض، بعد عدم إمكان حمله على المعنى الحقيقيّ، فيتمسّك بدليل الاستصحاب في كلّ مورد يصدق فيه النقض ولو مسامحةً.

وهناك فرق آخر بين القاعدة والاستصحاب - غير تعلّق الشكّ بأصل ما تيقّن في الأوّل وبالبقاء في الثاني -، وهو جواز اجتماع اليقين والشكّ في الاستصحاب في زمانٍ واحد، بخلاف قاعدة اليقين، فإنّه لا يجوز. ففي الاستصحاب، يمكن أن يقطع فعلاً بعدالة زيد في يوم الجمعة ويشكّ - أيضاً - فعلاً في بقاء عدالته في هذا اليوم، وذلك غير ممكن بالنسبة إلى قاعدة اليقين أصلاً؛ فلا يجوز أن يقطع فعلاً

ص: 222

بعدالته في يوم الجمعة ويشكّ فعلاً في أصل عدالته فى يوم الجمعة، كما هو ظاهر.

وبالجملة: فلابدّ في الاستصحاب من أن يكون اليقين والشكّ طوليّين لا عرضيّين واقعين في زمان واحد.

الأمر الثاني :هل تشمل أخبار الاستصحاب قاعدة اليقين أم لا؟

قد يتوهّم أنّ المدرك في قاعدة اليقين هو نفس أدلّة الاستصحاب، وأنّ أدلّة الاستصحاب تشملها، بتقريب: أنّمدلول هذه الأخبار ممّا لا يختصّ بالشكّ في البقاء فقط، بل الشكّ بعد اليقين ملغىً مطلقاً، سواء كان متعلّقاً بنفس ما تيقّنه، أم لا، أم تعلّق ببقائه.

قال الشيخ الأعظم«:

«وأوّل من صرّح بذلك الفاضل السبزواري) في الذخيرة، في مسألة من شكّ في بعض أفعال الوضوء، حيث قال: والتحقيق: أنّه إن فرغ من الوضوء متيقّناً للإكمال، ثمّ عرض له الشكّ، فالظاهر: عدم وجوب إعادة شيء؛ لصحيحة زرارة: (ولا تنقض اليقين أبداً بالشك)».

ثمّ قال):

«ولعلّه(قدس سرّه) تفطّن له من كلام الحلّيّ في السرائر، حيث استدلّ على المسألة المذكورة بأنّه لا يخرج عن حال الطهارة إلّا على يقين من إكمالها وليس ينقض الشكّ اليقين».

ص: 223

ثمّ قال:

«لكنّ هذا التعبير من الحلّيّ لا يلزم أن يكون استفاده من أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ. ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء. لكنّ التعبير لا يلزم دعوى شمول الأخبار للقاعدتين، على ما توهّمه غير واحد من المعاصرين، وإن اختلفوا بين مُدّعٍ لانصرافها إلى خصوص الاستصحاب، وبين منكر له، عامل بعمومها»(1).وقد تصدّى« لدفع هذا التوهّم المذكور وتضعيفه، وقد أفاد في مقام دفعه وجهين:

الوجه الأوّل: - ما ملخّصه على طوله - أنّ الظاهر من الأخبار الدالّة على عدم نقض اليقين بالشكّ هو اتّحاد متعلّق اليقين والشكّ، فلابدّ أن يلاحظ المتيقّن والمشكوك في قاعدة الاستصحاب غير مقيّدين بالزمان، وإلّا، لم يجز استصحابه كما تقدّم في ردّ شبهة من قال بتعارض الوجود والعدم في شيء واحد، - يعني به: الفاضل النراقيّ) على ما تقدّم شرح كلامه في ذيل استصحاب الاُمور التدريجيّة - والمفروض في القاعدة الثانية كون الشكّ متعلّقاً بالمتيقّن السابق بوصف وجوده في الزمان السابق، ومن المعلوم: عدم جواز إرادة الاعتبارين، من اليقين والشكّ، في تلك الأخبار.

إلى أن قال(قدس سرّه): «ثمّ إذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين، فلا بدّ أنّ

ص: 224


1- فرائد الاُصول 3: 304.

يُخصّ مدلولها بقاعدة الاستصحاب؛ لورودها في موارد تلك القاعدة، كالشكّ في الطهارة من الحدث والخبث ودخول هلال شهر رمضان أو شوّال»(1).

الوجه الثاني: ما لفظه: «ثمّ لو سلّمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين، لزم حصول التعارض في مدلول الرواية المسقط له عن الاستدلال به على القاعدة الثانية؛ لأنّه إذا شكّ فيما تيقّن سابقاً، أعني: عدالة زيد في يومالجمعة، فهذا الشكّ معارض لفردين من اليقين، أحدهما: اليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة.

الثاني: اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم الجمعة، فتدلّ بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة باحتمال انتفائها في ذلك الزمان، وبمقتضى قاعدة الاستصحاب على عدم نقض اليقين بعدم عدالته قبل الجمعة باحتمال حدوثها في الجمعة، فكلّ من طرفي الشكّ معارض لفرد من اليقين»(2).

وأمّا المحقّق النائيني)، فقد ذهب إلى أنّ في الاستصحاب والقاعدة جهات أربع، هي: جهة اليقين، وجهة المتيقّن، وجهة النقض، وجهة الحكم، ولا يمكن الجمع بين هاتين القاعدتين في اللّحاظ من جميع الجهات.

ص: 225


1- المصدر نفسه: 304 - 308.
2- المصدر نفسه: 309.

«أمّا من جهة اليقين؛ فلأنّ اليقين في باب الاستصحاب إنّما يكون ملحوظاً من حيث كونه طريقاً وكاشفاً عن المتيقّن، وفي القاعدة يكون ملحوظاً من حيث نفسه؛ لبطلان كاشفيّته بعد تبدّله إلى الشكّ.

وأمّا من جهة المتيقّن؛ فلأنّ المتيقّن في الاستصحاب لا بدّ وأن يكون معرّى عن الزمان، غير مقيّد به، وفي القاعدة لا بدّ من لحاظه مقيّداً بالزمان.

وأمّا من جهة النقض؛ فلأنّ نقض اليقين في الاستصحاب إنّما يكون باعتبار ما يقتضيه اليقين من الجري العمليّ علىطبق المتيقّن، وفي القاعدة إنّما يكون باعتبار نفس اليقين، وذلك من لوازم لحاظ اليقين موضوعاً أو طريقاً.

وأمّا من جهة الحكم؛ فلأنّ الحكم المجعول في القاعدة إنّما هو البناء العمليّ على ثبوت المتيقّن في زمان اليقين، وفي الاستصحاب هو البناء العمليّ على ثبوت المتيقّن في زمان الشكّ.

فالقاعدة تباين الاستصحاب من كلّ جهة من هذه الجهات الأربع، فلا يمكن أن تعمّها أخبار الباب»(1).

وما ذكره(قدس سرّه) من الفرق، وإن كان محلّاً للتأمّل، ولكنّ ما أفاده من عدم شمول الأخبار للقاعدتين، فلا كلام فيه.

ص: 226


1- فوائد الاُصول 4: 589 - 590.

وقد أفاد المحقّق الخراسانيّ(قدس سرّه) في حاشيته على الرسائل ما حاصله:

أنّه بعد لحاظ اتّحاد متعلّقي الشكّ واليقين؛ حيث كان النقض والإبقاء متوقّفين على ذلك، فلابدّ من إلغاء خصوصيّة الزمان في الاستصحاب، وحينئذٍ: ففي الاستصحاب تتمّ ملاحظة المتيقّن بدون الزمان، وأمّا في القاعدة فيلاحظ المتيقّن مع الزمان، فاللّحاظان في القاعدتين مختلفان، وبذلك يختلف ما هو المؤدّى في إحداهما عن ما هو المؤدّى في الأُخرى.

وحينئذٍ: فإن أُفيد المؤدّيان بمفهوم اسميّ يعمّهما، بحيث يكشف عن اللّحاظين المذكورين - كما إذا قيل: لا تنقضاليقين بالشكّ الذي له تعلّق بما تعلّق به اليقين - فهو، وإلّا، فلا يمكن أداء هذين المؤدّيين بمعنى حرفيّ بحيث لا يكاد يراد منه إلّا أحدهما؛ لعدم إمكان اجتماع اللّحاظين المتنافيين في إنشاء واحد.

ولا يخفى: أنّ أخبار الباب ليس لها مفهوم اسميّ يعمّ المؤدّيين، فيكون مفهومها حرفيّاً، فلا يعمّهما بلحاظهما المتنافيين، فلا يصلح لأن يستفاد من الأخبار - حينئذٍ - إلّا الاستصحاب.

وإليك نصّ كلامه):

«لولا لحاظ اتّحادهما، لما كان العمل على خلاف اليقين نقضاً له بالشّكّ، ولا العمل على طبقه مضيّاً على اليقين، فلا بدّ من عدم ملاحظة الزّمان، وأن متعلّقهما مع ملاحظته اثنين، ومتعلّق الشّكّ واليقين في

ص: 227

القاعدة، وإن كان - أيضاً - متّحداً، إلّا أنّه مع ملاحظة الزّمان، فكان إلغاء الشّكّ والمضيّ على اليقين في الاستصحاب عبارة عن التّعبّد بثبوت المشكوك في اللّاحق، كما كان في السابق، وفي القاعدة عبارة عن التّعبّد بثبوته فيه سابقاً، وإن شكّ في ثبوته كذلك لاحقاً، واختلاف مؤدّاهما، وإن لم يمنع عن الجمع بينهما في كلام واحد مشتمل على ما يعمّهما بمفهومه ويحويهما بمعناه حاكٍ عن حرمة النّقض، ووجوب المضيّ في الواقع باللّحاظين اللّذين كانا موجبين لاختلاف مؤدّى القاعدتين، كما إذا قيل - مثلاً - (لا تنقض اليقين بالشكّ الذي كان له تعلّق بما تعلّق به اليقين)، فإنّ التّعلّق بإطلاقه يعمّ ماإذا كان تعلّقه به بأصل ثبوته الذي لا بدّ فيه من اتّحاد المتعلّقين، ولو مع ملاحظة الزمان أو بقائه الذي لا بدّ من اتّحادهما مع عدم ملاحظته، إلّا أنّه لا يكاد يمكن الجمع بينهما فيما إذا لم يكن هناك ما يحكي عنهما بمفهومه، ويظهر في تحقّقهما بإطلاقه أو عمومه، بل كان إرادتهما بالجمع بين اللّحاظين في خطاب واحد قصد به ضرب كلتا القاعدتين؛ ضرورة امتناع الإنشاء الواحد بلحاظين متنافيين ونظرين متضادّين: لحاظ المتيقّن مع زمانه، ولحاظه بدونه، والنّظر إلى ثبوته في زمان قطع بثبوته فيه من دون نظر إلى بقائه، والنّظر إلى خصوص بقائه»(1).

ولكن يرد عليه: أنّه لا يشترط في الاستصحاب لحاظ المتيقّن بدون الزمان، كما ذكر، بل الذي هو معتبر إنّما هو تعلّق الشكّ بالبقاء

ص: 228


1- درر الفوائد: 388 - 389.

على حدّ تعلّق اليقين بالحدوث فعلاً، لا أن يلحظ عدم الزمان في المتيقّن.

وكيف كان، فإنّ بعض أخبار الباب وإن كانت مختصّةً بالاستصحاب، ولكنّ بعضها مجمل، كموثّقة إسحاق بن عمّار المتقدّمة، وهو قوله(علیه السلام): «إذا شككتَ فابنِ على اليقين. قال: قلت: هذا أصل، قال: نعم»، فإنّها مجملة مردّدة بين قاعدة الاستصحاب وقاعدة اليقين، فلا يمكن الاستدلال بها لشيء منهما. والقول بشمولها لكلتا القاعدتين، على تقدير تجويزها ثبوتاً، خلاف الظاهر بلا إشكال.وأمّا قوله(علیه السلام): «من كان على يقين فشكّ»، أو «فأصابه شكّ فليمضِ على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» أو «فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ»، فالشيخ(قدس سرّه) - كما تقدّم عند الحديث عن أخبار الباب - حمله على قاعدة اليقين؛ لظهوره في اختلاف زمان الوصفين المعتبر في قاعدة اليقين دون الاستصحاب.

بينما ادّعى صاحب الكفاية(قدس سرّه) هناك أنّها ظاهرة في الاستصحاب، لقوله(علیه السلام) في آخر الحديث: «فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» أو «فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ»، فإنّه يشير إلى القضيّة المرتكزة في الاستصحاب الواردة في الصحاح الثلاث المتقدّمة.

ولكنّ الشيخ الأعظم(قدس سرّه) استدرك قائلاً: «فالانصاف: أنّ الرواية - سيّما بملاحظة قوله(علیه السلام): (فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين)، بملاحظة ما سبق في

ص: 229

الصحاح، من قوله: (لا ينقض اليقين بالشكّ)، حيث إنّ ظاهره مساوقته لها، ظاهرة في الاستصحاب، ويبعد حملها على المعنى الذي ذكرنا»(1)، يعني به: قاعدة اليقين.

الأمر الثالث: في تقدّم الأمارات على الاستصحاب:

ولا شبهة في هذا التقديم ولا كلام، وإنّما الكلام في وجهه، وأنّه هل يكون من باب التخصيص أو التخصّص أو الحكومة أو الورود؟

فلابدّ - أوّلاً - من بيان المراد من كلّ من هذه المصطلحات الأربعة، فنقول:

أمّا التخصيص: فهو إخراج بعض الأفراد عن تحت العامّ الذي ثبت له الحكم، مع حفظ فرديّته ومصداقيّته له، كخروج الفسّاق من العلماء فيما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم فسّاق العلماء).

وأمّا التخصّص: فهو خروج الفرد عن تحت العامّ حقيقة تكويناً وذاتاً، بلا حاجة إلى ما يخرجه، كخروج زيد الجاهل عن تحت قوله: (أكرم العلماء)، من دون أن نحتاج في إخراجه إلى أن يقال: (لا تكرم زيداً الجاهل).

وأمّا الورود: فهو ما إذا كان أحد الدليلين رافعاً لموضوع الآخر حقيقةً، ولكن لا تكويناً، بل بواسطة التعبّد الشرعيّ، فهو من هذه الناحية - وهي

ص: 230


1- فرائد الاُصول 3: 70.

كون الخروج حقيقيّاً - يشترك مع التخصّص، وإنّما يختلف عنه في أنّ الخروج هنا يكون ببركة التعبّد وجعل الشارع واعتباره، ولولا ذلك لما كان بياناً أصلاً حتى يكون متقدّماً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ورافعاً لموضوعها حقيقة.والورود قد يكون حقيقةً، كما في الأمارات بالنسبة إلى الاُصول العقليّة كالبراءة العقليّة والاحتياط والتخيير العقليّين، فإنّ الأمارة إذا قامت على حكم أو موضوع ذي حكم فلا يبقى معها - أصلاً - موضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، بل ينقلب اللّابيان، الذي هو موضوع هذه القاعدة، إلى البيان، وهكذا موضوع الاحتياط والتخيير العقليّين، وهو احتمال العقاب وعدم الترجيح لتقديم أحدهما.

وقد يكون تعبّداً، كما في الأمارات بالنسبة إلى الاُصول الشرعيّة، كالبراءة الشرعيّة والاستصحاب، بناءً على إدخاله في باب الاُصول العمليّة، وكقاعدتي الحلّ والطهارة، بل بناءً على عدم دخوله في الأمارات ولا الاُصول، كما ذكرناه من أنّ الاستصحاب فرش الاُصول وعرش الأمارات؛ فإنّه إذا قامت الأمارة على شيء فالجهل، ولو كان باقياً ولم يرتفع معها حقيقةً، ولكن لا جهل معها شرعاً بعد أن كان الشارع قد نزّلها منزلة العلم، فلا يبقى - بعد ورودها - مجال لمثل حديث الرفع ممّا أُخذ في موضوعه الجهل أو الشكّ.

وأمّا الحكومة: فقال الشيخ الأعظم(رحمة الله) في شرحها في هذا المقام

ص: 231

ما نصّه:

«ومعنى الحكومة - على ما سيجيء في باب التعارض والتراجيح -: أن يحكم الشارع في ضمن الدليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر لولا هذا الدليل الحاكم، أو بوجوب العمل في موردٍ بحكمٍ لا يقتضيه دليله لولا الدليل الحاكم، وحاصله: تنزيل شيء خارجٍ عن موضوع دليلٍمنزلةَ ذلك الموضوع في ترتيب أحكامه عليه، أو داخلٍ في موضوعٍ منزلة الخارج منه، في عدم ترتيب أحكامه عليه»(1).

وما ذكره في مبحث التعادل والتراجيح هو التالي:

«وضابط الحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللّفظيّ متعرّضاً لحال دليل الآخر ورافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه، فيكون مبيّناً لمقدار مدلوله، مسوقاً لبيان حاله، متفرّعاً عليه، وميزان ذلك: أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل لكان هذا الدليل لغواً خالياً عن المورد»(2).

والحاصل: أنّ الحكومة هي ما إذا كان أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر مفسّراً له متصرّفاً فيه، وذلك:

إمّا في حكمه، كما إذا قال: (أكرم العلماء)، ثمّ قال: (لا وجوب

ص: 232


1- المصدر نفسه 3: 314، ولاحظ - أيضاً - الزيادة المذكورة في الهامش رقم 4 من الصفحة نفسها.
2- المصدر نفسه 4: 13.

لإكرام العالم الفاسق). والفرق بين المخصّص وهذا النوع من الحاكم مع كونهما متساويين في النتيجة: أنّ المخصّص ليس له نظر إلى العامّ، بخلاف الحاكم، فله نظر إلى المحكوم.

وإمّا في موضوعه، كما إذا قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (العالم الفاسق ليس بعالم).ثمّ إنّه لا فرق في تصرّف الحاكم في المحكوم بين أن يكون بنحو التضييق، كما في مثل (لا ربا بين الوالد وولده)، أو بنحو التوسعة، نحو (الصلاة بالبيت طواف). بل قد يكون - أيضاً - بمعنى التغيير والتبديل، كما إذا قال: (لا تجالس الفقراء) ثمّ قال: (ليس الفقير من لا مال له بل الفقير لا دين له).

وكذلك، لا فرق بين أن تكون الحكومة واقعيّة كما في الأمثلة المتقدّمة، وبين أن تكون ظاهريّة، كما إذا قال: (يشترط في الصلاة طهارة الثوب)، ثمّ قال: (كلّ شيء لك طاهر حتى تعلم أنّه قذر) فيوسع الثاني دائرة الشرط ظاهراً ويجعل الشرط أعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة، أو قال: (يجب في الصلاة كذا وكذا من الأجزاء)، ثمّ قال: (رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون)، فيضيّق الثاني دائرة الأجزاء ظاهراً ويخصّصها بصورة العلم فقط، فتكون الحكومة - حينئذٍ - ظاهريّة، وهنا: لا يكون العمل مجزياً عن الحكم الواقعيّ عند انكشاف الخلاف، بل هو، والحال هذه،

ص: 233

﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء﴾(1).

فإذا عرفت ذلك، نقول:

لا يخفى: أنّ الأمارات واردة على الاُصول العقليّة، وحاكمة على الاُصول الشرعيّة.

فهل تقديم الأمارات على الاستصحاب بنحو الورود أو الحكومة أو التخصيص؟وقد صرّح الشيخ الأنصاريّ) في هذا المقام بتقديم دليل الأمارات على دليل الاستصحاب بالحكومة، قال(قدس سرّه) - ما هذا لفظه -:

«لكنّ الشأن في أنّ العمل به [يعني: بما أقامه الشارع مقام العلم بالواقع] من باب تخصيص أدلّة الاستصحاب، أو من باب التخصّص؟ [ويعني بالتخصّص هنا: الورود]، الظاهر: أنّه من باب حكومة أدلّة تلك الاُمور على أدلّة الاستصحاب، وليس تخصيصاً بمعنى خروج المورد بمجرّد وجود الدليل عن مورد الاستصحاب؛ لأنّ هذا مختصّ بالدليل العلميّ المزيل وجوده للشكّ المأخوذ في مجرى الاستصحاب».

ثمّ ساق الكلام إلى بيان معنى الحكومة، بعبارة نقلنا نصّها سابقاً.

إلى أن قال:

«ففيما نحن فيه، إذا قال الشارع: (اعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك)،

ص: 234


1- النور: الآية 39.

والمفروض أنّ الشكّ موجود مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب، فإنّ الشارع جعل الاحتمال المطابق للبيّنة بمنزلة اليقين الذي ينتقض به اليقين السابق، وجعل - أيضاً - الاحتمال المخالف للبيّنة كالمعدوم، فكأنه لا شكّ حتى يرجع فيه إلى الاستصحاب، فكأنّه قال: لا يُحكم على هذا الشكّ بحكمه المقرّر في قاعدة الاستصحاب، وافرضه كالعدم». انتهى(1).ولكنّه(قدس سرّه) عاد في باب التعادل والتراجيح، ليقول بالتفصيل، ونصّ كلامه:

«فإن كان الأصل ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل، كأصالة البراءة العقليّة والاحتياط والتخيير العقليّين، فالدليل - أيضاً - [يعني: الاجتهاديّ]، وارد عليه، ورافع لموضوعه؛ لأنّ موضوع الأوّل عدم البيان، وموضوع الثاني احتمال العقاب، ومورد الثالث عدم المرجّح لأحد طرفي التخيير، وكلّ ذلك يرتفع بالدليل العلميّ المذكور. [أي: الدليل الذي ثبت اعتباره بالعلم].

وإن كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة، كالاستصحاب ونحوه، كان ذلك الدليل حاكماً على الأصل، بمعنى: أنّه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الأصل، فالدليل العلميّ المذكور وإن لم يرفع موضوعه - أعني الشكّ -، إلّا أنّه يرفع حكم الشكّ، أعني: الاستصحاب».

ص: 235


1- انظر: فرائد الاُصول 3: 314 - 315، وانظر الهامش رقم 2 في ص 315.

ثمّ ساق الكلام إلى بيان ضابط الحكومة، بعبارةٍ نقلنا نصّها - أيضاً -.

إلى أن قال:

«والفرق بينه وبين التخصيص: أنّ كون المخصّص بياناً للعامّ إنّما هو بحكم العقل، الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاصّ، وهذا بيان بلفظه، ومفسّر للمراد منالعامّ، فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير». انتهى(1).

وقد خالف في ذلك صاحب الكفاية(قدس سرّه)، الذي ادّعى الورود.

وحاصل ما أفاده(قدس سرّه): أنّ تقديم الأمارات على الاستصحاب ليس إلّا بمناط الورود، وذلك لأنّ الأمارات مهما قامت على خلاف اليقين السابق، فرفع اليد عنه لا يكون نقضاً لليقين بالشكّ، بل باليقين، أي: باليقين التنزيليّ، يعني به: الحجّة، وهكذا الأمر فيما إذا قامت الأمارة المعتبرة على وفق اليقين السابق، فعدم رفع اليد عنه ليس لأجل أن لا يلزم نقض اليقين بالشكّ، بل من جهة لزوم العمل بالحجّة، أي باليقين التنزيليّ، وانتفاء الشك، ولو تعبّداً، لا حقيقةً.

وإليك نصّ كلامه، قال(قدس سرّه):

«والتحقيق: أنّه للورود، فإنّ رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ، بل باليقين، وعدم رفع

ص: 236


1- فرائد الاُصول 4: 12 - 14.

اليد عنه مع الأمارة على وفقه ليس لأجل أن لا يلزم نقضه به، بل من جهة لزوم العمل بالحجّة»(1).

ثمّ أورد على نفسه بما حاصله: بأنّه إنّما تكون الأمارة واردة على الاستصحاب لو أُخذ بدليلها في مورد الاجتماع مع الاستصحاب، ولكن لماذا لا يؤخذ بدليل الاستصحابويؤخذ بدليل الأمارة؟ وأيّ مرجّح لتقديم جانب الأمارة على جانب الاستصحاب؟

وقد أجاب عنه(2): بأنّ المرجّح لتقديم جانب الأمارة على جانب الاستصحاب، هو أنّا لو أخذنا بجانب الأمارة فلا يلزم منه شيء سوى ارتفاع موضوع الاستصحاب بها، وهو الشكّ، ولزوم نقض اليقين باليقين، وهذا ليس بمحذور.

وإن أخذنا بجانب الاستصحاب ورفعنا اليد عن الأمارة:

فإن كان ذلك من دون ما يُخرج الأمارة عن تحت عموم أدلّة الاعتبار، كان تخصيصاً بلا مخصّص.

وإن كان لأجل الاستصحاب وكونه مخصّصاً لأدلّة اعتبارها، فهذا دور؛ فإنّ مخصّصيّة الاستصحاب لها يتوقّف على اعتبار الاستصحاب

ص: 237


1- كفاية الاُصول: 429.
2- وهذا نصّ الجواب، قال): «فإنّه يقال: ذلك إنّما هو لأجل أنّه لا محذور في الأخذ بدليلها، بخلاف الأخذ بدليله؛ فإنّه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصّص إلّا على وجه دائر؛ إذ التخصيص به يتوقّف على اعتباره معها، واعتباره كذلك يتوقّف على التخصيص به؛ إذ لولاه لا مورد له معها». انظر: كفاية الاُصول: 429.

مع الأمارة، واعتبار الاستصحاب مع الأمارة يتوقّف على مخصّصيته لها، وإلّا، فلا مورد له معها، بعدما عرفت من ورود الأمارة عليه.

وبالجملة: ففي مورد الاجتماع مع الاستصحاب، لابدّ من الأخذ بدليل الأمارة دون الاستصحاب، وإلّا، لزم محذور التخصيص بلا مخصّص، أو التخصيص على وجه دائر.

هذا حاصل ما أفاده« موضّحاً.

وسلك المحقّق النائيني) مسلكاً آخر، رأى فيه أنّ التقديم إنّما يكون من باب الحكومة؛ وذلك نظراً إلى أنّ مقتضى التحقيقهو كون المجعول في الأمارة هي الطريقيّة وتتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف، وما أشبه ذلك، لا المنجّزيّة؛ لاستلزامه تخصيص الحكم العقليّ بقبح العقاب بلا بيان، وهو غير قابل للتخصيص، ولا لجعل المؤدّى؛ لمحذور اجتماع الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وحينئذٍ: يرتفع موضوع الاستصحاب تعبّداً عند قيام الأمارة، وهو معنى الحكومة؛ لأنّه أوجب التصرّف في عقد الوضع.

قال(قدس سرّه):

«وبالجملة: حكومة الأدلّة المتكفّلة للأحكام الظاهريّة بعضها على بعض، إنّما تكون باعتبار رفع دليل الحاكم موضوع دليل المحكوم في عالم التشريع، مع بقائه في عالم التكوين، فإنّ قيام الأمارة على خلاف مؤدّى الأصل لا يوجب رفع الشكّ خارجاً؛ لاحتمال مخالفة الأمارة للواقع، فموضوع الأصل محفوظ تكويناً، ولكن لمّا كان المجعول في

ص: 238

باب الأمارات هو الإحراز وإلغاء احتمال الخلاف، كانت الأمارة رافعة للشكّ في عالم التشريع؛ لأنّ المكلّف يكون محرزاً للواقع بحكم التعبّد بالأمارة، فلا يبقى موضوع الأصل». إلى آخر ما أفاده(قدس سرّه)(1).

وقريب من ذلك ما اختاره المحقّق العراقي(قدس سرّه)، ولكن بتعبير آخر، فقد التزم(قدس سرّه) بأنّ قيام الأمارة - بمقتضى دليل الاعتبار - يحقّق غاية الاستصحاب، وهو اليقين، ولم يرَ بأنّه يرفعموضوعه، وهو الشكّ. ولعلّه لأجل أنّ موضوع الاستصحاب ليس عبارة عن عدم العلم كي يكون اعتبار العلم رافعاً لموضوعه، بل عبارة عن أمر وجوديّ، وهو الاحتمال الذي يصل إلى حدّ العلم، ومن الواضح: أنّ اعتبار أحد الضدّين لا يلازم اعتبار عدم الضدّ الآخر، فالتلازم بين الواقعين لا يستلزم التلازم بين الاعتبارين.

وعليه: فاعتبار العلم لا يلازم اعتبار عدم الاحتمال الخاصّ، فلا يكون اعتباره رافعاً لموضوع الاستصحاب.

وإليك نصّ ما أفاده(قدس سرّه):

«إنّ التنزيل المستفاد من أدلّة الأمارات، إمّا أن يكون ناظراً إلى حيث تتميم الكشف وإثبات العلم بالواقع، وإمّا أن يكون ناظراً إلى المؤدّى بإثبات كونه هو الواقع، بلا تكفّله لحيث تتميم كشف الأمارة. فعلى

ص: 239


1- انظر: فوائد الاُصول 4: 595 - 597.

الأوّل - كما هو التحقيق - يكون تقديم الأمارة على الاُصول التي منها الاستصحاب بمناط الحكومة، لا غيرها؛ إذ هي بدليل تتميم كشفها تكون رافعةً للشكّ الذي أُخذ موضوعاً في الاُصول، ومثبتة للمعرفة المأخوذة غايةً في مثل دليل الحلّيّة ودليل حرمة النقض، وبهذا الاعتبار، تكون ناظرةً إلى نفي الحكم المترتّب على عدم انكشاف الواقع واستتاره، ومعه: لا يكون رفع اليد عن اليقين السابق في الاستصحاب من نقض اليقين بالشكّ، بل كان من نقض اليقين باليقين ...». انتهى موضع الحاجة(1).ولكنّ الحقّ: أنّ ما يفهم من دليل حرمة النقض ليس هو تحديد وتحقيق غاية للاستصحاب، بل إنّما هو عبارة عن تحديد جريان الاستصحاب بارتفاع موضوعه، ونتيجته: ارتفاع الاستصحاب بارتفاع موضوعه؛ ومع وجود اليقين فلا يبقى الشكّ، الذي هو موضوع الاستصحاب، فيشكل القول بالحكومة.

ولكن بعدما عرفت من الفرق بين الورود والحكومة، وأنّ معنى الورود هو أن يكون الدليل رافعاً لموضوع الدليل الآخر. وأمّا الحكومة فهي أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الآخر، فقد يقال:

إنّ دليل الأمارة لا نظر فيه إلى دليل الاستصحاب في مقام الإثبات،

ص: 240


1- نهاية الأفكار 4: 17 - 19. (القسم الثاني).

وإن كان دالّاً على إلغاء الاستصحاب معها في عالم الثبوت والواقع؛ للتنافي بين لزوم العمل بها وبين العمل به لو كان الاستصحاب على خلافها، ولكنّ هذا المعنى، كما أنّه يكون موجوداً في طرف الأمارة، فكذلك هو موجود في طرف الاستصحاب لمنافاة وجوب العمل به مع العمل بها لو كانت على خلافه.

ولكنّ هذا الكلام إنّما يتمّ فيما لو كان الاستصحاب مخالفاً للأمارة، دون ما إذا كان موافقاً لها؛ لأنّه لا منافاة بين وجوب العمل بها وبين العمل به، فيلزم منه اختصاص الحكومة - حينئذٍ - بما إذا كان الاستصحاب مخالفاً للأمارة، مع أنّالأمارة عندهم تكون مقدّمة عليه مطلقاً، بلا فرق بين صورتي الخلاف والوفاق.

فالحقّ - إذاً -: هو القول بالورود، وفاقاً لصاحب الكفاية(قدس سرّه)؛ لأنّ دليل الأمارة لا نظر له بمدلوله اللّفظيّ إلى دليل الاستصحاب أصلاً حتى يكون مفسّراً له، فلا يكون من باب الحكومة.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الأمارة كما تكون واردة على الاستصحاب، فإنّ الاستصحاب - هو أيضاً - يكون وارداً على بقيّة الاُصول، من البراءة والاشتغال والتخيير.

غاية الأمر: أنّ وروده على البراءة الشرعيّة ورود تعبّديّ، بمعنى كونه رافعاً لموضوعها، الذي هو الشك، رفعاً شرعيّاً، لا حقيقيّاً؛ لأنّ الشكّ باقٍ معه واقعاً. وأمّا وروده على الاُصول العقليّة الثلاثة فإنّه يكون وروداً

ص: 241

حقيقيّاً؛ لارتفاع موضوعها بالاستصحاب واقعاً، فببركة الاستصحاب يرتفع اللّابيان، الذي هو موضوع البراءة العقليّة، وينقلب إلى بيان، كما يرتفع به - أيضاً - عدم الأمن من العقوبة، الذي هو موضوع قاعدة الاحتياط، فإنّه بعد جريان الاستصحاب ينقلب إلى الأمن.

كما يرتفع به - أيضاً - عدم الترجيح، الذي هو موضوع حكم العقل بالتخيير في دوران الأمر بين المحذورين، وينقلب إلى الترجيح، فمثلاً: لو علم إجمالاً بأنّ صلاة الجمعة هي إمّا واجبة أو محرّمة، فبعدما كانت الحالة هي الوجوب، يجرياستصحابه، ومعه: فلا يحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك.

بل حتى الشيخ الأعظم(رحمة الله) الذي قال بحكومة الأمارات على الاستصحاب، نجده يقول - هنا أيضاً - بحكومة الاستصحاب على البراءة الشرعيّة، ولا يقول بالتخيير(1).

الأمر الرابع :تقديم الأصل السببيّ على المسبّبيّ:

استدلّ الشيخ الأعظم(رحمة الله) لتقديم الأصل السببيّ على المسبّبيّ باُمور أربعة(2):

الأوّل: الإجماع.

ص: 242


1- انظر: فرائد الاُصول 3: 389.
2- راجع: فرائد الاُصول 3: 394 - 400.

الثاني: مانعيّة السببيّ عن شمول العامّ للمسبّبيّ.

الثالث: لو لم نقل بتقديم السببيّ على المسبّبي لكان الاستصحاب قليل الفائدة.

الرابع: أنّ المستفاد من الأخبار عدم الاعتبار باليقين السابق في المسبّبيّ.

والعمدة من بين هذه الوجوه الأربعة إنّما هو الوجه الثاني، وذلك لأنّ قوله(علیه السلام): «لا ينقض اليقين بالشكّ»، شامل لليقين والشكّ في السببيّ، وبشموله لهما، يكون مانعاً من شموله لليقين والشكّ في المسبّبيّ؛ لأنّ اليقين فيه قد ارتفع بالدليل، فلا يكون في المسبّبيّ نقض لليقين بالشكّ، بل بالدليل.وأمّا إذا قلنا بشموله لليقين والشكّ في المسبّبيّ، كان مستلزماً لنقض اليقين بالشكّ في السببيّ، دون ما يخرجه عن تحت عموم (لا ينقض اليقين بالشكّ).

ومرجع ذلك إلى ما أفاده صاحب الكفاية(قدس سرّه)، حيث قال ما هذا لفظه:

«وبالجملة: فكلّ من السبب والمسبّب، وإن كان مورداً للاستصحاب، إلّا أنّ الاستصحاب في الأوّل بلا محذور، بخلافه في الثاني، ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلّا بنحو محال، فاللّازم الأخذ بالاستصحاب السببيّ، نعم، لو لم يجرِ هذا الاستصحاب بوجهٍ، لكان الاستصحاب المسبّبي

ص: 243

جارياً، فإنّه لا محذور فيه حينئذٍ مع وجود أركانه وعموم خطابه»(1).

وحاصل كلامه: أنّه لو أخذنا بجانب السببيّ، فإنّه لا يلزم منه شيء سوى نقض اليقين باليقين، وهو ليس بمحذور. بخلاف ما لو أخذنا بجانب المسبّبيّ، فإنّه يلزم من ذلك: إمّا التخصيص بلا مخصّص، أو على وجه دائر.

ففي مثال نجاسة الثوب، وغسله بالماء المشكوك الطهارة، فإن أخذنا باستصحاب طهارة الماء وبنينا على طهارة الثوب المغسول به، فلا يكون هناك سوى نقض اليقين السابق بنجاسة الثوب باليقين بطهارة الماء طهارة ظاهريّةً ناشئة من استصحاب طهارة الماء. وهذا ليس بمحذور.وأمّا إن أخذنا باستصحاب نجاسة الثوب المغسول بماء شكّ في بقاء طهارته، فإن رفعنا اليد عن طهارة الماء بدون ما يخرجه عن تحت دليل الاستصحاب، كان من التخصيص بلا مخصّص.

وإن رفعنا اليد عنه لأجل كون استصحاب نجاسة الثوب مخصّصاً له، كان دوراً. ببيان: أنّ مخصّصية المسبّبيّ للسببيّ ممّا يتوقّف على اعتباره معه، واعتباره معه ممّا يتوقّف على مخصّصيته له، وإلّا، لكان السببيّ وارداً عليه، وهو دور ومحال.

وعليه: فبما أنّ الأصل السببيّ رافع لموضوع الأصل المسبّبيّ، وهو

ص: 244


1- كفاية الاُصول: 431 - 432.

الشكّ، ولو من قبل الشرع، لا العقل، فلا يبقى - حينئذٍ - مجال لجريان الأصل المسبّبيّ، لورود السببيّ عليه.

نعم، لو لم يجرِ الأصل السببيّ لسبب من الأسباب، فحينئذٍ: تصل النوبة إلى الأصل المسبّبيّ، كما إذا فرض عدم جريان استصحاب طهارة الماء لوقوعه طرفاً لعلم إجماليّ، فإنّه يجري - حينئذٍ - الأصل المسبّبيّ، وهو استصحاب نجاسة الثوب المغسول به.

الأمر الخامس :في تعارض الاستصحابين:

إذا تعارض الاستصحابان، ولم يكن أحدهما من آثار الآخر، كما إذا كان الاستصحابان عرْضيّين، كاستصحاب طهارة الإناءين مع العلم الإجماليّ بنجاسة أحدهما، فإنّالاستصحابين لا يجريان معاً؛ لتنجّز العلم الإجماليّ ولزوم المخالفة القطعيّة بجريانهما معاً. كما لا يجري الاستصحاب في بعض الأطراف دون الأطراف الأُخرى؛ لاستلزامه الوقوع في المخالفة الاحتماليّة، وقد تقدّم في محلّه حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة.

وأمّا إذا لم يكن الأصلان في أطراف علم إجماليّ بتكليف فعليّ، بحيث لو أجرينا الأصلين معاً لم يلزم مخالفة قطعيّة، وإذا جرى أحدهما دون الآخر لم يلزم مخالفة احتماليّة - كما في استصحابي النجاسة في أطراف العلم الإجماليّ بالطهارة، أو كإجراء الأصلين في دوران الأمر بين

ص: 245

المحذورين - فحينئذٍ: يجري الأصلان جميعاً؛ وذلك لوجود المقتضي وفقد المانع، كما هو ظاهر.

الأمر السادس: تقدّم التجاوز والفراغ وأصالة الصحّة على الاستصحاب بالتخصيص:

قد يدّعى تقديم هذه القواعد على الاستصحاب؛ لتخصيص أدلّتها لدليل الاستصحاب.

وفصّل الشيخ الأعظم(قدس سرّه) بأنّ القاعدتين وأمثالهما، إن كانت من الأمارات، فيكون تقدّمها على الاستصحاب بمناط الحكومة، طبقاً لمبناه القاضي بتقديم الأمارات على الاستصحاب بالحكومة، وإن كانت من الاُصول شرعيّة، فيكون تقدّمها على الاستصحاب بالتخصيص، إلّا في أصالة الصحّة، فقد تنظّر في تقديمها على الاستصحاب الموضوعيّالذي في مورده من استصحاب عدم الإتيان بالجزء أو الشرط ونحوه، ولم يقل بتقديمها عليه بالتخصيص.

قال« ما لفظه:

«أمّا الكلام في المقام الأوّل [يعني به: معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يتراءى كونها من الاُصول، كاليد ونحوها، يعني التجاوز والفراغ وأصل الصحّة في فعل الغير] فيقع في مسائل:

الأُولى: أنّ اليد ممّا لا يعارضها الاستصحاب بل هي حاكمة عليه. بيان

ص: 246

ذلك: أنّ اليد إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلاً على الملكيّة، من حيث كون الغالب في مواردها كون صاحب اليد مالكاً أو نائباً عنه، وأنّ اليد المستقلّة غير المالكيّة قليلة بالنسبة إليها، وأنّ الشارع إنّما اعتبر هذه الغلبة تسهيلاً على العباد، فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب، على ما عرفت من حكومة أدلّة الأمارات على أدلّة الاستصحاب.

وإن قلنا بأنّها غير كاشفة بنفسها على الملكيّة، أو أنّها كاشفة لكنّ اعتبار الشارع لها ليس من هذه الحيثيّة، بل جعلها في محلّ الشكّ تعبّداً؛ لتوقّف استقامة نظام معاملات العباد على اعتبارها، نظير أصالة الطهارة»

إلى أن قال:

«فالأظهر - أيضاً - تقديمها على الاستصحاب».

إلى قوله: «وكيف كان، فاليد على تقدير كونها من الاُصول التعبّديّة - أيضاً - مقدّمة على الاستصحاب، وإن جعلناه [أي:الاستصحاب] من الأمارات الظنيّة؛ لأنّ الشارع نصبها في مورد الاستصحاب. وإن شئت قلت: إنّ دليلها أخصّ من عمومات الاستصحاب»(1).

ثمّ قال بعد ذلك:

«المسألة الثانية: في أنّ أصالة الصحّة في العمل عند الفراغ عنه لا يعارَض بها الاستصحاب: إمّا لكونها من الأمارات، كما يشعر به

ص: 247


1- فرائد الاُصول 3: 321 - 323.

قوله(علیه السلام) - في بعض روايات ذلك الأصل -: (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ). وإمّا لأنّها وان كانت من الاُصول، إلّا أنّ الأمر بالأخذ بها في مورد الاستصحاب يدلّ على تقديمها عليه، فهي خاصّة بالنسبة إليه، يخصَّص بأدلّتها أدلّته»(1).

ثمّ ساق الكلام طويلاً في تحقيق قاعدة التجاوز والفراغ، إلى أن وصل به الكلام إلى أصالة الصحّة في فعل الغير وتحقيق حالها، فذكر في جملة ما ذكره تنبيهات عدّة، ثمّ قال:

«السادس: في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب، فنقول: أمّا تقدّمه على استصحاب الفساد وما في معناه، فواضح»(2).وملخّص ما أفاده(قدس سرّه) في وجه هذا الوضوح: أنّ أصل الصحّة أصل سببيّ، وأمّا أصل الفساد، أي: عدم الأثر عقيب الفعل المشكوك في تأثيره فهو مسبّبيّ.

إلى أن قال:

«وأمّا تقديمه على الاستصحاب الموضوعيّة المترتّب عليها الفساد، كأصالة عدم البلوغ وعدم اختيار المبيع بالرؤية أو الكيل أو الوزن، فقد اضطربت فيه كلمات الأصحاب، خصوصاً العلّامة وبعض من تأخّر عنه.

ص: 248


1- المصدر نفسه: 325.
2- المصدر نفسه: 373.

والتحقيق: أنّه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر - كما هو ظاهر كلمات جماعة، بل الأكثر - فلا إشكال في تقديمه على تلك الاستصحابات. وإن جعلناه من الاُصول ... ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعيّ نظر».

انتهى موضع الحاجة من كلامه«(1).

ص: 249


1- المصدر نفسه: 373 - 375.

ص: 250

قاعدة القرعة

وأمّا بالنسبة إلى قاعدة القرعة فالاستصحاب مقدّم عليها.

ولابدّ هنا من البحث في أنّ هذه القاعدة هل تجري مطلقاً، أم أنّها لا تجري إلّا في موارد خاصّة، وحينئذٍ: فما هي الموارد التي أجراها فيها الأصحاب؟

وقد استدلّ لهذه القاعدة بأدلّة عدّة:

منها: آيات من الكتاب العزيز، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كُ-نتَ لَدَي-ْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَي-ُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾(1)، وقوله: ﴿فَسَاهَمَ ف--َكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ﴾(2).

ومنها: بعض الأخبار الواردة عن العترة الطاهرة، كخبر دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد اﷲ(: أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل(3).

ص: 251


1- آل عمران: الآية 44.
2- آل عمران: الآية 44.
3- دعائم الإسلام 2: 522.

ورواية محمّد بن حكيم، قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن شيء، فقال لي: كلّ مجهول ففيه القرعة، قلت له: إنّ القرعة تخطئ وتصيب، قال: كلّ ما حكم اﷲ به فليس بمخطئ(1).

وغير ذلك من الأخبار والروايات.ومن هنا اشتهر بين الأصحاب: القرعة لكلّ أمر مشكل(2)، أو القرعة لكلّ أمرٍ مجهول(3).

ومنها: الإجماع.

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه): «فالظاهر أنّه أحد من الإماميّة الاثني عشريّة ما ادّعى عدم اعتباره بنحو السلب الكلّيّ، فهذا الشهيد في كتابه (القواعد) في باب التعادل والتراجيح من مقدّمته في اشتباه القبلة يقول: ذهب السيّد رضيّ الدين بن طاووس هنا إلى الرجوع إلى القرعة، استضعافاً لمستند وجوب الصلاة إلى أربع، وهو حسن، إلى أن يقول: فيرجع إلى القرعة الواردة لكل أمر مشتبه»(4).

ص: 252


1- وسائل الشيعة 27: 259 - 260، باب 13 من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى، ح 11.
2- انظر: عوالي اللآلي 2: 112، قال: ونقل عن أهل البيت عليهم السلام: كلّ أمر مشكل فيه القرعة.
3- وسائل الشيعة 27: 259 - 260، باب 13 من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى، ح 11، بلفظ: كلّ مجهول ففيه القرعة.
4- القواعد الفقهيّة 1: 64.

وقال ابن إدريس في كتاب القضاء من السرائر:

«وإذا ولد مولود ليس له ما للرجال، ولا ما للنساء، أُقرع عليه، فإن خرج سهم الرجال أُلحق بهم، وورث ميراثهم، وإن خرج سهم النساء أُلحق بهنّ، وورث ميراثهنّ، وكل أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة؛ لما روي عن الأئمّة الأطهار(علیهم السلام)وتواترت به الآثار، وأجمعت عليه الشيعة الإماميّة» انتهى(1).وقال المحقّق النراقيّ(قدس سرّه) في المقام:

«وأمّا الإجماع، فثبوته في مشروعيّة القرعة وكونها مرجعاً للتميّز والمعرفة في الجملة ممّا لا شكّ فيه ولا شبهة تعتريه، كما يظهر لكلّ من تتبّع كلمات المتقدّمين والمتأخّرين في كثير من أبواب الفقه، فإنّهم يراهم مجتمعين على العمل بها، وبناء الأمر عليها طرّاً»(2).

وقال المحقّق الآشتياني(قدس سرّه) ما لفظه:

«أمّا أصل مشروعيّة القرعة فهو ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين، بل إجماعهم عليه بحيث لا يرتاب فيه ذو مسكة، ويكفي في القطع بتحقّق الإجماع ملاحظة الإجماعات المتواترة المنقولة في ذلك من زمان الشيخين إلى زماننا هذا، كما هو واضح لمن راجع كلماتهم، بل يمكن

ص: 253


1- السرائر 2: 173.
2- عوائد الأيّام: 651.

دعوى الضرورة الفقهائيّة عليه»(1).

ولكن قد عرفت - مضافاً إلى أنّها إجماعات منقولة - فهي مظنونة، بل مقطوعة المدركيّة، ومدركها إنّما هو الآيات والروايات الواردة في هذا الباب.

وأمّا مفاد هذه القاعدة وحدودها:

فالكلام يقع فيه في اُمور:

1- فهل تقع القرعة مطلقاً فيما كان له واقع معيّن في الواقع وعالم الثبوت، أو لا تقع إلّا فيما لم يكن له واقع معيّن فيعالم الثبوت، كما إذا قلت: إحدى زوجاتي طالق، أو أحد عبيدي حرّ؟

2- هل هي مختصّة بالشبهات الموضوعيّة أم تشمل الحكميّة أيضاً؟

3- هل هي مختصّة بصورة المنازعة أم لا، بل تشمل موارد لا نزاع فيها ولا قضاء؟

قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «العناوين العامّة الواردة في أدلّة القرعة أربعة: عنوان المجهول، وعنوان المشتبه، وعنوان المشكل، وعنوان الملتبس... والأوّلان، أي: عنوان المجهول والمشتبه، ولو كان لهما عموم بحسب المفهوم بحيث إنّ مفهوميهما يشمل الشبهة بصورها الأربع: الحكميّة والموضوعيّة، سواء كانتا بدويّة أو مقرونة بالعلم الإجماليّ.

ص: 254


1- بحر الفوائد: 218 من بحث الاستصحاب.

ولكنّ التتبّع في موارد تلك الروايات والتأمّل فيها والعلّة التي ذكرها الإمام(علیه السلام) - وهو قوله(علیه السلام): (فأيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلى اﷲ) - يوجب الاطمئنان بأنّ المراد من هذه العناوين الأربعة هو المجهول والمشتبه الذي في الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجماليّ إذا كان من المشكلات والمعضلات التي لا طريق إلى إثباتها، وكان الاحتياط إمّا ليس بممكن، أو يوجب العسر والحرج، أو نعلم بأنّ الشارع ما أوجب الاحتياط فيها، ففي مثل هذا المورد شرّع القرعة.ولا فرق بين أن يكون المشتبه من حقوق اﷲ أو من حقوق الناس، ولا بين أن يكون له واقع معيّن في عالم الثبوت والقرعة واسطة ودليلاً في عالم الإثبات، أو لم يكن له واقع معيّن في عالم الثبوت والقرعة واسطة في الثبوت، كما في قوله: إحدى زوجاتي طالق، أو أحد عبيدي حرّ، بناءً على صحّة مثل هذا الطلاق، ومثل هذا العتق»(1).

والحقّ: هو ما ذهب إليه(قدس سرّه)، من عدم شمولها للحكميّة، حيث اختصّ العمل عند العقلاء والعرف بالشبهة الموضوعيّة. كما أنّ الحقّ معه في جريان القاعدة بلا فرق بين ما إذا كان الشيء له واقع معيّن في عالم الثبوت أم لم يكن.

وأيضاً: فهي عامّة وغير مختصّة بباب المنازعات وباب الحقوق

ص: 255


1- القواعد الفقهيّة 1: 65 - 66.

والقضاء، وإن تخيّل البعض أنّها لكونه من مدارك القضاء الشرعيّ تكون كذلك. ومن هنا نرى أنّ هذه القاعدة تجري في مثل الغنم الموطوء المشتبه في قطيع الغنم، وإن كان مقتضى القاعدة في باب العلم الإجماليّ هو لابدّيّة الاجتناب عن الكلّ، ووجوب الموافقة القطعيّة.

ولكن لو قلنا هنا بالاحتياط، فإنّه يكون سبباً لتضييع المال الكثير الذي هو غير متحمّل عادةً، وبعد فرض عدم إمكان تعيين الموطوء، كذا لا يمكن الحكم بحرمة لحم الجميع، وما يترتّب على ذلك، كوجوب إحراق الجميع، فكان ذلك داعياً للشارع لتشريع القرعة، بعدما كان الاحتياط مشكلاً جدّاً.فإن قلت: إذا لم يكن مختصّاً بباب القضاء، فلماذا ذكروها هناك؟

قلنا: بما أنّ أكثر مواردها في باب المنازعات والحقوق فلأجل ذلك ذكروها هناك، وهذا لا يدلّ على اختصاصها بذلك الباب. وقد عرفت جريانها في مثل اشتباه الموطوءة بغيرها، مع أنّه ليس من باب المنازعات.

والحاصل: أنّ مورد القرعة إنّما هو الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجماليّ، التي يكون الاحتياط فيها غير ممكن، أو غير جائز، وإن كان ممكناً، أو غير واجب، وليس هناك من أصل أو أمارة موافقة للمعلوم بالإجمال كي يكون موجباً لانحلاله، مع عدم إمكان تعيّن المشتبه.

وإذا عرفت ذلك، فهل هي مقدّمة على الاستصحاب أم لا؟

إن كانت من الأمارات كما هو ظاهر كثير من الروايات، كما روي

ص: 256

عنه(صلی الله علیه و آله) أنّه قال: «ليس من قوم تنازعوا، ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اﷲ، إلّا خرج سهم المحقّ»(1)، وقوله(علیه السلام) «كلّما حكم اﷲ به فليس بمخطئ»(2)، فتكون - حينئذٍ - مقدّمة على الاستصحاب، شأنها في ذلك شأن سائر الأمارات. هذا إذا قلنا بأنّه تقع المعارضة بينها وبين الاستصحاب.ولكنّ الظاهر: عدم وقوع المعارضة بينهما أصلاً؛ لأنّ قاعدة القرعة لا تجري في مورد الشبهة الحكميّة البدويّة، ولا الشبهة الحكميّة المقرونة بالعلم الإجماليّ، ولا الموضوعيّة البدويّة. وإنّما يختصّ جريانها - كما عرفنا - بالشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجماليّ، وهي وإن كانت ممّا يجري فيها الاستصحاب في حدّ ذاتها، إلّا أنّه غالباً يسقط فيها بالمعارضة.

وأمّا إن قلنا بأنّ القرعة من الاُصول، فبما أنّها من أضعف الاُصول، فيتقدّم عليها الاستصحاب؛ لأنّ تشريعها إنّما يكون في مورد لا حيلة فيه ولا علاج؛ لحلّ المشكل والملتبس، ومن هنا قيّدنا موردها بما إذا لم يكن الاحتياط ممكناً أو جائزاً أو واجباً.

بل حتى بناءً على أماريّة قاعدة القرعة، يمكن القول بتقديم الاستصحاب عليها، فإنّه وإن كنّا نقول بأنّ الأمارات واردة أو حاكمة

ص: 257


1- وسائل الشيعة 27: 258، باب 13 من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى، ح 5.
2- مرّ تخريجه آنفاً.

على الاُصول، إلّا أنّ ذلك إنّما يتمّ بعد تحقّق موضوع الأمارة، وأمّا إذا كان الأصل، كما هو الحال هنا، رافعاً لموضوع التعبّد بها، فلا، وفيما نحن فيه، فالاستصحاب - على تقدير عدم سقوطه بالمعارضة - يكون رافعاً لموضوع القرعة، وهو كون الأمر مشكلاً ومعضلاً.

ص: 258

الكلام في أصالة الصحّة

اشارة

والكلام فيها في اُمور:

الأمر الأوّل:

هل أصالة الصحّة وقاعدة الفراغ شيء واحد أم لا؟

ذهب المحقّق الأصفهانيّ(قدس سرّه) إلى الأوّل؛ لأنّه أرجعهما إلى أصالة الصحّة في عمل نفسه وعمل غيره.

ولكنّ الحقّ أنّهما مختلفتان من جهتين:

أمّا الأُولى: فهي الموضوع؛ فإنّ موضوع قاعدة الفراغ هو الشكّ الحادث بعد العمل، ويكون في عمل نفسه. وأمّا قاعدة الصحّة فالشكّ فيها في عمل الغير، أعمّ من أن يكون بعد الفراغ من العمل، أو أثناء مباشرة العمل.

وأمّا الثانية: فهي في منشأ الشكّ؛ فإنّ الشكّ في موارد قاعدة الفراغ

ص: 259

غالباً ما يكون ناشئاً عن الشكّ في الغفلة، وأمّا الغالب في موارد قاعدة الصحّة فهو أن يأتي الشكّ من جهة عدم مبالاة العامل وتسامحه، وبينهما بون شاسع كما لا يخفى.

الأمر الثاني:

استدلّ على حجّيّة هذه القاعدة بالكتاب والسنّة والإجماع والعقل والسيرة المستمرّة بين المسلمين.

أمّا الكتاب:

فقد استدلّوا منه بآيات:

منها: قوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾(1)، وعن أبي جعفر الباقر(علیه السلام): «فقولوا للناس ما تحبّون أن يقال لكم»(2). «فإنّ اﷲ يبغض اللّعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين، المتفحّش السائل الملحف، ويحبّ الحييّ الحليم العفيف المتعفّف»(3).

وقد جاء تفسيرها في الكافي: «قولوا للناس حسناً ولا تقولوا إلّا خيراً حتى تعلموا ما هو؟»(4)، أي: اعتقدوا بذلك ورتّبوا آثار الاعتقاد الصحيح

ص: 260


1- البقرة: الآية 83.
2- الكافي 2: 165، باب اُخوّة المؤمنين بعضهم لبعض، ح10.
3- بحار الأنوار 71: 161.
4- الكافي 2: 164، باب الاهتمام باُمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم، ح9.

حتى في معاملاتهم مع الغير.

وفيه: أنّ الآية لا تدلّ على محلّ البحث، بل هي غير مربوطة أصلاً بترتيب آثار الاعتقاد الصحيح، بل لو سُلِّم دلالتها على الأمر بترتيب الآثار، فهي إنّما تدلّ على ترتيب آثار الحسن لا الصحيح.ومنها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾(1)، فإنّ المقصود بالظنّ الذي هو إثم فيها خصوص ظنّ السوء ضرورة أنّ ظنّ الخير لا يكون إثماً، فيكون المراد النهي عن ترتيب آثار ظنّ السوء، بعد أن كان الظنّ غير قابل لتعلّق التكليف به، ومعه: فلابدّ أن يحمل عمله على الصحّة.

ولكن فيه: أنّ الآية لو كانت تدلّ على حرمة ترتيب الآثار فهي إنّما تدلّ على حرمة ترتيب آثار العمل السيِّئ ، لا العمل الفاسد، فيكون الاستدلال بها أجنبيّاً عن المدّعى.

وأمّا السنّة:

فقد استدلّوا منها بروايات:

منها: ما رُوِي من قول أمير المؤمنين(علیه السلام): «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه، ولا تظنّنّ بكلمةٍ خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً»(2).

ص: 261


1- الحجرات: الآية 12.
2- الكافي 2: 362، باب التهمة وسوء الظنّ، ح3.

ولكنّ هذه الرواية - أيضاً - محمولة على الأمر بحسن الظنّ والاعتقاد بالمؤمن. وعلى فرض التنزل والبناء على أنّ المراد بها هو وجوب ترتيب الآثار، فلا يكون المراد بها إلّا وجوب ترتيب آثار العمل الحسن لا الصحيح، فلا ربط لها فيما نحن فيه.والحقّ - كما أفاده الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) - أنّ عمدة الدليل على هذا الأصل هي «سيرة العقلاء كافّةً، من جميع الملل، في جميع العصور، من أرباب جميع الأديان، من المسلمين وغيرهم، والشارع لم يردع عن هذه الطريقة، بل أمضاها كما هو مفاد الأخبار في أبواب متعدّدة.

بل يمكن أن يقال: لو لم يكن هذا الأصل معتبراً لا يمكن أن يقوم للمسلمين سوق، بل يوجب عدم اعتباره اختلال النظام، كما ادّعاه شيخنا الأعظم الأنصاريّ»(1).

الأمر الثالث:

هل المراد من الصحّة هي الصحّة الواقعيّة أم الصحّة باعتقاد العامل؟

الظاهر: الأوّل، دون الثاني؛ لأنّ الصحّة التي يبني عليها العقلاء في المعاملات بعد وقوعها هي الصحّة الواقعيّة؛ لأنّ الذي يوجب ترتيب الأثر لدى جميع الناس هو خصوص الصحّة الواقعيّة؛ وأمّا اعتقاد الصحّة

ص: 262


1- القواعد الفقهيّة 1: 287.

عند الفاعل، فلا يكون مثمراً للثمر، ولا يكون موجباً لترتيب آثار الصحّة عند سائر الناس، مع أنّنا نرى أنّ جميع الناس يرتّبون آثار هذا الفعل عليه بعد وقوعه من الفاعل، فإذا باع شخص داره، فإنّ الناس يحملونه على الصحّة الواقعيّة، ويرتّبون على فعله هذا آثار الصحّة.

الأمر الرابع:

أنّ العقلاء إنّما يُجْرون هذا الأصل ويحملون على الصحّة فيما إذا كان عنوان العمل محرزاً؛ فإنّ بناء العقلاء قائم على أنّ العمل الصادر من الغير بعد صدوره بعنوان الغسل - مثلاً - واحتمل فقد جزء، أو شرط، أو وجود المانع، يبنون على الصحّة، ولا يعتنون بذلك الاحتمال.

وأمّا لو لم يعلم أنّه هل قصد الغسل أو السباحة فليس لهم بناء على صحّة هذا الغسل.

نعم، الحمل على الصحّة إنّما يتمّ في التوصّليّات، كالتطهير من الخبث، حتى لو لم يحرز أنّه بهذا العمل قصد تطهير ثوبه - مثلاً - أم لا، فلو رأى شخصاً يغسل ثوبه ولو لم يعلم بأنّه كان بصدد تطهير ذلك الثوب، وقلنا بأنّ الغسل شرط، وشككنا في أنّه هل عصره أم لا؟ فيمكن أن يحمل على الصحّة.

وأمّا في التعبّديات، كما إذا شكّ في أنّه هل قصد الغسل أو السباحة، فليس بناؤهم على الصحّة؛ لما عرفت من أنّ هذا الأصل لا يجري إلّا

ص: 263

بعد إحراز عنوان العمل؛ لأنّ قصد العنوان في العناوين القصديّة يكون بمنزلة الموضوع لهذا الأصل، ومعلوم أنّه لا معنى لإجراء هذا الأصل مع كون الشكّ شكّاً في موضوعه.

الأمر الخامس:

أنّ هذا الأصل لا يجري إلّا بعد وجود الشيء، فمثلاً: لو صلّى على الميت، وشككنا في صحّة صلاته، فحينئذٍ: نحملها على الصحّة.

وبعبارة أُخرى: فلو أتى بعمل وشككنا بأنّه صحيح، أي تامّ من ناحية الأجزاء والشرائط وعدم الموانع ويترتّب عليه الأثر المقصود منه أم لا؟ فبمقتضى هذا الأصل نحكم بالصحّة، ويترتّب عليه الأثر المقصود منه.

وأمّا قبل وجوده فلا معنى لأن يحكم عليه بالصحّة، ولا لأن يقال: إنّ ما يريد أن يأتي به صحيح وتامّ ويترتّب عليه الأثر.

فلو شكّ في أثناء عمل شخص بأنّ ما يأتي به هل هو صحيح أم لا؟ لا مورد لجريان أصالة الصحّة؛ فلو أراد رجل أن يصلّي على الميت، أو أن يغسّله، فلا يمكن إجراء أصالة الصحّة قبل وجود هذه المذكورات.

وأمّا في أثناء العمل فبالنسبة إلى الأجزاء التي أتى بها يمكن جريان أصالة الصحّة، دون ما لم يأتِ بها، وهذا من جملة الفروق بين أصالة الصحّة وبين قاعدة الفراغ؛ فإنّه لا يشترط في جريان أصالة الصحّة الدخول في الغير، بخلاف قاعدة الفراغ، فإنّ الدخول في الغير يكون

ص: 264

شرطاً في جريانه.

ويعود السبب في ذلك إلى أنّ معنى أصالة الصحّة عند العقلاء هو أنّ العمل الذي صدر عن الغير، ويشكّ فيه أنّه أوجده صحيحاً تامّاً أم لا، فالعقلاء يبنون على صحّته وتماميّته.

الأمر السادس:

في جريان هذا الأصل في العقود والإيقاعات.

والتحقيق: أنّ أصالة الصحّة فيها تكون مقدَّمةً على أصالة الفساد، التي هي عبارة عن أصالة عدم النقل والانتقال في المعاملة، سواء قلنا بأنّ المدرك هنا - أيضاً - هو سيرة العقلاء، أم الإجماع، ثمّ على الثاني، سواء قلنا بوجود إجماع آخر خاصّ بباب المعاملات، وهي العقود والإيقاعات، أم قلنا بتحقّق إجماع واحد مطلق يدلّ على اعتبارها في جميع الموارد.

وفي المقام قال اُستاذنا المحقّق(رحمة الله):

«إنّما الكلام في أنّ جريانها في مورد الشكّ في صحّتها مطلقاً، سواء أكان الشكّ من جهة احتمال وقوع خلل في شرائط العقد أو في شرائط المتعاقدين أو في العوضين، أو لا يجري إلّا في مورد الشكّ في شرائط نفس العقد، دون شرائط المتعاقدين، أو العوضين، أو يجري فيما سوى الشروط العرفيّة للمتعاقدين أو العوضين؟

ص: 265

فبناءً على الاحتمال الأوّل تكون حاكمة على كلّ أصل يقتضي فساد العقد، سواء كان ذلك الأصل المقتضي للفساد جارياً في شرائط العقد، أو في شرائط المتعاقدين، أو في شرائط العوضين.وبناءً على الاحتمال الثاني، تكون حاكمةً على الأصل الذي يقتضي الفساد الجاري في شرائط نفس العقد، دون ما يقتضي الفساد الجاري في شرائط المتعاقدين أو العوضين.

وبناءً على الاحتمال الثالث تكون حاكمةً على كلّ أصل يقتضي الفساد، إلّا إذا كان ذلك الأصل الذي يقتضي الفساد جارياً في الشرائط العرفيّة للعوضين أو المتعاقدين، مثلاً: بناءً على هذا الاحتمال لو شكّ في ماليّة العوضين، أو في رشد المتعاقدين، أو أحدهما، فلا تجري أصالة الصحّة كي تكون حاكمة على أصالة عدم ماليّة العوضين، أو أصالة عدم رشد المتعاقدين، أو أحدهما»(1).

ثمّ إنّ المدرك لو كان هو الإجماع، فالصحيح كما أفاد المحقّق النائيني(قدس سرّه) أنّه «لا يبعد أن تكون أصالة الصحّة في العقود بنفسها معقد الإجماع بالخصوص، مع قطع النظر عن الإجماع على أصالة الصحّة في مطلق عمل الغير، وحيث إنّ أصالة الصحّة في العقود من المسائل المهمّة التي تعمّ بها البلوى، خصوصاً في باب الترافع والتخاصم؛ فإنّ

ص: 266


1- القواعد الفقهيّة 1: 292 - 293.

قطع الخصومة وتشخيص المدّعي والمنكر يتوقّف على تعيين مقدار سعة أصالة الصحّة ليكون المنكر من وافق قوله لها فينبغي بسط الكلام فيها»...

إلى أن يقول:«وليس لمعقد الإجماع إطلاق يعمّ جميع موارد الشكّ في الصحّة والفساد. بل القدر المتيقّن منه هو ما إذا كان الشكّ في الصحّة والفساد مسبّباً عن الشكّ في تأثير العقد للنقل والانتقال بعد الفراغ عن سلطنة العاقد لإيجاد المعاملة من حيث نفسه ومن حيث المال المعقود عليه.

وبعبارة أوضح: أهليّة العاقد لإيجاد المعاملة وقابليّة المعقود عليه للنقل والانتقال إنّما يكون مأخوذاً في عقد وضع أصالة الصحّة، فلا محلّ لها إلّا بعد إحراز أهليّة العاقد وقابليّة المعقود عليه، فأصالة الصحّة إنّما تجري إذا كان الشكّ راجعاً إلى ناحية السبب من حيث كونه واجداً للشرائط المعتبرة فيه أو فاقداً له.

وأمّا لو كان الشكّ راجعاً إلى أهليّة العاقد أو قابليّة المعقود عليه للنقل والانتقال، فالمرجع هو سائر الاُصول العمليّة حسب ما يقتضيه المقام».

ثمّ قال:

«إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الشكّ في الصحّة والفساد إن كان مسبّباً عن الشكّ فيما يعتبر في الإيجاب والقبول - من العربيّة والماضويّة والموالاة ونحو ذلك ممّا ذكره الفقهاء رضوان اﷲ تعالى عليهم في شروط العقد - تجري فيه أصالة الصحّة.

ص: 267

وإن كان الشكّ في الصحّة والفساد مسبّباً عن الشكّ في فقدان شرط من شروط العوضين: فإن كان للشرط دخل في ماليّة العوضين عرفاً أو شرعاً - كالخمر -، أو كانللشرط دخل في قابليّتهما للنقل والانتقال - كالوقف - فلا تجري فيه أصالة الصحّة»(1).

ولا يخفى: أنّ ما ذكره(قدس سرّه) إنّما يتمّ لو كان المدرك هو الإجماع، ولكنّه إجماع منقول ومحتمل المدركيّة. وأمّا لو كان المدرك هي سيرة العقلاء، فهي إنّما تجري فيما إذا شكّ في الشرط المحتمل الفقدان في أنّه هل هو من شرائط المتعاقدين أو العوضين، وكذلك الحال في المانع المحتمل الوجود.

ولذا ردّ المحقّق الأصفهانيّ(2) على المحقّق النائيني" بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ قصور معقد الإجماع غير ضائر بعد قيام السيرة العمليّة على إمضاء المعاملات المشكوكة، ولو كان منشأ الشكّ هو الشكّ في الإخلال بشرط من شرائط العوضين أو المتعاقدين.

الثاني: أنّ الصحّة والفساد في أيّ حال تُضافان إلى العقد دون غيره، وهذا لا يرتبط بإضافة الشرط إلى غيره، فكون الشرط لغيره لا يضرّ في إضافة الفساد للعقد عند انتفاء هذا الشرط. ومعقد الإجماع هو البناء على

ص: 268


1- فوائد الاُصول 4: 654 - 658.
2- انظر: نهاية الدراية 3: 313.

صحّة العقد عند الشكّ، لا البناء على وجود شرط العقد كي لا يكون شاملاً لموردٍ يكون الشكّ فيه في شرط المتعاقدين أو العوضين.الثالث: أنّ الدعوى المذكورة تبتني على انعقاد إجماعين قوليّين: أحدهما: في باب العبادات، والآخر: في باب العقود والإيقاعات بعنوانها.

وأمّا مع انعقاد الإجماع على البناء على صحّة كلّ عمل له أثر - سواء كان عباديّاً أم معامليّاً - فلا وجه للدعوى المذكورة؛ لأنّ الصحّة في معقد الإجماع لم تسند إلى العقد بما هو عقد، بل إلى العمل العباديّ أو المعامليّ، وظاهر أنّ جميع الشرائط دخيلة في ترتّب الأثر على المعاملة بما هي معاملة.

نعم، حتى لو كان المدرك هو السيرة، ولكن مع ذلك فلا يجري هذا الأصل في مورد يعلم بجهل العامل بالصحيح والفاسد، حيث إنّ مطابقة عمله للصحّة الواقعيّة، والحالة هذه، تكون من باب المصادفة ليس غير.

قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) ما نصّه:

«فتلخّص من مجموع ما ذكرنا: أنّ ما شكّ في صحّته وفساده، تارةً هو السبب، أي: العقد، وأُخرى هو المسبّب أي: المعاملة الكذائيّة، كالبيع - مثلاً -.

فإن كان هو العقد واحتمل عدم صحّته، أي: عدم تماميّته من حيث الأجزاء والشرائط وعدم الموانع، بحيث يشكّ في ترتّب الأثر المقصود

ص: 269

منه عليه، ولو انضمّ إليه سائر الشرائط المعتبرة في المتعاقدين، فلا شكّ في جريان أصالة الصحّة في نفس العقد إذا لم يكن الشرط المحتمل الفقدان، أو المانع المحتمل الوجود ممّا له دخل في تحقّق عنوانالعقد عرفاً؛ لما ذكرنا من لزوم تحقّق ما هو موضوع أصالة الصحّة.

فبعد إحراز ما هو موضوع أصالة الصحّة يثبت به الشرط المحتمل الفقدان، وأيضاً: يثبت عدم المانع المحتمل الوجود، فيترتّب على ذلك العقد الأثر المقصود، أي: المعاملة الفلانية إذا انضمّ إليه سائر ما اعتبر في المعاملة من شرائط المتعاقدين، كبلوغهما ورضائهما، بمعنى: عدم كونهما مكرهين، أو أحدهما مكرهاً، وأمثال ذلك، ومن شرائط العوضين، ككونهما قابلين للنقل والانتقال، كأن لا يكون أحدهما حرّاً مثلاً، وأن يكونا مملوكين، بأن لا يكونا من قبيل الخمر والخنزير.

وذلك من جهة أنّ صحّة العقد ليس معناها ترتّب أثر المعاملة الصحيحة عليه بمجرّده، بل معنى صحّته أن يترتّب الأثر المطلوب من المعاملة عليه لو انضمّ إليه سائر ما اعتبر من المعاملة من شرائط المتعاقدين والعوضين، وذلك من جهة أنّ الصحّة التعبّديّة الثابتة بأصالة الصحّة ليست بأعظم من الصحّة المحرزة بالوجدان، ومعلوم أنّ صحّة العقد واقعاً وقطعاً لاتترتّب عليها آثار صحّة المعاملة ما لم ينضمّ إليه جميع الشرائط التي للمتعاقدين، وأيضاً للعوضين.

وأمّا إن كان ما شكّ في صحّته وفساده هو المسبّب، أي: المعاملة

ص: 270

الكذائيّة لأجل احتمال خللٍ، من فقد شرط، أو وجود مانع للعقد أو للمتعاقدين أو العوضين، فيجري هذا الأصل فيها ويحكم بصحّتها، سواء كان الشرط المحتملالفقدان، أو المانع المحتمل الوجود، من شرائط العقد أو موانعه، أو من شرائط المتعاقدين وموانعهما، أو العوضين، أو نفس المسبّب كذلك، ما لم يكن من مقوّمات تحقّق المعاملة عرفاً؛ لما بيّنّا مفصّلاً، فلا نعيد»(1).

وأمّا المحقّق العراقي) فقد ذهب إلى جريان الأصل عند الشكّ في أي شرط مع إحراز الشرائط العرفيّة للعقد؛ فإنّه بعد أن ذكر أمرين:

الأوّل: أنّ الشرائط المعتبرة في صحّة العقد وتأثيره الفعليّ لترتّب الأثر ليست على نمط واحد:

فمنها: ما يرجع اعتباره إلى دخله في السبب، وهو العقد، كالموالاة بين الإيجاب والقبول، والماضويّة، وغيرهما.

ومنها: ما يرجع اعتباره إلى دخله في قابليّة المسبّب للتحقّق، وهذه الطائفة: بين ما يكون محلّه المتعاقدين، كالبلوغ والعقل وغيرهما، وبين ما يكون محلّه العوضين، كالمعلوميّة والماليّة، وبين ما يكون محلّه نفس المسبّب، كعدم الربويّة والغرريّة في البيع.

والثاني: أنّ صحّة كلّ شيء بحسبه؛ لكونها بمعنى التماميّة، وتماميّة

ص: 271


1- القواعد الفقهيّة 1: 295 - 296.

كلّ شيء إنّما هي بلحاظ وفائه بالأثر المرغوب عنه، في قبال فاسده، الذي لا يكون كذلك، فصحّة الإيجاب بمعنى أنّه لو تعقّبه قبول صحيح لحصل أثر العقد، وصحّة العقد عبارة عن تماميّته في نفسه، بحيث لو ورد علىمحلٍّ قابل لأثر فيه النقل والانتقال، وترتّب عليه الأثر المرغوب. فهي - أعني: الصحّة - في العقد عبارة عن مفاد قضيّة تعليقيّة، لا تنجيزيّة، وهو كونه بحيث لو ورد على محلٍّ قابل لاتّصف بالمؤثّريّة الفعليّة.

ثمّ بعد أن ذكر هذين الأمرين أفاد):

أنّ الشكّ في الصحّة والفساد إن كان مسبّباً عن الشكّ في وجود بعض الشرائط العرفيّة للسبب أو المسبّب، كالشكّ في التوالي بين الإيجاب والقبول المعتبر عرفاً، ومطلق الماليّة في العوضين، فلا تجري أصالة الصحّة، لا في السبب، ولا في المسبّب؛ لرجوع هذا الشكّ إلى الشكّ في مجرى أصالة الصحّة، مع أنّه لابدّ من إحراز عنوان موضوعه عرفاً.

وإن كان مسبّباً عن الشكّ في وجود بعض الشرائط الشرعيّة مع إحراز الشرائط العرفيّة، فإن كان الشرط المشكوك فيه من شرائط العقد، جرت أصالة الصحّة في العقد؛ لأنّه عقد عرفيّ مشكوك الصحّة والفساد شرعاً.

وإن كان من شرائط المسبّب، كالبيع، فلا تجري أصالة الصحّة في العقد لإحراز صحّته؛ لأنّها مفاد قضيّة تعليقيّة، وهي محرزة ولو مع القطع بانتفاء شرط المسبّب، وإنّما تجري في نفس المسبّب، وهو البيع - مثلاً -؛ لأنّه بيع عرفيّ مشكوك الصحّة والفساد شرعاً، وإن كان من شرائط

ص: 272

السبب والمسبّب، بأن كان الشكّ من الجهتين، جرت أصالة الصحّة في السبب والمسبّب(1).والحقّ: أنّه مع كون الدليل هو السيرة فيجري هذا الأصل في جميع صور الشكّ في صحّته وفساده بعد إحراز موضوع الصحّة عرفاً، بلا فرق بين أن يكون الشكّ في ناحية السبب، أي: العقد، أو المسبّب، أي: عناوين المعاملات المذكورة في أبواب العقود والإيقاعات.

ومعلوم: أنّ جميع الشكوك التي يكون محلّها إمّا العقد أو المتعاقدين أو العوضين ترجع إلى السبب أو المسبّب أو كذبهما فيكفي في جريانها إحراز القابليّة العرفيّة دون الشرعيّة، خلافاً للاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) الذي قال باختصاص جريان أصالة الصحّة في مورد الشكّ في شروط العقد دون غيره، واشترط في جريانها إحراز القابليّة الشرعيّة والعرفيّة في الفاعل والمورد(2)، واختصّ جريان الأصل في موارد الشكّ في شروط العقد دون غيره، وذلك تبعاً لاُستاذه المحقّق النائيني)(3).

فإنّه بعد أن حرّر موضوع المسألة وبيّن صور الشكّ، وذكر أنّ المحقّق الثاني والعلّامة" ذهبا إلى عدم جريان أصالة الصحّة عند الشكّ في قابليّة

ص: 273


1- راجع: نهاية الأفكار 4: 28.
2- انظر: مصباح الاُصول 2: 395.
3- راجع: فوائد الاُصول 4: 654. قال(قدس سرّه): «الأمر الثاني: لا يبعد أن تكون أصالة الصحّة في العقود بنفسها معقد الإجماع بالخصوص...».

الفاعل أو المورد العرفيّة والشرعيّة، حكم بصحّة ما ذهب إليه متمسّكاً بذلك بعدم وجود دليل لفظيّ لأصالة الصحّة كي يتمسّك بعمومه وإطلاقه، بلدليلها ليس سوى السيرة، ولم يحرز قيامها على ترتيب آثار الصحيح عند الشكّ في القابليّة، وهو كافٍ في الحكم بعدم جريان أصالة الصحّة، بل المحرز قيامها على عدم ترتيب الآثار، وقد ضرب(قدس سرّه) لذلك مثالين:

أحدهما: ما لو باع زيد دار عمرو مع اعترافه بكونها دار عمرو، وشكّ في كونه وكيلاً عن عمرو أو لا.

والثاني: ما لو طلّق زيد زوجة عمرو، وشكّ في كونه وكيلاً عنه.

فإنّ العقلاء لا يرتّبون آثار البيع الصحيح أو الطلاق الصحيح على ما صدر من زيد، وهذا لا يرجع إلّا لعدم ترتيب آثار الصحّة عند الشكّ في القابليّة.

ثمّ قال(قدس سرّه): «وأمّا ما ذكره الشيخ) من قيام السيرة على ترتيب الآثار على المعاملات الصادرة من الناس في الأسواق مع عدم إحراز قابليّة الفاعل، فهو وإن كان مسلّماً، إلّا أنّه من جهة قاعدة اليد، فإنّه لولاها لما استقام للمسلمين سوق، فلا ربط له بأصالة الصحّة.

وإن شئتَ قُلْت: قابليّة الفاعل في الموارد المذكورة محرزة بقاعدة اليد، لا أنّ أصالة الصحّة جارية مع عدم إحراز القابليّة، فالأمثلة المذكورة خارجة عن محلّ الكلام»(1).

ص: 274


1- انظر: مصباح الاُصول 2: 395 - 396، (المجلّد 48 من موسوعة الإمام الخوئي¨).

الأمر السابع :

اختلاف الصحّة بحسب مواردها:

لا يخفى: أنّ الصحّة على قسمين: تأهّليّة وفعليّة.

أمّا التأهّليّة: فهي عبارة عن قابليّة الجزء لكي يترتّب عليه الأثر الشرعيّ لو انضمّ إليه غيره من الأجزاء ممّا له دخل في ترتّب هذا الأثر، وفي الواقع، هي عبارة عن قابليّة ذلك الجزء فيما لو انضمّت إليه بقيّة الأجزاء أن يشكّل مع تلك الأجزاء مجموعاً هو عبارة عن عبادة أو معاملة تامّة.

وأمّا الصحّة الفعليّة: فهي الصحّة بمعنى تماميّة جميع الأجزاء والشرائط، سواء كان موردها عبادة أم عقداً، بحيث يترتّب عليه ما له من الآثار فعلاً.

فاتّصاف الجزء بالصحّة التأهّليّة لا يتوقّف على انضمام بقيّة الأجزاء فعلاً إليه، وأمّا الصحّة الفعليّة، فالاتّصاف بها متوقّف على توفّر جميع الأجزاء، فالمتّصف بها ليس إلّا المجموع المركّب، وهو لا يتّصف بغيرها، وأمّا الذي يتّصف بالصحّة التأهّليّة فليس إلّا الجزء.

ومن هنا يتّضح: أنّ صحّة كلّ شيء بحسبه، فالجزء لا يتّصف بالصحّة الفعليّة، والكلّ بالنسبة إلى أثره بعكسه، فهو لا يتّصف إلّا بالصحّة الفعليّة.

ومن هنا ظهر: أنّ جريان أصالة الصحّة في الإيجاب في البيع - مثلاً - لا يجدي لإثبات الصحّة في الإجازة، بمعنى: أنّه لا تثبت إجازة المالك به؛ لأنّها صحّة تأهليّة، فلا تدلّ على أزيد من صحّة الإيجاب.

ص: 275

وكذا ما إذا شكّ في تحقّق القبض في الصرف والسلم، فإنّ جريان أصالة الصحّة في العقد لا يدلّ على تحقّق القبض في المجلس الذي هو شرط في صحّة تلك المعاملة ووقوع النقل والانتقال شرعاً.

ولكن يمكن القول هنا بجريان أصالة الصحّة فيما لو أحرزنا تحقّق المعاملة في نظر العرف، فإذا شككنا - حينئذٍ - في عدم وجود شرط اعتبره الشارع في صحّة المعاملة، كمثل القبض في المجلس في مسألة بيع الصرف، أمكن التمسّك بأصالة الصحّة لإثبات وجوده.

وكذلك فقد يستشكل في جريان أصالة الصحّة في موارد:

منها: بيع الوقف بعد ثبوت عدم صحّة هذا البيع لو خُلّي ونفسه، وأنّه لا يجوز إلّا بطروّ شيءٍ من المجوّزات التي ذكروها لبيعه، فإذا ادّعى البائع للوقف وجود شيءٍ من هذه المجوّزات، فهل تثبت أصالة الصحّة وجوده - أعني: المجوّز - وصحّة بيعه؟ الظاهر العدم بعد أن كان بناء بيع الوقف على الفساد.

نعم، يمكن إثبات الصحّة من ظهور حال المسلم في أنّه لا يرتكب ما لا يجوز، إلّا أنّ هذا المعنى مغاير لأصالة الصحّة التي ثبتت حجّيّتها ببناء العقلاء.

ولكن يمكن القول: بأنّ البائع للوقف إن كان هو الناظر أو الحاكم الشرعيّ، فحيث إنّه يمكن أن يكون صحيحاً مع وجود أحد المسوّغات، وحيث إنّ وجود المسوّغ لم يكن من مقوّمات تحقّق بيع الوقف عرفاً، بل

ص: 276

هو ممّا اعتبره الشارع فيصحّته، فتجري أصالة الصحّة حينئذٍ، وتكون حاكمةً على أصالة عدم وجود المسوّغ، كما هو شأن أصالة الصحّة في سائر المقامات، حيث تُقدَّم على جميع الاُصول العدميّة.

ومنها: ما لو ادّعى الراهن إذن المرتهن في بيع العين المرهونة، فإنّ أصالة صحّة البيع لا تثبت إذنه، وقد مرّ أنّ الرهن إذا كان قد حصل عرفاً، فإذنه للبيع إن كان من مقوّمات تحقّق البيع عرفاً فأصالة الصحّة لا تجري، وإلّا فتجري.

الأمر الثامن:

لا يخفى: أنّ الأفعال والعناوين القصديّة إنّما تجري فيها أصالة الصحّة إذا كان الفاعل لذلك الفعل قد قصد عنوان ذلك العنوان القصديّ، فإذا كان الشخص نائباً عن أحدٍ في الحجّ أو زيارة أحد المعصومين(علیهم السلام)- مثلاً -، فاذا لم ينوِ النيابة عن المنوب عنه، فإنّ النيابة لا تقع؛ لأنّها من العناوين القصديّة، وبالتالي: فلا يمكن جريان أصالة الصحّة.

أمّا لو أحرز المستنيب أنّ النائب قصد بفعله النيابة عن قبله بمحرز وجدانيّ أو تعبّدي، ولكن شكّ في أنّ النائب هل أتى بالحجّ بجميع ما اعتبر فيه من الأجزاء والشرائط وعدم الموانع، فتجري أصالة الصحّة في فعل النائب، ويثبت بها أنّه قد جيء به بجميع ما اعتبر فيه وجوداً وعدماً، فيسقط عن المنوب عنه.

ص: 277

الأمر التاسع:

في أنّ أصالة الصحّة هل هي أصل أم أمارة؟

وقع الكلام في ذلك بين الأصحاب. فإن قلنا بأنّها من الأمارات، وقد عرفنا أنّ الحجّيّة في باب الأمارات من باب تتميم الكشف، فيستفاد منها ترتيب جميع الآثار التي لذلك الفعل الذي تجري فيه أصالة الصحّة إذا كان صحيحاً واقعاً، حتى ولو كانت من اللّوازم العقليّة التي لها آثار شرعيّة.

وإن قلنا بأنّها من الاُصول العمليّة، بلا فرق بين أن تكون من الاُصول المحرزة أم لا، فلا يثبت بها إلّا الآثار الشرعيّة التي تكون لذلك الفعل، ولا يثبت بها الحكم الشرعيّ الذي يترتّب بواسطة الأثر العقلي.

وبذلك يتّضح: أنّه لابدّ لإثبات كونها من الأمارات أو الاُصول من الرجوع إلى مدرك اعتبارها. وقد اختار المحقّق الأنصاريّ) - على ما يستظهر من كلامه - أنّها من الاُصول، حيث قال) ما عبارته:

«أنّ الثابت من القاعدة المذكورة الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتّب عليه الآثار الشرعيّة المترتّبة على العمل الصحيح، أمّا ما يلازم الصحّة من الاُمور الخارجة عن حقيقة الصحيح فلا دليل على ترتّبها عليه، فلو شكّ في أنّ الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك، كالخمر والخنزير، أو بعينٍ من أعيان ماله، فلا يحكم بخروج تلكالعين من

ص: 278

تركته، بل يحكم بصحّة الشراء وعدم انتقال شيءٍ من تركته إلى البائع؛ لأصالة عدمه»(1).

وقد يُفصّل بين ما إذا كان منشأ الشكّ في الصحّة احتمال تعمّد الإخلال بما يعتبر في العمل من الأجزاء والموانع أو احتمال عروض الغفلة والسهو مع علم الفاعل بالحكم، فتكون من الأمارات؛ لأنّ احتمال التعمّد خلاف ظاهر حال الفاعل، كما أنّ احتمال عروض الغفلة والسهو منافٍ لما ورد في باب قاعدة الفراغ من التعليل بالأذكريّة حين الفعل، حيث إنّ ورود هذه الكلمة في ذلك الباب لا يوجب اختصاصها به؛ لأنّه أمر عام يشمل العامل والحامل، والأوّل، أي: العامل، في قاعدة الفراغ, وأمّا الثاني، وهو الحامل، ففيما نحن بصدده.

وأمّا لو كان منشأ الشكّ احتمال جهل الفاعل بالحكم - بناءً على شمول القاعدة له - فلا محالة يكون أصلاً تعبّدياً حينئذٍ؛ وذلك لعدم وجود ملاك الأماريّة فيه أصلاً.

ولكنّ المحقّق النائيني(قدس سرّه) أورد على ذلك بما حاصله:

أنّ غاية ما يستفاد من التعليل بالأذكريّة وكذلك ظهور حال المسلم هو حمل فعله على الصحّة عند فاعله، لا الصحّة الواقعيّة التي نحن بصددها، ومعه: فلا مجال لأن يُعدّ هذاالأصل من الأمارات المعتبرة، بل لا يكون

ص: 279


1- فرائد الاُصول 3: 371.

- حينئذٍ - إلّا من سنخ الاُصول العمليّة(1).

والتحقيق أن يقال: إنّ تعيين كون هذه القاعدة أصلاً أو أمارةً لابدّ أن يرجع فيه - كما ذكرنا - إلى مدرك اعتبارها؛ فإن كان المدرك هو الإجماع، فالقدر المتيقّن من معقده هو ترتيب الآثار الشرعيّة التي للفعل بلا واسطة لازمه العقليّ، دون الآثار الشرعيّة التي تترتّب عليه بواسطة الآثار العقليّة.

وأمّا إذا كان المدرك هو بناء العقلاء، فإن كان بناؤهم على اعتبارها من ناحية ظهور حال المسلم، بل حال كلّ فاعل عاقل، مسلماً كان أم غير مسلم، في أنّه يأتي بعمله صحيحاً تامّاً، لا فاسداً ناقصاً، ففي هذه الحالة، فإن قلنا بأنّ بناءهم من جهة تتميمهم الكشف الناقص الموجود في ظهور حالهم، فتكون أمارة، وحينئذٍ: فتكون مثبتاتها حجّة، كما هو الحال في كلّ أمارة.

وأمّا إذا قلنا بأنّ بناءهم ليس من باب تتميم الكشف، بل هم إنّما يعملون على طبق ذلك الظهور من دون أن يروه طريقاً كاشفاً في عالم اعتبارهم، وإنّما يعملون على طبقه عمل المتيقّن، فيكون أصلاً

ص: 280


1- انظر: فوائد الاُصول 4: 654، وإليك نصّ كلامه، قال(قدس سرّه): «نعم، لو كان المستند في اعتبار أصالة الصحّة ظهور حال المسلم في عدم إقدامه على ما هو الفاسد، كان المراد من الصحّة هي الصحّة عند الفاعل، ولكن هذا إنّما يتمّ مع علم الفاعل بما هو الصحيح والفاسد، وأمّا مع جهله بذلك فلا معنى لحمل فعله على الصحيح عنده، كما لا يخفى».

محرزاً.وإن كان عملهم على طبق ذلك الظهور من دون أن يبنوا على كونه من باب عمل المتيقّن، فيكون من الاُصول غير المحرزة.

وإذا عرفت هذا، فحيث كان المدرك في اعتبارها عندنا هو بناء العقلاء، والظاهر أنّه من باب تتميم الكشف، فتكون القاعدة المزبورة من الأمارات، ومعه: فتترتّب عليها جميع الآثار الشرعيّة، وتكون مثبتاتها حجّةً أيضاً.

الأمر العاشر:

في تقديم هذه القاعدة على الاستصحابات الموضوعيّة.

فنقول: تارةً: نقول بأماريّة هذه الأصالة وجريانها على الإطلاق، أي: شرائط العقد والعوضين والمتعاقدين، وحينئذٍ: فتكون حاكمة على الاُصول الموضوعيّة العدميّة؛ لأنّها تكشف عن وجود تلك الشرائط تعبّداً، ومعه: فلا يبقى موضوع للاستصحاب أصلاً، فتقدّم تلك القاعدة على أصالة الفساد في المعاملات، وأصالة الاشتغال في العبادات؛ إذ بعد أن كان الشكّ في بقاء شغل الذمّة في الاُمور العباديّة أو في حصول النقل والانتقال في المعاملات مسبّباً عن الشكّ في صحّة ذلك العمل العباديّ، أو الشكّ في صحّة ذلك العقد الصادر من العاقد، فتكون أصالة الصحّة أمراً سببيّاً، فتكون مقدّمةً بهذا الملاك على الأصل المسبّبيّ.

ص: 281

وأُخرى: نقول بأنّها من الاُصول المحرزة، وحينئذٍ: فتقديمها على سائر الاُصول بحاجة إلى دليل، فيقع التعارض بينهما بعدما كان كلاهما من الاُصول المحرزة.

قال المحقّق النائيني) في المقام ما هذا لفظه:

«قد اختلف كلمات الأعلام في حكومة أصالة الصحّة في العقود على جميع الاُصول الموضوعيّة المقتضية لفساد العقد، والمتحصّل من الكلمات أقوال ثلاثة:

الأوّل: حكومتها على كلّ أصلٍ يقتضي فساد العقد، سواء كان الأصل جارياً في شرائط العقد أو في شرائط المتعاقدين أو في شرائط العوضين، فلو اختلف المتعاقدان في كون العقد واجداً لشرائط الصحّة - من العربيّة والماضويّة أو في بلوغ العاقد، أو في قابليّة أحد العوضين للنقل والانتقال - قُدِّم قول من يدّعي الصحّة، ولا تجري أصالة عدم بلوغ العاقد، أو عدم كون المال قابلاً للنقل والانتقال لو فرض أنّ في البين أصلاً موضوعيّاً يقتضي عدم قابليّة المال للانتقال، فتكون أصالة الصحّة حاكمة على جميع الاُصول السببيّة والمسبّبيّة المقتضية لفساد العقد.

الثاني: حكومتها على خصوص الأصل الذي يقتضي فساد العقد من حيث الشرائط الراجعة إلى تأثيره: من العربيّة والماضويّة ونحو ذلك... فلو كان الشكّ متمحّضاً في تأثير السبب وكونه واجداً للشرائط المعتبرة فيه، كان الأصل فيه الصحّة. وأمّا لو كان الشكّ في الصحّة والفساد مسبّباً

ص: 282

عن الشكّ في شرائط المتعاقدين أو شرائط العوضين، فلا تجري فيه أصالة الصحّة.

والحاصل: أنّ أصالة الصحّة إنّما تكون حاكمة على خصوص أصالة عدم النقل والانتقال وبقاء المال على ملك مالكه، فإذا لم يكن في مورد الشكّ إلّا أصل عدم الانتقال كانت أصالة الصحّة حاكمة عليه. وأمّا إذا كان في مورد الشكّ أصل موضوعيّ آخر يقتضي الفساد، كأصالة عدم بلوغ العاقد، أو عدم قابليّة المال للنقل والانتقال، فلا تجري فيه أصالة الصحّة.

الثالث: حكومتها على كلّ أصل يقتضي فساد العقد إلّا إذا كان الشكّ في الصحّة والفساد مسبّباً عن الشكّ في الشرائط العرفيّة للعوضين أو المتعاقدين، كماليّة العوضين ورشد المتعاقدين فى الجملة».

إلى أن قال: «والتحقيق: أنّ أصالة الصحّة إنّما تقدّم على أصالة بقاء المال على ملك مالكه، ولا تقدّم على سائر الاُصول الموضوعيّة الأُخَر؛ فإنّه لا دليل على أصالة الصحّة في العقود سوى الإجماع، وليس لمعقد الإجماع إطلاق يعمّ جميع موارد الشكّ في الصحّة والفساد، بل القدر المتيقّن منه هو ما إذا كان الشكّ في الصحّة والفساد مسبّباً عن الشكّ في تأثير العقد للنقل والانتقال بعد الفراغ عن سلطنة العاقد لإيجاد المعاملة

ص: 283

من حيث نفسه ومن حيث المال المعقود عليه»(1).ولكن لا يخفى: أنّ ما ذكره) إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ المدرك لاعتبارها هو الإجماع، وأمّا لو قلنا بأنّ المدرك لذلك هو السيرة العقلائيّة، فهي - حينئذٍ - بإطلاقها تعمّ جميع موارد الشكّ في الصحّة والفساد بلا استثناء.

وقد علّق المحقّق العراقي(قدس سرّه) على كلامه) هذا بما نصّه:

«أقول: الأَولى أن يقال: إنّه بعدما كان مرجع الصحّة والفساد إلى تماميّة الشيء من حيث ترتّب الأثر عليه وعدمه، فلا محيص من أن يكون مركز هذا الأصل ما يتصوّر له الصحّة والفساد، ولازم ذلك هو: كون مجرى هذا الأصل تارةً هو السبب، وأُخرى المسبّب من حيث تماميّته في قابليّته للترتّب على المسبّب، وحيث إنّ مجرى هذا الأصل لا بدّ وأن يكون محرزاً بالوجدان، فلا محيص - في فرض الشكّ في قابليّة المسبّب للتأثّر - أن يرجع الشكّ إلى قابليّته شرعاً مع كون المسبّب محرزاً عرفاً بالوجدان.

ثمّ إنّ الشكّ في تماميّة المسبّب أو السبب: تارةً: من جهة قيدٍ يكون محلّه العقد أو المتعاقدين أو العوضين، أو محلّه نفس المسبّب، وعلى أيّ حال: جميع هذه القيود راجعة إمّا إلى السبب أو المسبّب؛ لاستحالة تماميّة السبب وقابليّة المسبّب وعدم الأثر، وحينئذٍ: فكلّ مورد يكون الشكّ في قيدٍ من ناحية العرف، لا مجرى [فيه] لأصالة الصحّة؛ لعدم إحراز العنوان. وكلّ مورد يكون

ص: 284


1- فوائد الاُصول 4: 655 - 657.

الشكّ في قيد شرعيّ، يجري فيه أصالة الصحّة؛ لعموم التعليل في رواية (اليد)،بعد الجزم بعدم الفرق في الجريان من حيث المورد، وبطلان الترجيح بلا مرجّح، كما لا يخفى.

وأمّا توهّم كفاية أجزاء العقد عرفاً في إثبات تماميّة السبب، فهو كما ترى؛ إذ مهما شكّ في وجود قيدٍ من قيود نفس العقد فأصالة الصحّة في نفس العقد لا يقتضي أزيد في تماميّة العقد في المؤثّرية، وليس شأنه إثبات قابليّة المحلّ للتأثّر، فمع الشكّ فيه عرفاً للشكّ في فقد قيدٍ عرفيّ، لا يُنتج مثل هذا الأصل ترتّب المسبّب على السبب.

نعم، لو أحرز قابليّته العرفيّة، وتحقّق مثل هذا البيع، فيحتاج في إثبات تماميّته إلى إجراء أصالة الصحّة في المسبّب»(1).

ص: 285


1- فوائد الاُصول 4: 657، الهامش.

ص: 286

الكلام في تعارض الاستصحابين

اشارة

لا يخفى: أنّ الشكّ في بقاء أحد المستصحبين إمّا أن يكون مسبّباً عن الشكّ في بقاء المستصحب الآخر، وإمّا أن يكونالشكّ في بقاء كلّ من المستصحبين مسبّباً عن أمر آخر، ولا يمكن أن يكون الشكّ في كلّ منهما مسبّباً عن الآخر؛ لاستحالته عقلاً؛ إذ لا يعقل أن تكون علّة الشيء معلولاً له.

فالأوّل يسمّى بالاستصحاب السببيّ والمسبّبيّ، حيث إنّ الشكّ في بقاء أحدهما يكون مسبّباً شرعاً عن بقاء الشكّ في الآخر، كما إذا غسلت الثوب النجس بالماء المستصحب الطهارة؛ فإنّه بعد إجراء استصحاب طهارة الماء تكون هذه الطهارة المستصحبة سبباً شرعيّاً لطهارة الثوب الذي غسل بذلك الماء، فيكون الشكّ شكّاً في تحقّق السبب، وهو طهارة الماء سبباً للشكّ في طهارة ذلك الثوب.

ومعه: يكون الاستصحاب في الأصل السببيّ حاكماً عليه في جانب

ص: 287

الأصل المسبّبيّ. فالأصل السببيّ مقدّم دائماً، بلا فرق بين أن يكون كلا الأصلين تنزيليّاً مشمولاً لقوله(علیه السلام): (لا تنقض اليقين بالشكّ)، أو أن يكون أحدهما أصلاً تنزيليّاً والآخر غير تنزيليّ.

ولا يخفى: أنّ المراد بالأصل التنزيليّ هو ما يكون المجعول فيه هو البناء العمليّ على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشكّ، وتنزيله عملاً منزلة الواقع. وأمّا الأصل غير التنزيليّ فهو ما يكون المجعول فيه مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ، من دون أن يكون الجعل متكفّلاً لثبوت الواقع في أحد الطرفين.

ويدخل في القسم الأوّل: الاستصحاب، وقاعدة الفراغ والتجاوز، وأصالة الصحّة، فإنّ جميع هذه الاُصول متكفّلةللتنزيل والإحراز، والمجعول فيها هو البناء العمليّ على ثبوت الواقع إن كان مؤدّى الأصل مقام الثبوت، كما هو الشأن في الاستصحاب، أو البناء العمليّ على الإتيان بالواقع إن كان مؤدّى الأصل مقام الفراغ والسقوط، كما هو الحال في قاعدة الفراغ والتجاوز.

ويدخل في القسم الثاني: البراءة والاحتياط وأصالة الحلّ والطهارة، فإنّ المجعول في هذه الاُصول مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ، من دون أن تكون متكفّلة لثبوت الواقع أو الإتيان به.

وأمّا الثمرة بين الاُصول المحرزة وغيرها، فتظهر - على ما ذكره المحقّق النائيني) - في موارد عديدة:

ص: 288

منها: قيام الاُصول المحرزة مقام القطع الطريقيّ، دون الاُصول غير المحرزة.

ومنها: عدم جريان الاُصول المحرزة في أطراف العلم الإجماليّ مطلقاً، سواء كان مؤدّاها نفي التكليف المعلوم بالإجمال ولزم من جريانها مخالفة عمليّة، أو كان مؤدّاها ثبوت التكليف المعلوم بالإجمال ولم يلزم من جريانها مخالفة عمليّة؛ فإنّ التعبّد ببقاء الواقع في كلّ واحدٍ من أطراف العلم الإجماليّ ينافي العلم الوجدانيّ بعدم بقاء الواحد في أحدهما، وكيف يعقل العلم ببقاء النجاسة - مثلاً - في كلّ واحد من الإناءين مع العلم بطهارة أحدهما، ومجرّد أنّه لا يلزم من الاستصحابين مخالفة عمليّة لا يقتضي صحّة التعبّد ببقاءالنجاسة في كلٍّ منهما؛ فإنّ الجمع في التعبّد ببقاء مؤدّى الاستصحابين يناقض العلم الإجماليّ بالخلاف.

وهذا بخلاف الاُصول غير المحرزة؛ فإنّه لمّا كان المجعول فيها مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ، فلا مانع من التعبّد بها في أطراف العلم الإجماليّ إذا لم يلزم منها مخالفة عمليّة(1).

وبالجملة: فالأصل السببيّ، ولو لم يكن تنزيليّاً، مقدّم على الأصل المسبّبيّ، ولو كان تنزيليّاً، فلو كان هناك ماء لا يعلم حالته السابقة وأنّه

ص: 289


1- انظر: فوائد الاُصول 4: 693، بتصرّف يسير في عبارته.

طاهر أو نجس، وغسلت به الثوب النجس، فبعد جريان أصالة الطهارة في الماء، وهي ليست بأصل تنزيليّ، تقدّم على استصحاب نجاسة الثوب، والذي هو أصل تنزيليّ، لما عرفت من أنّ الأصل السببيّ حاكم على الأصل المسبّبيّ ورافع لموضوعه في عالم التعبّد والتشريع؛ إذ بعد أن كان المشكوك، وهو طهارة الثوب في المثال المتقدّم، من الآثار الشرعيّة لطهارة الماء، فإذا جاء دليل تعبّدي على طهارة ذلك الماء الذي غسل هذا الثوب به، فمن جملة آثاره: رفع الخبث عن هذا الثوب الذي غُسل به، وأنّه لم يبقَ لذلك الثوب نجاسة، وإن كان ثبوت الطهارة لذلك الماء بمفاد أصالة الطهارة.

وبعبارة أُخرى: لم يبقَ في مقام العمل شكّ في نجاسة الثوب حتى تستصحب نجاسته، وليس هذا الارتفاع الذي نقول به للشكّ بارتفاع حقيقيّ، حتى يقال بأنّ ترتيب آثار الطهارة علىالماء تعبّداً لا يوجب ارتفاع الشكّ حقيقةً؛ لأنّه من الاُمور التكوينيّة، وهي لا ترتفع إلّا بأسبابها التكوينيّة، بل ما هو إلّا الرفع التعبّديّ.

والحاصل: أنّ الدليل الذي يثبت طهارة الماء، سواء كان أصلاً تنزيليّاً أم غير تنزيليّ، فهو موجب لرفع الشكّ في مرحلة الإثبات والظاهر، لا في مرحلة الثبوت والواقع، وإلّا، كان وارداً لا حاكماً، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني) ذكر أنّ حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ مشروطة بأمرين:

ص: 290

أحدهما: أن تكون السببيّة شرعيّة لا عقليّة.

والثاني: أن يكون الأصل في جانب السبب رافعاً لموضوع المسبّب، وإلّا، فلا حكومة كما ينبغي.

ومثّل لعدم كونه رافعاً بالشكّ في مأكول اللّحم والشكّ في جواز الصلاة فيه، حيث إنّ الشكّ الثاني مسبّب شرعاً عن الشكّ الأوّل، وأصالة الحلّ في الشكّ الأوّل لا ترفع الشكّ الثاني الذي هو موضوع عدم جواز الصلاة؛ لما ذكره من أنّ جواز الصلاة موضوعه العناوين المحلّلة كالغنم وأمثاله.

وإليك نصّ كلامه«:

«فإن كان الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر: فلا إشكال في حكومة الاستصحاب السببيّ على الاستصحاب المسبّبي، بل في حكومة كلّ أصل سببيّ على كلّ أصل مسبّبي - ولو لم يكن الأصل السببيّ من الاُصول المحرزة - إذا كان الأصل السببيّ واجداً لشرطين:أحدهما: أن يكون ترتّب المسبّب على السبب شرعيّاً لا عقليّاً، بمعنى: أن يكون أحد طرفي الشكّ المسبّبيّ من الآثار الشرعيّة المترتّبة على أحد طرفي الشكّ السببيّ، فالشكّ في بقاء الكلّيّ لأجل الشكّ في حدوث الفرد الباقي خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّ بقاء الكلّيّ ببقاء الفرد عقليّ، فلا يكون استصحاب عدم حدوث الفرد حاكماً على استصحاب بقاء الكلّيّ، بل يجري استصحاب بقاء الكلّيّ في عرض استصحاب عدم حدوث الفرد،

ص: 291

ولا معارضة بينهما، وقد تقدم تفصيل ذلك في استصحاب الكلّيّ.

ثانيهما : أن يكون الأصل السببيّ رافعاً للشكّ المسببيّ، فالشكّ في جواز الصلاة في الثوب لأجل الشكّ في اتّخاذه من الحيوان المحلّل خارج عن محلّ الكلام أيضاً، فإنّ أصالة الحلّ في الحيوان، وإن كان تجري، إلّا أنّها لا تقتضي جواز الصلاة في الثوب، لبقاء الشكّ في جواز الصلاة فيه على حاله؛ لأنّ أصالة الحلّ لا تُثبت كون الثوب متّخذاً من الأنواع المحلّلة، على ما تقدّم بيانه أيضاً في استصحاب الكلّيّ»(1).

وقد ردّه الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) بأنّه «كلام عجيب؛ لأنّ كلامنا في هذا المقام في الأصل السببيّ والمسبّبيّ، فإذا كان الشكّ في الأصل المسبّبيّ مسبّباً شرعاً عن بقاء الشكّ في الأصل السببيّ، فإذا ارتفع السبب - أي: الشكّ - ولو تعبّداً، ومنحيث الجري العمليّ، فمحال أن يبقى المسبّب الذي هو معلول له، وإلّا، تخلّف المعلول عن علّته.

وأمّا المثل الذي ذكره: فإن قلنا: إنّ الشكّ في جواز الصلاة مسبّب عن الشكّ في الحلّيّة، فلا محالة يرتفع بأصالة الحلّ، وأمّا إن قلنا: بأنّ الشكّ في جواز الصلاة مسبّب عن الشكّ في أنّه من العناوين المحلّلة، فليس مسبّباً عن الحلّيّة حتى يلزم منه رفع الموضوع في جانب المسبّب.

ص: 292


1- فوائد الاُصول 4: 682.

والحاصل: أنّ كون الشكّ في الأصل المسبّبيّ معلولاً للشكّ السببيّ شرعاً ومن آثاره، ومع ذلك لا يرتفع بارتفاعه بالأصل في طرف السبب، من المتناقضات، ومن الالتزام ببقاء المعلول مع زوال علّته، ولو تعبّداً ومن حيث الجري العمليّ، لا حقيقةً ووجداناً»(1).

وما ذكره(قدس سرّه) هو الصحيح؛ لأنّ الأصل في جانب السبب إنّما يكون رافعاً لموضوع المسبّب تعبّداً، ومن حيث الجري العمليّ، بعدما كان الشكّ في الأصل المسبّبيّ مسبّباً شرعاً عن بقاء الشكّ في الأصل السببيّ.

فإذا ارتفع الشكّ، ولو ببركة جريان الأصل في السبب، فمحال أن يبقى المسبّب الذي هو المعلول له؛ لعدم إمكان انفكاك المعلول وتخلّفه عن علّته، وبعدما كان الشكّ في جوازالصلاة مسبّباً عن الشكّ في الحلّيّة، فهذا الشكّ يرتفع - لا محالة - بجريان أصالة الحلّ.

ثمّ إنّه قد يقال: إنّما يتقدّم الأصل السببيّ على المسبّبيّ فيما إذا كان لكلّ واحدٍ منهما دليل مستقلّ، حتى يكون أحد الدليلين رافعاً لموضوع دليل الآخر، وأمّا إذا كان لكليهما دليل واحد يشمل بعمومه الاثنين، كما في مورد البحث هنا، في مثل قوله(علیه السلام): لا تنقض اليقين بالشكّ، الذي هو شامل بعمومه للأصل السببيّ والمسبّبيّ معاً، فكيف يمكن أن يكون دليل

ص: 293


1- منتهى الاُصول 2: 542 - 543.

واحد بالنسبة إلى أحدهما، وهو الأصل السببيّ، حاكماً، وبالنسبة إلى الآخر، وهو الأصل المسبّبيّ، محكوماً؟(قدس سرّه) ليس هذا إلّا أن يكون شيء واحد حاكماً على نفسه، وهذا واضح البطلان.

ولكن يُجاب عن هذا الإشكال: بأنّ العامّ هنا من قبيل العامّ الانحلاليّ، ومعلوم أنّ العموم الانحلاليّ هو في حكم القضايا المتعدّدة، ومن هنا أمكن أن يكون هذا العامّ بالنسبة إلى الأصل السببيّ حاكماً، وبالنسبة إلى الأصل المسبّبيّ محكوماً؛ إذ له انطباقات متعدّدة على حسب تعدّد وجودات الطبيعة، وهذا المقدار كافٍ في أن يكون الشيء الواحد حاكماً بالنسبة إلى أصلٍ، ومحكوماً بالنسبة إلى آخر.

وقد يستشكل أيضاً: بأنّ نسبة دليل الاستصحاب، أعني: لا تنقض اليقين بالشكّ، إلى كلا الأصلين: السببيّ والمسبّبي، على حدٍّ سواء، فلا معنى لتقديم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الأصل السببيّ على الاستصحاب في جانب المسبّبيّ حتىلا يبقى موضوع للأصل المسبّبيّ، بل جريان الأصل ابتداء في الأصل المسبّبيّ ممكن، وموضوعه باقٍ على حاله. فإذا قلنا باعتبار الأصل المثبت، فإذا أجرينا الأصل المسبّبيّ أوّلاً، يرتفع موضوع الاستصحاب في الشكّ السببيّ.

ولكن فيه: أنّ الأصل المثبت ليس بحجّة، فجريان الاستصحاب في الأصل المسبّبيّ أوّلاً، لا يرفع موضوع الاستصحاب في الأصل السببيّ، وأمّا جريان الاستصحاب في الأصل السببيّ أوّلاً، فهو رافع لموضوع

ص: 294

الاستصحاب في الأصل المسبّبيّ بمدلوله المطابقي، لا من جهة القول بحجّيّة الأصل المثبت.

نعم، يبقى الإشكال في أنّه كيف يتقدّم الأصل السببيّ على المسبّبيّ حتى تكون النتيجة رفع موضوعه؟

وفي ذلك يقول اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «نعم، يبقى الكلام في أصل تقديم أصل السببيّ على المسبّبيّ حتى ينتج رفع موضوعه، وأنّه لا وجه له لإخراج الشكّ المسبّبيّ عن تحت العامّ، أي: قوله(علیه السلام): لا تنقض اليقين بالشكّ، بإدخال الشكّ السببيّ، مع أنّ نسبة العامّ إلى كليهما على حدٍّ سواء. فمقتضى القاعدة إجراء الاستصحاب في كليهما معاً، وفي رتبةٍ واحدة، بلا تقديم أحدهما على الآخر، فيكون الموضوع باقياً في كلا الاستصحابين، فيتساقطان؛ للعلم الإجماليّ بكذب أحدهما، فلا حكومة في البين».

ثمّ أجاب(قدس سرّه) عنه بقوله: «ولكن يمكن أن يقال: إنّ العامّ وإن كان شموله للأصل السببيّ والمسبّبيّ في عرضٍ واحد،ولكنّ شموله للأصل المسبّبيّ يحتاج إلى مؤونة، وهي عدم شموله للأصل السببيّ وخروجه عن تحته، وذلك لما ذكرنا من أنّ دخوله تحت العامّ يوجب رفع موضوع الأصل المسبّبيّ، فيكون خارجاً بالتخصّص. وأمّا خروج الأصل السببيّ إذا كان، لا بدّ وأن يكون بالتخصيص، ولا مخصّص في البين إلّا على وجه دائر محال. فالأمر يدور بين خروج المسبّبيّ بالتخصّص، أو خروج السببيّ على وجه محال، أي: بلا مخصّص، أو على وجه دائر.

ص: 295

وبعبارة أُخرى: فرديّة الأصل المسبّبيّ للعامّ المذكور تنجيزيّ؛ لأنّه وجدانيّ، فليس شمول العامّ، أي: قوله(علیه السلام): لا تنقض اليقين بالشكّ، له معلَّقاً على أمر، بخلاف شموله للمسبّبيّ، فإنّه معلّق على عدم شموله للأصل المسبّبيّ، وإلّا، يرفع موضوعه بالحكومة ولا يشمله»(1).

وقد ذهب المحقّق النائيني) إلى القول بحكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ، ولو قلنا باعتبار الاُصول المثبتة؛ لأنّه على هذا المبنى أيضاً فإثباتها للوازمها فرع وجودها، والمفروض عدم تحقّق موضوع المسبّبيّ مع جريان الأصل السببيّ حتى يثبت لوازمها العقليّة.

قال(قدس سرّه): «والحاصل: أنّ جريان الأصل المسبّبيّ يتوقّف على الشكّ في مؤدّاه، والشكّ في مؤدّاه يتوقّف على عدم جريانالأصل السببيّ؛ إذ مع جريانه يرتفع الشكّ في مؤدّى الأصل المسبّبيّ، وعدم جريان الأصل السببيّ يتوقّف على جريان الأصل المسبّبيّ وإثباته اللّوازم العقليّة. وأمّا جريان الأصل السببيّ فهو لا يتوقّف على شيء؛ لأنّ موضوعه محرز بالوجدان، وليس له في مرتبة جريانه رافع»(2).

هذا كلّه، إذا كان الشكّ في أحدهما من الآثار الشرعيّة لبقاء الشكّ في الآخر والذي يسمّى بالأصل السببيّ والمسبّبيّ.

ص: 296


1- منتهى الاُصول 2: 544 - 545.
2- فوائد الاُصول 4: 685.

وأمّا القسم الثاني:

وهو ما إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر، ولكن عقلاً لا شرعاً، فإذا قلنا بعدم حجّيّة الأصل المثبت، وأنّ الاُصول ليست بحجّة في لوازمها ومثبتاتها، فلا يكون الأصل السببيّ - حينئذٍ - حاكماً على الأصل المسبّبيّ، بل يكون حال الأصلين حال ما إذا كان الشكّ في كلّ واحد منهما مسبّباً عن أمر آخر، ويرجع إلى القسم الثالث من الاستصحابين المتعارضين.

وفي هذا القسم - أي: القسم الثالث - لا تعارض بين الأصلين في حدّ ذاتيهما، بل منشأ التعارض هو العلم الإجماليّ بكذب أحد الاستصحابين؛ إذ لا تنافي بين الحكم ببقاء شيء في موضوع ببركة الاستصحاب مع بقاء شيء آخر في موضوع آخر ببركة استصحاب آخر فيه لولا ذلك العلم الإجماليّ.وفي هذا القسم، فإن أجرينا الاستصحابين معاً، فإمّا أن يلزم من ذلك مخالفة عمليّة قطعيّة وإمّا أن لا يلزم منه مخالفة كذلك. فإن لزم منه المخالفة العمليّة القطعيّة لم يجز إجراء كلا الاستصحابين والجمع بينهما، وهو ما عليه المشهور، بل المتّفق عليه.

نعم، نُسِب إلى المحقّق الخونساريّ وصاحب القوانين(1) أنّ العلم

ص: 297


1- نسبه إليهما الشيخ الأعظم(قدس سرّه) في الرسائل، حيث قال: «ثمّ إنّ المخالف في المسألة ممّن عثرنا عليه هو الفاضل القمّي(قدس سرّه) والمحقّق الخونساري في ظاهر بعض كلماته...»، انظر: فرائد الاُصول 2: 296، وانظر - أيضاً - : مشارق الشموس في شرح الدروس: 77، وقوانين الاُصول: 2: 37.

الإجماليّ مقتضٍ لتنجّز التكليف، وليس بعلّة تامّة حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعيّة، ولكنّ هذا القول باطل، كما حقّق في محلّه، مضافاً إلى كونه مخالفاً للاتّفاق.

وقال المحقّق النائيني(قدس سرّه) في المقام ما نصّه:

«هل الأصل في تعارض الاُصول يقتضي التخيير في أعمال أحدها؟ أو أنّ الأصل في تعارض الاُصول يقتضي التساقط؟

فقد يقال - بل قيل -: إنّ الأصل يقتضي التخيير، قياساً لها على تعارض الطرق والأمارات على القول بالسببيّة فيها، على ما سيأتي - إن شاء اﷲ تعالى - في مبحث التعادل والتراجيح: من أنّ الأصل في تعارض الأمارات هو التساقط بناءً على الطريقيّة والتخيير بناءً على السببيّة».

ثمّ قال(قدس سرّه): «والأقوى هو التساقط؛ فإنّ التخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين ممّا لا دليل عليه، ولا يقتضيهأدلّة اعتبار الاُصول؛ لأنّ أدلّة اعتبارها تقتضي إعمال كلّ أصلٍ بعينه، فإذا لم يمكن ذلك فلا بدّ من التساقط...». إلى آخر ما جاء في كلامه«(1).

هذا كلّه فيما يلزم فيه المخالفة القطعيّة العمليّة.

ص: 298


1- فوائد الاُصول 4: 688.

وأمّا إذا لم تكن هناك مخالفة كهذه - فبتعبير الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) - «هل هناك لا مانع من إجراء كلا الأصلين مطلقاً، أو لا يجوز مطلقاً، أو التفصيل بين الاُصول التنزيليّة مثل الاستصحاب فلا يجوز، وبين غير التنزيليّة فيجوز؟ وجوه».

وقد اختار(قدس سرّه) التفصيل بالقول بعدم الجريان بالنسبة إلى الاُصول التنزيليّة، وبالجريان بالنسبة إلى غير التنزيليّة(1).

أمّا الشيخ الأنصاريّ(قدس سرّه) فإنّه - أيضاً - فرّق بين الاستصحاب وغيره، وقال في الاستصحاب بعدم الجريان من جهة عدم الدليل في عالم الإثبات، لا عدم إمكانه في عالم الثبوت؛ لأنّ الدليل على الاستصحاب هو قوله(علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقضه بيقين مثله».

فهذه الرواية من حيث الصدر، وإن كانت تشمل أطراف العلم الإجماليّ؛ لأنّ كلّ واحد منها مشكوك مسبوق باليقين الإجماليّ، فأركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّاللّاحق فيه تمام، إلّا أنّ ذيل الرواية، أعني قوله(علیه السلام): «ولكن انقضه بيقين مثله»، ينفي الاستصحاب؛ للعلم الإجماليّ بارتفاع الحالة السابقة في أحدهما، فمثلاً: لو كان هناك كأسان نجسان، فعلم بطهارة أحدهما، فاستصحاب النجاسة في الكأسين ولو كان لا يلزم منه مخالفة عمليّة أصلاً، إلّا أنّه مع ذلك لا يجري؛

ص: 299


1- منتهى الاُصول 2: 547.

لتناقض صدر الرواية وذيلها، فالصدر يُثبت والذيل ينفي(1).

هذا. ولكنّ حديث التناقض بين الذيل والصدر إنّما يتمّ فيما إذا كان المراد من قوله(علیه السلام): «ولكن انقضه بيقين مثله» هو الأعمّ من التفصيليّ والإجماليّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ المراد منه هو اليقين التفصيليّ لا الإجماليّ؛ وذلك من جهة أنّه لابدّ في الاستصحاب من وحدة متعلّق الشكّ واليقين، وإلّا، فلا يصدق النقض، وبعدما كان متعلّق الشكّ هو خصوص الفرد، فلابدّ أن يكون متعلّق اليقين - أيضاً - هو نفس الفرد، وهو غير ممكن إلّا أن يكون اليقين تفصيليّاً. هذا أوّلاً.

وثانياً: ليس المدرك في حجّيّة الاستصحاب في مقام الإثبات منحصراً بهذه الرواية التي هي مذيّلة بهذا الذيل، بل هنا روايات أُخرى ليس لها هذا الذيل.

ص: 300


1- فرائد الاُصول 3: 410. وإليك نصّ ما أفاده(قدس سرّه): «... بل لأنّ العلم الإجماليّ هنا بانتقاض أحد اليقينين يوجب خروجهما عن مدلول (لا تنقض)؛ لأنّ قوله: (لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين مثله) يدلّ على حرمة النقض بالشكّ، ووجوب النقض باليقين، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين، فلا يجوز إبقاء كلٍّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشكّ؛ لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله، ولا إبقاء أحدهما المعيّن؛ لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح، وأمّا أحدهما المخيّر فليس من أفراد العامّ...».

فالحقّ: أنّ المانع من جريان الاستصحاب، بل وكذلك الأمارات ومطلق الاُصول، هو أنّ البناء على بقاء الحالة السابقة على أنّه متيقّن في الطرفين وإلغاء الشكّ وأنّ الواقع منكشف في الأمارات مع العلم بالخلاف إجمالاً لا يجتمعان، لمكان التناقض والتهافت.

ولكنّ الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) أشار إلى موارد كثيرة ذكر أنّهم يجرون فيها الاستصحاب مع العلم إجمالاً بمخالفة أحدهما للواقع.

قال(قدس سرّه): «مثلاً: إذا توضّأ بمائع مردّد بين الماء والبول - ولو غفلةً حتى يتمشّى منه قصد القربة - فهم يجرون استصحاب طهارة البدن مع بقاء الحدث، فهم يفكّكون بين المتلازمين في الواقع في الحكم الظاهريّ؛ فإنّ طهارة البدن في الفرض، وإن كان ملازماً في الواقع مع ارتفاع الحدث، وكذلك بقاء الحدث ملازم بحسب الواقع مع نجاسة البدن، ولكن في مقام الظاهر لا مانع من تفكيك المتلازمين والالتزام بطهارة البدن وبقاء الحدث».

ثمّ قال): «والسرّ في ذلك: أنّ جعل الحكم الظاهريّ على خلاف الواقع لا مانع منه في صورة استتار الواقع، وإن كان يعلم إجمالاً أنّ أحد الجعلين مخالف للواقع، ولكن لا يعلم بخالفة كلّ واحدٍ من الجعلين في مورده.

ونظائر ما ذكرنا من التفكيك بين المتلازمين في الواقع بحسب الحكم الظاهريّ في الفقه كثير جداً».

ص: 301

ثمّ قال: «ولكن يمكن أن يقال في جواب هذا الإشكال: بأنّه فرق بين أن يكون مؤدّى الاستصحابين متّفقين في أمر نعلم تفصيلاً بمخالفته للواقع، كما أنّه في الفرع المذكور يكون الأمر هكذا؛ فإنّ استصحاب نجاسة الكأسين اللّذين يعلم بطهارة أحدهما متّفقان في نجاسة ذلك الذي نعلم تفصيلاً بطهارته، وكذلك الاستصحابان في عدم زوجيّة كلّ واحدةٍ من المرأتين اللّتين نعلم تفصيلاً بزوجيّة إحداهما متّفقان في نفي زوجيّة من نعلم تفصيلاً بزوجيّتها، وهي مصداق إحداهما؛ فإنّه في الصورة الاُولى - أي: فيما إذا كان مؤدّى الاستصحابين جمعاً مخالفاً لما هو معلوم بالتفصيل - نقول بعدم جريان الاستصحابين ولو لم يكونا مستلزمين للمخالفة العلميّة.

وفي الصورة الثانية - أي: فيما إذا كان التفكيك بين المتلازمين بحسب الواقع في الحكم الظاهريّ إذا لم يكن مخالفاً لما هو معلوم بالتفصيل، ولم يكن دليل خارجيّ، من إجماع أو غيره، على عدم جواز التفكيك، ولو ظاهراً - نقول بجريانهما، وموارده في الفقه كثيرة»(1).

ص: 302


1- منتهى الاُصول 2: 548 - 549.

مبحث التعادل والتراجيح

اشارة

وفيه اُمور:

الأمر الأوّل: في تعريفهما:

لا يخفى: أنّ التعادل مأخوذ من العدل، وهو التسوية، ولذا يسمّى أحد الحملين عدلاً، لمساواته مع الآخر في الوزن، والمراد به فيما نحن فيه: تساوي الدليلين.

وأمّا التراجيح فهو مأخوذ من الترجيح، وهو بمعنى: أن يكون أحد الدليلين ذا مزيّة موجبة لتقديمه على الآخر في الباب، وهو تقدّم أحد الدليلين المتعارضين لأجل مزيّة فيه.

ثمّ إنّ من الفقهاء من أتى بهذا اللّفظ مفرداً، أي: بلفظ (الترجيح)، ومنهم من عبّر بلفظ الجمع، أي: (التراجيح).

فمن أتى به مفرداً كان نظره إلى نفس الفعل، أعني: تقديم أحد الدليلين

ص: 303

بعينه على الآخر، لكونه مرجَّحاً على ذلك الآخر بسبب مزيّة فيه.

ومن أتى به بلفظ الجمع فنظره إلى الحاصل من أقسام المرجّحات من حيث صفات الراوي بأقسامها أو من حيث مضمون الرواية أو جهة الصدور، وهكذا، فحينئذٍ: يتعدّد الترجيح، أي: المرجّح.

وقد حكي عن بعض الطلبة في النجف الأشرف أنّه حضر بحث بعض الأساتذة الذي تحدّث لمدّة أربعة أشهر حول أنّصاحب المعالم(قدس سرّه) لماذا اختار في عنوان هذا البحث (التراجيح) بلفظ الجمع على (الترجيح) بلفظ المفرد.

الأمر الثاني :في أنّه من المسائل الاُصوليّة:

الظاهر: أنّ هذا البحث من المسائل الاُصوليّة - خلافاً لمن عدّه في خاتمة المسائل الاُصوليّة، لا في صميمها، سواء قلنا بأنّ المسائل الاُصوليّة هي ما يبحث فيها عن عوارض الدليل على الحكم الشرعيّ وجعلنا المائز بين المسائل الاُصوليّة والفقهيّة هو المحمول، أم قلنا بأنّ المائز بين المسائل الاُصوليّة والفقهيّة أنّ المسائل الاُصوليّة لا يكون المجتهد والمقلّد فيها على حدٍّ سواء، بل هي من مختصّات وشؤون الأوّل، وأمّا الفقهيّة فيكونان فيها على حدٍّ سواء.

وفي المقام قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) ما نصّه:

«المناط في كون المسألة اُصوليّة وقوع نتيجة البحث عنها كبرىً في

ص: 304

قياس الاستنباط، ولا شكّ أنّ نتيجة البحث في هذه المسألة سواء كان هو التخيير مطلقاً بعد فقد المرجّحات. وأمّا مع وجود المرجّحات، فالترجيح وتقديم ذي المزيّة هو تعيين الحجّة وتشخيصها: إمّا معيّناً، أعني: خصوص ذي المزيّة، أو مخيّراً مطلقاً، أو في خصوص صورة فقد المرجّح فيكون - بعد تشخيص ما هو الحجّة - ذلك المعيّن أو المختار في المخيّر كبرى في قياس، يستنتج من ذلك القياس الحكم الفرعيّ الكلّيّ الإلهيّ.فالإنصاف: أنّ هذه المسألة من أهمّ المسائل الاُصوليّة، وفائدة حجّيّة الخبر الواحد لا يتمّ إلّا بهذه المسألة»(1).

الأمر الثالث: في تعريف التعارض:

لا يخفى: أن التعارض بين الدليلين إنّما يكون باعتبار عدم إمكان اجتماع المحكي والمنكشف بهما بحيث تؤول حكايتهما إلى اجتماع الضدّين.

وإن شئت قلت: إنّ التعارض هو التنافي الذي يقع بين الدليلين باعتبار تنافي مدلوليهما في عالم الجعل والتشريع، فالتنافي أوّلاً وبالذات يكون بين المدلولين أنفسهما، ونسبته الى الدليلين ليست إلّا بالمسامحة، بل

ص: 305


1- منتهى الاُصول 2: 550.

لا تنافي بين الدليلين في مرحلة الدلالة حقيقةً؛ لأنّ كليهما يفيد الظنّ النوعيّ.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ أحد الدليلين المتعارضين يُثبت ما هو الضدّ للآخر، نحو: (ثمن العذرة سحت) و(لا بأس ببيع العذرة)، فإنّ التعارض إنّما عرض لمثل هذين الدليلين باعتبار كونهما يثبتان المتنافيين ويحكيان عن المتناقضين، فالتعارض يحصل من جهة التنافي بين مدلوليهما بحيث لا يمكن اجتماعهما في وعاء الاعتبار، فمفادهما جمعاً هو اجتماع الضدّين، أو أنّ أحدهما ينفي ما ثبت الآخر فيكون من باب اجتماع النقيضين.ثمّ إنّ التنافي قد يكون لأجل عدم امتناع اجتماع الدليلين ذاتاً في حدّ أنفسهما، أو من جهة تنافي اللّوازم، أو من جهة التنافي بين الاُمور الخارجية، كالخبرين اللّذين يدلّ أحدهما على وجوب صلاة الظهر والآخر على وجوب صلاة الجمعة، مع أنّا نعلم من خارج بأنّ الواجب ظهر الجمعة هو صلاة واحدة هي إحداهما.

الأمر الرابع :في شرائط حصول التعارض:

إنّما يحصل التعارض بين الدليلين باُمور:

الأوّل: وحدة الموضوع، نحو: الصلاة واجبة، والصلاة ليست بواجبة؛ إذ لو كان موضوع الدليلين متعدّداً فلا يكون هناك تعارض، كما في الأصل العمليّ الذي يقع مقابلاً للدليل الاجتهاديّ، فإنّ موضوع الأصل العمليّ

ص: 306

هو الأشياء بوصف كونها مجهولة، بخلاف موضوع الدليل الاجتهاديّ، فإنّه الأشياء بما هي، وكذلك، فإنّ الدليل الاجتهاديّ حاكم على الأصل؛ لأنّه لا يجري الاستصحاب إلّا في مقام لا يكون فيه دليل اجتهاديّ.

والثاني: وحدة المحمول ووحدة القيود المأخوذة من الزمان أو المكان. وعندئذٍ: فلا فرق في وجود التنافي بين أن يكون في تمام المدلول أو في جزئه فقط في العامّين من وجه، أمّا لو كان بينهما عموم وخصوص مطلقاً، فإن كان العرف يجمع بينهما بحمل العامّ على الخاصّ فهو، وإلّا، فإن كان الخاصّ منفصلاً فيعقد لكلّ منهما ظهور منافٍ للآخر.والثالث: أن يكون كلّ واحد من الدليلين واجداً لشرائط الحجّيّة بحيث لا يكون التوقّف في العمل بكلّ واحدٍ منهما إلّا من جهة معارضة الآخر له، بحيث لو فرض عدم وجود المعارض لكان من اللّازم العمل به.

أمّا لو لم يكن أحد الدليلين حجّة، كما لو علم بكذب أحدهما وعدم صدوره عن الإمام(علیه السلام)، فلا يكون - حينئذٍ - من باب تعارض الدليلين والحجّتين، بل يكون من باب اشتباه الحجّة باللّاحجّة، فلابدّ أن يعمل فيه بقواعد العلم الإجماليّ، لا بقواعد باب التعارض؛ لأنّ التعارض مأخوذ فيه أن يكون بين دليلين، وظاهر لفظ (الدليلين) أن يكونا حجّتين، وذلك واضح.

وقد عرفت أنّ التعارض إنّما يلحق الدليلين ثانياً وبالعرض، والذي

ص: 307

يتّصف به أوّلاً وبالذات هو مدلول الدليلين وما يكشفان عنه ويؤدّيان إليه، مطابقةً أو التزاماً. فإذا تكاذب الدليلان في المؤدّى امتنع اجتماع المدلول المطابقيّ أو الالتزاميّ لأحدهما مع مدلول الآخر كذلك في عالم الجعل والتشريع، فلا محالة: يقع التعارض بين الدليلين مطلقاً أو في بعض الأفراد والأحوال.

بلا فرق بين أن يكون التكاذب بينهما بأنفسهما ابتداءً وبين أن يكون التكاذب بينهما لأمر خارج، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر وعلمنا من الخارج أنّ الوجوب لا يلحق إلّا إحدى هاتين الصلاتين فقط؛ فإنّ الدليلين هنا، وإن لم يتكاذبا ابتداءً ولم يمتنع اجتماعمؤدّاهما ثبوتاً، إلّا أنّه بعد العلم بعدم وجوب إحدى الصلاتين يقع التكاذب بين الدليلين، فإنّ كلاً منهما يثبت مؤدّاه وينفي بلازمه مؤدّى الآخر، فيَؤُول الأمر إلى امتناع اجتماع المؤدّيين.

الأمر الخامس :في الفرق بين التعارض والتزاحم:

وحاصل الفرق بينهما: أنّه في باب التعارض لا يكون الملاك ثابتاً لكلّ واحد من الحكمين، بل يكون المقتضي والملاك ثابتاً لأحدهما غير المعيّن فقط، وأمّا في باب التزاحم، فيكون الملاك ثابتاً وموجوداً في كلّ واحدٍ منهما.

وقد ذهب صاحب الكفاية(قدس سرّه) إلى أنّه متى ما ثبت وجود الملاك لكلا

ص: 308

الحكمين فالمورد من موارد التزاحم ، ومتى لم يثبت وجود الملاكين كان المورد من موارد التعارض(1).

وفي المقابل، ذهب المحقّق النائيني(قدس سرّه) إلى اختلاف موردي التزاحم والتعارض، فلكل منهما مقام مستقلّ عن مقام الآخر وينفرد عنه، وذلك: لأنّ التنافي بينهما:

إن كان يرجع إلى التنافي في مرحلة الجعل والتشريع بحيث لا يمكن جعل كلا الحكمين فهو التعارض، كالتنافي بينوجوب الشيء وحرمته، فإنّه يستحيل جعل كلا الحكمين من المولى لتضادّهما.

وإن كان يرجع إلى التنافي في عالم الامتثال ومرحلة فعليّة الحكمين بأن كان جعل كلا الحكمين في نفسه وبنحو القضيّة الحقيقيّة ممكناً للمولى، فلا تنافي بينهما في عالم الجعل، وإنّما التنافي بينهما في مرحلة فعليّتهما، باعتبار عدم إمكان امتثالهما معاً؛ لعدم تحقّق موضوعيهما معاً، فهو التزاحم، كوجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب إنقاذ ذاك الثابتين بدليليهما في زمانٍ واحد، فإنّ جعل كلا الحكمين لا محذور فيه؛ لأنّ جعل الأحكام بنحو القضايا الحقيقيّة، وهو لا ينظر إلى ثبوت الموضوع وعدمه، بل هو ثابت ولو لم يكن الموضوع ثابتاً وموجوداً، فاجتماع الغريقين مع عدم القدرة إلّا على إنقاذ أحدهما لا يوجب التنافي بين

ص: 309


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 440. قال(قدس سرّه): «وأمّا لو كان المقتضي للحجّيّة في كلّ واحدٍ من المتعارضين لكان التعارض بينهما من تزاحم الواجبين ...».

الحكمين في عالم الجعل، بل في عالم الفعليّة، لأجل التردّد في صَرف القدرة في هذا الطرف، فيكون حكمه فعليّاً دون الآخر، وبالعكس.

ولا يخفى: أنّ تعيين أحدهما ليس من شأن المولى والجاعل؛ إذ لا يرتبط بمولويّته وبجعله، بل من وظائف غيره، وهو لا يضرّ بنفس الجعل؛ لأنّه ينفي موضع الحكم الآخر، لا أنّه ينفي الحكم عن موضوعه

هذا توضيح ما أفاده(قدس سرّه)، وإليك نصّ عبارته:

«وحاصله: أنّ التزاحم وإن كان يشترك مع التعارض في عدم إمكان اجتماع الحكمين، إلّا أنّ عدم إمكان الاجتماع في التعارض إنّما يكون في مرحلة الجعل والتشريع، بحيثيمتنع تشريع الحكمين ثبوتاً؛ لأنّه يلزم من تشريعهما اجتماع الضدّين أو النقيضين في نفس الأمر.

وأمّا التزاحم فعدم إمكان اجتماع الحكمين فيه إنّما يكون في مرحلة الامتثال، بعد تشريعهما وإنشائهما على موضوعهما المقدّر وجوده، وكان بين الحكمين في عالم الجعل والتشريع كمال الملاءمة، من دون أن يكون بينهما مزاحمة في مقام التشريع والإنشاء.

وإنّما وقع بينهما المزاحمة في مقام الفعليّة بعد تحقّق الموضوع خارجاً؛ لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال، فيقع التزاحم بينهما لتحقّق القدرة على امتثال أحدهما، فيصلح كلّ منهما لأن يكون تعجيزاً مولويّاً عن الآخر ورافعاً لموضوعه، فإنّ كلّ تكليفٍ

ص: 310

يستدعي حفظ القدرة على متعلّقه، وصَرفها نحوه، وإن لزم منه سلب القدرة عن التكليف الآخر.

والمفروض ثبوت القدرة على كلٍّ منهما منفرداً، وإن لم يمكن الجمع بينهما، فكلٌّ من الحكمين يقتضي حفظ موضوعه ورفع موضوع الآخر بصرف القدرة إلى امتثاله، فيقع التزاحم بينهما في مقام الامتثال»(1).

وتظهر الثمرة في هذا الخلاف:

بين المحقّقين الخراساني والنائيني" في موردٍ يتوارد فيه الحكمان المتنافيان على موضوع واحد، ولم يكن التنافي ناشئاًعن عجز المكلّف عن الجمع بين الامتثالين مع ثبوت الملاك لكلٍّ من الحكمين، كالصلاة في الدار المغصوبة بناءً على الاتّحاد والانحصار، فإنّها مشمولة لدليل (صلِّ) ودليل (لا تغصب).

فهذا المورد عند المحقّق الخراساني(قدس سرّه) يكون داخلاً في باب التزاحم؛ لوجود الملاك.

وأمّا عند الميرزا النائيني(قدس سرّه) فهو من موارد التعارض؛ لرجوع التنافي إلى عالم الجعل لا إلى مرتبة الفعليّة؛ لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي وامتناعه.

ص: 311


1- فوائد الاُصول 4: 704 - 705.

الأمر السادس: مرجّحات بابي التعارض والتزاحم:

أمّا مرجّحات باب التعارض، فهي ترجع إمّا إلى قوّة السند، كأوثقيّة الراوي وأعدليّته، أو كون الرواية أشهر، ونحو ذلك ممّا سيأتي الكلام فيه، وإمّا إلى قوّة الدلالة، ككونها أظهر، كما سيأتي.

وأمّا مرجّحات باب التزاحم فهي اُمور خمسة:

الأوّل: أن يكون أحد المتزاحمين مضيّقاً والآخر موسّعاً، فالمضيّق يقدّم على الموسّع؛ لأنّ المضيّق بالنسبة إلى الفرد المزاحم من الموسّع معه يكون مُخرجاً للطبيعة عن تساوي الإقدام عليها بالنسبة إلى أفرادها الطوليّة؛ فإنّ التخيير في تطبيق الصلاة الماُمور بها على أيّ فردٍ شاء بحسب الأوقات التي هي بين الحدّين عقليّ من جهة تساوي إقدام الماُمور بهفي تحصيل المصلحة الملزمة بالنسبة إلى تلك الأوقات، فإذا كان تطبيقه للفرد المزاحم موجباً لفوات مصلحةٍ ملزمة يخرج بالنسبة إلى هذا الفرد عن التساوي، فلا يرخّص العقل في التطبيق على هذا الفرد، ولذلك يحكم بتقديم المضيّق على الموسّع، ولو كان الموسّع أقوى منه ملاكاً وأهمّ.

الثاني: أن يكون أحد المتزاحمين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة والآخر مشروطاً بالقدرة العقليّة، فيقدّم المشروط بالقدرة العقليّة على الآخر.

والسرّ في ذلك: أنّ القدرة الشرعيّة دخيلة في الملاك ومأخوذة في

ص: 312

موضوع الحكم، وما لم يتحقّق لم يوجد لا خطاب ولا ملاك؛ لأنّها مأخوذة في الموضوع، فما هو المشروط بالقدرة العقليّة يذهب بموضوع ما هو المشروط بالقدرة الشرعيّة. ولا يمكن القول بالعكس؛ لأنّ موضوع المشروط بالقدرة العقليّة ليس مقيّداً بها، بل هو مطلق من هذه الجهة، وهذا معنى أنّ المقيّد بالقدرة العقليّة يكون مقدّماً على الآخر.

الثالث: أن يكون أحد المتزاحمين أهمّ من الآخر من حيث الملاك والمصلحة، فإنّ الأهمّ مقدّم على غيره في نظر العقل.

الرابع: أن يكون أحد الواجبين المتزاحمين مقدّماً في الوجود في مقام الامتثال على الآخر، مثل العاجز عن القيام في جميع ركعات صلاته وليس قادراً إلّا على القيام في بعض الركعات، فحينئذٍ: لابدّ له القيام في أوّل ركعة من ركعات صلاته، ثمّ إذا عجز يجلس في سائر ركعاته.والوجه في لزوم صرف قدرته في المقدّم في الوجود: أنّ التكليف بالنسبة إليه قد صار فعليّاً في الزمان المتقدّم ومحرّكاً نحو الامتثال، والقدرة على الامتثال في ذلك الزمان موجودة، وليس في ذلك الزمان واجب يزاحمه في صرف القدرة، بل ينبغي أن لا يعدّ هذا المفروض من أقسام الواجبين المتزاحمين.

فلو فرض أنّه كان عاجزاً من صوم تمام الشهر - مثلاً - ولا يقدر إلّا على صوم نصفه، فهل يصحّ أن يقال - حينئذٍ - إنّه مخيّر بين أن يصوم نصفه الأوّل وبين أن يصوم نصفه الثاني فيجوز أن يفطر في النصف الأوّل

ص: 313

مع كمال قدرته؟(قدس سرّه) أوليس هذا بمردود ومستنكر عند العقلاء، بل وعند كلّ خبير بأحكام الدين؟(قدس سرّه)

نعم، لو كان الواجب المتأخّر الذي لا يمكن جمعه في الامتثال مع الواجب المتقدّم له أهمّيّة عظمى بحيث إنّه لو قدّم الواجب المتقدّم يفوّت مصلحةً لا يرضى المولى بتفويتها، فحينئذٍ: يحكم العقل بلزوم حفظ القدرة وسقوط الواجب المقدّم عن الفعليّة.

ولكنّك خبير: بأنّ هذا فرض آخر لا ربط له بما نحن فيه، والذي فرضنا أنّه يتمحور حول الواجبين المتساويين في الملاك والمصلحة، ويكون المرجّح الموجب لصرف القدرة هو مجرّد تقدّمه في الوجود.

الخامس: أن يكون أحدهما له البدل دون الآخر، فيقدّم ما ليس له البدل على ما له البدل.والوجه في ذلك: أنّه لو قدّم ما ليس له البدل لا يفوّت مصلحة ما له البدل بالمرّة، بل له - حينئذٍ - الانتقال إلى البدل. بل الانتقال إلى البدل:

إمّا موجب لاستيفاء تمام مصلحة المبدل في حال التزاحم - إن قلنا بأنّ مصلحة البدل هي بمقدار المبدل بعد تحقّق موضوعه والانتقال إليه -.

وإمّا موجب لاستيفاء مقدار مهمّ من المصلحة الفائتة بواسطة ترك المبدل، بخلاف ما لو قدّم ما له البدل، فإنّه يفوت مصلحة ما ليس له البدل ولا يستوفي شيئاً منه.

ص: 314

ثمّ إنّ من جملة الفروق بين التزاحم والتعارض - أيضاً - أنّ مرجّحات باب التعارض اُمور تعبّديّة، وإلّا فمقتضى القاعدة - بناءً على المسلك القائل بأنّ حجّيّة الروايات هي من باب الطريقيّة لا السببيّة - هو تساقطهما، وأنّ النوبة لا تصل إلى التخيير إذا كانتا متساويتين، ولا إلى الترجيح إذا كان لأحدهما مزيّة على الآخر، ولكنّ الشارع حكم بالتخيير عند تساويهما، وبالترجيح عند وجود مزايا مخصوصة أو منصوصة أو مطلق المزيّة.

ولا يخفى: أنّ التعارض إنّما يتحقّق بين الدليلين فيما لو كان النفي الذي هو مدلول أحد الدليلين، مع الإثبات الذي هو مدلول دليل الآخر، واردين على موردٍ واحد؛ لأنّ مرجع التعارض إلى التناقض في مدلولي الدليلين، فلذلك لابدّ من كونهما واردين على موردٍ واحد، أو فقل: إنّه يعتبر فيه الوحدات المعتبرة في تحقّق التناقض.وعلى هذا الأساس: لا يمكن أن يكون أحدهما حاكماً على الآخر؛ لأنّ دليل المحكوم يثبت الحكم على تقدير ثبوت موضوعه، وليس متكفّلاً لإثبات ذلك التقدير، أي: إثبات ما هو موضوع الحكم.

فمثلاً: ثمّة قاعدة مفادها: أنّه متى ثبت الشكّ في عدد الركعات في الصلوات الرباعيّة بعد إكمال السجدتين يبني على الأكثر، وهذه القاعدة لا تنهض لإثبات موضوعها، بل مفادها أنّه إنّما يبني على الأكثر على تقدير وجود مثل ذلك الشكّ المذكور، فلو جاء دليل كان مفاده نفي

ص: 315

الشكّ عن كثير الشكّ، لا يمكن لقاعدة البناء على الأكثر أن تعارضه؛ لأنّ القاعدة تثبت شيئاً غير ما ينفيه الدليل الآخر، وهو (لا شكّ لكثير الشكّ) - مثلاً -، فلم يرد النفي والإثبات على محلٍّ واحد، وقد ذكرنا أنّه يشترط في تحقّق التعارض والتنافي أن يكون الدليلان واردين على مورد واحد.

وأمّا لو كان أحدهما وارداً والآخر موروداً، فبما أنّ دليل الذي هو وارد على دليلٍ آخر يفني موضوع المورود فلا يبقى شيء في البين حتى يقع التعارض بينهما.

وكمثال على ذلك: دليل البراءة العقليّة، موضوعه: عدم البيان، فإذا جاء بيان من قبل الشارع، أو من قبل العقل، سواء كان أمارة أم أصلاً، تنزيليّاً أم غير تنزيليّ، شرعيّاً كان أو عقليّاً، فإنّه لا يبقى موضوع لحكم العقل حقيقةً وتكويناً، لا بصرف التعبّد، فينتفي حكم العقل من البين، وليس هناك شيء متبقٍّ حتى يقال بأنّه معارض أو غير معارض.ثمّ لو كان هناك دليلان بينهما عموم وخصوص مطلق، فهل يقع بينهما التعارض ليقدّم الخاصّ على العامّ، ويكون هذا التقديم علاجاً؟ أم لا يقع، بل يكون حالهما حال الحاكم والمحكوم، أي: فلا تعارض بينهما؟

لا شكّ في أنّه في المخصّص إذا كان منفصلاً ينعقد للعامّ ظهورٌ في العموم، فإذا كان مخالفاً للدليل الخاصّ في السلب والإيجاب، فيقع التعارض بينهما في تلك القطعة التي هي محلّ اجتماعهما،

ص: 316

فأحدهما ينفي الحكم والآخر يثبته كما هو المفروض، ولكن عند العرف لا تعارض بينهما، بل هم يقدّمون الخاصّ على العامّ من دون أيّ توقّف في ذلك.

وإنّما يقع البحث في أن هذا التقدّم هل هو لأجل حكومة أصالة الظهور في طرف الخاصّ عليها في طرف العامّ أو لأجل التوفيق العرفيّ من جهة أظهرية الخاصّ في تلك القطعة على العامّ، أو تقديم الخاصّ على العامّ من جهة التخصّص، كتقديم الأدلّة المتكفّلة للعناوين الثانويّة، كأدلّة نفي الضرر أو الحرج على الأدلّة الأوّليّة، من باب الجمع العرفيّ، فيحمل الأوّليّ على الحكم الفعليّ، والثاني على الاقتضائيّ.

والتحقيق أن يقال: إنّ الخاصّ:

تارةً: يكون قطعيّ السند والدلالة، كالنصّ المتواتر، أو الخبر المحفوف بالقرائن القطعيّة، أو كان آيةً من القرآن هي نصّ في الدلالة، وفي هذه الحالة، يقدّم الخاصّ في تلك القطعة بالتخصّص؛ لأنّ حجّيّة العامّ في تلك القطعة إنّماتكون بأصالة الظهور، ولا محلّ لأصالة الظهور مع العلم بالعدم، كما هو مدلول الخاصّ القطعيّ سنداً ودلالة.

وإنّما كان هذا الخروج خروجاً بالتخصّص؛ لانتفاء موضوع الحجّيّة للعام تكويناً وحقيقة؛ لأنّ موضوع هذه الحجّيّة هو العامّ الذي لم يرِدْ دليل على خلافه وكان أقوى ظهوراً منه، وفي محلّ الفرض قد ورد دليل على خلافه فعلاً، وهو أقوى منه قطعاً، فالموضوع منتفٍ.

ص: 317

وتارةً: يكون ظنّيّاً بحسب الدلالة وقطعيّاً بحسب السند، أو يكون ظنّيّاً دلالةً وسنداً.

وفي هذين الموردين ذهب الشيخ الأنصاري(قدس سرّه) إلى القول بأنّه لابدّ من تقديم أقوى الظهورين في تلك القطعة التي هي مجمع العنوانين، فإذا كان ظهور (أكرم العلماء) - مثلاً - في العالم الفاسق أقوى من ظهور (لا تكرم العالم الفاسق) فيه، فيقدّم العامّ في مورد اجتماع العنوانين ويطرح الخاصّ. وإن كان ظهور الخاصّ في تلك القطعة أقوى - كما هو كذلك غالباً - فيقدّم الخاصّ.

وأمّا إذا كانا متساويين في درجة الظهور فيتساقطان(1).وقد ادّعى المحقّق النائيني(قدس سرّه) أنّ مبنى الشيخ(قدس سرّه) في الاُصول في هذه المسألة مغاير لما التزم به من المبنى في الفقه، حيث التزم بتقديم الخاصّ على العامّ مطلقاً.

وفي ذلك يقول) ما لفظه: «والشيخ(قدس سرّه) في المقام، وإن عارض ظهور الخاصّ مع ظهور العامّ وحكم بأنّه يؤخذ بأقوى الظهورين، إلّا أنّه لم يلتزم بذلك في شيءٍ من المسائل الفقهيّة، فإنّه لم يتّفق في موردٍ

ص: 318


1- وإليك نصّ عبارته(قدس سرّه) في المقام، قال: «ثمّ الخاصّ إن كان قطعيّاً تعيّن طرح عموم العامّ، وإن كان ظنّيّاً دار الأمر بين طرحه وطرح العموم، ويصلح كلّ منهما لرفع اليد بمضمونه على تقدير مطابقته للواقع عن الآخر، فلا بدّ من الترجيح» وقال أيضاً: «وأمّا الحكم بالتخصيص فيتوقّف على ترجيح ظهور الخاصّ، وإلّا، أمكن رفع اليد عن ظهوره وإخراجه عن الخصوص بقرينة صاحبه». انظر: فرائد الاُصول 4: 14 - 15.

عامل مع الخاصّ والعامّ معاملة التعارض، بل يقدّم الخاصّ مطلقاً على العامّ... »(1).

وقد يقال في الاعتذار عن الشيخ الأعظم(قدس سرّه) - على تقدير تماميّة هذه الدعوى -: لعلّه(قدس سرّه) لم يجد أقوائيّةً في ظهور العامّ على ظهور الخاصّ في غالبيّة الموارد.

ولكنّ الحقّ: هو تقديم ظهور الخاصّ على ظهور العامّ، بلا فرق بين أن تكون الأقوائيّة لصالح ظهور العامّ أو الخاصّ؛ وذلك لأنّ أصالة الظهور في طرف الخاصّ تكون حاكمة على أصالة الظهور في طرف العامّ؛ إذ إنّ ظهور العامّ في العموم وكاشفيّته عن إرادة العموم متوقّف على أن لا يكون هناك قرينة على عدم إرادة العموم، فإذا كان التعبّد بظهور الخاصّ وأنّه كاشف عن مراد المتكلّم قرينةً على عدم إرادة العموم، فيقدّم على ظهور العامّ في العموم، ويكون ذكر الخاصّ دليلاً على عدم حجّيّة العامّ؛ لأنّ العامّإنّما ينفي القيد تعبّداً، لا تكويناً، ومعه: فيكون المراد من العامّ هو ما عدا تلك القطعة التي ينفيها الخاصّ.

ويتّضح ما ذكرناه فيما لو فرض أنّ العامّ والخاصّ - كليهما - كانا في كلام واحد صادر من متكلّم واحد، فإنّ العرف - حينئذٍ - لا يتوقّف في حمل العامّ على ما عدا الخاصّ.

ص: 319


1- فوائد الاُصول 4: 721.

ومن هنا ينقدح: لزوم حمل العامّ الصادر من الإمام المتقدّم زماناً على الخاصّ، ولو أتى هذا الخاصّ على لسان الإمام المتأخّر؛ فإنّ كلامهم(علیهم السلام)هو من قبيل الكلام الصادر عن شخص واحد في مجلس واحد؛ لأنّ جميعهم(في مقام بيان حكم اﷲ كشخص واحد، فجاز أن يخصّص العامّ الوارد عن الإمام المتقدّم بالخاصّ الوارد عن الإمام المتأخّر.

ولذا، فإنّ الظهور الوضعيّ وإن كان أقوى من الظهور الإطلاقيّ، ولكن في مثل (رأيت أسداً يرمي)، فإنّ ظهور (الأسد) في الحيوان المفترس أقوى من ظهور (يرمي) في الإنسان؛ لأنّه بالإطلاق، وذاك بالوضع، ولكن مع ذلك، يقدّم ظهور (يرمي) في الإنسان، فيقال: المراد من هذه العبارة هو الرجل الشجاع؛ لأنّه مع حكومة القرينة على ذيها لا يبقى مجال لأن تلاحظ الأقوائيّة والأضعفيّة بين الحاكم والمحكوم، وكذا ما نحن فيه، أعني: حكومة أصالة الظهور في طرف الخاصّ على أصالة الظهور في طرف العامّ.

وأمّا بالنسبة للنصّ والظاهر، وكذا الأظهر مع الظاهر، فلا شكّ في أنّه يقدّم كلّ من النصّ والأظهر على الظاهر، وذلك لأنّ حجّيّة الظاهر مقيّدة بما إذا لم يكن هناك ما هو أقوى منهظهوراً، فورود النصّ أو ما هو أظهر يستوجب خروج الظاهر عن موضوع الحجّيّة، فلا يكون بينهما - حينئذٍ - تدافع، فلا تعارض.

وكذا يقال - أيضاً - بالنسبة إلى المطلق مع المقيّد، والعامّ مع الخاصّ،

ص: 320

فيخرج هذان الموردان عن باب التعارض بالمعنى الذي ذكرناه؛ لأنّه لا تنافي ولا تدافع بينهما في نظر العرف والعقلاء كما عرفت.

الأمر السابع :في حكم التعارض:

اشارة

اعلم: أنّ التعارض تارة يكون بين دليلين فقط، وأُخرى يكون بين أكثر من اثنين، فالأوّل: كما إذا قام أحد الدليلين على الوجوب والآخر على الحرمة. والثاني: كما إذا قام دليل ثالث في المثال المتقدّم على الإباحة.

وعلى كلا التقديرين: فإمّا أن يكون في أحد المتعارضين مزيّة مع كون الآخر فاقداً لها، وإمّا أن لا يكون في أحدهما مزيّة لا توجد في الآخر، بل هما متساويان في المزايا والخصوصيّات.

وعلى الأوّل: فالمزيّة تارةً تكون في السند، وأُخرى في جهة الصدور، وثالثة في الدلالة.

والمزيّة في السند ككون الرواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين، وكصفات الراوي من كونه أوثق أو أعدل أو أصدق.والمزيّة في جهة الصدور ككون الإمام(علیه السلام) في مقام بيان حكم اﷲ الواقعيّ، لا أنّه في مقام التقيّة وستر الحكم الواقعيّ خوفاً من الأعداء، ومثالها: مخالفة أحد المتعارضين للعامّة.

والمرجّح من جهة الدلالة ومضمون أحدهما ومفاده أنّه حكم اﷲ، كموافقة الكتاب.

ص: 321

فإن كانا متساويين في المزايا والخصوصيّات، ولم يكن لأحدهما مزيّة في إحدى الجهات الثلاث على الأُخرى، فالقاعدة الأوّليّة مع قطع النظر عن جعل ثانويّ واقعيّ أو ظاهريّ تقضي بالتساقط بناءً على الطريقيّة، والتخيير بناءً على الموضوعيّة.

توضيح ذلك: أنّ حجّيّة الروايات بناءً على الطريقيّة ليست إلّا من باب تتميم كشفها وجعلها في عالم الاعتبار كاشفاً تامّاً.

وأمّا مؤدّياتها فتبقى على ما كان، من دون إحداث شيء من المصلحة أو المفسدة فيها من قبل قيام الأمارة عليها، فإن كان جعل كلا المؤدّيين غير ممكن - كما هو كذلك في باب التعارض - فلا يمكن أن يكون الاثنان جمعاً طريقاً فعليّاً إلى الحكم الواقعيّ.

نعم، كلّ واحد منهما له اقتضاء الطريقيّة، وهو مشمول لأدلّة جعلها طريقاً، ولكن بما أنّهما متساويان في شرائط الطريقيّة، ولا يمكن الأخذ بهما جميعاً؛ للزوم اجتماع الضدّين أو النقيضين، ولم يكن هناك وجه للتخيير؛ لعدم الملاك في الواقع لكلّ واحد منهما، ولم يكن تعيين أحدهما إلّا من باب الترجيح بلا مرجّح، فلا محالة يتساقطان.وإن كان أحدهما حائزاً على المزيّة دون الآخر، فهذه المزيّة الموجودة إن كانت في السند أو في جهة الصدور كان لابدّ من الأخذ بصاحب المزيّة وطرح الآخر. ويدلّ على ذلك أخبار الترجيح التي سيأتي البحث فيها في محلّه مفصّلاً.

ص: 322

وأمّا إذا كانت المزيّة في الدلالة، فاللّازم - حينئذٍ - هو الجمع بين المتعارضين، ولا يجوز طرح أحدهما.

بل قد ادّعي الإجماع على ذلك، كما عن ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللئالي، حيث قال - ما نصّه -: «فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء»(1)، وهي القاعدة المعروفة بقاعدة «أنّ الجمع بين الدليلين اُولى من الطرح».

ولا يخفى: أنّ الجمع الذي اُولى هو من الطرح إنّما هو الجمع في الدلالة؛ ضرورة أنّه لو كان الجمع بينهما في الدلالة ممكناً ارتفع بينهما التعارض والتكاذب.

وعلى هذا الأساس: فالقاعدة المذكورة تشمل صورة تعادل المتعارضين في السند، وصورة ما إذا كان لأحدهما مزيّة تستوجب ترجيحه في السند؛ لأنّه في هذه الصورة الثانية يلزم بتقديم ذي المزيّة طرح الآخر مع فرض إمكان الجمع.

فيكون مقتضى القاعدة - إذاً -

أنّه مع إمكان الجمع لا يجوز طرحهما معاً، ولا طرح أحدهما غير المعيّن - كما هومقتضى القول بالتخيير -، ولا طرح أحدهما المعيّن، أعني به: غير ذي المزيّة مع الترجيح.

وهنا، فإن كان مراده من الجمع الجمع العرفيّ فهو كلام حسن؛ لأنّ الجمع العرفيّ يكون إمّا بالورود أو بالحكومة أو بالنصّ والظاهر، ولذا

ص: 323


1- عوالي اللآلي 4: 136.

عند تعارض العامّ والخاصّ - أيضاً - يرجع إلى الحكومة؛ إذ لا تعارض بينهما حقيقةً، فمردّ الجمع العرفيّ في حقيقة الأمر إلى العمل بمضمون كلا الدليلين.

وإن كان مراده مطلق الجمع ورفع اليد عن ظاهر كليهما أو أحدهما، بتأويلهما أو تأويل أحدهما:

فأوّلاً: لا وجه - حينئذٍ - لكونه أَولى، بل هو غير جائز؛ لما فيه من ترك العمل بأصالة الظهور. وليس ترك الأخذ بها أَولى من ترك الأخذ بصدور أحدهما.

وثانياً: هذا يكون سبباً لطرح أخبار الترجيح عند وجود المرجّحات والمزايا، خصوصاً المنصوصة منها، أو حملها على خصوص ما لا يمكن الجمع فيه ولو بالتأويل، ومعلوم أنّه هذا المورد في غاية الندرة.

هل المرجّحات عرضيّة أم مترتّبة:

ثمّ إنّه قد وقع الخلاف فيما بينهم في أنّ هذه الأنواع من المرجّحات هل كلّ واحد منها مرجّح في عرض الآخر بحيث لو كان أحد المرجّحات متوفّراً في أحد المتعارضين وكان في الآخر مرجّح آخر فيقع التزاحم، فلابدّ من أن يُعمل بقواعدباب التزاحم، فيقدّم ما هو الأقوى مناطاً منهما، وإلّا، كان لابدّ من التخيير؟ أم لا، بل هي مترتّبة في مقام الترجيح، فبعض الأنواع يكون مقدّماً على بعض؟

ص: 324

وبالجملة: فهل هذه المرجّحات عرضيّة أو مترتّبة؟

الظاهر: أنّها كذلك، ولأجل ذلك وقع الخلاف بينهم في أنّ المرجّح الجهتيّ مقدّم على السنديّ أو العكس.

ولكن مع ذلك، فقد ذهب صاحب الكفاية(قدس سرّه) إلى أنّها عرضيّة ولا ترتيب بينها بناءً على التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها؛ إذ بناءً على التعدّي يكون مناط الترجيح بشيءٍ هو أن يكون ذلك الشيء موجباً لأقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع، فإذا كان لكلّ واحدٍ من المتعارضين مزيّة توجب أقربيّته إلى الواقع فيقع التزاحم بينهما، ويقدّم الأقوى مناطاً.

والوجه في ذلك: أنّ العقل يرى أنّ الأهمّ يكون صالحاً للمانعيّة عن المهمّ ثبوتاً؛ لحكمه بلزوم صرف القدرة إلى متعلّقه دون متعلّق المهمّ، فمن هنا يكون مانعاً عن شمول الإطلاق للفرد المهمّ في صورة المزاحمة، ولا يرى المانعيّة في طرف المهمّ؛ لكونه لا يصلح للمنع من ثبوت الأهمّ، فلا يبقى هناك تنافٍ بين الإطلاقين؛ لأنّ أحد الإطلاقين بضميمة حكم العقل بلزوم صرف القدرة إلى الفرد الأهمّ لا يشمل المهمّ بعد عدم القدرة على متعلّقه، وبذلك يخرج المورد موضوعاً عن باب التعارض، فلا يجري فيه أحكام التعارض.وأمّا لو لم يكن أحدهما أقوى مناطاً، فالمرجع - حينئذٍ - إلى إطلاقات التخيير.

هذا بناءً على التعدّي من المنصوص إلى غيره.

ص: 325

وأمّا بناءً على عدم التعدّي، فلكونها مرتبةً وجهٌ، وهو الترتيب المذكور في الروايات.

ولكنّ الحقّ: أن المرجّح الصدوري مقدّم طبعاً على المرجّح الجهتيّ والمضمونيّ؛ لأنّه بعد التعبّد بصدور الخبر تصل النوبة إلى السؤال عن أنّه هل كان المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ أو صدر هذا الكلام منه تقيّةً وخوفاً؟

على أنّ ظاهر الكلام هو مرادهم في مقام التفهيم والتفهّم، كما قام عليه بناء العقلاء.

وأمّا أصالة الصدور فهو أصل تعبّديّ مدركه أدلّة حجّيّة خبر العادل، وإن كان المدرك لذلك - أيضاً - هو بناء العقلاء.

هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات فقد ذكروا اُموراً لترجيح أحد الدليلين على الآخر:

منها:

أن يكون أحد الدليلين عامّاً والآخر خاصّاً، والخاصّ - كما تقدّم - تارةً يكون قطعيّ السند والدلالة فيقدّم على العامّ تخصّصاً.

وأمّا في ما عدا هذه الصورة، أي: في الصور الثلاث الأُخَر، أي: فيما إذا كان الخاصّ بحسب الدلالة والسند ظنّيّاً،أو كان مختلفاً بحسبهما، فيقدّم على العام، ولكن بالحكومة لا بالورود.

ص: 326

ومنها:

ما إذا كان أحد المتعارضين عامّاً اُصوليّاً والآخر إطلاقاً شموليّاً، كقوله: (أكرم العلماء)، حيث إنّه عامّ اُصوليّ مقدّم على قوله: (لا تكرم الفسّاق) في مادّة الاجتماع، وهو العالم الفاسق؛ لأنّ شمول العامّ الاُصوليّ لمورد الاجتماع كان بالوضع، وشمول الإطلاق الشموليّ له بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، واللّازم لتماميّة مقدّمات الحكمة عدم القرينة على التقييد، ويكفي في القرينيّة شمول العموم لمورد الاجتماع بالوضع من دون اشتراطه بشيء.

وقد يورد عليه: بأنّ كون العموم بالوضع يصير قرينةً وبياناً لعدم شمول الإطلاق لمورد الاجتماع إذا قلنا بأنّ مطلق البيان القرينة ولو كانت منفصلة عن الكلام الملقى إلى المخاطب في مجلس التخاطب يكفي في منع التمسّك بالإطلاق وعدم جريان مقدّمات الحكمة؛ إذ حينئذٍ مع وجود تلك القرينة المنفصلة لا ينعقد للمطلق ظهور في الإطلاق.

وأمّا إذا كان أساس مقدّمات الحكمة على كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده بخصوص الكلام الملقى إلى المخاطب في مجلس التخاطب، لا به وبكلامٍ آخر منفصلٍ عنه ولو بعد سنين، كما عليه بناء العرف والعقلاء في محاوراتهم، فلا محالة ينعقد ظهور إطلاقيّ للكلام، وتتحقّق الدلالة التصديقيّة النوعيّة التي يدور عليها مدار الحجّيّة في باب الألفاظ.

ص: 327

والحاصل: أنّ القرينة المنفصلة لا تمنع من تحقّق الظهور الإطلاقيّ، فإذا تحقّق الظهور الإطلاقيّ، ثمّ جاءت قرينة منفصلة تصلح لأن تكون مقيّداً للإطلاق، يقع التعارض بينها وبين الظهور الإطلاقيّ، فيقدّم أقوى الظهورين، وليس المقام من قبيل المقتضى التعليقيّ والمقتضى التنجيزيّ لكي يقال بأنّ المقتضى التنجيزيّ يرفع موضوع المقتضى التعليقيّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ كلّ جملة صدرت من المتكلّم فدلالته التصديقيّة بمعنى: أنّ هذا هو الذي قاله المتكلّم موقوف على إتمام الكلام، وإلّا، فما دام مشغولاً بالكلام له أن يُلْحق بكلامه ما شاء من القيود، وبعد أن أتمّ كلامه وسكت يصحّ أن يُسنِد إليه مضمون الجملة، ويقال - حينئذٍ -: بأنّ هذا مضمون ما قاله فلان، ويصحّ إسناده إليه بعنوان أنّه قاله، لا يتوقّف على شيء.

وأمّا ان هذا مراده من هذا الكلام، فيتوقّف على عدم إتيان قرينةٍ على الخلاف، فلو أتى بقرينةٍ على خلاف هذا المضمون، بحيث تبدّل مع وجود تلك القرينة إلى معنىً آخر.

ولو كانت تلك القرينة منفصلة، فيظهر أنّ مراده هذا المضمون الأخير دون المضمون الأوّل، أي: غير ما قال أوّلاً، وهذا القسم هي الدلالة التصديقيّة التي قالوا بأنّها تابعة للإرادة.ولا معنى لأن يقال: إنّ ما هو ظاهر الجملة بعد تماميّتها كاشف عن المراد الواقعيّ حتى ولو جاء المتكلّم بقرينة منفصلة على عدم إرادته.

ص: 328

وقد يقال: إنّ بناء أهل المحاورة على الأخذ بظاهر الجملة وعدم التوقّف في العمل به.

ولكنّ هذا، وإن كان حقّاً، إلّا أنّه إنّما يكون معتبراً هنا من جهة وجود الاُصول العقلائيّة، وهي أصالة عدم القرينة وأصالة عدم المخصّص وأصالة عدم المقيّد.

وأمّا بعد وجود القرينة والمخصّص والمقيّد، ولو كانت منفصلة، بل ولو كان مجيئها بعد سنين، فلا يكون حال هذه الجملة حالها قبل الإتيان بهذه القرينة، ولا يكون ظاهرها الذي كان لها قبل وجود هذه الأشياء هو المراد.

وكذلك، فلا معنى - أيضاً - لأن يقال: تقع المعارضة بين ما كان ظاهر الجملة وبين ظهور هذه الأشياء، فيؤخذ بأقوى الظهورين؛ فإنّ ظهور القرينة يكون حاكماً على ظهور ذي القرينة، ويقدّم متى وجدت، متّصلةً كانت أم منفصلة.

وإذا عرفت هذا، يتّضح:

أنّ الدلالة التصديقيّة بمعنى: أن يكون هذا هو مراد المتكلّم، والذي هو المناط في لزوم الأخذ بالظاهر والعمل على طبقه في باب ظواهر الألفاظ، متوقّف على عدم مجيء قرينةٍ على أنّ الظاهر ليس بمراد، فإذا جاءت قرينة على خلافه، فلا يكون هذا الظاهر كاشفاً عن المراد والمناط حينئذٍ.

ص: 329

ومنها:ما إذا كان أحد المتعارضين من قبيل الإطلاق الشموليّ ﻛ (لا تكرم الفاسق) والآخر من قبيل الإطلاق البدليّ ﻛ (أكرم عالماً)، فكلا الإطلاقين وإن كانا بمقدّمات الحكمة، ولكنّ تقييد الإطلاق البدليّ مقدّم على تقييد الإطلاق الشموليّ؛ لأنّ الإطلاق البدلي ورد على نحو تعلّق التكليف بصرف الوجود، والطبيعة بالنسبة إلى وجودات جميع الأفراد متساوي الإقدام في انطباق صرف الوجود عليها، فالعقل يحكم بالتخيير في مقام انطباقها على كلّ فرد من الأفراد بواسطة إجراء مقدّمات الحكمة، بخلاف الإطلاق الشموليّ، فإنّه ليس كذلك.

وخلاصة البحث: أنّ جريان مقدّمات الحكمة في الإطلاق البدليّ مشروط بشرط، وهو تساوي إقدام الأفراد، بخلاف الجريان في الإطلاق الشموليّ، فإنّه ليس مشروطاً بشرط؛ لأنّ إطلاق الشموليّ عبارة عن تعلّق الحكم بوجود الطبيعة السارية، وهو من هذه الناحية يشترك مع العامّ الاستغراقيّ.

وإنّما الفرق بينهما في أنّ دلالة اللّفظ على الاستيعاب وشمول الحكم لجميع الأفراد وعدم خروج فرد عن تحته بتوسّط الوضع، فهذا عامّ استغراقيّ، وإن كان بتوسّط مقدّمات الحكمة وإنّه فرد أو صنف من أفرادها خارج عن تحت هذا الحكم؛ لعدم الملاك، أو لوجود مانعٍ فيه، كان عليه البيان، وإلّا، هو الذي أخلّ بغرضه فهذا إطلاق شموليّ.

ص: 330

ومنها:

ما إذا كان أحد المتعارضين العامّين من وجه وارداً في مورد الاجتماع، فلابدّ أن يخصّص الآخر؛ لأنّ تخصيصالمورد قبيح، فإذا كان السؤال عن جواز إكرام العالم الفاسق، وقال في الجواب: (أكرم العلماء)، وصدر منه - أيضاً - قبلاً أو بعداً، (لا تكرم الفسّاق)، فلابدّ أن يقدّم عموم (أكرم العلماء) ويخصّص عموم (لا تكرم الفسّاق)، وإن كان بينهما عموم من وجه، وإلّا، يلزم تخصيص المورد، وهو قبيح كما لا يخفى.

ومنها:

ما إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن في مقام التخاطب، فيكون نصّاً فيه.

ولا يخفى: أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب وإن كان لا ينفع في مقام تقييد المطلق ما دام لم يصل إلى حدٍّ يوجب انصراف المطلق إلى المقيّد، إلّا أنّ وجود القدر المتيقّن ينفع في مقام رفع التعارض عن الدليلين.

هذا فيما إذا كان ثبوت القدر المتيقّن للمطلق بنحوٍ يكون موجباً لانصرافه، وإلّا، فإنّ كلّ مطلق له قدر متيقّن، فإنّ الدليل يكون كالنصّ في القدر المتيقّن، فيصلح لأن يكون قرينةً على التصرّف في الدليل الآخر، فلو كان مفاد أحد الدليلين - مثلاً - وجوب إكرام العلماء، وكان مفاد الدليل الآخر حرمة إكرام الفسّاق، وعلم من حال الآمر أنّه يبغض العالم

ص: 331

الفاسق ويكرهه أشدّ كراهة من الفاسق غير العالم، فالعالم الفاسق متيقّن الاندراج في عموم قوله: (لا تكرم الفسّاق)، ويكون بمنزلة التصريح بحرمة إكرام العالمالفاسق، فلابدّ أن يخصّص (أكرم العلماء) بما عدا الفسّاق منهم.

ومنها:

ما إذا كانت أفراد أحد العامّين بمرتبةٍ من القلّة بحيث لو خصّص بما عدا مورد الاجتماع مع العامّ الآخر يلزم تخصيص الأكثر، فلو قلت: (أكرم العلماء) و(لا تكرم النحويّين)، فلو خصّص العلماء بما عدا مورد الاجتماع من النحويّين يلزم التخصيص المستهجن، فيخصّص ما لا يلزم منه التخصيص المستهجن.

ومنها:

ما إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص.

وينبغي - أوّلاً - الكلام في معنى النسخ، فنقول:

النسخ في اللّغة بمعنى النقل والتغيير، ومنه: تناسخ المواريث والدهور، ويأتي بمعنى الإزالة، كما يقال: نسخت الشمس الظلّ(1).

وأمّا في الاصطلاح فهو عبارة عن رفع الحكم الثابت في الدين بارتفاع أمده وزمانه.

ص: 332


1- انظر - مثلاً - : لسان العرب 3: 61 فما بعدها، مادّة (نسخ).

ولكي تتّضح حقيقة هذا المعنى من النسخ نقول:

لا يخفى: إنّ الحكم المجعول من قبل الشارع في الواقع له نحوان من الثبوت:

الأوّل: ثبوت ذلك الحكم في مرحلة التشريع والتقنين، وهو في هذه المرحلة مجعول على نهج القضايا الحقيقيّة، بمعنى:أنّ ثبوته في هذه المرحلة لا يتوقّف على ثبوت الموضوع فعلاً في الخارج ولا على عدم ثبوته.

كما إذا قال الشارع - مثلاً -: (الخمر حرام)؛ فإنّ معناه: أنّه في كلّ وقت وُجد فيه الخمر فإنّه يكون حراماً، فالخمر ولو لم يكن له ثبوت خارجيّ إلّا أنّه متّصف بالحرمة فعلاً على تقدير وجوده، فثبوت الحرمة له غير مقيّد بوجوده الخارجيّ.

نعم، فعليّة هذه الحرمة متوقّفة على وجود الموضوع.

فرفع الحكم في هذه المرحلة، أعني: مرحلة التشريع والإنشاء، لا يكون إلّا بالنسخ؛ وذلك لأنّه لم يكن لموضوع هذا الحكم في نظر المقنّن - في هذه المرحلة - وجود فعليّ، واقعيّ أو ظاهريّ، حتى يتغيّر الحكم بتغيّر الموضوع، كما هو الشأن في النحو المثال الآتي، كما في الكلب الذي نجاسته متوقّفة على وجوده، فإذا استحال ملحاً تغيّر الموضوع، فتغيّر الحكم بتغيّره، فصار طاهراً.

والثاني: ثبوت الحكم وتحقّقه وصيرورته فعليّاً في الخارج، وذلك

ص: 333

إنّما يكون فيما إذا كان الموضوع موجوداً في الخارج ومتحقّقاً فيه فعلاً، كتحقّق وجود الخمر في الخارج، فإنّ الحرمة مستمرّة بوجود الموضوع، فإذا ذهب الموضوع ذهب الحكم بذهابه، حتى إذا تبدّل الخمر خلاً ذهبت عنه الحرمة. ولكنّ هذا ليس من النسخ في شيء، كما هو واضح.

وعليه: فينحصر مورد البحث في النحو الأوّل خاصّةً.وقد وقع البحث بينهم في أنّ النسخ في الأحكام هل هو ممكن أم لا؟

والمعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم هو القول بإمكانه وعدم استحالته، وخالف في ذلك اليهود والنصارى فقالوا باستحالته.

والحقّ: هو القول بالإمكان؛ لعدم كون النسخ بالمعنى المذكور مستلزماً لأيّ محذور، كنسبة الجهل أو عدم الحكمة إليه عزّ وجلّ، بل جاز أن يكون الحكم المجعول مقيّداً من أوّل الأمر بزمانٍ خاصّ معلوم عنده تعالى، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لانتهاء أمده الذي قُيّد به.

فإذا اتّضح ذلك نقول:

إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص، فأيّهما يقدّم على الآخر النسخ أم التخصيص؟

قد يقال: بتقديم التخصيص؛ لكثرته، حتى قيل: ما من عامٍّ إلّا وقد خُصّ؛ ولمكان ندرة النسخ.

ص: 334

ولكنّ الحقّ: أنّه قد يُقدّم التخصيص على النسخ، وقد يُقدّم النسخ، ومن هنا، كان لابدّ أوّلاً من بيان كافّة صور المسألة وشقوقها، وهي كما يلي:

فإنّ العامّ والخاصّ المتنافيين:

تارةً يردان في زمان واحد، وأُخرى في زمانين.

وعلى تقدير أن يكونا واردين في زمانين: فالمتأخّر إمّا هو العامّ أو الخاصّ.وعلى التقديرين: فالعامّ أو الخاصّ المتأخّر: إمّا أنّه ورد بعد حضور وقت العمل بالمتقدّم أو قبله. فهذه شقوق المسألة.

أمّا الصورة الاُولى: وهي ما إذا كانا واردين في زمانٍ واحد، فيقدّم الخاصّ؛ لا لأنّ التخصيص أكثر مع كون النسخ نادراً؛ فإنّ كثرة وجود الشيء لا تكون سبباً للخروج عما هو الظاهر، بل لأنّه إذا تقارن الخاصّ مع العامّ، كان الخاصّ سبباً لعدم كاشفيّة ظهور العامّ في العموم، وأنّ العموم هو مراد المتكلّم؛ لأنّ أصالة الظهور في طرف الخاصّ حاكمة - كما مرّ - على أصالة الظهور في طرف العامّ، ويكون من قبيل ظهور القرينة مع ظهور ذي القرينة.

وأمّا الصورة الثانية: وهي ما إذا كانا واردين في زمانين، وكان الخاصّ هو المتأخّر ولكن قبل حضور وقت العمل بالعامّ، فكذلك يكون تقديم الخاصّ هو المتعيّن، لعين ما ذكرناه في الصورة الأُولى.

ص: 335

وأمّا الصورة الثالثة: وهي عين السابقة، ولكن مع كون الخاصّ وارداً بعد حضور وقت العمل بالعامّ.

وقد يقال: بأنّه يتعيّن في هذه الصورة النسخ، وإلّا، يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو قبيح.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ تأخير البيان عن وقت العمل بالعموم لعلّه كان لمصلحة في التأخير، فمفاد العمومات المتقدّمة بالنسبة إلى الخاصّ حكم ظاهريّ، كما أنّ البراءة قبل صدور كثيرٍ من الأحكام مفادها حكم ظاهريّ، وبعد صدورها تكون حكماً واقعيّاً مخالفاً لذلك الحكم الظاهريّالذي هو مؤدّى البراءة، فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة بالنسبة إلى الحكم الواقعيّ؛ لأنّه لا حكم واقعيّ في البين حتى يكون البيان متأخّراً عن وقت الحاجة ويكون قبيحاً؛ لأنّه لا حكم واقعيّ بالنسبة إلى تلك القطعة التي تكون مجمعاً لعنواني العامّ والخاصّ.

ولكن يرد هنا الإشكال التالي:

وهو أنّ مفاد العامّ لابدّ أن يكون بالنسبة إلى القطعة التي لا تتعنون بعنوان الخاصّ حكماً واقعيّاً، وبالنسبة إلى القطعة التي هي مجمع العنوانين حكماً ظاهريّاً، مع أنّه دليل واحد، وكلام واحد. مضافاً إلى أنّ أصالة العموم ناظرة إلى الحكم الواقعيّ، لا أنّها ناظرة إلى إثبات حكم الشاكّ في الحكم الواقعيّ.

وخلاصة الكلام في المقام: أنّ الخاصّ إذا ورد بعد العامّ وبعد زمان

ص: 336

العمل به، فالاحتمالات ثلاثة:

الأوّل: أن يكون الخاصّ ناسخاً لا مخصّصاً، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنّه قبيح.

وفيه: أنّ كون هذه المخصّصات مع كثرتها ناسخة بعيدة غاية البعد؛ لأنّ كثيراً من هذه المخصّصات صادرة عن الأئمّة المتأخّرين، والحال أنّ العمومات صادرة عن الأئمّة المتقدّمين، فيلزم أن يكون أكثر هذه الخاصّات ناسخةً لا مخصّصة، مع أنّهم قالوا بندرة النسخ وكثرة التخصيص، حتى اشتهر - كما أسلفنا - أنّه ما من عامٍّ إلّا وقد خصّ، بلقيل: لا يمكن أن تكون ناسخة؛ لأنّ النسخ لابدّ أن يكون بتوسّط الوحي، ومعلوم أنّه قد انقطع بعد النبيّ(صلی الله علیه و آله).

ولكن يمكن أن يجاب عن هذا: بأنّه غير تامّ؛ لأنّ الوحي وإن كان قد انقطع بعد النبيّ(صلی الله علیه و آله)، إلّا أنّ انقطاعه لا يلازم عدم جواز النسخ بعده(صلی الله علیه و آله)؛ إذ من الممكن أنّه(صلی الله علیه و آله) أودع الحكم الناسخ عند الوصيّ حتى يظهره في وقته، وهكذا الوصيّ عند وصيّه، وهو عند وصيّ آخر، إلى أن يحين وقت إظهاره، فيظهره من كان عنده من الأئمّة(.

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه): «والدليل على ذلك: أنّه وردت أخبار صحيحة في تفويض دين اﷲ إلى الأئمّة المعصومين(، ولا معنى للتفويض إلّا ذلك؛ إذ احتمال أن يكون المراد بالتفويض أن يقولوا من عندهم من دون أن يكون من قبل اﷲ، مخالف لاُصول المذهب، بل الدين. واحتمال أن

ص: 337

يكون بالإلهام من قبل اﷲ تعالى إليهم، وإن كان ممكناً في حدّ نفسه، ولكنّه أيضاً مرتبة من الوحي، والظاهر: انقطاع الوحي بجميع مراتبه»(1).

الثاني: احتفاف العامّ بالمخصّصات المتّصلة، ولم يصل إلينا إلّا هذه المخصّصات المنفصلة.

الثالث: أن يكون مفاد العامّ حكماً ظاهريّاً بالنسبة إلى حكم الخاصّ، والحكم الواقعيّ لتلك القطعة من العامّ هو مفاد تلكالمخصّصات المنفصلة، وإنّما تأخّر بيانها لمصالح اقتضت التأخير.

بقي صورتان من الصور الخمس التي يدور فيها الأمر بين النسخ والتخصيص، وهما فيما إذا كان الخاصّ وارداً قبل العامّ، بلا فرق بين أن يكون ورود العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، أو قبله.

فهل يقدّم التخصيص أو النسخ على الإطلاق، أي: في الصورتين جميعاً، أم أنّ هناك فرقاً بين ما لو كان الورود بعد حضور وقت العمل فيكون نسخاً، أم قبله، فيكون تخصيصاً؟

الحقّ: أنّه في كلتا الصورتين يقدّم التخصيص على النسخ، بل تقديمه على النسخ في هاتين الصورتين أوضح من تقديمه عليه في الصور المتقدّمة؛ فإنّ اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة المتقدّمة في مقام بيان مراده هو أَولى من اعتماده على القرينة المنفصلة المتأخّرة، فإذا كان

ص: 338


1- منتهى الاُصول 2: 572 - 573.

الخاصّ متقدّماً على العامّ، فالمتكلّم يُلقي العامّ، ولكنّه يريد به ما عدا الخاصّ؛ لأنّه مع وجود الخاصّ المتقدّم لا يبقى ظهور للعامّ في إرادة العموم؛ لأنّ أصالة الظهور في طرف الخاصّ مقدّمة - كما تقدّم غير مرّة - على أصالة الظهور في طرف العامّ وحاكمة عليها، ومعه: فتكون أصالة الظهور في طرف العامّ ساقطةً عن الحجّيّة.

لا يقال: بعد تأخّر العامّ عن الخاصّ فمراد المتكلّم إنّما هو العموم.فإنّه يقال: بعد قيام القرينة لم يتبقّ أيّ عموم في البين لكي يكون ناسخاً للخاصّ.

فالحقّ: أنّه في جميع الصور الخمس يقدّم الخاصّ على العامّ، لا من جهة كثرة الخاصّ؛ لأنّه لا اعتبار بهذه الكثرة - كما ذكرنا - وهي لا تنهض دليلاً على التقديم.

بل لزوم تقديم الخاصّ إنّما هو لأنّه مع وجوده يكون المتكلّم قد أتى بقرينةٍ تدلّ على تصرّفه في ظهور العامّ، فلا يبقى له ظهور في العموم، ويُعْلم أنّ المراد من العامّ إنّما هو ما عدا الخاصّ.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سرّه): أنّ التخصيص منافٍ لما التزم به في تقديم العامّ على المطلق من أقوائيّة ظهور العامّ؛ لأنّه تنجيزيّ، وظهور الإطلاق تعليقيّ؛ لأنّ ظهور الكلام في الدوام والاستمرار إنّما هو بالإطلاق، بخلاف ظهوره بالعموم، فإنّه بالوضع، فمقتضى ذلك الوجه أنّه لابدّ من تقديم أصالة العموم على الإطلاق فيما نحن فيه، لا العكس.

ص: 339

وأمّا شيوع التخصيص، فهو إنّما يوجب أقوائيّة الظهور الإطلاقيّ لو كان من قبيل القرائن المكتنفة للكلام، بحيث يوجب تبدّل ظهور العامّ، وإلّا، فهو لا يقتضي الأقوائيّة، وإن أوجب الظنّ بالتخصيص.

قال(قدس سرّه) ما لفظه:

«ولا يخفى: أنّ دلالة الخاصّ أو العامّ على الاستمرار والدوام إنّما هو بالإطلاق لا بالوضع، فعلى الوجه العقليّ في تقديم التقييد على التخصيص، كان اللّازم في هذاالدوران تقديم النسخ على التخصيص أيضاً، وأنّ غلبة التخصيص إنّما توجب أقوائيّة ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العامّ في العموم إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابةٍ تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام، وإلّا، فهي وإن كانت مفيدة للظنّ بالتخصيص، إلّا أنّها غير موجبة لها كما لا يخفى»(1).

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سرّه) فقد أفاد في المقام ما حاصله:

أنّ الدوام والاستمرار ليس ثابتاً بالإطلاق حتى يكون الكلام في ترجيح أحد الظهورين، بل هو ثابت بالاستصحاب؛ إذ ليس في المقام ظهوران يعارض أحدهما الآخر، وإنّما المعارضة البدويّة بين الاستصحاب وأصالة العموم، ولا كلام في تقدّمها عليه، فالالتزام

ص: 340


1- كفاية الاُصول: ص 451.

بالنسخ بحسب قواعد المعارضة متعيّن. إلّا أنّه لما كان بناء العقلاء منعقداً على عدم العمل بأصالة العموم لو كان هناك خاصّ، ولو كان سابقاً أو لاحقاً؛ لأنّه يكون قرينة عليه، لم يمكن الالتزام بأصالة العموم فيما نحن فيه.

فعدم الالتزام بالعموم إنّما كان لهذا الأمر، لا لأقوائيّة دليل الاستمرار؛ إذ دليله الأصل، ولا ظهور فيه(1).توضيح ذلك: أنّ الدوام والاستمرار:

تارةً: يلحظ وصفاً وعارضاً على الجعل، نظير الحكم بوجوب الحجّ على المستطيع؛ فإنّه قد لا تحصل الاستطاعة أصلاً، فلا ثبوت للحكم الفعليّ مع استمرار هذا الجعل ودوامه مطلقاً.

وأُخرى: يكون وصفاً للمجعول دون الجعل، نظير جعل وجوب التسبيح ساعةً عند الدخول إلى البلد؛ فإنّ الاستمرار ساعةً من

ص: 341


1- راجع: فوائد الاُصول 4: 739, وإليك نصّ كلامه): «ودعوى أنّ النسخ يكون من قبيل تقييد الإطلاق، فيقدّم على تخصيص العامّ، لا تخلو عن مغالطة؛ فإنّ النسخ عبارة عن رفع الحكم الثابت، وثبوت أحكام الشريعة في جميع الأزمنة ليس من جهة إطلاق الأدلّة، بل من جهة قوله(علیه السلام): حلال محمّد(صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ونحو ذلك من الأدلّة الدالّة على استمرار أحكام الشريعة وعدم نسخها، فلو ثبت نسخ الحكم في موردٍ فإنّما هو تخصيص لهذه الأدلّة، لا تقييد لإطلاق الأدلّة الأوّليّة المتكفّلة لبيان أصل ثبوت الأحكام في الشريعة...».

شؤون المجعول، وهو الوجوب، دون الجعل؛ إذ الجعل واحد، كما لا يخفى.

والنسخ الذي يرجع إلى قطع الاستمرار ورفع الدوام إنّما يرتبط باستمرار الجعل لا المجعول؛ فإنّ الاستمرار وعدمه في المجعول لا يرتبط بالنسخ أصلاً.

وإذا كان الاستمرار من صفات الجعل ويتوقّف عليه توقّف العارض على معروضه لم يصلح الدليل المتكفّل لإنشاء الجعل لبيان الاستمرار؛ لأنّه متأخّر عن وجود الجعل، والدليل الإنشائيّ إنّما يتكفّل إيجاد الجعل، فيمتنع أن يتكفّل بنفسه بإثبات استمراره، بل لابدّ من دليل آخر يتكفّل بيان الاستمرار.وليس من الأدلّة الاجتهاديّة ما يصلح لبيان ذلك، إلّا ما يتوهّم من قوله(صلی الله علیه و آله) :«حلال محمّد(صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(1).

وهذا الدليل ظاهر في بيان دوام الشريعة المحمّديّة بما لها من الأحكام والمجموع بما هو مجموع، لا دوام كلّ حكم من أحكامه.

وعليه: فالدليل الذي يتكفّل بإثبات الاستمرار إنّما هو الاستصحاب،

ص: 342


1- انظر: وسائل الشيعة 27: 169، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح 52، والحديث عن رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله) بلفظ: «أيّها الناس(قدس سرّه) حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة».

فباستصحاب الحكم يثبت بقاؤه ودوامه واستمراره.

وإذا كان الاستمرار ثابتاً بالاستصحاب لم يصلح لمعارضة أصالة العموم فيما نحن فيه؛ لأنّها دليل اجتهاديّ حاكم أو وارد عليه بلا كلام. مع امتناع جريان الاستصحاب في بعض الصور، وهي صورة تأخّر الخاصّ؛ فإنّه مع احتمال كون الدليل مخصّصاً، وأنّ حكم العامّ لم يكن ثابتاً للخاصّ من حينه، لا مجال لاستصحاب الحكم؛ لأنّ الشكّ في أصل الحدوث، فيبتني جريانه على قاعدة اليقين، وهي غير تامّة.

والذي يتلخّص من كلامه أمران:

الأوّل: أنّ استمرار الجعل لا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفّل لبيان الجعل؛ لأنّه متأخّر عن وجود الجعل، فلا يمكنبيانه بنفس الدليل المتكفّل لايجاد الجعل، فالدليل عليه هو الاستصحاب إذ لا دليل اجتهاديّاً يتكفّل بيانه.

والثاني: أنّ الخاصّ المتقدّم والمتأخّر يكون قرينة على العامّ بحيث يسلم ظهوره.

وكيف كان، فخلاصة القول في المقام: أنّ صور دوران الأمر بين النسخ والتخصيص ستّة: لأنّ العامّ والخاصّ إمّا مجهولا التاريخ من حيث زمان الصدور، أو معلوما التاريخ. وعلى الثاني: فهما إمّا متقارنان أو أحدهما مقدّم والآخر مؤخّر. والمؤخّر إمّا أن يصدر قبل حضور وقت العمل بالمقدّم أو بعده، فتصير صور المسألة ستّاً:

ص: 343

الاُولى: فيما إذا كان كلاهما مجهولي التاريخ.

الثانية: فيما إذا كانا متقارنين زماناً.

والثالثة: فيما إذا ورد الخاصّ بعد العامّ، وبعد حضور وقت العمل به.

الرابعة: فيما إذا كان الخاصّ بعد العامّ أيضاً، ولكن قبل حضور وقت العمل به.

الخامسة: فيما إذا كان العامّ بعد الخاصّ، ولكن قبل حضور وقت العمل به أيضاً.

السادسة: فيما إذا كان العامّ بعد الخاصّ أيضاً، ولكن بعد حضور وقت العمل به.

وفي هذه الصور جميعاً يكون التخصيص مقدّماً على النسخ، وذلك لعدم بقاء ظهور للعامّ، وكون الخاصّ قرينة على عدم إرادة العموم في العام.وقد يقال: بتقديم النسخ على التخصيص فيما إذا دار الأمر بينهما؛ بدعوى: أنّ التخصيص عبارة عن التصرّف في العموم الأفرادي الذي كان للعامّ بالوضع، والنسخ عبارة عن تقييد الإطلاق.

فإذا دار الأمر بين التصرّف فيما هو بالإطلاق أو التصرّف فيما هو بالوضع، قدّم الأوّل.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الأمر في الحقيقة يرجع الدوران بين التقييد والتخصيص؛ لأنّ مرجع النسخ إلى التقييد، وعند دوران الأمر بين التقييد

ص: 344

والتخصيص، فالتقييد مقدّم.

ولكن فيه: أنّ النسخ متوقّف على شمول العامّ حكماً لمورد الخاصّ حتى يكون الحكم ثابتاً لأفراد الخاصّ التي هي تحت دائرة العموم، وبمجيء الخاصّ قبل العامّ، أو بعده، يرتفع حكم العامّ عن تلك القطعة التي هي مجمع العنوانين: عنوان العامّ وعنوان الخاصّ.

وقد عرفت أنّ وجود الخاصّ قبل العامّ أو بعده يكون قرينةً على عدم إرادة العموم، ومع هذه القرينة لا يبقى موضوع للنسخ حتى تصل النوبة إلى تقديم النسخ بدعوى: أنّه من تقييد الإطلاق الذي هو بمقدّمات الحكمة على التخصيص الذي هو تصرّف في العموم الأفراديّ الذي هو بالوضع.

وأيضاً: فإنّ الدوام والاستمرار في حكم العامّ الذي هو موضوع النسخ ليس بإطلاق الحكم؛ لعدم إمكان شمول إطلاق الحكم للحالات الواردة على نفس الحكم المتأخّر عنه؛ لأنّه من الانقسامات الثانويّة، كالعلم والجهل بالحكم.فكذلك دوام الحكم واستمراره لابدّ وأن يكون بدليلٍ آخر، كقوله(صلی الله علیه و آله): «حلال محمّد(صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»، فيكون النسخ - أيضاً - تخصيصاً؛ لأنّه تصرّف في عموم أفراد الزمان.

هذا كلّه لو كان التعارض بين دليلين فقط.

ص: 345

الأمر الثامن :فيما لو كان التعارض بين أكثر من دليلين:

لو فرض أنّ التعارض كان بين أكثر من دليلين، فهل يقدّم بعضها على بعضها الآخر تخصيصاً أو تقييداً، فيوجب انقلاب النسبة بينها بعد التقييد والتخصيص في بعضها أم لا يقدّم؟ بل كلّ واحدٍ منها يلاحظ مع غيره كما هو كذلك في حدّ نفسه من دون تقييده أو تخصيصه أوّلاً ثمّ ملاحظة النسبة بينه وبين غيره بعد ملاحظته مقيّداً أو مخصّصاً؟

ولتوضيح المطلب وبيان ما هو الحقّ من هذين الاحتمالين نذكر مقدّمة حاصلها: أنّ للظهور التصديقيّ في قبال الظهور التصوّري معنيين:

أوّلهما: ظهور الكلام فيما قال.

والثاني: ظهوره فيما أراد.

والأوّل ينعقد بعد تمام الكلام والفراغ منه، وليس متوقّفاً على عدم مجيء قرينة منفصلة على خلاف ظاهر الألفاظ. نعم، لو كان في الكلام قرينة متّصلة مذكورة في نفس الكلام، فهي دخيلة، وجوداً وعدماً، في انعقاد ذلك الظهور، وليسهذا الظهور هو ما عليه مدار الحجّيّة، بل مدار الحجّيّة على الظهور التصديقيّ بالمعنى الثاني، وهو ظهور الكلام فيما أراد؛ إذ بعدما عرفنا أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فإرادة المولى هي التي تكون منشأً للآثار واستحقاق الثواب على موافقتها والعقاب على مخالفتها.

ص: 346

وأمّا الثاني: أي: الظهور التصديقيّ بعنوان ما أراده المتكلّم، متوقّف على عدم مجيء قرينة، ولو كانت منفصلة، على أنّ الظاهر ليس بمراد له، فلو جاءت قرينة منفصلة على عدم إرادة الظاهر، وأنّ الظاهر ليس بمراد له، فالجملة لا تكون دالّة بالدلالة التصديقيّة على أنّ الظاهر مراده، فلو كان العامّ والخاصّ كلّ منهما في جملتين مستقلّتين، فأصالة الظهور في طرف الخاصّ، ولو كان في كلام منفصل، قرينة على عدم إرادة الشمول والعموم بنحو يشمل عنوان العامّ وعنوان الخاصّ، بل يكشف عن أنّ مقدار الخاصّ كان خارجاً من أوّل الأمر.

وقد عرفت أنّ الحجّيّة تدور مدار الإرادة سعةً وضيقاً، فلو لم يكن العامّ شاملاً للخاصّ من حيث المراديّة - كما هو المفروض - فليس بحجّة في ذلك المقدار، فلا تعارض بين العامّ والخاصّ؛ لأنّ التعارض فرع الحجّيّة، وما ليس بحجّة لا ينهض لأن يكون معارضاً لحجّةٍ أُخرى.

فلو كان هناك دليلان متعارضان بالتباين، كقوله: (أكرم العلماء)، وقوله: (لا تكرم العلماء)، فإنّ النسبة بينهما هي التباين، ثمّ ورد دليل آخر مخصّص لأحدهما، كقوله:(يستحبّ إكرام العلماء العدول)، فهذا يخصّص قوله: (لا تكرم العلماء)، ويصير قرينةً على عدم إرادة العموم من قوله: (لا تكرم العلماء) بالنسبة إلى العدول منهم، فليس بحجّة في العلماء العدول، فكأنّه من أوّل الأمر قال: (لا تكرم العلماء غير العدول) فتنقلب النسبة من التباين إلى العموم والخصوص المطلق. فتكون نتيجة

ص: 347

الجمع بين هذين الكلامين وجوب إكرام العلماء العدول دون الفسّاق منهم، فلا يصحّ إنكار انقلاب النسبة بقول مطلق.

وخلاصة القول: أنّ المخصّص المنفصل عين المخصّص المتّصل من ناحية أنّ العام لا يكون شاملاً لأفراد، وكذلك من ناحية كاشفيّته عن المراد، وإنّما الفرق بينهما أنّ المخصّص المنفصل لا يصادم ظهور العامّ بعنوان ما قال لا بعنوان ما أراد.

فإذا كان هناك عامّ وخاصّ، فلا يمكن أن يكون حال هذا العامّ مع وجود هذا الخاصّ في مقام معارضته لدليل آخر مثل حال هذا الخاصّ مع فرض عدم هذا الخاصّ؛ لأنّ العامّ مع فرض عدم وجود الخاصّ تكون حجّيّته أوسع ويكون كاشفاً عمّا يراد، وشاملاً لجميع الأفراد، بما فيها أفراد ذلك الخاصّ، وأمّا مع فرض وجود الخاصّ فلا تكون شاملة لأفراد الخاصّ.

فإذا عرفت ذلك، ظهر ما في كلام صاحب الكفاية(قدس سرّه) الذي ذكره في مقام ردّ انقلاب النسبة من «أنّ النسبة إنّما هي بملاحظة الظهورات. وتخصيص العامّ بمخصّص منفصل،ولو كان قطعيّاً، لا ينثلم به ظهوره، وإن انثلم به حجّيّته»(1).

وذلك لأنّ المخصّص المنفصل، ولو لم يكن - كما أفاده - كالمتّصل

ص: 348


1- كفاية الاُصول: 452.

من جهة عدم انثلام ظهور العامّ به، لكنّ ذلك هو الظهور التصديقيّ بمعنى ما قال، لا بمعنى ما أراد.

والنسبة بين المتعارضات والأدلّة وإن كانت باعتبار الظهورات، إلّا أنّ الظهورات التصديقيّة الكاشفة عن المراد لا صرف الظهور بعنوان ما قال، فما هو المناط في المعارضة هو هذا الظهور الكاشف عمّا أراد، وبه يكون الكلام حجّة، لا عن ما قال؛ لأنّه ليس بحجّة، وما لا يكون بحجّة فكيف يمكن أن يكون معارضاً لحجّة أُخرى.

ومن هنا ظهر الحال فيما أفاده المحقّق العراقي(قدس سرّه) بقوله: «والتحقيق: أنّ مدار الجمع بعدما كان على تقديم أقوى الظهورين، وأنّ القرائن المنفصلة لا توجب انقلاب الظهور أيضاً، فلا محيص - حينئذٍ - من لا بدّيّة ملاحظة كلّ واحدٍ مع الآخر في [أنفسهما] مع قطع النظر عن جمع كلّ واحدٍ مع الغير؛ إذ المفروض أنّ الجمع لا يوجب انقلاب الظهور شدّةً وضعفاً»(1).

فقد عرفت أنّ الظهور الذي لا ينثلم مغاير للظهور الذي عليه مدار الحجّيّة، أي: الظهور التصديقيّ الكاشف عن مرادالمتكلّم، وهذا الظهور هو الذي مدار الحجّيّة، وعليه يدور وقوع التعارض بين الأدلّة، وهو غير باقٍ مع وجود القرينة المنفصلة على الخلاف.

ص: 349


1- مقالات الاُصول 2: 482.

وكيف كان، فإنّه بناءً على ما اختاره(قدس سرّه) فبين (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق من العلماء) - مثلاً - عموم وخصوص من وجه، وكذا بين (أكرم العلماء) وبين (يستحبّ إكرام العدول)، فالنسبة الأوّليّة باقية بحالها، فلا يخصّص قوله: (يستحبّ إكرام العدول) بغير العلماء، بل النتيجة هي إمّا التخيير أو التساقط.

وأمّا بناءً على ما اخترناه، فيخصّص قوله: (يستحبّ إكرام العدول) بغير العالم العادل، وسائر العدول يكون إكرامهم مستحبّاً بدليل (يستحبّ إكرام العدول) بعد تخصيصه بغير العلماء، بواسطة قوله: (أكرم العلماء العدول) الحاصل من تخصيص قوله: (أكرم العلماء)، بقوله: (لا تكرم الفسّاق من العلماء).

وكذا تنقلب النسبة لو كان هناك عامّان متباينان، وكان دليل ثالث أخصّ من أحدهما، كقوله: (لا ترث الزوجة من العقار)، وقوله (ترث الزوجة من العقار)، فهما عامّان متباينان، فإذا ورد الدليل الثالث، وكان مفاده أنّ الزوجة التي لها ولد من الميّت ترث من العقار، فتنقلب النسبة؛ لأنّها تخصّص بقوله: (لا ترث الزوجة من العقار)، فتنقلب النسبة - حينئذٍ - بينه وبين العامّ الآخر من التباين إلى العموم والخصوص المطلق.فالنتيجة: أنّ اُمّ الولد من الزوجة ترث، والزوجة التي ليس لها ولد من الزوج الميت لا ترث.

هذه إحدى صور التعارض بين أكثر من دليلين.

ص: 350

صورة أُخرى: ما إذا كان هناك عامّ وخاصّان وكان بينهما تباين، كقوله: (أكرم العلماء) وقوله: (لا تكرم الكوفيّين من العلماء) وقوله: (لا تكرم البصريّين من العلماء)، فإنّ النسبة بين الخاصّين هي التباين، ولا شكّ في وجوب تخصيص العامّ بكلٍّ منهما ما لم يصل إلى حدّ التخصيص المستهجن.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم(قدس سرّه) فصّل بين صور التعارض:

فحكم في بعضها بعدم صحّة الترتيب في العلاج، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات إلى الدليل نسبةً واحدة، كما لو كانت نسبتها نسبة الخاصّ إلى العامّ، نظير: ما لو ورد: (أكرم العلماء)، ثمّ ورد: (لا تكرم النحويّين)، و(لا تكرم الصرفيّين).

وحكم في البعض الآخر بملاحظة الترتيب في العلاج، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات مختلفة، كما إذا ورد عامّ ثمّ ورد عامّ آخر نسبته مع الأوّل نسبة العموم من وجه، ثمّ ورد مخصّص لأحدهما، نظير: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق من العلماء)، و(يستحبّ إكرام العدول)؛ فإنّه حكم بتخصيص (أكرم العلماء)، بدليل: (لا تكرم فسّاقهم)، فتنقلب نسبته إلى دليل: (يستحبّ إكرام العدول) إلى نسبة الأخصّ مطلقاً فيتخصّص به. وتكون النتيجة:حرمة إكرام فسّاق العلماء ووجوب إكرام عدولهم، واستحباب إكرام العدول من غير العلماء.

ص: 351

وقد استدلّ على صحّة عدم الترتيب في الأوّل:

أوّلاً: بأنّ تقديم أحد الخاصّين المعيّن على العامّ، ثمّ ملاحظة نسبة العامّ مع الخاصّ الآخر، ترجيح بلا مرجّح، فيتعيّن ملاحظتهما معاً بالنسبة إلى العامّ.

وثانياً: بأنّه مع تخصيص العامّ بأحد المخصّصين، لا ينعقد له ظهور في الباقي إلّا مع إحراز عدم المخصّص، ومع وجود الخاصّ الآخر لا مجال لإحراز عدم المخصّص حتى بالأصل، فلا ينعقد له ظهور في الباقي كي يصلح لمعارضة الخاصّ الآخر، وملاحظة النسبة بينهما.

وبالجملة: انعقاد ظهور العامّ في الباقي حتى يكون صالحاً للمعارضة يتوقّف على العلاج بالنسبة إلى الخاصّ الآخر ونفي مخصّصيّته، والعلاج بالنسبة إليه يتوقّف على انعقاد ظهوره كي تلاحظ النسبة بينه وبين الدليل الآخر.

وبهذا الدليل دفع توهّم صحّة الترتيب في العلاج، مع كون أحد الخاصّين ثابتاً بالإجماع أو العقل؛ فإنّه وإن أقرّه في نفس الترتيب؛ لأنّه يكون كالمخصّص المتّصل الذي لا إشكال في تقدّمه على العامّ، لكنّه لم يقرّه في دعوى انقلاب النسبة به كما ادّعاه المتوهّم.

واستدلّ على ملاحظة الترتيب في الثاني:

باستلزام عدم الترتيب لمحذور طرح النصّ أو طرح الظاهر في مدلوله أجمع؛ وذلك لأنّه لو لم يرتّب في العلاجوقدّم العامّ الآخر وخصّص به

ص: 352

العامّ، كما لو خصّص (أكرم العلماء) ﺑ (يستحبّ إكرام العدول)، فإمّا أن يخصّص العامّ بالخاصّ، وهو (لا تكرم فسّاق العلماء) أو لا. فعلى الثاني: يلزم طرح النصّ؛ لأنّ الخاصّ نصّ في مدلوله، والعامّ ظاهر فيه، وعلى الأوّل: يلزم طرح الظاهر مطلقاً، وهو ممنوع؛ لأنّ العامّ نصّ في منتهى التخصيص، فيلزم من طرحه طرح أحد النصّين، وهو محذور كما لا يخفى(1).

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سرّه) فقد ذكر وجهاً لتقريب انقلاب النسبة، وتوضيحه:

أنّ للكلام دلالاتٍ ثلاث:

أ. دلالة تصوّريّة، وهي انتقال المعنى من اللّفظ عند إبرازه، وهي لا تتوقّف على صدور اللّفظ عن اختيار وإرادة، وهي نفس الدلالة الوضعيّة عند بعض.

ب. ودلالة تصديقيّة، وهي الحاصلة من ضمّ بعض أجزاء الكلام إلى بعض، وملاحظة القرائن المحفوف بها الكلام، فقد يكون دالّاً على غير المعنى الوضعيّ الأوّليّ، لوجود القرائن المغيّرة لظهوره الأوّليّ، ويسند المجموع إلى المتكلّم، ويُحكم بأنّه قصد تفهيم هذا المعنى المستفاد من الكلام. وهذه الدلالة تتوقّف على صدور الكلام عن إرادةٍ وقصد.

ص: 353


1- انظر في جميع ما ذكرناه: فرائد الاُصول 4: 102.

ج. ودلالة ثالثة على كون المعنى المقصود تفهيمه هو المراد جدّاً وواقعاً، ويعبّر عنها - أيضاً - بالدلالة التصديقيّة في الكشف عن المراد الجدّيّ.

وموضوع الحجّيّة إنّما هو القسم الثالث من الدلالات المذكورة؛ فإنّ الكشف النوعيّ للكلام عن المراد الجدّيّ هو الذي يكون موضوعاً للحجّيّة والاعتبار عند العقلاء.

والمعارضة بين الأدلّة إنّما هي باعتبار الكشف النوعيّ لكلٍّ منها عن المراد الجدّيّ المنافي للآخر، بحيث لا يمكن الالتزام بكلٍّ منها، وإلّا، فمع الغضّ عنه لا تعارض بين الأدلّة بلحاظ المستعمل فيه في كلٍّ منها؛ إذ مع العلم بأنّه لا مراد جدّيّاً على طبق المستعمل فيه والمقصود بالتفهيم لا يكون هناك تزاحم وتعارض بين الأدلّة.

وإليك نصّ ما أفاده«:

«وقد أشرنا إلى الوجه في انقلاب النسبة في مثل هذه الموارد، وحاصله: أنّ ملاحظة النسبة بين الأدلّة إنّما هي لأجل تشخيص كونها متعارضة أو غير متعارضة.

وقد تقدّم: أنّ تعارض الأدلّة إنّما هو لأجل حكايتها وكشفها عمّا لا يمكن جعله وتشريعه لتضادّ مؤدّياتها، فالتعارض بين الأدلّة إنّما يكون بمقدار كشفها وحكايتها عن المراد النفس الأمريّ.

ومن الواضح: أنّ تخصيص العامّ يقتضي تضييق دائرة كشفه وحكايته؛

ص: 354

فإنّ التخصيص يكشف - لا محالة - عن عدم كون عنوان العامّ تمام المراد، بل المراد هو ماوراء الخاصّ؛ لأنّ دليل الخاصّ لو لم يكشف عن ذلك يلزم لغويّة التعبّد به وسقوطه عن الحجّيّة، فلازم حجّيّة دليل المخصّص هو سقوط دليل العامّ عن الحجّيّة في تمام المدلول وقَصْر دائرة حجّيّته بما عدا المخصّص، وحينئذٍ: لا معنى لجعل العامّ بعمومه طرف النسبة؛ لأنّ النسبة إنّما تلاحظ بين الحجّتين، فالذي يكون طرف النسبة هو الباقي تحت العامّ الذي يكون العامّ حجّةً فيه، فلو خصّص أحد العامّين من وجه بمخصّص متّصل أو منفصل يسقط عن الحجّيّة في تمام المدلول، ويكون حجّةً فيما عدا عنوان الخاصّ، فتلاحظ النسبة بينه بمقدار حجّيّته وبين العامّ الآخر، ولا محالة تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق»(1).

وخلاصة الكلام في المقام: أنّ جهة انقلاب النسبة هو أنّ العامّ قبل تخصيصه يكون حجّة دالّة على تمام المدلول، ولكن بعد ورود الخاصّ، ولو كان منفصلاً، لا يكون حجّة إلّا فيما عدا مدلول الخاصّ، فقهراً تتضيّق دائرة حجّيّته. وقد تقدّم آنفاً أنّ التعارض يقع بين حجّتين أو الحجج باعتبار كشفها عن المراد الواقعيّ، وعدم إمكان اجتماعهما، أو عدم اجتماعها، إذا كانا، أو كانت، مراداً واقعيّاً، فحينئذٍ: تتغيّر النسبة بينهما بتغيّر مدلولهما. والقول بعدم تغيّر النسبة، وعدم انقلابها، بعد

ص: 355


1- فوائد الاُصول 4: 747 - 748، بتصرّف يسير.

وجود المخصّص المنفصل مساوق للقول بعدمتضييق دائرة حجّيّة العامّ بواسطته، وهو كما ترى، ولا يقول به من ينكر الانقلاب في النسبة.

تتميم :في نسبة أدلّة ضمان العارية بعضها إلى بعض:

وقد ذكر اُستاذنا الأعظم(قدس سرّه) - كما في مصباح الاُصول - «أنّ الأخبار الواردة في ذلك الباب على طوائف:

منها: ما يدلّ على نفي ضمان العارية بقول مطلق.

ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان مع عدم الاشتراط وإثباته معه.

ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدراهم وإثباته فيها.

ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدنانير وإثباته فيها.

ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضّة وإثباته في عاريتهما».

ثمّ ذكر) بعد ذلك: أنّ نسبة ما يدلّ على ثبوت الضمان مع الاشتراط مع سائر المخصّصات هي نسبة العموم من وجه؛ «إذ ربما يكون الاشتراط في غير عارية الدرهم والدينار، وربما يكون الاشتراط في عاريتهما، وربما تكون عارية الدرهم أو الدينار بلا اشتراط. وكذا الحال بالنسبة إلى ما يدلّ على الضمان في عارية الذهب والفضّة، فإنّ النسبة بينه وبين ما يدلّ على الضمان مع الاشتراط أيضاً العموم منوجه، فمقتضى القاعدة هو تخصيص العامّ بجميع هذه المخصّصات».

ص: 356

إلى أن قال: «وأمّا ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدرهم وإثباته فيها، وما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدينار وإثباته فيها، فهما بمنزلة رواية واحدة دالّة على نفي الضمان في غير عارية الدرهم والدينار، وإثباته في عاريتهما»؛ لأنّ العقد الإيجابيّ من كلّ منهما يقيّد العقد السلبيّ من الآخر؛ لأنّه ينافيه وأخصّ منه، فيجمع بينهما كذلك، ويكونان بمنزلة دليل واحد، وتقع المعارضة بعد ذلك بينه وبين ما دلّ على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضّة وإثباته فيهما؛ لأنّ النسبة بين العقد السلبيّ لهذا الدليل وبين العقد الإيجابيّ لما دلّ على نفي ضمان غير عارية الذهب والفضّة هي العموم من وجه؛ لأنّ العقد السلبيّ لهذا الدليل مفاده نفي الضمان عن غير عارية الدرهم والدينار، سواء كان ذهباً أم فضّةً أم غيرهما، والعقد الإيجابيّ لذلك مفاده إثبات ضمان عارية الذهب والفضة، سواء كان درهماً أم ديناراً أم غيرهما من غير المسكوك.

ويدور الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين، ومقتضى القاعدة هو التساقط، إلّا أنّها غير تامّة ههنا؛ لأنّ رفع اليد عن إطلاق دليل ثبوت ضمان عارية الذهب والفضّة في مورد المعارضة بالتساقط - يلزم تخصيصه بالفرد النادر -؛ لأنّإعارة الدينار والدرهم نادرة؛ لعدم الانتفاع بها مع بقاء عينها غالباً، وهو مستهجن(1).

ص: 357


1- انظر: مصباح الاُصول 2: 476 - 477.

ولا بأس هنا باستعراض تلك الطوائف من الروايات الواردة في باب العارية، مع الإشارة إلى كيفيّة الجمع فيما بينها، فنقول:

من هذه الروايات:

ما يدلّ على عدم الضمان في العارية مطلقاً من حيث المستعير والمال، أو الشيء المستعار، كصحيحة الحلبي عن الصادق(علیه السلام):

«ليس على مستعيرٍ عارية ضمان، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن»(1).

ومنها: ما يدلّ على عدم ضمان العارية مطلقاً من حيث المال المستعار، ولكن من حيث المستعير مشروط بكونه مأموناً، كرواية مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد'، قال:

«سمعته يقول لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأموناً»(2).

ومنها: ما يدلّ على عدم الضمان إلّا في عارية الدراهم، كرواية عبد الملك عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:«ليس على صاحب العارية ضمان إلّا أن يشترط صاحبها، إلّا الدراهم، فإنّها مضمونة، اشترط صاحبها أو لم يشترط»(3).

ومنها: ما يدلّ على عدم الضمان إلّا في عارية الدنانير، كرواية عبد اﷲ

ص: 358


1- وسائل الشيعة 19: 93، باب 1 من أبواب كتاب العارية ح 6.
2- وسائل الشيعة 19: 94، باب 1 من أبواب كتاب العارية ح 10.
3- وسائل الشيعة 19: 97، باب 3 من أبواب كتاب العارية ح 3.

ابن سنان قال:

«قال أبو عبد اﷲ(علیه السلام) لا تضمن العارية، إلّا أن يكون قد اشترط فيها ضمان، إلّا الدنانير فإنّها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضماناً»(1).

ومنها: ما يدلّ على عدم الضمان إلّا في عارية مطلق الذهب والفضة، كرواية اسحاق بن عمار عنه(علیه السلام):

«قال: العارية ليس على مستعيرها ضمان إلّا ما كان من ذهب أو فضّة، فإنّهما مضمونان، اشترطا أو لم يشترطا»(2).

فإذا لاحظت هذه الطوائف من أخبار الباب نقول:

لا يخفى: أنّ الطائفة الاُولى والثانية مشتركان في نفي الضمان مطلقاً، من أيّ جنسٍ كان المال المستعار، من الدنانير أو الدراهم أو غيرهما، من الذهب أو الفضة أوغيرهما، وإنّما الاختلاف بين الطائفتين في أنّ الطائفة الثانية تشترط كون المستعير مأموناً.

ومعه: فيمكن حمل الطائفة الاُولى على الثانية، وتكون النتيجة: أنّه إنّما لا يكون هناك ضمان فيما إذا كان المستعير مأموناً.

وأمّا الطائفة الثالثة والرابعة فلكلٍّ منهما عقد سلبيّ وعقد إيجابيّ.

أمّا العقد السلبيّ في الثالثة - وهي رواية عبد الملك عن أبي

ص: 359


1- وسائل الشيعة 19: 96، باب 3 من أبواب كتاب العارية ح 1.
2- وسائل الشيعة 19: 97، باب 3 من أبواب كتاب العارية ح 4.

عبد اﷲ(علیه السلام) - هو عدم الضمان في كلّ عارية إذا لم يشترط صاحبها الضمان، إلّا في عارية الدراهم، فكلّ عارية غير عارية الدراهم اذا لم يشترط فيها صاحبها الضمان من أيّ جنسٍ كان ليس فيها ضمان. والعقد الإيجابيّ هو أنّه في عارية الدراهم ضمان مطلقاً.

فهذا العقد الإيجابيّ يخصّص العمومات أو يقيّد المطلقات التي كان مفادها عدم الضمان في كلّ عاريةٍ من أيّ جنسٍ كان؛ لأنّه أخصّ منها.

وكذلك الطائفة الرابعة، أي: رواية عبد اﷲ بن سنان، فهي - أيضاً - لها عقد سلبيّ وعقد إيجابيّ، فالعقد السلبيّ فيها عبارة عن: عدم الضمان في كلّ عارية لم يشترط فيها الضمان من أيّ جنسٍ كان، إلّا أن تكون من جنس الدنانير، والعقد الإيجابيّ فيها عبارة عن ثبوت الضمان في عارية الدنانير مطلقاً، سواء اشترط صاحبها الضمان أم لم يشترط.وهذا العقد الإيجابيّ في هذه الطائفة - أيضاً - يخصّص العمومات التي كان مفادها عدم الضمان مطلقاً من أيّ جنسٍ كان؛ لأنّه - كذلك - أخصّ منها.

وقد عرفنا سابقاً أنّه لو كان للعامّ مخصّصات متعدّدة ﻛ (أكرم العلماء) ثمّ جاء (لا تكرم الشعراء) ثمّ ورد (لا تكرم الأدباء) ثمّ ورد (لا تكرم البصريّين) ثمّ ورد (لا تكرم الكوفيّين) فإنّ العامّ يُخصّص بالكلّ، ما لم يصل إلى حدّ التخصيص المستهجن.

ص: 360

الأمر التاسع :في مقتضى القاعدة الأوّليّة عند عدم المرجّح:

اشارة

لو لم تكن لأحد المتعارضين من ناحية الدلالة مزيّة وتعذّر الجمع العرفيّ، فهل مقتضى القاعدة الأوّليّة هو التساقط - مع قطع النظر عن أخبار الترجيح والتخيير - أم لا؟

بل مقتضى القاعدة الأوّليّة عدم سقوطهما، بل لابدّ من الجمع بينهما ولو بنحوٍ من التأويل.

والكلام في هذه المسألة يقع في مقامين: الأوّل: بناءً على الطريقيّة. والثاني: بناءً على السببيّة.

أمّا المقام الأوّل:

فحيث إنّ مضمونها ومؤدّاهما لا يمكن أن يكون مجعولاً جمعاً؛ لكونه من اجتماع الضدّين أو النقيضين مطابقةً أو التزاماً، فلا يمكن أن يكون كلاهما طريقاً وكاشفاً عن الحكمالواقعيّ، فمع العلم بأنّهما ليسا بمجعولين جمعاً كيف يمكن أن يقول أحد بأنّ كليهما - جمعاً - طريق.

وحاصل الكلام: أنّه بناء على الطريقيّة، فكلّ واحدٍ منهما ليس حجّة في خصوص مؤدّاه. وأمّا بالنسبة إلى نفي الحكم الثالث، فإن كان التعارض بينهما من جهة تنافي مؤدّاهما وعدم إمكان اجتماعهما؛ لاستلزامه اجتماع الضدّين أو النقيضين، فهما يشتركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة، فإذا ورد روايتان مفاد إحداهما وجوب صلاة الجمعة، ومفاد

ص: 361

الأُخرى استحبابها، فهما مشتركان في نفي الكراهة والحرمة والإباحة بالدلالة الالتزاميّة، فالمدلول المطابقيّ لإحداهما الوجوب، وللأُخرى الاستحباب، إذ لازم كونه واجباً، وكذلك مستحبّاً، أنّه ليس محكوماً بسائر الأحكام الخمسة.

فإن قلت: دلالة الجملة على المعنى الالتزاميّ فرع دلالتها على المعنى المطابقيّ، وفي المقام، ليس الخبران حجّة بالنسبة إلى مدلولهما المطابقيّ؛ لسقوطهما عن الحجّيّة بالنسبة إليه، كما هو المفروض.

قلنا: إنّ تبعيّة دلالة اللّفظ والكلام على مدلوله الالتزاميّ لدلالته عن مدلوله المطابقيّ في عالم الوجود، لا في عالم الحجّيّة، فيمكن التفكيك في عالم الحجّيّة بعد وجودهما معاً لوجود محذور في حجّيّة إحداهما دون الأُخرى، كما في المقام؛ لأنّه في المثل المذكور لكلّ واحدٍ منهما دلالة مطابقيّة، وهي دلالتهما في نفس مؤدّاهما من الوجوب في إحداهماوالاستحباب في الأُخرى. والأُخرى التزاميّة، وهي دلالة كلٍّ منهما على نفي غير مؤدّاهما، فبالنسبة إلى نفي غير مؤدّى الاثنين كلاهما مشتركان فيها، بخلاف حجّيّة دلالتهما المطابقيّة؛ فإنّ فيها استلزام اجتماع الضدّين أو النقيضين، ولأجل ذلك يقع التفكيك في الحجّيّة بين الدلالتين.

وأمّا إذا كان التعارض بينهما لأجل دليلٍ خارجيٍّ على أنّ كلا المؤدّيين غير مجعول من دون أن يكون بين نفس المؤدّيين - من حيث أنفسهما - تضادّ أو تناقض، كما في الروايتين الواردتين في صلاة يوم الجمعة، حيث

ص: 362

إنّ إحداهما تدلّ على وجوب صلاة الجمعة في يومها، والأُخرى على وجوب صلاة الظهر فيه.

وليس بينهما تضادّ وتنافٍ في أنفسهما، ولكن من جهة وجود دليلٍ خارجيّ على عدم مجعوليّتهما جميعاً يقع بينهما التعارض.

ففي مثل هذا القسم لا يدلّان إلّا على إثبات مؤدّاهما من دون دلالتهما على نفي حكمٍ آخر، بل كلّ واحدٍ منهما يدلّ على مؤدّاه، أي: وجوب صلاة الظهر - مثلاً - أو وجوب صلاة الجمعة، فلو سقطا بالتعارض واحتملنا وجوب صلاة أُخرى في ذلك اليوم لا مانع من إجراء البراءة.

نعم، لو علمنا بوجوب صلاةٍ في ذلك اليوم، والتعارض وقع في تعيين ذلك الواجب، فأحد الدليلين كان مفاده أنّ الصلاة الواجبة في يوم الجمعة - مثلاً - هي خصوص صلاة الجمعة، وكان مفاد الدليل الآخر أنّ الصلاة الواجبة المعلوم وجوبهافي يوم الجمعة هي إمّا صلاة الظهر وإمّا صلاة الجمعة، فلو تساقط الدليلان بالتعارض لا يمكن إجراء البراءة، بل لابدّ من الاحتياط بالجمع بين الصلاتين، أي: صلاة الظهر وصلاة الجمعة، من باب لزوم الاحتياط ووجوب الموافقة القطعيّة في أطراف العلم الإجماليّ، ومثال ورود الروايتين اللّتين تدلّ إحداهما على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة والأُخرى على وجوب صلاة الظهر من هذا القبيل.

هذا كلّه بناءً على الطريقيّة.

ص: 363

وأمّا المقام الثاني:

أي: بناءً على السببيّة والموضوعيّة، فهل مقتضى القاعدة - أيضاً - هو تساقطهما، أو لا، بل مقتضى الأصل هو التخيير؟

فنقول: السببيّة والموضوعية على أربعة أقسام:

الأوّل: هو كون الأحكام الواقعيّة تابعةً لآراء المجتهدين، وليس هناك في الواقع أحكام واقعيّة محفوظة بحيث قد يصيب المجتهد ويصل إليها بواسطة الأمارات والأدلّة، وقد يخطئ، ولذا سمّوا ﺑ «المصوّبة»؛ لأنّه بناءً على هذا المسلك الباطل لا يمكن وقوع الخطأ في اجتهاداتهم، وهذا هو التصويب الأشعريّ المحال.

الثاني: أن تحدث في مؤدّى الأمارات والاُصول بواسطة قيامهما على الحكم الشرعيّ مصلحة أو مفسدة تكون غالبة على المصلحة أو مفسدة الواقع، فيكون الحكم مجعولاً على طبقهما دون الواقع، فيكون الحكم الواقعيّ الفعليّ هو مؤدّىالأمارات والاُصول، ويبقى الحكم الواقعيّ الأصليّ في مرتبة الشأن، وهذا هو التصويب المعتزليّ، وليس بمحال، ولكنّ الإجماع منعقد على خلافه، وإن كان يظهر كلام جماعةٍ قبول هذا القسم.

الثالث: هو القول بالمصلحة السلوكيّة.

الرابع: هو ما عن المحقّق العراقي(قدس سرّه) من أنّ متعلّقات وموضوعات الأحكام لها مصالح ومفاسد في الرتبة السابقة على الجهل بتلك الأحكام،

ص: 364

وهي مناطات الأحكام الواقعيّة، ولها مصالح ومفاسد في الرتبة المتأخّرة عن الجهل بها، وهي مناطات الأحكام الظاهريّة.

والفرق بين هذا القسم وبين القسم الثاني، وهو السببيّة المعتزليّة، أنّه في القسم الثاني تنكسر المصالح والمفاسد الواقعيّة، فلا تقتضي جعلاً على طبقها، فليس في البين إلّا تلك الأحكام الظاهريّة.

وأما في هذا القسم، فلكلّ متعلّق وموضوع جُعل حكمان: واقعيّ وظاهريّ، ولا تناقض ولا تضادّ في البين؛ لاختلاف الرتبة بين الحكمين، فلا الحكم الواقعيّ ينزل إلى رتبة الحكم الظاهريّ، ولا الحكم الظاهريّ يصعد إلى رتبة الحكم الواقعيّ، بل كلّ منهما يقف على موضوعه، وقد تقدّم وجه البطلان في مسألة الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، وذكرنا هناك أنّ الحكم الظاهريّ ولو لم يصعد إلى رتبة الحكم الواقعيّ، إلّا أنّ الحكم الواقعيّ بإطلاقه يشمل حتىمرتبة الظاهر، وينزل حتى إلى تلك المرتبة، فيحصل منه اجتماع للضدّين.

ثمّ لا يخفى: أنّ مقتضى القاعدة بناءً على السببيّة التصويبيّة بكلا قسميها، أي: الأشعريّة والمعتزليّة، بل حتى بناءً على السببيّة المخطّئة - وهي التي قال بها المحقّق العراقي(قدس سرّه) - هو التخيير؛ لأنّه لو فرض أن الأخبار كانت على نحو السببيّة، وكان في كلّ واحدٍ منها ملاك ومصلحة، فالعقل يحكم بالامتثال بمقدار القدرة، وهو أن يمتثل أحدهما في ظرف عدم امتثال الآخر.

ص: 365

أمّا إذا كانت إحدى الأمارتين تثبت حكماً، والأُخرى تنفي ذلك الحكم، بحيث تكون الأمارتان مختلفتين في الإيجاب والسلب، ويكون الجمع بين مفاديهما من قبيل الجمع بين النقيضين، لا الضدّين، فلا يمكن القول بالتخيير، بعد أن كان مفاد إحدى الأمارتين هو رفع مؤدّى الأُخرى، بل من جهة أنّ أحد الملاكين، ملاك الحرمة أو ملاك الوجوب، غير موجود، فلا وجه للقول بالتخيير حينئذٍ.

وأمّا السببيّة بمعنى أن تكون المصلحة في سلوك الأمارة:

فربّما يقال: بأنّ مقتضى الأصل - أيضاً - هو التخيير؛ لأنّ في سلوك كلٍّ من الطريقين المتعارضين مصلحة يجب استيفاؤها مع الإمكان. ولكن حيث لا يمكن سلوك كليهما؛ لأنّه مستلزم لاجتماع الضدّين أو النقيضين، فالعقل يحكم بلزوم استيفاء إحدى المصلحتين لأنّه ممكن، وهذا هو التخيير.ولكنّ الحقّ: أنّ المصلحة السلوكيّة - بناءً على القول بها - تعني أنّ المولى يجعل مصلحةً في الطريق لأجل ما فات العبد من مصلحة الواقع بسبب جعل هذه الأمارة حجّة وطريقاً، فإذا سقطت طريقيّته بواسطة التعارض، فليس هناك طريق حتى يكون لسلوكه مصلحة، فليس هناك مصلحة سلوكيّة في البين حتى تكون مستدعيةً لحكم العقل بالتخيير.

وخلاصة الكلام: أنّه بعد ما عرفنا أنّ التزاحم الموجب للتخيير على تقدير عدم كونه مختصّاً بمورد الحكمين المتزاحمين، فهو لا يثبت إلّا

ص: 366

بين المصلحتين المتزاحمتين، اللّتين لا يمكن استيفائهما معاً، ولكن يمكن استيفاء أحدهما غير المعيّن. وهذا لا يأتي في محلّ الكلام، حيث إنّ المتعارضين سقطا عن الطريقيّة، فليس في سلوكهما مصلحة حتى يحكم العقل بالتخيير في استيفاء أيّهما شاء.

الأمر العاشر :حكم الخبرين بعد أن كان مقتضى الأصل تساقطهما:

اشارة

لا يخفى: أنّ ما قلناه من سقوط الخبرين المتعارضين كان بمقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة، وإلّا، فبمقتضى الأخبار العلاجيّة المستفيضة، بل المتواترة، في هذا الباب، فلا إشكال في عدم التساقط إذا لم يكن لأحدهما مرجّح أو مزيّة، بل كانا متكافئين من جميع الجهات.

نعم، اختلفت آراء الأصحاب بعد ذلك على أقوالٍ عدّة:الأوّل: وهو المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع، وهو الحكم بالتخيير والأخذ بأيّهما شاء.

والثاني: التوقّف في الفتوى والعمل بما يوافق الاحتياط، ولو كان الاحتياط مخالفاً لهما، كالجمع بين القصر والإتمام إذا تعارضت الأدلّة بالنسبة إليهما. والمراد من التوقّف في الفتوى أن يتوقّف في الفتوى على طبق أحدهما.

الثالث: العمل بما يطابق منهما الاحتياط، فإن لم يكن فيهما ما يطابق الاحتياط فلابدّ من التخيير بينهما.

ص: 367

ومنشأ هذا الاختلاف في الآراء هو اختلاف الأخبار، فلابدّ من النظر فيها للوقوف على أصحّ الأقوال، بعدما عرفنا أنّ القاعدة الأوّليّة بحكم العقل هي التساقط، فكيف يمكن القول بعدم تساقطهما حينئذٍ، بل كيف يصحّ القول بالتخيير بينهما مع وجود منافاة ظاهرة بين الحكم بالتساقط وبين الحكم بالتخيير.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّه لو فرض قيام الإجماع أو ورود الأخبار بعدم تساقط المتعارضين، فإنّ هذا يكون كاشفاً عن جعل جديدٍ لحجّيّة أحد الخبرين بالفعل لا على التعيين، وذلك لا يتنافى مع ما قلناه سابقاً من تساقط المتعارضين بناءً على الطريقيّة؛ لأنّ حكمنا بالتساقط إنّما كان من جهة عدم قصور أدلّة حجّيّة الأمارة عن شمولها للمتعارضين أو لأحدهما لا على التعيين.ولكن لا يضرّ في ذلك أن يرِد دليل خاصّ يتضمّن بيان حجّيّة أحدهما غير المعيّن بجعلٍ جديد، لا بنفس الجعل الأوّل الذي تتضمّنه الأدلّة العامّة.

وهذا لا يستلزم القول بكون الأمارة مجعولة على نحو السببيّة؛ لأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان عدم التساقط باعتبار الجعل الأوّل الذي تتضمّنه الأدلّة العامّة.

وبعبارة أُخرى: لو كنّا نحن وتلك الأدلّة العامّة الدالّة على حجّيّة الأمارة، فإنّه لا يبقى دليل لنا على حجّيّة أحد المتعارضين؛ لقصور

ص: 368

تلك الأدلّة عن شمولهما لهما، فلابدّ أن نحكم بعدم الحجّيّة لكليهما معاً.

ولكن بعد فرض ورود دليل خاصّ في صورة التعارض بالخصوص على حجّيّة أحدهما، فلابدّ من الأخذ به، ويدلّ على أنّ أحدهما حجّة بجعل جديد.

وعلى هذا، ومع أنّ التعارض بناءً على القاعدة الأوّليّة موجب للتساقط، إلّا أنّ الذي يستفاد من هذا الدليل الخاصّ هو قاعدة ثانويّة مجعولة من قبل الشارع.

وأمّا التخيير، فلا يمكن أيضاً استفادته من الأدلّة العامّة لأنّه لا نفهم منها لا المعذّريّة والمنجّزيّة، بل يجوز ترك العمل بهما معاً، وإن استلزم مخالفة الواقع؛ إذ لا منجز للواقع بالمتعارضين بمقتضى هذه الأدلّة العامّة.

وأمّا بالنسبة إلى الدليل الخاصّ والجعل الجديد فإنّه يكشف عن أنّ كلّ واحدٍ من المتعارضين منجّز للواقع على تقدير إصابته له، ومعذّر للمكلّف على تقدير خطئه، فلا يجوزللمكلّف ترك العمل بكليهما معاً؛ لأنّه لو تركهما فلا منجّزيّة لأحدهما غير المعيّن ولا معذّريّة، فلا يكون له معذّر عندئذٍ في مخالفة الواقع، مع أنّه لو أخذ أحدهما وخالف الواقع كان معذوراً، فهو مخيّر في الأخذ بأحدهما، فإن صادف الواقع فقد تنجّز به، وإن خالف الواقع كان معذوراً.

ص: 369

فإذا اتّضح ذلك، نقول:

اعلم أنّ أخبار الباب على أقسام:

منها: ما يدلّ على التخيير مطلقاً.

ومنها: ما يدلّ على التخيير في صورة التعادل.

ومنها: ما يدلّ على التوقّف.

ونشير فيما يلي إلى بعض هذه الأخبار:

1- خبر الحسن بن جهم عن الرضا(علیه السلام) قال: «قلتُ: يجيئنا الرجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين، ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(1).

وهذا الحديث يدلّ على التخيير بين المتعارضين مطلقاً، من دون تقييد ولا اشتراط بشيء، ولكنّ صدر هذه الرواية الذي لم نذكره دالّ على عرضهما على الكتاب والسنة أوّلاً، فهي دالّة على أنّ التخيير إنّما هو بعد فقدان المرجّح، ولو في الجملة.فذيل الحديث يقيّد بالصدر؛ لأنّ ما ورد فيه أنّ التخيير إنّما يرد بعد فقدان المرجّح، حيث قيّده بالعرض على الكتاب والسنّة.

2- خبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث، وكلّهم ثقة، فموسّع عليك حتى ترى القائم(علیه السلام) فتردّ

ص: 370


1- وسائل الشيعة 27: 121 - 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح40.

إليه»(1).

ويمكن أن يقال: بأنّ هذه الرواية - أيضاً - تدلّ على التخيير مطلقاً في زمان عدم التمكّن من الوصول إلى الإمام(علیه السلام)، إلى زمان التمكّن منه(علیه السلام).

ولكنّها واردة في فرض التمكّن من لقاء الإمام والأخذ منه، فلا يمكن التمسّك به، لعدم العلم بشموله لزمان الغيبة؛ فإنّ الرخصة في التخيير في المدّة القصيرة لا تستلزم الرخصة في التخيير أبداً، ولا تدلّ عليها.

3- ذيل مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) أنّه قال: «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(2). فقد دلّت هذه الرواية على التوقّف في زمان الحضور والتمكّن من الوصول إليهم(. وهي ظاهرة في أنّه بعد فقد المرجّحات يجب التوقّف عند التعادل.4- منها مكاتبة علي بن عيسى كتب إليه(علیه السلام) يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك(علیهم السلام)قد اختلف علينا فيه... فكتب(علیه السلام): «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردّوه إلينا»(3).

فقد يستفاد منها: أنّها دالّة على التوقّف مطلقاً، سواء كان في حال

ص: 371


1- وسائل الشيعة 27: 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح41.
2- تهذيب الأحكام 6: 302 - 303، باب من الزيادات في القضايا والأحكام، ح 52.
3- وسائل الشيعة 27: 119 - 120، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح36.

الحضور أم في حال الغيبة.

ولكن فيه: أنّ هذه المكاتبة خارجة عن محلّ البحث؛ إذ هي ليست ظاهرةً في التوقّف، بل ظاهرها: أنّه لابدّ من الأخذ بالخبر المعلوم الصدور، وردّ المشكوك إليهم، ولا يجوز العمل به؛ لعدم حجّيّته، فمفادها أجنبيّ عن محلّ البحث.

وعلى هذا الأساس، يتلخّص أنّ أخبار الباب على ثلاث طوائف:

أمّا الاُولى والثانية منها فتدلّان على التخيير مطلقاً، أو مقيّداً بزمان الحضور.

وأمّا الثالثة، فهي تدلّ على التوقّف في حال الحضور.

وليس بين الأُوليين تعارض؛ لما ذكرناه في محلّه من أنّ التقييد إمّا أن يكون في المتخالفين بالسلب والإيجاب، أو فيما إذا أُحرز في المثبتين وحدة المطلوب وأنّ المطلوب هو صرف الوجود.

وأمّا إذا كان المطلوب في المطلق هو الطبيعة المرسلة، فلا وجه للتقييد حينئذٍ. فيقع التعارض بين ما دلّ على التوقّف فيحال الحضور، وما دلّ على التخيير في أيّ زمانٍ مطلقاً، فيتعارضان ويتساقطان، وتكون النتيجة هي الأخذ بالأخبار الدالّة على التخيير مطلقاً، أي: سواء كان في زمان الحضور أم الغيبة، لا في خصوص زمان الغيبة.

5- مكاتبة عبد اﷲ بن محمّد إلى أبي الحسن(علیه السلام): «اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم:

ص: 372

أن صلّهما في المحمل، وروى بعضهم: لا تصلّهما إلّا على الأرض، فأعلمني، كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقّع(علیه السلام): موسّع عليك بأيّةٍ عملْت»(1).

6- جواب مكاتبة الحميري إلى الحجّة(علیه السلام): «في الجواب عن ذلك حديثان: أمّا أحدهما: فإذا انتقل من حالةٍ إلى أُخرى فعليه التكبير. وأمّا الآخر: فإنّه رُوي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية، وكبّر، ثمّ جلس، ثمّ قام، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير. وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى. وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(2).

ولكنّ هذه الرواية مكاتبة، فلا بأس بالأخذ بها إذا كان بنحو التأييد، لا الاستدلال. وهي من جهة الدلالة - أيضاً - غير تامّة، وإن استظهر البعض منها التخيير مطلقاً؛ إذ منالمحتمل قريباً أنّ المراد بيان التخيير في العمل بالتكبير، لبيان عدم وجوبه، وليس لبيان التخيير بين المتعارضين. والدليل على ذلك قوله(علیه السلام): «كان صواباً»، ومعلوم أنّ المتعارضين لا يمكن أن يكون كلاهما صواباً.

7- ومرفوعة زرارة المرويّة عن عوالي اللآلي، وقد جاء في آخرها:

ص: 373


1- وسائل الشيعة 4: 330، الباب 15 من أبواب القبلة، ح8.
2- وسائل الشيعة 27: 121، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح39.

«إذاً فتخيّر أحدهما، فتأخذ به وتدع الآخر»(1).

وهذه الرواية تامّة من ناحية الدلالة؛ لأنّها تدلّ على التخيير بعد فقد المرجّحات وفرض التعادل، لأنّ الفقرة المذكورة قد جاءت بعد ذكر المرجّحات وفرض التساوي من جميع الجهات.

وإنّما الكلام في سندها؛ فإنّها ضعيفة بسبب الرفع، إلّا أن يحصل الاطمئنان بها بعد قبول الأصحاب لها، وإلّا، فهي من أهمّ الأخبار من جهة الدلالة.

8- خبر سماعة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «سألته عن رجلٍ اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمرٍ كلاهما يرويه: أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ فقال(علیه السلام): يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعةٍ حتى يلقاه»(2).فقد استدلّ بقوله: «فهو في سعة» على التخيير مطلقاً، ولكن:

أوّلاً: هذه الرواية لا تدلّ على التخيير المطلق، بل في فرض التمكّن من لقاء الإمام أو كلّ من يخبره عن رأي الإمام بحيث يحصل من إخباره اليقين.

وثانياً: يمكن أن يقال: أنّ الاُولى في هذه الرواية أن يقال بدلالتها على

ص: 374


1- عوالي اللّآلي 4: 133، ح 229.
2- وسائل الشيعة 27: 108، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح5.

التوقّف، لا التخيير، حيث ورد فيها كلمة «أرجئه»، وأمّا عبارة «في سعة»، فهي ظاهرة في التخيير بين الفعل والترك، باعتبار أنّ الأمر في مفروض السؤال يدور بين المحذورين، وهما الوجوب والحرمة، لا التخيير بين الروايتين؛ لأنّ العمل بأحدهما لابدّ منه، وهو لا يعدّ إرجاءً، بل الإرجاء هو ترك العمل بهما معاً، فلا دلالة لهذه الرواية - إذاً - على التخيير بين المتعارضين.

وعن الكليني): أنّه في روايةٍ أُخرى: «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك»(1).

فقد يقال: بأنّها دالّة على التخيير بين المتعارضين على الإطلاق، ولو كانت مذكورة في ذيل تلك الرواية.

ولكنّ الظاهر: أنّها رواية مستقلّة، والدليل على ذلك قوله(علیه السلام): «بأيّهما أخذْتَ من باب التسليم وسعك»، ولو كانت جزءاً من تلك، كان لابدّ أن يقال: «بأيّهما أَخَذَ من باب التسليم».9- وفي عيون أخبار الرضا(علیه السلام) للصدوق، في خبر طويل، جاء في آخره: «فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً، أو بأيّهما شئت، وسعك الاختيار من باب التسليم، والاتّباع، والردّ إلى رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله)»(2).

ص: 375


1- المصدر نفسه: ح6.
2- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 1: 24، باب ما جاء في الحديثين المختلفين، ح 45.

10- خبر سماعة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام)، قُلْتُ: «يَرِد علينا حديثان: واحد يأمرنا بالأخذ به، والآخر ينهانا عنه؟ قال: لا تعمل بواحدٍ منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله. قُلْتُ: لا بدّ أن نعمل بواحدٍ منهما، قال: خذ بما فيه خلاف العامّة»(1).

11- مرسلة صاحب عوالي اللآلي، فإنّه بعد روايته المرفوعة المتقدّمة عن زرارة، قال: «وفي روايةٍ أنّه(علیه السلام) قال: إذن فأرجئه حتى تلقى إمامك فتسأله»(2).

وهذه - أيضاً - تامّة دلالةً، ولكنّها غير تامّة سنداً.

ثمّ إنّ ما ورد من إطلاقات التخيير يحمل على المقيّدات، وهو التخيير بعد فقد المرجّحات. فتكون النتيجة هي التوقّف أو الرجوع إلى التخيير بعد فقد المرجّحات.

والحقّ: أن مقتضى القاعدة الأوّليّة هو التساقط، وأخبار التوقّف - مع كثرتها وصحّة بعضها - لا تنافي قاعدة التساقط؛ لأنّ نتيجة الإرجاء والتوقّف لا تزيد على التساقط، بل هي منلوازمه، فتكون أخبار التوقّف على طبق القاعدة. وأمّا أخبار التخيير، فلا يمكنها أن تعارض أخبار التوقّف، وبالتالي: فلا يمكن الخروج بها عن القاعدة.

ص: 376


1- وسائل الشيعة 27: 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح42.
2- عوالي اللّآلي 4: 133.

وقد يقال: بأنّ أدلّة التخيير مطلقة تشمل زمن الحضور وغيره، وأخبار التوقّف مقيّدة به، فالنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فيحمل المطلق على المقيّد، لتكون النتيجة هي التخيير في زمان الغيبة.

ولكنّ الحقّ: أنّ أخبار التوقّف واردة بلسان الإرجاء إلى حين ملاقاة الإمام، ولا يستفاد منها تقييد الحكم بالتوقّف بزمان الحضور؛ لأنّ استفادة ذلك إنّما تكون بدلالة مفهوم الغاية، وقد مرّ في محلّه أنّ الغاية إذا كانت قيداً للموضوع أو المحمول فقط، فلا يكون لها دلالة على المفهوم.

نعم، يفهم منها المفهوم إذا كان التقييد بالغاية راجعاً إلى الحكم. والغاية فيما نحن فيه غاية لنفس الإرجاء، لا لحكمه، وهو الوجوب، أي: أنّ نفس الإرجاء هو المغيّى، لا الوجوب المتعلّق به.

والحاصل: أنّه لا يفهم من أخبار التوقّف إلّا أنّه لا يجوز الأخذ بالأخبار المتعارضة المتكافئة، ولا العمل بواحدٍ منها، وإنّما يُحال الأمر في شأنها إلى الإمام، ويؤجّل البتّ فيها إلى ملاقاته لتحصيل الحجّة على الحكم بعد السؤال عنه.

وبناءً على هذا، فالأخبار المتعارضة لا تصلح لإثبات الحكم، ولا يجوز الفتوى والعمل بأحدها، ويكون الأمر - حينئذٍ - منحصراً بملاقاة الإمام(علیه السلام) والسؤال عنه، فلو لمتحصل الملاقاة، لغيبة الإمام - مثلاً -، فلا يجوز الإقدام على العمل بأحد المتعارضين.

وعليه: فيكون بين هذه الأخبار وبين أخبار التخيير تباين، لا عموم

ص: 377

وخصوص، فتتعارض وتتساقط، وتكون أخبار التوقّف، كما أشرنا، مطابقةً للقاعدة.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ من شروط التعارض أن يكون كلّ منهما حائزاً على شرائط الحجّيّة، والتعارض بينهما إنّما يتصوّر بعد فقد المرجّحات، فحجّيّة كلّ واحدٍ منهما متوقّفة على عدم كون الآخر راجحاً؛ إذ لا تعارض بين الحجّة واللّاحجّة، والمرجوح ليس بحجّة فعليّة.

فكما أنّ الواجب في باب الاُصول العمليّة هو الفحص عن الدليل في مورد الشكّ في الحكم الشرعيّ، فإذا لم يظفر بالدليل تصل النوبة إلى الاُصول العمليّة؛ لأنّ اعتبار الأصل العمليّ وحجّيّته متوقّف على عدم الدليل على الحكم الشرعيّ، فيجب أن يفحص أوّلاً لإثبات ما هو موضوع الحجّة، فكذلك في مورد البحث، فإنّ الواجب هو الفحص أوّلاً لإثبات ما هو الحجّة، فيبحث عن المرجّحات، وما يرجّح الحجّة على الأُخرى، ولو أنّ كلّ واحدة منهما في حدّ نفسها هي حجّة، وذلك من جهة أنّ التخيير إنّما يتصوّر بمعنى الأخذ بأيّة واحدةٍ من الروايتين المتعارضتين بعد فقد المزايا، فالفحص عن وجود تلك المزايا إنّما يرجع في حقيقته إلى الفحص عن الحجّة.وينبغي أن يُعلم: أنّ الأخبار التي تدلّ على التخيير لا تشمل اختلاف النسخ؛ لأنّ ظاهر قوله: «يأتي عنكم الخبران المتعارضان أو المختلفان»،

ص: 378

أو قوله: «يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين» هو أن يكون هناك روايتان وحديثان يرويان عن الإمام(علیه السلام)، وكلّ واحدٍ منهما يناقض الآخر بالدلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة، واختلاف النسخ ما هو إلّا عبارة عن أنّ هناك خبراً واحداً معيّناً، هو إمّا هذا أو ذاك، أي: إمّا الموجود في هذه النسخة أو ذاك الذي في تلك.

ثمّ هل المراد من التخيير هو التخيير في العمل أو التخيير بالأخذ بإحدى الروايتين باعتبار أنّها حجّة؟

الظاهر: أنّ المراد من التخيير المستفاد من الروايات هو التخيير في المسألة الاُصوليّة، أي: التخيير في الأخذ بإحدى الروايتين بعنوان أنّهاحجّة، لا التخيير في المسألة الفرعيّة، بمعنى: كونه مخيّراً في العمل على طبق أيّة واحدةٍ شاء؛ وذلك لأنّ الظاهر من قوله(علیه السلام): «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» أنّ المراد من الأخذ بأيٍّ منهما هو الأخذ بما هو حجّة، لا مجرّد العمل على طبقه.

ويمكن أن يكون المراد من قوله(علیه السلام) «إذاً فتخيّر» هو ذلك - أيضاً -، فإنّه ظاهر في أنّ المراد من الأخذ هو الأخذ بأحدهما الذي يكون حجّة، لا صرف أنّك مخيّر في العمل على طبق أحدهما.نعم، قوله(علیه السلام): «فموسّع عليك»، ولو كان له ظهور في أنّ متعلّق التوسعة هو العمل، ولكنّه قابل للتأويل، بأن يكون المتعلّق هو الأخذ بإحداهما طريقاً إلى العمل.

ص: 379

وإذا عرفت ذلك، فهل هناك ثمرة في القول بكون التخيير بمعنى الأخذ بما هو حجّة، حتى تكون المسألة اُصوليّة، أو بمعنى التخيير في العمل، حتى تكون فرعيّة؟

قد ذكروا هنا فروقاً بينهما، نعرض عن تفصيلها حذراً من الإطناب والتطويل.

نعم، يبقى حكم الشكّ في أن التخيير هل هو في المسألة الاُصوليّة أو المسألة الفرعيّة؟ فنقول: مرجع الشكّ في المسألة الاُصوليّة إلى الشكّ في بقاء موضوع الاستصحاب؛ وذلك لأنّ موضوع الاستصحاب على تقدير كون التخيير في المسألة الاُصوليّة غير باقٍ قطعاً، وعلى تقدير كونه في المسألة الفرعيّة باقٍ يقيناً. فإذا شكّ في أنّ المسألة هي من أيٍّ من القسمين يكون الشكّ شكّاً في بقاء الموضوع، أي: في بقاء موضوع الاستصحاب.

فصل :في تقييد أدلّة التخيير بأدلّة الترجيح:
اشارة

هل التخيير بعد فقد المرجّحات، أو حتى مع وجودها، نسب إلى المشهور القول بالأوّل، وحُكِي عن بعضٍ القول بالثاني، وهو الحكم بالتخيير مطلقاً، تمسّكاً بإطلاق التخيير، وحينئذٍ: فتحمل أخبار الترجيح على الاستحباب.ولكنّ الصحيح: أنّ هذه الإطلاقات تقيّد بأدلّة الترجيح، كما هي

ص: 380

القاعدة في باب الإطلاق والتقييد، ولا يمكن التمسّك بالإطلاقات مع وجود المقيّد، فلابدّ من الخروج عن إطلاق أدلّة التخيير بظهور أدلّة الترجيح في الوجوب؛ فإنّ المطلق مهما بلغ من الظهور لا يقاوم المقيّد لأظهريّته وحاكمية المقيّد.

ويدلّ على قول المشهور روايات:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة، قال: «سألْتُ أبا عبد اﷲ(علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما - إلى أن قال: - فإن كان كلّ واحدٍ اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حَكَما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: الحكم ما حَكَم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على صاحبه. قال: فقال: ينظر إلى ما كان من رواياتهما عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، - إلى أن قال: - فإن كان الخبران عنكم مشهورين، قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة، قلت: جُعلْتُ فداك، أرأيتَ إن كان الفقيهان عَرَفا حكمه من الكتابوالسنّة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة،

ص: 381

والآخر مخالفاً لهم، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد، فقلت: جُعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذ بالآخر، قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).

ومنها: ما عن الحسن بن الجهم، عن الرضا(علیه السلام)، قال: «قلت: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب اﷲ عزّ وجل وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا، قلت: يجيئنا الرجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين، ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(2).

وعنه - أيضاً - عن العبد الصالح(علیه السلام): قال: «إذا جاءك الحديثان المختلفان، فقسهما على كتاب اﷲ وأحاديثنا، فإن أشبهها فهو حقّ، وإن لم يشبهها فهو باطل»(3).

ومنها: ما رواه القطب الراوندي سعيد بن هبة اﷲ، بسنده الصحيح عن الصادق(علیه السلام)، قال: «إذا ورد عليكم حديثانمختلفان فاعرضوهما على كتاب اﷲ، فما وافق كتاب اﷲ فخذوه، وما خالف الكتاب فردّوه، فإن لم

ص: 382


1- وسائل الشيعة 27: 106 - 107، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح1.
2- وسائل الشيعة 27: 121 - 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح40.
3- وسائل الشيعة 27: 123 - 124، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح48.

تجدوهما في كتاب اﷲ فاعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(1).

ودلالة هذه الروايات على وجوب الترجيح بالمرجّحات المذكورة فيها واضحة لا شكّ فيها.

وأمّا أخبار التخيير، فهي وإن كانت كثيرة وقويّة، وواردة في مقام البيان، إلّا أنّ إطلاقاتها لا تعارض ظهور هذه المرجّحات المذكورة، وأكثر روايات الترجيح جمعاً وإحاطةً بهذه المرجّحات هي المرفوعة، ويليها المقبولة.

وقد أُورد على الاستدلال بكلٍّ منهما لوجوب الترجيح بإشكالات عدّة نذكر منها:

ما قد يستشكل به على المقبولة، وحاصله: أنّ مورد المرجّحات المذكورة إنّما هو الحكمان في الروايتين اللّتين هما مستند حكمهما، وفي ذلك المورد لابدّ من الترجيح لقطع الخصومة؛ إذ مع التخيير لا ترفع الخصومة، ولا ينقطع النزاع.

ولكن قد عرفت أنّ التخيير هنا هو في المسألة الاُصوليّة، أي: في أخذ أحدهما وجعله حجّة، فالترجيح - أيضاً - يكون معناه: أخذ ذي المزيّة حجّة، فإذا كان ما هو الحجّة هو الذي فيه المزيّة، وغيره ليس بحجّة، فلا فرق بين أن يكون المجتهد في مقام الحكم أو مقام

ص: 383


1- وسائل الشيعة 27: 118، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح29.

الفتوى، بل يجب فيكليهما العمل على طبق الحجّة. وأمّا احتمال أنّ الشارع قد جعل ما له المزيّة حجّةً في باب الحكم دون الفتوى فبعيد.

المرجّحات المدّعى أنّها منصوص عليها:
اشارة

ذكرنا آنفاً أنّ من شرائط تحقّق التعارض أن يكون كلّ من الدليلين حجّة وواجداً لشرائط الحجّيّة في حدّ نفسه؛ إذ لا تعارض بين الحجّة واللّاحجّة، فإذا بحثنا عن المرجّحات فمعنى ذلك: أنّنا نبحث عمّا يرجّح الحجّة على الأُخرى، بعد فرض كون كليهما حجّةً في أنفسهما، لا أنّ الكلام عن أصل حجّيّة الحجّة، أو عمّا يميّزها عن اللّاحجّة.

وكيف كان، فالمرجّحات المذكورة في الروايات والمدّعى ورود النصّ بها خمسة:

أوّلها: الترجيح بالأحدث تاريخاً.

الثاني: الترجيح بصفات الراوي.

الثالث: الترجيح بالشهرة.

الرابع: الترجيح بموافقة الكتاب.

الخامس: الترجيح بمخالفة العامّة.

ولابدّ أوّلاً - من التعرّض بالتفصيل لكلّ واحدة من هذه المرجّحات الخمسة:

ص: 384

1) الترجيح بالأحدث:

ورد بالنسبة إلى هذا الترجيح روايات عدّة، نكتفي منها بما رواه الكلينيّ)بسنده إلى أبي عبد اﷲ(علیه السلام): قال: «أرأيتك لو حدّثْتك بحديث العامّ، ثمّ جئتني من قابلٍ فحدّثتك بخلافه، بأيّهما كُنْتَ تأخذ؟ قال: قُلْتُ: كُنْتُ آخذ بالأخير، فقال لي: رحمك اﷲ»(1).

فقد يقال بدلالة هذا الخبر على الترجيح.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا دلالة بها على ما نحن فيه، أي: أنّها لا تدلّ على الترجيح بالأحدث من باب القاعدة العامّة، أي: بالنسبة إلى كلّ مكلّف، وفي جميع العصور؛ لأنّه لا دلالة على محلّ البحث إلّا أن يُفهم منها أنّ الأحدث هو الحكم الواقعيّ، ولكنّها ليست ناظرةً إلى بيان ذلك، بل لعلّ حكمه هذا كان حكماً ظاهريّاً بالنسبة إليه من باب التقيّة، لا حكماً واقعيّاً ووظيفةً عامّةً بالنسبة إلى جميع المكلّفين، وفي جميع الأزمنة، حتى في زمن الغيبة، وعليه: فلا دلالة فيها على مرجّحيّة الأحدثيّة.

2) الترجيح بالصفات:

ورد الترجيح بالصفات في مرفوعة زرارة المتقدّمة الذكر، والتي ورد فيها: «فقلت جُعِلْتُ فداك، يأتي عنكم الخبران أوالحديثان

ص: 385


1- الكافي 1: 67، باب اختلاف الحديث، ح8.

المتعارضان..

إلى أن يقول(علیه السلام): خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك» الخبر..(1).

ولكنّ هذه الرواية مرفوعة، وهي قد وردت في كتاب عوالي اللآلي، وقد طعن صاحب الحدائق) في هذا الكتاب كما في مؤلّفه، إذ قال:

«فإنّا لم نقف عليها في غير كتاب عوالي اللآلي، مع ما هي عليه من الرفع والإرسال، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار، والإهمال، وخلط غثّها بسمينها، وصحيحها بسقيمها»(2)، وعليه: فلا يمكن الاعتماد عليها بحالٍ من الأحوال.

فالعمدة في المقام هي مقبولة عمر بن حنظلة، المتقدّمة - أيضاً -، وفيها: «الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».

وهذه الرواية تلقّاها الأصحاب بالرضا والقبول؛ فإنّ راويها هو صفوان بن يحيى الذي هو من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

وقد يستشكل في الاستدلال بهذه الرواية بأنّها واردة في باب التعارض بين الحكمين، لا الروايتين، كما هو محلّ الكلام.

ص: 386


1- عوالي اللّآلي 4: 133، ح 229.
2- الحدائق الناضرة 1: 99.

ولكن فيه: أنّ الحكم والفتوى في الصدر الأوّل كانا يقعان بنصّ الأحاديث، لا بتعبير من الحاكم أو المفتي، كما هو الحال في العصور المتأخّرة استنباطاً من الأحاديث، ولذا تعرّضت هذه المقبولة للرواية والراوي؛ لمكان ارتباط الرواية بالحكم.

وقد يستشكل في الاستدلال بها - أيضاً -: بأنّ ما يظهر من الرواية أنها مختصّة بالحاكم؛ لأنّ اعتبار شيء في الراوي بما هو حاكم مغاير لاعتباره فيه بما هو راوٍ ومحدّث.

والذي يظهر منها: أنّ ترجيح الأعدل والأورع والأفقه إنّما هو بما هو حاكم، وفي مقام نفوذ حكمه، لا في مقام قبول روايته. ويشهد لذلك أنّها جعلت من جملة المرجّحات كونه (أفقه) في عرض كونه (أعدل) و(أصدق)، وأيّ ربطٍ للأفقهيّة بترجيح الرواية من جهة كونها رواية؟(قدس سرّه)

ولكن مع ذلك، يمكن القول:

بأنّ ذكر وجوب الترجيح بها في مورد الحكمين لا يدلّ على الاختصاص بذلك المورد كما هو الحال في غالب الأخبار، فإنّ السؤال غالباً ما يكون عن الموارد الخاصّة، والإمام(علیه السلام) يجيب بما هو يعمّ المورد وغيره. مع أنّ صدر الرواية وإن كان مختصّاً بالحكمين، ولكنّه بعد ذلك يكون بصدد بيان حكم الروايتين المتعارضتين على نحو الكلّيّة، وفي أيّ مقامٍ كان، لا في خصوص مورد الحكمين.

بل يمكن أن يقال: إنّ الرواية المشتملة على مقاطع يمكن أن يكون كلّ

ص: 387

مقطع منها دالّاً على مورد، بأن يكون مقطعما ناظراً إلى مورد الحكمين - مثلاً -، وآخر ناظراً إلى مورد الروايتين المتعارضتين، ولذا نرى أنّ الرواية انتقلت بعد ذلك إلى الترجيح بالرواية بما هي رواية، معلّلةً لوجوب أخذ المشهور دون الشاذّ بقوله(علیه السلام): «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»، والحكم والفتوى مشتركان في هذا التعليل، ومن هنا، وتمسّكاً بعموم هذا التعليل، تعدّى بعضهم من المرجّحات المنصوصة إلى مطلق المرجّحات، كما سنشرحه إن شاء اﷲ.

3) الترجيح بالشهرة:

لا يخفى: أنّ الشهرة المرجّحة على قسمين: الشهرة العمليّة، والشهرة الفتوائيّة.

والشهرة الفتوائيّة يشترط في تقوية الرواية بالعمل بها أمران:

الأوّل: أن يعرف استناد الفتوى إلى الرواية، ولا يكفي مجرّد مطابقة فتوى المشهور للرواية.

والثاني: أن تكون هذه الشهرة قديمة، أي: واقعة في عصر المعصومين(، أو في العصور اللّاحقة التي تمّ فيها جمع الروايات وتحقيقها، وذلك لقرب ذلك الزمان من زمان الأئمّة، وكون الأصحاب فيه أقدر على معرفة أحوال الرواة.

وأمّا الشهرة في العصور المتأخّرة فيشكل كونها مقوّيةً للعمل بالرواية،

ص: 388

إلّا أن تتّصل بشهرة المتقدّمين.وفي ذلك يقول الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) - ما لفظه -: «وذلك من جهة أنّ المتأخّرين حيث يفتون بالأدلّة العقليّة والاستحسانات، فلا يستكشف من كون فتواهم على طبق الرواية أنّهم استندوا في هذه الفتوى إلى تلك الرواية؛ إذ من الممكن أن يكون مدركهم شيئاً آخر غير هذه الرواية من الظنون والاستحسانات والأدلّة العقليّة»(1).

وهذه الشهرة لم يرد لها أثر في الأخبار بحيث تدلّ على الترجيح بها، إلّا أن يكون بمناط الترجيح بكلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع في مقام التعارض.

وأمّا الشهرة العمليّة - وهي عبارة عن عمل المشهور على طبقها مستنداً إليها في مقام الفتوى - فيقع البحث في أنّها هل تجبر الخبر الضعيف مع قطع النظر عن وجود ما يعارضه أم لا؟

قد يقال بالجابريّة، خصوصاً إذا كانت قديمة؛ لأنّ العمل بالخبر عند المشهور من القدماء ممّا يوجب الوثوق بصدوره. والوثوق هو المناط في الحجّيّة.

وبالعكس من ذلك، فإنّ إعراض الأصحاب عن روايةٍ يكون موجباً لوهنها، وإن كان راويها ثقةً، أو كانت تامّة السند، بل كلّما قوي سند

ص: 389


1- منتهى الاُصول 2: 613.

الرواية، وأعرض الأصحاب عنها، كان إعراضهم هذا أكثر دلالةً على وهنها.ولكنّ الحقّ: أنّه لا دليل على جابريّة هذه الشهرة ولا على كاسريّتها، خلافاً لما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) بقوله:

«ولا شبهة في صحّة الترجيح بهذه الشهرة، بل هي مدار حجّيّة الخبر الضعيف؛ إذ بها ينجبر الضعف ويدخل في موضوع الحجّيّة الذي هو عبارة عن الخبر الموثوق الصدور، فيكون من مرجّحات الصدور، كما عليه المشهور»(1).

وأمّا الشهرة في الرواية - وهي أن تكون الرواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين، مع كون رواتها متعدّدين، خصوصاً إذا كان تعدّد الرواة في كلّ طبقة - فهي من المرجّحات.

بل إنّ الظاهر من قوله(علیه السلام): «خذ بما اشتهر بين أصحابك» هو هذا المعنى من الشهرة. بل دلّت عليه - أيضاً - المقبولة المتقدّمة، في قوله(علیه السلام): «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»؛ إذ المراد من المجمع عليه إنّما هو المشهور، بدليل تعقيب السائل بقوله: «فإن كان الخبران عنكما مشهورين».

وقد يقال: إنّ المسألة لا تكون داخلة في محلّ البحث، بل تكون داخلة

ص: 390


1- المصدر نفسه 2: 612 - 613.

في باب الحجّة واللّاحجّة؛ فإنّ شهرة الرواية في عصر الأئمّة(علیهم السلام)توجب كون الخبر مقطوع الصدور، وعلى الأقلّ، توجب الوثوق بصدوره.

وإذا كان كذلك، فالشاذّ الذي هو معارض له، إمّا أن يكون مقطوع العدم، أو أن يكون موثوقاً بعدمه، فلا تشمله أدلّةحجّيّة الخبر، فتكون ناظرةً إلى تمييز الحجّة عن اللّاحجّة، وقد عرفت أنّه أجنبيّ عمّا نحن فيه.

ولكنّ الحقّ: أنّ الشاذّ المقطوع العدم خارج عن المسألة يقيناً، وأمّا الموثوق بعدمه من جهة حصول الثقة الفعليّة بالمعارضة، فلا يضرّ ذلك في كونه مشمولاً لأدلّة حجّيّة الخبر، ولو لم يكن منوطاً بالوثاقة الفعليّة بخبره. وق-د م-رّ ف-ي مح-لّه، أن-ّه يكفي وثاقة الراوي في الأخذ بخبره، ولا يشترط حصول الظنّ الفعليّ به، ولا عدم الظنّ بخلافه، فيكون مشمولاً لأدلّة حجّيّة الخبر.

4) الترجيح بموافقة الكتاب:

في ذلك روايات عدّة:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة، حيث ورد فيها: «ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة، فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة، قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة، والآخر مخالفاً لهم»... إلخ.

ص: 391

ومنها: خبر الحسن بن أبي الجهم المتقدّم - أيضاً -: فقد جاء في صدره: «قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، قال: ما جاءك عنا فقسْه على كتاب اﷲ عزّ وجل وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا».وقد استشكل صاحب الكفاية في ذلك - بما نصّه -:

«مع أنّ في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظراً، وجهه: قوّة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجّة، بشهادة ما ورد في أنّه زخرف وباطل وليس بشيء، أو أنّه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار...»(1).

ولكنّ الحقّ: أن روايات الباب على قسمين:

فقسم منها في مقام بيان أصل حجّيّة الخبر، لا في مقام المعارضة بغيره، والتعبيرات التي ذكرها في الكفاية مختصّة بهذا القسم.

والقسم الآخر: في مقام بيان ترجيح أحد المتعارضين، وهذه لم تشتمل على مثل تلك التعبيرات التي ذكرها صاحب الكفاية)، كما في كلٍّ من المقبولة ورواية الحسن بن جهم.

والقسم الأوّل: يُحمل على المخالفة لصريح الكتاب؛ لأنّه هو الذي يصحّ أن يقال فيه: إنّه زخرف وباطل ولم نقله، ونحو ذلك.

ص: 392


1- كفاية الاُصول: ص 444.

وأمّا القسم الثاني: فيحمل على المخالفة لظاهر الكتاب، لا لنصّه، وهذه المخالفة - كما ورد في المقبولة - تكون بعد أن يكون كلّ واحدٍ من الخبرين حجّة ومشهوراً، وقد روى كلاً منهما الثقات، ثمّ فَرَض السائل موافقتهما معاً للكتاب بعد ذلك، وذلك بقوله: «إذا كان الفقيهان عرفا حكمهمن الكتاب والسنّة»، وهذا لا يتصوّر إلّا أن يكون كلّ واحدٍ موافقاً للظاهر، وإلّا، لزم وجود نصّين متباينين في الكتاب.

وكذلك ورد في خبر الحسن المتقدّم: «فإن كان يشبههما فهو منّا»، فإنّ التعبير بكلمة «يشبههما» يدلّ على أنّ المقصود هو الموافقة والمخالفة للظاهر.

5) الترجيح بمخالفة العامّة:

يستفاد هذا الترجيح من المقبولة المتقدّمة، حيث إنّها ظاهرة في أنّ الترجيح بين الخبرين - بعد فرض حجّيّتهما في أنفسهما - هو بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة.

التعدّي من المرجّحات والمزايا المنصوصة:

ثمّ هل لابدّ من الاقتصار على المرجّحات المنصوصة أو يجوز التعدّي إلى غيرها؟

وجهان، بل قولان.

ص: 393

أقربهما: وجوب الاقتصار عليها؛ لأنّ إطلاقات باب التخيير لابدّ من الأخذ بها إلّا في مورد قام الدليل على تقييدها، وقيام الدليل على تقييدها إنّما ورد بالنسبة إلى المرجّحات المنصوصة فقط، فهي تقيّد تلك المطلقات؛ لأنّ أصالة الظهور في جانب المقيّدات تكون حاكمة على أصالة الظهور في طرف الإطلاقات، فتقدّم عليها، وتقيّد الإطلاقات بها.وأمّا المرجّحات غير المنصوصة، فلم يقم عليها دليل حتى تقدّم على المطلقات.

نعم، ذكروا بعض الاُمور في الأخذ بالمرجّحات غير المنصوصة:

منها: الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة، والأوثقيّة في المرفوعة، فإنّ مناط الترجيح بهما إنّما هو من جهة الأقربيّة إلى الصدور. فكلّ موردٍ يتحقّق فيه هذا المناط يكون موجباً للترجيح، سواء كان من المرجّحات المنصوصة أم من غيرها.

ولكن فيه: أنّا لا سبيل لنا إلى العلم بهذه المناطات، فليس إلّا مجرّد الظنّ بالمناط، أي: بأنّ الأقربيّة إلى الصدور - مثلاً - هو المناط، وهو لا يغني من الحقّ شيئاً.

نعم، لو كان المناط مقطوعاً، فحجّيّته معلومة بالضرورة، فنأخذ به، ولعلّ الترجيح بهما يكون لخصوصيّة فيهما، لا لمجرّد كونهما أقرب إلى الصدور من الفاقد لهاتين الصفتين.

ومنها: التعليل الوارد في الأخذ بما يخالف العامّة، وهو: أنّ الرشد

ص: 394

في خلافهم.

ومنها: أنّ مخالفة العامّة لأحد الخبرين المتعارضين مع موافقة الآخر لهم مثل كون أحدهما موافقاً للكتاب وكان الآخر مخالفاً له ممّا يوجب الاطمئنان بصدور الموافق وعدم صدور المخالف في الموردين. فإذا حصل الاطمئنان بصدور أحدهما المعيّن مع عدم الاطمئنان بعدم صدور الآخر - منأيّ سببٍ حصل - يكون مرجّحاً؛ لأنّ الاطمئنان أمر عقلائيّ لازم الاتّباع.

نعم، إذا حصل الظنّ غير الاطمئنانيّ بالصدور، فلا يكون حجّة إذا كان من غير المزايا المنصوصة.

ومنها: قوله(علیه السلام) - في مقام الترجيح بالشهرة بالأخذ بالمشهور وترك الشاذّ النادر -: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»؛ فإنّ تعليله(علیه السلام) بعدم الريب فيه يدلّ على مرجّحيّة كلّ شيء يكون موجباً للأقربيّة وعدم الريب إذا كان فيه مزيّة بالنسبة إلى مقابله، ويكون الترجيح دائراً مدار هذا التعليل، فكلّ مزيّة كانت سبباً لعدم الريب بالنسبة إلى ما ليس له مثل هذه المزيّة يكون مرجّحاً بحكم هذا التعليل.

وليس المراد به نفي الريب بقولٍ مطلق حتى يكون مساوقاً للعلم بالصدور، ليكون خارجاً عن محلّ البحث؛ لأنّه لو كان كذلك يدور الأمر بين الحجّة واللّاحجّة، ومحلّ البحث إنّما هو فيما إذا كان كلاهما حجّة، بل المراد بنفي الريب نفي أقلّيّة الريب النسبيّ، كما إذا كان أحدهما

ص: 395

مشهوراً بين المحدّثين، فإذا كانت هذه هي العلّة يمكن التعدّي إلى المزايا والمرجّحات غير المنصوصة.

ولكنّ الحقّ: أنّ الظاهر من (لا) النافية للجنس هو نفي الريب بقولٍ مطلق، أو فقل: نفي الريب بجميع مراتبه، لا أنّه منفيّ بالنسبة، وهذا كناية عن حصول الاطمئنان بصدوره بواسطة الشهرة، ويكون هذا إشارة إلى أنّ المزايا الموجبة للاطمئنان بصدور ذي المزيّة مرجّحاً، ولو لم تكن من المزاياالمنصوصة، لا أنّه يكون سبباً للتعدّي إلى كلّ المزايا ولو لم تكن كذلك، حصل الاطمئنان بها أم لم يحصل.

وخلاصة القول: أنّ مقتضى الأصل الأوّليّ وإن كان عبارة عن تقديم كلّ ذي مزيّة؛ للقطع بحجّيّته؛ لأنّه إمّا أن يكون حجّةً تخييراً أو تعييناً، بخلاف ما ليس فيه المزيّة، إلّا أنّه لمّا وردت أخبار التخيير منعت من وصول النوبة إلى هذا الأصل، فحينما يقول(علیه السلام) في مقام الجواب عن السؤال عن العمل بأيّ واحدٍ من المتعارضين: «موسّع عليك»، أو قوله(علیه السلام): «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك»، أو غيرهما من الروايات، فلا يبقى مجال لهذا الأصل أصلاً.

نعم، لو جاء الدليل، وكان مقيِّداً لهذه الإطلاقات، كما هو كذلك بالنسبة إلى المرجّحات المنصوصة، فتقيَّد تلك الإطلاقات؛ لأنّ أصالة الظهور في طرف القيد حاكمة على أصالة الظهور في طرف الإطلاق.

ص: 396

نعم، بالنسبة إلى المزايا غير المنصوصة، فليس هناك شيء في البين يكون سبباً لتقييد تلك المطلقات؛ لأنّه ليس هناك دليل على حجّيّة تلك المقيّدات، ولا يمكن التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها؛ لعدم العلم بالمناط.

أقسام المرجّحات المنصوصة:

المرجّحات المنصوصة على أقسام؛ لأنّ:بعضها راجع إلى الصدور، ككون الرواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين، أو كصفات الراوي، من الأوثقيّة والأعدليّة والأصدقيّة.

وبعضها راجع إلى جهة الصدور؛ ككون الإمام(علیه السلام) في مقام بيان الحكم الواقعيّ، لا أنّه في مقام التقيّة وستر الحكم الواقعيّ خوفاً من الأعداء، وذلك كمخالفة أحد المتعارضين للعامّة.

وبعضها راجع إلى جهة المضمون، ومفاده أنّه حكم اﷲ، كموافقة الكتاب.

فإذا عرفت ذلك، فهل كلّ واحدٍ من هذه الأنواع مرجّح في عرض الآخر، بحيث لو كان أحدها لخبر، وآخر في خبر آخر، فلابدّ من دخول المسألة في باب التزاحم، ويلزم الرجوع إلى مرجّحاته، وتقديم أقواهما مناطاً؟ أم لا، بل هي مترتّبة في مقام الترجيح، فبعض الأنواع مقدّم على بعض آخر؟

ص: 397

في ذلك خلاف بين الأعلام.

وها هنا خلافان:

الأوّل: في أنّها هل هي مترتّبة أو عرضيّة؟

والثاني: بعد الفراغ عن أنّها ليست عرضيّة، بل مترتّبة، وقع الخلاف في أنّ المرجّح الجهتيّ مقدّم على السنديّ أو العكس؟

أمّا الخلاف الأوّل: فقد ذهب صاحب الكفاية(قدس سرّه) إلى أنّها عرضيّة، ولا ترتيب بينها بناءً على التعدّي من المرجّحاتالمنصوصة إلى غيرها؛ إذ بناءً على التعدّي يكون مناط الترجيح بشيءٍ هو أن يكون ذلك الشيء موجباً لأقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع، فإذا كان لكلّ واحدٍ من المتعارضين مزيّة توجب أقربيّته إلى الواقع فيقع التزاحم بينهما، ويقدّم ما هو الأقوى مناطاً، ولو لم يكن أحدهما أقوى، فالمرجع إلى إطلاقات التخيير. وأمّا لو لم نقل بالتعدّي، فلكونها مرتّبةً وجه، وترتيبها - حينئذٍ - هو الترتيب المذكور في الروايات.

وإليك نصّ ما أفاده رحمة الله:

«ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات لو قيل بالتعدّي وإناطة الترجيح بالظنّ أو بالأقربيّة إلى الواقع؛ ضرورة أنّ قضيّة ذلك تقديم الخبر الذي ظنّ صدقه أو كان أقرب إلى الواقع منهما، والتخيير بينهما إذا تساويا، فلا وجه لإتعاب النفس في بيان أنّ أيّهما يقدّم أو يؤخّر، إلّا تعيين أنّ أيّها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر.

ص: 398

وأمّا لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة، فله وجه؛ لما يتراءى من ذكرها مرتّباً في المقبولة والمرفوعة»، انتهى موضع الحاجة(1).

وإن شئت قلت: إنّ استنباط الحكم الواقعيّ من الرواية متوقّف على اُمور ثلاثة، وهي: أصالة الصدور، وأصالة جهة الصدور، وأصالة الظهور.والمتكفّل للأوّل هو أدلّة حجّيّة خبر الواحد، كآية النبأ وغيرها.

وأمّا المتكفّل لإثبات أصالة جهة الصدور فهو بناء العقلاء على أنّ كلّ متكلّم هو بصدد بيان مراده الواقعيّ، لا أنّه يتكلّم خوفاً أو تقيّةً.

وأمّا الثالث، فيتكفّل به - أيضاً - بناء العقلاء وسيرتهم المنعقدة على أنّ الظاهر من الكلام هو ما يكون مراد المتكلّم في مقام الفهم والتفهيم وعامّة المحاورات.

وأصالة الصدور أصل تعبّديّ، مدركه حجّيّة خبر الواحد، وإن كان المدرك له هو بناء العقلاء أيضاً وسيرتهم القائمة على قبول خبر الثقة، وقد أمضى الشارع المقدّس هذه الطريقة، فهي - أيضاً - تكون من الاُصول العقلائيّة، ولكنّ اصطلاحهم عدّ هذا الأصل من جملة الاُصول التعبّديّة.

وكيف كان، فسواء كانت من الاُصول العقلائيّة أم من الاُصول التعبّديّة غير العقلائيّة، فإنّ رتبتها تكون متقدّمة على رتبة الأصلين الآخرين، أعني: أصالة الظهور، وأصالة جهة الصدور؛ وذلك لأنّ ظهور الجملة

ص: 399


1- كفاية الاُصول: 453 - 454.

في كونه مراداً للمتكلّم، ومثله كون المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ، لا في مقام الخوف من الأعداء والتقيّة، واقعان في الرتبة المتأخّرة عن صدور الكلام عن المتكلّم؛ لأنّ مجرى الأصلين الآخرين إنّما هو الكلام الصادر المسلّم بحجّيّته.

ثمّ هل هناك ترتيب بين أصالة الصدور وأصالة الظهور أم لا؟الحقّ: أنّه لا ترتيب بينهما؛ لأنّ كلّ واحدةٍ منهما لغو بدون الأُخرى؛ إذ لا معنى للتعبّد بصدور ما لا ظهور له، أو ظهور ما لم يثبت صدوره.

وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما هو منقول عن الوحيد البهبهاني(قدس سرّه) من تقديم المرجّح الجهتيّ على المرجّح السنديّ(1).

كما ظهر - أيضاً - ما في الكفاية من إنكار الترتيب بين المرجّحات لو قلنا بالتعدّي من المزايا والمرجّحات المنصوصة إلى غيرها(2).

نعم، الأصل المضموني متأخّر عن المرجّح الجهتيّ، بأن يتعبّد بأنّ مضمون الكلام هو تمام المراد، لا جزؤه متأخّر عن التعبّد بجهة الصدور؛ إذ لا معنى للتعبّد بكون مضمون الكلام هو تمام المراد ما لم يحرز أنّه

ص: 400


1- حكاه عنه جملة من الأعلام، منهم: الآخوند الخراساني) في الكفاية: 454، والميرزا النائيني) على ما في فوائد الاُصول 4: 779.
2- انظر: كفاية الاُصول: 453، قال(قدس سرّه): «ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات لو قيل بالتعدّي...».

بصدد بيان مراده، لا في مقام الخوف من الأعداء والتقيّة.

وخلاصة البحث: أنّ الأقوال في المسألة أربعة:

الأوّل: قول صاحب الكفاية(قدس سرّه)، وحاصله: أنّ المرجّحات في عرضٍ واحد، فلو كان أحد الخبرين المتعارضين واجداً لبعضها، والخبر الآخر واجداً لبعضٍ آخر، وقع التزاحم بينالخبرين، فيقدّم الأقوى مناطاً، فإن لم يكن أحدهما أقوى مناطاً يتخيّر بينهما(1).

والثاني: القول المنسوب إلى الوحيد البهبهاني(قدس سرّه)، وهو أنّ المرجّح الجهتيّ مقدّم على أصل الصدور، فالمخالف للعامّة اُولى بالتقديم على الموافق لهم، ولو كان هذا الموافق مشهوراً.

والثالث: ما اختاره المحقّق النائيني(قدس سرّه)(2)، وهو القول بأنّها مترتّبة، ولكن على العكس من ترتيب الوحيد البهبهاني، أي: أنّه يقدّم المرجّح الصدوريّ على غيره، فيقدّم المشهور الموافق للعامّة على الشاذّ المخالف لهم.

والرابع: أنّها مترتّبة حسبما جاء في المقبولة، فالأوّل - كما يظهر من

ص: 401


1- المصدر نفسه: 454.
2- فوائد الاُصول 4: 779. قال): «وقيل بتقديم المرجّح السنديّ على المرجّح الجهتيّ والمرجّح المضمونيّ، فيُقَدَّم الخبر المشهور على الخبر المخالف للعامّة أو الموافق للكتاب. وهذا هو الأقوى، فإنّ التعبّد بجهة الصدور متأخّر في الرتبة عن التعبّد بأصل الصدور».

المقبولة - هو المشهور، فإن تساويا في الشهرة قُدِّم الموافق للكتاب والسنّة، فإن تساويا في الموافقة لهما، قُدِّم المخالف للعامّة.

ولكنّ الذي يظهر من الأخبار أنّه لا تفاضل في الترجيح بين هذه الاُمور المذكورة فيها، والدليل على ذلك: أنّه في جملةٍ من الأخبار جرى الاقتصار على مرجّحٍ واحد فقط، كما أنّ المقبولة والمرفوعة - أيضاً - لم تذكرا المرجّحات كلّها،مضافاً إلى أنّهما لم تتّفقا على الترتيب بينها، فالمقبولة - مثلاً - ذكرت الشهرة أوّلاً، بخلاف المرفوعة.

ولا يخفى: أنّه بعد الاقتصار على المرجّحات المنصوصة، فلابدّ من الرجوع إلى الروايات، لنرى مدى دلالتها، وكيف يمكن الجمع العرفيّ فيما بينها؛ إذ استفادة الترتيب بين المرجّحات من الأخبار والروايات مشكل.

وقد أصرّ المحقّق النائيني(قدس سرّه) على أنّ مقتضى القاعدة هو تقديم المرجّح الصدوري على الجهتيّ، وبنى على ذلك كون الخبر صادراً لبيان الحكم الواقعيّ، لا لغرضٍ آخر متفرّعٍ على فرض صدوره حقيقةً أو تعبّداً؛ لأنّ جهة الصدور من شؤون الصادر، فما لا صدور له فلا معنى لأنّ يتكلّم عنه بأنّه صادر لبيان الحكم الواقعيّ أو لبيان غيره.

وعليه: فإذا كان الخبر الموافق للعامّة مشهوراً، وكان الخبر الشاذّ مخالفاً لهم، كان الترجيح للخبر المشهور، دون الشاذّ المخالف لهم؛ لأنّ مقتضى الحكم بحجّيّة المشهور هو أنّ الشاذّ غير حجّة، فلا معنى

ص: 402

لحمله على بيان الحكم الواقعيّ ليحمل المشهور على التقيّة؛ إذ لا تعبّد بصدور الشاذّ حينئذٍ.

قال): «والمقصود في المقام بيان تقديم المرجّح الصدوريّ على المرجّح الجهتيّ؛ فإنّ القاعدة تقتضي ذلك، مضافاً إلى دلالة أدلّة الترجيح عليه»، إلى آخر ما جاء في كلامه)، وهو كلام طويل، فراجعه(1).ثمّ إنّ صاحب الكفاية(قدس سرّه) أرجع جميع المرجّحات إلى المرجّح الصدوريّ، ولذلك قال بعدم الترتّب بينها إذا قلنا بالتعدّي، كما نقلنا عنه آنفاً.

وقد تبعه على ذلك المحقّق العراقي(قدس سرّه)، وأفاد في وجه ذلك ما لفظه:

«أنّ موضوع الأصل الجهتيّ والدلاليّ هو الكلام الصادر من المعصوم(علیه السلام)، ولا بدّ في جريانهما من إحراز موضوعهما بالوجدان أو التعبّد، وبعد سقوط المتعارضين عن الحجّيّة الفعليّة وعدم شمول عموم السند لهما، وعدم مرجّحٍ سنديٍّ في البين حسب الفرض لذي المرجّح الجهتيّ أو المضمونيّ، لم يحرز كلام الإمام حتى ينتهي إلى ترجيح أصله العقلائيّ على غيره. وحينئذٍ: فبعد عدم كفاية مجرّد اقتضاء الحجّيّة لمثل هذا الترجيح، فلا محيص من إرجاع هذين المرجّحين إلى المرجّح

ص: 403


1- انظر: فوائد الاُصول 4: 779 - 783.

الصدوريّ...»، إلى آخر كلامه«(1).

وحاصله: أنّه لا معنى للتعبّد بصدور كلامٍ ليس في مقام بيان مراده الواقعيّ، بل في مقام الخوف والتقيّة، أو التعبّد بصدور كلام ليس مضمونه تمام المراد، بل يحتاج إلى دليلٍ على ذلك، أي: التعبّد بأنّ مضمونه هو تمام المراد، فالذي لم يحرز أنّه في مقام بيان مراده، أو لم يحرز أنّ مضمونه تمام مراده، فالتعبّد بصدوره لغو، وليس بحجّة.فالمرجّح الجهتيّ - مثل مخالفة العامّة - يرجع إلى أنّ الخبر المخالف لهم أقرب إلى صدوره من الخبر الموافق لهم، فيكون مورد التعبّد بصدوره دون الموافق.

وكذا الأمر في المرجّح المضمونيّ، فإذا كان أحد المتعارضين موافقاً للكتاب، فبناءً على أن تكون موافقة الكتاب من المرجّحات المضمونيّة، يكون أقرب إلى الصدور من ذلك الخبر الآخر المخالف للكتاب، فأصالة الصدور تشمله دون ذاك.

وبالتالي: فترجع جميع أنواع المرجّحات إلى المرجّح الصدوريّ، غاية الأمر: أنّه يختلف مرجّح الصدور، فتارةً: يكون لأجل صفات الراوي التي ترجع إلى كونه أصدق من الآخر، وأُخرى: لأجل اشتهار الرواية بين المحدّثين، وثالثةً: لأجل مخالفة أحدهما للعامّة، ورابعةً:

ص: 404


1- نهاية الأفكار 4: 203.

لأجل موافقة أحدهما للكتاب.

ولكنّ الحقّ: عدم إمكان إرجاع المرجّحات إلى مرجّحٍ واحد، وهو المرجّح الصدوريّ؛ فإنّ الشهرة بين الأصحاب مخصّصة لأدلّة حجّيّة خبر الواحد، وكذلك صفات الراوي الموجبة لأقربيّة صدور الرواية التي فيها هذه المزايا، بمعنى: أنّه لو لم تكن إحداهما مشهورةً، أو لم يكن راويها أصدق وأوثق، لكانت أدلّة حجّيّة الخبر الواحد تشمل الخبر الآخر - أيضاً - في عرض هذه التي لها المزايا.ولكنّ الشهرة وصفات الراوي خصّصت الحجّيّة بهذه التي لها المزايا، وأخرجت ذلك الآخر عن تحت أدلّة حجّيّة الخبر الواحد.

وأمّا المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة فهي مخصّصة للاُصول العقلائيّة؛ أي: أصالة كون المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ، فإذا كان مخالفاً للعامّة، فالمخالفة في الخبر المخالف يمنع عن جريان أصالة كون المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ بالنسبة إلى الخبر، وكذلك الأمر في المرجّح المضمونيّ، فمثلاً: موافقة الكتاب توجب تخصيص الأصل العقلائيّ بالخبر الموافق، وإخراج الخبر المخالف عن دائرة الأصل العقلائيّ.

فهناك فرق بين المرجّحات الصدوريّة وبين المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة، فإنّ إحداهما موجبة للتصرّف في عموم أدلّة حجّيّة خبر الواحد أو إطلاقها، والأُخرى موجبة للتصرّف في الاُصول العقلائيّة.

ص: 405

وقد يستشكل في المقام: بأنّ مخالفة الخبر للكتاب وموافقته للعامّة توجب خروجه عن دائرة الحجّيّة؛ لما ورد في الأخبار الكثيرة من أنّ «ما خالف قول ربّنا لم نقله»، أو «باطل»، أو «زخرف» أو «اطرحه على الجدار»، ونحو ذلك(1)..وعلى هذا الأساس: فالخبر المخالف للكتاب ليس بحجّة، وكذا الخبر الموافق للعامّة مقابل الخبر المخالف لهم ليس بحجّة؛ وذلك لعدم جريان الأصل العقلائيّ، أعني: أصالة كون المتكلّم في مقام بيان مراده الواقعيّ بالنسبة إلى الخبر الموافق لهم مع وجود الخبر المخالف لهم، والذي هو بحسب المضمون ضدّ هذا الموافق أو نقيضه.

ومعه: فكيف يمكن أن يقال: إنّ كون الخبر موافقاً للكتاب أو مخالفاً للعامّة من المرجّحات؟ إذ إنّ معنى المرجّح هو أنّه يكون سبباً لترجيح إحدى الحجّتين على الأُخرى بعد شمول دليل الحجّيّة لكليهما.

وبناءً على ما ذكرنا: فإنّ الخبرين الموافق للعامّة والمخالف للكتاب ليسا بحجّة، ولا مشمولين لدليل الحجّيّة أصلاً، فلا يكون من قبيل تعارض الحجّتين، بل من قبيل تعارض الحجّة واللّاحجّة، فشيء من المخالفة للعامّة والموافقة للكتاب لا يكون من المرجّحات.

والجواب عن هذا الإشكال: أنّ مخالفة الكتاب على أقسام: الأوّل:

ص: 406


1- راجع في هذه الأخبار: وسائل الشيعة 27: 106، فما بعدها، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.

المخالفة بالتباين، والثاني: المخالفة بالعموم والخصوص المطلق، والثالث: المخالفة بالعموم والخصوص من وجه.

ولا يخفى: أنّ المخالفة التي توجب سقوط الخبر المخالف عن الحجّيّة إنّما هي المخالفة بالتباين، ولذا جُعل عدمها شرطاً لحجّيّة الخبر، والمخالفة للكتاب التي هي من المرجّحات هي المخالفة بالعموم المطلق أو من وجه؛ للعلمبوجود رواياتٍ كثيرة نعلم بصدورها عنهم(علیهم السلام) مع كونها مخالفةً لعموم الكتاب، إمّا من وجهٍ أو مطلقاً.

فإن قيل: إنّ المقدار المعلوم من صدور الأخبار المخالفة تخصّص بها عمومات تلك الأخبار التي مفادها عدم صدور الخبر المخالف.

قلنا: بل لسان تلك العمومات آبٍ عن التخصيص؛ فإنّ قوله(علیه السلام) - مثلاً -: «ما خالف قول ربّنا زخرف»، أو «باطل»، أو «اطرحه عرض الجدار»، يأبى عن التخصيص، كما هو واضح. فلابدّ وأن يكون مرادهم من المخالفة خصوص نوعٍ منها، وهو الذي لم يصدر منهم علیهم السلام، وهو المخالفة بالتباين، فإنّها لم تصدر منهم قطعاً.

فصل :في التعارض بين العامّين من وجه:
اشارة

إذا وقع التعارض بين روايتين بينهما عموم وخصوص من وجه، فهل يكون المرجّح هو الأخبار العلاجيّة، فعند وجود المرجّحات الترجيح، وعند فقدها التخيير، أم لا، بل يعمل في مادّة الافتراق بكلّ واحدٍ منهما،

ص: 407

وفي مادّة الاجتماع يحكم بالتساقط، ويكون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة؟

وقد فرّق المحقّق النائيني(قدس سرّه) بين المرجّحات الصدورية فقال بعدم جواز الرجوع إليها، بخلاف المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة، فيجوز الرجوع إليها.وفي ذلك يقول(قدس سرّه): «الظاهر: أنّه لا يجوز الرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة في تعارض العامّين من وجه، بل لا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات الجهتيّة، ومع فقدها، فإلى المرجّحات المضمونيّة»(1).

ولكنّك خبير بأنّ مبنى هذا الكلام هو عدم إرجاع المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة إلى المرجّحات الصدوريّة، وإلّا، لم يبقَ مجال للفرق بينهما، كما هو ظاهر؛ لأنّه بناءً على مسلك إرجاع المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة جميعاً إلى الصدوريّة، لا يبقى موضوع للمرجّح غير المرجّحات الصدوريّة.

ولكنّ هذا المسلك غير صحيح. فيبقى هناك مجال للفرق، وذلك بأن يقال: إنّ الصدور لا يتبعّض، فالرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة وترجيح أحدهما مستلزم لإسقاط مادّة الافتراق بلا وجه.

وأمّا المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة، ففي مادّة الاجتماع فيمكن

ص: 408


1- فوائد الاُصول 4: 792 - 793.

الأخذ بهما، كما يمكن العمل بكليهما في مادّة الافتراق، ولا يأتي في البين أيّ محذور أصلاً.

فمثلاً: إذا ورد (أكرم السادات) وورد (لا تكرم الفسّاق)، ففي مادّتي الافتراق يعمل بكليهما، فيقال بوجوب إكرام السيّد غير الفاسق وحرمة إكرام الفاسق غير السيّد. وأمّا في مادّة الاجتماع، فإذا كان وجوب إكرام السيّد الفاسق مخالفاً للعامّة،أو كان موافقاً للكتاب، يؤخذ بهذين المرجّحين اللّذين أحدهما مرجّحٌ جهتيّ، وهو مخالفة العامّة، والثاني مرجّح مضمونيّ، وهو موافقة الكتاب، ويقال بوجوب إكرام السيد الفاسق، ويطرح الدليل الآخر، وهو (لا تكرم الفسّاق) في مادّة الاجتماع، لا من جهة التعبّد بعدم صدوره من هذه الجهة، أي: باعتبار مادّة الاجتماع، حتى يقال بأنّ السند لا يتبعّض، ولا معنى للتعبّد بصدوره بالنسبة إلى بعض المدلول، وعدم صدوره بالنسبة إلى البعض الآخر، بل يرجع إلى عدم حجّيّته وكاشفيّته عن مراده الواقعيّ بالنسبة إلى بعض مدلوله بعد الفراغ من صدوره.

ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن العمل حتى بالمرجّح الصدوريّ أيضاً؛ لأنّ الذي لا يمكن التعبّد به هو التبعّض الحقيقيّ في السند، وأمّا المجازيّ، فلا مانع منه؛ لما نراه كثيراً من التفكيك بين اللّوازم والملزومات.

والمشهور هو التساقط والرجوع إلى الاُصول العمليّة مطلقاً في مادّة الاجتماع.

ص: 409

والحقّ: أنّه لابدّ من العمل بالمرجّحات في الأصل الصدوريّ، والعمل في مادّة الافتراق بكلٍّ من الجهتيّ والمضمونيّ. ولو فرضنا عدم مرجّح في البين، فالتخيير في مادّة الاجتماع.

وقد يمكن توجيه فتوى المشهور بالتساقط بأنّ التساقط هو المطابق لمقتضى القاعدة، وأمّا الأخبار العلاجيّة فهي منصرفة عن مورد المتعارضين بالعموم الوجهيّ؛ لأنّ ظاهرقوله: «يأتي عنكم الخبران المتعارضان فبأيّهما نعمل؟» إنّما هو الخبران المتعارضان بالتباين، دون التعارض بالعموم والخصوص مطلقاً أو من وجه.

في ترجيح أحد المتعارضين بالأصل:

إذا كانت إحدى الروايتين المتعارضتين موافقة للأصل، فهل صرف الموافقة للأصل تصلح لأن تكون مرجّحاً، كما إذا كانت الرواية الدالّة على نجاسة الماء الكرّ الذي تغيّر من قبل نفسه، من دون حاجةٍ إلى وصول الماء المطهّر إليه، مطابقةً للأصل، كالاستصحاب - مثلاً -، فترجّح على الرواية الأُخرى التي تدلّ على طهارته بواسطة موافقته للاستصحاب، أم لا، بل موافقة إحداهما للأصل غير كافيةٍ لترجيحها على الأُخرى؟(قدس سرّه)

الصحيح: عدم كفاية ذلك؛ لأنّ الاُصول العمليّة مطلقاً، شرعيّةً كانت أم عقليّة، تنزيليّة أم غير تنزيليّة، مجراها هو الشكّ في الحكم الواقعيّ بعد الفحص عن الدليل واليأس عن الظفر به، فموضوع هذا الأصل لا يتحقّق

ص: 410

إلّا بعد فقد الدليل، فهو متأخّر عن وجود الدليل، ففي رتبة وجود الدليل لا موضوع للأصل، وفي رتبة عدمه، ولو بواسطة سقوطه بالمعارضة، وإن كانت النوبة تصل إلى الأصل، ولكن في هذه المرتبة يكون الأصل مرجعاً، لا مرجّحاً.

وبذلك يظهر: أنّ ما صنعه بعض الفقهاء من الحكم بكون موافقة الأصل مرجّحاً لأحد الخبرين المتعارضين في غيرمحلّه. ولعلّ نظرهم إلى أنّ حجّيّة الاُصول العمليّة هي من باب الظنّ - على خلاف ما هو المعروف والمشهور -، خصوصاً في مثل الاستصحاب في الأحكام.

وأمّا الترجيح بالظنون غير المعتبرة:

فإن لم نقل بالتعدّي من المرجّحات المنصوصة فحالها معلوم، كما في مثل الشهرة في الفتوى.

وإن قلنا بالتعدّي إلى كلّ مرجّح، فلا بأس بالترجيح بها، شريطة أن لا تكون من الظنون المنصوص على النهي عنها، كالقياس، وأمّا إذا كان من الظنون المنهيّ عنها، فإن كان دليل النهي عن العمل به يمنع من مطلق استعمالها، فلا يجوز الترجيح بها؛ لأنّه نوع من الاستعمال لها، وإن كان يمنع من خصوص العمل على طبقها بما أنّها حجّة، فيمكن أن يجعل مرجّحاً؛ لعدم شمول النهي - حينئذٍ - لمثل الترجيح بها.

ص: 411

ص: 412

مبحث الاجتهاد والتقليدوفيه مقامان:

اشارة

المقام الأوّل: في الاجتهاد.

والمقام الثاني: في التقليد.

أمّا المقام الأوّل:

اشارة

ففيه اُمور:

الأمر الأوّل :أنّه من المسائل الاُصوليّة أو الفقهيّة:

قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «المسألة الاُصوليّة ما يكون واسطةً للإثبات بالنسبة الى المسائل الفقهيّة، ومباحث الاجتهاد بعضها عقليّة، كمسألة إمكان التجزّي وعدم إمكانه، وبعضها فقهيّة، وذلك كحجّية رأيه وفتواه للمقلّدين، بل ولعمل نفسه، وكالحكم بالإجزاء وعدمه بالنسبة الى

ص: 413

الأعمال السابقة بعد تبدّل رأيه»(1).

وعلى هذا، فيكون ذكر هذه المسألة في علم الاُصول من باب المجاراة لديدن المحقّقين.

الأمر الثاني :تعريف الاجتهاد لغةً واصطلاحاً:
أمّا لغةً:

يظهر لمن تتبّع كلام اللّغويّين أنّ بين معنيي: الجهد (بالضمّ) والجهد (بالفتح) اختلافاً وتغايراً. وفي المصباح المنير: الجهد بالضمّ في الحجاز، وبالفتح في غيرهم: الوسع والطاقة، وقيل: المضموم الطاقة والمفتوح المشقّة(2).

وأمّا في لسان العرب، فقال: «جهد، الجَهدْ، والجُهدْ: الطاقة، تقول: اجهد جهدك، وقيل: الجَهدْ المشقّة، والجُهْد الطاقة... وهو بالفتح: المشقّة، وقيل: هما لغتان الوسع والطاقة، فأمّا في المشقّة والغاية فالفتح لا غير»(3).

وأمّا اصطلاحاً:

فقد عرّفه الاُستاذ الأعظم بأنّه: «استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة

ص: 414


1- منتهى الاُصول 2: 618.
2- انظر: المصباح المنير: 65، مادّة (الجهد).
3- لسان العرب 3: 133، مادّة (جهد).

على الأحكام الشرعيّة أو تعيين الوظيفة عند عدم الوصول إليها»(1).

وقال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «والحقّ أنّه عبارة عن ملكة بسيطة يقتدر بواسطتها على تشكيل القياس الذي يستنتج منه الحكم الكلّيّ الإلهيّ الفرعيّ بتحصيل الكبريات أوّلاً، وضمّ الصغريات إليها ثانياً بعد تشخيصها»(2).ولكن لا يخفى: أنّ ما ذكره(قدس سرّه) غير تامّ؛ فإنّ التوسعة في التلبّس بالمبدأ بنحو الملكة إنّما هي من مضامين الهيئة، لا المادّة، كما يقال: المجتهد من له ملكة الاجتهاد، وإن لم يكن متلبّساً بالمبدأ فعلاً، بأن كان نائماً أو غافلاً أو نحو ذلك من الاُمور التي تشغله عن التصدّي الفعليّ لاستنباط حكم المسألة.

وقد يعرّف الاجتهاد بأنّه «استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعيّ»(3).

وقد يورد على هذا التعريف بوجوه من الإشكال:

منها:

لزوم الدور؛ لما أُخذ فيه من كلمة (الفقيه)؛ فإنّ معرفة الاجتهاد - على هذا - تكون متوقّفةً على معرفة الفقيه، ومعرفة الفقيه متوقّفة على معرفة

ص: 415


1- مصباح الاُصول 2: 521، (المجلّد 48 من موسوعة الإمام الخوئي).
2- منتهى الاُصول 2: 618.
3- حكاه في الفصول عن الحاجبيّ، انظر: الفصول الغرويّة: 387.

الاجتهاد؛ إذ لا تتحقّق له الفقاهة إلّا أن يكون مجتهداً، وهو ليس إلّا الدور المحال.

وقد يُجاب عن هذا الدور بأنّ المراد من لفظ (الفقيه) الوارد في هذا التعريف هو من مارس الفقه، احترازاً عن العامّيّ البحت، فلا يلزم الدور حينئذٍ؛ لعدم توقّف معرفة الفقيه بهذا المعنى على معرفة الاجتهاد.

وفيه: أنّه مجاز لا حقيقة؛ لأنّ من قرأ الكتب الفقهيّة وزاول رؤوس المسائل ولم تحصل له بعد قوّة على استنباط الأحكاموردّ الفروع إلى الاُصول، فلا يسمّى استفراغ وسعه هذا اجتهاداً.

ومنها:

ما أُخذ فيه من قيد (تحصيل الظنّ)؛ فإنّ الظنّ ليس بحجّةٍ عندنا؛ لورود النهي عن العمل به كتاباً وسنّةً، بل وإجماعاً وعقلاً أيضاً، كما هو مقرّر في محلّه.

الأمر الثالث :في مبادئ الاجتهاد:

لا يخفى: أنّ حصول الاجتهاد متوقّف على جملة من العلوم، و عمدة تلك العلوم هو علم الاُصول؛ لأنّه المتكفّل بمعرفة الكبريات التي لو انضمّت إليها الصغريات لكانت واسطةً في إثبات محمولات المسائل الفقهيّة لموضوعاتها.

قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «ومن جملة العلوم التي يحتاج إليها في

ص: 416

تحصيل الاجتهاد هو علم المنطق؛ لترتيب ذلك القياس. ومن جملتها: علوم العربيّة، من اللّغة والنحو والصرف وغيرها، وذلك من جهة فهم ألفاظ الآية والرواية وتشخيص الظاهر عن غيره.

وأمّا احتياجه إلى علم الرجال والرواية فشديد إن قلنا بأنّ موضوع الحجّة في باب حجّيّة الخبر الواحد هو الخبر المزكّى بتزكية عدلين؛ لأنّ مدرك أغلب الأحكام هو الخبر الواحد، ولا طريق إلى تحصيل مثل هذا الخبر إلّا بالرجوع إلى الرجال ومعرفة علم الدراية.وإن قلنا بأنّ موضوع الحجّيّة هو الخبر الموثوق الصدور فالاحتياج إليه قليل؛ لأنّ الموثوق كما أنّه يحصل من تزكية العدلين، كذلك يحصل من عمل الأصحاب، بل ربّما يكون عمل الأصحاب خلفاً عن سلف آكد في هذا المعنى، ولذلك ترى أنّ إعراضهم عن الخبر المزكّى يوجب خروجه عن موضوع الحجّيّة - أي: الوثوق بالصدور - ومن هذه الجهة قالوا بعد إعراضهم عنه: كلّما ازداد صحّةً ازداد وهناً»(1).

وأمّا اللّغة فممّا لا شكّ في الاحتياج إليه بعد أن كانت أكثر الأحكام مستفادةً من الكتاب والسنّة، وهما عربيّان، فلابدّ فى استنباط الأحكام منهما إلى معرفة اللّغة، ولو بالمقدار الذي تتوقّف عليه معرفة مواضع الحاجة منهما، وذلك لا يكون في الأعمّ الأغلب إلّا بمراجعة أقوال أهل

ص: 417


1- منتهى الاُصول 2: 618 - 619.

اللّغة.

فإن قلت: قول اللّغويّ ليس بحجّة بعد أن لم يدلّ على حجّيّته دليل.

قلنا: إنّ قول اللّغويّ لا يكون سبباً لإثبات المعنى الحقيقيّ، وإنّما يرجع إليه الفقيه لحصول الاطمئنان بالظاهر.

وكذلك يحتاج الفقيه إلى معرفة قواعد العربيّة؛ لأنّها ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد - أيضاً -، لوضوح الاحتياج في معرفة الأحكام إلى معرفة مثل الفاعل والمفعول وغيرهما ممّا يتوقّف على معرفته استنباط الأحكام. نعم، معرفة بعض المسائل والقواعد العربيّة لا يتوقّف عليها الاستنباط، كمعرفةالفارق بين البدل وعطف البيان، ونحو ذلك، فهذه لا يتوقّف عليها الاجتهاد.

وأمّا علم المنطق، فالصحيح - كما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) - أنّه لا يتوقّف الاجتهاد عليه أصلاً؛ «لأنّ المهمّ في المنطق إنّما هو بيان ما له دخالة في الاستنتاج من الأقيسة والأشكال، كاعتبار كلّيّة الكبرى وكون الصغرى موجبةً في الشكل، مع أنّ الشروط التي لها دخل في الاستنتاج ممّا يعرفه كلّ عاقل، حتى الصبيان؛ لأنّك إذا عرضت على أيّ عاقلٍ قولك: هذا حيوان، وبعض الحيوان مؤذٍ، لم يتردّد في أنّه لا ينتج: أنّ هذا الحيوان مؤذٍ.

وعلى الجملة: المنطق إنّما يحتوي على مجرّد اصطلاحات علميّة لا تمسّها حاجة المجتهد بوجه؛ إذ ليس العلم به ممّا له دخل في الاجتهاد

ص: 418

بعد معرفة الاُمور المعتبرة في الاستنتاج بالطبع»(1).

ومن هنا، ظهر فساد ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين(قدس سرّه) من أنّه لابدّ للمجتهد من «معرفة الأشكال الأربعة، وشرائط إنتاجها، وتمييز عقيمها من منتجها، ويدخل في ذلك معرفة العكس المستوي، وعكس النقيض، ممّا يتوقّف عليه الاستنباط في بعض المقامات، وغيرها من المباحث الرائجة منه في غالب المحاورات. نعم، لا يجب الوقوف علىتفاصيل الشرطيّات والاقترانيّات وأشباههما ممّا لا وقوف لتحصيل الحكم الشرعيّ عليه»(2).

ثمّ يقول الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه):

«والذي يوقفك على هذا: ملاحظة أحوال الرواة وأصحاب الأئمّة عليهم أفضل الصلاة؛ لأنّهم كانوا يستنبطون الأحكام الشرعيّة من الكتاب والسنّة من غير أن يتعلّموا علم المنطق ويطّلعوا على مصطلحاته الحديثة.

والعمدة فيما يتوقّف عليه الاجتهاد بعد معرفة اللّغة العربيّة وقواعدها علمان:

أحدهما: علم الاُصول، ومساس الحاجة إليه في الاجتهاد ممّا لا يكاد

ص: 419


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 13، (المجلّد 1 من موسوعة الإمام الخوئي).
2- تهذيب الاُصول 3: 139.

يخفى؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة ليست من الاُمور الضروريّة التي لا يحتاج إثباتها إلى دليل، وإنّما هي اُمور نظريّة يتوقّف على الدليل والبرهان، والمتكفّل لأدلّة الأحكام وبراهينها من الحجج و الأمارات وغيرهما ممّا يؤدّي إلى معرفة الأحكام الشرعيّة علم الاُصول، وما من حكم نظريّ إلّا ويستنبط من تلك الأدلّة، فعلى المستنبط أن يتقنها ويحصّلها بالنظر والاجتهاد؛ لأنّها لو كانت تقليديّة لأدّى إلى التقليد في الأحكام؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين»، إلى أن يقول: «وثانيهما: علم الرجال»(1).وربّما يقال: بأنّ اللّازم هو التفصيل، فإنّه لو كان موضوع الحجّيّة هو الخبر المزكّى، فبما أنّ مدرك الأحكام غالباً هو خبر الواحد، ولا طريق إلى إحراز هذا الخبر إلّا بالرجوع إلى علم الرجال. وأمّا لو كان موضوع الحجّيّة هو الخبر الموثوق الصدور، فالاحتياج إليه قليل؛ لأنّ الوثوق كما يحصل بتزكية العدلين، فكذلك يحصل بعمل الأصحاب.

ولكنّ الحقّ: أنّه حتى لو كان المبنى في حجّيّة الخبر هو حصول الاطمئنان والوثوق

ص: 420


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 13.

بالخبر، فنحن بحاجة إلى معرفة الرجال؛ إذ كما يحصل الاطمئنان بعمل الأصحاب، فكذلك يمكن أن يحصل الاطمئنان بالخبر الممدوح أو الموثّق رواته، وهذا لا يحصل إلّا بمعرفة الرجال الواردين في سلسلة السند.

ويتابع اُستاذنا الأعظم(قدس سرّه) بعد قوله السابق: «وثانيهما: علم الرجال»، فيقول:

«وذلك لأنّ جملةً من الأحكام الشرعيّة، وإن كانت تستفاد من الكتاب، إلّا انّه أقلّ قليل، وغالبها يستفاد من الأخبار المأثورة عن أهل البيت(، وعلى ذلك: إن قلنا بأنّ الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة مقطوعة الصدور، أو أنّها ممّا نطمئنّ بصدورها؛ لأنّ الأصحاب عملوا على طبقها ولم يناقشوا في إسنادها، وهذا يفيد الاطمئنان بالصدور، فقد استرحنا من علم الرجال؛ لعدم مساس الحاجة إلى معرفة أحوال الرواة، كما سلك ذلك المحقّق الهمداني(قدس سرّه) حيث قال:[ليس المدار عندنا في جواز العمل بالرواية على اتّصافها بالصحّة المطلوبة، وإلّا، فلا يكاد يوجد خبر يمكننا إثبات عدالة رواتها على سبيل التحقيق لولا البناء على المسامحة في طريقها، والعمل بظنون غير ثابتة الحجّيّة، بل المدار على وثاقة الراوي، أو الوثوق بصدور الرواية، وإن كان بواسطة القرائن الخارجيّة التي عمدتها كونها مدوّنة في الكتب الأربعة، أو مأخوذة من الاُصول المعتبرة مع اعتناء الأصحاب بها، وعدم إعراضهم عنها، إلى أن قال: ولأجل ما تقدّمت الإشارة إليه جرت سيرتي على ترك الفحص عن حالتهم]، انتهى.

ص: 421

وإنّما اللّازم - حينئذٍ - مراجعة أنّ الرواية هل هي معمول بها عندهم لتكون حجّة، أو أنّها مُعرض عنها لتسقط عن الاعتبار، ومعه: لا تمسّ الحاجة إلى علم الرجال إلّا في بعض الموارد، كما إذا لم يظهر لنا عمل الأصحاب على طبق الرواية أو إعراضهم عنها؟

وأمّا إذا بنينا على ما هو الصحيح عندنا من أنّ عمل الأصحاب والمشايخ قدّس اﷲ أسرارهم على طبق روايةٍ لا يكون جابراً لضعف دلالتها؛ إذ المتّبع حسب سيرة العقلاء هو الظهور، ومن الظاهر: أنّ عملهم على طبق الرواية لا يجعلها ظاهرةً في المعنى المراد، كما لا ينجبر بعملهم ضعف سندها، فإنّ السيرة العقلائيّة التي هي العمدة في حجّيّة الخبر، وكذا الأخبار التي ادّعينا تواترها إجمالاً، وبعض الآيات المذكورة في محلّها، إنّما تدلّ علىاعتبار الخبر الموثوق أو الممدوح رواته، أو الرواية التي يُطمأنّ بصدورها عنهم - لو اتّفق في مورد -. وأمّا الخبر الضعيف فلم يدلّنا دليل على اعتباره إذا عمل المشهور على طبقه.

فلا محالة: تزداد الحاجة إلى علم الرجال، فإنّ به يعرف الثقة عن الضعيف، وبه يتميّز الغثّ عن السمين. ومعه: لا مناص من الرجوع إليه للتفتيش عن أحوال الرواة الواقعين في سلسلة السند واحداً بعد واحد، ليظهر أنّه موثوق به، ليؤخذ بخبره، أو أنّه ضعيف لئلّا يعتمد على إخباره، حتى الرواة الواقعين في السند بعد ابن ابي عمير وزرارة وأضرابهما ممّن

ص: 422

ادّعوا الإجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم في الرجال؛ وذلك لأنّ هذا الإجماع ليس بأزيد من الإجماعات المنقولة التي لا نعتمد عليها في الأحكام». إلى آخر ما أفاده«(1).

ثمّ إنّه قد يقال: بأنّ الاجتهاد يحتاج إلى ملكه قدسيّة تحصل من الممارسة على فعل الواجبات وترك المحرّمات، بل المواظبة على أداء بعض المستحبّات المهمّة وترك المكروهات كذلك، وتحلّي النفس بالأخلاق الفاضلة وتخليتها عن الرذائل؛ لأنّه «ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد اﷲ تبارك وتعالى أن يهديه...»، كما في الخبر(2).وبعبارة أُخرى: فإنّ تشخيص الصغريات وتطبيق الكبريات عليها، والذي هو المدار في جودة الاستنباط، فإن أجاد التطبيق والتشخيص فهو جيّد الاستنباط، وإلّا فلا، فهذا لا يتسنّى له أن يحصل إلّا لمن شملته العناية الإلهيّة، ورزق توفيقاً ربّانيّاً، بأن نوّر اﷲ تعالى قلبه بنور العلم والمعرفة، وحينئذٍ: تحصل له ملكة قدسيّة بعد التعب والجدّ وممارسة العلوم التي ذكرناها، وحينئذٍ: يتمكّن من استنباط الأحكام عن مداركها، وإلّا فليس كلّ من يتعب نفسه ويشتغل اشتغالاً جدّيّاً في العلوم المذكورة يحصل له هذه الملكة القدسيّة.

ص: 423


1- المصدر نفسه 1: 13 - 14.
2- انظر: بحار الأنوار 1: 225، ح 48.

وردّه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) بقوله:

«ولكن أنت خبير، بأنّه إن أُريد من هذا الكلام: أنّ الصور العلميّة تُفاض على النفوس بعنايةٍ ربّانيّة، ومن قبل اﷲ جلّ وعلا، والتوفيق من اﷲ بتوجيه الأسباب وتهيئتها للمتعلّم، ولا بدّ في النفس من قابليّةٍ ولياقةٍ لهذه العطايا الربّانيّة، فهذا حقّ ومحض الواقع. ولكن لا اختصاص له بعلم الفقه وملكة الاجتهاد، بل هذا هو الحال في جميع العلوم، بل الحال في جميع العطايا الإلهيّة.

وإن أُريد أمر زائد على هذا في خصوص ملكة الاجتهاد، وأنّه لا تحصل هذه الملكة إلّا للورع المتّقي، والذي هذّب نفسه عن الرذائل وتحلّى بالفضائل، فهذا معلوم بالوجدان؛ إذ هذه الملكة - أيضاً - كسائر ملكات العلوم تحصل للعادل والفاسق، بل المؤمن والكافر؛ فإنّ كلّ من له استعداد فطريّوجَدَّ واجتهد في طلبها من طرقها المتعارفة، سواء أكان عادلاً أم فاسقاً، يحصّلها، فإنّ اﷲ لا يضيع عمل عامل»(1).

والحقّ: أنّ العناية الربّانيّة والملكة القدسيّة وتنويرها للقلب وقابليّة النفس لورود فيوضات العلم الربّانيّ، وإن كانت سبباً للزيادة بلا إشكال، ولكنّ عدمها لا يكون سبباً لانتفاء الاجتهاد، بل يمكن أن يحصل للمتّقي وللفاسق على حدٍّ سواء.

ص: 424


1- منتهى الاُصول 2: 620.
الأمر الرابع :التجزّي في الاجتهاد:

هل هو ممكن أم لا؟

قد يقال: بأنّه غير ممكن؛ بعد أن كانت ملكة الاجتهاد - كسائر الملكات - بسيطة؛ نظراً لكونها كيفاً نفسانيّاً، والكيف غير قابل للقسمة، وإنّما القابل للقسمة هو الكمّ، فتلك الملكة غير قابلة للتجزّي.

ولكنّ الحقّ: أنّها وإن كانت بسيطة؛ ولكنّها ذات مراتب مختلفة من جهة الكمال والنقص، فربّما تحصل مرتبة ناقصة منها دون المرتبة الكاملة. وليس المراد من التجزّي الحصول على نصف الملكة - مثلاً - أو ثلثها، حتّى يقال: بأنّ ملكة الاجتهاد كيف، والكيف غير قابل للتجزّي، بل هي نظير ملكة الشجاعة أو الكرم، فكما يصحّ أن يقال: فلان أشجع من فلان أو أكرم منه، دون: فلان حصل على نصف ملكة الشجاعة أوالكرم، فكذلك يمكن تصوّر التجزّي في الاجتهاد بالمعنى الذي ذكرناه، وهو تفاوت المراتب، فيقال - مثلاً - : من اجتهد في بابٍ من أبواب الفقه حصل على ملكة الاجتهاد في ذلك الباب خاصّةً دون غيره، وبذلك يكون التجزّي ممكناً.

وقد يقال: بعدم إمكان حصول مرتبة المطلق إلّا بعد حصول مرتبة التجزّي، وإلّا يلزم الطفرة، وهي محال.

يقول الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه): «بل لا يبعد أن يقال: إنّ المطلق من الاجتهاد

ص: 425

مسبوق بالتجزّي دائماً، وإنّ أيّ مجتهد مطلق، كان متجزّياً في زمانٍ ثمّ قوي وترقّى شيئاً فشيئاً حتى تمكّن من استنباط أكثر الأحكام أو كلّها؛ وذلك لأنّ دعوى أنّ الرجل قد أصبح مجتهداً مطلقاً من ساعته أو ليلته، من غير أن يكون مسبوقاً بالتجزّي في زمانٍ ممّا لا شاهد له، بل هي أمر غير عاديّ، ولا نستعهد وقوعه بوجه. ولعلّه إلى ذلك أشار صاحب الكفاية(قدس سرّه) بقوله: (بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق - عادةً - غير مسبوق بالتجزّي).

نعم، ليس ذلك من المستحيلات العقليّة، نظير اجتماع الضدّين أو النقيضين؛ وذلك لأنّ المسائل الفقهيّة في عرضٍ واحد، ولا تقدّم لبعضها على بعض آخر زماناً أو رتبةً، بأن يكون التمكّن من استنباط بعضها مقدّمةً للقدرة على استنباط بعضها الآخر، حتى يتوهّم أنّ المتأخّر يستحيل أن يتحقّق قبل حصول المتقدّم، حيث إنّ تحقّق ذي المقدّمة من دون مقدّمته في المقام يستلزم الطفرة المحال، فأيّ مانع لدىالعقل من أن تحصل ملكة الاجتهاد المطلق دفعةً واحدة، ولو بالإعجاز والإفاضة من اﷲ - جلّت عظمته -»(1).

ولكنّ الحقّ في المقام: هو ما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) بما نصّه:

«أنّه إن قلنا في المقام بأنّ حصول تلك الملكة تدريجيّ، فهذا حقّ بلا كلام، وأمّا إن قلنا بأنّه يمكن أن يوجد دفعةً، بمعنى: أنّه بعد الممارسة

ص: 426


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 21.

وتحصيل العلوم التي لها دخل في حصولها توجد ملكة الاجتهاد المطلق دفعةً، فلا يبقى لهذا الكلام وجه»(1).

وقد يقال: بأنّه لا يكون هناك مجتهد مطلق، بل هذه الملكة لا يمكن تحصيلها لكلّ أحد؛ لأنّ الفقيه مهما بلغ إلى أيّ مرتبةٍ من العلم والفقاهة، فهو يبقى - مع ذلك - متردّداً في حكم بعض المسائل، ولذلك فهو يأمر بالاحتياط.

ولكنّ الحقّ: أنّ الفقيه لا يصبح متردّداً في أيّ حكم من الأحكام، بل إمّا أن يحصل له العلم والعلميّ على الحكم أم لا، فإن حصل الأوّل، فلا معنى لتردّده، وكذا العلميّ، فإن وردت أمارة على الحكم، وكان لها معارض، فإن كانت هناك مزيّة لأحدهما فيأخذ بذي المزيّة، وإلّا فيتخيّر، هذا إذا كان من سنخ الأخبار.وأمّا إن كان من غير الأخبار، فالحكم هو التساقط والرجوع إلى الاُصول العمليّة، ومجاري الاُصول معلومة واضحة لدى الفقيه، فليس هناك أيّ تردّد أصلاً.

نعم، في بعض الموارد يصدر الاحتياط من بعض الفقهاء الذين لهم ورع شديد، وذلك ليس من جهة جهلهم بالحكم وعدم قدرتهم على استنباط الحكم وبيان الوظيفة، بل إنّما هو من شدّة ورعهم وتقواهم،

ص: 427


1- منتهى الاُصول 2: 621.

ومن باب ما ورد في الحديث: «أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت»(1).

ولا يخفى: أنّ المجتهد المطلق لابدّ أن يعمل بما استنبطه من الأحكام، ولا يجوز له التقليد والرجوع إلى الغير.

أمّا وجوب العمل بما استنبطه، فلحصوله على الحجّة، أمارةً كانت أم أصلاً، تنزيليّاً أو غير تنزيليّ؛ لأنّ مفاد تلك الأدلّة بتوسّط أدلّة حجّيّتها يكون حكماً ظاهريّاً في حقّه، فيجب عليه العمل على طبقه.

وأمّا حرمة التقليد عليه فيما اجتهد فيه؛ فلأنّه يرى المخالف له في الفتوى جاهلاً، وأنّ ما يقوله ذلك الغير ليس هو الحكم الشرعيّ، فكيف - إذاً - يرجع إليه؟(قدس سرّه)

وأمّا المتجزّي، لو قلنا بإمكان وقوعه، فهل يجوز له العمل بما استنبطه أم لا؟ وهل يحرم عليه التقليد أم لا؟

الحقّ: جواز العمل بما استنبطه؛ لأنّه عالم به، فإنّه بعدما استنبطه من الأمارات أو الاُصول، فالواجب عليه العمل به بحكم أدلّة اعتبارها، تماماً كما مرّ في المجتهد المطلق.وكذلك يحرم عليه الرجوع إلى الغير فيما استنبطه، وأيضاً: من جهة أنّه يرى أنّ الغير المخالف له في الفتوى جاهل فيما أفتى به، فلا يمكن له الرجوع إليه؛ لأنّه - حينئذٍ - من رجوع العالم إلى الجاهل.

ص: 428


1- انظر: وسائل الشيعة 27: 167، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح 46.

وأمّا رجوع الغير إليه وتقليده فيما استنبطه، فلا إشكال في جوازه مع توفّر أمرين:

أوّلهما: أن يستنبط جملةً معتدّاً بها من الأحكام حتى يصدق عليه أنّه فقيه وعالم.

وثانيهما: أن يكون أعلم من غيره؛ إذ لو كان هناك مجتهد مطلق أعلم فيجب الرجوع إليه مع عدم أعلميّة المجتهد المتجزّي.

وقد ذكر الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) - تعليقاً على قول صاحب العروة): «وكونه مجتهداً مطلقاً فلا يجوز تقليد المتجزّي» ما نصّه -:

«وما أفاده(قدس سرّه) بناءً على الاستدلال على وجوب التقليد بدليل الانسداد هو الصحيح؛ وذلك لأنّ بطلان غير التقليد من الطرق وانسدادها على العامّيّ المقلّد يقتضي وجوب رجوعه إلى عالمٍ ما؛ إذ النتيجة جزئيّة، والمقدار المتيقّن هو الرجوع إلى المجتهد المطلق دون المتجزّي، كما أفاده.

كما أنّ الحال كذلك فيما لو استدللنا على وجوبه بالأدلّة اللّفظيّة من الكتاب والسنّة؛ لأنّ قوله - عزّ من قائل -: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ ...﴾ (1)، دلّ على أنّ الحذر إنّما يجب عند إنذارالمنذر الفقيه، ولا دلالة لها بوجهٍ على وجوبه عند إنذار كلّ منذرٍ وإن لم يصدق أنّه فقيه.

ص: 429


1- التوبة: الآية 122.

كما أنّ الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاصٍ معيّنين دلّتنا على الرجوع إلى يونس بن عبد الرحمن وأمثاله من أكابر الفقهاء والرواة، ولم تدلّنا على جواز الرجوع إلى من عرف مسألةً أو مسألتين، ولم يكن من أضراب هؤلاء الأكابر من الرواة»(1).

ولكن قد ذكرنا أنّه يجوز تقليده إذا كان قد استنبط جملة معتدّاً بها من المسائل بحيث يصدق عليه عنوان الفقيه، لا عنوان من استنبط مسألةً أو مسألتين، أو نحو ذلك، فقط، ففي هذه الحالة، إذا كان هو الأعلم، فيجب الرجوع إليه، ولو مع وجود المجتهد المطلق؛ لقيام السيرة العقلائيّة على ذلك. وأمّا الإرجاع إلى بعض الأشخاص، فهو لا يدلّ على عدم جواز الرجوع إلى غيرهم، إلّا إذا كان في مقام الحصر، ولعلّ الإرجاع إليهم لأنّهم كانوا أعلم من غيرهم.

ولذلك قال الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه): «نعم، مقتضى السيرة العقلائيّة عدم الفرق في رجوع الجاهل إلى العالم بين أن يكون مجتهداً مطلقاً أو متجزّئاً؛ لوضوح أنّ جاهلهم بشيء يرجع إلى العالم به، وإن لم يكن له معرفة بغيره من الاُمور، فتراهم يراجعون الطبيب الأخصّائيّ بالعيون - مثلاً - وإن لم يكن له خبرة بغيرها من الجهات، وكذلك من له معرفةببعض المسائل دون بعض، وإن كان قليلاً، بل قد يقدّمون نظر المجتهد المتجزّي على

ص: 430


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 189 - 190.

قول المجتهد المطلق عند المعارضة، كما إذا كان المتجزّي أعلم من المجتهد المطلق؛ لممارسته ودقّته في العلوم العقليّة، وكونه أقوى استنباطاً منه فيما يرجع إلى تلك المباحث من المسائل، كوجوب مقدّمة الواجب وبحثي الضدّ والترتّب وغيرها، وإن لم يكن له قوّة بتلك المثابة في المسائل الراجعة إلى مباحث الألفاظ كغيرها»(1).

وقد يقال: لهذه السيرة رادع من الكتاب والسنّة.

أمّا من الكتاب: فبقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(2)، والجاهل يجب عليه تعييناً السؤال عن أهل الذكر، لا أنّه واجب مخيّر بأن يكون غير ماُموراً بالسؤال من أهل الذكر أو غيرهم مخيّراً بينهما، ومن الواضح، أنّ من يعلم مسألة أو مسألتين فلا يصدق عليه أنّه من أهل الذكر، فالمتعيّن هو الرجوع إلى المجتهد المطلق، دون المتجزّي.

وفيه: أوّلاً: أنّه إنّما يصحّ لو كانت الآية دالّةً على وجوب التقليد، وأنّ السؤال مقدّمة للعمل، ولكنّ ظاهرها أنّ السؤال إنّما هو من باب المقدّمة لحصول العلم، ويمكن أن يكون المراد من أهل الذكر علماء اليهود، وقد أمر اﷲ تعالى الجاهلين بالسؤال عنهم لكونهم عالمين بالتوراة، فالآيةالكريمة واردة في باب تعلّم اُصول الدين، أي: إذا لم يكن لكم علم بالبراهين والحجج والكتب فاسألوا أهل الذكر فإنّهم يعلمون بذلك.

ص: 431


1- المصدر نفسه 1: 190.
2- النحل: الآية 43.

وثانياً: حتى على فرض التنزّل والقول بكون الآية شاملةً لمورد التقليد، فلا يتمّ ما ذكر؛ لأنّنا لم نقل بجواز تقليد المتجزّي إلّا إذا كان يعلم جملةً من الأحكام المعتدّ بها بحيث يصدق عليه عنوان الفقيه والعالم، وحينئذٍ، فإذا صدق عليه هذا العنوان، صدق عليه - أيضاً - عنوان (أهل الذكر).

وأمّا آية النفر، فهي وإن أمكن أن تكون ظاهرةً في وجوب التقليد، إلّا أنّها - أوّلاً - ليست في مقام الحصر لتدلّ على أنّ وجوب الحذر يترتّب على إنذار الفقيه حتى يقال: إنّ العالم المتجزّي ليس بفقيه، فلا تكون الآية صالحةً للرادعيّة. وثانياً: قد عرفت أنّ جواز الرجوع المتجزّي إنّما هو بعد استنباطه لجملة من الأحكام بحيث يصدق عليه عنوان الفقيه.

وأمّا الروايات:

فمنها: قوله(علیه السلام): «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه..»(1).

ولكنّها واردة في بيان أوصاف من يجوز تقليده، لا في مقام بيان أنّه لابدّ أن يكون فقيهاً، وأنّ الفقاهة معتبرة فيه.ومنها: مقبولة ابن حنظلة المتقدّمة، حيث ورد فيها: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً»(2).

ص: 432


1- وسائل الشيعة 27: 131، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، ح 20.
2- مرّ تخريجها آنفاً.

وفيه: أوّلاً: أنّ هذه المقبولة واردة في باب القضاء، ولابدّ من دليل يثبت أنّ ما اعتبر في القاضي هو بعينه معتبر في المجتهد.

وثانياً: أنّها معارضة بحسنة أبي خديجة، حيث ورد فيها: «ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا...»(1)، حيث دلّت على أنّ من تعلم شيئاً من قضاياهم(علیهم السلام)كافٍ في أن يصبح قاضياً، وهذا متحقّق في المتجزّي كالمطلق.

والحاصل: أنّ الكتاب والسنّة لا يدلّان على عدم جواز الرجوع إلى المتجزّي مطلقاً، بل إذا لم يصدق عليه عنوان الفقيه، والمتجزّي إذا استنبط جملةً معتدّاً بها من الأحكام صدق هذا العنوان عليه، فيكون تقليده جائزاً.

وأمّا ما قد يُدّعى من الإجماع على عدم الجواز، فقد عرفت حاله؛ فإنّ هذه الإجماعات مضافاً إلى كونها منقولة، فهي محتملة المدركيّة.بقي الكلام فيما إذا كان المجتهد المطلق لم يستنبط ولو في موردٍ واحد فهل يجوز له أن يقلّد الغير أم لا؟ وهل يجوز للغير تقليده أم لا؟

لا يخفى: أنّه لمّا كان حائزاً على ملكة الاستنباط، فلا تشمله أدلّة رجوع الجاهل إلى العالم، فلا يجوز له الرجوع إلى الغير.

لا يقال: إنّ الملكة بمجرّدها لا تفيد، بل لابدّ وأن يكون فقيهاً بالفعل،

ص: 433


1- وسائل الشيعة 27: 13، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح 5.

وما دام لم يستنبط فلا يصدق عليه عنوان العالم والفقيه، فيجوز له الرجوع إلى الغير.

فإنّه يقال: إنّ صاحب الملكة والمتمكّن من الاستنباط، وإن كان لم يستنبط فعلاً، إلّا أنّه لا يمكنه الرجوع إلى الغير بعد أن رأى عدم حجّيّة فتوى المخالف، وبعد عدم صدق الجاهل عليه عرفاً.

وأمّا رجوع الغير إليه، فلا يجوز؛ لأنّ الأدلّة الدالّة على جواز التقليد تستفاد - كما عرفنا - من العقل أو الكتاب أو السنّة أو السيرة العقلائيّة، وهي بأجمعها منصرفة عمّن لم يستنبط، ولو كانت لديه ملكة الاجتهاد.

وأمّا ثبوت الولاية للمتجزّي على أموال الغيّب والقصّر:

فيقول الاُستاذ المحقّق(رحمة الله):

«إنّ مسألة الولاية - كما حقّقناها في محلّها - لها درجات ثلاث:الأُولى: أن يكون له الولاية على الحسبيّات فقط، أي: الاُمور التي نعلم بمحبوبيّتها عند الشارع وعدم رضائه بتركها، كحفظ أموال الغيّب والقصّر وسائر ما شابههما.

الثانية: الولاية على الاُمور النوعيّة التي هي عبارة عن الأعمال التي تُعمل لأجل مصالح المسلمين، وذلك كأعمال الولاة والسلاطين، فما كان من شؤونهم يكون داخلاً في هذا القسم.

الثالثة: الولاية المطلقة حتى على الاُمور الشخصيّة، وذلك كطلاق زوجة زيد - مثلاً - أو بيع داره، بل هبتها، لشخص.

ص: 434

والولاية بهذا المعنى الأخير على الظاهر عدمه للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة من المسلّمات، ولم يقل بها أحد في حقّ الفقيه إلّا من شذّ ولا يعتنى بكلامه.

كما أنّ القسم الأوّل من المسلّمات ثبوته له، حتى أنّه لو لم يكن هناك مجتهد يجب أن يقوم بها عدول المؤمنين، وعلى فرض عدمهم، فلازمٌ أن يقوم بها فسّاق المؤمنين، كلّ ذلك لأجل ما ذكرنا من محبوبيّتها للشارع وعدم رضائه بتركها.

وأمّا القسم الثاني، ففيه كلام طويل، وهو محلّ الخلاف، ونحن رجّحنا ثبوته للفقيه الجامع للشرائط في محلّه؛ لقوله(علیه السلام): (مجاري الاُمور بيد العلماء الاُمناء على حلاله وحرامه) (1)».

ثمّ قال(قدس سرّه):«وأمّا شموله للمتجزّي في غاية الإشكال؛ لأنّ موضوع هذه الولاية هو عنوان العلماء والفقهاء، أو رواة الحديث، وكلّ هذه العناوين منصرفة عن المتجزّي، إلّا أن يكون المتجزّي بمرتبةٍ بحيث يعرف جملةً مهمّةً ومقداراً معتدّاً به من الأحكام الشرعيّة، بحيث يصدق وينطبق هذه العناوين أو أحدها عليه»(2).

ص: 435


1- انظر: بحار الأنوار 97: 80، الحديث 37، بتفاوت يسير.
2- منتهى الاُصول 2: 625.
الأمر الخامس :التخطئة والتصويب:

لا يخفى: أنّ المجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وكما في الاُمور العقليّة لا يمكن تصويب كلا الرأيين المتنافيين؛ لأنّه يستلزم اجتماع الضدّين أو النقيضين، بل لابدّ أن يكون أحدهما صواباً والآخر خطأً، ولا يمكن أن تكون جميع آراء العقلاء صائبةً، فكذلك - أيضاً - في الشرعيّات، فإذا اختار أحد المجتهدين رأياً، كوجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة، وقال المجتهد الآخر بوجوب صلاة الجمعة فيه، وقلنا بأنّ الحكم الثابت واقعاً في يوم الجمعة هو إمّا الظهر أو الجمعة، فأحد هذين الرأيين فقط يكون صواباً، وأمّا الآخر فهو خطأ لا محالة، ولا يمكن القول بأنّ كلا الرأيين صواب؛ لتأديته - أيضاً - إلى اجتماع النقيضين.وفي هذه المسألة خلاف كبير بين فقهاء المسلمين، فقسم منهم، وهم فقهاء العامّة، يقولون بالتصويب، وقسم آخر، وهم الخاصّة، يقولون بالتخطئة.

ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم في المقام: أنّ التصويب على قسمين:

الأوّل: التصويب المحال، وهو المنسوب إلى الأشاعرة، وحاصله: أنّه ليس في الواقع حكم ﷲ تعالى، وأنّ المجتهد مصيب دائماً؛ إذ قيام الأمارات والطرق لديه يكون سبباً لحدوث المصلحة في الشيء الذي انتهى إليه، وهذه المصلحة تستتبع جعل الحكم على طبقها، فليس هناك

ص: 436

من حكم واقعيّ وراء ما أدّى إليه قيام الأمارة أو الأصل عند المجتهد، فتكون النتيجة: تبعيّة الحكم الواقعيّ لآراء المجتهدين، وأنّ جعل الحكم يكون متأخّراً عن قيام الأمارة عليه.

وهذا المعنى من التصويب باطل ومحال؛ وذلك لأنّه لو لم يكن هناك من حكم واقعيّ مجعول قبل الأمارة، فعن ماذا تكون الأمارة كاشفة وحاكية؟ ضرورة أنّه لا يعقل تحقّق الكشف من دون مكشوف، فلو توقّف ثبوته على قيام الأمارة عليه للزم الدور المحال.

أضف إلى ذلك، أنّ هذا المعنى من التصويب يستلزم اختصاص الأحكام الشرعيّة بخصوص من قامت عنده الأمارة، وهو مخالف لما دلّ على أنّه ما من واقعة إلّا وﷲ فيها حكم يشترك فيه الجاهل والعالم، من قامت عنده الأمارة، ومن لم تقم عنده.والثاني: التصويب الباطل، لا لمكان استحالته، بل لقيام الإجماع على بطلانه. وهو المنسوب إلى المعتزلة. وحاصله: أنّه ولو كان في الواقع أحكام مجعولة حسبما فيها من المصالح، والأمارات تكون حاكية عنها، ولكن إذا فرض قيام الأمارات عند المجتهد، فإنّ قيامها هذا يكون سبباً لحدوث مصلحة فيما أدّت إليه أقوى ممّا فيه من المصلحة الواقعيّة، فما أدّت إليه الأمارة هو الحكم الفعليّ بالنسبة إلى المجتهد، ولابدّ أن يعمل طبق مؤدّاها هي، دون الواقع، وبذلك تصبح الأحكام الواقعيّة غير فعليّة، بل هي - حينئذٍ - مجرّد أحكامٍ صوريّة.

ص: 437

وهذا المعنى وإن كان معقولاً في حدّ نفسه، وليس فيه من استحالة عقليّة، إلّا أنّ الإجماع قام على بطلانه، وعلى أنّ الأمارة لا تكون مغيّرة للواقع، كما أنّ المستفاد من الأخبار هو اشتراك الجاهل والعالم في الحكم، ما يعني عدم صحّة القول بأنّ الأحكام الواقعيّة مختصّة بالعالمين بها فقط.

على أنّ ذلك هو ما تقتضيه - أيضاً - إطلاقات أدلّة الأحكام في حدّ نفسها، فإنّ الدليل الذي دلّ على حرمة الخمر - مثلاً - مقتضى إطلاقه هو عدم اختصاص هذه الحرمة بالعالمين بها فقط، بل أنّ الخمر يكون حراماً مطلقاً، علم المكلّف بحرمته أم لم يعلم، قامت أمارة على الخلاف أم لم تقم.

وأمّا توهّم أنّ تعميم الحكم الواقعيّ للجاهلين لازمه اجتماع حكمين متضادّين على موضوع واحد، وهو محال؛ ببيان: أنّالشيء الواحد - حينئذٍ - يكون في حقّ الجاهل محكوماً بحكمين، أحدهما: الحكم الواقعيّ، والآخر: الحكم الظاهريّ.

ففاسد؛ لما قرّرناه في محلّه في مبحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ.

فالحقّ - إذاً - هو القول بالتخطئة كما عليه أصحابنا.

الأمر السادس :في الإجزاء بعد تبدّل الرأي:

لا يخفى: أنّ الأمر تارةً: يكون واقعيّاً أوّليّاً، وأُخرى: واقعيّاً ثانويّاً، وثالثةً: يكون ظاهريّاً، فلو أتى بالماُمور به على طبق أمره، فإنّه مجزٍ له

ص: 438

قطعاً؛ لحصول الغرض منه، فيكون الأمر ساقطاً قهراً؛ ضرورة أنّه لو لم يسقط لكان من قبيل طلب الحاصل، والامتثال عقيب الامتثال، وهو أمر غير معقول؛ إذ بعد سقوط الأمر لا يبقى معنى للامتثال الثاني أصلاً.

وقد يقال: بل هو ممكن وواقع، كما في صلاة المنفرد إذا صلّاها، فيعيدها جماعة.

ولكن قد عرفت: بأنّ هذا ليس من قبيل الامتثال بعد الامتثال، أي: انبعاثه ثانياً عن أمر المولى؛ إذ بعد سقوط الأمر بالانبعاث الأوّل الذي أتى فيه بالماُمور به بجميع أجزائه وشرائطه مع إعدام موانعه، فلا يبقى أمر - أصلاً - حتى ينبعث عنه ثانياً.

ولذا قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):«وأمّا مسألة إعادة المنفرد صلاته جماعةً، أو الإمام مرّةً واحدةً أُخرى إماماً، فليس من قبيل تبديل الامتثال، بل من جهة أنّ الغرض الأقصى حيث لم يحصل بعد، فللعبد أن يأتي بفردٍ آخر من طبيعة الماُمور به، لا بعنوان الامتثال الثاني، أو بعنوان تبديل الامتثال؛ لأنّ الامتثال حصل بالإتيان الأوّل، وسقط الأمر، بل برجاء أن يكون أحبّ إليه من الفرد الأوّل، فيختاره لغرضه الأقصى.

وهذا المعنى متوقّف على أمرين:

أحدهما: عدم حصول الغرض الأصليّ بمجرّد وجود الماُموربه أو اختياره لغرضه الأصليّ بمجرّد وجوده.

ص: 439

وثانيهما: احتمال أن يكون ما يريد أن يأتي به ثانياً هو الذي يختاره المولى، وبعد وجود هذا الاحتمال، لا فرق بين أن يكون ما يريد أن يأتي به ثانياً في نظره أفضل من الذي أتى به أوّلاً أو مساوياً له، ولا يحتاج إلى وجود دليلٍ على هذا الأمر بعد هذا الاحتمال أيضاً إذا جاء به برجاء أنّه هو المختار. نعم، استحبابه يحتاج إلى الدليل، كما أنّهم أفتوا في الموردين المتقدّمين لأجل ذلك»(1).

وقد تقدّم في محلّه في مبحث الإجزاء كلام مفصّل يرتبط بهذا البحث، فلا نعيد.

وإنّما الكلام فيما نحن فيه، في أنّ القاعدة في مورد تبدّل رأي المجتهد، أو العدول من مجتهدٍ إلى الآخر مع تخالفهما في الفتوى، هل تقتضي الإجزاء، إلّا أن يدلّ الدليل علىعدمه، أم أنّها تقتضي عدم الإجزاء ووجوب الإعادة في الوقت والقضاء خارجه؟

لا يخفى: أنّه بناءً على السببيّة - بمعنى: أنّه من طرف قيام الأمارة أو الأصل توجد مصلحة في المتعلّق - فيمكن أن نقول بالإجزاء، أمّا بناءً على الطريقيّة فالإجزاء بحاجةٍ إلى الدليل، لأنّه الآن لا يرى ذلك طريقاً، بل يراه مخطئاً، فالصلاة التي أتى بها - مثلاً - بفتوى المجتهد الأوّل بتسبيحة واحدة، مع فتوى المجتهد الثاني بعدم كفاية التسبيحة الواحدة،

ص: 440


1- منتهى الاُصول 1: 242.

فهو لا يراها الآن تامّةً؛ لأنّه لم يأتِ بالماُمور به التامّ، ولم يأتِ بما هو بدل عنه، فالإجزاء يحتاج إلى دليل. وعليه: فمقتضى القاعدة هو القول ببطلان ما أتى به أوّلاً، ولابدّ من الإعادة في الوقت والقضاء خارجه.

وقد يقال: بأنّ هذا الكلام تامّ فيما لو كان هناك حجّة معتبرة على الخلاف، كما لو أحرز بالعلم الوجدانيّ أنّه على خلاف الواقع. وأمّا إذا كان كلّ من الاجتهادين ممّا يحتمل مخالفته للواقع، فعمل المقلّد وإن كان يجب أن يكون مطابقاً للاجتهاد اللّاحق، ولكنّ الاجتهاد الأوّل قد كان حجّة في ظرفه، والثاني، وإن كان حجّة بالفعل، إلّا أنّه مع ذلك لا يكشف عن عدم حجّيّة الاجتهاد الأوّل في ظرفه، فلا وجه لبطلان الأعمال المتقدّمة التي أتى بها على طبق الاجتهاد الأوّل، حيث إنّه في ظرفه كان متّصفاً بالحجّيّة.

ولكن قد عرفت أنّ قيام الحجّة الثانية ولو لم يكن كاشفاً عن عدم حجّيّة الاجتهاد الأوّل في ظرفه، إلّا أنّ مقتضاها،أعني: الحجّة الثانية، هو ثبوت مدلولها من أوّل الأمر، لا أنّها مختصّة بعصر دون عصر، فيكون العمل على طبق الحجّة الأُولى باطلاً بعد قيام الحجّة الثانية، فلابدّ من الإعادة والقضاء، فإنّ احتمال مخالفة الحجّتين للواقع، وإن كان موجوداً، لكنّ هذا الاحتمال يلغى بالنسبة إلى الحجّة الثانية؛ لأنّ حجّيّتها فعليّة بحسب الفرض، فلا يكون له في صورة مخالفتها مؤمّن من العقاب، والعقل يستقلّ بلزوم تحصيل المؤمّن، فإذا

ص: 441

كان عمله مطابقاً مطلقاً للحجّة الثانية، كان له المؤمّن، فاندفع عنه احتمال الضرر، وأمّا ما أتى به المكلّف أوّلاً، فهو حيث كان مخالفاً لمقتضى الحجّة الثانية، فلا يحصل للمكلّف العلم بمطابقته للواقع، وعليه: قإذا تبدّل رأي المجتهد في جميع أبواب الفقه، من العبادات أو المعاملات، بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ، والأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة، فمقتضى القاعدة أنّه لابدّ من الإعادة أو القضاء، وهذا مساوق للقول بعدم الإجزاء.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية)(1) نسب إلى صاحب الفصول(قدس سرّه) القول بالتفصيل بين الأحكام ومتعلّقاتها والموضوعات، والقول بالإجزاء في الأحكام دون الموضوعات، والدليل الذي ذكره لعدم الإجزاء في الموضوعات: هو أنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين.قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه): «وقد أشكل في فهم مراده من هذه العبارة، حتى أنّه قيل: إنّ شيخنا الأعظم(قدس سرّه) بعث أحد عظماء تلامذته للسؤال عن صاحب الفصول عن معنى هذه العبارة، فما أتى صاحب الفصول بشيءٍ في مقام الجواب يمكن أن يركن النفس إليه»(2).

فهذا التفصيل منه(قدس سرّه) لا دليل عليه.

ص: 442


1- انظر: كفاية الاُصول: 470، نقلاً عن الفصول الغرويّة: 409، في فصل رجوع المجتهد عن الفتوى.
2- منتهى الاُصول 2: 629.

وقد يستدلّ على الإجزاء باُمور:

منها: لزوم العسر والحرج على القول بعدمه، وهما منفيّان في الشريعة المقدّسة، خصوصاً بالنسبة إلى العبادات، فلو أنّ شخصاً قلّد مجتهداً لمدّة طويلة، ثمّ تبدّل رأي هذا المجتهد، أو مات وقلّد مجتهداً آخر بعده، وكانت فتوى المجتهد الثاني مخالفةً لفتوى المجتهد الأوّل، فإنّ القضاء بالنسبة إلى المقلّد، والحال هذه، يكون حرجيّاً.

ولكن فيه: أنّ الكلام إنّما هو في مقتضى القواعد الأوّليّة، والإجزاء إنّما يثبت بالقواعد الثانويّة، وقاعدة العسر والحرج لا تنافي عدم الإجزاء ووجوب القضاء بالقاعدة الثانويّة.

وأيضاً: فقد مرّ في محلّه أنّ الحرج والضرر المنفيّين في الشريعة هما الحرج والضرر الشخصيّان، لا النوعيّان، والضرر والحرج الشخصيّان يختلفان بحسب اختلاف الموارد والأشخاص، فينبغي أن يقال - حينئذٍ -: بأنّه إذا كان هناكحرج في موردٍ بالنسبة إلى شخصٍ ما، فيرتفع الحكم بالنسبة إلى هذا الشخص دون غيره ممّن لا حرج عليه.

ومنها: الإجماع.

وفيه: أنّه قد عرفت مراراً حال هذه الإجماعات، وأنّها - من جهةٍ - منقولة، ومن جهةٍ أُخرى: محتملة المدركيّة.

قال اُستاذنا الأعظم(رحمة الله) في المقام ما لفظه:

«والجواب عن ذلك: أنّ الإجماع المدّعى لو كان محصّلاً لم نكن

ص: 443

نعتمد عليه، لما يأتي بيانه، فما ظنّك بما إذا كان إجماعاً منقولاً بالخبر الواحد، وسرّه: أنّ تحصيل الإجماع في المسألة دونه خرط القتاد؛ إذ كيف يمكن استكشاف قوله(علیه السلام) في المقام ولم يتعرّض أكثر الأصحاب للمسألة، ولم يعنونوها في كلماتهم؟(قدس سرّه)

هذا. على أنّا لو سلّمنا اتّفاقهم، أيضاً: لم يمكننا الاعتماد عليه؛ لأنّا نعلم أو نظنّ، ولا أقلّ من أنّا نحتمل استنادهم في ذلك إلى بعض الوجوه المستدلّ بها في المقام، ومعه: لا يكون الإجماع تعبّديّا كاشفاً عن قوله(علیه السلام)»(1).

ومنها: سيرة المتشرّعة، وقد ادّعوا بأنّ هذه السيرة جارية على عدم لزوم الإعادة أو القضاء، حيث لم نستعهد أحداً يعيد أو يقضي ما أتى به من العبادات مدّة حياته إذا عدل عن رأيه، أو تبدّلت فتوى مجتهده، وهذه السيرة لم يكن هناك رادع عنها في الشريعة المقدّسة، فلابدّ أن نقولبالإجزاء عدم وجوب الإعادة أو القضاء إذا عدل المجتهد عن رأيه.

وفيه: أنّ إثبات اتّصال هذه السيرة المستمرّة بزمان المعصوم(علیه السلام) بحاجة إلى دليل.

يقول الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه): «على أنّا لو سلّمنا استكشاف السيرة بوجه،

ص: 444


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 43.

فمن أين يمكننا إحراز اتّصالها بزمان المعصومين(؛ إذ لا علم لنا بأنّ شخصاً واحداً، فضلاً عن جماعةٍ، اتّفق له العدول في عصرهم(، وبنى على عدم إعادة الأعمال المتقدّمة، ولم يردع عنه الإمام(علیه السلام)، حتى نستكشف اتّصال السيرة بزمانهم، وكونها ممضاةً عندهم(، ومن الممكن أن تكون السيرة مستندةً إلى فتوى جماعةٍ من الفقهاء قدّس اﷲ أسرارهم.

والذي يوقفك على ذلك: أنّ المسألة لو كانت عامّة البلوى في عصرهم(علیهم السلام)لسئل عن حكمها، ولو في روايةٍ واحدة، وحيث لم ترد إشارة إلى المسألة في شيءٍ من النصوص، فنستكشف بذلك: أنّ كثرة الابتلاء بها إنّما حدثت في الأعصار المتأخّرة، ولم يكن منها في عصرهم(علیهم السلام)عين ولا أثر. فالسيرة - على تقدير تحقّقها - غير محرزة الاتّصال بعصرهم، ولا سبيل معه إلى إحراز أنّها ممضاة عندهم(علیهم السلام)أو غير ممضاة»(1).وممّا ذكرنا ظهر: أنّ الإجزاء خلاف القاعدة، فلابدّ من الإعادة في الوقت، والقضاء خارج الوقت. نعم، لو قلنا بشمول قاعدة (لا تعاد) للجاهل القاصر، ففي الصلاة، إذا كان الإخلال بغير الوقت والقبلة والركوع والسجود والطهور فهي مجزية.

ص: 445


1- المصدر نفسه 1: 44.

وأمّا المقام الثاني:

اشارة

والكلام فيه في التقليد.

وهو: «الالتزام بالعمل برأي الغير ولو لم يعمل بعد»، أو «رجوع الغير إلى من ثبت حجّيّة قوله عنده»، وبعبارة أُخرى: هو «نفس العمل برأي الغير مستنداً إليه».

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه):

«والصحيح هو الثاني؛ لأنّ الذي يجب على العامل بالتكاليف الشرعيّة هو أن يكون له حجّة على أنّ عمله هذا مبرئ للذمّة، وتلك الحجّة: إمّا علم أو علميّ، والعامّيّ غير المحتاط حيث إنّه عاجز عن استعمال الحجج التفصيليّة ليس شيء له أقرب إلى الواقع من أن يجعل عمله مستنداً إلى رأي من هو قادر على استعمال تلك الحجج واستعملها فعلاً»(1).

فالمقلّد لابدّ له من أن يستند ويتّكئ في عمله على قول الغير.ولكنّ صاحب الكفاية(قدس سرّه) لم يرتضِ بذلك، بل قال: بأنّ التقليد هو الأخذ والالتزام، ومنع عن تفسيره بالعمل استناداً إلى رأي الغير، نظراً إلى أنّ التقليد إذا كان نفس العمل على طبق فتوى الغير فأوّل عملٍ يصدر من المكلّف يصدر من غير تقليد؛ فإنّ ذلك العمل غير مسبوق بالتقليد الذي

ص: 446


1- منتهى الاُصول 2: 631.

هو العمل، مع أنّ العمل لابدّ أن يكون مسبوقاً بالتقليد؛ لأنّ المكلّف لابدّ أن يستند في أعماله إلى حجّة، فكما أنّ المجتهد يستند إلى اجتهاده، وهو أمر سابق على عمله، كذلك العامّيّ، لابدّ أن يستند إلى التقليد، ويلزم أن يكون التقليد سابقاً على عمله.

وإليك نصّ كلامه(قدس سرّه):

«وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات، أو للالتزام به في الاعتقاديّات تعبّداً، بلا مطالبة دليلٍ على رأيه، ولا يخفى: أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل؛ ضرورة سبقه عليه، وإلّا كان بلا تقليد، فافهم»(1).

وقد أجاب عن هذا اُستاذنا الأعظم(قدس سرّه): بأنّ «التقليد - كما مرّ - لون وعنوان للعمل، فهو أمر مقارن معه، ولا يعتبر فيه السبق زماناً، فإذا عمل المكلّف عملاً مستنداً إلى فتوى الغير، كان ذلك العمل مقروناً بالتقليد لا محالة، وهو كافٍفي صحّته، ولا دليل على اعتبار سبق التقليد على العمل»(2).

وخلاصة الكلام: أنّه ليس هناك ما يدلّ على أنّ معنى لابدّيّة أن يكون عمل العامّيّ عن تقليد هو لزوم سبق التقليد على العمل، بل معناه: أنّ عمل العامّيّ يجب أن يكون مستنداً إلى رأي المجتهد إن لم يحتط،

ص: 447


1- كفاية الاُصول: 472.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 60.

فنفس عمله بهذا العنوان هو مصداق لمفهوم التقليد أيضاً، ولا دليل على مسبوقيّة التقليد على العمل، فيكون المقام كإعطاء مال إلى شخص بقصد أن يكون ملكاً له بعوض ماليّ، فهذا يصدق عليه مفهوم البيع، فكذلك نفس عمل العامّيّ مستنداً إلى رأي الغير، يصدق عليه التقليد أيضاً.

ثمّ إنّه لا ثمرة فقهيّة في كون التقليد هو الالتزام أو العمل، اللّهمّ إلّا في النذر، وفي مسألة البقاء على تقليد الميّت، فإن قلنا بأنّ التقليد هو الالتزام، ولو لم يعمل بعد، فلو مات مجتهده، فيجوز له أن يبقى على تقليده، وأمّا إذا قلنا بأنّه هو العمل، فلا يجوز له البقاء على تقليده ما لم يعمل بفتاواه في حياته، لأنّه يكون من تقليد الميّت ابتداءً، ولو كان في أثناء حياته ملتزماً بأن يعمل على طبقها.

ولا بأس هنا بالتعرّض لمعنى الاحتياط، فنقول:

الاحتياط هو أن يأتي بما يحتمل وجوبه، ويترك ما يحتمل حرمته، فبالاحتياط يحرز الواقع - وهذا هو الوجه في حجّيّته وجوازه -، ويمكن أن يقال: بأنّ العمل به يكون أفضل منالعمل بالاجتهاد والتقليد؛ لأنّه لم يخالف الواقع أصلاً، لكن قد لا يمكن العمل بالاحتياط في بعض الموارد، كما إذا دار الأمر بين المحذورين، أو لكثرة أطراف الشبهة، بحيث لا يتمكّن المكلّف من الإتيان بجميع أطرافها، وكما إذا كان العمل عباديّاً، فالمكلّف لا يتمكّن من إتيانها بنحو الامتثال الإجماليّ، مع التمكّن من الإتيان بها على نحو التفصيل.

ص: 448

ولا يخفى: أنّ العامل بالاحتياط لابدّ له من أن يعرف موارد الاحتياط، وإلّا، فلا يجوز له العمل بالاحتياط؛ إذ قد يكون الاحتياط في مخالفة الاحتياط.

والاحتياط قد يكون في العبادات، وقد يكون في المعاملات.

أمّا الأوّل، فلا مانع منه، استلزم الاحتياط فيها تكرار العمل، أو لم يستلزم.

وقد يتوهّم لزوم قصد الوجه فيها، بدليل عقليٍّ أو نقليّ.

ولكن فيه: أنّ كليهما مفقودان؛ أمّا العقل، فهو لا يرى توقّف الإطاعة على أزيد من لزوم الانبعاث عن بعث المولى خارجاً، ولا يرى دخل شيء آخر فيها جزماً.

وأمّا النقل، فلا أثر للإلزام بهذا القصد في الأخبار، مع ما نراه من كثرة ابتلاء الناس بالعبادات، وليس هناك من داعٍ للإخفاء في مثل هذه الاُمور عادةً، بل الداعي إلى الإظهار موجود، فهذا أدلّ دليل على عدم لزومه.

وأماّ التوصّليّات، فبما أنّ المفروض سقوط العمل فيها بمجرّد وجود الماُمور به في الخارج، فلا يعتبر فيها شيءآخر ،فإذا فرض تحقّقه في الخارج، ولو في ضمن اُمور متعدّدة، فيسقط الأمر لا محالة، بلا فرق بين العقود والإيقاعات وغيرهما، فمتى أوجد المكلّف ما هو سبب للملكيّة عند الشارع فيترتّب عليه الأثر لا محالة، بلا فرقٍ بين أن يكون متمكّناً من العلم التفصيليّ أم لا، وسواء كان مستلزماً للتكرار، كتردّد المايع بين

ص: 449

أن يكون مضافاً أو مطلقاً، أم لا؛ لأنّ المقصود من التوصّليّة - كما قلنا - إنّما هو حصول المتعلّق وتحقّقه بأيّ وجهٍ اتّفق، وكذا في المعاملات بالمعنى الأخصّ، فإنّ الاحتياط فيه حسن ومشروع، فلو فرض أنّ صيغة النكاح إمّا أن تحصل بلفظ (زوّجْتُ) أو (أنكحْتُ)، فيجوز له أن يجمع بين الصيغتين، كما إذا شكّ في أنّ الطلاق له يتحقّق بالجملة الفعليّة ﻛ (طلّقتك)، أو الاسميّة ﻛ (أنت طالق) أو (زوجتي طالق)، فلا مانع من أن يجمع بين الصيغتين.

ثمّ لو شككنا في أنّ الاحتياط والامتثال الإجماليّ هو في عرض الامتثال التفصيليّ أم في طوله، أي: أنّ الانبعاث لابدّ أن يكون مستنداً إلى الأمر جزماً، أو يكفي الانبعاث إذا استند إلى احتمال الأمر يكفي في الامتثال، فلا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال؛ لأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في كيفيّة الطاعة والامتثال، وحينئذٍ: نقول بمنع الاحتياط، وأنّه لابدّ من الامتثال تفصيلاً.

ولكن يمكن أن يقال: بعد فرض أنّ الاحتياط يكون في عرض الامتثال التفصيليّ، فإنّ الإضافة إلى اﷲ عزّ وجلّكما تتحقّق بالإتيان على وجه التفصيل، فهي تتحقّق - أيضاً - بالإتيان على وجه الإجمال؛ لأنّه - أيضاً - نحو إضافة إلى اﷲ سبحانه، فإنّه لو أتى بالعمل رجاءً يكون ممتثلاً - أيضاً -، والفقهاء متّفقون على أنّه لا فرق بين الإتيان التفصيليّ والإجماليّ، بل كلاهما يكون واقعاً على وجه الإطاعة والانقياد للمولى.

ص: 450

وفي المقام يقول اُستاذنا الأعظم(قدس سرّه):

«على أنّا لو شككنا في ذلك فالمرجع هو البراءة دون الاشتغال؛ إذ لا شكّ لنا في مفهوم العبادة، وإنّما الشكّ في واقعها وما يتّصف به العمل بالعبادة، فمرجع الشكّ - حينئذٍ - إلى أنّ الشارع هل اعتبر في متعلّق الأمر التحرّك عن تحريكه، والتحرّك عن احتمال الأمر والتحريك، فالجامع بين الاحتمالين، وهو لزوم الإتيان بالعمل بقصد الامتثال، معلوم، واعتبار كونه على وجه التفصيل، أعني: اعتبار كون التحرّك مستنداً إلى تحريك المولى مشكوك فيه، ومعه: يرجع إلى البراءة عن اعتبار ما يشكّ فيه بناءً على ما هو الصحيح عندنا من جريان البراءة في مورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير»(1).

ثمّ إنّ الوجوب النفسيّ لا يتصوّر في الاحتياط؛ لأنّه عنوان لنفس العمل، لا أنّه طريق لمعرفة الأحكام.

يقول الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه):«أمّا احتمال أن يكون الوجوب النفسيّ في تلك الطرق مستنداً إلى المصلحة الواقعيّة الباعثة على الإيجاب الواقعيّ، فيدفعه: أنّه إنّما يتمّ فيما إذا أثبتنا وجوبها شرعاً؛ فإنّه في مقام التعليل - حينئذٍ - يمكن أن يقال: إنّ وجوبها منبعث عن نفس المصلحة الواقعيّة، إلّا أنّه أوّل الكلام؛ لعدم قيام

ص: 451


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 52.

الدليل على وجوب الاجتهاد والاحتياط. نعم، لا بأس بذلك في التقليد بناءً على دلالة الأدلّة على وجوبه الشرعيّ، كما بنى عليه بعض مشايخنا المحقّقين(قدس سرّه)»(1).

وأمّا ما قد يقال: من أنّه يمكن استفادة الوجوب النفسيّ في التقليد، من مثل ما ورد من أنّ «طلب العلم فريضة»(2)، وقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(3)، وغيرهما.

ففيه: أنّ تعلّم الأحكام ليس بواجبٍ نفسيّ، بل هو طريق إلى العمل، كما ورد في بعض الروايات أنّه:

«إذا كان يوم القيامة قال اﷲ تعالى للعبد: أكُنْتَ عالماً؟ فإن قال: نعم، قال: أفلا عملْتَ بما علمْتَ؟ وإن قال: كُنْتُ جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت؟ فتلك الحجّة البالغة ﷲ تعالى»(4).وقد عرفت: أنّ السؤال أوّلاً إنّما كان عن العمل، لا عن التعلّم، فلا يجب العلّم وجوباً نفسيّاً، ولأنّه لو ترك التعلّم ولم يصلّ - مثلاً - فليس هناك إلّا عقاب واحد، وهو العقاب من جهة تركه للعمل، لا عقابان.

ص: 452


1- المصدر نفسه 1: 6.
2- وسائل الشيعة 27: 25، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، ح 15.
3- النحل: الآية 43.
4- بحار الأنوار 2: 180، باب 25، ح 3.
حجّيّة التقليد وجوازه:

لا ينبغي الشكّ في جواز التقليد للعامّيّ في الأحكام الشرعيّة، وذلك لسيرة العقلاء وبنائهم العمليّ؛ فإنّه قائم على رجوع الجاهل إلى العالم في كلّ مسألة، ولولا هذا لاختلّ نظام العالم، ولم يعهد عن الشارع ردع عن هذه السيرة، بل على العكس، فهو قد أمضى عملهم هذا وأقرّهم عليه، ويستفاد الإمضاء من الآيات والروايات.

أمّا الآيات:

فمنها: آية النفر.

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَاسْأَل---ُواْ أَهْلَ الذكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(1).

وأمّا السنّة:

فمنها: ما روي من قول عبد العزيز بن المهتدي للإمام(علیه السلام): «لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالمديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم»(2).

وهو مطلق يشمل قبول قول الثقه في الرواية والفتوى.

ومنها: قوله(علیه السلام) حينما سأله ابن ابي يعفور عمّن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة: «ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ؛ فإنّه سمع من

ص: 453


1- النحل: الآية 43.
2- وسائل الشيعة 27: 147، باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 33.

أبي، وكان عنده وجيهاً»(1).

ومنها: قوله(علیه السلام) لشعيب العقرقوفي بعد سؤاله عمّن يرجع إليه: «عليك بالأسديّ، يعني: أبا بصير»(2).

ومنها: قول أبي جعفر لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي اُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك»(3).

ومنها: التوقيع الشريف: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اﷲ»(4).وغير ذلك من الروايات، وهي كثيرة يمكن دعوى حصول الاطمئنان بدلالتها على جواز التقليد، مع اختلاف مضامينها.

وقد يستدلّ على جواز التقليد بالإجماع.

ولكن قد عرفت مراراً حال هذه الإجماعات، وأنّها ليست تعبّديّة كاشفة عن قول المعصوم، مضافاً إلى أنّها مظنونة المدركيّة، بل يمكن القطع بأنّ مدركه هو أمثال هذه الروايات التي نقلناها، مضافاً إلى عدم تحقّق الإجماع هنا مع اتّفاق الأخباريّين على عدم جواز التقليد.

ص: 454


1- المصدر نفسه 27: 144، ح 23.
2- المصدر نفسه 27: 142، ح 15.
3- رجال النجاشي: 10، الترجمة رقم 7.
4- وسائل الشيعة 27: 140، باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 9.
مسألة :هل يجوز تقليد الميّت ابتداءً؟

في المسألة أقوال:

1. جواز تقليد الميّت مطلقاً، ابتداءً واستدامةً.

2. عدم الجواز مطلقاً.

3. المنع منه ابتداءاً، والقول بجوازه استدامةً.

4. التفصيل بين أن يكون الظنّ الحاصل من قوله أقوى من الظنّ الذي يحصل من قول الحيّ، فيجوز، وإلّا، فلا.

5. التفصيل بين أن يكون المجتهد الحيّ الجامع لشرائط الفتوى موجوداً، وبين أن لا يكون كذلك، ففي الأوّل لا يجوز، وفي الثاني يجوز.

فبناءً على القول بالانسداد وأنّ النتيجة بناءً على الحكومة ليست مهملةً بالنسبة إلى مراتب الظنّ، وأنّ العقل يحكم بتقديم الظنّ الأقوى الحاصل من أحد الفتويين على الظنّ القويّ، فحينئذٍ: أيّ واحدٍ من الظنّين كان أقوى فيجب الأخذ به.ولكن فيه: أنّ حجّيّة التقليد - كما مرّت إليه الإشارة - لم يكن من جهة الانسداد، بل الدليل عليه هو السيرة وبناء العقلاء، وما ورد من الآيات والأخبار.

وأمّا التفصيل الأخير، فقال فيه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):

«وأمّا التفصيل الثاني المنقول عن العلّامة والأردبيليّ والشيخ سليمان

ص: 455

البحرانيّ والشيخ عليّ بن هلال، فليس - أيضاً - تفصيلاً في هذه المسألة؛ لأنّ الكلام في هذه المسألة في الجواز وعدم الجواز بعد الفراغ عن إمكان الرجوع إلى الحيّ، وأمّا في مورد عدم إمكان الرجوع إلى الحيّ؛ لبُعْد البلاد، وعدم الوسيلة، أو لانقراض الاجتهاد - العياذ باﷲ -، فلا مناص من الرجوع إلى الميّت إن لم يمكن الاحتياط، أو لم نقل بوجوبه؛ لأدلّة نفي العسر أو للإجماع»(1).

فتبقى الأقوال الثلاثة الأُخرى، وهي: جواز التقليد مطلقاً، وعدم جوازه مطلقاً، والمنع من تقليد الميت ابتداءً وجوازه استدامةً.

أمّا القول بجواز التقليد ابتداءً، فهو قول العامّة برمّتهم بعد حصرهم المذاهب في الأربعة الذين ماتوا قبل أزيد من ألف سنة. وقد ينسب هذا القول - أيضاً - إلى أصحابنا من الأخباريّين، ولكنّ هؤلاء في الحقيقة منكرون للاجتهاد، وبابه مسدود عندهم، وإنّما هم يقولون بأنّ وظيفة الفقيه -بعد أن كان العامّيّ عاجزاً عنه بنفسه - هو أن يفسّر قول المعصوم(علیه السلام) ويبيّنه للعامّيّ، وهذا المعنى لا يفرّق فيه بين الحيّ والميّت.

وقد يستدلّ للقول بعدم الجواز بوجوه:

الأوّل: الإجماع.

ص: 456


1- منتهى الاُصول 2: 638 - 639.

وفيه: أنّه لو قلنا بحجّيّته فلا تضرّ مخالفة الأخباريّين؛ لأنّ مخالفتهم ليست من جهة أنّهم يجوّزون تقليد الميّت ابتداءً، بل خلافهم مسلكيّ ومبنائيّ؛ لأنّهم ينكرون التقليد بالمعنى المصطلح؛ فإنّ المجتهد عندهم ليس إلّا الناقل للرواية، ولو بالمعنى، ولا يعتبرون الحياة في الرواية. ولكنّ أصل مبناهم هذا باطل؛ لأنّ العقل - كما عرفنا - هو الذي يحكم بلزوم رجوع الجاهل إلى العالم، لكونه من أهل الخبرة، مع كون رأيه دخيلاً، لا لمجرّد أنّه راوٍ؛ لأنّ الفقيه والمفتي إنّما هو الناظر في الأخبار، القادر على تمييز الصحيح من السقيم، الخبير بكيفيّة الجمع بين المتعارضين، وحمل العامّ على الخاصّ، والمطلق على المقيّد.

لا يقال: لنا أن ننقض المقام بمثل نقل الرواية، فإنّه لا يمكن لأحد الإشكال في شمولها للميّت، وليس من فرقٍ بين المقامين.

فإنّه يقال: إنّ ما يفهمه العرف من دليل حجّيّة قول الراوي هو أنّ المرجع هو الرواية، لا الراوي، والرواية لا تسقط بموت الراوي، بل ليس دور الراوي إلّا أن يقوم بنقل الرواية، لا أنّه يفتي حقيقةً على حسب رأيه ونظره.ومن الظاهر: أنّ حجّيّة الرواية وجواز العمل بها لا يتوقّفان على حياة الرواي بوجهٍ، بل يجوز العمل بها، سواء كان المحدّث بها حيّاً أم ميتاً. وأمّا المرجع في الفتوى فهو المجتهد نفسه، لا الفتوى، على أنّ مثل الحديث المتقدّم «من كان من الفقهاء ...»، حصر جواز الرجوع في

ص: 457

الرجوع إلى الفقيه، فمن لا يصدق عليه عنوان (الفقيه) بالفعل، فلا يجوز الرجوع إليه.

الثاني: وهو منسوب إلى المحقّق الثاني، وحاصله: عدم بقاء رأي المجتهد بعد موته، فليس هناك شيء حتى يكون موضوعاً للحجّيّة(1).

قال الاُستاذ المحقّق(رحمة الله): «هذا الدليل هو عمدة أدلّتهم؛ لأنّ الإجماع - مضافاً إلى مخالفة الأخباريّين وهم شطر كبير من علماء الشيعة، وجمع من المجتهدين - في أمثال المقام، ممّا يكون للمجمعين مدارك عقليّة ونقليّة، ويسندون فتاواهم إلى تلك المدارك، ليس هو الإجماع الاصطلاحيّ الذي بنينا على حجّيّته في الاُصول»(2).

وكيف كان، فيمكن بيان هذا الوجه بطريقتين:

الأُولى: أنّه إذا مات الشخص، فبعد موته تنكشف له الواقعيّات، فإذا كان قد استنبط شيئاً ما في حال حياته، وكان ما استنبطه خطأً في تلك الحالة، فذلك الاجتهاد لم يبقَ علىحاله، بل يتبدّل لا محالة، ومعه: فلم يبقَ موضوع لحجّيّة رأيه.

وأجاب عنها الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) بأنّ هذا «توهّم محض؛ لأنّ النفس في كلّ صورة علميّةٍ حصلت لها من تصوّرٍ أو تصديقٍ أو ملكةٍ من الملكات

ص: 458


1- انظر: رسائل المحقّق الكركي 2: 253.
2- منتهى الاُصول 2: 640.

الفضيلة أو الرذيلة، تحشر مع تلك الملكات والصور - علميّةً كانت أو ظنيّة - لا تزيد ولا تنقص، كما هو محقّق في محلّه.

وبعبارة أُخرى: النفس في بدء خلقتها ليس فيها شيء من العلوم والصور، حتى البديهيّات، بل صرف استعداد لتحصيل العلوم، ولذلك تسمّى في هذه المرتبة بالعقل الهيولائي، وبعدما وهبها اﷲ تعالى البديهيّات، فإذا شرع في التكسّب، يحصل من هذه التصوّرات البديهيّة والتصديقات البديهيّة التي وهبها اﷲ لها التصوّرات النظريّة والتصديقات النظريّة، فكلّ شيء اكتسبته وحصل لها من الصور العلميّة من التصوّرات والتصديقات يبقى له إذا كان في حال الحياة بلغ إلى مرتبة العقل بالفعل، وكلّ شيء لم يكتسبه ولم يحصله باقية على جهلها بالنسبة إليه. ولعلّ هذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَ-ذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَة ِ أَعْمَى﴾(1)، فدعوى: أنّ جميع الواقعيّات ينكشف له، لا أساس له.هذا مع أنّه يمكن أن يقال: فبناءً على ما ذكر، من المحتمل بقاء الرأي، غاية الأمر: كان ظانّاً به، وبعد الموت يصير متيقّناً، واختلاف الظنّ واليقين لا يوجب تبدّل الرأي، فيستصحب بقاؤه، وأثره: بقاء حجّيّته»(2).

الثانية: أنّ العرض لا يوجد إلّا بوجود موضوعه، فإذا لم يبقَ الموضوع

ص: 459


1- الإسراء: الآية 72.
2- منتهى الاُصول 2: 640 - 641.

والمعروض، لم يبقَ العرض أيضاً، والإنسان بعد الموت يكون جماداً، حيث لا إدراك له ولا شعور، كما هو محقّق ومشاهد بالوجدان، فكيف - إذاً - يبقى له رأي؟ هذا من قبيل وجود العرض بلا معروض، والصفة بلا موصوف، وهو محال.

وأجاب عن هذا الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه):

«بأنّ هذا الكلام لا يستقيم إلّا على مذهب من يقول بأنّ من مات فات، وينكر الحشر والنشور، أو من ينكر تجرّد النفس وبقاءها بعد بوار البدن، ولا بدّ له - حينئذٍ - من القول بأنّ المعاد خلق جديد، أو إعادة للمعدوم، وهذه اُمور يتنفّر عنها الطبع الصحيح، وينكرها العقل الصريح، ومخالف لما صدر، مستفيضاً، بل متواتراً، من النبيّ(صلی الله علیه و آله) وأهل بيت العصمة(، بل القرآن الكريم في موارد متعدّدة وآيات كثيرة»(1).

وهنا، فبعد وصول الأمر إلى الشكّ، وشككنا بأنّه هل يبقى الرأي للميت أم لا؟ فهل يمكن جريان الاستصحاب أم لا؟الصحيح: العدم؛ لأنّ من شروط جريان الاستصحاب أن يكون الموضوع في القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة واحداً، والعرف هنا لا يرى أنّ صاحب الرأي في القضيّة المتيقنة هو عينه صاحب الرأي في القضيّة المشكوكة، فلذلك لا يجري الاستصحاب.

ص: 460


1- المصدر نفسه 2: 642.

هذا كلّه، لو وصلت النوبة إلى الشكّ. ولكن قد عرفت أنّها لا تصل إليه؛ لأنّ الملكة إذا حصلت للنفس فهي باقية له، ولا تزول ببوار البدن.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّه لا مانع من القول بجواز التقليد الميّت ابتداءً لو لم يكن هناك إجماع في البين.

وقد استدلّ المجوّزون بوجوهٍ أيضاً:

الأوّل: الإجماع.

وقد عرفت حاله، بل لو لم نقل بأنّه لا يدلّ على عدم الجواز، فلا يمكن الاستدلال به - أيضاً - على الجواز.

الثاني: السيرة العقلائيّة.

ولكنّ إثبات هذه السيرة في باب تقليد الميت ابتداء، وأنّها مستمرّة إلى زمان المعصوم(علیه السلام) في غاية الإشكال، وأمّا بالنسبة إلى البقاء على تقليده، فيمكن ادّعاء السيرة، ولكن سيأتي الكلام فيه مفصّلاً.

الثالث: الآيات، ومنها: آيتا النفر والسؤال؛ بدعوى: أنّها مطلقة غير مقيّدة بالحياة.

ولكن لا يتمّ ذلك إلّا لو قلنا بأنّ المراد من (أهل الذكر) في آية السؤال هم الفقهاء، مع أنّ الظاهر من الآية أنّ الخطابموجّه إلى أهل الكتاب، أو المراد من أهل الذكر هو الأئمّة(، فتكون خارجةً عن محلّ البحث. وكيف كان، فلا إطلاق في الآيات يشمل الميت؛ لأنّ الميت لا يتأتّى منه الإنذار، ولا يصدق عليه عنوان أهل الذكر؛ لأنّ الظاهر من الآيتين

ص: 461

وغيرهما أنّ أمثال هذه العناوين مأخوذة على نحو الفعليّة، وذلك لا يكون إلّا في حال الحياة، كما هو أوضح من أن يخفى.

وقد استشكل في ذلك بعض المعاصرين بأنّه لو أنذر ونام، أو أغمى عليه، فعلم إنذاره من لم يكن حاضراً في مجلس الخطاب والإنذار، فهل يمكن أن يقال بعدم اعتبار الإنذار بالنسبة إليه؟

ولكن فيه: أنّ مثل هذا الشخص يصدق عليه عنوان المنذِر بالفعل، دون من مات قبل مئات السنين، فذاك لا يصدق عليه المنذر، كما هو ظاهر.

الرابع: الأخبار والروايات. وهي على قسمين:

القسم الأوّل: أخبار يظهر منها إرجاع الإمام(علیه السلام) إلى بعض أصحابه، كإرجاعه إلى زرارة بقوله: «إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس»، مشيراً إلى زرارة، وما تقدّم من إرجاع ابن أبي يعفور إلى محمّد بن مسلم، وإرجاع العقرقوفي إلى أبي بصير، وإرجاع عليّ بن مسيّب إلى زكريّا بن آدم بقوله(علیه السلام): «عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا»، وإرجاعه إلى يونس بن عبد الرحمن، وقوله لأبان بن تغلب:«اجلس في مسجد الكوفة وأفتِ بين النّاس، فإنّي اُحبّ أن يرى في أصحابي مثلك»، ونحو ذلك(1).

ص: 462


1- انظر في هذه الأخبار - وقد مرّ تخريج معظمها - : وسائل الشيعة 27: 136، فما بعدها، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.

وهذه الروايات وإن كان بعضها وارداً في أخذ الحديث، إلّا أنّ بعضها الآخر وارد في أخذ الفتوى، ولكنّ هذا البعض الآخر لا إطلاق له ليشمل تقليد الميت ابتداءً.

وأمّا القسم الثاني: فهو الأخبار العامّة الواردة في باب التقليد، كقوله(علیه السلام): «من كان من الفقهاء...» إلخ، ونحوه.

وهذه لا إطلاق لها لتشمل حالة كون الفقيه ميتاً، وعلى فرض التنزّل، وفرضنا أنّ لها إطلاقاً، إلّا أنّ هذا الإطلاق لا يشمل مورد التعارض، بل هو منصرف عنه.

الخامس: الاستصحاب، وهو على ثلاثة أقسام:

أوّلها: استصحاب الحكم الوضعيّ، وهو الحجّة.

والثاني: استصحاب الحكم الواقعيّ المحكيّ بالرأي.

والثالث: استصحاب الحكم الظاهريّ.

أمّا استصحاب الحكم الوضعيّ: فكقولك: إنّ فتوى المجتهد كانت حجّةً قبل موته، فإذا شككنا في بقائها على حجّيّتها أو عدمها، استصحبنا حجّيّتها.

ولكنّ استصحاب الحكم الوضعيّ إنّما يجري لو كان الحكم الوضعيّ مجعولاً بجعل مستقل، وأمّا لو قلنا بأنّ الحجّيّة منتزعة من الحكم الظاهريّ الراجع إلى العمل بالواقع على تقدير المصادفة، وإلى الرخصة على تقدير المخالفة، فيجريالاستصحاب في منشأ الانتزاع،

ص: 463

لا فيها؛ لأنّه ليس لها أثر شرعاً، ولا هي موضوعة للأثر الشرعيّ.

على أنّ هذا الاستصحاب إنّما يجري لو كان موضوع الحجّيّة هو مجرّد حدوث الرأي، وأمّا لو قلنا بأنّ الموضوع هو الرأي حدوثاً وبقاءً، فلا؛ لعدم وجود الموضوع؛ لأنّ الرأي لم يبقَ، بل هو ينتفي بالموت.

فإن قيل: لا نسلّم زوال الموضوع بالموت، فإنّ الموضوع هو النفس الناطقة، وهي باقية.

قلنا: إنّ المعتبر من وحدة الموضوع في الاستصحاب إنّما هو النظر العرفيّ، والعرف يرى زوال الموضوع بالموت، تماماً كما يرى زوال الموضوع بزوال الرأي والملكة بواسطة الجنون والهرم.

فإن قلت: إنّ حجّيّة فتوى المجتهد الميّت مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة، أي: أنّها حجّة لكلّ مفروض الوجود في الخارج، أي: متى ما وجد فلابدّ من الرجوع إلى فتوى العالم، بلا فرق بين أن يكون معاصراً للعالم، أو وجد بعد موته، كما تقول: الخمر حرام شربه، أي: متى ما وجد في الخارج فهو حرام شربه.

قلت: بل الحجّيّة مترتّبة على الرأي والنظر، ولا رأي بعد الموت، بل الميت - كما أشرنا آنفاً - يكون جماداً بنظر العرف، وحاله في ذلك حال سائر الجمادات؛ لاشتراكه معها في أنّه لا إدراك له ولا شعور، كما هو المشاهد بالوجدان، فكيف يبقى له رأي؟

ص: 464

وبالجملة: فلا يمكن المساعدة على جريان الاستصحاب؛ لأنّ المراد بالحجّيّة إن كانت هي الحجّيّة الفعليّة، فهي مشكوكة الحدوث؛ لأنّ المتيقّن عدم الحجّيّة الفعليّة بالنسبة إلى العامّيّ غير موجود في عصر المجتهد الميت.

وإن كان المراد بها الحجّيّة الشأنيّة، فكذلك لا يجري الاستصحاب؛ للشكّ في سعة دائرة الحجّيّة المُنشأة وضيقها؛ لأنّا لا نعلم بأنّ هذا الرأي هل كان حجّةً بالنسبة إلى من أدرك المجتهد الحيّ بالخصوص، أو أنّه عامّ حتى بالنسبة إلى من لم يدركه؟

وأمّا القسم الثاني: وهو استصحاب الحكم الواقعيّ، فلا إشكال في عدم جريانه؛ لأنّه يتوقّف على اليقين بالحدوث، وليس لنا يقين بذلك.

وأمّا جريان استصحاب الأحكام الظاهريّة فهو متوقّف على وجود الحكم الظاهريّ، وقد أثبتنا أنّ حجّيّة الأمارات ليست إلّا من باب المنجّزيّة والمعذّريّة، وليست من باب إنشاء أحكام ظاهريّة في مقابل الحكم الواقعيّ؛ لتأديته إلى التصويب.

نعم، لو قلنا بأنّ الشارع المقدّس كما أنّه جعل أحكاماً واقعيّة يشترك فيه الجاهل والعالم، فكذلك جعل أحكاماً ظاهريّة، وهي مختصّة بمن قامت الأمارة عنده، أمكن جريان الاستصحاب، ولكنّ هذا المبنى غير صحيح، كما مرّ في محلّه.

ص: 465

مسألة :البقاء على تقليد الميت:

والكلام تارةً في صورة موافقة رأيه لرأي الحيّ الذي يجب تقليده، وأُخرى في صورة المخالفة، وهذه على قسمين: الأوّل: مع العلم بالمخالفة. والثاني: في صورة احتمال المخالفة.

أمّا في صورة الموافقة: فلا إشكال في الجواز؛ لأنّ وجوب التقليد طريقيّ، والمطلوب أن يكون العمل مطابقاً لما هو الحجّة بالفعل، فسواء فرضنا أنّ فتوى الميّت حجّة أو ليست بحجّة، فقد جاء عمله مطابقاً لما هو الحجّة بالفعل، وهي فتوى الحيّ. فلا يظهر أيّ ثمرة يبن القولين: القول بأنّ قول الميّت حجّة، والقول بالعدم. نعم، يمكن أن تظهر الثمرة بناءً على القول بأنّ التقليد هو الالتزام بالعمل، فإن تقليد الميت - حينئذٍ - إنّما يكون صحيحاً إذا كان رأيه حجّة.

وأمّا إذا كان رأي الميّت مخالفاً لرأي الحيّ، ففيه أقوال ثلاثة:

1- وجوب البقاء على تقليد الميت خصوصاً إذا كان أعلم.

2- حرمة البقاء على تقليده مطلقاً.

3- والتفصيل بين ما لو كان قد التزم بتقليده فعلاً حال الحياة، وما إذا عمل بالفتوى.

ولكنّ الحقّ: أنّ مآل هذا التفصيل إلى ما مرّ من أنّ التقليد هل هو العمل أو الالتزام؟ فعلى الأوّل: لا يصحّ له البقاء؛لعدم صدق عنوان

ص: 466

التقليد عليه، بخلاف الثاني؛ لأنّ مجرّد الالتزام - بناءً عليه - كافٍ في تحقّق عنوان التقليد.

وقد يستدلّ لجواز البقاء بوجوه:

الأوّل: السيرة العقلائيّة، فإنّها قائمة على عدم رجوع الجاهل فيما كان أخذه من العالم في كلّ صنف، كما كان دأب الراجعين إلى أصحاب الأئمّة(، فإنهم ما كانوا يعودون عمّا أخذوه منهم، بل كانوا يعملون به ولو بعد سماعهم بموت من أخذوا منه قبل العمل به، كما نرى فيمن راجع الطبيب فأعطاه وصفة لكي يعمل بها إلى حينٍ من الزمن، ثمّ مات الطبيب بعد إعطاء الوصفة، فإنّه لا يبقى متحيّراً في العمل بها بعد موته، ولا يرى داعياً للرجوع إلى طبيبٍ آخر قبل انتهاء المدّة التي كان قد عيّنها له. ولم يرد شيء يكون رادعاً لهذه السيرة، وما قد يذكر من وجود الردع، فإنّما هو في مورد التقليد الابتدائيّ، حيث قلنا هناك: إنّ إحراز مثل هذه السيرة لم يثبت، وأنّه لا أقلّ من الشكّ، وأمّا في المقام، فلا شكّ في ثبوتها فيه كما بيّنّا.

الثاني: الإجماع. وقد عرفت الحال فيه. ولا أقلّ من أنّه لا يمكن التمسّك به بعد وجود دعوىً بالإجماع على الخلاف.

الثالث: إطلاق الآيات والأخبار، كآية النفر وآية الذكر؛ فإنّهما تشملان المورد وتقتضيان العمل على طبق الإنذار والسؤال مطلقاً، ولا دليل يدلّ على لزوم أن يكون المنذر والمسؤول منه حيّين حال العمل بفتواهما،

ص: 467

ومثله يقالبالنسبة إلى الفقيه، فإنّ فتواه حجّة سواء موجوداً حال العمل أم لم يكن.

وهكذا بالنسبة إلى الروايات المتقدّمة التي ورد فيها الأمر بالرجوع إلى بعض أصحاب الإمام كزرارة ومحمّد بن مسلم وزكريّا بن آدم، أو ما تقدّم - أيضاً - من الروايات الدالّة على جواز التقليد، كقوله(علیه السلام): «من كان من الفقهاء...» إلخ.

وبالجملة: فالآيات والروايات إنّما دلّت على وجوب الأخذ ممّن هو أهل للأخذ والعمل بقوله، ولا دلالة فيها على تقييد جواز العمل بما إذا كان حيّاً حين العمل. نعم، لابدّ أن يكون حيّاً عند السؤال منه أو الرجوع إليه والأخذ منه، ولكن قد ذكرنا سابقاً أنّ الإطلاق لا يشمل صورة التعارض.

الرابع: الاستصحاب، وهو على ثلاثة أقسام كما مرّ.

أمّا استصحاب بقاء الحجّيّة، فقد مرّ الكلام فيه في إثبات حجّيّة التقليد ابتداءً.

وأمّا استصحاب الحكم الواقعيّ، فلا وجه له أصلاً؛ لأنّ الحكم الواقعيّ إمّا غير متيقّن الحدوث، أو أنّه ليس بمشكوك البقاء، وفي الاستصحاب لابدّ من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء؛ لأنّ الحكم الواقعيّ إذا حدث وتحقّق فلا معنى لارتفاعه إلّا بالنسخ، ولا معنى للشكّ به بعد موت المجتهد؛ لأنّ الحكم الواقعيّ إذا ثبت بالنسبة إلى

ص: 468

شخص قطعاً فلا يرفع بموت المجتهد الذي يقلّده، فإذا حصل له الشكّ فيه بعد الموت، فهو يرجع إلى الشكّ في أصل الحدوث، كما ذكرنا في استصحاب الحكم في التقليد الابتدائيّ.وأمّا استصحاب الحكم الظاهريّ، فقد ذكرنا - أيضاً - أنّه إذا أراد أن يستصحب الأحكام الظاهريّة، أي: التي هي مؤدّى اجتهاد الميّت، أو مؤدّى حجّيّة قوله وفتواه سابقاً، فهذا الاستصحاب إنّما يجري بناءً على أن يكون المؤدّى مجعولاً في باب الطرق والأمارات، فحينئذٍ: يكون مفاد آراء المجتهد أحكاماً ظاهريّة للمقلّدين ولنفسه في حال الحياة، فلو شكّ في بقائها بعد الموت، فيستصحب.

وأمّا بناءً على ما هو الحقّ من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الطريقيّة وتتميم الكشف والوسطيّة في الإثبات، وليس المؤدّى، فليس هناك حكم ظاهريّ، بل إنّما هو ظاهر الحكم، ويكون كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً.

نعم، لو قلنا بأنّ الشارع كما جعل أحكاماً واقعيّة يشترك فيه العالم والجاهل، فهو كذلك جعل أحكاماً ظاهريّة، وهي مختصّة بمن قامت عنده الأمارة أو الأصل على ذلك الحكم، كان ما ذكر - حينئذٍ - تامّاً.

وبعبارةٍ أُخرى: فلو قلنا بأنّ الأحكام الظاهريّة لها وجود في مقابل الأحكام الواقعيّة، فلا معنى لعدم جريان الاستصحاب؛ لأنّ هذه

ص: 469

الأحكام كانت موجودة في حال الحياة يقيناً، ونشكّ في بقائها بعد موته، فنستصحب.

نعم، يمكن القول: بأنّه حتى بناءً على ما اخترناه من أنّه ليس المجعول في باب الأمارات إلّا الطريقيّة، فإنّه مع ذلك يمكن جريان الاستصحاب؛ لأنّ معنى الاستصحاب هو إثبات الملازمة بين الثبوت والبقاء، فبعد موت المجتهد يستصحبالحكم الذي كان مؤدّى الفتوى على تقدير ثبوت هذا الحكم؛ إذ إنّ المستفاد من دليل الاستصحاب هو جريانه عند القطع بالحكم الواقعيّ أو بموضوعٍ ذي حكمٍ واقعيّ، فمعنى: (لا تنقض اليقين بالشكّ)، أي: لا يجوز نقض الحكم المتيقّن واقعاً أو الموضوع ذي الحكم الواقعيّ بواسطة الشكّ.

فإذا قامت الأمارة أو الأصل على حكمٍ شرعيّ، فإنّ هذا القيام يكون بمنزلة حصول القطع بذلك الحكم، فيجري الاستصحاب في مؤدّاهما بهذا الاعتبار، فإذا علمنا بأنّ المجتهد حكم بشيءٍ من جهة قيام الأمارة أو الأصل عليه، فإنّ ذلك يكون بمنزلة ما إذا قطعنا بالحكم، فإذا حصل الشكّ بعد موته فيستصحب.

ثمّ لا يخفى: بأنّه لو قلنا بجواز تقليد الميّت، فتارةً يكون مساوياً للحيّ في الأعلميّة، وأُخرى يكون الميّت أعلم من الحيّ، وثالثة يكون الحيّ أعلم.

أمّا مع التساوي وكونهما متّفقين في الفتوى، فقد ذكرنا أنّه لا معنى

ص: 470

للبحث عن أنّه لابدّ من تقليد الحيّ أو الميت، بعدما كان عمله مطابقاً لما هو الحجّة على أيّ حال.

وأمّا إذا كانا متساويين في العلم، ولكن اختلفا في الفتوى، ولم يعلم أعلميّة أحدهما، ففي هذه الصورة قد يقال: بعدما قلنا بجواز تقليد الميّت فلا يجوز الرجوع إلى الحيّ؛ لأنّه أن كان مقتضى الأدلّة هو حجّيّة فتوى المجتهد الميّت، فلا معنى لجواز الرجوع إلى الحيّ، وإلّا، يلزم أن يكون في الواقعةالواحدة حجّتان فعليّتان، وحينئذٍ: فربما يكونان من اجتماع الضدّين أو النقيضين.

ولكن فيه: أنّ عدم الجواز إنّما هو لمكان الإجماع، والقدر المتيقّن منه هو المجتهد الميّت. على أنّ الأمر يدور بين التعيين والتخيير؛ فإنّ حجّيّة فتوى الميّت معلومة من جهة جريان الاستصحاب، إمّا تعييناً أو تخييراً، وإذا دار الأمر بين التعيين والتخيير، يؤخذ بالتعيين.

ويردّه: أنّ فتوى الحيّ أيضاً محتملة التعيينيّة، فبما أنّ لنا علماً إجماليّاً بحجّيّة أحدهما بخصوصه، فلابدّ من الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين، بعد تساقطهما وعدم شمول الأدلّة والإطلاقات للمتعارضين، وليس هناك دليل على إمكان الأخذ بأحدهما بخصوصه، وبعد أن علمنا بأنّ هناك أحكاماً واقعيّة منجّزة في حقّ المكلّف، ولا يمكن الخروج عن عهدتها إلّا بذلك، إلّا أن يدلّ دليل على عدم وجوب الاحتياط على العامّيّ، أو لم يتمكّن من الاحتياط، وحينئذٍ: فهل يجوز الرجوع إلى أحدهما المعيّن

ص: 471

أم أنّه لابدّ من التخيير؟ الأقوى: هو الثاني؛ لأنّه بعد سقوطهما لا معنى للرجوع، فلابدّ من التخيير؛ لأنّه بعد عدم التمكّن من الامتثال الجزميّ تصل النوبة إلى الامتثال الاحتماليّ.

وأمّا في صورة أعلميّة أحدهما، فلابدّ من الرجوع إلى الأعلم، سواء كان هو الحيّ أم الميّت؛ لأنّ أدلّة جواز البقاء على تقليد الميت تجعل الميت كالحيّ، فكما إذا كان هناك مجتهدان كلاهما على قيد الحياة لابدّ من تقليد الأعلم منبينهما، حتى إذا قلّدت المجتهد الحيّ غير الأعلم لابدّ من الرجوع إلى الأعلم، فكذلك هنا؛ للسيرة العقلائيّة، فإذا كان الحيّ هو الأعلم فيجب الرجوع إليه، وإذا كان الميت هو الأعلم فيجب البقاء على تقليده.

مسألة:

الأقوى جواز البقاء على تقليد الميت وإن كان لم يعمل بفتاواه بعد؛ لأنّه بناءً على جريان استصحاب بقاء الحكم، أو جريان استصحاب الحجّيّة فلا يشترط العمل في جواز البقاء؛ لأنّ هذا الشرط لم يكن لازماً في جواز جريان هذا الاستصحاب. وكذا لو قلنا بأنّ المستند هو السيرة العقلائيّة أو الإطلاقات التي تقتضي جواز الرجوع، فإنّ هذا الشرط لم يكن مشترطاً في شيءٍ من هذه الأدلّة.

أضف إلى ذلك: أنّ مسألة جواز البقاء على تقليد الميت لم تكن دائرةً مدار العمل، ولا مبنيّةً على دخول العمل في معنى التقليد، حتى يقال:

ص: 472

بأنّ معنى التقليد إن كان هو العمل برأي الغير فلا يتحقّق عنوان البقاء على تقليده إلّا في المسائل التي كان قد عمل بها برأي الميت، وإن كان هو الالتزام، فلا وجه لاشتراط العمل في الحكم بجواز البقاء، بل يكفي مجرّد الأخذ والالتزام بالعمل قبل موت المجتهد.

العدول من الحيّ إلى الحيّ:

تارةً: يكون الثاني أعلم، وأُخرى: يكون مساوياً. وثالثاً: يكون الأوّل أعلم. وفي هذه الصورة: تارةً: يُعلم بالمخالفة بينهما في الفتوى، وأُخرى: لا يعلم.

فإذا كان المجتهد الذي يريد أن يعدل إليه أعلم، وكان عالماً بالمخالفة بينهما، كان العدول إليه واجباً، ولا يجوز له بعد ذلك الرجوع إلى المقلّد الأوّل.

كما أنّه إذا كان الأوّل أعلم، مع العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى، لم يجز العدول.

وأمّا إذا كان الثاني أعلم، ولم يعلم بالمخالفة بينهما، جاز له أن يبقى على تقليد الأوّل، أو الرجوع إلى الثاني الذي هو أعلم. وكذا يتخيّر في صورة التساوي - أيضاً -، ولكن مع عدم العلم بالمخالفة.

وقد يقال: بعدم جواز العدول والحالة هذه؛ لأنّ التخيير ابتدائيّ، لا استمراريّ.

ص: 473

ولكنّ الحقّ: أنّ التخيير هنا عقليّ، وليس كالتخيير في باب الخبرين المتعارضين؛ لأنّ التخيير هناك شرعيّ، وبعد الأخذ بأحد الخبرين يرتفع موضوع التخيير. وإذا كان التخيير عقليّاً، جاز ابتداءً واستمراراً؛ لأنّ انطباق الكلّيّ على الفرد والمصداق دائميّ.

وأمّا في صورة العلم بالمخالفة بين المتساويين، يتساقطان، فلا يجوز له البقاء على الأوّل، ولا الرجوع إلى الثاني،وحينئذٍ: تصل النوبة إلى التخيير، ومع عدم التمكّن من الامتثال الجزميّ تصل النوبة إلى الامتثال غير الجزميّ.

قد يقال: بعدم جواز العدول تمسّكاً باستصحاب بقاء الحكم في حقّ المقلّد.

وفيه: أنّه معارض باستصحاب بقاء التخيير قبل الأخذ بأحدهما. ولكنّ استصحاب عدم التخيير لا يجري؛ لأنّ القضيّة المتيقّنة غير متّحدة مع المشكوكة؛ لأنّ من له الخيار من الأوّل كان هو المتحيّر، وبعد الأخذ بأحدهما زالت حيرته، أو أنّ من له الخيار هو الذي لم تقم لديه الحجّة الفعليّة، وبعد الأخذ بإحدى الفتويين صارت بأخذه لها حجّة فعليّة، فلا موضوع لاستصحاب التخيير.

كما أنّ الاستصحاب الأوّل لا يجري - أيضاً -؛ لأنّه حين الشكّ بالبقاء لابدّ وأن يكون متيقّناً بالحدوث؛ وهو قبل العدول كان له علم بحجّيّة الفتوى في حقّه، وبعد العدول لا علم بالحجّيّة، فلا يبقى يقين في البين.

ص: 474

فصل :في لزوم تقليد الأعلم

هل يجب على العامّيّ تقليد الأعلم أم يجوز له تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم؟

المشهور والمعروف بين الأصحاب هو الأوّل، وادّعى المحقّق الكركي(قدس سرّه) الإجماع عليه(1)، والذي يظهر من كلامالسيّد علم الهدى في الذريعة(2) أنّه من المسلّمات عند الشيعة، وذهب بعضهم إلى التخيير بين الأعلم وغيره.

والكلام في هذا الفصل في موردين:

الأوّل: هل يجوز للعامّيّ الرجوع إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم أم لا؟

الثاني: هل يمكن للمجتهد أن يفتي بجواز الرجوع إلى غير الأعلم أم لا، بل لابدّ أن يحكم بوجوب تقليد الأعلم؟

أمّا المورد الأوّل: فمن المسلّم أنّ العقل يستقلّ بلزوم الرجوع إلى الأعلم، كما هو مقتضى بناء العقلاء، وإنّ المتيقّن من الخروج عن أصالة حرمة العمل بالظنّ إنّما هو الظنّ الحاصل من قول الأعلم، وأمّا الحاصل من قول غيره فمشكوك فيه في صورة وجود الأعلم، فيبقى تحت أصالة

ص: 475


1- رسائل المحقّق الكركي 1: 80، و 3: 176.
2- انظر: الذريعة 2: 801.

عموم الحرمة, وتكون المسألة من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير؛ للعلم بجواز تقليد الأعلم على كلّ حال؛ لأنّ فتوى الأعلم إمّا أن تكون في عرض فتوى غير الأعلم، فيجوز للعامّيّ الرجوع إلى هذا وذاك، أو أنّها متقدّمة على غيرها، وحيث إنّ فتوى الأعلم متيقّنة الحجّيّة، وفتوى غير الأعلم مشكوكة الحجّيّة، فيستقلّ عقل العامّيّ بلزوم الرجوع إلى الأعلم؛ لأنّ قول غير الأعلم والأخذ به مع وجود الأعلم مقترن باحتمال العقاب، بعد أن كانت حجّيّته في طول قول الأعلم، لا في عرضه، ومعلوم أنّ دفع الضرر المحتمل واجب بمقتضى العقل.وأمّا المورد الثاني: فتارةً يكون فتوى غير الأعلم مطابقةً لفتوى الأعلم، وأُخرى نعلم بمخالفتهما في الفتوى. وثالثةً نشكّ في المخالفة أو الموافقة.

أمّا في الصورة الأُولى: فلا ثمرة للبحث عن وجوب الرجوع إلى الأعلم أو عدمه؛ لأنّ الوظيفة إنّما هي العمل بما هو الحجّة، وبعد التطابق بين فتوى الأعلم وفتوى غيره، وعمل المكلّف بها، فقد فرّغ ذمّته، ولا نحتاج إلى ما هو أزيد من ذلك في إحراز صدق استناد عمله إلى فتوى الأعلم.

وأمّا في الصورة الثانية: وهي صورة العلم بالمخالفة، ولو إجمالاً، فقد يقال بعدم وجوب الرجوع إلى الأعلم - حينئذٍ - تعييناً.

وقد يستدلّ لذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: إطلاق الأدلّة من الآيات والروايات، كآيتي النفر

ص: 476

والإنذار، وجملة من الأخبار المتقدّمة؛ فمثلاً: وجوب التحذّر عقيب إنذار المنذر مطلق، سواء كان المنذر هو أعلم من غيره أم لم يكن، ما يدلّ على عدم تعيّن الأعلم عند الدوران بينه وبين غير الأعلم. وحمله على صورة تساوي المنذرين حمل على الفرد النادر.

وقد أجاب عن هذا اُستاذنا المحقّق بقوله:

«وفيه: أنّه وإن سلمنا نحن دلالة آية النفر على لزوم التقليد على العامّيّ بالدلالة الالتزاميّة، ولكن لا نسلّم دلالتهاعلى أنّها في مقام البيان، حتى من جهة اختلاف المنذرين في العلم والفضيلة مع اختلافهم في الفتوى»(1).

ويمكن الجواب - أيضاً -: بأنّ إطلاق أدلّة الحجّيّة لا يشمل المتعارضين؛ لأنّه يستلزم الجمع بين الضدّين تارةً، والنقيضين أُخرى، وشمول الأدلّة لأحدهما معيّناً ترجيح بلا مرجّح، ومخيّراً لا دليل عليه، فمقتضى القاعدة هو التساقط في كلّ دليلين متعارضين إلّا إذا دلّ دليل من الخارج على ترجيح أحدهما أو على التخيير.

ومثل هذا البيان يجري بالنسبة إلى الأخبار الواردة في الرجوع إلى العلماء وأصحاب الأئمّة(؛ فإنّه لا إطلاق فيها - أيضاً -؛ لأنّه لم يظهر منها أنّ الإمام(علیه السلام) كان في مقام البيان من هذه الجهة، بل الظاهر أنّه في مقام البيان من ناحية أصل الإرجاع إليهم، وهو لا يشمل صورة العلم

ص: 477


1- منتهى الاُصول 2: 633.

بالخلاف. نعم، في صورة احتمال الخلاف، كما في مورد هذه الروايات، لا بأس بالعمل بقول المجتهد مطلقاً.

الوجه الثاني: السيرة المستمرّة من المتشرّعة على الأخذ بفتوى من كان له صلاحيّة الفتوى، من غير الفحص عن الأعلم، مع اختلافهم من جهة العلم والفضيلة، ولم ينكر أحد منهم ذلك، ولو كان الرجوع إلى الأعلم واجباً، لكان الواجب عليهم الفحص.وفيه: أنّ إثبات قيام السيرة على الرجوع إلى غير الأعلم مع مخالفته للأعلم محلّ إشكالٍ، بل منع، بل السيرة قائمة على الرجوع إلى الأعلم مع العلم بمخالفة غير الأعلم له، كما نرى في مراجعة المريض للطبيب الأخصّائي، وما يتراءى من رجوع المتشرّعة إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم والمخالفة بينهما، هو إمّا لأجل اعتقادهم بأنّ من أخذوا منه هو الأعلم، وإمّا لعدم علمهم بالمخالفة بينهما في الفتوى.

الوجه الثالث: أنّ وجوب تقليد الأعلم يلزم منه العسر والحرج، وهما منتفيان في الشريعة المقدّسة؛ لأنّ تشخيص الأعلم عن غيره في غاية الصعوبة، ولذا نسب إلى بعض المحقّقين المعاصرين القول بأنّ الكبرى مسلّمة ولا نقاش فيها، وإنّما النقاش في الصغرى، أي: في تمييز الأعلم عن غيره، فإنّه في غاية الصعوبة لسكّان المدن، فضلاً عن أهل القرى والبوادي، ولا سيّما العجائز؛ إذ كيف يتمكّن هؤلاء من التمييز بين من هو أحسن سليقةً وأجود استنباطاً؟(قدس سرّه)

ص: 478

وفيه: أمّا فيما يتعلّق بتشخيص مفهوم الأعلم، فسيأتي أنّ المراد منه من كان أقوى استنباطاً للأحكام وأحسن سليقةً في تطبيق الكبريات على الصغريات.

وأمّا فيما يتعلّق بتشخيص مصاديقه وتمييزها، فهو ليس بأصعب من تشخيص أصل الاجتهاد، فكما أنّ نفس الاجتهاد يثبت بالعلم الوجدانيّ وبالشياع المفيد للعلم، وبالبيّنة، وبالعدل الواحد، فكذلك الأعلميّة.

وفي المقام يقول الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه):«والتحقيق في هذا المقام: هو أنّه مع قطع النظر عن الأدلّة الواردة في هذا الباب، وأنّه هل لها إطلاق أو ليس لها ذلك؟ مقتضى الأصل الأوّليّ هو تعيّن الأعلم، وذلك: أمّا بالنسبة إلى العامّيّ: فمن جهة أنّه إذا احتمل أن يكون للأعلميّة دخل في الحجّيّة، فيحكم عقله حكماً بتّيّاً بلزوم متابعة الأعلم؛ للشكّ في أنّ متابعة الآخر هل [هو] مبرئ لذمّته أم لا؟ فحكمه بلزوم تقليد الأعلم يكون من باب الاحتياط العقليّ وملاك الأمن من العقوبة. نعم، إذا تساوى في نظره الأعلم وغيره فيما هو مناط التقليد، ولم يحتمل أن يكون لتلك الخصوصيّة دخل أصلاً، فقهراً عقله يحكم بالتخيير.

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم أنّه كما أنّ أصل وجوب التقليد ليس بتقليديّ؛ لاستلزامه الدور، فكذلك مسألة وجوب الأعلم؛ لاستلزامه الخلف لو

ص: 479

أفتى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم؛ لأنّه يلزم من حكم العقل بتعيّن الرجوع إلى الأعلم عدم تعيّنه، وهذا هو الخلف.

ولكن أنت خبير: بأنّ حكم العقل بلزوم تقليد الأعلم حكم احتياطيّ، مثل حكمه بلزوم الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة التحريميّة، فإذا قام دليل على جواز تقليد غير الأعلم، وهو فتوى الأعلم، فلا يبقى موضوع للحكم العقليّ الاحتياطي. نعم، لو كان حكمه حكماً استقلاليّاً نفسيّاً لكان يلزم هذا المحذور.وأمّا بالنسبة إلى المجتهد، فمن جهة دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجّة، ولا شكّ في أنّ معلوم الحجّيّة منهما، تعييناً أوتخييراً، حجّة، وهو فتوى الأعلم، والمشكوك، وهو فتوى المفضول، تجري فيه أصالة العدم»(1).

وأمّا أدلّة المثبتين، فوجوه:

الأوّل: دعوى الإجماع على لزوم تقليد الأعلم.

ولكن قد عرفت مراراً أنّ هذه الإجماعات التي مدركها الأدلّة النقليّة والعقليّة لا تكون من قبيل الإجماعات التعبّديّة المصطلح عليها، وبالتالي: فلا اعتبار بها.

والثاني: بناء العقلاء، وأنّهم عند الاختلاف يأخذون بقول الأعلم، كما

ص: 480


1- منتهى الاُصول 2: 635.

هو المشاهد في غير الأحكام من الحرف والصنايع، ولا يلتفتون إلى قول غير الأعلم. نعم، لو كانت فتوى غير الأعلم موافقةً للاحتياط، ولو كان الأعلم مخالفاً له في الفتوى، رجعوا - حينئذٍ - إلى فتواه، لا لأنّ فتواه هي الحجّة، بل لأجل العمل بالاحتياط ودرك الواقع، وعليه: فلا يمكن إسناد فتوى غير الأعلم إلى اﷲ تعالى، ولا الإتيان بما أفتى به بقصد الأمر بعد أن لم تثبت حجّيّته.

الثالث: الروايات، وهي كثيرة، منها: مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة، وفيها: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههماوأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر»(1).

وهذه الرواية وإن استشكلوا فيها سنداً، إلّا أنّها مقبولة، وقد تلقّاها الأصحاب بالقبول، وقد ورد بمضمونها - تقريباً - روايات أُخرى كثيرة، وفيها قرائن يطمئنّ معها بصحّتها.

واستشكل فيها - أيضاً -: بأنّها أجنبيّة عن المقام؛ لأنّها وردت في مقام الحكومة ودفع الخصومة، وفي ذلك المقام لابدّ من تعيين أحدهما للأخذ بحكمه، ولا معنى للحكم بالتخيير؛ لاستلزامه بقاء الترافع على حاله؛ لأنّ كلّ واحد منهما ربّما يختار غير ما اختاره الآخر، فتبقى الخصومة على حالها، فإذا ثبت أنّ التعيين لازم، فالأعلم يكون هو المقدّم،

ص: 481


1- وسائل الشيعة 27: 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 1.

فلا ملازمة بين تقديم الأفضل في باب الخصومة بعد صدور الحكم عن الاثنين، وبين تقديمه في باب الفتوى، فهذه الرواية كما لا يمكن التعدّي من موردها إلى الروايتين المتعارضتين، فكذلك لا يمكن التعدّي منها إلى الفتويين المتعارضتين.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال: بعدم القول بالفصل والإجماع المركّب؛ لأنّ كلّ من يقول بتقليد الأعلم في مقام الحكم يقول بتقديمه في مقام الفتوى، والتفصيل بينهما خرق للإجماع. نعم، هناك من يقول بعدم التقديم في كليهما، وأمّا القائل بالتفصيل فليس في البين أصلاً.والأفضل في الجواب عنها أن يقال: إنّ تعيين الأفضل وإن كان وارداً في باب الخصومة، ولكنّ هذا التقديم والترجيح وقع من جهة مدرك الحكم، وهو ليس إلّا الفتوى.

ومن الروايات - أيضاً -: ما عن أمير المؤمنين(علیه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك»(1).

ولا يرد على هذه الرواية أنّها وردت في باب القضاء؛ لما ذكرناه من أنّ التقديم في أمثال هذه الروايات هو باعتبار مدرك الحكم، وليس هو إلّا الفتوى.

والذي يظهر من هذه الرواية: هو أنّها لم ترد في لزوم تعيين الأفضليّة

ص: 482


1- وسائل الشيعة 27: 159، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح 17.

المطلقة، بل إنّما وردت في الأفضليّة الإضافيّة، أي: بالإضافة إلى الوالي الذي يعيّنه. ولا شكّ في أنّ هذه الروايات وأمثالها إرشاد إلى حكم العقل، وإنّما قيّد فيها ﺑ (أفضل رعيّتك) من جهة عدم إمكان الرجوع إلى الأعلم على الإطلاق.

ومنها - أيضاً -: ما ورد عن داود بن حصين عن الصادق(علیه السلام) في مورد اختلاف الحكمين، قال(علیه السلام): «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا فينفذ حكمه، ولا يلتفت إلى الآخر»(1).فإنّها وإن وردت في باب القضاء، ولكن لا نرى فيها خصوصيّة لشرط الأعلميّة في هذا الباب دون غيره من الأبواب، وما ذكر من الإشكال والجواب في الروايتين السابقتين يأتي بعينه هنا أيضاً.

ومنها: ما روي من قول الإمام الجواد(علیه السلام) لعمّه: «يا عمّ، إنّه عظيم عند اﷲ أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم، وفي الاُمّة من هو أعلم منك؟»(2).

قال اُستاذنا الأعظم(قدس سرّه): «وهذه الرواية وإن كانت تدلّ على اعتبار الأعلميّة المطلقة في المفتي، إلّا أنّها ضعيفة سنداً؛ لإرسالها، إذن لا يمكن الاستدلال بها بوجه»(3).

ص: 483


1- وسائل الشيعة 27: 113، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 20.
2- انظر: بحار الأنوار 50: 100.
3- التنقيح 1: 117.

وقد يستشكل في دلالة هذه الجملة على الأعلميّة المطلقة بأنّها أجنبيّة عن محلّ الكلام، فإنّ موردها هو من أفتى بما لم يعلم، والبحث إنّما هو في لزوم الرجوع إلى الأعلم.

وكيف كان، فالذي يظهر من هذه الروايات هو وجوب الرجوع إلى الأعلم؛ للاطمئنان بصدورها على نحو الإجمال من المعصوم(علیه السلام)، ومع الإصرار على الخدشة فيها تكفينا السيرة العقلائيّة الجارية في مجالات الأحكام وغيرها من الحرف والصنائع والعلوم، ولم يردع عنها الشارع، بل أمضاها.يقول الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) في المقام - ما نصّه -:

«والحاصل: أنّ هذه الأخبار لا قصور في دلالتها على لزوم الرجوع إلى الأفضل عند العلم بالاختلاف في فتواهما، وإذا ظهر ذلك لك، فعلى فرض أن يكون هناك إطلاقات للآيات والروايات تدلّ على جواز تقليد المفضول، مع وجود الأفضل، مع مخالفة فتواه لفتوى المفضول، لا بدّ أن يقيّد بهذه الأخبار، مع أنّه تقدّم أنّه لا إطلاق في البين أصلاً»(1).

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ لزوم الرجوع إلى الأعلم، وكذا الفحص عنه لغرض الرجوع إليه، إنّما هو فيما إذا علم بالمخالفة مع غير الأعلم في الفتوى، ولم يمكن العمل بالاحتياط. وأمّا إذا كانا متّفقين في الفتوى، أو

ص: 484


1- منتهى الاُصول 2: 637.

أراد الاحتياط بالجمع بين الفتويين مع إمكان ذلك، بأن لم يكن بينهما تضادّ أو تناقض، أو كانت فتوى غير الأعلم موافقةً للاحتياط، فلا يجب الفحص حينئذٍ، كما أنّه إذا لم يمكن الاحتياط في صورة المخالفة في الفتوى يجب عليه الفحص؛ لأنّ الإطلاقات لا تشمل المتعارضين، فيجب الرجوع إلى الأعلم؛ لأنّ قول غير الأعلم ليس بحجّة، فيكون المورد من باب اشتباه الحجّة باللّاحجّة، فلابدّ من الفحص، فإذا عمل بفتوى أحدهما من دون أن يفحص عن الأعلم لم يقطع بفراغ ذمّته؛ لاحتمال أن يكون الأعلم غيره، ولاحتمال أنّ ما عمل به لم يكن معذّراًله، واحتمال وقوعه في المخالفة والعقاب المحتمل، ودفع ضرر المحتمل واجب.

كما أنّه إذا فحص وعجز عن معرفة الأفضل فلابدّ له من العمل بالاحتياط بعد أن كانت الأحكام الواقعيّة، ومن بينها أحكام إلزاميّة، منجّزة في حقّه بالعلم الإجماليّ، كما بيّنّاه في محلّه، وليس هناك طريق إلى العمل على طبق فتوى الأعلم، ومع الفحص والعجز عن معرفة الأعلم فلابدّ له من الاحتياط حتى يحصل له العلم بالموافقة دفعاً للضرر المحتمل.

فإن قلت: مع عدم التمكّن - أيضاً - يمكنه الأخذ بأحدهما، كما لو كان مظنون الأعلميّة أو محتملها.

قلنا: قد عرفت أنّ الإطلاقات لا تشمل المتعارضين، فيتساقطان،

ص: 485

فلا يكون أيّ واحد من الفتويين حجّة ليكون المظنون منهما أو محتملهما حجّة.

وهكذا يأتي هذا البحث - أيضاً - فيما لو علم بالاختلاف بينهما وجهل التفاصيل.

وقد يقال: يمكن هنا إثبات التخيير باستصحاب عدم أعلميّة أحدهما على الآخر، نظراً إلى القطع بعدمها قبل أن يصل إلى مرتبة الاجتهاد.

ولكن يجاب عنه: بأنّ هذا الاستصحاب لا يثبت به التساوي إلّا بنحو التمسّك بالأصل المثبت؛ فإنّ موضوع التخيير هو التساوي، وهو غير محرز في المقام.إلّا أن يقال: يكفي في الرجوع إلى التخيير عدم الأعلميّة، ولا نحتاج إلى إثبات التساوي بإطلاقات الأدلّة، بل يكفي عدم إحراز الأعلميّة ولو إجمالاً.

ولو علم العامّيّ باختلافهما في الفضيلة على نحو الإجمال، ولم يعلم اختلافهما في الفتوى، أو لم يعلم باختلافهما، لا في الفتوى، ولا في الفضيلة، فلا يجب الفحص عن الأعلم بينهما؛ لأنّ أدلّة لزوم الرجوع إلى الأعلم ناظرة إلى صورة العلم بالمخالفة، وأمّا مع عدم العلم بذلك، فهو مخيّر له الرجوع إلى أيٍّ منهما.

قد يقال: لا يمكن التمسّك بالإطلاق في المقام؛ لأنّه من باب التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة؛ فإن صورة العلم بالمخالفة قد خرجت

ص: 486

يقيناً، فمع الشكّ في المخالفة يكون التمسّك بالإطلاق تمسّكاً في الشبهات المصداقيّة.

ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن إدخال الفرد المشكوك في العموم بالأصل؛ فإنّ فرديّة الفرد للعموم قد تكون بالوجدان وقد تكون بالأصل أيضاً، والمخالفة بين المجتهدين أمر حادث، فمع الشكّ في تحقّقها يبنى على عدمها بمقتضى الاستصحاب، بأن يقال - مثلاً -: إنّ المجتهدين كانا في زمانٍ ولم يكونا متخالفين في الفتوى، ولو من جهة عدم بلوغهما مرتبة الاجتهاد، فمقتضى الأصل أنّهما الآن كما كانا عليه سابقاً.

التخيير عند تساوي المجتهدين:

إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة، فتارةً: لا يعلم بالمخالفة بينهما فيما هو محلّ الابتلاء، وأُخرى يعلم بالمخالفة كذلك.

أمّا في صورة العلم بالتساوي وعدم العلم بالمخالفة: فيتخيّر المقلّد في الرجوع إلى أيّهما شاء، فإنّ الإطلاقات تشمل فتوى كلاّ من المجتهدين المتساويين، وقد ذكرنا أنّه يجوز الرجوع إلى غير الأعلم في صورة عدم العلم بمخالفته للأعلم، ففي صور التساوي وعدم العلم بالمخالفة، يجوز ذلك بطريقٍ اُولى.

وأمّا في صورة العلم بالمخالفة بينهما فالمعروف بينهم هو القول بالتخيير، وفيه إشكال؛ فإنّ الحجّيّة التخييريّة:

ص: 487

إن كانت بمعنى جعل الحجّيّة على هذا وذاك يستلزم الجمع بين الضدّين أو النقيضين وهو محال.

وإن كانت بمعنى: أن تكون الحجّة هي الجامع بين الفتويين، فهي - أيضاً - غير ممكنة؛ لعدم إمكان جعل الحجّيّة للجامع بين النفي والإثبات، ولو تنزّلنا وقلنا بإمكانه، فلا تشمله الإطلاقات، لأنّها - كما أشرنا مراراً - لا تشمل المتعارضين أو النقيضين.

وأمّا جعل الحجّيّة على كلّ واحدٍ منهما حجّة مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر، فهو وإن كان ممكناً، ولا يأتي في مورده محذور الجمع بين الضدّين والنقيضين، ولكن حيث كان يترتّب عليه أن يتّصف كلّ منهما بالحجّيّة الفعليّة، إذا ترك المكلّف الأخذ بهما معاً، ولا معنى لجعل الحجّيّة لكلاالمتعارضين، ولا لفعليّتهما معاً؛ ولا تشملهما الإطلاقات، لأنّها لا تشمل المتعارضين، كما مرّ.

وأمّا الحجّيّة التخييريّة بمعنى جعل الحجّيّة على كلّ من الفتويين مشروطةً بالأخذ بها، لا بعدم الأخذ بالآخر، فهي مقبولة ولا يترتّب عليها أيّ إشكال ثبوتاً، ولكن لا دليل عليها في مرحلة الإثبات؛ لأنّ ما دلّ على حجّيّة فتوى الفقيه مطلق غير مقيّدة بالأخذ بها.

وقد يستدلّ للقول بالتخيير بالإجماع.

وفيه: أنّه ممنوع صغرىً وكبرى؛ أمّا كبرىً، فلأنّه منقول، والمنقول من الإجماع ليس بحجّة. وأمّا صغرىً، فلأنّه أمثال هذه الموارد من المسائل

ص: 488

المستحدثة، ولم يتعرّض السابقون لها، فلا مجال لدعوى إجماعهم على القول بالتخيير فيها، وعلى فرض ثبوته، فإنّه إجماع مدركيّ، أو محتمل المدركيّة.

وقد يستدلّ له بالإطلاقات - أيضاً -.

ولكن قد مرّ مراراً أنّها لا تشمل مثل الفتويين المتعارضين؛ لتأديته إلى الجمع بين الضدّين أو النقيضين، ولا يمكن الأخذ بإحدى الفتويين دون الأُخرى؛ لأنه من الترجيح بلا مرجّح.

وأمّا التمسّك بالسيرة العقلائيّة، فمندفع، بعدم تسليم انعقادها بحيث تشمل صورة التعارض في الفتوى بين المتساويين، كما نرى ذلك منهم خارجاً؛ فإنّهم لا يعتمدون على أقوال الأطبّاء إذا اختلفوا في تشخيص العلاج كيفما كان، بل يحتاطون ما أمكنهم الاحتياط.وأما سيرة المتشرعة، فكذلك لا يمكن التمسّك بها؛ إذ لم يحرز اتّصالها بزمان المعصوم(علیه السلام).

فتحصّل: أنّه في صورة العلم بالمخالفة بينهما فلابدّ من الاحتياط، ومع عدم الإمكان يتخيّر بحكم العقل؛ لأنّ التكاليف منجّزة في حقّه، ولا طريق له إلى الخروج عن عهدتها سوى هذا.

مسألة: إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة ما فهل للعامّيّ الرجوع إلى غير الأعلم أم لا؟

ص: 489

في المسألة صور عدّة:

الأُولى: أن يكون للأعلم فتوى في المسألة، وتكون مخالفة لفتوى غير الأعلم، وفي هذه الصورة لابدّ من الأخذ بفتوى الأعلم، ولا يجوز له الرجوع إلى غير الأعلم.

الثانية: أن يكون له فتوى، ولكن تكون موافقةً لفتوى غير الأعلم، ففي هذه الصورة له أن يعمل بفتوى غير الأعلم.

الثالثة: ليس له فتوى، ولكنّه أفتى بوجوب الاحتياط على مقلّديه، وعيّن لهم الوظيفة من جهة فتواه بالحكم الظاهريّ، فلا يجوز للمقلّد في هذه الصورة الرجوع إلى غير الأعلم مع وجود فتوى الأعلم، ولو كانت فتوىً بالاحتياط؛ لأنّ إفتاءه، ولو بحكم ظاهريّ، يكون مانعاً عن حجّيّة فتوى غير الأعلم.

الرابع: أن يفتي بالاحتياط، ولكن من جهة عدم علمه وعدم جزمه بالحكم الواقعيّ في المسألة، وفي هذه الصورة، فللعامّيّ أن يختار الرجوع إلى غيره، الأعلم فالأعلم، لأنّه -حينئذٍ - يكون من باب رجوع الجاهل إلى العالم، ولا مانع من أن تشمله إطلاقات الأدلّة بعد أن لم يكن للأعلم فتوى مخالفةً ومعارضةً له، ولكن لا يجوز له الرجوع إلى مطلق غير الأعلم، بل إنّما يجوز مع رعاية الأعلم فالأعلم، وذلك لعين ما ذكرناه آنفاً من وجوب الرجوع إلى الأعلم.

نعم، لو أفتى بالاحتياط مع العلم بأنّ قوله معارض لقول غير الأعلم،

ص: 490

وكان هذا الحكم بالاحتياط منه تخطئةً لفتوى غير الأعلم، لم يجز له الرجوع - حينئذٍ - إلى غير الأعلم بل لابدّ من العمل بالاحتياط الذي أفتى به الأعلم.

حكم عمل الجاهل المقصّر والقاصر:

اعلم أنّ الجاهل على أقسام؛ لأنّه إمّا قاصر، أو مقصّر، والثاني على قسمين: ملتفت وغير ملتفت. والكلام في هذه المسألة في مقامين:

الأوّل: في أنّ الجاهل هل يستحقّ العقاب على أعماله مطلقاً أم لا؟

والثاني: في أنّ أعمال الجاهل هل هي محكومة بالصحّة أم لا؟

أمّا المقام الأوّل:

فلا يخفى: أنّ الجاهل القاصر غير مستحقّ للعقاب على عمله، ولو كان غير مطابق للواقع؛ لأنّه غافل عن كونه مخالفاً للواقع، كما إذا استند إلى أمارة شرعيّة، أو إلى فتوىمن يجوز تقليده، وكانتا مخالفتين للواقع؛ فإنّ الجاهل القاصر غافل، والغافل حال غفلته لا يكون قابلاً لتوجّه التكليف إليه.

وأمّا الجاهل المقصّر فلا شكّ في أنّه يستحقّ العقاب إذا كان عمله على خلاف الواقع، وإنّما الكلام في أنّ عقابه هذا هل كان بسبب مخالفة عمله للواقع أم لأنّه كان تاركاً للفحص والتعلّم.

والحقّ: أنّ استحقاق العقاب لا يكون على تركه التعلّم، بل على

ص: 491

مخالفته للواقع عند ترك التعلّم والفحص، لما قرّرناه في محلّه من أنّ وجوب التعلّم ليس بنفسيّ، بل هو وجوب طريقيّ وإرشاديّ محض.

نعم، يمكن أن نقول بعدم استحقاق العقاب إذا كان عمله مطابقاً لفتوى من يجب تقليده في ذلك الوقت، ولو كان مخالفاً لفتوى المجتهد الفعليّ، ولا يحتاج في التقليد إلى الاستناد إلى الحجّة، إلّا أن نقول بأنّ الحجّة بوجودها الواقعيّ غير كافية في المعذّريّة.

لكنّ الحقّ: كفاية مطابقته لفتوى المجتهد حين العمل؛ لأنّه حصل منه التقليد قهراً، وكان عمله صحيحاً، ولا يحتاج إلى مطابقة عمله لفتوى المجتهد حين الانكشاف.

وأمّا ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) من أنّه «يمكن الالتزام باستحقاق المقصّر للعقاب حتى إذا كان عمله مطابقاً للواقع، إلّا أنّه يختصّ بما إذا كان ملتفتاً حال العمل؛ وذلك لأنّه مع الالتفات واحتمال صحّة العمل وفساده، إذا أتى به غير مبالٍ بمخالفته للواقع، لكان ذلك مصداقاً بارزاً للتجرّي القبيح،وبذلك يستحق العقاب على عمله، وإن كان مطابقاً للواقع»(1).

ففيه: أوّلاً: أنّ قبح التجرّي لا يكون سبباً لاستحقاقه العقاب. وثانياً: أنّه مع الالتفات، إذا حصل الإتيان به بعنوان الرجاء، وتحقّق منه قصد

ص: 492


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 160.

القربة، فعمله صحيح، ولا يستحقّ عليه العقاب بعد أن كان مطابقاً للواقع، ولا سيّما لما ذكرناه من أنّ وجوب التعلّم إرشاديّ محض، وأمّا إذا لم يتمشّ منه قصد القربة، فعمله باطل، ولو كان بعد الإتيان به مطابقاً للواقع؛ لأنّه إذا لم يعلم بصحّة العمل فكيف يأتي به بقصد الأمر؟

وأمّا المقام الثاني:

وهو الكلام في صحّة عمله:

فلا يخفى: أنّ عمل الجاهل المقصّر، كالقاصر، محكوم بالصحّة، ولو كان ملتفتاً حال العمل، شريطة أن يكون عمله مطابقاً للواقع. أمّا في التوصّليّات: فواضح؛ لأنّه يمكن الإتيان بها مطلقاً ولو من غير اختيار، أو كان نائماً، أو غافلاً، وأتى بالعمل وكان مطابقاً فيكفي.

وأمّا إذا كان العمل عباديّاً فيكفي الإتيان به برجاء أنّه ممّا أمر اﷲ سبحانه به، وهذا المقدار من الإضافة إليه تعالى كافٍ، ويمكن صدوره من الجاهل المقصّر، فإذا غفل وأتى به بهذا النحو، ووقع مطابقاً للواقع، فقد وقع صحيحاً، وكفى، ولا يحتاج إلى الجزم بأنّ ما يأتي به هو الماُمور به.لا يقال: يشترط في صحّة العمل الجزم والعلم التفصيليّ به، والجاهل المقصّر لا يتمشّى منه قصد القربة؛ لعدم علمه برجحان العمل وممدوحيّته، مضافاً إلى أنّ التحرّك نحو العمل لابدّ وأن يكون بداعي أمر المولى، ومن قصد الاقتصار على أحد الفعلين فهو ليس قاصداً لامتثال

ص: 493

الأمر الواقع على كلّ تقدير. نعم، هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل للواقع، لا مطلقاً، وهذا غير كافٍ في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها.

فإنّه يقال: قد عرفت أنّه لا يحتاج عند الإتيان بالعمل إلى الجزم بالنيّة، ولا إلى العلم بأنّ ما يأتي به الماُمور به، بل يكفي الإتيان به برجاء أنّه الماُمور به، فيكون قصد القربة موجوداً؛ لأنّه لم يأتِ بالعمل إلّا ﷲ تعالى، ويحصل ذلك بمجرّد احتمال الأمر، ويكفي أن يكون الداعي هو احتمال الأمر، من دون أن يحتاج إلى العلم في صحّة العمل.

ما هو المراد من الأعلم:
اشارة

والكلام في هذا البحث من جهتين:

الأُولى: في إمكان الأعلميّة وعدمها.

والثانية: في معنى الأعلميّة.

أمّا الجهة الأُولى:

فقد يقال: إنّه لا معنى للأعلميّة لما بيّناه في محلّه من أنّ الاجتهاد يحصل باكتساب الملكة والقوّة القدسيّة، وحقيقة تلك القوّة القدسيّة هو النور الذي يقذفه اﷲ في قلب من يشاء،وهي كسائر الملكات بسيطة لا تركيب فيها؛ لأنّها من الكيفيّات النفسانيّة، فلا تقبل القسمة، فالمناط من الاجتهاد هو الحصول على هذه القوّة التي يقتدر بها على استنباط

ص: 494

الأحكام وردّ كلّ فعل إلى أصله، وأمرها دائر بين الوجود والعدم.

ولكن قد ذكرنا سابقاً في بحث التجزّي أنّ هذه الملكة وإن كانت بسيطة، ولكنّها ذات مراتب متفاوته من جهة الكمال والنقص، فربّما يحصل على المرتبة الناقصة دون الكاملة، ولا تلازم بينهما في الوجود، فهي من الملكات المشكّكة، كسائر الملكات من العدالة والشجاعة والسخاوة ونحوها، وهي وإن كانت من الاُمور غير المحسوسة، إلّا أنّ هناك طرقاً محسوسة يستكشف بها تلك الملكات ومراتبها.

ومعه: فتكون الأعلميّة محكومةً بالإمكان لا محالة، ومن هنا يصل الكلام إلى الجهة الثانية.

وأمّا الجهة الثانية:

فنقول فيها: إنّ الأعلميّة التي عرفنا إمكانها هي بمعنى الحصول على أعلى مراتب الكمال من تلك القوّة والملكة.

ولا يخفى: أنّ الأعلميّة وإن كانت تصدق على كثرة الاطّلاع على خصوصيّات المسائل، والإحاطة بالفروع والأقوال والكلمات، وإحكام المباني والكبريات، لكونها أقرب إلى معنى التفضيل المدلول عليه بهيئة أفعل من هذه المادّة، ولكن ليست هذه المعاني هي المرادة هنا.وإنّما المراد بالأعلم من يكون أجود فهماً وأشدّ مهارةً من غيره في تطبيق الكبريات على الصغريات. فالأعلميّة متوقّفة على أمرين: أوّلهما: العلم بالقواعد والكبريات، والثاني: شدّة المهارة وجودة الفهم وحسن

ص: 495

السليقة في التطبيق، كما يظهر من بقيّة الحرف والصنائع، وإنّما قلنا بأنّ المراد من الأعلم هو هذا المعنى الثاني؛ لأنّ كلمة (أعلم) لم ترد في شيء من الأدلّة حتى يرجع في فهمه إلى العرف واللّغة، بل ثبوت وجوب الرجوع إلى الأعلم إنّما هو - كما عرفنا - بملاك التمسّك ببناء العقلاء، وهم لا يريدون به إلّا هذا المعنى الثاني، أي: من كان أقوى استنباطاً، لا بمعنى من كان كثير الاطّلاع على المباني والفروع.

طرق معرفة الاجتهاد والأعلميّة:
اشارة

يُعرف اجتهاد المجتهد وأعلميّته باُمور:

الأوّل: العلم الوجدانيّ:

فإنّ حجّيّته ذاتيّة، لا بجعل الجاعل، لا نفياً ولا إثباتاً، بل العلم بالشيء ليس إلّا إثباته وإحرازه، لا أنّه مجرّد طريق إلى الإثبات.

الثاني: البيّنة.

وقد استدلّ على حجّيّة البيّنة بوجوه:

أوّلها: الإجماع.

وفيه: ما عرفته مراراً من حال أمثال هذه الإجماعات.

والثاني: الروايات، كموثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «سمعته يقول: كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته، وهو سرقة،

ص: 496

أو المملوك عندك، ولعلّه حرٌّ قد باع نفسه، أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك، وهي أُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة»(1).

وقد استشكل على الاستدلال هذه الرواية:

أوّلاً: من ناحية السند، وأنّها ضعيفة، وليست صحيحة.

ولكن فيه: أنّه يمكن أن يحصل لنا الاطمئنان بصدورها بعدما كان لمضامينها وجود في سائر الموثّقات، وبعد عمل المشهور بها فتأمل.

وثانياً: من جهة دلالتها، بدعوى: أنّها دالّة على حجّيّة البيّنة في الحرمة والحكم التكليفيّ، ولا تدلّ على حجّيّتها في باب الموضوعات الخارجيّة، فضلاً عن دلالتها على العموم.

وفيه: أنّ الظاهر منها كونها بصدد بيان ضابطة عامّة؛ لأنّ كلمة (الأشياء) الواردة في متنها جمع معرّف باللّام، وهي مع ذلك مؤكّدة بكلمة (كلّ)، فتكون بصدد بيان قاعدة كلّيّة مفادها أنّ البيّنة، وإن كانت لغةً بمعنى الاستبانة، إلّا أنّها هنا بمعنى: قول الشاهدين العادلين، ويكفينا في حجّيّتها بناء العقلاء على العمل بها، مع عدم ردع الشارع عنها إلّا في بعض الموارد،كالزنا دلّ الدليل الخاصّ على أنّه لابدّ فيه من شهادة أربعة.

ص: 497


1- انظر: وسائل الشيعة 17: 89، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

فالبيّنة واقعة في مقابل العلم الوجدانيّ؛ لأنّها وردت في الرواية في قبال الاستبانة التي هي العلم الوجدانيّ، فيكون معنى الرواية: أنّ البيّنة كالعلم الوجدانيّ جعلت غايةً للحلّ، فقوله(علیه السلام): (الأشياء كلّها على هذا)، أي: على الحلّيّة، حتى يستبين أمرها أو تقوم عليه البيّنة، فالرواية غير مختصّة بالحرمة المترتّبة على الموارد المذكورة فيها، بل هي تدلّ على حجّيّة البيّنة في الموضوعات مطلقاً.

إن قلت: على فرض التنزّل يمكن لنا أن نستدلّ بالرواية لإثبات الضابطة في خصوص مورد دوران الأمر بين الحلّيّة والحرمة، كما في الرواية، لا في إثباتها مطلقاً كقاعدةٍ كلّيّة تشمل كافّة الموارد.

قلنا: بل يمكن التعدّي من هذا المورد إلى غيره من الشبهات الموضوعيّة بدلالة الفحوى؛ لأنّ الشارع حكم بالتوسعة في باب الحلّيّة والطهارة مع عدم العلم بهما واحتمال ما يقابلهما، فاعتبر البيّنة، التي هي في قوّة العلم، سبباً لإثبات ما يقابلهما، أي: الحرمة والنجاسة، فتثبت البيّنة غير الحلّيّة والطهارة، ممّا هو أضيق منهما دائرةً، بطريق اُولى، بل يمكن أن يستفاد من قوله(علیه السلام): (الأشياء كلّها) قاعدة كلّيّة عامّة لكلّ مورد، فالأشياء على حالتها الأوليّة التي يقتضيها الأصل، والذي هو في كلّ شيء بحسبه، من الحلّيّة والحرمة والوجوب والموضوعات الخارجيّة حتى يستبين أوتقوم به البيّنة، فيكون ذكر الحليّة في الرواية من باب أنّه مورد السؤال، وإلّا، فلا خصوصيّة فيه، ومعلوم أنّ المورد لا يكون

ص: 498

مخصّصاً لعموم اللّفظ.

أو نقول: بما أنّ البيّنة جعلها الشارع في قوّة العلم، وحيث إنّ حجّيّة العلم ذاتيّة، والبيّنة ليست كذلك، فتحتاج حجّيّتها إلى دليل، ولمّا حكم الشارع بأنّها في مقام إثبات الموضوعات كالعلم، فكما أنّه إذا علم بشيء يترتّب عليه حكمه، وكذلك كما أنّه إذا قامت الأمارة على حرمة الشيء أو نجاسته أو طهارته أو حلّيّته أو ملكيّته أو اجتهاده أو أعلميّته، فيترتّب عليها أحكامها، فكذلك لو قامت البيّنة على عدالة شخص تجوز الصلاة خلفه إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد، لما ذكرنا مراراً من أنّ الأدلّة لا تشمل المتعارضين؛ لأنّ شمولها لكليهما مستلزم للجمع بين الضدّين أو النقيضين، ولأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح.

وقد يستشكل في دلالة هذه الرواية أيضاً: بأنّ قوله(علیه السلام): (حتى يستبين أو تقوم به البيّنة)، ناظر إلى العلم والعلميّ، وأمّا إثبات حجّيّة البيّنة، أعني: شهادة العدلين فلا، وأنّها دليل على إثبات الموضوعات مطلقاً وفي جميع الموارد، فيحتاج إلى دليل غير هذه الرواية؛ لأنّ البيّنة لغةً هي الشيء الواضح، وكون المراد منها في الرواية البيّنة بمعناها المصطلح، أي: شهادة العدلين، يحتاج إلى دليل.

ولكنّ الحقّ: أنّها من المنقولات الشرعيّة، وأنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) كان يعتمد على إخبار العدلين عند الترافع، ولو كان المراد منالبيّنة في الرواية هو

ص: 499

مطلق الحجّة الواضحة، لكان يلزم أن يكون قسم الشيء قسيماً له؛ لأنّ الاستبانة، وهي العلم، قسم من الحجّة الواضحة؛ فلابدّ أن يكون المراد من البيّنة في الرواية هو معناها التي نُقلت إليه شرعاً، وهو شهادة العدلين.

والثالث: الشياع المفيد للعلم:
اشارة

وهل هو من قسم العلم أم أنّه قسيمه؟ وعلى الثاني، فما هو الدليل على حجّيّته؟

لا يخفى: أنّه إذا كان المراد منه العلْم الشخصيّ، فهو ليس قسيماً للعلم، بل قسم منه، أو فقل: هو أحد أسباب حصول العلم، والعلم حجّة من أيّ سبب حصل. وإذا كان المراد منه العلْم النوعيّ، كان قسيماً للعلم، ولا دليل على حجّيّته؛ لأنّا نرى كثيراً من الشائعات تستند إلى اُمورٍ لا واقع لها.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الشياع إن كان سبباً للعلم فهو داخل فيه، نظير الخبر المتواتر، ولكن كما لم يذكر الخبر المتواتر في عرض العلم في طرق الاجتهاد، فالاُولى - حينئذٍ - عدم ذكره هو أيضاً. وإن كان غير مفيد للعلم، فلا دليل على حجّيّته.

مسألة: لو كان هناك مجتهد ميّت يحرّم البقاء على تقليد الميّت، فمات ورجع إلى الحيّ الذي يقول بجواز البقاء أو وجوبه، فهل يجوز له البقاء على تقليد من يقول بحرمة البقاء أم لا؟

ص: 500

لا يجوز البقاء على تقليد الميت بفتوى الميت نفسه بجواز البقاء، بل يجب على المكلّف الرجوع في ذلك إلى الحيّ الأعلم، فلو قلّد الحيّ، وكان يقول بجواز البقاء، أو بوجوبه، وكان الميت يقول بحرمة البقاء، فللمقلّد أن يبقى في جميع المسائل على فتوى الميت ما عدا مسألة البقاء على تقليد الميت؛ لأنّه يلزم منه التناقض؛ فإنّ الحكمين متنافيين ولا يمكن الجمع بينهما، وذلك أنّ فتوى الحيّ: إمّا أن تكون شاملةً لجميع المسائل، حتى مسألة حرمة البقاء، أو شاملةً لجميع المسائل ما عدا مسألة حرمة البقاء، أو شاملةً لمسألة حرمة البقاء فقط. ولا شكّ في عدم إمكان الاحتمالين الأوّل والثالث، فيبقى الاحتمال الثاني فقط، فإنّ فتوى الحيّ لا يمكن أن تكون شاملةً لمسألة حرمة البقاء؛ للقطع بعدم حجّيّة فتوى الميت بحرمة البقاء وبكونها مخالفةً للواقع الفعليّ، وهو قول المجتهد الذي يجب الرجوع إليه بالفعل.

وجوب التعلّم

يجب على المكلّف بالنسبة إلى العبادات العلم بأجزائها وشرائطها وموانعها ومقدّماتها؛ وذلك لأنّه بعد أن علم بأنّ عليه تكاليف منجّزة في حقّه، يستقلّ عقله بلزوم امتثالها وتفريغ الذمّة تجاهها، وهو ما لا يمكن حصوله إلّا بالتعلّم ومعرفة الأجزاء والشرائط والموانع والمقدّمات.

ص: 501

وهل هذا الوجوب مقدّميّ أم نفسيّ تهيّئيّ أم نفسيّ محض أم عقليّ؟لا شكّ ولا شبهة في عدم كونه وجوبه غيريّاً؛ لأنّ الوجوب الغيريّ يكون ناتجاً من وجوب ذي المقدّمة، مع أنّه بعد دخول الوقت لا يجب الإتيان بذي المقدّمة، لعجزه عنها بعد فوت المقدّمة، وقبل الوقت لم يكن واجباً حتى يترشّح منه الوجوب إلى المقدّمة.

كما أنّه ليس بواجب نفسيّ بحيث تكون المصلحة قائمةً في نفس التعلّم، بل إنّما هو وجوب طريقيّ، بحيث تكون المصلحة قائمةً في نفس الواجب وذي المقدّمة. فالتعلّم مقدّمة للعمل، وليس تركه هو الذي يوجب العقاب، بل إنّما يكون العقاب على ترك ذي المقدّمة.

وهو - أيضاً - ليس وجوباً نفسيّاً تهيّئيّاً، بأن يكون الوجوب الأصليّ ثابتاً بدليلٍ مستقلّ مراعاةً لمصلحة ذي المقدّمة، ويسمّى (تهيّئيّاً) لأنّ فائدته التهيّؤ والاستعداد لواجب آخر، وهو يندرج في الوجوب النفسيّ من حيث عدم كونه متولّداً من وجوب ذي المقدّمة، وإن كان يشبه الوجوب الغيريّ المقدّميّ من حيث كونه ثابتاً لمصلحة في غيره.

وهذا الوجوب من قبيل الوجوب العقليّ، وهو لا يستفاد من إطلاق الأدلّة الدالّة على لزوم الإتيان بالواجب؛ فهو لورود الوجوب عليه يكشف عن وجود ملاك فيه، مع أنّه لا ملاك فيه، بل هو في ذي المقدّمة. فإذا كان ترك الواجب مستنداً إلى ترك التعلّم، ولو قبل الوقت، كان التعلّم واجباً عليه بحكم العقل.

ص: 502

فإذا عرفت ذلك، فالأقوال في مسألة استحقاق العقاب على ترك التعلّم ثلاثة:

أوّلها: استحقاق العقاب على تركه مطلقاً، إذا أدّت مخالفته إلى ترك الواجب.

وهو غير صحيح؛ لما عرفنا من كون وجوبه طريقيّاً، ولذا، لو استند ترك الواجب إلى شيءٍ آخر غير التعلّم، فلا يعاقب المكلّف بشيء.

والثاني: أنّ العقاب يكون على ترك التعلّم إذا أدّى إلى مخالفة العمل للواقع.

وهذا - أيضاً - ليس بصحيح؛ لأنّ وجوبه ليس وجوباً نفسيّاً محضاً، ولا ملاك هناك إلّا ملاك الواقع.

والثالث: أنّ العقاب يكون على ترك الواقع عند ترك التعلّم، وهذا هو القول الصحيح.

ثمّ إنّه لا إشكال في وجوب التعلّم لو قلنا بوجوب معرفة الوجه والتميّز، أو قلنا بعدم جواز العمل بالاحتياط والامتثال الإجماليّ مع التمكّن من العلم التفصيليّ، وإلّا، فلو علم إجمالاً بأنّ عمله كان واجداً لجميع الأجزاء والشرائط، وفاقداً لجميع الموانع، وقع صحيحاً. بل الحقّ: لزوم الحكم بالصحّة - أيضاً - لو تمكّن من الإتيان بالعمل رجاءً، وكان مطابقاً لما هو الواقع بالفعل، لا ما هو الواقع حال العمل.

ص: 503

مسألة: إذا تبدّل رأي المجتهد، فهل يجوز المقلّد أن يبقى على رأيه الأوّل أم لا؟

الظاهر: العدم؛ لعدم شمول دليل جواز التقليد لمثل هذا البقاء، وعدم حجّيّة الفتوى الأُولى بعد العدول عنها وعدم إحراز مطابقتها للواقع، ولأنّ وجوب رجوع الجاهل إلى العالم، المستفاد من مثل السيرة العقلائيّة، إنّما يكون فيما لو لم يعترف المجتهد بخطأ فتواه السابقة، وأنّها كانت مصاديق الجهل بواقع الحكم، فالرأي الأوّل غير باقٍ على حجّيّته، ولمّا كانت الفتوى الثانية مطلقةً، فتكون كاشفة عن عدم حجّيّة الفتوى الأُولى من أوّل الأمر.

مسألة: إذا عدل المجتهد عن الفتوى إلى التوقّف والتردّد، فهل للمقلّد أن يبقى على رأيه الأوّل أم لا؟

الظاهر: أنّه بعد عدوله عن الفتوى إلى التوقّف والتردّد واعترافه بخطأ المستند الفتوى الأُولى، لم يعد رأيه الأوّل حجّة ولا طريقاً إلى الواقع، بل في حقيقة الأمر، لا يكون له فتوى بالفعل، فيكون من مصاديق الجاهل في هذه المسألة، فيتعيّن على المقلّد - حينئذٍ - إمّا أن يعمل بالاحتياط، وإمّا أن يرجع إلى غيره، الأعلم فالأعلم، حتى يحصل له اليقين بفراغ ذمّته؛ لأنّه، والحال هذه، هو العالم بالفعل، والرجوع إليه من باب رجوع الجاهل إلى العالم.

ص: 504

مسألة: لو كان هناك مجتهدان متساويان في العلم، فهل يجوز للمقلّد تقليد أيّهما شاء، أم يجوز له التبعيض في المسائل بينهما، أم عليه الأخذ بقول من هو أعدل أو أورع منهما؟

قد مرّ فيما سبق ما يوضح الحال في هذه المسألة، وذكرنا أنّه إن كانا متوافقين في الفتوى فله أن يقلّد أيّاً شاء منهما؛ لأنّ الأدلّة تشمل كلتا الفتويين. وأمّا في صورة العلم بالمخالفة بينهما، فلابدّ له من الاحتياط؛ وذلك لعدم شمول الأدلّة والإطلاقات للمتعارضين، وهكذا يقال بالنسبة إلى السيرة، وأمّا ما قد يُدّعى من الإجماعات، فكلّها مخدوشة، كما مرّ.

وأمّا في صورة التوافق، هل يجوز له التبعيض بينهما في المسائل؟

الظاهر: الجواز، لما عرفت من أنّه مع عدم العلم بالمخالفة بينهما فالحجّيّة ثابتة لكلتا الفتويين، ففي صورة الموافقة تثبت لهما معاً - أيضاً - بطريقٍ اُولى.

وأمّا الترجيح بينهما في العدالة أو الأورعيّة فأجنبيّ عن مورد البحث. نعم، أرسل صاحب الجواهر(قدس سرّه) إمكان الترجيح بذلك إرسال المسلّمات، حيث قال في المقام - ما لفظه -:

«نعم، مع تساويهما في العلم يُقَدَّم الأعدل؛ لكونه أرجح - حينئذٍ -، فيكون الحاصل حينئذٍ ترجيح أعلم الورعين،وأورع العالمين؛ لقاعدة

ص: 505

قبح ترجيح المرجوح على الراجح»(1).

مسألة: لو قلّد مجتهداً يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم، ووجد من هو أعلم منه، فهل يجب عليه البقاء على تقليده ولا يجوز له العدول مطلقاً أم لا؟

الظاهر: أنّه لابدّ له من العدول إلى ذلك المجتهد الأعلم؛ لأنّ تقليد الأعلم - كما أسلفنا - واجب، لا يُفَرَّق فيه بين الابتداء والاستدامة، مع العلم بالمخالفة، وعدم كون فتوى غير الأعلم موافقةً للاحتياط، ولا يمكن الاستناد في البقاء على تقليد غير الأعلم إلى فتوى نفسه؛ لما يلزم منه من الدور، ففي هذه الحالة لابدّ له من الرجوع إلى الأعلم. وأمّا في صورة عدم العلم بالمخالفة، فيجوز له البقاء على تقليد غير الأعلم، كما يجوز له العدول إلى الأعلم، وإن كان الأوّل يفتي بعدم جواز العدول؛ فإنّ فتواه هذه - كما عرفنا - لا أثر ولا حجّيّة لها.

مسألة: إذا قلّد شخصاً بتخيّل أنّه زيد، فتبيّن أنّه عمرو، فهل وقع تقليده هذا صحيحاً أم لا؟

قد يقال: بأنّ الحكم بالصحّة في المقام مشروط بشرطين:

أوّلهما: التساوي في الفضيلة.

ص: 506


1- جواهر الكلام 4: 43.

والثاني: أن لا يكون تقليده على وجه التقييد، بحيث لو علم بأنّ من قلّده كان زيداً لم يكن ليقلّده بوجه؛ لأنّه إنّما أرادأن يقلّد عمراً بخصوصه، وأمّا لو كان تقليده لأحدهما على سبيل الداعي، كما لو كان بحيث لو علم أنّ من قلّده زيد كان ليقلّده أيضاً، فيصحّ بلا إشكال.

ولكنّ الحقّ: أنّ الشرط الأوّل غير صحيح؛ لما مرّ من أنّه مع عدم العلم بالمخالفة يجب الحكم بصحّة التقليد. وأمّا في صورة التساوي، مع العلم بالمخالفة، يجب عليه الاحتياط، كما أنّه في صورة وجود الأعلم يجب الرجوع إليه. وأمّا الشرط الثاني، فإن قلنا بأنّ التقليد عبارة عن الالتزام بقول مجتهد معيّن، أو العمل كذلك، فالشرط صحيح؛ لأنّه لم يتحقّق منه التقليد حينئذٍ.

وأمّا ما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) من أنّ الموجودات الشخصيّة و«الاُمور الخارجيّة ليست مورداً للتقييد؛ فإنّ الموجود الشخصيّ والأمر الخارجيّ لا إطلاق له ليكون قابلاً لتقييده...»(1)؛

لأنّ النسبة بينهما من قبيل الملكة والعدم، وكلّ ما لا يمكن فيه الإطلاق فلا يمكن فيه التقييد.

فغير تامّ؛ لإمكان التمسّك فيها بالإطلاق الأحواليّ بلا مانع.

ولكنّ الحقّ: لا أثر لهذا التقييد بعدما كان قول كلا المجتهدين حجّة

ص: 507


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 263.

وجامعاً للشرائط، فمقامنا نظير غسل الثوب الخارجي بعنوان أنّه من زيد، فبان أنّه من عمرو، فإنّه لا يؤثّر على تحقّق الطهارة، فإنّها تحصل كيفما اتّفق؛لوضوح أنّ التوصّليّات لا تحتاج إلى القصد، بل تحصل ولو بدون قصد واختيار، ومثله التقليد، فإنّه قد حصل من المكلّف بعد أن كان عمله مستنداً إلى الحجّة، فيكون صحيحاً، وإن تخلّف الداعي.

طرق تعلّم الفتوى:

تُعلم فتوى المجتهد باُمور:

الأوّل: أن يسمع منه شفاهاً. وذلك لما ثبت في محلّه من حجّيّة ظواهر الكلام مطلقاً، ولو لم يكن مفيداً للظنّ، بل ولو مع الظنّ غير المعتبر على الخلاف، بل يمكن الاستفادة من قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ ل--ّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(1)، الدالّ على حجّيّة إنذار المنذر، وهو ليس إلّا الإخبار عن الحلال والحرام، وكذا يمكن الاستفادة ممّا تقدّم من الروايات الواردة عنهم(علیهم السلام)المشتملة على الإرجاع إلى آحاد الرواة ومن يأخذون معالم دينهم منهم. وكذلك يستفاد في المقام ممّا تقتضيه السيرة العقلائيّة القائمة على الرجوع إلى أهل الخبرة؛ فإنّ قول الطبيب - مثلاً - إنّما يكون حجّةً لأنّ ما أخبر به

ص: 508


1- التوبة: الآية 122.

مطابق لتشخيصه، فكذلك يكون قول المجتهد وإخباره عن آرائه وفتاواه.الثاني: إخبار عدلين بها. لما تقدّم من عموم حجّيّة البيّنة إلّا في موارد قام الدليل على عدم اعتبارها فيها، كما مثّلا سابقاً من الشهادة بالزنا ونحوه.

الثالث: إخبار عدل واحد، بل يكفي إخبار شخص موثّق بها، ولكن بشرط أن يحصل الاطمئنان من قوله.

ولكنّ الحقّ: عدم ثبوت الموضوعات بخبر العدل الواحد؛ لأنّه لا دليل على حجّيّته فيها؛ لأنّ ما ورد في الخبر المتقدّم أنّ الأشياء كلّها على ذلك حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة، وإخبار العدل الواحد لا يندرج تحت القسم الأوّل ولا تحت القسم الثاني. نعم، هو حجّة في الأحكام.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّه حجّة في محلّ الكلام؛ لأنّه إخبار عن فتوى المجتهد بالدلالة المطابقيّة، وبدون واسطة، والإخبار عن الفتوى إخبار عن قول الإمام(علیه السلام)، فإذا قلنا بحجّيّة خبر العدل والثقة إمّا مطلقاً أو في محلّ البحث، فلا نحتاج إلى الاطمئنان الشخصيّ، بل يكفي فيه الاطمئنان النوعيّ، وعليه: فيمكن القول بكفاية إخبار الشخص الموثق - أيضاً -، ولو لم يكن عادلاً.

الرابع: الوجدان في رسالته العمليّة، وهي تارةً: كتبها المجتهد بنفسه وبخطّه أو جمعها غيره وهو أمضاها، وأُخرى: كتبها عنه غيره.

ص: 509

أمّا في الصورة الأُولى: فتدخل في باب إخبار المجتهد عمّا أدّى إليه نظره ورأيه؛ لأنّ الكتابة نوع منالإخبار عن الفتوى، فتشملها الأدلّة التي تدلّ على حجّيّة إخبار المجتهد.

وأمّا في الصورة الثانية: فلابدّ أن يكون الكاتب موثّقاً، ويندرج - أيضاً - في باب إخبار الثقة، فتشملها أدلّة حجّيّة إخباراته شريطة أن يكون مأموناً من الخطأ، ولو بضميمة أصالة عدم الخطأ، وأمّا مع رؤية أغلاط كثيرة فيها فلا يجري الأصل المذكور.

مسألة: لو قلّد من ليس أهلاً للفتوى مدّةً من الزمن كما إذا علم أنّه لم يكن عادلاً أو مجتهداً، ثمّ التفت، وجب عليه العدول، لأنّ تقليده باطل، والحال هذه، وهذا يعني: أنّ عدوله إلى تقليد من هو أهل للفتوى لا يكون تقليداً على الحقيقة، وإنّما هو عدول بحسب اعتقاده.

وأمّا بالنسبة إلى أعماله السابقة، فإذا كانت مطابقةً لفتوى من يجب تقليده بالفعل، صحّت، وإلّا، كانت باطلةً، وإن كانت مطابقةً لفتوى المجتهد الذي يجب تقليده في ذلك العصر.

وكذا لو قلّد غير الأعلم، والتفت لاحقاً، وجب عليه العدول إلى الأعلم إذا كان مخالفاً له في الفتوى، وتقليده لغير الأعلم محكوم بالبطلان، إذا كان تقليده له من دون فحص. وأمّا إذا كان قد قلّده بعد الفحص، وقلنا بلزوم الرجوع إلى الأعلم من باب الاحتياط، فالأحوط العدول إليه.

ص: 510

وأمّا لو قلنا بحرمة العدول حتى إلى الأعلم، كما هو قول بعضٍ، فلابدّ له - حينئذٍ - من الرجوع إلى أحوط القولين، وليس له العدول؛ لأنّه على خلاف الاحتياط.

مسألة: لو علم إجمالاً بأعلميّة أحد شخصين، ولم يمكن التعيين بينهما، فتارةً يكونا متوافقين في الرأي، فيكون كلا الرأيين حجّةً كما مرّ. وأُخرى يختلفان، وفي هذه الصورة لابدّ من الاحتياط كما مرّ - أيضاً - إن أمكن، دفعاً للضرر المحتمل.

وأمّا ما قد يقال: من إمكان الأخذ بفتوى مظنون الأعلميّة، فيرد عليه: أنّه لا يفيد؛ لعدم القطع بخروجه عن عهدة التكليف إذا عمل بقول مظنون الأعلميّة.

وأمّا إذا لم يتمكّن من الاحتياط، كما لو أفتى أحدهما بوجوب صلاة الجمعة في يومها، وأفتى الآخر بوجوب صلاة الظهر، وكان هناك مرجّح في البين لجهة الظنّ بأعلميّة أحدهما، وقلنا بأنّ بناء العقلاء قائم على الأخذ بفتوى مظنون الأعلميّة أو محتملها، فحينئذٍ: يؤخذ بفتوى مظنونها.

وأمّا إذا لم يكن أحدهما مظنون الأعلميّة ولا محتملها، فعندئذٍ: تصل النوبة إلى التخيير.

وقد يقال: لابدّ من اللّجوء إلى القرعة في محلّ البحث.

ولكن فيه: أنّه لا يمكن التمسّك بالقرعة في المقام بعد إعراض

ص: 511

المشهور وعدم عملهم بها في المورد، حتى لوقيل بورود رواياتٍ كثيرة تدلّ عليها، وبأنّ بعضها شامل للمورد.

مسألة: إذا شكّ في عروض ما يوجب عدم جواز تقليد المجتهد، كالموت أو الجنون أو النسيان، أو عدم جواز البقاء على الرأي الأوّل، كتبدّل الموضوع، فهل يجوز له البقاء على رأيه أم لا؟

الصحيح: أنّه يجوز له البقاء، تمسّكاً بالاستصحاب إلى حين العلم بالحال، ولا يجب عليه الفحص؛ لعدم وجوبه في الشبهات الموضوعيّة، كما قرّر في محلّه.

مسألة: لو علم بعد مدّة من الزمن أنّه كان يعمل بلا تقليد، ولم يعلم مقدار هذه المدّة، فماذا يصنع؟

أمّا لو انكشفت موافقة الفتوى التي عمل بها لفتوى المجتهد الذي يكون قوله حجّة بالفعل بالنسبة إليه، وتأتّى منه قصد القربة بالنسبة إلى العمل الذي أتى به في وقته، فيكون عمله هذا صحيحاً، ولا يحتاج لا إلى الإعادة ولا القضاء؛ فإنّ المدار في الصحّة وعدمها إنّما هو على مطابقة عمله لما هو الحجّة والواقع، وهو قول المجتهد الفعليّ الذي يجب عليه أن يعمل برأيه فعلاً، دون المجتهد الذي كان يجب عليه أن يعمل برأيه في زمان العمل؛ لسقوط فتاواه عن الحجّيّة بالموت أو غيره من الأسباب.أمّا إذا لم ينكشف له الحال، ولم يعلم أنّ أعماله هل كانت مطابقةً للواقع

ص: 512

أم مخالفة له؟ فلابدّ له من الإعادة؛ لإطلاق ما ورد عن الصادق(علیه السلام)، من قوله: «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّراً فأمضه، ولا إعادة عليك فيه»(1)، وكذلك موثّقة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام): «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»(2)؛ فإنّهما وإن كان ظاهرهما هو عدم وجوب القضاء، ولكنّهما منصرفتان إلى صورة التذكّر خاصّةً، ولو بقرينة روايتين أُخريين وردتا:

إحداهما: حسنة ابن بكير، قال: «قُلْتُ له: الرجل يشكّ بعدما يتوضّأ؟ قال: هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»(3).

والثانية: ما عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) أنّه قال: «إن شكّ الرجل بعدما صلّى فلم يدرِ أثلاثاً صلّى أم أربعاً؟ وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ، لم يُعد الصلاة، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك»(4).ولكن قد عرفنا أنّ هذه الروايات ناظرة إلى ما يقضيه الطبع في الأعمّ الأغلب، وهي إرشاد إلى ذلك فلا يمكن التمسّك بقاعدة الفراغ فيما نحن فيه، لأنّه بحسب الفرض كان حين العمل غافلاً، وإن فرضنا أنّ

ص: 513


1- وسائل الشيعة 1: 471، الباب 42 من أبواب الوضوء ح6.
2- وسائل الشيعة 8: 237 - 238 الباب 23 من أبواب الخلل في الصلاة ح 3.
3- وسائل الشيعة 1: 471، الباب 42 من أبواب الوضوء ح 7.
4- وسائل الشيعة 8: 246 الباب 27 من أبواب الخلل في الصلاة ح 3.

عمله كان صحيحاً، فمن باب المصادفة والاتّفاق، لا من جهة مطابقته للطبع والعادة.

وأمّا إذا انكشف له أنّ ما أتى به كان على خلاف الواقع، فلابدّ من الحكم بالبطلان؛ لما أشرنا إليه من أنّ المدار في الحكم في صحّة العمل وفساده إنّما هو كونه مطابقاً للواقع أو مخالفاً له، ولا سبيل إلى التعرّف على ذلك إلّا الرجوع إلى فتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده عند الالتفات، لا ذاك الذي سقطت فتواه عن الحجّيّة لسببٍ من الأسباب، كالموت ونحوه.

مسألة: من عمل مدّةً من الزمن بناءً على تقليد شخص، ولكن لم يعلم أنّ تقليده له كان صحيحاً، فهل يبني على الصحّة مطلقاً أم لا؟

ولا يخفى: أنّ المراد من التقليد الصحيح هو أن يكون على طبق الموازين والقواعد الشرعيّة وليس عن هوى النفس - مثلاً -.

أمّا في صورة ما إذا كان المجتهد جامعاً للشرائط، وكان العمل مطابقاً لرأيه، فلا إشكال في الحكم بالصحّة؛ لجريان أصالة الصحّة، من دون أن يؤثّر عليه الشكّ في أنّ الاستناد إلى فتواه هل كان على طبق الموازين أم لم يكن، ولا دليلعلى أنّ الاستناد إلى ذلك المجتهد يجب أن يكون مطابقاً للموازين الشرعيّة. وبالجملة: فإنّ صحّة التقليد يكفي فيها أن يكون عمله مطابقاً لفتوى من هو جامع للشرائط.

ص: 514

وأمّا إذا كان شكّه في الصحّة ناجماً عن الشكّ في أنّ هذا المجتهد هل كان جامعاً للشرائط أم لا؟ فإن كان جامعاً للشرائط، كما إذا كان قد حصل له القطع بذلك، أو شهد لديه بذلك شاهدان، ثمّ شكّ بعد ذلك في أنّ قطعه السابق كان جهلاً مركّباً، أو ظهر له فسق الشاهدين، وصار سبباً لشكّه هذا، فلابدّ له - حينئذٍ - من الفحص عن استجماع مقلَّده للشرائط، ولا يجوز له البقاء على تقليده، بلا فرقٍ بين أن يكون الشكّ من قبيل الشكّ الساري أم من غيره، بل حاله - حينئذٍ - كما لو كان قد شكّ ابتداءً في أنّه جامع للشرائط، فكما لا يجوز له أن يقلّده، فكذلك لو شكّ في ذلك بقاءً أيضاً.

وأمّا إذا كان الشكّ في صحّة تقليده وعدمها بالإضافة إلى أعماله التي أتى بها على طبقه، فإذا علم بمطابقتها للواقع، كما إذا عمل بالاحتياط فأتى بالسورة - مثلاً - أو بالتسبيحات ثلاثاً، فلا إشكال في صحّة عمله حينئذٍ، ولا يجب عليه الإعادة فيما يرجع إلى الأركان، لورودها في مثل حديث (لا تعاد). وأمّا في غير الأركان من الأجزاء، كما لو أخلّ بالسورة، وجبت عليه الإعادة، إلّا إذا قلنا بأنّ حديث (لاتعاد) يشمل الجاهل بالحكم، ولكنّه لا يشملها؛ لكونها معارضاً ومضادّاً للأدلّة الأوّليّة.مسألة: إذا قلّد مجتهداً ثمّ شكّ في أنّه جامع للشرائط أم لا؟

قد يقال: لابدّ له من الفحص، ولا يجوز له أن يعمل بأقواله بعد الشكّ،

ص: 515

ولا فرق بين الشكّ الطارئ والشكّ الساري.

ونقول: إذا قلّد من هو جامع للشرائط المعتبرة في المرجعيّة من جهة قطعه بذلك أو قيام البيّنة عليه، ولكن شكّ بعد ذلك في استجماعه للشرائط؛ لاحتمال زوالها عنه، فإنّه أحرز استجماعه للشرائط حدوثاً، ولكنّه شكّ في ارتفاعها بقاءً، ولا ينبغي الإشكال في جواز البقاء على تقليده تمسّكاً باستصحاب بقائه على الشرائط المعتبرة، فيبقى على تقليده إلى أن يعلم بارتفاعها، كما أنّ أعماله السابقة التي أتى بها وفقاً لفتواه كانت صحيحة؛ لأنّ المفروض أنّه عندما قلّد، فقد قلّد شخصاً جامعاً للشرائط، ثمّ طرأ له الشكّ بعد ذلك.

وأمّا إذا كان شكّه من قبيل الشكّ الساري، فيرجع الشكّ إلى أنّه هل كان من أوّل الأمر جامعاً للشرائط أم لا؟ كما لو كان يعلم سابقاً بأنّه كان جامعاً للشرائط، ولكن بعد ذلك شكّ في أنّه كان من أوّل الأمر جامعاً لها؛ لاحتمال خطئه في عمله، أو للشكّ في عدالة الشهود، فالشكّ - حينئذٍ - يسري إلى اليقين السابق، فيزيله، فيجب عليه الفحص، وليس له أن يبقى على تقليده له، فإنّ فتواه وإن كانت حجّةً حدوثاً، إلّا أنّها سقطت عن الحجّيّة بقاءً؛ لزوال العلم؛ أو سقوط البيّنة عن الاعتبار؛ فكما يجب الفحص عن التقليد الابتدائيّ، لعدم حجّيّة مشكوك الحجّيّة، يجب كذلك الفحص عن صحّة التقليد استدامةً؛ لعدم وجود المؤمّن من العقاب.

ص: 516

فإن قلت: إنّ قاعدة اليقين تجري في الشكّ الساري، كما يجري الاستصحاب في الشكّ الطارئ، فكما أنّ الشكّ في البقاء يكون مجرى للاستصحاب، فكذلك الشكّ في الحدوث يكون مجرىً لقاعدة اليقين، ففي الحالتين يجوز للمكلّف البقاء على تقليد من قلّده سابقاً، لأنّ حجّيّة فتاواه مسبوقة باليقين، والشكّ بعد ذلك يكون ملغىً ببركة (لا تنقض اليقين بالشكّ)، الشامل لكلتا القاعدتين.

قلت: قد عرفنا في محلّه أنّ عدم جواز نقض اليقين بالشكّ إمّا أن يشمل مورد الشكّ الطارئ، وهو المعبّر عنه بالاستصحاب، أو الشكّ الساري، المعبّر عنه بقاعدة اليقين، ولا يمكن أن يكون الخبر شاملاً لكليهما معاً؛ إذ ليس هناك من جامع بين القاعدتين، فإنّ اليقين باقٍ بناءً على الاستصحاب، وزائل بناءً على قاعدة اليقين، ومتعلّقا اليقين والشكّ متّحدان زماناً في قاعدة اليقين، ومختلفان زماناً في باب الاستصحاب، فلمّا لم يمكن أن يكون الخبر شاملاً للقاعدتين، كان لابدّ من إرادة إحداهما فقط، وليست هي قاعدة اليقين؛ لأنّ موردها منطبق على الاستصحاب والشكّ الطارئ، ما يعيّن إرادته من الخبر، وإلّا، يلزم عدم شمول الخبر لمورده، وهو قبيح.

مسألة: من ليس أهلاً للفتوى هل يجوز له الإفتاء أم لا؟

والكلام في هذه المسألة يقع في اُمور:

ص: 517

الأمر الأوّل: حرمة إفتائه إذا لم يكن جامعاً للشرائط.

والأمر الثاني: حرمة تصدّيه للقضاء.

أمّا الأمر الأوّل:

فقد يستدلّ له:

تارةً: بأنّ هذا المنصب هو من المناصب الإلهيّة، فيكون مختصّاً بالنبيّ أو الإمام أو نائبه، الخاصّ أو العامّ، وأمّا من لا أهليّة له، فلم يثبت له الإذن، فتصدّيه في حدّ نفسه حرام، وإفتاؤه حرام آخر.

وفيه: أنّه لم يظهر من الأدلّة كونه من المناصب المختصّة لكي يحتاج إلى الإذن، وأمّا الأدلّة التي ورد فيها ذكر للشرائط التي ينبغي توفّرها، فهي إنّما تدلّ على شرائط حجّيّة الفتوى، لا على الحكم التكليفيّ الذي هو جواز الإفتاء و عدمه.

وأُخرى: بأنّه إغراء للجاهل.

وفيه: أنّه ليس إغراءً للجاهل مطلقاً؛ لأنّ فتواه قد تكون موافقةً لفتوى المجتهد الجامع للشرائط، أو مطابقةً للاحتياط، وحينئذٍ: فلا مانع من إفتائه من هذه الناحية.

ويمكن أن يقال: إنّ من ليس أهلاً للفتوى لعدم حيازته على ملكة الاجتهاد، فإذا أفتى الناس، فقد أفتاهم بغير علم، فلا إشكال في حرمة إفتائه هذا؛ لأنّه إسناد الحكم إلى اﷲ تعالى من دون حجّة، وقد قال تعالى:

ص: 518

﴿قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ﴾(1). وعن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:«رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار»(2).أمّا من كان له ملكه الاجتهاد، ولكن لم يكن له أهليّة للفتوى من سائر الجهات، فلا دليل على تحريم إخباره عن نظره وفتواه؛ فإنّه ليس بكذب، فيصدق على إفتائه هذا أنّه ممّا أذن اﷲ به، فإن كان ما أفتى به حسب اجتهاده هو حكم اﷲ تعالى، فقد قضى بالحقّ وهو يعلم، فليس هناك افتراء على اﷲ في فتواه هذه. وإنّما الكلام في أنّه هل يصدق عليه أنّه إغراء للجاهل، ولكن قد عرفنا أنّه في هذه الحالة لا إغراء، وبخاصّةٍ إذا كان يرى نفسه أعلم.

وأمّا الأمر الثاني:

وهو حرمة تصدّيه للقضاء، فالظاهر أنّه من الأحكام المتّفق عليها عند الأصحاب، وقد استدلّوا له برواياتٍ عدّة، استفادوا منها أنّه من المناصب المختصّة بالمعصوم(علیه السلام)، فلا يجوز لأحد التصدّي له إلّا بإذنه.

منها: رواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(علیه السلام) لشريح: يا شريح(قدس سرّه) قد جلسْتَ مجلساً لا يجلسه إلّا نبيٌّ أو وصيّ نبيٍّ أو شقيّ»(3).

ص: 519


1- يونس: الآية 59.
2- وسائل الشيعة 27: 22، باب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 27: 17، باب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

ومنها: صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «اتّقوا الحكومة؛ فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، لنبيٍّ أو وصيّ نبيّ»(1).ولكن لم يظهر من هاتين الروايتين أنّه لا يجوز القضاء، إلّا مع الإذن وإنّما ظهر منهما أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يحكم مع وجود المعصوم(علیه السلام)، فولاية القضاء لم تثبت لغيره في عرضه.

نعم، ورد في صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه»(2)، فهي تدلّ على أنّ أصل جواز القضاء يحتاج إلى جعلٍ من قِبَلهم(، فلابدّ للقاضي أن تكون له الأهليّة للقضاء؛ إذ كيف ينصّب الإمام من ليس أهلاً له؟

وهل يشترط فيمن يتصدّى للقضاء أن يكون مجتهداً أم لا؟

المشهور على الأوّل، بل قد يُدّعى عليه الإجماع.

وذهب إلى الثاني صاحب الجواهر(قدس سرّه)(3) مستفيداً من إطلاق جملة من الآيات والروايات التي تقتضي عدم الفرق بين المجتهد وغيره.

ص: 520


1- وسائل الشيعة 27: 17، باب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
2- وسائل الشيعة 27: 13 - 14، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
3- انظر: جواهر الكلام 40: 15.
أمّا الآيات:

فكقوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾(1).وقوله: ﴿يَا أَي-ُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ﴾(2).

وقوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(3).

فإنّ إطلاق هذه الآيات دالّ على أنّه لا فرق في الحاكم بين أن يكون مجتهداً وبين أن لا يكون كذلك.

ولكن لا يخفى: أنّها ليست في مقام البيان من جميع الجهات، والتي منها كفاية مطلق العالم، بل نراها خاليةً عن ذكر العلم أصلاً، فضلاً عن بيان كيفيّته، بل إنّما هي في مقام البيان من جهة الحكم بالعدل والحقّ وغيرهما.

وأمّا الروايات:

فمنها: ما عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام): «القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنّة، رجل قضى بجور وهو يعلم، فهو في النّار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم، فهو في النّار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم، فهو في

ص: 521


1- النساء: الآية 58.
2- المائدة: الآية 8.
3- المائدة: الآية 47.

النّار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم، فهو في الجنّة»(1).والرواية مطلقة؛ لأنّ المراد من العلم فيها هو العلم الذي يحصل له عن اجتهاد أو عن تقليد، وليس في مقام البيان من ناحية أنّ علمه الذي يستند إليه في الحكم يجب أن يكون عن اجتهاد ولا يجوز أن يكون عن تقليد.

ومنها: ما ورد في صحيحة أبي خديجة المتقدّمة، من قوله(علیه السلام): «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا...» الخبر.

ولكنّ الإنصاف: أنّه لا إطلاق لها؛ لأنّها ليست بصدد بيان أنّ العلم الحاصل له لابدّ أن يكون عن اجتهادٍ أو عن تقليد.

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في الباب.

وهي على فرض تسليم ثبوت الإطلاق لها، يقيّد بمقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة مراراً، والصريحة في أنّ القاضي لابدّ أن يكون ناظراً في الحلال والحرام عارفاً بالأحكام «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ...»(2).

ص: 522


1- وسائل الشيعة 27: 22، باب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
2- مرّ تخريجها آنفاً.

وكذلك التوقيع الشريف بخطّ مولانا صاحب الزمان.: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اﷲ»(1).مسألة: يجب على العامّيّ في زمان الفحص عن المجتهد، أو عن الأعلم، أن يحتاط في أعماله في زمان الفحص، بأن يأخذ بأحوط الأقوال حتى يثبت له الاجتهاد أو الأعلميّة لدى من يجب عليه تقليده، لكي يحصل له بذلك الأمن من العقاب؛ إذ بدونه لا يكاد يحصل له ذلك، ولاسيّما بعد أن علم بوجود أحكامٍ إلزاميّة في الشريعة المقدّسة، فلابدّ له من الخروج عن عهدتها، ولا يمكن ذلك إلّا بالاحتياط.

ولكن لا يخفى: أنّ الحكم بإيجاب الاحتياط في زمان الفحص عن المجتهد واضح. وأمّا في زمان الفحص عن الأعلم، فالحكم بإيجابه مشكل، وذلك لما عرفنا من أنّ مسألة جواز الاحتياط، بما أنّها خلافيّة، فلابدّ له من تقليد محتمل الأعلميّة، ومع عدم وجود محتمل الأعلميّة يسقط الحكم بوجوب تقليد الأعلم، فيرجع - حينئذٍ - إلى الأخذ بأحوط الأقوال.

مسألة: المأذون والوكيل عن المجتهد في التصرّف في الأوقاف، أو

ص: 523


1- وسائل الشيعة 27: 140، باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 9.

في أموال القصّر، ينعزل إذا مات موكّله.

بل قد يقال: ببطلان ذلك بالإغماء، فضلاً عن الجنون والموت.

فإنّ الوكيل هو الوجود التنزيليّ للموكّل، ومن هنا، تُنسب تصرّفاته إلى موكّله، وإذا كان كذلك، فإذا زال الأصل، فلا محالة: يكون زواله سبباً لزوال الفرع، وإن شئت قُلْتَ: إنّمن مقوّمات الوكيل وجود الموكّل الذي ينزّله منزلة نفسه في التصرّفات التي يجيزها له.

وأمّا إذا جعله منصوباً من قبله، كما إذا نصّبه متولّياً للوقف، أو قيّماً على القُصّر، فإنّه لا تبطل توليته وقيموميّته بموته على الأظهر.

ولابدّ أوّلاً - من إحراز أنّ الفقيه تثبت له الولاية مطلقاً في زمان الغيبة لكي يتمكّن من نصب المتولّي والقيّم ونحوهما، وبعد إحراز أنّه يتمكّن من ذلك، تصل النوبة إلى الحديث عن أنّ توليته وقيموميّته هل تبطلان بالموت أم لا؟

بل يمكن أن يقال: إنّ هذا الجعل من الوظائف الراجعة إلى القضاة، كما يستفاد من قوله(علیه السلام) في المقبولة: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»، وبما أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة أنّ منصب القضاء منصب نيابيّ، فالأفعال الصادرة منه هي الصادرة عن الإمام(علیه السلام)؛ إذ هو منصوب من قبله، فمنصوبه منصوب الإمام(علیه السلام)، وعليه: فلا معنى للتفصيل بين ما إذا قصد تنصيبه عن نفسه، فينعزل بموت الفقيه أو الحاكم، وبين ما لو قصد تنصيبه عن الإمام(علیه السلام)، فلا ينعزل.

ص: 524

بل يمكن القول: بأنّ الجعل لو كان من قبل المجتهد، فإنّه ينعزل بموته، وأمّا لو كان من قبل اﷲ تعالى فعزله - حينئذٍ - بحاجةٍ إلى دليل.

فلو جعل شخصاً قيّماً أو متولّياً، ثمّ مات الجاعل، يبقى القيّم والمتولّي على حاله، ما لم يقم الحاكم الجديد بعزلهما، وهذا ما عليه ديدن العرف والعقلاء، وحتى ولاة الجور منهم.ثمّ لو شككنا في كيفيّة الجعل وأنّه هل كان بنحو النصب حتى يُحكم ببقائه، أم بنحو الإذن والوكالة حتى يحكم بزواله، فهل مقتضى الأصل - حينئذٍ - هو بقاء سلطنته أم لا؟

الحقّ: أنّ المقام - حينئذٍ - يندرج في القسم الثاني من استصحاب الكلّي، كما لو كان المستصحب موجوداً في ضمن أحد الفردين الطويل والقصير، فإنّ الأصل ولو لم يكن جارياً في فرد الكلّيّ ومصداقه، إلّا أنّه يمكن جريانه في الكلّيّ نفسه، شريطة أن يكون هو موضوعاً للأثر. ولكن مع ذلك، ففيما نحن فيه، لا يجري الاستصحاب في الكلّيّ - أيضاً -؛ لعدم وجود أمر متعلّق بالجامع لكي يتأتّى جريان الاستصحاب فيه. هذا مضافاً إلى أنّ هذا الأصل إنّما يجري - بناءً على صحّة جريانه - فيما لو كان الشكّ من قبيل الشكّ في المقتضي. وأمّا لو قلنا بعدم جريانه هناك، فمن الواضح، أنّه لا يجري هنا - أيضاً -.

فما قد يقال: من أنّ المقام يكون من قبيل الشكّ في الرافع؛ لأنّ السلطنة بطبعها وذاتها قابلة للبقاء، إلّا أن يزيلها الزائل والرافع.

ص: 525

ففي غير محلّه؛ لإمكان أن يكون القصور في المقتضي بالنسبة إلى مجعوليّة السلطنة، فإنّ مورد الشكّ هو عدم ترتّب الأثر فيما أوقفه الحاكم أو الفقيه.

مسألة: من بقي على تقليد الميت من دون إجازة الحيّ، فهو كمن عمل بلا تقليد؛ لأنّ عمله هذا لم يكن مستنداً إلى حجّةمعتبرة، ولا يفيده حجّيّة ما كان يستند إليه سابقاً؛ لسقوطها، ولو كان رأي الحيّ هو البقاء؛ لأنّه لم يقّلده بحسب الفرض. نعم، لو كان جاهلاً بالجهل البسيط أو المركّب، ولم يكن ملتفتاً حين العمل، ولكن جاء عمله مطابقاً للواقع، صحّ، وأمّا إذا لم يوافق عمله الواقع، أو رأى من رأيه حجّة بالفعل، فهو يكون باطلاً، كما اتّضح ممّا قد أسلفناه.

مسألة: الوكيل في الإتيان بعملٍ عن الغير، كما إذا صار وكيلاً عنه في إجراء عقد، أو نائباً عنه للحجّ، فهل يجب عليه العمل بمقتضى تقليد الموكلّ أو تقليد نفسه؟

لا يخفى: أنّ تفريغ ذمّة الغير عمّا اشتغلت به، تارةً: يكون من قبل المتبرّع، وأُخرى: من الوليّ، وثالثةً: من الوصيّ، ورابعةً: من الوكيل. فهذا المفرّغ لذمّة الغير هل يتعيّن عليه أن يأتي بالعمل على حسب ما هو الصحيح عنده، اجتهاداً أو تقليداً، أو على حسب ما هو الصحيح عند من يريد إفراغ ذمّته؟

ص: 526

قد يقال: عليه أن يعمل على ما هو الصحيح عند الموصي والموكلّ والمستأجر؛ فإنّ كلاً من الوصيّ والوكيل والأجير يكون نائباً عن الغير، ووجوداً تنزيليّاً له، والتكليف - في حقيقة الأمر - متوجّه إلى الغير، فيجب على كلّ واحد من هؤلاء السعي إلى تحقيق العمل الصحيح عند الموصي والموكلّ وأمثالهما، لكي يبرّئ ذمّته ممّا قد انشغلت به من العمل.نعم، لو كان العمل عباديّاً، وكان الإتيان به على كيفيّةٍ ما باطلاً في نظر الأجير - مثلاً -، لم تصحّ الإجارة - حينئذٍ -؛ لعدم تمشّي قصد القربة منه، وعدم قدرته على الإتيان بالعمل العباديّ على هذه الكيفيّة متقرّباً به إلى المولى سبحانه.

وقد يقال - في المقابل -: بل اللّازم هو رعاية تقليد الوكيل نفسه؛ إذ إنّ إطلاق الوكالة يقتضي جواز عمل الوكيل بنظره، وتطبيق عمل الموكّل عليه، ومجرّد التفات الموكّل إلى الاختلاف غير كافٍ في تقييد إطلاق التوكيل، ففي مقام الإثبات، لا مانع من الأخذ بالإطلاق إذا تمّت مقدّمات الحكمة، ولم يكن هناك قرينة مانعة من الأخذ بالإطلاق، وهكذا الحال بالنسبة إلى الوصيّ والأجير - أيضاً -.

فما لم تكن هناك قرينة على تقييد العمل بالوصيّة بشخص معيّن، أو على تقييد العمل بالإجارة على طبق نظر مجتهد معيّن، فإنّ مقتضى هذا الإطلاق جواز العمل على حسب تقليد الوصيّ والأجير.

ص: 527

وقد يقال: بلزوم الجمع بين التقليدين؛ لعدم ترجيح أحد الطرفين على الآخر.

ولكنّ الحقّ: هو ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) من التفصيل، بقوله: «فإن كان المتصدّي للتفريغ هو المتبرّع أو الوليّ، كالولد الأكبر، فإذا أراد تفريغ ذمّة والده الميت عن الصلاة والصيام، فلا مناص من أن يفرّغا ذمّة الميت بما هو الصحيح عندهما حتى يسوغ لهما الاجتزاء به في تفريغ ذمّته وجوباً أو استحباباً... إلى أن يقول: وأمّا لو كانالمتصدّي للتفريغ هو الوكيل أو الوصيّ، فلا مناص من أن يراعيا الصحيح عند الموصي أو الموكّل»(1).

وبعبارة أُخرى: فإنّ الوكيل أو الوصيّ بما أنّهما يقومان مقام الموكّل والموصي، وليس العمل عملهما، فلابدّ أن يأتيا بالعمل على حسب نظر الموكّل والموصي، إذ هما من يتوجّه التكليف إليهما، وهذا بخلاف الوليّ والمتبرّع؛ فإن التكليف متوجّه إليهما ابتداءً، نعم، لو كان العمل عباديّاً، وكان باطلاً في نظر الأجير، لم تصحّ الإجارة له، ولم يستحقّ الاُجرة.

مسألة: إذا كان البائع مقلّداً لمن يقول بصحّة العقد بالفارسيّة - مثلاً -،

ص: 528


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 324.

وكان المشتري مقلّداً لمن يقول ببطلانه، فلو أجرى العقد بالفارسيّة وقع باطلاً، فالعقد إمّا أن يقع على النحو الصحيح عند المتعاقدين معاً، وإلّا كان فاسداً.

في المسألة قولان:

أوّلهما: هو البطلان بالنسبة إلى كلٍّ من المتعاملين؛ لأنّ المعاملة هي المعاقدة بين الالتزامين، فتكون - لا محالة - قائمةً بالطرفين، فلابدّ من صحّتها عند الطرفين معاً.

والثاني: الصحّة؛ لأنّها لمّا كانت قائمةً بالطرفين، فإذا كانت صحيحةً بالإضافة إلى أحد الطرفين، دلّ ذلك بالدلالة الالتزاميّة على صحّتها بالنسبة إلى الطرف الآخر أيضاً.

ولكنّ الحقّ: أنّهما وإن كانا متلازمين بحسب الواقع، ولكنّ ذلك لا يوجب تلازمهما بحسب الظاهر، فالتفكيك بينهماممكن بناءً على أن الطريقيّة في باب الأمارات، دون السببيّة. فإذا قامت الحجّة على الصحّة عند أحدهما، فيكون العقد المزبور صحيحاً بالنسبة إليه، وفاسداً بالنسبة إلى الآخر.

وأمّا لو قلنا بالسببيّة، فلابدّ من الالتزام بالبطلان بالنسبة إلى كلا الطرفين؛ لانقلاب الواقع إلى مؤدّى الأمارة بناءً على هذا القول، فلو دلّت الأمارة عند أحدهما على الصحّة، وكان الحكم في الواقع فساداً، تبدّل الفساد إلى الصحّة، ولم يمكن - حينئذٍ - أن يجتمع الحكم بالصحّة

ص: 529

في أحد الطرفين مع الحكم بالفساد في الطرف الآخر؛ إذ ليس هناك - حينئذٍ - حكم ظاهريّ ليمكن التفكيك بين المتعاملين بحسب الصحّة والفساد، والحكم بالصحّة - مثلاً - في أحد الطرفين واقعاً لا يجتمع مع الحكم بالفساد واقعاً في الطرف الآخر، كما هو أوضح من أن يخفى.

مسألة: في باب المرافعات، هل يكون اختيار تعيين الحاكم بيد المدّعي أو المدّعى عليه، أم أنّه لابدّ من الرجوع في ذلك إلى الأعلم؟

قد يقال: هو اختيار المدّعي؛ لأنّه هو الذي يطالب بالحقّ، فلو رفع أمره إلى الحاكم، وجبت على المنكر الإجابة، وأمّا لو رفع المنكر أوّلاً أمره إلى الحاكم، فلا يجب على المدّعي الإجابة؛ إذ المدّعي هو المطالب بالحقّ، ولا حقّ لغيره.ولكنّه غير تامّ؛ لأنّ الحقّ المزعوم أنّه ثابت للمدّعي، إن كان المراد به الحقّ المدّعى به، فهو أوّل الكلام، وإن كان المراد به حقّ الدعوى، فهو لا يوجب تقديم ما اختاره.

وكيف كان، فالصور في المسألة أربع؛ لأنّ الحاكمين إمّا أن يتساويا في العلم، أو أن يكون أحدهما أعلم من الآخر. وعلى كلٍّ من التقديرين: فإمّا أن يكون أحد الخصمين مدّعياً والآخر منكراً، وإمّا أن

يكون كلاهما متداعيين.

أمّا إذا كان الحاكمان متساويين في العلم، وكان أحد الخصمين مدّعياً

ص: 530

والآخر منكراً، فالحقّ: أنّ اختيار التعيين يكون بيد المدّعي؛ لما ذكرناه من أنّه هو المطالب بالحقّ، وإذا سكت لم يكن هناك نزاع في البين.

وأمّا إذا لم يكن الحاكمان متساويين في الفضيلة، وكان كلّ واحدٍ من الخصمين مدّعياً، لم يكن وجه لتقديم ما اختاره أحدهما دون الآخر.

وأمّا إذا كان أحد الحاكمين أعلم من الآخر، فالمشهور لزوم اختيار الأعلم والرجوع إليه مطلقاً، سواء كانا متداعيين أو كان أحدهما مدّعياً والآخر منكراً، لما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة من قوله(علیه السلام): «فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم، فقال: الحكم ما حَكَم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما».هذا، ولكنّ موردها صورة اختلاف الحكمين، والتعدّي إلى مورد البحث يحتاج إلى دليل، ولكنّ مقتضى صدر الرواية هو الإطلاق. نعم، لو كانت الشبهة حكميّةً، وقد تعيّن تقليد الأعلم للمتخاصمين، وجب الترافع عنده بناءً على وجوب تقليد الأعلم.

مسألة: حكم الحاكم الجامع للشرائط هل يكون نافذاً حتى بالنسبة إلى مجتهدٍ آخر أم لا؟

الظاهر: أنّه كذلك، بعد أن كان القضاء بمعنى فصل الخصومة، وبعد أن كان ردّه موجباً للغويّة القضاء، مع العلم بأنّ أصل الثبوت وعدم جواز

ص: 531

الردّ هو من المرتكزات عند العقلاء، فلا نحتاج في عدم جواز الردّ وعدم جواز نقض الحكم إلى الإجماع.

مضافاً إلى ما ورد من الروايات من أمثال مقبولة ابن حنظلة «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اﷲ، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اﷲ، وهو على حدّ الشرك باﷲ».

ومقتضى إطلاق هذه المقبولة وغيرها من الروايات، هو عدم جواز الردّ مطلقاً حتى مع العلم بالخلاف، ولكن سيأتي أنّه في بعض الصور، التي منها: صورة العلم بالخلاف، يجوز ردّه.

وكيف كان، فما هو الفرق بين الفتوى والحكم حتى يجوز نقض الأوّل دون الثاني؟أمّا الفتوى فيراد بها - كما في الجواهر - «الإخبار عن اﷲ تعالى بحكم شرعيٍّ متعلّقٍ بكلّيّ، كالقول بنجاسة ملاقي البول أوالخمر».

وأمّا الحكم «فهو إنشاء إنفاذٍ من الحاكم، لا منه تعالى، لحكم شرعيٍّ أو وضعيّ أو موضوعهما في شيء مخصوص»(1).

وبالجملة: فالذي يظهر من الروايات أنّ اعتبار حكم الحاكم إذا كان صادراً عن الميزان الصحيح، ليس من باب أنّه أمارة على الواقع كالفتوى، بل إنّما هو لأجل أنّ له موضوعيّة في فصل الخصومات وحلّ المرافعات.

ص: 532


1- انظر: جواهر الكلام 40: 100.

فإذا عرفت هذا، فهل يجوز نقض حكم الحاكم أم لا؟

فنقول: إنّ حكم الحاكم:

تارةً: يكون معلوم المطابقة للواقع، فلا إشكال - حينئذٍ - في وجوب متابعته وحرمة نقض هذا الحكم.

وأُخرى: يكون معلوم المخالفة له، وقد أشرنا إلى خروج هذه الصورة عن الإطلاق، وأنّه يجوز ردّ حكمه والحالة هذه؛ لأنّ هذا الحكم، وإن كان له موضوعيّة في المرافعات، إلّا أنّه لا يغيّر الواقع عمّا هو، بل الواقع باقٍ على حاله، فقد يكون هذا الحكم مطابقاً له، وقد يكون مخالفاً له، كما دلّ على ذلك صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «قال رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكمألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجلٍ قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعت له به قطعة من النّار»(1). فإنّها صريحة في بقاء الحكم الواقعيّ على حاله، وعدم كون حكم الحاكم مغيّراً للواقع.

وثالثةً: لا يعلم بالمخالفة والموافقة، وحينئذٍ: فمقتضى الإطلاق هو عدم جواز نقض حكمه، والقضاء - كما أشرنا - إنّما هو بمعنى فصل الخصومات، فلو جاز ردّه؛ لاختلّ النظام وبقيت الخصومة والنزاع.

ورابعةً: يظهر بطلان الاجتهاد الأوّل لقصور وتساهل، كما إذا علم

ص: 533


1- وسائل الشيعة 27: 232، الباب 2 من أبواب كيفيّة الحكم، الحديث 1.

بأنّه عمل بالعامّ قبل أن يفحص عن المخصّص تساهلاً، فمقتضى الأصل هو عدم حرمة الردّ ونقض الحكم؛ لأنّه في الواقع ليس بحكم إلهيّ، ولا يصدق الحكم على إنشاء مثل هذا الشخص بعد أن لم يكن قد عمل بما هو وظيفته في إصدار الحكم.

كما يجوز نقض الحكم، إذا كان الحاكم قد اعتمد على بيّنةٍ غير عادلة مع اعتقاد عدالتها، ثمّ انكشف العدم، فإنّ هذا التهاون يؤدّي إلى بطلان الحكم الصادر منه في هذا المورد، وكذا لو كان قد اعتمد على روايةٍ يعتقد ظهورها في الحكم، وهي غير ظاهرةٍ فيه عند الحاكم الآخر، فهذا الحكم وإن كان صادراً عن الحاكم الجامع للشرائط، وعن مبادئ مشروعة، واجتهاد صحيح، وكان طريقاً إلى الواقع، إلّا أنّه يسقط عنالطريقيّة عند العلم بوقوع خطأ في طريقه ومبادئه، تماماً كما يسقط عن الطريقيّة عند العلم بمخالفته للواقع.

اللّهمّ إلّا أن يقال بأنّ قوله(علیه السلام): «فإذا حكم بحكمنا»، يُراد منه أنّ الحكم هو ما يكون بنظر المجتهد والقاضي حكم اﷲ، وليس هو الحكم الواقعيّ. فيكون الإطلاق شاملاً حتى لمورد العلم بالخطأ في مبادئه.

مسألة: إذا عرضت للمكلّف مسألة لا يعلم حكمها، ولم يكن من هو أهل للفتوى حاضراً، فلابدّ من تأخير الواقعة وعدم العمل بها حتى يسأل، إلّا إذا تمكّن من الاحتياط، فإنّه لا يجب عليه التأخير حينئذٍ، بل يعمل

ص: 534

بالاحتياط الذي هو في عرض الاجتهاد و التقليد.

كما أنّه مع وجود غير الأعلم، وعدم العلم بالمخالفة، والتمكّن من الرجوع إليه، يعمل بقوله.

وأمّا إذا علم بالمخالفة الإجماليّة في المسائل المبتلى بها يلزمه الرجوع إلى الأعلم أو الاحتياط، وان لم يمكن ذلك رجع إلى مجتهدٍ آخر، الأعلم فالأعلم؛ تمسّكاً بالسيرة العقلائيّة. فإن لم يتمكّن حتى من الرجوع إلى غير الأعلم، ولا إلى رسالته، كان عليه العمل بقول المشهور.

والمدرك في ذلك إنّما هو دليل الانسداد الصغير، والفرق بينه وبين الانسداد الكبير أنّه إنّما يجري في مورد الأحكام الكلّيّة، وأمّا الانسداد الصغير فهو يجري في الموارد الخاصّة، وأمّا مقدّماته الأربع، فهي تجري في كلاالانسدادين، ومعه: فلابدّ له أن يعمل بالظنّ عند تعذّر الاحتياط، وأوّل مراتب الظنّ هو قول المشهور فإنّه أقرب إلى الواقع من القول النادر.

ولكنّ العامّيّ إذا عمل بقول المشهور، ثمّ انكشف بعد ذلك له مخالفته لرأي المجتهد الفعليّ الذي كان عليه أن يقلّده، فلابدّ له من الإعادة والقضاء، بلا فرق بين فقد جزء أو شرط أو ركن من الأركان؛ لأنّه يصدق على ما أتى به أنّه غير مطابق للواقع.

إلّا أنّ وجوب الإعادة إنّما يثبت إذا قلنا بأنّ نتيجة الانسداد هي حجّيّة

ص: 535

الظنّ من باب الحكومة، فالعقل - حينئذٍ - يحكم بعدم الإجزاء، وكذا إذا قلنا بالكشف، وقلنا بأنّ الأحكام الظاهريّة غير مجزية، وأمّا بناءً على أنّ الأحكام الظاهريّة توجب الإجزاء فلا موجب للإعادة.

مسألة: إذا قلّد مجتهداً، ثمّ مات فرجع إلى تقليد غيره، ثمّ مات، فقلّد من يقول بوجوب البقاء على تقليد الميت، فهل يبقى على تقليد المجتهد الأوّل أو الثاني؟

الظاهر هو الثاني؛ وذلك لانقطاع تقليده الأوّل بعد الرجوع إلى الثاني، مع عدم كون الرجوع إليه بمنزلة البقاء على تقليد الميت، بل هو بمنزلة التقليد الابتدائيّ.

وفي المسألة صور، فإنّه تارةً يكون المجتهد الأوّل أعلم، وأُخرى يكون الأعلم هو المجتهد الثاني، وثالثةً يكون الحيّ هو الأعلم. والكلام تارةً في صورة العلم بالمخالفة، وأُخرىفي صورة عدم العلم بها. ثمّ إنّ كلّاً من الثلاثة تارةً يقول بوجوب البقاء، وأُخرى بالجواز، وثالثةً بالحرمة.

أمّا إذا أفتى المجتهد الحيّ بوجوب البقاء، كان عليه البقاء على تقليد المجتهد الأوّل إذا علم بالمخالفة في الفتوى بين المجتهد الأوّل والثاني، وكان المجتهد الأوّل أعلم؛ لأنّ فتوى الحيّ كما تكون حجّة بالنسبة إلى الوقائع اللّاحقة، فهي كذلك حجّة بالنسبة إلى الوقائع السابقة، وإنّما

ص: 536

عدل إلى المجتهد الثاني لعدم كونه يرى جواز البقاء، فكان معذوراً في عدوله، ولكن حيث لم تكن هذه الفتوى حجّةً في نظر المجتهد الحيّ حدوثاً، فكيف يعقل أن تكون حجّةً بقاءً، أي: بعد موته؟(قدس سرّه)

وأمّا مع عدم العلم بالمخالفة بينهما، فيجوز له أن يبقى على تقليد أيّ واحدٍ منهما يشاء.

وهكذا الحال بالنسبة إلى المجتهد الحيّ مع العلم بالمخالفة، فلا إشكال في وجوب البقاء إذا كان المجتهد الأوّل هو الأعلم، وأمّا إذا كان المجتهد الثاني أعلم، وعلم بالمخالفة بينه وبين المجتهد الأوّل، وجب البقاء على تقليد المجتهد الثاني، خصوصاً إذا كان أعلم من الحيّ - أيضاً -.

وأمّا في صورة عدم العلم بالمخالفة يجوز له البقاء على تقليد الأوّل أو الثاني. وأمّا إذا كان الأعلم هو الحي، فيجب الرجوع إليه مع العلم بالمخالفة، وإلّا، يجوز له البقاء أو العدول إلى الحيّ، كما إذا كان المجتهد الأوّل أو الثانيمتساويين في الفضيلة وغير متخالفين في الفتوى، وحكم الحيّ بوجوب البقاء.

وأمّا لو كانا متخالفين في الفتوى فيجب عليه الاحتياط؛ لأنّ الأدلّة لاتشمل المتعارضين.

وهكذا لو كان المجتهد الحيّ مساوياً في الفضيلة للمجتهد الأوّل، وكان الأوّل أعلم من الثاني، ففي هذه الصورة - أيضاً - لابدّ من الاحتياط.

ص: 537

مسألة: في احتياطات الأعلم إذا لم يكن له فتوىً، فللمقلّد أن يعمل بها، كما له أن يرجع إلى غيره، الأعلم فالأعلم.

أمّا جواز الرجوع إلى غيره، فلأنّ الأعلم جاهل بالحكم في مورد الاحتياط، فيكون الرجوع إلى غيره من باب الرجوع إلى الأعلم، لا من باب الرجوع إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم.

وأمّا جواز العمل بالاحتياط، فبناءً على أنّ الامتثال الإجماليّ جائز حتى مع التمكّن من الامتثال التفصيليّ، وإلّا، كان لابدّ له إمّا أن يعمل باحتياطاته، وإمّا أن يرجع إلى الأعلم من بعده.

وأمّا لزوم الرجوع بعده إلى الأعلم فالأعلم، فهو إنّما يثبت في صورة العلم بالمخالفة بين الأعلم فالأعلم، كما مرّ سابقاً، وأمّا إذا كان المجتهد الأعلم الثاني - أيضاً - قائلاً بالاحتياط، فلابدّ من الرجوع إلى الأعلم بعده.مسألة: الاحتياط المذكور في الرسالة العمليّة تارةً يكون استحبابيّاً، كما إذا كان مسبوقاً بالفتوى، كما يقال - مثلاً -: «الأقوى كفاية التسبيحة الواحدة وإن كان الأحوط الإتيان بالثلاث»، أو كان مسبوقاً بالاحتياط، كما يقال: «الأحوط قراءة السورة وإن كان الأقوى عدم وجوبها». وأُخرى يكون وجوبيّاً، وهو ما لم يكن معه فتوى، ويسمّى ﺑ «الاحتياط المطلق». وفيه يتخيّر المقلّد بين أن يعمل به وبين أن يرجع إلى مجتهد آخر.

ص: 538

وأمّا في صورة سبق الفتوى، أو سبق الاحتياط، فلا يجب العمل بالاحتياط؛ لأنّه استحبابيّ، ولا يجوز الرجوع إلى الغير، لأنّه مع وجود فتوىً للأعلم، وهي حجّة متعيّنة، لا يجوز له الرجوع إلى غير الأعلم، ولو كان موافقاً للاحتياط؛ لأنّ قوله - والحال هذه - ليس بحجّة، فيكون من باب الاستناد إلى ما ليس بحجّة شرعاً.

إلّا أن يقال: بأنّ فتواه إذا كانت موافقةً للاحتياط، فيكون عمله في الواقع عملاً بالاحتياط، ولذا يمكن القول بأنّه بناءً على جواز الامتثال الإجماليّ مع التمكّن من الامتثال التفصيليّ فيكون مخيّراً بين العمل بفتوى المجتهد وبين الاحتياط، كما مرّ.

مسألة: لا يخفى: أنّ تشخيص موارد الاحتياط عسر؛ لأنّ الاحتياط إنّما يكون حسناً في نفسه في حقّ من كان عارفاً بموارده، متمكّناً من تشخيصها.وفي موارد الاحتياط نقول:

الاحتياط قد يكون بالإتيان بالفعل، وقد يكون بالترك، وقد يكون بالجمع بين الفعل والترك، كما إذا تردّد الدم بين الحيض والاستحاضة، فتجمع الحائض بين تروك الحيض وأفعال الاستحاضة، وقد يكون بالجمع بين الأمرين أو الاُمور، كدوران الأمر بين الظهر والجمعة، أو تردّد القبلة إلى جهتين أو أكثر، وقد يكون بترك الأمرين، كما في مورد

ص: 539

الخنثى؛ فإنّ الأحوط له ترك اللّباس المختصّ بالرجال أو المختصّ بالنساء، بل قد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط، مثلاً: الأحوط ترك الوضوء بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر من جهة اختلافهم في كونه رافعاً للحدث أم لا، فحينئذٍ: يكون الاحتياط في ترك الوضوء بهذا الماء، فلو فرض أنّ الماء كان منحصراً به فالأحوط الوضوء به. وقد يتعارض الاحتياطان، وفي هذه الحالة، لابدّ من إحراز الأهمّ منهما، والعمل به وترك المهمّ.

مسألة: هل يجوز التقليد في اُصول الدين، بأن يأخذ بقول الغير في الاُصول بلا دليلٍ - أيضاً -، كما يجوز ذلك في فروع الدين، أم لا؟

أمّا في فروع الدين، فالتقليد لازم على العوامّ باتّفاق العلماء؛ لأنّ استنباط الأحكام الشرعيّة يحتاج إلى مقدّمات كثيرة، وهو عسر على عامّة الناس، والاحتياط - أيضاً - عسر كما بيّنّا؛ لعدم القدرة على معرفة موارده غالباً، بل حتى لو كان ممكناً،وقلنا بوجوبه لكلّ أحد، يلزم اختلال النظام، ولذلك يحكم العقل على كلّ من له صنعة يستقلّ بها كسب اُمور معاشه، بأنّ عليه أن يرجع إلى المجتهد الجامع للشرائط ليعمل حسب رأيه، كما أشار إلى ذلك سبحانه وتعالى في قوله: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ ل--ّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَل--ِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(1).

ص: 540


1- التوبة: الآية 122.

وأمّا التقليد في اُصول الدين:

فقد يقال: بعدم جوازه، بل قد يُدّعى عليه الإجماع.

ولكن قد ذكرنا مراراً أنّه ليس بحجّة، وعلى تقدير حجّيّته في المسائل الفرعيّة إذا كان كاشفاً عن قول المعصوم(علیه السلام)، فلا دليل على حجّيّة مثل هذا الإجماع في الاُمور العقليّة والاُصول الاعتقاديّة. هذا. مضافاً إلى أنّ المسألة خلافيّة، وفيها أقوال كثيرة.

وقد يقال: إنّ اﷲ تبارك وتعالى قد ذمّ التقليد في اُصول الدين بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾(1).

ولكن يُجاب عنه: بأنّ اﷲ تعالى إنّما ذمّ في القرآن الكريم قبول قول الغير تعبّداً من دون حصول يقين، والكفّار لم يكن يحصل لهم اليقين، ولا كانوا يعتمدون على الأدلّة والبراهين،بل كانوا يكتفون بالمظنّة والخيالات، كما تشير إليه الآية المباركة: ﴿وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾(2).

ومن هنا، فلو حصل للعوامّ الذين يتعلّمون اُصول دينهم من كلام العلماء والمتديّنين الذين لهم كمال الوثوق بقولهم، ولا يحتملون منهم الكذب في اُمور دينهم، لو حصل لهم يقين بقولهم، كان كافياً.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ اليقين بالمعارف لا يمكن أن يحصل بالتقليد،

ص: 541


1- الزخرف: الآية 23.
2- الجاثية: الآية 24.

فمحلّ تأمّل؛ فإنّ حصول المعارف الحقّة كما قد يأتي من النظر والاستدلال، فكذلك قد يأتي من ناحية التقليد أيضاً.

فإن قلت: المعرفة الحاصلة من التقليد تزول بالشكّ، وأمّا المعرفة الحاصلة من النظر والاستدلال، فلا تزول به.

قلت: ليس ذلك مسلّماً على إطلاقه، بل المعرفة بالنظر والاستدلال - أيضاً - ممّا يمكن أن تزول بالتشكيك. وعلى فرض التنزّل، فما دام اليقين باقياً، فهو كافٍ. نعم، لو زال اليقين بسبب شبهة أُلقيت من قبل المعاندين وأعداء الدين، كان لابدّ له من الرجوع إلى أهل الخبرة حتى يحصل له اليقين عن طريق البرهان والاستدلال.

وكذلك لا يجري التقليد في مسائل اُصول الفقه؛ لخروجها عن محلّ الابتلاء بالنسبة إلى العامّيّ، وعلى فرض كونها محلّ الابتلاء فلا ثمرة لها، وما قيل أو يقال: من أنّه تظهرثمرة لذلك بالنذر، فمندفع بأنّ متعلّق النذر لابدّ وأن يكون راجحاً.

فإن قلت: كيف حكمتم بأنّه لا يجوز التقليد في المسائل الاُصوليّة، مع قولهم بجوازه بالنسبة إلى مسألة أصل التقليد، أو مسألة تقليد الأعلم.

قلنا: بل هذه من المسائل الفرعيّة، لا الاُصوليّة؛ لعدم وقوعها في طريق استنباط الأحكام، أي: لعدم وقوعها حدّ أوسط لإثبات الحكم الكلّيّ الإلهيّ.

ثمّ هل يجوز التقليد في مبادئ الاستنباط، كعلوم العربيّة والمنطق

ص: 542

وغيرها أم لا؟ بل لا يكفي أن يقلّد في علم النحو نحويّاً خاصّاً، وفي علم المنطق منطقيّاً كذلك، وهكذا، بل لابدّ له من تحصيل العلم بذلك، ولو بمراجعة كتبهم؛ وذلك لأنّ أدلّة التقليد قاصرة عن شمولها لأمثال ذلك.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ عدم جواز التقليد إنّما يكون في كلّيّاتها التي تقع في طريق استنباط الحكم الكلّيّ؛ لخروجها عن محلّ ابتلاء العامّيّ، وأمّا ما يقع في مقام تشخيص الماُمور به وتمييزه عن غيره، كالمسائل التي لها علاقة بتصحيح الأذان والأقامة وصيغ العقود والإيقاعات وأمثال ذلك، من قبيل: مسائل الإدغام والمدّ والوقف وغيرها، وكان غير متمكّن من تحصيلها بنفسه، فيجوز له فيها أن يكون مقلّداً لمن أهل الخبرة في هذا المجال.مسألة: هل يجوز التقليد في الموضوعات المستنبطة العرفيّة أو اللّغويّة أم لا؟

تنقسم الموضوعات الشرعيّة إلى قسمين:

قسم يُسمّى بالموضوعات المستنبطة، وهي ما يكون مفهومها غير واضح بذاتها وحدودها، بل تحتاج إلى إعمال فكر ونظر، بلا فرقٍ بين أن تكون عرفيّة، كالغناء والآنية، أو لغويّةً كالصعيد، أو من المخترعات الشرعيّة - بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة -. وهذا القسم يمكن فيه التقليد.

ص: 543

وقسم يُسَمّى بالموضوعات الصرفة، وهي ما يكون مفهومها واضحاً، وحيث إنّها لا تحتاج إلى الاجتهاد وإعمال النظر، فلا تكون بحاجة إلى تقليد.

والسرّ في الحكم بجواز التقليد في القسم الأوّل دون الثاني: أنّ الموضوعات المستنبطة لها جهتان وحيثيّتان، فإنّها من حيث استتباعها للأحكام الشرعيّة يكون مرجعها إلى الشارع، ومن حيث أنفسها يكون بيانها موكولاً إلى العرف إن كانت عرفيّة، أو اللّغة إن كانت لغويّة. وأمّا القسم الثاني، فلما بيّنّاه من كونه واضحاً حتى عند العامّيّ، فيستغني عن التقليد.

مسألة: هل يجوز للمقلّد إجراء أصالة البراءة أو الطهارة أو الاستصحاب في الشبهات الحكميّة أم لا؟ وهل يجوز ذلك في الشبهات الموضوعيّة أم لا؟

أمّا الشبهة الحكميّة، وكذا ما يكون ملحقاً بها - وهي المسمّاة بالشبهة المصداقية، كما لو كان عندك إناء فيه ماء، فصببتفيه التراب تدريجاً، إلى أن شككت في أنّ ما فيه هل هو ماء أم وحل، فإنّها ليست بحكميّة، لعدم وجود ملاك الحكميّة فيها، وهو فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين، وليست موضوعيّةً أيضاً؛ لعدم توفّر ما هو معيار الشبهة الموضوعيّة فيها، وهو التردّد في الموضوعات الخارجيّة.

ص: 544

ولكن مع ذلك فحكمها حكم الشبهة الحكميّة - فلا يمكن للعامّيّ إجراء الاُصول فيها؛ وذلك لأنّ جريانها مشروط بإعمال الفحص، والعامّيّ عاجز عنه، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه.

وأمّا الشبهة الموضوعيّة، فحيث إنّ إجراء الاُصول فيها ليس مشروطاً بالفحص، فيجوز له إجراء الأصل إذا كان قد قلّد من يجيز إجراءها، ثمّ على فرض أنّها بحاجةٍ إلى الفحص - أيضاً -، فهو متمكّن من ذلك؛ لأنّ منشأ الشكّ في الشبهة الموضوعيّة كما عرفنا هو التردّد في الاُمور الخارجيّة، فهو - مثلاً - قادر على حساب ما يملكه عند الشكّ في حصول الاستطاعة له.

مسألة: المجتهد غير العادل، أو مجهول الحال، لا دليل على حجّيّة رأيه، وإن كان موثوقاً به في فتواه، فلا يجوز تقليده بناءً على أنّ العدالة شرط على نحو الموضوعيّة، وأمّا إذا قلنا بأنّها معتبرة على نحو الطريقيّة، كانت فتواه حجّة حينئذٍ؛ لأنّ الفرض هو حصول الوثوق بما يخبره، فجاز الأخذ بقوله وإن لم يكن عادلاً.مسألة: لابدّ في العمل بفتوى المجتهد من العلم بصحّته، ولا يفيد الظنّ بها، إلّا ما خرج منه بالدليل، كالظنّ الحاصل من البيّنة أو من ظواهر الألفاظ التي هي حجّة بدليل بناء العقلاء، سواء كان من المجتهد نفسه أم من الناقل، وأمّا المكتوب في رسالته العمليّة، فيكون حجّة بناءً على

ص: 545

خروجها عن حرمة العمل بالظنّ، بتقريب: أنّ الخطّ نفس اللّفظ بنظر العقلاء، وهم لا يفرّقون بينهما، وإلّا، فالعمل بها مشكل.

والحمد ﷲ أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً...

ونحمده على ما وفّقنا به من إتمام هذه الدورة الاُصوليّة، ونسأله أن يجعل هذا الجهد خالصاً لوجهه الكريم، والصلاة على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 546

الفهرس

ص: 547

ص: 548

الفهرس

قاعدة لا ضرر ولا ضرار(7-40)

قاعدة لا ضرر ولا ضرار.... 7

الأمر الأوّل: في مدرك هذه القاعدة .... 7

الأمر الثاني: في بيان مفردات هذه الفقرة ..... 11

الأمر الثالث: هل تشمل القاعدة الأحكام العدميّة أم لا؟..... 18

الأمر الرابع: هل المراد من الضرر المنفيّ في القاعدة هو الضرر .... 21

الأمر الخامس: في دعوى عدم شمول الحديث لمورد نفسه ..... 23

الأمر السادس: في بيان تقديم هذه القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّليّة الواقعيّة .... 25

الأمر السابع: شمول القاعدة للحكم الضرريّ، تكليفيّاً كان أم وضعيّاً.... 31

الأمر الثامن: في تعارض الضررين ... 32

الأمر التاسع: في تعارض القاعدة مع قاعدة «الناس مسلّطون على أموالهم»..... 35

الاستصحاب (41-100)

الاستصحاب.... 41

الأمر الأوّل: في بيان الأقوال التي وردت في جريانه وحجّيّته .... 41

الأمر الثاني: في بيان المعنى الاصطلاحيّ للاستصحاب ..... 42

ص: 549

الأمر الثالث: هل الاستصحاب من المسائل الاُصوليّة أم لا؟..... 43

الأمر الرابع: يتقوّم الاستصحاب باليقين والشكّ ..... 44

الأمر الخامس: اشتراط الفعليّة في الشكّ واليقين .... 46

الأمر السادس: في انقسامات الاستصحاب ... 48

التفصيل بين الأحكام الكلّيّة والأحكام الجزئيّة .... 49

التفصيل بين ما كان دليله العقل وما دليله النقل .... 53

الأمر السابع: في أدلّة حجّيّة الاستصحاب ... 55

تنبيهات الاستصحاب (101-206)

تنبيهات الاستصحاب.... 101

التنبيه الأوّل: في استصحاب الكلّيّ ..... 101

الشبهة العبائيّة 107

التنبيه الثاني: استصحاب الاُمور التدريجيّة غير القارّة .... 117

التنبيه الثالث: في الاستصحاب التعليقيّ والتنجيزيّ ... 128

التنبيه الرابع: في استصحاب أحكام الشرائع السابقة 148

التنبيه الخامس: في عدم اعتبار الاُصول المثبتة ..... 160

التنبيه السادس: الشكّ في التقدّم والتأخّر مع العلم بحصوله في زمان خاصّ .... 177

التنبيه السابع: في جريان استصحاب الصحّة .... 187

التنبيه الثامن: الاستصحاب في الاُمور العقائديّة.... 188

التنبيه التاسع: الرجوع إلى عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص .... 193

التنبيه العاشر: تعذّر بعض قيود المركّب ..... 202

التنبيه الحادي عشر: المراد من الشكّ في البقاء ..... 204

ص: 550

خاتمة (207-249)

خاتمة... 207

الأمر الأوّل: الكلام في وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ..... 207

الأمر الثاني: هل تشمل أخبار الاستصحاب قاعدة اليقين أم لا؟. 223

الأمر الثالث: في تقدّم الأمارات على الاستصحاب .... 230

الأمر الرابع: تقديم الأصل السببيّ على المسبّبيّ .... 242

الأمر الخامس: في تعارض الاستصحابين .... 245

الأمر السادس: تقدّم التجاوز والفراغ وأصالة الصحّة على ... 246

قاعدة القرعة (251-258)

قاعدة القرعة..... 251

الكلام في أصالة الصحّة (259-285)

الكلام في أصالة الصحّة.. 259

الأمر الأوّل ... 259

الأمر الثاني .... 260الأمر الثالث .... 262

الأمر الرابع .... 263

الأمر الخامس .... 264

الأمر السادس .... 265

الأمر السابع: اختلاف الصحّة بحسب مواردها .... 275

الأمر الثامن .... 277

ص: 551

الأمر التاسع .... 278

الأمر العاشر..... 281

الكلام في تعارض الاستصحابين (287-302)

الكلام في تعارض الاستصحابين.... 287

مبحث التعادل والتراجيح (303-412)

مبحث التعادل والتراجيح.. 303

الأمر الثاني: في أنّه من المسائل الاُصوليّة ... 304

الأمر الثالث: في تعريف التعارض .... 305

الأمر الرابع: في شرائط حصول التعارض .... 306

الأمر الخامس: في الفرق بين التعارض والتزاحم ..... 308

الأمر السادس: مرجّحات بابي التعارض والتزاحم .... 312

الأمر السابع: في حكم التعارض .... 321

الأمر الثامن: فيما لو كان التعارض بين أكثر من دليلين ... 346

تتميم: في نسبة أدلّة ضمان العارية بعضها إلى بعض ... 356

الأمر التاسع: في مقتضى القاعدة الأوّليّة عند عدم المرجّح ... 361

الأمر العاشر: حكم الخبرين بعد أن كان مقتضى الأصل تساقطهما 367

فصل: في تقييد أدلّة التخيير بأدلّة الترجيح .... 380

المرجّحات المدّعى أنّها منصوص عليها .... 384

التعدّي من المرجّحات والمزايا المنصوصة .... 393

فصل: في التعارض بين العامّين من وجه .... 407

في ترجيح أحد المتعارضين بالأصل .... 410

ص: 552

وأمّا الترجيح بالظنون غير المعتبرة ... 411

مبحث الاجتهاد والتقليد (413-546)

مبحث الاجتهاد والتقليد... 413

الأمر الأوّل: أنّه من المسائل الاُصوليّة أو الفقهيّة ..... 413

الأمر الثاني: تعريف الاجتهاد لغةً واصطلاحاً ..... 414

الأمر الثالث: في مبادئ الاجتهاد .... 416

الأمر الرابع: التجزّي في الاجتهاد ..... 425

الأمر الخامس: التخطئة والتصويب .... 436

الأمر السادس: في الإجزاء بعد تبدّل الرأي ..... 438

حجّيّة التقليد وجوازه .... 453

مسألة: هل يجوز تقليد الميّت ابتداءً؟.... 455

مسألة: البقاء على تقليد الميت 466

العدول من الحيّ إلى الحيّ ..... 473

فصل: في لزوم تقليد الأعلم..... 475

حكم عمل الجاهل المقصّر والقاصر ..... 491

ما هو المراد من الأعلم .... 494

طرق معرفة الاجتهاد والأعلميّة .... 496

وجوب التعلّم..... 501

طرق تعلّم الفتوى 508

الفهرس (547-553)

الفهرس..... 547

ص: 553

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.